إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور

ابن القيم

سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين (المقدمة) صنعة أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان [المجلد الأول] دار ابن الجوزي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين (الْمُقدمَة) [1]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339

مقدمة المحقق

مقدمة المحقق إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه؛ فلا مضل له، ومن يُضلل؛ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فهذه طبعة جديدة من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" للإمام الرباني، وشيخ الإسلام الثاني (ابن قيم الجوزية)، رحمه اللَّه تعالى، يأخذ مكانه اللائق به في المكتبة التراثية، بعد ضبط نصه، ومقابلته على عدة نسخ خطية (¬1)، والتعليق عليه (¬2)، وتخريج أحاديثه وآثاره، وتوثيق نقولاته، مع مقارنة مواضعه بمواطن بحثها في كتبه الأخرى (¬3). * نسبة الكتاب لمؤلفه: نسبة هذا الكتاب لابن القيم صحيحة بيقين، والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، منها: ¬

_ (¬1) يأتي وصفها إن شاء اللَّه تعالى. (¬2) ذكرتُ جميع تعليقات مشاهير المحققين الأقدمين، وعزوتُها لهم، ورمزت لكل واحد منهم برمز، وسيأتي بيان ذلك. (¬3) اعتمدتُ في ذلك على "تقريب فقه الإمام ابن القيم" للعلامة الشيخ بكر أبو زيد حفظه اللَّه.

أولًا: نسبه له بعنوان: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" جماعة من العلماء ممن ترجم له، منهم: تلميذه ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450)، وقال: "ثلاث مجلدات"، وعنه ابن العماد في "شذرات الذهب" (6/ 169). وذكر له أيضًا بالعنوان نفسه: ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/ 402)، والداودي في "طبقات المفسرين" (2/ 603)، والسيوطي في "بغية الوعاة" (1/ 63)، والشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 144)، والعليمي في "المنهج الأحمد" (5/ 94)، و"الدر المنضد" (2/ 522)، وابن ضويان في "رفع النقاب" (320)، وحاجي في "كشف الظنون" (1/ 125)، والبغدادي في "هدية العارفين" (2/ 158)، والزِّركلي في "الأعلام" (6/ 56)، والطريقي في "معجم مصنفات الحنابلة" (4/ 276). ونسبه له بعنوان مقارب (¬1): تلميذه خليل بن أيبك الصفدي في "أعيان العصر" (4/ 369)، و"المنهل الصافي" (3/ ق 62). ثانيًا: ذكره المصنف في ثلاثة من كتبه: "الفوائد" (ص 30 - ط دار اليقين)، و"التبيان في أقسام القرآن" (ص 146 - ط طه شاهين)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 22 - ط الفقي)، وأحال في هذه الكتب على مباحث موجودة في كتابنا "الإعلام"، وسيأتي بيان هذا مفصلًا قريبًا تحت عنوان (ضبط اسمه). ثالثًا: الموجود على النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق (¬2)، وغيرها، فإنها جميعًا مطبقة على صحة نسبة هذا الكتاب لابن القيم. رابعًا: نقولات العلماء الكثيرة المستفيضة على اختلاف أمصارهم وأعصارهم، وتنوِّع مذاهبهم وفنونهم ومشاربهم منه، وهذا النقل قد يقع بالحرف، على طول فيه أحيانًا، أو اختصار، أو بالإحالة على بحث مسألة على وجه فيه تحرير وتدقيق، وهذا بعض ما يدلّل على ذلك، واللَّه الموفق: 1 - قال برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (ت 884 هـ) في كتابه "المبدع" (7/ 68): "وقوى في "إعلام الموقعين"، أن الرجل أشدُّ شهوة من المرأة، وأنَّ حرارته أقوى من حرارة المرأة، والشهوة تتبعها الحرارة، بدليل أن الرجل إذا جامع امرأة، أمكنه مجامعة غيرها في الحال"، وهذا موجود في نشرتنا (2/ 326). ¬

_ (¬1) سيأتي تفصيل ذلك تحت عنوان (ضبط اسمه). (¬2) سيأتي وصفها إن شاء اللَّه تعالى.

ضبط اسمه

2 - وقال أيضًا في (7/ 74): "وفي "إعلام الموقعين": وظاهره أنه إذا لم يجد طولًا لحرة مسلمة ووجد طولًا لحرة كتابيه أن له نكاح الأمة، قاله في "الانتصار" لظاهر الآية، وصرح الأكثر بعدم اشتراط الإسلام. . . " وهذا موجود في نشرتنا (4/ 268). 3 - ونقل في (7/ 86)، مسألة (تزويج عبده بمطلقته) (¬1)، وقال: "قاله في "إعلام الموقعين"" وهذا موجود في نشرتنا (4/ 448 - 449). في نقولات عديدة جدًّا، تراها مزبورة في هذه المقدمة، تحت العناوين: (ضبط اسمه)، (أهمية الكتاب وفائدته وأثره فيما بعده)، (موضوعه). * ضبط اسمه (¬2): ذُكِر هذا الكتاب على وجوه وألوان، الصحيح والقوي منها اثنان: الأول: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وبهذا اشتهر عند العلماء والباحثين، مع التنويه على اختلافهم (¬3) في ضبط همزة (إعلام) هل هي بالكسر أم بالفتح؟ فذهب بعضهم إلى أنه بالكسر، وهذا هو الدارج على ألسنة علماء العصر، وسمعتُه هكذا -بالكسر- بالنطق من مجموعة من المشايخ والعلماء، منهم: شيخنا المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وشيخنا الفقيه العلامة مصطفى الزرقاء، مع قوله: "لا يوجد -فيما أعلم- دليل يصلح للقطع بأن مؤلفه رحمه اللَّه وضعه هكذا أو هكذا، لأني أتذكر أني تتبعتُ الدلائل كثيرًا، فلم أصل إلى نتيجة قطعية. ولكلٍ دليل: فذِكرُه -أي ابن القيم- كبارَ أهل الفُتيا والقضاء من الصحابة والتابعين على نطاق واسع: يُوحي بالفتح جمعًا (لِعَلَم) (¬4). وكونُه -أي الكتابْ- يتضمّن كثيرًا من الفقه والتوجيه والتأصيل الشرعي في رأيهِ وفهمِه واجتهاده: يُوحي بالكسر، ¬

_ (¬1) سيأتي ذكر لفظ ابن القيم لها بحروفها، تحت عنوان (أهمية الكتاب وفائدته وأثره فيما بعده) في النقل الثاني للمرداوي في "الإنصاف" من كتابنا هذا. (¬2) انظر في ذلك: هامش "قواعد علوم الحديث" (97 - 99) للتهانوي، "ابن قيم الجوزية حياته وآثاره" (ص 127 - 130)، "القواعد الفقهية المستخرجة من إعلام الموقعين" (ص 83). (¬3) أعني اختلاف الباحثين والعلماء والمطلعين المعاصرين، إذ لم يطرق الأقدمون -فيما نعلم- هذا الضبط. ولا أعرف مصنفًا في ضبط أسماء الكتب خاصة. (¬4) للفتح توجيه آخر أدق وأضبط، سيأتي قريبًا في كلام الشيخ بكر أبو زيد.

كأنما هو خطاب للمتصدّين للفتوى والقضاء، الموقّعين عن اللَّه، فهو إعلام لهم. فتكون القضية فيه قضيةَ ترجيح لأحد الوجهين، استحسانًا باختلاف التقدير، لا قضيةَ خطأ وصواب، لأنّ مدار الخطأ والصواب في أحدهما إنما هو معرفةُ ما وضَعَ المؤلف وأراد، وهذا لم يُعرف". وأما الفتح، فهذا الذي ذهب إليه الأستاذ العلامة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، في الطبعة التي اعتنَى بإخراجها، وطُبعت بمطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1374 في أربعة أجزاء، فقد أَثبت الهمزة فوق الألف في كلامه لبيان اختتام كل جزء من الأجزاء الأربعة، وفي مفتتح فهرس كل جزء منها، وفي ختام كل فهرس منها أيضًا، مما دَلَّ على أن ذلك مقصود له للإشارة إلى هذا الضبط. وقد قوّى الشيخ بكر أبو زيد (الفتح) وجوز (الكسر) في جهد بذله في مطابقة العنوان للمضمون فقال: "الإعلام -بكسر الهمزة- بمعنى (الإخبار) "، كما قال الراغب وغيره. والموقع بمعنى المفتي والقاضي. فيكون المعنى مع تقدير متعلق الخبر (إخبار الموقعين من القضاة والمفتين عن ربّ العالمين بأحكام أفعال العبيد). وهذا التقدير لمتعلق الخبر واضح من قول ابن القيم في مقدمته للكتاب: "أما بعد: فإن أولى ما يتنافس فيه المتنافسون، وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون، ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلًا، وعلى طريق هذه السعادة دليلًا" (¬1). ثم قال: "ولما كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا، وشرفه لشرف معلومه تابعًا، كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد" (¬2). وقد أفاض ابن القيم رحمه اللَّه تعالى في أجزاء الكتاب بأحكام أفعال العبيد في جملة من أبواب الدين ومسائله. ويضاف إلى هذا التوجيه: أن عامة الذين ذكروا هذا الكتاب من مترجميه جاء رسمه بكسر الهمزة، لكن -في الواقع- أن هذا لا يعني كثيرًا من الناسخ أو الطابع أو غيرهما". ¬

_ (¬1) "أعلام الموقعين" (1/ 7). (¬2) "أعلام الموقعين" (1/ 8).

ثم ذكر الفتح، ووجهه بقوله: "ولم يزل في نفسي معرفة توجيه هذا القول من علماء الآفاق الذين ينطقونه هكذا (أعلام. .) بفتح الهمزة فوجدتهم يطبقون على التوجيه بأن ابن القيم رحمه اللَّه تعالى، قد ذكر في صدر كتابه جماعة من فقهاء الأمصار من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- فمن بعدهم فهو جمع (عَلَم) بمعنى شخص له أثره؛ جمعه (أعلام). فالمعنى (كبار أهل العلم من القضاة والمفتين الموقعين عن ربّ العالمين) "، ثم ذكر طرفًا من كلام شيخنا الزرقا السابق، فيه توجيه الفتح بنحو الذي ذكره، ورده بقوله: "وفي الواقع أن هذا التوجيه ليس بالقائم، فإن ما ذكره ابن القيم في هذا الكتاب من كبار أهل الفتيا والقضاء هو: في نحو عشرين صحيفة في صدر الكتاب. والكتاب يقع في أربعة مجلدات تحوي نحو ألف صحيفة مادتها مباحث في الفقه والتوجيه والتقعيدات الشرعية فيكون هذا الاسم (أعلام. .) بهذا التوجيه لا يصدق إلا على نحو عشرين صحيفة لا غير، والاسم لا بد من دلالته على المسمى. فالتسمية والحالة هذه لا تدل عليه. فالفتح إذًا بناء على هذا التعليل سبيله الرفض واللَّه أعلم" ثم قال تحت عنوان (توجيه آخر) ما نصه: "وإنني بعد التأمل والرجوع إلى مادة (عَلَم) في كتب اللغة تبين لي أن الذي ينبغي التعليل والتوجيه به لمن قال (أعلام الموقعين) بفتح الهمزة هو أن يقال: إن العلَم في اللغة ما ينصب في الفلوات للاهتداء به وما يجعل على الطرق من منارات ومعالم ليستدل به على الأرض. وجمعه (أعلام) بالفتح. ومنه قيل للراية (علَم) والجمع (أعلام). وقيل أيضًا للجبل (علم) ويجمع أيضًا على (أعلام). وعليه يكون معنى الكتاب بالفتح (أعلام الموقعين. . .) هو: (الأحكام التي تصدر عن القضاة والمفتين الموقعين عن رب العالمين) فهي أعلام لهم تدلهم وتهديهم إلى الطريق السّوي والمَشْرع الرّوي. وهذا تساعد عليه مادة الكتاب التي تدور في معظمها على الأحكام لا على الأعلام وتتركز على أحكام الأشخاص. ونستطيع من هذا أن نقول: بجواز الفتح والكسر لهمزة (أعلام) وهو بكسر الهمزة أشهر، وبالفتح أولى؛ لعدم الحاجة إلى تقدير متعلق للخبر كما تقدم" (¬1). ¬

_ (¬1) وأكد ذلك بالتسمية الثانية له، وهي "معالم الموقعين"، انظر عنها ما سيأتي قريبًا.

ووقعت تسميته هكذا -بهمزة في أوله-: "إعلام الموقعين" في مطبوعات كثير من الكتب، وبعضها لتلاميذ المصنف والمعتنين بكتبه، المهتمين بها، مثل: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450) لابن رجب (ت 795 هـ)، و"المبدع" (7/ 68، 74، 86) لبرهان الدين إبراهيم بن مفلح (ت 884 هـ) و"تصحيح الفروع" (6/ 281، 428 - ط دار الكتب العلمية) و"الإنصاف" (6/ 345 - ط الفقي و 20/ 433 - ط التركي) كلاهما لعلاء الدين المرداوي (ت 885 هـ) و"التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح" (2/ 794) لأحمد بن محمد الشويكي (ت 939 هـ)، و"شرح الكوكب المنير" (4/ 526، 545، 546) لابن النجار (ت 972 هـ) وذكره ابن حجر (ت 852 هـ) هكذا في "الدرر الكامنة" (3/ 402) وذكره في "فتح الباري" (12/ 336) مختصرًا هكذا "الإعلام"، وكذا في زياداته على "تهذيب الكمال" في "تهذيب التهذيب" ترجمة (يحيى بن أبي إسحاق الهنائي) (¬1) (11/ 157)، في جمع آخرين، يأتي ذكر بعضهم. وهكذا سمِّي في جُلِّ النسخ الخطية (¬2) المعتمدة في التحقيق، وهكذا يسميه المعاصرون في أبحاثهم ومؤلفاتهم وتحقيقاتهم، ومن صنف في التراجم منهم، مثل: عمر رضا كحالة في "معجم المؤلفين" (9/ 107) والزِّركلي في "الأعلام" (6/ 56)، وهكذا وقع اسمه في "كشف الظنون" (1/ 125). والآخر: "معالم الموقعين عن رب العالمين". هكذا سماه خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ) -وهو من تلاميذ المصنف- في "الوافي بالوفيات" (2/ 196) و"أعيان العصر وأعوان النصر" (4/ 369) و"المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي" (3/ ق 62)، وأبو ذر أحمد بن الإمام برهان الدين سبط بن العجمي (ت 884 هـ) في كتابه "تنبيه المعلم مبهمات صحيح مسلم" (ص 107 - بتحقيقي) ذكره مختصرًا هكذا: "معالم الموقعين". وقد ذكره ابن القيم (المصنف) مختصرًا هكذا "المعالم" في غير كتاب من كتبه، وهذا الذي وقفتُ عليه منها: - قال في "الفوائد" (ص 30 - ط دار اليقين) بعد كلام: "وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم"؛ بيّنا بعض ما ¬

_ (¬1) انظر: "أعلام الموقعين" (4/ 88) وتعليقي عليه. (¬2) سيأتي ذكرها ووصفها.

فيها من الأسرار والعبر" وهذا البيان في نشرتنا (1/ 251 - 253). - وقال في "التبيان في أقسام القرآن" (ص 146 - ط طه شاهين): "وقد بيّنّا في كتاب "المعالم" بطلان التحيل وغيره من الحيل الربوية من أسماء الرب وصفاته" قلت: وهذا في نشرتنا (1/ 126 - 127). - وقال في "إغاثة اللهفان" (1/ 22 - ط الفقي) بعد ذكر المثالين: الناري والمائي في أوائل سورة البقرة (الآية 17، 18): "وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمّناه من الحكم في كتاب "المعالم" وغيره". وكلامه على هذه الحكم في نشرتنا (1/ 270 - 271). فهذه ثلاثة مواطن صرح فيها المصنف باسم كتابه هذا: "المعالم" هكذا، وهو "معالم الموقعين" على ما ذكر بعض مترجميه والناقلين عنه فيه. وأثبت ناسخ أصل (ك) على طرة الجزء الثالث منه: "كتاب "معالم الموقعين عن رب العالمين" وضرب على "معالم" وأثبت فوقها "إعلام"، وعنوان الكتاب في نسخة (ن): "معالم الموقعين عن رب العالمين" (¬1). قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد -حفظه اللَّه تعالى- بعد ذكره التسميتين السابقتين: "إعلام" و"معالم": "وهذا غير ممتنع أن يسمي المؤلف كتابه باسمين، وله نظائر في أسماء مؤلفاته، وهو مسلك مألوف عند أهل العلم. وهذه تسمية سليمة تنتظم موضوع، الكتاب ومادتَه، لأن (معالم) جمع (معلم) ومعلم الشيء دلالته، ومنه معلم الطريق، وما يستدل به عليه من أثر ويجمع على (معالم). وتكون تسمية الكتاب بهذا (معالم الموقعين) مطابقة تمامًا لمن سماه بلفظ (أعلام الموقعين) بناء على التوجيه الذي استظهرته قريبًا واللَّه أعلم". بقي بعد هذا التنبيه على ورود اسم الكتاب على وجهٍ فيه تطبيع أو خطأ، وجاء هذا أيضًا على وجهين، هما: الأول: "إعلام -بكسر الهمزة- الموفقين -بالفاء- عن رب العالمين" هكذا أُثبِت في مطبوع "هدية العارفين" (2/ 158) للبغدادي، وهذا خطأ قطعًا، يُعلم ¬

_ (¬1) ذكره "معالم الموقعين" هكذا: ناشر "زاد المعاد"، الطبعة النظامية الهندية، سنة 1298 هـ.

حجمه

ذلك يقينًا من خلال المرور على الكتاب، فإن الأوهام والأخطاء والتطبيعات كثيرة فيه، والآخر: "أعلام -بفتح الهمزة- الموفقين -بالفاء- أيضًا". هكذا ذكره محمد أنور الكشميري (ت 1352 هـ) في كتابه "فيض الباري على صحيح البخاري" (2/ 267) عند كلامه على مسألة (قبض اليدين في الصلاة)، قال وأغرب قلمه: "ومر عليه ابن القيم في "أعلام الموقعين" (والصحيح أنه "أعلام الموفقين")، وقال: إن الحديث رواه ابن خزيمة. . . ". قلت: هذا الوجه كالذي قبله، "غريب، يُعدُّ من سبق القلم، وتغيير الاسم العَلَم، وهو ليس بجائز إلا بنصٍّ عن صاحبه. وقد تابعه على هذه التسمية تلميذه الشيخ محمد بدر عالَم الميرتهي رحمه اللَّه في تعليقاته على "فيض الباري" وهي من إملاءات الكشميري أيضًا، وذلك في مواضع، منها: (2/ 259 و 3/ 241)، فأثبته "أعلام الموفّقين". وقد علمت ما فيه، فلا تَهِم فيه" (¬1). والخلاصة أن الصواب "إعلام الموقعين" و"معالم الموقعين". "وأنه ليس هناك نص من المؤلف أو من قدماء النقلة على فتح الهمزة أو كسرها في "إعلام"، وأن كسر الهمزة هو الأكثر المستفيض، والاستفاضة طريق من طرق الحكم الشرعي في فك الخصام وفي النزاع برد الحقوق إلى مستحقيها، فهي هاهنا من باب الأولى والأحرى. فيجوز النطق بكسرها. كما يجوز نطقه بفتحها؛ لأنه تضمن قواعد وأحكامًا يُهتدى بها، والفتح بهذا التعليل يساعده ويقويه ورود تسمية الكتاب بلفظ (معالم الموقعين)، وأن تعليل فتح الهمزة بأنه يحوي جملة من أسماء القضاة والمفتين غير متوجه، كما أن تسميته بلفظ (أعلام الموقعين) لا مستند لها، بل هي تسمية غريبة وشاذة، واللَّه أعلم" (¬2). * حجمه: طبع الكتاب أكثر من مرة (¬3)، وجل طبعاته في أربع مجلدات وأصله في ثلاث، وقد وصفه تلميذ المصنف صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ) بقوله في "أعيان العصر" (4/ 369) و"الوافي بالوفيات" (2/ 196) ¬

_ (¬1) من هامش "قواعد في علوم الحديث" (ص 98 - 99). (¬2) "ابن القيم الجوزية: حياته وآثاره" (ص 132). (¬3) سيأتي الكلام على طبعاته.

موضوعه ومباحثه

عنه: "سِفر كبير"، وقال ابن رجب (¬1) في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450): "ثلاث مجلدات"، وكذلك قال الداودي في "طبقات المفسرين" (2/ 63) وصديق حسن خان في "أبجد العلوم" (3/ 140) والحجوي في "الفكر السامي" (2/ 20 - ط الرباط و 2/ 292 - ط الباز). وقال علاء الدين المرداوي في "الإنصاف" (20/ 433 - ط عبد اللَّه التركي) بعد مسألة: "قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" في الجزء الثالث في "الحيل" وقال في "تصحيح الفروع" (6/ 428 - ط دار الكتب العلمية أو 6/ 494 - ط عالم الكتب) في مسألة في (الحيل) -وهي (تضمين المفتي) -: "قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" في الجزء الأخير. . "، فحاصل هذين النَّقلين أن نسخته ثلاثة أجزاء، فتأمل. وظهر الكتاب مطبوعًا في ثلاثة أجزاء في مطبعة فرج اللَّه الكردي (¬2)، سنة 1325 هـ - 1907 م، بمصر وهكذا وقعت تجزئة الكتاب في كثير من أصوله الخطية، مثل نسخة (¬3) (ك) من أصولنا المعتمدة، وكذلك النسخة المحفوظة في العراق بخط نعمان الآلوسي رحمه اللَّه تعالى، وغيرهما. * موضوعه ومباحثه: - توطئة: زعم بعض المعاصرين (¬4) أنه كتاب في (التوحيد)! وهذا ليس بصحيح، وفي الحقيقة أن ترتيب مؤلفات ابن القيم بالنسبة إلى موضوعها، أعني: العلم الذي يبحث فيه كل مؤلف -بحيث نقول: إن هذا الكتاب في التوحيد، وهذا في الحديث، والآخر في الأصول- أمر عسر، لأنّ أي مؤلف من مؤلفاته لا يعالج موضوعًا وفنًّا واحدًا، فكتابنا هذا على الرغم أنه ليس في التوحيد، إلا أن فيه استطرادات (¬5) في ¬

_ (¬1) وعنه ابن العماد في "شذرات الذهب" (6/ 169) وصديق حسن خان في "أبجد العلوم" (3/ 140). (¬2) انظر: "معجم المطبوعات العربية والمعربة" (1/ 223) "ذخائر التراث العربي" (1/ 220). (¬3) سيأتي إن شاء اللَّه تعالى وصفُها. (¬4) هو يوسف سركيس الدمشقي في كتابه "معجم المطبوعات العربية والمعربة" (1/ 223 رقم 3). (¬5) انظر -مثلًا-: كلامًا في (الإرجاء) في (3/ 144) وكلامًا في (العلو) في (3/ 75) وكلامًا في (المقارنة بين الشرائع) في (2/ 303 - 304)، ففي هذه المواطن تقر عين الموحد، ويفرح ببرد اليقين الذي يجده عنده، بخلاف غيرهم من أهل البدع والعقائد الفاسدة، واللَّه الهادي.

التوحيد، لا تكاد تجدها بالوضوح والقوة المطروقة فيه في الكتب المختصّة بذلك، وهكذا. ومن هاهنا؛ نستطيع أن نقرر أن الغالب على كتابنا هذا (مباحث أصولية) واستطرادات (فقهية) (¬1)، جمعها عقدُ (أسرار الشريعة)، وأنها (قواعد) مطردة، والغالب عليها أنها (معلَّلة)، ولم يشذ منها شيء عن (العقل) الصحيح، و (القلب) السليم، و (الذوق) الجيد، التابع ذلك كله لنصوص الوحيين الشريفين، وآثار السلف الصالحين ومنهجهم في التلقِّي والاستنباط والفتوى، البالغ (الذروة)، بحيث اصطفاهم اللَّه لنبيِّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما اصطفى (نبيَّه) -صلى اللَّه عليه وسلم- لسائر الخلق، فهم القدوة، وفي منهجهم -فقط- يُعبد اللَّه بحق، وتأتي -حينئذٍ - العبادة بثمارها وبركاتها وآثارها، فينال صاحبها خيري الدنيا والآخرة، ويتقلب في مرضاة اللَّه عز وجل في الدور الثلاثة: الدنيا، والبرزخ، والآخرة. ¬

_ (¬1) يجد الناظر في قائمة مصادر دراسات المعاصرين عند تقسيمهم إياها على (الموضوعات) اضطرابًا في (تصنيف) كتابنا هذا، فمثلًا، ذكره الدكتور مصطفى جمال الدين في كتابه "البحث اللغوي عند الأصوليين" (ص 318) تحت (مصادر متنوعة في التفسير والحديث والتاريخ والطبقات وأمثاله)! وذكره الدكتور سالم الثقفي في كتابه "الزيادة على النص" (ص 132) تحت (مراجع عامة ومعاجم لغوية ودوائر معارف)! وذكره بعضهم تحت (كتب الفقه) قال المحمصاني في كتابه "المجاهدون في الحق" (ص 169) عن ابن القيم: "وأهم كتبه الفقهية كتاب "أعلام الموقعين"" وذكره آخرون تحت (كتب الأصول) كما فعل الشيخ راغب الطباخ في كتابه: "الثقافة الإسلامية" (ص 409 ط سنة 1369 هـ) وذكره غيرهم تحت (كتب الحنابلة)! مع أنه لم يرد له ذكر في "المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة". ويعجبني وصفه بـ "موسوعة فقهية أصولية" كما في "مقاصد الشريعة" (ص 111). ومما يستحق الذكر بهذا الصدد، قول صاحب "من أحكام الديانة" (السفر الأول) (ص 151): "وأصول الفقه والفقه علمان، لهما علم يشتركان فيه، ينبغي أن يكون فرعًا مستقلًا باسم (علوم علم الفقه وأصوله)، فيدخل فيه آداب المفتي والمستفتي، وأهلية الأصولي والفقيه، وتاريخ التشريع" انتهى. قال أبو عبيدة: ومباحث كتابنا: "الأعلام" هي المشتركة بين علمَي: الفقه والأصول، وإن كانت تارة إلى الفقه أظهر، بل بعض المسائل فيه فقهية خالصة، ولكن ساقها لتعلّقِ لها بالأصول، أو لإظهار حكَمِها وأسرارها، أو تأييدًا لمسألة شبيهة بها، أو نحو ذلك، مع مراعاة بنائه المسائل على الآثر بتَوسع، فهو كتاب فقه، توسع فيه في الاستدلال والتأصيل والتحليل؛ ولذا ذكره الشيخ بكر أبو زيد في "المدخل المفصل" (2/ 894) تحت عنوان (الكتب الجوامع في الفقه وغيره) وذكره (2/ 990) ضمن (الكتب الجوامع)، أيضًا.

رد مؤاخذة، وبيان أمر كلي على عجالة

نعم، هنالك استطرادات في معالجة مسائل امتُحِن بسببها المصنف وشيخه ابن تيمية، هي ثمار لتلك القواعد والأصول والأسرار التي قامت بقوة في نفس صاحبها، وتبرهنت عنده أدلة جليّة قوية تخصّها، وقوّتها عنده لما رآها قد وردت على وجه القطع في عموم نصوص الشريعة، فزادته تقريرًا وزانت في أعين الناظرين إليها، ووزنت حجج المخالفين لما تقع المقارنة بينها. - رد مؤاخذة، وبيان أمر كلّي على عجالة: وينبغي أن ينظر إلى هذه الاستطرادات بالسياق والوقت الذي كتبت فيه، فهي -في الجملة- من انفرادات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في ذلك الوقت، ووقع تشغيب عليهما بسببها، فلا أقلّ من أن تذكر بتأصيل وتفصيل، وتعالج معالجة علمية منصفة متجردة، بعيدة عن (المألوف) آنذاك، منسجمة مع (أصولها) و (حِكَمها) و (أشباهها) و (نظائرها)، لتوضع موضعها، ويراعى فيها (الحق) و (العدل)، فلا مندوحة في هذا الاستطراد لمن راعى هذه المسوِّغات (¬1)، وهي بمثابة (المسائل الأنموذجية) العلمية العملية، على تلك الموائمة الرائعة بين (الألفاظ) و (المعاني)، والتخريج العلمي الرزين بين (الأصول) و (الفروع)، والربط المحكم الوثيق بين (الأحكام) و (الحِكَم). ومما ينبغي أن لا ينسى أن هذه المسائل التي نسجها ذلك العقد من (الحِكَم) و (الأسرار) وتضمنتها تلك (المسائل) و (الفروع) القائمة على (الأصول) و (النصوص) و (الآثار)، حواها جميعًا ثوبٌ زاهٍ قَشيبٌ، ربطت فيه -كلٌّ بمقداره وموقعه منه-، وهو موضوع (الفتوى) و (المفتين)، ومعالجة ما يقعون فيه من تجاوزات، والخروج عن (السابلة)، وتورطهم في الوقوع بـ (الحيل). - فصول نافعة وأصول جامعة في القياس: وهذه كلمات مجموعة من العلماء والباحثين والمطلعين، فيها إبراز لمباحث مميزة في هذا الكتاب: - قال صديق حسن خان في "ظفر اللاظي بما يجب في القضاء على القاضي" في آخر (مقدمته) (ص 28): "وفي "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فصولٌ نافعة، وأصول جامعة في ¬

_ (¬1) قارنه -لزامًا- بما في "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين" (151، 154).

تقرير القياس، والاحتجاج به، ولعلك لا تظفر بها في غير ذلك الكتاب، ولا بقريب منه" (¬1) انتهى. قلت: نعم، في كتابنا هذا فصول ثلاثة عن القياس تكاد لا تجدها في كتاب، وهي: الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس، وبطلانها مع وجود النص. الثالث: في بيان أنَّ أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح، وليس فيما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح. قال ابن القيم في كتابنا (2/ 116) بعد ذكره هذه الفصول الثلاثة: "وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبيّن للعالِم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما هو عامُّ الرسالة إلى كل مكلف، فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه، ودقيقه وجليله، فكما لا يخرج أحدٌ عن رسالته، فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنها، وعن بيانه له". قال: "ونحن لا نعلم أنا لا نوفِّي هذه الفصول حقَّها ولا نقارب، وأنها أجلُّ من علومنا، وفوق إدراكنا، ولكن ننبه أدنى تنبيه، ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها، وينهج طرقها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان". قرر هذا بعد ذكره خطأ القياسيين من خمسة أوجه (¬2)، وركز في مباحث الفصول الثلاثة على ضرورة التنبيه على: "التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثيرٌ منه على أفاضل العلماء فضلًا عمن هو دونهم، فإن إدراك الصفةِ المؤثرةِ في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي عُلِّقت بها الأحكام من أشرف العلوم، فمنه الجليُّ الذي يعرفه أكثر الناس، ومنه الدقيقُ الذي لا يعرفه إلا خواصُّهم، فلهذا صارت أقْيِسَةُ كثيرٍ من العلماء تجيءُ مخالفةً للنصوص لخفاء ¬

_ (¬1) ذكرها صديق حسن خان في كتابه "الجنة بالأسوة الحسنة بالسنة" وكذلك فعل ابنه محمد أبو الخير في "الطريقة المثلى في الإرشاد إلى ترك التقليد واتباع ما هو الأولى" (ص 49 - 61) الفصلان: السابع والثامن بتمامهما. (¬2) انظرها في (2/ 115).

القياس الصحيح، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام" (¬1). ولم يأتِ في هذا الذي قرره ببدع من القول، بل هو الجادة المطروقة، وقد صرح هو بذلك؛ فأصغ إليه وهو يقول في (2/ 256): "لم أجد أجود الأقوال إلا أقوال الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمت قولًا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه، لكن العلم بصحيحِ القياسِ وفاسدِه من أجَلِّ العلوم، وإنما يَعرف ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام، واللَّه أعلم" (¬2). واشتهر هذا المبحث عن ابن القيم، وصرح في كتابنا هذا أنه كان هو السبب في تقرير شيخه ابن تيمية إياه (¬3)، قال في (2/ 165): "وسألتُ شيخنا -قدس اللَّه روحه- عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس (¬4). . . فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس" قال: "وأنا أذكر ما ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 238). (¬2) انظر -له-: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (17/ 182) وانظر منه: (8/ 179 و 13/ 19 و 146/ 14) و"شفاء العليل" (400 - 430) و"الجواب الكافي" (39 - 41) و"مفتاح دار السعادة" (350 - 351) كلها لابن القيم، و"تعليل الأحكام للشلبي" (14 - 22) و"أضواء البيان" (4/ 679). (¬3) ألف الشيخ عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه كتابًا بعنوان "المعدول به عن القياس، حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية منه"، وقد نشر محب الدين الخطيب ما يخص هذه المسألة في كتاب، جمع فيه كل كلام ابن تيمية وابن القيم، وانظر -لزامًا-: ما سنذكره في هذه المقدمة تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية). (¬4) توسع الحنفية في هذا، ولذا نازع متأخروهم ابنَ القيم في رده عليهم، انظر -مثلًا-: مبحث (الإجارة) هل هو على خلاف القياس أم لا؟ في "إعلاء السنن" (16/ 182 - 183)، ولأبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري مبحث مطول في ذلك، راجعه في "من أحكام الديانة" (السفر الأول) (ص 336 - 357)، وهو بعنوان: "عقد الإجارة مظهر للقياس الصحيح، وتحقيق الخلاف بين الحنفية وابن قيم الجوزية، ومعنى القياس هاهنا" واعتنى عناية قوية بمناقشة كلام ابن القيم، وبيان مراده على وجه تفصيلي تحليلي، تظهر منه دقة ابن القيم الشديدة، وقارنه بما في "تمكين الباحث من الحكم بالنص بالحوادث" لوميض العمري (ص 42 - 43)، واللَّه الموفق.

عناية المصنف بكتاب عمر في القضاء

حصَّلته من جوابه بخطّه ولفظه، وما فتح اللَّه سبحانه لي بيُمن إرشاده، وبركة تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه". وقال في (3/ 158) بعد كلام: "وهذا مما حصّلته عن شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه- وقت القراءة عليه، وهذه كانت طريقته، وإنما يقرر أن القياس الصحيح هو ما دل عليه النص، وأنَّ من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معًا". قلت: فهذا المبحث إذن عند مصنفنا وهو في أصوله من بركات وحسنات شيخه ابن تيمية، ولذا قال محمد بن أحمد الفتوحي، الشهير بـ (ابن النجار) (ت 972 هـ) في كتابه النافع "شرح الكوكب المنير" (4/ 225): "وقد ذكر الشيخ تقي الدين -وتبعه ابن القيم- أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وما لا يُعقل معناه، وبيّنَا ذلك بما لا مزيد عليه". وظفرت بنحوه للمرداوي (ت 885 هـ)، قال في "التحبير في شرح التحرير" (7/ 3539): "قلت: قد ذكر الشيخ تقي الدين وتبعه ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس ولا ما لا يعقل معناه، وبيَّنوا ذلك بما لا مزيد عليه، واللَّه أعلم". ولخَّص العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في رسالته المسّماة: "الاقتباس لمعرفة الحق من أنواع القياس" كلام ابن القيم هذا، وتصرف فيه، ولم يخرج عنه، وإن لم يصرح بالنقل عن ابن القيم فيها، إلا أن اسمها "الاقتباس" يدلل على ذلك، وكذلك قوله في آخرها (ص 53): "انتهى ما أردتُ نقله، وتقريبه للناظرين، وتحقيقاته للمتناظرين، وبيان طرق القايسين، وشعب الطرق بهم ذات الشمال وذات اليمين، فمن حقق ما قربناه، وكرر النظر فيما سُقناه؛ اتضح له ما كان خفيًّا، وصار بعد ذلك أمرًا جليًا، بنشرنا ما كان مجملًا ومطويًا" وصدق رحمه اللَّه فيما قال. - عناية المصنف بكتاب عمر في القضاء: وكانت هذه المباحث البديعة التي لا تكاد تجدها في غير كتابنا هذا استطرادًا عند شرح ابن القيم كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء (¬1). وهذا الكتاب مهمٌّ، وله موقعٌ بارزٌ في "إعلام الموقعين" وأخذ شرحُه مساحة ¬

_ (¬1) انظره في نشرتنا (1/ 158).

واسعة منه (¬1)، وقد نبه على هذا العلماء. قال صديق حسن خان في "ظفر اللاظي" (باب وجوب نصب ولاية القضاء والإمارة وغيرهما) (ص 76 - 77) بعد أن أورد الكتاب بطوله، قال: "قال الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين": "هذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوجُ شيء إليه، وإلى تأمّله (¬2)، والتَّفقّه فيه. . . " (¬3) انتهى. ثم شرح هذا الكتاب، وأطال إطالة حسنةً تُستطاب، وأتى بالعجب العُجاب في ضمن الفصول إلى آخر الكتاب" انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (¬4) في كتابه "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (¬5): "وهذا الكتاب كاف في سعة مدارك عمر في الفقه والتشريع وأحكام الضوابط، وفيه التنصيص على أصول مهمة كقياس الشبه، وتقديم الكتاب على السنة، ثم هي على الرأي، ولذلك خص بالشرح، وشرحه في "إعلام الموقعين" بنحو ثلاثة أسفار (¬6) فانظره تَرَ ما استنبط منه من الأحكام والأسرار، ومنه استنبطت كيفية القضاء وأحكامه". وقد أشاد جمع من المعاصرين بصنيع ابن القيم في شرحه كتاب عمر، وهذه جملة من النقولات التي تدلل على ذلك: * قال أستاذنا العلامة مصطفى الزرقا رحمه اللَّه في كتابه "المدخل الفقهي العام" (1/ 74 - 75) بعد أن نقله بتمامه: "وقد تولى ابن القيم شرحه بإسهاب في مواطن عديدة من "إعلام الموقعين"". * وقال المستشار علي منصور في "نظم الحكم والإدارة" (ص 293): "جمع -أي عمر -رضي اللَّه عنه- فيها، جل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس ¬

_ (¬1) هو في نشرتنا في المجلد الأول من صفحة (158) إلى (آخره) ومن (أول) المجلد الثاني إلى (ص 438) وينتهي بانتهاء المجلد الأول من بعض الأصول الخطية: مثل (ق) و (ك). (¬2) تحرف في مطبوع "ظفر اللاظي" إلى: "وإني تأمّلته"!! فليصحح. (¬3) "الإعلام" (1/ 163 - نشرتنا). (¬4) قد يفهما من كلامه أن كتاب "الأعلام" خاص بشرح كتاب عمر، وهذا ما صرح به بعض المعاصرين! وسيأتي كلامهم ومناقشته، واللَّه الموفق. (¬5) (2/ 20 - ط الرباط سنة 1340 هـ و 2/ 297 - ط الباز). (¬6) العبارة توهم أن "إعلام الموقعين" بتمامه شرح لكتاب عمر! والأمر ليس كذلك!

هل كتاب "الأعلام" شرح لكتاب عمر في القضاء؟

بعده يتخذونها إمامًا ولا يجد محقُّ عنها معدلًا، ولا ظالم عن حدودها محيصًا" ثم ذكر أنه نقلها عن ابن القيم، وأنه شرحها في "إعلام الموقعين" في أكثر من أربع مئة صفحة. *وقال الشيخ الأستاذ مناع القطان رحمه اللَّه في كتابه: "التشريع والفقه الإسلامي تاريخًا ومنهجًا" (ص 126): "وكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، كتاب فريد في بابه، يجمع كثيرًا من قواعد الأصول والفقه واستنباط الأحكام، ويدل على أصالة رأي، ودقّة فهم، وحسن بصيرة" قال: "وقد شرحه العلامة ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" شرحًا مستفيضًا واستخلص منه علمًا غزيرًا". - هل كتاب "الأعلام" شرح لكتاب عمر في القضاء؟ بل ذهب بعض المعاصرين إلى أكثر من هذا، فجعلوا كتابنا هذا "إعلام الموقعين" خاصًا بشرح كتاب عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري! قال الحجوي الثعالبي في "الفكر السامي" (2/ 20) بعد كلام عن كتاب عمر: "وشرحه في "إعلام الموقعين" بنحو ثلاثة أسفار، فانظره تَرَ ما استنبط منه من الأحكام والأسرار، ومنه استُنْبِطَتْ كيفية القضاء وأحكامه". وقال الأستاذ عبد العزيز مصطفى المراغي في تحقيقه الجيد لكتاب "أخبار القضاة" لوكيع، خص هامش (1/ 73 - 74) لهذا الكتاب، ومما قاله فيه: "وقد تولى تفسيره كثير، منهم:. . . و"إعلام الموقعين" لابن القيم يكاد يكون كتابًا موضوعًا لشرح كتاب عمر، اتخذ التعليق عليه وسيلة للإفاضة في كثير من أسرار التشريع التي نصب ابن القيم نفسه لبيانها، والدفاع عنها". وتصريح الأستاذ محيي هلال السرحان أوضح في الدلالة على ذلك، قال بعد كلام: "إن ابن القيم قد ألف كتابه "إعلام الموقعين" بشرحه لخصوصه" (¬1). قال أبو عبيدة: في كلامه هذا تجوّز، نعم، عناية ابن القيم بشرح كتاب عمر ¬

_ (¬1) "أدب القاضي" بشرح الصدر الشهيد (1/ 214 - الهامش)، وصرح جمع من المعاصرين بإفاضة ابن القيم في "إعلام الموقعين" بشرح كتاب عمر في القضاء، انظر -على سبيل المثال-: ترجمة الأستاذ محمد رشدي لكتاب "فن القضاء" لمؤلفه ج. رانسون (ص 171 وما بعد) والدكتور عطية مشرف في كتابه "القضاء في الإسلام" (96).

مباحث كتاب "الأعلام" لغاية إيراد المصنف كتاب عمر في القضاء

في القضاء لا تنكر، ولكن جعل كتاب "الأعلام" شرحًا له فحسب، فهذا أمر غير صحيح، وبهذه المناسبة نقرر الآتي: إن مادة كتاب "الإعلام" بالجملة هي الفقه وأصوله، وذكرت المسائل الفقهية خدمة لأصول عالجها وأفاض فيها على طريقة لا تكاد تجدها، لا من حيث المضمون ولا الأسلوب في بطون الكتب الأصولية المطروقة (¬1)! ويعجبني كلام الشيخ بكر أبو زيد في وصف مباحث الكتاب: قال عنه: "الجامع لأمهات الأحكام، وحقائق الفقه، وأصول التشريع، وحكمته وأسراره" (¬2). وإليك وصف عام لكتابنا هذا حتى الوصول إلى ما بدأنا به من الكلام على القياس (¬3): - مباحث كتاب "الأعلام" لغاية إيراد المصنف كتاب عمر في القضاء: كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ذخيرة جليلة، عامرة بمباحث قيمة في الفقه والأصول والأحكام والقضاء يعتد بها أهل السنة على اختلاف مذاهبهم، ويقدِّرون ما تميَّزت به من سعة الأفق وشمول النظر ودقة التناول وقوة الحجة في الدفاع عن مذاهب أصحاب السنة. الفصول الأولى من "الأعلام" خصصت للكلام عن الفتوى (¬4) وكونها توقيعًا ¬

_ (¬1) ولذا قال صاحب "ضوابط للدراسات الفقهية" (ص 125 - 126): "إن هناك عددًا من العلماء تناولوا الأصول دون التقيّد بمذهب معين كما هي الحال في دراسات شيخ الإسلام ابن تيمية، ثم تلميذه ابن القيم، خاصة في كتابه "إعلام الموقعين"". وعدّ صاحب "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة" (ص 549) كتابنا هذا ضمن (قائمة بجهود ابن القيم في أصول الفقه) وأعاده (ص 563) ضمن (قائمة بأسماء الكتب المشتملة على أبحاث أصولية لأهل السنة والجماعة)، إلا أنه صرح في (ص 40) منه أنه "ليس خاصًا في أصول الفقه إلا أنَّ معظم مباحثه تتعلق بالأصول" ثم عرف به بكلام سأذكره قريبًا إن شاء اللَّه. (¬2) "ابن قيم الجوزية: حياته وآثاره" (ص 71 - 72). (¬3) مأخوذ بتصرف من كتاب "رسالة القضاء لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب" (ص 372 وما بعد) للأستاذ أحمد سحنون، وفيه رد على من زعم أن كتابنا هو عبارة عن شرح لرسالة عمر فقط! (¬4) اشتهر الكتاب بهذه المباحث، إذ بدأ المصنف كتابه بها، وختمه بمباحثها التأصيلية، ثم سرد فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وظهر أثر هذه المباحث التي تخص الفتوى على وجه جلي في =

عن اللَّه تعالى (¬1)، وأول من وقع عنه، سبحانه، الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وفيهم مكثرون من الفتوى ومتوسطون ومُقلُّون- ومن صارت إليه الفتوى من التابعين، ثم من فقهاء الأمصار الإسلامية بالمشرق والمغرب، تليها فصول عن الأصول الخمسة لفتاوى الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: النص من الكتاب والسنة، وما أفتى به الصحابة، فإذا اختلفوا في فتاويهم فأقربها إلى الكتاب والسنة، ثم الأخذ بالحديث المرسل وبالضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، ثم القياس. ومنه عقد فصولًا في: كراهة العلماء التسرع في الفتوى والجرأة عليها، وخطر ولاية القضاء، وخطر القول على اللَّه تعالى بغير علم. وإطلاق الأئمة لفظ الكراهة على ما هو حرام، وكلامهم في أدوات الفتيا وشروطها، وهل تجوز الفتوى بالتقليد؟ وتحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرأي إلا ما كان منه مقبولًا محمودًا، وذلك هو رأي الصحابة، والرأي المفسر للنصوص، ¬

_ = كتب الأصول التي ألفت في القرن التاسع وما بعد، وسيأتي تفصيل ذلك تحت عنوان (أهمية الكتاب وفائدته وأثره فيما بعده). والغالب على الظن أن جل مباحث كتاب صديق خان المسمى "ذخر المحتي من آداب المفتي" من كتابنا هذا. ثم رأيته مطبوعًا فوجدت الشيخ عبد القادر الأرناؤوط -حفظه اللَّه- يقول في تقديمه له (ص 5): "وقد اختصر هذا البحث من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" لشيخ الإسلام ابن قيم الجوزية -رحمه اللَّه- وزاد عليه فوائد عظيمة، وفرائد مفيدة. . . " وقال محققه أبو عبد الرحمن الباتني نحوه في (ص 12) ثم رأيت المصنف نفسه يقول فيه (ص 25): "فجمعت في هذا السفر من آداب الفتيا وشأن التقليد ما نطق به أئمه هذا الشان، وأثبتوه في كتبهم بأبلغ برهان، وأشفى بيان، لا سيما ما حققه الواحد المتكلم الحافظ محمد بن أبي بكر القيم في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" من فوائد هذا الباب، وشواهد هذا الإياب والذهاب، فاستفدتُ منه فوائد أثيرة، وزدت عليه فرائد يسيرة". وانظر منه: (ص 30، 32، 34، 42، 44، 49، 52، 56، 58، 61 - 62، 63، 65، 66، 68، 90، 98، 99، 101، 118، 126، 129، 131، 132، 134 - 135، 152 - 153، 173، 180 - 181). (¬1) هذه تسمية قديمة مسبوق بها ابن القيم، قال ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 27) بعد كلام: "ولذلك قيل في الفتيا: إنها توقيع عن اللَّه تبارك وتعالى"، وانظر: "المجموع" (1/ 73) للنووي، وهي خير من تسمية القرافي في كتابه "الإحكام" (ص 25) بـ (ترجمان عن اللَّه)، انظر: "الفتيا" لمحمد الأشقر (ص 26)، و"من يملك حق الاجتهاد" (ص 7) للعودة، و"ابن القيم أصوليًا" (ص 357 - 358).

مباحث (الفتوى) في الكتاب

والذي تواطأت عليه الأمة وتلقاه الخلف عن السلف، فإن لم يجد المفتي، أو القاضي، ذلك، اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وأقضية أصحابه -رضي اللَّه عنهم-. وهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضًا عليه. . . وهنا ساق المصنف (كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء)، عند وصوله إلى (الرأي المقبول) بأنواعه الأربعة، أورده في النوع الأخير منها. - مباحث (الفتوى) في الكتاب: ولا بد هنا من إبراز (مباحث الفتوى) (¬1) في كتابنا هذا، إذ كاد أن يكون أوسع معلمة فيها، ولذا قال صديق حسن خان في "إكليل الكرامة" (ص 80 - 81) بعد كلام: "فالكلام في شروط المفتي وما يُعتبر به مبسوط في كتب الأصول والفقه، وقد أوضحها. . . والحافظ الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" بما يشفي العليل، ويروي الغليل، فإنْ شئت الاطلاع، فارجع إليه، يتَّضح لك الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، ولا تكن من الممترين" (¬2). وذكر عبد القادر بدران في "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (ص 392) مسائل في (الفتوى)، وقال: "واعلم أن أمثال هذه المباحث، يُكْثِر من ذكرها الفقهاء في كتب الفروع في (باب آداب القاضي والمفتي)، فلا نطيل بها هنا، وقد أوسع المجال في هذا المقال الإمامُ شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" بما لا مزيد عليه، فليُراجعه من أراد استطلاع الحقّ مِنْ برُوجه، فَجزاه اللَّه خيرًا" انتهى. وصدق رحمه اللَّه تعالى، إذ إن اختياراته في (مباحث الفتوى) ظاهرة عند كثير من العلماء والباحثين والمطلعين، على حسب ما يأتي بيانه تحت عنوان (أهمية الكتاب وفائدته وأثره فيما بعده). - الرأي وأنواعه: وأما (الرأي وأنواعه) فتقسيمات المصنف له بديعة، واستدلالاته لها غالية، ¬

_ (¬1) لا تنس أن للمصنف عودة حميدة مفصّلة مع هذه المباحث، وانظر ما سيأتي (681). (¬2) الظاهر أنه ألف كتابه المشار إليه قريبًا في (الفتوى) بعد تأليفه "إكليل الكرامة"، فتأمل!.

أصول الإمام أحمد

رفيعة، فيها حق وعدل، وإنزال للآثار السلفية في موضعها، على وجه لا تجده بهذا التأصيل والتقسيم والتفريع والتدليل في كتاب (¬1)، ولذا كان محط إعجاب وتقدير كثير من الباحثين المعاصرين (¬2). - أصول الإمام أحمد: بقي الكلام على (أصول الإمام أحمد)، فإن المصنف أولاها (عناية فائقة)، بسبب معرفته القويّة لها، وحذْقه وإعجابه بها، وسيأتيك نقل طويل من كلامه يدلل على ذلك تحت مبحث (مصادر المصنف وموارده) وقد نقل ابن بدران هذه الأصول في (العقد الثالث) -وهو خاص بها- في كتابه "المدخل" (ص 121 - 129)، قال في آخرها: "هذا مجمل مسالك الإمام أحمد في الفتيا والاجتهاد واستنباط الأحكام" (¬3). هذه أهم المباحث التي تطرق إليها المصنف، قبل سرده كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء. - كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء (¬4): يأخذ شرح (كتاب عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري) موضعًا هامًا وواسعًا من كتابنا هذا، فهو يأتي في نشرتنا هذه في جزئين (الأول والثاني)، فهو ¬

_ (¬1) قال في (1/ 124) بعد إيراده للآثار: "ولا تعارض -بحمد اللَّه- بين هذه الآثار، عن السادة الأخيار، بل كلها حق، وكل منها له وجه، وهذا إنما يتبيّن بالفرق بين الرأي الباطل -الذي ليس من الدين- والرأي الحق، الذي لا مندوحة عنه لأحد من المجتهدين، فنقول وبالله المستعان. . . ". (¬2) انظر -على سبيل المثال-: "القول المفيد" للشوكاني (56، 57 - ط عبد الرحمن عبد الخالق)، و"وجوب الرجوع إلى الكتاب والسنة وخطر التقليد" لعلي خشان (ص 36 - 38)، و"المدخل إلى الفقه الإسلامي" (ص 196 - 197 - ط الثانية) للخياط، و"فقه الاختلاف" لعمر الأشقر (65 - 67)، و"مراعاة الخلاف" (75) للسنوسي، ويظهر النقل جلبًا من كتابنا هذا في المؤلفات المفردة في الرأي، مثل: "الرأي وأثره في الفقه الإسلامي" لإدريس جمعة و"الرأي في الفقه الإسلامي" لمختار القاضي. (¬3) تحرف في الأصل إلى "واستنباط الكلام"!! وفي "القول المفيد" (ص 57) للشوكاني: "وأما الإمام أحمد فهو أشد الأئمة الأربعة تنفيرًا عن الرأي، وأبعدهم عنه، وألزمهم إلى السنة، وقد نقل عنه ابن القيم في مؤلفاته كـ"إعلام الموقعين" ما فيه التصريح بأنه لا عمل على الرأي أصلًا"، واعتنى جمع من المعاصرين بكلام ابن القيم في هذا الموضوع. (¬4) لا تنس ما قدمناه قريبًا تحت عنوان (عناية المصنف بكتاب عمر في القضاء).

يبدأ من (ص 158) من (المجلد الأول) إلى (آخره) ومن (بداية) (المجلد الثاني) إلى (ص 438) منه، وأما بالنسبة إلى الأصول الخطية فهو عبارة عن جل المجلد الأول، فشرحه ينتهي بنهاية المجلد الأول على تقسيم المصنف (¬1)، فهو نحو ثلث الكتاب (¬2)، عدا ما أدرجه من مباحث (سبق ذكرها) بين يديه. ويندرج تحت هذا الشرح (عناوين) (¬3) فرعية لـ (فصول) (¬4) و (مباحث) و (تفريعات) و (مسائل)، بلغ عددُها فيما أحصيتُ (ثلاثًا وأربع مئة) عنوانًا، لما هو شرح (كتاب القضاء) هذا. أدرج ابن القيم هذا الكتاب في (النوع الرابع) من (الرأي المقبول)، فذكره بسند أبي عبيد القاسم بن سلام من كتابه "القضاء" -بواسطة ابن حزم، كما سيأتي بيانه عند الحديث عن الموارد- وعقب عليه بقوله (1/ 163): "وهذا كتاب جليل تلقَّاه العلماءُ بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة" ثم بدأ في شرحه، فمضت الفقرات الأولى منه مشروحة بإيجاز، مع استطراد يسير إلى ما يتعلق بها من مسائل، ومن بديع تأصيلاته هنا ما يخص (فقه الواقع) (¬5)، الذي كثر الخوض فيه بحق دون عدل، أو بظلم مع تجاوز للأحكام الشرعية، من إهمال أو تنقيص في العلماء الربانيين، وكلام المصنف في هذا الباب هو البلسم الشافي والدواء الكافي، قال في (1/ 165): "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فقه الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا. ¬

_ (¬1) كذا وقع في نسختي (ق) و (ك) الآتي وصفهما. (¬2) إذ أصله ثلاثة مجلدات، كما بيَّناه تحت عنوان (حجمه). (¬3) هي من صنيع القائمين على نشر الطبعات الآتي وصفها في آخر هذه المقدمة، وبعضها أثبته من هوامش بعض النسخ الخطية، واستفدتُ من جميع المطبوعات وما فزتُ به من هوامش على المخطوطات التي اعتمدتها في التحقيق، وأثبت ما رأيتُه ضروريًا، ومناسبًا، واللَّه الموفق. (¬4) بعضها موجود في الأصول الخطية، فهي من صنيع المصنف، وعلامته في طبعتنا ما لم يكن بين المعقوفتين. (¬5) انظر: "فقه الواقع دراسة أصولية"؛ ففيه (ص 60 - 64) نقل عن المصنف في هذا الموضوع، ومناقشة لمن نقل كلامه.

والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم اللَّه الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا". قال: "فالعالم مَنْ يتوصل بمعرفة الواقع، والتفقه فيه، إلى معرفة حكم اللَّه ورسوله. . . " ثم قال بعد كلام في (1/ 166): "ومن تأمل الشريعة، وقضايا الصحابة، وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله". قلت: صدق رحمه اللَّه، لو اطلع على هذا المتنازعون في هذه (المسألة)، التي وقع بسببها (التهاجر) و (التصارم)، وسوء (الظن)، والقيل والقال، لأراحوا واستراحوا، وجمعوا (الحق) إلى (العدل)، فاكتمل الخير، وظهرت ثمرته وبركته على طلبة العلم، واللَّه الواقي والهادي. وأطال الاستطراد عندما ورد في كتاب عمر -رضي اللَّه عنه-: "البَيِّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر"، فأسهب جدًّا في الكلام على البينة، وغلط المتأخرين في تفسيرها، ونصاب الشهادة، وما يتعلق بشهادة الزنا وغيرها، وحكم شهادة العبد، وشهادة اليمين، والحكم بشهادة الواحد إذا ظهر صدقه، وتشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين، ولا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلًا، ولم يردّ الشارعُ خبرَ العدل، وجانب التحمل غير جانب الثبوت، ثم تعرض للحاكم وصفاته وما يشترط فيه، وأنه يجب تولية الأصلح للمسلمين، واستطرد في التدليل على ذلك لأهميته، ونبَّه على سر استطراده بقوله في (1/ 199): "ولا تستطل هذا الفصل، فإنه من أنفع فصول الكتاب، واللَّه المستعان، وعليه التكلان" ثم تكلم عن الصلح بين المسلمين، وجره ذلك إلى بيان أن (الحقوق نوعان)، وأن منها المردود ومنها النافذ، وأن للقاضي أن يؤجل الحكم بحسب الحاجة، وأن حكمه قد يتغير بتغيّر اجتهاده. واستكمل مباحث الشهادة عندما ورد في كتابه: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" فبيّن (من ترد شهادته) (وشهادة القريب لقريبه أو عليه) و (منع شهادة الأصول للفروع) و (عكسه) و (دليله) و (ردود العلماء على بعضهم بعضًا) في هذه المسألة، و (شهادة الأخ لأخيه)، ثم صوب شهادة الابن لأبيه والعكس. وبعدها شرح قول عمر في الكتاب: "إلا مجربًا عليه شهادة زور أو مجلودًا

عودة إلى مباحث (القياس) في الكتاب

في حد"، واستطرد في الكلام عن شهادة الزور وأنها من الكبائر، والحكمة في رد شهادة الكذاب، ورد شهادة المجلود في حد القذف، وحكم شهادة القاذف بعد توبته، ورد الشهادة بالتّهمة، وشهادة مستور الحال. وقدم ابن القيم في هذه المباحث آراء العلماء، وأدلتهم، وتوجيه الأدلة، والكلام على صحتها، واستطرد في الاحتجاج برواية (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) ليؤكد صحة بعض اختياراته، ولم يقتصر في هذا على شرح ما جاء في كتاب عمر فقط، واستغرق ذلك (1/ 168 - 247). - عودة إلى مباحث (القياس) في الكتاب: وتابع الشرح بإيجاز إلى وصوله إلى قول عمر: "ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك، مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال". فانصرف إلى تأصيل (القياس) (¬1)، وما ترك القول فيه حتى استوفاه في صفحات عديدة، استغرقت من (ص 247) في (المجلد الأول) إلى (نهايته)، ومن (أول) (المجلد الثاني) إلى (ص 425) منه من نشْرتنا هذه، قال في نهايته بعد استطرادات وتفريعات فيها تأصيلات بديعات: "فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين: "واعرف الأشباه والنظائر"". وفي لفظ: "واعرف الأمثال. . . " قال: "فلنرجع إلى شرح باقي كتابه". فموضوع القياس بلغ في نشرتنا هذه (ست مئة وستين صفحة)، فلا غرو أن يربط العلماء بين (كتابنا) و (موضوع القياس)، كما قدمنا في مطلع هذا البحث. وبدأ المصنف ببيان أن الصحابة كانوا متفقين على القول بالقياس، وأخذ في تقرير أنه أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه، وبيّن أن اللَّه أرشد عباده في غير موضع إليه، وقال في (1/ 248): "وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلًا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحكم". وقال في (1/ 248): "وقالوا: ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، فإنه إما استدلال بمعين على معين، أو بمعين ¬

_ (¬1) لا تنس ما قدمناه في مطلع هذا المبحث (فصول نافعة وأصول جامعة في القياس).

على عام، أو بعام على معين، أو بعام على عام، فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال". وبيَّنَ كل ضرب من الأربعة، واستدل له بنصوص من القرآن الكريم، ونبه على أن القياس ينقسم إلى حق وباطل، فهو إما صحيح أو فاسد، قال (1/ 251): "فالصحيح هو الميزان الذي أنزله تعالى مع كتابه، والفاسد ما يضاده، كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقياس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها، بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح: هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل اللَّه، ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعمالَه والاستدلالَ به، وهذا حق وهذا حق. . . ". وانتقل إلى الحديث عن الأقيسة الثلاثة المستعملة في الاستدلال: (قياس علة) و (قياس دلالة) و (قياس شبه). وقد وردت كلها في القرآن الكريم بشاهد من الآيات التي تقصاها لكل من الأقيسة الثلاثة، واقتضى الموضوع، في قياس العلة وقياس الدلالة، أن يستدل بما جاء في القرآن الكريم من آيات بتحليل الأحكام، وما ورد في السنة من علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها طردًا وعكسًا، ذكرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليدل على ارتباطها بها وتعديها بتعدي أوصافها وعللها. . . وقد قرب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، الأحكام إلى أمته بذكر نظائرها وأسبابها وضرب لها الأمثال. . . وجوز للحاكم أن يجتهد رأيه، وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرًا واحدًا، إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه. وقد كان أصحاب رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره. وتخلل ذلك استطرادات عجيبة في الاستنباطات القرآنية، وتوظيفها في كون القياس ميزانًا، والوقوف على أسرار بديعة من الآيات، لعلك لا تظفر بها في كتاب (¬1). ولم ينس ابن القيم خلال هذه المباحث ذكر لفتات تاريخية من أحداث جرت له مع مخالفيه من المنحرفين، فقال مثلًا في (1/ 272): "وقد شاهدنا نحن ¬

_ (¬1) سيأتيك أن كلام المصنّف على (الأمثال) استُلَّ من هذا الكتاب على أنه تصنيف مفرد! وألف الطوفي الحنبلي (ت 716) كتاب "الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية"، ذكر فيه المسائل الأصولية التي تستنبط من القرآن، وهو مطبوع.

وغيرنا كثيرًا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئًا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين. . . ". والمتتبع لكلامه في هذا المبحث يحسب أنه يقرأ في كتاب تفسير، يركز صاحبه على أوجه الهداية منه، وفيه أيضًا بيان أثر العقيدة على صاحبها، وذكر أمثلة للمؤمنين والكفار، وبعضها يخص اللَّه رب العالمين، من حيث الأسماء والصفات، ويكاد ينسى ما بدأ به من ذكر لتوجيه عمر ووصيته لأبي موسى في كتابه المذكور. واستطرد في بيان السر في ضرب الأمثال، وفرع عليه أصل (عبارة الرؤيا)، وذكر قواعد جامعة وكليات نافعة لتعبير (الرؤى)، بعضها مدلل بأحاديث نبوية (¬1)، ورجع إلى تأصيل كون أمثال القرآن أصولًا وقواعد لعلم التعبير، ثم ربط ذلك كله بموضوع (القياس)، من إلحاق النظير بالنظير، وإنكار التفريق بين المتماثلين. وجره هذا إلى الكلام على (مراد المتكلم) وأن ذلك يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علّته، والأمور تتضح بأضدادها -كما يقولون- وبناء عليه قرر أنه "قد يعرض لكل من أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني ما يخلُّ بمعرفة مراد المتكلّم، فيعرض لأرباب الألفاظ: 1 - التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة. 2 - وبتحميلها فوق ما أريد بها تارة. ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ". قال في (1/ 387): "فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين" قال: "ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك، ليعتبر بها غيره"، وأخذ في الاسترسال بذكر قواعد شرعية مبنية على النصوص، قلَّ أن يؤصلها إلا من وفقه اللَّه لذلك. ثم عقد مقارنةً -بناءً على تأصيله السابق- بين (القياسيين) و (الظاهرية)، وبيَّن ¬

_ (¬1) قال المصنف في "الزاد" (3/ 615 - 616 - ط مؤسسة الرسالة) (فصل: قدوم وفد بني حنيفة) بعد كلام فيه تعبير للرؤى لأبي العباس العابر: "وهذه كانت حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعتُ عليهِ عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر السن، واخترام المنية له رحمه اللَّه تعالى". وفي ذيول العبر" (4/ 155) في ترجمة (ابن القيم): "وحدث عن شيخه التعبير وغيره". ونقل عبد اللَّه الغماري في خاتمة كتابه "الرؤيا في القرآن والسنة" (ص 158 - 163) كلام ابن القيم هذا بتمامه، وعنون عليه (قاعدة عظيمة في التعبير)، وفي البال جمع كلامه في تأليف مفرد، يسر اللَّه ذلك بمنّه وكرمه.

أن كلًا منهما مفرط، وذلك من خلال أمثلة في فهم بعض النصوص الشرعية وذكر وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقّهما، وذكر أمثلة توضيحية تدلّل على مراده، وفيها ما يدلّل على عبقريته في وضع الأشياء في أماكنها، وبعد ضرب هذه الأمثلة، تفرغ للرد على (نفاة القياس)، وبدأه مُجمِلًا ما سبق بقوله في (1/ 400): "قد أتينا على ذكر فصول نافعة، وأصول جامعة، في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تجده في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منه". قال أبو عبيدة: وكلامه -واللَّه- حق، فقد طرق موضوع القياس بما يخدم النصوص، وبناه عليها، وفصل الجيد من الرديء، والسليم من السقيم، والصحيح من الضعيف، بوجه فيه اتباع للسلف، وبُعد عن المباحث الكلامية التي لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب (الأصول) المعروفة. وتعرض بعد ذلك في صفحات عديدة من (1/ 403 - 425) بسرد أمثلة ذكرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم صاغ بعد ذلك إشكالات عليها وعلى الأمثلة السابقة، ذَكَرها من القرآن على لسان (نفاة القياس)، واستطرد في ذكر (أدلة نفاة القياس)، متعرضًا إلى ما ورد عن الصحابة والتابعين من نهيهم عنه، وأن القياس يعارض بعضه بعضًا (¬1)، وأن أهله متناقضون، مع إيراد أمثلة تدل على ذلك، ثم مثل على ما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات، وأنهم راعوا بعض الشروط دون بعضها الآخر في بعض المسائل، وهذا من تناقضهم، وعرض تحت هذا مسائل فقهية عديدة، أطال النَّفس في بعضها، ثم عقد مقارنة بين (القائسين) و (معارضيهم) بلغة قوية، فقال في (2/ 88 - 89) وعلى لسان (المعارضين): "وهذا غَيْضٌ من فيضٍ، وقطرة من بحر، من تناقض القياسيين الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أو أولى منه وخروجهم في القياس عن موجب القياس، كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك، فليوجدنا القياسيون حديثًا واحدًا صحيحًا صريحًا غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، فإن كان مخالفةُ القياس ذنبًا فقد أريناهم مخالفته صريحًا، ثم نحن أَسعدُ الناس بمخالفته منهم؛ لأنا إنما خالفناه للنصوص؛ وإن كان حقًّا، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فانظر إلى هذين البَحْرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما، والحزبين اللذين قد ¬

_ (¬1) هنا ينتهي (المجلد الأول) من نشرتنا.

ارتفع في مُعتركِ الحَرْب عَجَاجُهما، فجرَّ كلُّ منهما جيشًا من الحجج لا تقوم له الجبال، وتتضاءل له شجاعةُ الأبطال، وأدلى كل منهما من الكتاب والسنّة والآثار بما خضعت له الرقاب، وذَلَّت له الصِّعاب، وانقاد له علم كل عالم، ونفَّذَ حكمه كلُّ حاكم، وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه، ويحيط علمًا بما أَصَّلَاه وفصَّلاه؛ فليعرف الناظر في هذا المقام قدره، ولا يتعدى طوره، وليعلم أن وراء سويقتيه بحارًا طامية، وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السُّهي عالية، فمن وثق من نفسه بأنه من فرسان هذا الميدان، وجملة هؤلاء الأقران، فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين، ويحكم بما يرضي اللَّه ورسوله بين هذين الحزبين، فإن الدين كله للَّه، وإن الحكم إلا للَّه، ولا ينفع في هذا المقام: قاعدة المذهب كيت وكيت، وقطع به جمهور من الأصحاب، وتحصَّل لنا في المسألة كذا وكذا وجهًا، وصحح هذا القول خمسة عشر، وصحح الآخر سبعة، وإن علا نسبُ علمه قال: "نصَّ عليه" فانقطع النزاع، ولزم ذلك النص في قرن الإجماع، واللَّه المستعان وعليه التكلان". ثم قرر ما رضيه، فقال على لسان -ما سماهم- (المتوسطين بين الفريقين): "قد ثبت أن اللَّه سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض؛ فلا يناقض القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا". وفصل الأمر بتقرير قاعدة مهمة هي: بيان إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين، وبجميع الحوادث، ورد على ما هو شائع في كتب الأصول بأن الأصول متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، وزيّفه من وجوه ثلاثة، وضرب أمثلة عديدة تؤتد ذلك، ثم عرج على بطلان القول بنفي الحكمة والتعليل، وربط موضوع (القياس) وبيان انحراف الغالين فيه والمنكرين له بأصول عقدية (¬1) تخالف معتقد أهل السنة، قال في (2/ 96، 97): ¬

_ (¬1) مما يخدم (التوحيد) و (علم أصول الفقه) في آن واحدٍ، بيان عوار الآراء الأصولية المبنية =

"ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يُنكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط؛ فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين لِلحِكَم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية، ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل، وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية، والجهمية رؤوس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة اللَّه ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة، والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته؛ فأولئك أثبتوا نوعًا من الملك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من الحمد بلا ملك؛ فأنكر أولئك عُمومَ حَمْدِه، وأنكر هؤلاء عموم مُلكه، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه؛ فله كمال الملك وكمال الحمد؛ فلا يخرج عينٌ ولا فعلٌ عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراطٍ مستقيم، وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به لأجله. والمقصود أنهم كما انقسموا ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه -وهو القياس- إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحِكَم والتعليل والأسباب؛ والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس، ثم قالت غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرًا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به" قال: "والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية: وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان، وقد تخفى دلالةُ النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا؛ وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، لكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته". ثم قوّم أهل القياس ونفاته، بقوله في (2/ 98): "وكل فرقة من هذه الفرق سَدُّوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق؛ ¬

_ = على أصول عقدية بدعية مخالفة لأصول السلف، وهذا باب يحتاج إلى تأليف، والقياس مَثَلٌ له، كما عند ابن القيم، و (صيغة الأمر) مثل آخر، نبه عليه الشنقيطي في "مذكرته"، وهكذا، يسر اللَّه له طالبًا شادًا جادًا متفننًا من أهل السنة.

فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله؛ فنفاة القياس لما سدّوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله اللَّه احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحمَّلوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يَسعَانه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه. ولكن أخطأوا من أربعة أوجه. . . " وذكرها (¬1). وفصَّل في أخطاء القياسيين، وتعرض إلى (الاستصحاب): معناه وأقسامه، وعاد إلى ذكر أخطاء أهل القياس الخمسة (¬2). وتفرغ ابن القيم بعد ذلك للرد على من أبطلوا القياس، فتعقّب أقوالهم وفندها، وكأنه في هذا المبحث يتعقب كل ما ذكره ابن حزم في رسالة "إبطال القياس" (¬3) ومبحث (القياس) من كتابه "الإحكام" (¬4) بحيث يمكن اعتبار ما في (إعلام الموقعين) من مباحث في القياس، رسالة مستقلة في إثباته، والرد على إبطال الظاهرية له. ويعفيني -القارئ الكريم- من متابعة التعريف بجهد المصنف في (القياس) بما ذكرته في مطلع هذا الفصل تحت عنوان (فصول نافعة وأصول جامعة في القياس)، فإنه متمم للمذكور هنا، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الكتاب بين يديه، والإكثار من سياق فقراته فيه تطويل، وجميع مباحثه في هذا الباب ماتعة، نافعة، قوية، رائعة، تستحق الوقوف عندها (¬5)، ليُعلم الفرق بين (التحقيق) و (التفتيش) من جهة، و (الجمع) و (التقميش) ¬

_ (¬1) انظرها في (2/ 98 - 112). (¬2) انظرها في (2/ 115). (¬3) لابن حزم ملخّص لها، منه نسخة محفوظة في المكتبة العبدلية (الصادقية) بجامع الزيتونة بتونس، وهو بخط الحافظ الذهبي، وله تعقبات قوتة وجيّدة عليه، علقه من خط ابن عربي الصوفي، وكدت أن أفرغ من تخريج نصوصه وتوثيقها، واللَّه الهادي. (¬4) انظر ما سيأتي عنه: تحت عنوان (مصادر المصنف وموارده). وقد فرغتُ -وللَّه الحمد- من مقابلته على أصلين خطيين وتخريج أحاديثه وآثاره، وتوثيق نصوصه. تمهيدًا لنشره، يسر اللَّه ذلك بمنه وكرمه. (¬5) وسيأتي كلام عنه أيضًا، انظر: "منهج ابن القيم في كتابه".

إلماحة في رد كون كتابنا شرحا لكتاب عمر في القضاء فحسب

من جهة أخرى، ولا سيما في باب الأصول وتخريج فروعه عليه على وفق منهج أهل السنة والجماعة، المعظمين للأثر، الواقفين عند الدليل. ورحم اللَّه صديق حسن خان، فإنه تكلم عن القياس، وأنواعه المستعملة في الاستدلال، وقال: "وأمثلة هذه الأقيسة على وجه البسط والتفصيل ذكرها ابن القيم رحمه اللَّه في "الأعلام" لا يتسع هذا المختصر لذكرها" (¬1). وأخيرًا. . . فإن المصنف بعد ذكره مباحث القياس، التي طالت وتشعبت وتفرعت، رجع إلى كتاب عمر في القضاء، قال في (2/ 425): "فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه-: "واعرف الأشباه". . . ": وهنا تنتهي مباحث القياس، قال: "فلنرجع إلى شرح باقي كتابه" ومضى بعد ذلك في شرح ما بقي من فقراته في (2/ 425 - 438). - إلماحة في رد كون كتابنا شرحًا لكتاب عمر في القضاء فحسب: مما مضى يتبيَّن بجلاء؛ أن ابن القيم أولى كتاب عمر في القضاء أهمية واضحة، ولكن كتابه أوسع منه، حتى خلال شرحه لفقراته، فإنه ذكر مسائل وأصولًا ما كان أصبره عليها! وأطول نفسه في عرضها ومناقشتها! وكان يعنون في خروجه عنه بـ (فصل) تارة، ويفرع ويدلل من باب تأصيل ما قاله عمر في كتابه المهيب الذي أرسى فيه قواعد عامة للقضاة (¬2). وتكرار المصنف لفقراته في مواطن من كتابه لا يأذن للمنصف أن يقرر أنه عبارة عن شرح له، فقد أورده -مثلًا- بتمامه البيهقي في "سننه الكبرى" في (كتاب القضاء)، ثم ذكر فقرات منه في كتب (الشهادة) و (البيّنة) و (اليمين)، ولم يقل أحد أن "سنن البيهقي" شرح لكتاب عمر -رضي اللَّه عنه-! - تحريم الفتوى بغير علم: بدأ المصنف بعد إتمامه شرح كتاب عمر، وما يتعلق به من استطراد وتفصيل ¬

_ (¬1) "ذخر المحتي" (ص 49). (¬2) انظر في بيان ذلك: "تاريخ الأمم الإسلامية" (2/ 9 - 11) للخضري، "تاريخ الأدب العربي" (184) للزيات، "تاريخ الإسلام السياسي" (1/ 486)، مقدمة مترجم "فن القضاء" لرانسون (171 - 202)، "الفاروق عمر" لمحمد حسنين هيكل (2/ 225 - 226)، "تاريخ الفقه الإسلامي" (104 - 105) لمحمد يوسف موسى، "محاضرات في تاريخ التشريع" (45)، "القضاء المغربي بين الأمس واليوم" (14 - 16) كلاهما لحماد العراقي، "أخبار عمر" (185 - 186) للطنطاوي، "مقاصد الشريعة" لعلال الفاسي (269 - 270).

تفصيل القول في التقليد

وتأصيل وتدليل بتقرير حرمة الإفتاء في دين اللَّه بغير علم، وأن الواجب على من لا يعلم أن يقول: لا أدري، وبيَّن أنّ هذه طريقة السلف الصالح، وكان ذلك تمهيدًا لبحث: - تفصيل القول في التقليد: لا يخفى أنّ مسألة الاجتهاد والتقليد قد أخذت طورًا خطيرًا، ودارت كثيرًا على ألسنة أهل العلم، وتناولتها أقلام كتابنا، ونجم عنها سوءُ تفاهم، وتفرق كلم، واختلاف عظيم بين المجددين لعهد السلف، وبين المقلدين الحريصين على اتباع سبل أشياخهم، وحملوا على بعضهم حملاتٍ شديدة الوطأة، حتى كاد بعضهم يكفر بعضًا، ومنشأ ذلك استرسال الفريقين في صرف القول على إطلاقه، بدون قيد ولا شرط ولا تفصيل (¬1). - وعمل ابن القيم في كتابنا هذا إلى ضبط أنواع التقليد، فقال في أول مباحثه (2/ 447): (ذكر تفصيل القول إلى التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه، والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب). وقسَّم كلَّ نوع إلى أقسام، وذكر الفرقَ بين الاتباع والتقليد، وحُججَ كل فريق، وما قاله الأئمة الأربعة عن تقليدهم، ثم خص (فصلًا) في (2/ 470 - 574، و 3/ 5 - 36) (في عقد مجلس مناظرة بين مقلّد وصاحب حجة منقاد للحق حيث كان) وأطال النفس جدًّا في هذه المباحث التي أشاد الباحثون والعلماء بها، وأحالوا إليها (¬2)، قال ¬

_ (¬1) "عمدة التحقيق" (140). (¬2) انظر في ذلك -على سبيل المثال-: "القول السديد في كشف حقيقة التقليد" لمحمد الأمين الشنقيطي (ص 34 - 35، 64 - 66)، "مقام الرشاد بين التقليد والاجتهاد" لفيصل بن عبد العزيز آل مبارك (ص 27 - 32)، "المنهج الفريد في الاجتهاد والتقليد" لوميض العمري (46، 63، 89، 224، 236، 239 - 240، 242، 244 - 245، 248 - 249، 258 - 259)، "عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" (126، 140، 150، 162، 202) ومواطن أخر تعرف من (فهرس الأعلام) و (فهرس الكتب) (في الطبعة الثانية منه - دار القادري)، "المدخل لدراسة الفقه الإسلامي" (130 - 135) لإبراهيم عبد الرحمن، "التقليد في الشريعة الإسلامية" لعبد اللَّه بن عمر محمد الأمين الشنقيطي (ص 41، 66، 72، 81، 97، 100، 103، 120، 132 - 133، 134، 136، 144، 145، 168)، "القول المفيد" للشوكاني (56 - 57) "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل" (1/ 66)، "التصور اللغوي عند الأصوليين" (35 - 36) سيد أحمد عبد الغفار.

الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في (رسائله الشخصية) (¬1) في رسالة له إلى الشيخ عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللطيف: "والحاصل أن صورة المسألة: هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل اللَّه على رسوله، ولا يعذر أحد في تركه البتة؟ أم يجب عليه أن يتبع "التحفة" (¬2) -مثلًا-" قال: "فأعْلمُ المتأخرين وسادتهم، منهم ابن القيم، قد أنكروا هذا غاية الإنكار، وأنه تغيير لدين اللَّه" وقال بعد كلام: "فعندكم كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم، فقد بسط الكلام فيه على هذا الأصل بسطًا كثيرًا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدلّ لها بالدلائل الواضحة القاطعة .. . . " (¬3)، وقال فيها أيضًا: "وإنْ أردتَ النظر في "إعلام الموقعين" فعليك بمناظرةٍ في أثنائه عقدها بين مقلد وصاحب حجة. . . " (¬4). وقال فيها بعد أن أورد نصًّا طويلًا منه ومن كتاب "الإيمان" لابن تيمية: "فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، ثم نزِّله على أحوال الناس وحالك، وتفكَّر في نفسك، وحاسبها بأيّ شيء تدفع هذا الكلام، وبأي حجة تحتج يوم القيامة على ما أنت عليه" (¬5). وقال صديق حسن خان بعد كلام: "وهاهنا أبحاثٌ في التَّقلِيد وانقسامه إلى ما يُحْرَمُ القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، إلى ما يسوغ من غير إيجاب. قد أطال الحافظُ ابنُ القيِّم في "الأعلام" في تفصيل القول في ذلك إلى كراريس طويلة، وحرَّر احتجاج المقلِّدين وأدلَّتهم، وأجاب عن كل حُجَّةٍ ودليل لهم، جوابًا شافيًا كافيًا وافيًا، لم يغادر شيئًا من الرَّدِّ على المقلِّدين. وذكر إحدى وثمانين وجهًا في الاحتجاج ¬

_ (¬1) مطبوعة ضمن كتاب "مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب". (¬2) يريد "تحفة المحتاج" للهيتمي. (¬3) "الرسائل الشخصية" (254 - 255). (¬4) "الرسائل الشخصية" (258)، وذكرها برمّتها السيد محمد رشيد رضا في مجلة "المنار" (م 6/ ص 500 - 506، 539 - 544، 594 - 598، 616 - 620، 680 - 682، 696 - 699، 766 - 770، 820 - 822، 853 - 856، 939). (¬5) "الرسائل الشخصية" (305).

وجوب إعمال النصوص

عليهم، وليس الكلام على ذلك من غرضنا في هذا الكتاب، وما أحقَّ أبحاثَه هذه بالإفراز وجعلها كتابًا مستقلًا، مع ضَمِّ كلام القاضي العلَّامة محمد بن علي الشوكاني في مؤلَّفاته في التَّقلِيد -وهو أيضًا كثير جدًّا- في مؤلَّفات مستقلَّة، وغضون أبحاثٍ ومسائل في تفسيره "فتح القدير" وغيره" (¬1). وقد أفصح ابن القيم: أن مبحثه في (التقليد) كمبحثه في (القياس) فيه جدّة وإحاطة وشمول على وجه تخلو منه الكتب، قال في (3/ 36) ما نصه: "وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لَهُم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا، وذلك بحول اللَّه وقوته ومعونته وفتحه، فله الحمد والمنة، وما كان فيه من صواب فمن اللَّه، هو المانُّ به، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، وليس اللَّه ورسوله ودينه في شيء منه، وباللَّه التوفيق". ومن نافلة القول: أن عدم إدخال ابن القيم ربقة التقليد في عنقه، من أسباب نضج عقله، وسمو فكره، ووقوفه على الشيء الكثير من أسرار الشريعة، ولو كان غيره سلك هذا المسلك لصار الناس إخوانًا، ولكان للشريعة وضع آخر، فكم أفسد التقليد عقولًا، وكم أهوت العصبية المذهبية بالأفكار إلى مكان سحيق، فقتلت المواهب، ونصبت النزاع في مواضع الوفاق، وفرقت كلمة المسلمين. - وجوب إعمال النصوص: ثم عاد بعد ذلك إلى التركيز على إعمال النصوص، وأن الاجتهاد والقياس إنما يعمل به عند الضرورة، والواجب رد المتشابه إلى المحكم، لا العكس، ثم ذكر ثلاثة وسبعين مثالًا لمن أبطل السنن بظاهر القرآن تمسكًا بالمتشابه في ردّ المحكم، وقال قبل سردها في (3/ 58): "ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدّة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب" وبدأها في الرد على بدع عقدية، قال بها الجهمية والقدرية والجبرية والخوارج والمعتزلة، واستطرد في (المثال الثاني عشر) فذكر ثمانية عشر دليلًا على (علوّ اللَّه على خلقه وكونه فوق عباده) وصرح بأنه اختصر الأدلة عليها، قال في (3/ 75): "فهذه أنواع من الأدلة ¬

_ (¬1) "ذخر المحتي" (ص 60، 61).

الزيادة على النص

السمعية المحكمة إذا بُسطت أفرادُها كانت ألفَ دليل على علوّ الرَّبّ على خلقه واستوائه على عرشه"، واقتصر على التوحيد إلى آخر (المثال الثالث عشر)، ثم شرع في ذكر أمثلة في مسائل فقهية، جُلُّها في الرد على أهل الرأي والقياس، أعني النوع الذي أصَّل ردّه فيما سبق لمخالفته نصوص الوحي. - الزيادة على النص: ولم تخل مباحث هذه الأمثلة من تأصيل وتقعيد، وتفريع، فذكر -مثلًا- تحت (المثال الثامن عشر) مسألة (الزيادة على النَّصّ) وقرر أن "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه" (¬1)، وسرد أمثلة كثيرة جدًّا، فيها الرد على معطلي الاستدلال بالسنة بحجة الزيادة على النّص وألزمهم بأنهم فعلوا ذلك في مسائل عديدة (¬2). ثم نقل عن أهل الرأي أنواع دلالة السنة الزائدة على القرآن، وناقشهم في التأصيل والتنويع، ورده عليهم من اثنين وخمسين وجهًا، قال قبل ذكر الأخير منها (3/ 132): "فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن، فتكون ناسخة؛ فلا تقبل" (¬3). وذكر تحت (المثال الخامس والعشرين) النصوص التي فيها الرجوع عن الهبة، واعتنى بألفاظها، واضطر ليظهر الحق فيها إلى التخريج والكلام في الرواة، والعناية بالثابت من الألفاظ (¬4). ¬

_ (¬1) انظرها في (3/ 84). (¬2) انظر: (3/ 85 - 93). (¬3) أفرد الدكتور عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه في كتابه "الزيادة على النص" (72) في (المطلب الثالث) من (الفصل الثاني): (موقف الإمام ابن القيم من الزيادة على النص)، وقال أوله: "عنى الإمام ابن القيم بمسألة الزيادة على النص عناية فائقة، ولا تكاد تذكر هذه المسألة عند المطلعين على كتب أهل السنة المتبعين لطريقة السلف الصالح -رضي اللَّه عنهم-، والمهتمين بها إلا ويذكرون معالجة ابن القيم لها، مما يحمل الباحث فيها على إفراد مبحث لموقف العلامة ابن القيم رحمه اللَّه منها" قال: "وأوسع معالجة له رحمه اللَّه لهذه المسألة في كتابه القيم "إعلام الموقعين" تناولها في أربع وعشرين صحيفة منه، ولا أعلم مؤلفًا بحثها في مثل هذه الكمية من الصحائف". وأطال الكلام فيه في تحليل رأي ابن القيم، انظر منه: (ص 72 - 91)، وظهر أثر كتابنا على وجه جلي في دراسة الأستاذ الشيخ سالم بن علي الثقفي المنشورة عن المطبعة السلفية بمصر بعنوان "الزيادة على النص" انظر منها: (ص 19، 20، 22، 59، 66، 67، 76، 77، 80، 81، 82، 83). (¬4) انظر: (3/ 138 - 143).

وذكر تحت (المثال السابع والعشرين) نظائر للمسالة التي أدرجها تحته، وهي مسائل قال بها (القياسون) بـ (دعوى أنّ ذلك موجب الأصول) (¬1)، وكان ذلك استطرادًا حسنًا، يدلل على ملكة ابن القيم الفقهية القوية. وذكر تحت (المثال الثامن والعشرين) استطرادًا وتأصيلًا أن (أحكام الابتداء غير أحكام الدوام)، وبرهن أن النص والإجماع والقياس فرَّق بينهما (¬2). وشد النفس في (المثال السادس والخمسين) (¬3)، فجمع الأحاديث في المسألة المبحوثة وعزاها إلى دواوين السنة، وتكلم على درجتها، وبيَّن ما يخالفها، ثم استطرد فـ (تكلم على عمل أهل المدينة) (¬4)، وذكر أمثلة تخرّج على هذا الأصل، وتعرض لمنهج البخاري في "صحيحه" (¬5)، وحجيَّة فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- وإقراره، ثم تعرض إلى "نقلهم لتركه -صلى اللَّه عليه وسلم-" وأنه نوعان، وكلاهما سنة، ثم تعرض لنقل العمل المستمر، للعمل الذي طريقه الاجتهاد، وحال خبر الواحد معه، ومنزلته منه، وحكم العمل في المدينة بعد انقراض عصر الصحابة، وتغير عمل أهل المدينة من عصر إلى عصر، ثم لخص ذلك بقوله في (3/ 273): "وخذ بلا حسبان ما شاء اللَّه من سُننٍ قد أهملت وعُطِّل العملُ بها جملة، فلو عمل بها من يعرفها، لقال الناس: تركت السنة، فقد تقرر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل ألبتة، وإنما يقع من طريق الاجتهاد، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودًا، وكل عملٍ طريقه النقل، فإنه لا يخالف سنة صحيحة ألبتة" (¬6). ثم ذكر (المثال السابع والخمسين) وذكر فيه (3/ 273 - 279) اختلاف ¬

_ (¬1) انظر: (3/ 144 - 152). (¬2) انظر: (3/ 155 - 158). (¬3) استغرق من صفحة (239) إلى صفحة (273) من (المجلد الثالث). (¬4) اعتنى الباحثون والمطلعون بكلام ابن القيم في هذا الموضوع، فنجد -مثلًا- في كتاب "عمل أهل المدينة" لأحمد محمد نور سيف (ص 94 - 95) عنوان (مراتب العمل عند ابن القيم وحجيّة كل مرتبة) ثم قارن بين تقسيماته في كتاب "الأعلام" وتقسيمات كل من القاضي عياض وابن تيمية، انظر: (ص 96 - 101)، وكذلك فعل الدكتور محمد المدني بوساق في كتابه "المسائل التي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة" (1/ 74 - 75، 86 - 93). (¬5) انظر: صلته بعمل أهل المدينة في (3/ 249). (¬6) انظر في مناقشة هذا: بحث "أصول المذهب المالكي" المنشور في مجلة "الفقه المالكي والتراث القضائي بالمغرب" العددان (5 - 6) رمضان 1407 هـ (ص 71، 93 - 94).

العرف وحجيته

الرواة في حكم الجهر بالتأمين، وأيَّد الجهر بستة مرجِّحات حديثيَّة. وكذلك أطال النفس الحديثي بتتبع ما ورد في (وضع اليدين في الصلاة) وذلك في (المثال الثاني والستين) (¬1). - العرف وحجيته: وذكر في (المثال السبعين) مسألة (انتفاع المرتهن بالمرهون)، واستدل للجواز بأصلين، وأيده بأنه مأذون فيه عرفًا، ثم استرسل في (مسألة العرف)، وقال في (3/ 316): "وقد أُجري العرف مجرى النطق في أكثر من مئة موضع. . . " وأخذ يسرد الكثير منها، ثم تعرض إلى أن (الشرط العرفي كالشرط اللفظي)، وأخذ يفرع على ذلك أمثلة لا صلة لها بعين المسألة المذكورة تحت المثال اللهم إلا الاشتراك في موضوع (العرف) فحسب. فهو يرجح بالنظائر، ويؤكد أن الشريعة قواعد مطردة، ومن خلالها يُوضِح الحقَّ في (المسائل الأصولية)، فالقارئ يعجب من طول نفس المصنف، وتفريعاته، وتحليلاته، واستدلالاته، وإيراده كلام الخصوم، وكيفية توجيهه وردّه، على وجه لا يقدر عليه إلا من آتاه اللَّه بسطة في العلوم والفهوم، وتفننًا في الموضوعات والرسوم. ولا يُنسَى في هذا المقام المثال قبل الأخير، وهو: (المثال الثاني والسبعون) في (الجمع بين الصلاتين للعذر) (¬2)، فإنه وضع المسألة في مكانها الشرعي اللازم، وربطها بأوقات الصلوات، وأنها خمسة في السعة والرفاهية، وثلاثة في الضيق والشدة، وأن القرآن ذكر الأوقات على هذين النَّحوَيْن، وفي هذا إشارة إلى دلالة القرآن على مشروعية الجمع للعذر والحاجة. ورد على المعترضين بكلام لا تكاد تجده عند أحد غير المدرسة التي ينتسب إليها ابن القيم (¬3). ¬

_ (¬1) انظر: (3/ 285 - 292)، وسيأتي تحت عنوان (منهج ابن القيم في كتابه) تأصيل وزيادة حول هذا الموضوع. (¬2) لصاحب هذه السطور دراسة مفردة مطبوعة أكثر من مرة بعنوان "فقه الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر". (¬3) انظر: (3/ 329 - 335). ومن الجدير بالذكر هنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة مطبوعة أكثر من مرة بعنوان "تيسير العبادات" وهي في "مجموع الفتاوى" (21/ 449 - 462) ذهب فيها إلى مثل هذا. ثم رأيتُها مطبوعة مقابلة على نسختين خطيتين في "مجموع فيه مصنفات لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى" بتحقيق إبراهيم بن شريف الميلي.

تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد

- تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: ثم عقد بعد ذلك (فصلًا) في (تغيّر الفتوى، واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) هو من نفائس هذا الكتاب، وفرائد مباحثه، ونبه على ذلك المصنف بقوله في أوله (3/ 337): "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيم على الشريعة أوْجَبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَمَّ دلالةٍ وأصدَقَها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبَت الدنيا وطِوِيَ العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السموات والأرض أن تزولا". ثم أخذ في تفصيل ما أجمله فيه بالتمثيل، فذكر أولًا: الأمر بالمعروف وأنه على مراتب، بعضها مشروع، والآخر ممنوع. ثم مثل بـ (النهي عن القطع الأيدي في الغزو)، ثم استطرد فذكر (سقوط الحد بالتوبة)، وأورد النصوص الواردة في ذلك، والإشكالات، وحلها، ثم تطرق إلى (اعتبار القرائن وشواهد الأحوال في التهم). ثم ذكر أمثلة أخرى، ووصل إلى (المثال السادس) وهو طواف الحائض بالبيت، وذكر مذاهب العلماء، وفصل في المسألة على وجه لا تجده في المطوّلات، فذكر أن الحائض لا تخلو من ثمانية أقسام، وسردها في (3/ 357 -

358) ورجح الثامن منها، ورجع إلى الأقسام المتبقيَّة وأبطلها، وتعيّن الثامن بقوّة، ودفع أربعة اعتراضات عليه، ثم اضطره هذا الاختيار إلى التعرض لحكم طواف الجنب والمحدث والعريان بغير عذر، ثم تعرض للنصوص التي فيها منع الحائض من الطواف، وعالجها من ناحية حديثية بإعلالها وإسقاطها على النحو المقرر عند أئمة هذا الشأن. ثم رجع إلى الفرق بين الحائض والجنب، وفرع مسألة (قراءة القرآن) لهما عليها، ثم ربط ذلك كله بطواف الحائض. ورد تشبيه الطواف بالصلاة من جميع الوجوه، ثم ذكر (الجوامع والفوارق بين الطواف والصلاة) على وجه تكاد تخلو منه كتب (الأشباه والنظائر)، وختم المبحث بـ (فصل) خصه في حكم الطهارة للطواف، واستغرقت هذه المسألة في نشرتنا عشرين صفحة (¬1)، وهي مبحوثة فيه بحثًا نموذجيًا، من حيثية ذكر الأقوال والمذاهب، وأدلتهم، وذكر الاعتراضات والمناقشات، وسبب الخلاف، وأشباه المسألة ومؤيِّداتها مع ذكر الأحوال التي تعتري الحائض، وكل هذا بمبحث أصولي، فقهي، حديثيّ، وعرض سلس وأسلوب مشوق ماتع، ولذا نعود ونقرر أن القول بأن كتابنا له موضوع خاص ما خرج عنه غير دقيق، على النحو الذي أومأنا إليه في مطلع هذا المبحث، واللَّه الموفق. وكذلك فعل في (المثال السابع) وهو في (حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد)، فإنه بحثه بإسهاب، وله "الباع الطويل في شرحه والكلام عليه، ونصرة القول بوقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة فقط، كما هو معروف مشهور" (¬2). وأورد اعتراضات المخالفين، من قولهم: "فتوى صحابي الحديث على خلافه"، فأصَّل المسألة، وذكر الأمثلة التي تخرَّج عليها، وأقوال العلماء فيها، وألزمهم بتناقضهم في هذا الاعتراض، وقال بعد أن سرد عشرات المسائل، وأومأ إلى أدلتها في المرفوع، ومخالفة راويها: "وهذا باب يطول تتبّعه، وترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديثُ يوافق قولَ مَنْ قلَّده وقد خالفه راويه يقول: الحجة فيما رَوَى، لا في قوله، فإذا جاء قولُ ¬

_ (¬1) من (ص 356) إلى (ص 377) من (المجلد الثالث). (¬2) من كلام العلامة أحمد شاكر في كتابه "نظام الطلاق في الإسلام" (ص 43)، والملاحظ أن ابن القيم بسط وفصل ووضح المسألة بإسهاب، وكرر ذلك في "زاد المعاد" و"إغاثة اللهفان"، انظر عن سر ذلك: "ابن القيم حياته وآثاره" (77 - 78).

الراوي موافقًا لقول مَنْ قلده والحديث بخلافه قال: لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نَسْخُه، وإلا كان قَدْحًا في عَدَالته، فَيَجْمَعُونَ في كلامهم بين هذا وهذا، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد، وهذا من أقبح التناقض. والذي ندينُ اللَّه به ولا يَسَعُنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخْذُ بحديثه وتَرْك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحدٍ من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره؛ إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديثَ، أو لا يَحْضُره وقتَ الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارَضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفَتُه لما رواه سقوطَ عدالتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك" (¬1). ثم عاد وربط هذا المثال بأصله (تغير الفتوى)، فقال في (3/ 408): "وإذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفَتْوَى بها بحسب الأزمنة كما عرفت؛ لما رأته الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مَفْسَدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لَعَنَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعله (¬2) مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق اللَّه في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره". قال صديق حسن خان ملخصًا لمباحث السابقة: "وفي "الأعلام" فصلٌ مستقلٌّ في تحريم الإفتاء، والحكم في دين اللَّه بما يخالف النُصوص، وسقوط الاجتهاد والتَّقليد عند ظهور النَّص، وذكر إجماع ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 407 - 408)، ومن الجدير بالذكر أن المصنف بيَّن بالتفصيل والتمثيل ما خفي على أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أحاديث، قال صديق حسن خان في "ذخر المحتي" (ص 63): "وقد سرد تلك الخفايا الحافظ ابن القيم في "الأعلام" اسمًا باسم، ثم قال: وهذا باب لو تتبعناه لجاء سفرًا كبيرًا" وانظره أيضًا (ص 68). (¬2) انظر تخريجه في (3/ 412).

العلماء على ذلك، لا نطول الكلام بذكر ما فيه من الأدلَّة. والآياتُ الدَّالَّةُ على وجوب اتِّباع الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا كثيرةٌ جدًّا، وكذلك أمثلةُ رَدِّ النُصوص المحكمة بالمتشابه لا تكاد تنحصر، ذكرَ جملةً صالحةً منها في "الإعلام"، وبلَّغها إلى المثال الثالث والسبعين، ثم حرَّر فصولًا نفيسةً طَيِّبَةً في بيان تغيير الفتوى واختلافها بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد؛ وهو فصلٌ عظيمُ النفع جدًّا وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيمٌ على الشَّريعة، أوْجَبَ من الحرج والمشقَّة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعْلَمُ أن الشَّريعةَ الباهرة التي هي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأتي به" (¬1). ثم ذكر ابن القيم إلماحة تاريخية عما يجري في عصره بسبب عدم القول بهذه الفتوى (¬2)، وقال في (3/ 408 - 412):. "وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروجُ فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحللون، مما هو رمد -بل عمى- في عين الدِّين، وشجًى في حلوق المؤمنين، من قبائحَ تُشْمِتُ أعداء الدين به وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رَسْمَه، وغيّرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وقد زعم أنه قد طيّبها للحليل، فيا للَّه العجب! أيُّ طيب أعارَها هذا التيسُ الملعون؟ وأيُّ مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدُّون؟ أترى وقوفَ الزوجِ المطلِّق أو الولي على الباب والتيسُ الملعونُ قد حل إزارها وكشف النقاب وأخَذ في ذلك المرتع والزوجُ أو الولي يُنَاديه: لم يقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضًا ولا فرح ولا ابتهاج، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضِّرَاب، الذي لولا هذه البَلْوَى لما رضينا وقوفَكَ على الباب؛ فالناس يُظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصَى بكتمان هذا الداء العُضال ونجعله أمرًا مستورًا؛ بلا نِثَار ¬

_ (¬1) "ذخر المحتي" (ص 65). (¬2) كان هذا من دوافع بحثه (الحيل) بتاصيل وتفصيل، كما سيأتي بيانُه قريبًا إن شاء اللَّه تعالى.

ولا دُفٍّ ولا خِوَان ولا إعلان، بل التواصي بهُسَّ ومسَّ والإخفاء والكتمان؛ فالمرأة تُنكَح لدينها وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فإنه لا يمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، واللَّه تعالى قد جحل كل واحد من الزوجين سكَنًا لصاحبه، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصودُ هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شَرَعَهُ لأجلها العزيزُ الحكِيم، فسَلِ التيسَ المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟ وسَلْه: هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا يأوي إليه؟ ثم سَلْها: هل رضيت به قط زوجًا وبعلًا تُعَوِّلُ في نوائبها عليه؟ وسل أولي التمييز والعقول: هل تزوجت فلانة بفلان؟ وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا من أمته نكح نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار (¬1)، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟ وكيف تُعَيَّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان؟ وسل التيس المستعار: هل حَدَّثَ نفسَه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدثت نفسها به هنالك؟ وهل طلب منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا؟ وسل عقول العالمين وفِطَرَهم: هل كان خير هذه الأمة أكثرهم تحليلًا، أو كان المحلل الذي لعنه اللَّه ورسوله أهداهم سبيلًا؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به: هل تجمَّلَ أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسبٍ أو مالٍ أو جمالٍ؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيسُ المستعار أو يتسرّى، أو تركه أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته؟ وسل التيس المستعار: هل سأل قط عما يسأله عنه مَنْ قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب المِلَاح؟ وسَله: هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي نفقة هذا العرس أو حُطِّي؟ وسَلْه: هل تحمَّلَ من كُلْفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ وسله عن وليمة عُرْسه: هل أوْلَم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحدًا من ¬

_ (¬1) انظر تخريج ذلك في (3/ 410).

أصحابه فقضى حقه وأتاه؟ وسَلْه: هل تحمَّل من كلفة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس الأصحابُ والمهنئون؟ وهل قيل له: بارك اللَّه لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية، أم لعن اللَّه المحلل والمحلَّل له لعنة تامة وافية؟ ثم سَلْ مَنْ له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حُرَّة مَصُونة أنْشَبَ فيها المحلل مخالِبَ إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردًا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان؟ فلعمر اللَّه! كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العُشَرَاء والخدناء؟ ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القَنَا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها. وسَلْ أهل الخبرة: كم عَقَدَ المحلل على أم وابنتها؟ وكم جمع ماءَه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين؟ وذلك مُحَرَّم باطل في المذهبين، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تفرد بالذكر وهي كموجة واحدة من الأمواج، ومن يستطيع عد أمواج البحر؟! وكم من امرأة كانت قاصِرَةَ الطّرْف على بعلها، فلما ذاقت عُسَيْلَة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها، ومن كان هذا سبيله فكيف يحتمل أكمل الشرائع وأحكمها تحليله؟! ". وأخذ في سرد الأحاديث، عازيًا لها إلى دواوين السنة، ذاكرًا من أعلّها، وحجتهم في ذلك، ثم رد عليهم بتقرير ثبوتها، على منهج أهل العلم. ثم عقد فصلًا عن (التيس المستعار)، الذي كثر وجوده بسبب القول بأن جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعدُّ ثلاث تطليقات، وفضل في أدلة تحريمه، وعدم إدراجه تحت معاني النكاح ومقاصده، وعدم وجوده في الصحابة ثم لخص مراده من هذا كله بقوله في (3/ 425): "وإنما المقصود أن هذا شأن التحليل عند اللَّه ورسوله وأصحاب رسوله، فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جَمَعُوها ليكُفُّوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به، وأنه لا سبيل إلى عَوْدِها بالتحليل، فلما تغيَّر الزمانُ، وبَعُدَ العهدُ بالسنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس؛ فالواجب أن يُرَدَّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخليفته من الإفتاء بما يعطِّل سوق التحليل أو يقللها

ويخفف شرها، وإذا عرض على مَنْ وفَّقه اللَّه وبَصَّره بالهدى ووَفَقَّهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووَازَنَ بينهما تبيَّن له التفاوتُ، وعلم أيَّ المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين. فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك، وقد أُهديت -إنْ قبلتها- إليك، وما أظن عَمَى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه، ولا تدع التوفيق يقودك اختيارًا إليه، وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة تُطلع العالم على ما وراءها، وباللَّه التوفيق". وقد أحسن الشاعر الشهير معروف الرصافي (ت 1364) في الانتصار لمذهب ابن القيم في قصيدته (¬1) (المطلقة)، وهذا مقتطف من خاتمتها: ألا قُل في الطلاق لموقعيه ... بما في الشرع ليس له وجوبُ غلوتم في ديانتكم غلُوًّا ... يضيق ببعضه الشرع الرحيبُ أراد اللَّه تيسيرًا وأنتم ... من التعسير عندكم ضروبُ وقد حلّت بأمتكم كروب ... لكم فيهن -لا لهم- الذنوبُ وَهَى حَبْل الزواجِ وَرَقّ حتى ... يكادُ إذا نَفخْتَ له يذوبُ كخيطٍ من لعاب الشمس أدلت ... به في الجوّ هاجرة حلوبُ يمزّقه من الأفواه نفث ... ويقطعه من النسم الهبوبُ فدى ابن القيّم الفقهاء كم قد ... دعاهم للصواب فلم يجيبوا ففي "أعلامه" للناس رشد ... ومزدجر لمن هو مستريبُ نحا فيما أتاه طريق علمٍ ... نحاها شيخه (¬2) الحبر الأديبُ وبيّن حكم دين اللَّه لكن ... من الغالين لم تَعِهِ القلوبُ لعلّ اللَّه يحدث بعدُ أمرًا ... لنا فيخيب منه من يخيبُ وقال الأستاذ محمد رشيد رضا في "مناره" (¬3) عند كلامه على هذه المسألة: "وأطال ابن القيم في تخريج أحاديث الباب والكلام عليها، وأثبته بالكتاب والسنّة، واللغة والعرف، وعمل أكثر الصحابة" ثم قال: "واقترح بعض الفقهاء والعقلاء على حكومتنا المصرية الرجوع فيها إلى أصل الكتاب والسنّة، الذي كان أوّل من بسط دلائله شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ¬

_ (¬1) نشرت في آخر بعض طبعات "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" (الإغاثة الصغرى). (¬2) يريد ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى. (¬3) (م 28/ ج 9/ 683).

المحقق ابن القيّم في كتبه: "إعلام الموقعين" و"إغاثة اللهفان" و"زاد المعاد" ووافقهما وأيّدهما من أعلام السنّة وفقهاء الحديث بعدهما. . . " إلخ كلامه. قال أبو عبيدة: ومن سنن اللَّه الكونية الشرعية معًا: أنه لا يبقى إلا الأصلح، وثمار كثير من المصلحين لا تظهر إلا بعدهم، وهكذا كان في هذه المسألة التي أطنب المصنف في التدليل عليها، وأصبحت علمًا عليه، وأصبح علمًا عليها (مع شيخه ابن تيمية)، فإننا نشاهد ونسمع في جل بلاد الإسلام اليوم أن قوانين المحاكم الشرعية (¬1) على المذهب الذي ارتضاه المصنف (¬2). ثم ذكر المثال الثامن، وهو في (موجبات الأيمان والأقارير والنذور)، وهذا أوسع باب، وفيه أظهر أمثلة على تغير الأحكام بتغير الزمان، إذ مدار ذلك على العرف من جهة، وعلى الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية من جهة أخرى، وفي هذا يقول أستاذنا مصطفى الزرقا رحمه اللَّه: "وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي: التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان". أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية كحرمة المحرمات المطلقة، وكوجوب التراضي في العقود، والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الذي يلحقه بغيره، وسريان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام وسدّ الذرائع إلى الفساد، وحماية الحقوق المكتسبة، ومسؤولية كل مكلف عن عمله وتقصيره، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره. . . إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها، فهذه لا تتبدَّل بتبدُّل الأزمان بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة. فوسيلة حماية الحقوق مثلًا -وهو القضاء- كانت المحاكم فيه تقوم على أسلوب القاضي الفرد، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية؛ فيمكن أن تتبدَّل إلى ¬

_ (¬1) انظر مثلًا: قانون (25) لسنة (1929 م) للمحاكم الشرعية بمصر. (¬2) انظر: "فقه السنة" (2/ 271).

أسلوب محكمة الجماعة، وتعدد درجات المحاكم بحسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط لفساد الذمم. فالحقيقة: أن الأحكام الشرعية التي تتبدَّل بتبدل الزمان، مهما تغيَّرت باختلاف الزمن؛ فإن المبدأ الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وليس تبدُّل الأحكام إلا تبدُّل الوسائل والأساليب الموصلة إلى غاية الشارع؛ فإن تلك الوسائل والأساليب في الغالب لم تحددها الشريعة الإسلامية، بل تركتها مطلقة؛ لكي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجًا وأنجح في التقويم علاجًا" (¬1). وقد حمَّل بعض الناس (¬2) كلام ابن القيم رَحمه اللَّه ما لا يحتمل، حتى إنهم جعلوه وكأنه يقرر جواز تفسير النصوص أو تغيير الاجتهاد المبنى عليها تبعًا للمصلحة! هكذا على الإطلاق!! والذي يظهر -بل هو المتيقن- أن ابن القيم رحمه اللَّه ما أراد ذلك، ويتبين هذا بأمور منها: أولًا: أن الأمثلة التي أوردها ابن القيم في ذلك الفصل تدور كلها على الحالات التالية: الأولى: الحالة التي يُثبِتُ تَغيرَ النصِ فيها نصٌّ آخرُ، كنهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تقطع الأيدي في الغزو (¬3). وفي هذا المثال عطل الحد في ظرف خاص بنصٍّ خاص، بل وجد مانع شرعي من قيام الحد، دل عليه النص، وهذه الحال تختلف تمامًا عن الدعوى التي حمل عليها كلام ابن القيم، وينادي بها العقلانيون (أصحاب الفكر المستنير)!! زعموا! الثانية: الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص، كترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه، وهذه الحال كسابقتها، لا تدخل في الدعوى التي ادّعي أن كلام ابن القيم يدل عليها. الثالثة: حالة يستعمل فيها القياس، وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، كما في حديث المصرّاة: "من اشترى شاة مصراة، فهو فيها ¬

_ (¬1) المدخل الفقهي العام (2/ 924 - 925). (¬2) انظر: "فلسفة التشريع في الإسلام" (ص 241) لصبحي المحمصاني. (¬3) انظر تخريجه في (2/ 499).

بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها وردّ معها صاعًا من تمر" (¬1)، فذكر التمر لأنه الغالب في قوت البلد؛ فيخرج في كل موضع صاعًا من قوت ذلك البلد الغالب، فيخرج في البلاد التي قوتهم البر صاعًا من بر، وإن كان قوتهم الأرز فصاعًا من أرز. . . وهكذا. وهذه الحال خارجة محلّ الدعوى؛ إذ هي قائمة على ما أثبته النص بالقياس عليه، بل لا يعدم ذلك ما يشير إليه، واللَّه أعلم. الرابعة: حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة، ومثالها صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج؛ تنزيلًا لها منزلة العجز؛ كما صحت الصلاة ممن لا يستطيع القيام، مع أن القيام ركن، بل جعلوا ذلك بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز. وهذه الحال لا دليل فيها على الدعوى. الخامسة: الحالات التي اعتبر الشارع فيها العرف والعادة؛ كالتراضي في العقود وألفاظ الأيمان، والطلاق. . . ونحو ذلك. وبتأمل هذه الحالات لا نجد حالة واحدة قدِّمت فيها المصلحة أو العرف على النص. ثانيًا: عند النظر في كلام ابن القيم وتتبعه نجده يدور حول تقرير قيام الشرع في نصوصه وما دلت عليه من أحكام على مراعاة المصلحة والعوائد بحسب الأزمان والأماكن؛ فهو ينفي وجود تعارض أو مخالفة بين المصلحة ونصوص الكتاب والسنة؛ فكيف يقال: إنه يقول بتقديم المصلحة على النص، أو تفسيره بها؟! ثالثًا: لابن القيم رحمه اللَّه كلام يؤكد أن المذكور مراده، وهو قوله رحمه اللَّه في معرض إجابة عن سؤال عن طائفة من أهل العلم أنهم قالوا: -وسياق كلامه يدل أنه معهم-: "الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في (2/ 220، 497).

بالشرع على الجرائم. . . ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة" (¬1). وهذا الكلام منه رحمه اللَّه يدلّ على أنه لا يقول بتغيير دلالة النصوص بحسب المصلحة، إنما يُعمِلَ المصلحة فيما أعملته فيه النصوص، وباللَّه التوفيق (¬2). ومبحث كتابنا في "تغير الفتوى" لاقى قبولًا حسنًا عند العلماء، وصرح غير واحد ممن اعتنى في هذه المسألة بذلك (¬3). وأخيرًا، لا بد من التنويه هنا على أمور: الأول: إن تغير الفتوى بالمعنى الذي قرره وأصّله المصنّف، ومثَّل عليه إنما هو إعمال لما أمرت به الشريعة، وراعته في أصولها الكلية وجزئياتها الفرعية، إذ من الفتيا ما يكون من حيثيات الحكم فيها مراعاة العرف والمصلحة، فإذا تغير ¬

_ (¬1) "إغاثة اللهفان" (1/ 330 - 331). (¬2) "تغيّر الفتوى" (34 - 37)، وانظر: "مفهوم تجديد الدين" (271 - 273)، "العرف والعمل" للجيدي (145)، "نظرية العرف" للخياط (79 - 81). (¬3) لا داعي لنقل كلامهم طلبًا للاختصار، وينظر في ذلك "ذخر المحتي" (125 - 126)، وفيه: "وتكلم في "الأعلام" على هذا الفصل كلامًا مشبعًا وافيًا كافيًا"، "تغيّر الأحكام" لإسماعيل كوكسال (17، 53، 171)، "المدخل" للدواليبي (ص 318)، "التطور روح الشريعة"، (190 - 193) للشرقاوي، "محاضرات في أسباب اختلاف الفقهاء" (254 - 259) لعلي الخفيف، "مباحث العلة في القياس عند الأصوليين" (127) لعبد الحكيم السعدي، "أصول الفتوى وتطبيق الأحكام الشرعية في بلاد غير المسلمين" (62 - 66)، "مباحث في أحكام الفتوى" لعامر الزيباري (55، 87)، "عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق" (74 - 75، 335) للباني -قال فيه: "عقد ابن القيم في "إعلام الموقعين" فصلًا ممتعًا واسعًا في تغير الفتوى واختلافها بحسن تغير الأزمنة والأمكنة. . . ثم ساق -أحسن اللَّه مثواه- لاختلاف الفتوى باختلاف مقتضى الحال أمثلة كثيرة وفَّى بها الموضوع حقَّه، تؤيد ما أسلفناه" قال: "ومن أراد أن يدرك لباب الشريعة، وما انطوت عليه من الحكم والمصالح والتسامح، فعليه بالاطلاع على هذا الفصل، لأنّ به العجب العُجاب"-، "تغير الفتوى" لبازمول (15، 34 - 36، 47)، "مفهوم تجديد الدين" (271 - 273) لبسطامي محمد سعيد.

العرف أو تخلّفت المصلحة، تغيّرت الحيثيّة، فتتغيّر لذلك الفتيا (¬1). الثاني: أسهب المصنف في ذكر مسائل يختلف حكمها لتغير العرف والعادة، فبدأ بجملة من مسائل الأيمان، أناط الحكم فيها على نية حالفها وقصده وأنه إذا أطلق اعتبر سبب اليمين وما هيَّجها، وقام ذلك مقام القصد والنية، ثم تعرض إلى حكم الطلاق حال الغضب وقرر فيه أن الإنسان لا يؤاخذ حين يخطئ من شدة الغضب، ثم ذكر حكم يمين اللغو باللَّه وبالطلاق، وحكم تعليق الطلاق على الشرط، وصور وقوعه وعدمه، وقرر في خلال هذه المباحث -نصرةً لاختياره- ضرورة اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ، وفرع عليه أيمان وعقود المخطئ والمكره والمستهزئ والهازل، ثم تعرض إلى حكم الحلف بالحرام، ومذاهب العلماء فيه، واستطرد فذكر (أيمان البيعة) و (أيمان المسلمين) واختلاف العلماء وأقوالهم في ذلك. الثالث: ذكر المصنف في أواخر تعرضه (للمثال الثامن) كلمة جامعة مهمة في هذا الموضوع، نسوقها لأهميتها، قال في (3/ 470) ما نصه: "وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العُرْف شيء فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" وقال أيضًا: "وهذا محض الفقه، ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان". إن كثيرًا من الموضوعات الفقهية ذات العلاقة بالمعاملات، وعيوب النكاح، وقضايا القصاص والجراح بنى الفقهاء المتقدمون الأحكام فيها حسب التصورات، ¬

_ (¬1) "تغير الفتوى" (33) لبازمول.

والخبرات، والمستوى العلمي الذي بلغته عصورهم، ومجتمعاتهم، ليس من المناسب اليوم، بل ومن غير المعقول أن تكرر تلك الأحكام، وتردد تلك المسائل دون وعي وإدراك لتغير العرف فيها، أو ما استحدث من تقدم علمي في معالجتها، مثلًا: كان الفقهاء يعدون بعض الأمراض موجبًا لفسخ النكاح لأنها كانت مما يستعصي علاجه مثل الرتق، والفتق، والبخر، منها الخاص بالرجال، ومنها الخاص بالنساء، ومنها المشترك بينهم، أصبح معظمها في الوقت الحاضر -بحمد اللَّه- سهل العلاج، سريع البرء، وما سطره الفقهاء، وما قدموه من تصورات فيه دلالة على وعيهم التام بأحوال مجتمعاتهم، فجاءت الأحكام منسجمة متوافقة مع بيئاتهم التي عاشوها، واللوم كله يقع على الذين يفرضون الماضي على الحاضر دون وعي بالاختلاف والتباين بين العصرين، فيجترون ويكررون ما في كتب التراث الفقهي، لا يعيشون عصرهم، ولا يدرون ما يحدث فيه من تطورات اجتماعية، وعلمية وإيثارًا للطريق السهل، وتفاديًا لعناء البحث ومتاعبه. الأمانة العلمية تقتضي بذل أقصى الجهد للتوصل إلى الحقائق العلمية، والمتغيرات الاجتماعية في كافة مراحل البحث بتصور واع، وإدراك لحقائق الأمور، وتفتح كامل دون تفريط حتى تكون صادقة، متطورة، متجددة تصدر الأحكام والدراسات عن تصورات ومفاهيم مشتركة بين الباحث والقارئ، فيشعر أنه طرف فيها، وجزء منها، تتحدث عن واقع يعيشه (¬1). الرابع: ختم ابن القيم الكلام على (تغير الفتوى) بمسألة (المهر) وحكم تأجيل (بعضه)، وأنه يستحق -بناء على العرف العام- المطالبة به بموت أو فرقة، ودلّل على المسألة بالآثار، وأن الليث حكى الإجماع عليه، واستطرد هنا بذكر رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، فأوردها بطولها من "المعرفة والتاريخ" للفسوي، وموطن الشاهد في (3/ 483) خمسة سطور منها، ثم عاد إلى التفريع على مسألة (المهر المؤجل)، فذكر (مهر السر ومهر العلن)، وصوره السبعة (¬2)، وأدار الأحكام على المسائل المتقدمة كلها بالقصد والنية، قال في (3/ 496): "فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومُبطله، فاعتبار القصود في العقود ¬

_ (¬1) "منهج البحث في الفقه الإسلامي" (99 - 100). (¬2) انظرها في (3/ 493 - 496).

المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات كما هي معتبرة في العبادات

أولى من اعتبار الألفاظ" (¬1) وذكر أن هذا هو العدل، وقال في ضرورته للمفتي والعالم في (3/ 497): "واللَّه تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضلُ حِلْية تحلَّى بها الرجل، خصوصًا من نصب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال اللَّه تعالى لرسوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] فورثةُ الرسولِ منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل أحدُهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكونُ الحقُّ مطلوبه يَسِيرُ بسيرِه وينزل بنزوله، ويدين بدين العدل والإنصاف ويحكّم الحجة، وما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فهو العلم الذي قد شَمَّرَ إليه، ومطلبه الذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عنه عذل عاذل، ولا تأخذهُ فيه لومة لائم، ولا يصده عنه قول قائل". وأكد ذلك بأحكام النائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، وبمنع بعض المباحات لما هو مقصود بالحرمة. - المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات كما هي معتبرة في العبادات: وأكد هذه القاعدة بقوله في (3/ 499): "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمُها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات" وقال في (3/ 550): "ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر"، وأخذ يستدل ويفرع بمسائل كثرت الحاجة إليها في عصره، وجمد علماء الألفاظ على الموجود في بطون الكتب، فتعرض لـ (أنواع شروط الواقفين) وحكم كل نوع، ثم أخذ في ذكر مسائل فقهية مدللة، وتأصيل بعض الكليات التي لها تعلّق بهذه المسائل، مثل: (النية لها تأثير في العقود) (¬2) و (إبطال كل شرط يخالف القرآن) (¬3)، وعقد بعد ذلك مناظرة ¬

_ (¬1) من بديع كلام الغزالي في "معيار العلم" (ص 171): "الشرع كثير الالتفات إلى المعاني، قليل الالتفات إلى الصور والأسامي". (¬2) اتَّهم البوطي في "ضوابط المصلحة" (ص 262 وما بعد) ابن القيم بالتناقض! وزعم أنه لا دليل على هذه القاعدة! وناقشه بقوة الدكتور حسين حامد في كتابه "نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي" فانظر كلامه، فإنه مفيد. (¬3) في "المدخل المفصل" (1/ 52): "ولابن القيم -رحمه اللَّه تعالى- في "إعلام الموقعين" بحث نفيس مطول في إبطال شروط الواقفين غير الشرعية، وأنها تصرف في الأقرب لمقصد الواقف من المصارف الشرعية".

الحيل

بين الجامدين على اللفظ والعاملين بالمعنى والقصد. قال في (3/ 513 - 514): "فانظر ملتقى البحرين، ومُعْتَرَكَ الفريقين، فقد أبرز كل منهما حجته، وخاض بحر العلم فبلغ منه لُجَّتَه، وأدْلى من الحجج والبراهين بما لا يُدفع، وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم: قل؛ يُسْمَعْ، وحُججُ اللَّه لا تتعارض، وأدلة الشرع لا تتناقض، والحق يُصدّق بعضه بعضًا، ولا يقبل معارضة ولا نقضًا، وحرامٌ على المقلد والمتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول، أو يكون على قوله وبحثه إذا حقَت الحقائق المُعَوَّل، فليجرب المدعي ما ليس له والمدعي في قوم ليس منهم نفسَه وعملَه وما حصَّله في الحكم بين الفريقين، والقضاء للفصل بين المتغالِبَيْن، وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين، ليسلم له قول إحدى الطائفتين، وإلا؛ فليلزم حدَّه، ولا يتعدى طَوْرَه، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعًا يقصر عن الوصول إليه، ولا يَتَّجر بنقدٍ زائفٍ ولا يروج عليه، ولا يتمكن من الفصل بين المقالين إلا من تجرد للَّه مسافرًا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي، مُنْزِلًا نفسَه منزلَةَ من يتلقاه غضًّا طريًّا مِنْ في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها". وأخذ في تقرير قاعدة الإعمال لا الإهمال، وعدّ عشرة أشياء (¬1) لا يؤاخذ اللَّه المكلف بها، لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به، وراح يدلّل عليها، بما لا يدع مجالًا للشك في ذلك، ورجع إلى بيان أقسام الألفاظ الثلاثة (¬2) بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونيّاتهم وإراداتهم، وبيَّن متى يحمل الكلام على ظاهره، ومتى لا يحمل؟ - الحيل: وبعد هذه التوطئة المهمة، أخذ في الكلام المفصَّل على (الحيل) وصوره، وأقسامه، وقرر أنّ أصحاب الحيل وقفوا مع الظواهر والألفاظ ولم يراعوا المقاصد والمعاني، وأنهم استحلوا (حقائق) المحرمات، بتسميتها بأسماء لا نصيب لها من الشرع إلا (الألفاظ) ومن الأمثلة على ذلك قوله في (3/ 530) بعد كلام: "وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تُسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسًا ¬

_ (¬1) انظرها في (3/ 515). (¬2) انظرها في (3/ 518).

وحرمة للملك، فهو أظهر من أن يذكر" (¬1) وقوله في (3/ 532): "ولو أوْجَبَ تبديلُ الأسماء والصور تبدُّلَ الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبُدِّلت الشرائع، واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَعَ المشركين تسميتهم أصنامَهم آلهةً وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نَفَعهم تسمية الإشراك باللَّه تقربًا إلى اللَّه؟ وأي شيء نَفَع المعطِّلين لحقائق أسماء اللَّه وصفاته تسميةُ ذلك تنزيهًا؟ وأي شيء نفع الغلاةَ من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها من دون اللَّه تسمية ذلك تعظيمًا واحترامًا؟ وأي شيء نفع نُفَاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعة أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلًا؟ وأي شيء نَفَعهم نفيهم لصفات كماله تسمية ذلك توحيدًا؟ وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن اللَّه لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيي الموتى ولا يبعث مَنْ في القبور ولا يعلم شيئًا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلًا يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة؟ وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلًا معيشيًا وقَدْحَهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويُدَاهن في دين اللَّه؟ وأي شيء نفع المَكَسَة تسمية ما يأخذونه ظلمًا وعدوانًا حقوقًا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع اللَّه ودينه شرع الديوان؟ وأي شيء نفع أهل البِدَعِ والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم، وعند أهل العلم والدين والإيمان عقليات وبراهين؟ وتسمية كثير من المتصوّفة الخيالات الفاسدة والشطحات حقائق؟ فهؤلاء كلهم حقيق أن يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ". وبناءً عليه، ذكر أن المحتال لا يجوز أن يحصل على مقصوده، وفرق بينه وبين المكره واستطرد في ذكر الهازل وحكم عقوده، وفرع عليه حكم نكاحه وأن الشارع رتب عليه حكمًا، لأن "عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه" (¬2)، وخلص من خلال ما مضى إلى أن "ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أن يُقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة اللَّه ورسوله، ولم يُؤمر أن يُنقِّب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم، بل يُجْرِي عليهم أحكام اللَّه في الدنيا إذا دخلوا في دينه، ويجري أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونيّاتهم؛ ¬

_ (¬1) صدق رحمه اللَّه، ولا أدري ماذا يقول لو رأى الذي رأيناه، ولا قوة إلا باللَّه! (¬2) انظر: (3/ 542).

سد الذرائع وتوظيفه للمنع من الحيل

فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان" (¬1). واستَخْلَص من ذلك أسرارَ الشرع في جملة مسائل، ذكر الراجح عنده فيها، وناقش كلامًا للشافعي، ووجهه على ما ذكره آنفًا، موردًا عليه أجوبة علمية تظهر أسرار الشرع وحكمه، مزيلًا ما قد يحصل تشويش على الذي قعّده بسببه، وأظهر في هذه المسائل أقوال المذاهب وسبب اختلافهم، وأدلتهم، ومناقشاتهم ورجح فيها أنه متى "قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد عُلم أن الباطن بخلافه" (¬2)، وبناءً عليه فرق بين توبة الكافر الأصلي وتوبة الزنديق، وعدم توبة الأخير إلا إن ظهر منه حسن الإسلام، وتوبة نصوح قبل رفعه إلى السلطان، ثم تعرض لـ (الشروط وأثرها على العقد) ورد قول من قال إن الشرط المتقدم لا يؤثر شيئًا، وقال عنه: "وهل هذا إلا فتح لباب الحيل؟ بل هو أصل الحيل وأساسها" (¬3) وهو أقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عدمه وإبطاله. - سد الذرائع وتوظيفه للمنع من الحيل: ومن ثم تعرض لقاعدة سد الذرائع، بتأصيل على وجه بديع غاية، قال في (3/ 552): "ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها" وذكر تحتها أنواع الوسائل (¬4)، وحكم كل نوع، وقرر أنه لا يجوز الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام، وإن كان جائزًا، واستدل على ذلك من تسعة وتسعين وجهًا (¬5). قال في (4/ 65): "ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء اللَّه الحسنى التي مَنْ أحصاها دخل الجنة، تفاؤلًا بأنه من أحصى هذه الوجوه وعلم أنها من الدين وعمل بها دخل الجنة؛ إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب تعالى ومعرفة أحكامه، وللَّه وراء ذلك أسماء وأحكام". وقال أيضًا: "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان؛ أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ¬

_ (¬1) انظر: (3/ 542). (¬2) (3/ 548). (¬3) (3/ 551). (¬4) هنا ينتهي المجلد الثالث من نشرتنا. (¬5) انظرها في: (4/ 5 - 65).

ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المَفْسَدة، فصار سد الذرائع المُفْضِية إلى الحرام أحد أرباع الدين" (¬1). ولذا، فإن سد الذرائع "يمثل الدور الدفاعي والوقائي بالنسبة لمقاصد الشريعة، ولا سيما أن المصلحة ينبغي أن ينظر إليها من جانبين: الوجود والعدم" ولذا فإن جماع المقاصد وقوامها جلب المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهذا يلتقي مع ضرورة النظر في (مآلات الأفعال) (¬2). ويقودنا هذا إلى القول بأن الأخذ بسد الذرائع يمثل سدًا لأبواب التحيل على الشرع، وحسمًا لمادة الشر والفساد، لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، من خفي هواها الذي لا يزال يسري بها حتى يقودها إلى الهلكة، فسدّ الذرائع يمثل تقويمًا لمسار المكلفين ومقاصدهم، ويحملهم على أن يوافقوا قصد الشارع في تكاليفه وأحكامه، وعلى ألا يتحذلقوا على الشارع، فربما أوقعهم ذلك في الكفر أو الابتداع أو الفسوق أو العصيان (¬3). واستفاد ابن القيم من التقرير السابق أن القول بتجويز الحيل يناقض سد الذرائع، قال في (4/ 66): "فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين اللَّه" وأخذ في سرد أدلة تحريم الحيل، وذم السلف لها، وبيَّن أن القول بحرمتها أقوى من القياس (¬4)، قال في (4/ 93 - 94): ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 65). (¬2) وهو الذي نادى به الشاطبي على وجه فيه تأصيل بديع، انظر: "الموافقات" (5/ 177 - 200 - بتحقيقي). (¬3) انظر: "بيان الدليل" (352 - 353 بتحقيق - فيحان) و"تفسير آيات أشكلت" (2/ 681)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (23/ 214 - 215 و 32/ 228 - 229). (¬4) قال صديق حسن خان في "ذخر المحتي" مبّينًا مباحث كتابنا هذا بعد كلام: "ثم ذكر بعد ذلك فصولًا في الحيل التي أحدثها الفقهاء، وضرب لها أمثلة كثيرة يبلغ عدُّها إلى المثال الخامس عشر بعد المئة، وذكر تحت كل مثال منها مخارج منها، فجاء الكتاب سفرًا كبيرًا"، وقال (ص 118) بعد ذكره الحيل المحرمة والحيل الجائزة: "وقد ذكر الحافظ ابن القيم رحمه اللَّه في "الأعلام" من النوعين، ما لعلك لا تظفر بجملته في غير ذلك الكتاب، واللَّه الموفق للصواب" وقال (ص 129): "وقد تكلم في "الأعلام" على هذه المسألة مستوفًى، لعلك لا تظفر بمثله في كتاب غيره، فإن شئت فراجعه وباللَّه التوفيق". وقال المحمصاني في "فلسفة التشريع في الإسلام" (ص 225): "وقد عقد ابن القيم في هذا الموضوع، -أي: الحيل- فصولًا طويلة، بيَّن فيها بإسهاب الأدلة على بطلان هذه الحيل، ورد على حجج من جوّزها، ثم فرق بين الحيل المحرمة والحيل المشروعة، وضرب منها أمثلة كثيرة".

"فكل مَنْ له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصف لم يَشُكَّ أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعُهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك. فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت، وانضم إلى هذا أن التابعين موافقون لهم على ذلك، فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد اللَّه بن مسعود من أهل الكوفة، وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشَّعْثاء والحسن وابن سيرين، وكذلك أصحاب ابن عباس. وهذا في غاية القوة من الاستدلال، فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انصرم، ورقعة الإسلام متسعة، وقد دخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع، وكثُر من كان يتعدى الحدود، وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودًا، فلم يُحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر بها أو دلَّ عليها، بل المحفوظ عنهم النهي والزجر عنها؛ فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجلٌ منهم، ولكانت مسألة نزاع كغيرها. بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها، ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار". وأخذ في سرد مفردات الحيل في أبواب متعددة من أبواب الفقه، وقرر أنه لا يجوز أن ينسب القول بجواز الحيل إلى إمام، لأن ذلك قدح في إمامته، وأن الأئمة برءاء مما نسب إليهم من ذلك، ثم أخذ في سرد الأدلة العقلية على ذم الحيل وتحريمها، وفصَّل في ذكر حِكم الشرع (¬1) في أحكام متعددة، وبيّن أن أكثر الحيل تناقض أصول الأئمة، وأنها تقتضي رفع التحريم من عشرة وجوه (¬2). وبعد هذا كله، رجع إلى حجج الذين جوَّزوا الحيل، وذكر أدلتهم من القرآن والسنة وعمل السلف، وادعاءهم أن في المذاهب فروعًا ينبني عليها تجويز ¬

_ (¬1) انظر: ما سيأتي عن ذلك (ص 185) من هذه المقدمة. (¬2) انظرها في (4/ 112 - 113).

الحيل، وكرّ عليها بمناقشة المبطلين لها، وأجوبتهم عنها. والمصنف في عرضه ورده، يختار أقوى الأدلة، ويعرضها بأبلغ عبارة وأنصعها وأقواها، ويوجه الأدلة على المنع ثم على الجواز، ثم على المنع بما يدهش ويحيّر اللبيب، سبحان اللَّه الواهب الفتاح، المعطي، الكريم، الجواد، الواسع. وهذا يدل على تفنُّن مصنِّفنا، وأنه شبعان ريان من استحضار النصوص، وفهمها، وتوجيهها، وعلى ذكرٍ بأشباهها ونظائرها، وعلى قدرة فائقة في رد انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فرحمه اللَّه رحمة واسعة، ورضي عنه. وتعرض رحمه اللَّه في أثناء هذه الردود إلى عقد مقارنة بين شريعتنا وشريعة من قبلنا (¬1)، وأوجه الوفاق والفراق بينهما في بعض الأمور، ولم ينس بعض المباحث (العقدية) كالكلام على (كيد اللَّه) (¬2) وأنواعه، ولا على بعض المباحث (الأصولية)، كالكلام على (دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام) (¬3)، وقوى توجيهاته بذكر (الحِكَم) في بعض ما احتج به القائلون بالحيل، فضيق عليهم، بإلزامات مقنعة، وتفريعات عديدة عجيبة، ونظائر ونقولات شهيرة، وتفريقات كثيرة، كتفرقته بين (الحيل) و (المعاريض) (¬4) و (الذريعة) (¬5)، وفرع عليه الكلام على (فقه المعاريض)، والضابط في أحكامها، وأنواعها، وكتفرقته بين (العقود) و (الحيل)، وقال تحت هذا في (4/ 186): "فهذا موضع الكلام في الحيل، وانقسامها إلى الأحكام الخمسة" (¬6). وهنا أخذ في التأصيل، فبيّن معنى (الحيلة)، واشتقاقها، وأقسامها، وأمثلة كل قسم، وأورد تحت هذه الأمثلة: (مسائل يفضي ثبوتها إلى إبطالها) (¬7) و (مسائل يؤدي ثبوتها إلى نفيها) (¬8) وطول الكلام على (المسألة السريجية) و (الطلاق الثلاث جملة)، وقرر أن "المتأخرين أحدثوا حيلًا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إلى الأئمة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم، ولهم مع الأئمة موقف بين ¬

_ (¬1) وانظر في ذلك أيضًا: (2/ 304). (¬2) انظر: (4/ 156 - 159، 162 - 163). (¬3) انظر: (4/ 164 - 168). (¬4) انظر: (4/ 176). (¬5) انظر: "مقاصد الشريعة" لابن عاشور (116). (¬6) أشاد العلماء بكلام المصنف على الحيل، وسيأتي لاحقًا شيء من ذلك، وانظر: "المدخل لدراسة الفقه الإسلامي" (135 - 142) لإبراهيم عبد الرحمن. (¬7) انظر: (4/ 205 - 206). (¬8) انظر: (4/ 206 - 209).

يدي اللَّه عز وجل، ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم. . . " (¬1). وذكر هنا أمرين مهمين جدًا، قال في (4/ 234 - 235): "ولا بد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر، وهو: * النصيحة للَّه ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث اللَّه به رسوله من الهدى والبيِّنات، التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه، وإن أدخلها فيه مَنْ أدخلها بنوع تأويل. * والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يُوجب اطِّراح أقوالهم جملة وتنقّصهم والوقيعة فيهم. فهذان طرفان جائران عن القصد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثّم ولا نَعْصم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك بهم مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثّمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: * جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم. * أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله. ومن له علم بالشرع والواقع؛ يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهَفْوة والزَّلَّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين". وأخذ في التدليل على هذا التأصيل، وقرر أخيرًا "أن القول بتحريم الحيل ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 232).

مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد

قطعي ليس من مسالك الاجتهاد" (¬1) و"قد اتفق السلف على أنها بدعة محدثة" (1). - مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد: وذكر هنا أصلًا على وجه الاستطراد، بيَّن فيه خطأَ إطلاق قوله (مسائل الخلاف لا إنكار فيها) (¬2)، وفرق بين (مسائل الاجتهاد) و (مسائل الخلاف)، وقال في (4/ 243): "وإنما دخل هذا اللبس (أي قولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها) من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، ممن ليس لهم تحقيق في العلم". وتقرير هذا الأصل اليوم مهم، ويعمل على تقويم تلك العبارة الشائعة القائلة "ليعاون بعضنا بعضًا فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" (¬3) فالإعذار إنما يكون في (المسائل الاجتهادية) لا (الخلافية)، فيزاد في آخرها "مما له وجه"، ويجب على قائلها ألا يطرح البحث والنظر في الراجح، ويتكئ على الخلاف، ويبقى راتعًا في جهله، نعم، الواجب عدم التشنيع على المخالف، والتعنيف له في المسائل الاجتهادية، ولكن مع المناصحة واتباع الدليل والسعي لإزالة الخلاف إن أمكن. ثم قال المصنف بعد ذلك في (4/ 248): "فلنرجع إلى المقصود، وهو بيان بطلان هذه الحيل على التفصيل. . . " وأخذ في سرد حيل الوقف والأيمان وإسقاط حق الحضانة، وجعل تصرفات المريض نافذة، والسَّلَم، والشفعة، وتفويت حق القسمة، والمزارعة، والهبة، والوصية، والميراث، والأروش وإسقاط الحدود: السرقة، والزنا؛ والنكاح، والبنيان، والضمان، والظهار، والإيلاء، والزكاة، والبيع، والطلاق، ثم ذكر أعاجيب متناقضات أرباب الحيل، وقاعدة في أقسام الحيل ومراتبها، وذكر من هؤلاء (السراق)، وقال عنهم: "وهم أنواع لا تحصى، فمنهم السراق بأيديهم، ومنهم السراق بأقلامهم، ومنهم السراق بأماناتهم، ومنهم السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد، وهم في الباطن بخلافه، ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 241). (¬2) نقل كلامَ المصنِّف بالجملة مع مقدمات وتتمات لهذه المسألة جمعٌ من المعاصرين، وأفردوه برسائل مستقلة، مثل: "حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف" و"الاختلاف وما إليه" وغيرهما. (¬3) لأخينا الفاضل الدكتور حمد العثمان "زجر المتهاون بضرر قاعدة المعذرة والتعاون"، فانظره، فإنه مفيد.

ومنهم السراق بمكرهم وخداعهم وغشهم، وبالجملة، فحيل هذا الضرب من الناس أكثر الحيل" (¬1)، وذكر نوعي أرباب الحيل، وأنواع الحيل المحرمة الثلاثة (¬2)، وذكر تحتها مئة وسبع عشرة مثلًا. واستطرد في بعض هذه الأمثلة، وأوجز في بعضها الآخر، ولم تخلُ انفرادات شيخه ابن تيمية منها، فذكر -مثلًا- (المثال الثاني والستين) وهو في (مسألة الحلف بالطلاق)، وذكر أثر ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "العتق ما ابتغي به وجه اللَّه، والطلاق ما كان عن وطر" (¬3)، وقال: "فتأمل هاتين الكلمتين الشريفتين الصادرتين عن علم قد رسخ أسفلُه، وبَسَقَ أعلاه، وأينعت ثمرتُه، وذللت للطالب قطوفُه، ثم احكم بالكلمتين على أيمان الحالفين بالعتق والطلاق، هل تجد الحالفَ بهذا ممن يبتغي به وجه اللَّه، والتقربَ إليه بإعتاق هذا العبد؟ وهل تجد الحالفَ بالطلاق ممن له وطر في طلاق زوجته؟ فرضي اللَّه عن حَبْرِ هذه الأمة لقد شَفَتْ كلمتاه هاتان الصدورَ، وطبقتا المفصلَ، وأصابَتَا المحزَّ، وكانتا برهانًا على استجابة دعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- له أن يعلمه اللَّه التأويل ويفقهه في الدين، ولا يوحشنَّك مَنْ قد أقرَّ على نفسه هو وجميع أهل العلم أنه ليس من أولي العلم، فإذا ظفرتَ برجل واحد من أولي العلم طالب للدليل مُحَكم له متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة، ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجّة ويكفّرك أو يُبَدِّعُكَ بلا حجة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة، وسيرته الذميمة، فلا تفتر بكثرة هذا الضرب، فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم بعدل بملء الأرض منهم" (¬4). وأخذ بعد ذلك في ذكر الآثار الدالة على أن الجماعة صاحب الحق، وإن ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 299)، وما علقناه عليه لزامًا. (¬2) انظرها في (4/ 310 وما بعد). (¬3) انظر تخريجه في التعليق على (4/ 387). (¬4) انظر: (4/ 387 - 388) واعتنى الشوكاني في "نيل الأوطار" (7/ 57 - 60) بكلام المصنف عناية فائقة، وقال: "ومن المطوّلين للبحث في هذه المسألة الحافظ ابن القيم. . . فإنه ذكر في كتابه المعروف "إعلام الموقعين" خمسة عشر مذهبًا، وسنذكر ذلك على طريقة الاختصار، ونزيد عليه فوائد. . . ".

كان وحده (¬1)، ثم قال في آخر المثال: "وكان الإمام أحمد هو الجماعة، ولما لم تحمل هذا عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين! أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحده هو على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك؛ فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل؛ فلا إله إلا اللَّه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وهي السبيل المَهْيَع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23] ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم" (¬2). واستطرد في (المثالى الثالث بعد المئة) وهو في (حيلة يتخلّص بها من غريم يريد الإنقاص أو التأجيل) وختمها بـ (الفرق بين المضطهد والمكره)، وقال عنها في (4/ 434): "وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب، والجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة ولا الهدى إلا الضلالة". واستطرد جدًا في (المثالى السابع عشر بعد المئة) وهو في (المخارج من الوقوع في التحليل في الطلاق)، وفرع في (المخرج الرابع) وهو يشتمل على (حكم الاستثناء في الطلاق) وذكر الخلاف فيه، وأقوال الأئمة، ثم ذكر (تعليق الطلاق على فعل يقصد به الحض والمنع)، وحقق هذه الفروع، وفصل في أنواع (التعليق)، وزيّف كلام بعض الفقهاء، فقال في (4/ 477) ما نصه: "من أقبح القبائح، وأبْيَن الفضائح، التي تشمئز منها قلوب المؤمنين، وتنكرها فطر العالمين، ما تمسَّك به بعضكم، وهذا لفظه بل حُرُوفه، قال: لنا أنَّه علَّق الطلاق بما لا سبيل لنا إليه فوجب أن يقع؛ لأن أصله الصفات المستحيلة، مثل قوله: "أنت طالق إنْ شاء الحَجَرُ" أو "إنْ شاء الميتُ"، أو "إن شاء هذا المجنون المطبق الآن"، فيا لك من قياس ما أفسده، وعن طريق الصواب ما أبعده! وهل يستوي في عقل أو رأي أو نظر أو قياس مشيئة الرب -جلَّ جلاله-، ومشيئة الحجر والميت والمجنون عند أحد من عقلاء الناس؟ وأقبحُ من هذا -واللَّه المستعان، وعليه التكلان، وعياذًا به من الخذلان، ونزغات الشيطان- تمسّك بعضهم بقوله: "علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ لا تُعْلم مشيئته فلم يصح التعليق"، كما لو قال: "أنت طالق إن شاء إبليس"، فسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 388 - 390). (¬2) انظر: (4/ 389 - 390).

وتعالى جدُّك، ولا إلهَ غيرُك، وعياذًا بوجهك الكريم، من هذا الخذلان العظيم، ويا سبحان اللَّه! لقد كان لكم في نصرة هذا القول غنًى عن هذه الشبهة الملعونة في ضروب الأقيسة، وأنواع المعاني والإلزامات فسحة ومتسع، واللَّه شرف نفوس الأئمة الذين رفع اللَّه قدرهم، وشاد في العالمين ذكرهم، حيث يأنفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات التي تسودُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلُّ بقمر الإيمان المحاقَ". وعاد إلى تقرير صحة التعليق بالمشيئة، وقال عنه: "فهذا أمر معقول شرعًا، وفطرة، وقدرًا" (¬1) وقال عنه: "وهذا في غاية الظهور لمن أنصف" (¬2). وسرد الأحاديث والآثار، وتكلّم على صحتها، وضعّف بعضًا مما يؤيد اختياره، قال في (4/ 482): "ولو كنا ممن يفرح بالباطل -ككثير من المصنفين، الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيّدًا لقوله- لفرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غنية، فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" وأخذ في بيان عللها، ومناقشة المانعين، وأطال النفس جدًا في ذلك، وراح في تفصيل الكلام على نية الاستثناء، ومتى تعتمد؟ وهل يشترط فيه النطق به؟ وقال في (4/ 496): "وهذا بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب". وكذلك فعل في (المخرج الخامس) وهو في (فعل المحلوف عليه مع الذهول)، ففرق بيت (الذهول) و (النسيان)، و (الجاهل) بالمحلوف عليه و (المخطئ)، واستطرد في ذكر (التأويل) و (درجاته الثلاث)، وأقوال من أفتى بعدم الحنث، وذكر حكم فعل المحلوف عليه مكرهًا وخص فصلًا في (حكم المتأول، والجاهل، والمقلد) وأورد وقائع وأدلة تجفي هذه الأحكام، ثم عقد فصلًا في (تعذر فعل المحلوف عليه، وعجز الحالف عنه). وفصل جدًا في (المخرج الثاني عشر) وهو في (بحث أن يمين الطلاق من الأيمان المكفَّرة)، وذكر رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، ومحنته بسبب هذه المسألة (¬3)، وأنه رحمه اللَّه حكاه عن جماعة من العلماء الذين سمت هممُهم وشرفت ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 477). (¬2) انظر: (4/ 478). (¬3) أشار ابن كثير في "البداية والنهاية" (14/ 293) إلى هذه المحنة، فقال: "وقد كان -أي ابن القيم- متصدّيًا للإفتاء بمسألة الطلاق التي اختارها الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وجرت بسببها فصول يطول بسطُها مع قاضي القضاة تقي الدين السبكي وغيره" وانظر: =

نفوسُهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض إلى أوج النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له برد هذه الحجة قبل، وأما ما سواها فبيَّن فساد جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض، وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره من الأئمة زهاء أربعين دليلًا وصار إلى ربه وهو مقيم عليها داع إليها مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه، وأوقاته لمستفتيه؛ فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا؛ فعطلت لفتاواه مصانع التحليل، وهدمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشَّعت سحائب اللعنة عن المحلِّلين، والمحلَّل لهم من المطلقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حبس تقليد المذهب المعيّن به من كرمت عليه نفسه من المستبصرين، فقامت قيامة أعدائه وحُسّاده ومن لا يتجاوز ذكر أكثرهم باب داره أو محلته، وهجنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين، فمن استخفّوه من الطغام وأشباه الأنعام قالوا: هذا قد رفع الطلاق بين المسلمين، وكثَّر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنده مسكة عقل ولب قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلّق بالشرط، وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حل بيعة السلطان من أعناق الحالفين، ونسوا أنهم هم الذين حلوها بخلع اليمين، وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، فلا يحل لمسلم حل بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين (¬1). وقال: "ولعمر اللَّه لقد مني من هذا بما مُني به من سلف من الأئمة المرضيين، فما أشبه الليلة بالبارحة للناظرين، فهذا مالك بن أنس تواصل أعداؤه إلى ضربه بأن قالوا للسلطان: إنه يحل عليك أيمان البيعة بفتواه أن يمين المكره لا تنعقد، وهم يحلفون مكرهين غير طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع لما ¬

_ = "الدرر الكامنة" (3/ 401). وتذكر كتب التراجم أن لابن تيمية "قاعدة في أن جميع أيمان المسلمين مكفرة" في (مجلد لطيف). (¬1) انظر: (4/ 540).

حجية قول الصحابي

أخذه اللَّه في الميثاق على من آتاه اللَّه علمًا أن يبينه للمسترشدين، ثم تلا على أثره محمد بن إدريس الشافعي فوشى به أعداؤه إلى الرشيد أنه يحل أيمان البيعة بفتواه أن اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد، ولا تطلق إن تزوجها الحالف، وكانوا يُحلِّفونهم في جملة الأيمان: "وإن كل امرأة أتزوجها فهي طالق"، وتلاهما على آثارهما شيخ الإسلام فقال حسَّاده: هذا ينقض عليكم أيمان البيعة، فما فَتَّ ذلك في عضد أئمة الإسلام، ولا ثَنَى عزماتهم في اللَّه وهممهم، ولا صدهم ذلك عما أوجب اللَّه تعالى عليهم من اعتقاده والعمل به من الحق الذي أداهم إليه اجتهادهم، بل مضوا لسبيلهم، وصارت أقوالهم أعلامًا يهتدي بها المهتدون، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24] " (¬1). - حجية قول الصحابي: ونقله عن جمع من العلماء من لدن الصحابة إلى من قال به في عصره، واستطرد في هذا المقام بالاحتجاج بالآثار السلفية، والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قُربها من الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحط على المانعين بالأخذ بها، وصور حال بعض المفتين في عصره، بقوله في (4/ 545 - 546): "فكيف إذا عيَّن الأخذ بها (أي: أقوال الأئمة الأربعة) حكمًا وإفتاءً، ومنع الأخذ بقول الصحابة، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة، ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام؟ تاللَّه لقد أخذ بالمثل المشهور: (رمتني بدائها وانْسَلَّتْ)، وسمَّى ورثة الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح ويقول ويعلن أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وغيرهم من الصحابة، وهذا كلامٌ مَن أخذ به وتَقَفَده، ولاه اللَّه ما تولى، ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى، والذي ندين اللَّه به ضد هذا القول". - وعمل على ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة، فبدأ بترجيح أقوال أبي ¬

_ (¬1) انظر: (4/ 541).

فوائد تتعلق بالفتوى

بكر (¬1)، ثم ذكر قول الصحابي إن لم يخالف قول صحابي آخر، وفصل في مذهب الشافعي وأقواله في الاحتجاج بقول الصحابي، ورد الاعتراضات على ذلك، واحتج على وجوب اتباعهم بالآيات والأحاديث والآثار والمعقول، وذكر ستة وأربعين (¬2) وجهًا في وجوب العمل بقول الصحابي (¬3). قال صديق حسن خان عن مباحث المصنف في كتابنا هذا: "ثم حرَّر فصلًا في جواز الفتوى بالآثار السَّلَفِيَّةِ، والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخِّرين وفتاويهم، وأن قربَها إلى الصَّواب بحسب قُرْب أهلِها من عصر الرَّسول صلوات اللَّه وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه؛ فكلَّمَا كان العهدُ بالرَّسُول أقرب، كان الصَّواب أغلب، وهذا حكمٌ بحسب الجنس لا بحسب كلِّ فرْدٍ فرْد من المسائل، لكن المفضَّلون في العصر المتقدِّم أكثرُ من المفضلين في العصر المتأخِّر، وهكذا الصَّواب في أقوالهم أكثرُ من الصَّواب في أقوال من بعدهم، فإن التَّفاوت بين علوم المتقدِّمين والمتأخِّرين كالتَّفاوت الذي بينهم في الفضل والدِّين" (¬4). - فوائد تتعلق بالفتوى: ثم ختم كتابه بفوائد تتعلق بالفتوى، قال في (5/ 40): "ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى". وذكر سبعين من الفوائد الفرائد التي تتعلق بذلك، وهذه نماذج تدل على ذلك: أورد تحت (الفائدة الثالثة والعشرين) (صفات المفتي) ومن بينها (الإخلاص) و (الحلم والوقار والسكينة)، وأخذ يفصل في هذه الأخلاق، ولا ¬

_ (¬1) انظر -لزومًا-: "منهاج السنة النبوية" (8/ 210). (¬2) انتهى المجلد الرابع من نشرتنا بالوجه الثالث والعشرين منها. (¬3) ينظر لزومًا (5/ 21 - 23) آخر (الوجه الثالث والأربعين)، إذ عقد المصنف فيه مقارنة بين فضل الصحابة والمتأخرين عنهم، يظهر فيه جليًّا مراد المصنف من وجوب اتباعهم وعدم الخروج عن فهمهم. ومما ينبغي أن لا يهمل: أن هنالك علاقة بين المباحث السابقة (سد الذرائع) و (الحيل) و (قول الصحابي)، إذ الصحابة هم أعلم الناس بالمقاصد الشرعية، وأشد الناس معرفة بما أراد اللَّه وأراد رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقوال الصحابة تشكل ضابطًا مهمًا في ذلك على وجه الاعتدال، وتنزيلها على الواقع في مسائل نكون لمن بعدهم بمثابة (النماذج). (¬4) "ذخر المحتي" (66 - 67).

سيما (السكينة) منها، فذكر أسبابها وأنواعها، ثم ذكر من بقية الصفات: (العلم) و (الكفاية) و (معرفة الناس)، وتكلم عليها في (5/ 106 - 114) بكلام تربويّ علمي تأصيلي، يندر أن تجده عند غيره، واللَّه الموفق. وذكر في آخر (الفائدة الرابعة والخمسين) وجوب تعظيم حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال في (5/ 179 - 180): "وقد كان السَّلفُ الطَّيِّبُ يشتدُّ نكيرُهم وغضبُهم على مَنْ عارض حديثَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنًا من كان، ويهجرون فاعل ذلك، وينكرون على من يضرب له الأمثال، ولا يسوِّغون غير الانقياد له والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وبقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وبقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف: 3] وأمثالها، فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم: "ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال كذا وكذا"، يقول: من قال بهذا؟! ويجعل هذا دفعًا في صدر الحديث، يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثل هذا الجهل، وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفته تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقبح من ذلك: عذرُه في دعوى هذا الإجماع، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث، فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة، واللَّه المستعان. ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام ألبتة قال: لا نعمل بحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نعرف من عمل به، فإن جَهِلَ مَنْ بلغه الحديث مَنْ عَمِل به لم يحل له أن يعمل به، كما يقول هذا القائل". وفصل في (الفائدة الخامسة والخمسين) -وهي في (عدم جواز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي) - فذكر ذم العلماء للكلام وأهله،

فتاوى النبي -صلى الله عليه وسلم-

وبيَّن أن "أصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده اللَّه ورسوله بكلامه، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل" (¬1) وبيّن أن فساد الأديان السابقة إنَّما وقع بالتأويل (¬2)! وذكر (دواعي التأويل) وبعض (آثاره)، وسرد الشرور التي وقعت في الأمة على وجه استقرائي، ورد ذلك كله إلى (التأويل) المذموم، ثم ذكر أمثلة له. - فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: وختم كتابه بسرد فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، فقال في (5/ 209): "ولنختم الكتاب بذكر فصولٍ يسيرٍ قدرها، عظيم أمرها من فتاوى إمام المفتين، ورسول رب العالمين، تكون روحًا لهذا الكتاب، ورَقْمًا على جلة هذا التأليف" فبدأ بفتاوى في العقيدة، ثم بالفقه: الطهارة، والصلاة وأركانها، وبالموت والموتى (الجنائز)، والزكاة، والصوم، وقال عنها في (5/ 300): "فللَّه ما أجلَّ هذه الفتاوى! وما أحلاها! وما أنفعها! وما أجمعها لكل خير! فواللَّه! لو أن الناس صرفوا همهم إليها؛ لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، واللَّه المستعان". ثم ذكر فتاوى الصوم، والحج، وفتاوى في بيان فضل بعض سور القرآن، وفتاوى في بيان فضل بعض الأعمال (¬4)، وفتاوى في الكسب والأموال، وإرشادات لبعض الأعمال، وفتاوى في أنواع البيوع، وفتاوى في الرهن والدين، وفتاوى في تصدُّق المرأة، وفي مال اليتيم، واللقطة، والهدية وما في حكمها، والمواريث، والعتق، والزواج، وأحكام الرضاع، والطلاق، والخلع، والظهار، واللعان، والعِدَد، وثبوت النسب، والحداد، ونفقة المعتدة وكسوتها، والحضانة ومستحقِّيها، وجرم القاتل وجزائه، والديات، والقسامة، وحد الزنى، وأثر اللوث، والعمل بالسياسة، وساق تحته كلامًا يرحل إليه، ومما قال بعد كلام: "قلت: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعترك ¬

_ (¬1) انظر: (5/ 187). (¬2) انظر: (5/ 187 - 188). (¬3) قال الشيخ بكر أبو زيد في كتابه "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل" (2/ 919): "وقد اعتنى من علمائنا الحنابلة: الإمام ابن القيم رحمه اللَّه فجمع فتاوى إمام المفتين نبيّنا ورسولنا محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في خاتمة كتابه "إعلام الموقعين"، وطبعت مفردة". (¬4) انظرها أيضًا في: (5/ 406 - 409).

صعب فَرَّطَ فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنًا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع، والذي أُوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها فلما رأى وُلَاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن اللَّه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان فذلك من شرع اللَّه ودينه ورضاه وأمره، واللَّه تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته، وأماراته في نوع واحد ويبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيَّن بما شرعه من الطرف أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وفي شَرْعِهِ سبيل للدلالة عليها وهل يُظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟ ولا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي وإلا فإذا كانت عَدْلًا فهي من الشرع" (¬1). وساق أمثلة عديدة مليحة على السياسة العادلة من سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسيرته، وسيرة خلفائه الراشدين ومن بعدهم (¬2)، ثم قال (5/ 517): "وتقسيمُ بعضهم طرقَ الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدينَ إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل ¬

_ (¬1) انظر: (5/ 512 - 513). (¬2) انظر: (5/ 513 - 517).

السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد؛ فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحدٍ بعده، وإنما حاجتهم إلى مَنْ يبلّغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومات محفوظات لا يتطرق إليها تخصيص عموم بالنسبة إلى المرسل إليه وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَنْ بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به". ثم قال بعد ذلك (5/ 518 - 519) عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولم يحوجهم اللَّه إلى أحد سواه فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصةٌ تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وَفَق اللَّه له أصحاب نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم الذين اكتفوا بما جاء به واستغنوا به عما سواه وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر -صلى اللَّه عليه وسلم- يمنع من الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فاللَّه المستعان". وقال أيضًا (5/ 519): "وياللَّه العجب كيف كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى اللَّه بنيانها من القواعد وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع؟ أهل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم باللَّه وأسمائه وصفاته، وما يجب له، وما يمتنع عليه منهم؟ فواللَّه لأن يَلقى اللَّه عبده بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل".

أمور جملية لا بد منها

ثم نقل كلامًا للإمام أحمد وللإمام مالك في السياسة الشرعية، وقال في (5/ 521): "وأبعد الناس من الأخذ بذلك الإمام الشافعي، مع أنه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مئة موضع، وقد ذكرنا منها كثيرًا في غير هذا الكتاب" وسرد أمثلة عليها. ثم قال بعد ذلك في (5/ 522): "فلنرجع إلى فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وذكر طرف من (فتاويه) في الأطعمة وساقها، ثم ذكر فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيقة، وفي الأشربة، وفي الأيمان، وفي النذور، والنيابة في فعل الطاعة، وفي الجهاد، وفي الطب، والطيرة، والفأل، والاستصلاح، ثم ذكر فتاويه في أبواب متفرقة (¬1)، ثم ختم الكتاب بـ (فصل) عنونه بـ (مستطرد من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- فارجع إليها) (¬2). والملاحظ أن هذه الفتاوى أشبه ما تكون بالمادة الحديثية، فقد ذكر المصنف ألفاظ الأحاديث وعزاها إلى دواوين السنة، وحكم على بعض أسانيدها. - أمور جملية لا بد منها: وأخيرًا لا بد من ذكر أمور جُمْليَّة مهمة، بها نختم هذا المبحث: الأول: كتابنا هذا يؤكد بيقين أن ابن القيم فقيه النفس، وله اختيارات مذكورة في كتب المتأخرين، وأنه متفنن في العلم وهذا يترجم ما ذكره غير واحد عنه بأنه يحسن الفقه وغيره، قال الذهبي -مثلًا- عنه: "وكان يشتغل في الفقه، وُيجيد تقريره" (¬3) ونعته بـ "الفقيه الإمام المفتي المتفنن" (¬4) و"الإمام العلامة ذو الفنون" (¬5) وقال السخاوي: "العلامة الحجة المتقدّم في سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان،. . . انتفع به الأئمة" (¬6)، وقال ابن تغري بردي: "كان بارعًا في عدة علوم، ما بين تفسير وفقه وعربيَّة ونحو وحديث وأصول وفروع" (¬7)، وقال الصفدي: ¬

_ (¬1) مثل: التوبة، وحق الطريق، والكذب، والشرك وما يلحق به، وطاعة الأمراء، وسد الذرائع، والجوار، والغيبة، والكبائر، وأخذ يعدد مفرداتها على وجه حسن. (¬2) انظر: (5/ 584). (¬3) "المعجم المختص" (ص 269). (¬4) "المعجم المختص" (ص 269). (¬5) "ذيول العبر" (4/ 155). (¬6) "وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام" (1/ 53 - 54). (¬7) "النجوم الزاهرة" (10/ 195).

"وكان ذا ذهن سيّال، وفكر إلى حل الغوامض ميّال، قد أكبّ على الاشتغال، وطلب من العلوم كلَّ ما هو نفيسٌ غالٍ، وناظر وجادل وجالد الخصوم وعادل، قد تبحّر في العربية وأتقنها، وحرّر قواعدها ومكّنها، واستطال بالأصول، وأرهف منها الأسنة والنُّصُول، وقام بالحديث وروى منه، وعرف الرجال وكلَّ من أُخذ عنه. وأما التفسير فكان يستحضر من بحاره الزخّارة كلَّ فائدة مِهمّة، ومن كواكبه السيارة كل نيّر يجلو حَنَادس الظُّلمة. وأمّا الخلاف ومذاهب السلف فذاك عُشه الذي مِنه دَرَج، وغابُه الذي ألفه لَيْثُه الخادر ودخل وخرج. وكان جريء الجنان ثابت الجأش لا يُقَعقع له بالشنان، وله إقدام وتمكن أقدام، وحظّه موفور" (¬1)، وقال عنه أيضًا: "وأكب على الطلب، وصنَّف، وصار من الأئمة الكبار في علم التفسير والحديث والأصول، فقهًا وكلامًا والفروع والعربية" (¬2). وقال ابن حجر: "وكان جريء الجنان (¬3)، واسع العلم، عارفًا بالخلاف، ومذاهب السلف" (¬4)، وقال الشوكاني: "برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحّر في معرفة مذاهب السلف" ونعته بـ "العلامة الكبير المجتهد المطلق" (¬5). وقال ابن رجب: "وتفقه في المذهب وأفتى وبرع وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيهما المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه لا يلحق في ذلك وبالفقه وأصوله وبالعربية وله فيها اليد الطولى وبعلم الكلام والنحو وغير ذلك من كلام أهل ¬

_ (¬1) "الوافي بالوفيات" (2/ 196). (¬2) "أعيان العصر" (4/ 367 - 368). (¬3) نعت الذهبيُّ في "المعجم المختص" (ص 269) ابن القيم بقوله: "جريء على الأمور، غفر اللَّه له"! فتعقبه الشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 143 - 144) بقوله: "قلت: بل كان متقيّدًا بالأدلة الصحيحة، معجبًا بالعمل بها، غير معوّل على الرأي، صادعًا بالحق، لا يحابي فيه أحدًا، ونعمت الجرأة". (¬4) "الدرر الكامنة" (3/ 401) و"أبجد العلوم" (3/ 139). (¬5) "البدر الطالع" (2/ 143).

جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب

التصوف وإشاراتهم ودقائقهم له في كل فن من الفنون اليد الطولى والمعرفة الشاملة" (¬1)، ونقله صديق حسن خان وزاد: "وكان عالمًا بالملل والنحل، ومذاهب أهل الدنيا علمًا أتقن وأشمل من أصحابها" (¬2). وقد أقر كبار العلماء من المفسرين والمحدثين والمحققين البارزين والأتقياء الصالحين سلفًا وخلفًا بفضل شيخ الإسلام ابن القيم ونبوغه وتفوقه وعبقريته في الذكاء وسعة الاطلاع والذاكرة الحادة ودقة النظر وقوة الاستنباط وملكة الاجتهاد وبما فيه من دواعي الإصلاح والتجديد والاجتهاد وأدواته وحرية الفكر والعمل وإصابة الرأي واتباع الكتاب والسنة والتمسك بهما والاعتماد عليهما وغيرها من الخصائص والميزات، كما اعترفوا بزهده وورعه وتقواه وتفانيه في اللَّه وإخلاصه وغيرته على دين اللَّه والحمية الدينية، وأشادوا بخدماقه ووجهوا تحية تقدير واحترام إليه. الثاني: قرأ المصنف على مجموعة من الشيوخ كتبًا فقهية وأصولية مهمة، استفاد منها في كتابنا، فقرأ -مثلًا- "المقنع" و"مختصر الخرقي" على الشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، وأخذ الفرائض أولًا عن والده، وكان له فيها يد، ثم اشتغل على إسماعيل المذكور، وقرأ عليه أكثر "الروضة" لابن قدامة، وقرأ على ابن تيمية قطعة من "المحرر"، وقطعة من "المحصول" ومن كتاب "الأحكام" للآمدي، وعلى الصفي الهندي أكثر "الأربعين" و"المحصل" وقرأ قطعة من الكتابين على ابن تيمية أيضًا، وكثيرًا من تصانيفه (¬3). * جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب: الثالث: قامت محاولات في التعريف بموضوع الكتاب من قبل العلماء والمطّلعين (¬4)، وعلى رأسهم: الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، -رحمه اللَّه ¬

_ (¬1) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 448). (¬2) "أبجد العلوم" (3/ 139). (¬3) "أعيان العصر" (4/ 366 - 367)، و"الوافي بالوفيات" (2/ 195)، و"الدرر الكامنة" (3/ 400 - 401)، و"البدر الطالع" (2/ 143)، و"أبجد العلوم" (3/ 139)، وانظر ما سيأتي عن مصادر المصنف. (¬4) حصر صاحب "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين" (ص 87 - 89) موضوع الكتاب في الفتيا، فقال بعد كلام: "وبعد هذا العرض المفصَّل لأهم فصول الكتاب يظهر لنا جليًا موضوعه، فهو يتناول أصول الفتيا وأدواتها وشروطها، وآداب =

تعالى- وسيأتي كلامُه تحت (الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه) تحت وصف (النسخة الثالثة) المرموز لها بـ (ن)، إذ أثبت ناسخها كلامًا مجملًا حسنًا له في ذلك. ومن بين هؤلاء صاحب كتاب "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة"، قال عنه (ص 40): "ليس خاصًا في أصول الفقه، إلا أن معظم مباحثه تتعلق بالأصول"، وقال (ص 41 - 42): "أما كتاب "إعلام الموقعين" فقد ذَكَرَ فيه ابن القيم مباحث أصولية مهمة أفاض الكلام عليها. فمن هذه المباحث: القياس، الاستصحاب، التقليد، الزيادة على النص، قول الصحابي، الفتوى، دلالة الألفاظ على الظاهر، سد الذرائع وتحريم الحيل، ليس في الشريعة ما يخالف القياس. وهناك مباحث أخرى نفيسة ازدان بها هذا الكتاب. فمن ذلك: * ذكر أئمة الفتيا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. * شرح خطاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء. * أنواع الرأي المحمود والمذموم. * مسائل في الطلاق والأيمان. * فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيدة وفي الأبواب الفقهية. * أمثلة على الحيل المباحة والباطلة. * أمثلة على رد المحكم بالمتشابه. * أمثلة على رد السنن بظاهر القرآن. وقد امتاز هذا الكتاب بكثرة الأمثلة الفقهية على عدد من المسائل الأصولية، وامتاز أيضًا ببيان حكمة التشريع ومقاصد الشريعة، إضافة إلى حسن البيان وجمال الأسلوب، كما أن الكتاب جامعٌ لكثير من الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والتابعين، وفيه نُقُولٌ مطوَّلة مهمة عن بعض الأئمة. فهو بذلك غاية في منهج أهل السنة والجماعة وعمدة في بيان طريقة السلف. ¬

_ = المفتي والمستفتي، وطبقات المفتين، وتحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرأي المخالف للنصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص"! قلت: والكتاب أوسع من ذلك، فهذه المباحث -كما تقدم معنا- هي مطالع وخواتيم الكتاب فحسب، واللَّه الهادي.

والكتاب يحتاج إلى تخريج آثاره وفهرسة مباحثه ومطالبه، وحقيقٌ بدراسة تبرز محاسنه وتُفْصح عن منهج مؤلفه ومصادره فيه ومقاصده منه. قلت: ستأتي (ميزات) كتابنا هذا بالتفصيل، وأرجو أن أكون قد قمت بما يحتاجه هذا الكتاب من خدمة لائقة به، واللَّه الموفق للخيرات، والهادي للصالحات. وللشيخ محمد رشيد رضا كلمة جامعة في التعريف بالكتاب، قال رحمه اللَّه تعالى: "لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى، وما يتعلق بذلك، كبيان الرأي الصحيح والفاسد، والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء الإسلام" (¬1). ووجدت مقالة بعنوان: "ابن القيم وإعلام الموقعين" (¬2)، للكطيف أحمد، استعرض فيه بعض مباحث "الأعلام" وهذا نصه كلامه: "بعد تقديم خطبة الكتاب، بدأ المؤلف بإبراز ما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون المسلمون، وهو "العلم النافع، والعمل الصالح" اللذان لا سعادة للعبد إلَّا بهما، واللذان بسببهما انقسم الناس إلى: مرحوم ومحروم، ولما كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا كان أفضل العلوم هو التوحيد، ولا سبيل إلى اقتباسه إلَّا من حياض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي يكون التلقي منه على نوعين: بواسطة، وبدون واسطة، فالذين تلقوا عنه بلا واسطة هم أصحابه رضوان اللَّه عليهم، والذين يجب ألَّا يحيد عن طريقهم من يختار نهج اللَّه. . والذين تلقوا عنه بواسطة هم الفقهاء. بعد ذلك قدم المؤلف جملة فصول كل منها يتناول قضية من القضايا الإسلامية التي يجب على المسلم الاطلاع عليها، منها: كلام التابعين في الرأي -كلام السلف- آراء في الرأي المحمود -الصلح جائز بين المسلمين. . بيان أهل الهدى وأهل الضلالة- بيان أسرار آيات القرآن. . وسوف أركز على فصل في الجزء الثاني خاص بالتقليد والمقلدين". ¬

_ (¬1) مجلة "المنار" عدد شوال، 1327 - (ص 786) (المجلد 12). (¬2) منشورة في مجلة "الأمة" القطرية، عدد جمادى الآخرة سنة 1402 هـ، العدد الثامن عشر، السنة الثانية (ص 72 - 73).

ثم قال تحت عنوان: (بطلان التقليد): "ركز ابن القيم تركيزًا كبيرًا على عدة مسائل منها: محاربة التقليد، ومنع الحيل في الأحكام. . وقد واجه القضية الأولى مواجهة علمية فذة، وبحثها بحثًا مستفيضًا لم يسبقه إليه أحد من فقهاء المذاهب جميعًا، إذ عقد في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فصلًا مطولًا بلغ أكثر من سبعين صفحة، وساق إحدى وثمانين حجة من المنقول والمعقول في تأييد ما ذهب إليه من بطلان التقليد، وخلص إلى القول بأن التقليد الذي يحرم القول فيه والإفتاء به ثلاثة أنواع: - الإعراض عما أنزل اللَّه، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء. - تقليد من لا يعلم المقلِّد أنه أهل لأن يُؤْخَذَ بقوله. - التقليد بعدم قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلِّد. وقد ذم اللَّه سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه. فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والتقليد ليس بعلم. وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} [الأحزاب: 67]. وما دام التقليد بكل أنواعه باطلًا، فيبقى التسليم والرجوع إلى الأصول وهي: الكتاب والسنة وما كان في معناهما. . والابتعاد عن التأويلات التي لا تستند إلى أي أثر، لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لا أخاف على أمتي من بعدي، إلَّا من أعمال ثلاثة؛ قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: أخاف عليهم زلة عالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع". وقد جمع المصنفون في السُّنَّة بين فساد التقليد وإبطاله، وبين زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزلّ ولا بد، إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، ويُنَزَّلُ قوله منزلة قول المعصوم -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير عن أبيه عن جده مرفوعًا: "اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيأته". . وقال عبد اللَّه بن المعتز:

"لا فرق بين بهيمة تنقاد، وبين إنسان يقلد". وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة، فقال الشافعي: "مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري" ذكره البيهقي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "لا يحل لأحدٍ أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه". وهكذا سلك الإمام ابن القيم في طرحه لإشكالية التقليد منهجًا علميًا، إذ قدم المعطيات كما هي، متحليًا بما يجب أن يكون عليه العالم الحقيقي، المزود بثقافة شمولية واستقلال في الرأي من تجرد، ثم ناقش كل واحدة على حدة، مستدرجًا محاوريه إلى الاقتناع بوجهة نظره، والتسليم ببطلان الجمود الفكري، بل بتناقض المقلدين فيما يأتون به من حجج، حيث يصورهم (خشبًا مسندة) ليس لها شخصية، بل هي ظلال لغيرها، تجتر الأفكار، وتسلك النهج السهل، بل تتجرأ -من حيث لا تدري- فتخالف أمر اللَّه وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، فاللَّه أمر برد ما تنازع عليه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نردُّه إلى من قلَّدناه. وقد ورد عن الرسول الكريم -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا" وهو ذم للمختلفين، وتحذير من سلوك سبيلهم .. وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله؛ وهم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعًا". ثم ختم مقاله بعنوان (دروس من ابن القيم) قال فيه: "من هذه القراءة السريعة يمكن أخذ الدروس الآتية من الإمام ابن قيم الجوزية وهي: - الإسلام ضد التقليد الأعمى. - تراثنا الإسلامي نابض بالحياة، وقابل للأخذ والعطاء. - يجب محاصرة الخلاف، والدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي. - يجب التجنيد في سبيل الدعوة الإسلامية قولًا وعملًا. - الدفاع عن قضايانا بطرق تربوية مرنة بعيدًا عن كل تشنج وعصبية. - الرجوع بالأمة الإسلامية إلى الصفاء الروحي الأول: القرآن، والسنة، مقتدين بمعاذ بن جبل حين سأله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن: "كيف تصنع إن

عرض عليك قضاء؟ " قال: أقضي بما في كتاب اللَّه. قال: "فإن لم يكن في كتاب اللَّه؟ " قال: فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: "فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه؟ " قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صدري ثم قال: "الحمد للَّه الذي وفق رسول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما يرضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". فلنحاول أن نسلك هذا النهج القويم، وأن نرضي اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، مبتعدين عن الخلافات والشبهات، مرددين قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] " انتهى كلامه (¬1). ثم ظفرتُ بكلمة لسعاد مسلَّم حماد في أطروحتها الماجستير "منهج ابن القيم في دراسة الأديان" (¬2)، عرفت بكتابنا هذا بقولها: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" مجلدان في أربعة أجزاء تناول ابن القيم في هذا الكتاب الأصول التي يجب أن يعتمد عليها المسلمون في فتواهم، وطريقة الصحابة في الإفتاء، ثم تناول الشروط الواجبة فيمن يبلِّغ عن اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثم تناول الأصول التي أقام عليها الأئمة فتواهم وطريقتهم في الإفتاء، كذلك تناول كل أصل من أصول الإفتاء بالتفصيل، وتناول مسائل فقهية تناولها لأئمة المسلمين من قبله، وبين فيها أحكامهم من خلال ما اعتمدوا عليه من كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. من هذه المسائل: الزواج والطلاق والطهارة والحج والميراث والزكاة والأيمان والبيوع. ثم ذكر فتاوى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيدة وكل الأمور التي تهم المسلمين في حياتهم. ويعتبر هذا الكتاب من المؤلّفات الثرية بآراء ابن القيم في الفتوى والاجتهاد ويتضح فيه منهجه الذي يسير عليه، ويدعو إليه جميع المسلمين خاصة من يقوم بالإفتاء إلى أن يجعل كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- هما الأساس الذي يجب أن يعتمد عليه، وبالإضافة إلى ذكره لمذاهب أئمة المسلمين الذين ساروا على نهج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته. ¬

_ (¬1) عليه مؤاخذات. وهو تعريف ضعيف، بعيد عن لغة العلم. وفيه ظلم لمادة الكتاب! (¬2) المقدَّمة إلى جامعة عين شمس، قسم الدراسات الفلسفية، كلية البنات (ص 16).

وقد وضح الإمام ابن القيم شروطًا لمن يبلغ عن اللَّه ورسوله منها: العلم والصدق، لأنه لا تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق وحسن طريقة عرض السيرة، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق. وأول من تحققت فيه هذه الشروط هو: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان الهدف من هذا الكتاب عند ابن القيم هو التأويل الصحيح لأحكام اللَّه بناءً على النصوص من كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وفتاوى الصحابة، والخبر المتواتر ثم القياس للضرورة، وبين خطر التقليد والقول بالرأي القائم على الهوى دون اعتماد على كتاب اللَّه وسنة رسوله". ومن الكلمات الجوامع في التعريف بهذا الكتاب ما قاله الدكتور صبحي محمصاني في كتابه "المجاهدون في الحق" (¬1) عند ذكره ابن القيم، قال بعد كلام: "المهم أن نشير إلى اجتهاد ابن القيم في مسائل المعاملات الشرعية، وإلى نواحي التجدد في اجتهاده. ونحن نرى أنه كان من طبقة المجتهدين في المذهب الحنبلي، ونرى أنه برهن في ذلك على نظر ثاقب، وتفكير صائب. فاعتمد على روح الشريعة الحقيقية، وعلى حكمتها العادلة. فقال في بعض المسائل أقوالًا جريئة، لم يقل بها أحد قبله ولا بعده من الفقهاء المسلمين. وتوسع في مسائل أخرى توسعًا، يدل على مرونة الشريعة، وعلى مسايرتها للتطور والمدنية. فوصل بالنتيجة إلى تحليلات ونظريات، شبيهة بالنظريات القانونية العصرية. ونحن لا نرى مجالًا لإيضاح جميع نظرياته وآرائه الفقهية. إنما نكتفي، على سبيل المثال، بتلخيص ما قاله في بعض المسائل المهمة الحساسة، لأجل تبيين النهج العلمي، الذي اتبعه، والنحو العادل الذي انتحاه، ولأجل إثبات أن ما وصل إليه هذا الفقيه المجدد في بعض المسائل، وهو من اتباع المذهب الحنبلي الذي اشتهر بالمحافظة الشديدة، لم يصل إليه اتباع مدرسة أهل الرأي ولا مؤسسها الإمام الأعظم. وأهم المسائل التي أرى تلخيصها في هذا المعرض هي: محاربة التقليد والجمود، واعتماد القصد في التصرفات، وحرية التعاقد، ومنع الحيل في الأحكام، وإحياء أعمال الفضولي المحسن، والمحافظة على حقوق الغرماء، والتوسع في قواعد البينات. وإني أعتمد في هذا التلخيص، بوجه خاص، على كتاب "إعلام الموقعين"". ¬

_ (¬1) (ص 170 - 171، 191 - 192).

ثم تكلم على هذه المسائل بإفاضة وتفصيل، وقال تحت عنوان (الخلاصة): "نحن نستبين مما تقدم أن ابن قيم الجوزية لم يكن من الفقهاء العاديين. بل كان من النوابغ، الذين نظروا إلى الشريعة الإسلامية على حقيقتها، والذين تحروا عن مقاصدها وغاياتها، وتمسكوا بها غير مبالين بما قاله غيرهم. وعلى هذا حارب ابن القيم التقليد الأعمى، والجمود والخرافات الشكلية، والتفصيلات الآرائية، ودقق في الاجتهاد. فاعتبر المقاصد أساسًا للحكم في تصرفات الناس ومعاملاتهم، وأفتى بتحريم التحيل على الشرع، وتوسع في أصول المحاكمات وطرق البينات. فتوصل بذلك كله إلى نظريات عصرية، كنظرية المنفعة في أعمال الفضولي، ومبدأ حرية التعاقد، ومبدأ تقدير قيمة الشهادات، وعدم تجزئة الإقرار، وفسخ عقود المديون المضرة، ومبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان والأمكنة والأحوال، وما شابه من النظريات والمبادئ، التي لا نراها اليوم إلا في أحدث الشرائع. وذلك كله في زمن سابق لها بعدة قرون. وما هذا كله إلا دليل من الأدلة الكثيرة، على أن الشريعة الإسلامية تحوي من الأسس القويمة، ما جعلها تماشي المدنية في الماضي، وما يجعلها اليوم قابلة لأن تساير كل تطور في الحاضر والمستقبل. وإذا كان الأمر على عكس ذلك، في وقت من الأوقات، فلم يكن مرده إلا إلى جمود بعض المتأخرين، وإلى تقصيرهم في تفهم معاني الشريعة الحقيقية، كما يجب أن تفهم، وكما فهمها أمثال شمس الدين أبي عبد اللَّه ابن قيم الجوزية". قال أبو عبيدة: نستطيع أن نقرر بكل أريحية من خلال العرض السابق: أن لابن القيم في كتابه هذا اختيارات أصولية وفقهية كثيرة، تدل على اطلاع غزير، وأفق واسع، وإدراك لمصالح الناس، ولبّ الفقه والشريعة، وهو بهذا مصلح ومجدد (¬1)، ورحم اللَّه صديق حسن خان لما قال عنه وعن شيخه ابن تيمية: "وقد جدد اللَّه بهما الدين الحنيف، والأعمال القيمة العظيمة التي قام بها ¬

_ (¬1) ترجم الأستاذ عبد المتعال الصَّعيدي في كتابه "المجددون في الإسلام" (ص 229 - 232) للإمام ابن القيم، وأخذ عليه أنه حارب علم الفلسفة: ولم يظهر -كعادته في كتابه- أوجه التجديد الحقيقية عند ابن القيم، وغمز فيه بما حقّه المدح، وليس هذا موطن البسط، وتكفي هذه الإشارة للمعتنين بعلم السلف ومنهجهم، واللَّه الهادي والواقي.

الشيخان لم يعهد مثلها لا من السلف ولا من الخلف، وقد شحنت الكتب والدواوين والسجلات والوثائق التاريخية وكتب السير من ذكر مآثر هؤلاء" (¬1). ولا يمكن لأحدٍ ينظر في كتابنا هذا، أن ينكر الجهود التي بذلها ابن القيم في خدمة الفقه، ومنزلته الرفيعة في ذلك، ودقة فهمه، وحدة ذهنه، وسعة معرفته، بل نستطيع أن نقرر من خلال كتابنا هذا أنه رحمه اللَّه أحيا مدرسة الحديث والسنة في عصره، وأحيا الاجتهاد، والرجوع إلى النصوص الشرعية، وتحكيم الدليل، فلم يكتف بالهجوم على التقليد المتعصب فحسب، بل زاول الاجتهاد، ورجّح المسائل غير مكترث لمخالفة الكثرة مستعملًا أصول السلف فلم يخترع للمسائل التي اجتهد فيها أصولًا جديدة، بل استطاع أن يطبق أصول السلف وينزع عنها أحكامًا للقضايا المستجدة، ويمكن أن نردد مع مالك بن نبي قوله عنه وعن شيخه ابن تيمية: "قدما الترسانة (!!) الفكرية التي استمدت منها كل الحركات الإسلامية التي جاءت بعده". ¬

_ (¬1) "حجج الكرامة في آثار القيامة" (ص 136 - 137).

مصادر المصنف وموارده في كتابه هذا

مصادر المصنف وموارده في كتابه هذا * توطئة: الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى- واسع الاطلاع: "شديد المحبّة للعلم وكتابته ومطالعته، وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما" (¬1) "لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف" (¬2). قال صلاح الدين الصفدي عنه: "ما جمع أحد من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك، ولما مات شيخنا فتح الدين اشترى من كتبه أمهات وأصولًا كبارًا جيّدة، وكان عنده من كل شيء في غير ما فنّ ولا مذهب بكل كتاب نسخٌ عديدة، منها ما هو جيد نظيف، وغالبها من الكرندات، وأقام أولاده شهورًا يبيعون منها غير ما اصطفوه لأنفسهم" (¬3). وقال ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى- عنه: "وكان مغرى بجمع الكتب، فحصّل منها ما لا يحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلًا، سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم" (¬4)؛ ومنعم النظر في كتابنا هذا، يجد مصداق هذا النقل، ومما ينبغي ذكره هنا: أولًا: إن ابن القيم نقل من كثير من الكتب بواسطة. ثانيًا: إن ابن القيم نقل أقوالًا ونصوصًا من كتب، لم يصرح بأسماء عناوينها. ثالثًا: إن ابن القيم نقل من بعض المصادر وأكثر من ذلك، ونقل من مصادر أخرى، ولم يكثر. ¬

_ (¬1) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 449) لابن رجب. (¬2) "البداية والنهاية" (14/ 246) لابن كثير. (¬3) "أعيان العصر" (4/ 368). (¬4) "الدرر الكامنة" (4/ 22) لابن حجر، وعنه الشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 144).

كتب البيهقي

رابعًا: أكثر ابن القيم النقل عن شيخه ابن تيمية فيما شافهه فيه، ومن كثير من كتبه (¬1). خامسًا: للمصنف منهج علمي في النقل، فجل النقولات معزوة إما لأصحابها (وهو الغالب) وإما لأسماء مؤلّفيها، وفي بعض الأحايين ينقل من غير عزو. سادسًا: للوقوف على مصادره في النقل فوائد عظيمة، أهمها: أن ذلك يفيد كثيرًا في ضبط النص، والوقوف على اللفظ بعينه عند التخريج، وكشف الخطأ والوهم الذي يمكن أن يقع فيه الناقل. وظفرتُ من هذا النوع الأخير على أشياء مهمة، مثل: * كتب البيهقي: تبيَّن لي أن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- يكثر من النقل من "الخلافيات" (¬2) للبيهقي، -ولم يسمه (¬3) - ويورد كثيرًا من النصوص (الأحاديث والآثار وكلام أئمة الجرح والتعديل) منه، ومن بين ما نقل منه، قوله: "وقد قال الدارقطني: "كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة، ويقول:. . . " وهذا القول في "الخلافيات" وغيره لعمرو -بفتح العين لا ضمها- ابن علي وهو الفلاس، فتحرفت في نسخة المصنف إلى "عمر بن علي" فظنها المصنف للدارقطني! انظر (3/ 299). ووقع سقط في جميع طبعات "الإعلام" أثبتناه منه، انظر -مثلًا- (3/ 300). وهنالك نصوص جهدتُ في البحث عنها، فلم أجدها مسندة إلا فيه: انظر -مثلًا- (3/ 194، 195). والأدلة على نقل المصنف من "الخلافيات" كثيرة جدًا، وتكاد النصوص التي يسردها في الاحتجاج في كثير من المسائل لا تخرج عما فيه، وإن كان بعضها في "الصحيحين" أو أحدهما، فالمصنف ينقل بفهم وحذق، وعلم ودراية، ¬

_ (¬1) انظر ما سيأتي تحت عنوان: (بين المصنف وشيخه ابن تيمية)، فهناك تفصيل هذا الإجمال. (¬2) فرغت من تحقيق أجزاء منه، وطبع ثلاثة منها، يسر اللَّه إتمامه بخير وعافية. (¬3) ولا ذكر له في "موارد ابن القيم في كتبه"!!

كتب الشافعي

وتنقيح وتحقيق، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا نطيل بالسرد وإنما نكتفي بالإحالة على ما يلي: (3/ 188 - 197، 214 - 219، 220 - 223، 225 - 228، 228 - 231، 231 - 239، 273 - 278، 284، 293 - 294، 295، 299 - 301، 301 - 302، 303 - 304)، وغيرها كثير. ومن الكتب التي ينقل منها المصنّف، ويكثر: كتب البيهقي الأخرى غير "الخلافيات"، مثل: "السنن الكبرى"، وقد صرح باسمه في ستة مواضع من كتابه هذا، هي (1/ 70، 71 و 3/ 181، 199 و 4/ 458، 479)، ونقل منه في مواطن عديدة جدًا غير هذه المواطن، وصرح فقط بعزو الكلام للبيهقي، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 70، 71، 240، 241، و 3/ 142، 173، 181، 276، 438، و 4/ 458، 460، 479، 481). ونقل أيضًا من كتابه "معرفة السنن والآثار" إذ وجدتُ أقوالًا معزوة للبيهقي، وهي بالحرف في "المعرفة"، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 142، 173، 274، 392 - 394، 507، و 4/ 193). ونقل أيضًا من كتابه "المدخل إلى السنن الكبرى"، وسماه في مواطن من كتابه هذا، هي: (3/ 41، 43 و 4/ 551)، ونقل كثيرًا من أقوال الشافعي وأحواله بواسطته، ووقع النقل منه دون تسمية في مواطن، منها: (2/ 469، 470، 3/ 41 - 42، 43، 47 و 4/ 389، 552 - 553) وغيرها. ونقل أيضًا من كتابه "مناقب الشافعي" وصرح باسمه في (5/ 1185، وكان قد نقل منه -قبل- في مواطن أخرى، مثل (1/ 150 و 3/ 40، 45، 46، 47، 49، 51، 52، 73). * كتب الشافعي: والملاحظ أن المصنف ينقل عن الشافعي (من كتبه وكتب أصحابه، ومذهبه، وكتب تراجمه وتراجم علماء المذهب) كثيرًا، وهاك التفصيل: صرح المصنّف بالنقل من مجموعة من كتب الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رضي اللَّه عنه-، هي: 1 - "إبطال الاستحسان" (¬1)، ونقل خطبته برمتها في (3/ 52) وصرح باسمه. ¬

_ (¬1) مطبوع في هوامش الجزء السابع من كتاب "الأم" (ص 267 وما بعد) وفي "موسوعة الإمام الشافعي" (10/ 107 - 138).

2 - "الاختلاف مع الإمام مالك" (¬1)، نقل منه مرات، وصرح باسمه في (2/ 560 و 3/ 42 و 4/ 551). 3 - "الرسالة" (¬2) وذكرها بأكثر من عنوان، فتارة هكذا: "الرسالة" كما في (5/ 185)، وتارة بـ "الرسالة البغدادية" كما في (1/ 150) وقال عنها: "التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني"، وتارة كما في (3/ 5): "الرسالة القديمة"، وتارة كما في (3/ 51): "الكتاب القديم" "رواية الزعفراني". ومن الجدير بالذكر هنا أن "رسالة الشافعي" القديمة العراقية (¬3)، لم تصل إلينا كاملة، ولكن نقولات ابن القيم تدلل على أنها كانت موجودة في القرن الثامن الهجري، اللهم إلا إذا كانت نقولاته بواسطة مَنْ قبله، وهذا هو الغالب على الظن، إذ وجدتُ النُّقولاتِ التي عزاها له موجودة بالحرف في "مناقب الشافعي" للبيهقي، قارن ما في هنا (1/ 150) بما في "مناقب الشافعي" (1/ 442)، وما في هنا (3/ 51) بما في "المناقب" (1/ 485). وأما "رسالته" الجديدة، فقد وضعها في مصر بعد أن قدم إليها، واستقر فيها، وبعد أن ظهرت له حقائق علمية مهمة، اضطرته إلى إعادة تأليفها، والتعديل في أبوابها، والتغيير في أحكامها، ويبدو أنه قد ألفها من حفظه، إذ لم تكن كتبه كلها معه حينما ارتحل إلى مصر، وقد جاء فيها ما يدل على ذلك، قال: "وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرتُ خوف طول الكتاب، فأتيتُ ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصِّي العلم في كل أمره" (¬4). وقد أملاها الشافعي على كبار أصحابه المصريين، وعلى رأسهم الربيع بن سليمان المرادي، وقد رواها الناس عنه وعن غيره، وهذه "الرسالة" المصرية وصلت إلينا كاملة، وهي المطبوعة. ¬

_ (¬1) مطبوع في الجزء السابع من كتاب "الأم" (ص 277 وما بعد) وفي "موسوعة الإمام الشافعي" (9/ 341 - 614). (¬2) طبع أكثر من مرة، أحسنها بتحقيق وشرح وتعليق العلامة أحمد شاكر رحمه اللَّه تعالى. (¬3) يرى بعضهم أن الشافعي ألف كتابه "الرسالة القديمة" وهو في مكة، ويميل إلى هذا القول أحمد شاكر في مقدمة "الرسالة" (10 - 11) وعبد الغني الدقر في كتابه "الشافعي فقيه السنة الأكبر" (ص 107، 210 - 211)، والذي أراه أنه ألف "الرسالة" في بغداد، وللتفصيل مقام آخر. (¬4) "الرسالة" (ص 11، 12 - ط شاكر).

ونَقْلُ المصنِّف من "الرسالة" كثير، إذ وقع له منها نقولات واكتفى بعزوها لصاحبها، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 53 و 2/ 565 و 3/ 38، 39، 40 و 4/ 551). ووقع في (5/ 100) ذكر لـ"شرح الرسالة" للجويني، ولا نعرف الآن شيئًا عن شروح لهذا الكتاب العظيم، وتصريح المصنف لا يدل على وجود هذا الشرح في زمانه، إذ النقل منه -كما صرح هو به- إنما وقع بواسطة ابن الصلاح. 4 - "الأم" (¬1) نقل منه كثيرًا، وسمّاه في موطن واحد، هو (2/ 489) وقال: "في رواية الربيع" وذكر في (1/ 151) رواية الربيع عن الشافعي، ولم يسمّ كتابًا. ونقْلُ المصنف منه كثير، انظر -على سبيل المثال-: 1/ 150 و 2/ 210 و 3/ 45، 49، 51، 73، 173، 277، 430 و 4/ 193). ومما يجدر ذكره أن المصنف نقل من هذا الكتاب في عدة مواضع، وسمّاه "الكتاب الجديد"، قال في (1/ 150): "قال الشافعي في "الجديد" في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة" وساق ما في "الأم" (4/ 85)، ونقل في (2/ 482) عدة نصوص عن الشافعي، وقال في آخرها: "وقد قال -أي الشافعي- في موضع آخر من "كتابه الجديد". . . ". وقال في (4/ 551): "وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه. . . ". 5 - "المسند" (¬2). ¬

_ (¬1) هو مطبوع مرات عديدة، وحاول بعضهم التشكيك في صحة نسبته لمصنِّفه، فطبع كتابًا مفردًا في ذلك، لم يأت فيه ببرهان ولا حجة، انظر: تفنيد هذه الشبهة في كتابي "كتب حذر منها العلماء" (2/ 348 - 361)، ورواية أبي علي الحسن بن حبيب الحصائري الدمشقي (ت 338 هـ) لـ "الأم"، عن الربيع هي المشهورة، على تلاحق الأقلام فيها. وأما الكتاب المطبوع، ففيه خلط رواية الحصائري مع "ترتيب الأم" للسراج البُلْقيني (ت 805 هـ) خلطًا فظيعًا، بإزالة الحواجز، وتكرير البحوث، حتى تجد في صلب الكتاب ذكر أقوال المزني والبويطي وأبي حامد الإسفراييني وأبي الطيب الطبري وأبي الحسن الماوردي وابن الصباغ ومن بعدهم، كما في (1/ 114، 158) وغيرهما، فأزال الطابع الانتفاع بالكتاب بما فعل، فالواجب إعادة طبعه من أصل وثيق. (¬2) قال الرازي في "مناقب الشافعي" (ص 83) عنه: (كتاب مشهور في الدنيا، ولم يقدر أحد على الطعن فيه" وذكره له الشيخ محمد الخضري في كتابه "تاريخ التشريع الإسلامي" =

كتب الشافعية

ووجدتُ نقولات عديدة في كتابنا هذا من "المسند" للإمام الشافعي، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 238 - 239 و 2/ 387 و 3/ 38، 42، 49، 203، 204 - 205، 507 و 4/ 322 و 5/ 273، 323) ولعل بعض هذه النقولات وقعت له بواسطة البيهقي، ولم يصرح المصنف باسمه. * كتب الشافعية: ولم يقتصر نَقلُ المصنف على كتب الإمام الشافعي، وإنما تعداه إلى أصحابه، فنقل -مثلًا- من: - "مختصر المزني" (¬1)، وصرح باسمه في (2/ 469)، ونقل منه في (1/ 47، 222، 359، و 2/ 103، 462 و 4/ 204، 206، 208، 334، 454 و 5/ 126). ¬

_ = (ص 311) وزعم أنه "ما خرجه من الأحاديث في كتاب "الأم""!! والصواب أنه ليس من تأليفه، وإنما جمعه من سماعات الأصم بعض أصحابه، ولذلك لا يستوعب حديث الشافعي، فإنه مقصور على ما كان عند الأصم من حديثه، قاله النووي في "طبقات الشافعية" في ترجمة (محمد بن يعقوب، أبي العباس النيسابوري الأصم، ت 346 هـ)، وقال أحمد بن عبد الرحمن البنا في "بدائع المنن" (ص 3) بعد كلام: "التحقيق أن هذا "المسند" جمعه أبو العباس الأصم من كتب الإمام الشافعي"، وبيَّن الذهبي سبب هذا الجمع، فقال في "السير" (12/ 589) في ترجمة (الربيع بن سليمان): "وقد سمعنا من طريقه "المسند" للشافعي، انتقاه أبو العباس الأصم من كتاب "الأم" لينشط لروايته للرَّحالة، وإلا فالشافعي رحمه اللَّه لم يؤلف مسندًا". قال أبو عبيدة: لا تعارض بين الأقوال المذكورة -أعني قول النووي: "جمعه من سماعات الأصم بعض أصحابه"، وأن الأصم الذي جمعه- فإن الأصم أفسد أصوله بعد جمعه، واعتمد على ما انتقاه عنه تلميذه الشيخ الإمام القدوة المحدث أبو عمرو محمد بن جعفر بن محمد بن مطر النيسابوري (ت 360 هـ). و"المسند" يقع في ثمانية أجزاء، كما في "التحبير"، وهو مطبوع مرارًا، وله أكثر من شرح. (¬1) انتشر هذا الكتاب انتشارًا واسعًا، وشرحه عدّة من الكبار، وكان يقال: كانت البكر يكون في جهازها نسخة منه، وكان صاحبُه إذا فرغ من تبييض مسألة، وأودعها في "مختصره" صلى للَّه ركعتين، قال أحمد بن سريج فيه: "يخرج "مختصر المزني" من الدنيا عذراء، لم يفتض، وهو أصل الكتب المصنّفة في مذهب الشافعي، وعلى مثاله رتَّبوا، ولكلامه فسَّروا وشرحوا"، وكان أبو زرعة القاضي شرط لمن حفظه مئة دينار، كذا في "السير" (14/ 233)، وانظر: "وفيات الأعيان" (1/ 17،)، و"طبقات الشافعية الكبرى" (2/ 94)، و"طبقات الشافعية" (21) لابن هداية اللَّه.

ونقل من كثير من كتب الشافعية المتأخرين، مثل: - "شرح التنبيه" وصرح باسمه في (3/ 446) وعزاه لأبي القاسم بن يونس، وصرح به في (4/ 518) قال بعد مسألة: "والوجوه الثلاثة في مذهب الشافعي، حكاها شارح "التنبيه" وغيره". والظاهر أن مراده: أبو القاسم بن يونس السابق، ولكن يا ترى من أبو القاسم هذا؟ وما هو شرحه؟ الشروح على "التنبيه" للشيرازي كثيرة جدًا، ذكر منها أستاذنا محمد عقلة -حفظه اللَّه- في أطروحته للدكتوراه في الأزهر "الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأثره في الفقه" ثمانية وأربعين شرحًا وذكر فيه (1/ 142) من بينها: - "غنية الفقيه في شرح التنبيه" (¬1) لشرف الدين أبي العباس أحمد بن كمال الدين بن يونس الأربلي الموصلي (المتوفى سنة 622 هـ)، فلعله المراد هنا، وإن اختلفت الكنية! إذ هو مذكور في كتب التراجم بـ (أبي الفضل) كما في "التكملة لوفيات النقلة" للمنذري (3/ 145 رقم 2033)، و"السير" (22/ 248) وغيرهما؛ خلافًا للمثبت على النسخ الخطية من "شرحه" هذا (أبو العباس)؛ وخلافًا لما في الأصول الخطية وجميع طبعات كتابنا "الإعلام" (¬2): "أبو القاسم"، ولعل ابن السبكي أهمل لذلك كنيته في "طبقات الشافعية الكبرى" (8/ 39 - 40)، مع عنايته التامة بالشافعية المتأخرين، والتفصيل في ذكر أحوالهم واختياراتهم. وعملتُ جاهدًا في النظر في فهارس المخطوطات لأعثر على شيء يسعف بشأن هذا الكتاب، فلعل هناك ابن يونس آخر شرح "التنبيه"، فلم أفز بشيء، وذكرتُ ما وقفتُ عليه من نسخ (¬3) لهذا الكتاب في التعليق على (3/ 446). ووجدته ينقل أيضًا من: ¬

_ (¬1) يغلب على الظن أن المصنف ينقل مذهب الشافعي والأقوال فيه منه، والأمر يحتاج إلى عرض ذلك عليه، واللَّه الموفق. (¬2) لم يرد لهذا الكتاب ذكر -حسب ما في "موارد ابن القيم في كتبه" (61) - عند ابن القيم إلا في كتابنا هذا و"إغاثة اللهفان"، وأهمل في "الإغاثة" (2/ 91 - ط الفقي و 2/ 122 - ط محمد عفيفي) كنيته، واقتصر على قوله (ابن يونس). (¬3) ثم طبع (الجزء السادس) من "الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط" (الفقه وأصوله) عن (مؤسسة آل البيت/ الأردن) فوجدت فيه (ص 460 - 461) (18) نسخة خطية لهذا الكتاب، وبعضها قد فات في تلك التعليقة، فيتنبه لذلك، واللَّه ولي التوفيق.

- "المهذب" للشيرازي، كما في (4/ 217) ولم يسمّه. - "بحر المذهب" لأبي المحاسن الروياني، صرح به في (5/ 150)، ولكن ضمن كلام عزاه لابن الصلاح، وهو في "أدب المفتي والمستفتي" له، فهو إذًا ينقل منه بواسطة. - "نهاية المطلب في دراية المذهب" (¬1) للجويني، صرح باسمه مختصرًا هكذا "النهاية" في (4/ 454)، ونقل منه دون تصريح في مواطن، منها (4/ 515). - "التتمة" للمتولّي أبو سعد عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري، صرح باسمه والنقل منه في (3/ 467)، وعرَّفْتُ به وبنسخه الخطية في التعليق على نشرتنا هذه. - "الذخائر" كذا ذكره في (4/ 533)، ونقل منه مذهب الحنفية في مسألة من (الأيمان) وهي في (الفصل السادس: في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة) منه، إلا أني رأيته في "زاد المعاد" (5/ 505 - ط مؤسسة الرسالة) يذكره ضمن كتب الشافعية، ولم يسمّ صاحبه؛ وفي "كشف الظنون" (1/ 822): ""الذخائر في فروع الشافعية" (¬2) للقاضي أبي المعالي [علي بن] مجلّي بن جميع المخزومي الشافعي (المتوفى سنة 550)، وهو من الكتب المعتبرة في هذا المذهب" ولم أظفر له -بعد بحث- بأية نسخة خطية. - "فتاوى القفال" ذكره بهذا الاسم في (4/ 228، 517)، وهكذا مذكور في "كشف الظنون" (2/ 1228) دون أيّ إيضاح، ونقل المصنف عن صاحبه في (4/ 543 و 5/ 167) أيضًا، ولم يرد له ذكر (¬3) في كتب المصنف الأخرى! ثم استدركتُ، فقلت: وجدته مذكورًا في "إغاثة اللهفان" (2/ 91 - ط الفقي)، قال: "وأما الشافعية، فقال ابن يونس في "شرح التنبيه". . . " إلى قوله: "وقال القفال في "فتاويه" (¬4). . . " ثم قال: "هذا لفظه" أي: لفظ ابن يونس، واستفدنا ¬

_ (¬1) هو أهم كتب إمام الحرمين الفقهية وأوسعها وأكبرها وأشهرها، وهو كبير جدًا، إذ تقع بعض نسخه الخطية في ستة وعشرين مجلدًا، له نسخ كثيرة في دار الكتب المصرية وفي مكتبات الإسكندرية، وآيا صوفيا، والظاهرية، والأحمدية بحلب، وأحمد الثالث، وغيرها. (¬2) مدحه ابن شاكر الكنبي في "عيون التواريخ" (12/ 495 - ط العراقية) بقوله: "وهو كتاب مبسوط جمع من المذاهب شيئًا كثيرًا، وفيه نقل غريب، ربما لا يوجد في غيره، وهو من الكتب المعتبرة المرغوب فيها". (¬3) حسب ما في "موارد ابن القيم في كتبه" (74/ رقم 317)! (¬4) ونقل الكلام المذكور في كتابنا هذا.

كتب الحنفية

من هذا أمرين: الأول: إن المصنف ينقل منه بواسطة، والآخر: إن الكتاب من كتب الشافعية، وقد صرح المصنف بذلك في (5/ 167). وأخيرًا. . مما يجدر التنبيه عليه أن المصنّف ينقل عن الشافعي، ويفرق بين مذهبه الجديد والقديم، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 550)، ويبيّن غلط العلماء عليه وعلى مذهبه، وزيف ما ادّعاه بعض المتأخرين من أقوال نسبت للشافعي وهو منها بريء، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 80 و 3/ 11 و 4/ 232، 550)، وتعرض لتاريخ وجود الحيل في هذا المذهب وسببه في (4/ 232). وجميع هذا يدل على معرفة المصنف بهذا المذهب على وجه جيد قوي، ويدل أيضًا على معرفة أعلامه وكتب تراجمه، فقد نقل من "طبقات الفقهاء" لأبي إسحاق الشيرازي في (5/ 77) -ولم يسمه- وسماه في (4/ 525): "طبقات أصحاب الشافعي" ونقل من "آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم (5/ 181) -ولم يسمه- وسبق أن قررنا نقله من "مناقب الشافعي" للبيهقي. * كتب الحنفية: ينقل المصنف في كتابه هذا من جملة من كتب الحنفية، وهذا ما وقفت عليه منها: - "الأصل" لمحمد بن الحسن الشيباني، صرح باسمه في (2/ 489) على أنه من الكتب المعتمدة عند الحنفية، ولم أظفر بنقل المصنف منه. - "الجامع الكبير" لمحمد بن الحسن أيضًا، صرح باسمه في (1/ 78). - "المخارج في الحيل" المنسوب (¬1) لمحمد بن الحسن أيضًا، نقل أخبارًا وأقوالًا وأحكامًا هي في مطبوع الكتاب هكذا بالحرف، ولم يسم الكتاب وعزى المصنف بعضها لمحمد بن الحسن، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 117، 118، 119، 120، 122، 413، 414). ¬

_ (¬1) قال ابن أبي العوام سمعت ابن أبي عمران يقول سمعت ابن سماعة يقول: سمعت محمد بن الحسن يقول عن كتاب في المخارج والحيل -كان يتداوله بعض الناس-: "هذا الكتاب ليس من كتبنا، وإنما أُلقي فيها"، قال ابن أبي عمران: إنما وضعه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. انظر: "عمدة القاري" (24/ 109)، و"الميزان" للشعراني (1/ 98 - 99)، و"بلوغ الأماني في سيرة الإمام محمد بن الحسن الشيباني" (ص 83)، و"فلسفة التشريع في الإسلام" (224).

- "المبسوط" للسرخسي، نقل عن صاحبه ولم يسمه في (4/ 423). - "الحيل" للخصاف، نقل منه المصنف وصرح باسمه في (2/ 367 و 4/ 118)، ونقل منه فيما عدا ذلك مرات أيضًا، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 117، 119، 120، 121، 122، 441). - "الذخيرة" نقل منه المصنّف في أكثر من موطن، وسماه، ولم يصرح باسم مؤلّفه، مع "ذكره في سياق مذهب الحنفية" (¬1)، قال في (4/ 493) بعد كلام: "كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة، قال صاحب "الذخيرة" في (كتاب الطلاق) في (الفصل السادس عشر) منه:. . . " وقال في (4/ 496): "قال أصحاب أبي حنيفة -واللفظ لصاحب "الذخيرة"-: .. . . "، وقال في (4/ 517): "قال صاحب "الذخيرة" من الحنفية:. . . " ونقل نصًا طويلًا. فمن هو صاحب هذا الكتاب؟ وما هو خبره؟ وما تتمة اسمه؟ وهل طبع أم لا؟ أقول وباللَّه التوفيق: ذهب بعض المعاصرين (¬2) أنه لابن طاهر! وليس كذلك، فكتاب ابن طاهر: "الذخيرة" ليس في الفقه الحنفي، وإنما هو في ترتيب أحاديث "الكامل في تراجم الضعفاء وعلل الحديث" لابن عدي على الحروف، وهو مطبوع (¬3)، وهو المذكور في "زاد المعاد" (4/ 277 - ط مؤسسة الرسالة)، فهما كتابان لا كتاب واحد! وهذا الكتاب الذي أكثر المصنف النقل عنه، والذي اعتمده في نقل مذهب الحنفية إنما هو -في نظري- "الذخيرة البرهانية" (¬4) أو "ذخيرة الفتاوى" لمحمود بن ¬

_ (¬1) "موارد ابن القيم في كتبه" للشيخ بكر أبو زيد (ص 46). (¬2) هو الأستاذ عبد المجيد جمعة الجزائري في كتابه الجيِّد "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين" (ص 139)، ذكره تحت عنوان (مصادر الكتاب)، وهي عبارة عن جداول فيها أسماء المصنفات على الحروف. وأكثر ابن القيم من النقل عن كتب لم يسمِّها، ففاتت من تكلم عن موارده، بل صرح بعزو أحاديث في كتب هي ليست -على التحقيق- موجودة فيها، فعُدَّت من موارده خطأ، مثل "الغيلانيات"، وسيأتي بيان ذلك، ونقل عن كثير من المصنفات بواسطة غيره، وعدت هذه أيضًا من موارده، وفي هذا ما لا يخفى، واللَّه الموفق والهادي. (¬3) بتحقبق الدكتور عبد الرحمن الفريوائي عن دار السلف بالرياض سنة 1416 هـ. (¬4) جمع فيه مسائل الواقعات، وذكر جواب ظاهر الرواية، وأضاف إليها من واقعات النوادر وأقاويل المشايخ، انظر: "كشف الظنون" (1/ 823)، "المدخل إلى مذهب أبي حنيفة النعمان" (195 - مضروب على الآلة الكاتبة) لأحمد حوى.

الصدر السعيد تاج الدين أحمد بن الصدر الكبير برهان الدين عبد العزيز بن عمر بن مازة (ت 616 هـ) اختصره من كتابه "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (¬1)، وله نسخ خطية عديدة (¬2)، جلها في إستانبول ومصر، والأحمدية بحلب، ثم ظفرتُ بنسخة منه في تشستربتي (¬3) بدبلن في إيرلندا، وتأكّد لي من خلالها أنه مراد المصنف، وهذا البيان: أولًا: نقل المصنف في (4/ 477) نصًا طويلًا، ولم يعزه لأحد، وقال قبله: "وهذا لفظه بل حروفه"، وهو في "الذخيرة البرهانية" (ق 154/ ب). ثانيًا: الفصل السادس عشر من كتاب "الذخيرة" هو في (الاستثناء في الطلاق) والمذكور عند المصنف في (4/ 493) هو فيه بالحرف (ق 104/ ب) أيضًا. ثالثًا: عزى المصنف في (3/ 496) نقلًا له هو فيه (ق 104/ ب) أيضًا بحروفه. رابعًا: عند المصنف في (3/ 517) نقلًا هو فيه (ق 101/ أ). - "شرح القدوري" (¬4) ذكره في معرض ذكره مذهب الحنفية في (4/ 517)، والصحيح أنه نقل منه بواسطة الكتاب السابق "الذخيرة" إذ النص المنقول في كتابنا ¬

_ (¬1) هو كتاب جامع عظيم، ذكر في مقدمته أنه جمع مسائل "المبسوط" و"الجامعين" و"السير" و"الزيادات"، وألحق بها مسائل النوادر والفتاوى والواقعات، وضمّ إليها فوائد استفادها من والده ومشايخ زمانه، وما قيل عنه: أنه غير معتمد، انظر: "الفوائد البهية" (205 - 207)، "المدخل إلى مذهب أبي حنيفة النعمان" (186). (¬2) ذُكر منها في "الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي -الفقه وأصوله-" (4/ 233 - 240) تسعون نسخة خطية، وانظر: "تاريخ بروكلمان" (6/ 303)، "فهرس مخطوطات كوبرلي" (1/ 278)، "فهرس الكتب الموجودة بالمكتبة الأزهرية" (2/ 158 - 159)، "فهرس دار الكتب المصرية" (1/ 421)، "نوادر المخطوطات في مكتبات تركيا" (1/ 168)، "فهرس مكتبة داماد إبراهيم باشا" (48)، مجلة "المورد" العراقية (7/ 1 - 2/ 350)، سنة 1978 م، "الآثار الخطية في المكتبة القادرية" (2/ 52). (¬3) تحت رقم (3867) في (640) ورقة، انظر: "فهرس مكتبتها" (1/ 510). (¬4) لمتن "القدوري" شروح كثيرة، انظر عنه وعن شروحه: "الفوائد البهية" (106 - 107)، "كشف الظنون" (2/ 1631 - 1634)، "المذهب الحنفي" لأحمد النقيب (2/ 464 - 467)، "المدخل إلى مذهب أبي حنيفة النعمان" (183، 220) لأحمد سعيد حوى. والقدوري هو أحمد بن محمد بن أحمد، أبو الحسين البغدادي، انتهت إليه رياسة الحنفية بالعراق (ت 428 هـ)، انظر: "تاج التراجم" (7)، "الفوائد البهية" (30).

كتب المالكية

هذا موجود في "إغاثة اللهفان" بحروفه (2/ 91 - ط الفقي) وقال المصنف فيه عقب الفقرة التي فيها اسم هذا الكتاب: "هذا كله لفظ صاحب "الذخيرة"". ومن الملاحظ جليًا أنّ ذكر الحنفية كثير في الكتاب (¬1)، وأنه اعتنى بمذهبهم، ونقله من كتبهم وأشار إليه من خلال ما في "الخلافيات" للبيهقي (¬2) إذ أفرد فيه المسائل التي وقع فيها خلاف بين (الشافعية) و (الحنفية) خاصة، وأنه اعتنى بالمسائل التي خالفوا فيها الدليل، بـ (نفس فقيه) في عبارات انتصر فيها للحق، وعالج ذلك بالعدل، من غير شطط بل ربما رجح في بعض الأحايين مذهب أبي حنيفة على ما سواه. وأخيرًا. . . فقد نقل المصنف في (4/ 413، 414)، من كتاب سماه "مناقب أبي حنيفة" ولم يعزه لأحد، والموجود فيه مذكور في كتابَيِ الكردري والموفق، وهما مطبوعان. * كتب المالكيّة: لا يقلّ نقل المصنف من كتب المالكية عن سائر نقولاته من المذاهب الأخرى، وقد نقل عن كتب الإمام مالك، وأكثر من ذلك، وهذه أسماء الكتب التي نقل منها: * كتب الإمام مالك: * "الموطأ" (¬3) صرح باسمه مرات، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 131 و 2/ 317، 387، 412، 3/ 287، و 4/ 380، 550)، ونقل المصنف أحاديث وآثارًا وأقوالًا عديدة جدًّا وعزاها لمالك، دون تصريحه بنقلها من كتابه هذا وهي فيه، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 371 و 7/ 312، 387 و 3/ 183، 188، 287 و 4/ 380، 494، 550 و 5/ 264، 303، 537، 557، 560، 563، 601) ولم يقتصر نقل المصنف على "الموطأ" وإنما تعدّاه إلى "شروحاته" وقد صرح ببعضها، وهذا البيان: ¬

_ (¬1) انظر: (فهرس الفرق والجماعات والطوائف): الآرائيون، أصحاب أبي حنيفة، أهل الرأي، أهل العراق، أهل الكوفة، بعض الحنفية، بعض المتأخرين من الحنفية، جمهور الحنفية، جمهور فقهاء الحنفية، جمهور القياسيين، الحنفية، فقهاء العراق، فقهاء الكوفة، القياسيون، مشايخ مذهب أبي حنيفة. (¬2) انظر: ما قررناه بشأن نقل المصنف منه في أول هذا المبحث. (¬3) انظر كلامًا لابن حبان عن منهجه فيه في التعليق على (2/ 388).

شروح "الموطأ"

* شروح "الموطأ": - "التمهيد" لابن عبد البر، صرح باسمه في (2/ 430 و 3/ 288) ووجدتُ نقولاتٍ كثيرة وقعت للمصنف منه، ولم يعزها له، واكتفى بعزوها لابن عبد البر فقط، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 412، 413، 435، و 288/ 3 و 4/ 377). - "الاستذكار" له أيضًا، صرح باسمه في (4/ 237)، ونقل المصنف منه في مواطن ولم يصرح باسمه، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 317 و 3/ 238، 289 (مهم)، 291 (مهم)، 471، 546)، وصرح في (3/ 288) بالنقل من الشرحين السابقين. - "المنتقى" للباجي، نقل منه ولم يصرح باسمه في (3/ 471). * كتب ابن عبد البر الأخرى: أكثر المصنف من النقل من كتب ابن عبد البر، ولم يقتصر نقله من "التمهيد" و"الاستذكار" فحسب، وإنما نقل أيضًا من كتبه التالية: - "جامع بيان العلم" صرح باسمه في مرتين، هما (1/ 66 و 2/ 450) بينما نقل منه وصرح باسم صاحبه دونه مرات عديدة جدًا، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 11، 67، 83، 98، 101، 102، 103، 106، 110، 118، 119، 120، 122، 123، 127، 128، 131، 132، 133، 134، 137، 139، 141، 142، 143، 144، 147، 148، 149، 153، 156، 157، 158، 163، 164، 194، 207، 359، 360، 361، 467، 468، 471، 477، و 2/ 450 - 453، 457، 459 - 465، 467، 479، و 3/ 13 و 4/ 237، 238، 239، 240). - "الانتقاء" نقل منه وصرح باسمه في (4/ 520)، وهو في مناقب الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم اللَّه تعالى. - "الكافي" ناقل منه وصرح باسمه في (4/ 531)، وهو في فروع الفقه المالكي. * كتب المالكية الفقهية الأخرى: نقل المصنّف من كثير من كتب المالكية، والذي وجدتُه من خلال عملي في الكتاب: أنه غالبًا ينقل المذهب والأقوال فيه من كتاب ابن شاس الذي سماه

"الجواهر" (¬1) وصرح باسمه مرتين في (3/ 355 و 4/ 531). وهنالك نصوص كثيرة، وبعضها طويل جدًّا، في كتابنا هذا موجودة بالحرف في مطبوع "الجواهر" هذا، ولم تعز له، ولا لصاحبه، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 225 - 226، 226 و 3/ 459، 469 - 470، 474 - 475، 4/ 380 - 381، 494، 514، 532). ونقل المصنف أيضًا من: "المدونة" (¬2) وصرح باسمه في (2/ 489)، ونقل منه في مواطن، منها (3/ 293، 355)، ونقل عنه بواسطة الكتاب السابق، وعزى الكلام لابن القاسم، فحسب واعتمد ما في هذا الكتاب أيضًا بواسطة "تهذيب المدونة" (¬3) للبراذعي، وصرح باسمه في (1/ 226 و 4/ 380 - 381)، مختصرًا هكذا "التهذيب" ولم يذكر اسم مؤلفه. - "التفريع" لابن الجلاب، نقل منه ولم يسمه في (4/ 405). ونقل أيضًا من: ¬

_ (¬1) وهو مطبوع بعنوان "عقد الجواهر الثمينة في فقه عالم أهل المدينة" وسماه بـ "الجواهر" في جملة من كتبه، مثل "الزاد" (5/ 715، 725 - 726، 794 - ط مؤسسة الرسالة)، و"أحكام أهل الذمة" (3/ 1255 - ط الرمادي)، و"بدائع الفوائد" (1/ 59)، و"الفروسية" (225 - بتحقيقي). (¬2) هي عند أهل الفقه ككتاب سيبويه عند أهل النحو، قاله ابن رشد في "المقدمات" (1/ 44) وهي مصرية المولد، ووجدت في إفريقية وتونس المكانة العظمى في الاعتماد، وفي "ترتيب المدارك" (3/ 299): "هي أصل المذهب، المرجح روايتها على غيرها عند المغاربة، وإياها اختصر مختصروها، وشرح شارحوها، وبها مناظراتهم ومذاكرتهم" وضمت بين دفتيها أكثر سماعات ابن القاسم عن مالك، فقد كان يجيب ابن القاسم عن السؤال بقول مالك ولا يحيد عنه، حتى لو كان بلاغًا بلغه، إلا إذا لم يجد شيئًا فيلجأ إلى رأيه، انظر: "ترتيب المدارك" (3/ 296 - 297)، "اصطلاح المذهب عند المالكية" (98 - 99، 148 - 151). (¬3) قال ابن خلدون في "مقدمته" (245) عنه: "اعتمده المشيخة من أهل إفريقية، وأخذوا به، وتركوا ما سواه"؛ وفي "نفح الطيب" (4/ 172): عنه: "الكتاب المعتمد عليه الآن الذي ينطلق عليه اسم الكتاب عند المالكية حتى الإسكندرية"؛ وفي "الفكر السامي" (2/ 209): "حصل عليه الإقبال شرقًا وغربًا، دراسة، وشرحًا وتعليقًا واختصارًا من أئمة المالكية بالأندلس والمغرب، وتركوا به "المدونة" ومختصراتها"، وفيه (2/ 398): "صار من اصطلاحهم إطلاق "المدونة" عليه"، وقد طبع منه المجلد الأول حتى تاريخ هذه السطور.

- "شرح التلمساني" عليه، وصرح باسمه في (3/ 388 و 4/ 227)، وعرفت بالكتاب والشرح في تعليقي على (3/ 388)، واللَّه الموفق. - "المقدمات الممهدات" لأبي الوليد بن رشد، ونقل منه وصرح باسمه في (4/ 519). - "الفروق" للقرافي، نقل منه نصًا طويلًا ولم يسمه في (3/ 469، 470). - "مختصر أبي مصعب" (¬1) نقل منه، وسماه في (3/ 267). وأبو مصعب هذا هو أحمد بن أبي بكر الزهري (ت 242 هـ) له كتاب "مختصر في قول مالك" مشهور، وصاحبه فقيه أهل المدينة من غير مدافع (¬2). ونَقْلُ المصنفِ من هذا الكتاب بواسطةٍ نَقْلٌ طويلٌ عن القاضي عبد الوهاب، وهو في حجية إجماع أهل المدينة، ولعبد الوهاب كتاب "أصول الفقه" نقل منه جمع (¬3)، ولكن هذا النقل عند ابن تيمية (¬4) في "صحة أصول أهل المدينة" (33)، فالظاهر أن النقل عن أبي مصعب والقاضي عبد الوهاب إنما هو بالواسطة؛ وهنالك ذكر في (فهرس الأعلام) لعشرات الفقهاء من المالكية، ينقل المصنف عنهم بواسطة الآخرين، فمثلًا في (2/ 464) ينقل المصنف عن ابن خويز منداد وعن محمد بن حارث في "أخبار سحنون بن سعيد" وإنما وقع له ذلك بواسطة ابن عبد البر في "الجامع" كما أوضحناه في التعليق عليه، وفي (3/ 459)، نقل عن "المبسوط" لعبد الملك، ووقع له ذلك بواسطة ابن شاس في "الجواهر" وفي (3/ 267)، نقل عن أبي الحسن بن أبي عمر (¬5) في "مسألته التي صنفها على أبي بكر الصيرفي" وهي في إجماع أهل المدينة، وهي منقولة بالواسطة أيضًا وكذلك النقل عن ابن خويز منداد في كتاب له، في (4/ 464) فهو بواسطة ابن عبد البر في "الجامع"، ومثلها كثير كثير (¬6). ¬

_ (¬1) توجد نسخة منه في خزانة جامعة القرويين بفاس في (174) ورقة، برقم (40/ 874) كتبت بقرطبة سنة 359 هـ، وهو من أقدم ما تحتوي عليه الخزانة القروية. انظر: "فهرس مخطوطات خزانة القرويين" (2/ 538 - 539)، و"أقدم المخطوطات العربية" (203)، و"تاريخ سزكين" (مجلد 3/ 1/ 154). (¬2) انظر: "ترتيب المدارك" (4/ 347). (¬3) انظر تعليقي على: (3/ 266). (¬4) سأفرد استفادة المصنف من شيخه ابن تيمية ببحث خاص. (¬5) انظر ترجمته في التعليق على (3/ 267). (¬6) انظر ما كتبناه تحت: "الحاصل من المحصول" في (كتب الأصول).

كتب الإمام أحمد والحنابلة

ولا ينسى في هذا المقام ما أورده المصنّف في (3/ 267، 477) بواسطة الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (¬1) من المكاتبة العلمية الرفيعة بين الإمامين مالك والليث بن سعد، ومجاوب بعضهما بعضًا، بما يصلح أن يقتدي به العلماء، ولا سيما في هذا الزمان، الذي كثر فيه الهرج والمرج، وغاب الأدب مع العلماء الكبار، وإلى اللَّه المشتكى، ولا قوة إلا باللَّه. * كتب الإمام أحمد والحنابلة: الإمام أحمد بن حنبل وكتبه ومسائله على اختلاف رواتها، وكتب أصحابه ومذهبه هي أكثر ما يذكر في كتابنا هذا. * كتب الإمام أحمد ومسائل أصحابه له: ينقل المصنف كثيرًا من "المسند" للإمام أحمد (¬2). ولكثير من كتب الإمام أحمد غير "المسند" ذكر في كتابنا هذا مثل: - "طاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-". قال في (2/ 53): "وقد صنف الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- كتابًا في طاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ردّ فيه على من احتجّ بظاهر القرآن في معارضة سنن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وترك الاحتجاج بها، فقال في أثناء خطبته. . . " وأورد نصًا طويلًا جدًّا منه. وأفاد في "مختصر الصواعق" (2/ 530) أن ابنه صالحًا رواه عنه، ونقل النّص نفسه، ووجدتُ أن أبا يعلى الفراء يكثر من النقل عنه في كتابه "العدة في أصول الفقه" (¬3) أيضًا. - "الرد على الزنادقة والجهمية" وهو مطبوع. نقل منه في (1/ 13) خطبة كتابه، وصرَّح باسمه. - "الزهد". ¬

_ (¬1) مدحه المصنف بقوله في (3/ 477): "كتاب جليل، غزير العلم، جم الفوائد". (¬2) سيأتي توضيح ذلك عندا الكلام عن موارد المصنف الحديثيّة، وهنالك نَقْلُ مدح ابن القيم للإمام أحمد. (¬3) وهو من موارد المصنف، الأصولية، كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى، ولم أعثر فيه على النص الموجود بطوله في كتابنا عن كتاب "طاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-" للإمام أحمد.

نقل منه في (2/ 431) أثرًا لعائشة بإسناده، ولم يصرح باسمه. - "رسالة أحمد إلى مسدد". نقل منها في (5/ 63)، ووقع له هذا النقل بواسطة أبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى في كتابه "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد". ومن الجدير بالذكر أنه ذكر في (الفائدة الثامنة) من (الفوائد التي تتعلق بالفتوى) مسائل عديدة عن أحمد بروايات جمع من أصحابه، مأخوذة بالحرف من هذا الكتاب، انظر نشرتنا (5/ 55 - 64) ولم يقع تصريح باسم هذا الكتاب (¬1)، ولا النقل عن مؤلفه، بل قال في (5/ 57) بعد جملة مسائل: "ذكر هذه المسائل القاضي أبو علي الشريف" وهذه عبارة القاضي أبي الحسين ابن القاضي أبى يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (ص 38)!. ومن هذا وغيره ندرك بيقين أن "المسائل" للإمام أحمد لمجموعة من تلاميذه المذكورةَ في كتابنا هذا، لم ينقل المصنف منها جميعًا، وإنما وقع له بعضها بواسطة غيره، ولا سيما القاضي أبي يعلى الفراء وغيره من الحنابلة. وهذه قائمة بكتب "المسائل" للإمام أحمد مرتبة على أسماء أصحابها من أصحاب الإمام وتلاميذه، مع ذكر أماكن ذكرها في نشرتنا هذه: - رواية الأثرم، نقل منها في (1/ 76 و 3/ 382، 388، 440، 489 و 4/ 527). - رواية أحمد بن الحسين، نقل منها (بالواسطة) في (2/ 5). - رواية أحمد بن القاسم، نقل منها في (4/ 516). - رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (وهي مطبوعة)، نقل منها في (1/ 49، 50، 55، 60، 396، و 4/ 495 و 5/ 116). - رواية إسحاق بن منصور الكوسج (¬2)، نقل منها في (1/ 76 و 2/ 75، 76 و 3/ 489، 494، و 4/ 468، 494، و 5/ 61، 520) ووقع في بعض هذه المواطن نقل بواسطة ابن تيمية تارة، وأبي الحسين في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" تارة أخرى، وبواسطة القاضي أبي يعلى مرة ثالثة، وتصرف في ألفاظ بعض المسائل، كما تراه في (2/ 76). ¬

_ (¬1) وصرح به في "تهذيب السنن" (6/ 104). (¬2) طبع منه قسم المعاملات، ونمي إليَّ أنه عثر عليه بتمامه، وأنه قيد التحقيق، واللَّه الموفق.

- رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي، نقل منها في (2/ 68، 75، 233، 373، و 3/ 351 و 4/ 94، 259، 492). والملاحظ أنه ينقل منه بالحرف، كما صرح في الموطن الأخير. ونقل المصنف أيضًا من شرح لهذه الرواية، وهو: - كتاب "المترجم" (¬1) للسعدي الجوزجاني (إبراهيم بن يعقوب). قال في (3/ 351) بعد كلام: "وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعًا. ففي "مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي" التي شرحها السعدي بكتاب سماه "المترجم"" (¬2). ومن الجدير بالذكر أن المصنف أكثر من النقل عن "المترجم" وأورد آثارًا بالإسناد منه، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 68 - 71 و 3/ 350، 351، 417، 437 - 438 و 4/ 473، 493). ووجدتُ بعض هذه النقولات مأخوذة من "بيان الدليل" (¬3) لشيخ المصنف ابن تيمية رحمهما اللَّه تعالى. - رواية ابن بدينا (¬4)، ذكرها المصنف في (3/ 488) بواسطة "بيان الدليل" أيضًا. - رواية بكر بن محمد (¬5)، ذكرها المصنف في (4/ 94، 436) والنقل في الموطن الأول بواسطة "بيان الدليل" (¬6) أيضًا، والآخر بواسطة القاضي أبي يعلى في "الفصول"، كما صرح به المصنف. - رواية جعفر بن محمد النسائي، ذكرها في (1/ 77). - رواية أبي الحارث الصانع (¬7)، ذكرها في (1/ 60، 84 و 2/ 559 و 3/ ¬

_ (¬1) انظر تعريفي به في التعليق على "قواعد ابن رجب" (2/ 304 - 305). (¬2) وقع خطأ لصاحب "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين" (ص 142 - 143) لما قال معرفًا به: "المترجم" شرح مسائل الشافعي"!! وكذلك في (ص 144) عند ذكره "مسائل أحمد" برواية الجوزجاني، وهي تحريف عن الجرجرائي كما في (4/ 348)، وانظر التعليق عليه. (¬3) اعتمد عليه المصنف كثيرًا، وسيأتي بيان ذلك مفصلًا تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية). (¬4) انظر ترجمته في التعليق على (3/ 488). (¬5) انظر ترجمته في التعليق على (4/ 94). (¬6) عزى فيه النقل نفسه لأحمد من رواية ابن الحكم! (¬7) انظر ترجمته في التعليق على (4/ 468).

489 و 4/ 94، 99 - 100، 273، 454، 457، 468، 516 و 5/ 114). ووقعت له هذه النقول -أبو بعضها- بواسطة القاضي أبي يعلى في "العدة" وابن تيمية في "بيان الدليل"، كما تراه موضحًا في التعليق على بعض المواطن المذكورة. - رواية حرب بن إسماعيل، ذكرها في (1/ 76 و 4/ 172، 495، و 5/ 520) ووقعت له في بعض المواطن بواسطة القاضي أبي يعلى، كما صرح هو بذلك. - رواية أبي حرب الجرجرائي، ذكرها في (3/ 320، 4/ 348). - رواية حنبل، ذكرها في 1/ 76، 84 و 2/ 373، 426 و 3/ 429 و 4/ 455، 468، 527 و 5/ 114، 520)، ونقل المصنف بعض هذه المواطن من "العدة" لأبي يعلى، كما تبرهن لي بيقين، وبعضها من "زاد المسافر" لأبي بكر عبد العزيز كما صرح هو نفسه بذلك. - رواية الخلال، ذكرها في (3/ 370). وذكر المصنف كتابًا آخر له سيأتي -إن شاء اللَّه قريبًا-، وورد له ذكر في إسناد بعض الأخبار، انظر (1/ 49، 473). - رواية أبي داود السجستاني (¬1). نقل منها المصنف في (1/ 61، 76 و 2/ 250، 469 و 4/ 99 و 5/ 115، 116، 117). - رواية ابنه صالح، نقل منها المصنف في (1/ 83، 87 و 3/ 489 و 4/ 94، 100، 515، 516، 527 و 5/ 58، 59، 114). ومن الجدير بالذكر هنا الأمور الآتية: أولًا: بعض المسائل المنسوبة لصالح ليست في القسم المطبوع منه. ثانيًا: وجدتُ بعضها مسندة عند الخطيب وغيره من طريق صالح عن أبيه، ولم أعثر عليه في المطبوع من "مسائله" بطبعتَيْه. ثالثًا: وجدتُ بعض هذه النقول في "محنة الإمام أحمد" لصالح، كما في (5/ 58) مثلًا. ¬

_ (¬1) طبعت مرتين، بتحقيقين مستقلَّين، والغالب على الطبعة الأولى (ط- رشيد رضا) المسائل الفقهية، والغالب على الطبعة الأخرى (ط مكتبة دار العلوم والحكم) السؤال عن الرواة وأسماء الرجال، وكل منهما تكمل الأخرى، وأغلب النقولات الموجودة عند ابن القيم في الطبعة الأولى منهما.

رابعًا: اختصر المصنف بعض هذه النقولات من هذه المسائل، انظر (4/ 100). - رواية أبي طالب، ذكرها المصنف في (1/ 396 و 2/ 392، 559 و 3/ 371 و 4/ 95، 100، 454، 457، 468، 516 و 5/ 62) وكثير من هذه النقولات وقعت للمصنف بواسطة القاضي أبي يعلى وابنه أبي الحسين وغيرهما. - رواية ابنه عبد اللَّه، نقل المصنف منها في مواطن عديدة، هي: (1/ 53، 61 - 62، 76، 84، 144، 145، 149، و 2/ 76، 558 - 559 و 3/ 47، 369، و 4/ 449، 527 و 5/ 114 - 115، 115). ومن الجدير بالذكر هنا الأمور الآتية: أولًا: صرح المصنف ببعض النقولات من هذه "المسائل"، ولم أظفر بها في طبعتَي الكتاب، ووجدتها في مصادر أخرى للمصنف، مثل: "جامع بيان العلم" لابن عبد البر، و"الفقيه والمتفقه" للخطيب، و"المدخل" للبيهقي، كما تراه في (1/ 61) وانظر (2/ 76 و 4/ 527). ثانيًا: ظفرتُ ببعض النقولات المعزوة لعبد اللَّه إنما هي عند الميموني، كما في (1/ 61 - 62). ثالثًا: تصرف المصنف في ألفاظ بعض المسائل، كما في (1/ 76، 84، 145). رابعًا: نقل المصنف بعض هذه المسائل بالواسطة، كما في (1/ 84، 144، 145، 149، و 2/ 559 و 3/ 47، و 5/ 114 - 115، 115). خامسًا: بعض هذه النقولات عن عبد اللَّه عن أبيه ليست في "المسائل" وإنما هي في "العلل ومعرفة الرجال" مثل ما في (3/ 369). - رواية عبد الخالق بن منصور، ذكرها في (4/ 95)، ونقل منها بواسطة "بيان الدليل"، كما بيّنتُه في التعليق على الموطن المذكور. - رواية عبد الملك بن عبد الحميد أبي الحسين الميموني، ذكرها في (1/ 60 و 3/ 371، 372، و 4/ 94، 100، 374، 453، 469، 513 و 5/ 60 (وفيها ثلاث روايات)، 63). ومن الجدير بالذكر أن نقل المصنف من هذه المسائل إنما كان بالواسطة، وقد صرح في بعض المواطن بذلك، مثل (3/ 371، 372 و 4/ 453، 513) وانظر (4/ 94، 100، و 5/ 60، 63).

- رواية علي بن سعيد، ذكرها في (4/ 408)، ونقل منها بالواسطة. - رواية أبي علي الشريف القاضي (¬1)، ذكرها في (5/ 56 - 57) على إثر جملة مسائلة منقولة عنها، والنقل إنما كان بواسطة أبي الحسين بن القاضي أبي يعلى، كما بيّنتُه في تعليقي على الموطن المذكور. - رواية الفضل بن زياد، ذكرها مرتين في (4/ 181 و 5/ 62) والنقل منها فيهما بالواسطة، كما بيّنتُه في تعليقي على الموطنين المذكورين. - رواية مثنى الأنباري، ذكرها في (4/ 180). - رواية محمد بن الحكم (¬2)، ذكرها في (3/ 371، 373 و 4/ 513) ووقع نقل المصنف من هذه "المسائل" بالواسطة، كما صرح هو بذلك في المواطن المذكورة. - رواية محمد بن عبيد اللَّه بن المنادي، ذكرها في (1/ 85 و 5/ 115) والنقل عنها بالواسطة، كما بيّنتُه في التعليق على الموطنين المذكورين. - رواية المروزي، ذكرها في (2/ 559، 3/ 394، و 4/ 117، 181، 492 و 5/ 520). - رواية ابن مشيش، ذكرها في (2/ 392). - رواية مهنأ بن يحيى الشامي، ذكرها في (2/ 57، 383 و 4/ 271، 372) ونقولات المصنف هذه بالواسطة. - رواية موسى بن سعيد الدِّنداني (¬3)، ذكرها المصنف في (2/ 76، 86 و 4/ 94)، ونقل المصنف منه بالواسطة كما بيّنته في التعليق على الموطن الأخير. - رواية يوسف بن موسى، ذكرها في (5/ 114)، ونقلها بواسطة "العدة" للقاضي أبي يعلى. هؤلاء هم رواة المسائل للإمام أحمد، الذين وقع ذكرهم في كتابنا هذا، والنقل عن كثير منهم إنما كان بواسطة كتب الحنابلة غالبًا. ¬

_ (¬1) هو عمّ القاضي أبي يعلى، رحمهما اللَّه تعالى. (¬2) هنالك (محمد بن الحكم) المالكي، غير هذا، وله ذكر في كتابنا، كما تراه في (فهارس الأعلام). (¬3) تحرف في جُلّ طبعات "الإعلام" إلى (الديداني)! انظر تعليقي على: (4/ 94).

معرفة المصنف لمذهب أحمد وإعجابه به

* معرفة المصنف لمذهب أحمد وإعجابه به: ومن الجدير بالذكر أن مذهب الإمام أحمد في أصوله وفروعه ومسائله هو أكثر المذاهب تردادًا في كتابنا هذا، والمصنِّف عارف به، معتنٍ بكتبه، محرر له، مدقق في النقولات التي تذكر عن صاحبه، ولذا زيّف كثيرًا مما نسبه إليه أصحابُه مما لم يثبت عنه، فقد كشف رحمه اللَّه اللثام في مواطن كثيرة عن أخطاء نسبها أهل المذهب ومتأخروهم إلى الإمام أحمد، وهي ليست على النحو الذي ذكروه، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 57 و 3/ 371 و 4/ 327، 469) ولم يكتم الإمام ابنُ القيم إعجابه بمسائل الإمام أحمد وفتاويه، وأظهر جهود العلماء بهذا الخصوص، قال في معرض ذكره الإمام أحمد: "وكان إمام أهل السنة على الإطلاق الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعُه إلى يوم القيامة، وكان -رضي اللَّه عنه- شديدَ الكراهة لتصنيف الكتُب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يُكتب كلامُه، ويشتد عليه جدًّا، فعلم اللَّه حُسْنَ نيته وقَصْده، فكُتِب من كلامه وفَتْواه أكثرُ من ثلاثين سفرًا، ومَنَّ اللَّه سبحانه علينا بأكثرها؛ فلم يَفُتْنَا منها إلى القليل، وجمع الخَلَّالُ نصوصه في "الجامع الكبير" فبلغ نحو عشرين سِفْرًا أو أكثر (¬1)، ورُويت فتاويه ومسائله وحُدِّثَ بها قرنًا بعد قرن، فصارت إمامًا وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلِّدين لغيره لَيُعَظِّمونَ نصوصَه وفتاواه، ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأَمَّلَ فتواه وفتاوى الصحابة رأى مُطابقة كل منهما للأخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مِشْكاة واحدة، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تَحَرِّيه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه، بل أعظم، حتى إنه لَيُقَدِّمُ فتاواهم على الحديث المرسل" (¬2). ¬

_ (¬1) قال ابن تيمية: "في نحو أربعين مجلدًا" وقال الذهبي: "في بضعة عشر مجلدًا، أو أكثر"، وقال ابن الجوزي -رحمه اللَّه تعالى-: "في نحو مئتي جزء"، قال ابن بدران: "ولا معارضة بين قوليهما، لأنّ المتقدّمين كانوا يطلقون على (الكراس)، وعلى ما يقرب من الكراسين: (جزءًا)، وأما (السفر): فهو ما جمع أجزاء، فتنبه". وانظر: (المدخل المفصل" (2/ 667 - 670). (¬2) قارن ما هنا بما في "مناقب الإمام أحمد" (191) لابن الجوزي، فأصل الكلمة له، وكلام ابن القيم السابق تجلية له، وانظر: "مطالب أولي النهى" (1/ 24)، و"المدخل" (46 - 47) لابن بدران.

كتاب "الجامع الكبير" للخلال

* كتاب "الجامع الكبير" للخلال: نقل المصنف في سائر مصنّفاته (¬1) من "الجامع الكبير" (¬2) للخلال، وأثنى عليه في كثير من كتبه (¬3)، ووقع النقل منه في مواطن من كتابنا هذا، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 59، 227) - هذا النقل بواسطة "المغني" كما صرح ابن القيم- و (1/ 473) -وهو بواسطة "الفقيه والمتفقه" للخطيب- و (3/ 370). * كتب القاضي أبي يعلى الفراء: ومن الحنابلة الذين يكثر جدًّا المصنف من النقل عنهم في كتابنا هذا: القاضي أبو يعلى الفراء، وقد صرح بالنقل من جملة من كتبه، مثل: - "إبطال الحيل" (¬4) للقاضي أبي يعلى، صرح باسمه في (4/ 395، 408، 411)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في مواطن عديدة منها: (4/ 414 - 416، 416). - "التعليق الجديد". - "التعليق القديم". ذكرهما في (3/ 494)، ولم ينقل منهما مباشرة، وإنما بواسطة شيخه ابن تيمية (¬5) في "بيان الدليل"، كما بيّنتُه في التعليق على الموطن المذكور. ¬

_ (¬1) مثل: "إغاثة اللهفان"، "اجتماع الجيوش الإسلامية"، "تحفة المودود"، "أحكام أهل الذمة"، "الطرق الحكمية"، "تهذيب السنن"، انظر: "موارد ابن القيم في كتبه" (38 رقم 143). (¬2) لم يطبع منه إلا قطع يسيرة في (أحكام أهل الملل والردة والزندقة وتارك الصلاة والفرائض)، انظر تعليقي على: (1/ 49)، وهنالك في مكتبات العالم قطع من "الجامع الكبير" لمجهولين، مثل ما في "فهرس المكتبة المحمودية" (114) برقم (220)، و"فهرس مكتبة فاتح بإستانبول" (90) برقم (1553)، و"فهرس مكتبة بشير آغا" (31) برقم (13)، فلعلها -أو بعضها- جزء من هذا الكتاب، وليحرر، فإنه مهم غاية. (¬3) تجد هذا الثناء مجموعًا في "موارد ابن القيم" (ص 47). (¬4) ذكره ابنه في "طبقات الحنابلة" (2/ 205) وعده أستاذنا محمد أبو فارس في كتابه "القاضي أبو يعلى الفراء وكتابه الأحكام السلطانية" (ص 245) من الكتب المفقودة. (¬5) قال ابن تيمية في رسالة أرسلها من مصر إلى أهله في الشام: "وترسلون أيضًا من "تعليق القاضي أبي يعلى" الذي بخط القاضي أبي الحسين إن أمكن الجميع، وهو أحد عشر مجلدًا، وإلا فمن أوله مجلدًا، أو مجلدين أو ثلاثة"، كذا في "العقود الدرية" (285). وتتمة اسم الكتاب "التعليق الكبير في المسائل الخلافية بين الأئمة" مدحه ابن بدران في "مدخله" (452) وعرف به، وقال: لم أطلع منه، إلا على المجلد الثالث، وهو ضخم، ويوجد من هذا الكتاب المجلد الرابع في دار الكتب المصرية، رقم (140 - فقه حنبلي) =

- "الجامع" (¬1) نقل منه وسماه في (3/ 492). - "المجرد" (¬2) نقل منه وسماه في (2/ 257، 3/ 492). - "الخلاف الكبير" (¬3) نقل منه وسماه في (3/ 492) ودون تسمية في (3/ 320) وغيره نقل المصنف من هذه الكتب بواسطة شيخه ابن تيمية أيضًا في كتابه "بيان الدليل"، كما صرح هو بذلك. - "الكفاية" (¬4) نقل منه وسماه في (5/ 146)، ونقل منه بواسطة ابن حمدان في "صفة الفتوى". هذه الكتب التي سماها للقاضي أبي يعلى، ونقل كثيرًا من كتاب لم يسمِّه له، وهو: ¬

_ = وعنه نسخة مصورة في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، (رقم 18 - اختلاف الفقهاء)، كما في "فهارسها" (1/ 330)، ثم وجدت نسخة من المجلد نفسه في خزانة فيض اللَّه أفندي بإستانبول في (310) ورقات، كما في "نوادر المخطوطات العربية في تركيا" (2/ 305)؛ وسيأتى بعنوان "الخلاف الكبير". (¬1) لأبي يعلى "الجامع الصغير" وهو مطبوع عن دار أطلس بتحقيق الدكتور ناصر بن سعود السلامة، والنقل المذكور عند المصنف ليس فيه، وإنما في "الجامع الكبير"، وقد عمل المصنف قطعة منه ولم يتمّه، انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 193 - 230)، و"سير أعلام النبلاء" (18/ 89). (¬2) نبَّه ابن رجب في "قواعده" (3/ 257) على عيب منهجي فيه، وهو اشتباه القاضي فيه جواب أحمد وجواب سفيان في أسئلة ابن منصور لهما، فخلط كثيرًا بين كلامهما، قال ابن رجب: "فلينبّه لذلك". وذكر ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (30/ 299 - 300) فائدة مهمة عن هذا الكتاب، قال: "فالقاضي رحمه اللَّه صنّف "المجرد" قديمًا، بعد أن صنف "شرح المذهب"، وقبل أن يُحْكِمَ "التعليق" و"الجامع الكبير"، وهو يأخذ المسائل التي وضعها الناس، وأجابوا فيها على أصولهم، فيجيب فيها بما نص عليه أحمد وأصحابه، وبما تقتضيه أصوله عنده، فربما حصل في بعض المسائل التي تتفرع وتتشغب ذهولٌ للمفرع في بعض فروعها عن رعاية الأصول والنصوص في نحو ذلك" وقارنه بـ "المدخل المفصل" (2/ 709). (¬3) هو "التعليق الكبير" المتقدِّم وهو الذي ألف عليه ابن الجوزي "تحقيقه" وقام بـ "تنقيح التحقيق" -كلٌّ على حده- الذهبي ومحمد بن عبد الهادي وهما مطبوعان مع "التحقيق في مسائل التعليق" أيضًا. (¬4) تتمة اسمه: "في أصول الفقه"، يقع في خمسة أجزاء، بقي منه المجلد الرابع في دار الكتب المصرية، برقم (365 - أصول الفقه)، ونسخة أخرى في معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، برقم (90 - أصول الفقه)، انظر: نماذج منه في كتاب "القاضي أبو يعلى الفراء" لأستاذنا الدكتور محمد أبو فارس -حفظه اللَّه- (ص 231 - 237).

كتب ابن القاضي أبي يعلى

- "العدة في أصول الفقه"، ونقل كثيرًا من "المسائل" على اختلاف رواياتها منه، كما أومأنا إليه عند سرد "المسائل لأحمد" على حسب أسماء رواتها. وللتَّيقُّن على نقل المصنف من "العدة" تنظر هذه المواطن من نشرتنا مع التأمل في التعليق على بعضها: (1/ 84، 85، 86، 351، و 2/ 280 (مهم)، 284، 559 (مهم) و 5/ 104، 114، 115). * كتب ابن القاضي أبي يعلى: وجدتُ المصنف ينقل من كتابين من كتب أبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى، وصرح باسم واحد منها، ولم يذكر الآخر مع أنه أكثر من النقل منه، بل لم يَعْزُ النقولات إليه، وإنما أوردها على حسب ما فيه معزوة لأصحاب "المسائل" عن أحمد فحسب! وأما الذي صرح باسمه فهو، كتاب: - "التمام" كذا في (1/ 229) وتتمة اسم الكتاب "لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام، والمختار من الوجهين عن أصحابه العرانين الكرام"، وهو مطبوع. وأما الذي لم يصرح به فهو: - "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" نقل منه نقولات عديدة في (الفائدة الثامنة) من (الفوائد التي تتعلق بالفتوى)، انظر نشرتنا (5/ 55 - 64). * كتب أبي الخطاب الكلوذاني: نقل المصنف من غير كتاب من كتب أبي الخطاب؛ هذا ما وقفت عليه منها: - "الانتصار في المسائل الكبار" (¬1) لأبي الخطاب الكَلْوذاني، نقل منه وصرح باسمه في (3/ 539)، وهنالك نقولات عديدة في الكتاب عن أبي الخطاب غير معزوة لكتاب، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 257، 259 و 3/ 474، 494، و 4/ 173، 543 و 5/ 202)، وبعضها في "الانتصار" هذا ووجدتُ بعضها في: ¬

_ (¬1) يوجد في دار الكتب الظاهرية تحت (5454) قسم منه، وقد حققه ثلاثة من الباحثين، ونشر ناقصًا -على حسب أصوله- عن مكتبة العبيكان، سنة 1413 هـ - 1993 م، في ثلاثة مجلدات في مسائل الطهارة والصلاة والزكاة فقط.

كتب الحنابلة الأخرى

- "الهداية" له أيضًا، انظر (3/ 474). - "التمهيد في أصول الفقه" نقل منه ولم يسمه، وإنما عزى الثقل لأبي الخطاب وهو في هذا الكتاب في (5/ 202). * كتب الحنابلة الأخرى: نقل المصنف من كتب أخرى كثيرة للحنابلة، هذه هي: - "الإرشاد" للشريف محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبي علي الهاشمي القاضي (ت 428 هـ)، وهو من أصحاب القاضي أبي يعلى، وهو متن اعتمد مؤلفه المسائل التي يوجد للإمام فيها رواية أخرى، فما كان فيه روايتان فأكثر، ذكرها (¬1). نقل المصنف منه وصرح باسمه في (2/ 77 و 4/ 511، 535)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في (4/ 328، 331). - "شرح الإرشاد" (¬2) لابن أبي موسى أيضًا، نقل منه المصنف وسمّاه في (5/ 126). - "مختصر الخرقي" (¬3)، نقل منه المصنف وصرح باسمه مرات عديدة، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 341 و 4/ 370، 532). ونقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 76 و 3/ 492 و 4/ 328، 468). - وشرحه: "المغني" لابن قدامة المقدسي، نقل منه وصرح باسمه مرات، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 227، و 2/ 257، 261، و 3/ 345، 468 و 4/ 408، 449، 468، 494، 495، 513، 531، 532)، ونقل منه ولم يصرح في (3/ 341 و 4/ 450). - "الفصول" (¬4) لابن عقيل الحنبلي، نقل منه وسماه في (4/ 436). ¬

_ (¬1) له نسخة في المكتبة المحمودية وغيرها، وحُقِّقَ رسائلَ علميةَ، بالمعهد العالي للقضاء في السعودية وطبع حديثًا بتحقيق الدكتور عبد اللَّه التركي، وانظر: "المدخل المفصل" (2/ 681). (¬2) لعله هو المخطوط المسمى "كتاب مما يذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل" في مكتبة جامعة الرياض (1928 م 2)، قاله الزركلي في "الأعلام"، وانظر: "المدخل المفصل" (2/ 706 - 707). (¬3) قرأه ابن القيم على شيخه مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، قاله الصفدي في "أعيان العصر" (4/ 366). (¬4) في عشرة أجزاء، ويسمى "كفاية المفتي"، منه نسخة في شستربتي، ومنه الجزء الثالث في دار الكتب المصرية، تحت رقم (13 - أصول فقه)، ومنتخب منه في الظاهرية تحت رقم (750 عام)، انظر: "الدر المنضد" (ص 25)، "ذيل طبقات الحنابلة" (1/ 156).

- "الفنون" لابن عقيل أيضًا، نقل منه نصًا فيه (مناظرة بين ابن عقيل وبعض الفقهاء) في (5/ 512)، وصرح المصنف في "الطرق الحكمية" (ص 15 - ط العسكري) أنها في كتابه "الفنون". ومن الجدير بالذكر أن المصنف نقل عن ابن عقيل (¬1) كثيرًا، ولم يسمّ إلا "الفصول" له، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 199، 213، و 40/ 172، 173، 201، 543) فلعل هذه النقولات منه. - "عمدة الأدلة" له، نقل منه في (2/ 400) ولم يسمه، وإنما قال: "واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته" وصرح بالمذكور المرداوي في "الإنصاف" (5/ 13). - "المحرر" (¬2) لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية، نقل منه المصنف، وصرح باسمه في (4/ 408، 448)، ونقل منه، ولم يصرح به في (4/ 437 و 5/ 506، 507)، واكتفى في هذه المواطن بعزو النقولات لصاحبه. - "الشافي" (¬3) لأبي بكر عبد العزيز غلام خلال (ت 363)، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 426 و 3/ 371 و 4/ 453). - "زاد المسافر" (¬4) لأبي بكر عبد العزيز أيضًا، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 426 و 4/ 453، 455). ¬

_ (¬1) لعله نقل من كتابه: "الواضح في أصول الفقه"، انظر التعليق على: (5/ 106). (¬2) قرأ ابن القيم قطعة منه على شيخه حفيد مصنفه (ابن تيمية) قاله الصفدي في "أعيان العصر" (4/ 366). (¬3) ذكر القاضي أبو يعلى هذا الكتاب، وقال: "نحو ثمانين جزءًا" كذا في "تاريخ بغداد" (10/ 459) وتحرف فيه إلى "الشافعي"! فليصوب. قال الذهبي عن صاحبه: "كان كبير الشأن، من بحور العلم، له الباع الأطول في الفقه"؛ وقال عن كتابه: "ومن نظر في كتابه "الشافي" عرف محله من العلم، لولا ما بشَّعه بغضِّ بعض الأئمة، مع أنه ثقة فيما ينقله". انظر: "السير" (16/ 143 - 145)، "طبقات الحنابلة" (9/ 112 - 127)، قلت: في "دفتر مكتبة ولي الدين" (53): "الشافي" لمجهول، رقم (959)، يكشف عنه، ولم أظفر له بنسخة مع طول نظر، وكئرة ترداده في فهارس المخطوطات، ولا ندري، فالأيام حبلى، فلعلها تكشف عن شيء بشأنه، واللَّه أعلم. (¬4) حاكى فيه "الجامع" لشيخه الخلال، وسمى في مقدمته الرواة عن أحمد أصحاب المسائل، وانظر: "المدخل المفصل" (1/ 457 و 2/ 672). وظفرتُ بنسخ خطية بالعنوان نفسه لعالم بن علاء الحنفي! فهو غيره، ثم تبيَّن لي أن "الفتاوى التاتارخانية" لعالم هذا تسمى "زاد المسافر" أيضًا.

ومن الجدير بالذكر أن المصنف نقل عن أبي بكر عبد العزيز، ولم يعز النقل لكتاب، كما تراه في (4/ 447، 513)، فالنقل من أحد هذين الكتابين، والظاهر من عبارات المصنف أنه ينقل منه مباشرة، واللَّه أعلم. - "المستوعِب" (¬1) لنصير الدين محمد بن عبد اللَّه السّامري (ت 616 هـ)، نقل المصنف منه وسماه في (4/ 527). - "الخلع" (¬2) لابن بطة، ذكره وسماه في (5/ 105) وإنما ينقل منه بواسطة القاضي في "العدة" كما بيّنته في التعليق على الموطن المذكور. - "إبطال الحيل" لابن بطة أيضًا، نقل منه في مواطن، ولم يصرح باسمه، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 233 - 234 و 5/ 135، 157). - "مكاتبات ابن بطة إلى البرمكي"، نقل منه وسماه في (1/ 86)، ونقل منه بواسطة "العدة" لأبي يعلى، كما بينته في التعليق على الموطن المذكور. ونقل المصنف عن ابن بطة في مواطن، ولم يسمّ كتابًا له، انظر (1/ 86 و 3/ 467، 499 و 4/ 80، 576، 577) وبعضها -كالموطن الأول- وقع له بواسطة "العدة" للقاضي أبي يعلى. "الرعاية" (¬3) لأبي عبد اللَّه بن حمدان (ت 695 هـ)، نقل منه وصرح باسمه في (4/ 431، 491). ووقع ذكر لابن حمدان في غير هذين الموطنين، ولا سيما في مباحث ¬

_ (¬1) ضمّن كتابه هذا كثيرًا من أمهات كتب المذهب، فقال في مقدمته (1/ 78 - 79): "فمن حصل كتابي هذا أغناه عن جميع هذه الكتب المذكورة، إذ لم أُخِل بمسألة منها إلا وقد ضمّنتُه حكمها أو ما فيها من الروايات وأقاويل أصحابنا" مدحه ابن بدران في "المدخل" (ص 217) وضبط اسمه بكسر العين المهملة، وطبع الموجود منه بتحقيقين كل على حدة، والنقل المذكور ليس في مطبوعه! (¬2) سماه أبو يعلى في "العدة" (5/ 1599): "الرد على من أفتى في الخلع" وكذلك فعل ابنه في "طبقات الحنابلة" (2/ 57 - ترجمة أبي حفص عمر بن محمد بن رجاء العكبري)، ولم أظفر بأثر له في فهارس دور المخطوطات. (¬3) من المجلد الثاني منه نسخة في شستربتي، تحت رقم (3541) منسوخة سنة 706 هـ، في (278) ورقة، انظر: "فهرس مكتبة شستربتي" (1/ 327) وللمؤلف شرح له بعنوان "الغاية القصوى شرح الرعاية الكبرى" منه نسخة خطية بالظاهرية برقم (2755) ونسخة أخرى في مكتبة الأوقاف العراقية برقم (1/ 23011) مجاميع، في (275) ورقة، وحُقِّقَ جُزءٌ من "الرعاية الكبرى" رسالة في الجامعة الإسلامية، انظر: "المدخل المفصل" (2/ 746 - 747).

كتب فقهية أخرى

(الفتوى)، فهو ينقل من كتاب خاص له في ذلك، كما سيأتي تحت (كتب الفتاوى). - "تعاليق أبي حفص العكبري"، ذكره في (1/ 86)، ونقل منه بواسطة القاضي أبي يعلى كما صرح به المصنف، وتبيّن لي أن النقل من "العدة في أصول الفقه". هذا ما وقفتُ عليه من كتب الإمام أحمد وأصحابه وأهل مذهبه التي نقل عنها المصنف. * كتب فقهية أخرى: تبيَّن لنا من خلال الجولة السابقة أن المصنف متضلع في الفقه، متفنّن فيه، عنده أمات كتب المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة. وكان رحمه اللَّه حريصًا على فقه الأصحاب، ذاكرًا مذاهب علماء الأمصار ومن بعدهم، وأشار إلى جملة من الكتب في هذا الباب، هي: * فتاوى بعض السلف: - "فتيا عبد اللَّه بن عباس" ذكره في (1/ 18)، قال نقلًا عن ابن حزم في رسالته "أصحاب الفتيا من الصحابة": "وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون "فتيا عبد اللَّه بن عباس"، في عشرين كتابًا"، ولم يتبرهن لي أنه نقل منه، أو رآه، وإنما هو خبر عن كتاب، وكذا ذكره في "الوابل" (ص 100)، و"هداية الحيارى" (ص 122)، وذِكْرُهُ له جُمْلي، يغيب عند ذكر أقوال ابن عباس في المسائل، وهذا يرجِّح ما أومأتُ إليه من عدم وقوف المصنف عليه، واللَّه أعلم، ومثله: - "فتاوى محمد بن شهاب الزهري" ذكره في (1/ 42)، قال نقلًا عن ابن حزم أيضًا: "ومحمد بن شهاب الزهري، وجمع محمد بن نوح "فتاويه" في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه" (¬1). ولم يَرِدْ ذكرٌ لهذا الكتاب في غير هذا الموطن، ولا في سائر كتب ابن القيم، مما يجعلنا نرجح أنَّ ذِكرَهُ مجردُ خبر نقله عن ابن حزم فحسب، وعده مع الذي قبله (¬2) من (موارد المصنف) فيه نظر لا يخفى. ومن كتب الفقه التي نقل منها المصنف: ¬

_ (¬1) وجمعها أيضًا ابن القنتوري (284 - 380) في أجزاء كثيرة، قاله المقريزي في "المقفَّى الكبير" (5/ 277). (¬2) كذا كثير من "المسائل" لأحمد، وغيرها مما مضى ومما سيأتي، ووقع التنبيه على نَقْل المصنف منها بواسطة.

كتب ابن المنذر

* كتب ابن المنذر: - "الإشراف على مذاهب أهل العلم" (¬1) لابن المنذر، ولم يصرح باسم الكتاب، وعزى أقوالًا لابن المنذر هي فيه، انظر (4/ 323). - "الإجماع" له أيضًا، كما في (4/ 406)، ولم يصرح باسمه. - "الإقناع" له أيضًا، كما في (1/ 227 و 5/ 140)، ولم يصرح باسمه. * كتب أخرى: - "الخراج" ليحيى بن آدم، نقل (¬2) منه وصرح باسمه في (2/ 374). - "البيوع" لمطين، ذكره وصرح باسمه في (4/ 79، 80)، ونقل منه بواسطة شيخه ابن تيمية في "بيان الدليل" كما بيّنته في التعليق على الموطن المذكور. ومن الكتب التي نقل منها المصنف وأكثر: * كتب ابن حزم: نقل المصنّف كثيرًا عن ابن حزم، واعتمد عليه في ذكر مذاهب بعض فقهاء السلف وعلماء الأمصار، وأورد من بعض كتبه آثارًا سلفية، وتبرهن لي كثرة نقله من: - "المحلى" صرح باسمه في (4/ 501، 521، 525)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 184، 208، 218، 220 - 221، 222، 224، 245، 236 - 237، 238، 239، 367، 368، 375 - 376، 393 - 394، و 2/ 20، 21 - 22، 143، 159، 161، 392، 394، 399، 450 و 3/ 372، 388، 421، 440، 441، 444، 448، 451، 452، 453، 454، 455، 456، 457، 458، 471، و 4/ 123، 125، 227، 433، 521، 522، 537، 542). ومما يلاحظ من هذه النقول الأمور الآتية: أولًا: في كثير من هذه المواطن نقولات عن ابن حزم في "المحلى"، ولم يَعزُها المصنف له ولا لكتابه. ثانيًا: جل هذه النقولات في تحرير مذاهب العلماء، وقد صرح المصنف بذلك لما قال -مثلًا- في (4/ 537): ". . . ثلاثة أقوال للسلف معروفة صرح بها ¬

_ (¬1) يحتمل أن يكون النقلان الآتيان اللذان ظفرتُ بهما في "الإجماع" و"الإقناع" لابن المنذر -وهما يناسبان ما عد المصنف- في "الإشراف" ولكن مطبوعه ناقص، وتأمل مواطن الإحالات. (¬2) النقل منه إنما هو حديث نبوي، وهو في "صحيح مسلم"! كما بيّنته في التعليق على الموطن المذكور.

أبو محمد بن حزم"، وقال في (4/ 542): ". . . وأما من بعد التابعين، فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم. . . ". ثالثًا: في كثير من هذه النقولات أحاديث وآثار، ذكر المصنف طرفًا من سندها، ونقله عن إمام مشهور من أئمة التصنيف من العلماء، كابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبي عبيد القاسم بن سلام (¬1) وسعيد بن منصور وغيرهم، وإنما هو عند ابن حزم بسنده إلى واحد من هؤلاء وغيرهم. رابعًا: ذكر المصنف في بعض هذه المواطن مذهب ابن حزم، واختيار أهل الظاهر، كما تراه -مثلًا- في (3/ 471 و 4/ 227، 525). خامسًا: مدح المصنف ابن حزم، ونعته في (4/ 123): "إمام الظاهرية في وقته"؛ وقال عنه في (4/ 227): "وهو مذهب حافظ الغرب وإمام أهل الظاهر في وقته أبو محمد بن حزم". سادسًا: لا يعني من كل ما سبق أن المصنف كان ينقل عن ابن حزم دون تحر ولا تدقيق، أو أنه كان يقبل كلامه جميعه، بل صرح بالرد عليه في مواطن، منها (1/ 377)، وردَّ على إهماله المعاني، وعدم إعماله القياس حتى الجلي منه، فقال في (2/ 277) بعد كلام: "الآن حَمِي الوطيسُ (¬2)، وحميت أنوف أنصار اللَّه ورسوله لنصرِ دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الحق أن لا تأخذهم في اللَّه لومةُ لائم، وأن لا يتحيزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا اللَّه ورسوله بكل قولِ حَقٍّ قاله مَنْ قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قالته طائفتهم وفريقهم كائنًا ما كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا ما كان؛ فهذه طريقة أهل العصبية وحميَّة أهل الجاهلية، ولعمرُ اللَّه!! إن صاحب هذه الطريقة لمضمونٌ له الذمُّ إنْ أخطأ، وغير ممدوح إن أصاب، وهذا حالٌ لا يرضى بها من نصحَ نفسه وهُدي لرشده، واللَّه الموفق". - "الإحكام" له أيضًا، ولم يصرح باسمه، وأَكثرَ جدًّا من النقل عنه، وهذا الدليل: - نقل منه أسماء المفتين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في (1/ 18 - 22) قال ¬

_ (¬1) انظر الكلام الآتي على كتاب "القضاء" له. (¬2) "حمي الوطيس" كلمة ضمن حديث طويل، أخرجه مسلم في "صحيحه": كتاب الجهاد والسير: باب في غزوة حنين (رقم 1775). قال النووي في "المنهاج" (12/ 164) في شرحها: "هو بفتح الواو وكسر الطاء المهملة وبالسين المهملة، قال الأكثرون: هو شبه التنور، يسجر فيه، ويضرب مثلًا لشدّة الحرب التي يشبه حرها حره" ثم قال بعد كلام: "وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه، الذي لم يسمع من أحدٍ قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-".

ناسخ بعض الأصول الخطية عقبه: "هذا كله كلام ابن حزم" قلت: وهو في "الإحكام" له (5/ 92 - 104) ونحوه في رسالة "الفتيا من الصحابة ومن بعدهم على مراتبهم في كثرة الفتيا" (¬1) (ص 319 - 335). - ونقل منه في (1/ 40 - 48) من صارت إليه الفتوى من التابعين، وهو في "الإحكام" (5/ 95 - 103) ورسالة "الفتيا" (324 - 335) كلاهما لابن حزم. - نقل منه في (1/ 128 - 142) جملة أخبار هي موجودة في "الإحكام" (6/ 53 - 57) بالأسانيد التي عند المصنف. - وكذلك فعل فى (1/ 461 - 465، 467 - 471)، فنقل جملة من الآثار هي في "الإحكام" (8/ 28 - 36)، وبعضها أقوال للأئمة، وكذلك فعل في (2/ 451 - 452) قارن بما في "الإحكام" (6/ 179 - 180). - ونقل في (1/ 479) فقرةً هي في "الإحكام" (8/ 44) في (عدم حجية القياس). ونقل في (2/ 6) مذهب أبي بكر بن الفرج القاضي وأبي بكر الأبهري المالكيين، وكلامهما بالحرف في "الإحكام" (8/ 45)، وتعقَّبهما ابن حزم، ولم ينقل المصنف تعقّبه. ونقل في (2/ 448 - 449) نصًا طويلًا، موجودًا في "الإحكام" (6/ 124). ونقل في (2/ 455 - 457) أخبارًا هي عند ابن عبد البر في "الجامع" وابن حزم في "الإحكام" وقال على إثرها: "قال أبو عمر:. . . " يريد ابن عبد البر، ثم قال: "وقال غير ابن عبد البر:. . . " ونقل كلامًا هو بحروفه في "الإحكام" (6/ 44)، فهذه حيدة متقضدة من المصنف عن ابن حزم. ونقل في (2/ 457، 458، 475، 472) آثارًا هي في "الإحكام" -على الترتيب- (6/ 68، 97 - 98، 120 - 121، 127) وكذلك فعل في (2/ 473، 474) قارن بما في "الإحكام" (6/ 61، 62، 67). وذكر في (2/ 530) مقولة عمر "إني لأستحيي من اللَّه أن أخالف أبا بكر" وقال: "وهذا تقليد له منه، فجوابه من خمسة أوجه" قلت: هذه الأوجه الخمسة في "الإحكام" (6/ 65 - 67)، وذكر في (2/ 530 - 531) أمثلة على مخالفة عمر لأبي بكر هي جميعًا في "الإحكام" (6/ 66). ¬

_ (¬1) وهي الرسالة الثالثة الملحقة بالطبعة الأولى من كتابه "جوامع السيرة".

كتب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام

وذكر في (2/ 534 - 537) أمثلة من مخالفة ابن مسعود لعمر هي جميعًا في "الإحكام" (6/ 61 - 62) وفي (2/ 538): نقل كلامًا بحروفه في "الأحكام" (4/ 214) وقارن ما هنا (2/ 543) بما في "الإحكام" (6/ 83)، وما هنا (2/ 554) بما في "الإحكام" (6/ 82 - 84) أيضًا. وذكر في (3/ 19 - 28) مسائل خفيت على أبي بكر، جلها في "الإحكام" (6/ 85 وما بعد). ونقل في (3/ 243) عبارة هي في "الإحكام" (4/ 206)، وفيه أيضًا (3/ 243 - 244) مثلين، هما في "الإحكام" أيضًا (4/ 206 - 207) وقارن ما هنا (3/ 245 - 246) بما في "الإحكام" (4/ 207 - 208). وذكر المصنف في (3/ 248) أن عمل أهل المدينة نوعان، وهما في "الإحكام" (4/ 209) وزاد المصنف عليهما تفريعًا وتأصيلًا وتقعيدًا، مع الإشارة التي استفاد ابن القيم فيها من ابن حزم. ونقل المصنف من "الإحكام" أيضًا في (5/ 75، 118). هذه النقولات تثبت استفادة المصنف الكثيرة من ابن حزم، ولعله يوجد في الكتاب غيرها، وما ذكرناه فيه غنية وكفاية على الدعوى التي ذكرناها، واللَّه الموفق والمسدد. ونقل المصنف من كتاب آخر لابن حزم، هو: - "مراتب الإجماع" له، نقل منه وصرح باسمه في (4/ 539). ونقل كذلك من كتابه "ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل" (¬1) ولم يصرح باسمه، وفي كتابنا جل النقولات السلفية التي فيه، واللَّه الموفق. * كتب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام: ومن الكتب الفقهية التي نقل المصنف منها: كتب الإمام أبي عبيد وصرح بأسماء اثنين منها، هما: - "القضاء" لأبي عبيد القاسم بن سلام، نقل منه وسماه في (1/ 115، 239). ونقل منه من دون تسمية في (1/ 116، 158 - 159، 221، 240، 244، 245، 245 - 246، 246). - "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 240). ¬

_ (¬1) سأعمل -إن شاء اللَّه تعالى- على نشره قريبًا.

كتب الفتوى

- "غريب الحديث" (¬1) لأبي عبيد أيضًا، نقل منه وصرح باسمه في (5/ 117)، ونقل منه دون تسميته في (1/ 218، و 4/ 459، 460). - "الأموال" نقل مذهبه في بعض المسائل هي في هذا الكتاب، ولم يسمه انظر (2/ 318). ونقل المصنف في (3/ 382) تضعيف أبي عبيد لبعض الأحاديث، ونقل في (3/ 474 و 4/ 469، 550) مذهبه في بعض المسائل الفقهية. ولا شك أن المصنف ينقل عن أبي عبيد في كثير من المواطن بالواسطة، ولا سيما من كتابه "القضاء"، وقد اعتمد في النقل عنه على "المحلى" لابن حزم، كما تراه في مواطن من المحالّ المذكورة، واللَّه الهادي والموفق. * كتب الفتوى: نقل المصنف من عدة كتب أُفردت في مباحث (الفتوى)، وصرح بأسماء بعضها، ونقل عن أصحاب بعضها الآخر دون تسمية لها، وهذا ما وقفت عليه منها: - "أدب المفتي والمستفتي" لابن الصلاح. نقل منه ولم يصرح باسمه، واكتفى بعزو الكلام لصاحبه، كما في (5/ 76 - 77، 100، 101، 144، 166). وهناك نصوص (¬2) في هذا الكتاب، لم تقع معزوة له ولا لمؤلفه، انظر (5/ 124، 134 - 135، 140، 141، 143، 146، 147). واعتماد المصنف على هذا الكتاب أصيل ومهم، وأرى أن تسمية المصنف لكتابنا مأخوذة منه، وكثير من تقسيمات المصنف وتفريعاته في مباحث (الفتوى) منه (¬3). - "تعظيم الفتيا" (¬4) لابن الجوزي. ¬

_ (¬1) انظر: (5/ 117) ففيه كلام للإمام أحمد عن هذا الكتاب. (¬2) بعض هذه النصوص موجودة عند ابن الصلاح وغيره، ولم يعزها المصنف لأحد، وفي بعضها تأصيلات نظرية غير معزوة وهي عند ابن الصلاح، ولذا ألحقت القسم الأول بها. (¬3) انظر مثلًا: مقارنة بين ابن الصلاح وابن القيم في أقسام المفتين، ومدى تأثر الثاني بالأول في "التخريج عند الفقهاء والأصوليين" (ص 317) لباحسين. (¬4) فرغت من تحقيقه عن نسخة خطية جيدة بخط ابن أخت ابن الصلاح، وهو ناسخ مُجوِّد، ولكن فيها نقص انظر: (5/ 131 - 132)، وأنا بصدد تحصيل نسخة أخرى تامة، ليَرَى طريقَهُ إلى النور، يسر اللَّه ذلك في القريب العاجل بمنّه وكرمه. ثم قلت: حصلت نسخة أخرى جيدة من جامعة (ييل)، والسقط عينه فيها، وتمّ طبعه =

لم يصرح المصنف باسم هذا الكتاب، واكتفى بعزو بعض النقولات لمؤلفه أبي الفرج بن الجوزي، كما تراه في (5/ 131، 132، 133، 134). - "صفة الفتوى والمستفتي" (¬1) لأبي عبد اللَّه بن حمدان الحنبلي، نقل منه وسماه في (5/ 147) وتعقّبه في هذا الموطن، وهنالك نقولات أخرى منه في (5/ 118، 124، 144، 166). - "رسالة أصحاب الفتيا من الصحابة ومن بعدهم على مراتبهم في كثرة الفتيا" لابن حزم، نقل منها المصنف نقولات طويلة (1/ 18 وما بعد) وهي تشترك مع ما في "الإحكام" لابن حزم أيضًا، وقد بيّنّا ذلك عند الكلام على (كتب ابن حزم). وأشار المصنف في كثير من المواطن إلى (فتاوى شيخه ابن تيمية)، وسيأتي توضيح ذلك تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية) وكذلك إلى بعض فتاويه، فقال في (4/ 512) في مسألة (الرجل يمرُّ على المكاس برقيق له، فيطالبه بمكسهم، فيقول: هم أحرار، ليتخلص من ظلمه، ولا غرض له في عتقهم) قال: "لا يُعتقون" ثم قال: "وبهذا أفتينا نحن تجارَ اليمن لما قدموا منها، ومروا على المكاسين، فقالوا لهم ذلك". ومن الجدير بالذكر أن كثيرًا من النقولات والآثار في مبحث (الفتوى) نقله المصنف من: - "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" لأبي الحسين بن القاضي أبي يعلى، وسبق بيان ذلك. - "جامع بيان العلم" لابن عبد البر، وقد سبق بيان ذلك. - "المحلى" لابن حزم. - "الإحكام" لابن حزم أيضًا، وسبق بيان ذلك أيضًا. - "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي. نقل منه المصنف وسماه في (1/ 87 و 4/ 450)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في مواطن كثيرة، منها (1/ 83 - 84، 88، 351، 355، 465، 466، 470، 471، 472، 473، 474، و 5/ 134). ونقل كذلك كثيرًا في هذه المباحث من كتب (أصول الفقه)، ونخصها ¬

_ = ونشره في مصر والبحرين، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬1) مطبوع بهذا العنوان، وسماه المصنف في (5/ 147): "أدب المفتي والمستفتي" ولعله ذكره بموضوعه!

كتب أصول الفقه

بالكلام الآتي على وجه فيه إيجاز واختصار، واللَّه الموفق. * كتب أصول الفقه: سبق أن قررنا نقل المصنف من جملة من كتب الأصول المهمة، مثل: "الرسالة"، و"إبطال الاستحسان" كلاهما (¬1) للشافعي، و"العدة في أصول الفقه" للقاضي أبي يعلى (¬2)، "التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الكلوذاني (¬3)، و"الإحكام" لابن حزم (¬4)، ولعله ينقل من "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل (¬5). وهنالك كتب أصولية غير مذكورة بعناوينها ينقل منها المصنّف، ولم يسمِّها تبرهن لي ذلك من خلال عرض النقولات التي عنده عليها، من مثل: - "الفصول في الأصول" لأحمد بن علي الرازي الجصاص (ت 370 هـ). نقل المصنف نصًا طويلًا في (2/ 279 - 280) هو فيه (4/ 86 - ط النشمي) بحروفه، واستفدتُ في (مواطن) منه لـ (تقويم النص)، ونقل نصًا طويلًا أيضًا (3/ 93 - 94) هو في "الفصول" أيضًا (2/ 315 وما بعد). - "الحاصل من المحصول" (¬6) لأبي عبد اللَّه الأرموي (ت 656 هـ). نقل المصنف مسألة عزاها للمؤلِّف، وعرف به، فقال في (3/ 471): "أفتى بها تاج الدين أبو عبد اللَّه صاحب "الحاصل"". والمسألة التي نقلها منه هي (الحلف بالأيمان اللازمة) لاغية، لا يلزم فيها شيء. ولا تدل عبارة المصنف أنه نقل من "الحاصل"، وإنما نقل مذهب صاحبه في مسألة، وينقل المصنف عنه بالواسطة كما صرح به ابن القيم (¬7)، ولم يرد لـ"الحاصل" ذكر في كتب ابن القيم في غير هذا الموطن (¬8)، و"الحاصل"، المذكور ¬

_ (¬1) انظر: مبحث (كتب الشافعي). (¬2) انظر: مبحث (كتب القاضي أبي يعلى الفراء) ضمن (كتب الحنابلة). (¬3) انظر: مبحث (كتب القاضي أبي الخطاب الكلوذاني) ضمن (كتب الحنابلة). (¬4) انظر: مبحث (كتب ابن حزم). (¬5) انظر: التعليق على (5/ 106)، ولا تنس ما أشرنا إليه من نقله من بعض كتب الأصول بالواسطة، كما سبق بيانه عند "شرح الرسالة" للجويني، وكتب القاضي عبد الوهاب بن نصر البغدادي المالكي، وكتاب "الكفاية" للقاضي أبي يعلى الفراء. (¬6) طبع بتحقيق الدكتور عبد السلام أبو ناجي، نشر جامعة قاريونس - ليبيا. (¬7) وكان ذلك بواسطة ابن بزيزة في "شرح أحكام عبد الحق". (¬8) على حسب ما في "موارد ابن القيم في كتبه".

كتب الحيل

عند المصنف غير "التحصيل من المحصول" المطبوع لسراج الدين أبي الثناء الأرموي، ذلك أن صاحب "التحصيل" كنيته (أبو الثناء) بينما كناه المصنف (أبو عبد اللَّه)، ولقب الأول في كتب التراجم (سراج الدين) بينما لقب صاحب "التحصيل" (تاج الدين) وفرق بينهما جمع، منهم شيخ شيوخنا العلامة محمد راغب الطباخ في كتابه الماتع "الثقافة الإسلامية" (¬1) (ص 246 - ط الأولى سنة 1369 هـ). - "المحصول" (¬2) لابن الخطيب الرازي، نقل مسألة أصولية منه في (2/ 278). - "المعتمد" لأبي الحسين البصري، نقل مسألة أصولية منه في (2/ 278 - 279). - "الإحكام في أصول الأحكام" (¬3) للآمدي، نقل مسألة أصولية منه في (2/ 279). - "الكشف عن مناهج الأدلة" لأبي الوليد بن رشد، نقل منه وسماه في (5/ 189 - 190، 191). * كتب الحيل: سبق مما مضى أن ابن القيم نقل من أكثر من كتاب من كتب الحيل، لصلتها الوثيقة بكثير من مباحث الكتاب، وهذه هي الكتب التي نقل منها بهذا الخصوص: - "المخارج في الحيل" المنسوب (¬4) لمحمد بن الحسن، سبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنفية). - "الحيل" للخصاف، وسبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنفية). - "إبطال الحيل" للقاضي أبي يعلى، سبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنابلة). - "إبطال الحيل" لابن بطة، سبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنابلة). ¬

_ (¬1) من أجمع ما يلزم المبتدئ من طلبة العلم، ومن خلاله يقف على أمات الكتب في كل فن، وقد قاربت من الفراغ من التعليق عليه، يسر اللَّه إتمامه بخير وعافية. (¬2) قرأ قطعة منه على ابن تيمية، كما في "أعيان العصر" (4/ 367). (¬3) قرأ قطعة منه على ابن تيمية، كما في "أعيان العصر" (4/ 367). (¬4) انظر: ما مضى تحت (كتب الحنفية) من الكلام على نسبة الكتاب لمحمد بن الحسن رحمه اللَّه تعالى.

كتب التفسير

"بيان الدليل في بطلان التحليل" لابن تيمية، وأكثر جدًّا من النقل منه، كما سيأتي بيانُه تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية). * كتب التفسير: نقل المصنف من جملة من كتب التفسير، ولم يسمّ أغلبها، وتبرهن لي ذلك نقله منها، وهذا التفصيل: - "تفسير ابن جرير الطبري" (¬1) نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 286) وهنالك كتب تفسير لبعض السلف، عزاها المصنف لأصحابها، ولم يصرح بنقله من كتاب، ولم يعزها لمخرج، وهي عند ابن جرير، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 290، 291، 293، 299، 301، 304، 305، 317). - "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 291، 292). - "تفسير سُنيد بن داود" نقل منه وصرح به في (2/ 22 و 3/ 444 و 4/ 523، 542) ونعته في الموطن الأخير بقوله: "المشهور"، ونقل منه بالواسطة ولم يصرح باسمه في (1/ 105، 106، 111، 138 - 139، 156). - "مجاز القرآن" (¬2) لأبي عبيدة معمر بن المثنى، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 293 - 294). - "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج، ذكر مقولة عزاها للزجاج في (1/ 265، 294) وهي في هذا الكتاب على وجه مقارب، ثم تبيّن لي أن النقل منه بواسطة: - "زاد المسير" لابن الجوزي، لم يصرح باسمه ولا اسم مصنفه، وهنالك نقولات فيه، مثل (1/ 294، 361 - 362). ¬

_ (¬1) انظر تعليقنا على: "صحيفة علي بن أبي طلحة" الآتي ذكرها. (¬2) يتأكد هذا المصدر بوجود ذكر له في "مختصر الصواعق" (1/ 242) وقال عنه فيه: "أول من عرف عنه في الإسلام أنه نطق بلفظ المجاز أبي عبيدة معمر بن المثنى، فقد صنف في تفسير القرآن كتابًا مختصرًا، سماه "مجاز القرآن"، وليس مراده به قسيم الحقيقة، فإنه تفسير لألفاظه، بما هي موضوعة له، وإنما عنى بالمجاز ما يعبَّر به عن اللفظ، ويفسَّر به، كما سمى غيرُه كتابَه "معاني القرآن"، أتى ما يُعنى بالفاظه ويراد بها، وكما يسمِّي ابن جرير الطبري وغيره ذلك تأويلًا".

كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ

- "صحيفة علي بن أبي طلحة" ذكره وسماه في (1/ 299): "تفسير علي بن أبي طلحة"، ونقل منه في (1/ 94، 240). ونقل المصنف من هذه الصحيفة بواسطة التفاسير المسندة، مثل "تفسير ابن جرير"، إذ جميع المواطن المذكورة آنفًا هي عند ابن جرير، ولم يعزها له المصنف. - "تفسير يحيى بن سلام" نقل منه ولم يسمه في (1/ 322). - "تفسير عبد الرزاق" نقل منه وصرح باسمه في (1/ 253). - "الكشاف" للزمخشري، نقل منه، وسماه في (1/ 314) ورد على قول استشكله وذكر ثلاثة أجوبة، ونقل منه دون تسمية في (1/ 296) وبيَّن ما في كلامه من مخالفة عقدية، فقال بعد كلام: "فهذا منه شنشنة نعرفها من قَدَرِيّ نافٍ للمشيئة العامة، مُبْعدًا للنجعة، في جعل كلام اللَّه معتزليًا قدريًا. . . ". ومن الكتب التي نقل عنها المصنف، ولها تعلق بمادة التفسير: - كتاب "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 299). * كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ: نقل المصنف من مصادر عديدة في اللغة والأدب والتاريخ، وصرح بأسماء القليل منها، ووقفتُ على كتب أخرى، ووقع عزو النصوص لصاحبها دون التصريح باسمها، وهنالك نقولات في كتابنا تذكر عادة في كتب الأدب لم أستطع الوقوف على مصدر المؤلف فيها (¬1)، وهذا تفصيل ما وقع التصريح به، والوقوف عليه: - "الصحاح" للجوهري، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 265، 266، 397 و 5/ 234). - "غريب الحديث" لأبي عبيد، صرح باسمه في معرض بيان للإمام أحمد عنه في (5/ 117)، ونقل منه دون تصريح باسمه في (1/ 218 و 4/ 459، 460). - "غريب الحديث" لابن قتيبة، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 472). - "الكتاب" لسيبويه، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 314). - "التاريخ والمعرفة" (¬2) لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي، نقل منه رسالة ¬

_ (¬1) انظر -غير مأمور- تعليقي على: (5/ 199). (¬2) هو مطبوع بعنوان "المعرفة والتاريخ" بتحقيق الدكتور أكرم العمري.

كتب التوحيد والعقائد

الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، وصرح باسمه في (3/ 477)، وقال عنه (¬1): "كتاب جليل غزير العلم، جم الفوائد". - "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" لم يصرح المصنف باسمه، ونقل أخبارًا هي فيه (1/ 242، 471 و 2/ 458)، وهي منقولة بواسطة "الإحكام" لابن حزم. - "التاريخ الأوسط". - "التاريخ الكبير" كلاهما للبخاري، نقل المصنف منهما، وسيأتي ذكره أيضًا عند الكلام على (موارد المصنف الحديثية)، وعلى الكلام على الرواة خاصة. ونقل بعض الأخبار من كتب في التاريخ، ولم يفصح عنها، فقال مثلًا في (1/ 168): "وقد رأيتُ في بعض التواريخ القديمة. . . " وذكر خبرًا. ومن الكتب التي لها تعلق بالأدب، ونقل منها المصنف: - "أمثال الحديث" للرامهرمزي، لم يسمه، وصرح في مواطن بعزو الكلام لمؤلفه، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 409، 411، 415، 416، 417، 418، 422، 423). * كتب التوحيد والعقائد: لا يخلو كتابنا من لفتات قوية في التوحيد (¬2)، على الرغم من أن الكتاب لم يصنّف في هذا الفنّ، وقد نقل المصنِّف استطرادًا بعض النقولات من كتب التوحيد، مثل: - "الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، وقد صرح باسمه، ونقل منه، كما سبق بيانه تحت (كتب الإمام أحمد والحنابلة). - "الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية" (¬3) لأبي المعالي الجويني، صرح باسمها ونقل منها نصًا طويلًا في (5/ 181 - 183). - "التفرقة" لأبي حامد الغزالي، نقل منه المصنف وصرح باسمه في (5/ 183، 183 - 184، 184). ¬

_ (¬1) أي عن كتاب الفسوي. (¬2) انظرها في (فهرس الفوائد العلمية) في (المجلد الأخير) الخاص بالفهارس. (¬3) قال المصنف في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (113): "وفيها رجع عن التأويل في الأسماء والصفات" قلت: والنص الذي رجع فيه هو المنقول في كتابنا هذا، إلا أنه صرح فيه بالتفويض، انظر تعليقنا على الموطن المذكور.

موارد المصنف الحديثية

* موارد المصنف الحديثية: نقل المصنّف في كتابه هذا كثيرًا من أحاديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وآثار السلف، بل كانت هذه النصوص هي عمدته في الكتاب، واعتمد في نقلها على كثير من دواوين السنة، وبعضها نقل منه بالواسطة، ونستطيع أن نجمل موارد المصنف الحديثية في كتابه هذا تحت هذه المحاور: * الصحف والنسخ الحديثية (ووقعت له هذه بالواسطة غالبًا). * دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم). * كتب أحاديث الأحكام وشروحها. * كتب العلل. * كتب مسندة تعتني بآثار السلف. * كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل. وهذه كلمة مفصّلة عن كل محور من هذه المحاور، وباللَّه التوفيق: * الصحف والنسخ الحديثية: أفردتُها لعلوّ إسنادها، وأهميتها، والنقل منها إنما يكون بواسطة ما سيأتي تحت المحاور الأخرى، والأمثلة عليها في كتابنا هي: - "صحيفة علي بن أبي طلحة" مضى الكلام عنها تحت (كتب التفسير). - "صحيفة سليمان اليشكري": نقل منها في (2/ 385) بواسطة الترمذي، فنقل عن البخاري قوله: "يحدث قتادة عن "صحيفة سليمان اليشكري" وكان له كتاب عن جابر بن عبد اللَّه". قال المصنف عقبها: "قلت: وغاية هذا أن يكون كتابًا، والأخذ من الكتب حجة". - "صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده": نقل منها في (1/ 184) حديثًا بالواسطة، وقال: "وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بـ"صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده"، ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها، واحتج بها. . . ". - "كتاب الحسن البصري عن سمرة بن جندب": نقل منه حديثًا في (2/ 380) بواسطة أبي داود والنسائي والترمذي في

"سننهم" وقال: "وقد صح سماع الحسن من سمرة، وغاية هذا أنه كتاب، ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديمًا وحديثًا، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب". - "كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري": نقله بتمامه واعتنى بشرحه (¬1) فقرة فقرة، وأطال النّفَس جدًّا بذلك، وصرح باسمه في (1/ 117) فقال: "وفي "كتاب عمر إلى أبي موسى": اعرف الأشباه. . . " وذكره (¬2) في (1/ 158 - 159) بتمامه، وقال عنه في (1/ 163): "وهذا كتاب جليل، تلقّاه العلماءُ بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله". - "كتاب عمر بن الخطاب إلى شُريح": ذكره ونقل منه بالواسطة في (1/ 115، 156، و 2/ 479، 557). - "كتاب آل عمرو بن حزم": ذكره ونقل منه بالواسطة في (2/ 332 و 3/ 21 و 5/ 553). - "مسائل عبد اللَّه بن سلام" للجويباري الكذّاب. والصحيح أن هذه المسائل واردة في حديث في "صحيح البخاري" (3329)، وهي ثلاثة فحسب، وقد ولَّدها بعض الكذابين فجعلها كتابًا مستقلًا. أورد المصنف في (5/ 218 - 219) مسألة من المسائل الواردة في الحديث، ثم قال: "وهذه إحدى مسائل عبد اللَّه بن سلام الثلاث، والمسألة الثانية. . . والثالثة. . . " ثم قال: "فولدها الكاذبون، وجعلوها كتابًا مستقلًا، سموه "مسائل عبد اللَّه بن سلام"، وهي هذه الثلاثة في "صحيح البخاري"". قلت: أشار إلى صحيفة "مسائل ابن سلام" من توليد أحمد بن عبد اللَّه الجويباري الكذاب، وللإمام البيهقي جزء مفرد في بيان ذلك، حققتُه عن أصلين خطيين، وهو مطبوع في (المجموعة الثانية) من "مجموعة أجزاء حديثية"، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. ¬

_ (¬1) ذكر في كتابه "أحكام أهل الذمة" (2/ 744) شرحًا له لأبي القاسم الطبري، ولم يصرح بالنقل منه في كتابنا هذا. (¬2) بواسط كتاب "القضاء" لأبي عبيد القاسم بن سلام والمصنف ينقل منه بواسطة ابن حزم في "المحلى"، كما سبق بيانه، واللَّه الموفق.

دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم)

* دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم): جل مادة المصنف الحديثية من دواوين السنة المشهورة، فهو لم يخرج عنها إلا في النادر، ونجمل الكلام عن هذه الدواوين، فنقول: - الصحاح وشروح "الصحيحين" ومستدركاتهما: أكثر المصنف من النقل من "الصحيحين" أو أحدهما، أعني: "صحيحي البخاري ومسلم"، فذكر مثلًا: - "الصحيحين" هكذا (¬1) في جملة مواضع، منها: (1/ 96، 228، 229، 306، 406، 408، 411، و 2/ 58، 87، 108، 247، 310، 332، 398، و 3/ 5، 6، 37، 181، 188، 196، 198، 205، 206، 209، 211، 213، 220، 225، 273، 280، 284، 301، 326، 329، 464، 465، 458، و 5/ 131، 156، 162، 242، 338، 436، 437، 543، 576، 578). وفي الكتاب أحاديث كثيرة جدًّا في "الصحيحين" معزوة لهما (¬2)، وقد لا تعزى في بعض الأحايين، ولعلها عزيت لأحدهما وهي فيهما (¬3) في أحايين أخر، انظر -على سبيل المثال-: (5/ 398، 400، 402، 420، 421، 422، 428، 443، 445، 461، 463، 465، 470، 473، 476، 477، 478، 481، 483، 484، 486، 487، 488، 492، 494، 495، 496، 497، 501، 503، 504، 525، 527، 531، 534، 546، 549، 550، 552، 559، 563، 566، 567، 576، 590، 591، 592، 594، 595، 597، 599، 601). - "صحيح البخاري" عزى المصنف له أحاديث، وسمى كتابه في مواطن منها (1/ 95، 398، 421، 426، 458، و 2/ 77، 87، 110، 158، 181، 268، 379، 387، 533، 571، و 3/ 44، 173، 202، 207، 210، 246، 286، 315، 431، 434، 504 و 4/ 88، 114، 261، 375، 394، 451، 578 و 5/ 45، 196، 219). ¬

_ (¬1) أي بلفظ "في "الصحيحين". . . " ونحوه. (¬2) بقول المصنف غالبًا عقب الحديث: "متفق عليه". (¬3) هنالك أحاديث عزاها المصنف لـ"الصحيحين" وهي ليست فيهما، وسيأتي التنبيه عليها تحت (ملاحظاتي على مادة المصنّف الحديثية).

وفي الكتاب أحاديث كثيرة جدًّا معزوة للبخاري دون التصريح باسم كتابه وغير معزوة، انظر منها -على سبيل المثال-: (2/ 158، 379، 387 و 3/ 249 و 4/ 405، 451 - 453 و 5/ 45، 196 - 197، 433، 464، 471، 474، 503، 525، 529، 535، 556، 558، 561، 598). ومن الجدير بالذكر هنا أمور: أولًا: إن المصنف نقل عن غير "الصحيح" للبخاري، فعزا آثارًا وأقوالًا هي عنده في "التاريخ الكبير" و"التاريخ الأوسط" (¬1) وغيرهما. ثانيًا: إن بعض هذه النقول كانت بالواسطة. ثالثًا: إن للمصنف عناية فائقة بمذهب البخاري ومنهجه فى "صحيحه"، وهذا الدليل: 1 - قال في (3/ 249) بعد كلام عن الأحاديث المدنية: "هي أُمّ الأحاديث النبويّة، وهي أشرف أحاديث أهل الأمصار، ومن تأمَّل (أبواب البخاري)، وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يُتْبِعها بأحاديث أهل الأمصار، وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وابن شهاب عن سالم عن أبيه، وابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وابن شهاب عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس، ومالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة بن زيد، والزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب، وأمثال ذلك". 2 - قال في (4/ 405) عن مسألة رجحها: "وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدلُّ على اختياره هذا المذهب. . . " ثم ذكر ما في "صحيحه" وقال: "فتأمل هذا الاستدلال". 3 - وقال في (4/ 451 - 453) وأورد الترجمة من "صحيح البخاري" وما تحتها من معلقات على وجه الاحتجاج والرضى والقبول، وقال: "هذا لفظ الترجمة" ثم ساق بقية الباب. ¬

_ (¬1) سيأتي بيان ذلك تحت عنوان (كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل).

4 - وذكر في (5/ 45) تبويبًا للبخاري على وجه الاحتجاج بالذي تحته من حديث. 5 - وكذلك فعل في (5/ 196 - 197). رابعًا: نقل المصنف مذاهب بعض السلف من "صحيح البخاري" ولم يعزها له، كما في (2/ 168 - 169). خامسًا: المدقِّق في النقولات عن "الصحيح" يعلم يقينًا أنَّ المصنِّف متمكِّنٌ جدًّا من هذا الكتاب، عارفٌ به وبمباحثه وبمنهجه. سادسًا: نقل المصنّف من بعض شروحات هذا الصحيح، ولم يصرح باسم أيٍّ منها (¬1)، إلا أني وجدته ينقل في (3/ 523) من "أعلام الحديث" للخطابي، ولكن بواسطة شيخه ابن تيمية في "بيان الدليل". - "صحيح مسلم"، نقل منه كثيرًا جدًّا، وصرح باسمه في (1/ 183، 307، 460، و 2/ 108، 109، 280، 281، 286، 306، 387 و 3/ 41، 181، 183، 188، 199، 207، 220، 224، 225، 236، 295، 296، 297، 309، 377، 420، 464 و 4/ 575 و 5/ 5، 9، 72، 155، 214، 478، 527، 581). ونقل منه مرات عديدة جدًّا واكتفى بعزو الحديث لمسلم (¬2)، وأعل بعض ألفاظ وقعت فيه، كما في (5/ 558)، وأزال إشكالات عن بعض ألفاظ هي فيه أيضًا، كما في (5/ 499) ولم يكتفِ المصنف بالنقل عن "الصحيحين" أو أحدهما، وإنما تعدى إلى: - "صحيح ابن خزيمة"، نقل منه وسماه في (3/ 185، 186). - "صحيح ابن حبان"، نقل منه وسماه في (1/ 310 و 3/ 185، 196، 221، و 5/ 233، 377). ونقل منه في مواطن، وعزى الحديث له دون التصريح باسم "صحيحه"، في ¬

_ (¬1) مع تصريحه في "تهذيب السنن" (1/ 53) بـ "شرح ابن بطال" بواسطة "موارد ابن القيم في كتبه" (62). (¬2) ترى مواطن ذلك في (فهرس الأعلام) في المجلد الأخير، واللَّه الموفق. وقد وقع التصريح بعزو بعض الأحاديث إلى "صحيح مسلم" في بعض النسخ دون بعض وهي ليست في مطبوعة كما تراه في (5/ 287).

(2/ 237، 305، 309، 418 و 5/ 379، 380، 382، 383، 384، 385، 389، 444). ونقل المصنف من "سنن الدارمي" (¬1) وسماه في (2/ 158): "صحيح الدارمي" وكذلك من "مستدرك الحاكم" وسماه في (5/ 572، 574): "صحيح الحاكم"، وفي هذا تساهل كما هو مقرر عند علماء المصطلح. والنقل من "المستدرك" كثير، فنقل منه وسماه في (1/ 230 و 3/ 221، 378، 417، 420، و 5/ 31، 287، 572، 574). بينما نقل عن صاحبه دون تسمية الكتاب في مواطن أُخرى، منها: (2/ 366، 572، 574، و 3/ 46، 140، 171، 204، 214، 275، 297، 300، 524). ومن الجدير بالذكر أن النقولات ليست كلها أحاديث نبويّة، بل بعضها آثار سلفية، وبعضها أمور تقعيدية في (علم المصطلح) وغيره، فقال مثلًا في (5/ 31) في معرض كلام عن حجية قول الصحابي في (التفسير): "قال أبو عبد اللَّه الحاكم في "مستدركه": وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع". وهذا يدلل على دقة اطلاع المصنف على خفايا هذا الكتاب ومسائله، ودقائقه فضلًا عن نصوصه. ومن الجدير بالذكر أن المصنف كان يقول تارة بعد كلام: "وهي موجودة في "الصحاح""، هكذا بالتعميم دون تخصيص، وكان يقول في أحايين أخرى: "وفي "الصحيح": .. " هكذا أيضًا دون تعيين، كما تراه في (1/ 9، 179، 229، 277، 424، و 2/ 74، 375، 517 و 3/ 197، 295، 377، 451، و 4/ 120، 574، و 5/ 15، 16، 17، 46، 303، 322، 335، 430، 508). وهذه النصوص في "الصحيحين" أو أحدهما. وفي الكتاب نصوص معزوة لغير "الصحيحين" وهي فيهما أو في أحدهما، وبعضها معزو لـ"الصحيحين" وهي في أحدهما فقط، وبعضها معزو لأحدهما وهي فيهما، وسيأتي التمثيل على ذلك تحت عنوان (ملاحظاتي على مادة المصنّف الحديثيّة). ¬

_ (¬1) سيأتي بيان ذلك قريبًا.

السنن

* السنن: اعتمد المصنف في كتابه هذا على "السنن" كثيرًا، وأجمل في العزو إليها تارة، وفصّل أخرى، فذكرها هكذا "السنن" في مواطن، هي: (1/ 68 و 2/ 111، 229، 298، و 3/ 83، 185، 228، 286، 295، 329، 365، 537، و 4/ 87، 374، 413، 463، و 5/ 243، 411، 412، 415، 423، 424، 427، 434، 435، 436، 444، 452، 473، 478، 510، 552، 555، 581، 583). وذكرها بقوله في (1/ 71 و 2/ 382): "وفي "السنن الأربعة". . . "، "وروى أهل "السنن الأربعة". . . ". وأما المواطن التي فصَّل فيها، فهى كثيرة، ومدار الأحاديث عليها، وهذه هي عناوين "السنن" التي صرح بها: - "سنن أبي داود"، نقل منه وسماه في (1/ 69، 72، 181، و 2/ 71، 77، 78، 109، 110، 262، 263، 298، 316، 330، 380، 387 و 3/ 173، 204، 213، 215، 277، 378، 382، 414، و 4/ 455 و 5/ 480). وأما المواطن لم يصرح باسم "السنن"، واكتفى بعزو الحديث لصاحبها فكثيرة جدًّا، تطلب من فهرس الأعلام (¬1) في المجلد الأخير الخاص بالفهارس، واللَّه الموفق. ومن الجدير بالذكر هنا الأمور الآتية: أولًا: احتج المصنف ببعض تبويباته، فقال في (1/ 186) مثلًا: "ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه: (الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عُرِف صدقه) " قلت: وهذا في "سنن أبي داود" في (كتاب الأقضية) (3/ 308). ثانيًا: ذكر في بعض المواطن الحديث بسند أبي داود، وذكر كلامه في الاختلاف عليه، انظر مثلًا (2/ 316 - 317 و 3/ 192، 302). ثالثًا: حكم على أسانيد أبي داود بالصحة تارة، كما في (2/ 387) ويصححها بشواهدها تارة كما في (2/ 262 - 264، 299 و 4/ 84 - 85) ويحسنها تارة كما في (4/ 78) ويضعّفها تارة كما في (3/ 193). ¬

_ (¬1) مع مراعاة أن المصنف ينقل عن "مسائل أبي داود" لأحمد أيضًا كما سبق بيانه تحت (كتب الإمام أحمد)، ومواطن النقل منها في الفهرس المذكور مدموجة مع "السنن".

رابعًا: كان في بعض الأحايين يعزو الحديث و"السنن" ويورد لفظ أبي داود، كما في (4/ 463) مثلًا، ويصحح ألفاظه في بعض المواطن، كما في (2/ 77) ويعتني بها كما في (3/ 275 - 276 و 5/ 284، 318). خامسًا: نقل عنه تفسير بعض غريب الحديث، كما في (4/ 455). سادسًا: هنالك أحاديث معزوة لـ"السنن" هذه، وهي ليست في مطبوعها وبعضها فيه، ولكنها عند البخاري أو مسلم، كما سيأتي التنبيه عليه قريبًا تحت عنوان (ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية). - "جامع الترمذي"، نقل منه المصنف في مواطن وأكثر، وهذه التي صرح باسم الكتاب فيها (2/ 182، 365، و 3/ 200، 412، 416، و 4/ 463). وهنالك نقولات عديدة جدًّا، عزاها المصنف للترمذي ولم يسمّ كتابه، تراها في الكشف عن (الترمذي) في (فهرس الأعلام) من (المجلد الأخير) الخاص بالفهارس، واللَّه الهادي للصالحات. ومن الجدير بالذكر أمور: أولًا: اعتمد عليه في الحكم على بعقر الأحاديث، وأحال أحيانًا على كلامه أو على نقله عن شيخه البخاري أو على كليهما، كما تراه في (2/ 181 - 182، 299، 365 - 366، 379 - 380، و 3/ 174 - 175، 413، و 5/ 5، 9 - 10، 243، 324، 432، 436، 444، 454، 474، 492، 495، 499، 553، 562، 586، 587، 595، 597). ثانيًا: اعتمدنا على "جامع الترمذي" في إثبات نقص وقع في جميع النسخ المطبوعة من كتابنا هذا، كما تراه -مثلًا- في (2/ 365). ثالثًا: تكلم على أسانيد بعض الأحاديث التي نقلها من هذا الكتاب، وذكر الاختلاف فيها على الرواة، ونقدها، كما تراه في (2/ 374 - 375)، وحكم عليها بالتصحيح، كما في (2/ 379 و 4/ 463 - 464 و 5/ 537 - 538)، وبالتحسين كما في (5/ 374، 496)، وبالتضعيف كما في (3/ 174، 416 و 5/ 358). رابعًا: قرن في كثير من الأحاديث عزو الحديث لأحمد مع الترمذي، كما تراه في (1/ 120، 232، 407 و 2/ 451 و 3/ 414، و 5/ 432، 448، 553)، بل قرن حكمهما على إسناد، فإنهما يصححان مثله، انظر (5/ 460).

خامسًا: شرح المصنف غريب بعض الأحاديث التي عزاها للترمذي، انظر -على سبيل المثال-: (5/ 454 - 455). سادسًا: عزى المصنف بعض الأحاديث للترمذي، وهي في "جامعه" بلفظ آخر، انظر مثلًا: (2/ 365 و 5/ 389). سابعًا: وأخيرًا: إن تسمية المصنف لكتاب الترمذي "الجامع" هو أدق من تسميته بـ "السنن" إذ مادته أوسع من الأحكام الفقهية. - "سنن النسائي"، نقل المصنف من "السنن الصغرى" المسمى بـ "المجتبى" و"السنن الكبرى" كلاهما للنسائي، واكتفى بقوله "في "سنن النسائي"" أو "ذكره النسائي في "سننه"" ونحو ذلك، كما تراه في (2/ 71، 384 و 9/ 203، 347، 349، 412، 413). أما مجرد عزو الحديث للنسائى فقط دون ذكر اسمه: "سننه" فهذا كثير، يطلب من مجلد الفهارس (¬1). وبعض نقولات المصنف في "سننه الكبرى" كما تراه في (3/ 347 و 4/ 314). وحكم المصنف على أحاديث النسائي، وصرح بصحتها: فقال مثلًا في (2/ 379): "صحيح"، وفي (2/ 384): "على شرط مسلم"، وفي (3/ 347 - 348): "ليس فيه بحمد اللَّه إشكال"، وتعقّب حكمه في (2/ 264). وقال في (2/ 347): "رُوِّينا (¬2) في "سنن النسائي". . . ". ونقل في (1/ 188) على إثر حديث، قال: "ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث. . . " وأورد ترجمة النسائي عليه، ثم قال (1/ 189): "ثم ترجم عليه ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه" وذكر ترجمة أخرى له، وقال: "فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقولُ والفطر بها منها ولعمر اللَّه! إن هذا هو العلم النافع، لا خرص الآراء، وتخمين الظنون". ¬

_ (¬1) عند (النسائي) في (فهرس الأعلام). (¬2) ضبطها هكذا (رُوِّينا) مبنية للمجهول هذا هو الراجح، ونصره جماعة، وضَّح ذلك عبد الغني النابلسي في رسالته "إيضاح ما لدينا في ضبط كلمة روينا"، وهي برمتها في هامش من تعليقي على "تعظيم الفتيا" لابن الجوزي، وهو مطبوع، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

وذكر أيضًا في (3/ 350) ترجمة للنسائي على حديث، وصرح بأنها له، وهي في "سننه الكبرى" (4/ 314). ومن الجدير بالذكر أنه عزى بعض الأحاديث للنسائي وهو في "صحيح مسلم"، كما تراه في (3/ 349 - 350) وكذلك فعل في حديث آخر وهو في البخاري، كما تراه في (5/ 311) وساق لفظ النسائي في (5/ 492) وعزاه لأبي داود، وعزى حديثًا للنسائي لم أجده فيه! كما في (5/ 594). - "سنن ابن ماجه"، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 71، 301، 379، 381، 384، و 3/ 414، 416، 420، 528 و 4/ 87، 458، و 5/ 155). وفي الكتاب نقولات عديدة منه، اكتفى المصنف بعزوها لصاحبها، تطلب من المجلد الخاص بالفهارس (¬1). ولم تسلم بعض الأحاديث فيه من نقدات المصنف، فقد حكم بنكارة بعض الألفاظ، على الرغم من إيراد ابن ماجه لها بإسناد مشهور، كما تراه في (2/ 301 - 302)، وتردد في تضعيف بعضها كما في (3/ 420) ويورد شواهد لبعضها، كما في (3/ 528 - 529). وصحح أسانيد بعض الأحاديث فيه، كما تراه في (2/ 379، 381 - 382)، وحسّن بعضها كما في (4/ 87)، وقال عن بعضها كما في (2/ 384): "رجال هذا الإسناد محتج بهم في "الصحيح"" ورَدَّ تضعيف بعض العلماء لبعض الأحاديث فيه، انظر -مثلًا-: (3/ 416 - 419). وهنالك أحاديث في هذه "السنن" لم يعزها المصنف لها وعزاها لمصدر أبعد، كالبيهقي مثلًا، كما في (3/ 276)، ورأيت في نسخ كتابنا الخطية ومطبوعاته أحاديث معزوة لابن ماجه، وهي ليست في مطبوع "سننه" كما في (2/ 381 - 382). - "سنن الدَّارمي"، نقل منه المصنف وسماه في (2/ 158): "صحيح الدارمي" (¬2). - "سنن سعيد بن منصور"، نقل منه المصنف وسماه في (3/ 341، 405، 406، 421، و 4/ 88، 89)، ونقل عن صاحبه دون التصريح باسم كتابه في (1/ 106، 468 و 2/ 256، 388، و 3/ 291 - 292، 372، 395) ولا يبعد عندي ¬

_ (¬1) عند (ابن ماجه) في (فهرس الأعلام). (¬2) في هذا تجوّز لا يخفى! مع التنويه إلى أن النقل نفسه في "صحيح البخاري" أيضًا.

أن بعض هذه المواطن منقولة بالواسطة، من خلال ابن عبد البر وابن حزم، كما هو موضح في التعليق على المواطن المذكورة. - "سنن الدارقطني" (¬1)، نقل منه المصنف وسماه في مواطن، هي (2/ 316، 317، و 3/ 199، 223، 419، 429، و 5/ 284). وأما النقل عن الدارقطني دون التصريح باسم "سننه"، فكثير جدًّا ينظر في (فهرس الأعلام) من المجلد الخاص بالفهرسة، واللَّه الموفق. وأعلّ المصنف بعض أحاديثه، كما في (2/ 316 - 317) ورجّح الوقف على الرفع، وضعّف بعضها كما في (3/ 140 - 143 و 5/ 308) واعتمد في بعض ذلك على قول الدارقطني عليها، وزاد تفصيلًا على قوله، كما تراه (3/ 140، 175، 192، 193، 223، 237، 284، 299)، واعتمد عليه في توهيم بعض الحفاظ في بعض الألفاظ، انظر (3/ 274). وينبغي هنا ذكر الأمور الآتية: أولًا: نقل المصنف من "سنن الدارقطني" في بعض الأحايين بالواسطة (¬2)، فنقل مثلًا في (3/ 234): "حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلم مرة واحدة. . . " قال: "رواه الدارقطني" وهكذا وقع في "الأحكام الوسطى" (2/ 217) لعبد الحق الإشبيلي بإسقاط (روح بن) قبل (عطاء بن أبي ميمونة) كما هو في "سنن الدارقطني" (¬3) (1/ 358 - 359) أو رقم (1338 - بتحقيقي)، فتابع المصنِّفُ عبدَ الحق في هذا الإسقاط، وتعقب عبدَ الحق ابنُ القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 22). ثانيًا: حكم المصنف على بعض أسانيده بالصحة، كما في (5/ 310) أو ¬

_ (¬1) فرغت من مقابلته على نسخ خطية، وعرض أحاديثه على مظانها وسائر كتب الدارقطني و"إتحاف المهرة" لابن حجر، يسر اللَّه إنجازه على الوجه الذي فيه تدقيق وإفادة، واللَّه الموفق. (¬2) ولا سيما البيهقي في "سننه" و"خلافياته" كما في (3/ 438)، انظر ما قدمناه في أول الكلام على المصادر تحت (كتب البيهقي)، وكذلك بواسطة ابن بزيزة في "شرح أحكام عبد الحق" كما صرح المصنف به في (3/ 429). (¬3) وكذلك في "التحقيق" لابن الجوزي (2/ 361 رقم 623) من طريق الدارقطني بإثبات (روح بن).

المسانيد والمعاجم

الحسن كما في (5/ 312)، ونقل ذلك عنه، قال في (5/ 325) على إثر حديث: "قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات". ثالثًا: لم يكن دقيقًا في بعض هذه الأحكام، كما تراه في التعليق على (5/ 312). - "سنن البيهقي"، مضى الكلام عليه في أول الكلام على موارد المصنف، تحت (كتب البيهقي). - "سنن الأثرم" (¬1)، نقل منه أثرًا طويلًا، وصرح باسمه في (3/ 436) وفي الكتاب نقولات عديدة عن الأثرم، هي في "مسائله للإمام أحمد" كما سبق توضيحه. * المسانيد والمعاجم: صرح المصنف بالنقل من عدة (مسانيد) (¬2) في كتابه هذا، وكان أكثرها وأشهرها على الإطلاق: - "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، نقل عنه وأكثر جدًّا، ولعله لم تقع له كثرة نقل من كتاب كما وقع له منه، وجلُّ هذه النقولات معزوة لأحمد (¬3)، دون تصريح باسم "المسند". وهذه المواطن التي صرح فيها باسم "المسند" (1/ 232، 280، 302، 308، 407، 410، 414، 420، 422، و 2/ 307، 451، و 3/ 75، 185، 186، 209، 214، 216، 228، 297، 329، 378، 382، 412، 413، 414، 415، 527، 528، و 4/ 38، 77، 85، 374، 413، 498، 581، و 5/ 9، 231، 243، 246، 279، 286، 452). ومن الجدير بالذكر هنا أمور، هي: أولًا: إعجاب المصنف الشديد بالإمام أحمد، فقد ذكر ذلك في مناسبات عديدة وألفاظ قوية، فقال -مثلًا- في (1/ 49) عنه: "إمام أهل السنة على ¬

_ (¬1) لا أعرف له أثرًا، سوى قطعة يسيرة من أوله محفوظة في الظاهرية. (¬2) انظر: (5/ 54). (¬3) انظر: (أحمد بن حنبل) في (فهرس الأعلام) من المجلد الأخير، مع التنبّه أن كثيرًا من المواطن فيه لا صلة لها بـ "المسند" إذ ينقل عن "مسائل" أصحابه له، وكذا عن كتب أخرى، كما قدمناه تحت عنوان (كتب أحمد بن حنبل).

الإطلاق"؛ و"الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعُه إلى يوم القيامة"؛ ومدح علمه جدًّا، وقال عن (فتاويه) و (مسائله): "حُدِّث بها قرنًا بعد قرن، فصارت إمامًا وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد، والمقلّدين لغيره، ليعظّمون نصوصَه وفتاواه، ويعرفون لها حقَّها وقُربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأمل فتواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كلّ منهما للأُخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة،. . . " وأسهب في بيان أصول فتاويه على وجه جيِّد. ثانيًا: لم يقع في عزو المصنف في غير موطن تمييز بين "المسند" و"زوائده" انظر -على سبيل المثال- (3/ 287 و 5/ 209، 212، 213، 314، 596)، وعزى بعض الأحاديث لأحمد وهي في "صحيح مسلم" كما في (1/ 410 و 5/ 332، 445)، أو "مجتبى النسائي"، كما فى (5/ 326)، بينما عزى بعض الأحاديث لابن عبد البر وهي في "المسند" كما في (2/ 288)، وللبزار وهي عند أحمد كما في (5/ 584). ثالثًا: عزى المصنف بعض الأحاديث لأحمد، وهي ليست بالألفاظ المذكورة في "المسند" كما تراه في (1/ 302 و 5/ 346)، وعزى بعضها له عن صحابي، وهي في "المسند" عن صحابي آخر، كما في (1/ 410 - 411)، وبعضها لم أجدها فيه بالكلية كما في (2/ 451 و 3/ 297 و 5/ 326). - "مسند البزار"، نقل منه وصرح به في (5/ 584)، ونقل في (2/ 543) عن البزار، بواسطة ابن حزم في "الإحكام". - "مسند الطيالسي"، نقل منه وصرح به في (3/ 210، 226)، ونقل منه دون تصريح إلا باسم صاحبه في (1/ 67 و 2/ 431 (¬1)، و 3/ 198، 204، 275 (¬2) و 4/ 413، 579). - "مسند أبي بكر بن أبي شيبة"، نقل منه وصرح به في (3/ 415). - "مسند عبد بن حميد"، نقل منه وصرح به في (1/ 99)، ونقل منه في (1/ 64 (¬3)، 109) (¬4). - "مسند أبي يعلى"، نقل منه وصرح به في (1/ 233). ¬

_ (¬1) بواسطة الإمام أحمد رحمه اللَّه. (¬2) بواسطة البيهقي رحمه اللَّه. (¬3) بواسطة ابن عبد البر رحمه اللَّه. (¬4) بواسطة الطبري رحمه اللَّه.

كتب أحاديث الأحكام وشروحها

- "المعجم الكبير" للطبراني، نقل منه وصرح به في (1/ 421، و 5/ 234، 235، 237)، ونقل منه (¬1) ولم يسمه في (4/ 580). * كتب أحاديث الأحكام وشروحها: نقل المصنف من بعض كتب (أحاديث الأحكام)، وهذا ما صرح به منها: - "الأحكام" (¬2) لأبي عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المقدسي الصالحي، المعروف بـ "ضياء الدين" (ت 643 هـ)، نقل منه في (5/ 422)، قال بعد أن ذكر حديثًا: "ذكره أبو عبد اللَّه المقدسي في "أحكامه"". - "الأحكام" لعبد الحق الإشبيلي، نقل منه بعض الأحاديث والآثار (¬3)، وسيأتي بيان ذلك في: - "شرح أحكام عبد الحق"، ذكره المصنف بهذا العنوان مرات، وسمى مؤلفه، ابن بزيزة، قال في (2/ 363)، ونقل عنه نصًا في مسألة (الحلف بالطلاق) وأنه لا يلزم، وقال عن هذا المذهب: "صحيح عن علي ولا يعرف له في الصحابة مخالف" وقال بعده مباشرة: "ذكره ابن بَزيزة في "شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي"، فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن، وكان حاصل ما ردوا به قولَه أربعة أشياء: أحدهما -وهو عمدة القوم- أنه خلاف مرسوم السلطان، والثاني: أنه خلاف الأئمة الأربعة، والثالث: أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: "إن أبرأتِنِي فأنتِ طالق" ففعلَتْ، والرابع: أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول، فلا يلتفت إليه، فنقَضَ -يريد ابن تيمية- حُجَجَهم وأقام نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول، وصنَّف في المسألة قريبًا من ألف ورقة، ثم مضى لسبيله راجيًا ¬

_ (¬1) نقل أثرًا لحذيفة، وعزاه للطبراني وأبي نعيم وهو في "صحيح البخاري"!! (¬2) قال ابن رجب: "في عشرين جزءًا في ثلاث مجلدات، يعوز قليلًا"، وأتمه ابن أخيه وتلميذُه محمد بن عبد الرحيم المقدسي (ت 688 هـ)، قال ابن طولون: "وتمم تصنيف "الأحكام" الذي خرجه عمه الحافظ ضياء الدين"؛ وللعلامة الفقيه محمد بن أحمد بن عبد الهادي (ت 744 هـ): "الأحكام الكبرى المرتبة على أحكام الحافظ الضياء"، كمل منها سبع مجلدات؛ انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 437)، "القلائد الجوهرية" (1/ 135 و 2/ 314)، "التنويه والتبيين في سيرة محدث الشام الحافظ ضياء الدين" (323 - 324). (¬3) انظر ما قدمنا قريبًا عند كلامنا على "سنن الدارقطني"، والتعليق على (3/ 234).

كتب العلل

من اللَّه أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون". وأعاد النقل عنه في (3/ 471) المسألة نفسها، ولكن زاد ذكر مذهب تاج الدين أبي عبد اللَّه الأرموي في المسألة. وسمى صاحبه واسم كتابه في (2/ 20 - 21) لما نقل حكم المسألة نفسها منه، قال: "وحكاه أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التَّميمي المعروف بـ (ابن بَزيرة) في كتابه المسمى بـ "مصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام في باب ترجمته: (الباب الثالث: في حكم اليمين في الطلاق أو الشك فيه): وقد قدمنا في كتاب (الأيمان) (¬1) اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك: هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب وشريح وطاوس: لا يلزم من ذلك شيء، ولا يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، قال: وصحح. . . ". وأعاد نقل مذهب علي في (4/ 520 - 521) وسمى الكتاب "شرح أحكام عبد الحق" وسمى مصنفه: "أبا القاسم التميمي". * كتب العلل: نقل المصنف من بعض (كتب العلل)، وصرح بأسماء كتابين منها، هما: ¬

_ (¬1) ظن صاحب "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب "إعلام الموقعين" أن كتاب "الأيمان" لابن القيم، وقال: "لم أجد من المترجمين لحياته من نسب هذا الكتاب إليه -أي إلى ابن القيم!! - وقد قال في الموضعين المشار إليهما: "وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك، هل يلزم أم لا؟ " واللَّه أعلم". قال أبو عبيدة: القائل في الموضعين: "وقد قدمنا. . . " هو ابن بزيزة وليس ابن القيم، والموطن الأول هو السابق وهو عندنا في (2/ 20 - 21)، وأما الموطن الثاني، فهو في نشرتنا (3/ 441)، قال ابن القيم فيه بعد كلام: "قال عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التميمي المعروف بـ (ابن بزيرة) في "شرحه لأحكام عبد الحق": (الباب الثالث: في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه): وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلاف العلماء. . . " ووقع في بعض المطبوعات. "قاله عبد العزيز. . . " فأصبح: "وقدمنا. . . " من كلام ابن القيم، وهذا خطأ، فالقائل: "وقد قدمنا في كتاب الأيمان. . . " هو ابن بزيزة، هذا واضح لمن تأمل نقل المصنف عنه في مواطن من الكتاب، والعبارات التي نقلها المصنف عنه هي هي، والمتامل فيها جميعًا يقطع بما قلناه، واللَّه الموفق للخيرات، والهادي إلى الصالحات.

كتب مسندة تعتني بالأحاديث وآثار السلف

- "العلل" للترمذي، نقل منه، وصرح باسمه في (3/ 175، 416، 417). - "التعاليق على كتاب العلل" ذكره وسماه هكذا في (1/ 85)، وهو لأبي إسحاق، والعبارة التي فيها ذكر لهذا الكتاب إنما هي لأبي يعلى الفراء في "العدة" (5/ 1597 - 1598)، فنقل المصنف منه بالواسطة. ونقل أيضًا من "العلل ومعرفة الرجال" لعبد اللَّه بن الإمام أحمد ولم يسمه كما في (3/ 369)، ولعله نقل من كتاب "العلل" للدارقطني أيضًا، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 142). * كتب مسندة تعتني بالأحاديث وآثار السلف: أكثر المصنف من النقل عن المصادر الأصلية المسندة، ولا سيما تلك التي تعتني بآثار السلف، وسبق قسم منها، مثل: "الخلافيات" و"السنن الكبرى" و"معرفة السنن والآثار" و"المدخل إلى السنن الكبرى" كلها للبيهقي، و"الأم" و"الرسالة" و"المسند" كلها للإمام الشافعي، و"الحيل" المنسوب لمحمد بن الحسن الشيباني، و"الحيل" للخصاف، و"الموطأ" للإمام مالك، و"التمهيد" و"الاستذكار" و"جامع بيان العلم" كلها لابن عبد البر، و"المدونة" و"مسائل الإمام أحمد" على اختلاف رواتها (¬1)، وبعض كتب القاضي أبي يعلى (¬2)، وبعض كتب ابن بطة، و"المترجم" للجوزجاني، و"المحلى" و"الإحكام" لابن حزم، و"الأموال" و"القضاء" -والنقل منه بالواسطة- و"الغريب" كلها لأبي عبيد، وكتب الفتوى (¬3): لابن الجوزي وابن الصلاح وابن حمدان، وبعض التفاسير (¬4) ولا سيما المسندة. وهنالك كتب أخرى نقل منها المصنف، وهي مسندة، مثل: - "أمثال الحديث" للرامهرمزي، نقل منه، ولم يسمه، واكتفى بنسبة بعض النصوص أحيانًا إلى المؤلف، والنقل -فيما ظفرتُ به- محصور في (1/ 409 - 423)، وتكاد تكون أغلب ما في هذه الصفحات منه، حتى الأحاديث المعزوة "للصحيحين"، فهي بلفظ الرامهرمزي! - "الجامع" للثوري، نقل منه وصرح باسمه في (3/ 223) والنقل منه بالواسطة، كما بيّناه في التعليق على الموطن المذكور. ¬

_ (¬1) سبق تعدادها في (كتب الحنابلة). (¬2) سبق تعدادها في (كتب الحنابلة). (¬3) سبق تعدادها وتخصيصها بالذكر. (¬4) سبق تعدادها وتخصيصها بالذكر.

- "مصنف عبد الرزاق"، نقل منه وسماه في (4/ 521، 522) ولم يسمه في مواطن كثيرة (¬1)، منها (2/ 158). - "الخراج" ليحيى بن آدم، نقل منه وسماه في (2/ 374). - "مصنف ابن أبي شيبة"، نقل منه ولم يسمه في مواطن منها (4/ 457، 459، 461) ونقل منه في مواطن أخرى، انظر (2/ 69، 385، و 3/ 290، 546)، ووقع بعضها بالواسطة كما صرح به المصنف. - "مصنف وكيع"، نقل منه (¬2) وسماه فيه (3/ 448). - "جزء رفع اليدين" للإمام البخاري، نقل منه، ولم يسمه في (3/ 271). - "زهد ابن المبارك"، نقل منه (¬3) ولم يسمه في (1/ 62). - "شرح معاني الآثار" للطحاوي، نقل منه، ولم يسمه في (2/ 366، 375، 3/ 236)، وهنالك نقولات أخرى في الكتاب عن الطحاوي، مثل: (1/ 138، 143، 467، 468) جلها بواسطة ابن حزم في "الإحكام". - "تهذيب الآثار" لابن جرير الطبري، نقل منه وصرح باسمه في (1/ 148)، ونقل منه دون تصريح واكتفى بعزو الكلام لصاحبه في (1/ 36، 37، 38، 116). - "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي، نقل منه وصرح باسمه في (1/ 87 و 4/ 450)، ونقل منه دون تصريح باسمه في مواطن، منها: (1/ 83 - 84، 88، 351، 355، 465، 466، 470، 471، 472، 473، 474، و 5/ 134). - "صفة الجنة" لضياء الدين المقدسي، نقل منه، ولم يسمّه في (5/ 222، 223). - "الغيلانيات"، عزى له حديثًا في (3/ 141) قال: "وفي "الغيلانيات": ثنا إبراهيم بن أبي يحيى. . . " وساقه بالسند. ونقل المصنف هذا الحديث من "سنن الدارقطني" (3/ 44) وهو فيه من طريق يحيى بن غيلان حدثنا إبراهيم بسنده ولفظه، فظن أن الحديث في "الغيلانيات" لوجود يحيى بن غيلان! في سنده، فاراد أن يعلو بعزوه، والأمر ليس ¬

_ (¬1) انظرها في (فهرس الأعلام) في (المجلد الأخير)، ولعله وقع بعضها للمصف بالواسطة. (¬2) بواسطة ابن حزم في "المحلى". (¬3) بواسطة ابن عبد البر في "جامع بيان العلم".

كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل

كذلك، إذ الحديث ليس في "الغيلانيات" بطبعاته الثلاثة، ولم يعزه غيره له (¬1)، و"الغيلانيات" نسبة إلى ما رواه أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز عن صاحبها أبي بكر محمد بن عبد اللَّه الشافعي، ولا صلة لها بـ (يحيى بن غيلان)، فتنبه لذاك، تولى اللَّه هداك. وعليه؛ فإن هذا الكتاب ليس من مصادر المؤلف في كتابه هذا، وإن ذكر عنوانه فيه! واللَّه أعلم. - "جامع ابن وهب"، نقل منه، وصرح به في (2/ 462)، والنقل بواسطة ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"، كما وضحناه في التعليق على الموضع المذكور (¬2). وهنالك كتب كثيرة فيها أخبار وآثار، والنقل منها بالواسطة، ككتاب "الشبهات" للآجري، فيما وضحناه في التعليق على (4/ 139). * كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل: سبق بيان نقل المصنف من بعض كتب التراجم والجرح والتعديل، مثل: "مناقب أبي حنيفة"، و"مناقب الشافعي" للبيهقي، و"آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم، و"الانتقاء" لابن عبد البر، و"طبقات الفقهاء" لأبي إسحاق الشيرازي، و"أخبار سحنون بن سعيد" (¬3) لمحمد بن الحارث. وهنالك كتب استخدمها المصنف في الحكم على الرواة جرحًا وتعديلًا، وصرح بأسماء بعضها تارة، ولم يصرح تارة أخرى، من مثل: - "الكمال في أسماء الرجال" لمحمد بن عبد الواحد المقدسي، نقل عن صاحبه ولم يصرح باسمه في (3/ 418). - "الكامل في الضعفاء" لابن عدي، نقل منه، وصرح باسمه في (4/ 479). والذي رأيته من خلال عملي في الكتاب أن غير نقل للمصنف في الرواة جرحًا وتعديلًا إنما كان بواسطة: ¬

_ (¬1) إلا من قلّده! وكذلك وقع له مثال آخر في "فوائد حديثية" (ص 147 - بتحقيقي). (¬2) وكذا على المواطن التي صرح المصنف بعزوها إلى ابن وهب دون تسمية "جامعه"، كما تراه في (فهرس الأعلام): (عبد اللَّه بن وهب)، (ابن وهب). (¬3) نقل منه بواسطة ابن عبد البر، صرح المصنف بذلك، انظر: (2/ 464).

المصادر الشفهية وما في حكمها

- "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (¬1) للذهبي، وهذه ثلاثة أدلة تدل على ذلك: الأول: نقل في (3/ 308 - 309) أقوالًا لأئمة الجرح والتعديل في (الحارث بن عبيد) جلها في "الميزان" (1/ 438)، وأعلّا حديثًا أورداه في ترجمته، ومفاد التعليل في عبارتيهما واحد. الثاني: نقل في (3/ 304 - 305) أقوالًا عن ابن لهيعة، هي في "الميزان" (2/ 477)، نقلها المصنف منه. الئالث: نقل في (3/ 237) أقوالًا في جملة من الرواة، منقولة من "الميزان"، كما في تعليقي على الموطن المذكور. وهنالك كتب سبق ذكرها، ونقل المصنف منها أحكام أئمة الجرح والتعديل على الرواة، مثل: "الجامع" و"العلل" كلاهما للترمذي، و"السنن" و"الخلافيات" كلاهما للبيهقي، و"سنن الدارقطني"، وغيرها. ونقل المصنف من الكتب المتخصصة في التراجم بعضر الأخبار والآثار، ووقع له ذلك بالواسطة، وهذا البيان: "التاريخ الكبير" للبخاري، نقل منه وسماه في (4/ 88) وكان ذلك بواسطة "بيان الدليل" لشيخه ابن تيمية، وفي كتابنا نقولات أخرى منه بواسطة "الإحكام" لابن حزم. وكذا "التاريخ الأوسط" للبخاري، و"تاريخ أبي زرعة الرازي"، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 242 - 471، و 2/ 458)، و"المعرفة والتاريخ" للفسوي، وسبق الحديث عن هذه الكتب فيما تقدم تحت عنوان (كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ). * المصادر الشفهية وما في حكمها: اعتمد المصنِّفُ على مصادر شفهيّة بالإضافة إلى ما قدمناه من كتب أصلية، تكاد تشمل جميع العلوم، وهذا البيان: قال في (مسألة عدم لزوم الطلاق للحالف فيه) في (4/ 542): "وعندنا بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها عن جماعة من أهل العلم، الذين ¬

_ (¬1) ونقل منه أيضًا في كتابه "الفروسية" و"فوائد حديثية"، وهما مطبوعان بتحقيقي.

هم أهله في عصرنا وقبله، أنهم كانوا يفتون بها أحيانًا" قال: "فأخبرني صاحبنا الصادق محمد بن شهوان، قال: أخبرني شيخنا الذي قرأتُ عليه القرآن -وكان من أصدق الناس- الشيخ محمد بن المحلى، قال: أخبرني شيخنا الإمام خطيب جامع دمشق عز الدين الفاروقي، قال: كان والدي يرى هذه المسألة، ويفتي بها ببغداد". وقال في (4/ 56): "وأخبرني رجل من علمائهم -أي: علماء الطبيعة- أنه أجلس قرابةً له يكحل الناس؛ فرمد، ثم برئ، فجلس يكحلهم، فرمد مرارًا، قال: فعلمتُ أن الطبيعة تنقل، وأنه في كثرة ما يفتح عينيه في أعين الرُّمْد، نقلت الطبيعة الرمد إلى عينيه" وقال في (5/ 76): "أن مفتيين اختلفا في جواب فكتب تحت جوابهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له: إنهما قد تناقضا فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا. وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدَّم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى، فيكتب، يجوز كذا، أو يصح كذا، أو ينعقد بشرطه فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبيّن شرطه، وإما أن لا تكتب ذلك. وسمعت شيخنا يقول: كلُّ أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أو يصح بشرطه أو يقبل بشرطه ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكده، وكذلك قول بعضهم في فتاويه: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، فيا سبحان اللَّه! واللَّه لو كان الحاكم شُريحًا وأشباهه لما كان مردُّ أحكام اللَّه ورسوله إلى رأيه، فضلًا عن حُكَام زماننا، فاللَّه المستعان". وقال في (5/ 97 - 98): "وأذكر لك من هذا مثالًا وقع في زماننا، وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير عمائمهم، وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين، فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم، وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإسلام وإذلال الكفرة ما قرَّت به عيون المسلمين؛ فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوَّروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغيار، وهي: ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة أُلزموا بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف، فحصل

لهم بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع وآذوهم غاية الأذى، فطُمِع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم؟ فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول، وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يُعرفون بها؟ وهل في ذلك مخالفة للشرع أم لا؟ فأجابهم مَنْ مُنِع التوفيق، وصُدَّ عن الطَّريق بجواز ذلك، وإن للإمام إعادتهم إلى ما كانوا عليه، قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلتُ: لا تجوز إعادتهم إلى ما كانوا عليه ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيَّروا الفتوى، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا، ثم أتوا بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المعينة، وإنْ خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان وتكلَّم عنده بكلامٍ عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم وللَّه الحمد. ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى، فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوَّروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف في الجامع وأخرجوها في قالب حسن، حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه، وسبحان اللَّه كم تُوُصِّل بهذه الطريق إلى إبطال حق وإثبات باطل! وأكثرُ الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال، وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم، ولا قريبًا من ذلك، فاللَّه المستعان". وفي الكتاب استطرادات حول (تعبير الرؤى) (¬1)، لم يعزها المصنف لأحد، والغالب أنها مأخوذة عن شيخه أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن سرور المقدسي (628 - 697 هـ)، وقد وجدته يصرح بذلك في كتابه "زاد المعاد" (فصل: قدوم وفد بني حنيفة) (¬2) فإنه نقل عنه جملة من (التعبير)، ثم قال: "وهذه كانت حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعتُ عليه عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر سنه، واخترام المنية له، رحمه اللَّه تعالى". ولشيخه هذا "البدر المنير في علم التعبير" وشرحه أيضًا، والكلام الموجود ¬

_ (¬1) في "ذيول العبر" (4/ 155)، في ترجمة (ابن القيم): "وحدث عن شيخه -ابن تيمية- التعبير وغيره". (¬2) (3/ 615 - 616 - ط مؤسسة الرسالة).

بين المصنف وشيخه ابن تيمية

عند المصنف قريب مما فيه في مواطن قليلة، مثل: (تأويل البقر) قارن كلام المصنف بما في "البدر المنير" (279 - 280). وذكر في (5/ 198) تحت (الفائدة الحادية والستين) من (آداب الفتوى) وهي في الإكثار من الدعاء عند الفتوى، قال: "وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجرَّبنا ذلك نحن، فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة". وتعدُّ موارد المصنف الشفهية في كتابنا هذا غيضًا من فيض موارده العلمية المتنوعة، وهي تدلل على تفنُّن المصنف، وتترجم حرصه واهتمامه بالكتب كما ذكره غير واحدٍ من مترجميه (¬1). ومن الواجب أن يُذَكر هنا أن المصنف لم يعن بذكر الكتب كعنايته بتحرير المسائل والمباحث، وأنه أكثر من النقل عن الكتب التي لها تعلق بمباحث الكتاب (¬2) من مثل: الفتوى ومباحثها وما يخدمها ويخدم المباحث المتفرعة عنها، وما يلزم القضاة والمفتين (وهم الموقِّعون عن رب العالمين). ومن المشايخ الذين أكثر المصنف ذكرهم وتردادهم في كتبه عامة، وفي كتابه هذا خاصة: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الحراني، الشهير بـ (ابن تيمية)، ونقولاته عنه كانت من كتبه ومؤلفاته، ومباحثه وتحريراته، وما سمعه من فمه، وألقاه اللَّه عز وجل على لسانه من حكم ومباحث ومواقف، وهذا ما سنوضّحه في المبحث التالي. وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى ذكر المصنف لبعض مؤلفاته هنا، وأحال عليها، فقال في (4/ 420 - 421) عند مسألة (المحلل في السباق)، وحكمه عند العلماء وتفاصيلهم في وجوده على أقوال، قال عنها: "وقد ذكرناها في كتابنا الكبير "الفروسية الشرعية"، وذكرنا فيه، وفي كتاب "بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال" بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا، وبيّنّا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه، وكلام الأئمة في ضعفه، وعدم الدلالة منه على تقدير صحته". * بين المصنّف وشيخه ابن تيمية: كان ابن القيم معجبًا بشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أشد إعجاب، وكان له ¬

_ (¬1) قدمنا نقولاتهم في مطلع هذا المبحث. (¬2) سبق الكلام على ذلك بالتفصيل، وللَّه الحمد والمنة.

الأثر البالغ في "تكوين اتجاهه، وتغذية مواهبه، وإشباع نهمته بعلوم الكتاب والسنة، والرد إلى اللَّه والرسول، حتى صار أبرع تلاميذه، وألمعهم نجمًا، وأجلاهم اسمًا، فلا يكاد يُذَكر الشيخ ابن تيمية إلا ويذكر معه تلميذه ابن قيم الجوزية، وسرى نور هذين العلمين في آفاق المعمورة، بسعة العلم، وأصالة الفكر، والتجديد في دعوة الناس إلى صراط اللَّه المستقيم" (¬1). وكانت مدة ملازمة ابن القيم لشيخه ستة عشر عامًا (¬2)، منذ سنة (712 هـ) -وهي السنة التي عاد فيها ابن تيمية من مصر إلى دمشق- إلى سنة (728 هـ)، سنة وفاة ابن تيمية. وفي هذه المدة أخذ التلميذ من الشيخ علمًا جمًّا، وتأثّر بسَمْتِه وهديه، واستمع إلى نصائحه وتوجيهاته (¬3)، وعُرف به، وامتحن وأوذي مرات بسبب ذلك (¬4). وكان ابن القيم بارًا بشيخه، كثير الترداد لاسمه، والثناء عليه، وذكر اختياراته (¬5)، ولعل ذلك لم يقع في كتاب من كتبه كما وقع في كتابنا هذا. وهذه طاقة مهمة من النقولات من خلال جولة سريعة في كتابنا هذا فحسب؛ تدلّل على مدى تأثر المصنف بشيخه، وأنه تَصْدُق فيه مقولة ابن حجر: "غلب عليه حب ابن تيمية، حتى لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه" (¬6) ومقولة الذهبي: "تفقه بشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وكان من عيون أصحابه" (¬7)، ومقولة صلاح الدين ¬

_ (¬1) "ابن قيم الجوزية، حياته وآثاره" (ص 78) للشيخ بكر أبو زيد. (¬2) خلافًا لما ذكره الشيخ صبحي الصالح رحمه اللَّه في تقديمه لـ"أحكام أهل الذمة" (1/ 67) أن مدة ملازمته له زهاء أربعين سنة، نعم منذ اتصاله بابن تيمية سنة (712 هـ) إلى وفاة ابن القيم سنة (751 هـ)، زهاء الأربعين، أما مدة التلمذة والتلقي فهي كما قررنا. (¬3) تجد طرفًا منها في "الهدية في مواعظ الإمام ابن تيمية" (ص 21 - 26) وفيما سيأتي برقم (خامسًا). (¬4) انظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 448)، "أعيان العصر" (4/ 368)، "الدرر الكامنة" (4/ 21)، "النجوم الزاهرة" (10/ 195). (¬5) تجد هذه الاختيارات في (الإحالات) تحت هذا العنوان، وكذا في (فهرس الأعلام) في المجلد الأخير، وتجد في نقولات العلماء الآتية عند بيان أثر الكتاب فيما بعده الارتباط الوثيق بين ذكر ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في نقلها عنهما الآراء والأقوال والترجيحات. (¬6) "الدرر الكامنة" (4/ 21) ومثله في "البدر الطالع" (2/ 143) و"أبجد العلوم" (3/ 139). (¬7) "ذيول العبر" (4/ 155).

الصفدي: "وكان يسلك طريق العلامة تقي الدين ابن تيمية في جميع أحواله ومقالاته التي تفرّد بها، والوقوف عند نص أقواله" (¬1) و"لم يُخلِّفِ الشيخ العلامة تقي الدين ابن تيمية مثله" (¬2)، ومقولة السخاوي عنه: "رئيس أصحاب ابن تيمية، بل هو حسنة من حسناته" (¬3). ومن أكثر كتب ابن تيمية التي نقل منها المصنف في كتابنا هذا "بيان الدليل في إبطال التحليل" (¬4)، وتكاد تكون النقولات الموجودة في كتابنا هذا نسخة أخرى منه، ولا غرو في ذلك، إذ قام المصنف بنسخ "البيان" في (430) ورقة، وما زالت نسخته محفوظة (¬5). قال ابن القيم بعد نقل طويل: "هذا كلام شيخ الإسلام في (مسألة مهر السر والعلانية) في كتاب "إبطال التحليل" نقلته بلفظه" (¬6). والملاحظ أن النقل من هذا الكتاب كثير، ويكون بلفظ المصنف تارة، ويتصرف فيه ويقتصر على المعنى تارة أخرى، ويتخلّله نقولات وإيضاحات ورد استشكالات على تقرير ابن تيمية تارة أخرى، ويكون بعضها من خلال مشاهداته وسماعه، فها هو يقول بعد نقل منه: "وكان شيخنا رحمه اللَّه يمنع من (مسألة التورّق)، روجع فيها وأنا حاضر مرارًا، فلم يرخص فيه" (¬7). ولم أظفر بتصريح ابن القيم باسم الكتاب إلا في موطن واحد (3/ 493)، ويسهب ابن القيم في توجيه كلام شيخه فيه، والتدليل عليه، ورد مؤاخذات وانتقادات المعارضين، مما يجعلنا نقول: إن القول بان ابن القيم نسخة عن شيخه فحسب، فرية بلا مرية، وهي من أكاذيب وبواطيل الخصوم، ولا تصدر إلا ممن ¬

_ (¬1) "أعيان العصر" (4/ 368). (¬2) "الوافي بالوفيات" (2/ 196). (¬3) "وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام" (1/ 53). (¬4) نشر ضمن "مجموع الفتاوى"، وطبع بتحقيق الشيخ حمدي السلفي، عن المكتب الإسلامي، وبتحقيق الشيخ فيحان المطيري عن مكتبة لينا، مصر، وأكثر من النقل عنه في (الحيل) و (سد الذرائع) مع زيادة، مع ملاحظة أن عباراته عبارات ابن تيمية تارة، وطابقتها أخرى، انظر: "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (370). (¬5) في مكتبة الأوقاف العامة، ببغداد، تحت رقم (8473) وعليها تملكات للسفاريني (1138 هـ)، ونعمان الآلوسي (1298 هـ)، انظر: "ثبت ابن تيمية" (50/ 4). (¬6) "إعلام الموقعين" (3/ 489 - 493). (¬7) "إعلام الموقعين" (4/ 86).

لم يَخْبُرْ كلام ابن القيم، وإنما باعثها الحقد والحسد. وينظر لكثرة نقل المصنف من كتاب "بيان الدليل" هذه المواطن مع التنبّه لتعليقنا على بعضها (3/ 416 - 419، 473، 488 - 493، 494 - 495، 495، 523، 529 - 530، 538 و 4/ 6 هامش (7)، 17، 18، 21، 25، 27، 70، 71، 72 - 73، 78، 79، 83، 86، 87، 89، 90، 93، 94، 95، 96 - 99، 100، 101، 139، 140 - 141، 147، 148 - 163، 170، 174، 178 - 183، 234 - 236، 237 - 241، 242، 243، 248 - 250). ولم يقتصر نقل المصنف من "بيان الدليل"، بل تعداه لكتب أخرى، ففي (مسألة المعدول به عن القياس) (¬1) أكثر المصنف من النقل عن شيخه ابن تيمية، ووجدت هذه النقولات في "مجموع الفتاوى" (20/ 504 - 585 و 21/ 1 - 23)، وفي "مجموعة الرسائل الكبرى" بالقاهرة، سنة 1323 هـ، وسماها تلميذه محمد بن عبد الهادي في "العقود الدرية" (ص 45): "قاعدة في تقرير القياس في مسائل عدة، والرد على من يقول: هي على خلاف القياس"، وتذكر بعض فهارس دور الكتب الخطية ضمن مصنفات ابن تيمية "جواب عما يسمى بخلاف القياس الذي يقع في كلام الفقهاء" (¬2)، قال المصنف: "وسألتُ شيخنا -قدس اللَّه روحه- عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس. . . فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس". ¬

_ (¬1) للشيخ عمر عبد العزيز رحمه اللَّه دراسة منشورة بعنوان "المعدول به عن القياس حقيقته وحكمه، وموقف شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية منه" واستفدتُ منها في تعليقي على الكتاب. (¬2) منه نسخة في الخزانة العامة بالرباط، برقم (209)، انظر: "سلسلة التراث المخطوط" (14/ 12)، ونشرها محب الدين الخطيب في القاهرة، سنة 1346 هـ -وعنه غير واحد في بيروت- في مجموع بعنوان "القياس في الشرع الإسلامي". وقام الأستاذ صالح المهندي بتحقيق هذه الرسالة عن نسخة الرباط وطبعها عن وزارة الأوقاف القطرية بعنوان "شمول النصوص لأحكام أفعال العباد"، ثم رأيتها ضمن (المجموعة الثانية) من "جامع المسائل" (3/ 231 - 351) بعنوان "قاعدة في شمول النصوص للأحكام". واعتمد على نسخة الأسكوريال والرباط، وثلاث نسخ أخرى، وقال (ص 236) عن ابن القيم: "فلا نستغرب أن يقتبسها من شيخه على طريقته من الاستفادة من كتبه كما يظهر ذلك لكل من يقرأ كلام الشيخين في موضوع واحد". وقارن بـ "مجموع الفتاوى" (31/ 338 - 356)، و"تفسير آيات أشكلت" (2/ 491 - 573).

قال المصنف بعد ذلك مباشرة: "وأنا أذكر ما حصّلته من جوابه بخطّه ولفظه، وما فتح اللَّه سبحانه لي بيُمن إرشاده، وبركة تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه" (¬1). وكثرت النقولات والاستطرادات والمناقشات حول هذه المسألة، وتقع في نشرتنا في (2/ 165 - 237)، ونَقْلُ المصنف عن شيخه ابن تيمية في هذه المسألة -كنقله في التي قبلها- يظهر تارة، ويَختَفي أخرى، ويتخلله تقعيد وتأصيل وتدليل وتمثيل وتفريع. وهذه المسألة في القياس هي فصل من فصول ثلاثة (¬2)، قرر فيها ابن القيم مذهب شيخه (¬3) بقوة، وأطال النفس جدًّا في تبنّي ما ذهب إليه، كيف لا؟ وها هو يقول عنها: "هذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبيّن للعالم المنصف مقدارُ الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع" قال: "ونحن نعلم أنّا لا نوفِّي هذه الفصول حقَّها ولا نقارب، وأنّها أجلُّ من علومنا وفوق إدراكنا، ولكن ننبّه أدنى تنبيه، ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها، وينهج طرقها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان" (¬4). قال ابن النجار: "وقد ذكر الشيخ تقي الدين -وتبعه ابن القيم- أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وما لا يُعقل معناه، وبيّنا ذلك بما لا مزيد عليه" (¬5)، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 165). (¬2) والفصلان المتبقيان هما: * في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. * في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس، وبطلانها مع وجود النص. والناظر في رسالة "الاقتباس لمعرفة الحق من أنواع القياس" لمحمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، يجدها لا تخرج عن تقرير ابن القيم في هذه الفصول ونقوله عن ابن تيمية منها، إنما كانت بواسطته. (¬3) في مكتبة الأسكوريال برقم (1336): "رسالة في شمول النصوص للأحكام وموافقتها للقياس الصحيح" لابن تيمية، وهي في (11) ورقة، وهي في المكتبة الظاهرية برقم (2693): "مسألة فيمن يقول: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، وهي في (6) ورقات، لابن تيمية أيضًا، وهذه مسميات لكتاب واحد، وهو الذي صنفه ابن تيمية بسبب سؤال تلميذه ابن القيم، كما تقدم نقله عنه هنا، واللَّه الموفق. (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 116). (¬5) "شرح الكوكب المنير" (4/ 225).

فمتابعة ابن القيم لشيخه في هذه المسألة أمر مشهور، كما يؤخذ من هذا النقل، واللَّه الموفق لا رب سواه. وكذلك في مسألة الحلف بالطلاق، فقد أكثر المصنف النقل عن شيخه ابن تيمية فيها، وأظهر عناية شيخه في هذه المسألة، قال (4/ 540): "وصنّف في المسألة ما بين مطوّل ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة (¬1)، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس، وقواعد إمامه خاصة، وغيره من الأئمة زهاء أربعين دليلًا" وقال عن شيخه بعد ذلك: "وصار إلى ربه وهو مقيم عليها، داع إليها، مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه، وأوقاته لمستفتيه، فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا" (¬2). وبيَّن أثر فتياه هذه بقوله: "فعُطِّلتْ لفتاواه مصانع التحليل، وهدّمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشّعت سحائب اللعنة عن المحقلين، والمحلَّل لهم من المطلّقين، وقامت سوقُ الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية. . . " (¬3). وأطال المصنف الكلام في هذه المسألة، وأكثر النقل فيها عن شيخه أبي ¬

_ (¬1) من رسائل ابن تيمية المحفوظة في دور الكتب الخطية: "لمحة المختطف في الفرق بين الطلاق والحلف" منها نسخة في (7) ورقات في مكتبة حسن الأنكرلي، المهداة للأوقاف العامة ببغداد، برقم (13853/ 4) وأخرى في الظاهرية في (8) ورقات، برقم (3808)، وثالثة في مكتبة نصيف بجدة في (18) ورقة، ورابعة في جامعة برنستون - جاريت في (5) ورقات برقم (1521) وأخيرة في مكتبة الأوقاف ببغداد في (10) ورقات، برقم (5674/ 4). ثم رأيتها مطبوعة بهذا العنوان عن دار الراية - الرياض، بتحقيق عبد العزيز بن أحمد الجزائري عن نسخة الظاهرية، وزعم (ص 16) أنها نسخة وحيدة!! وأفاد أن منها قسمًا في: "مجموع الفتاوى" (33/ 58 - 66) وفي "القواعد النورانية" (ص 242 - إلى آخر الكتاب، ط الفقي). ومنها أيضًا: "الاجتماع والافتراق في مسائل الأيمان والطلاق"، منها نسخة في دار الكتب المصرية، رقم (1344)، وأخرى في مكتبة الأوقاف العامة بالموصل (62/ 18) وثالثة في المكتبة العمومية بدمشق (35/ 99/ 18)، ويذكر مترجمو ابن تيمية له في هذا الباب: "تحقيق الفرقان بين التطليق والأيمان" (نحو أربعين كراسة)، "الفرق المبين بين الطلاق واليمين"، "قاعدة في تقرير أن الحلف بالطلاق من الأيمان حقيقة"، وقاعدة سماها "التفصيل بين التكفير والتحليل"، "الرد الكبير على من اعترض عليه في مسألة الحلف بالطلاق" (ثلاث مجلدات). (¬2) "إعلام الموقعين" (4/ 540). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 540).

العباس، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 362، 3/ 341، 364 - 473، 450 - 473 و 4/ 520 - 525). ونقولات المصنف عن شيخه في مسائل الطلاق الأخرى كثيرة، من أهمّها المسائل الآتية: * (المسألة السريجية)، انظرها في نشرتنا (4/ 201 - 234)، وقارن بما في "مجموع الفتاوى" (32/ 289، وما بعد، 311 وما بعد)، و"بيان الدليل" (182، 215 وما بعد). * (مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد)، تعرض لها المصنف في مواطن عديدة من هذا الكتاب (¬1)، ولم يخرج عن رأي شيخه فيها، ولشيخه "سؤال وجواب في الطلاق الثلاث" (¬2). * (مسألة الخلع هل هو طلاق؟)، تعرض لها المصنف في مواطن من كتابه هذا، ولم يخرج عن رأي شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3)، ولابن تيمية: "رسالة في الخلع هل هو طلاق أم لا" (¬4) ويذكر له "مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك". * (فيما يحل ويحرم من مسائل الطلاق)، أكثر المصنف من التعرض لمسائل الطلاق وتفصيلاته (¬5)، وهو يقرر ما ذهب شيخه إليه بقوّة، وينتصر له بناءً على موافقته الدليل الشرعي، ولابن تيمية رسائل مفردة في هذا الباب (¬6). ¬

_ (¬1) انظرها في المجلد الأخير (فهرس الفوائد الفقهية - كتاب الطلاق). (¬2) منه نسخة في مكتبة جامعة برنستون -أمريكا- جاريت، رقم (1531)، وقد ذكر مترجمو شيخ الإسلام له عدة رسائل في هذا الباب، ثم رأيت في (المجموعة الأولى) من "جامع المسائل"، لابن تيمية (2/ 273 - 291): "فصل في جمع الطلاق الثلاث" و (2/ 293 - 314) "فصل في الأحاديث الواردة في الطلاق الثلاث" و (2/ 315 - 349)، "فصل في الطلاق الثلاث" و (2/ 351 - 367)، "فتوى في الطلاق الثلاث بكلمة واحدة"، وهي كلها بتحقيق الأستاذ محمد عزير شمس عن نسخ محفوظة في جامعة برنستون، وينظر في تحقيق المسألة "الحكم المشروع في الطلاق المجموع" لذهبي العصر العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني، وهو مطبوع. (¬3) انظر: -على سبيل المثال-: (1/ 224 و 3/ 402 و 4/ 537). (¬4) منها نسخة في مكتبة شهيد علي بتركيا، ضمن السليمانية، رقم (2751). (¬5) انظر: مواطن بحثها في (فهرس الفوائد الفقهية - كتاب الطلاق). (¬6) في معهد المخطوطات بباكو "رسالة فيما يحل من الطلاق ويحرم" برقم (4156 - b) =

وهذه المسائل مبحوثه في مواطن من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، وحصل الوقوف على ما قررناه من تبنّي المصنف لآرائه، وإن لم نظفر بجميع النقولات بالحرف واللفظ من كتبه. والأمر ليس مقتصرًا على (مسائل الطلاق)، وإنما ذكرتها للتمثيل لا للحصر، وإلا فمسألة (الطهارة للطواف) مثلًا ذكرها المصنف هنا (¬2)، ونقلها بتطويل عن ابن تيمية، وظفرتُ بها -على طولها- في "مجموع الفتاوى" (26/ 176 - 218). ومسألة (ضمان البساتين)، لما ذكرها في كتابنا (2/ 213) وذكر الأقوال فيها، قال عن الجواز: "واختاره شيخنا، وأفرد فيه مصنفًا"، وانظر تعليقنا على الموطن المذكور، فهناك بيان اسم هذا المصنّف، ونسخه الخطية، واللَّه الموفق. وهكذا في مسائل كثيرة في مختلف العلوم، والناظر في الهوامش يجد عزوًا كثيرًا لـ"مجموع الفتاوى"، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 485 و 2/ 174، 190، 211، 212، 212 - 213، 214، 225، 228 - 229، 231، 237 - 238، 243، 244، 244 - 245، 247 - 248، 248 - 250، 250 - 253، 255 - 256، 272، 300، 319، 362، 363، 368، 393، 424، 428، 539 و 3/ 371، 382، 463 و 4/ 310، 330، 363، 397، 400، 417، 420، 423، 428، 456، 469، 470، 491، 505، 539 و 5/ 64، 230، 431، 453). ونَقلُ المصنف لم يقتصر من كتب ابن تيمية على هذا، وإنما نقل نصوصًا ¬

_ = في (28) ورقة، كما في "المنتخب من مقتنيات معهد المخطوطات بباكو" (44)، وفي مركز المخطوطات بالكويت (124/ 1): "المسألة البغدادية فيما يحل ويحرم من الطلاق" في (31) ورقة. (¬1) جهدتُ في توثيق المسائل مما وقع تحت يدي من كتب شيخ الإسلام، ولا سيما "مجموع الفتاوى" له، ووثقتُ الاختيار من غيره أحيانًا، مثل "شرح العمدة" له أيضًا، انظر: (4/ 506 و 5/ 303)، ووثقت اختياراته أيضًا من "الاختيارات الفقهية" للبعلي انظر -على سبيل المثال-: (2/ 226، 311 و 4/ 330، 331، 404، 491، 512). (¬2) انظر: "إعلام الموقعين" (3/ 375)، ومن محفوظات مكتبة جامعة الإمام ابن سعود بالرياض، برقم (8959/ 1/ خ) مجموع في (230 ق)، والرسالة قبل الأخيرة فيه "فصل في طواف الحائض والجنب والمحدث" لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي عين ما في "مجموع الفتاوى".

طويلة من "تفسير آيات أشكلت"، وعزاها لابن تيمية، ولم يسم الكتاب، انظر (2/ 73، 411، 397 - 414). ومما ينبغي ذكره هنا أمور: أولًا: كانت عبارات المصنف دقيقة، فتارة كان يصرح باختيار ابن تيمية، وتارة يقول: "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى هذا القول" (¬1) و"كان شيخنا يجنح إليه" (¬2). ثانيًا: كان يرجِّح اختيار شيخه ابن تيمية على مذهب أحمد، فها هو -مثلًا- يقول في (مسألة شراء المسلم طفلًا كافرًا)، و (مسألة السابي) (¬3) هل يحكم بإسلامهما؟ قال: "نحكم بإسلامه، قاله شيخنا قدس اللَّه روحه" (¬4) ثم قال: "ولكن جادة المذهب أنه -أي السابي- باقٍ على كفره كما لو سُبي مع أبويه وأولى" قال: "والصحيح قول شيخنا، لأن. . . " (¬5). ثالثًا: كان يذكر أحيانًا اختياراته، ويقول: "وغيره من الأصحاب" هكذا بالإبهام، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 491، 505)، ويقرنه أحيانًا بذكره لإمام من أئمة الفقه، انظر -مثلًا- (4/ 404). رابعًا: كان رحمه اللَّه يقرر أشياء بإجمال، وتفصيلها في كتب شيخه ابن تيمية، وأذكر مثالين، أحدهما صرح بذلك، والآخر لم يصرح. أما الأول، فقوله (2/ 428): "ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهًا، ذكرها شيخنا رحمه اللَّه في بعض تصانيفه" (¬6). وأما الآخر؛ فقوله بعد سرده مكفرات الذنوب: "فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنب" (¬7)، وهي موجودة بتفصيل وتأصيل وتدليل في كلام شيخه ابن تيمية في ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (4/ 496). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 453). (¬3) صورة المسألة: إذا زوج الذمي عبده الكافر من أمته، فجاءت بولد، أو تزوّج الحرُّ منهم بأَمَةِ فأولدها، ثم باع السيدُ هذا الولَدَ لمسلمٍ. (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 272). (¬5) "إعلام الموقعين" (2/ 272 - 273). (¬6) "إعلام الموقعين" (2/ 428) وقارن -غير مأمور- بـ "مجموع الفتاوى" (11/ 671، 28/ 129، 29/ 279)، وذكر في كتابه "الفوائد" (ص 153 - 164) ثلاثًا وعشرين وجهًا في التفصيل المذكور، وفي الظاهرية تحت رقم (20/ 114 - المجموع) لابن تيمية "قاعدة أن جنس فعل المأمور به أعظم من جنس ترك المنهي عنه". (¬7) "إعلام الموقعين" (3/ 77).

"منهاج السنة النبوية" (6/ 205 - 239) و"مجموع الفتاوى" (7/ 487 - 501) وانظره أيضًا (4/ 432). خامسًا: من الأمور المهمة جدًّا: ذكر المصنف في كتابنا هذا أحوال شيخه، ونصائحه وتوجيهاته له، وأجوبته على أسئلته إياه أو أسئلة غيره مباشرة دون نقل من كتاب، وهي غنية بالفوائد الفرائد، وفي بعضها بيان اختيارات ابن تيمية وتعليق المصنف عليها بتوجيه ماتع، ودقة فائقة، وهذه أمثلة على ذلك: 1 - قال في مسألة (إقامة الإمام الحد على من جاء تائبًا): "وسألت شيخنا عن ذلك، فأجاب بما مضمونه:. . . " (¬1) وذكر كلامًا، ثم وجهه وقوّاه بالأدلة النقلية، وقال عنه: "وهذا المسلك وسط" قال: "وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط" (¬2). 2 - قال: "ولقد أنكر بعضُ المقلّدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي، وهي وقف على الحنابلة، والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له" (¬3). 3 - وقال بعد تقرير لمسألة على وجه بديع: "وهذا مما حصلته عن شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه- وقت القراءة عليه، وهذه كانت طريقته، وإنما يقرر أنّ القياس الصحيح هو ما دلّ عليه النص، وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معًا" (¬4). 4 - ونقل إشكالًا في مسألة عن شيخه، وأنَّ حلَّه كان في منامٍ له، رأى فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأرشده إليه، قال (4/ 372): "وقال شيخنا: كان يشكل عليَّ أحيانًا حالُ من أُصلِّي عليه من الجنائز، هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، فسألتُه عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: يا أحمد! الشرط الشرط، أو قال: علّق الدعاء بالشرط، وكذلك أرشد أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط. . . " (¬5) وأخذ في الاستدلال على ذلك. ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 311). (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 312). (¬3) "إعلام الموقعين" (2/ 542 - 543). (¬4) "إعلام الموقعين" (3/ 158). (¬5) "إعلام الموقعين" (4/ 372)، وانظر المسألة بتفصيل في كتابي "مسائل أعيت العلماء" يسر اللَّه إتمامه بخير وعافية.

5 - قال في مسألة (البيع بما ينقطع به السعر) -وقرر الجواز-: "وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصر ومصر" قال: "وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخُنا، وسمعته يقول: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوةٌ بالناس، اخذ بما يأخذ به غيري. قال رحمه اللَّه ورضي عنه: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتاب اللَّه تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرمه. . . " (¬1) وأخذ بتأييده بسرده الأشباه والنظائر له. 6 - قال في مسألة (تبرع المديون بما يضر بأرباب الدين) -وقرر المنع-: "وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد، أنه كان ينكر هذا المذهب، ويضعّفه، قال: إلى أنْ بُلِي بغريم تبرَّع قبل الحجر عليه، فقال: واللَّه، مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة" (¬2). 7 - قال مبيِّنًا حال شيخ الإسلام لما تُعيِيه المسائل: "وشهدتُ شيخ الإسلام -قدّس اللَّه روحه- إذا أعيته المسائل، واستعصت عليه، فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة باللَّه، واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلَّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيَّتهنّ يبدأ، ولا ريب أن مَن وُفِّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا، وسار قلبه في ميادينه حقيقة وقصدًا، فقد أُعطِي حظه من التوفيق، ومن حُرِمه، فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق، فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم" (¬3). 8 - ذكر من (فقه المفتي): (إذا منع من محظور دلَّ على مباح) وقال عن شيخه بهذا الصدد: "ورأيت شيخنا -قدس اللَّه روحه- يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها" (¬4). 9 - قال: "وسمعتُ شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلتُ له: ما هذه الحكومة؟ ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (4/ 401). (¬2) "إعلام الموقعين" (4/ 404 - 405). (¬3) "إعلام الموقعين" (5/ 67 - 68). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 47).

فقال: هذا حكم اللَّه! فقلت له: صار قول زفر هو حكم اللَّه الذي حكم به، وألزم به الأمة؟! قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم اللَّه، أو نحو هذا من الكلام" (¬1). 10 - ونقل تعليقًا لابن تيمية على صنيع مفتٍ كان في زمانهم يكتب في فتاويه: "يجوز كذا أو يصح كذا، أو ينعقد، بشرطه" قال المصنف: "وسمعت شيخنا يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن أي مسألة وردت عليه، يكتب فيها: يجوز بشرطه، أو يصح بشرطه، أو يقبل بشرطه، ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكده" (¬2). 11 - ونقل المصنف عن شيخه ردًا على فهم مغلوط لبعض فقهاء عصره في فتاوى العلماء، فتعرض -مثلًا- لمسألة (الوقف على أهل الذمة) وأن بعض الفقهاء صححوه، قال: "فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء. . . " إلى قوله: "فغلظ طبع هذا المفتي، وكثف فهمه، وغلظ حجابه عن ذلك، ولم يميز" (¬3). 12 - ونقل فتوى عزيزة في لباس أهل الذمة وأنه "حصل لهم بذلك -أي: بإلزامهم بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف- ضرر عظيم في الطرقات والفلوات، وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع، وآذوهم غاية الأذى" وهل يجوز للإمام ردهم إلى زيهم الأول؟ قال: "فأجابهم مَنْ مُنع التوفيق، وصُدَّ عن الطريق بجواز ذلك" قال: "قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلت: لا تجوز إعادتهم إلى ما كانوا عليه، ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميّزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيَّروا الفتوى، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا ثم أتوا بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المعينة، وإنْ خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان، وتكلم عنده بكلام عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم، وللَّه الحمد. ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى. . . " (¬4). 13 - وذكر في مسألة (دلالة العالم للمستفتي على غيره) قال: "وكان شيخنا -قدس اللَّه روحه- شديدَ التّجنُّبِ لذلك، ودللتُ مرة بحضرته على مُفْتٍ أو ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 73). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 76). (¬3) "إعلام الموقعين" (5/ 85 - 86). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 97 - 98).

مذهب، فانتهرني. وقال: ما لك وله؟ دعه عنك، ففهمتُ من كلامه: إنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم، ولمن أفتاه، ثم رأيت هذه المسألة بعينها منصوصة عن الإمام أحمد. . . " (¬1). 14 - وذكر فائدة فقهية دقيقة عن شيخه في الفرق بين مسألتين، هما: إذا شهد الرجل جنازة، فرأى فيها منكرًا، لا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، بينما في وليمة العرس يرجع، قال المصنف: "فسألتُ شيخنا عن الفرق؟ فقال: لأن الحقّ في الجنازة للميّت، فلا يُترك حفه لما فعله الحيُّ من المنكر، والحقُّ في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أُتي فيها بالمنكر، فقد أسقط حقّه من الإجابة" (¬2). 15 - قال: "وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه، يكون عندهم في المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل! " (¬3). 16 - وقال عند حديثه عمن أفتى الناس، وهو ليس بأهل للفتوى: "وكان شيخنا -رضي اللَّه عنه- شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أَجُعِلتَ محتسبًا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟! " (¬4). 17 - وقال في مسألة (ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى؟): "وسمعتُ شيخنا رحمه اللَّه تعالى يقول: حضرتُ عَقْدَ مجلس عند نائب السلطان في وقف، أفتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين، فقرأ جوابه الموافق للحق، فأخرج بعضُ الحاضرين جوابه الأول، وقال: هذا جوابك بضدّ هذا، فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم، فقلت: هذا من علمه ودينه، أفتى أولًا بشيء، ثم تبيّن له الصواب، فرجع إليه، كما يفتي إمامه بقول، ثم يتبيّن له خلافه، فيرجع إليه، ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة، فسُرَّ القاضي بذلك، وسُرِّي عنه" (¬5). ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 117). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 130). (¬3) إعلام الموقعين" (5/ 124). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 131). (¬5) "إعلام الموقعين" (5/ 160).

18 - وذكر قصة طريفة، فيها فائدة وإنصاف وتربية عن شيخه، قال: "وقد سمعت شيخنا رحمه اللَّه يقول: جاءني بعض الفقهاء من الحنفية، فقال: أستشيرك في أمر. قلت: وما هو؟ قال: أريد أن أنتقل عن مذهبي. قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرًا تخالفه، واستشرتُ في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي، فقال لي: ولو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب، وقد تقررت المذاهب، ورجوعك غير مفيد، وأشار عليَّ بعض مشايخ التصوف بالافتقار إلى اللَّه، والتضرع إليه، وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه، فماذا تشير به أنت عليَّ؟ فقلت له: اجعل المذهب ثلاثة أقسام: - قسم الحق فيه ظاهر بيِّن، موافق للكتاب والسنة، فاقضِ به، وأنت به طيب النفس، منشرح الصدر. - وقسم مرجوح، ومخالفُه معه الدليل، فلا تُفْتِ به، ولا تحكم به، وادفعه عنك. - وقسم من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإن شئت أن تدفعه عنك. فقال: جزاك اللَّه خيرًا، أو كما قال" (¬1). 19 - ونقل في مسألة (هل للمفتي المنتسب إلى مذهب إمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده؟) كلامًا عن شيخه، فيه حق وعدل، قال: "فسألت شيخنا -قدس اللَّه روحه- عن ذلك، فقال: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهبٌ معين عند الواقعة التي يسأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه" (¬2). 20 - وذكر شيئًا عن حال شيخه ودعائه عند الفتوى، قال: "وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك (¬3)، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلّم إبراهيم! علِّمني، ويكثر الاستغاثة بذلك، اقتداءً بمعاذ" (¬4). 21 - وأخيرًا. . . نقل عن شيخه فائدة في حكم إفتاء من جعل السؤال توصلًا إلى ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 165 - 166). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 167). (¬3) أي بالدعاء المأثور: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل. . . " وهو في "صحيح مسلم" (770). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 197).

حصول أغراضهم بأي طريق وافق، وقرر أنه لا يجب على المفتي مساعدتهم، قال: "وقال شيخنا رحمه اللَّه مرة: أنا مخيّر بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لا يستفتون للدين، بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إليّ، بخلاف من يسأل عن دينه" (¬1). سادسًا: ومن الأمور المهمة أيضًا: أن المصنّف أقام وزنًا علميًا لفتاوى شيخه واختياراته، ودعى أن تكون مثل اختيارات غيره من علماء الحنابلة المحررين المعروفين، اسمع إليه وهو يقول: "ولا يختلف عالمان متحلّيان بالإنصاف أنّ اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي يعلى، فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتى بها في الإسلام، ويحكم بها الحكام، فلاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان" (¬2). سابعًا: لا بد من التركيز على أصالة ابن القيم في اتباعه لابن تيمية. نعم هو معجب بمنهجه في الاستدلال، مرددًا أقواله، لكنه لم يكن مقلدًا له تقليدًا أعمى (¬3). وإنما كان متبعًا للكتاب والسنة والآثار، ولم يرض أن يجعل أحدًا -كائنًا من كان- عيارًا على الدين، فاستمع إليه وهو يقول عن التابعين: "لا يجعلون مذهبَ رجلٍ عيارًا على القرآن والسنن، فهؤلاء أتباعهم -أي السابقين الأولين- حقًا، جعلنا اللَّه منهم بفضله ورحمته" (¬4) وتأمل قوله بعد ذكره مسألة: "وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل النص والقياس" (¬5) وهكذا فعل في جُلّ اختيارات ابن تيمية (¬6)، فإنه ذكر أدلتها، وأيّدها بحجة قوية ودليل ظاهر، كيف لا، وهو قد أصّل في كتابه هذا حرمة التقليد، وعاب عليهم عدم الأخذ بالدليل، واتباع السلف، فاستمع إليه وهو يقرع المقلدين: "فلم تنكرون على من ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 200). (¬2) "إعلام الموقعين" (4/ 543). (¬3) انظر رد فرية: (ابن القيم نسخة عن شيخه)، في كتاب "ابن القيم حياته وآثاره" (ص 83 - 85). (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 542). (¬5) "إعلام الموقعين" (3/ 463) ومثله كثير، منه قوله في (5/ 64)، بعد كلام: "وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه، وبه تجتمع الأحاديث، وهو اختيار شيخ الإسلام ومذهب فقهاء البصرة، ولا نختار غيره". (¬6) لا أعرف كتابًا لابن القيم اعتنى فيه باختيارات شيخه ابن تيمية مثل هذا الكتاب، وقوي عندي إفراد هذه الاختيارات في فهرس خاص، إلا أن ما ذكرته هنا تحت (بين المصنف وشيخه ابن تيمية)، وفي فهرس (الأعلام) في مواطن ذكر (ابن تيمية) أغنى عن ذلك، واللَّه الموفق.

اقتدى بهما (أي: الكتاب والسنة)، وحَكَّمَهُما، وتحاكم إليهما، وعرض أقوال العلماء عليهما، فما وافقهما قبله، وما خالفهما ردّه؟ فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود، فلم تنكرون على من وصل إليه، وذاق حلاوته"؟ (¬1). ثامنًا: ومما له صلة بكتابنا أن ابن القيم أخذ الفقه عن كثير من المشايخ (¬2) غير ابن تيمية، ومن بين من أخذ عنهم: أخو الشيخ أحمد: أبو محمد شرف الدين (¬3)، وذكر في كتابنا هذا اختيارًا له، انظر (4/ 539). ومما ينبغي ذكره: أن مترجمي المصنف (¬4) ذكروا كتبًا قرأها على شيخه ابن تيمية، مثل: قطعة من "المحرر"، وقطعة من "المحصول" ومن كتاب "الأحكام" للآمدي، وقطعة من "الأربعين" و"المحصل" للصفي الهندي، وأنه قرأ عليه كثيرًا من تصانيفه، وقد سبق بيان بعضها، وأن ابن تيمية ألف بعضها إجابة على سؤال وجهه إليه تلميذه ابن القيم. والخلاصة: أن ابن القيّم أسهب وأصّل وقعّد ما كان يفتي به شيخه ابن تيمية، وأنه في تصانيفه "يدندن حول مفردات ابن تيمية وينصرها، ويحتج لها" (¬5)، وأنه "من ألمع تلاميذ ابن تيمية، ويعتبر تفكيره امتدادًا للحركة الإصلاحيّة الواسعة التي أقام صرحَها شيخُه، فقد كان الوارث لذلك التراث العلمي الضخم، الذي خلفه ابن تيمية، فعمل على تنظيمه وتبويبه ونشره. ونصب نفسه مدافعًا عن آرائه في حماس لا مزيد عليه، وإن كان يخالفه أحيانًا في بعض الفتاوى" (¬6) وأنه "اتخذه مثلًا أعلى، ولازمه مدةً طويلة، وأخذ عنه علمًا جمًّا، واقتبس منه اتجاهه الحر في البحث، واتّبع مذهبه، ونهج نهجه في مقاومة الطوائف الزائغة عن عقيدة السلف، وقد جَرَّتْ له هذه الصحبة، وهذا الاتحاد في المنهج أتعابًا ومحنًا، أصابه منها ما أصاب شيخه من أذى واعتقال" (¬7) وأنه على كثرة مشايخه لم "يتأثر ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 34). (¬2) سبق ذكر بعضهم، انظر (ص 75). (¬3) نص على ذلك جمع، منهم: الصلاح الصفدي في "أعيان العصر" (4/ 366) قال: "وأما الفقه، فأخذه عن جماعة منهم:. . . ومنهم: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وأخوه الشيخ شرف الدين". (¬4) انظر -مثلًا-: "أعيان العصر" (4/ 366 - 367)، و"الوافي بالوفيات" (2/ 195 - 196). (¬5) "الدرر الكامنة" (3/ 402) و"البدر الطالع" (2/ 144)، و"أبجد العلوم" (3/ 140). (¬6) "الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي" (291). (¬7) "الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي" (292).

بواحد منهم مثلما تأثّر بشيخه ابن تيمية، الذي كان يحل محل ابنه، يوجّهه ويرسم له المناهج القويّة، ويسدي إليه النصائح الرشيدة" (¬1) وأنه "تشبع بآراء أستاذه الجريئة، واقتنع بمبادئه الإصلاحئة، وتألّم مثله بما كان يشاهده في عصره من انحلالٍ اجتماعي وسياسي، وتناحر مذهبي وطائفي، جعل المسلمين في حال تشتت وفوضى، فانطلق يؤيده في كفاحه الإصلاحي في حياته، ويواصل تحقيق مراميه بعد مماته، وكانت هناك وحدة في الاتجاه، واتفاق في المقاصد والأغراض، فدعا مثل أستاذه إلى التحرر الفكري ونبذ التقليد، وبيَّنَ أن باب الاجتهاد (¬2) مفتوح على مصراعيه لكل من وجد فيه الأهلية وتوفرت لديه أدواته، كما دعا إلى الوحدة وجمع الكلمة بالرجوع إلى الكتاب والسنة وتحكيمهما في كل اختلاف واقع بين المذاهب، وبذلك يقع اختيار ما هو الأحسن والأوفق. اكتسب ابن القيم من شيخه قوة في الجدل وإقامة الحجة، غير أنه كان هادئًا صبورًا في جداله ومعارضاته عل خلاف ما عرفت من حدة وثورة في شيخه، ولعل ذلك يرجع إلى أن ابن تيمية كان زعيم هذه الحركة الإصلاحية وحامل لوائها فاشتد النزاع بينه وبين خصومه مما ألجأ كُلًّا من الطرفين أن يستعمل ما يملك من جهد للإطاحة بالآخر، فلما خلفه ابن القيم كان النزاع قد فترت حدته وخفت وطأته، لأن فكرة الإصلاح وجدت سبيلها إلى الأنفس وحصلت على مناصرين عديدين فصارت تعتمد على الهدوء والاتزان" (¬3). ¬

_ (¬1) "الاجتهاد والتجديد في الشريع الإسلامي" (292). (¬2) لا يوجد باب للاجتهاد، حتى يقال: هو هل مفتوح أم لا؟ بل هناك شروط نصّ عليها العلماء، فمتى توفّرت جاز الاجتهاد، وإلا فلا، مع التنويه على أن الاجتهاد يتجزّأ على أصح الأقوال عند الأصوليين. (¬3) "الاجتهاد والتجديد في التشريع الإسلامي" (293).

منهج ابن القيم في كتابه

منهج ابن القيم في كتابه يتضح لنا من خلال العرض السابق، والنظر الفاحص المتمعن في الكتاب، أن لصاحبه منهجًا مطردًا علميًّا فيه، نجمله في المحاور الأربعة الآتية: المحور الأول: الاستدلال والاستنباط: ابن القيم إمام ربانيّ، لا يطوي قلبه، ولا يسطر يَراعُهُ حكمًا في مسألة من غير دليل، يشمل هذا كتابنا وغيره، وذكر ذلك العلماء في ترجمته، فيقول -مثلًا- الشوكاني عنه: "كان متقيّدًا بالأدلة الصحيحة، معجبًا بالعمل بها، غير معوّل على الرأي، صادعًا بالحق، لا يحابي فيه أحدًا" (¬1). * وجوب ذكر الدليل والتحقق من صحته: وقال: "وليس له على غير الدليل معول في الغالب، وقد يميل نادرًا إلى مذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلّة بالمحامل الباردة، كما يفعله غيره من المتمذهبين، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميل مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال" (¬2). وقال عنه أيضًا: "وبالجملة؛ فهو أحد من قام بنشر السنة، وجعلها بينه وبين الآراء المحدثة أعظم جُنّة، فرحمه اللَّه، وجزاه عن المسلمين خيرًا" (¬3). ويركز ابن القيم في كتابه هذا تركيزًا شديدًا على ضرورة ذكر الدليل، فقال: "ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك، ولا يُلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه، وقلّة بضاعته من العلم" (¬4)، وبيّن أن هذا هو طريق أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلافًا لأهل الأهواء والبدع، فقال: ¬

_ (¬1) "البدر الطالع" (2/ 143 - 144). (¬2) "البدر الطالع" (2/ 144 - 145). (¬3) "البدر الطالع" (2/ 145). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 49).

"وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال اللَّه كذا، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، وفعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط فمن تأمَّل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبُعدُ الناسِ من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال اللَّه، وقال رسول اللَّه، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه وقول رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يُذكَرُ فيها نَصٌّ اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلَّدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء، والأموال على قول ذلك المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ ذلك الكتاب ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال ما أحلَّه ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه هذا. . . " (¬1). وقال أيضًا: "عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالمُعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان اللَّه عليهم والقياس الصحيح عيبًا؟ وهل ذكر قول اللَّه ورسوله إلا طراز الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم. وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة؟ ولا يجب الأَخذ به وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها فيقول: قال اللَّه كذا، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا أو فعل كذا، فيشفى السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جدًّا في فتاويهم لمن تأمَّلها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه وعلمه يأبى أن ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 65).

يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبَعُدَ العهد بالعلم وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلًا، ولا مأخذًا ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، واللَّه المستعان" (¬1). وقد اختار ابن القيم هذا الموقف في العصر الذي كان فيه التقليد بالمعين أمرًا سائدًا؛ بحيث كان يظن كل فقيه ومفت أن العمل على مذهب إمامه واجب، وأنه لا تجوز مخالفته في حالة ما، ولذلك كانت الطريقة المتبعة عند الفقهاء أنهم كانوا لا يستدلون على المسائل الطارئة من النصوص الشرعية، بل كانوا يكتفون بذكر المقتبسات من الكتب الفقهية أو بنقل آراء الفقهاء، ولكن العلامة ابن القيم قد خالف هذا المنهج، والتزم عند استنباط المسائل واستخراجها طريقة منفردة منه، وروجها وعممها، وهي: أنه كان يرجع أولًا للعلم بوجهة الشريعة في المسائل الطارئة إلى الكتاب والسنة ويستأنس فيها بآثار الصحابة والتابعين، وكان يذكر في هذا الصدد آراء أئمة الفقه أيضًا، وإن كان يضطر إلى اختيار أثر من آثار الصحابة والتابعين وقول من أقوالهم، أو إلى رأي من آراء الفقهاء في مسألة عند عدم وجود نص صريح واضح من الكتاب والسنة فيها، فكان يقبل ويرجح قطعيًا في هذه الحالة رأيًا أقرب إلى الكتاب والسنة وإن لم يوافق ذلك مذهبه الفقهي، وكان يتبع هذا المنهج أيضًا عند الاجتهاد في المسائل المتجددة فكان يقوي ويبرهن فتواه وقوله بنصوص من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لا بأقوال الفقهاء، ولا يعني هذا أنه لا يوجد ذكر الكتاب والسنة قطعًا لدى تشريح المسائل الفقهية وتوضيحها أو تفريعها عند غيره من الفقهاء المعاصرين له، بل الاستشهاد والاستئناس بالنصوص الشرعية عندهم أيضًا يوجد بدون شك، ولكنه تبعًا لأنهم كانوا يذكرون مواقف أئمتهم من الفقهاء المجتهدين وحججهم بدلًا من أن ينتفعوا بهذه النصوص مباشرة، فيكتفون بنقل النصوص الواردة في دلائل أئمتهم، أما ابن القيم فعندما كان يتعرض للمسائل الفقهية كان يستأنف التفكير في الكتاب والسنة وبعد التفكير وإمعان النظر في الأدلة كان يستنتج النتائج، ثم إن لم يكن بد من مزيد التصريح والتوضيح فيستأنس بآراء الفقهاء القدامى. ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 200 - 201).

معنى كتاب الله عند ابن القيم

ومحصل الكلام أنه رحمه اللَّه لم يوجب على نفسه تقليد الأشخاص والرجال واتباعهم في الفقه وغيره من الأمور، بل كان يعتبر الكتاب والسنة وآثار الصحابة أسوة وقدوة لنفسه، وإن هذه الوجهة تضاعف بها التوطيد والتدعيم في ارتباط الفقه مع القرآن والسنة وبها قوي واستحكم أمر إجالة الفكر والنظر والاجتهاد في المسائل الفقهية. وهذه السمة في منهجه الفقهي منحته رفعة وعظمة وقبولًا عند جميع المنصفين. - ترتيب الأدلة: * معنى كتاب اللَّه عند ابن القيم (¬1): - من خلال النقولات السابقة نجد أن ابن القيم اعتبر النصوص أصلًا أولًا للاستنباط، ويراد بالنصوص، نصوص الكتاب والسنة، ولم يهتم ابن القيم بإعطاء تعريف للكتاب والسنة، إلا ما جاء عرضًا، حيث نجده يبيّن من خلال رسالة عمر إلى أبي موسى المراد من لفظ (كتاب اللَّه) الوارد في "ما كان من شرط ليس في كتاب اللَّه. . . " (¬2)، فيقول: "ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعًا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بكتاب اللَّه حكمه، كقوله {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كتاب اللَّه القصاص في كسر السن" (¬3) فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬4). * منزلة القرآن والسنة من الاستنباط: يظهر من خلال ما سبق أن القرآن والسنة عند ابن القيم في منزلة واحدة، ويؤكد ذلك أمور: أولًا: قال في معنى (الذكر): "اللَّه أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو ¬

_ (¬1) انظر: "ابن القيم أصوليًا" (48). (¬2) انظر تخريجه في التعليق على (1/ 93، 3/ 112). (¬3) انظر تخريجه في التعليق على (2/ 113). (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 114).

القرآن، والحديث الذي أمر اللَّه نساء نبيّه أن يذكرنه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، فهذا هو الذكر الذي أمرنا اللَّه باتباعه" (¬1). فجعل رحمه اللَّه الكتاب والسنة في منزلة واحدة. ثانيًا: لما عدّ أصول الإمام أحمد (¬2)، اعتبر الكتاب والسنة شيئًا واحدًا أو أصلًا واحدًا، فعبر عنه بالنصوص، فهو بذلك يضعهما في رتبة واحدة، للتلازم بين الكتاب والسنة، من حيث أن السنة مبيّنة ومفصّلة وموضّحة لمجمل القرآن. ثالثًا: ذكر أن اللَّه عز وجل نصب رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "منصب المبلغ المبتن عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن اللَّه أن هذا شرعه ودينه" (¬3) قال: "ولا فرق بين ما يبلِّغه عنه من كلامه المتلو، ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا" (¬4). فهذا تصريح منه في وجوب امتثال أوامر الكتاب والسنة، واجتناب نواهيهما. رابعًا: قال في معنى (الرد) الواجب عند التنازع في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، "إن الناس أجمعوا أنّ الرد إلى اللَّه سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته" (¬5). وجاء هذا الرد في سياق واحد، لخروجهما من مشكاة واحدة. خامسًا: لما تحدث عن إتيان السنة بأحكام زائدة عن القرآن، قال: "فما كان منها زائدًا عن القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب اللَّه، بل امتثال لما أمر اللَّه به من طاعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬6). سادسًا: قوله عند شرح حديث: "إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب اللَّه وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" (¬7): "فلا يجوز ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 529). (¬2) انظرها في "الإعلام" (1/ 50). (¬3) "الإعلام" (3/ 97). (¬4) "الإعلام" (3/ 97 - 98). (¬5) "إعلام الموقعين" (1/ 93). (¬6) "إعلام الموقعين" (3/ 84 - 85). (¬7) انظر تخريجه في التعليق على (3/ 84).

ضرورة الاحتجاج بالسنة

التفريق بين ما جمع اللَّه بينهما، ويرد أحدهما بالآخر" (¬1)، ويدل على هذا استدلاله بحديث: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" (¬2). سابعًا: يظهر هذا جليًا عند حديث ابن القيم عن (بيان السنة للقرآن)، نعم، هو مسبوق (¬3) بما قرره في كتابنا هذا، ولكنه فَصّل في هذا المبحث تفصيلًا دقيقًا جدًّا، يدل على عمق تفكره، وجعله عشرة أقسام (¬4)، ومن هذه الأقسام: 1 - بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيًا. 2 - بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك. 3 - بيانه بالفعل. 4 - بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فنزل القرآن ببيانها. 5 - بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا. 6 - أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويحيل اللَّه على رسوله في بيانها. فهذه الأقسام الست في درجة القرآن من حيث الاحتجاج، تساويه وتدانيه، وهي وإياه في مرتبة واحدة، والأنواع الأخرى تلحق بها، و"أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقول ولا يفعل ولا يقر ما يخالف القرآن، فهو المبلّغ عن ربه، الخبير بمقاصد الشريعة، والمعصوم من الخطأ" (¬5). * ضرورة الاحتجاج بالسنّة: قرر ابن القيم أن العمل بالسنة والرجوع إليها أمر واجب كالقرآن، فقال عنها: "وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلًا"، وقال في مسألة: "وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على ذلك، فلا عبرة بخلاف من خالفها" (¬6)، وقال: "وهذا صحيح بلا تردد" (¬7)، بل يرى أن الرد إليها من موجبات الإيمان ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 84). (¬2) انظر تخريجه في التعليق على (3/ 83). (¬3) ذكر الشافعي في "الرسالة" (21 - 22) خمسة وجوه، وانظر: "المستصفى" (1/ 365 - 366)، و"دراسات أصولية في السنة" (49 - 50). (¬4) انظرها (3/ 98). (¬5) "إعلام الموقعين" (3/ 84). (¬6) "إعلام الموقعين" (2/ 87). (¬7) "إعلام الموقعين" (2/ 382).

الاحتجاج بالصحيح من السنة دون الضعيف

ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان (¬1)، واستدل على حجيتها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة، ولا سيما المتبوعين منهم، وصار كلامه مرجعًا لمن ألّف في ذلك (¬2). * الاحتجاج بالصحيح من السنة دون الضعيف: ركز ابن القيم رحمه اللَّه على ضرورة الاحتجاج بالثابت دون المطروح، وبالصحيح دون السقيم، فقال مثلًا -بعد كلام-: "فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا، وجب الانقياد لها، والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها، فإما أنْ تصحح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضَعَّف، أو. . . "، وقال في موطن آخر: "إن هذه الأحاديث لم تثبت، ولو ثبتت لم تحل مخالفتها، ووجب العمل بها"، وقال أيضًا: "والذي ندين اللَّه به ولا يسعنا غيره. . أن الحديث إذا صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه" (¬3). ونقل عن أحمد وغيره أن من الصفات اللازمة للمفتي معرفة الحديث الضعيف، وتمييز الإسناد القوي من الضعيف. وهنالك عشرات الأمثلة التطبيقية في الكتاب، يرد فيها ابن القيم على المخالفين بتضعيف أدلتهم، وينقل كلام أئمة الجرح والتعديل، فها هو يقول مثلًا: "وأما تلك الآثار التي رويتموها، ففيها ضعف" (¬4) وأخذ في سرد ما يدلل على ذلك ومن دقته في هذا الباب: التمييز بين الثابت في الموقوف والمرفوع (¬5)، ويعتني بالألفاظ الثابتة في الأحاديث دون غير الثابت في الحديث نفسه عند اختلاف الرواة (¬6). ومن إنصافه: تضعيفه آثارًا فيها ما يدل على ترجيحه، فقال: "ولو كنا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنِّفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيِّدًا لقوله، فرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غنية، فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (1/ 92). (¬2) انظر -على سبيل المثال-: "إيقاظ همم أولي الأبصار"، فإنه أكثر جدًّا من النقل عن كتابنا هذا. (¬3) "إعلام الموقعين" (3/ 407). (¬4) "إعلام الموقعين" (1/ 241). (¬5) انظر مثلًا: (5/ 507). (¬6) انظر مثلًا: (5/ 506 - 508).

مؤاخذات حديثية على المصنف

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). وساق الآثار، وقد تعلَّق بها المختلفون في المسألة، إذ فيها الجواز وعدمه، وقال عنها ملخّصًا حالها: "والمقصود أن الآثار من الطرفين لا مُستراح فيها" (¬2). * مؤاخذات حديثيّة على المصنّف: لم تسلم للمصنّف جميع نقداته للأسانيد، وكلامه عليها (¬3)، ويمكن حصر المؤاخذات عليه في هذا الباب بالأمور الجملية الآتية: أولًا: عزوه أحاديث لمصادر هي ليست فيها، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 72، 310، 2/ 381 - 382 و 5/ 295، 426، 494). ثانيًا: هنالك أحاديث عزاها المصنف لبعض دواوين السنة البعيدة، وهي في "الصحيحين" أو أحدهما، من المثال على ذلك: ما في (4/ 580) حيث عزاه للطبراني وهو في البخاري، وما في (5/ 584) حيث عزاه للبزار، وهو في "الصحيحين"، وما في (5/ 580) حيث عزاه للطبراني وأبي نعيم وهو في البخاري، وما في (5/ 311) حيث عزاه للنسائي وهو في البخاري وما في (3/ 349 - 350) حيث عزاه للنسائي وهو في مسلم، وما في (5/ 487) حيث عزاه لأبي داود وهو في البخاري، وما في (5/ 445) حيث عزاه لأحمد وأبي داود وهو في مسلم. ثالثًا: هنالك مؤاخذات في العزو لـ"الصحيحين" أو أحدهما، فمثلًا، أورد المصنف في (1/ 411) حديثًا عزاه لـ"الصحيحين" ولم يورد لفظهما أو لفظ أحدهما، وإنما أورد لفظ الرامهرمزي في "الأمثال"، وكذلك فعل في (1/ 306) حيث عزى حديثًا و"الصحيحين" وأورد لفظًا ليس فيهما، وأورد في (5/ 155، 210)، حديثًا عزاه لمسلم، ولفظه ليس في "صحيحه" وعزى في (3/ 296) حديثًا ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (4/ 482). (¬2) "إعلام الموقعين" (4/ 482). (¬3) من المفيد النافع إفراد منهج المصنف في الصنعة الحديثية في مصنَّف مفرد بتتبع ذلك من خلال كتبه جميعًا، وكذا إفراد مواضيع علم المصطلح، فله رحمه اللَّه تفريعات وإيضاحات وإفاضات وإضافات تنبئ عن حذق وفهم شديدين لهذا العلم، والمؤاخذات التالية من النوع الذي لا يسلم منها إنسان من جهة، وبعضها محتمل، يقبل الأخذ والرد من جهة أخرى، وأَثْبتُّ ما رأيتُه راجحًا بناء على قواعد أهل الصنعة الحديثية، دون الدوران ضمن أحكام عالم بذاته، واللَّه الموفق.

لمسلم عن أنس، وهو عنده عن عبد اللَّه بن عمرو، وفي (3/ 280) حديثًا آخر لمسلم عن ابن عمر، وهو عنده عن ابن أبي أوفى، ومثله خارج "الصحيح"، انظر (2/ 466) و (1/ 424)، وعزى في (5/ 313) حديثًا لـ"الصحيحين"، وهو فقط عند البخاري معلقًا. رابعًا: لم يميز المصنف في بعض الأحايين في عزوه الأحاديث لـ"مسند أحمد"، و"زوائد ابنه عبد اللَّه" عليه، انظر (3/ 287 و 5/ 209، 212، 213، 314، 596)، وساق في (5/ 331) حديثًا نقله عن أحمد، ولفظه ناقص، وعزى في (1/ 410 - 411) حديثًا لأحمد عن المستورد وهو فيه عن أبي موسى. خامسًا: أورد المصنف أحاديث، هي مركبة من حديثين، انظر (2/ 268، و 5/ 505، 548). سادسًا: هنالك بعض النصوص في الكتاب أوردها المصنف مرفوعة، وهي لم تثبت إلا موقوفة، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 416، و 5/ 422 و 4/ 63 - 64، 259)، والعكس، كما في (2/ 191 - 192)، وانظر (1/ 255 و 2/ 504 - 505، 5/ 110 - 111، 290). سابعًا: هنالك ألفاظ وروايات أوردها المصنف ولم يعزها لأحد، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 276، 281، 282، 283). ثامنًا: هنالك أحكام للمصنف على بعض الأحاديث فيها كلام، والصنعة الحديثية تقضي بخلاف ما قرره (¬1)، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 459 و 5/ 211، 310 - 311)، وأورد المصنف بعض الأحاديث وسكت عليها في موطن، وضعّفها في موطن آخر، انظر -مثلًا- (5/ 34 - 35)، وسكت على أحاديث لم تثبت، انظر -مثلًا- (3/ 284، 499). تاسعًا: هنالك آثار عزاها المصنف لغير أصحابها، انظر (1/ 395 و 3/ 305 و 5/ 29). هذه ملاحظات في مواطن يسيرة (¬2)، لا تضرّ معرفة المصنف الدقيقة، وتبحره العميق في علوم الحديث: دراية ورواية، فإنه أورد نصوصًا كثيرة جدًّا، وتكلّم عليها بدقة متناهية، ووُفِّق في جُل ذلك، وللَّه الحمد. ¬

_ (¬1) انظر مناقشة له في "تمكين الباحث" (ص 92 - 93). (¬2) كان سبب بعضها: سبق نظر للمصنف، انظر: (2/ 111).

تقديم الأدلة النقلية على غيرها

ومما يدل على سعة معرفة المصنف ودقته (¬1)، عدم عثوري على ألفاظ أوردها المصنف، مع محاولة شد النفس، والنظر في الفهارس والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية، انظر -مثلًا- (3/ 386، 390، و 5/ 335). * تقديم الأدلة النقلية على غيرها: ومن المباحث التي تعرض لها ابن القيم، ولها صلة بـ (ترتيب الأدلة): تقريره تقديم خبر الآحاد على عمل أهل المدينة (¬2)، خلافًا للمالكية، وأن "السنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارًا على السنة" (¬3) وأن العمل الذي يؤخذ به إنما هو "عمل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه والصحابة، فذاك هو السنة" بخلاف العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال، "فالواجب المصير إلى الخبر، فإنه دليل منفرد عن مسقط أو معارض" (¬4)، فلا ينبغي أن "يخلط أحدهما بالآخر، فنحن لهذا العمل أشد تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركًا" (¬5). وأن المعارضة بين الخبر والعمل على نوعين: - نوع لم يعارضه نص، ولا عمل قبله، ولا عمل مصر آخر غيره. - نوع عارضه واحد من الثلاثة. والتسوية بين النوعين تسوية بين المختلفات، التي فرق العقل والنص بينها، والتفريق بينها يتوقف على دليل يعتمد في التمييز بين ما هو معتبر وما هو غير معتبر، وأكد ابن القيم أن أي دليل يذكر لتقديم العمل، إلا كان دليل تقديم النص أقوى (¬6). وكذلك رد على الحنفية الذين ردوا خبر الواحد إذا كان الراوي له غير فقيه على زعمهم (¬7)! ورد قول من قال بعدم أخذ رواية الراوي المخالفة لرأيه (¬8)، إذ ¬

_ (¬1) انظر التدقيق في الألفاظ والعناية بهما في التخريج (2/ 144، 185 - 186، 227 و 3/ 284، 285، 286 و 5/ 284، 285، 344). وانظر تعديلًا للفظ المصنف في (2/ 189)، وانظر: إدراج لفظة في (5/ 304). (¬2) انظر: "إعلام الموقعين" (3/ 339، 340) وسيأتي الكلام بنوع من التفصيل على (عمل أهل المدينة). (¬3) "إعلام الموقعين" (3/ 340). (¬4) "إعلام الموقعين" (3/ 369). (¬5) "إعلام الموقعين" (3/ 369). (¬6) "إعلام الموقعين" (3/ 349). (¬7) انظر: "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 346 - 347). (¬8) انظر: "إعلام الموقعين" (3/ 388 - 389). =

"من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفتُهُ لما رواه سقوطَ عدالَتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك" (¬1). وهذا يتمشى مع ما رسمه ابن القيم من منهج له في تقديم نصوص الوحي على غيرها، ومن هذا الباب: تقديم فتوى الصحابي على الحديث المرسل، لضعفه. والمرسل عنده حجة إذا توفرت فيه شروط، قال: "والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس، أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفًا باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عمل به" (¬2). وأما بالنسبة للإجماع، فقد رد كثيرًا من الإجماعات المكذوبة، التي يعطل بعض المنتسبين للفقه بسببها العمل بأحاديث صحيحة خالفتها، وقرر أن الإجماع المعترف بوجوده هو إجماع الصحابة، ولذلك جعله وراء النصوص مباشرة، ومقدمًا على الأحاديث الضعيفة غير الموضوعة (¬3)، قال: "فإن علِمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة، أَسْهلُ عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذّرًا فهو أصعب شيء وأشقه، إلا فيما هو من لوازم الإسلام" (¬4). ¬

_ = وقد اعتنى الأستاذ عبد اللَّه بن عويض المطرفي في "حكم الاحتجاج بخبر الواحد إذا عمل الراوي بخلافه" بكلام ابن القيم في كتابنا هذا، قال (ص 10)، "وقد ذكر ابن القيم رحمه اللَّه ثلاثًا وعشرين مسألة في مخالفة الراوي لما رواه، وقد استفدتُ منها، وزدت عليها بما وقفت عليه" وانظره (ص 203). (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 408). (¬2) "زاد المعاد" (1/ 379). (¬3) "إعلام الموقعين" (1/ 53 - 54). (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 558) وانظر -لزامًا-: "المدخل إلى مذهب أحمد" لابن بدران (129).

ويرد على المتوسعين بدعاوى الإجماع، بأنه "ليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله (¬1)؟ ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به؟ وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه، متساويًا أو راجحًا" (¬2). ورد بقوة على من زعم اشتراط انقراض عصر المجمعين، وأنه لما "نشأت هذه الطريقة، تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُجَّ عليه بالقرآن والسنة، قال: هذا خلاف الإجماع! وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه" (¬3). والخلاصة: أن إجماع الصحابة فقط حجة قاطعة، بل هي أقوى الحجج وآكدها (¬4)، و"إنما يصار إليه فيما لم يعلم فيه كتابًا ولا سنة، هذا هو الحق" (¬5). ومما ينبغي أن يذكر في هذا الباب: رد ابن القيم بالآثار السلفية الشهيرة على دعوى الإجماع وما عليه السواد الأعظم، حيث جعلوا ذلك عيارًا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، لقلّة أهل الحق، وقال عنهم: "قلبوا الحقائق" وذكَّرهم أنه في زمن الإمام أحمد شذ الناس كلهم إلا نفرًا يسيرًا، فكانوا هم الجماعة، وكان القضاة والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذُّودن، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة (¬6). والذي جعله يذكر هذا عدم الاغترار بما عليه الناس في مقابل النصوص. وكذلك مبحثه في (أقوال الصحابة) وحجيّتها، فاجزاء الكتاب جميعًا لا تخلو من هذا الموضوع، وأن القول بالحجيّة راجع إلى إعمال النصوص وتقديمها على الرأي، إذ "أنهم شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬7) ولذا فـ "أفهام الصحابة فوق أفهام جميع الأمة، وعلمهم بمقاصد نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- وقواعد دينه وشرعه، أتم من علم كل من جاء بعدهم" (¬8) وقد أطال ابن القيم في ذكر الأدلة على حجية أقوالهم، ودعَّم ذلك بست وأربعين وجهًا (¬9)، ¬

_ (¬1) يريد النصوص الشرعية. (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 558). (¬3) "إعلام الموقعين" (2/ 558). (¬4) "إعلام الموقعين" (4/ 91). (¬5) "إعلام الموقعين" (2/ 560). (¬6) "إعلام الموقعين" (4/ 389). (¬7) "إعلام الموقعين" (1/ 149 - 150). (¬8) "الطرق الحكمية" (122). (¬9) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 556 و 5/ 30).

الاستدلال بالنظر والقياس الصحيح والمعقول

بعضها من القرآن، والآخر من السنة، وبعضها من أقوال السلف، وختم بالأدلة العقلية. وفصّل في القول بالحجيّة، وفرع معتمدًا على مخالفة بعضهم بعضًا، أو مع عدم وجود المخالفة فيما بينهم، أو وجود أبي بكر وعمر مع أحد الفريقين، أو اختلاف أبي بكر وعمر، وهكذا، على وجه استوعب فيه الكلام على كل حالة (¬1). وألحق تفسير الصحابة بفتاويهم، وعد ذلك من الرأي المحمود (¬2). وأما التابعون والاحتجاج بفتاويهم، فالأمر عند ابن القيم "كلما كان العهد بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أقرب كان الصواب أغلب" وبيّن أن هذا حكم بحسب الجنس، لا بحسب كل فرد من المسائل (¬3). وقول التابعي إذا لم يعلم له مخالف، فليس كقول الصحابي، لأن "التابعين انتشروا انتشارًا لا ينضبط؛ لكثرتهم، وانتشرت المسائل في عصرهم، فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف، لما أفتى به الواحد منهم" (¬4). وأشاد بهم، بتقريره أنهم أعلم الأمة بكلام اللَّه ورسوله ومعانيه، وأن الشافعي صرح في موضع بأنه قلد عطاءً (¬5)، وأن أحمد له قولان في الاحتجاج بتفسير التابعي، قال: "ومن تأمل كتب الأئمة ومن بعدهم وجدها مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي" ولذا قال: "إنما الحجة في الآثار" (¬6)، وفي هذا رد على من زعم (¬7) أن ابن القيم لم يأخذ بقول التابعين بإطلاق! الاستدلال بالنظر والقياس الصحيح والمعقول: وبعد هذه الاستدلالات التي مرجعها النقل، يأتي دور الاستدلال بالنظر والاعتبار والقياس الصحيح (¬8) والمعقول، وهذا هو النوع الرابع من الرأي المحمود عنده، شريطة أن ينظر صاحبه إلى "أقرب ذلك من كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سوَّغه الصحابة واستعملوه، ¬

_ (¬1) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 548 - 556، و 5/ 5 - 16). (¬2) "إعلام الموقعين" (1/ 149 - 150 و 5/ 30 - 36) وقارنه بـ "مختصر الصواعق" (2/ 340). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 544). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 38). (¬5) "إعلام الموقعين" (5/ 38). (¬6) "إعلام الموقعين" (1/ 149). (¬7) هو شرف الدين عبد العظيم في كتابه "ابن قيم الجوزية" (276 - 278). (¬8) انظر لزامًا ما قدمناه عن (القياس) تحت (موضوع الكتاب ومباحثه).

عمل أهل المدينة

وأقرّ بعضُهم بعضًا عليه" (¬1). ومن الأمور المهمة التي قعّدها ابن القيم وركز عليها: استدلاله بالعرف، وسيأتي هذا قريبًا عند كلامنا على الاستنباط ووجوه الاستدلال. - عمل أهل المدينة: ومما ينبغي أن يذكر في هذا الصدد: كلامه التقعيدي على (عمل أهل المدينة) (¬2). تناول ابن تيمية في "فتاويه" (¬3) عمل أهل المدينة فذكر أن مذهب أهل المدينة على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم هو أصح مذاهب أهل الأمصار الإسلامية في الأصول والفروع، وأنه لم يقل أحد بحجية مذهب أهل مصر من الأمصار، كما قال جمهور الأئمة بحجية مذهب أهل المدينة وإن اختلفوا في بعضه. وأن مذهب أهل المدينة على أربع مراتب: حجة باتفاق، وحجة قوية، وحجة مرجحة للدليل، والرابعة: حجة عند بعض أهل المغرب من أصحابه. وتناول ابن القيم بدوره الحديث عن عمل أهل المدينة، وأبان من خلاله عن شخصيته المستقلة عن شيخه، ولم يكرر ما توصل إليه شيخه. فهو يميز بين عمل أهل المدينة زمن الخلفاء الراشدين، وعملهم بعد موتهم، وبعد انقراض عصر من كان بها من الصحابة، فالأول اعتبره كالسنة، فقال بحجيته وتحكيمه، والثاني لا فرق بينه وبين عمل غيرهم، فإذا خالف السنة، يترك (¬4). فابن القيم لا يوافق شيخه في أن مذهب أهل المدينة على عهد التابعين وتابعيهم، أصح مذاهب أهل الأمصار في الأصول والفروع، وإنما يقصر الأمر على عصر الخلفاء الراشدين فقط. - أقسام العمل عند ابن القيم: حتى يتبين العمل المقبول من المردود، قسم ابن القيم العمل إلى ¬

_ (¬1) إعلام الموقعين (1/ 157). (¬2) الآتي من "ابن القيم أصوليًا" (ص 137 - 138). (¬3) انظره (20/ 299 - 301). (¬4) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 64)، و"زاد المعاد" (1/ 261).

قسمين رئيسيين (¬1): القسم الأول: ما كان من طريق النقل والحكاية، وهو على ثلاثة أضرب: أولًا: نقل الشرع مبتدأ من جهة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أربعة أنواع: 1 - نقل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: وهو الأحاديث المدنية التي هي أم الأحاديث النبوية وأشرف أحاديث أهل الأمصار، ومن تأمل أبواب البخاري وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يتبعها بأحاديث الأمصار. 2 - نقل فعله -صلى اللَّه عليه وسلم-: كنقلهم أنه توضأ من بئر بضاعة، وخروجه كل عيد إلى المصلى ليصلي هو والناس، وكيف كان يخطبهم. 3 - نقل تقريره لهم على أمر شاهدهم عليه أو أخبرهم به: كنقلهم إقراره لهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرم عليهم فيها الغش والتوسل بها إلى المحرمات، وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة، وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام، وكإقراره لهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرض لكيفية وقوعها، وإنما أنكر منها ما لا مساغ له في الإسلام حين الدخول فيه، إلى غير ذلك مما أقرهم عليه. 4 - نقلهم لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله: - فإما أن يصرحوا بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقولهم في شهداء أحد: ولم يغسلهم ولم يصل عليهم. - وإما ألا ينقلوا ما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو أحد منهم على نقله، فما دام لم ينقله واحد منهم قط ولا حدث به في مجمع أبدًا، علم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وغير ذلك، ومن هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة، فإن تركه سنة كما أن فعله سنة. ثانيًا: نقل العمل المتصل زمنًا بعد زمن من عهده -صلى اللَّه عليه وسلم-: كتركهم أخذ الزكاة من الخضروات مع أنها كانت تزرع بالمدينة، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والخلفاء بعده لا ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 348 - 349)، واعتمد ابن القيم في هذا التقسيم على القاضي عبد الوهاب، انظر: "ترتيب المدارك" (1/ 47 - 51)، "إرشاد الفحول" (82)، مع التنويه إلى أن ابن القيم توسع في بيان هذه الأقسام بتفريعات وأمثلة كثيرة.

يأخذون منها. وكنقل الأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان وإفراد الإقامة، وغير ذلك، فهذا النقل حجة يجب اتباعها. ثالثًا: نقل لأماكن وأعيان ومقادير لم تتغير حالها: كنقلهم الصاع والمد، وتعيين موضع المنبر، ومسجد قباء، وتعيين الروضة والبقيع ونحو ذلك، ونقل هذا جار مجرى نقل مواضع المناسك، كالصفا والمروة ومنى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة ومواضع الإحرام. وهذا القسم ينبغي ألا يختلف فيه، لأنه من باب النقل المتواتر ولا فرق بين القول والفعل والإقرار، كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي، فإنهم عدد كثير وجم غفير يستحيل تواطؤهم على خلاف الصدق. القسم الثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال، وهذا القسم وقع فيه خلاف بين المالكية، كما نقل ذلك ابن القيم عن القاضي عبد الوهاب، وهذا الخلاف على ثلاثة أوجه: - أحدها: أنه ليس بحجة أصلًا، وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل، ولا يرجح به أيضًا أحد الاجتهادين على الآخر، وهذا قول معظم المالكية. وقد أنكروا أن يكون هذا مذهبًا لمالك، أو لأحد من معتمدي أصحابه. - الوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة، فإنه يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم، وهو قول بعض المالكية، وبه قال أصحاب الشافعي. - والوجه الثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة، وإن لم يحرم خلافه، كإجماعهم من طريق النقل، وهذا مذهب قوم من المالكية وحكوه عن مالك، وفي رسالةَ مالك إلى الليث بن سعد (175 هـ) ما يدل عليه (¬1). ومن الجدير بالذكر أن الدكتور الجيدي (¬2) ذكر أن الذين انتقدوا عمل أهل المدينة ورفضوا الأخذ به يظهر من كلامهم أنهم نظروا إليه باعتبار أنه إجماع، خلافًا لما ذهب إليه محققو المالكية. وهذا الكلام لا ينطبق على ابن القيم لأنه: 1 - على معرفة دقيقة بعمل أهل المدينة. ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 248 - 267). (¬2) انظر: "العرف" له (301).

2 - ينطلق في حديثه عن العمل مما ذكره محققو المذهب كالقاضي عبد الوهاب، وينطلق من الأحكام التي أصلها العمل، مبينًا ترجيح المالكية للعمل على سنن ثابتة بحجة أنها من أخبار الآحاد. 3 - في رده ليس هناك ما يدل على أنه يقصد فهم الإمام مالك للعمل، وإنما يقصد المتعصبين للمذهب الذين يأخذون بالعمل بإطلاق، دون التمييز بين ما طريقه النقل وما طريقه الاستدلال. وقد صرح ابن القيم -كما تقدم- أن ما طريقه النقل موضع اتفاق، ولا يتصور وجود نص صحيح يعارضه. يقول الباجي: "إن مالكًا إنما عول على أقوال أهل المدينة وجعلها حجة فيما طريقه النقل. . . " (¬1)، "وأما مسائل الاجتهاد فالمالكية وغيرهم سواء" (¬2). وعلق الدكتور الجيدي (¬3) على موقف ابن القيم من العمل بأنه متناقض، حيث ما نص عليه في "إعلام الموقعين" من أن عمل أهل المدينة منه ما هو حجة ومنه ما ليس كذلك، ناقضه في كتابه "الطرق الحكمية" (¬4) حيث أشاد به واعتبره حجة. وحتى يتبين هذا الأمر نعرض ما جاء عن العمل في "الطرق الحكمية": قال ابن القيم: ". . . ومن ذلك قول أهل المدينة -وهو الصواب- أنه لا يقبل قول المرأة: أن زوجها لم يكن ينفق عليها ويكسوها فيما مضى من الزمن، لتكذيب القرائن الظاهرة لها، وقولهم في ذلك هو الحق الذي ندين اللَّه به ولا نعتقد سواه" (¬5). فوَصْفُه قولَ أهل المدينة بالصواب، لا يفهم منه أنه يعمم الصواب على كل أقوال أهل المدينة، ووصفه بأنه الحق الذي يدين اللَّه به ولا يعتقد سواه، يقصد به ابن القيم هذه المسألة بالذات ولا يعمم. وعن مذهب أهل المدينة في الدعاوى يقول: "وهو من أَسَدِّ المذاهب وأصحها" (¬6)، ويقول: "هذا مذهب مالك وأصحابه وهو الصواب" (¬7)، في موضوع الدعاوى بالخصوص. ¬

_ (¬1) "أحكام الباجي" (480 - 481). (¬2) "أحكام الباجي" (482). (¬3) في كتابه "العرف" (ص 315 - 316). (¬4) انظره: (ص 20). (¬5) "الطرق الحكمية" (ص 20). (¬6) "الطرق الحكمية" (ص 88). (¬7) "الطرق الحكمية" (ص 114).

الاستصحاب

هذا الفهم هو الذي يبدو أن كلام ابن القيم المتقدم يحتمله، فليس إذَنْ في مَوقِفِهِ مِنَ العمل أَيَّ تناقض. ثم إن قوله برأي للمالكية في مسألة لا يلزمه أن يقول بكل آرائهم، ورفضه لرأي لهم لا يعني بالضرورة وجوب رفضه لكل آرائهم، فهو يقول بالرأي الذي يؤيده الدليل، سواء كان رأيًا للمالكية أو لغيرهم. - الاستصحاب: وتكلم المصنف على حجية (الاستصحاب) في معرض رده على القائلين بنفي القياس. وقرر أن هؤلاء أخذوا بالاستصحاب على وجه مبالغ فيه، وبيّن أنه على أقسام (¬1): الأول: استصحاب البراءة الأصلية. الثاني: استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه. الثالث: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. وذكر الخلاف في القسم الثالث على قولين، ومثّل على جميع هذه الأقسام (¬2)، وقرر أن الاستصحاب حجة ودليل ضعيف يدفع بالأدلة الشرعية: بالعموم والمفهوم، والقياس (¬3)، ويؤخذ به حيث لا دليل، وتنبني عليه مبادئ وقواعد فقهية، مثل: (اليقين لا يزول بالشك) (¬4) و (الأصل بقاء ما كان على ما كان) (¬5). - كلمة في حجية القياس: ولا يجوز في هذا المقام بأي حال من الأحوال إهمال (القياس)، فإن المصنف أسهب في الكلام عليه جدًّا، وظهر ذلك جليًّا عند مبحثنا المُعَنْوَنِ بـ (موضوع الكتاب ومباحثه)، ولكن أرى هنا ضرورة التركيز على النقاط الآتية: أولًا: بناءً على تبنّي المصنف بقوّة كون الشريعة معلّلة (¬6)، توسّع في القياس ¬

_ (¬1) وهي التي ذكرها ابن قدامة في "روضة الناظر" (159 - 160 - مذكرة الشنقيطي). (¬2) انظر: "إعلام الموقعين" (2/ 100 - 106). (¬3) "إعلام الموقعين" (1/ 180). (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 102، 5/ 243). (¬5) "إعلام الموقعين" (2/ 102، 177، 3/ 259، 5/ 160)، وانظر: "بدائع الفوائد" (3/ 272، 273). (¬6) انظر ما سيأتي تحت (الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال)، ومن اللطيف بالذكر قول =

الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال

من جهة، وضيَّقه من جهة أخرى، وأحسن في الحالتين. أما من حيث التضييق، فعلى ما قدّمنا من حيث تقديم النصوص عليه (¬1). وأما من حيث التوسّع، فبناءً على إعمال المعاني، وعدم إهدارها، ولذا فإن "النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان للكتاب والميزان، ولا تخفى دلالة النص، أو لا تبلغ العالم، فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص، فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له، فيكون فاسدًا" (¬2). واستشكل العلماء هذا التقرير من ابن القيم، ومحل بسط ذلك في: * الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال: نادى ابن القيم باستثمار الأحكام الشرعية من النصوص، باعتبار دلالتها في ذاتها، وباعتبار دلالة إضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف باختلاف الناس وتفاوتهم في مراتب الفهم عن اللَّه وعن رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وبهذا يكون ابن القيم قد ضيق الخناق على القياس (¬4)، ومن مؤسسي بناء ¬

_ = صاحب "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (ص 199) "إن اعتناء ابن القيم بأدلة إثبات العليل فاق اعتناء كل من ابن تيمية والشاطبي". (¬1) من بديع كلام إلكيا الهراسي قوله: "إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهب الرياح"، انظر: "طبقات الشافعية الكبرى" (7/ 232)، وانظر في تقرير هذا المعنى كتابنا (3/ 134). (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 97)، وهذا شيء زائد، على ما ذكره الأصوليون في كتبهم عند الاحتجاج للقياس، كفول الغزالي -مثلًا- في "المستصفى" (3/ 625)، و"شفاء العليل" (190 - 195)، "حكم الصحابة بالرأي والقياس لا من تلقاء أنفسهم، بل فهموا من مصادر الشرع وموارده، ومداخل أحكامه ومخارجه ومجارله ومباعثه، أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يَتَّبعُ المعاني، ويُتبعُ الأحكامَ الأسبابَ المتقاضيةَ لها من وجوه المصالح، فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك، ثم فهموا أن الشرع جوّز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه، فعُلِمَ من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- اتباعُ العلل"، فتأمل. (¬3) انظر: "ابن القيم أصوليًا" (166). (¬4) "حفريات المعرفة العربية الإسلامية" (التعليل الفقهي)، لسالم يفوت (ص 173).

الشريعة وأحكامها على مقاصدها وحِكَمِها وأسرارها القائمة على النصوص الشرعية، وعدم الإسراف في القياس. وثمرة ذلك بناء الأحكام على اليقين المنبثق من (تعليل الأحكام)، و (استقراء) المقاصد، والاعتناء بـ (الأشباه والنظائر) و (تتبع الحكم والأسرار) لنصوص الوحيين الشريفين وذلك خير من بنائها على الظن والتخرص المستند إلى القياس (¬1). هذا هو عمدة الاجتهاد الذي نادى به ابن القيم، وهو مدار الفقه عنده، والخصوصية التي يتميز بها الفقيه -عنده- هي "الدليل، وقوة الفهم، وجودة الفكر، ووفور العلم، والاستنباط، فلا أثر للكثرة، فالشخص الواحد، قد يكون أكثر تحقيقًا وتدقيقًا وفهمًا من كثيرين" (¬2). وضرب ابن القيم أمثلة عديدة مما اختلف فيه السلف ومن بعدهم، وقد بيّنت النصوص أحكامها، ومع هذا فقد سلك (القياسيون) طريقًا وعرًا، من مثل (المسألة المشتركة في الفرائض) (¬3) و (مسألة ميراث البنات) (¬4) وكذلك دخول (النباش) في عموم قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ثانيًا: كأني بالمصنف -بناء على ما سبق- يقرر الآفة عند الفقهاء، وهي التوسع في (إِعمال الرأي) مقابل (النصوص) و (فتاوى الصحابة)، ولجوئهم إلى (العقل) دون (النقل)، ذلك "أن الفقيه قد يجد قولًا للسلف في حكم معين، ولكنه لا يهتدي إلى كيفية استخراج ذلك القول من نصوص الكتاب والسنة، فالذي ينبغي لمثل هذا الفقيه هو أن يبحث ويجتهد حتى يتوصل إلى القول الراجح، وإلى كيفية استنباطه من الكتاب والسنة، ثم ضبط الاستنباط بضوابط تعم أفراد النوع الواحد، غير أن بعض الفقهاء إذا وجد مثل تلك الأقوال، ولم يعرف كيف استخرجها الصحابي أو التابعي أو الإمام من النص، فإنه يستسهل أن يزعم بأن القضية لا نص فيها من الكتاب والسنة، وإن الصحابي أو الإمام قال قوله كدليل أو حكم ثالث: هو الرأي أو القياس أو المصلحة!! وكتب المتأخرين والمعاصرين مملوءة بهذا النمط من التخريج، وهو مسلك فاسد جدًّا، يصرف طلبة العلم عن وسائل الاستنباط، ¬

_ (¬1) "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (536 - 537). (¬2) "فرائد الفوائد في اختلاف القولين لمجتهد واحد" (ص 40) للسلمي الشافعي. (¬3) انظر: "إعلام الموقعين" (2/ 127 - 130). (¬4) انظر في "إعلام الموقعين" (2/ 147 - 151).

ويقطع عليهم سبل الاجتهاد؛ وذلك لأن الطالب هنا جعل جهله حجة فقطع على نفسه السبيل، ووقف قبل أن يبلغ غايته التي هي الفقه في الكتاب والسنة، ثم يفني هذا الفقيه عمرًا يتبحر في دليل أو حكم لا تتناوله نصوص الكتاب والسنة بعموم ولا إطلاق ولا مقتضى أمر ولا نهي ولا منطوق ولا مفهوم ولا ظاهر عبارة ولا عبارة مصروفة عن ظاهرها ولا شبه ذلك مما يفيده الاستنباط المباشر من النص، فلا شك أنه حكم موهوم ودليل لا حقيقة له، ومن المحال ضبطه وإتقانه لأنه مما افتعله البشر، وليس مما أنزل اللَّه تعالى. ولذلك تجد مسالك القياس عند المتأخرين في غاية الوعورة والتعقد إلى حد يعجز القائسون أنفسهم عن إدراكها، والانتفاع بها، لما يتجدد من الوقائع ويحدث من القضايا، ولننظر مثلًا إلى لفظ المؤثر والمناسب والمخيل وقياس الشبه والطرد، وهي من الاصطلاحات المهمة في القياس، واعتمد عليها الأصوليون في فهم القياس وضبطه، بحيث يتوقع أن عامة أهل القياس يفهمونها حق الفهم، ولكن قال أبو حامد الغزالي رحمه اللَّه تعالى: "وقد أطلق الفقهاء المؤثر والمناسب والمخيل والملائم والمؤذن بالحكم والمشعر به، واستبهم على جماهير العلماء والأفاضل، إلا من شاء اللَّه دركُ المَيزِ والفصلُ بين هذه الوجوه، واعتاص عليهم طريق الوقوف على حقائقها بحدودها وخواصها. واتصل بأذيال هذه الأجناس قياس الشبه والطرد، وهي المغاصة الكبرى والغمرة العظمى، فلقد عز على بسيط الأرض من يعرف معنى الشبه المعتبر ويحسن تمييزه عن المخيل، والطرد وإجراءه على نهج لا يمتزج بأحد الفنين" (¬1). ومن أراد شهودًا على كلام الغزالي، فلْيقرأ مباحثَ القياس في كتب المتكلمين. وقد شعر بعضهم بأثر القياس في الصد عن الاستنباط المباشر من القرآن والسنة، ونقل بعض القائسين هذا الأثر كحجة لنفاة القياس، قال علاء الدين البخاري: "قال القاضي الإمام في "التقويم": قالوا: وفي الحجر عن القياس أمران بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين، فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معاني اللسان. وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت، وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب؛ فتموت البدع بظهور القالب، ويسقط الهوى بحياة القالب؛ لأن القالب لا يحيى ¬

_ (¬1) "شفاء العليل" (143 - 144).

إلا باستعمال الرأي في معاني النصوص، ومعانيها غائرة جمة لن تنزف بالرأي وإن فنيت الأعمار فيها، فلا يفضل الرأي للهوى؛ فيتم أمر الدين" (¬1). الحاصل من ذلك: أنه ينبغي توجيه الرأي في الدين على أنه القدرة العقلية على تفسير الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وخدمة أحكامهما، وليس هو دليلًا ثالثًا معهما، فإذا أخذ الرأي هذه الوجهة صلح أمر أهل العلم الذين هم رؤساء الناس. وعلى أي حال؛ فإن كان القائسون يرون حصر الدين بالكتاب والسنة، ويريدون بالرأي الذهن المتوقد والقدرة العقلية على الاستنباط من الكتاب والسنة، وتنفيذ أحكامهما فلا خلاف معهم ولا إشكال في ادعاء إجماع الصحابة. وأما إن كانوا يريدون بالرأي أو القياس دليلًا ثالثًا في الدين سوى الكتاب والسنة فلا شبهة في بطلان ذلك، بل ليس ببعيد أن ندعي إجماع الصحابة على بطلانه" (¬2). وما أقعد ما قاله ابن القيم: "وقد تقدم مرارًا: أن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلما كان الرجلُ إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد" (¬3)! ثالثًا: من الأمور التي أخذها ابن القيم على نفاة القياس والمثبتين له والمتوسطين، موقفهم من التعليل: النفاة سدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح. والقائلون به، غلاتهم، علقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللًا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها. والمتوسطون، مع إقرارهم بحجية القياس، فإنهم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب، ذلك أن علل الشرع ما هي إلا مجرد أمارات وعلامات فقط، وذهبوا إلى أن جميع ما وجد من الخلق والأمر مقترنًا بعضه ببعض، فأحدهما دليل على الآخر مقارن له اقترانًا عاديًا، وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة. وابن القيم يرى أن الصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره (¬4). ¬

_ (¬1) "كشف الأسرار" (3/ 274). (¬2) "تمكين الباحث" (129 - 131). (¬3) "إعلام الموقعين" (3/ 168). (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 96 - 97)، وانظر في مبحث (التعليل) عند ابن القيم إن أردت =

رابعًا: إذا كان الفقهاء قد افترقوا في القياس فمنهم: نفاة، وغلاة، ومتوسطون، فإن لابن القيم موقفًا حسنًا، فكان بين ذلك قوامًا، حيث لم ينف القياس نفيًا باتًا كما فعل الظاهرية، ولم يغال في القياس مغالاة العراقيين، وإنما أخذ بالقياس، كما أكد ذلك في كتابه هذا، وما كان مبتدعًا بل كان متبعًا، فإن الصحابة الذين تخرج على فقههم، وإن كان بينه وبينهم الزمن الطويل، قد أخذوا بالقياس ونقل عنهم، وكثير من الأحكام التي استنبطوها بنيت عليه، وقد قال في هذا الشأن: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره. . . " (¬1). فالقياس ضروري لكل من يتصدى للفتوى، ولا يمكن أن يستغني عنه فقيه. ولقد قال المزني، صاحب الشافعي: "الفقهاء من عصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يومنا وهلم جرا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا بان نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس" (¬2). ولعل ابن القيم من الذين أعطوا القياس عناية كبيرة، وقد دفعهم إلى ذلك حاجة الزمن، فإن الناس قد جدت لهم أحداث اضطروا فيها إلى أن يفتوا وأن يقيسوا على فتوى الصحابة والأمور المنصوص على حكمها، واضطروا أن يخرجوا على أقوال إمامهم، ولا بد لذلك من القياس، فسلكوا طريقه واجتهدوا واستنبطوا. خامسًا: نوع القياس الذي يأخذ به: يدل لفظ القياس عند ابن القيم على أمور ثلاثة: 1 - الرأي: بعد أن ذكر أن يحيى بن أكثم يرى أن الرجل يجب عليه أن يفتي إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر، قال ابن القيم: "يريد بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طردًا وعكسًا" (¬3). ¬

_ = الاستزادة: "تعليل الأحكام" للشلبي (68، 74، 304، 327، 377 - 379) وما سيأتي تحت عنوان (عنايته بمحاسن الشريعة وحكمها). (¬1) "إعلام الموقعين" (1/ 354). (¬2) "إعلام الموقعين" (1/ 359). (¬3) "إعلام الموقعين" (1/ 88).

2 - الأمثال والأشباه والنظائر: يقول ابن القيم: "إن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر" (¬1). 3 - الميزان: وهو اللفظ الذي يرجح ابن القيم استعماله بدلًا من استعمال لفظ القياس. فبعد أن ذكر ابن القيم بعض الآيات التي ورد فيها لفظ الميزان، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} [الرحمن: 7]، قال: "والميزان يراد به العدل والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده، والقياس الصحيح هو الميزان، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه اللَّه به، فإنه يدل على العدل، وهو اسم مدح، واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس، فإنه ينقسم إلى حق وباطل وممدوح ومذموم" (¬2). فابن القيم يقسم القياس إلى صحيح وفاسد، فالصحيح هو الميزان، والفاسد غير معتبر كقياس الكفار البيع على الربا في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 274]، بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وكقياس الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق روح الميتة بفعل اللَّه، وإزهاق روح المذكى بفعل الذابح، قال ابن القيم: "ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به، وهذا حق وهذا حق" (¬3). وقد حدد ابن القيم ضابط معرفة القياس الصحيح والقياس الفاسد فقال: "إن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد" (¬4). وبين أن السلف قرروا العمل بالقياس عند الضرورة، وأنهم لم يلزموا أحدًا العمل به ولم يحرموا مخالفته، ولا اعتبروا مخالفه مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده (¬5). ومع أخذ ابن القيم بالقياس عند الضرورة، فهو يعتبر النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث وقد سبق الإشارة إلى ذلك (¬6). ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (1/ 377). (¬2) "إعلام الموقعين" (1/ 350 - 351). (¬3) "إعلام الموقعين" (1/ 351). (¬4) "إعلام الموقعين" (3/ 168). (¬5) "إعلام الموقعين" (1/ 135). (¬6) "ابن القيم أصوليًا" (ص 184 - 185).

عنايته بمحاسن الشريعة وحكمها

هكذا يتضح لنا أن ابن القيم قد انتفع بالقياس الفقهي. وكان قياسه أحكم لأنه كان يوائم من الأقيسة وما أوتي من علم واسع شامل بالسنة وفتاوى الصحابة وأقضيتهم وطرائق استنباطهم، فهو قياس يستقي من ينابيع الأثر، ويشاكل تمام المشاكلة اجتهاد السلف الذي هو المشكاة لهم. ونجد في أقيسة ابن القيم أمرين: - أنه نظر في الأحاديث التي زعم الحنفية وغيرهم أنها ليست متفقة مع القياس، وأنها استثناء يؤخذ بها إن لم يعارضها، وبين اتفاقها مع القياس وعدم بعدها عن مراميه وغاياته. - أنه نظر في الأوصاف المشتركة بين الفرع والأصل في أقيستهم نظرة جامعة كلية. فاتجه إلى المقاصد الشرعية السامية التي تتجه إلى إيجاد جماعة فاضلة، تقوم على رعاية المصالح ودفع الأضرار في حياة دينية وخلقية تستمد النور من السماء. ونرى من هذا أن ابن القيم قد خص القياس ببيان أوفى، سلك فيه مسلك السلف الصالح وخاض فيه على ضوئهم، وبين مرامي الأقيسة التي نقلت في فروع الإمام أحمد، ووضح المقاصد التي سيقت لها الأحكام، وعرج في ذلك على مقاصد الشريعة وغايات الأحكام فيها، وهو في ذلك يوضح مناهج الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، دون أن ننسى الإشارة إلى أن لشيخه أسبقيةً في ذلك. فابن القيم إذًا قد أفاد عمَلَه في القياس الفقهي اتساعًا في أبوابه، وسموًّا في غاياته، ونموًا في طرائقه، كما استفادت الآثار منه مدافعًا، يبيِّن غايتها ومقاصدها واتفاقها مع ما تنتجه المقاييس العقلية السليمة، وأفاد الاستنباط الفقهي عمومًا، فاستبان الشرع الإسلامي متجانسًا غير متنافر، فالأحكام الشرعية تشتمل على التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين (¬1). * عنايته بمحاسن الشريعة وحِكَمها (¬2): اعتبر ابن القيم رحمه اللَّه معرفة حكمة الشريعة وأسرارها ومقاصدها ومحاسنها رأس أمر الفقه وذروة سنامه. ¬

_ (¬1) "ابن القيم أصوليًا" (193). (¬2) انظر في ذلك أيضًا: "الحدود والتعزيرات عند ابن القيم" (ص 9)، و"أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية" (ص 12 - 13) كلاهما للشيخ بكر أبو زيد.

وقد تفوق ابن القيم على غيره في هذا المضمار، وعلى الرغم من تبنِّيه كلام شيخه ابن تيمية فيه، إلا أنه جاء -ولا سيما في كتابنا هذا- بما هو متمم ومكمل له، وقد وسع الكلام عليه. وفصّله في المسائل الفقهية، موظفًا ذلك في خدمة الدليل الشرعي، وقد أفاد وأجاد في ذلك، وأتى بما لم يأتِ به أحد قبله. يقول بعض الباحثين (¬1) تحت عنوان (العلماء الذين قالوا: إن الأصل في العادات والعبادات التعليل). وذكر منهم (ابن القيم)، وقال: - "يؤكد ابن القيم -متبعًا شيخه- على أن اللَّه تعالى عرف عباده عموم جلائل خلقه وأمره دون دقائقها وتفاصيلها، وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها، وأما تفاصيل أسرار المأمورات والمنهيات فلا سبيل إلى علم البشر بها، ولكن اللَّه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها (¬2). فهذا "أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله، ويحصر اللسان عن التعبير عنه" (¬3) قال رحمه اللَّه: "الحق أن جميع أفعاله وشرعه سبحانه لها حكم وغايات لأجلها شرع وفعل، وإن لم يعلمها الخلق على التفصيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها" (¬4). ويرى رحمه اللَّه أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله، ويخفى على من خفي عليه (¬5). ويرى -كما يرى شيخه (¬6) - أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر (¬7). وفي معرض رده على الذين لا يعللون تقديرات العقوبات يقول: "إن من شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسًا وقدرًا فهو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة، كما أن التخصيصات والتقديرات ¬

_ (¬1) هو الدكتور يوسف البدوي في كتابه "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (ص 176 - 180) والمنقول بتصرف. (¬2) "مفتاح دار السعادة" (328، 434). (¬3) "شفاء العليل" (78 - 79). (¬4) "شفاء العليل" (395، 451، 501). (¬5) "إعلام الموقعين" (2/ 294). (¬6) انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 505). (¬7) "إعلام الموقعين" (2/ 165).

الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعًا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه، وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإِحكام أولى وأحرى. ومن لم يعرف ذلك مفصلًا لم يسعه أن ينكره مجملًا، ولا يكون جهله بحكمة اللَّه في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغًا له إنكاره في نفس الأمر" (¬1). ولقد خصص ابن القيم كثيرًا من كتبه لبيان حكم اللَّه ومقاصده في أفعاله وأحكامه سبحانه مثل: كتابنا هذا، و"مفتاح دار السعادة"، و"شفاء العليل". ولقد ذكر عللًا كثيرة لكثير من أحكام الشريعة، ففي الطهارة والصلاة ذكر حكمًا عديدة لقراءة سورة الفاتحة في الصلاة، وطهارة الأعضاء والثياب والمكان، وأخذ الزينة، واستقبال القبلة، ثم حكم هيئات الصلاة من الركوع والقيام منه ثم السجدتين والجلوس بينهما والجلوس للتشهد والترتيب بين هذه الأركان، كما أنه أفاض في ذكر حكم غسل أعضاء الوضوء والاغتسال (¬2). وبين الحكمة في التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار (¬3). وفي الصوم والزكاة والحج وفيما يتعلق بها من أوقات وأماكن ومقادير بين حكم الشريعة ومحاسنها فيها، إلى غير ذلك من المعاملات وأحكام الأسرة والعقوبات (¬4). كل ذلك قوى ظني وشد أزره بأن المراد من كلام الشاطبي الآتي هو ابن القيم -مما يثبت اطلاعه على كتب ابن القيم وابن تيمية واستفادته منهما، حيث يقول الشاطبي: "الحِكَم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة، والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه، ولا تطور (¬5) نحوه، فيأتي بعض الناس فَيُطرِّق إليه حِكَمًا ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 348، 2/ 120). (¬2) "شفاء العليل" (478 - 485). (¬3) "إعلام الموقعين" (2/ 369). (¬4) "مفتاح دار السعادة" (328 - 332). (¬5) أي: تحوم.

يزعم أنها مقصودُ الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبنى على ظنٍّ وتخمينٍ غير مطرد في بابه، ولا مبنيّ عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ" (¬1). وهذا الموقف من الشاطبي هو الذي حمل الريسوني على أن ينسب إلى ابن القيم البعد في تعليل الأحكام، بما في ذلك الأحكام العادية والتعبدية، وقال: "ورغم أن ابن القيم بسبب إصراره على تعليل كل شيء قد وقع في تعليلات ضعيفة، كما في تعليله للفرق بين بول الصبي وبول الصبية، وكما في تعليله لكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية" (¬2). لكن لو أنعمنا النظر في موقف الشاطبي لتبين لنا أنه تردد وقدم قدمًا وأخَّرَ أخرى (¬3). فهو مع أنه أنكر على بعض الناس تعليل اختصاص الصلاة بتلك الهيئات دون بعض إلى غير ذلك مما تقدم ذكره عنه، إلا أنه يذهب إلى تفصيل وتعليل كثير من العبادات كما قال الريسوني: "والشاطبي نفسه يسعفنا بتعليلات أكثر تفصيلًا في الأحكام التي نعى هو على غيره تعليلها وذكر حكمها" (¬4)، فيقول الشاطبي: "وذلك أن الصلاة مثلًا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهُّب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجَّه إليه، فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أمِّ القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجِّه إليه، وإذا كبَّر وسبَّح وتشهَّد، فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفُل عما هو فيه من مناجاة ربِّه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدَّم قبلها نافلةً؛ كان ذلك تدريجًا للمصلي واستدعاءً للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضًا، لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة. ومن الاعتبار في ذلك أن جُعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسانُ والجوارحُ متطابقةً على شيء واحد، وهو الحضور مع اللَّه فيها بالاستكانة والخضوع، والتَّعظيم والانقياد، ولم يخلُ موضعٌ من الصَّلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان" (¬5). ¬

_ (¬1) "الموافقات" (1/ 111 - 112 - بتحقيقي). (¬2) "نظرية المقاصد" (218). (¬3) حتى أن ابن عاشور قال: "اعلم أنّ الشاطبي ذكر كلامًا مطولًا في العبد والتعليل معظمه غير محرر، ولا متجه، وقد أعرضت عن ذكره هنا لطوله واختلاطه"، انظر: "مقاصد الشريعة" له (ص 48). (¬4) "نظرية المقاصد" (ص 215). (¬5) "الموافقات" (2/ 42 - 43 - بتحقيقي).

وفي نظري فإن ابن القيم قد تكلم في كثير من علل الأحكام سواء في مجال العبادات أو المعاملات، مما لم يتطرق إليه ابن تيمية، حتى إنه ليعلل الأعداد والمقدرات التي جاءت بها الشريعة. فيذكر أن عدة المتوفى عنها زوجها كانت أربعة أشهر وعشرًا لأنها أولى المدد التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه، فكانت على وفق الحكمة والمصلحة (¬1). وأن المقادير التي جاءت بها الشريعة في الزكاة تحقق العدل والمصلحة لكل من الفقراء وأرباب الأموال (¬2). وإن إحداد المرأة على غير الزوج يناسبه ثلاثة أيام ترتاح فيها النفس وتقضي بها وطرًا من الحزن، بخلاف الإحداد على الزوج، فإنه تابع للعدة، وهو من مقتضياتها ومكملاتها (¬3). وكما قال الجويني، عند عرضه لمذاهب العلماء في عدد من تنعقد بهم بيعة الإمام وذكره بعض العلل لذلك قال: "ولو تتبع المتتبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع، لم يعدم وجوهًا بعيدة عن التحصيل في التشبيه" (¬4). فلا يشترط أن تكون كل تلك التعليلات قد أصابت كبد الحقيقة، وأظهرت سر الشريعة، ولكنها اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب". قال أبو عبيدة: هذه المباحث وغيرها؛ تدلل على أصالة ابن القيم في علمَي (الفقه) و (أصوله)، وأن له يدًا طولى فيه، وأن عنده فيه عقلية تحليلية إحصائية استقرائية تجمع المسائل تحت منضَبَطٍ واحد، والتمس من خلال ذلك "أسرار التشريع، وعلل الأحكام، ليظهر جمال شرع اللَّه تعالى، وكمال حكمته، ولطف علمه وخبرته، فعلل تلك الأحكام بما يناسبها من سر التشريع، وعمق المأخذ، وعلّة الحكم، ليجعل من تلك الأسرار التشريعية، والحِكَم الإلهية، قواعد وضوابط يبني عليها الكثير من جزئيات الأحكام. وهذه العلل المرفقة، والأسرار المنقحة في كتابنا الجليل -الذي لم يصنف في بابه على منواله- تدلل على غوص صاحبه في أغوار التشريع" (¬5) وفيها "قلائد وفوائد وموائد وفرائد، وكتب لها السلاسة مزية، ووضوح من غير تعقيد ولا ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (2/ 395). (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 333)، وانظر: "حجة اللَّه البالغة" (2/ 43 - 44). (¬3) "إعلام الموقعين" (2/ 414). (¬4) "الغياثي" (ص 69). (¬5) من مقدمة الشيخ عبد اللَّه البسام لكتاب "أسرار الشريعة من إعلام الموقعين" لمساعد بن عبد اللَّه السلمان (ص 5) بتصرف يسير.

تكلف ولا وكس ولا شطط، ومن واظب عليها دراسة ودراية وقراءةً وبحثًا وتنقيبًا وحفظًا وفهمًا، وقرأها على من هو أعلم منه، حصل على خير كثير" (¬1) ولا سيما أن "الحاجة إلى معرفة أسرار الشريعة الإسلامية صار أمرًا ضروريًا، لا سيما في هذا الزمن الذي كثر فيه أعداء اللَّه، حيث تحركت الأقلام القذرة والأيادي الملطخة بالكفر والزندقة لتشكك المسلم في دينه وعقيدته ليبقى في شراك الشك والحيرة يصطلي بنار الضلال ولا يبصر أمامه إلا سرمديًا. وهذا -أعني التشكيك- منهج قديم ومسار تليد لكنه نما وازداد في هذه الآونة الأخيرة، وصار تخصصًا يتفنن فيه أساتذته وطلابه، بتنويع الشبه وتزيين الاعتراض وعدم القبول وتقبيح الانقياد والخضوع بلا اقتناع" (¬2). وعلى الرغم من عناية ابن القيم المتميزة في كتابنا هذا بأسرار الشريعة (¬3) إلا أنه ليس خاصًا بها، وهنالك كلمة للمصنف ظفرتُ بها في "بدائع الفوائد" (2/ 179)، تدلل على أهمية هذا العلم عند المصنف، وفيها عزمه على إفراده بالتصنيف، قال رحمه اللَّه: "ومن فهم هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة، يرقص القلب فيه طربًا ويتمنى أن له الدنيا وما فيها، وعسى اللَّه أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيساعد على تعليق كتاب يتضمن ذكر بعض محاسن الشريعة وما فيها من الحكم البالغة والأسرار الباهرة، التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة، ولم يحسن إليهم إحسانًا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة". ومن الجدير بالذكر أن العناية بهذا اللون من التصنيف بقيت قاصرة (¬4)، على ¬

_ (¬1) من مقدمة الشيخ إبراهيم الجطيلي لكتاب "أسرار الشريعة" (ص 7 - 8) بتصرف. (¬2) "أسرار الشريعة" (ص 10). (¬3) قال محمد رشيد رضا في "المنار" (مجلد 12، عدد شوال، 1327 هـ ص 786): "لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع. . . ". (¬4) لا تنسى في هذا المقام جهود ثلة من العلماء، من أبرزهم: * محمد بن عبد الرحمن البخاري (ت 546 هـ) في كتابه: "محاسن الإسلام وشرائع الإسلام" وهو مطبوع. * علي بن أحمد الجرجاوي الأثري الحنبلي (ت 1331 هـ) في كتابه: (حكمة التشريع =

ابن القيم ومقاصد الشريعة

الرغم من الحاجة الماسة إليها، عسى اللَّه أن ييسر له علماء ربانيين، إنه ولي ذلك، والقادر عليه. * ابن القيم ومقاصد الشريعة: يجرُّنا ما سبق إلى بيان عناية ابن القيم بـ (مقاصد الشريعة)، وتجلَّى ذلك بالجملة في الأمور التالية (¬1): ¬

_ = وفلسفته" وهو مطبوع أيضًا، ومما جاء في ديباجته (ص 9 - 10): "هذا، ولقد كنتُ متشوّقًا إلى رؤية سفر من الأسفار، يبيّن لنا تلك الحكم والأسرار، وكم مكتبة سألت أصحابها، وكتب خانة طرقت بابها، وكم قلبتُ صحائف الكتب الدينية الموضوعة في الأحكام الشرعية، فما وجدت كتابًا فيها وافيًا بموضوع حكمة التشريع، وكل ما وقفت عليه واهتديت إليه نبذًا منفرقة أيدي سبأ في آلاف من الكتب تذكر لعلاقتها بمسألة شرعية في العبادات والمعاملات، وحينئذٍ وجدت في صدري حرجًا، وسألت اللَّه أن يجعل لي من أمري مخرجًا، وبينما أنا كذلك، وإذا بصديق لي ظاهر الذيل والعرض والنفس زار داري، وازدان بطلعته وجه نهاري، ولما أخذ كلّ منّا مجلسه أخذنا بأطراف الحديث، -والحديث شجون- وطرقنا أبواب العلم -والعلم فنون- إلى أن انتهى الحديث بأن تمنينا وجود كتاب خاص في موضع حكمة التشريع، ثم إن صديقي هذا حبّب إليّ وعرض عليَّ أن أقوم بهذه الوظيفة فأحجمت لقصور الهمة عن إدراك هذه المهمة، فقال لي ناصحًا: اكتب على قدر ما يستطيع القلم والعقل، وإن لم يصبها وابل فطل. وأن لك من اللَّه أجر المحسنين وثواب العاملين، وعندئذٍ قلت رب هب لي من أمري رشدًا، وأرسل لي من عنايتك مددًا،، وشرعت أجمع من الشوارد ما صعب فهمه لصعوبة العبارة وغمض مغزاه لغموض الإشارة، وبعد جهد طويل في سلوك هذا السبيل وضعت كتابي هذا وسميته "حكمة التشريع وفلسفته" وبيّنت فيه تلك الحكم البالغة زيادة على رأس الفضيلة، وأنا الضعيف العاجز الذي لا حول لي ولا قوة إلا بتوفيق من العزيز الحكيم،. . . "، * ولي اللَّه الدهلوي في كتابه "حجة اللَّه البالغة"، وهو مطبوع. * محمد رشيد رضا في أبحاثه، ولا سيما في "المنار": "التفسير" و"المجلة". وهنالك كتب بينت محاسن الإسلام بالمقارنة مع الأديان الأُخرى، وهي بعيدة عن موضوعنا هذا، فلا داعي لسردها، وقد وقفت على غير واحد منها. (¬1) منقولة من كتاب "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (ص 92 - 93)، وقال بعد أن ذكر الأمور الثمانية الآتية: "وسيتجلى ذلك في ثنايا الرسالة، لأنني حرصتُ على أن أوائم وأزاوج بينه (أي: ابن القيم) وبين ابن تيمية في هذه الرسالة، ما استطعت إلى ذلك سبيلًا". وقال (ص 508) بعد كلام: "ولن أقارن بينه (أي: ابن تيمية) وبين ابن القيم، فاستفادة ابن القيم منه أضحت أشد وضوحًا من الشمس في رابعة النهار". وقال (ص 515): "ومن المعلوم كم هي الصلة بين ابن القيم وابن تيمية" وانظر ما زبرناه تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية) (ص 145). =

أولًا: اهتمامه بالتعليل وأساليبه في الكتاب والسنة، ومناقشة منكريه والتشنيع عليهم (¬1). ثانيًا: الاعتناء بإبراز أسرار الشريعة وحكمها (¬2). ثالثًا: معالجته لسد الذرائع والحيل (¬3). رابعًا: دفاعه عن تعارض الشريعة وعدم القول بوجود ما خالف القياس (¬4). خامسًا: الاهتمام بمقاصد المكلفين (¬5). سادسًا: حقق القول في مدى تمحض المصلحة والمفسدة في الوجود. سابعًا: ساهم في إرساء بعض قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد (¬6). ثامنًا: وظف القرائن والأحوال المقالية والحالية في معرفة مقاصد الشارع والمكلف (¬7). من خلال هذه المباحث وغيرها (¬8)، يظهر معنا بوضوح أن ابن القيم رحمه اللَّه اعتنى بالمقاصد ونبه على أهميتها واشتراطها للمجتهد، مقتفيًا في ذلك خُطَا شيخه وأستاذه. فهو ينقل قول ابن تيمية السابق في اعتبار العلم بصحيح القياس وفاسده من أَجَلِّ العلوم وأنه إنما يَعرِفُ ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن والمصالح في المعاش والمعاد، والحكم البالغة (¬9). وعقد فصلًا عظيمًا في موسوعته هذه لبيان أن بناء الشريعة على مصالح ¬

_ = وقال الدكتور عبد العزيز الخياط في كتابه "المدخل إلى الفقه الإسلامي" (ص 226) ضمن كلامه على (نشاط حركة التدوين الفقهي) قال: "الاهتمام بالكتابة في بيان مقاصد الشريعة والتوسع فيها، كما فعل ابن تيمية وابن قيم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين""، ونحوه عند المحمصاني في "فلسفة التشريع في الإسلام" (199). (¬1) "شفاء العليل" (400 - 430)، وانظر ما قدمناه سابقًا. (¬2) "مفتاح دار السعادة" (205 - 300)، وانظر ما قدمناه تحت عنوان: (عنايته بمحاسن الشريعة وحكمها) (ص 186). (¬3) "إعلام الموقعين" (3/ 553). (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 165 - 426). (¬5) "إعلام الموقعين" (3/ 497 - 552). (¬6) "إعلام الموقعين" (3/ 337 - 441)، و"مفتاح دار السعادة" (340 - 351). (¬7) "إعلام الموقعين" (1/ 384 - 391). (¬8) "إعلام الموقعين" (1/ 384 - 391). (¬9) "إعلام الموقعين" (2/ 255 - 256).

العباد في المعاش والمعاد، وقال عنه: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، فأوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. . . " (¬1). فابن القيم لا يختلف عن شيخه ابن تيمية في نظرته إلى اشتراط وجوب علم مقاصد الشريعة وحكمها وأهدافها، إذ ذاك ضروريٌّ للمجتهد عاصمٌ له من الجهل والغلط، ومن إيقاع المشقة والعنت بالمكلفين، وإذا كانت الشريعة مبنية على المقاصد والمصالح فكيف يصح أن يكون المجتهد الذي تربى في حجرها وارتضع من لبنها غير ملم بأسرارها ومقاصدها (¬2). ويستطيع الناظر في كثير من مباحث كتابنا هذا، وكتب ابن القيم الأخرى أن يقرر أن لابن القيم رحمه اللَّه نصيبًا وافرًا في هذا الباب، وأنه قد أولى هذه القضية عناية شديدة، واهتمامًا بالغًا، فقد ذكر -مثلًا- في "شفاء العليل" (ص 3) أن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل، فضلًا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فبالقدر والحكمة ظهر خلق اللَّه وشرعه المبين. كما أنه يصرح دائمًا بأن: أوامر الرب تبارك وتعالى وشرائعه جاءت بما يحقق مصالح العباد في الدارين، وأن أحكم الحاكمين الذي بهرت حكمته العقول أولى بمراعاة مصالح عباده ومفاسدهم في الأوقات والأحوال والأماكن والأشخاص من مراعاة الطبيب للمريض، قال: "وهل وضعت الشرائع إلا على هذا" (¬3). ومع ذلك؛ فهو يذكر أن اللَّه بنى أمور عباده على أنْ عَرَّفَهم معاني جلائل خَلْقه وأمره، دون دقائقها وتفاصيلها، فعقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته (¬4)، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 337). (¬2) "مقاصد الشريعة عند ابن تيمية" (111 - 112). (¬3) "شفاء العليل" (ص 3). (¬4) "مفتاح دار السعادة" (357).

المحور الثاني: التفصيل والتأصيل والتحليل والاستيعاب وطول النفس مع التكامل والانسجام

فهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله ويعجز اللسان عن التعبير عنه (¬1). بل إن ابن القيم يقرر أن الشريعة قائمة على أساس الحِكَم وقاعدة المصالح والعدل ووضع الأمور في نصابها؛ لأنها منزلة من حكيم حميد، فها هو يقول: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخِلَتْ فيها بالتأويل، فالشريعة عدل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها (¬2). فَطَيُّ بساط الأسباب والعلل تعطيل للأمر والنهي والشرائع والحكم (¬3). والخلاصة: أن ابن القيم "جال في كتابنا "إعلام الموقعين" في موضوعات مختلفة بين الأصول والفقه، وأودع فيه فوائد وشوارد مقاصديّة كثيرة، خاصة في مباحث: القياس، والفتوى، وتغير الأحكام بتغيّر الأزمان، والحيل، وغيرها. والذي ينبغي الإشارة إليه هنا: هو أنك تجد تلك الفوائد والشوارد داخل استطرادات واسعة، مما يجعل ضبطها وتحديدها وتخليصها من غيرها يحتاج إلى جهد كبير" (¬4). المحور الثاني: التفصيل والتأصيل والتحليل والاستيعاب وطول النَّفس مع التكامل والانسجام: من السمات البارزة لمنهج ابن القيم العلمي في كتابه هذا (التفصيل) و (التحليل) و (الاستيعاب) و (طول النفس) مع التكامل والانسجام، ويظهر معنا هذا بوضوح في النقاط الآتية: أولًا: حشد الأدلة: أكثر المصنف في تعداد الأدلة وحشدها على مسائل أصولية وفقهية كثيرة، من مثل: - ذكر تسعة وتسعين دليلًا على اعتبار سدّ الذرائع (¬5). ¬

_ (¬1) "شفاء العليل" (79). (¬2) "إعلام الموقعين" (3/ 337). (¬3) "مدارج السالكين" (3/ 419). (¬4) "المقاصد العامة للشريعة الإسلامية" (ص 22) لابن زغيبة عز الدين. (¬5) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 5 - 65).

ثانيا

- ذكر ستة وأربعين دليلًا على حجية قول الصحابي (¬1). - طوّل جدًّا في ذكر حجية القياس، واستغرق ذلك في طبعتنا مئة وتسعًا وثلاثين صفحة (¬2). - ذكر واحدًا وثمانين دليلًا على تحريم التقليد (¬3). ثانيًا: أما المسائل الفقهية، فهو مشهور بطول النفس فيها، واستيعاب الكلام عليها. قال ابن حجر عن مصنفنا -رحمهما اللَّه-: "وهو طويل النفس في مؤلفاته، يعاني الإيضاح جهده، فيسهب جدًّا" (¬4). وقال الشوكاني أيضًا: "وإذا استوعب الكلام في بحث، وطوّل ذيوله، أتى بما لم يأت به غيره، وساق ما تنشرح له صدور الراغبين" (¬5). ثالثًا: وأما استيعابه وطول نفسه في المسائل، فيكمن في إكثاره من الشواهد والأمثال، وتكلمه في مآخذها، وذكر الحجج والكلام على صحتها وتوجيهها، وبسط ذلك مع أقوال الفقهاء، ومناقشة الآراء، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب الذي دل عليه الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة، أو مقاصد الشريعة، أو قواعدها، وقد أفصح عن منهجه هذا بقوله: "ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة على طريقتنا التي من اللَّه بها، وهو مرجو الإعانة والتوفيق" (¬6). رابعًا: هنالك دوافع وبواعث دعت المصنف إلى الاستطراد في هذه المسائل، كشفنا عن شيء منها فيما مضى (¬7). خامسًا: من الأمثلة على (المباحث) التي طول المصنف فيها النفس: - (القياس)، بلغ هذا المبحث في نشرتنا هذه (ست مئة وستين صفحة) استغرقت من (ص 247) من (المجلد الأول) إلى (آخره)، ومن (أول) المجلد الثاني إلى (ص 425) منه. ¬

_ (¬1) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 543 - 581، و 5/ 5 - 40). (¬2) انظر: "إعلام الموقعين" (1/ 247 - 386). (¬3) انظر: "إعلام الموقعين" (2/ 447 - آخر المجلد، و 3/ 5 - 36). (¬4) "الدرر الكامنة" (4/ 22). (¬5) "البدر الطالع" (2/ 145). (¬6) الروح (93) ونحوه في "مفتاح دار السعادة" (1/ 32 و 2/ 110). (¬7) انظر ما قدمناه (ص 15) وما سيأتي (ص 217 - 218).

وذكر العلماء طول نفس المصنف في هذا المبحث، وأشادوا به في عبارات سبق أن ذكرناها عنهم (¬1). - (شرح كتاب عمر في القضاء)، أخذ هذا المبحث موضعًا هامًا وواسعًا من كتابنا هذا، فبلغ من نشرتنا هذه (سبع مئة واثنين وستين صفحة). استغرقت من (ص 158) من (المجلد الأول) إلى آخره (ص 487) ومن بداية (المجلد الثاني) إلى (ص 438) منه، ويندرج تحت هذا الشرح (عناوين) فرعية و (فصول) و (مباحث) و (تفريعات) و (مسائل)، بلغ عددها فيما أحصيت (ثلاثًا وأربع مئة) عنوانًا، لما هو تحت شرح هذا الكتاب. وأشاد العلماء -كما تقدم (¬2) - بطول نفس المصنف في شرحه، بل بعضهم عدَّ كتابنا هذا مفردًا لشرحه فحسب! وهذا وهم، وقد نبهنا عليه (¬3)، واللَّه الموفق. - (التقليد)، طول المصنّف نفسه في هذا المبحث جدًّا، واستغرق ذلك في نشرتنا هذه مئة وثماني وخمسين صفحة، من (ص 447) من (المجلد الثاني) إلى (ص 36) من (المجلد الثالث)، حيث قال: "وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد"، وأشاد العلماء ببسط المصنف وتأصيله وتفصيله في هذا المبحث، وسيأتيك كلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في ذلك (¬4). - (الحيل)، عالجها بإسهاب طويل، واستغرق من نشرتنا أربع مئة واثنتين وسبعين صفحة، فبدأ من (ص 66) وانتهى بـ (538) من (المجلد الرابع). - اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، أفاض وأسهب جدًّا في تقرير هذا المبحث، فاستغرق من نشرتنا مئة وتسعًا وعشرين صفحة، فبدأ من (ص 447) إلى (ص 455) من (المجلد الثالث) ومن (ص 5) إلى (ص 67) من المجلد (الرابع). ومن الأمثلة على (المسائل) التي استطرد فيها المصنف: - طواف الحائض بالبيت، استغرقت في نشرتنا عشرين صفحة، من (ص 356) إلى (ص 377) من (المجلد الثالث). - حكم اليمين بالطلاق، ابتدأ من (ص 440) وانتهى بـ (ص 447) من (المجلد ¬

_ (¬1) انظر ما قدمناه (ص 15، 18). (¬2) (ص 18 - 20). (¬3) انظر ما قدمناه (ص 20). (¬4) انظره (ص 251 - 252).

سادسا

الثالث) مع ملاحظة تكرار بحث المصنف والإشارة إليها. - حكم الاستثناء في الطلاق، استغرقت في نشرتنا نحو أربع وثلاثين صفحة فبدأ من (ص 462) وانتهى بـ (ص 496) من (المجلد الرابع). سادسًا: من السِّماتِ المنهجية المهمة لفقه الإمام ابن القيم في كتابنا هذا التحليل والتأصيل وسعيه نحو التقعيد، فهو "يغوص في مدارك المسائل بنظره الثاقب، فيستخرج جميع الوجوه والاحتمالات، ثم يعطي كل احتمال حكمه الشرعي" (¬1). فالمصنف يعمل على تكييف المسألة من ناحية فقهية، ويذكر ما فيها من اختلاف الفقهاء وأقوالهم وآرائهم واجتهاداتهم (¬2)، على وجه يكون الغرض منه الاستفادة الشمولية الكلية لتأصيل وتقعيد أصولي أو منهجيّ، مدلل عليه، معروف عند السلف الصالح، وذلك من خلال فحص واختبار ما استدل به كل فريق، وإلغاء ما ليس مناسبًا، وإثبات الصالح المناسب، وهذا ما عنيناه بـ (التحليل)، الذي عُرِّف بأنه "عملية عقلية في جوهرها، وهو ينحصر في عزل صفات الشيء، أو عناصره بعضها عن بعض، حتى يمكن إدراكه بعد ذلك إدراكًا واضحًا" (¬3). فالمصنف يبحث المسائل على وجه عميق جدًّا، مجاوزًا المنهج التقليدي عند الفقهاء، ممن يعملون على عرض المسائل باعتماد طريقة الأبواب والفصول التي درج عليه فقهاء ذلك العصر، وأصبحت -بناء عليه- مجموعة من المسائل وبحكم مجموعة من المقدمات، من المسلّمات، فرأى ابن القيم أنها تحتاج إلى عرض جديد، بثوب جديد، على خلاف الطريقة المعهودة المطروقة، التي تنطلق من الجزئيات، فوظف الأمور الكلية الفطعية لنصرتها ورجحانها، بجانب الأحاديث النبوية، والآثار الصحابية والتابعية فكانت هذه (المعلمة) (الأصولية) الأصيلة و (الفقهية) التحليلية العميقة. ورحم اللَّه القرافي لما قال: "وأنت تعلم أن الفقه -وإنْ جلَّ- إذا كان مبددًا، تفرقت حكمته، وقلّت طلاوته، وضعفت في النفوس طُلْبَتُه، وإذا رتبت الأحكام مخرجة على قواعد الشرع، مبنية على مآخذها، نهضت الهمم حينئذٍ ¬

_ (¬1) "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين" (ص 97). (¬2) انظر ما سيأتي تحت (المحور الثالث). (¬3) "المنطق الحديث ومناهج البحث" (ص 263) لقاسم محمود.

لاقتباسها، وأعجبت غاية الإعجاب بتقمص لباسها" (¬1). ويجد منعم النظر في كتابنا هذا تأصيلًا وتحليلًا لكثير من المسائل والمباحث، بلغت مرتبة النضوج والاكتمال وصيغت على هيئة قواعد (¬2) تجريدية ¬

_ (¬1) "الذخيرة" (1/ 36). (¬2) ذكر المرداوي في "التحبير شرح التحرير" (8/ 3837) أن ابن القيم ذكر قواعد في الأصول، وكذا في المذهب، ووصفها بـ (كثيرة)، وقال: "أتى بأشياء كثيرة حسنة جدًّا نافعة لطالب العلم"، وقال: "يجب على كل من أراد إحكام علم أن يضبط قواعده، ليرد إليها ما ينتشر من الفروع، ثم يؤكد ذلك بالاستكثار من حفظ الفروع؛ ليرسخ في الذهن، فيتميّز على نظرائه بحفظ ذلك واستحضاره" انتهى. وهذا نص مهم فات من خَصَّ دراسة القواعد عند ابن القيم بالتَّصنيف، ومما يذكر في هذا الباب: أن كتابنا "إعلام الموقعين" من أنبل كتب ابن القيم "وأجلها وأثراها بالقواعد الفقهية والتخريج عليها" وأن "هذا الكتاب (وثيقة شرعية للقواعد الفقهية) "، أفاده الشيخ العلامة بكر أبو زيد في تقديمه لـ"القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب "إعلام الموقعين"" (ص 5). وقد استقرأ الأستاذ عبد المجيد جمعة الجزائري هذا في كتابه "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب "إعلام الموقعين"". واستخرج منه (تسعًا وتسعين) قاعدة، وقال في ديباجته (ص 13 - 15) عن كتابنا هذا بعد أن أنعم النظر فيه: "ألفيتُه كتابًا زاخرًا بدرر القواعد، وافرًا لِغرر الفوائد، حافلًا بأنواع المعارف والموائد، قد بلغ فيه مؤلفه الغاية، وأظهر فيه الكفاية. فغُصْتُ في بحره الرّائق، أستخرج من كنز الدّقائق، درَّه النّفيس، فجمعت ما يحكم العِقْد، ويوفي بالقصد. وبعد الاستخارة والمشاورة، انشرح صدري، واطمأنت نفسي إلى البحث، فسجّلته تحت عنوان: "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب "إعلام الموقعين" للعلامة ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه". ثم ذكر (سبب اختياره لهذا الموضوع)، ونجتزئ منه ما يكشف عن (القواعد الفقهية): وجودًا وأهمية، قال: "إنّ العلّامة ابن القيم رحمه اللَّه كانت له اليد الطّولى، والقدم الرّاسخة في دقائق الاستنباط، لما كان يتمتّع به من جودة الفكر، ودقّة النظر، ونور البصيرة، وصفاء القَرِيحة، وتوقّد الذهن، وحسن الفهم، الأمر الذي مكّنه من تفهم روح الكتاب والسّنة، والاستشراف على أسرار الشّريعة الإسلاميّة الغرّاء، فلا غرو أن يأتي -هذا الجهبذ- بغرر القواعد. إنَّ العلّامة ابن القيّم رحمه اللَّه كان يعرف بفيض علمه، وسعة اطّلاعه، وتبحّره في الفقه الإسلامي، ومعرفته بأصول المذاهب، ومآخذ الأقوال، حتى صار من العلماء الأعلام، وأئمّة الإسلام، الّذين لا يُشَقُّ غبارهم، ولا تُغمزُ قناتهم، بشهادة أهل العلم له، فحريٌّ -بمثل هذا النِّحرير- أن يخرّج المسائل، ويجمع الأمثال، ويؤلف الأشباه في قواعد كليّة عامّة، وضوابط فقهية هامّة. مساهمته بقسط وافر، وعلم زاخر، في تأسيس القواعد، وبناء صرح هذا العلم الفاخر. =

متحررة من المذهبيّة، أو الطريقة التقليديّة في عرض مادة (الأصول) أو (الفقه) وهو قفزة علمية عملية من فوق (الركود) و (التراكم) -المعروفين في ذلك الزمن- إلى (النصوص) و (القواعد) المتبعة عند (السلف) في الاستدلال والاستنباط، مع تزييف ما خرج عنهما من (المسائل)، أو أدخل فيهما زورًا من (المبادئ) و (الكليات). وإن النهضة العلمية اليوم تتطلب من تلاميذها العكوف على مثل هذا النوع من المؤلفات، ودراستها بتمحيص من ناحية نظرية ليكون لها أثر علمي في (النوازل المستجدة)، لتتواصل مسيرة (الخير) و (العلم) على (منهج) واحد جامع بين (الأفهام) قائم على (الحق) و (العدل)، ولا سيما مع كثرة المستجدات في الوقت الحاضر في سائر ضروب وميادين الحياة، في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والطبية. ومن نافلة القول: إن صياغة القواعد الفقهية، أو الضوابط التي كانت معتبرة عند السلف تحتاج إلى قدرة بيانية، وكفاءة فقهية عالية، واستحضار تام لأغلب المسائل الفروعية، وأن هذه الأسباب والشروط تحققت في الإمام ابن القيم، فلا عجب أن يكون له فيها الباع الطويل. ¬

_ = إنّه رحمه اللَّه شخصية فقهية مستقفة، متحزرة من قيود المذهبيّة، حيث كانت نظرته إلى القواعد كنظرته إلى الفروع والمسائل، يرى أنّ فيها المقبول، وفيها المردود، فما كان فيها مقبولًا أيّده بالدّليل من الكتاب والسّنة، وإجماع الأمة والقياس الصّحيح؛ وما كان فيها مردودًا أتى عليه بالنّقد البنّاء؛ فإبراز هذا الفن في مثل هذه الشخصية خير معين لطلبة هذا الفنِّ على التمييز بين صحيح القواعد وسقيمها، وببن مقبولها ومردودها. - إنّ القواعد الفقهية في كتاب "إعلام الموقعين" متناثرة، والفوائد فيه متطايرة، وقد يبذل الباحث جهده، وينفد وجده في جمعها والوقوف عليها، وربّما لا يتأتى له منها إلا النّزر اليسير، فأحدث اللَّه في نفسي أن تلك القواعد المهمّة، والفوائد الجمّة لو اجتمعت في كتاب، وحيث تبنى عليها فروعها، وترد إليها مسائلها، لكانت قريبة التّناول، سهلة المأخذ، ولتكيّفت نفس الواقف عليها بها مجتمعة أكثر مما إذا رآها مفرّقة. - إنّ جمع القواعد الفقهية، واستخراجها من كتاب "إعلام الموقعين" يبرز هذا الفنّ في شخصية الإمام ابن القيّم رحمه اللَّه العلمية. - المساهمة في خدمة الجانب الفكري لشخصيته العلمية، وذلك أن كثيرًا من الباحثين تناولوا بالدراسة شخصيته من زوايا مختلفة" ثم ختم كلامه، بقوله: "إنّ كتاب "إعلام الموقّعين" من أنفس ما أفاض به علم ابن القيّم رحمه اللَّه، فقد اشتمل على أصول الشّريعة وحِكَمِها، وكشف عن أسرارها ومحايشها، وزخر بغرر القواعد ومسائلها، فكان حريًّا بالدّراسة واستخراج تلك القواعد منه". وساق الباحث عبد اللَّه لخضر في أطروحته "ابن القيم أصوليًا" (ص 442 - 443) أُمَّاتِ القواعد الأصولية والفقهية الموجودة في كتابنا هذا.

سابعا

سابعًا: ومن الخصائص والسمات والملامح لمنهج ابن القيم في كتابه هذا: تآخي الأصول مع الفقه، وتوافق التطبيق مع النظرية في انسجام وتكامل، يتجلى هذا تمامًا عند ذكره الأدلة. وتحليلها تحليلًا كافيًا، وإعطاء كل دليل حقه من الفهم والمعنى، فيستعين أخيرًا في استنباط الحكم الشرعي بالقواعد الأصولية ذات العلاقة، بحيث تتبيّن أهمية القاعدة الأصولية لاستنباط الحكم، فيمتزج الفقه بالأصول في منهج اجتهادي واضح الخطوات، بيِّن المعالم، يتضح فيه للباحث الفقيه كيفية بناء الحكم على ذلك الأصل، أو القاعدة الأصولية. هذا هو المنهج العلمي المثالي، إذ يمنح القارئ الثقة في الأحكام المستنبطة، كما ينمي لديه ملكة الاستنباط، حيث يقف بصورة عملية على الطريقة التي سلكها الأئمة المجتهدون في استنباط الأحكام، نظريًا وتطبيقًا (¬1). وأقام الإمام ابن القيم في (معلمته) هذه جسورًا قوية متماسكة بين (الأصول) و (الفقه)، وأثبت بما لا جدال فيه أنهما علمان متلازمان حسًا وذهنًا في كل مرحلة من مراحل الاستنباط، وتطبيق الأحكام، في التأليف والتدوين، لا تستقل مدونات الأصول عن الفروع، ولا تستغني الفروع عن الأصول، وهو جانب مهم وواضح في منهج ابن القيم في كتابه هذا، الذي يعتبر بأنه عقد منتظم من النظريات، والقواعد الأصولية، تدعمها الفروع الفقهية: تخريجًا واستشهادًا وتطبيقًا، وجاءت هذه التطبيقات بلا استكثار ولا تقصير، وجاءت دراساته فيها من كافة جوانبها: التنظير والتطبيق، والشرح والتحليل متوازية متعادلة (¬2). ثامنًا: وأما التفصيل في المسائل، فهذه سمة بارزة (¬3) في كتابنا هذا، إذ حوى كثيرًا من المسائل وفصَّلها، ودقَّق فيها، فلا يطلق ابن القيم الأحكام جزافًا، ¬

_ (¬1) بتصرف من "منهجية الإمام الشافعي في الفقه وأصوله" (ص 49 - 50)، و"منهج البحث في الفقه الإسلامي" (ص 40 - 41). (¬2) بتصرف من المرجع السابق (ص 123). (¬3) تنبه لها جمع من العلماء، ونصصوا على أن ابن القيم إذا تطرق لمسالة فإنه يبثنها بما لا مزيد عليه، انظر -على سبيل المثال-: "شرح الكوكب المنير" (4/ 225)، و"التحبير في شرح التحرير" (7/ 3539)، و"ظفر اللاظي" (ص 76 - 77)، و"إكليل الكرامة" (ص 80 - 81)، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (392)، و"المدخل الفقهي العام" (1/ 74 - 75)، و"التشريع والفقه الإسلامي تاريخًا ومنهجًا" (ص 126) لمناع القطان، و"نظم الحكم والإدارة" (ص 293) لعلي منصور.

ولا يقف عند رسومها وألفاظها، أو يكتفي بأصولها الكليّة، دون التعرض لتفصيلاتها وتفريعاتها، وحقائقها، ولا سيما تلك المسائل التي اشتهر انفراده بها تبعًا لشيخه ابن تيمية، فكما أنه أولاها بالتأصيل والتدليل، فإنه لم ينساها من التفصيل، إذ (التفصيل) هو ثمرة (التأصيل) الحاصل من (التدليل). وهذا أمر ليس بمستغرب، إذ قد حذّر المصنفُ من إطلاق الجواب دون تفصيل، فقال: "ليس للمفتي أن يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع، بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى تفصيل استفصله. . . " (¬1). ثم ذكر ضرورة مراعاة هذا، بأن دلل على كلامه، ثم بيَّن أن المفتي إن لم ينتبه لهذا المسلك ويعمل به، فإنه يَضلّ ويُضلّ، قال: "والمقصود التّنبيه على وجوب التفصيل إذا كان السّؤال محتملًا، وباللَّه التّوفيق، فكثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم، فالمفتي ترد إليه المسائل في قوالب متنوّعة جدًّا، فإن لم يتفطّن لحقيقة السّؤال وإلّا هلك وأهلك، فتارة تورد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف؛ فصورة الصَّحيح والجائز صورة الباطل والمحرَّم ويختلفان بالحقيقة، فيذهل بالصّورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرَّق اللَّه ورسوله بينه، وتارة تورد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصّورة عن تساويهما في الحقيقة، فيفرّق بين ما جمع اللَّه بينه، وتارة تورد عليه المسألة مجملة تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمه إلى واحد منها، ويذهل عن المسؤول عنه منها، فيجيب بغير الصَّواب، وتارة تورد عليه المسألة الباطلة في دين اللَّه في قالب مزخرف ولفظ حسن، فيتبادر إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل، وتارة بالعكس" (¬2). وضرب على ذلك أمثلة، منها قوله رحمه اللَّه: "فإذا سئل المفتي عن رجل دفع ثوبه إلى قصَّار يقصره، فأنكر القصّار الثّوب ثمّ أقرّ به، هل يستحق الأجرة على القِصَارة أم لا؟ فالجواب بالإطلاق خطأ نفيًا وإثباتًا، والصّواب التّفصيل، فإن كان قصَّره قبل الجحود فله أجرة القصارة؛ لأنه قصَّره لصاحبه، وإن كان قصَّره بعد جحوده فلا أجرة له لأنه قصَّره لنفسه. ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 91). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 97).

تاسعا

وكذلك إذا سئل عن رجل حلف لا يفعل كذا وكذا، ففعله، لم يجز له أن يفتي بحنثه، حتى يستفصله، هل كان ثابت العقل وقت فعله؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختارًا في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختارًا فهل استثنى عقيب يمينه أم لا؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا مختارًا أم كان ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا مختارًا فهل كان المحلوف عليه داخلًا في قصده ونيته أو قصد عدم دخوله فخصَّصه بنيّته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه؟ فإنّ الحنث يختلف باختلاف ذلك كلّه" (¬1). ويكتمل المنهج التفصيلي عند ابن القيم بذكر الفروق بين مسألة وأخرى، يظن بادئ بدء تطابقهما في الحكم، فينبه على الفرق بينهما رفعًا للإبهام، وإزالة اللبس، وزيادة في الإيضاح. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، تجدها مجموعة في (فهرسة) خاصة، في (المجلد الأخير) الخاص بالفهارس على حسب ورودها في الكتاب، واللَّه الموفق للصواب. ومما ينبغي ذكره بهذا الصدد أن المسائل التي فصل ابن القيم فيها القول هي التي كانت دائرة آنذاك على ألسنة الفقهاء وتشغل مجالسهم، وهي صور حقيقية لما يجري في مجتمعاتهم، وهي شهادة صدق على كون ابن القيم مصلحًا، وهي عبارة عن نماذج واقعية للحياة التي عاشوها، ولذا تجد في كتابنا هذا توجعًا وتألمًا، وشذرات لأحوال المفتين، وذكرًا لبعض الحوادث التي ذكرت عرضًا، وبها تعلّق لبعض الأحداث التي كانت تجري آنذاك (¬2). تاسعًا: ترتب على ما سبق من سمات منهجية في عرض ابن القيم لمادته العلمية في كتابه هذا من (التأصيل) و (التحليل) و (التفصيل) و (الاستيعاب) وجود مباحث عزيزة لا تكاد توجد على النحو الذي توجد في كتابنا هذا، وقد صرح المصنف بذلك أكثر من مرة، فقال -مثلًا- عن تقرير (القياس) والاحتجاج به: "لعلك لا تجده في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منه" (¬3)، وقال أيضًا: "وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما، وما لهم وما عليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 92)، وانظر مثالًا آخر فيه (5/ 92). (¬2) انظر -على سبيل المثال-: (1/ 307 و 3/ 428 و 4/ 56 و 5/ 65، 76، 81، 82). (¬3) "إعلام الموقعين" (1/ 450).

المحور الثالث: الإنصاف والأمانة والتقدير والموضوعية والترجيح

من كتب القوم من أوَّلها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا، وذلك بحول اللَّه وقوّته ومعونته وفتحه، فله الحمد والمنة" (¬1) وقال بعد تحرير مسألة أخرى: "وهذا بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء، ولعلك لا نظفر به في غير هذا الكتاب" (¬2). وحقَّ لصاحبه أن يقول هذا، إذ لم يكتف ابن القيم في هذه المسائل وغيرها بتقرير الراجح عنده فيها مع التدليل عليها، بل كان له في عرضها منهج متميز، مع ما صحبه من نقاش واستنباط، يمثل القمة فكرًا وأسلوبًا وإبداعًا، ينمي الملكة ويستثير الموهبة في الطلبة والمطلعين. المحور الثالث: الإنصاف والأمانة والتقدير والموضوعية والترجيح: يزيِّن (الحقّ) العدلُ، فكما أنّ ابن القيم حرص على الوصول إلى الحق في (مباحثه) و (مسائله)، فإنه سلك إلى ذلك طريقًا سهلًا عدلًا، وهو المهيع الذي عليه الربانيون، وشُداة الحق الصادقون، وتمثل ذلك في الأمور الآتية: أولًا: نقل المذاهب عن أصحابها، وعزاها إلى الكتب المعتمدة (¬3) فيها، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 36)، وهذا ما صرح به صديق حسن في "ظفر اللاظي" (ص 28)، وغيره. (¬2) "إعلام الموقعين" (4/ 496)، واعتزاز ابن القيم بعلمه ظاهر في كثير من كتبه، فها هو يقول بعد كلام في "بدائع الفوائد" (2/ 89): "فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي روضة أنف، منح العزيز الوهاب فهمها، وله الحمد والمنة!، وانظر -غير مأمور-: (2/ 8، 89، 146، 147، 160، 175) وقال في "مفتاح دار السعادة" (1/ 32) عن (الجنة التي أخرج منها آدم): "فقد ذكرنا في هذه المسألة من النقول والأدلة، والنكت البديعة، ما لعله لا يوجد في شيء من كتب المصنفين، ولا يعرف قدره إلا من كان من الفضلاء المنصفين"، وانظر منه: (2/ 110). وانظر لتتمة الكلام على سمة (اعتزاز المصنف بعلمه) مع (تواضعه) في (المحور الرابع): (خامسًا). (¬3) مضى بيان ذلك مفصلًا تحت عنوان (مصادر المصنف وموارده في كتابه هذا)، وذكر الجويني في "غياث الأمم" (ص 417) ضرورة نقل الفقيه من المصادر وعدم اعتماده على الحفظ، فقال: "لا يستقل بنقل مسائل الفقه من يعتمد الحفظ، ولا يرجع إلى كَيْسٍ وفطنة وفقهِ طبع؛ فإن تصوير مسائلها أولًا، وإيرادَ صورها على وجوهها لا يقومُ بها إلا فقيه. ثم نقلُ المذاهبِ بعد استتمامِ التصويرِ لا يتأتى إلا من مرموق في الفقه خبيرٍ، فلا ينزلُ نقلُ مسائل الفقه منزلةَ نقلِ الأخبار والأقاصيص والآثار. وإن فُرض النقلُ في الجليات من واثقٍ بحفظه =

ثانيا

ونقل في كثير من الأحايين النصوص بطولها، واستقصى أدلتها واستوفاها، وعرضها عرضًا كاملًا، دون نقص أو تحريف أو تجاهل أو تزايد في صورة مفصلة موفية بالغرض المقصود من حيث الدقة والبيان، وبموضوعية متناهية وأكثر ما ظهر هذا في المسائل التي تفرد بها عن سائر فقهاء عصره. ثانيًا: نجد من منهج ابن القيم أنه يفسح المجال واسعًا لمناقشة الأقوال، وردِّ كل طائفة على الأخرى، ويبيّن مستند كل منهما، وسبب اختلافهما، ويسوق الأدلة النّقلية والعقلية لكل واحدة منهما، ويعرضها على صورة التأييد والتقوية، ويحللها كما يفهمها أصحابها وينتصرون لها، على وجه واضح، وبترتيب منطقي. ثالثًا: همُّ ابن القيم من ذلك إظهار الحق، ولذا ربما أبهم بعض أسماء المردود عليهم (¬1)، سواء من الفقهاء بأعيانهم، أو المذاهب، ولذا اضطر في بعض الأحايين إلى بيان ما ألصق في المذاهب وهو -على التحقيق- ليس منها (¬2). رابعًا: حرص ابن القيم في ذلك كله على الإنصاف والعدل، فقال -مثلًا- في مبحث (الحيل) بعد كلام: "ونحن نذكر ما تمسَّكتم به في تقرير الحيل، والعمل بها، ونبيّن ما فيه، متحرّين العدل والإنصاف" (¬3). وكان رحمه اللَّه يميل مع الدليل، ولا يقدم شيئًا عليه (¬4)، ولا يميل إلى قول مذهب أو شيخ دونه، فاسمع إليه -مثلًا- وهو يقول عن (القياس) بعد أن ذكر حجج المثبتين له والنافين: ¬

_ = موثوقٍ به في أمانته، لم يمكن فرضُ نقل الخفيات من غيرِ استقلال بالدراية". قلت: وهذا المنهج الذي رسمه إمام الحرمين هو الذي سار عليه ابن القيم رحمه اللَّه. (¬1) قال النووي في أواخر "الأذكار" (ص 341 - باب في ألفاظٍ حُكِيَ عنْ جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة): "اعلم أني لا أسمي القائلين بكراهة هذه الألفاظ لئلا تسقط جلالتهم، ويساء الظن بهم، وليس الغرض القدح فيهم، وإنما المطلوب التحذير من أقوال باطلة نقلت عنهم" قلت: فمن فقه ابن القيم في هذه المواطن التعمية والإبهام دون التسمية والإعلام، ولو أن أهل الردود -اليوم ممن هم في دائرة (أهل السنة) - سلكوا هذا المسلك؛ لكانت ردودهم مريئة على النفس بالرغم من ثقلها ولامتازت بالعلم فيها. دون (هيشات) الأسواق، ولا قوة إلا باللَّه! (¬2) تجد أمثلة على ذلك فيما سيأتي قريبًا تحت (خامسًا). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 141). (¬4) انظر: ما قدمنا تحت (المحور الأول).

"الآن حَمِيَ الوطيس (¬1)، وحميت أنوف أنصار اللَّه ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب اللَّه أن لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، وأن لا يتحيّزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا اللَّه ورسوله بكلِّ قولٍ حقٍّ قاله مَنْ قاله، ولا يكونوا مِنَ الّذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنًا مَنْ كان، ويردّون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا مَنْ كان، فهذه طريقة أهل العصبية، وحمية أهل الجاهليّة، ولعمر اللَّه!! إنّ صاحب هذه الطّريقة لمضمون له الذمّ إن أخطأ، وغير ممدوح إن أصاب، وهذا حال لا يرضى بها من نصح نفسه وهُدي لرشده، واللَّه الموفق" (¬2). وعندما بحث مسألة (من أقرّ أو حَلف أو وهب أو صالح لا عن رضا منه، ولكن منع حقه إلَّا بذلك)، وقرر أن حكمه حكم المكره لا يلزمه ما عقده من هذه العقود، ثم قال: "ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصاف أحبَّ إليه من التّعصب والهوى، والعِلمُ والحجّةُ آثرَ عنده من التَّقليد، لم يكد يخفى عليه وجه الصّواب، واللَّه الموفق" (¬3). ويقول في (مسألة من أكره على شراء أو استئجار) وقرر أنه لا يصح منه لعدم قصده وإرادته: ". . . فإن أهل الظّاهر تمسّكوا بألفاظ النّصوص وأجروها على ظواهرها حيث لا يحصل القطع بأنّ المراد خلافها، وأنتم تمسّكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأنّ المراد خلافها، فأهل الظّاهر أعذر منكم بكثير، وكلّ شبهة تمسّكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظّاهرية في تمسِّكهم بظواهر النّصوص أقوى وأصح، واللَّه يحبّ الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلى بها الرّجل، خصوصًا من نصب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال اللَّه -تعالى- لرسوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، فورثة الرّسول منصبهم العدلُ بين الطَّوائف وألَّا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحقّ مطلوبه يَسيرُ بسيره وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف، ويحكم الحجة، وما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فهو العلم الذي قد شمّر إليه، ومطلوبه الّذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عَذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه ¬

_ (¬1) انظر ما قدمناه عنها في التعليق على (ص 114). (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 277). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 397 - 434).

خامسا

لومة لائم، ولا يصدّه عنه قول قائل" (¬1). كيف لا؛ وهو القائل: وتحلَّ بالإنصَافِ أَفْخَرَ حُلَّةٍ ... زِينَتْ بها الأَعْطَافُ والكَتِفَانِ (¬2) خامسًا: ابن القيم إمام في العلم والعمل، ومجتهد ومصلح ومُنْصِف، يضع الأمور مكانها، ومن بين ذلك: تقديره للعلماء، وقد دعى في كتابه هذا إلى أنه لا بد من "معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأنّ فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كلّ ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرَّسول، فقالوا بمبلغ علمهم، والحقّ في خلافها لا يوجب اطّراح أقوالهم جملة وتنقّصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السّبيل بينهما، فلا نؤثِّم ولا نَعْصم، ولا نسلك بهم مسلك الرّافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشَّيخين، بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصَّحابة، فإنّهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كلّ أقوالهم ولا يهدرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمّة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصَّحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنَّما يتنافيان عند أحد الرّجلين: جاهل بمقدار الأئمّة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشّريعة التي بعث اللَّه بها رسوله، ومن له علم بالشَّرع والواقع يعلم قطعًا أنّ الرجل الجليل الَّذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزّلّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتّبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين" (¬3). ولم يقتصر حرص ابن القيم على (معرفة فضل أئمة الإسلام) بالذكر العطر، والثناء الجميل لشخوصهم، وإنما تعداه إلى تبرئتهم مما ألصق بهم من أقوال تحط من قدرهم، فقال -مثلًا- في مسألة (تعليق الطلاق بالشرط): "وللَّه شرف نفوس الأئمّة الذين رفع اللَّه قدرهم، وشاد في العالمين ذكرهم، حيث يأنفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات الّتي تسودُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلّ بقمر الإيمان المحاق" (¬4). ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (3/ 123 - 124). (¬2) القصيدة النونية (1/ 51 - شرح الهراس). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 235). (¬4) "إعلام الموقعين" (4/ 477).

وقال عند تبرئته للأئمّة من الدّعوى إلى تقليدهم: "وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمّة، ولم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة وأجلّ قدرًا وأعلم باللَّه ورسوله من أن يلزموا النّاس بذلك" (¬1). ولم يكتف بهذا الإجمال، وإنما تعداه لمسائل مخصوصة، نسبت إلى أئمة معينين، كقوله -مثلًا- عن نسبة بعض الحيل إلى الشافعي وغيره: "والمتأخِّرون أحدثوا حيلًا لم يصحَّ القول بها عن أحد من الأئمّة، ونسبوها إلى الأئمّة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم، ولهم مع الأئمّة موقف بين يدي اللَّه عز وجل. ومن عرف سيرة الشَّافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنّه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدّلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرّفاتهم، تلقّوها عن المشرقيين، وأدخلوها في مذهبه، وإن كان -رحمه اللَّه تعالى- يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيّته. . . فحاشاه ثم حاشاه أن يأمر النّاس بالكذب والخداع والمكر والاحتيال وما لا حقيقة له، بل ما يتيقّن أنّ باطنه خلاف ظاهره، ولا يظنّ بمن دون الشافعيِّ من أهل العلم والدّين أنّه يأمر أو يبيح ذلك. . . ". قال: "فواللَّه ما سوَّغ الشافعيُّ ولا إمام من الأئمّة هذا العقد قطّ، ومن نسب ذلك إليهم فهم خصماؤه عند اللَّه. . . " (¬2). وقال عن حيلة أخرى: "لا تتمشى على قواعد الشريعة، ولا أصول الأئمة، وكثير منها -بل أكثرها- من توليدات المنتسبين إلى الأئمة وتفريعهم، والأئمة براء منها" (¬3). وقال أيضًا في مقام آخر: "ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة" (¬4). وقال في مسألة عزاها القاضي أبو يعلى إلى الإمام أحمد: "ولا يخفى ما في هذا الحمل من مخالفة ظاهر كلام الإمام أحمد" ودلَّل على ذلك باستقراء أجوبته (¬5). وقال في مسألة أخرى عزاها أبو حامد الإسفرائيني وغيره لأحمد: "وهذا ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 204). (¬2) "إعلام الموقعين" (4/ 232 - 233). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 231). (¬4) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 327). (¬5) "إعلام الموقعين" (4/ 231).

من غلطه على أحمد" (¬1). وقال في موضع آخر: "وما حكاه أبو حامد الإسفرائيني عن أحمد من القول فباطل عنه لا يصح ألبتة، وكل من حكاه عن أحمد، فمستنده حكاية أبي حامد الإسفرائيني أو من تلقَّاها عنه" (¬2)، ويدلّل هذا على فطنة ابن القيم، إذ يقف رحمه اللَّه على منشأ الغلط، وكذلك وقع له في (حجية قول الصحابي)، قال: "وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، أما القديم فأصحابه مُقِرُّونَ به، وأما الجديد؛ فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة، وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًّا" (¬3) ثم يذكر السبب الباعث على هذا الخطأ. وقال عنه: "وهذا تعلّق ضعيف جدًّا" (¬4)، ثم ذكر سببًا آخر، وقال عنه أيضًا: "وهذا أيضًا تعلق أضعف من الذي قبله" (¬5). فلم يقف رحمه اللَّه على تصحيح النسبة، وإنما عالج الخطأ، ووقف على سببه، وقوّمه بمنهج علمي أصيل، ظهر من خلاله الأصيل من الدخيل، ومن ذلك: تقريره أن (السلف) كانوا يستعملون (الكراهة) بمعنى (الحرام)، قال: "ولكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم" قال: "ثم حمل مَنْ حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغلط في ذلك" قال: "وأقبح غلطًا منه من حمل لفظ (الكراهة) أو لفظ (لا ينبغي) في كلام اللَّه ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث" (¬6). واعتنى المصنف في كثير من المسائل بمذهب الإمام الشافعي، وأنه نسب إليه ما لم يقل به، مثل (اللعب بالشِّطْرَنْج) قال الشافعي عنه: "أكرهه أو لا يتبين لي تحريمه" (¬7) قال ابن القيم: "فقد نص على كراهته، وتوقف في تحريمه، فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح، فإنه لم يقل هذا، ولا ما يدل عليه" (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 469). (¬2) "إعلام الموقعين" (4/ 482). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 550)، وانظر: (3/ 11). (¬4) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 550). (¬5) انظر: "إعلام الموقعين" (4/ 551). (¬6) "إعلام الموقعين" (1/ 81). (¬7) انظر: "الأم " (6/ 213)، "السنن الكبرى" (10/ 212)، "معرفة السنن والآثار" (7/ 431 - 432) كلاهما للبيهقي. (¬8) "إعلام الموقعين" (1/ 79 - 80).

سادسا

وقال عقب ذلك في مسألة (تزوج الرجل امرأته المخلوقة من ماء الزنا): "ولم يقل -أي الشافعي- إنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحلّه اللَّه به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم" (¬1). سادسًا: مع تقدير ابن القيم للعلماء، وحرصه على نبذ ما أُلصق بهم من بواطيل وترهات، والاعتذار لهم عند الخطأ ومخالفة الدليل، فإنه كان جريئًا على الأدعياء، اللابسي ثوبي زور، والمتشبِّعين بما ليس فيهم، فنعتهم بـ (جامدي الفقهاء" (¬2) و"خفافيش البصائر، وضعفاء العقول" (¬3) و"محبوسون في سجن الألفاظ، ومقيدون بقيود العبادات" (¬4). وقال عنهم: "خلوف رغبوا عن النصوص" (¬5)، و"أهل الأهواء والبدع" (¬6)، و"الطغام وأشباه الأنعام" (¬7)، و"من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين" (¬8)، و"علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض" (¬9). و"عيب عندهم أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه، قال اللَّه، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه وقول رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلَّدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ ذلك الكتاب ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال ما أحلَّه ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه هذا! " (¬10). وقال عنهم: "أقوام رؤيتهم قذى العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (1/ 80 - 81). (¬2) "إعلام الموقعين" (3/ 316). (¬3) "إعلام الموقعين" (5/ 97). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 97) وأنشد في هؤلاء (4/ 434): وسامح نفوسًا بالقشور وقد ارتضت ... وليس لها للُّبِّ من متطلع (¬5) "إعلام الموقعين" (5/ 64). (¬6) "إعلام الموقعين" (5/ 65). (¬7) "إعلام الموقعين" (4/ 540). (¬8) "إعلام الموقعين" (4/ 540). (¬9) "إعلام الموقعين" (5/ 65). (¬10) "إعلام الموقعين" (5/ 65).

وحمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض القلوب، إن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم، فأين الثريا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوى الباطلة وشقائق الهذيان، ولا واللَّه ما ابتلت من وَشَله (¬1) أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بُلَّتْ بمدادِه أقلامُهم، أَنفقوا في غير شيء نفائسَ الأنفاس وأَتعبوا أنفسهم وحيَّروا مَنْ خلفهم من الناس، ضيَّعوا الأصول، فحُرِمُوا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في نهاية الحيرة وبيداء الضلالة" (¬2). وقال عنهم: "ليس لهم تحقيق في العلم" (¬3). ونعت ابن القيم هؤلاء فيما مضى بصيغة الجمع وكان كلامه معهم في بعض الأحايين بصيغة الإفراد، كقوله: "وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلّد المتعصّب، المقرّ على نفسه بما شهد عليه به جميعُ أهل العلم، أنه ليس من جملتهم، فذاك وما اختار لنفسه، وباللَّه التوفيق" (¬4) وقوله: "فأجابهم مَنْ مُنِع التوفيق، وصُدَّ عن الطريق" (¬5)، و"الجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة، ولا الهدى إلا ضلالة" (¬6)، و"الجاهل الظالم يخالفك بلا حجة، ويكفّرك ويبدّعك بلا حُجة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة، وسيرته الذميمة" (¬7). وقال عن هذا الصنف: "ليلزم حدّه، ولا يتعدّى طوره، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعًا يقصر عن الوصول إليه، ولا يتّجر بنقدٍ زائف لا يروج عليه" (¬8). ولا يعارض هذا ما قلناه من الإنصاف الذي يتحلى به ابن القيم، فإن كلامه هذا مع فرقة تلاعبت بأحكام الدين، وجعلت كلام أئمتها عيارًا على الكتاب ¬

_ (¬1) الوشل: الماء القليل. (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 66 - 67). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 243). (¬4) "إعلام الموقعين" (4/ 311). (¬5) "إعلام الموقعين" (5/ 98). (¬6) "إعلام الموقعين" (4/ 434). (¬7) "إعلام الموقعين" (4/ 388). (¬8) "إعلام الموقعين" (3/ 514).

سابعا

والسنة، فأحلوا الحرام، وحرموا الحلال، وأسقطوا الواجب، وأوجبوا ما لم يجب، فكانت هذه المؤاخذات والعبارات الشديدة من باب غيرة الإمام ابن القيم على الشريعة وأحكامها، ووضعه الأمور الشرعية في نصابها، وهذا من إنصافه أيضًا إذ ليس عنده وكس ولا شطط، واللَّه الهادي، لا ربّ سواه. سابعًا: ثمرة نقل الأقوال والخلاف والأدلة مع الإنصاف والأمانة وتقدير أهل العلم هو الكشف عن حكم اللَّه عز وجل، وبيان الراجح من الأقوال، وبهذا ينتهي عرض ودراسة ابن القيم لجل المسائل والمباحث التي في كتابنا، فهو يتوصل إلى القول الراجح بعد تحليل وتأصيل وتدليل، ونظر عميق، وتأمل طويل، وتفهم وتصور دقيق، ولذا فترجيحاته صحيحة، واختياراته مليحة، وهي تتطابق مع الأدلة، ومدعّمة بما يزيّنها من الحِكَم والأسرار والمقاصد، التي تستنبط من النصوص، بالاستقراء أو إعمال النظر. وترجيحاته قائمة على إعمال الأدلة جميعها، وقرر أنه "لا يجوز العمل والإفتاء في دين اللَّه بالتشهي والتخيير وموافقة الغرض" (¬1) وقال عن هذا: "من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر" (¬2) وكذلك "لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه، من غير نظر في الترجيح" (¬3) وقال عن هذا: "حرام باتفاق الأمة" (¬4). وتمتاز ترجيحاته بالأمور الآتية: أولًا: الوضوح والجزم والقوة، فكان يقول: "وهو الصواب المقطوع به" (¬5) و"هذا هو الصواب الذي ندين به في المسألة" (¬6) و"هذا هو الصواب الذي لا ريب فيه" (¬7). ثانيًا: مراعاة جميع ما ورد في الباب من أدلة، قال في مسألة مثلًا: "والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه. . . " (¬8). ثالثًا: وجوب الخروج عن المذهب إذا جاء الدليل بخلافه، وعَدَّ من يقدم ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 124 - 125). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 125). (¬3) "إعلام الموقعين" (5/ 124). (¬4) "إعلام الموقعين" (5/ 124). (¬5) "إعلام الموقعين" (4/ 310، 314، 400 و 5/ 213). (¬6) "إعلام الموقعين" (5/ 51 و 4/ 322). (¬7) "إعلام الموقعين" (4/ 501 و 5/ 64). (¬8) "إعلام الموقعين" (2/ 392).

المحور الرابع: طريقته في العرض وأسلوبه في البحث

على الفتوى بما يغلب على الظن أن الصواب في خلافه: "خائنًا للَّه ورسوله، وللسائل، وغاشًا له" (¬1). ولذا رجح في بعض المسائل ما يخالف مذهب الحنابلة، الذي نشأ وتربى عليه، قال: "وكثيرًا ما ترد المسألة، نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح، ونرجّحه ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يؤخذ به، وباللَّه التوفيق" (¬2) بل خالف في بعض المسائل شيخه ابن تيمية (¬3). رابعًا: يؤخّر ترجيحه ورأيه، إذ يبدأ برأي الفقهاء، ويسرد حججهم، ثم يأتي في آخر الكلام برأيه. بعد المناقشة بروية وحجة، ويحاول إلزام المخالف بأمثلة قوية موضحة، فهو يذكر المؤيِّدات مع الترجيحات. خامسًا: يمتاز أسلوبه في الترجيح بأدب رفيع، وسمت حسن، فلا يسيء إلى مخالفه في الرأي، بتعبير يجرح شعوره، أو يسيء إليه. سادسًا: جميع ما سبق لا ينافي كون ابن القيم حنبليّ النزعة، وأنه يفضّل ويرجح مذهب الإمام أحمد بالجملة، لأنه يعتبره أقرب إلى النصوص، كما أوضح ذلك في نقل سبق أن ذكرناه عنه (¬4). ولذا نجده في كتابنا هذا يشيد بأحمد وبعلمه، ويعتني بأصول مذهبه، بل لا نجد ابن القيم اعتنى بأصول إمام مذهب مثل عنايته بأصول الإمام أحمد، ولا بأقوال إمام كأقواله، ولم ينقل عن فقهاء مذهب كمذهبه، بل قال في غير موطن: "أصحابنا" وهو يريدهم أو يريد بعضهم، ولا شك أنه أخذ العلم على كثير من مشايخ الحنابلة، ومع هذا فإنه كان يوقر العلماء حق التوقير، وأن فقهه كان فقه المجتهد، ولا يقلد ولا يتبع أحدًا بغير برهان ودليل، وهو في اختياراته متحيز مستنبط كما قدمناه، واللَّه الموفق. المحور الرابع: طريقته في العرض وأسلوبه في البحث: "ليس يكفي أن يكون الإنسان جمَّ المعرفة، غزير الثقافة، ليكون مؤلفًا ممتازًا، بل لا بد مع ذلك من طبيعة مواتية، وفكر مرتِّب، وعقل مركز، وذوق مصفَّى، وذهن ناقد، وبيان ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 74). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 74 - 75). (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 210)، و"ابن القيم أصوليًا" (437)، وما مضى (ص 175). (¬4) في (مصادر المصنف) (كتب الإمام أحمد) (ص 105).

أولا: أسلوبه الأدبي

ساحر، وحافز نفسي غلَّاب" (¬1)، وهذه السمات بمجموعها موجودة في كتب ابن القيم بعامة، وقد لاحظ ذلك الشوكاني، فقال: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وله من حسن التصرف في الكلام، مع العذوبة الزائدة، وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالبُ المصنّفين، بحيث تعشق الأفهامُ كلامه، وتميل إليه الأذهانُ، وتحبّه القلوبُ" (¬2). ولكتابنا هذا "إعلام الموقعين" النصيب الأكبر من هذه السمات، فعلى الرغم من أنه كتاب في الفقه وأصوله، وعادة المؤلفين في هذه الأبواب الابتعاد عن الإبداع في الأسلوب الأدبي في عرض مادتها إلا أنّ ابن القيم "لم يخرج عن مألوفه فيه، ولم يخلع ربقة البلاغة من عنقه، فقد اهتم بالشكل كما اهتمّ بالمضمون" (¬3)، يظهر ذلك في الأمور الآتية: أولًا: أسلوبه الأدبيُّ: سبق أن قررنا أن لابن القيم مقدرة علمية، فائقة في استثمار النصوص ودلالاتها على الأحكام الشرعية، وأنه سلك في ذلك طريقًا صحيحًا، وفق منهج علميِّ متَّبع عند السلف، وكان هدفه من ذلك الوصول إلى الحق، وقد جاء عرض ذلك بعباراتٍ أدبيَّةٍ، صادقة اللهجة، تفوح بشذى العلم، وتنبض بروح الإيمان (¬4)، تتميز بالسُّهولة والوضوح والعذوبة، وقد مال في كثير من المواطن إلى الصور البيانية، والمحسِّنات البديعية من غير تكلف (¬5)، فهو يكتب على سجيّته، ويملي بفطرته، لا يتكلّف ولا يتصنَّع. وقدرة المصنف على الصناعة والصياغة الأدبية ساعدته على تقعيد كثير من المسائل بعبارات جامعة موجزة، وهذا ضرب من البلاغة، وسموّ البيان، الذي يتجانس مع دقة المعاني الشرعية وتشعّبها، ولا سيما أن صاحبنا رحمه اللَّه أخذ تقريراته ¬

_ (¬1) من كلام العلامة سيد أحمد صقر رحمه اللَّه في مقدمة "تأويل مشكل القرآن" (ص 7). (¬2) "البدر الطالع" (1/ 144). (¬3) "القواعد الفقهية المستخرجة من إعلام الموقعين" (ص 113). (¬4) ولا سيما أن كثيرًا من المسائل المطروقة في كتابنا خارجة عن حيز التصور والتمثيل الفقهي إلى كونها ماثلة للعيان في بيئة المصنف، عرف بها، وعرفت به، وهذا من دواعي وجود (الحرارة) (!!) فيها، ولكن بعبارة مؤدّبة وطريقة مهذبة، كما قدمناه، والحمد للَّه. (¬5) تجد نماذج من ذلك فيما قدمناه من نقولات، انظر -مثلًا-: (ص 44 - 45، 55، 63).

ثانيا: حسن الترتيب واتساق الأفكار وتسلسلها

من نصوص الوحيين على وجه فيه تكامل وترابط، فترى النور والإيمان يشع من كلامه، حتى وهو يتكلم في الفقه وأصوله. ولا ينسى في هذا المقام توظيفه الشعر بما يحمل من معنى رائق، ولفظ فائق لتأكيد اختياراته وتقويتها، ولذا يذكرها غالبًا عرضًا دون عزوٍ لقائلها، ويضعها في مكانها اللائق بها، ولا داعي للتمثيل لكثرتها، ولسهولة الوقوف عليها، إذ خُصّتْ (¬1) بفهرسة خاصة لها، واللَّه الموفق والهادي. والملاحظ في أسلوبه: استخدامه أسلوب الحوار في غالب مناقشته لخصومه حتّى يعطي حيوية أكثر للموضوع؛ ويجعل القارئ يتابعه باهتمام وتركيز، ويشعر وكأنّه حضر مجلس مناظرة، وقد تقابل الخصمان، وتبارز الحزبان، فأدلى كلّ منهما بحجّته. وأشهر مثال في هذا المقام قوله في مبحث التقليد: "فصل في عقد مجلس مناظرة، بين مقلِّد وبين صاحب حجَّة منقاد للحقِّ حيث كان" (¬2). ثم ذكرها. ومضى فيما نقلناه سابقًا عدة أمثلة على هذا. ثانيًا: حسن الترتيب واتّساق الأفكار وتسلسلها: فكما تميز أسلوب ابن القيم بحسن السياق، وإحكام العبارة، فإنه رحمه اللَّه يستفرغ جهده باتساق أفكاره وتسلسلها، وجودة تبويبها، وإتقان ترتيبها وتفصيلها وتقسيمها وتنويعها وتحديدها، وهذا مما ساعد على تيسير مباحث الكتاب، ويجعل قارئه يستفيد منه، ويشدّه إليه شدًّا، ويجنّبه السآمة والملل، إذ لا يحسّ بحواجز بين علم الأصول وما يرتبط به من علوم، كما يجعله يدرك إدراكًا عميقًا أهمية (أصول الفقه) وغايته وثمرته وصلته بنصوص الوحي. وهذا ينمّ عن قدرة ابن القيم على توظيف (علم الأصول) توظيفًا عمليًا سهلًا بعيدًا عن (التنظير) و (غير الواقعية)، "ولو لم يكن له سوى هذه الميزة لكفاه شرفًا وفخرًا، ولكان ذلك وحده مؤهّلًا كافيًا لتصنيفه ضمن الأصوليين الكبار" (¬3). ومن الأمثلة على إتقانه التفصيل والتقسيم والتنويع ما نادى به نظريًا، ولفت إليه نظر المفتي بقوله: ¬

_ (¬1) في المجلد (الأخير) الخاص بـ (الفهارس). (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 470 - 574 و 3/ 5 - 36). (¬3) "ابن القيم أصوليًا" (444).

"إذا كان الحكم مستغربًا جدًّا ممّا لم تألفه النّفوس، وإنّما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطّئ قبله ما يكون مؤذنًا به كالدّليل عليه والمقدّمة بين يديه، فتأمل ذكره -سبحانه- قصَّة زكريّا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشَّبيبة وبلوغه السنّ الّذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصَّته مقدَّمة بين يدي قصَّة المسيح وولادته من غير أب؛ فإنّ النّفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سَهُل عليه التّصديق بولادة ولد من غَير أب، وكذلك ذكر -سبحانه- قبل قصَّة المسيح مُوافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبّانه، وهذا الَّذي شجَّع نفس زكريَّا وحرّكها لطلب الولد وإن كان في غير إبّانه، وتأمّل قصَّة نسخ القبلة لمَّا كانت شديدة على النفوس جدًّا كيف وطّأ -سبحانه- قبلها عدة موطئات. . . " ثم ذكرها إلى أن قال: "والمقصود أن المفتي جديرٌ أن يذكر ين يدي الحكم الغريب الذي لم يؤلف مقدّمات، تؤنس به، وتدلّ عليه، وتكون توطئة بين يديه، وباللَّه التوفيق" (¬1). ومن أمثلة ذلك: ما ذكره في مبحث العبرة بالمقاصد والنّيات، حيث وطّأ بين يدي القول الفصل في المسألة بأنَّ اللَّه عز وجل رتَب الأحكام على الإرادات والمقاصد بواسطة الألفاظ الدَّالة عليها، ولم يرتّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ لم يقصد المتكلِّم معانيها بل تجاوز للأمّة عن ذلك كلّه وتجاوز لها عمّا تكلّمت به مخطئة أو ناسية أو مكرَهة أو غير عالمة، لأنّ هذه الأمور لا تدخل تحت الاختيار، فلو رتّب عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقّة. قال بعدها: "فإذا تمهّدت هذه القاعدة فنقول. . . ". فذكر أقسام الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلّمين وإراداتهم (¬2). ومن ذلك أنّه لمّا ذكر أدلّة نفاة القياس أنّ الشريعة قد فرَّقت بين مجتمعين وجمعت بين مفترقين، مهّد للجواب على هذه الشبهة فقال: "وهذه الجملة إنّما تنفصل بعد تمهيد قاعدئين عظيمتين"، ثمّ ذكر القاعدتين: أولاهما أن النّصوص الشّرعية محيطة بجميع أفعال المكلفين (¬3). والثانية: ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (¬4)، في أمثلة كثيرة يصعب حصرها. ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 52 - 53). (¬2) "إعلام الموقعين" (3/ 517). (¬3) "إعلام الموقعين" (2/ 90). (¬4) "إعلام الموقعين" (2/ 165)، وما مضى من "القواعد الفقهية المستخرجة" (117 - 118).

ثالثا: التكرار

ثالثًا: التكرار: إنّ هذه الميزة بارزة في "إعلام الموقّعين"، فقد كان ابن القيّم رحمه اللَّه يبحث بعض المسائل في أكثر من موضع، ولكنّ هذا التّكرار لا يخلو من فائدة، وفي الإعادة إفادة، فقد كان رحمه اللَّه حريصًا على تأكيد الفكرة، وتقرير المسألة، كما أن ذلك التكرار لا يَخْلُو من إضافات مهمّة لم تذكر من قبل. ومن الأمثلة على ذلك: أنّه بحث مسألة تحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرّأي المذموم المتضمّن لمخالفة النّصوص، والرّأي الّذي لم تشهد له النّصوص بالقبول، وساق الأدلة على ذلك من الكتاب والسنّة انظر: (1/ 88)، ثمّ كرّرها في (3/ 37) وأتى بأدلة لم يأت بها في الموضع السّابق. ومن ذلك مسألة تحريم القول على اللَّه بلا علم، بحثها في (1/ 73 - 78) ثمّ أعاد ذكرها في (2/ 439) بزيادات وإضافات مع الإشارة إلى ما تقدم ذكره، فقال: "قد تقدم قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وأنّ ذلك يتناول القول على اللَّه بغير علم في أسمائه وصفاته، وشرعه ودينه، وتقدم حديث أبي هريرة المرفوع: "مَنْ أَفْتى بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبَتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ" (¬1)، وأضاف أدلة أخرى لم يذكرها من قبل. ثم كرَّرها مرة أخرى في (2/ 439)، وذلك لبيان خطورة القول على اللَّه بلا علم. ومن ذلك تحريم التّقليد، بحثه في مواضع متفرقة انظر: (1/ 10، 11 و 2/ 447 و 3/ 37). ومن ذلك مسألة شروط الواقف، كرّرها عدة مرّات انظر: (2/ 61 - 68 و 3/ 500 - 502 و 5/ 78 - 79، 86 - 89، 90) (¬2). واعتذر الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- لتكرار ابن القيم مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ (¬3) بعذر يكاد ينطبق على مسائل أخرى، قال: ¬

_ (¬1) انظر تخريجه في التعليق على (2/ 439). (¬2) وهنالك أمثلة كثيرة، تنظر في "فهرس الفوائد العلمية". (¬3) كرر ابن القيم الكلام في هذه المسألة، وناقش المخالفين، وبسط ذلك بسطًا لا يوجد عند غيره، وبحثها في "إغاثة اللهفان" (1/ 300 - 354 - ط محمد سيد كيلاني) و"الزاد" (5/ 241 - 271 - ط مؤسسة الرسالة)، و"الصواعق المرسلة" (2/ 619 - 928 - ط علي الدخيل اللَّه) بالإضافة إلى ما في كتابنا هذا من استطراد وتكرار، وانظر -غير مأمور-: "تسمية المفتين بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة" (ص 67 - 70).

رابعا: الاستطراد

"ووجه البسط والتكرار المقتضي لها -أي لمسألة الطلاق الثَّلاث بلفظ واحد- من أوضح الأشياء وأبينها، ويكفي عذرًا له في ذلك أنه حبس لأجلها وامتحن وأوذي في ذلك: لأن الفتوى بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد إنما يقع طلقة واحدة، أمر مستنكر لدى الأجلة من العلماء فضلًا عن طلاب العلم، وعامة الخلق. إذ هم يكادون أن يطبقوا على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد: يقع ثلاثًا لا واحدة فلا تنقيص إذًا ولا ملامة إذا رأينا ابن القيم يكرر الحديث عن هذا المبحث ويزيده في البسط والبيان ليظهر ما يعتقده دينًا، وشرعًا، مؤيدًا له بشتى وجوه الأدلة من الكتاب والسنة، والمعنى، واللغة" (¬1). على أنّه إذا رأى أن لا فائدة من إعادة القول استغنى عن ذلك واكتفى بقوله: "تقدم بيان حكمة ذلك ومصلحته بما فيه كفاية" (¬2) و"ما أغنى عن إعادته" (¬3). رابعًا: الاستطراد (¬4): هذه الخصيصة عرف بها الإمام ابن القيّم رحمه اللَّه، واشتهرت في أبحاثه، فكان إذا بحث مسألة استرسل في الكلام واستطرد فيها حتّى يخرج عن موضوعه الأصلي إلى موضوع آخر قد يكون أنفع للنّاس من المسألة المبحوثة فيها أصلًا، وهذا ممّا يدلّ على غزارة فكره وعلى جوده بعلمه، وقد أرشد المفتي إلى هذا فقال: "يجوز للمفتي أن يجيب السّائل بأكثر ممّا سأله عنه، وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده، ومن عاب ذلك فلقلّة علمه وضيق عطنه، وضعف نصحه، وقد ترجم البُخَارِي لذلك في "صحيحه" فقال: (باب من أجاب السّائل بأكثر ممّا سأل عنه)، ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- ما يلبس المحرم؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يلبسُ القُمُصَ، ولا العَمَائِمَ، ولا السَّرَاوِيلَاتِ، ولا الخِفَافَ، إلَّا أن لا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبِسِ الخُفَّيْنِ، ولْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ" (¬5)، فسئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمَّا يلبس المحرم فأجاب عمّا لا يلبس، وتضمّن ذلك الجواب عمّا يلبس، فإنّ ما لا ¬

_ (¬1) "ابن قيم الجوزية: حياته وآثاره" (ص 77 - 78). (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 327). (¬3) "إعلام الموقعين" (2/ 396)، وما مضى من "القواعد الفقهية المستخرجة" (ص 112 - 113). (¬4) ما تحته من "القواعد الفقهية المستخرجة من إعلام الموقعين" (ص 109 - 111). (¬5) انظر تخريجه في التعليق على (1/ 364).

يلبس محصورٌ، وما يلبسه غير محصور، فذكر لهم النّوعين، وبيّن لهم حكم لبس الخفّ عند عدم النّعل، وقد سألوه عن الوضوء بماء البحر، فقال لهم: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِل مَيْتَتُهُ (¬1) " (¬2). ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره في مبحث الفوائد المتعلّقة بالإفتاء، حيث نقل عن الإمام أحمد رحمه اللَّه خصالًا يجب تحقيقها في المفتي، وهي خمس خصال، منها: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، ثمّ استطرد في الكلام عن السّكينة، وقال: "ولشدّة الحاجة إلى السَّكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزّمان، والنّاس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكلّ زمان دولة ورجال" (¬3). وفي شرحه لكتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء (¬4) استطرد في ضرب الأمثال في القرآن وقال: "لا تستطل هذا الفصل المعترض في المفتي والشّاهد والحاكم، فكلّ مسلم أشدُّ ضرورة إليه من الطّعام والشّراب، والنّفس، وباللَّه التوفيق". وفي فصول من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أبواب متفرِّقة، استطرد في الكلام إلى الكبائر وأنواعها في فصلين، ثم قال بعدها: "فصل: مستطرد من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فارجع إليها" (¬5). ومن ذلك في فصل من فتاوى النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، استطرد في الكلام إلى العمل بالسّياسة، ثم قال بعدها: "فلنرجع إلى فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: تخريجه في "التعليق" على (5/ 45). ومن اللطيف: تعليق ابن القيم على هذا الحديث في "مدارج السالكين" (2/ 294)، وهذا نص كلامه: "فمن جود الإنسان بالعلم: أنه لا يقتصر على مسألة السائل، بل يذكر لها نظائرها ومتعلّقها ومأخذها، بحيث يشفيه ويكفيه، وقد سأل الصحابة رضوان اللَّه عليهم النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المتوضئ بماء البحر، فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، فأجابهم عن سؤالهم، وجاد عليهم بما لعلهم في بعض الأحيان أحوج إليه مما سألوه عنه". قال أبو عبيدة: و (جُوْدُ) ابن القيم في كتابه هذا تمثل بـ (استطراداته) فيه، وقد بلغ القمة على نحو لا يُبارى ولا يُجارى، ولعلك -بحق- لا تجده بالكثرة والجودة -التي فيه- في أي كتاب آخر، واللَّه الهادي للخيرات، والموفّق للصالحات. (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 45). (¬3) "إعلام الموقعين" (5/ 106 - 114). (¬4) انظر: تخريجه في "التعليق" على (1/ 163). (¬5) "إعلام الموقعين" (5/ 569، 584). (¬6) "إعلام الموقعين" (5/ 522).

خامسا: العناية بالجانب الوجداني وإيقاظ الشعور الإيماني

خامسًا: العناية بالجانب الوجداني وإيقاظ الشعور الإيماني (¬1): من السمات الظاهرة في كتابنا هذا: عناية ابن القيم بالجانب الوجداني، فإنه لم ينس أن يخاطب الإحساس والشعور الإيماني، فإن من متطلبات الفقيه حتى يكون ربانيًا، موفَّقًا في اختياراته، مصيبًا للحق فيها أن يكثر اللجوء إلى اللَّه عز وجل، فاسمع إليه وهو يقول في (الفائدة العاشرة) من (فوائد تتعلق بالفتوى): "ينبغي للمفتي الموفّق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحالي لا العلم المجرّد إلى مُلْهِم الصّواب، ومعلِّم الخير، وهادي القلوب، أن يلهمه الصّواب، ويفتح له طريق السّداد، ويدلّه على حكمه الّذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التّوفيق، وما أجدر من أمّل فضل ربّه أن لا يُحرِمَه إيّاه، فإذا وجد من قلبه هذه الهمّة فهي طلائع بشرى التّوفيق، فعليه أن يوجّه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصّواب ومطلع الرّشد، وهو النّصوص من القرآن والسنّة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرّف حكم تلك النّازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التّوبة والاستغفار والإكثار من ذكر اللَّه، فإن العلم نور اللَّه يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النّور أو تكاد، ولا بدّ أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام -قدّس اللَّه روحه- إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فرّ منها إلى التّوبة، والاستغفار، والاستغاثة باللَّه، واللَّجأ إليه، واستنزال الصّواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن مَنْ وفّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظّه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطَّريق والرَّفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحقّ فقد سلك به الصّراط المستقيم، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم" (¬2). ¬

_ (¬1) للباحث محمد خلايفية "تواظف التربية الإيمانية والتربية العاطفية عند ابن قيم الجوزية" وهو أطروحة ماجستير في علوم التربية، قدم لجامعة الجزائر، معهد علم النفس وعلوم التربية، وفيه نقل من كتابنا هذا، ففي (ص 69) (الإخلاص في طلب العلم)، وفي موطن آخر (الغضب وآثاره). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 67 - 68).

وذكر في (الفائدة الحادية والستين) أن على المفتي أن يكون كثير الدعاء، وذكر أدعية كان يقولها جماعة من السلف، ومن ذلك قوله: "وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة" (¬1) ثم قال: "والمعوَّل في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول، معلم الرسل والأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فإنه لا يردُّ من صدق في التوجُّه إليه، لتبليغ دينه، وإرشاد عبيده، ونصيحتهم، والتخلص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيته ورغبته في ذلك لم يعدم أجرًا، إن فاته أجران، واللَّه المستعان" (¬2). وظهرت هذه السمة على وجه واضح عندما وجّه خطابه للمقصّرين والعصاة، فقال مخوّفًا (أهل الحيل) من اللَّه، فذكَّرهم بيوم الدين: "فحقيق بمن اتّقى اللَّه وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم اللَّه بأنواع الحيل والاحتيال، وأن يعلم أنّه لا يخلصه من اللَّه ما أظهره مكرًا وخديعة من الأقوال والأفعال، وأنّ للَّه يومًا تكع فيه الرّجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السّرائر، وتظهر فيه الضّمائر، ويصير الباطن فيه ظاهرًا، والسّر علانية، والمستور مكشوفًا، والمجهول معروفًا، ويحصّل ويبدو ما في الصدور، كما يبعثر ويخرج ما في القبور، وتجرى أحكام الربّ -تعالى- هناك على القصود والنيّات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، يوم تبيضّ وجوه بما في قلوب أصحابها من النّصيحة للَّه ورسوله وكتابه، وما فيها من البّرّ والصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسودّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والكذب والمكر والاحتيال، هناك يعلم المخادعون أنّهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلّا بأنفسهم وما يشعرون" (¬3). ويقول مخوّفًا من يكفّر أو يجهّل العلماء من يفتي في مسألة (اليمين بالطلاق): "فكيف يحلّ لمن يؤمن بأنه موقوف بين يدي اللَّه ومسؤول أنْ يكفِّر أو يجهّل من يفتي بهذه المسألة ويسعى في قتله وحبسه. . . " (¬4). ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (5/ 198). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 198). (¬3) "إعلام الموقعين" (4/ 74). (¬4) "إعلام الموقعين" (3/ 446).

ويقول في مسألة عدم تحنيث المتأوِّل: "فلا يحلّ لأحد أن يفرّق بين رجل وامرأته لأمر يخالف مذهبه وقوله الّذي قلّد فيه بغير حجّة، فإذا كان الرّجل قد تأوّل وققد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحلّ له أن يحكم عليه بأنّه حانث في حكم اللَّه ورسوله ولم يتعمّد الحنث، بل هذه فرية على اللَّه ورسوله وعلى الحالف؛ وإذا وصل الهوى إلى هذا الحدّ فصاحبه تحت الدّرك، وله مقام وأي مقام بين يدي اللَّه يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلّده، واللَّه المستعان" (¬1). ويخوف من يفتي بخلاف ما تبرهن عنده من حق نصرةً لمذهبه، فقال: "ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي اللَّه -سبحانه- أن يفتي السّائل بمذهبه الّذي يقلّده، وهو يعلم أنّ مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا. . . " (¬2). وقال أيضًا محذرًا إياه: "يجب عليه الإفتاء بما هو راجح عنده وأقرب إلى الكتاب والسّنة من مذهب إمامه أو مذهب من خالفه، لا يسعه غير ذلك، فإن لم يتمكّن منه وخاف أن يؤدّي إلى ترك الإفتاء في تلك المسألة لم يكن له أن يفتي بما لا يعلم أنّه صواب؛ فكيف بما يغلب عى ظنّه أن الصّواب في خلافه ولا يسع الحاكم والمفتي غير هذا ألبتّة، فإنّ اللَّه سائلهما عن رسوله وما جاء به، لا عن الإمام المعين وما قاله، وإنما يسأل النّاس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقال له في قبره: ما كنت تقول في هذا الرّجل الذي بُعث فيكم؟ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: 65] ولا يسأل أحد قطّ عن إمام ولا شيخ ولا متبوع غيره، بل يسأل عمن اتّبعه وائتمّ به غيره، فلينظر بماذا يجيب؟ وليعدّ للجواب صوابًا" (¬3). وقال في موطن آخر: "وعلى كلِّ حال فلا عذر عند اللَّه يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلّد من نهاه عن تقليده، وقال له لا يحلّ لك أن تقول بقولي إذا خالفَ السّنة، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (4/ 511). (¬2) "إعلام الموقعين" (5/ 74). (¬3) "إعلام الموقعين" (5/ 165).

سادسا: بين التواضع والاعتزاز

وإذا صحّ الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتّى لو لم يقل له ذلك، كان هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلّا اتّباع الحجّة. . . " (¬1). ونبّه المصنف على أثر أعمال طالب العلم على قلبه، وحال قلبه على علمه، فقال بعد أن سرد حكم جمع الشريعة بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم: "وهذه أمور إنما يصدّق بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة حكمها، وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقّاها صافية من مشكاة النبوة، وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف" (¬2). وأخيرًا، فإن هذه السِّمة يلحظها المحظوظون والموفّقون، وهي لمن استقامت تصوراتُهم، وقويت إراداتُهم، فاستجابوا للحقّ، فجالت في نفوسهم، وعلقت في قلوبهم قوّةٌ عبروا عنها بالأدلة، ورافقها شعور وجداني، وحضور إيماني بأن هذا هو الحق لا سواه، وهو على حدّ ما قاله المصنف في كتابنا: "وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلّم به، فقال: واللَّه! ما فهمتُ منه شيئًا، إلا أني رأيتُ لكلامه صولةً ليست بصولة مبطل" (¬3). سادسًا: بين التواضع والاعتزاز: كان الإمام ابن القيم مثلًا أعلى في التواضع (¬4)، يعتقد إنما أوتيه من الفضل والعلم إنما هو محض فضل اللَّه وإكرامه، فيقول -مثلًا- في مستهل حديثه عن الجواب المفصل على أدلة نفاة التعليل: "فنتصدّى للجواب المفصل بحسب الاستعداد، وما يناسب علومنا القاصرة، وأفهامنا الجامدة، وعقولنا الضعيفة، وعباراتنا القاصرة" (¬5). وقال عند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً. . .} [إبراهيم: 24]: "فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر، بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (4/ 247). (¬2) "إعلام الموقعين" (2/ 424 - 425). (¬3) "إعلام الموقعين" (1/ 307). (¬4) حده الشرعي: عدم رؤية الفضل على الغير. (¬5) "إعلام الموقعين" (2/ 349).

وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقّي عن اللَّه ورسوله لشاهدنا من معاني كلام اللَّه وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق" (¬1). وكرر هذه المعاني في مواطن من كتبه (¬2). وهذا لا يتنافى مع ما قدمناه عنه من اعتزازه بعلمه (¬3)، فإن العالم إذا شدّ النَّفَس، وأتعب البدن، وبذل الجهد في تأصيل مسألة وتقعيدها، أو لمّ شعثها وجزئياتها، فإنه يفرح بذلك، ويعتز، وفخر ابن القيم واعتزازه بالعلم وللعلم، وليس لذاته، ولذا قال بعد بحث مسألة: "فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي روضة أنف، منح العزيز الوهاب فهمها، وله الحمد والمنة" (¬4) فلم يفخر ويعتز رحمه اللَّه بعلمه، بل في كلامه الأخير تواضع، وأن اللَّه هو الذي فهمه هذا، ولذا قال بعدها: "لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الاستحسان والمدح، وللَّه الفضل والمنة" (¬5). فالأمر أكبر من النفوس وحظوظها. فالفخر والاعتزاز عنده بالحق الذي قامت عليه الدلائل، ليكثُر الخير، ويُنتفع به، وهو يصنع هذا على حد قول علي: "إن هاهنا علمًا لو أصبت له حملة" (¬6) وعلى نسق طلب يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55]، قال ابن القيم: "فمن أخبر عن نفسه بمثل ذلك، ليتكثر بما يحبه اللَّه ورسوله من الخير، فهو محمود، وهذا غير من أخبر بذلك؛ ليتكثّر به عند الناس ويتعظّم، وهذا يجازيه اللَّه بمقت الناس له، وصغره في عيونهم" (¬7). فابن القيم متواضع، ومع تواضعه يفتخر بالحق الذي علمه اللَّه إياه، ورحم اللَّه تلميذه ابن رجب لما قال عنه: "وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله" (¬8). ¬

_ (¬1) "إعلام الموقعين" (1/ 303 - 304). (¬2) انظر -على سبيل المثال-: "حادي الأرواح" (16)، "مفتاح دار السعادة" (1/ 47 و 2/ 273). (¬3) انظر: (تاسعًا) من (المحور الثاني). (¬4) "بدائع الفوائد" (2/ 89). (¬5) "بدائع الفوائد" (2/ 89). (¬6) انظر: تخريجه في التعليق (1/ 38). (¬7) "مفتاح دار السعادة" (1/ 139). (¬8) "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 448).

الجهود المبذولة في كتابنا هذا

الجهود المبذولة في كتابنا هذا بذلت جهود كثيرة في هذا الكتاب، نلخّصها في المحاور الآتية: الأول: إفراد بعض مواضيعه وفصوله في كتب مستقلّة: انبثق عن كتابنا هذا -قديمًا وحديثًا- كتب كثيرة، وهذا ما وقفتُ عليه منها: أولًا: "بلوغ السؤال من أقضية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-" أفردها وجعلها مستقلّة، وسماها بهذا الاسم صديق حسن خان القنوجي، وظهر طبع حجر في الهند، سنة 1292 هـ - 1875 م ثم سنة 1321 هـ (¬1)، وهو عبارة عما ختم به المؤلف كتابه هذا (¬2). وقد استلّ هذا القسم وحده قديمًا، وهنالك نسخ خطية يعود تأريخها إلى القرن العاشر الهجري تقريبًا. فيها فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة، كما في نسخة (ت)، من النسخ المعتمدة، وسيأتي وصفها إن شاء اللَّه تعالى. ونشر هذا القسم مرات عديدة، فقد قام -مثلًا- قاسم الشّمَّاعي الرفاعي رحمه اللَّه بترتيب هذه الفتاوى على الأبواب الفقهية المطروقة، وطبعها على حدة، وكذا اعتنى بها -على ترتيب المصنف لها- محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، ونشراها بعنوان "فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، ونشرت عن غيرهما أيضًا، وحققت في رسالتين علميتين بجامعة الإمام محمد بن سعود (¬3)، ولم أرهما. ثانيًا: "درر البيان في تفسير أمثال القرآن" لبعض أئمة الدعوة من علماء نجد، طبع بالمطبعة السلفية بمصر. ثم ظهر بتحقيق ناصر الرشيد في مكة المكرمة، في (62 صفحة) بعنوان "أمثال القرآن". ¬

_ (¬1) انظر: "معجم المطبوعات العربية والمعربة" (1/ 223). (¬2) وهو في (المجلد الخامس) من نشرتنا، من (ص 209 - إلى آخر الكتاب). (¬3) كذا في "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل" (2/ 919)، وعزى الآلوسي في "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين" (32) لابن القيم "الفتاوى" ولعله هذا.

ثالثًا: "فصول في القياس" طبع ضمن كتاب "القياس في الشرع الإسلامي"، نشره محب الدين الخطيب سنة 1346 هـ، مع رسالة ابن تيمية في القياس أيضًا، وضمن "رسالتان في معنى القياس"، عن دار الفكر، عمان. رابعًا: "أسرار الشريعة من إعلام الموقعين" جمعه ورتبه (¬1) مساعد بن عبد اللَّه السلمان، وقدم له الشيخ عبد اللَّه البسام، والشيخ إبراهيم الجطيلي، مطبوع عن دار المسير، سنة 1418 هـ. خامسًا: "البيّنات السلفيّة على أنّ أقوال الصحابة حجة شرعية في إعلام الإمام ابن قيم الجوزية" لأحمد سلام، نقل فيه كلام ابن القيم على حجية أقوال الصحابة، مع تعليقات وإضافات مطبوع عن دار ابن حزم، سنة 1417 هـ (¬2). المحور الثاني: دراسات علمية قامت حوله أو دارت في موضوعه: تنوَّعت دراسات المعاصرين التي لها تعلُّقٌ بكتابنا هذا، ومن أهمها: أولًا: "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين" لأبي عبد الرحمن عبد المجيد جمعة الجزائري، مطبوع بتقديم فضيلة الشيخ بكر أبو زيد، عن دار ابن القيم ودار ابن عفان، السعودية. ثانيًا: "مناهج الإفتاء عند ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين"" لأسامة عمر الأشقر، رسالة علمية قيد الإعداد، في الجامعة الإسلامية، بكوالا لامبور/ ماليزيا. ثالثًا: "منهج ابن القيم في القواعد الفقهية" لأنور صالح أبو زيد، رسالة دكتوراه، في الجامعة الإسلامية سجلت سنة 1418 هـ، كذا في "دليل الرسائل العلمية" (419). ¬

_ (¬1) على الأبواب الفقهية المطروقة. (¬2) ذكر ابن القيم في "تهذيب مختصر السنن" (6/ 341) وفي "مفتاح دار السعادة" (62) أن له كتابًا في "الاجتهاد والتقليد"، ولا أدري هل هو المباحث المذكورة في كتابنا هذا أم أنه كتاب مفرد. ثم ترجَّح لي أنه كتاب مفرد، لقوله في "أحكام أهل الذمة" (1/ 21 - 22): "وأصول الأئمة الأربعة وقواعدهم ونصوصهم على هذا، وأن الصواب من الأقوال كجهة القبلة في الجهات، وعلى هذا أكثر من أربعين دليلًا قد ذكرناها في كتاب مفرد، وباللَّه التوفيق". وهذه المسألة بالعدد المذكور ليست في كتابنا، فلعلها في كتابه الآخر "الاجتهاد والتقليد"، واللَّه أعلم. أذكر هذا الكلام هنا لأني وجدت أن بعض المعلقين على "أحكام أهل الذمة" ظن أن المراد بكلام ابن القيم بعض المباحث في كتابنا هذا.

أهمية الكتاب وفائدته

والظاهر من عنوانها أنها ليست خاصة بـ "الإعلام"، ولكن مادته هي الأساسية والأصلية في مثل هذا المبحث، وكذلك: رابعًا: "ابن القيم أصوليًا"، لعبد اللَّه لخضر، رسالة دكتوراه، مقدمة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس بالرباط، وكذلك: خامسًا: "الإمام ابن القيم ومنهجه وآراؤه في أصول الفقه"، لمسعود عالم مولوي، رسالة ماجستير، مقدمة لقسم أصول الفقه في الجامعة الإسلامية، سنة 1397 هـ، كذا في "دليل الرسائل العلمية" (425). المحور الثالث: طبعات الكتاب: سيأتي الحديث عنها، وتقويم المشهور منها لاحقًا. المحور الرابع: مخطوطات الكتاب: اعتنى العلماء والنساخ بكتابنا هذا، وجهدوا في تملُّكه، وله نسخ خطية عديدة في سائر المكتبات المبثوثة في أنحاء العالم، وسيأتي بيان ذلك قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. * أهمية الكتاب وفائدته: لكتابنا هذا أهمية عظيمة، وقد سمعت الشيخ العلامة بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- ينقل عن الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه اللَّه قوله: "كتاب الإسلام: "إعلام الموقعين"". وقال الشيخ محمد رشيد رضا عنه: "لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى" (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سحمان عنه: "كتاب جليل" وقال: "ليس له في المؤلَّفات نظير ولا مثيل" (¬2). قال أبو عبيدة: لا يقدر على تسطير ما فيه إلا شبعان ريان من علوم الشريعة وأصولها ونصوصها وحِكَمِها، ولا غرو في ذلك، فإن صاحبه له باع طويل، في جميع العلوم الإسلامية ومذاهب أهل الأديان على اختلاف مللهم ونحلهم، وله في كل فن مؤلفات واسعة، فإذا ما قرأ له المرء كتابًا في أي فنٍّ شاء حسب أنه لا ¬

_ (¬1) مجلة "المنار" عدد شوال، 1327 هـ (ص 786) (المجلد 12). (¬2) نقلته من خطّه من نسخة (ك) المعتمدة في التحقيق. وسيأتي وصفها.

يتقن سواه، ثم أيقن أنه لم يكتب في موضوعه أجود منه. ونجد ابن القيم، في كتابنا هذا إذا عرض لمسألة من المسائل استوعب الكلام فيها من جميع جوانبها، وذلك بأن يورد أقوال الطوائف فيها، ثم يتبع هذا بمناقشة أدلتهم، ثم ينتهي إلى رفض الآراء التي لا تثبت أمام النقد واختيار الرأي الذي يتفق مع العقل والنقل الصحيح في نظره (¬1). وتكلمنا فيما سبق (¬2) أن من منهجية المصنف في كتبه: التحليل والتأصيل، وأن النهضة العلمية اليوم تتطلب من تلاميذها العكوف على مثل نوع كتابنا من المؤلفات، ودراسته بتمحيص من ناحية نظرية، ابتغاء تحصيل ثمرته العملية، ولا سيما في استنباط الأحكام العلمية للنوازل الفقهية التي لا سبيل لمعرفتها إلا من خلال القواعد والمقاصد التي يتوصل إليها من خلال استيعاب المنصوص: جمعًا وتمعنًا وتحليلًا واستقراءً، وحينئذ يحسن إلحاق غير المنصوص به، أما الهجوم على غير المنصوص دون ذلك، فمن مظنة الخطأ والزلل، أو التعدي والقصور، أو الوقوع في التعالم، وعدم معرفة قدر النفس، وهذه هي آفة الفقه في هذا الزمان. وما أحوج أهل زماننا إلى مصنَّف يجمع أسرار التشريع وحِكَمَه على وفق العلوم التجريبية والإنسانية، يستعرض فيه جميع أبواب الفقه، على المنهج الذي سلكه ابن القيم، من تعظيم الدليل، والاهتمام بالنظرة المقاصدية، وضمّ الشبيه إلى الشبيه، بضابط فهم السلف، وعدم التأثر بضغط الواقع، وشُبَهِ المهزومين من الداخل. ومع ذلك، فإن لابن القيم في كتابه هذا مؤشر التقدم والإبداع، ذلك أنه تمثل بمسائله وقضاياه، والمشاكل التي تحدث عنها في عصره، قمة العطاء والتقدم آنذاك على وجه لم يوجد له شبيه، ولا ما يدانيه، أو ما يقاربه ويجاريه، وهو يحكي نبوغه المتفرد المتمثل بضرب من التقدم بتدوين مباحث في الفقه وأصوله نال الإعجاب والتقدير، بسبب ضوابطه المنهجية والتزامه به، على وجه لا يستغني عنه البحث العلمي الموضوعي في أيّ وقت، وهو ينمّ عن مقدرة أصولية، وظَّفها صاحبها توظيفًا لو لم يكن له سواه لكفاه تقدّمًا وفخرًا وشرفًا. وقد أصاب الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- كبد الحقيقة لما قال: "لو لم يكن من مؤلفاته إلا كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" ذلك الكتاب النافع ¬

_ (¬1) "ابن القيم أصوليًا" (41) بتصرف. (¬2) انظر: (ص 195).

أثر الكتاب في مؤلفات ودراسات من بعده

المعطار، وكتابه الجامع لأمهات الأحكام، وحقائق الفقه، وأصول التشريع، وحكمه وأسراره، المسمى "إعلام الموقعين" وغيرهما مما يعجب ويطرب، لو لم يكن منها إلا هذان الكتابان لكفى" (¬1). * أثر الكتاب في مؤلفات ودراسات من بعده: كان لكتابنا "الأعلام" أثر ظاهر في مؤلفات من بعده من كبار العلماء، على اختلاف فنونهم ومشاربهم، وأخصُّ الحنابلة منهم، فإنهم أقاموا لاختياراته في كتبهم ومصنفاتهم وزنًا، وأحالوا عليها، ونقلوا منها، وهذه أمثلة تدلل على ذلك (¬2): * أثر كتابنا في كتاب "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل" (¬3) لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي (ت 885 هـ) رحمه اللَّه تعالى. ¬

_ (¬1) "ابن قيم الجوزية: حياته، آثاره، موارده" (ص 71 - 72). (¬2) فيما هو في "إعلام الموقعين"، وجلّ نقولاتهم الفقهية عن ابن القيم منه دون سائر مصنفاته. (¬3) من أجمع كتب الحنابلة، جمع مصنفه فيه ما وقع له من كتب الرواية، ومن الكتب الجامعة لها، ومن كتب المتون في المذهب بما فيها: "الفروع" المسمى: "مكنسة المذهب"؛ لكثرة ما حوى من آلاف الفروع، وتقدر الفروع في الصفحة بنحو خمسين فرعًا في منطوقه. . .، وما لحقها من الروح، والحواشي، والتعاليق، والتخاريج، والتصحيح، والتنقيح. . . وذلك في هذا الكتاب الجامع الفذ: "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف" وربطه بـ "المقنع" قاعدة انطلاق لمسائله، لانكباب الناس عليه، ثم أتبعها في كل باب ما فاته، وضم إليه من الفوائد، والتنبيهات، وثمرات الخلاف في المذهب، وغيره، ما تقر به عين الفقيه، ويبهر المتبحر، فضلًا عن الطالب المتعلم. فصار بهذا للمذهب مجددًا، ولشمله جامعًا، ولرواياته، وتخاريجه، مصححًا ومنقِّحًا. وقد بيَّن في مقدمته غاية البيان عن: مصادره، وسَمَّاها، وعن شرطه، وطريقته، ومسالك الترجيح، وطرق التصحيح، بحيث إذا عرفَ الفقيه هذه المقدمة مع مقدمة ابن مفلح لـ"الفروع"، ومقدمة المرداوي لـ"تصحيح الفروع"، وخاتمة ابن النجار الفتوحي لـ"شرح المنتهى"؛ صارت لديه العدة لمعرفة المذهب، وسلك المدخل لتحقيقه، وتصحيحه ومعرفة راجحه من مرجوحه. وبالجملة فمسلكه في هذا الكتاب، نظير مسلك ابن قاضي عجلون الشافعي في "تصحيح المنهاج" للنووي، وهو لروايات المذهب مثل: "جامع الأصول" و"كنز العمال" في السنة، يجمع الروايات ومن خَرَّجها. =

أكثر المرداوي في "الإنصاف" من النقل من كتابنا "إعلام الموقعين" وهذا البيان: 1 - قال في "الإنصاف" (5/ 420) في مسألة (مقاسمة الدَّيْن في الذمة): "تنبيه: مراده بقوله "في الذمة" الجنس. فمحل الخلاف: إذا كان في ذمتين فأكثر، قاله الأصحاب. أما إذا كان في ذمة واحدة: فلا تصح المقاسمة فيها، قولًا واحدًا، قاله في "المغني" و"الشرح" و"الفروع"، وغيرهم. وقال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه: يجوز أيضًا، ذكره عنه في "الاختيارات"، وذكره ابن القيم رحمه اللَّه رواية في "إعلام الموقعين"". 2 - وفي "الإنصاف" أيضًا (8/ 162 - 163) تحت (فائدة) في مبحث (نكاح المحلل) ما نصه: "لو اشترى عبدًا وزوَّجه بمطلقته ثلاثًا، ثم وهبها العبد أو بعضه، ليفسخ نكاحها: لم يصح. قال الإمام أحمد رحمه اللَّه: إذا طلقها ثلاثًا وأراد أن يراجعها، فاشترى عبدًا وزوجه بها: فهذا الذي نهى عنه عمر -رضي اللَّه عنه-، يؤدبان جميعًا. وهذا فاسد، ليس بكفء، وهو شبه المحلل. قال في "الفروع": وتزويجه المطلقة ثلاثًا لعبده بنية هبته، أو بيعه منها، ليفسخ النكاح: كنية الزوج. ومن لا فرقة بيده، ولا أثر لنيته. وقال ابن عقيل في "الفنون" فيمن طلق زوجته الأمة ثلاثًا، ثم اشتراها لتأسفه على طلاقها: حِلُّها بعيد في مذهبنا، لأنه يقف على زوج وإصابة، ومتى ¬

_ = ومن أهم مميزات هذا الكتاب: "الإنصاف" الآتي: 1 - استوعب ما أمكن من الروايات في المذهب ومصادرها. 2 - حوى بين دفتيه ما سبقه من أُمَّات كتب المذهب متنًا، وشرحًا، وحاشية، وحواها لا سيما المعتمدة منها؛ فصار كتابه مغنيًا عن سائر كتب المذهب قبله. 3 - حوى اختيارات وتراجيح الشيوخ المعتمدين في المذهب؛ فصار دليلًا لتصحيحات شيوخ المذهب المعتمدين قبله. 4 - حرر المذهب رواية، وتخريجًا، وتصحيحًا لما أطلق، وتقييدًا لما أخل بشرطه إلى آخر ما التزمه في مقدمته له، جاعلًا ما ذهب إليه الأكثر من الأصحاب هو المختار. انظر: "المدخل المفصل" (2/ 729 - 731)، "المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة" (334 - 336).

زوجها -مع ما ظهر من تأسفه عليها- لم يكن قصده بالنكاح إلا التحليل. والقصد عندنا يؤثر في النكاح، بدليل ما ذكره أصحابنا: إذا تزوج الغريب بنية طلاقها إذا خرج من البلد: لم يصح. ذكره في "الفروع". قال المصنف، والشارح: ويحتمل أن يصح النكاح إذا لم يقصد العبد التحليل. وقال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين": لو أخرجت من مالها ثمن مملوك، فوهبته لبعض من تثق به، فاشترى به مملوكًا، ثم خطبها على مملوكه، فزوجها منه، فدخل بها المملوك، ثم وهبها إياه: انفسخ النكاح، ولم يكن هناك تحليل مشروط ولا منوي ممن تؤثر نيته وشرطه، وهو الزوج، فإنه لا أثر لنية الزوجة، ولا الولي، قال: وقد صرح أصحابنا بأن ذلك يحلها (¬1). فقال في "المغني": فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها. انتهى. وهذه الصورة غير التي منع منها الإمام أحمد رحمه اللَّه، فإنه منع من حلها إذا كان المطلق الزوج واشترى العبد وزوجه بإذن وليها ليحلها. انتهى" انتهى ما عند المرداوي. قلت: وهذا الكلام في نشرتنا (4/ 448 - 449). 3 - وفي "الإنصاف" (8/ 175) أيضًا تحت (فائدة) ما نصه: "لو أبيح للحر نكاح أمة، فنكحها، ولم يشترط حرية أولاده: فهم أرقاء لسيدها. على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب. وعنه: أن ولد العربي يكون حرًا، وعلى أبيه فداؤه. ذكره الزركشي في آخر كتاب النفقات على الأقارب. وإن شرط حرية الولد، فقال في "الروضة" -فى إرث غرَّة الجنين-: إن شرط زوج الأمة حرية الولد: كان حرًا، وإن لم يشرط: فهو عبد. انتهى. ذكره في "الفروع" في أواخر "باب مقادير ديات النفس". قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" -في (الجزء الثالث في الحيل) - ¬

_ (¬1) نقله ابن المفلح في "المبدع" (7/ 86) عن ابن القيم في "الأعلام"، وقال بعده: "وفي المحرر" و"الفروع": ومن لا فرقة بيده لا أثر لنيّته" وكذا في "كشاف القناع" (5/ 96) وصرح بالنقل عن كتابنا أيضًا.

المثال الثالث والسبعون: إذا شرط الزوج على السيد حرية أولاده: صح، وما ولدته فهم أحرار". قلت: انظره في نشرتنا (4/ 406). 4 - وفي "الإنصاف" (8/ 424 - 425) أيضًا تحت (فوائد) وذكر (الفائدة الأولى)، وقال: "يحرم الخلع حيلة لإسقاط عين طلاق، ولا يقع على الصحيح من المذهب. جزم به ابن بطة في مصنف له في هذه المسألة. وذكره عن الآجري، وجزم به في "عيون المسائل"، والقاضي في "الخلاف"، وأبو الخطاب في "الانتصار"، وقال: هو محرم عند أصحابنا. وكذا قال المصنف في "المغني": هذا يفعل حيلة على إبطال الطلاق المعلق، والحيل خدع لا تحل ما حرم اللَّه. قال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه: خلع الحيلة لا يصح على الأصح، كما لا يصح نكاح المحلل، لأنه ليس المقصود منه الفرقة، وإنما يقصد به بقاء المرأة مع زوجها، كما في نكاح المحلل، والعقد لا يقصد به نقيض مقصوده. وقدمه في "الفروع". وقيل: يحرم، ويقع. وقال في "الرعايتين"، و"الحاوي الصغير": ويحرم الخلع حيلة، ويقع في أصح الوجهين. قال في "الفروع": وشذ في "الرعاية"، فذكره. قلت: غالب الناس واقع في هذه المسألة، وكثيرًا ما يستعملونها في هذه الأزمنة. ففي هذا القول فرج لهم. واختاره ابن القيم في "إعلام الموقعين". ونصره من عشرة أوجه (¬1). وقال في "الفروع": ويتوجه أن هذه المسألة، وقصد المحلل التحليل، وقصد أحد المتعاقدين قصدًا محرمًا، كبيع عصير ممن يتخذه خمرًا: على حد واحد، فيقال في كل منهما ما قيل في الأخرى". قلت: انظر نشرتنا (4/ 231). ¬

_ (¬1) نقل ابن ضويان في "منار السبيل" (2/ 963 - ط الباز) كلام ابن تيمية، وقال: "واختار ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه يحرم ويصح، أي: يقع، ونصره من عشرة أوجه".

5 - وفيه (6/ 4 - 5) أيضًا (في الإجارة) عند قوله: (وفي لفظ البيع وجهان) قال: "بأن يقول: بعتك نفعها، وأطلقهما في "الهداية"، و"المذهب"، و"مسبوك الذهب" و"المستوعب"، و"الخلاصة"، و"الكافي"، و"الهادي"، و"المغني"، و"المذهب الأحمد"، و"التلخيص"، و"البلغة"، و"الشرح"، و"شرح ابن منجا"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، و"الفروع"، و"الفائق"، و"الزركشي"، و"القواعد الفقهية"، والطوفي في "شرح الخرقي". قال في "التلخيص" و"الفائق": وأما لفظ البيع: فإن أضافه إلى الدار لم يصح، وإن أضافه إلى المنفعة فوجهان. انتهيا. أحدهما: يصح. اختاره ابن عبدوس في "تذكرته"، والشيخ تقي الدين رحمه اللَّه فقال في "قاعدة له في تقرير القياس" -بعد إطلاق الوجهين- والتحقيق: أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ كان من الألفاظ التي عَرَفَ به المتعاقدان مقصودهما. وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحدّ حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقة. انتهى. وكذا قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين". قال في "إدراك الغاية": لا تصح بلفظ البيع في وجه. وقدمه ابن رزين في "شرحه". والوجه الثاني: لا يصح، صححه في "التصحيح"، و"النظم". قال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه -بعد ذكر الوجهين- بناء على أن هذه المعاوضة نوع من البيع، أو شبيهة به" (¬1). قلت: انظره في نشرتنا (2/ 198). 6 - وفيه (6/ 345) أيضًا تحت (فائدة جليلة) ما نصه: "تثبت الوديعة بإقرار الميت، أو ورثته، أو بينته. وإن وجد خط موروثه "لفلان عندي وديعة" وعلى كيس "هذا لفلان" عمل به وجوبًا، على الصحيح من المذهب. قال في "الفروع": ويعمل به على الأصح. ¬

_ (¬1) مثله في "تصحيح الفروع" للمرداوي أيضًا (4/ 421) وفيه زيادة، وهو قوله عن الوجه الأول: "قلت: وهو الصواب"، ونقله البهوتي في "كشاف القناع" (3/ 405) عن ابن تيمية، وقال: "ومعناه أيضًا لابن القيم في "إعلام الموقعين".

قال الحارثي: هذا المذهب، نص عليه من رواية إسحاق بن إبراهيم في الوصية، ونصره، ورد غيره. وقال: قاله القاضي أبو الحسين، وأبو الحسن ابن بكروس، وقدمه في "المستوعب"، و"التلخيص"، وهو الذي ذكره القاضي في "الخلاف". وقيل: لا يعمل به، ويكون تركة. اختاره القاضي في "المجرد"، وابن عقيل، والمصنف، وقدمه الشارح، ونصره وجزم به في "الحاوي الصغير"، و"النظم". وإن وجد خطه بدين له على فلان: حلف الوارث، ودفع إليه، قطع به في "المغني"، و"الشرح"، و"الفروع"، و"شرح الحارثي"، و"إعلام الموقعين". وإن وجد خطه بدين عليه فقيل: لا يعمل به، ويكون تركة مقسومة. اختاره القاضي في "المجرد"، وجزم به في "الفصول"، والمذهب، وقدمه في "المغني"، و"الشرح". وقيل: يعمل به، ويدفع إلى من هو مكتوب باسمه. قال القاضي أبو الحسين: المذهب وجوب الدفع إلى من هو مكتوب باسمه، أومأ إليه، وجزم به في "المستوعب". وهو الذي ذكره القاضي في "الخلاف": هو ظاهر ما قطع به في "إعلام الموقعين"، وقدمه في "التلخيص"، وصححه في "النظم"، وهو المذهب عند الحارثي، فإنه قال: والكتابة بالديون عليه كالكتابة بالوديعة، كما قدمنا. حكاه غير واحد منهم السامري، وصاحب "التلخيص". انتهى". 7 - وفيه أيضًا (9/ 5) بعد كلام: "وذكر الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه أن قوله: "الطلاق يلزمني" ونحوه يمين باتفاق العقلاء والأمم والفقهاء، وخرجه على نصوص الإمام أحمد رحمه اللَّه. قال في "الفروع": وهو خلاف صريحها. وقال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه أيضًا: إن حلف به نحو "الطلاق لي لازم" ونوى النذر: كَفَّر عند الإمام أحمد رحمه اللَّه. ذكره عنه في "الفروع" في كتاب الأيمان، ونصره في "إعلام الموقعين"، هو والذي قبله (¬1). ¬

_ (¬1) وكذا في "كشاف القناع" (5/ 312 - 313)، وفي مطبوعه "نص"! بدل "نصر".

وقد ذكر أن أخا الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه اختار عدم الكفارة فيهما، وهو مذهب ابن حزم. فعلى المذهب: إذا لم ينو شيئًا، فأطلق المصنف هنا في وقوع الثلاث أو وقوع واحدة الروايتين، وأطلقهما في "القواعد الأصولية"، وابن منجا في "شرحه"". قلت: انظر نشرتنا (3/ 33، 4/ 301، 319، 334، 539). 8 - وفيه أيضًا (9/ 111) تحت (فائدتين)، وذكر الثانية منهما، فقال: "لو قالت امرأته "أريد أن تطلقني" فقال: "إن كنت تريدين" أو "إذا أردت أن أطلقك فأنت طالق" فظاهر الكلام: يقتضي أنها تطلق بإرادة مستقبلة ودلالة الحال على أنه أراد إيقاعه، للإرادة التي أخبرته بها. قاله ابن عقيل في "الفنون". ونصر الثاني العلامة ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين"". انتهى. قلت: انظره في نشرتنا (1/ 381 - 382، 3/ 484 - 485، 4/ 228، 517). 9 - وفيه أيضًا (9/ 127) تحت (فوائد): "فإن حلف على زوجته في شعبان بالثلاث أن يجامعها في نهار شهرين متتابعين فدخل رمضان. فالحيلة: أن يسافر بها. قدمه في "الهداية"، و"المستوعب"، و"الخلاصة"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير". واختاره المصنف، والعلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين"". 10 - وفيه أيضًا (10/ 391 - 392) تحت (تنبيه) في (التذكية بالسن)؛ ما نصه: "ظاهر قوله: "إلا السن" أنه يباح الذبح بالعظم، وهو إحدى الروايتين. والمذهب منهما. قال المصنف في "المغني": مقتضى إطلاق الإمام أحمد رحمه اللَّه إباحة الذبح به، قال: وهو أصح. وصححه "الشارح"، و"الناظم". وهو ظاهر كلامه في "الوجيز".

قال في "الهداية"، و"المذهب"، و"الخلاصة"، وغيرهم: وتجوز الذكاة بكل آلة لها حد يقطع وينهر الدم، إلا السن والظفر. قدمه في "الكافي"، وقال: هو ظاهر كلامه. والرواية الثانية: لا يباح الذبح به. قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" في (الفائدة السادسة) بعد ذكر الحديث: وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام: إما لنجاسة بعضها، وإما لتنجيسه على مؤمني الجن. واختاره ابن عبدوس في "تذكرته"، وقدمه ابن رزين في "شرحه". قال في "الترغيب": يحرم بعظم، ولو بسهم نصله عظم. وأطلقهما في "المحرر"، و"الرعايتين"، و"الحاويين"، و"الفروع" (¬1). قلت: وكلام ابن القيم في "الأعلام" في نشرتنا (5/ 50). 11 - وفيه (11/ 166 - 167) أيضًا وذكر نقلين من كتابنا هذا، قال تحت (فائدتين) وذكر (الثانية) فقال: "لو تعين عليه أن يفتي وله كفاية، فهل يجوز له الأخذ؟ فيه وجهان. وأطلقهما في "آداب المفتي"، و"الرعاية الكبرى"، و"أصول ابن مفلح"، و"فروعه". واختار ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" عدم الجواز (¬2). ومن أخذ رزقًا من بيت المال لم يأخذ أجرة لفتياه. وفي أجرة خطه وجهان: وأطلقهما في "الفروع". أحدهما: لا يجوز. قدمه ابن مفلح في "أصوله". واختاره الشيخ ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين". الثاني: لا يجوز. ونقل المروذي فيمن يُسأل عن العلم، فربما أهدى له؟ قال: لا يقبل، إلا أن يكافئ. ¬

_ (¬1) ومثله في "تصحيح الفروع" للمرداوي أيضًا (6/ 312). (¬2) مثله في "تصحيح الفروع" أيضًا (6/ 440).

ويأتي أيضًا حكم هدية المفتي عند ذكر هدية القاضي". قلت: واختيار ابن القيم الأول في نشرتنا (5/ 159)، والثاني في (5/ 158). 12 - وفيه أيضًا (11/ 861 - 187) عند الكلام على (صفات المفتي)، وهل تصح الفتوى من فاسق؟ قال: "ولا تصح من فاسق لغيره، وإن كان مجتهدًا، لكن يفتي نفسه ولا يسأل غيره. وقال الطوفي في "مختصره"، وغيره: لا تشترط عدالته في اجتهاده، بل في قبول فتياه وخبره. وقال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين": قلت: الصواب جواز استفتاء الفاسق، إلا أن يكون معلنًا بفسقه، داعيًا إلى بدعته، فحكم استفتائه حكم إمامته وشهادته" (¬1) ثم تكلم في الموطن نفسه عن (فتوى مستور الحال)، فقال: "ولا تصح من مستور الحال أيضًا، على الصحيح من المذهب. قدمه في "الفروع"، وغيره من الأصوليين. وقيل: تصح. قدمه في "آداب المفتي" وعمل الناس عليه. وصححه في "الرعاية الكبرى". واختاره الشيخ ابن القيم في "إعلام الموقعين". وقيل: تصح إن اكتفينا بالعدالة الظاهرة، وإلا فلا". قلت: انظر كلام ابن القيم عن (فتوى الفاسق) في نشرتنا (5/ 138)، وعن (فتوى مستور الحال) فيها أيضًا (138 - 139). 13 - وفيه (11/ 189) أيضًا: "وإن حدث ما لا قول فيه تكلم فيه حاكم ومجتهد ومفت. وقيل: لا يجوز في أصول الدين. قال في "آداب المفتي": ليس له أن يفتي في شيء من مسائل الكلام مفصلًا، بل يمنع السائل وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلًا، وقدمه في "مقنعه". ¬

_ (¬1) مثله في "كشاف القناع" (6/ 300)، وصرح بالنقل من "إعلام الموقعين".

وجزم به في "الرعاية الكبرى". وقدم ابن مفلح في "أصوله": أن محل الخلاف في الأفضلية، لا في الجواز وعدمه، وأطلق الخلاف. وقال في خطبة "الإرشاد": لا بد من الجواب. وقال في "إعلام الموقعين" -بعد أن حكى الأقوال-: والحق التفصيل، وأن ذلك يجوز بل يستحب، أو يجب عند الحاجة، وأهلية المفتي والحاكم، فإن عدم الأمران: لم يجز، وإن وجد أحدهما: احتمل الجواز والمنع، والجواب عند الحاجة دون عدمها". انتهى. قلت: انظر كلامه في نشرتنا (5/ 208). 14 - وفيه (11/ 194 - 195) أيضًا في مسألة التّمذهب: "وقال ابن مفلح في "أصوله": وقال بعض الأصحاب: هل يلزم المقلد التمذهب بمذهب، والأخذ برخصه وعزائمه؟ فيه وجهان. قلت: قال في "الفروع" -في أثناء "باب شروط من تقبل شهادته"-: وأما لزوم التمذهب بمذهب، وامتناع الانتقال إلى غيره في مسألة: ففيه وجهان، وفاقًا لمالك والشافعي رحمهما اللَّه، وعدمه أشهر. انتهى. قال في "إعلام الموقعين": وهو الصواب المقطوع به. وقال (¬1) في "أصوله": عدم اللزوم قول جمهور العلماء، فيتخير. وقال في "الرعاية الكبرى": يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر فلا يقلد غير أهله. وقيل: بلى. وقيل: ضرورة. فإن التزم فيما يفتى به، أو عمل به، أو ظنه حقًا، أو لم يجد مفتيًا آخر: لزم قوله، وإلا فلا. انتهى. واختار الآمدي منع الانتقال فيما عمل به. وعند بعض الأصحاب: يجتهد في أصح المذاهب فيتبعه (¬2). ¬

_ (¬1) أي: ابن مفلح، وكلامه في كتابه "أصول الفقه" (4/ 1562). (¬2) وكذا في "الفروع" (6/ 572)، وعقب هذا عنده: "وتقدم كلام الشيخ تقي الدين في كلام المصنف، وهو موافق لما قاله ابن القيم، وهو الصواب".

وقال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه: في الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير الرسول عليه الصلاة والسلام في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع". انتهى. قلت: والكلام المشار إليه في نشرتنا (5/ 203 - 204). 15 - وفيه: (11/ 221) أيضًا في مسألة (فتيا الحاكم هل هي حكم منه؟)، قال: "قال القاضي في "التعليق"، والمجد في "المحرر": فعله حكم إن حكم به هو، أو غيره، وفاقًا، كفتياه. فإذا قال: "حكمت بصحته" نفذ حكمه باتفاق الأئمة. قاله الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه. وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": فتيا الحاكم ليست حكمًا منه. فلو حكم غيره بغير ما أفتى: لم يكن نقضًا لحكمه، ولا هي كالحكم. ولهذا يجوز أن يفتى للحاضر والغائب، ومن يجوز حكمه له ومن لا يجوز". انتهى. قلت: انظر نشرتنا (5/ 141). 16 - وفيه (11/ 318) أيضًا ما نصه: "وفي تضمين مفت ليس أهلًا: وجهان. وأطلقهما في "الفروع". واختار ابن حمدان في كتابه "أدب المفتي والمستفتي" أنه لا ضمان عليه (¬1). قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" في الجزء الأخير: ولم أعرف هذا القول لأحد قبل ابن حمدان. ثم قال: قلت خطأ المفتي كخطأ الحاكم أو الشاهد" (¬2). قلت: وكلامه في نشرتنا (5/ 147). هذا، ولم يقتصر نقل المرداوي في كتابه "الإنصاف" من كتابنا "الإعلام" ¬

_ (¬1) قال المرداوي في "تصحيح الفروع" (6/ 494) عقبه: "قلت: وهو بعيد جدًّا، لا وجه له". (¬2) قال المرداوي في "تصحيح الفروع" (6/ 494) عقبه: "هذا الذي قاله ليس من المسألة في شيء؛ لأن مراده بخطإ المفتي الذي هو أهل للإفتاء، والمسألة مفروضة فيمن ليس أهلًا، وعلى كل حال القول بعدم الضمان ضعيف جدًّا، والأولى للمصنف -أي: ابن مفلح في "الفروع"- أنه كان يقدم الضمان، واللَّه أعلم".

وإنما نقل منه في كتبه الأخرى، مثل "تصحيح الفروع" (¬1)، وهنالك نقولات مشتركة بينه وبين "الإنصاف"، وقد أشرتُ إليها في محالّها، وللَّه الحمد. إلا أني ظفرتُ بمسألة هي فيه ليست في "الإنصاف"، وهي: قوله في "تصحيح الفروع" (1/ 386): "ولو سأل مفتيين واختلفا فهل يأخذ بالأرجح، أو الأخف، أو الأشد، أو يخيره؟ فيه أوجه، انتهى. أطلق الخلاف في عدة أقوال: أحدها: أنه يخير، اختاره القاضي وأبو الخطاب والشيخ الموفق في "الروضة"، نقله عنه المصنف في "أصوله"، ولم أره فيها وقطع به المجد في موضع من "المسودة"، قال أبو الخطاب: وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وقدمه المصنف في "أصوله"، والوجه الثاني: يأخذ بالأرجح، ذكره ابن البناء، وغيره، وهو الصحيح، واختاره بعض الأصحاب، قاله المصنف في "أصوله"، قال في "إعلام الموقعين" يجب عليه أن يتحرى، ويبحث عن الراجح بحسبه وهو أرجح المذاهب السبعة". انتهى. قلت: انظر نشرتنا (5/ 205 - 206). وهنالك نقولات عديدة جدًّا عند كثير من متأخري الحنابلة من كتابنا هذا، وأقتصر على بيان ذلك بالتفصيل من: * كتاب "كشاف القناع" (¬2) للشيخ منصور بن يونس البهوتي (ت 1051 هـ). 1 - قال فيه (3/ 273) في آخر (فصل: في المصارفة وهي بيع نقد بنقد)، وتكلم استطرادًا عن الحيل، قال: "وقد ذكر ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" من ذلك صورًا كثيرة جدًّا، يطول ذكرها، فَلْتعاود؛ لعموم الحاجة إليها". 2 - وقال في (3/ 405) (فصل: في أحكام الجوار): ¬

_ (¬1) حقق فيه ترجيحات ابن مفلح في "الفروع"، ودقق، وكأنما استظهر "الفروع"، فأتى بالعجائب، واسمه "تصحيح الخلاف المطلق في الفروع". (¬2) هو شرح "الإقناع لطالب الانتفاع" لموسى الحجاوي (ت 968 هـ)، قال السفاريني: "هو أحسن شروحه"، وهو شرح فريد محقَّق للكتاب، يورد فيه صاحبه غالبًا علل الأحكام، وأدلتها على طريق الاختصار، ويعزو الأقوال لقائليها، ويبين المعتمد في المواضع التي تعارض كلام "الإقناع"، وما خالف فيه "المنتهى" -متعرضًا لذكر الخلاف فيها- ليعلم مستند كل منهما، انظر: "المنهج الفقهي العام لعلماء الحنابلة" (342). ومما ينبغي ذكره أن في "كشاف القناع" مسائل مشتركة مع "الإنصاف" ذكرناها سابقًا في الهوامش، فراجعها.

"وفي "المبهج": في (الأطعمة): ثمرةُ غصنٍ في هواءِ طريقٍ عامٍّ للمسلمين" قال بعده: "ومعناه أيضًا لابن القيم في "إعلام الموقعين"، لأنّ إبقاءه إِذْنٌ عرفًا في تناول ما سقط منه". 3 - وقال في (4/ 208) آخر (باب الجعالة): "ولو وقع الحريق بدار ونحوها فهدمها غير صاحبها بغير إذنه على النار لئلا تسري النار، أو هدم قريبًا منها إذا لم يقدر على الوصول إليها وخيف تعديها وعتوها لم يضمن. ذكره ابن القيم في "الطرق الحكمية"، ثم قال: "ولو رأى السيل يقصد الدار المؤجرة فبادر وهدم الحائط ليخرج السيل، ولا يهدم الدار كان محسنًا ولا يضمن" انتهى، وكذا في "إعلام الموقعين"". 4 - وقال في (5/ 271) (باب الاستثناء في الطلاق): "ويشترط في استثناء (نيةٍ قبل تمام المستثنى منه) فقوله: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة، لا يعتد بالاستثناء إلا إن نواه قبل تمام قوله: أنت طالق ثلاثًا (وقطع به جمع. و) تصح نيته (بعده) أي بعد تمام المستثنى منه (قبل فراغه) من كلامه بأن يأتي به ناويًا له عند تمامه قبل أن يسكت (واختاره) أي اختار القول بصحة نيته بعد تمام المستثنى منه قبل فراغه (الشيخ و) تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين"، وقال الشيخ: دل عليه كلام أحمد ومتقدمي أصحابه". 5 - وقال في (5/ 290) (فصل: وإن قال العامي: أَنْ دخلت الدار، فأنت طالق، بفتح الهمزة وسكون النون): "ولا فرق عند الشيخ تقي الدين بين أن يطلقها لعلة مذكورة في اللفظ أو غير مذكورة فإذا يتبين انتفاؤها لم يقع الطلاق. وقال في "إعلام الموقعين": وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره، فإذا قيل له: امرأتك قد شربت مع فلان وباتت عنده، فقال: اشهدوا على أنها طالق ثلاثًا، ثم علم أنها كانت تلك الليلة في بيتها قائمة تصلي، فإن هذا الطلاق لا يقع قطعًا، وأطال فيه. (ولذلك أفتى ابن عقيل في "فنونه" فيمن قيل له: زنت زوجتك، فقال: هي طالق، ثم تبيَّن أنها لم تزن أنها لا تطلق وجعل السبب) الذي لأجله أوقع الطلاق (كالشرط اللفظي وأولى). قال في "الاختيارات": وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأطال فيه. وقال القاضي: تطلق مطلقًا، سواء كانت دخلت أو لم تدخل، وهو ظاهر "المنتهى". ويؤيده نص أحمد في رواية المروذي في رجل قال لامرأته: إن

خرجت فأنت طالق، فاستعارت امرأة ثيابها فلبستها فرآها زوجها حين خرجت من الباب، فقال: قد فعلت أنت طالق، قال: يقع طلاقه على امرأته، فنص على وقوع طلاقه على امرأته مع أنه وإن قصد إنشاء الطلاق، فإنما أوقعه عليها لخروجها الذي منعها منه ولم يوجد. أشار إليه ابن نصر اللَّه في "حواشي القواعد الفقهية"". 6 - وقال في (6/ 308) في آخر (فصل: في أحكام تتعلق بالفتيا): "ولو سأل العامي مفتيين فأكثر، فاختلفا عليه، تخيَّر، صححه في "الإنصاف"، وقال الموفق في "الروضة": لزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه، وقال الطوفي في "مختصرها": والظاهر الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه، وفي "إعلام الموقعين": يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه، وهو أرجح المذاهب السبعة انتهى. والقول الأول اختاره القاضي وأبو الخطاب. قال: وهو ظاهر كلام أحمد، وقطع به المجد في موضع من "المسودة" وقدمه صاحب "الفروع" في "أصوله"". وهنالك نقولات عديدة جدًّا؛ ظفرتُ بها في كثير من كتب فقهاء الحنابلة من كتابنا (¬1)، وفيما ذكرناه كفاية مع التنبه إلى ما أحلنا عليه في مبحث (نسبة الكتاب لمؤلفه) و (ضبط اسمه). ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام: لقد كان لكتابنا هذا تأثير كبير على المنتسبين لمذهب الحنابلة في تقاصر خدمتهم لكتب المذهب، ونقطة تحول في سيرهم إلى الدليل، والأخذ بالدليل من النِّعم السوابغ، ورحمة من اللَّه -سبحانه- ¬

_ (¬1) لا تنس ما قدمناه من تعليقات على بعض النقولات السابقة، وهنالك نقولات في كتاب "دقائق أولي النهى لشرح المنتهى" المعروف بـ "شرح منتهى الإرادات"، فيها تصريح بالنقل من كتابنا هذا في مواطن، منها (كتاب الإجارة) في مبحث (ما تنعقد به الإجارة) و (كتاب القضاء والفتيا) (باب استفتاء الفاسق). ونقل منه يوسف بن عبد الهادي في كتابه "سير الحاثّ" (ص 23 - 26، 37، 37 - 38، 39 - 40، 41، 46 - 48، 63 - 66، 79 ط الأخ العجمي) وكذا ابن مفلح في "المبدع" (7/ 68، 74، 86)، و"تصحيح الفروع" (6/ 281، 428)، والشويكي في "التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح" (2/ 794) وصاحب "منار السبيل" (2/ 206 - ط المعارف أو 3/ 1047 - ط الباز) وصاحب "مطالب أولي النهى" (1/ 5، 49، 665 و 3/ 179، 582 و 4/ 172 و 5/ 127، 375، 407، 444 و 6/ 394 - ط المكتب الإسلامي) في جمع آخرين يعسر حصرهم، ويصعب تعدادهم.

للمتبوع والتابع (¬1). هذا، ولم يقتصر الحنابلة على النقل من كتابنا في مباحثهم الفقهية، وإنما تعداه النقل إلى المباحث الأصولية، وهذه بعض الأمثلة التي تدلل على ذلك: نقل منه الشيخ الفقيه الفتوحي الحنبلي في مواطن من كتابه "شرح الكوكب المنير"، منها (1/ 312، 4/ 526 - 527، 545)، والمرداوي في "التحبير في شرح التحرير" في مواطن أيضًا، منها (8/ 3985، 4005، 4007، 4042، 4043، 4045، 4048، 4099) (¬2). وأكثر ما يظهر أثر هذا الكتاب في هذه الكتب في مباحث (الفتوى) (¬3) و (الاجتهاد) و (التقليد)، بل لا تكاد تجد أحدًا كتب في هذا الموضوع إلا ونقل من كتابنا هذا (¬4)، وأظهر مثال عليه رسالة "مبحث الاجتهاد والخلاف" (¬5) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنها برمتها منقولة من مواطن منه، وكذا "إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار وتحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحميّة والعصبيّة بين فقهاء الأعصار" (¬6) للشيخ صالح بن محمد الفُلَّاني، فإن كثيرًا من مباحثها ونصوصها مأخوذة من كتابنا هذا، وقد صرح المصنف بذلك في مواطن منها، انظرها (ص 57، 99، 103، 107، 115، 120، 156، 162). ويظهر أثر كتابنا جليًّا في كتب الحديث أيضًا، فنقل منه غير واحد من شراح الحديث المتأخرين وسمَّوه "إعلام الموقعين"، مثل: صاحب "عون المعبود"، فأكثر من النقل عنه في موضع تقوية اختياره، كما تراه في (3/ 146، 209 و 4/ ¬

_ (¬1) انظر: "المدخل المفصل" (2/ 613). (¬2) جل هذه المواطن اقترن فيها اسم ابن القيم مع كتابنا "إعلام الموقعين"، وفيها التصريح بذكر اختياراته، والقبول لها، وجلها في مباحث الفتوى. (¬3) نمي إليّ أن (الفتوى) عند ابن القيم في "الأعلام" موضع دراسة بعض الباحثين لنيل الشهادة العالمية من بعض جامعات ماليزيا، وتقدم بيان ذلك. (¬4) انظر: ما قدمناه (ص 35 - 37). (¬5) طبعت أكثر من مرة، أجودها بتصحيح ومقابلة عبد العزيز الرومي وصالح الحسن، وهي ضمن "مؤلفات الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، (القسم الثاني/ الفقه/ المجلد الثاني/ الرسالة الثانية)، بتصحيح ومقابلة عبد الرحمن السدحان وعبد اللَّه الجبرين، وقالا في مطلعها (ص 3): "وهي منقولة باختصار من "إعلام الموقعين" لابن القيم رحمه اللَّه". (¬6) لصاحب هذه السطور تحقيق عليه، يسر اللَّه إتمامه وإظهاره والنفع به.

101 و 6/ 198، 200 و 8/ 5 و 9/ 365، 370 و 10/ 197 و 12/ 228 و 13/ 28 - ط دار الكتب العلمية) وكذلك فعل صاحب "تحفة الأحوذي"، انظر منه: (1/ 29، 34، 201، 409، 479 و 2/ 37، 60، 73، 241 و 3/ 212، 245 و 4/ 383، 386، 465 و 6/ 478 - ط دار الكتب العلمية). بل تجد لكتابنا هذا ذكرًا في الكتب الحديثية التي اعتنت بجمع الأحاديث المتواترة، فنقل منه -مثلًا- الكتاني في مواطن من كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر"، فذكر حديث "الإشارة بالسبابة في التشهد" وقال (ص 107): "وذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أمثلة ترك فيها المحكم للمتشابه، وعد منها هذا. . " ونقل كلامه بطوله، وذكر (ص 212) حديث "إن المدينة حرام" فقال: "ذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه رواها بضعة وعشرون صحابيًا. . " وساق نص كلامه، بل نقل منه ابن حجر في "التهذيب" في زياداته على المزي في ترجمة (يحيى بن أبي إسحاق الهنائي) (¬1) لكلام صاحبه في هذا الراوي. وأما عن المعاصرين، وأثر هذا الكتاب في دراساتهم وأبحاثهم وتحقيقاتهم؛ فأمر لا يخفى على أحدٍ، وهو منتشر جدًّا، وواسع، ونذكر مثالًا واحدًا من أعيان الدراسات المهمة التي لها صلةٌ به، وذِكْرٌ له: * قال الباحث محمد بن إبراهيم في كتابه "الحيل الفقهية في المعاملات المالية" (ص 12) في معرض حديثه عن جهود العلماء في (الحيل)، قال: "أما الكتب القديمة، فهي رغم اغترافها من بعضها لدرجة التشابه، وأحيانًا التماثل غير مستوفية ولا مستوعبة، إذ بعضها أو جلها ينقصه التأصيل والتدليل، فهو يتحدث عن الحيل وكأنه يعلم الناس الفاتحة، على حد تعبير ابن القيم، زيادة على كزازة العبارة وغموضها أحيانًا، وبعد المصطلح الفقهي القديم عن المصطلحات الحديثة، بالإضافة إلى الخلط وعدم التفريق بين أقسام الحيل، وزيادة عن سوء الطبع ورداءة الإخراج، وكثرة الأخطاء المطبعية وغير المطبعية. ويتمثل هذا واضحًا في كتب أعتبرها من مصادري الأصلية مثل: "المخارج في الحيل"، لمحمد بن الحسن الشيباني (¬2)، و"الحيل والمخارج" للخصاف، و"الحيل في الفقه"، للقزويني الشافعي. ¬

_ (¬1) (11/ 157). (¬2) في نسبته إليه شك، وقدمنا من أنكر ذلك (ص 92)، واللَّه الموفّق.

ولا يستثنى من هذا إلا كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم، و"الفتاوى" لشيخه ابن تيمية. فهما قد ربطا بين التأصيل والتدليل، وبين التطبيق، مع حسن الطبع، والإخراج نسبيًا". واستعرض (ص 45 - 47) جهود المستشرقين في نشر كتب (الحيل) التراثية (¬1)، ثم قال (ص 47): "لقد سبق لابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن نشرا كثيرًا من الحيل، ونشرا أدلة أصحابها بنصاعة ووضوح، خاصة ابن القيم الذي عرض أدلة أصحاب الحيل في قوة ونزاهة ونصاعة عبارة حتى لو وقف عندها القارئ غير المتفقه لآمن بأن الحيل من أصول التشريع الإسلامي قطعًا، ولكنهما، يشنان عليها حملة تفنيد ودحض لما لا يجوز منها، في نفس المستوى من القوة والتجرد ونصاعة العبارة وصلابة الحجة، هي في الحقيقة صلابة الحق والجد والبناء، لا الباطل واللعب والهزل والتخريب". ووصف (ص 159) جهد ابن القيم في موضوع (الحيل) بأنه "جهد عقلي خصب" وقال (ص 163) بعد كلام: "رحم اللَّه ابن القيم، فكأنه يتحدث عن زماننا، وما انتشر فيه من مفاسد وجرائم بمجرد تبديل الأسماء" وقال (ص 164): "هكذا يصور ابن القيم مفاسد عصره المتولدة عن حيل النفوس المريضة المتذرعة بالذرائع الفاسدة والحيل المرفوضة، فإذا هو رحمه اللَّه يعفينا من تصوير مفاسد عصرنا، التي هي بعينها، هان اختلفت الصور أحيانًا، والمظاهر والطرق والوسائل أحيانًا أُخرى" وقال (ص 198): "أسلوب ابن القيم أسلوب طلق واضح ومشرق". والأمثلة على استفادة المعاصرين من كتابنا كثيرة، ولكن الذي يذكر أيضًا أن بعضهم انتقد بعض مسائله، كالبوطي (¬2)، والجيدي (¬3)، وسبق (¬4) نقل كلامهما، والإيماء إلى ما فيه. ¬

_ (¬1) انظرها في "معجم الموضوعات المطروقة" (1/ 462 - 463). (¬2) في كتابه "ضوابط المصلحة" (300، 303)، و"فقه السيرة" (337). (¬3) في كتابه "العرف" (315 - 316). (¬4) انظر: (ص 54 ت، 177، 178).

الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه

الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه اعتمدنا في نشرتنا هذه على أربعة أصول خطية، هي: * النسخة الأولى: رمزتُ لها بـ (ك)، وهي نسخة باكستانية (¬1)، محفوظة في مكتبة الشيخ محب اللَّه الراشدي، بمنطقة سعيد آباد، وهي تامة في ثلاثة مجلدات، وهي مقابلة ومتقنة، وخطها واضح مقروء، الأول والثاني بخط الشيخ سليمان بن سحمان، كتبها سنة 1305 هـ، والمجلد الثالث بخط الشيخ عبد العزيز بن صعب بن عبد اللَّه التويجري، فرغ منها سنة 1306 هـ. أوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبه أستعين، ربّ يسِّر وأعن يا كريم". وجاء في آخره: "آخر (المجلد الأول) من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، يتلوه إن شاء اللَّه (المجلد الثاني) وذلك (تحريم الإفتاء في دين اللَّه بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك)، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم. وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الجليل، الذي ليس له في المؤلّفات نظير ولا مثيل بعد العصر من يوم الاثنين لسبع خلت من رجب، من سنة 1305 هـ على يد عبده وابن عبده: سليمان بن سحمان، غفر اللَّه له، ولوالديه وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم. ويتلوه (المجلد الثاني)، وأوله: فصل في تحريم الفتوى في دين اللَّه بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك". وعلى هامشه: "بلغ مقابلة، بحمد اللَّه وحسن توفيقه، على الأصل الذي نسخ منه حسب الطاقة والإمكان". ¬

_ (¬1) أرسلها إليّ الأخ يوسف علي العلياني من دولة الإمارات العربية/ رأس الخيمة. فجزاه اللَّه خيرًا.

وتحته: "قد فرغت من مطالعة هذا الكتاب الشريف، أنا العبد الضعيف محمد فيض الكريم، 19 رجب المرجب/ سنة 1309 هـ، اللهم اغفر لي ولمالك هذا الكتاب وكاتبه، ولمن نظر فيه". ويقع هذا المجلد في (491 ورقة) في كل ورقة (23) سطرًا. وأما المجلد الثاني، ففي أوله، ما نصه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ربِّ يسِّر وأعن يا كريم، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه. قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية -تغمده اللَّه برحمته، وأسكنه بحبوح جنته، آمين". وجاء في آخره: "آخر (الجزء الثاني) من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، يتلوه (الجزء الثالث) إن شاء اللَّه تعالى: (فصل: قال أرباب الحيل)، والحمد للَّه رب العالمين. أنهاه كتابة الفقيرُ إلى ربِّه الرحيم المنان: عبدُهُ سليمانُ بنُ سحمان، وذلك ضحى يوم الثلاثاء، لخمس وعشرين، خلت من رمضان المشرف، من سنة 1305 هـ، والحمد للَّه على التمام، وصلى اللَّه على سيّد الأنام، محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين". ويقع هذا المجلد في (533) ورقة، في كل ورقة (23) سطرًا، وفيه هوامش علمية جيدة، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 50). ترجمة ناسخ المجلد الأول والثاني من هذه النسخة: ناسخ هذين المجلدين، هو: الشيخ العالم الفقيه الحنبلي سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان النَّجْدي، الدَّوسري بالولاء، ولد سنة (1268 هـ - 1852 م) من علماء نجد، ولد في قرية (السَّقَا) -بتخفيف القاف- من أعمال (أبها) في عسير، وانتقل مع أبيه إلى الرياض، أيام فيصل بن تركي، فتلقى عن علمائها التوحيد والفقه واللغة، وتولى الكتابة للإمام عبد اللَّه بن فيصل برهة من الزمن، ثم تفرغ للعلم، وصنف كتبًا ورسائل، منها: "الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق" (في الرد على كتاب لجميل صدقي الزهاوي)، "منهاج أهل الحق والاتباع"، "الفتاوى"، "الصواعق المرسلة"، "إرشاد الطالب إلى أهم المطالب"، "الهدية السنية"، "تبرئة الشيخين"، "رسالة في الساعة" (أنها صناعة لا سحر) (وجميعها مطبوعة)، وكف بصره في آخر حياته،

النسخة الثانية

وتوفي في الرياض سنة (1349 هـ - 1935 م)، رحمه اللَّه تعالى (¬1). وقد نسخ هذا الكتاب في ريعان شبابه، وكان عمره آنذاك سبعة وثلاثين عامًا. وأما المجلد الثالث -والأخير- من هذه النسخة، فهو بخط آخر. أولى: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبه أستعين، وعليه أتوكل، قال شيخ الإسلام والمسلمين، الشيخ شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد ابن قيم الجوزية تغمده اللَّه برحمته وأسكنه فسيح جنته. . . ". وآخره: "آخر كتاب "إعلام الموقعين"، تحررت هذه المجلدة واللتين قبلها على يد أفقر عباد اللَّه وأحوجهم إلى رحمته، المعترف بالزلل والتقصير، الراجي عفو ربه اللطيف الخبير: عبد العزيز بن صعب بن عبد اللَّه التويجري، عفا اللَّه عنه، وعن والديه، وعن جميع المسلمين، آمين، آمين. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، ورضي اللَّه تعالى عن أصحاب رسول اللَّه أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وفق الفراغ من توقيعها وتكميلها في ست وعشرين من شوال، سنة 1306 هـ، وحسبنا اللَّه، ونعم الوكيل". وفي الهامش من جهة اليمين: "أسأل اللَّه الكريم أن يحسن لنا ولإخواننا العاقبة في الدنيا والآخرة". وفيه من جهة اليسار: "بمنّه ولطفه وكرمه وجوده وإحسانه وبره، لأنه الواحد الماجد، الفرد الصمد". ويقع هذا المجلد في (486) ورقة، في كل ورقة ما بين (19 - 23) سطرًا. * النسخة الثانية: رمزتُ لها بـ (ت)، وهي من محفوظات مكتبة تشستربتي في دبلن، بإيرلندا، وهي تحت رقم (2842) ضمن مجموع (¬2) وعلى طرتها: ¬

_ (¬1) ترجمته في "تذكرة أولي النهى" (3/ 247)، "علماء نجد خلال ستة قرون" (1/ 279 - 281) (وسقطت ترجمته من الطبعة الجديدة منه) "الأعلام" للزِّركلي (3/ 126). وصدر عن مكتبة الرشد كتاب بعنوان "الشيخ سليمان بن سحمان وطريقته في تقرير العقيدة" تأليف محمد بن حمود الفوزان. (¬2) فيه: "مختصر في شرح الأربعين" للنووي، و"الاعتقاد" لعبد الغني بن عبد الواحد الجماعيلي، والقطعة هذه من "إعلام الموقعين"، وهي تبدأ منه بورقة (42 ب) وتنتهي بورقة (90).

النسخة الثالثة

"من كتاب "إعلام الموقعين"، في (أدب المفتي)، لابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-". وتحته: "حرره من فضل اللَّه تعالى القوي: أحمد بن يوسف العدوي، لطف اللَّه به، وجعله من حزبه، بمنه ويمنه، سنة 1003 هـ، أحسن اللَّه ختامها". وهذه النسخة تشكل قسمًا من آخر الكتاب، وهي ناقصة، وعليها إلحاقات، وعلامات التصحيح، وهي بخط أكثر من ناسخ، منهم أحمد بن يوسف العدوي، ويقدر أن بعضها نسخ قبل ذلك في القرن التاسع الهجري، وبعضها سنة 820 هـ (¬1). وأول هذه النسخة: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال شيخ الإسلام، أحد الأئمة الأعلام: شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن أبي بكر الزرعي في آخر كتاب "إعلام الموقعين". (فصل): ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى" (¬2). وهي ناقصة من الآخر، وتنتهي بـ (الفائدة السادسة والستين) عند قول المصنف: "هل يلزم المستفتي أن يجتهد في أعيان المفتين. . . " إلى قوله: "وتقدم أنه إذا اختلف عليه مفتيان: أورع وأعلم، فأيُّهما يجب تقليده، فيه ثلاثة. . . " (¬3) وبهذا ينتهي الموجود في هذه النسخة. وتقع في (48) ورقة، في كل ورقة (20 - 22) سطرًا. * النسخة الثالثة: رمزتُ لها بـ (ن)، وهي من محفوظات مكتبة مسجد الحرم النبوي (¬4)، وهي من وقف الشيخ عبد العزيز الحصين -رحمه اللَّه تعالى- وهي مقابلة ومصححة، وهي ناقصة من الآخر، وهي في جزئين، وهذا وصفهما: الجزء الأول: يقع في (108) ورقات، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة (21 - 30) سطرًا، أوله: "بِسْمِ اللَّهِ [الرَّحْمَنِ] (*) الرَّحِيمِ، رب يسّر وأعن يا كريم". ¬

_ (¬1) انظر -غير مأمور-: "تاريخ بروكلمان" (2/ 106، الملحق 2/ 126)، "فهرس المخطوطات العربية في مكتبة تشستربتي" لارثر آربري (2/ 997)، "الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي" (1/ 583). (¬2) انظر: نشرتنا (5/ 40). (¬3) انظر: نشرتنا (5/ 203). (¬4) وعنها مصورة في مكتبة الجامعة الإسلامية، وفي مكتبة الحرم المكي. (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: في المطبوعة [الرحيم]!!، وهو خطأ طباعي، والمُثبت أعلاه من صورة المخطوط التي أوردها الشيخ المحقق ص 269

وآخره: "آخر المجلد الأول من كتاب "معالم الموقعين عن رب العالمين" ثم أثبت الناسخ تحته: "المخلودا ليس لك بربِّ، ولست له بعبدٍ، وليس رِزْقُك ونفعك في يده، فلا يستحقّ شيئًا من حقّ اللَّه أبدًا". وتحته مقولة عمر بن عبد العزيز: "سن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده. . . "، ثم بعدها في رأس الصفحة: "قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (¬1): "في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)}، وأكثر المستعاذ منه نوعان. . . " وذكر الكلام بطوله في تمام (ق 105 و 106 ولوحة أ/ من ق 107) وختمه بقوله: "ويعظمهم في صدوركم، فلا تخافوهم، وأفردوني بالمخافة أكْفيكم إياهم". ثم في (لوحة ب/ من ق 107): "روي عن ابن عباس: إنّ للضلالة حلاوةً في قلوب أصحابها، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} وبعده: "قال ابن القيم في "المدارج": والتوكل معنى يلتئم من الأصلين. . . " إلى قوله: "هذا أحدها" (¬2) ثم قال: "فإن قلتْ ما معنى التوكل والاستعانة. . . " إلى قوله: "كانت له العاقبة الحميدة" (¬3) وبعده: "وقال أيضًا: "لا يكون العبد متحققًا بإياك نعبد إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. والثاني: الإخلاص للمعبود فهذا تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " (¬4) وفيه: "قال أيضًا في غيره (¬5): "التوكل من لوازم الإيمان" قال اللَّه تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعل التوكل شرطًا في الإيمان، فدل على أن الإيمان منتف إذا انتفى التوكل: قول موسى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعل صحة الإسلام التوكل". ثم ذكر الناسخ ملخَّصًا لمباحث الكتاب، فأثبت ما نصه: "بان لي من كلام ابن القيم في كتابه: "إعلام (¬6) الموقعين عن رب العالمين": وأنه -كذا- تجريد اتباع الكتاب والسنة، وذكر أجوبة من اعترض عليهن، فذكر كلام أهل الرأي، وكلام أهل الظاهر، ونفاة التعليل، وردّ عليهم مسائل ظنوا أنها خلاف القياس، وبيَّن لهم الصواب، وذكر تحريم القول على اللَّه ¬

_ (¬1) (2/ 204 وما بعد) وانظره في "بدائع التفسير" أيضًا (5/ 386 - 425). (¬2) "مدارج السالكين" (1/ 75 - ط الفقي). (¬3) "مدارج السالكين" (1/ 82 - ط الفقي). (¬4) "مدارج السالكين" (1/ 83). (¬5) المذكور في "طريق الهجرتين" (237 - 238). (¬6) رجع فسماه "إعلام" مع أنه أثبت على طرته: "معالم الموقعين"، وانظر ما قدمناه بشأن تسمية الكتاب واللَّه الموفق.

بلا علم، وذكر التقليد المذموم، والممدوح. ثم ذكر تحريم الإفتاء بما يخالف النَّصَّ، وسقوط الاجتهاد والتقليد معه، ثم ذكر أكثر من سبعين مسألة خولف فيها المحكم، واتبع المتشابه". وفي أول (لوحة أ/ من ورقة 108) كلام فيه بيان لمباحث الكتاب، وهذا المزبور ما فيه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذكر ابن القيم رحمه اللَّه في هذا الكتاب، أنواعاً من الأصول والمهمات: النوع الأول: مرتبة الدعوة إلى اللَّه والتبليغ عن رسوله وأنواعها. النوع الثاني: ذكر أهل هذه المرتبة، فبدأ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وختم بأحمد بن حنبل رحمه اللَّه وذكر أن فتواه تدور على خمسة أصول، وذكر في هذا تحريم القول بلا علم، وتشديد السلف في الفتيا. النوع الثالث: ذكر الكلام في الرأي المذموم والممدوح، والأدلة والآثار، وأطال في ذلك، وشرح في هذا النوع كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- لأبي موسى، فذكر في شرحه: النوع الرابع: وهو القياس الصحيح، وأدلته، والقياس الفاسد، وأدلة بطلانه، وأطال القول في ذلك، ثم ذكر في شرح الحديث: النوع الخامس: وهو الاكتفاء بالنص، وذكر مسائل اختلف السلف فيها، وقد بيّنه القرآن، ثم ذكر: النوع السادس: وهي المسائل التي زعم بعض الناس أنها خلاف القياس، ثم لما فرغ من شرح الحديث، ذكر بعده: النوع السابع: وهو تحريم الإفتاء بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك، ثم ذكر: النوع الثامن: وهو الفرق بين ما يجوز من التقليد وما لا يجوز. ثم ذكر: النوع التاسع: وهو مناظرة بين مقلد وصاحب حجة (¬1)، ثم ذكر: النوع العاشر: وهو تحريم الإفتاء بما يخالف النّص، وسقوط الاجتهاد والتقليد معه، ثم ذكر في هذا أكثر من سبعين مسألة، خولف فيها المحكم، واتبع ¬

_ (¬1) أفرد بعض معاصرينا هذا النوع برسالة، استلَّها -برمتها- من كلام ابن القيم رحمه اللَّه.

فيها المتشابه، ورد في أثنائها على من رد بعض السنة، لزعمه أنها زائدة على القرآن بإحدى وخمسين وجهًا، ثم ذكر: النوع الحادي عشر: وهي مسائل يختلف الجواب فيها باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة، وفيها: مسائل (الأيمان والنذور) والأقارير، ومن جملتها: مسألة (الثلاث (¬1) المجموعة) ومسألة (الحلف بالطلاق) و (العتاق) و (الحرام) وغير ذلك، ثم استطرد إلى ذكر: النوع الثاني عشر: وهو سد الذرائع، وتحريم الحيل، وأطال جدًّا، ثم ذكر: النوع الثالث عشر: وهو وجوب الاقتداء بأقوال الصحابة، وأطال جدًّا، ثم ذكر: النوع الرابع عشر: وهو فوائد كثيرة، يحتاج إليها المفتي والمستفتي، وفضَّلها فائدة فائدة. ثم ختم الكتاب بذكر فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي كل نوع من هذه الأنواع الخمسة عشر من نفائس المسائل، وأوضح الدلائل، ما يجل عند أهله، وإن جهله من ليس منهم، والحمد للَّه رب العالمين". من كلام الشيخ محمد (¬2) غفر اللَّه له ورحمه". وتحته ما نصه: "ذكر أنّ من أسباب النصر والرزق: التوكل والإخلاص، ودعاء المؤمنين، وكون يعرف لطلب الرزق أسباب فهذا من أعظم الأسباب". وفي (ورقة 108/ ب) بخط مغاير نقل من "الداء والدواء" لابن القيم، وهذا صورة المزبور: "من "الداء والدواء" (¬3) لابن القيم: وفي "سنن ابن ماجه" (¬4) من حديث عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهما-، قال: كنتُ عاشر عشرةِ رهط من المهاجرين عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأقبل علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين! خمسُ خصال. . . " وذكر الحديث بتمامه، وبعده: "وذكر (¬5): ¬

_ (¬1) أي: الطلاق. (¬2) يريد الأمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اللَّه تعالى. (¬3) (ص 70 - 71/ ط دار ابن الجوزي). (¬4) (برقم 4019) بسند فيه ضعف، والحديث صحيح، خرجته بتفصيل في تعليقي على "الموافقات" (1/ 369 - 370)، وانظر: "السلسلة الصحيحة" (106 - 107). (¬5) أي ابن القيم في "الداء والداء" (71 - 72 - ط دار ابن الجوزي).

ابن أبي الدنيا (¬1) عن إبراهيم الصنعاني قال: أوحى اللَّه إلي يُوشَعَ بن نون: إني مُهْلِكٌ من قومك أربعين ألفًا من خيارهم، وستين ألفًا من شرارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يُواكلُونَهم ويُشارِبُونَهم". يعني: لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر". الجزء الثاني من هذه النسخة: على طرة هذا الجزء ما نصه: "الجزء الثاني من "معالم الموقعين عن رب العالمين" تصنيف الشيخ الإمام أبي عبد اللَّه إمام الجوزية، قدس اللَّه روحه، ونوّر ضريحه، آمين يارب، يارب العالمين". ثم على يساره: "العلم قال اللَّه قال رسوله ... قال الصحابةُ ليس خُلْفٌ فيه" وتحته: "وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: جلستُ مع. . . على الكرسي في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته، قلت: إنّ صاحبَيْكَ لم يفعلا، قال: هما المرآن أقتدي بهما. وفي لفظ: لقد هممتُ أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتُه بين المسلمين، فقلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرآن يُقتدى بهما، أخرجاه (¬2). . . ". ثم هناك فوائد موجودة في الكتاب، كقول مالك بن دينار، وقول عمر بن عبد العزيز، وعليه أيضًا: "إن الفقيه هو الفقيه بفعله، وكذا الغني هو الغني بقلبه، وكذا الرئيس هو الرئيس بخلقه" و"ليس الفقيه بنطقه ومقاله، ليس الغني بملكه وبماله، ليس الرئيس بقومه ورجاله" وعليه: "قال الشافعي: رتبة العلم: الورع والعلم" ثم عليه شعر له غير واضح. وقبل ما على طرته نقل طويل جدًّا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا صورته: ¬

_ (¬1) في كتابه "الأمر بالمعروف" (رقم 71) ونقل نحوه البيهقي في "الشعب" (9428). (¬2) كذا بياض هنا.

النسخة الرابعة

"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، منقول من جواب للشيخ تقي الدين: الأعمال الظاهرة لا تكون مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فالقلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا خبث الملك خبث جنوده، ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-:. . . " إلخ ما فيه. وأول المخطوط: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رب يسّر وأعن برحمتك يا كريم، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية تغمّده اللَّه تعالى برحمته: ذكر حرمة الإفتاء في دين اللَّه بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك. . . ". وآخره: أبيات شعر ليحيى بن معاذ، كان ينشدها في مجالسه. وعلى الهامش ما نصه: "ومن فعل الكبائر، وأصرّ عليها، ولم يتب منها، فإن اللَّه يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يقوله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، من كلام ابن تيمية". ويقع هذا الجزء في (229 ورقة) في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة (24 - 29) سطرًا. ومما ينبغى ذكره بخصوص هذه النسخة: أولًا: إنها نسخة مقابلة، ففي هوامشها إلحاقات وتصويبات. ثانيًا: لم يذكر اسم ناسخها، إذ هي ناقصة من الآخر، ولكنه يبدو من أهل العلم، إذ أثبت هوامش وعناوين وتنبيهات تنبئ عن ذلك. ثالثًا: كان الناسخ يختصر ويحذف أحيانًا، وكان يشير إلى ذلك، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 88، 92، 94، 95، 114، 134،. . .). * النسخة الرابعة: ورمزت لها بـ (ق)، وهي من محفوظات المعهد العلمي بحائل (¬1)، وهي نسخة متأخرة، على هوامشها تصحيحات وإلحاقات، أولها أبيات من نونية ابن القيم، والمثبت في أول الكتاب ما نصه: "وقف للَّه تعالى، لا يباع ولا يورث. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عونك يا رب! ". وعلى طرته: "كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، تأليف الشيخ شمس الدين ¬

_ (¬1) أشكر الأخ الوفي مدير المعهد العلمي بحائل الشيخ سعيد بن هليل العمر -حفظه اللَّه- على إرساله هذه النسخة، فجزاه اللَّه خيرًا وبارك فيه.

العالم العلامة محمد بن أبي بكر، المعروف بـ (ابن قيم الجوزية) رحمة اللَّه عليه". وتحت هذا العنوان على جهة اليسار: "قال عمر بن ذر: صعد عمر بن عبد العزيز يومًا المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: إنما يريد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشد من الجهل، ولا داء أشد من الذنوب، ولا خوف أخوف من الموت، ثم نزل". وهذه النسخة ناقصة من آخرها، فلا يوجد فيها ما يتعلَّق بفتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي تنتهي بالفائدة السبعين (¬1) من الفوائد المتعلقة بالفتوى، ثم فيها: "ويتلوه فصل. . . ". وعلى الهامش: "بلغ مطالعة". وفي جهة اليمين تحته: "ذكر أنه عزل أمير في زمن ابن جرير، وولّى من هو أصلح منه، وكذلك القاضي، وذكر لابن جرير فقال: أظنّ هذا لا يتمّ، لأن الأمر ينقص، ولا تمّ، بل عزل القاضي، وقتل الأمير". وتحته: "ومما قيل في شمس الدين ابن القيم رحمه اللَّه: ولا غرو إنْ نقد المذاهب ناقد ... خبير بَزَيْف القول منها وجيّدِه وميزانه القرآن والسنة التي ... أبانت لنا الدين الحنيفي في يده وكيف لا؟! وهو العليم بمعضل ... الحديث وبالموقوف منه ومسنده" وتقع هذه النسخة في (765) ورقة في كل ورقة (30) سطرًا، ولم يذكر عليها اسم الناسخ ولا تأريخ النسخ، وهي مشوّشة الترتيب، وفيها سقط قليل، انظر -مثلًا-: (2/ 39 و 4/ 443). وفي هوامشها فوائد علمية قوية، وتفسير غريب، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 202، 380، 401 و 2/ 89، 102، 103، 106، 226، 265، 352، 407، 408، 424، 465، 490، 503، 243 و 3/ 158، 192، 225، 345، 409، 422 و 4/ 103، 209، 335، 438 و 5/ 17، 84، 85، 96، 150، 178) بل فيها ما يدلل على أن لناسخها معرفة قوية بآراء ابن القيم، انظر -مثلًا-: (4/ 279 و 5/ 178). ¬

_ (¬1) تقابل ما في (5/ 208) من نشرتنا هذه.

هذه هي النسخ الخطية (¬1) التي اعتمدنا عليها في تحقيق هذا الكتاب. ¬

_ (¬1) وهنالك نسخ خطية كثيرة للكتاب، لم أظفر بها، وهذا ما وقفتُ عليه منها: 1 - نسخة من المجلد الثاني في الجمعية الأسيوية/ كلكتا، بخط محمد بن محمد الواسطي المقدسي الشافعي (774 هـ - 1372 م) في (218) ورقة، برقم [45 ana LLL 165] وفيها نسخة أخرى في (129) ورقة، برقم (164) منسوخة في القرن الثالث عشر الهجري، وفيها المجلد الثالث في (247 ورقة) برقم (165) كذا في "فهرس المخطوطات العربية والفارسية في مكتبة مدرسة كلكتا" (1/ 290) لكمال الدين أحمد. م. عبد المقتدر، منشور سنة 1905 م، وفيه: "إعلام الموقعين في -كذا! - رب العالمين"! 2 - نسخة من المجلد الثاني أيضًا في المكتبة الأزهرية/ القاهرة، كتبت سنة 950 هـ في (263) ورقة تحت رقم [(563) 8719] ومن المجلد نفسه نسخة في المكتبة نفسها، تحت رقم [(564) 23112]، في (243) ورقة، منسوخة سنة 1238 هـ - 1822 م بخط علي التميمي، كذا في "فهرس الكتب الموجودة في المكتبة الأزهرية" (3/ 7). 3 - نسخة محفوظة في مكتبة طوبقبو سراي/ إستانبول في (357 ورقة) تحت رقم [1120 - A (4662)]، منسوخة في القرن العاشر الهجري، كما في "فهرس المخطوطات العربية في طوبقبو سراي" (34/ 2/ 743). 4 - نسخة محفوظة في مكتبة الدولة/ برلين، في (20 ورقة)، تحت رقم [217، lbg (4819)] منسوخة نحو سنة 1100 هـ، وفيها أيضًا تحت رقم [752، lbg (4820)] أوراق ضمن مجموع (ق 88 - 98)، كذا في "فهرس المكتبة" (4/ 261). 5 - نسخة في مكتبة الأوقاف العامة ببغداد في مجلدين، بخط عباس العذاري الحلبي، منسوخة سنة 1304 هـ، في (240 ورقة) و (263 ورقة) رقمهما (6854، 6855)، وفيها نسخة مخرومة الآخر، عليها تملك سنة 955 هـ، برقم (2805) (320) ورقة. 6 - نسخة محفوظة في المكتبة الأحمدية بتونس، تحت رقم (3313)، كذا في "دفتر الخزانة الأحمدية بجامع الزيتونة" (109). 7 - نسخة في المكتة السعودية بدار الإفتاء بالرياض، وهي عبارة عن الجزء الثاني منه. 8 - ومن المجلد الثاني نسخة بخط محمد بن علي بن الملّا أحمد في المكتبة القادرية ببغداد، في (172) ورقة، تحت رقم (521) وفيها أيضًا المجلد الأول في (268 ورقة) تحت رقم (520)، كذا في "الآثار الخطية في المكتة القادرية" (2/ 346 - 347). 9 - ومن المجلد الأول نسخة في دار الكتب المصرية بالقاهرة، تحت رقم (19)، كذا في "فهرس دار الكتب المصرية" (1/ 378)، وفي الخزانة الخديوية بدار الكتب قطعة من الكتاب، كما في "فهرسها" (2/ 237). 10 - ومن المجلد الأول نسخة في المكتبة الملكية بإستانبول، تحت رقم (1/ 821) وكذلك من المجلد الثاني تحت رقم (2/ 821)، كذا في "دفتر علي أميري أفندي" (37). =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = 11 - وفي المكتبة المحمودية بالمدينة النبوية نسختان، كل منهما في ثلاث مجلدات، الأولى بالأرقام (1452 - 1454)، والأخرى بالأرقام (1467، 1397، 1398) وعنهما صورة بمركز إحياء التراث بجامعة أم القرى بمكة، أرقامها (188 - 191) و (149 - 150). 12 - ووقفت بعد تنضيد الكتاب على نسخة بخط الآلوسي، صورتها من العراق، سأعمل -إن شاء اللَّه تعالى- على مقابلتها على الكتاب في الطبعة القادمة، واللَّه الهادي والموفق.

صورة عن الورقة الأولي من الجزء الأول من نسخة (ك).

صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة (ك).

صورة عن الورقة الأولي من الجزء الثاني من نسخة (ك).

صورة عن الورقة قبل الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة (ك).

صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة (ك).

صورة عن الورقة الأولي من الجزء الثاني من نسخة (ك).

صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الثالث من النسخة (ك).

صورة عن طرة الغلاف من نسخة (ت).

صورة عن الورقة الأولي من النسخة (ت).

صورة عن الورقة الأخيرة من النسخة (ت).

صورة عن الورقة الأولى من الجزء الأول من نسخة (ن).

صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة (ن).

صورة عن طرة غلاف الجزء الثاني من نسخة (ن).

صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة (ن).

صورة عن طرة الغلاف من نسخة (ق).

صورة عن الورقه الأولي من نسخة (ق).

صورة عن الورقة الأخيرة من نسخة (ق).

أشهر طبعات الكتاب وتقويمها

أشهر طبعات الكتاب وتقويمها: أما المطبوعات، فقد حرصت على النظر في جميعها، واعتنيت عناية خاصة بالآتي منها: الأولى: طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد ورمزتُ لها بـ (د)، وهي في أربعة مجلدات، وعليها تعليقات من رأس القلم، جلها في بيان الغريب، ولذا أَثْبَتَ على طرتها: "حققه، وفصّله، وضبط غرائبه، وعلق حواشيه: محمد محيي الدين عبد الحميد، عفا اللَّه تعالى عنه". وأول ما ظهرت هذه الطبعة سنة 1374 هـ بمطبعة السعادة بمصر، ولم يذكر النسخ التي اعتمد عليها، والراجح أنه اعتمد على نشرة ظهرت سنة 1325 هـ - 1907 م في ثلاثة أجزاء (¬1)، عن مطبعة فرج اللَّه الكردي (¬2)، إذ التطابق كبير بين ¬

_ (¬1) الكتاب في أصله ثلاثة مجلدات، كما ذكر ابن رجب والداودي، وقد تقدم ذلك. (¬2) حصلتها بالتصوير من دار الكتب المصرية، وهي فيها برقم (28406/ ب) وعلى طرتها: "كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، من تأليف الإمام الكبير، والحافظ الشهير سيف اللَّه على أعناق المبتدعين، وسهمه الصائب لأفئدة المارقين، شمس الدين اْبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر، المعروف بـ (ابن قيم الجوزية) المتوفى سنة (751) هجرية" وتحته: "طبع بمعرفة صاحب الهّمة العلية، والسيرة المرضية حضرة الفاضل الشيخ (!!) فرج اللَّه زكي الكردي الأزهري، بمطبعته الجديدة، ذات الأدوات الباهرة العديدة، التي مركزها مصر القاهرة، بجوار المشهد الحسيني صاحب النفحات الطاهرة (!!)، وفقه اللَّه لكل عمل مبرور، وسعي مشكور، وجعل تجارته لن تبور، على ممر الأيام والدهور، آمين". قلت: هذه الطبعة خالية من العناوين الفرعية، ومن الهوامش بالكلية، إلا النزر القليل جدًّا، المكتوب على جانبيها لا في أسفلها. واسم مطبعة فرج هذا الذي نشرت كتابنا (مطبعة كردستان العلمية): أنشأها فرج اللَّه زكي الكردي، بدرب المسمط، بحي الجمالية، بالقرب من بيت القاضي، نحو سنة 1326 هـ - 1908 م، بدأ نشاطه في النشر قبل ذلك، فقد أنفق بالاشتراك على طبع "شروح التلخيص" في البلاغة بمطبعة بولاق سنة 1317 هـ وبقي مستمرًا في هذا النشاط، فنشر كتابنا هذا سنة 1325 هـ - 1907 م، إلى أن أسس مطبعته، بعد طبع كتابنا هذا بسنة واحدة. فرج اللَّه زكي الكردي هذا كان يصف نفسه في أوائل بعض مطبوعاته بهذه الصفات: "وكيل الشركة الخيرية لنشر الكتب العالمية الإسلامية، من طلبة العلم بالأزهر الشريف"، وهو أحد أركان البهائية بمصر. ولد في بلاد الأكراد، جهة جبال العراق الشمالية، ونشأ بها، ثم هاجر إلى مصر، وأقام بالقاهرة، والتحق بالأزهر الشريف، لكنه طرد منه بعد سنوات، بسبب اعتناقه مذهب البهائية. ومن الكتب التي ألفها وطبعها لترويج مذهبه: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كتاب سماه "بشرى العالم بترك المحاربات واتفاق الأمم"، يتضمن البشارات الإلهية والبراهين العقلية بقرب حصول السلام بين الأنام. طبع هذا الكتاب سنة 1329 هـ - 1911 م. ويقول يوسف إليان سركيس، تعليقًا على مضمون ذلك الكتاب: "لم يمض زمن طويل من ظهور هذا الكتاب حتى شبت الحرب الكونية (العالمية) فأخطأ المؤلف مرماه، ولا يعرف الغيب إلا المولى -سبحانه وتعالي-، وكان المؤلف زعم أن انتشار البابية (وهي أصل البهائية) في الكون سيؤول إلى اتفاق الأمم". ومهما يكن من أمر، فقد اشتغل هذا الرجل -فرج اللَّه زكي الكردي- بتجارة الكتب، ونشر المخطوطات العربية، وكانت له مكتبة بالصنادقية بالأزهر، وأخرى بحوش عطا بالجمالية، لبيع الكتب والاتجار بها. وقد توفي سنة 1359 هـ - 1940 م تقريبًا. وقد نشر بمطبعته هذه طائفة من كتب التراث، على منهج علمي مقارب، منها كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة 1326 هـ - 1908 م، بتصحيح علامة العراق محمود شكري الآلوسي، صاحب "بلوغ الأرب في أحوال العرب"، و"الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر". ومن مطبوعات كردستان أيضًا "الدرر اللوامع على همع الهوامع" للسيوطي، تأليف أحمد بن الأمين الشنقيطي، على نفقة أحمد ناجي الجمالي، ومحمد أمين الخانجي، سنة 1328 هـ - 1910 م، و"فتاوى ابن تيمية" 1329 هـ - 1911 م، أفاده الأستاذ العلامة محمود الطناحي في مقالته "أوائل المطبوعات العربية بمصر" المنشورة ضمن كتاب "ندوة تاريخ الطباعة العربية" (ص 400 - 401). ومن الجدير بالذكر هنا: إن كتابنا "الإعلام" قد طبع -قبل- سنة 1313 هـ - 1895 م، في دلهي بالهند في جزئين، وطبع -بعد- في القاهرة، عن محمد أدهم سنة 1929 م في جزئين أيضًا، وكان قد ظهر أيضًا سنة 1913 في باريس بتحقيق وترجمة فرنسية بقلم محمود فتحي، أفاده محمد ماهر حمادة في كتابه "رحلة الكتاب العربي إلى ديار الغرب" (2/ 126). وقام الشيخ فخر التُّجار مقبل بن عبد الرحمن الذكير (ت 1341 هـ) (أصله من عنيزة - القصيم، وبيوته التجارية في البحرين، ومحل إقامته في جُدّة والبصرة) بطبع هذا الكتاب أيضًا، انظر "علماء نجد خلال ثمانية قرون" (6/ 428). - ومن أواخر طبعاته: طبعة دار الكتاب العربي بتحقيق محمد المعتصم باللَّه البغدادي، في سنة 1416 هـ - 1996 م، وهي في أربعة مجلدات، وعمل محققه -وأثبت قبل اسمه: ضبط وتعليق وتخريج- على التعليق على الغريب وعزو بعض الأحاديث إلى مصادرها دون مراعاة قواعد التخريج. ففاته العزو إلى "الصحيحين" أو أحدهما، ونزل إلى الأدون منهما، وترك تخريج أحاديث كثيرة، كما تراه في طبعته -مثلًا-: (1/ 236 - 237)، والمخرج منه -جله- عزو دون حكم عليه. =

هاتين النشرتين من حيث المضمون. وفي بعض المواطن يقارن بقوله: "فى نسخة" وظفرتُ بأشياء صرح فيها بتخطتئها وهو المخطئ، انظر (5/ 12). الثانية: طبعة عبد الرحمن عبد الوهاب الوكيل ورمزت لها بـ (و)، وهي في أربعة مجلدات، وعليها تعليقات يسيرة، تتشابه في كثير من الأحيان مع تعليقات الطبعة السابقة، إلا أن هذه الطبعة امتازت بميزات -كما هو مثبت في أولها (ص ج) - وهي: - "تصويب الآيات القرآنية، وترقيمها، مع ذكر السورة. - ضبط الأعلام والكلمات اللغوية. - تخريج العشرات من الأحاديث المهمة (¬1). - شرح ما غمض من الكلمات والمصطلحات، ومراجعته على المصادر الأصلية. - وضع عناوين كثيرة في صلب الكتاب تسهيلًا للقارئ. - إصلاح بعض أغلاط المحققين السابقين. - وضع ما سقط من النسخة الأصلية للكتاب، وهو منقول عن أستاذه ابن تيمية. - مراجعة نقول ابن القيم على مصادره التي نقل عنها، وأهمها: "فتاوى ابن تيمية". - تصحيح الكتاب تصحيحًا فنيًا دقيقًا". قال أبو عبيدة: لم يعتمد الوكيل رحمه اللَّه على أصول خطيّة، وإنما اعتمد على ¬

_ = - وله تعليقات أصولية صلتها بالذي عند المصنف ضعيفة، ويظهر منها تعقب في غير محله؛ انظر -على سبيل المثال-: زعمه أن ابن القيم يرفض قسم المكروه من أقسام الحكم الشرعي في (1/ 52)! وهذا ليس بصحيح، وكذا تعقبه عند تقرير أن مذهب أبي حنيفة تقديم الحديث الضعيف على القياس والرأي في (1/ 82)، وله تعقبات على ابن القيم ليست في محلها، انظر من طبعته: (3/ 35، 157، 196، 215، 283 و 4/ 41، 57، 142، 344). - ومن الطبعات التي لم أظفر بها، طبعة مكتبة النهضة المصرية، سنة 1970 م، بتحقيق عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، وإشراف محمد أبو الفضل إبراهيم. وانظر: "ذخائر التراث العربي" (1/ 220)، و"معجم المطبوعات العربية والمعربة" (1/ 223). (¬1) لي كلمة حول هذا في (تقويم الطبعات السابقة).

الطبعة السابقة، وظهر له فيها نقص فأتمَّه، وقد أفصح عن ذلك تحت قوله: (عملي في الكتاب) (¬1)، وهذا نص كلامه بتمامه: "أرى أن أهم عمل لي هو تصويب ما وقعت فيه جميع الطبعات السابقة من أخطاء قاتلة في الآيات القرآنية، وليست هي أخطاء مطبعية، وإنما هي أخطاء من الناسخ، ولم يتوجه فكر واحد من الذين أشرفوا على الطبعات السابقة إلى تصويب هذه الأخطاء -مثال ذلك ما ورد في (ص 236 ج 4) (ويوم القيامة يناديهم) صوابها {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ}، وما في (ص 252 ج 4) (وأما الذين في قلوبهم زيغ) صوابها {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ص 370 (أقم الصلاة) صوابها: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ}، ولا أستوعب، وإنما أضرب المثل. ثانيًا: ترقيم الآيات القرآنية مع ذكر اسم السورة، فكل الطبعات السابقة خلت من هذا، وبهذا الترقيم نضمن ألا نخطئ في الآيات القرآنية، فينقلها عنا التلاميذ والقارئون بخطئها، فيلعننا اللَّه والملائكة والناس. ثالثًا: ضبط الأعلام والكلمات اللغوية ضبطًا دقيقًا، ولم تأت الطبعات السابقة بشيء من هذا، سوى الطبعة الأخيرة فقد قامت بضبط بعض الأعلام وبعض الكلمات. رابعًا: تخريج العشرات من الأحاديث المهمة، ولم تأت طبعة سابقة بشيء من هذا. خامسًا: شرح ما غمض من الكلمات والمصطلحات -شرحًا دقيقًا- رفضت فيه الاعتماد على الذاكرة أو الحافظة، ورجعت إلى المصادر الأصلية الأصيلة لهذا، ونقلت عنها نقلًا دقيقًا. سادسًا: جعلت الكتاب مفصلًا ذا عناوين كثيرة في صلب الكتاب، حتى لا تخرج عين القارئ عن سبيلها إلى جهة أخرى. سابعًا: أصلحت بعض أغلاط المحققين السابقين كما حدث في مسألة بيع الجمع بالدراهم، فقد ظن محقق فاضل جليل أن الجمع هي الجميع، فغيّرها إلى هذا فصارت: بع الجميع في كل مواطنها من الكتاب، والصواب: الجمع، فالجمع: التمر الرديء. ¬

_ (¬1) صفحة (س، ع) من المقدمة.

كما خطأ المحقق قول ابن القيم أن البخاري صدّر بحديث "إنما الأعمال بالنيات" كتاب إبطال الحيل. فقال المحقق: إنما صدّر به "صحيحه" فقط. والحق أن البخاري صدّر بهذا الحديث "صحيحه"، وصدّر به أيضًا كتاب (إبطال الحيل). كما كتب المحقق الفاضل عن مسألة التورق أنه لم يظهر له وجهه، وقد رجعت إلى ابن تيمية الذي وجدت المؤلف ينقل عنه، فنقلت عنه ما كتب عن التورق، وهي مسألة ربوية محرمة. ثامنًا: وضعت ما سقط من النسخة الأصلية للكتاب، وما ظهر مكانه خاليًا من الطبعات السابقة، ولم أضع الساقط من عندي، وإنما -كما ذكرت مرارًا- وجدت ابن القيم ينقل عن أستاذه الإمام ابن تيمية بالنص، فنقلت عنه ما سقط من الناسخ، وما أشارت إليه الطبعات السابقة أنه ساقط، وأشرت إلى ذلك في الهامش. تاسعًا: راجعت أكثر نقول ابن القيم في "الأعلام" على مصادره التي عنها نقل، ومصدره الكبير "فتاوى الإمام ابن تيمية"، فهو ينقل عنها نقلًا صريحًا باللفظ والمعنى، فاستقامت نصوص "الأعلام" بهذه المراجعة، وقد أشرت إلى ذلك في هوامش الكتاب" انتهى. وقد قام بهذا التحقيق وهو في إجازة علمية من قسم الدراسات الإسلامية العليا، بمكة المكرمة، في الفترة ما بين ربيع الآخر وجمادى الآخرة سنة (1389 هـ)، أو بين يوليو وأول سبتمبر سنة 1969 م (¬1). وأثبت على طرتها ما نصه: "إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام الجليل ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751 هـ)، تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل، أستاذ العقيدة بقسم الدراسات الإسلامية العليا، بكلية الشريعة، مكة المكرمة" ونشرتها دار الكتب الحديثة، في القاهرة، وقدم لها اثنان من علماء ذلك العصر: الأول: الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف رحمه اللَّه تعالى، كتب له في 10 رمضان سنة 1389 هـ - 20 نوفمبر سنة 1969 م، ما نصه: "نحمد اللَّه تعالى على كثير نعمه، ونصلي على سيدنا محمد شمس الهداية ونبراس المعرفة. ¬

_ (¬1) صرح بذلك في صفحة (ف) من مقدمته للكتاب.

وبعد: فقد نظرتُ في الطبعة الجديدة لكتاب "إعلام الموقعين" لابن قيم الجوزية، التي نشرتها "دار الكتب الحديثة" فوجدتها طبعة تامة كاملة، بها استدراك ما نقص من النصوص في سائر الطبعات قديمها وحديثها، ولقيت بها عناية بتحرير النصوص من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبها ضبط كثير من غريب الألقاب والمواضع والغريب من اللغة، ولذا كانت هذه الطبعة أنفع الطبعات وأسلم النسخ من التحريف، وأكملها نصًا وضبطًا. نفع اللَّه بها دارسها، ووفق طالبها للعمل بها، والحمد للَّه" (¬1). الثاني: الشيخ العلامة الفقيه السيد سابق -رحمه اللَّه تعالى-، فله كلمة مثبتة في أول هذه الطبعة جلها عن ابن القيم، ولم يتعرض لهذه الطبعة ولمحققها بذكر أو تنويه، وقبل كلمته ما نصه: "مقدمة بقلم الأستاذ الشيخ السيد سابق" وهذا نص كلمته على طولها (¬2): الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ابن القيم هو محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي ثم الدمشقي، الملقب بشمس الدين، والمكنى بأبي عبد اللَّه، والمعروف بابن قيم الجوزية، والجوزية مدرسة كان أبوه قيِّمًا عليها. وقد ولد ابن القيم في 7 من صفر سنة 691 هـ، ونشأ في بيت علم وفضل، وتلقى علومه الأولى عن أبيه، وأخذ العلم عن كثير من العلماء الأعلام في عصره، وله في كل فن إنتاج قيم. وإلى جانب علمه كان يذكر اللَّه ذكرًا كثيرًا ويقوم الليل، وكان سمح الخُلق، طاهر القلب، وقد أعجب بابن تيمية إذ التقى به سنة 712 هـ ولازمه طول حياته، وتتلمذ عليه، وتحمَّل معه أعباء الجهاد، ونصر مذهبه، وحمل لواء الجهاد بعد وفاة شيخه ابن تيمية سنة 728 هـ، وظل يخدم العلم إلى أن توفي ليلة الخميس 13 من رجب سنة 751 هـ. ¬

_ (¬1) صفحة (هـ) من المقدمة. (¬2) آثرتُ إثباتها، ليستغني الناظر في نشرتنا هذه عن الطبعات السابقة، وانظر ما سيأتي تحت عنوان: (عملنا في هذه النشرة).

وكان رحمه اللَّه بحرًا زاخرًا بألوان العلوم والمعارف، وكان مبرزًا في فقه الكتاب والسنة وأصول الدين واللغة العربية، وعلم الكلام، وعلم السلوك، وعبارات المتصوفين، وغير ذلك، وقد انتفع الناس به وتتلمذ عليه العلماء، ولا تزال مؤلفاته حتى اليوم مصادر إشعاع ومنارات توجيه. وعالم هذا شأنه لا بد أن يكون موضع إعجاب المنصفين، ومثار حقد الأعداء والحاسدين، فلقد كان مستقل الشخصية، لا يصدر رأيه في المسائل إلا بعد الوقوف على ما قالته الطوائف المختلفة، والنظر بعين فاحصة، ورأي ثاقب ينفي به الباطل، ويؤيد به الحق الذي يراه، جديرًا بأن تسلط عليه الأضواء، ومن هنا قام مذهب ابن القيم على الانتخاب، بمعنى أنه لا يتبع مذهبًا معينًا، وإنما ينشد الحق أينما وجد، ويحارب الباطل أينما وجد، دون أن يتأثر بارتباطات نفسية أو اتجاهات من أي نوع كان، إلا الارتباط بالحق، وبالحق وحده. وذلك الاتجاه يتمشى مع إصراره على محاربة التقليد الأعمى، والحرص على دعم اتجاهاته وآرائه بالكتاب والسنة، ومحاربة التأويل المستجيب للأهواء. ومن هنا التقى مع السلف في ترك التأويل، وإجراء ظواهر النصوص على مواردها، وتفويض معانيها إلى اللَّه تعالى، وقد كان يستهدف إخراج المسلمين من خلافاتهم، وتضارب آرائهم، وخصوصًا أن هذه الخلافات غريبة على المشتغلين بدين اللَّه، وأن روح الإسلام تأباها ولا تسمح بها، وأن الأوضاع العامة للمجتمع الإسلامي آنذاك كانت غاية في السوء من النواحي السياسية والاجتماعية والعلمية، ومن شأن هذه الخلافات أن تزيد الطين بلة، وأن تشغل المسلمين عن مقاومة عدوهم الذين تكالبوا عليهم في العصور الوسطى، وساعد العدو على تحقيق مآربه تمزق البلاد الإسلامية إلى ممالك صغيرة يحكمها العجم والمماليك، وضياع هيبة الخلافة التي وجدت اسمًا وتلاشت فعلًا، فاستغل التتار والصليبيون هذا الوضع السياسي أسوأ استغلال، وإن كانت الدائرة قد دارت على الأعداء في نهاية المطاف، والحمد للَّه. ولم تكن الناحية الاجتماعية أقل سوءًا من الناحية السياسية، فقد كان الناس يعيشون في رعب وفزع وخوف من سوء المصير، وخيم الفقر، وابتلى الناس بالجوع والغلاء مع نقص في الأموال والثمرات، وانطلق اللصوص ينهبون ويسلبون، واستعان الأمراء بهؤلاء اللصوص على تحقيق مآربهم، وظهر الفساد في المتاجر وفي كل نواحي الحياة.

وجو كهذا لا يمكِّن من طلب العلم بل إنه يصرف الأذهان عن نور المعرفة، وذلك هو الذي وقع في دنيا الناس حينئذ، ولذلك عاشوا عالة على السابقين، يقلدونهم تقليدًا أعمى، ويجمدون على ترسم خطواتهم، ولذلك خمدت القرائح وعجزت عن الابتكار والاجتهاد والتجديد، ولا ينقض هذا وجود بعض أفراد كان لهم إلى حد ما جهد يذكر فيشكر. في هذا الجو ظهر ابن القيم ظهور الغيور على أمته، المهتم بحاضرها، الباحث عن خير مصير لها في مستقبلها، الراغب في إنهاضها من كبوتها، وإقالتها من عثرتها، وإخراجها من ظلمات الخلافات، والعودة بها إلى طريق النور الذي سلكه سلفنا الصالح، فوصلوا في نهايته إلى أكرم الغايات في ضوء هذا الدين القويم، وبتوجيهات القرآن الكريم. من الملامح العلمية لابن القيم وجود الجنة والنار وخلودهما: يرى ابن القيم أن الجنة والنار موجودتان الآن (¬1): الجنة أُعدت للمتقين، والنار أعدت للعصاة والكافرين، وأنهما خالدتان، وأن أهلهما مخلَّدون فيهما، لكنه يرى أن عصاة المؤمنين الذين يعذبون في النار يخرجون بعد أن يلقوا جزاءهم ويدخلون الجنة. الحسن والقبح: يرى ابن القيم أن العقل يمكن أن يستقل بإدراك حُسن الحسن وقبح القبيح دون توقف على أمر الشارع ونهيه، ولكن العقاب على القبيح والثواب على الحسن لا يكون إلا بالرسالة التي هي المصدر الوحيد للقول الفصل في أمر الثواب والعقاب (¬2). المعاد: يرى ابن القيم أن رسل اللَّه اتفقوا على أن الروح باقية، وأنها منعَّمة أو معذَّبة في ¬

_ (¬1) هذا معتقد أهل السنة بعامة. (¬2) بيّنتُ هذه المسألة على وجه فيه تفصيل في تعليقي على "الاعتصام" (1/ 191 - 195)، و"الموافقات" (1/ 537 و 2/ 77 و 3/ 210) كلاهما للشاطبي، وانظر كلام ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" (2/ 2 - 118) و"مدارج السالكين" (1/ 230 - 257، 91، و 3/ 407، 488، 492)، و"شفاء الغليل" (435) وقارنه بما في "مجموع الفتاوى" (8/ 90، 91، 428 - 432 و 3/ 114 - 115 و 11/ 675 - 687 و 15/ 8 و 16/ 235 - 363) و"درء تعارض العقل والنقل" (8/ 492 - 493).

البرزخ، وأن المعاد ممكن وواقع، وأن اللَّه تعالى سيعيد الأجسام كما كانت عليه في الدنيا، ثم تتصل كل روح بجسمها، ويرى أن هذه الإعادة عن تفريق لا عن عدم. رأي ابن القيم في الصفات الخبرية: (وهي كل صفة للَّه تعالى يكون الدليل عليها مجرد خبر من الكتاب الكريم، أو من الرسول عليه الصلاة والسلام، من غير استناد إلى دليل عقليّ)، وذلك كإثبات الوجه واليد للَّه تعالى وغير ذلك. يرى ابن القيم أنه يجب أن يوصف اللَّه تعالى بكل ما وصف به نفسه حقيقة، وما وصفه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، بدون تأويل للنصوص، ولا تعطيل لها عن اتصاف اللَّه بها. ويرى أن ذلك من تعظيم حرمات اللَّه إذا نفيت مشابهتها لصفات المخلوقين، ويرى أن هذا الفهم يبعد به عن وصمة التشبيه والتجسيم (¬1). العقيدة والتصوف: دعا ابن القيم إلى عقيدة السلف، وحارب الفرق المختلفة، وصال وجال في مجالات التصوف، جاريًا على مذهبه الانتخابي، فكان حربًا على المنحرفين، منصفًا للمعتدلين، حارب القول بوحدة الوجود، والتفرقة بين الحقيقة والشريعة، وتحكيم الصوفية الذوق، وإعراضهم عن العلم. منابع علمه الصوفي (¬2): الكتاب والسنة، وما أثر من أقوال الصحابة والحكم البالغة، وما سمعه أو شاهده أو نقل إليه عن الصوفيين العارفين. هذا إلى جانب روحه الصافية المترفعة عن المادة وزخارفها. أثره في التصوف: تخليصه من الانحراف، ودعوته المتصوفة إلى الاقتداء برسول اللَّه، وتحديده مبادئ الصوفية، مناصرته للصحو، واهتمامه بالقلب، وغير ذلك. الأصول التي اعتمد عليها ابن القيم في استنباط أحكامه: الكتاب والسنة والإجماع، بشرط عدم العلم بالمخالف وفتوى الصحابي -إذا ¬

_ (¬1) هذه عقيدة أهل السنة بعامة. (¬2) كلمة (الصوفية) لا وجود لها في نصوص الشرع، واستخدم الشرع (التزكية)، فلا يستبدل بها، إذ ضَبْطُ الألفاظ إحكام للبدايات، وحينئذ تسلم (النهايات)، و (الاصطلاحات) التي طرأ عليها فساد ينبغي أن لا يتوسع فيها، واللَّه الموفق.

لم يخالفه أحد من الصحابة، فإن اختلفوا وقف موقف المختار، ثم فتاوى التابعين ثم فتاوى تابعيهم وهكذا- والقياس، والاستصحاب، والمصلحة، وسد الذرائع، والعرف. طريقته في البحث: كان يعتمد أولًا على النصوص، يستنبط منها الأحكام، ويكثر من الأدلة على المسألة الواحدة، ويعرض آراء السابقين، ويختار منها ما يؤيده الدليل، وقد يبين وجهة كل فقيه فيما ذهب إليه، ويعرض أدلة المخالفين ويفندها، ويستعين بالأحاديث على بيان معنى الآية، وهو في كل هذا لا يتعصب لمذهب معين، بل يجتهد، ويدعو إلى الاجتهاد، ويعمل فكره، ولا يدخر في ذلك وسعًا؛ وينشد الحق أينما كان. أغراضه: كان ابن القيم يرجو من وراء ذلك كله أن يقضي على اختلاف المسلمين الذي قادهم إلى الضعف والتفكك، وأن يجمعهم على الاقتداء بالسلف في أمر العقائد، لأنه رأى أن مذهب السلف أسلم مذهب؛ وكان يرجو أن يقود المسلمين إلى التحرر الفكري، ونبذ التقليد؛ وإبطال حيل المتلاعبين بالدين، وأن يكون الفهم المشرق الكامل لروح الشريعة الإسلامية السمحة، هو النبراس وهو الموجه الحقيقي في كل المواقف. وبعد: فتلك لمحة خاطفة عن هذا العالم الجليل؛ والمصلح الكبير، نقدمها في إجمال نجد تفاصيله مع تفاصيل الجوانب الأخرى لابن القيم في هذا الكتاب. نسأل اللَّه أن ينفع به؛ وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء، وأن يعز دينه، ويرشد عباده بأمثال ابن القيم من العلماء الأجلاء، والفقهاء الذين أراد اللَّه بهم خيرًا، وأرادوا لأمتهم النفع والإرشاد، وما توفيقنا إلا باللَّه، عليه توكلنا وإليه أنبنا، وإليه المصير" (¬1) انتهى. وبعد ذلك مقدمة المحقق، وهذا نصُّها بتمامها (¬2): "الحمد للَّه رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة ¬

_ (¬1) صفحة (ز- ل) من المقدمة. (¬2) نثبتها هنا -كما سبق- ليستغني الناظر في نشرتنا عن النشرات السابقة، وانظر -لزامًا-: (عملنا في هذه النشرة).

والسلام على من أرسله اللَّه رحمة للعالمين، محمد صلوات اللَّه عليه وعلى آله، الذين اهتدوا بهديه. وبعد؛ فالإمام الجليل ابن القيم علَم من أعلام علماء الكتاب والسنة ومنار من منارات الحق، في إشراقه هدى ونور ورحمة، فلقد حَيَّ -رضي اللَّه عنه- لربه وكتاب ربه، وسنة خاتم النبيين، حَيَّ حياة الصِّدِّيقين والشُّهداء، يفتح قلبه للنور، لأنه لا يحب أن يحيا إلا في النور. عاش يحطم طواغيت الشرك، وأصنام الوثنية، ويدمر تلك الحصون التي شيدتها شهوات الطغاة البغاة من أحلاس الرمم، ورادة الإثم من ردغة المواخير. عاش، والقرآن بين عينيه، وفي فكره، وفي قلبه، بل عاش والقرآن فلك لا تدور حياته إلا حوله، فأعاد هو وشيخه الجليل الإمام ابن تيمية إلى السنة بهاءها ورونقها، وخلّصاها مما شابها، وبيّنا لأكثر الحقائق الإسلامية مفهوماتها الصادقة الحقة، وجعلا لكل حقيقة ما هو لها دون نقص أو زيادة. ورفضا بقوة ودراية علمية ممتازة، ونباهة فكرية رائعة ما افتراه المحرفون والمؤولون والمعطلة والمشككة من مفهومات ومصطلحات، ودمغوهم بتجريد الكلمات المقدسة من حقائقها ومعانيها، ثم جاءوا لهذه الكلمات بما يحب اللَّه أن يكون لها. ولهذا عاشا يناضلان الفلسفة والتّصوّف والكلام، وأدعياء الفقه والأصول من عبدة الرأي والقياس ومحلّلي الإثم باسم الحيل، وأبيا في إصرار المؤمن وكبريائه أن يهطعا للبغي في سطوته الباغية، أو أن يرضيا السلامة يشتريانها بمداهنة الباطل، وممالأة الضلالة، واستحبا السجن على الحرية. ولم يرو لنا التاريخ بعد عصر الإمامين الجليلين قصة أستاذ وتلميذه تشبه قصة الإمام ابن تيمية وابن القيم، فهما أشبه بالمصباح ونوره، أو بالشمس وضوئها. فرضي اللَّه عنهما وأرضاهما. ولقد قدر لي أن يعهد إليَّ بتحقيق كتاب "إعلام الموقعين" للإمام الجليل ابن القيم؛ وهو كتاب جليل القدر، عظيم النفع، جم الفائدة، يجمع إلى جمال الحقيقة الشرعية قوة البرهان، ونصاعة الحجة، وإلزام الدليل. كتاب حث فيه المؤلف على اتباع الآثار النبوية، ثم بيَّن فيه مَن أَهْلُ السنة،

ومَن هم الذين تصدروا للفتيا من الصحابة والتابعين، وبيّن في جلاء ووضوح أن القول على اللَّه بغير علم هو كالشرك باللَّه أو أشنع منه، ثم بيّن مفهوم الكراهة عند الأئمة، وأنه عَيْنُ مفهوم الحرام، ثم بيّن حرمة الإفتاء بالرأي، ثم أقام أكثر الكتاب على شرح الكتاب الذي بعث به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، الذي جعله الأئمة أصلًا في القضاء والأحكام. وأهم ما بسط الإمام فيه القول: الربا، المحلل، سد الذرائع، الحيل، القول بالرأي والقياس، التأويل، الشروط التي يجب أن تكون في المفتي، ثم سمو هذه المنزلة وهي منزلة الفتيا، كل هذا في بسط وشرح وإفاضة بالحجة الناصعة والبرهان المشرق المبين؛ كما عرض لمسألة الطلاق الثلاث وغيره من أمهات (¬1) المسائل. ثم ختم الكتاب بفصول مطوّلة عن فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم" (¬2). قال أبو عبيدة: وذكر بعد ذلك ما قدمناه قريبًا في التعريف بهذه الطبعة، وعنون له (عملي في الكتاب)، ثم ختم مقدمته بقوله بعد ذلك مباشرة: "واللَّه أسأل أن يكون عملي في الكتاب صالحًا يرضيه، وأن أكون ممن أعانوا على خير يقدمونه للناس، وصلى اللَّه وسلم وبارك على محمد وآل محمد أجمعين" (¬3). وللوكيل تعديلات وردود على النشرات التي سبقته، انظر نشرتنا (4/ 75، 163، 169) ففيها تعقبات وتصويبات على ما وقع في طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد، أو طبعة طه عبد الرؤوف سعد. الثالثة: طبعة طه عبد الرؤوف سعد، ورمزت لها بـ (ط) أو المطبوع، وهي في أربعة مجلدات أيضًا، وعليها تعليقات يسيرة جلها في بيان الغريب، كسابقتَيْها، وعمل المحقق على تقسيم الكتاب إلى فقرات، ووضع تبويبات عليه، وقدم له بمقدمة فيها ترجمة لابن القيم، وختمها بذكر أربعين اسمًا من أسماء مؤلفاته، ختمها بـ"إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وقال عنه: "وهو الكتاب الذي أقدّمه لك، ولن أقول عنه شيئًا، فحسبي منك أن تطالعه، فسوف ترى في ¬

_ (¬1) لو قال: أمات، لكان أحسن، فـ"الأمهات في الناس، وأمات في البهائم"، حكاه ابن فارس في "المجمل" (1/ 81)، قاله القرطبي في "تفسيره" (1/ 112). (¬2) صفحة (م، ن، س) من المقدمة. (¬3) صفحة (ف) من المقدمة.

مؤلفه فقيهًا إنْ أردت، أصوليًا إنْ رغبت، أديبًا نحويًا إذا شئت، منطقيًا إذا أحببت، قد بلغ الغاية في عرض الأفكار، وجمال الأسلوب، ودقة مسائله، والاستشهاد لها، حتى لتحسبن أن هذا الكتاب مؤلف في العصر الحديث، بعد أن استقرَّت طُرُق المناهج والبحث، وتوفرت المراجع والأصول" (¬1). ثم ذكر وفاة ابن القيم، وقال بعدها: "وبعد؛ فإني أستسمح القارئ الكريم إذا ما وجد في عملي هذا تقصيرًا، فبحر العلم لا قرار له، والساحل بعيد، والجهد قليل. وما أحسن ما قال العماد الأصفهاني (¬2): إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يوم إلا قال في غده: لو غيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النّقص على جملة البشر" (¬3). الرابعة: طبعة دار الحديث بالقاهرة، ورمزت لها بـ (ح)، وعَنيَتْ بنشر هذه الطبعة وتصحيحها والتعليق عليها إدارة المطبعة المنيرية، بمصر، وهي في أربعة أجزاء في مجلدين، والتعليقات عليها قليلة، وتمتاز بضبط عباراتها، وقلّة أخطائها. الخامسة: طبعة دار الجيل، وهي في أربعة مجلدات، على طرتها: حققه وعلق عليه وعمل فهارسه (¬4) عصام فارس الحرستاني، خرج أحاديثه حسان عبد المنان (¬5). وتمتاز هذه الطبعة بأنها مقابلة على نسختين خطيتين (¬6)، وأن فيها تخريجًا ¬

_ (¬1) صفحة (ل - المقدمة)، وفيها مقارنات بين الطبعات التي سبقته، انظر -على سبيل المثال-: (5/ 188). (¬2) كان الأستاذ أحمد فريد الرفاعي (المتوفى 1376 هـ) هو الذي شهر هذه الكلمة، حيث وضعها أول كل جزء من أجزاء "معجم الأدباء" لياقوت الحموي، وتداولها عنه الناس منسوبة إلى العماد الأصبهاني، والصواب نسبتها للقاضي الفاضل رحمه اللَّه بعث بها إلى العماد، كما في "الإعلام بأعلام بيت اللَّه الحرام" للنهروالي (ت 988 هـ) وأول "شرح إحياء علوم الدين" (3/ 1) للزَّبيدي. (¬3) صفحة (م - المقدمة). (¬4) عمل فهرسين: فهرس أطراف الحديث وفهرس الموضوعات. (¬5) عدا المجلد الرابع، فالمثبت عليه بدلًا منه: أحمد الكويتي. (¬6) إحداهما نسخة المحمودية، والأخرى نسخة خاصة من مكتبة الأستاذ زهير الشاويش، ولا يوجد في المقدمة وصف لهما.

تقويم الطبعات التي وقفت عليها وعملي في هذه النشرة والدافع لها

من رأس القلم للأحاديث القولية، دون الفعلية والإشارّية، ودون الآثار الواردة عن السلف، ودون توثيق النصوص. وأما التخريج الموجود فالنفس فيه ضعيف، وهو ناقص، وعليه مؤاخذات علمية قوية، يأتي الحديث عنها -إن شاء اللَّه تعالى- بالإجمال. * تقويم الطبعات التي وقفت عليها وعملي في هذه النشرة والدافع لها: بذل القائمون على الطبعات السابقة جُهدًا في ضبط النص والتعليق عليه، ولكن في تقديري أن الكتاب لم يُخْدم -على كثرة طبعاته- الخدمة اللائقة به، من حيثيات متعددة، هي: أولًا: العناية بنسخه الخطية، ومقابلة النسخ على المطبوع. ثانيًا: العناية بتوثيق النقول، وعرضها على مصادرها، ولا سيما المطبوع منها. ثالثًا: العناية بمقارنة المباحث التي عند المصنف في كتابه مع كتبه الأخرى، وربطها بكتب شيخه أبي العباس ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى. رابعًا: العناية الجيّدة بتخريج الأحاديث والآثار وبيان درجتها من حيث الصحة والضعف، مع محاولة معرفة مصادر المصنف التي ينقل منها. خامسًا: الاستفادة من الجهود السابقة التي بذلت في خدمة الكتاب. سادسًا: العناية بتوثيق المسائل الأصولية والفقهية من مصادرها، ومحاولة الوقوف على الراجح، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 392، 402 و 2/ 197، 211، 301 و 3/ 254، 377، 384، 388 و 4/ 24، 109 - 110 و 5/ 136 - 137). سابعًا: فهرست الكتاب فهرسة علمية شاملة، تحوي نصوص الوحيين الشريفين: الكتاب والسنة، مع فهرس آثار السلف، مع أعلامه وفرقه وطوائفه وجماعاته، وأشعاره، وأسماء كتبه، وبلدانه وأماكنه، وغريبه، مع بيان فوائده العلمية وأبحاثه المحررة المحققة في سائر أنواع العلوم. فكانت هذه الأسباب هي الدافع لي على نشرتي هذه، وجهدتُ على سد النقص في الطبعات السابقة، فعملت على تحصيل ما أمكنني من مخطوطات الكتاب، وظفرتُ بأربعة منها (سبق وصفُها)، وقابلتها على متن الكتاب، بطبعاته المختلفة، وأثبتُ الفروق بينها في الهوامش.

وحاولت الوقوف على مصادر المصنف في كتابه، وتبيَّن لي أنه ينقل من كتب كثيرة، بعضها ما زال مخطوطًا، والآخر في عداد المفقود، وينقل من كتب لم يُسَمِّها، وصرح بأسماء مؤلفيها، وينقل من بعضها بالواسطة، ويكثر من النقل عن كتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، وجهدتُ في ردّ هذه النقول إلى أصولها، وقابلت نص الكتاب على ما فيها، وأثبتُّ -في الغالب- الفروق المهمة في الهامش، وهذا مما ساعدني على ضبط النص، ولا سيما إن كان حديثًا أو أثرًا سلفيًا، وأثْبتُّ منها -أو صوبت- أشياء مهمة سقطت من جميع النسخ الخطية والمطبوعة التي وقفت عليها، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 86، 101، 107، 109، 140، 148، 218، 409، 474 و 2/ 365، 446،449، 462، 465، 528 و 3/ 42، 50، 246، 300، 342، 350، 377، 379، 451 و 4/ 88، 97، 101، 375، 376، 481 و 5/ 58، 63، 77، 134، 157، 393، 394، 398، 402، 418). واستفدت كثيرًا من "التقريب لفقه ابن القيم" للعلامة الشيخ بكر أبي زيد -عافاه اللَّه وشفاه- في ذكر كتب ابن القيم التي بحثَتْ كل مسألة من مسائل كتابنا هذا، واعتمدتُ على ما في كتابه، وزدتُ ما علق بالخاطر من فوائد فرائد، ومباحث لها صلة بمادة علمية في كتابنا هذا ولها وجود في سائر كتب ابن القيم، وكذا حرصتُ على النظر في كتب ابن تيمية، ووجدت المصنف يكثر من النقل منها، كما سبق بيانه تحت عنوان (مصادر المصنف). وأما بالنسبة للطبعات السابقة، فقد استفدتُ منها على النحو التالي: أولًا: حرصتُ على النظر بدقّة فيها (وسبق ذكرها)، وتبيّن لي أنها لا تخلو من أخطاء مطبعية (¬1)، حتى المقابلة على النسخ الخطية (¬2) منها، وذكرت أهم الفروق بينها، والأمور المحتملة في الهوامش. ¬

_ (¬1) أشنعها وأقبحها ما وقعت في الآيات القرآنية، ووقع هذا في طبعة محمد محيي الدين، وقد نبهنا على هذا في الهوامش. (¬2) وهي طبعة دار الجيل السابق وصفها، وأخطاؤها كثيرة، وجلها قبيحة، وهذا طرف منها: - (1/ 192) في تفسير الحسن للآية {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} قال: بذنبهم وهذا خطأ! صوابه "بدينهم". - (1/ 217) من حديث عبد اللَّه بن عمر! صوابه "ابن عمرو". - (1/ 223) من طريق شبل بن أبي نجيح، صوابه: "شبل عن ابن أبي نجيح". - (1/ 228) أثبت من المخطوط: "وقال أبن عطية" والصواب إسقاطها! إذ الكلام المذكور =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بعده تابع لمن قبله، وهو لابن قتيبة، وفيه "الحكم والمعنى" والصواب: "والمعاني". (1/ 236): "سعيد" صوابها "سعد"، وإن قال في الهامش: "تحرف في المطبوع إلى سعد"! انظر نشرتنا: (1/ 301). (1/ 254): "متشاحون" صوابها "متشاحنون". (1/ 279): "مرة الطبيب" صوابه "الطيب". في (1/ 280): "بعضها مع بعض" صوابه "من بعض". في (1/ 282): "وقياس الرقبة في الظهر" صوابه "في الظهار"، وسقط منها بعد آية 95 من المائدة سطرًا، وكذا سقط سطر بعد آية 49 من الأحزاب، انظر نشرتنا: (1/ 360). وفي (1/ 298): "ينتقل إلى [معنى] الخصوص" وفيها: "كما كان [يقول] الذين" وفيها: "مجرد [فهم] وضع" وما بين المعقوفتين سقط منه، وفيه أيضًا: "عند سماعه" صوابه "سماعها". وفي (1/ 299): "الفهم والتجبر" صوابه "والتدبر". وفي (1/ 304): "أو فارقني بألف" صوابه "فادني"، وفي أول الفقرة: "ومن ذلك لفظ الفدية". وفي (1/ 315): "ولا تعرجوا" صوابه "تعوجوا"، وفي (1/ 339): "سليمان التميمي" صوابه "التيمي". وفي (1/ 344): "يحيى بن سليمان" صوابه "ابن سليم". وفي (2/ 195): "الفضل بن موسى الشيباني" صوابه "السيناني". وفي (2/ 261): "عبد اللَّه بن المعتمر" صوابه: "ابن المعتز" وفيه "ثم ساق من حديث جامع" والصواب حذف "حديث". وفي (2/ 343): "وتأول عمر" وصوابه "وناول عمر". وفي (2/ 370): "أخبرنا الربيع بن سليمان [سمعت الشافعي يقول]: لنعطينك. . . " وما بين المعقوفتين سقط منه، وفي (2/ 388): "إلا في ضلال كبير" وهذه الآية لا محل لهما هنا، ولا تناسب السياق، والصواب أن يكون بدلها "إنه علي حكيم". وفي (2/ 449) عن يحيى بن أبي كثير: "وهو يماني" وصوابه "يمامي". وفي (2/ 452): "قال الترمذي: هذا حديث حسن ليس بإسناده حسن بأس" والصواب حذف "حسن". وفي (2/ 481): "علي بن زيد عن ثابت بن حماد" صوابه "عنه ثابت". وفي (2/ 489): "حديث عطاء بن أبي ميمونة" وصوابه "روح بن عطاء. . . ". وفي (2/ 516): "ومالك بن بهز" صوابه "ابن نمير". وفي (2/ 523): "عن السدي عن أبي هريرة" صوابه "عن أبي هبيرة". وفي (2/ 530): "وكحديث أبي بكر" صوابه "أبي بكرة". وفي (3/ 8): "بشر بن أرطاة" صوابه "بسر" بالمهملة، وفي (3/ 9): "فقال لابنة حفصة" صوابه "خصفة". =

ثانيًا: استفدتُ من العناوين الفرعية الموجودة فيها، ووضعتها بين معقوفتين. ثالثًا: استفدتُ من التعليقات على هذه الطبعات، ونقلتُها في هوامش طبعتنا ¬

_ = وفي (3/ 36): "وقال إسماعيل بن منصور" صوابه "سعيد بن منصور". وفي (3/ 42): "محمد بن عبد اللَّه العزرمي" صوابه "ابن عبيد اللَّه العرزمي" بتقديم الراء على الزاي. وفي (3/ 43): "نافع بن عجيرة" صوابه "ابن عجير". وفي (3/ 46): "ذكره يونس بن بكير عن أبي إسحاق" صوابه "ابن إسحاق". وفي (3/ 47): "حكاه عنهم أبو المفلس" صوابه "ابن المغلس" بالغين لا الفاء، وفي (3/ 52): "من وضع حزام بن عثمان" صوابه "حرام" بالراء المهملة. وفي (3/ 61): "الجوزجاني في ترجمته" وصوابه "في "مترجمه"" -وهو اسم كتاب- وفي (3/ 62): "عثمان بن صالح هذا المصري نفسه" صوابه: "المصري ثقة". وفي (3/ 63): "عن عمرو بن نافع" صوابه "عمر" بضم العين. وفي (3/ 76): "محمد بن يحيى [ثنا محمد بن عبد اللَّه] بن عبد اللَّه" وما بين المعقوفتين سقط منه. وفي (3/ 78): "قاله عبد العزيز بن إبراهيم" وبعده بسطرين "الباب الثالث" والصواب "قال عبد العزيز بن إبراهيم" بعد (الباب الثالث) إذ الآتي تحته بطوله من كلامه. وفي (3/ 104): "وقال الحسن. . . وأبو عبيدة" صوابه "أبو عبيد" وهو القاسم بن سلام. وفي (3/ 141): "المتوسل إلى المحرم" صوابه "المتوصل". وفي (3/ 142): "كالخمر مثلًا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر"! وصوابه "كالحمير". وفي (3/ 145): "حيث ألقاها" صوابه "ألغاها". وفي (3/ 179): "على أحد جانبيه" صوابه "حاجبيه". وفي (3/ 208): "إسحاق بن عبد الرحمن الخراساني" صوابه "أبو عبد الرحمن". وفي (3/ 213): "ولم يؤثر" كذا في الموطنين، وصوابه فيهما "ولم يؤمر". وفي (3/ 219): "الديداني" صوابه "الدنداني". وفي (3/ 222): "وقال حبيش بن مبشر" صوابه "ابن سندي" وفيه: "للفضيل بن عياش" صوابه "ابن عياض". وفي (4/ 85): "أمية بن خلف" صوابه "أبيّ بن خلف". وفي (4/ 202): "داعيًا [يجفا] " و" [قاله] ابن عمر وزيد" وما بين المعقوفتين سقط منه. وفي (4/ 347): "عمرو بن عنبسة" صوابه "ابن عبسة". وفي (4/ 348): "وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن أبي عمارة" صوابه "أبيّ بن عمارة". هذه أخطاء قليلة، وغيرها كثير كثير، وجل هذه الأخطاء وقعت على الصواب في الطبعات السابقة، فما فائدة النسخ الخطية والمقابلة مع هذه الحالة؟! وأما بالنسبة إلى التعليقات فبعضها منقول من طبعة الوكيل، والآخر منها من طبعة محمد محيي الدين، وبعضها من طبعة طه سعد، ولم تقع الإشارة إلى ذلك. انظر -على سبيل المثال-: (2/ 433 و 3/ 86، 214، 377، 400 و 4/ 212، 347، 349) وأما بالنسبة لتخريج الأحاديث، فلنا حوله -فيما بعد- كلمة، واللَّه الموفق والمسدد والموعد.

ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في الطبعات السابق ذكرها

هذه، واستوعبت نقل تعليقات الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، ورمزت لها بـ (د)، وتعليقات طه عبد الرؤوف ورمزتُ لها بـ (ط) وتعليقات عبد الرحمن الوكيل، ورمزت لها بـ (و)، ونظرتُ في سائر الطبعات، على النحو الذي بيّنته آنفًا تحت عنوان (الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه). ولم أنقل شيئًا منها إلا ووضعت الرمز بعده، ووجدتُ في بعض الأحايين تشابهًا في العبارات، فأثبت الأتم، وكتبت بعده "نحوه في (..) "، وإذا وجدت زيادات في عبارات بعضهم، وضعتها بين معقوفتين، ونبهّتُ على ذلك. وهذه التعليقات بالجملة من رأس القلم، وهي في بيان الغريب، ولم ألتفت إلى ما يخص الحديث النبوي منها، من حيث التخريج وغيره، وكذا الآثار السلفية. واعتنيتُ بتوثيق المسائل من مصادرها الأصلية، فأحلتُ على أشهر المصادر الأصولية والفقهية، وأبرزتُ الجهود الخاصة للمعاصرين حول المسائل المبحوثة في الكتاب. * ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في الطبعات السابق ذكرها: لم يُعْتَنَ بتخريج الأحاديث النبوية والآثار السلفية في جلّ الطبعات السابقة، وانفردت القليل منها بتخريج الأحاديث القولية، مع الحيدة عن المشكل منها، وهذه ملاحظات فيها نقدات وتقويم وبيان بعض النقص الواقع فيها: * طبعة عبد الرحمن الوكيل، أثبت على الغلاف قبل اسمه "تحقيق وضبط" وقال في المقدمة (ص ج) تحت (ميزات هذه الطبعة): "تخريج العشرات من الأحاديث المهمة"، ولم يخرج إلا أحاديث قليلة، وهذا ما وقع له في المجلد الأول: (ص 33) حديث: "أجرؤكم على الفتيا. . . " قال: "الدارمي عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر مرسلًا". (ص 42) حديث: "إذا أرسلت كلبك" قال: "رواية أبي داود بإسنادٍ جيد". (ص 50) حديث: "لا طاعة لمخلوق. . . " قال: "أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عَمرو الغفاري". (ص 50) حديث: "إنما الطاعة في المعروف" قال: "أصل الحديث: "لا طاعة لأحد في معصية اللَّه، إنما الطاعة في المعروف" متفق عليه وأبو داود والنسائي عن علي".

(ص 50) حديث: "من أمركم منهم -أي: الأمراء- بمعصية اللَّه، فلا سمع له. . " قال: "أصله في "الصحيحين". (ص 51) حديث: "إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها" قال: "أخرجه الإمام أحمد بسنده عن علي" وساق لفظه، وقال: "وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث الأعمش به". (ص 76) حديث: "من أبي يا رسول اللَّه" قال: "في حديث أخرجه البخاري ومسلم". (ص 86) حديث: في سبب نزول قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ. .} قال: "وردت في حديث متفق عليه". (ص 90) وكتب معلقًا على أثر نقله المصنف عن البخاري في غير "صحيحه": "قد أعجلني ما كنت فيه عن مراجعة الحديث في البخاري، فليراجع، ففيه هنا اضطراب ونقص"!! (ص 115) حديث: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" قال: "رواه أحمد والبخاري". (ص 474) حديث المصراة، ذكره في الهامش وشرحه، وعزاه إلى "الصحيحين". وهذا ما وقع له في المجلد الثاني: (ص 37) حديث شهادة خزيمة، سرده في الهامش، وقال: "رواه أبو داود والنسائي". (ص 45) علق عند قول ابن القيم: "وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب" قال: "عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ليس على خائن ولا منهب ولا مختلس قطع" رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وأخرجه الحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه". (ص 46) حديث جحد المرأة المتاع وقطع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدها قال: "رواه أبو داود وأحمد والنسائي وأبو عوانة". (ص 164) حديث: "من أفتى بفتيا غير ثبت. . " قال: "رواه أبو داود والحاكم". (ص 164) حديث: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا. . " قال: "في مسلم: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".

(ص 185) حديث: "أصحابي كالنجوم. . . " قال: حديثه باطل، وإسناده واهٍ جدًّا". (ص 261) حديث: "استأجر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-دليلًا" قال: "رواية البخاري: واستأجر رسول اللَّه وأبو بكر رجلًا من بني الديل". (ص 268) حديث كتاب عمرو بن حزم، عزاه لجمع ونقل كلام ابن حجر عليه دون بيان المصدر. (ص 272) حديث: "إذا حكم الحاكم. . " قال: "متفق عليه". (ص 301) حديث: "لا عدوى ولا طيرة" قال: "أحمد ومسلم عن جابر". (ص 323) تفسير الزيادة في سورة يونس بأنها النظر إلى وجه اللَّه، قال في تخريجها: "رواه أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم". (ص 328) خرج ثلاثة أحاديث، عزى الأول للجماعة إلا ابن ماجه والترمذي، والثاني للجماعة، والثالث لأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان. (ص 334) حديث: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم" خرج في الهامش الأحاديث التي تدل على خلافه، لقطعه في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، وقوله: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا، ولم يتكلم على الحديث بشيء. (ص 337) حديث: "لا يقتل مسلم بكافر" قال: "جزء من حديث رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي". (ص 362) حديث بيع جابر بعيره للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشرط ركوبه إلى المدينة، ذكره في الهامش وقال: "متفق عليه. وفي لفظ لأحمد والبخاري: "وشرطت ظهره إلى المدينة"". (ص 364) حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" قال: "رواه أحمد ومسلم والبخاري". (ص 364) حديث: "ليس فيما سقت السماء والعيون. . " قال: "رواه الجماعة إلا مسلمًا. . . ". (ص 376) حديث: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك" (وهو في (وضع الجوائح))، قال: "ورواه أصحاب السنن".

(ص 377) علق عند قول المصنف: "والذين يتخذون القبور مساجد" أورد ثلاثة أحاديث تدل على ذلك، وعزى الأول للجماعة إلا البخاري وابن ماجه، والثاني للبخاري ومسلم، والثالث للبخاري ومسلم والنسائي. (ص 390) حديث: "كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم" قال: "الترمذي وابن ماجه". (ص 390) حديث: في زكاة الكرم: "يُخْرص كما يُخْرص النخل. . " قال: "رواه أبو داود والترمذي". (ص 390 - 391) حديث: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث" قال: "الخمسة إلا ابن ماجه". (ص 391) حديث: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث عبد اللَّه بن رواحة إلى يهود، فَيَخْرص النخلَ. . " قال: "أحمد وأبو داود". (ص 394) حديث صلاة الكسوف، قال: "البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي". (ص 434) علق على قول المصنف: "وإن صلاته كانت التغليس حتى توفّاه اللَّه" وأورد ثلاثة أحاديث تدل على ذلك، وأصولها في "الصحيحين". (ص 435) حديث: "أسفروا بالفجر. . " قال: "رواه الخمسة. . ". (ص 435) حديث: "وقت صلاة الظهر. . . " قال: "رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وفي رواية لمسلم:. . . ". (ص 436) حديث: "كانوا يصلونها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم يذهب أحدهم إلى العوالي. . . " عزاه إلى الجماعة إلا الترمذي. (ص 444) حديث: "عبد الرحمن بن عوف: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج نحو أحد، فخر ساجدًا. . . " قال: "رواه أحمد". (ص 444) حديث: "سعد في سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- شاكرًا لربه لما أعطاه ثلث أمته. . . " قال: "رواه أبو داود". (ص 444) حديث أبي بكر: "كان إذا جاءه أمر يسرُّ به خرّ ساجدًا" قال: "رواه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: هو حسن غريب". (ص 444 - 445) حديث: "أتاه بشير بظفر جُنْدٍ له على عدوهم، وخر ساجدًا" قال: "هذا لفظ أحمد".

(ص 445) حديث: "سجود كعب بن مالك لما بشر بتوبة اللَّه عليه" قال: "متفق على صحته". (ص 445) حديث: "سجود أبي بكر حين جاءه قتل مسيلمة" قال: "رواه سعيد بن منصور". (ص 445) حديث: "سجود علي حين وجد ذا الثُّدَيّة" قال: "أحمد في "مسنده" وقصة ذي الثدية -واسمه: المخدج- في مسلم وأبي داود". (ص 446) حديث: "الرهن يركب. . " قال: "رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي". وأما المجلد الثالث، فهذا ما وقع له فيه: (ص 61) حديث: "من استطاع منكم الباءة. . " قال: "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي". (ص 61) حديث: "تزوجوا الودود الولود. . " قال: "أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد". (ص 61) حديث: "أربع من سنن المرسلين. . " قال: "أحمد في "مسنده" والترمذي والبيهقي في "الشعب"". (ص 61) حديث: "ثلاثة حق على اللَّه عونهم. . " قال: "رواه الترمذي -وقال: حديث حسن صحيح- وابن حبان في "صحيحه" والحاكم -وقال: صحيح على شرط مسلم- وأحمد في "مسنده" وابن ماجه". (ص 165) حديث: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه. . " قال: "جاء في حديث رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي". (ص 193) علق على قول المصنف: "نهى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر" بقوله: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك، الخمسة إلا ابن ماجه" وقال: "وعن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا" رواه أبو داود. وفي رواية: "نهى عن بيعتين في بيعة" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه والشافعي ومالك في بلاغاته، وفي الحديث الأول محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد". (ص 200) علق على عبارة المصنف: "حرم التفريق في الصرف" بقوله: "بيع

الذهب بالفضة وفي حديث: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الذهب بالوَرِق دينًا" أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. (ص 212) حديث: "إنما الأعمال بالنيات" قال: "صدر البخاري بالحديث "صحيحه" في باب بدء الوحي، وأخرجه في الإيمان والعتق والهجرة والأيمان والنذور وترك الحيل. . ". (ص 213) حديث: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود. . " قال: "رواه ابن بطة". (ص 220) حديث: "لا يحل سلف وبيع. . " قال: "سبق الكلام عن الحديثين؛ الأول: رواه الخمسة إلا ابن ماجه، والآخر: رواه أبو داود". (ص 231) حديث: "لعن اللَّه اليهود حرمت عليهم الشحوم. . " قال: "متفق عليه". (ص 251 - 252) حديث: "لا نكاح إلا نكاح رغبة" قال: "سبق نسبته إلى عثمان وابن عمر، وقلت: إنه يروى موقوفًا ومرفوعًا" قلت: نعم، سبق (ص 208) دون عزو ولا تخريج. (ص 286) حديث: "من باع بيعتين في بيعة فله. . " قال: "رواه أبو داود". (ص 287) حديث: "لا يحل سلف وبيع. . " قال: "الخمسة إلا ابن ماجه". (ص 287) حديث: "بع الجمع بالدراهم. . " قال: "من حديث رواه البخاري ومسلم". (ص 288) حديث: "لعن اللَّه المحلِّل والمحلِّل له" قال: "أحمد والنسائي والترمذي -وصححه- من حديث ابن مسعود، والخمسة إلا النسائي من حديث علي مثله، وصحح حديث عليٍّ ابنُ السكن، وأعلّه الترمذي، فقال: روي عن مجالد عن الشعبي عن جابر، وهو وهم". (ص 468) حديث: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" قال: "رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه". (ص 469) حديث: "فرار ماعز من الحد" قال: "وردت قصة ماعز في جل كتب السنة"! (ص 476) حديث: "لا يتمنى أحدكم الموت. . " قال: "البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي".

(ص 476) حديث: "المسلمون عند شروطهم. . " قال: "رواه الدارقطني والحاكم عن عمرو بن عوف المزني مرفوعًا، ورواه الحاكم عن أنس، والطبراني عن رافع بن خديج، والبزار عن ابن عمر، وفي رواية "المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" أبو داود وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة رفعه، وصححه الحاكم. وعلق البخاري: "المسلمون عند شروطهم" جازمًا به". (ص 479) حديث: "أحق الشروط أن توفوا به. . . " قال: "الصحيحان". (ص 479) حديث جابر: "بعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-بعيرًا، واشترطت. . " قال: "رواه البخاري في مواضع كثيرة بألفاظ مختلفة مطولًا ومختصرًا، ومسلم وأبو داود والترمذي -وصححه- وابن ماجه وأحمد". (ص 488) قول ابن مسعود: "عليكم بالجماعة، فإن يد اللَّه. . " قال: "رواه الترمذي -وحسنه- عن ابن عباس مرفوعًا، والطبراني عن عرفجة بن شريح -ويقال: ابن جريج-: يد اللَّه مع الجماعة. . . ". (ص 488) حديث: "اتبعوا السواد الأعظم. . " قال: "بقية الحديث -أي السابق- من كتاب "كشف الإلباس"". وأما المجلد الرابع والأخير، فهذا ما وقع له: (ص 64) أشار إلى شرب حمزة الخمر وقوله: "هل أنتم إلا عبيد لآبائي" وفسر في الهامش غريبه، وقال في آخره: "والحديث في البخاري وغيره". (ص 159) حديث: "وما يدريك أن اللَّه قد اطلع على أهل بدر. . " قال: "متفق عليه". (ص 175) حديث: "خير القرون القرن الذي بعثت فيه. . " تمم في الهامش لفظه، وقال: "متفق عليه". (ص 181) حديث: "هذان -أبو بكر وعمر- السمع والبصر" قال: "رواه الترمذي مرسلًا". (ص 182) حديث: "إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال: "رواه الترمذي، وقال: حديث حسن". (ص 182) حديث: "قد كان فيمن خلا من الأمم أناس مُحَدَّثون" قال: "متفق عليه أيضًا".

(ص 183) حديث: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" قال: "رواه البيهقي في "دلائل النبوة"". (ص 185) حديث: "قراءة ابن مسعود {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ. .}، وفاضت عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" قال: "رواه البخاري ومسلم وأحمد". (ص 187) حديث: "إنّ أمَنَّ الناس علينا في صحبته. . " قال: "متفق عليه". (ص 206) حديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" قال: "رواه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم". (ص 270) حديث: "إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة. . " قال: "رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في "المعرفة"". (ص 335) حديث: "إذا اجتهد الحاكم. . "قال: "متفق عليه". (ص 337) حديث: "هل تضارون في رؤية القمر. . " قال: "في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد وأبي هريرة". (ص 337) حديث: "كان في عماء، ما فوقه هواء. . " قال: رواه الترمذي في "التفسير" وابن ماجه في "السنن"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن". (ص 338) حديث: "كان اللَّه ولم يكن شيء غيره. . " قال: "مخرج في البخارى ومسلم بألفاظ كثيرة". (ص 341) حديث: "المرء مع من أحب" قال: "متفق عليه وأحمد". (ص 342) حديث عن الكوثر: "هو نهر أعطانيه ربي. . " قال: "رواه أحمد وابن جرير". (ص 349) حديث: "هو الطهور ماؤه. . " قال: "رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" والحاكم والدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة، وحكى الترمذي عن البخاري تصحيحه، وحكم ابن عبد البر بصحته". (ص 349) حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" قال: "أحمد وأبو داود والترمذي -وقال: "حديث حسن"- وصححه أحمد". (ص 350) حديث: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" قال: "رواه الخمسة، بقوله: لم يحمل الخبث، وفي لفظ ابن ماجه ورواية لأحمد: لم ينجسه شيء، وقد رواه أيضًا الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني

والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وقال ابن عبد البر في "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر، لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، وقال في "الاستذكار": حديث معلول رده إسماعيل القاضي وتكلم فيه، وقال ابن دقيق: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريقة الفقهاء، ثم أجاب عن اضطراب السند"! (ص 350) حديث أبي ثعلبة في آنية الكفار: "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء. . " قال: "رواه الترمذي وقال: حسن صحيح". (ص 353) حديث شاة ميمونة: "هلا أخذتم مسكها" قال: "رواه الجماعة إلا ابن ماجه، قال فيه: "عن ميمونة" جعله من مسندها، وليس فيه للبخاري والنسائي ذكر الدباغ، والرواية التي هنا عن شاة لسودة بنت زمعة قد ماتت. وقد رواه أحمد". (ص 354) حديث أُبيّ بن عمارة في المسح على الخفين فوق ثلاث: "قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس بالقوي. وقال البخاري نحوه. وقال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون، وأخرجه الدارقطني، وقال: هذا إسناد لا يثبت. وفي إسناده ثلاثة مجاهيل: عبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قطن، وبالغ الجوزجاني. فذكره في "الموضوعات". (ص 354) حديث: "إنّ الصعيد الطيب. . " قال: "أحمد والترمذي -وصححه- والنسائي وأبو داود وابن ماجه". (ص 355) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصلاة الوسطى: "هي صلاة العصر" قال: "في حديث متفق عليه أن العصر هي الوسطى، وفي هذا خلاف كبير. . . ". (ص 360) حديث كم بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى، قال: "أربعون عامًا" قال الوكيل: "يخالف الحديث الواقع! ولذا ضعِّف" (¬1)!! ¬

_ (¬1) هذا مسلك (العقلانيين) في التصحيح والتضعيف! وهم في الحقيقة ليس لهم من اسمهم نصيب! فالعلم التجريبي أثبت نقصان مدة السنة مع مرور الزمن، والحديث -على المدة المذكورة فيه- على ظاهره، وقع بحروفه وألفاظه ومبانيه ومعانيه، موافق للواقع الذي يخصه في زمنه.

(ص 374 - 375) حديث ليلة القدر، وفيه: "أقسمتُ عليك بحقي عليك. . " قال: "وضع هذه الكلمة في الحديث، وعدم ذكر الغضب من أجلها يفيد ضعف الحديث، فما كان لإمام التوحيد، وخاتم النبيين أن يسكت على قَسمَ ينال من قدسية التوحيد" (¬1)!! (ص 384) حديث في فضل سورة الملك: "وأن رجلًا سمع إنسانًا يقرأ سورة الملك وهو في القبر" فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي المانعة. . " قال: "أيقرأ الميت! ولمَ لمْ يخرجه أصحاب "الصحيح"، وهو يتكلم عن حديث هام؟! ولقد رواه الترمذي، ثم قال: هذا حديث غريب من هذا الوجه". (ص 384) حديث في فضل سورة الإخلاص: "حبك إياها أدخلك الجنة" قال: "رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به. ورواه الترمذي في "جامعه" عن البخاري، وقد رواه أحمد في "مسنده" متصلًا". (ص 389) حديث معاذ: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" قال: "أحمد والترمذي وابن ماجه". (ص 423) حديث: "تزوجوا الودود الولود. . " قال: "أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار". (ص 473) حديث: "أمر الدم، واذكر اسم اللَّه" قال: "وفي "سنن أبي داود" والنسائي: أمرر. . ". (ص 498) حديث: "من حلف بغير اللَّه فقد أشرك" قال: "أحمد في "مسنده" والترمذي والحاكم عن ابن عمر". (ص 501) حديث: "لا يدخل الجنة سيّئ الملكة" قال: "رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي بكر". (ص 501) حديث: "ملعون من مكر بمسلم. . " قال: "الترمذي عن أبي بكر". (ص 503) جوابه على سؤال معاوية بن حيدة: "يا رسول اللَّه أين تأمرني؟ قال: "هاهنا ونحا بيده نحو الشام" قال: "مثل هذه الأحاديث يشك في صحّتها، فإنها تثير عصبية حمقاء، وكراهية رعناء، عصبية لبلاد، وكراهية لبلاد، وكلها ¬

_ (¬1) من تكلم في غير فنّه أتى بالعجائب.

* طبعة دار الجيل

أرض اللَّه {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} " (¬1). (ص 503 - 504) قال في حديث آخر استشكله بعقله بعد كلام: "لننظر في سند الحديث، حتى لا نعرض خاتم النبيين -صلى اللَّه عليه وسلم- لبهتان أعدائه". (ص 508) حديث شق الصدر، قال عنه: "في الحديث مقال، ومعارض بغيره". هذه هي الأحاديث التي خرجها الأستاذ عبد الرحمن الوكيل، ويلاحظ على تخريجاته الأمور الآتية: أولًا: إنه ليس من أهل الصنعة الحديثية في قليل أو كثير، بل علق أشياء تدلل على جهل فاضح في هذا العلم، وأنه يعمل عقله ورأيه في التصحيح دون قواعد أهل الصنعة الحديثية. ثانيًا: إنه ليس بعارف في دواوين السنة، ولم يرجع إلى المصادر الحديثية الأصلية. ثالثًا: جل تخريجاته منقولة من "كشف الخفاء" وبعضها من "التلخيص الحبير" وغيرهما. رابعًا: الأحاديث المخرجة قليلة جدًّا جدًّا بالنسبة إلى الأحاديث الموجودة في الكتاب، ولا يوجد قيد وضابط للذي خرجه منها وللذي أهمله. خامسًا: كثير من الأحاديث المخرجة هي: في "الصحيحين" أو أحدهما، والقليل من غيرهما، وعلى الرغم من ذلك كان الكثير من هذا القليل لم يحكم عليه بصحة أو ضعف، فضلًا عن عدم عزوه إلى محاله ومظانه في دواوين السنة. سادسًا: بمقابلة تخريجاته على ما سطرناه يظهر للقارئ نقص كبير في العزو، وخلل في منهج التخريج! والخلاصة. . إن خدمة الوكيل للكتاب من ناحية حديثية فيها نقص شديد، والمثبت فيها قائم على منهج غير علمي، وخرجت منه فلتات تدلل على جهل فيه، وأنه ليس من أهل هذه الصنعة. * طبعة دار الجيل، أثبت على غلاف المجلدات الثلاثة الأولى منها: "حققه ¬

_ (¬1) نعم، عصبية حمقاء، للرأي والعقل الناقصين، وكراهية رعناء لقواعد أهل العلم في التصحيح والتضعيف، وهذه الجملة تهدم عشرات الأحاديث، بل المئات، ولا قوة إلا باللَّه!

وعلق عليه وعمل فهارسه عصام فارس الحرستاني، خرّج أحاديثه حسان عبد المنان" وعلى الأخير -الرابع- منها: "حققه وعلق عليه وعمل فهارسه عصام فارس الحرستاني، خرّج أحاديثه أحمد الكويتي" (¬1). والعمل الحديثي ظاهر في هذه الطبعة، ولي عليه ملاحظات كثيرة، أوجزها فيما يلي: أولًا: فيه جرأة عجيبة على أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما، فعلى الرغم من عدم الإسهاب في التخريج، والاقتصار على الاختصار قدر الجهد فيه، إلا أن تضعيف أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما، ظاهر في التعليقات، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 141، 142، 522 و 6/ 3، 70، 181، 198، 205، 201 و 3/ 206). ثانيًا: فيه أحاديث معزوة لـ"صحيح البخاري" مثلًا، وهي ليست فيه بالألفاظ التي ساقها المصنف، انظر -على سبيل المثال-: (5/ 183، 187، 190). ثالثًا: هنالك أحاديث في "صحيح البخاري" أو في "صحيح مسلم" ولم تقع معزوة لهما، وإنما عزيت لغيرهما، وهذه بعض الأمثلة تدلل على ذلك: - (2/ 272) قول ابن الزبير لما سئل عن الجد والإخوة، قال: أما الذي قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا. . . " إلخ، فقد عزاه المخرج إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي! وهو في "صحيح البخاري" (3658). - (2/ 244) حديث: يقول اللَّه عز وجل: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك. . " قال: "أخرجه بنحوه أحمد وآخرون بإسنادٍ يُحسَّن من حديث أبي هريرة"! والحديث بحروفه في "صحيح مسلم" (2985). - (1/ 319) حديث "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم. . . " قال: "أخرجه أحمد (4/ 229)، والترمذي (2322) من حديث المستورد بإسناد صحيح". قلت: ليس كذلك، وفيه أمران: ¬

_ (¬1) كذا أثبت في الغلاف الداخلي، أما الخارجي فعليه اسم الذي قبله.

الأول: الحديث في "صحيح مسلم" (2858) من حديث المستورد، مختصرًا. الآخر: إسناد أحمد للحديث بطوله فيه مجالد بن سعيد، وأما الترمذي، فليس فيه بالرقم المذكور إلا لفظ مسلم! رابعًا: هنالك ألفاظ في "الصحيحين" أو أحدهما، ونفى المخرج وجودها فيهما، مثل: - (2/ 515) (حديث عزاه المصنف لمسلم "كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع اللَّه لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض. . . " قال: "أخرجه البخاري (735) ومسلم (390) وليس فيه "ملء السماوات. . . " قلت: هو في "صحيح مسلم" (476) بعد (202) باللفظ الذي أورده المصنف لكن عن ابن أبي أوفى لا ابن عمر" وانظر نشرتنا (3/ 280). خامسًا: هنالك أحاديث في "الصحيحين" لم تقع معزوة إلا لمسلم، من مثل: - ما في (2/ 547): "كان رسول اللَّه يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. . " قال ابن القيم: "متفق عليه" وفي التخريج: "أخرجه مسلم (737) " قلت: والبخاري (1140) بلفظ نحوه، انظر نشرتنا (3/ 335) هامش (2). - وما في (1/ 316): "مثلي ومثل الأنبياء قبلي. . " عزاه لمسلم (2287) من حديث جابر، وهو في البخاري (3534) من حديثه أيضًا. وهنالك أحاديث معزوة لأحد "الصحيحين" على وجه غير صحيح، من مثل: - ما في (3/ 185) عند قول ابن القيم: "أنه أمر من صلى في رحله ثم جاء إلى المسجد أن يصلي مع الإمام، وتكون له نافلة" قال: "أخرجه مسلم (648) من حديث أبي ذر"!! قلت: لا صلة لما في "صحيح مسلم" مع كلام المصنف! وقارن بنشرتنا (4/ 35). - ومثله ما في (3/ 187) عند قول ابن القيم: "أنه نهى أن يبيت الرجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا رحم محرم" قال: "أخرج البخاري (3006) ومسلم (1341) من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا يخلونَّ رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم". قلت: صلة هذا الحديث بالكلام السابق ضعيفة! والصحيح أن المصنف يريد ما عند مسلم (2171) من حديث جابر: "ألا لا يبيتنّ رجل عند امرأة ثيِّب،

إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم". - وما في (4/ 340) حديث سراقة بن مالك بن جعشم، عزاه المحقق لمسلم (2648)، والمذكور ليس لفظ مسلم، وإنما لفظ ابن حبان (337)، وانظر نشرتنا (5/ 240). ومثل ذلك كثير جدًّا، فمثلًا في (4/ 344) في الهامش الأول ما نصه: أخرجه مسلم (2760)، ولا صلة بين الحديث وما في "صحيح مسلم" نعم فيه نحوه، انظر نشرتنا (5/ 245 - 246). ومن هذا النوع من الأوهام (معزو إلى "الصحيحين" أو أحدهما على وجه غير صحيح): - ما في (1/ 270): "لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه" ففي تخريجه: "أخرجه البخاري (6290) ومسلم (2184) من حديث ابن عمر"! والحديث في "الصحيحين" في الموطنين المشار إليهما عن ابن مسعود لا ابن عمر! هذه خمس ملاحظات تخص أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما، وأما بالنسبة إلى أحاديث غير "الصحيحين" فالمؤاخذات كثيرة وعظيمة، من أهمها: سادسًا: ترك تخريج أحاديث قولية مصادرها بعيدة أو تحتاج إلى أناة (¬1)، وكذلك بالنسبة إلى الأحاديث الفعلية إذ الغالب عليها الإهمال انظر -على سبيل المثال-: (1/ 284، 285، 286، 288، 300، 303، 304، 334، 335، 336 (جملة أحاديث) و 2/ 173، 383، 419 و 4/ 88، 97، 279، 337). سابعًا: الأخطاء الكثيرة والتحريفات الشنيعة في أسماء الرواة، وتقدم طرف منها تحت عنوان (تقويم الطبعات التي وقفت عليها). ثامنًا: هنالك تعنت في الحكم على الأحاديث، وميل إلى التضعيف، والإعلال على غير مسلك أهل الصنعة الحديثية، وعدم العناية بتخريج لفظ المصنف، والعجلة في إطلاق الأحكام (¬2)، وعدم تتبع الطرق والشواهد، والنظر في أحكام الحفاظ والمخرجين، والتصريح بقواعد غير مسلوكة عندهم. ¬

_ (¬1) ولذا وقع التصريح بعدم الوقوف على جملة من الأحاديث، انظر -مثلًا-: (1/ 237، 352 و 527/ 2 و 279/ 4)، وانظر: بشأن العجلة (3/ 80). (¬2) في المجلد الرابع عدد كببر من الأحاديث، تخريجها مجرد عزو دون حكم!

منهجنا في تخريج الأحاديث والآثار في نشرتنا هذه

هذه ملاحظاتي السريعة على الجهود الحديثية المبذولة فى الطبعات السابقة من هذا الكتاب، أما بالنسبة إلى: * منهجنا في تخريج (¬1) الأحاديث والآثار في نشرتنا هذه فقد جهدنا في تخريج أحاديث وآثار الكتاب، واستطعنا -بحمد اللَّه ومنّه- الوقوف على كثير من المصادر التي ينقل منها المصنّف، وكانت خطتنا في التخريج على النحو التالي: أولًا: لم نسهب في تخريج أحاديث "الصحيحين"، أو أحدهما، إلا لضرورة أو فائدة. ثانيًا: اعتنينا بتخريج الأحاديث والآثار القولية والفعلية، وكذلك التي أومأ وأشار إليها المصنف. ثالثًا: بيَّنا درجة الأحاديث والآثار من حيث الصحة والحسن والضعف. رابعًا: حاولنا الوقوف على مصادر المصنّف من النقل، وتمييز حد الصحيح من الضعيف. خامسًا: اعتنينا بتخريج اللفظ الذي أورده المصنف. سادسًا: إذا كان المصنّف ينقل حديثًا ضعيفًا، كنتُ أُبيِّن ذلك، ثم أورد ما يغني عنه. ومن عملي في التحقيق أيضًا: أنني حرصتُ على صنع كشافات علميّة تحليلية (¬2) للكتاب، اشتملت على الأمور الآتية: أولًا: فهرس الآيات، ورتبته على حسب ورودها في القرآن الكريم. ثانيًا: فهرس الأحاديث والآثار حسب حروف المعجم. ثالثًا: فهرس الأحاديث حسب المسانيد. ¬

_ (¬1) شاركني الأخ أحمد عبد اللَّه أحمد -حفظه اللَّه تعالى- في هذا التخريج، فاقتضى التنويه والتنبيه. (¬2) لا يشك باحث أن هذه الفهارس من الأمور المهمة جدًّا، ولا سيما في عصرنا هذا الذي كثرت فيه طبعات الكتب، والباحث في حاجة ملحة إلى اختزال الوقت، وإنفاق كل دقيقة في الأمر النافع، فضلًا عن فائدة هذه الفهارس للمحقق نفسه، إذ من خلالها يوزن صحة النصوص، وقد تكشف عن خطا المؤلف أو سهوه، بل خطأ المحقق نفسه كذلك، ودونها يضيع كثير من الوقت، ويبعثر الجهد.

رابعًا: فهرس الآثار حسب القائلين. خامسًا: فهرس أعلام الكتاب حسب حروف المعجم. سادسًا: فهرس الفرق والجماعات والطوائف حسب حروف المعجم. سابعًا: فهرس الأشعار حسب الروي. ثامنًا: فهرس الجرح والتعديل حسب حروف المعجم. تاسعًا: فهرس الكتب والمسائل والروايات حسب حروف المعجم. عاشرًا: فهرس أسماء الحيوانات حسب حروف المعجم. حادي عشر: فهرس الغريب والاصطلاحات المشمروحة (في المتن والهامش)، حسب حروف المعجم. ثاني عشر: فهرس الفوائد العلمية، ورتبتُها حسب المواضيع الآتية: (التوحيد، علوم القرآن، مصطلح الحديث وعلومه، القواعد الفقهية، الأصول والقواعد، الفوائد الفقهية (¬1)، ورتبتُها على أبوابها المعتادة: الطهارة، الصلاة، الجنائز، الزكاة. . .). ثم أفردتُ بعض المباحث المهمة عند المصنف بالفهرسة، وهي: الأوائل، الأحاديث التي حكم عليها المصنف بالصحة والضعف، التصحيفات والتحريفات في الكتب المطبوعة، تعقبات المحقق على المصنف، تعقبات المحقق على المصنِّفين والمحققين، ردود وتعقبات العلماء بعضهم على بعض، تنبيه ابن القيم على أخطاء في فهم أحاديث صحيحة، الغلط على الأئمة، الفروق، المفاضلات. هذه كلمة في جهدي في خدمة هذا الكتاب، فإن أصبتُ -وذلك ما أرجو- فمن اللَّه وحده، لا شريك له، وإن أخطأتُ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر اللَّه منه، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وكتب أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان تحريرًا في الأردن - عمان السابع عشر من شعبان من سنة 1422 هـ ¬

_ (¬1) استفدتُ من "التقريب لفقه الإمام ابن القيم" للعلامة الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- فنسجتُ هذا الفهرس على منواله، وزدت عليه ما فاته، واللَّه الموفق.

سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الثاني] دار ابن الجوزي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [2]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339

[خطبة الكتاب]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [وبه أَستعين، رب يسر وأعن يا كريم] (¬1) [خطبة الكتاب] الحمد للَّه الذي خلق خلقه أَطْوَارًا، وصَرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عِزَّةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المُكَلَّفين إعذارًا منه وإنذارًا، فأتَمَّ بهم (¬2) على من اتبع سبيلَهم نعمته (¬3) السابغة، وأقام بهم على مَنْ خالف مَنَاهجهم حجته البالغة، فنصَبَ الدليلَ (¬4)، وأنار السبيل، وأزاح العِلَل، وقطع المعَاذير، وأقام الحجَّة، وأوضح المحَجَّة (¬5)، وقال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وهؤلاء رسلي {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فعمَّهم بالدعوة على ألسِنَةِ رسلهم (¬6) حجّةً [منه] (¬7) وعَدْلًا، وخَصَّ بالهداية مَنْ شاء منهم نعمةً [منه] (¬8) وفضلًا، فقبِلَ نعمةَ الهداية مَنْ سبقت له [من اللَّه] (8) سابقة السعادة، وتَلَقَّاها باليمين، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] , ورَدَّها مَنْ غَلَبَتْ عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسًا بين (¬9) العالمين, فهذا فضلُه وعَطَاؤه {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (¬10) [الإسراء: 20] , ولا فَضْلُه بممنون (¬11)، وهذا عَدْله وقضاؤه فـ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬2) في (ك): "لهم". (¬3) في (ق) و (ن): "نعمه". (¬4) في (ك): "ونصب الدلائل". (¬5) "المحجة": جادة الطريق (ط). (¬6) في (ق): "رسله". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬9) في (ك): "من". (¬10) بدل الآية في (ن) و (ق) و (ك): "وما عطاؤه بمحظور". (¬11) "المحظور": الممنوع، و"الممنون": المقطوع، أو الذي يمن به معطيه (د)، ونحوه في (ط).

وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] فسبحان مَنْ أفاض على عباده النعمة، وكَتَب على نفسه الرحمة، وأودع الكتابَ الذي كتبَه، أنَ رحمتَه تغلب غضبه، وتبارك (¬1) مَنْ له في كل شيء على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وحكمته أعْدَلُ شاهد، ولو لم يكن إلَّا أنْ فاضَلَ بين عباده في مراتِب الكَمَال (¬2)، حتى عَدَل (¬3) الآلافَ المؤلَّفَةَ منهم بالرجل الواحد، ذلك ليُعلِم عباده أنه أنزل التوفيقَ مَنَازِلَه، ووضع الفضلَ مواضعه، وأنه يختصُّ برحمته مَنْ يشاء وهو العليم الحكيم، وأن الفضل بِيَدِ اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. أحمدُه -والتوفيقُ للحمد من نعمه-، وأشكره -والشكرُ كفيلٌ بالمزيد من فضله [وكرمه] (¬4) وقَسْمِه-، وأستغفره، وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زَوَالَ [نعمه، وحلول نقمه] (¬5). وأشهد أنْ لا إله إلا اللَّه -وحده لا شريك له-، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وفَطَر اللَّه عليها جميعَ المخلوقات، وعليها أُسِّسَتِ الملة، ونُصِبت القِبلة، ولأجلها جُرّدت سيوف الجهاد، وبها أمر اللَّه سبحانه جميعَ العباد؛ وهي (¬6) فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، ومفتاحُ عُبُوديته التي دعا الأمم على ألسن رُسُله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السَّلام، وأساس الفرض والسُّنَّة، ومَنْ كان آخر كلامه: لا إله إلا اللَّه؛ دخَل الجنة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخِيرَتُه (¬7) من خلقه، وحجته على عباده، وأمِينُه على وَحْيه، أرسله رحمةً للعالَمين، وقُدوةً للعالِمين (¬8)، ومَحَجَّةً للسالكين، وحُجَّةً على المعَاندين، وحَسْرةً على الكافرين. أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللَّه بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنعم به على أهل الأرض نعمةً لا يستطيعون لها شُكورًا، فأَمدَّه بملائكته المُقَرَّبين (¬9)، وأيَّده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين، الفارقَ بين الهُدَى والضلال، [والغي والرشاد] (¬10)، والشك واليقين، فشرَحَ ¬

_ (¬1) في (ق): "فتبارك". (¬2) في (ك): "الجمال". (¬3) في (ق) و (ن): "حتى تعدل". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬5) في (ك): "نعمته وحلول نقمته". (¬6) في المطبوع: "فهي". (¬7) "بفتح الياء وسكونها" (و). (¬8) في (ق): "للعاملين". (¬9) في (ق): "بالملائكة المقربين". (¬10) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض.

[أشرف العلوم ومن أين يقتبس]

[اللَّه] (¬1) له صَدْره، ووضع عنه وِزْرَه، ورفَع له ذِكْره، وجعل الذِّلَّة (¬2) والصَّغَار على مَنْ خالف أمره، وأقْسَم بحياته في كتابه المبين، وقَرَن اسمَه باسمه، فإذا ذُكر: ذكر معه -كما في الخُطَب والتَّشَهُّد والتأذين-، وافترض على العباد طاعَتَه ومحبته والقيام بحقوقه، وسَدَّ الطرق كلها إليه وإلى جنته؛ فلم يفتح لأحد إلا من طريقه؛ فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله تُوزَن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفُرْقَانُ المُبين الذي باتِّباعه تميز (¬3) أهل الهدى من أهل الضلال. ولم يَزَلْ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُشَمِّرًا في ذات اللَّه -تعالى- لا يرده عنه رادٌّ، صادعًا بأمره لا يصده عنه صادٌّ، إلى أن بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَح الأمة، وجاهد في اللَّه حق الجهاد، فأشرقت برسالته الأرضُ بعد ظُلُماتها، وتألفت به القلوبُ بعد شَتاتها، وامتلأت به الأرضُ (¬4) نورًا وابتهاجًا، ودخل الناسُ في دين اللَّه أفواجًا، فلما أكمل اللَّه -تعالى- به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به ونَقَله إلى الرفيق الأعلى، والمحلِّ الأسْنى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، فصلَّى اللَّه، وملائكتُه، وأنبياؤه، ورسُلُه، والصالحون من عباده عليه [وآله] (¬5) -كما وحَّد اللَّه، وعرّف به، ودعا إليه- وسلم تسليمًا كثيرًا. [أشرف العلوم ومن أين يقتبس] أما بعد: فإن أولى ما يَتَنافَسُ (¬6) فيه (¬7) المتنافسون، وأحْرَى [ما يتسابق] (¬8) في حَلْبة (¬9) سِباقه المتسابقون (¬10): ما كان بسعادة العبد في مَعَاشه ومَعَاده كَفيلًا، وعلى طريق هذه السعادة دليلًا، وذلك العِلْم النافعُ، والعمل الصالح، اللذان (¬11) لا سعادَةَ للعبد إلا بهما، ولا نجاة (¬12) له إلا بالتعلُّقِ بسببهما، فَمَنْ رُزِقَهما: فقد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬2) في (ن): "الذل". (¬3) في المطبوع: "يميز". (¬4) في (ن) و (ق) و (ك): "وامتلأت به الدنيا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬6) في (ق): "تنافس". (¬7) في المطبوع: "به". (¬8) سقطت من (ك) و (ق). (¬9) "الحلبة -بالفتح- الدفعة من الخيل في الرهان" (حـ). (¬10) في (ن) و (ق): "وأجرى في حلبة سباقه المتسابقون". (¬11) في (ن) و (ك) و (ق): "اللذين"!! (¬12) في (ك): "حجة".

[نوعا التلقي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-]

فاز وغنم، ومن حُرِمَهما: فالخيرَ كله حُرِم، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم، وبهما يتميز البر من الفاجر، والتقي من الغَوِيّ، والظالم من المظلوم. ولما كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا، وشَرَفُه لشرف معلومه تابعًا، كان أشرفُ العلوم على الإطلاق علْمَ التوحيد، وأنفعها على أحكام [أفعال] (¬1) العبيد، ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين، وتلقي هذين العِلْمين؛ إلا من مِشْكَاة مَنْ قامت الأدلة القاطعة على عِصْمَته، وصَرَّحت الكتبُ السماوية بوجوب طاعته ومُتَابعته، وهو: الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]. [نوعا التلقي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] ولما كان التَّلَقِّي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التَّلقي بلا واسطة حظَّ أصحابه الذين حازوا قصبات (¬2) السِّباق، واستولَوْا على الأمد (¬3)، فلا مَطْمَع (¬4) لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المُبرِّز: من اتبع صراطهم (¬5) المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلِّف: مَنْ عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال؛ فذلك المنقطع التائه في بَيْداء المهالك والضلال. [ما كان عليه الصحابة من علم وعمل] فأي خَصْلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأيّ خطَّة رُشدٍ لم يستولوا عليها؟ تاللَّه لقد وَرَدُوا رأسَ الماء من عين الحياة عَذْبًا صافيًا زُلالًا، وأطَّدوا (¬6) قواعد الإسلام فلم يَدَعُوا لأحد بعدهم مَقَالًا، فتحوا القلوب [بِعَدْلهم] (¬7) بالقرآن والإيمان، والقُرَى بالجهاد بالسيف (¬8) والسِّنان، وألْقَوا إلى التابعين ما تلقوه من مِشْكاة النبوة خالصًا صافيًا، وكان سَنَدُهم فيه عن نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، عن جبريل، عن رب العالمين ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن) و (ك). (¬2) في (د): "قصباب"!. (¬3) في (ك): "الأمة". (¬4) في المطبوع: "فلا طمع". (¬5) في (ك): "طريقهم". (¬6) في المطبوع: "وأيدوا" وفي (ك): "وتلدوا" وأشار في الهامش أنه في نسخة: "وأطدوا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ن) و (ك): "بعده". (¬8) في (ق): "والسيف".

[وقوف الأئمة والتابعين مع الحجة والاستدلال]

سَنَدًا صحيحًا (¬1) عاليًا، وقالوا: هذا عَهْدُ نبينا إلينا، وقد عهدنا (¬2) إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا، وهي وصيته وفرضه عليكم، فَجَرَى التابعون لهم بإِحسان على منهاجهم (¬3) القويم، واقْتَفَوْا على آثارهم صراطَهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (¬4) [الحج: 24]، وكانوا بالنسبة إلى مَنْ قبلهم -كما قال أصدق القائلين-: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14]. [وقوف الأئمة والتابعين مع الحجة والاستدلال] [ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المُفَضَّل (في إحدى الروايتين)، كما ثَبَتَ في "الصحيح"] (¬5) من حديث أبي سعيد، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعِمْرَان بن حُصَين (¬6)، فسلكوا على آثارهم اقتصاصًا، واقتبسوا هذا ¬

_ (¬1) في (ك): "بسند صحيح". (¬2) في (ن) و (ق) و (ك): "عهدناه". (¬3) في (ن): "مناهجهم". (¬4) في (ن): "صراط العزيز الحميد"!!. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) حديث أبي سعيد: رواه البخاري في "صحيحه" (2897) في (الجهاد): باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، و (3594) في (المناقب) في (علامات النبوة)، و (3649) في (الفضائل): باب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (2532) في (فضائل الصحابة)، باب فضل الصحابة. وحديث ابن مسعود: رواه البخاري (2652) في (الشهادات): باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، و (3651) في (فضائل الصحابة): باب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (6429) في (الرقاق): باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس عليها، و (6658) في (الأيمان والنذور): باب إذا قال أشهد باللَّه أو شهدت باللَّه، ومسلم (2533) في (الفضائل): باب فضل الصحابة. وقد ورد في "الصحيحين" بذكر: "ثم الذين يلونهم" مرتين، ولكنه عند ابن أبي شيبة في "مصنفه" (12/ 175) -ومن طريقه ابن حبان- (7227) -، ذكرها ثلاث مرات، وفي بعض طرق مسلم: فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة قال: "ثم يتخلف". وأما حديث أبي هريرة: فرواه مسلم (2534) في (الفضائل): باب فضائل الصحابة بلفظ طخير أمتي قرني الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم واللَّه أعلم أذكر الثالث أم لا". وأما حديث عمران بن حصين: فرواه البخاري (2651) في (الشهادات): باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، و (3650) في (فضائل الصحابة): باب فضائل أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- و (6428) في (الرقاق): باب ما يحذر من زهرة الدنيا، و (6695) في (الأيمان والنذور): باب فضل الصحابة. وفيه: "فلا أدري! أقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد قرنه مرتين أو ثلاثة؟! " =.

[ليس المتعصب من العلماء]

الأمرَ من (¬1) مشكاتهم اقتباسًا، وكان دين اللَّه -سبحانه- أجَلَّ في صدورهم، وأعْظَمَ في نفوسهم، من أن يقدِّموا عليه رأيًا أو معقولًا أو تقليدًا أو قياسًا، فطار لهم الثناء الحسنُ في العالمين، وجعل اللَّه -سبحانه- لهم لسان صِدْقٍ في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرَّعِيلُ الأول من اْتباعهم، ودَرَجَ على منهاجهم الموفَّقُون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يَسيرون مع الحق أين سارت ركائبُه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مَضَاربه، إذا بَدَا لهم الدليلُ باخذته (¬2) طاروا إليه زَرَافاتٍ ووُحْدانًا (¬3)، وإذا دعاهم الرسولُ إلى أمر انتدبوا إليه (¬4)، ولا يسألونه على ما قال برهانًا (¬5)، ونصوصه أجلّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قولَ أحدٍ من الناس، أو يُعَارضوها برأيٍ أو قياس. [ليس المتعصب من العلماء] ثم خَلَفَ من بعدهم خُلُوف، {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ ¬

_ = أقول: وهو في "مصنف ابن أبي شيبة" (12/ 176)، ومن طريقه ابن حبان (7229)، ذكر "ثم الذين يلونهم" ثلاث مرات، ورواه الطبراني في "الكبير" (18/ رقم 585)، من طريق ابن أبي شيبة، فذكر "ثم الذين يلونهم" مرتين. وأما حديث عائشة: رواه مسلم (2536)، ولفظه: "القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث". (¬1) في المطبوع: "عن". (¬2) قال (ط): "الأخذة -بضم الهمزة- رقية كالسحر، يريد أنهم يهرعون إلى الدلالة القوية التي تأخذ بمجامع القلوب"، ونحوه في (د)، ووقع في (ن) و (ك) بدلها: "ناجذيه" وفي (ق): "أبدى. . . ناجذيه". (¬3) "أخذ هذه الفاصلة من معنى قول شاعر الحماسة: قَومٌ إِذا الشرُّ أبْدَى ناجِذَيْه لهمْ ... طارُوا عليه زَرَافَاتِ وَوُحْدَانا والزرافات: جمع زرافة -بِزِنَةِ سحابة-، وهي الجماعة، والمعنى: أسرعوا إلى إجابته مجتمعين ومتفرقين، يريد لم يتخلف أحد عن إجابته" (د)، ونحوه في (ط)، وقال: "لقد كان المؤلف -رحمه اللَّه- مثقفًا؛ عالمًا بالشعر والأدب، انظر فى ذلك: [كتاب] "ابن قيم الجوزية" للدكتور عبد العظيم شرف الدين (ص 76) وما بعدها" اهـ. وكتب (ح): "الزرافة: الجماعة من الناس، والزرافات: الجماعات" اهـ. (¬4) في (ق): "انتدبوا له". (¬5) "وأخذ هذه الفاصلة من قول شاعر الحماسة -أيضًا-: لا يسأَلونَ أخاهُمْ حينَ ينْدُبُهمْ في ... النائباتِ على ما قال بُرْهانا" (د)، (ط).

[العلماء ورثة الأنبياء]

فَرِحُونَ} [الروم: 22] تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، وكلٌّ إلى ربهم راجعون وجَعَلوا (¬1) التعصُّبَ للمذاهب ديانتَهم (¬2) التي بها يَدِينون، ورؤوسَ أموالهم التي بها يَتَّجرون، وآخَرُون منهم قَنَعُوا بِمَحْض التقليد؛ وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، والفريقان بمَعْزَلٍ عما ينبغي اتباعه من الصواب، ولسان الحق يتلو عليهم: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123]؛ قال الشافعي -قدس اللَّه تعالى روحه-: "أجمع المسلمون على أن مَنْ استبانت له سنةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لم يكن له أن يَدَعَها لقول أحدٍ من الناس"، وقال أبو عمر (¬3) وغيره من العلماء: أجمع الناسُ على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم، وأنَّ العلم معرفَةُ الحق بدليله. وهذا كما قال أبو عمر -رحمه اللَّه [تعالى] (¬4) -؛ فإن الناس لا يختلفون أن العلم: هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد (¬5). فقد تضمَّن هذان الإجماعان: إخراجَ المتعصب بالهوى؛ والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء، وسقوطهما باستكمال مَنْ فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء. [العلماء ورثة الأنبياء] " فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثُوا العلم، فمن أخذه أخَذَ بحظٍّ وافر" (¬6)، وكيف يكون من ورثة ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "جعلوا". (¬2) في (ك): "دياناتهم". (¬3) في "جامع بيان العلم" (787/ 2، و 993 - ط دار ابن الجوزي) بنحوه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في نسخة (و): "تقليده". (¬6) أخرج أبو داود في "السنن": (كتاب العلم): باب الحث على طلب العلم (3/ 317/ رقم 3641)، وابن ماجه في "السنن" (المقدمة): باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، (1/ 81/ رقم 223)، وأحمد في "المسند" (5/ 196)، والدارمي في "السنن" (1/ 98)، والطحاوي في "المشكل" (1/ 429)، وابن حبان في "صحيحه" (رقم 88 - الإحسان)، والبزار في "المسند" (رقم 136 - زوائده)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 275 - 276/ رقم 129)، والبيهقي في "الآداب" (رقم 1188)، والخطيب في "الرحلة" (77 - 78)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 169، 170، 171، 172) عن أبي الدرداء مرفوعًا: "من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا. . . "، وفيه: "إن العلماء ورثة الأنبياء، إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وأورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر" وفي بعض أسانيده ضعف وبعضها حسن في الشواهد، وللحديث شواهد يتقوى بها قال ابن حجر في "الفتح" (1/ 160): قال ابن حبان عقب الحديث: "في هذا الحديث بيان واضح أن =

[فتنة التعصب والمتعصبين]

الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من يجهد ويكدح في ردِّ ما جاء به إلى قول مُقَلَّده ومتبوعه، ويُضيِّع [عليه] (¬1) ساعات عمره في التعصب والهوى، ولا يشعر بتضييعه!؟ [فتنة التعصب والمتعصبين] تاللَّه إنها فتنة عَمَّت فأَعْمَتْ، وَرَمَتِ القلوب فأصْمَتْ (¬2)، رَبَى عليها الصغير، وَهَرِمَ فيها الكبير، واتخذ (¬3) لأجلها القرآن مهجورًا، وكان ذلك بقضاء اللَّه وقَدَره في الكتاب مسطورًا، ولما عمَّت بها البليَّة، وعظمت بسببها (¬4) الرزيَّة، بحيث لا يعرفُ أكْثَرُ الناس سواها ولا يعدُّونَ العلم إلا إياها، فطالِبُ الحق من مَظَانِّه (¬5) لديهم مَفْتون، مُؤْثِره (¬6) على ما سواه عندهم مَغْبُون، نَصَبوا لمن خالفهم في طريقتهم (¬7) الحَبائل، وبَغَوْا له الغوائل، ورَمَوْه عن قوس الجهل والبغي والعناد, وقالوا لإخوانهم: {إِنِّي أَخَافُ (¬8) أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]. فحقيقٌ بِمَنْ لنفسه عنده قَدْرٌ وقيمَة، ألَّا (¬9) يلتفت إلى هؤلاء، ولا يرضى لها بما لديهم، وإذا رُفِعَ له علم السنة النبوية شَمَّرَ إليه، ولم يَحْبِسْ نفسَه عليهم، فما هي إلا ساعة حتى يُبَعْثَر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور، وتتساوى أقدام الخلائق في القيام للَّه، وينظر [كل عبد ما قدَّمت يداه، ويقع التمييز بين المحقّين والمُبْطِلين، ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم] (¬10)، وسنة نبيهم؛ أنهم كانوا كاذبين. ¬

_ = العلماء الذين لهم الفضل الذي ذكرناه، هم الذين يعلمون علم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دون غيره من سائر العلوم؛ ألا تراه يقول: "العلماء ورثة الأنبياء"؟ والأنبياء لم يورثوا إلا العلم، وعِلْمُ نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-: سنته، فمن تَعرَّى عن معرفتها؛ لم يكن من ورثة الأنبياء". (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) "رمى، فأصمى": أي: [رمى فـ]، أصاب [من الصيد] مقتلًا، وفي الحديث (عن الصيد): "كل ما أصميت، ودع ما أنميت" [الصحاح] (د)، و (ط)، ما بين المعقوفات زيادات (ط) على (د)، وما بين القوسين زيادة (د) على (ط). (¬3) في (ك): "واتخذوا". (¬4) في (ك): "لسببها". (¬5) "مظان"، جمع فظنة، الجمع الذي يظن أن الشيء فيه، ولقد استعمل الظن هنا بمعنى العلم (ط)، ووقع في (ق): "طالب العلم" بدل "طالب الحق". (¬6) في (ك) و (ق): "ومؤثرة". (¬7) في (ق) و (ن): "طريقهم". (¬8) في (ق): "إنا نخاف". (¬9) في (ق): "أن لا". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [علماء الأمة على ضربين]

فصل [علماء الأمة على ضَربين] ولما كانت الدعوةُ إلى اللَّه [-عز وجل-] (¬1)، والتبليغ عن رسوله، [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (1) شِعَار حزبه المُفْلِحين، وأتباعه من العالمين، كما قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وكان التبليغ عنه نوعين (¬2): تبليغ ألفاظ ما (¬3) جاء به، وتبليغ معانيه؛ كان العلماءُ من أمته منحصرين في قسمين: أحدهما: حُفَّاظ الحديث وجَها بذته، ونقَّاده (¬4) الذين هم أئمة الأنام، وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة (¬5) مَعَاقد الدين ومَعَاقله، وحَمَوْا من التغيير والتكدير مواردَه وَمناهله، حتى وَرَدَ مَنْ سَبَقَتْ له من اللَّه الحسنى تلك المناهِلَ صافية من الأدناس لم تَشُبْها الآراء تغييرًا، ووردوا فيها (¬6) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]، وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل [-قدس اللَّه روحه-] (1) في خطبته المشهورة، في كتابه [في] (1) "الرد على الزنادقة والجهمية" (¬7): "الحمدُ للَّه الذي جعل في كل زمان فترةٍ من الرسل، بقايا من أهل العلم يَدْعُونَ من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحْيُونَ بكتاب اللَّه -تعالى (¬8) - الموتى، ويبصّرون بنِور اللَّه أهلَ العَمَى، فكم من قتيل لإبليس قد أَحْيَوْهُ؟ وكم من ضال تائه قد هَدَوْه؟ فما أَحْسَنَ أَثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم! يَنْفُون عن كتاب اللَّه تحريف الغالينَ، وانتحالَ المبطلين، وتأَويلَ الجاهلين، الذين عقدوا أَلْوِيَةَ البدعةِ، وأطلقوا عِنان (¬9) الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على اللَّه، وفي اللَّه، وفي كتاب اللَّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، وَيخْدَعُون جُهال الناس بما يُشَبهون عليهم؛ فنعوذ باللَّه من فتنة المُضِلِّينَ" (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) في المطبوع و (ك): "من عين". (¬3) في المطبوع و (ك): "تبليغ ألفاظه وما". (¬4) في المطبوع: "والقادة". (¬5) في المطبوع: "الأئمة". (¬6) في (ن) و (ق): "ووردوا منها". (¬7) "جهم بن صفوان": أبو محرز السمرقندي، الضال المبتدع، الجاحد للصفات الإلهية، رأس الجهمية، قتله نصر بن سيار سنة ثمان وعشرين ومئة. قلت: العبارة المذكورة في "الرد على الزنادقة والجهمية" (ص 52 - ضمن "عقائد السلف"). (¬8) في (ق): "عز وجل". (¬9) في مطبوع "الرد على الجهمية": "عقال". (¬10) في (ن): "فتن المضلين"، وكذا في مطبوع "الرد على الجهمية"، ونقل المصنف هذه =

فصل [فقهاء الإسلام ومنزلتهم]

فصل [فقهاء الإسلام ومنزلتهم] القسم الثاني: فُقَهاء الإسلام (¬1)، ومَنْ دارت الفُتْيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنُوا بضَبْط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أَفْرَضُ عليهم من طاعة الأمهات والآباء؛ بنص الكتاب، قال اللَّه -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. [من هم أولوا الأمر] قال عبد اللَّه بن عباس في إحدى الروايتين عنه، وجابرُ بن عبد اللَّه، والحسنُ البَصْري، وأبو العَالية، وعَطاء بن أبي رَبَاح، والضَّحاك، ومجاهد [ابن جبر] (¬2) في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر همُ العُلماء، وهو إحدى الروايتين عن [الإمام] (¬3) أحمد، [و] (¬4) قال أبو هريرة، وابن عباس في الرواية الأخرى، وزيد بن أسلم، والسُّديُّ، ومُقَاتل: هم الأمراء، وهو الرواية الثانية عن أحمد (¬5). ¬

_ = المقولة في "الصواعق المرسلة" (3/ 927 - 928)؛ وقال عقبها: "وهذه الخطبة تلقاها أحمد عن عمر بن الخطاب، أو وافقه فيها!! فقد ذكرها محمد بن وضاح في أول كتابه في "الحوادث والبدع". قلت: أخرجها ابن وضاح في "البدع" (رقم: 3) عن عمر بإسناد ضعيف، وذكرها المصنف ضمن ديباجته لـ "مفتاح دار السعادة" (1/ 103 - 104 - ط دار ابن عفان). (¬1) "كنا نود أن يضيف الإمام ابن القيم إلى حفاظ الحديث وصفًا آخر، وكذلك إلى الفقهاء وصفًا هو الوصف الذي يجد في سبيله كل مسلم المتدبر للقرآن العاملين به" (و). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك)، وفي (ن): "ابن جبير". قال المزي في "تهذيب الكمال" (27/ 228): "مجاهد بن جبر، ويقال: ابن جبير، والأول أصح". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬5) الذين قالوا هم العلماء: قول جابر: رواه الطبراني (5/ 148)، وفيه سفيان بن وكيع، وهو ضعيف، وله طرق أخرى عند أحمد في "مسائل الخلال" (ق 7/ أ)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 122 - 123) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وعنه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبري" (رقم 268)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ 988 رقم 5533)، وابن عبد البر في "الجامع" رقم (1419)، وبعض أسانيده لا بأس بها. وعزاه في "الدر المنثور" (2/ 315) لابن أبي شيبة، وعبد بن حُميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر. وقول ابن عباس: رواه الطبراني (5/ 419)، والحاكم (1/ 123)، وعنه البيهقي في "المدخل" (رقم 266)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ 989 رقم 5534)، وعزاه في (الدر المنثور" (2/ 315) لابن المنذر أيضًا، وهو في "صحيفة علي بن أبي طلحة" (رقم (232). وقول الحسن البصري: رواه عبد الرزاق في "التفسير" (1/ 166)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ 989 رقم 5536)، وسعيد بن منصور في "السنن" (4/ 289 رقم 654)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 269، 271)، والطبري (5/ 149)، وإسناده صحيح. وقول أبي العالية: رواه الطبري (5/ 149) وعزاه في "الدر" لابن أبي شيبة. وقول عطاء بن أبي رباح: رواه سعيد بن منصور في "السنن" (4/ 1289 رقم 655)، والدارمي في "السنن" (1/ 72) والطبري (5/ 149)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1417)، والبيهقي في "المدخل" (رقم (269). وقول مجاهد: رواه الطبري (5/ 149)، وعبد الرزاق في "التفسير" (1/ 166)، وسعيد بن منصور في "السنن" (4/ 287 رقم 653 و 656)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ 989 رقم 5535)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (12/ 213 رقم 12580)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 292 و 293)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1418)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 270 و 271) وله طرق عنه وهو صحيح. وعزاه في "الدر" لسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم وعبد بن حميد. وأما من قال هم الأمراء: قول أبي هريرة: رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ 988 رقم 5530، 5532)، وسعيد بن منصور في "السنن" (4/ 1287 رقم 652)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (12/ 212 - 213 رقم 12577 و 12/ 214 - 215 رقم 12585)، والطبري (5/ 147)، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "الفتح" (8/ 254)، وأحمد شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري" (8/ 498 رقم 9856). وقول ابن عباس: رواه الطبري (5/ 147)، ويؤيّده ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (رقم 4584) (كتاب التفسير): باب {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ}، ومسلم في "الصحيح" (رقم 1834): (كتاب الإمارة): باب وجوب طاعة الأمراء وغيرهما: عن ابن عباس؛ قال: نزلت في عبد اللَّه بن حذافة إذ بعثه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في السِّريَّة. وانظر "تفسير ابن عباس"، ومروياته في التفسير من كتب السنة (1/ 245 - 247) لعبد العزيز الحميدي. وقول زيد بن أسلم والسدي: في تفسير الطبري (5/ 148). وانظر قول أحمد في "مسائل الخلال" (ق 7/ أ)، و "مرويات أحمد بن حنبل في التفسير" (1/ 370 - 373).

[طاعة الأمراء تابعة لطاعة العلماء]

[طاعة الأمراء تابعة لطاعة العلماء] والتحقيق أن الأمراء إنما يُطَاعون إذا أَمَرُوا بمقتضى العلم؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف، [وما أوجبه العلم] (¬1)، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعًا، كان صلاحُ العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبد اللَّه بن مبارك، وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا (¬2) صلح الناس، وإذا فسدا (¬3) فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك، والعلماء (¬4)، وقال (¬5) عبد اللَّه بن مبارك (¬6): رأيْتُ الذنوبَ تُمِيتُ القلوبَ ... وقد يورث الذُّلَّ إدْمانُهَا وتَرْكُ الذنوبِ حياةُ القلوب ... وخَيْرٌ لنفسِكَ عِصْيَانُها وهل أفسد الدينَ إلا الملوكَ ... وأحْبارُ سوءٍ ورُهْبَانُهَا فصل [ما يشترط فيمن يوقع عن اللَّه ورسوله أو صفات المبلغين عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-] ولما كان التبليغُ عن اللَّه -سبحانه- يعتمد العلم بما يبلغ، والصدقَ فيه، لم تصلح مرتبة التبليِغ بالرواية والفُتْيَا؛ إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالمًا بما يُبلِّغ، صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مرضِيَّ السيرة، عدلًا في أقوالِه وأفعاله، متشابه السِرِّ والعلانية في مَدْخله ومَخَرْجه وأحواله؛ وإذا كان ¬

_ (¬1) في (ك): "لا فيما أوجبه أحد". (¬2) في (ك): "صلحوا". (¬3) في (ك): "فسدوا". (¬4) أخرجه الدينوري في "المجالسة" (رقم 469 - بتحقيقي)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 5) وابن الجوزي في "المصباح المضيء" (1/ 245)، و"الشفاء" (ص 43 - 44) عن سفيان الثوري قوله. وروي مرفوعًا ولم يصح، كما بيّنته في تعليقي علي "فضيلة العادلين"، لأبي نعيم و"تخريجه" للسخاوي (رقم 36)، وقول سفيان أشبه. (¬5) في المطبوع و (ك): "كما قال". (¬6) عزاها غير واحد من العلماء والأدباء لعبد اللَّه بن المبارك، كما بيّنته بإسهاب في تعليقي على "المجالسة" (رقم 177)، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصّالحات. ووقع في (ق): "المبارك".

فصل [أول من وقع عن الله هو الرسول أو منصب النبي -صلى الله عليه وسلم- في التبليغ والإفتاء]

مَنْصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنْكَر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السّنيات، فكيف [بمنصب التوقيع] (¬1) عن رب الأرض والسماوات؟. فحقيقٌ بمن أقِيمَ في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّته، وأن يتأهب له أهْبَتَه، وأن يعلم قَدْرَ المقام الذي أُقيمَ فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصَّدْع به؛ فإن اللَّه ناصرُه وهاديه، وكيف (¬2) وهو المنصب الذي تولَّاه بنفسه ربُّ الأرباب؛ فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127]، وكفى بما تولاه اللَّه (تعالى- بنفسه) (¬3) شرفًا وجلالةً؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه (¬4)، وليُوقِنْ أنه مسئول غدًا ومَوْقُوف بين يدي اللَّه. فصل [أول من وَقَّع عن اللَّه هو الرسول أو منصبُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في التبليغ والإفتاء] وأول من قام بهذا المنصب الشريف: سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخَاتَم النبيين، عبدُ اللَّه ورسوله، وأمينه على وَحْيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يُفتي عن اللَّه بوَحْيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86]. فكانت فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- جوامعَ الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتِّبَاعها، وتحكيمها، والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحدٍ من المسلمين العُدُولُ عنها ما وجَدَ إليها سبيلًا، وقد أمر اللَّه عباده بالرَّدِّ إليها (¬5) حيث يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. فصل [الأصحاب -رضي اللَّه عنهم- الذين قاموا بالفتوى بعده -صلى اللَّه عليه وسلم-] ثم قام بالفتوى بَعْده بَرْكُ (¬6) الإسلام، وعِصَابة الإيمان، وعَسْكر القرآن، ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "بالتوقيع". (¬2) في (ق): "وكيف". (¬3) في (ق): "بنفسه تعالى". (¬4) في (ك): "فتياه". (¬5) في (ق): "وقد أمر اللَّه -تعالى- بالرد إليها". (¬6) "البرك" -بفتح الباء وسكون الراء- أصله صدر الإنسان، وجماعة الإبل، ويجوز أن =

[المكثرون للفتوى من الصحابة]

وجند الرحمن، أولئك أصحابه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَبرُّ (¬1) الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأحسنها بيانًا، وأصدقها إيمانًا، وأعمها نصيحةً، وأقربها إلى اللَّه وسيلة، وكانوا بين مُكْثِر منها ومُقِلٍّ ومتوسط. [المكثرون للفتوى من الصحابة] والذين حُفِظَتْ عنهم الفتوى من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) مئة ونَيِّف وثلاثون نفسًا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عَبَّاس، وعبد اللَّه بن عمر. قال أبو محمد بن حَزْم (¬3): ويمكن أن يُجمع من فتوى كُلِّ واحد منهم سِفْر ضخم. قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فُتْيَا عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬4) - في عشرين كتابًا. وأبو بكر [محمد] (¬5) المذكور أحدُ أئمة الإسلام في العلم والحديث. [المتوسطون في الفتيا منهم] قال أبو محمد: والمتوسطون منهم فيما رُوي عنهم من الفُتيا: أبو بكر ¬

_ = يكون مأخذ هذا اللفظ من كل واحد من هذين المعنيين؛ فإن البلغاء يطلقون على المقدم من القوم لفظ الصدر، فهم يقولون: فلان صدر الأفاضل، وقد يشتقون منه فيقولون: تصدَّر فلان قومه؛ كما يشبهون الرجل الجلد القوي بالجمل (د)، وقال (ط): "البرك": صدر كل شيء، والمراد أنهم المقدَّمون من المؤمنين، يقصد بهم الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. ووقع في (ق): "ترك"!!. (¬1) في المطبوع: "ألين". (¬2) في (ق): "الفتوى من الصحابة". (¬3) هو الإمام ابن حزم الظاهري -رحمه اللَّه-، المتوفى سنة 456 هـ، صاحب الكتاب القيم: "المحلّى"، و"الإحكام في أصول الأحكام"، و"الفصل في الملل والأهواء والنحل"، وغيرها من الكتب والرسائل المفيدة. وكلامه هذا اختصره الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه- من "الإحكام" (5/ 92 - 104)؛ فانظره -إن شئت-. وانظر الرسالة الثالثة الملحقة بكتاب: "جوامع السيرة" لابن حزم المسماة بـ "أصحاب الفتيا من الصحابة ومن بعدهم على مراتبهم في كثرة الفتيا" (ص: 319 - 335). (¬4) في (ق): "رضي اللَّه عنه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن).

[المقلون من الفتيا منهم]

الصِّدِّيق، وأُمُّ سَلَمة، وأنسُ بن مالك، وأبو سعيد الخُدْري، وأبو هريرة، وعثمان بن عَفَّان، وعبد اللَّه بن عَمْرو بن العَاص، وعبد اللَّه بن الزُّبير، وأبو موسى الأشْعريّ، وسعد بن أبي وَقَّاص، وسَلْمان الفارسيّ، وجابر بن عبد اللَّه، ومعاذ بن جَبَل؛ فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يُجمع من فُتيا كل واحد منهم (¬1) جزءٌ صغير جدًّا، ويُضَاف إليهم: طَلْحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عَوْف، وعِمْرَان بن حُصَين، وأبو بَكْرة، وعُبَادة بن الصَّامِت، ومعاوية بن أبي سفيان. [المقلون من الفتيا منهم] والباقون منهم مُقِلُّون في الفتيا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان (¬2)، والزيادة اليسيرة على ذلك؛ يمكن أن يُجمع من فتيا جميعهم جزءٌ صغير فقط، بعد التقصّي والبحث، وهم: أبو الدَّرْداء، وأبو اليُسر، وأبو سَلَمَة المخزوميّ، وأبو عُبَيدة بن الجَرَّاح، وسعيد بن زيد، والحسن والحسين ابنا علي، والنُّعمان بن بشير، وأبو مَسْعود، وأبيّ بن كعب، وأبو أيوب، وأبو طلحة، وأبو ذَرّ، وأم عطيّة، وصفية أم المؤمنين، وحَفْصة، وأم حبيبة، وأسامة بن زيد، وجعفر بن أبي طالب، والْبَرَاء بن عازب، وقُرَظة بن كعب، ونافع أخو أبي بكرة لأمه، والمِقْدَاد بن الأسود، وأبو السَّنابل، والجارود العَبْدي (¬3)، وليلى بنت قائِف، وأبو مَحْذُورة، وأبو شُرَيْح الكَعْبي، وأبو بَرْزَة الأسلمي، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شَريك، والحَوْلاء (¬4) بنت تُوَيْت (¬5)، وأُسيد بن الحُضير، والضَّحاك بن قَيْس، وحبيب بن مَسْلمة، وعبد اللَّه بن أنيس، وحُذَيفة بن الْيَمَان، وثُمامة بن أَثال، وعَمَّار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو الغَادية (¬6) السُّلَمي، وأم الدرداء الكبرى، والضحاك بن خليفة المازني، والحكم بن عمرو الغفاري، ووابصة بن ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "كل امرئ منهم". (¬2) في (ك): "أو المسألتان". (¬3) كذا الصواب في "الإحكام" و (ن)، وفي المطبوع: "والجارود، والعبدي"، ولعل الخطأ من الطابع. (¬4) في بعض النسخ "الخولاء" بالخاء، والتصحيح من (ق)، و"المؤتلف والمختلف" للدارقطني (238)، ورسالة "أصحاب الفتيا" لابن حزم، و"طبقات ابن سعد" (8/ 178)، و"الإصابة": (313)، و"الإحكام" (5/ 93). (¬5) في (ن) و (ك): "بنت ثويب"، والتصويب من (ق) و"توضيح المشتبه" (1/ 673). (¬6) في (ن) و (ق) و (ك): "وأبو العَادية"!! والتصويب من "المؤتلف" (4/ 192) للدارقطني.

مَعْبد الأسدي، وعبد اللَّه بن جعفر [البرمكي] (¬1)، وعَوْف بن مالك، وعديّ بن حاتم، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وعبد اللَّه بن سَلَام، وعمرو بن عَبَسة، وعَتَّاب بن أَسيد، وعثمان بن أبي العاص، وعبد اللَّه بن سَرْجِس، وعبد اللَّه بن رَوَاحة، وعَقيل بن أبي طالب، وعائذ بن عمرو، وأبو قَتَادة، [و] (¬2) عبد اللَّه بن معمر العَدوي (¬3)، [وعُمير بن سعد] (¬4)، وعبد اللَّه بن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن أخوه، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وعبد اللَّه بن عَوْف الزهري، وسعد بن مُعاذ، وسعد بن عُبادة، وأبو مُنيب، وقيس بن سعد، وعبد الرحمن (¬5) بن سهل، وسَمُرَة بن جُنْدُب، وسهل بن سعد الساعدي، ومعاوية (¬6) بن مُقَرن، وسويد بن مُقَرِّن، ومعاوية بن الحكم، وسَهْلة بنت سهيل، وأبو حذيفة بن عتبة، وسَلَمة بن الأكْوَع، وزيد بن أرقم، وجَرير بن عبد اللَّه البَجَلي، وجابر بن سَمُرَة (¬7)، وجُوَيْرِية أم المؤمنين، وحسَّان بن ثابت، وحبيب بن عدي، وقُدَامة بن مَظْعون، وعثمان بن مظعون، وميمونة أم المؤمنين، ومالك بن الحُويرث، وأبو أُمامة الباهليّ، ومحمد بن مسلمة، وخَبَّاب بن الأرَتّ، وخالد بن الوليد، وضمرة بن [العِيص] (¬8)، وطارق بن شهاب، وظُهَيْر بن رافع، ورافع بن خَديج، وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬9)، وفاطمة بنت قيس، وهشام بن حكيم بن حِزَام، وأبوه حكيم بن حزام، وشُرَحْبِيل بن السِّمْط، وأم سلمة، ودِحْيَة بن خليفة الكلبي، وثابت بن قيس بن الشَّمَّاس، وثَوْبَان مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، [وسُرّق]، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وهو الصحيح كما في "الإحكام" (93/ 5)، وغيره. (¬3) في (ن): "والعدوي" وفي (ق): "العابدي"!!، وقال في هامش (ق): "لعله: معمر العدوي". (¬4) كذا الصواب كما في "الإحكام" و (ن) و (ق)، وفي المطبوع: "عمي بن سعلة"! ولعله خطأ من الناسخ، وانظر: "رسالة أصحاب الفتيا" (ص 323) لابن حزم الملحقة بكتابه "جوامع السيرة". (¬5) في (ك): "عبد اللَّه". (¬6) في المطبوع: "وعمرو"! والتصويب من (ن) و (ق)، و"الإحكام". (¬7) في المطبوع: "جابر بن سلمة"!! والتصويب من (ن) و (ف)، و"الإحكام". (¬8) كذا الصواب -أيضًا-، كما في "الإحكام" (5/ 94)، و"رسالة أصحاب الفتيا" (ص: 323)؛ وفي المطبوع: "الفيض"، وفي (ن) و (ف): "لقيط" وفي (ك): "الغيض" بالغين. (¬9) في (ق): "صلى اللَّه عليه وسلم".

والمغيرة بن شعبة (¬1)، وبُريدة بن الحُصَيْب (¬2) الأسلمي، ورُوَيْفَع بن ثابت، وأبو حميد، وأبو أُسيد، وفَضَالة بن عُبيد، وأبو محمد روينا عنه وجوب الوتر -قلت: [أبو محمد] (¬3) هو مسعود بن أوس الأنصاري، نَجَّاري بَدْري (¬4) - وزَيْنب بنت أم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، وأثبته من (ن)، وفي "الإحكام": "وسرّق المغيرة بن شعبة" بدون فاصلة بين الاسمين! فأوهم أنه اسم واحد والصواب أن "سرق"، هذا هو صحابي آخر، كما في رسالة "أصحاب الفتيا"، قال: محققها: "بضم أوله وتشديد الراء بعدها قاف، وضبطه العسكري بتخفيف الراء، وزن غدر وعمر، وأنكر على أصحاب الحديث تشديد الراء، ويقال: اسم أبيه أسد، صحابي نزل مصر، انظر: "الإصابة" (3116) اهـ. (¬2) في المطبوع: "الخصيب"!. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) ورد هذا في سؤال سأله أحد التابعين لعبادة بن الصامت: أن أبا محمد كان يقول: الوتر واجب في حديث رواه مالك في "الموطأ" (1/ 123 رواية يحيى الليثي) في (الصلاة): باب الأمر بالوتر و (ص 520 رقم 503 - رواية ابن القاسم وص 121 رقم 181 - رواية سويد و 1/ 119 رقم 299 - رواية أبي مصعب وق 28/ أ- رواية ابن بكير)، وأحمد في "مسنده" (5/ 315 - 316، 319، و 322)، والحميدي (388)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (4575)، وابن أبي شيبة (2/ 296)، وفي "مسنده" (ق 97/ ب)، والدارمي في "سننه" (1/ 370)، وأبو داود في "سننه" (1420) في (الصلاة): باب فيمن لم يوتر، والنسائي في "المجتبى" (1/ 130) في (الصلاة): باب المحافظة على الصلوات الخمس و"الكبرى" (رقم 322)، وابن ماجه في "سننه" (1401) في (الإقامة): باب ما جاء في فرض الصلوات الخمس والمحافظة عليها، والهيثم الشاشي في "مسنده" (رقم 1281 - 1287) وابن حبان في "صحيحه" (رقم 1731، 1732، 1416 - الإحسان) وأبو الحسين البزاز في "غرائب حديث الإمام مالك" (رقم 4) والبيهقي في "سننه" (1/ 361 و 2/ 8، و 467 و 10/ 217) والبغوي في "شرح السنة" (977) من طريق محمد بن يحيى بن حَبّان، عن ابن محيريز، عن المُخْدَجي أنه قال لعبادة بن الصامت: يا أبا الوليد، إن أبا محمد (رجل من الأنصار كانت له صحبة) يقول: الوتر واجب. والمُخدجي هذا لا يُعرف إلا بهذا الحديث، وليس فيه توثيق، لكن روى الحديث أحمد في "مسنده" (5/ 317)، وأبو داود (425) في (الصلاة): باب المحافظة على وقت الصلوات، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (3/ 367)، وابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 955 رقم 1034)، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (رقم 820)، والبغوي في "شرح السنة" (رقم 793)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 130) من طريق عبد اللَّه الصُّنابحي عن عبادة؛ لكن قال الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف" (4/ 255): أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5/ 56 رقم 4658 و 9/ 126 رقم 9315) في ترجمة أبي زرعة الدمشقي: حدثنا آدم، حدثنا أبو غسان (وهو محمد بن مطرف)، وقال في روايته عن أبي عبد اللَّه الصُّنابحي، وهو الصواب. =

فصل [الصحابة سادة العلماء وأهل الفتوى]

سلمة، وعتبة بن مسعود، وبلال المؤذّن، وعَرَفة (¬1) بن الحارث، وسَيَّار بن رَوْح أو روح (¬2) بن سيار (¬3)، وأبو سعيد بن المُعلَّى، والعباس بن عبد المطلب، وبُسر بن [أبي] (¬4) أرْطَاة، وصهَيب بن سنان، وأم أيمن، وأم يوسف، والغامدية، ومَاعِز، وأبو عبد اللَّه البصري (¬5). فهؤلاء مَنْ نُقِلَتْ عنهم الفتوى من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[صريحة] (¬6)، [وما أدري بأيّ] (¬7) طريق عَدَّ معهم أبو محمد [بن حزم] (¬8): الغامدية وماعزًا، ولعله تخيَّل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزنا؛ من غير استئذان لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك هو فتوى لأنفسهما بجواز الإقرار، وقد أُقِرَّا عليها (¬9)، فإن كان تَخَيَّلَ هذا فما أَبْعَدَهُ من خيال، أو لعله ظفر عنهما بفتوى في شيء من الأحكام. فصل [الصحابة سادة العلماء وأهل الفتوى] وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء. قال الليث، عن مجاهد: العلماء أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال سعيد، عن قتادة في قوله -تعالى-: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] قال: أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬10)، [وقال -تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ ¬

_ = فهذه متابعة قوية يُقوَّى بها الحديث. ملاحظة: ذكر ابن القيم أن اسم أبي محمد هو: مسعود بن أوس، ورجح الحافظ في "الإصابة" أنه مسعود بن زيد بن سبيع. (¬1) في المطبوع: "وعروة"!!. (¬2) في (ك): "أبي أروح". (¬3) اختلف في اسمه، وهو في "التاريخ الكبير" (2/ 160 - 161) وفي "الإصابة" (في حرفي الراء والسين)، ووقع في المطبوع بدل "سيار": "سياه"! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك)، وفي الأصول: "وبشر"! وهو خطأ. انظر "المؤتلف" للدارقطنى (2/ 761). (¬5) قال في هامش (ق): "هذا كله كلام ابن حزم". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬7) بدل ما بين المعقوفتين فى (ق): "فبأي". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬9) في (ح) و (ف): "عليهما". (¬10) قول مجاهد: رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1424)، من هذا الطريق، وليث هو ابن أبي سُلَيم، وهو ضعيف. وقول قتادة: رواه الطبري (22/ 62)، وابن أبي حاتم (10/ 3161 رقم 17869)، =

[أعظم الصحابة علما]

إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] [قالوا] (¬1): (فالذين أوتوا) العلم: أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2). [أعظم الصحابة علمًا] وقال يزيد بن عَميرة، لما حضر معاذَ بن جبل الموتُ؛ قيل: يا أبا عبد الرحمن! أوْصِنَا، قال: أجلسوني، إن العلم والإيمان مكانهما مَنْ ابتغاهما وَجَدَهما، يقول ذلك ثلاث مرات، التمسوا (¬3) العلم عند أربعةِ رهطٍ: عند عُويمر أبي الدرداء (¬4)، وعند سَلْمان الفارسي، وعند عبد اللَّه بن مسعود، وعند عبد اللَّه بن سَلَام (¬5). وقال مالك بن يَخَامِرَ: لما حضرت [معاذًا] (¬6) الوفاةُ بكيتُ، فقال: ما يُبكيك؟ قلت: واللَّه ما أبكي على دنيا [كنت] (¬7) أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللَّذَيْن كنت أتعلمهما منك، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعةٍ، فذكر هؤلاء الأربعة، ثم قال: فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعْجَزُ، فعليك بمعلِّم إبراهيم (¬8)، قال: ¬

_ = وابن عبد البر (1422) من طريق سعيد عنه، وعزاه في "الدر المنثور" (6/ 674)، لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وإسناده صحيح. وذكره عنه البغوي في "معالم التنزيل" (4/ 496). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك)، وما بين الهلالين من (ق) وحدها. (¬3) في بعض النسخ المطبوعة: "النمس" بالنون!، وفي بعضها "التمس"، وما أثبتناه من (ن) و (ق). (¬4) في المطبوع: "عويمر بن أبي الدرداء"! (¬5) أخرجه البخاري في "التاريخ الصغير" (1/ 73)، والترمذي في "الجامع" (رقم 3804)، والنسائي في "فضائل الصحابة" رقم (149)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 86)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 467 - 468) -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (7/ 417) - والحاكم في "المستدرك" (3/ 416)، من طريقين عن يزيد بن عميرة به. وإسناده حسن، وقال الترمذي عقبه: "هذا حديث حسن صحيح غريب" وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. (¬6) في بعض النسخ: "معاذ"! (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬8) "معلّم إبراهيم:" هو اللَّه -جل جلاله-، وإبراهيم: هو أبو الأنبياء، خليل الرحمن، علَّمه اللَّه، فأقام الحجة حتى بُهت الذي كفر، وقال اللَّه -تعالى-: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} - الآية (د)، ونحوه في (ط)، والآية: [الأنعام: 83].

فما نزلت بي مسألة عجزت عنها إلا قلت: يا معلم إبراهيم (¬1). وقال أبو بكر بن عَيَّاش، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، قال: قال عبد اللَّه: علماء الأرض ثلاثة: فرجل بالشام، وآخر بالكوفة، وآخر بالمدينة، فأما هذان فيَسْألان الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء (¬2). وقال الشعبي: ثلاثة يَسْتفتي بعضُهُم من بَعْض [وثلاثة يستفتي بعضهم من بعض] فكان [عمر وعبدُ اللَّه وزيد بن ثابت يَستفتي بعضهم من بعض، وكان] عليّ وأُبيّ بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض، قال الشَّيباني: فقلت للشعبي: وكان أبو موسى بذاك؟ فقال: ما كان أعلمه، قلت: فأين معاذ؟ فقال: هلك قبل ذلك (¬3). وقال أبو البَخْتَري: قيل لعلي بن أبي طالب: حَدِّثنا عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: عن أَيِّهم؛ قالوا: عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قرأ القرآن، وعَلِم السُّنة، ثم انتهى، وكفاه بذلك. قالوا (¬4): فحدثنا عن حُذَيفة؛ قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين. قالواة فأبو ذر، قال: كُنَيِّف (¬5) مَليء علمًا عُجن فيه (¬6). قالوا: فعمار، قال: مؤمِنٌ نَسِيٌّ؛ إذا ذكرته ذكر، خَلَط [اللَّه] (¬7) الإيمان بلَحْمه (¬8) ودمه، ليس للنار فيه نصيب. قالوا: فأبو موسى قال: صبغ في العلم ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "المدخل" (102) من طريق الفسوي، وهو في "تاريخه" (1/ 467 - 468) وقد رواه الحاكم (1/ 98)، وقال: "صحيح على شرط الشيخين". قلت: لكن فيه أبو صالح عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث بن سعد، فيه مقال، وانظر ما قبه وستأتي هذه الوصية لتلميذ آخر في التعليق على (ص 112) وهي عند الهروي في "ذم الكلام" (ص 187). (¬2) إسناده منقطع. (¬3) روى نحوه -أيضًا- من قول الشعبي: أبو خيثمة في "العلم" (رقم: 94)، والبيهقي في "المدخل" (ص: 149) وذكر نحوه الذهبي في "السير" (2/ 389) من قول الشعبي -أيضًا- دون آخره، وما بين المعقوفتين أثبته من (ن) و (ق) والزيادة الثانية سقطت من (ك). (¬4) في المطبوع: "قال"! (¬5) الكنف -بالكسر-: وعاء يكون فيه أداة الراعي، وبتصغيره جاء الحديث: "كنيف مليء علمًا" (د)، (ح)، ونحوه في (ط). (¬6) في المطبوع: "عجز فيه"، وقال في هامش (ن): "في نسخة: عجن فيه"، وهو المثبت في (ق) وفي (ك): "عجز فعجز فيه". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬8) في (ق): "بالجمر" وفي هامشه: "بلحمه".

صبغة. قالوا: فسَلْمان، قال: علم العلم الأوَّل والآخِر، بَحْرٌ لا ينزح (¬1)، منا أهل البيت. قالوا؛ فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين، قال: إياها أردتم (¬2)، كنت إذا سُئِلْتُ أَعْطَيْت (¬3)، وإذا سكتُّ ابْتُدِيت (¬4). وقال مُسلم، عن مَسْروق؛ شامَمَت (5) أَصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: إلى علي، وعبد اللَّه، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبيّ ابن كعب، ثم شاممت (¬5) الستة فوجدت علمهم انتهى إلى عليّ وعبد اللَّه (¬6). وقال مسروق أيضًا: جالستُ أصحابَ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فكانوا كالإخَاذِ (¬7) الإخاذة ¬

_ (¬1) زاد في (ك) وفي هامش (ق): "إمام أهل السنة". (¬2) في (ق): "أردتم إياها". (¬3) في نسخة (د): "أُعْطِت"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 85، 86)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 536)، وأبو خيثمة، والهيثم بن كُليب -ومن طريقهما ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (7/ ق 411، 416 - 417) - وابن منيع في "مسنده" -كما في "المطالب العالية" (رقم 4022) -، والطبراني في "الكبير" (رقم 6041، 6042) -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 187)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (7/ ق 416) - وابن الأعرابي في "معجمه" (رقم 400 - ط ابن الجوزي) -ومن طريقه ابن عساكر (7/ ق 416) - والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 540)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 129، 187)، و"ذكر أخبار أصبهان" (1/ 54) -ومن طريق "الأخبار": ابن عساكر (7/ ق 415) - والحاكم في "المستدرك" (3/ 319)، وابن عبد البر في "الاستيعاب" (2/ 59)، وابن عساكر (7/ ق 415، 415 - 416، 417 أو 33/ 142، 143 ط دار الفكر)، من طرق -مطولًا ومختصرًا- عن علي -رضي اللَّه عنه- به. وهو صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬5) "شاممت أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-"، أي: بحثت عنهم (ط). قلت: الأصح: جالستُهم ودنوتُ منهم، كما في "اللسان". ووقعت في (ك): "شاهدت". (¬6) رواه الطبراني في "الكبير" (8513)، وقال الهيثمي في "المجمع" (9/ 160): "ورجاله رجال الصحيح غير القاسم بن معين وهو ثقة" كذا فيه، وصوابه ابن معن، فليصحح. ورواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 444 - 445)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 154 - 155) والذهبي في "السير" (1/ 493). (¬7) "الإخاذ": بالكسر-: [الغديران]، واحده: إخاذة (د)، (ح)، وبدل ما بين المعقوفيتن في (د): "الغدران". قلت: وانظر: "غريب أبي عبيد" (4/ 367)، و"النهاية" (1/ 28)، و"الفائق" (1/ 17)، و"اللسان": مادة (أخذ)، وأورد جميعهم هذا الأثر.

تَروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة تروي العَشَرة (¬1)، والإخاذة لو نزل بها أهلُ الأرض لأصدرتهم (¬2)، وإن عبد اللَّه من تلك الإخاذ (¬3). وقال الشَّعبي: إذا اختلف الناسُ [في شيء] (¬4)؛ فخذوا بما قال عمر (¬5). وقال ابن مسعود: إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم (¬6). وقال أيضًا: لو أنَّ عِلْمَ عمر وضع في كِفَّة (¬7) الميزان ووُضع علم أهل الأرض في كِفَةٍ؛ لرجَحَ علم عمر (¬8). وقال حذيفة: كأَنَّ عِلْم الناس مع علم عمر دُسَّ في جحر (¬9). ¬

_ (¬1) في (ن): "الإخاذ يروي الراكب، والإخاذ يروي الراكبين، والإخاذة: العشرة، والإخاذ". وفي (ق): "كالإخاذ يروي الراكب، والإخاذ يروي الراكبين والإخاذ العشرة والإخاذ". وفي (ك): "الإخاذ يروي الراكب، والإخاذ يروي الراكبين، والإخاذ يروي العشرة، والإخاذ. . . ". (¬2) "أصدرتهم": أشبعتهم من الماء (ط)، وفي (ن) و (ق) و (ك): "لأصدرهم" و (ك): "نزلت به" و (ق): "نزل به". (¬3) رواه أبو خيثمة في "العلم" (123)، -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 156 - 157)، و"المجلس الثمانون بعد المئتين" (رقم 16) -، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 542)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 342)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (150) من طريق الأعمش عن مسلم عنه، وإسناده صحيح. وأخرجه أبو عبيد في "الغريب" (4/ 366 - 367)، من طريق عمرو بن مرة عن مسروق به. واسناده صحيح أيضًا، وزاد ابن حزم في "الإحكام" (6/ 64) أبا عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود بين عمرو بن مرة ومسروق. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) رواه أحمد في "فضائل الصحابة" (342) من طريق سَيَّار عن الشعبي، قال: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا إلى قول عمر، وإسناده صحيح. (¬6) رواه الطبراني في "الكبير" (8809) و (8810)، وقال الهيثمي (9/ 69): "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح؛ غير أسد بن موسى، وهو ثقة". ورواه -أيضًا- أبو خيثمة في "العلم" (رقم: 61)، والفسوي (1/ 462 - 463)، والبيهقي في "المدخل" (70) وابن عساكر (241، 242 ترجمة عمر). (¬7) كل من استدار فهو كِفة -بالكسر-، نحو: كفة الميزان (د) و (ح). (¬8) رواه الطبراني في "الكبير" (8808) و (8809) و (8810) ضمن الأثر الذي قبله. ورواه الفسوي (1/ 462)، وأبو خيثمة في "العلم" (60)، والبيهقي في "المدخل" (70) وابن عساكر (241، 242 - ترجمة عمر)، والحاكم (3/ 86)، وصححه على شرط الشيخين. (¬9) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 336)، ومن طريقه، ابنُ عساكر (ص 243 - ترجمة =

وقال الشعبي: قُضَاة هذه الأمة [أربعة]: عمر، وعلي، وزيد، وأبو موسى (¬1). وقال سعيد بن المسيب: كان عمر يتعوذ [باللَّه] (¬2) من مُعْضِلةٍ ليس لها أبو حسن (¬3). وشهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن مسعود بأنه غُلَيِّمٌ (¬4) مُعَلَّم (¬5)، وبدأ به في ¬

_ = عمر المطبوعة)، من طريق الأعمش عن شِمْر عنه، وإسناده حسن، ولكن شمر ما أظنه أدرك حذيفة. (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "القضاة"، وعنه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 104)، وذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (2/ 389) وفيه مجالد بن سعيد، وهو ضعيف، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 339)، وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائده" على "فضائل الصحابة" (رقم: 1100) من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن ابن عيينة، عن يحيى بن سعيد عنه به. وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف مؤمل، وسعيد لم يدرك عمر بن الخطاب. قال (د): "أبو حسن": علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، و"المعضلة" المسألة يشق ويعسر حلها، وقد اشتهر عليّ -كرم اللَّه وجهه- بالفقه والفهم، ومعرفة وجوه الحكم، حتى قيل: "قضية ولا أبا حسن لها" أي: ولا حَلَّال لها اهـ. وقال (ط): هو علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، و"المعضلة": كل شديد معي، والمعنى: أن عمر -رضي اللَّه عنه- كان يستعيذ مما يتعسر له، فإذا كان عسيرًا على عليِّ -وهوَ الفقيه الأعلم- فهو على غيره أشد عسرًا، وكان عمر -رضي اللَّه عنه- يقول: "لولا علي لهلك عمر" اهـ. أما (ح) و (و) فاقتصرا على قولهما: "يعني علي بن أبي طالب". (¬4) في المطبوع: "عليم" بالعين المهملة، وهو خطأ، وصوابه بالمعجمة -كما في مصادر التخريج-. وفي (ك) و (ق): "أبو الحسن". (¬5) أخرجه أحمد قي "المسند" (1/ 379)، والطبراني في "الكبير" (9/ 76، 77 رقم 8456)، وأبو يعلى في "المسند" (8/ 452 رقم 4985)، وابن حبان في "الصحيح" (8/ 149 رقم 6470 - الإحسان)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 150 - 151)، والحسن بن عرفة في "جزئه" (رقم 46) -ومن طريقه البيهقي في "الاعتقاد" (284 - 285)، وأبو القاسم الحنائي في "الفوائد" (1/ ق 5/ ب)، والتيمي في "دلائل النبوة" (2/ 502 - 503)، والذهبي في "السير" (1/ 465) - وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (رقم 631)، -ومن طريقه ابن عساكر في "المجلس الثمانين بعد المئتين في فضل ابن مسعود" (رقم 9)، و"التاريخ" (ق 88 - أخبار ابن مسعود أو 33/ 71 وما بعد/ ط دار =

قوله: "خُذُوا القرآن من أربعة: من ابن أم عَبْد (¬1)، ومن أبي بن كعب، ومن سالم مولى أبي حذيفة، ومن معاذ بن جبل" (¬2). ولما ورد أهل الكوفة على عمر أجازهم، وفَضَّلَ أهلَ الشام عليهم في الجائزة، فقالوا: يا أمير المؤمنين تفضل أهل الشام علينا؟ فقال: يا أهل الكوفة أجزعتم أنْ فَضَّلت أهل الشام عليكم لبعد شُقَّتهم وقد آثرتكم بابن أم عَبْد؟ (¬3). وقال عقبة بن عمرو: ما أرى أحدًا أعلم بما أنزل [اللَّه] (4) على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من عبد اللَّه [بن مسعود] (¬4)، فقال أبو موسى: إنْ تَقُلْ ذلك فإنه كان يَسْمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل (¬5). ¬

_ = الفكر) -، والبيهقي في "الدلائل" (1/ 420 - 421 و 6/ 84 - 85)، وأبو نعيم في "الدلائل" (ص 113) و"الحلية" (1/ 125)، واللالكائي في "السنة" (2/ 773 - 774)، من طرق عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: مرَّ بي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنا في غنم لعقبة، فمسح رأسي، وقال: "يرحمك اللَّه، إنك غُلَيِّم مُعلَّم". قال الذهبي: "هذا حديث صحيح الإسناد". قلت: بل هو حسن، من أجل عاصم بن بهدلة. (¬1) "هو عبد اللَّه بن مسعود" (م) و (ح)، ونحوه في (و). (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب فضائل الصحابة): باب مناقب عبد اللَّه بن مسعود (7/ 102/ رقم 3760)، و (كتاب مناقب الأنصار): مناقب أبىّ بن كعب (7/ 126 رقم 3808)، و (كتاب فضائل القرآن): باب القُرَّاء من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (9/ 46/ رقم 4999)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب فضائل الصحابة): باب من فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه -رضي اللَّه عنهما- (4/ 1913 رقم: 2464)، عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا. وله طرق عديدة عند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 130 - 133). (¬3) رواه ابن أبي شيبة (7/ 521) من طريق مالك بن الحارث عن أبي خالد؛ قال: (فذكره). وروى نحوه -أيضًا- من قول عمر: الحاكم (3/ 388) -وصححه ووافقه الذهبي والطبراني في "الكبير" (9/ 85 رقم 8478) - وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 149) والذهبي في "السير" (1/ 485 - 486). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬5) رواه الطبراني في "الكبير" (8495)، والحاكم (3/ 316) وابن حزم في "الإحكام" (6/ 63) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (43/ 133 - 144) من طرق: عن الأعمش، عن مالك بن الحارث. عن أبي الأحوص، عن عقبة، وسقط (أبو الأحوص) من سند الحاكم. وأخرجه مسلم (2461) في "الفضائل": باب من فضائل عبد اللَّه بن مسعود من طريق الأعمش به، وفي آخره: "لقد كان يشهد إذا غبنا. ويؤذن له إذا حجبنا".

وقال عبد اللَّه: ما أُنزلت سورة إلا وأنا أَعلم فيمَ (¬1) أُنزلت، ولو أني أعلم أن رجلًا أعلم بكتاب اللَّه مني تبلغه الإبل لأتيته (¬2). وقال زيد بن وهب: كنت جالسًا عند عمر فأقبل عبد اللَّه فدنا منه، فأكبَّ عليه وكَلَّمه بشيء، ثم انصرف، فقال عمر: كُنَيِّفٌ مليء علمًا (¬3). وقال الأعمش، عن إبراهيم: إنه كان لا يَعْدل (¬4) بقول عمر وعبد اللَّه إذا اجتمعا، فإذا اختلفا كان قول عبد اللَّه أعْجَبَ إليه؛ لأنه كان ألطف (¬5). وقال أبو موسى: لَمَجْلِسٌ كنت أجالسه عبدَ اللَّه أوْثَقُ في نفسي من عمل سَنَة (¬6). وقال عبد اللَّه بن ببريدة في قوله -تعالى (¬7) -: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، قال: هو عبد اللَّه بن مسعود (¬8). ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "فيما". (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب فضائل القرآن): باب القُرَّاء من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (9/ 47/ 5002)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب فضائل الصحابة): باب من فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه -رضي اللَّه عنهما- (4/ 1913 - 2463). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 344 و 3/ 156)، وأحمد في "فضائل الصحابة" رقم (1550)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 129)، والبيهقي في "المدخل" (100)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 318)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 543)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 144 - 146)، و"المجلس الثمانون بعد المئة" (رقم 14)، من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب به. وإسناده صحيح. وله طريق آخر وبسياقه أخرى، رواه عبد الرزاق (18187)، ومن طريقه الطبراني (9735)، قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 306): ورجاله رجال الصحيح إلا أن قتادة لم يدرك ابن مسعود، وذكره الذهبي في "السير" (1/ 491). (¬4) "لا يعدل": [أي] لا يساوي بقول عمر وعبد اللَّه -رضي اللَّه عنهما- قول أحد غيرهما (ط)، وبدل ما بين المعقوفتين فيها: "أن"! ونحوه في (ح) و (د). (¬5) رواه أحمد في "فضائل الصحابة" (350) من طريق أبي شهاب عن الأعمش به، دون قوله: "فإذا اختلفا. . . "، وإسناده حسن. أبو شهاب هو الحناط موسي بن نافع. (¬6) رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 545) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 153) والذهبي في "السير" (1/ 493) و"تاريخ الإسلام" (ص 388 - الخلفاء الراشدون) من طريقين عن أبي موسي، وإسناده لا بأس به. (¬7) في (ق): "عز وجل". (¬8) رواه ابن أبي شيبة (7/ 522)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (33/ 144) من طريق صالح بن حيان عنه، وصالح ضعيف. وعزاه لهما السيوطي في "الدر المنثور" =

وقيل لمسروق: كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: واللَّه لقد رأيت الأحْبار (¬1) من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسألونها عن الفرائض (¬2). وقال أبو موسى: ما أشكل علينا أصحابَ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثٌ قط؛ فسألناه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا (¬3). وقال ابنُ سِيرين: كانوا يَرَوْنَ أن أعلمهم بالمناسك عثمان بن عفان، ثم ابن عمر بعده (¬4). وقال شهْر بن حَوْشب: كان أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا تحدثوا وفيهم مُعَاذ نظروا إليه هَيْبَةً له (¬5). وقال علي: أبو ذر أَوْعَى (¬6) علمًا، ثم أَوْكى (¬7) عليه، فلم يخرج منه شيئًا (¬8) حتى قُبض (¬9). وقال مسروق: قدمتُ المدينةَ فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم (¬10). ¬

_ = (7/ 466). وانظر: "تفسير القرطبي" (16/ 2386)، و"تفسير مبهمات القرآن" (2/ 511) للبلنسي. (¬1) في (ق) و (ن) و (ك): "الأخيار". (¬2) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬3) رواه الترمذي (3883) في "المناقب": باب فضل عائشة، من طريق خالد بن سلمة عن أبي بردة عن أبي موسى. وقال: حسن صحيح. ونقل عنه الذهبي في "السير" (2/ 179) قال: حسن غريب. ورجاله ثقات. وانظر: "صحيح مسلم" (349). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 60) من طريق سليم بن أخضر، عن ابن عون، عنه، وإسناده صحيح. ورواه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (121). (¬5) رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 231)، وشهر بن حوشب فيه كلام. (¬6) في (ق): "وُعي". (¬7) في (ق): "أوكي". (¬8) في (ق): "شيء" (¬9) ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (2/ 60)، وروى نحوه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 354 و 4/ 232)، ورجاله ثقات. وقال (ط): "أوكى عليه": احتفظ به، وليس هذا من الاحتجاز المذموم للعلم، ولكن كانت هناك ظروف منعت من نشر علمه -رضي اللَّه عنه- ليس هنا مجالها. اهـ. (¬10) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (19/ 323 - 325)، وهو في تهذيب تاريخ ابن عساكر" (5/ 451) لابن بدران.

[فضل ابن عباس]

وقال الجُرَيْري، عن أبي تَميمةَ: قدمنا الشام فإذا الناس مجتمعون يُطِيفون (¬1) برجل، قال: قلت: مَنْ هذا؟ قالوا: [هذا] (¬2) أفقه مَنْ بقي من أصحاب النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم-، هذا عمرو البِكَالي (¬4). وقال سعيد: قال ابن عباس -وهو قائم على قبر زيد بن ثابت-: هكذا يَذْهَب العلم (¬5). [فضلُ ابنِ عباس] وكان مَيْمون بن مِهْران إذا ذُكِر ابن عباس وابن عمر عنده؛ يقول: ابن عمر ¬

_ (¬1) في (ك): "مطيفون". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن). (¬3) في (ق): "محمد". (¬4) عزاه الحافظ في "الإصابة" (3/ 24 أو 4/ 700 - طـ البجاوي) للبخاري في "التاريخ الصغير" (1/ 323 - رواية الخفاف) وابن نصر في "قيام الليل" وابن مندة وابن السكن. وذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 313) مختصرًا، وأورده ابن الأثير في "أسد الغابة" (4/ 89)، وأخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 421) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2026 رقم 5092) والطبراني في "الكبير" (17/ 43 - 44 رقم 91 - مختصرًا) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 459، 460، 465)، وصححه ابن حجر. (¬5) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 381)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 85 رقم 2042)، والطبراني في "الكبير" (5/ 108 - 109 رقم 4749)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 485)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 428)، وابن سعد في "طبقاته" (2/ 361 - 362)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 95)، والمبارك بن عبد الجبار الطيوري في "الطيوريات" (ج 2/ ق 34/ ب- "انتخاب السِّلفي")، وابن عساكر (19/ 333 - 334) من طرق عن حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار (مولى بني هاشم)، قال: "جلسنا مع ابن عباس في ظل القصر في جنازة زيد بن ثابت، فقال: لقد دفن اليوم علم كثير"، وإسناده صحيح. وأخرجه ابن سعد في "طبقاته" (2/ 361)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 484، 485)، والطبراني في "الكبير" (5/ رقم 4750، 4751)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 422) والدينوري في "المجالسة" (رقم 339 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (19/ 336 - دار الفكر) - وابن عساكر (19/ 334 - 336) من طرق عنه بنحوه. والخبر في "جامع بيان العلم" (1/ 601 رقم 1035)، و"البيان والتبيين" (1/ 257)، و"عيون الأخبار" (2/ 143 - طـ دار الكتب العلمية)، و"سير السلف" (ق 58/ أ)، و"السير" (2/ 440).

أوْرَعُهما، وابن عباس أعلمهما (¬1). وقال أيضًا: ما رأيت أفْقَه من ابن عمر، ولا أعْلَمَ من ابن عباس (1). وكان ابن سيرين يقول: اللهم أبْقِنِي ما أبقيتَ ابن عمر أقتدي به. وقال ابن عباس: ضَمَّنِي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: "اللهم علِّمه الحكمة"، وقال أيضًا: دعَانِي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمَسحَ على ناصيتي، وقال: "اللهم علمه الحكمة، وتأويلَ الكتاب" (¬2). ولما مات ابن عباس قال محمد ابن الحنفيَّة: مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة (¬3). وقال عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتْبة: ما رأيت أحدًا أعلم بالسنة، ولا أجْلَد رأيًا، ولا أثقب نظرًا حين ينظر من ابن عباس (¬4)، وإن كان عمر بن الخطاب ¬

_ (¬1) أخرجه الدينوري في "المجالسة" (رقم 2584 - بتحقيقي)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 37 - ترجمة عبد اللَّه بن عمران - عبد اللَّه بن قيس، أو 31/ 115 - طـ دار الفكر) عن عمرو بن ثابت، عن ميمون بن مهران به. وهذا إسناده ضعيف لضعف عمرو بن ثابت وهو ابن أبي المقدام الحداد. وأخرجه أحمد في "الزهد" (2/ 123)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 491) -ومن طريقه ابن عساكر- وأبو بكر المروزي في "الورع" (رقم 211 - ط زغلول، أو رقم 225 - ط الزهيري)؛ وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 366) بسنديهما إلى طاوس قوله. وأورده الذهبي في "السير" (3/ 212) عن طاوس، وقال: "وكذا يُروى عن ميمون بن مهران" والخبر في "تاريخ الإسلام" (حوادث 61 - 800 ص 457). (¬2) أخرجه البخاري (75) في (العلم): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم علِّمه الكتاب"، و (3756) في (فضائل الصحابة): باب ذكر ابن عباس رضي اللَّه عنهما و (7270) في أول (الاعتصام) من حديث ابن عباس بهذا اللفظ، وهو في صحيح البخاري (143)، ومسلم (2477) بلفظ: "اللهم فقهه في الدين". (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 368) من طريق سفيان الثوري عن سالم بن أبي حفصة، عن أبي كلثوم، عن ابن الحنفية. ورواته ثقات، غير أن سالم بن أبي حفصة قال عنه الحافظ في "التقريب": صدوق غال في تشيعه، وأبو كلثوم إن كان هو المترجم في "الجرح والتعديل" في (الكنى)، حيث قال: "سمع حسين بن علي"، فهو في هذه الطبقة، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا فهو في عداد المجاهيل وإلا فلينظر. (¬4) رواه عبد اللَّه بن أحمد في زوائده علي "فضائل الصحابة" (1906)، وإسناده صحيح، ورواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 368)، وفيه كلام آخر طويل، وذكره ابن عبد البر في "الإستيعاب" (2/ 352) عن أبي الزناد، عن عبيد اللَّه غير مسند. ووقع في المطبوع: "مثل ابن عباس" بدلًا من: "من ابن عباس".

لَيَقُولُ له: قد طَرأتْ [علينا] عُضَلُ أقضيةٍ (¬1) أنتَ لها ولأمثالها (¬2). وقال عطاء بن أبي رَبَاح: ما رأيت مجلسًا قط أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهًا وأعظم، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن [عنده] (¬3)، وأصحاب الشعر عنده، يُصْدِرهم كلهم في وادٍ واسع (¬4). وقال ابنُ عَبَّاس: كان عمر بن الخطاب يسألني مع الأكابر من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وقال ابن مسعود: لو أنَّ ابن عباس أدرك أسناننا ما عَسَره (¬6) مِنَّا رجل (¬7). ¬

_ (¬1) "عضل أقضية: قضية أعيت العلماء" (ط)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه عبد اللَّه بن أحمد في زوائده على "فضائل الصحابة" (1913)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (3/ 193) من طريق أبي الزناد، عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه، عن عمر، وعبيد اللَّه لم يسمع من عمر بن الخطاب. وروى ابن سعد في "الطبقات" (2/ 369) عن سعد بن أبي وقاص؛ قال: ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعو للمعضلات، ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة. وإسناده ضعيف جدًّا، فيه الواقدي وأبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي سبرة، وهما متروكان. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائده على فضائل الصحابة" (2/ 978 / رقم 1929) عن إبراهيم بن أبي الوزير، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 520) عن يحيى بن عبد اللَّه بن بكير، والبُرجُلاني في "الكرم والجود" (رقم 60)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 174)، و"الفقيه والمتفقه" (1/ 174) عن داود بن مهران، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (4/ 44 - دار الفكر) عن عبد الأعلى بن حماد النَّرْسيّ؛ والمروزي في "زوائد الزهد" (رقم 1175) -ومن طريقه الدينوري في "المجالسة" (رقم 1227 - بتحقيقي) - جميعهم عن عبد الجبار بن الورد؛ قال: قال عطاء به. وإسناده صحيح. والخبر في "التذكرة الحمدونية" (2/ 97)، و"ربيع الأبرار" (3/ 289)، وقارن بـ "الحلية" (1/ 320، 321)، و"العقد الثمين" (5/ 191)، و"الشريشي" (1/ 286 - 287). وقال (ط): "كان -رضي اللَّه عنه- آخذًا من كل علم، فقد كان فقيهًا مفسرًا، راويةً للشعر"، وقال (د): "معنى هذا: أنه كان فقيهًا مفسرًا راوية للشعر". (¬5) أخرج البخاري في "صحيحه": (كتاب المغازي): باب {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} (رقم (4294)، وباب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته (رقم 4430)، و (كتاب التفسير): باب قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} (رقم 4970) وغيره ما يؤيده. وانظر -غير مأمور- تعليقي على "الموافقات" (4/ 210 - 211). (¬6) "ما عسره": أي ما خالفه (ط) و (ح) و (د)، ونحوه في (و). (¬7) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 366)، وأبو عروبة في "طبقاته" (ص 68 - منتقاه) من =

وقال مغيرة (¬1): قيل لابن عباس: أنَّى (¬2) أَصبتَ هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول (¬3). وقال مجاهد: كان ابن عباس يُسَمَّى البَحْر من كثرة علمه (¬4). وقال طاوس: أدركت نحوًا من خمسين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ذَكَر ابن عباس شيئًا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقرِّرُهم (¬5). ¬

_ = طريق مسلم بن صبيح، عن مسروق، عن ابن مسعود، وكذا رواه الحاكم (3/ 537)، والفسوي في "تاريخه" (1/ 495)، وابن أبي شيبة (7/ 519) -ووقع فيه وفي (ن) و (ك): "ما عشره منا رجل"- وسنده صحيح. وقال الذهبي في "السير" (3/ 347): "ويقال: عاشره". ورواه أبو خيثمة في "العلم" (48)، وأحمد في "فضائل الصحابة" (1559) و (1562) والبيهقي في "المدخل" (125) و (126). (¬1) وقع في المطبوع و (ك): "مكحول"! والتصويب من (ق) و (ن)، ومصادر التخريج. (¬2) في (ك): "أين". (¬3) رواه البيهقي في "المدخل" (427) من طريق المغيرة بن مقسم، عن ابن عباس، والمغيرة لم يسمع من ابن عباس، ورواه -أيضًا- من الطريق نفسه: أحمد في "فضائل الصحابة" (1877)، وابنه (1903). وروى الطبراني في "الكبير" (10620) -ومن طريقه أبو نعيم (1/ 318) - من طريق أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: وكان عمر إذا ذكره قال: له لسان سؤول، وقلب عقول. وقال الهيثمي في "المجمع" (9/ 277): "أبو بكر الهذلي ضعيف". وروى نحوه عن عمر أيضًا: الحاكم (3/ 539, 540) من طريق معمر عن الزهري عن عمر؛ إلا أنه منقطع. (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 366) من طريق حماد بن أسامة عن الأعمش قال: حُدِّثنا عن مجاهد. . . وقال: وأُخْبِرت عن ابن جريج عن عطاء قال:. . . (فذكره)، وله طرق صحيحة في "مستدرك الحاكم" (3/ 535)، و"المعرفة والتاريخ" (1/ 496) للفسوي، و"تاريخ بغداد" (1/ 174)، و"تاريخ دمشق" (12/ 309 - مختصره)، و"الطبقات" (ص 70 - منتقاه) لأبي عروبة الحراني. (¬5) روى ابن سعد (2/ 367) والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 1/ 4) وعبد اللَّه بن أحمد في "زياداته على فضائل الصحابة" (2/ 967) من طريق ليث بن أبي سُليم (وهو ضعيف) عن طاوس قال: لزمت هذا الغلام. . . إني رأيت سبعين من أصحاب رسول للَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا تدارؤوا في شيء، صاروا إلى قول ابن عباس. وروى ابن سعد في "الطبقات" (2/ 372) وأحمد في "العلل" (2/ 61 - رواية عبد اللَّه) وابن معين في "الجزء الثاني من فوائده" (رقم 195 - رواية أبي بكر المروزي) من طريق =

وقيل لطاوس: أدركْتَ أصحابَ محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم انقطعتَ إلى ابن عباس! فقال: أدركتُ سبعين من أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذا تَدَارَءُوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس (¬1). وقال ابنُ أبي نَجيح: كان أصحاب ابن عباس يقولون: ابنُ عباسٍ أعلم من عُمر ومن عليّ ومن عبد اللَّه، ويعدون ناسًا، فيَثِبُ عليهم الناس، فيقولون: لا تَعْجَلوا علينا، إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا وعنده من العلم ما ليس عند صاحبه، وكان ابن عباس قد جَمَعه كُلَّه. وقال الأعمش: كان ابن عباس إذا رأيْتَه قلتَ: أجمل الناس، فإذا تكلَّم قلت: أفصح الناس، فإذا حدَّث قلت: أعلم الناس (¬2). وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا فَسَّر الشيء رأيت عليه النور (¬3). ¬

_ = حبيب بن أبي ثابت عن طاوس قال: ما رأيت أحدًا قط عند ابن عباس ففارقه حتى يقرره. ورجاله ثقات غير أن فيه تدليس حبيب بن أبي ثابت وصرح بسماعه عند ابن معين. فصح، والحمد للَّه. وله طريق أخرى عن طاوس، عند عبد اللَّه بن أحمد في "زياداته على فضائل الصحابة" (2/ 979 - 982) وقال (ط): "يقررهم": يناقشهم حتى يعنرفوا قوله: [إذ] كان -رضي اللَّه عنه- راوية قوي الحجة. وفيها بدل ما بين المعقوفتين: "إذا"، ونحوه باختصار في (د). ونسب هذا القول في (ك) إلى أبي طاوس! (¬1) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 366 - 367) وأبو عروبة الحراني في "طبقاته" (ص 67 - منتقاه)، وفيه ليث بن أبي سُليم، وهو ضعيف. ورواه ابن سعد -أيضًا- في "الطبقات" (2/ 372)، والبغوي كما في "الإصابة" (2/ 324)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (3/ 193)، وأحمد في "فضائل الصحابة" (1892)، وأبو عروبة في "الطبقات" (ص 66 - منتقاه)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/ 309 - مختصره). وقال (ط): "تدارؤوا تدافعوا في الخصومة، يريد إذا اختلفوا"، ونحوه في (د). (¬2) رواه البلاذري في "أنساب الأشراف" (3/ 30) من قول مسروق، وعزاه الحافظ في "الإصابة" (2/ 325) لِـ "أمالي الصولي"، والأعمش يرويه عن أبي الضحى عن مسروق. ورواه أحمد في "فضائل الصحابة" (1872) وأبو عروبة الحراني في "طبقاته" (ص 70 - منتقاه) من طريق شريك، عن الأعمش به، وشريك هو النخعي: ضعيف. وذكره ابن عساكر في "تاريخه" (12/ 312 - مختصره)، والذهبي في "السير" (3/ 351). (¬3) رواه عبد اللَّه في زوائده على "فضائل الصحابة" (1935) وأبو عروبة الحراني في "الطبقات" (ص 69 - منتقاه) من طريق الطيالسي عن شعبة، عن منصور، عنه، وإسناده صحيح، ووقع في (ق) و (ك): "كان ابن عباس إذا أفتى بشيء. . . ".

فصل [مكانة عمر بن الخطاب العلمية]

فصل [مكانة عمر بن الخطاب العلمية] قال الشعبي: مَنْ سَرَّه أن يأخذ بالوَثيقة في القضاء، فليأخذ بقول عمر (¬1). وقال مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به (¬2). وقال ابن المسيِّبِ: ما أعْلَم أحدًا بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعلم من عمر بن الخطاب (¬3). وقال أيضًا: كان عبد اللَّه يقول: لو سلك الناس واديًا وشِعْبًا، وسَلَك عمرُ واديًا وشعبًا، لسلكتُ وادي عمر وشِعْبَه (¬4). وقال بعض التابعين: دُفِعْتُ إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصِّبيان، قد اسْتَعْلى عليهم في فقهه وعلمه (¬5). وقال محمد بن جَرير: لم يكن أحد له أصحاب معروفون حَرَّروا فُتْياه ومذاهبه (¬6) في الفقه غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا ¬

_ (¬1) رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 457)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (9/ 9)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (72)، وفي "السنن الكبرى" (10/ 109) من طريق سفيان عن صالح بن حي عنه. وإسناده صحيح. (¬2) رواه أحمد في "فضائل الصحابة" (349)، عن هشيم: أخبرنا العوام عن مجاهد، وإسناده صحيح، ورواه -أيضًا- (342) من قول الشعبي. (¬3) ولذا كان يحيى بن سعيد يقول: إنّ ابن المسيب كان يُسمَّى راوية عمر بن الخطاب، لأنه كان أحفظ الناس لأحكامه وأقضيته. وانظر -غير مأمور-: "التمهيد" (6/ 302)، و"تهذيب الكمال" (11/ 74)، و"فقه الإمام سعيد بن المسيب" (1/ 68). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 209 - طـ دار الفكر) (باب من كان يقنت في الفجر): حدثنا وكيع، حدثنا محمد بن قيس عن الشعبي به. والشعبي لم يسمع من ابن مسعود كما قال أبو حاتم الرازي. ولم يعزه في "كنز العمال" (8/ 77 رقم 21963) إلا له. (¬5) رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 336)، ومن طريقه: ابنُ عساكر في "تاريخه" (ص: 240 - ترجمة عمر)، عن هارون (في "الطبقات": البربري، وفي "تاريخ ابن عساكر": البزار. ويظهر أنه البربري)، وهو هارون أبو محمد مولى آل المغيرة، فهو في هذه الطبقة، وهو (ثقة ثبت) عن رجل من أهل المدينة؛ قال:. . . فذكره. (¬6) في (ك) و (ق): "ومذهبه".

فصل [مكانة عثمان بن عفان العلمية]

يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه، ويَرْجعُ من قوله إلى قوله (¬1). وقال الشعبي: كان عبد اللَّه لا يَقْنُت (¬2)، ولو قنت عمر لقَنَتَ عبدُ اللَّه (¬3) فصل [مكانة عثمان بن عفان العلمية] وكان من المُفْتِينَ عثمان بن عفان. قال ابن جرير: غير أنه لم يكن له أصحاب يعرفون (¬4)، والمبلغون عن عمر فُتياه ومَذَاهبه، وأحكامه في الدِّين بعده [كانوا] (¬5) أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه (¬6). [مكانة علي بن أبي طالب العلمية] وأما عليّ بن أبي طالب [عليه السلام] فانتشرت أحكامه وفتاواه (¬7)، ولكن (¬8) قاتلَ اللَّه الشيعة؛ فإنهم أفسدوا كثيرًا من علمه بالكذب عليه، ولهذا [تجد] (¬9) أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه (¬10) إلا (¬11) ما كان من طريق أهل بيته، وأصحاب عبد اللَّه بن مسعود (¬12)، كعَبِيدة ¬

_ (¬1) أي: كان ابن مسعود يترك مذهبه إلى قول عمر ومذهبه (ط). (¬2) بعدها في المطبوع: "وقال":. (¬3) أخرجه ابن أبي شببة في "المصنف" (2/ 209 - ط دار الفكر) ضمن الأثر السابق عن ابن مسعود: "لو سلك الناس واديًا. . . ". وانظر -غير مأمور- "موسوعة فقه عمر بن الخطاب" (ص 439)، و"مسند الفاروق" (1/ 168) لابن كثير. (¬4) في (ق) و (ك): "معروفون". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) وجمع فقهه الأستاذ محمد رَوَّاس قلعجي في "معلمة" مطبوعة عن دار النفائس، وانظر منها (ص: 7) عن سبب قلة المنقول من فقه عثمان -رضي اللَّه عنه-. (¬7) في المطبوع: و (ق): "وفتاويه" وما بين المعقوفتين سقط (ق). (¬8) في (ق): "لكن". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬10) في (ق) و (ك): "وفتاويه". (¬11) زاد هنا في (ك): "على". (¬12) أخرج مسلم في "مقدمة صحيحة" (ص 14 - ط عبد الباقي) عن طاوس قال: أُتي ابن عباس بكتابٍ فيه قضاءُ علي -رضي اللَّه عنه-، فمحاه إلا قَدْرَ، (وأشار سفيان بن عيينة بذراعه)، وأخرج بسنده إلى أبي إسحاق؛ قال: لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي -رضي اللَّه عنه-، قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم اللَّه أيّ علم أفسدوا. =

فصل [عمن انتشر الدين والفقه؟]

السَّلْماني، وشُريح وأبي وائل ونحوهم، وكان -رضي اللَّه عنه-[وكرم وجهه] (¬1) - يشكو عدم حَمَلَة العلم الذي أودِعَه، كما قال: إن ههنا علمًا لو أصبت له حملةَ. فصل [عمن انتشر الدين والفقه؟] والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد اللَّه بن عمر، وأصحاب عبد اللَّه بن عباس (¬2)؛ فعِلْمُ الناسِ عامَّتُه عن أصحاب هؤلاء الأربعة؛ فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم (¬3) عن أصحاب عبد اللَّه بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد اللَّه بن مسعود. قال ابن جرير: وقد قيل: إن ابن عمر وجماعةً ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كانوا يُفْتُونَ بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه، مما (¬4) لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قولًا. وقال ابن وَهْبٍ: حدثني موسى بن عُلَيّ اللَّخْمي، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية؛ فقال: مَنْ أراد أن يسأل عن الفرائض فَلْيَأْتِ ¬

_ = وأخرج أبو القاسم البغوي في "الجعديات" (رقم 2556) عن الشعبي قال: "ما كُذب على أحد من هذه الأمة ما كُذب على علي -رضي اللَّه عنه-". وأخرج أيضًا برقم (1210) بسنده أن ابن سيرين كان يرى عامة ما يروون عن علي -رضي اللَّه عنه- كذبًا. قال النووي عقب الأثر الثاني في "شرح صحيح مسلم" (1/ 83): "فأشار -أي أبو إسحاق- بذلك إلى ما أدخلته الروافض والشيعة في علم علي -رضي اللَّه عنه- وحديثه، وتقوّلوه عليه من الأباطيل، وأضافوه إليه من الروايات والأقاويل المفتعلة والمختلقة، وخلطوه بالحق، فلم يتميّز ما هو صحيح عنه مما اختلقوه". وانظر نحو ما عند المصنف في: "منهاج السنة النبوية" (2/ 464 و 110 - 111)، و"درء تعارض العقل والنقل" (5/ 26)، و"بغية المرتاد" (ص 321)، وكتابنا: "كتب حذر منها العلماء" (1/ 110 - 111 و 2/ 248 - 249). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "عن أصحاب عبد اللَّه بن عباس وعبد اللَّه بن مسعود وأصحاب زيد بن ثابت وأصحاب عبد اللَّه بن عمر. . . ". (¬3) في (ك): "فكان علمهم". (¬4) في (ق): "ما".

[الآخذون عن عائشة]

زيدَ بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فَلْيَأْتِ مُعَاذ بن جَبَل، ومن أراد المال فليأتِنِي (¬1). [الآخذون عن عائشة] وأما عائشة فكانت مُقَدَّمةً في العلم بالفرائض (¬2)، والأحكام، والحلال، والحرام، وكان من الآخذين عنها -الذين لا يكادون يتجاوزون قولها، المتفقهين بها-: القاسمُ بن محمد بن أبي بكر، ابن أخيها، وعروةُ بن الزبير ابنُ أختها أسماء. قال مسروق: لقد رأيت [مَشْيَخة] (¬3) أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسألونها عن الفرائض (¬4). وقال عروة بن الزبير: ما جالستُ أحدًا قطُّ كان أعلم بقضاءِ ولا حديث الجاهلية (¬5)، ولا أَرْوى للشِّعر، ولا أعلم بفريضة ولا طِبٍّ من عائشة (¬6). ¬

_ (¬1) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 271) من طريق عبد الرحمن بن مهدي و (3/ 272 - 273) من طريق أبي عاصم، وابن سعد في "الطبقات" (2/ 348، 359) عن الواقدي، ثلاثتهم عن موسى به. وصححه في الموطن الثاني على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الحافظ في "الفتح" (7/ 126)، وكلام الحاكم متعقب بان الحسن بن موسى من شيوخ الطبراني، لم أظفر بقول فيه تجريح أو تعديل له. انظر "الإكمال" (7/ 215)، و"السير" (13/ 534)، وعلى كل حال فهو مُتابع وموسى بن عُلَي، وأبوه لم يخرج لهما البخاري في "الصحيح" وإنما في "الأدب المفرد"، وموسى صدوق ربما أخطأ، وأبوه ثقة مات بعد المئة وعشرة فهو لم يدرك عمر. (¬2) في المطبوع: "والفرائض". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه الدارمي في "سننه" (2/ 342 - 343)، وابن سعد في "الطبقات" (8/ 66)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 11)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 489)، والبيهقي في "المدخل" (110)، والطبراني في "الكبير" -كما في "مجمع الزوائد" (9/ 242) - وقال الهيثمي: إسناده حسن. أقول: رووه كلهم من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عنه، ورجاله مشهورون. (¬5) في المطبوع: "ولا بحديث بالجاهلية". (¬6) لم أجده بهذا اللفظ، لكن وجدت نحوه عند الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 489)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 11)، وانظر: "حلية الأولياء" (2/ 49). والعبارة في (ك) و (ق) هكذا: "ولا أروى مشيخة للشعر، ولا أعلم بفريضة لا طبِّ أعلم من عائشة".

فصل [من صارت إليه الفتوى من التابعين]

فصل [من صارت إليه الفتوى من التابعين] ثم صارت الفَتْوَى في أصحاب هؤلاء (¬1) كسعيد بن المسَيَّب راويةِ عُمر (¬2) وحاملِ علمه. قال جعفر بن ربيعة: قلت لعِرَاك بن مالك: مَنْ أفقه أهل المدينة؟ قال: أما أفقههم فقهًا، وأعلمهم بقضايا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقضايا أبي بكر، وقضايا عمر، وقضايا عثمان، وأعلمهم بما مضى عليه الناس فسعيد (¬3) بن المسيب؛ وأما أغزرهم حديثًا فعروة بن الزبير، ولا تشاء أن تَفْجُر من عبيد اللَّه [بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود] (¬4) بحرًا إلا فَجرته. قال عراك: وأفقههم عندي ابنُ شهاب؛ لأنه جمع عِلمَهم إلى علمه (¬5). وقال الزهري: كنت أطلب العلم من ثلاثة: سعيد بن المسيب، كان أفقهَ الناس، وعروة بن الزبير وكان بحرًا لا تكدره الدِّلاء، وكنت لا تشاء أن تجد عند عبيد اللَّه طريقة من علم -لا تجدها عند غيره- إلا وجدت (¬6). وقال الأعمش: فقهاء [أهل] (¬7) المدينة [أربعة]: سعيد بن المسيب، وعُروة، وقَبيصة، وعبد الملك (¬8). ¬

_ (¬1) انظر: "الإحكام" (5/ 95 - 103) لابن حزم، والرسالة الثالثة الملحقة بـ "جوامع السيرة" (ص: 324 - 335) لابن حزم -أيضًا-. (¬2) "الراوية" في الأصل: المزادة فيها الماء (ح). (¬3) في (ن) و (ق): "سعيد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ك) و (ق)، وقد علقها (ح) في الهامش؛ تمييزًا لعبيد اللَّه. (¬5) رواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 471) ومن طريقه أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (رقم 227 - ترجمة الزهري) من طريق الليث عن جعفر به وجعفر هذا من الثقات ومثله عراك، وذكره الذهبي في "السير" (5/ 337)؛ وهو جزء من كلام طويل لعراك بن مالك. (¬6) أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 65 - 66 - ترجمة الزهري)، والعبارة في "السير" مجزأة (4/ 222 و 425 و 477) و (5/ 344) ونحوه من كلام عراك في "السير" (5/ 337). وخرجت بإسهاب مقولة: "وكان عروة بحرًا لا تكدره الدلاء" في تعليقي على "المجالسة" (رقم 185)، فانظره غير مأمور. والعبارة في (ك) و (ق): "لا تجده عند غيره إلا وجدته". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق)، وما بين المعقوفتين بعدهما سقط منها. وكلمة "أربعة" سقطت من (ك). (¬8) ذكره رشيد الدين العطار في "مجرد أسماء الرواة عن مالك" (ص 395 رقم 1581)، عن =

[الفقهاء الموالي]

[الفقهاء الموالي] وقال عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلم: لما مات العَبَادِلة -عبدُ اللَّه بن عباس، [وعبدُ اللَّه بن عمر] (¬1)، وعبدُ اللَّه بن الزبير، وعبدُ اللَّه بن عَمْرو بن العاص-؛ صار الفقه في جميع البلدان إلى المَوالي؛ فكان فقيهَ أهل مكة: عَطَاء بن أبي رَبَاح، وفقيهَ أهل اليمن: طاوس، وفقيهَ أهل اليمامة: يحيى بن أبي كثير، وفقيهَ أهل الكوفة: إبراهيمُ، وفقيهَ أهل البصرة: الحسنُ، وفقيه أهل الشام: مكحولٌ، وفقيه أهل خُرَاسان، عطاء الْخُرَاساني، إلا المدينةَ فإن اللَّه خَصَّها بقرشي، فكان فقيهَ أهل المدينة سعيدُ بن المسيب غيرَ مُدَافَع. وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيَّب؛ قال: مررتُ بعبد اللَّه بن عمر، فسلَّمت عليه ومَضَيْتُ، قال: فالتفتَ إلى أصحابه؛ فقال: لو رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا لسَرَّه، فرفَع يديه [جدًّا وأشار بيده] (¬2) إلى السماء. وكان سعيد بن المسيَّب صِهْرَ أبي هريرة، زَوَّجه أبو هريرة ابنتَه، وكان إذا رآه قال: أسال اللَّه أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة (¬3)، ولهذا أكثر عنه من الرواية. فصل [فقهاء المدينة المنورة] وكان الْمُفْتونَ بالمدينة من التابعين: سعيد بن المسيب، وعُرْوة بن الزُّبير، والقاسم بن محمد، وخَارجة بن زيد، وأبا (¬4) بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن ¬

_ = ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 307)، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 224)، ورواه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 175) من قول أبي الزناد، والذهبي في "السِّير" (4/ 425) من قوله أيضًا. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) أخرجه الترمذي (2549) وابن ماجه (4336) وابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 585، 587) وابن حبان في "صحيحه" (7438 - الإحسان)، والطبراني في "الأوسط" (1714)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/ 41)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 253)، والمزي في "تهذيب الكمال" (16/ 225). وإسناده ضعيف، انظر: "السلسلة الضعيفة" (1722). وانظر "سير أعلام النبلاء" (4/ 224) و"الطبقات" (2/ 381، 5/ 121) لابن سعد. (¬4) في (ق): "وأبو".

فصل [فقهاء مكة ومفتوها]

هشام، وسُليمان بن يَسَار، وعُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتْبة بن مسعود، وهؤلاء هم الفقهاء [السبعة] (¬1)، وقد نظمهم القائل، فقال (¬2): إذا قيل مَنْ في العلم سَبْعَة أَبْحُرٍ ... رِوَايتهم ليست عن العلم خَارِجَهْ فقل: هم عُبَيد اللَّه، عروة، قاسم، ... سعيدٌ، أبو بكرٍ، سُلَيْمان، خَارِجَهْ وكان من أهل الفتوى: أَبَانُ بن عثمان [بن عفان] (¬3)، وسالم [بن عبد اللَّه بن عمر الخطاب] (3) ونافع، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعلي بن الحسين. وبعد هؤلاء: أبو بكر بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم، وابناه: محمد، وعبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عَمرو (¬4) بن عثمان وابنه محمد، وعبد اللَّه والحسن (¬5) ابنا محمد ابن الْحَنَفِيَّة، وجعفر بن محمد بن علي، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن الْمُنْكَدِر، ومحمد ابن شهاب الزُّهْري، وجَمَعَ محمد بن نوح "فتاويه" في ثلاثة أسْفَار ضَخْمة على أبواب الفقه، وخَلْق سوى هؤلاء. فصل [فقهاء مكة ومفتوها] وكان المفتون بمكة: عَطَاء بن أبي رَبَاح، وطاوسُ بن كَيْسان، ومجاهد بن جبر، وعُبَيد (¬6) بن عُمَير، وعمرو بن دينار، وعبد اللَّه بن أبي مُلَيْكَة (¬7)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) عزاها اللكنوي في "الفوائد البهية" (ص 203) لمحمد بن يوسف بن الحسين بن عبد اللَّه الحلبي الحنفي، المعروف بـ: ابن الأبيض، الشهير بـ: قاضي العسكر، المتوفى سنة 614 هـ. (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة (و). (¬4) في المطبوع و (ك) و (ق): "بن عمر"! (¬5) في المطبوع: و (ق) و (ك): "والحسين"! والتصويب من (ن) و"الإحكام". (¬6) أشار في (ق) إلى أنه في نسخة: "وعبيد اللَّه". (¬7) كذا في "الإحكام" (5/ 95)، وفي رسالة "أصحاب الفتيا" (ص: 324)، وفي (و): "عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكة"، وفي "التقريب" (312/ 3454): "عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن أبي مليكة أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقة فقيه، من الثالثة، مات سنة سبع عشرة (ع) " اهـ.

فصل [فقهاء البصرة]

وعبد الرحمن بن سَابِط، وعكرمة [مولى ابن عباس] (¬1). ثم [من] (¬2) بعدهم: أبو الزُّبير المكي، وعبد اللَّه بن خالد بن أَسِيد، وعبد اللَّه بن طاوس. ثم بعدهم: عبدُ الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْج، وسُفْيان بن عُيَيْنَة، وكان أكثر فتواه (¬3) في المناسك، وكان يتوقف في الطلاق (¬4). وبعدهم: مسلم بن خالد الزَّنْجي، وسعيد بن سالم القَدَّاح. وبعدهما الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ثم عبد اللَّه بن الزُّبير الْحُمَيْدِي، وإبراهيم بن محمد الشَّافعي [ابنُ عم محمد] (¬5)، وموسى بن أبي الجارود، وغيرهم. فصل [فقهاء البصرة] وكان من المفتين بالبصرة عمرو بن سَلِمَة (¬6) الْجَرْمِي، وأبو مريم الحَنفَي، وكعب بن سُوْر (¬7)، والحسن البَصْري، وأدرك خمسَ مئة من الصحابة، وقد جمع بعضُ العلماء فتاويه في سبعة أسفارٍ ضخمة. قال أبو محمد بن حَزم (¬8): وأبو الشَّعْثاء جابر بن زيد، ومحمد ابن سِيرين، وأبو قِلابة عبدُ اللَّه بن زيد الجَرْمي، ومسلم بن يَسَار، وأبو العالية، وحُمَيد بن عبد الرحمن، ومُطَرِّف بن عبد اللَّه [بن] (¬9) الشِّخِّير، وزُرَارة بن أبي أوْفَى، وأبو بُرْدَة بن أبي موسى. ثم بعدهم: أيوب السِّخْتِيَاني، وسُليمان التَّيمي، وعبد اللَّه بن عون (¬10)، ويونس بن عُبَيْد، والقاسم بن ربيعة، وخالد بن أبي عمران، وأشعث بن عبد الملك ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة (و). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ف). (¬3) في المطبوع و (ك): "فتواهم". (¬4) نقله الميموني عن أحمد، كما في "تهذيب الكمال" (11/ 190). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وفي (ك): "ابن عُمير". (¬6) في (ق): "عمرو بن مسلمة". (¬7) وقع في المطبوع: "ابن سود" بدال في آخره، وصوابه راء، وفي (ك) و (ق): "سوار" وانظر: "المؤتلف والمختلف" (3/ 1297) للدارقطني. (¬8) في "الإحكام" (5/ 96). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬10) وقع في المطبوع: "عوف"!!

فصل [فقهاء الكوفة]

الحُمْراني، وقَتَادة، وحفص بن سليمان، وإياس بن معاوية القاضي. وبعدهم: سَوَّار القاضي، وأبو بكر العَتَكي، وعثمان بن سليمان البَتِّيُّ (¬1)، وطلحة بن إياس القاضي، وعُبيد اللَّه بن الحسن العَنْبري، وأشعث بن جابر بن زيد. ثم بعد هؤلاء: عبد الوهاب بن عبد المجيد (¬2) الثَّقَفي، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وحماد بن سَلَمة، وحماد بن زيد، وعبد اللَّه بن داود [الخُرَيبي] (¬3)، وإسماعيل ابن عُلَيَّة، وبِشْر بن المُفضَّل، ومُعاذ بن مُعَاذ العَنْبَري، ومَعْمَر بن راشد، والضَّحاك بن مَخْلد، ومحمد بن عبد اللَّه الأنصاري. فصل [فقهاء الكوفة] وكان من المفتين بالكوفة (¬4): عَلْقمة بن قَيْس النَّخَعي، والأسود بن يزيد النَخَعي -وهو عم علقمة-، وعَمرو بن شَرَحبيل الهمْدَاني (¬5)، ومسروق بن الأَجْدَع الهمداني، وعَبيدة السَّلْماني، وشُرَيح بن الحارث القاضي، وسليمان بن ربيعة الباهلي، وزيد بن صُوحان، وسُوَيْد بن غَفَلة، والحارث بن قيس الجُعْفي، وعبد الرحمن بن يزيد النَّخَعي، وعبد اللَّه بن عُتْبة بن مسعود القاضي، وخَيْثَمة بن عبد الرحمن، وسَلَمة بن صُهَيب، ومالك بن عامر، وعبد اللَّه بن سَخبرة، وزِرُّ بن حُبَيش، وخِلاس بن عَمرو، وعمرو بن ميمون الأوْدِي، وهَمَّام بن الحارث، والحارث بن سُوَيد، ويزيد بن معاوية النَّخَعي، والرَّبيع بن خُثَيْم، وعتبة بن فَرْقَد، ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "التيمي". (¬2) في (ق) و (ك): "عبد الحميد". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ المطبوع: "الْحَرشي" وفي (ق) و (ك): "الجويني" والصواب ما أثبتناه؛ كما في (ن) و"الإحكام" (5/ 98)، وفي "التقريب" (301/ 3297): "عبد اللَّه بن داود بن عامر الهمداني، أبو عبد الرحمن الخريبي. . . كوفي الأصل. . . " وكما في "ذكر أسماء التابعين" (1/ 202) للدارقطني. وقد ذكره ابن حزم نفسه في رسالته "أصحاب الفتيا" الملحقة بـ "جوامع السيرة" (ص 331) كما أثبتناه، لكن جعله من فقهاء أهل الكوفة، ومر بك قول الحافظ. وانظر ترجمته في: "التاريخ الكبير" (5/ 82)، و"الجرح والتعديل" (5/ 47)، و"الطبقات" (7/ 295) لابن سعد، وانظر: "ثلاث رسائل حديثية" للنسائي (ص 89 - بتحقيقنا). (¬4) في (ق): "في الكوفة". (¬5) في (ن): "الهمذاني".

وصِلَة بن زُفَر (¬1)، وشَرِيك بن حنبل، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وعُبيد (¬2) بن نَضْلة، وهؤلاء أصحاب علي، وابن مسعود. وأكابر التابعين كانوا (¬3) يُفْتُونَ [في الدين] (¬4)، ويستفتيهم الناسُ، وأكابرُ الصحابة حاضرون يُجَوِّزُون لهم ذلك، وأكثرهم أخذوا عن عمر وعائشة وعلي، ولقي عمرُو (¬5) بن ميمون الأوديُّ مُعَاذَ بن جبل، وصَحِبه، وأخذ عنه، وأوصاه معاذ عند موته أن يَلْحَق بابن (¬6) مسعود فيصحبه ويطلب العلم عنده، ففعل ذلك (¬7). ويضاف إلى هؤلاء: أبو عُبَيدة وعبد الرحمن، ابنا عبد اللَّه بن مسعود، وعبدُ الرحمن بن أبي ليلى، وأخذ عن مئة وعشرين من الصحابة، ومَيْسَرة، وزَاذَان، والضحاك. ثم بعدهم: إبراهيم النَّخَعي، وعامر الشَّعْبي، وسعيد بن جُبَير، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، وأبو بكر بن أبي موسى، ومُحارب بن دثار، والحكم بن عُتَيْبة، وجَبَلة بن سُحَيم [وصحب ابن عمر] (¬8). ثم بعدهم: حَمَّاد بن أبي سليمان، ومنصور (¬9) بن المُعْتَمِر، وسليمان الأعمش، ومِسْعَر بن كِدَام. ثم بعدهم: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد اللَّه بن شُبْرُمة، وسعيد بن أشوع، وشَرِيك القاضي، والقاسم بن مَعْن، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، والحسن بن صالح بن حَيّ. ثم بعدهم: حَفْص بن غِياث، ووَكيع بن الجَرَّاح، وأصحابُ أبي حنيفة، كابي يوسف القاضي، وزُفَر بن الهُذَيل، وحَمَّاد بن أبي حنيفة، [والجَرَّاح] (¬10)، والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي، ومحمد بن الحسن قاضي الرقَّة، وعافية ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك) زيادة: "وعتبة بن قوقلة، وفتيلة بن زفر"!. (¬2) في (ق): "وعبد اللَّه". (¬3) في (ن): "وكانوا"، وما أثبتناه من (ق) والمطبوع و"الإحكام" (5/ 99). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ن): "عمر". (¬6) في (ق): "ابن". (¬7) انظر: "مسند أحمد" (5/ 231)، و"السير" (4/ 158 - 159). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وفي (ك): "وصَحِب عمر". (¬9) في المطبوع و (ق) و (ك): "وسليمان" (¬10) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك).

فصل [فقهاء الشام]

القاضي (¬1)، وأسد بن عَمرو، ونُوح بن دَرَّاج القاضي، وأصحابُ سفيان الثَّوْري، كالأشْجَعي، والمُعَافى بن عمران، وصاحبي [الحسن بن حَيّ: حُمَيْد الرُّؤاسي] (¬2)، ويحيى بن آدم. فصل [فقهاء الشام] وكان من المفتين بالشام: أبو إدريس الخَوْلاني، وشُرَحبيل بن السِّمْط، وعبد اللَّه (¬3) بن أبي زكريا الخُزَاعي، وقَبيصة بن ذُؤَيب الخُزَاعي، وجُنادة ابن أبي أمية (¬4)، وسليمان بن حبيب الْمُحَاربي، والحارث بن عُمَيرة الزُّبَيْدي (¬5)، وخالد بن مَعْدان، وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، وجُبَيْر بن نفير. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "وعافية بن القاضي". (¬2) في المطبوع و (ق) و (ك): "الحسن بن حي الزولي" هكذا اسم واحد!! والتصويب من (ن) والمصادر الآتية؛ فالأول هو الحسن بن صالح بن صالح بن حَيّ الثوري، ثقة، فقيه، عابد رُمي بالتشيع؛ انظر: "التقريب" (161/ 1250)، و"ميزان الاعتدال" (1/ 496/ 1869)، و"الإحكام" (5/ 100) لابن حزم، ورسالته الملحقة بـ "جوامع السيرة" (ص: 331). أما الثاني: فهو حميد بن عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الرُّؤَاسي، انظر: "التقريب" (182/ 1551)، و"الأحكام"، والرسالة السالفة الذكر لابن حزم (الموضع نفسه). فكلٌّ من حميد ويحيى صاحب للحسن، وانظر: "ثلاث رسائل حديثية" للنسائي (ص: 137 - بتحقيقي). (¬3) في (ق) و (ك): "وعبيد اللَّه"، والمثبت من سائر النسخ و"طبقات ابن سعد" (7/ 456). (¬4) في المطبوع و (ق) و (ك): "حبان بن أمية" وفي (ن): "حبان بن أبي أمية"، والتصويب من "التقريب" (134/ 116) لابن حجر، و"ذكر أسماء التابعين" (1/ 96/ 176) للدارقطني، و"الإحكام" (5/ 101) لابن حزم، ورسالته الملحقة بـ "جوامع السيرة" (ص 331). (¬5) كذا في (و) وهو الصواب كما في (ن)، و"الإحكام" (5/ 101)، وفي (د) و (ط) و (ح): "الحارث بن عمير الزبيدي"! لكن وقع في رسالة ابن حزم الملحقة بـ "جوامع السيرة" (ص 331): "الحارث بن عمير الدُّهْمَاني"! فعلق عليه المحقق قائلًا: هكذا في الأصل، وبدله في "إعلام الموقعين": "الحارث بن عميرة الزبيدي"؛ ولم نعرف هذا ولا ذاك؟ اهـ. قلت: والصواب ما أثبتناه، وهو الحارث بن عميرة الزُّبَيْدي أخو يزيد بن عميرة الزُّبيدي المذكور في "التقريب" (604/ 7759)، وانظر: "توضيح المشتبه" (4/ 272) لابن ناصر الدين.

فصل [فقهاء مصر]

ثم كان بعدهم: عبدُ الرحمن بن جبير بن نفير، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حَيْوة، وكان عبد الملك بن مروان يُعَدُّ في المُفْتِين قبل أن يلي ما وَلي، وحُدَير (¬1) بن كُرَيْب. ثم كان بعدهم: يحيى بن حمزة القاضي، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو (¬2) الأوزاعي، وإسماعيل بن أبي المُهاجِر، وسُليمان بن موسى الأموي، وسعيد بن عبد العزيز، ثم مَخْلَد بن الحسين، والوليد بن مسلم، والعباس بن مَزْيَد (¬3) صاحب الأوزاعي، وشُعيب بن إسحاق صاحب أبى حنيفة، وأبو إسحاق الفَزَاري صاحب ابن المُبَارك. فصل [فقهاء مصر] في المُفْتِين من أهل مصر: يَزيد بن أبي حَبيب، وبُكَيْر بن عبد اللَّه ابن [الأشَجِّ] (¬4)، وبعدهما: عمرو بن الحارث -وقال ابن وهب: لو عاش لنا عمرو بن الحارث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره (¬5) - والليث بن سَعْد، وعُبَيد اللَّه بن أبي جعفر (¬6). وبعدهم: أصحابُ مالك [كعبد] (¬7) اللَّه بن وَهْب، وعثمان بن كِنانة، وأشْهَب، وابن القاسم على غلبة تقليده لمالك إلا في الأَقلِّ، ثم أصحاب الشافعي كالمُزَني، والبُويْطي، وابن عبد الحكم، ثم غلب عليهم تقليدُ مالك وتقليد الشافعي، إلا قومًا قليلًا لهم اختيارات كمحمد بن علي بن يوسف (¬8)، وأبي جعفر الطحاوي. ¬

_ (¬1) في (ن): "جدير"، وفي (ق) و (ك): "جرير". (¬2) في (ق): "عمر". (¬3) في (ن): "بن مرثد" وفي (ك) و (ق): "يزيد". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "والأشجع". (¬5) ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (6/ 351). (¬6) في (ق): "وعبيد اللَّه بن جعفر". (¬7) في (و): "كعب اللَّه"! (¬8) كذا في المطبوع والنسخ الخطية، ولعله يريد محمد بن علي بن وهب، الشهير بـ "ابن دقيق العيد"، له ترجمة في "طبقات الشافعية الكبرى" (6/ 2 - 22)، "حسن المحاضرة" (1/ 273 - 275).

[فقهاء القيروان]

[فقهاء القيروان] وكان بالْقَيْرَوَان: سَحْنُون بن سعيد، وله كثير في الاختيارات (¬1)، وسعيد بن محمد الحداد. [فقهاء الأندلس] وكان بالأندلس ممن له شيء من الاختيارات (¬2): يحيى بن يحيى، وعبد الملك بن حَبيب، وَبَقِيُّ بن مَخْلد، وقاسم بن محمد صاحب الوثائق، تحفظ لهم فتاوى يسيرة، وكذلك مَسْلمة بن عبد العزيز القاضي، ومُنْذِر بن سعيد. قال أبو محمد [بن حَزْم] (¬3): وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي مَنْ بلغها استحقَّ الاعتدادَ به في الاختلاف (¬4): مسعودُ بن سليمان، ويوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البرّ. فصل [فقهاء اليمن] وكان باليمن: مُطَرِّف بن مازن قاضي صَنْعاء، وعبد الرزّاق بن هَمَّام، وهشام بن يوسف، ومحمد بن ثور، وسِمَّاك بن الفَضْل. فصل [فقهاء بغداد] وكان بمدينة السلام (¬5) [من المفتين] (¬6) خلق كثير، ولما بناها المنصور أقْدَمَ إليها من الأئمة والفقهاء والمحدِّثين بشرًا كثيرًا، فكان (¬7) من أعيان المفتين بها: أبو عُبَيْد القاسمُ بن سَلَّام، وكان جَبلًا نُفخ فيه الرُّوح علمًا وجَلالةً ونبلًا وأدبًا، وكان منهم أبو ثَوْر إبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الشافعي، وكان قد جالس ¬

_ (¬1) في (ن): "وله يسير من الاختيار"، وفي المطبوع و (ق): "وله كثير من الاختيار". (¬2) في المطبوع: "الاختيار". (¬3) في "الإحكام في أصول الأحكام" (5/ 102)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ك) و (ق): "الخلاف". (¬5) في هامش (ك): "أي بغداد". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في (ق): "وكان".

[الإمام أحمد بن حنبل]

الشافعي وأخذ عنه، وكان أحمد يُعَظِّمه؛ ويقول: هو في مِسْلاخ الثوري (¬1). [الإمام أحمد بن حنبل] وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق: أحمد بن حنبل، الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعُه إلى يوم القيامة، وكان [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) شديدَ الكراهة لتصنيف الكتُب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يُكتب كلامُه، ويشتد عليه جدًّا، فعلم اللَّه حُسْنَ نيته وقَصْده، فكتب من كلامه وفَتْواه أكثر (¬3) من ثلاثين سفرًا، ومَنَّ [اللَّه سبحانه] (¬4) علينا بأكثرها؛ فلم يَفُتْنَا منها إلا القليل، وجمع الخَلَّالُ نصوصه في "الجامع الكبير" (¬5) فبلغ [نحو] (¬6) عشرين سِفْرًا أو أكثر، ورُويت فتاويه ومسائله وحُدِّثَ بها قرنًا بعد قرن، فصارت إمامًا وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلِّدين لغيره لَيُعَظِّمونَ نصوصَه وفتاواه، ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأَمَّلَ فتواه (¬7) وفتاوى الصحابة رأى مُطابقة كل منهما للأخرى (¬8)، ورأى الجميع كأنها تخرج من مِشْكاة واحدة (¬9)، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تَحَرِّيه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه، بل أعظم، حتى إنه لَيُقَدِّمُ فتاواهم على الحديث المرسل. قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في "مسائله": قلت لأبي عبد اللَّه: حديثٌ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُرْسَل برجال ثبت أحَبُّ إليك، أو حديث عن ¬

_ (¬1) انظر: "طبقات الشافعية" (2/ 74) للسبكي، ووقع في المطبوع: "سلاح الثوري" وما أثبتناه من (ن) والسّلْخ: هو الجلد، كما في "اللسان" (25/ 3) وقال في هامش (ق): "يقال: فلان في مسلخ فلان: أي على هديه وسمته". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "أكثر أكثر". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في نسخة (و) فراغ. (¬5) مطبوع منه "أحكام أهل الملل" في مجلد بتحقيق سيد كسروي حسن، عن دار الكتب العلمية - ببيروت، و"أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض" في مجلدين بتحقيق إبراهيم بن حمد السلطان عن مكتبة المعارف - بالرياض. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ق): "فتاويه". (¬8) في المطبوع: "على الأخرى" وفي (ق): "للآخر". (¬9) أحسن وصفٍ وصف به الإمام أحمد -رحمه اللَّه-: "تابعي جليل تأخّر به الزمن".

[أصول فتاوى أحمد بن حنبل]

الصحابة والتابعين (¬1) متصل برجال ثبت؟ قال أبو عبد اللَّه [رحمه اللَّه]: عن الصحابة أعْجَبُ إليّ (¬2). [أصول فتاوى أحمد بن حنبل] وكانت (¬3) فتاويه مبنية على خمسة أصول (¬4): أحدها: النصوص، فإذا وُجد النَّص أفتى بموجَبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا مَنْ خالفه -كائنًا من كان-، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المَبْتُوتة (¬5) لحديث فاطمة بنت قَيْس (¬6). ¬

_ (¬1) في (ق): "أو التابعين". (¬2) هو في "مسائل إسحاق بن هانئ" (2/ 165) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) كذا في (ق). وفي سائر النسخ: "وكان". (¬4) انظر: "أصول مذهب الإمام أحمد" لعبد اللَّه بن عبد المحسن التركي، و"المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (ص 49 - 202)، و"طبقات الحنابلة" لابن أبي يعلى (2/ 281 - 290)، حيث أودع فيه ما كتبه أبو محمد رزق اللَّه بن عبد الوهاب التميمي البغدادي (المتوفى سنة 488 هـ) في أصول مذهب أحمد ومشربه، وللشيخ عثمان المرشد "الرأي عند الإمام أحمد" رسالة ماجستير لم تطبع، وصنفت كتب في أصول فتاوى أحمد، انظر -غير مأمور-: "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل" (1/ 149 - 158) للشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬5) روى ذلك عنه مسلم في "الصحيح" (كتاب الطلاق): باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، (رقم: 1480 بعد 46). (¬6) أخرج مسلم في "صحيحه" (كتاب الطلاق)، باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها (2/ 1117/ رقم 1480)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطلاق): باب نفقة الحامل المبتوتة (6/ 210)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الطلاق، باب ما جاء في المطلقة ثلاثًا لا سكنى لها ولا نفقة، (2/ 325/ رقم 1191)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطلاق) باب في نفقة المبتوتة، (2/ 715/ رقم 2289)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الطلاق): باب المطلقة ثلاثًا هل لها سكنى ونفقة؟ (1/ 656 / رقم 2035، 2036)، وأحمد في "المسند" (6/ 411، 412)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 4240 - الإحسان)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 64)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 671)، والدارقطني في "السنن" (4/ 22 - 25)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 472 - 474) عن فاطمة بنت قيس؛ قالت: "طلقني زوجي على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يجعل لي سكنى ولا نفقة". وفي رواية مسلم (برقم 1480 بعد 46) وغيره فيها زيادة: وقال عمر: لا نترك كتاب اللَّه وسنة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- لقول امرأة لا ندري لعلها حفظت أو نسيت، لها السكنى =

ولا إلى خلافه في التَّيمم للجُنُب (¬1) لحديث عمار بن ياسر (¬2)، ولا [إلى] (¬3) خلافه في استدامة المحرِم الطيبَ الذي تطيب به قبل إحرامه (¬4) لصحة حديث عائشة في ذلك (¬5)، ولا [إلى] (3) خلافه في منع المفرد والقارن من الفَسْخ إلى التمتع (¬6) لصحة أحاديث الفسخ (¬7)، وكذلك لم يلتفت إلى قول عثمان، وعلي، ¬

_ = والنفقة، قال اللَّه -عز وجل-: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. (¬1) هو في قصته مع عمار. رواه البخاري (338) في التيمم: باب المتيمم هل ينفخ فيهما؟ و (339 - 343) باب: التيمم للوجه والكفين، ومسلم (368) في الحيض: باب التيمم. وروايات مسلم أصرح في بيان قول عمر. ووقع في (ن): "في التيمم في الجنب". (¬2) انظر التخريج السابق. (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة من نسخة (و) و (ق). (¬4) روى ذلك ابن أبي شيبة في "المصنف" (4/ 286، 287، 288 - ط: دار الفكر)، والبيهقي (5/ 35) من طرق عن عمر -رضي اللَّه عنه-، واعتذر له البيهقي. (¬5) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الغسل): باب من تطيب ثم اغتسل وبقي الطيب، (1/ 381/ رقم 270، 271)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الحج): باب الطيب للمحرم عند الإحرام (رقم 1190) عن عائشة: "أنا طيَّبتُ رسول اللَّه ثم طاف في نسائه"، وقالت: و"كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" لفظ البخاري. ولفظ مسلم: "يتطيب بأطيب ما يجد"، وعنده أيضًا (برقم 1191)، عنها: "كنت أطيب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل أن يحرم، ويوم النحر قبل أن يطوف بالبيت بطيب فيه مسك". (¬6) أخرج البخاري (1559) في (الحج): باب من أهل في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كإهلال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (1724) باب الذبح قبل الحلق، و (1795) في (العمرة) باب: متى يحل المعتمر؟ و (4346) في (المغازي): باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم (1221) في (الحج): باب في فسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام من حديث أبي موسى منع عمر من ذلك، ورواية مسلم أوضح حيث قال عمر لأبي موسى: "إن نأخذ بكتاب اللَّه فإن كتاب اللَّه يأمر بالتمام، وإن نأخذ بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يحل حتى بلغ الهَدْي مَحلَّه". (¬7) منها حديث جابر: رواه البخاري (1568) في (الحج): باب التمتع والقران والإفراد بالحج و (1570) باب: من لبّى بالحج وسَمّاه، و (1651) باب تقضي المناسك كلها إلا الطواف، و (1785) في (العمرة): باب عمرة التنعيم، و (2505) و (2506) في (الشركة): باب الاشتراك في الهدي والبدن، و (7230) في التمني: باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لو استقبلت من أمري ما استدبرت، و (7367) في (الاعتصام): باب نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- التحريم إلا ما تعرف إباحته، ومسلم (1216) في (الحج): باب بيان وجوه الإحرام. ورواه مسلم (1247). =

وطلحة، وأبي أيوب، وأبيّ بن كعب في ترك الغُسْل من الإكسال (¬1)؛ لصحة حديث عائشة أنها فَعَلَتْه هي ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاغتسلا (¬2)، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس (وإحدى الروايتين عن علي) أن عِدَّةَ المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين (¬3) لصحة حديث سُبَيْعة الأَسْلَميَّة (¬4)، ولم يلتفت إلى قول مُعَاذ ومعاوية في توريث ¬

_ = ومن حديث ابن عباس: رواه البخاري (1085) و (2505)، ومسلم (1240)، وانظر كلام المؤلف -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (1/ 191، 204 - 218)، و"تهذيب السنن" (3/ 308 - 318). (¬1) في صحيح البخاري (292) في (الغسل): باب غسل ما يُصيبُه من فَرْج المرأة، عن زيد بن خالد الجهني، سأل عثمان بن عفان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمن؟ فقال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة، ويغسل ذكره، قال عثمان سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام وطلحة بن عُبيد اللَّه، وأبيّ بن كعب -رضي اللَّه عنهم- فأقروا بذلك. ثم روى عن عروة بن الزبير أخبره أن أبا أيوب أخبره: أنه سمع ذلك من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلا الطريقين رواهما مسلم (347 و 86 و 87)، لكن في الأول قول عثمان فقط دون باقي الصحابة. وانظر "فتح الباري" (1/ 397)، و"مصنف عبد الرزاق" (1/ 249)، وما بعدها، و"مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 112 - 113)، و"الموافقات" للشاطبي (3/ 275 - 276) وتعليقي عليه. وفي (د) و (ط): يقال: "أكسل الرجل": إذا جامع ولم ينزل، ونحوه في (و). (¬2) أخرج مسلم في "صحيحه" (كتاب الحيض): باب نسخ "الماء من الماء" ووجوب الغسل بالتقاء الختانين (1/ 272 / رقم 350) عن عائشة -رضي اللَّه عنها-؛ قالت: إن رجلًا سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل، هل عليهما الغُسلُ؟ وعائشة جالسة؛ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لأفعل ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل". وانظر: "بدائع الفوائد" (3/ 126) للمؤلف. (¬3) أما قول ابن عباس: فأخرجه البخاري (4909) في التفسر: باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ومسلم (1485) في الطلاق: باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل. وأما أثر علي: فأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (11714) من طريق مسلم أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود، ثم قال: وبلغه أن عليًا قال. . . وفي "سنن البيهقي" (7/ 435) قال: وعن مسلم قال: "كان يقول: آخر الأجلين. . ."، ومسلم هذا لم يصح له سماع من علي؛ كما قال أبو زرعة وغيره. (¬4) رواه البخاري (5319) و (5320) في (الطلاق): باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ومسلم (1484) في (الطلاق): باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها، وغيرها بوضع الحمل. وانظر: "زاد المعاد" (4/ 183 - 184)، و"تهذيب السنن" (3/ 203).

[ما أنكره الإمام أحمد من دعوى الإجماع]

المسلم من الكافر (¬1) لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما (¬2)، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصَّرْف (¬3) لصحة الحديث بخلافه (¬4) ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحُمُرِ كذلك (¬5)، وهذا كثير جدًّا. [ما أنكره الإمام أحمد من دعوى الإجماع] ولم يكن يُقَدِّمُ على الحديث الصحيح عملًا ولا [قولًا ولا] (¬6) رأيًا ولا قياسًا، ولا قولَ صاحب، ولا عدمَ علمه بالمخالف الذي يُسمّيه كثير من الناس (¬7) إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كَذَّبَ أحمدُ من ادَّعى هذا الإجماع، ولم يُسِغْ (¬8) تقديمَه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي [-أيضًا-] (¬9) نصَّ في "رسالته الجديدة" على أن ما لا يُعْلَم فيه خلاف (¬10) لا يُقال له إجماع، ولفظُه: ما لا يُعلم فيه خلاف فليس إجماعًا (¬11). وقال عبد اللَّه بن أحمد [بن حنبل] (9): سمعت أبي ¬

_ (¬1) قول معاذ رواه ابن أبي شيبة (7/ 384 - دار الفكر)، وأحمد (5/ 30)، وسنده صحيح. وقول معاوية: رواه ابن أبي شيبة (7/ 384) من طريق إسماعيل عن الشعبي، عن عبد اللَّه بن مغفل؛ قال: ما رأيت قضاء بعد قضاء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسنده صحيح. (¬2) رواه البخاري (6764) في (الفرائض): باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم، ومسلم (1614) في أول (الفرائض) من حديث أُسامة بن زيد وغيره. وفي (ك): "عن التوارث بينهما". (¬3) سيأتي تخريجه. وقال (و): يعني ما كان يتكلم به في شان تحريم ربا النسيئة، وإباحة ربا الفضل اهـ. وقال (د) و (ط) و (ح): يعني في قوله: "لا ربا إلا في النسيئة" وقد رجع عنه أخيرًا بعد العلم اهـ. (¬4) سيأتي تخريجه. (¬5) رواه عنه الحميدي (859)، والبخاري (5529)، والبيهقي (9/ 330) من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد عن الحكم بن عمرو الغفاري، ورواية البيهقي مطولة، وفيها استدلال ابن عباس بالتحريم. ووقع في (ن): "لذلك" بدلا من "كذلك". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬7) في (ن): "أكثر الناس". (¬8) في (ن): "ولم يسوغ" وفي (ق) "لم يستطع"!. (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في المطبوع: "بخلاف"!. (¬11) فتشت "الرسالة" المطبوعة بتحقيق الشيخ أحمد شاكر -مرارًا-، فلم أجد هذه العبارة!! وانظر "جماع العلم" (ص 50) للشافعي، ونقل ابن الموصلي هذه العبارة في "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 440).

فصل [الأصل الثاني لأحمد: فتاوى الصحابة]

يقول: ما يَدَّعي فيه الرجلُ الإجماعَ فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يُدْرِيه، ولم يَنْتَه إليه؟ فليقل: لا نعلم (¬1) الناسَ اختلفوا، هذه دعوى بِشْر المِرِّيسيّ والأَصَم، ولكن (¬2) يقول: لا نعلم (1) الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك، هذا لفظه (¬3). ونصوصُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجَل عند الإمام أحمد -وسائِرِ أئمة الحديث- من أن يُقَدِّموا عليها ما توهِّمَ إجماعًا (¬4) مضمونه عدم العلم بالمخالف، [ولو ساغ لتعطَّلت النصوصُ، وساغ لكل مَنْ لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة أن يُقَدِّمَ جهله بالمخالف على النصوص] (¬5)؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دَعْوى الإجماع، لا ما يظنه بعضُ الناس أنه استبعاد لوجوده. فصل [الأصل الثاني لأحمد: فتاوى الصحابة] الأصل الثاني من أصول (¬6) فتاوى الإمام أحمد: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يُعْرَف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُها إلى غيرها، ولم يَقُل: إن ذلك إجماع، بل من وَرَعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يَدْفَعه، أو نحو هذا، كما قال (¬7) في رواية أبي طالب لا أعلم شيئًا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحَدَ عشر (¬8) من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على قبول شهادة العبد (¬9) وهكذا قال أنس بن مالك: لا أعلم أحدًا ردَّ شهادة العبد (¬10)، حكاه عنه الإمام أحمد (¬11)، وإذا وجد ¬

_ (¬1) في (ق): "يعلم". (¬2) في المطبوع: "ولكنه". (¬3) انظر: "مسائل عبد اللَّه" (ص: 438 - 439)، و"مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 440). (¬4) في المطبوع و (ن): "يقدموا عليها توهم إجماع". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "ولو ساغ لكل من لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة أن يقدم جهله بالمخالف على النصوص، ولو ساغ هذا؛ لتعطلت النصوص". (¬6) في (ق): "فتاوي". (¬7) في (ق): "ونحو هذا الكلام قال. . . ". (¬8) في (ق): "وأحد وعشرين" وفي (ك): "واحدى وعشرين". (¬9) في المطبوع: "على تسري العبد". (¬10) سيأتي تخريجه. (¬11) انظر في قبول شهادة العبد؛ والتدليل عليه مبسوطًا في "الطرف الحكمية" (ص 165) الطريق الرابع عشر، (ص 181 - 187)، و"بدائع الفوائد" (1/ 5).

فصل [الثالث: الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا]

[الإمام] (¬1) أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملًا ولا رأيًا ولا قياسًا. فصل [الثالث: الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا] الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة تخيَّر من أقوالهم ما كان أقربَهَا إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين (¬2) له مُوَافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول. قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في "مسائله": قيل لأبي عبد اللَّه: يكون الرجلُ في [قرية] (¬3) فيُسأل عن الشيء فيه اختلاف، قال: يُفْتي بما وافَقَ الكتابَ والسنة (¬4)، وما لم يُوافق الكتاب والسنة: أَمْسَك عنه، قيل له: أفتخاف عليه؟ (¬5) [قال] (¬6): لا (¬7). فصل [الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف] الأصل الرابع: الأخذ بالمرسَل والحديثِ الضَّعيف، إذا لم يكن في الباب شيء [يدفعه] (¬8)، وهو الذي رجَّحَه على القياس، وليس المرادُ بالضعيف عنده الباطلَ، ولا المنكَرَ، ولا ما في رواته (¬9) مُتَّهم؛ بحيث لا يَسُوغ الذهابُ إليه والعمل به (¬10)، بل الحديث الضعيف عنده قَسِيم الصحيح (¬11) وقسم من أقسام ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "يتيسر". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "قومه"، والتصويب من (ن) و (ق) وفيها "يسأل" و"المسائل". (¬4) في "مسائل ابن هانئ" بعدها: "يفتي به". (¬5) وقع في المطبوع: "أفيجاب عليه"!، وعلَّق (د) قائلًا: كذا، وربما كان الأصل "أفيجب عليه؟ " أي الإفتاء. اهـ. قلت: والتصويب من "مسائل ابن هانئ"، و (ن)، و (ق). (¬6) في النسخ المطبوعة كلها: "قيل"، وما أثبتناه من "المسائل" و (ن) و (ق). (¬7) انظر: "مسائل ابن هانئ" (2/ 167). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في المطبوع: "روايته" والتصويب من (ن) و (ق). (¬10) في المطبوع: "فالعمل به". (¬11) في (ن): "أقسام من الصحيح"، وفي (ك): "قسم من الصحيح".

[تقديم أبي حنيفة الحديث الضعيف على القياس]

الحَسَن (¬1) ولم يكن يُقَسِّم الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، بل إلى: صحيح وضعيف، والضعيف (¬2) عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب (¬3) أثرًا (¬4) يدفعه، ولا قولَ صاحب، ولا إجماع على خلافه؛ كان العمل به عنده أولى (¬5) من القياس. وليس أحَدٌ من الأئمة [الأربعة] إلا وهو موافِقُه (¬6) على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا و [قد] (¬7) قَدَّم الحديثَ الضعيف على القياس. [تقديم أبي حنيفة الحديث الضَّعيف على القياس] فقدم أبو حنيفة حديثَ القهْقَهَة في الصلاة (¬8) على مَحْض القياس، وأجمع أهل الحديث على ضَعْفِه (¬9)، وقدم حديثَ الوضوء بنبيذ التمر (¬10) على القياس، وأكثر أهل الحديث يُضَعِّفه (¬11)، وقدَّم حديثَ: "أكْثَرُ الحيضِ عَشَرَةُ أيامٍ" (¬12) ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (18/ 25 و 1/ 252)، "والتوسل والوسيلة" (ص 88 - ط محب الدين الخطيب)، و"قواعد في علوم الحديث" (ص 99 - 100) للتهانوي، و"النكت على ابن الصلاح" لابن حجر (1/ 424 - 429)، و"شرح علل الترمذي" (1/ 337) لابن رجب، و"تقسيم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بين واقع المحدِّثين ومغالطات المتعصّبين" للشيخ ربيع بن هادي (ص 67 - 85). (¬2) في المطبوع: و (ق) و (ك): "وللضعيف". (¬3) في (ن) و (ق): "في الكناب"، وقال في هامش (ن): "في نسخة: في الباب". (¬4) في (ك): "أمر". (¬5) في (ق): "كان العمل عنده به أولى". (¬6) في (ق) و (ك): "إلا يوافقه"، وما بين المعقوفتين من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬8) سيأتي تخريجه. (¬9) انظر: "تهذيب السنن" (6/ 50)، "وبدائع الفوائد" (3/ 131)، و"الخلافيات" (2/ 370 - 416) وتعليقي عليه. (¬10) سيأتي تخريجه. (¬11) سيأتي تضعيف ابن القيم لهذا الحديث في عدة مواضع متفرقة، وانظر: "تهذيب السنن" (3/ 284) و"الخلافيات" (1/ 168 - 192) وتعليقي عليه. (¬12) ورد عن جماعة من الصحابة، منهم: أبو أمامة: رواه الطبراني في "الكبير" (7586)، و"الأوسط" (رقم 603)، و"مسند الشاميين" (2/ رقم 1515 و 4/ رقم 3420)، والدارقطني (1/ 218)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 782)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 326)، و"المعرفة" (2/ رقم 2266)، و"الخلافيات" (3/ رقم 1040، 1041)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (642)، وفي إسناده مجهول، وضعيف، وإعلال بالانقطاع. وله طريق آخر عن أبي أمامة: رواه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 333)، وابن عدي (3/ 1098 - 1099)، والبيهقي في "الخلافيات" (3/ رقم 1043)، وفيه راو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = كذاب وانظر -لزامًا- تعليقي على "الخلافيات" (3/ 375 - 381). ومن حديث واثلة بن الأسقع: رواه الدارقطني (1/ 219)، والبيهقي في "الخلافيات" (3/ رقم 1046)، وابن الجوزي في "الواهيات" (643)، و"التحقيق" (رقم 304)، وفيه مجهول وضعيف؛ كما قال الدارقطني، وانظر "تنقيح التحقيق" (1/ 613)، و"نصب الراية" (1/ 192). ومن حديث معاذ بن جبل: رواه ابن عدي (6/ 2152)، وفيه محمد بن سعيد المصلوب الكذاب. وله طريق آخر، رواه العقيلي (4/ 51)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (2/ 195)، وابن الجوزي في "الواهيات" (639)، و"التحقيق" (رقم 406)، وأعله العقيلي بجهالة محمد بن الحسن الصدفي، وقال: وحديثه غير محفوظ. وحكم عليه ابن حزم (2/ 197) بالوضع، وأقره عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (1/ 214). ومن حديث أبي سعيد الخدري: رواه ابن الجوزي (640)، والخطيب (9/ 20)، وفيه أبو داود النخعي، وهو كذاب، وانظر "أجوبة أبي زرعة الرازي على أسئلة البرذعي" (2/ 525 - 526). ومن حديث أنس: رواه ابن عدي في "الكامل" (2/ 715)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 1039)، وابن الجوزي في "الواهيات" (641)، و"التحقيق" (رقم 305). وفي إسناده الحسن بن دينار، وهو ضعيف، وانظر تعليقي على "الخلافيات" (3/ 373 - 374)، وقد أُعل الحديث بالوقف، فقد رواه ابن عدي (2/ 598)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (3/ 355 رقم 1026 - بتحقيقي)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 406، 407)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (3/ 354 رقم 1025 - بتحقيقي)، والدارمي في "السنن" (1/ 210)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 205)، والدارقطني في "السنن" (1/ 209، 210)، و"المؤتلف والمختلف" (2/ 868، 869)، والشافعي في "الأم" (1/ 64)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 322، 322 - 323، 323) و"المعرفة" (2/ 168 - 169، 170)، و"الخلافيات" (3/ 357، 358)، من طرق عن الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس به موقوفًا؛ والجلد هذا -أيضًا- ضعيف، وضعفه الشافعي في "الأم" (1/ 64)، والإمام أحمد كما في "سنن الدارقطني" (1/ 210)، و"تاريخ أبي زرعة الدمشقي" (2/ 684 رقم 2094، 2095)، وابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 82)، وعبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (1/ 215)، وابن رجب في "فتح الباري" (2/ 150). وهذه الطرق كلها واهية لا يصح بها الحديث. وأطلق أحمد -في رواية الميموني- أنه ما صح عن أحد من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه =

[تقديم الشافعي الضعيف على القياس]

-وهو ضعيف باتفاقهم- على محض القياس؛ فإن [الدم] (¬1) الذي تراه في اليوم الحادي عشر (¬2) مُسَاوٍ في الحدِّ والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر (¬3)، وقَدَّم حديثَ: "لا مهر أقلّ من عشرة دراهم" (¬4) -وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه- على مَحْض القياس، فإن بَذْلَ الصداق مُعَاوضة في مقابل (¬5) بذل البُضْع، فما تراضَيَا عليه جاز قليلًا كان أو كثيرًا (¬6). [تقديم الشافعي الضعيف على القياس] وقَدَّم الشافعي خبر تحريم صَيْد وَجٍّ (¬7) مع ضعفه على القياس، وقدم خبر ¬

_ = قال في الحيض: "عشرة أيام، أو خمسة عشر". نقله الزركشي في "شرح مختصر الخرقي" (1/ 408)، وقال ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 229): إنه قال في رواية الميموني وأيضًا عن أثر أنس وأحاديث الباب: "ليس بشيء، أو قال: ليس يصح" وانظر "مسائل صالح" (رقم 458، 668)، و"مسائل عبد اللَّه" (رقم 168، 169)، و"مسائل أبي داود" (ص 22)، وقال البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 323): "وقد روي في أقلّ الحيض، وأكثره أحاديث ضعاف، قد بيّنت ضعفها في "الخلافيات". قلت: انظر منه (مسألة رقم 480 بتحقيقي) فقد استوفيت الكلام على أحاديث الباب وعللها. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) في المطبوع و (ق) و (ك): "الثالث عشر"، وقال في هامش (ق): "لعله: الحادي عشر". (¬3) انظر تضعيف المؤلف -رحمه اللَّه- الحديث في "تهذيب السنن" (3/ 248). (¬4) رواه أبو يعلى (2094)، وابن عدي (6/ 2411)، والدارقطني في "سننه" (3/ 244 - 245)، والبيهقي (7/ 133 و 240)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 263) من طرق مدارها كلها على مُبَشَّر بن عُبيد، ومبشر هذا قال عنه أحمد: "روى عنه بقية وأبو المغيرة أحاديث موضوعة كذب"، وقال مرة أخرى: "ليس بشيء يضع الحديث" وقال الدارقطني: متروك يضع الأحاديث ويكذب. وقال ابن عدي: هذا الحديث مع اختلاف ألفاظه في المتون واختلات إسناده باطل لا يرويه إلا مبشر. (¬5) في (ك) و (ق): "مقابلة". (¬6) انظر: "زاد المعاد" (4/ 28 - 29)، و"تهذيب السنن" (3/ 49 - 50). (¬7) هو حديث: "أن صيد وَجِّ وعضاهه حَرَم مُحَرَّم للَّه". رواه الحميدي، (63) وأحمد (1/ 165)، وأبو داود (2032)، والعقيلي (4/ 93)، والبيهقي (5/ 200)، والدارقطني في "علله" إملاء (4/ 240)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 140) من طريق محمد بن عبد اللَّه بن إنسان، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن أبيه الزبير. وهذا إسناد ضعيف، محمد بن عبد اللَّه هذا قال البخاري (1/ 140): لم يُتابع عليه. وذكر أباه، وقال: لم يصح حديثه، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وفي حديثه نظر =

[تقديم مالك المرسل، والمنقطع، والبلاغات]

جواز الصلاة بمكة في وقت النهي (¬1) مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد، وقَدَّم في أحد قَوْليه حديث: "مَنْ قاءَ أو رُعِفَ فليتوضأ ولْيَبْنِ على صلاته" (¬2) على القياس مع ضعف الخبر (¬3) وإرساله. [تقديم مالك المرسل، والمنقطع، والبلاغات] وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسَلَ، والمنقطع، والبَلاغات، وقولَ الصحابي على القياس. [الأصل الخامس عند أحمد: القياس للضرورة] فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نصّ، ولا قول الصحابة، أو أحد (¬4) منهم، ولا أثر مرسل، أو ضعيف: عَدَل إلى الأصل الخامس -وهو القياس- فاستعمله للضرورة، وقد قال في "كتاب الخلَّال": سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنما يُصَار إليه عند الضرورة (¬5)، أو ما هذا معناه. ¬

_ = قال (ح) و (د): "وَجَّ" -بفتح الواو تشديد الجيم- موضع بناحية الطائف، وقيل: اسم جامع لحصونها، وقيل: اسم واحد منها. اهـ، واقتصر (و) على قوله: "موضع بناحية الطائف"، ونحوه في (ط). وانظر: "زاد المعاد" (2/ 201). (¬1) أقول: إن أراد حديث: "يا بني عبد مناف، لا تمنعن أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أي ساعة من ليل أو نهار". فهو حديث صحيح رواه أحمد (4/ 80، 81، 82، 83، 84)، وعبد الرزاق (9004)، والحميدي (561)، وأبو داود (1894) في (المناسك): باب الطواف بعد العصر، والترمذي (868) في (المناسك): باب ما جاء في الصلاة بعد العمر، وبعد الصبح لمن يطوف، والنسائي (1/ 284) في (المواقيت): باب إباحة الصلاة في الساعات كلها بمكة و (5/ 223) في (المناسك): باب في إباحة الطواف في كل الأوقات، وابن ماجه (1254) في الإقامة: باب ما جاء في الصلاة بمكة في كل الأوقات، والدارقطني (1/ 423)، وأبو يعلى (7396) و (7415)، وابن حبان (1552 و 1553 و 1554)، والطبراني (1599 و 1600 و 1601 و 1602)، والبيهقي (2/ 461) و (5/ 92)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 448)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1280) من طريق عبد اللَّه بن باباه عن جبير بن مطعم، وصححه الترمذي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي. (¬2) الحديث عند ابن ماجه وغيره، وسيأتي تخريجه مفصلًا. (¬3) في (ق): "مع ضعف مخبره". (¬4) في المطبوع و (ق): "أو واحد". (¬5) انظر: "الرسالة" (ص: 599/ 1817) للإمام الشافعي -رحمه اللَّه-.

[وقال في "رواية أبي الحارث": ما تصنع بالرأي والقياس، وفي الحديث ما يغنيك عنه؟ وقال في "رواية عبد الملك المَيْموني": يَجْتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المُجْمَل والقياس] (¬1). فهذه الأصول الخمسة من (¬2) أصول فتاويه، وعليها مَدَارها، وقد يتوقف في الفتوى؛ لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين. وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء في المسألة التي ليس فيها (¬3) أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (¬4). وكان يُسَوِّغُ استفتاء فقهاء [أصحاب] (¬5) الحديث وأصحاب مالك، وَيدُلُّ عليهم، ويمنع من استفتاء مَنْ يُعْرِض عن الحديث، ولا يبني مذهبه عليه، ولا يسوِّع العمل بفتواه (¬6). قإل ابن هانئ: سألت أبا عبد اللَّه عن الذي جاء في الحديث: "أجْرَؤكم على الفُتْيا أجرؤكم على النار" (¬7)، قال أبو عبد اللَّه [رحمه اللَّه] (¬8): يُفتي بما لم يسمع (¬9). قال: وسألته عَمَّن أفتى بفتْيا [يعيى] (¬10) فيها؛ قال: فإثمها على من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك)، وقوله: "رواية أبي الحارث" سقط من (ق). (¬2) في (ق): "هنا" وفي هامشه: "لعله هي". (¬3) في المطبوع و (ن): "بمسألة ليس فيها". (¬4) أسندها عنه ابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص 178) ونقلها ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (21/ 291). (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬6) في (ق) و (ك): "بقوله". (¬7) الحديث رواه الدارمي في "سننه" (في المقدمة): باب: الفتيا وما فيه من الشدة، (1/ 57) من حديث عبيد اللَّه بن أبي جعفر مرسلًا، وعزاه في "كشف الخفاء" (1/ 51) لابن عدي مرسلًا -كذلك-، ولم أره فيه، وانظر: "إبطال الحيل" (65) لابن بطة، و"فيض القدير" (1/ 158) للمناوي. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) انظر "مسائل ابن هانئ" (2/ 165 - 166/ 1916)، و"الآداب الشرعية" (2/ 67). (¬10) في نسخة (و) و (ق) و (ك): "يعني"، وفي "مسائل ابن هانئ": "يعني نعيًا فيها"، وقال المحقق: "كذا الأصل. . . "، ولعل الصواب ما أثبتناه.

أفتاها، [قلت] (¬1): على أيِّ وجه يُفتي حتى [يعلم (ما)] (¬2) فيها؟ قال: يفتي بالبحث، لا يدري أيش أصلها (¬3). وقال أبو داود في "مسائله": ما أحْصِي ما سمعت أحمد سُئِل عن كثير (¬4) مما فيه الاختلاف [في] العلم فيقول: لا أدري (¬5). قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عُيَيْنة في [الفتوى] (¬6) أحسن فُتْيا منه، كان أهون عليه أن يقول: [لا أدري] (¬7). وقال عبد اللَّه بن أحمد في "مسائله": سمعت أبي يقول: قال (¬8) عبد الرحمن بن مهدي: سأل رجل من أهل الغرب (¬9) مالك بن أنس عن مسألة، فقال: لا أدري، فقال: يا أبا عبد اللَّه تقول لا أدري؟! [قال: نعم، فابلغ مَنْ وراءك أني لا أدري (¬10). وقال عبد اللَّه: كنت أسمع أبي كثيرًا يسأل عن المسائل؛ فيقول: لا أدري] (¬11) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) (ك) (ق). (¬2) في (ن): "يعني" وفي (ك): "يعلم" وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬3) انظر: "مسائل ابن هانئ" (2/ 165/ 1915). (¬4) في (ق): "عن شيء كثير". (¬5) انظر: "مسائل أبي داود": (ص 275)، وبدل ما بين المعقوفتين فيها: "من". (¬6) في "مسائل أبى داود": "الفتيا"، وكلاهما صحيح، لكن "الفتيا" في كلام العرب أفصح وأكثر استعمالًا، وتعريف الإفتاء: هو إخبار بحكم اللَّه تعالى عن دليل شرعي لمن سأل عنه في أمر نازل. انظر: "الفتيا ومناهج الإفتاء" (ص 7 - 9) للدكتور محمد الأشقر. (¬7) انظر: "مسائل أبي داود" (ص 276)، وبدل ما بين المعقوفتين فيها: "لا دري" بسقوط ألف المضارعة! وفيها زيادة: "من لا شيء، يقول: من يحسن -يعني: هذا-؟ يعني: على هذا سَلْ العلماء" اهـ. (¬8) في المطبوع: "وقال". (¬9) في (ق) و (ن): "أهل المغرب". (¬10) أسنده إلى ابن مهدي: ابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" (ص 18)، والآجري في "أخلاق العلماء" (ص 134)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 174)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 838 رقم 1573)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 816)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 323) بألفاظ متقاربة. وذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 145 - 146)، والشاطبي في "الموافقات" (5/ 325 - بتحقيقي). (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

فصل [كراهة السلف التسرع في الفتوى]

[ويقف] (¬1) إذا كانت المسألة (¬2) فيها اختلاف، [وكثيرًا ما] (¬3) كان يقول: سَلْ غيري، فإن قيل [له] (¬4): مَنْ نسأل؟ قال: سَلوا العلماء (¬5)، ولا يكاد يُسمّي رجلًا بعينه (¬6). قال: وسمعت أبي يقول: كان ابن عُيَيْنة لا يفتي في الطلاق، ويقول: مَنْ يُحْسِن هذا؟! (¬7). فصل [كراهة السلف التسرع في الفتوى] وكان السَّلَف من الصحابة والتابعين يكرهون التَّسرُّعَ في الفَتْوَى، ويود كل واحد منهم أن (¬8) يكفيه إياها غيرُه؛ فإذا رأى أنها قد تعيَّنت عليه بَذَلَ اجتهادَهُ في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى. وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا (¬9) سفيانُ، عن عطاء بن السَّائب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ قال: أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أُراه قال: في المسجد، فما [كان] منهم مُحَدِّثٌ إلا وَدَّ أنَّ أخاه كَفَاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا (¬10). وقال الإمام [أحمد] (¬11): حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في "مسائل عبد اللَّه": "وذلك". (¬2) في المطبوع: "مسألة"، وفي (ق): "ويقف إذا كان مسألة فيها خلاف لا وفي (ك) أيضًا "خلاف" بدل "اختلاف". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في "مسائل عبد اللَّه": "وكثير مما". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) في (ق): "سل". (¬6) انظر: "مسائل عبد اللَّه" (438/ 1583). (¬7) لم أظفر بها في "مسائل عبد اللَّه"، ولا في "العلل" له، ونقلها الميموني عن أحمد كما في "تهذيب الكمال" (11/ 190). (¬8) في (ق) و (ن) و (ك): "يود أحدهم أن". (¬9) في (ق): "عبد اللَّه بن المبارك رضي اللَّه عنه ثنا". (¬10) رواه ابن المبارك في "الزهد" (ص 19) -ومن طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 163) -، ورواه أيضًا ابن سعد في "الطبقات" (6/ 110) من طريقين عن سفيان بهذا الإسناد، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 12 - 13)، والبيهقي في "المدخل" (800 و 801). وإسناده صحيح عطاء اختلط لكن رواية سفيان الثوري عنه قبل الاختلاط، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[فتوى الطلاق ثلاث]

عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ قال: أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-ما منهم رجل يُسْأل عن شيء إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه، ولا يحدِّثُ حديثًا إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه (¬1). [فتوى الطلاق ثلاث] وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، أن بُكير [بن] (¬2) الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش، أنه كان جالسًا عند عبد اللَّه بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس بن البكير؛ فقال: إن رجلًا من أهل البادية طَلَّقَ امرأته ثلاثًا فماذا تَرَيَانِ؟ فقال عبد اللَّه بن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد اللَّه بن عباس، وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهبتُ، فسألتهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفْتِهِ [يا أبا هريرة] (¬3) فقد جاءتكَ مُعْضِلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تُبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره (¬4). [عود إلى كراهية السلف التَّسرُّع في الفتيا] وقال مالك، عن يحيى بن سعيد؛ قال: قال ابن عباس: إن كلَّ من أفتى الناسَ في كل ما يسألونه [عنه] (¬5) لمجنون (¬6). قال مالك: وبلغني عن ابن مسعود ¬

_ (¬1) رواه أبو خيثمة في "العلم" (21) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 163) من طريق جرير به وجرير سمع من عطاء بعد الاختلاط لكنه متابع كما في الذي قبله. وفي (ك) و (ق): "ولا محدث حديثًا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 36) -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 334) -، عن مالك بهذا الإسناد، وفيه: "وقال ابن عباس مثل ذلك". ورواته ثقات غير معاوية بن أبي عياش فقد ترجمه البخاري وابن أبي حاتم في كتابيهما وذكرا أنه روى عنه ابن إسحاق وبكير بن الأشج ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا وترجمه ابن حبان في "الثقات" (7/ 467). وعلقه أبو داود (2198) عن مالك. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) قول ابن عباس: رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 164)، والبيهقي في "المدخل" (799) (ص 433) من طريق مالك به، وهو منقطع، يحيى لم يدرك ابن عباس.

[الجرأة على الفتوى]

مثل ذلك، رواه ابن وضاح، عن يوسف بن عَدي، عن عَبْد (¬1) بن حميد، عن الأعمش، عن شَقيق، عن عبد اللَّه، ورواه حَبيب بن [أبي] (¬2) ثابت [عن الأعمش] (¬3)، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه (¬4). وقال (¬5) سحنون بن سعيد: أجْسَرُ الناس على الفتيا أقَلُّهم علمًا، يكون عند الرجل البابُ الواحد من العلم يظن أن الحق [كله] (¬6) فيه. [الجرأة على الفتوى] قلت: الجرأة على الفُتيا تكون من قلة العلم ومن غَزَارته وسَعَته، فإذا قلَّ علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتَّسَعت فُتْياه، ولهذا كان ابن عباس من أوْسَع الصحابة فتيا، وقد تقدم أن فتاواه (¬7) جُمِعَتْ [في] (¬8) ¬

_ (¬1) في (ن): "عبيد" وهو خطأ. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن). (¬4) رواه الدارمي (1/ 61)، وأبو خيثمة في "العلم" (10) والطبراني في "المعجم الكبير" (9/ 211 رقم 8923 و 8924)، وابن بطة في "إبطال الحيل" (66)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (رقم 324)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 197)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (رقم 1590)، والبيهقي في "المدخل" (798) من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود. وإسناده صحيح. وقوله: "رواه ابن وضاح عن يوسف"، هو في "جامع بيان العلم" (2/ 164)، وقوله: "ورواه حبيب. . " هو في "جامع بيان العلم" لكن عن حبيب، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، ولذا وضعنا "عن الأعمش" بين معقوفتين، وسقط من جميع النسخ. وتابع أبا وائل موسى بن أبي كثير -ولم يسمع ابن مسعود- أخرجه أبو يوسف في "الآثار" (1/ 200 رقم 903). (¬5) في (ق): "قال". (¬6) روى ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 816، 817، / 1124 رقم 1525، 1527، 2209)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 166) عن أيوب السختياني، وابن عيينة: "أجسرُ الناس على الفتيا أقلهم علمًا باختلاف العلماء"، زاد أيوب: "وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء". وذكر الذهبي أول العبارة عنه في "السير" (12/ 66)، وما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وانظر "الموافقات" (5/ 123)، وتعليقي عليه. (¬7) في (ن) و (ق): "فتاويه". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، و (ق) و (ك).

[من يجوز له الفتيا]

عشرين سِفْرًا، وكان سعيد بن المسيب أيضًا واسعَ الفتيا، وكانوا يسمونه [الجريء] (¬1)، كما ذكر ابن وهب عن محمد بن سُليمان المُرادي، عن أبي إسحاق؛ قال: كنت أرى الرجلَ في ذلك الزمان وإنه لَيَدْخُل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس حتى يُدْفَع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية (¬2) الفتيا، قال: وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء (¬3). وقال (¬4) سحنون: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية اْقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعْجَلَ بالجواب [قبل الخبر] (¬5)، فَلِمَ أُلام على حبس الجواب؟ (¬6). [من يجوز له الفتيا] وقال ابن وهب: حدثنا أَشْهَل (¬7) بن حاتم، عن عبد اللَّه بن عَوْن، عن ابن سِيرين، قال: قال حذيفة: إنما يُفْتي الناسَ أحدُ ثلاثة: من يَعلم ما نُسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بدًا، أو أحمق متكلف، قال: فربما قال ابن سيرين: فلست بواحدٍ من هذين، ولا أُحبُّ أن أكون الثالث (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة من (ن) ونسخة (و) و (ك) و (ق). (¬2) في (ق): "كراهة". (¬3) انظر: "الطبقات" (2/ 382 - 383) لابن سعد وفي (ق): "وكانوا يدعونه". (¬4) في (ق): "قال". (¬5) في (ن) و (ق) و (ك): "حتى أتخير". (¬6) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2211). (¬7) في (ن): "إسماعيل"! (¬8) رواه من طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2114) ورجاله ثقات ورواه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/ 157 أو 2/ 331 رقم 1047 - ط دار ابن الجوزي) من طريق ابن عون به. ورواه الدارمي في "المقدمة" (1/ 62) وعبد الرزاق في "المصنف" (11/ 231 رقم 20405)، والحازمي في "الاعتبار" (6 - 7)، وابن النحاس في "الناسخ والمنسوخ" (1/ 415)، والبيهقي في "المدخل للسنن الكبرى" (رقم 70)، وابن عبد البر (2117) من طريقين عن ابن سيرين به. قلت: ابن سيرين لم يدرك حذيفة، وقد نص في "التهذيب" على أن روايته عنه مرسلة ثم وجدته يروي عنه هذا الأثر بالواسطة، إذ أخرجه الدارمي (1/ 62) وابن الجوزي في "الناسخ والمنسوخ" (31) من طريق هشام بن حسان عنه، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن حذيفة، وأبو عبيدة هذا لم يوثقه إلا ابن حبان.

[المراد بالناسخ والمنسوخ عند السلف والخلف]

[المراد بالناسخ والمنسوخ عند السلف والخلف] قلت (¬1): ومراده ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة -وهو اصطلاح المتأخرين-، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما: بتخصيص، أو تقييد، أو حَمْل مُطْلق على مُقَيد (¬2)، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم ليسمون الاستثناء (¬3)، والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومَنْ تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه (¬4) ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها [حملُ كلامهم على الا] صطلاح الحادث المتأخر (¬5). وقال هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين؛ [قال] (¬6): قال حذيفة: إنما يفتي [الناس أحدُ ثلاثة: رجل يعلم ناسخ] (¬7) القرآن ومنسوخه، وأمير لا يجد بدًا، وأحمق متكلف، قال ابن سيرين: ([فأنا] (¬8) لست أحد هذين، وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفًا) (¬9). [عود إلى كراهية الأئمة للفتيا] وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "جامع فضل العلم": حدثنا خَلَف بن القاسم: ثنا يحيى بن الربيع: ثنا محمد بن حماد المصيصي: ثنا إبراهيم بن واقد: ثنا المطلب بن زياد؛ قال: حدثني جعفر بن حسين إمامنا؛ قال: رأيت أبا حنيفة في النوم، فقلت: ما فعل اللَّه بك يا أبا حنيفة؟ قال: غَفَر لي، فقلت له: ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، وفي سائر النسخ: "قال". (¬2) في (ن): "أو تقييد مطلق على المقيد" ومقيد وقعت في (ك) و (ق) كذلك بالتعريف. (¬3) في المطبوع: "يسمون الاستثناء". (¬4) في (ن): "رأى من ذلك ما فيه". (¬5) انظر في تقرير هذا: "الموافقات" (3/ 344 - بتحقيقي)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (13/ 29، 272 و 14/ 101)، و"الاستقامة" (1/ 23)، و"الإحكام" لابن حزم (4/ 67)، و"فهم القرآن" للمحاسبي (398)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" (ص 88 - 90) لمكي، و"الفوز الكبير" (ص 112 - 113) للدهلوي، و"محاسن التأويل" (1/ 13)، و"تفسير القرطبي" (2/ 288)، و"النسخ في دراسات الأصوليين" (521)، و"معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة" (ص 254) وما بين المعقوفتين بياض في (ق). (¬6) و (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬9) انظر التخريج السابق وما بين الهلالين بياض في (ق).

[خطر تولي القضاء]

بالعلم؟ فقال: ما أضَرَّ الفتيا على أهلها! فقلت: فبم؟ قال: بقول الناس فيَّ ما لم يعلم اللَّه [أنه] مِنِّي (¬1). قال أبو عمر: وقال سحنون يومًا: إنا للَّه، ما أشقى المفتي والحاكم! ثم قال: ها أنذا يُتعلم مني ما تُضْرَب به الرقاب، وتُوَطأ به الفروج وتُؤخذ (¬2) به الحقوق، أما كنت عن هذا غنيًا (¬3)؟. قال أبو عمر: وقال أبو عثمان الحَدَّاد: القاضي أيْسَرُ مأْثمًا وأقرب إلى السلامة من الفقيه -يريد المفتي-؛ لأن الفقيه مِنْ شأنِهِ إصدار ما يَرد عليه من ساعته بما حَضَرَهُ من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنّى وتثبت تهيَّأَ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة (¬4). انتهى. وقال غيره: المفتي أقربُ إلى السلامة من القاضي؛ لأنه لا يلزم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قَبل قوله، وإن شاء تركه؛ وأما القاضي فإنه يلزم بقوله، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم، ويتميز القاضي بالإلزام (¬5)، والقضاء؛ فهو من هذا الوجه خَطرُه أشَدُّ. [خطر تولي القضاء] ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيرُه في المفتي كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة [-رضي اللَّه عنها-]، أنها ذكر عندها القُضَاة فقالت: سمعت رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يُؤتَى بالقاضي العَدْلِ يوم القيامة فَيَلْقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يَقْضِ بين اثنين في تمرة قط" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع" (رقم 2219) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "ويؤخذ". (¬3) انظر: "الجامع" (رقم 2220). (¬4) انظر: "الجامع" (رقم 2221). (¬5) في (ك) و (ق): "بالإلزام به". (¬6) رواه الطيالسي (1446) "منحة المعبود" -ومن طريقه البيهقي (10/ 96) - والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 282)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 20 - 21) عن عمر بن العلاء اليشكري، حدثنا صالح بن سرج بن عبد القيس، عن عمران بن حطان؛ قال: سمعت عائشة. . . فذكره. قال البيهقي: كذا في كتابي عمر بن العلاء. ثم رواه من طريق آخر فقال: عن عمرو بن العلاء، وكذا في "تاريخ البخاري"، وهو الصواب، قال أبو حاتم: روى عنه أبو داود الطيالسي؛ فقال: عمر بن العلاء. أقول: صالح بن سرج ذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا =

وروى الشعبي، عن مسروق، عن عبد اللَّه يرفعه: "ما مِنْ حاكم يحكم بين الناس إلا وُكِّلَ به مَلك آخذ بقَفَاه حتى يقف به على شَفير جهنم، فيرفع رأسه إلى اللَّه، فإن أمره أن يَقْذِف قَذَفه في مَهْوى أربعين خريفًا" (¬1). وفي "السنن" من حديث ابن بُرَيْدة، عن أبيه؛ قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة؛ رجلٌ عَرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار" (¬2). ¬

_ = تعديلًا، وكذا عمرو بن العلاء إلا أنه روى عنه جمع من الثقات، وعمران بن حطان كان خارجيًا، إلا أنه صدوق روى له البخاري. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬1) رواه أحمد (1/ 431)، وابن ماجه (2311)، والدارقطني (4/ 205)، والبيهقي (10/ 89 و 96 - 97)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 19)، من طريق مجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، عن مسروق، عن عبد اللَّه بن مسعود به مرفوعًا. قال البوصيري في "الزوائد" (2/ 29): "هذا إسناد ضعيف لضعف مجالد بن سعيد". وسقطت "قذفه" من (ك) والعبارة في (ق): "فإن أمره أن يقذفه قذفه. . . ". (¬2) رواه أبو داود في (الأقضية): باب في القاضي يخطئ (3573)، والترمذي (1322 م) في (الأحكام): باب ما جاء عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في القاضي، والنسائي في "الكبرى" كما في "تحفة الأشراف" (2/ 95)، وابن ماجه (2315) في (الأحكام): باب الحاكم يجتهد فيصيب الحق، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 14)، والبيهقي (10/ 116) من طريق خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه، وقال أبو داود: "وهذا أصح شيء فيه، يعني: حديث ابن بريدة: القضاة ثلاثة". أقول: خلف بن خليفة ثقة، إلا أنه تغير في آخر عمره حيث بلغ التسعين أو المئة، لكنه توبع. فقد رواه ابن عدي (2/ 865) و (4/ 1332)، والطبراني في "الكبير" (2/ 1154)، والحاكم (4/ 90)، والبيهقي (10/ 117)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 14)، والروياني في "مسنده" (رقم 66)، من طريق شريك عن الأعمش، عن سعد بن عبيدة، عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبيه مرفوعًا، وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي، وقال في "الكبائر" (ص 103 - بتحقيقي): "إسناده قوي"، قلت: نعم، في الشواهد؛ وإلا فشريك هو القاضي سيء الحفظ. ورواه الطبراني في "الكبير" (1156) من طريق قيس بن الربيع عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه به. وقيس ضعيف. ورواه ابن عدي (6/ 2161) من طريق محمد بن جابر، عن أبي إسحاق، عن ابن =

وقال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬1): ويل لدَيَّان مَنْ [في] (¬2) الأرض من ديان من في السماء، يوم يلقونه، إلا مَنْ أمر بالعدل، وقضى بالحق، ولم يقض على هوى، ولا على قرابة، ولا على رَغَب ولا رَهَب، وجعل كتاب اللَّه مرآة [بين] (¬3) عينيه (¬4) وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عَدْلُه جورَه فله الجنة، ومن غلب جَوْرُه عدله فله النار" (¬5) ¬

_ = بريدة، عن أبيه، وقال: "وهذا لا أعلم رواه عن أبي إسحاق غير محمد بن جابر، ومحمد هذا ضعيف". ورواه الحاكم (4/ 90)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 15) من طريق عبد اللَّه بن بكير عن حكيم بن جبير عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه به! وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي: "ابن بكير الغنوي منكر الحديث". وقد ذكره -أي الحديث- الحافظ في "التلخيص" وسكت عليه، وله شاهد من حديث ابن عمر، رواه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 15، 16 - 17)، والطبراني في "الكبير" -كما في "مجمع الزوائد" (4/ 193) وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الكبير" -ورجال الكبير ثقات-، ورواه أبو يعلى نحوه. والحديث صحيح بمجموع طرقه، انظر: "إرواء الغليل" (8/ 235)، و"المجالسة" (رقم 1597 - بتحقيقي) (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة (د). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) رواه الأصم، ومن طريقه ابن عساكر في "أماليه"، كما في "تخريج أحاديث العادلين" (ص 163 - بتحقيقي)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 117)، من طريق عقبة بن عقبة: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، حدثني إسماعيل بن عبيد اللَّه، عن عبد الرحمن بن غَنْم عنه. وإسناده جيد. وتوبع عقبة، فأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه": (كتاب السياسة) -كما في "تخريج أحاديث العادلين" (ص 163)، و"كنز العمال" (5/ 757) - عن بشر بن بكر، وأبو نعيم في "العادلين" (رقم 44 - بتحقيقي) عن عبد الأعلى بن مسهر، وابن أبي شيبة -ومن طريقه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 30 - 31) -، وأحمد في "الزهد" (ص 155) كلاهما قال: ثنا وكيع حدثنا سعيد بن عبد العزيز به. وأخرجه ابن أبي الدنيا في "مواعظ الملوك"، ومن طريقه ابن عربي في "محاضرة الأبرار" (2/ 116 - 117)، والمحاسبي في "الرعاية" (ص 48)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 285 - 286 - ترجمة عمر: من طرق عن عمر بنحوه، وأخرجه الخرائطي في "فضيلة الشكر" (رقم 67)، والبيهقي في "الشعب" (6/ رقم 7393) من قول كعب الأحبار كلم عمر بن الخطاب به. (¬5) رواه أبو داود (3575) في (الأقضية): باب في القاضي يخطئ، -ومن طريقه البيهقي =

وفي "سنن البيهقي" من حديث ابن جُرَيْج (¬1)، عن عطاء، عن ابن عباس؛ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّه مع القاضي ما لم يَجُرْ، فإذا جار برئ [اللَّه منه ولزمه الشيطان" (¬2) ¬

_ = (10/ 88) - من طريق ابن نجدة عن جَدّه يزيد بن عبد الرحمن، وهو أبو كثير، قال: حدثني أبو هريرة به. وهذا إسناد ضعيف، موسى بن نجدة هذا قال فيه الذهبي: لا يعرف، وقال الحافظ: مجهول. والحديث ذكره شيخنا الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "الضعيفة" (1186)، وذكره الحافظ في "الفتح" (13/ 124) ساكتًا عليه. (¬1) في (ن) و (ق) و (ك): "ابن جرير"! (¬2) هذا المتن بهذا الإسناد إنما هو حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى، وقد وقع سبقُ نظر من الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه- حيث أن الأسناد الذي ذكره هو لحديث آخر وهو: "إذا جلس القاضي في مكانه هبط عليه ملكان يسددانه ويوفقانه ويرشدانه ما لم يجر؛ فإذا جار عرجا وتركاه"، وقد خرجناه في غير هذا المكان. ثم ذكر البيهقي بعده حديث ابن أبي أوفى المذكور، وله لفظ آخر ذكره ابن القيم بعده. وحديث ابن أبي أوفى رواه الترمذي (1330) في (الأحكام): باب ما جاء في الإمام العادل، وابن حبان (5062)، والحاكم (4/ 93)، والبيهقي (10/ 88 و 134) من طرق عن عمرو بن عاصم، حدثنا عمران القطان عن الشيباني (سليمان بن أبي سليمان أبي إسحاق) عنه مرفوعًا به. وهذا إسناد على شرط الشيخين. لكن رواه ابن ماجه (2312) في (الأحكام): باب التغليظ في الحيف والرشوة، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2145)، ومن طريقه البيهقي (10/ 88)، والمزي في "تهذيب الكمال" (6/ 458) من طرق عن محمد بن بلال، عن عمران القطان، عن حسين. [في "سنن ابن ماجه" و"تهذيب المزي" ابن عمران وفي "الكامل": (المعلم)]. عن أبي إسحاق الشيباني به. ومحمد بن بلال هذا صدوق يُغْرب كما قال الحافظ، وعمرو بن عاصم ليس بذاك وإن أخرج له الشيخان إلا أن له أوهامًا، فالظاهر أن عمران سمعه بواسطة ثم سمعه مباشرة، وهذا كثير الوقوع. وفي الباب عن معقل بن يسار، رواه أحمد (5/ 26)، قال الهيثمي (4/ 193): وفيه أبو داود الأعمى وهو كذاب. وعن زيد بن أرقم، رواه الطبراني في "الكبير" (5077)، وفيه -أيضًا- أبو داود وهو كذاب. وعن ابن مسعود رواه الطبراني (9792)، وفيه حفص بن سليمان القارئ وهو متروك. وعن ابن عباس وأبي موسى، عند وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 13) بسندين ضعيفين جدًّا.

وفيه من حديث] (¬1) حُسَين المُعلِّم، عن الشَّيْباني، عن [ابن] (¬2) أبي أوفى قال: قال رسو [ل اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه مع القاضي] (1) ما لم يجر، فإذا جار وكَلَه إلى نفسه" (¬3). وفي "السنن الأربعة" من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قعد قاضيًا بين المسلمين فقد ذَبَحَ [نفسَه] بغير سكين" (¬4). وفي "سنن البيهقي" من حديث أبي حازم عن أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين بياض في (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) أخرجه ابن ماجه في "السنن" (2/ رقم 2312)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ رقم 2365)، والبزار في "البحر الزخار" (8/ رقم 3335، 3337)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 1245)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 35)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 88)، والمزي في "تهذيب الكمال" (6/ 458) عن عمران القطان، عن حسين المعلم به. وأخرجه النرمذي في "الجامع" (2/ رقم 1345)، وابن حبان في "الصحيح" (11/ رقم 5062 - الإحسان)، والبزار في "البحر الزخار" (8/ رقم 3336)، والدينوري في "المجالسة" (رقم 4293 - بتحقيقي)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 93)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 34)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 88) عن عَمرو بن عاصم الكِلابي عن عمران القطان به، وأسقط (حسين المعلم). قال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه". (¬4) رواه أحمد (2/ 230 و 365)، وابن أبي شيبة (7/ 238)، وأبو داود (3571) و (3572) في (الأقضية): باب في طلب القضاء، والترمذي (1325) في (الأحكام): باب ما جاء عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في القاضي، وابن ماجه (2308) في (الأحكام): باب ذكر القضاة، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 8 و 9 - 12)، وأبو يعلى (5866) و (6613)، والطبراني في "الصغير" (491)، وابن عدي (1/ 224) و (2/ 465)، والدارقطني (4/ 203 و 204)، والبيهقي (10/ 96)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (395) و (396)، والبغوي في "شرح السنة" (2496)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 151)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 756 و 757)، والحاكم (4/ 91) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: "حسن غريب" وحسنه البغوي. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال ابن الجوزي: "لا يصح" فرده الحافظ في "التلخيص" (4/ 184)، وقال: "ليس كما قال"، وكفاه قوة تخريج النسائي له، وذكر الدارقطني الخلاف فيه على سعيد المقبري، قال: "والمحفوظ عن سعيد المقبري عن أبي هريرة" قلت: واعتنى بطرقه عنه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 7 - 12) وقَوَّاه العقيلي (3/ 298). وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[الإفتاء]

قال: "وَيْلٌ للأمراء، وويل للعُرَفَاء، وويْلٌ للأمناء، ليتمنَّيَن (¬1) أقوامٌ يوم القيامة أن نواصيهم كانت معلقةً بالثريا، يتجلجلون بين السماء والأرض، وأنَّهم لم يَلُوا عملًا" (¬2). [الوعيد على الإفتاء] وأما المفتي: ففي "سنن أبي داود" من حديث مسلم بن يَسَار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قال عليّ ما لم أقل، فَلْيَتَبوَّأ بيتًا في جهنم، ومن أفتي بغير علم كان إثمُهُ على مَنْ أفتاه، ومن أشار على أخيه بامر يعلم الرُّشدَ في غَيْره فقد خانه" (¬3) فكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه مِنْ زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى؛ فإن فَتْوَاه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره. ¬

_ (¬1) في (ن): "ليتمنى". (¬2) رواه أبو داود الطيالسي (2523)، وأحمد (2/ 352)، والحاكم (4/ 91)، والبيهقي (10/ 97)، وأبو يعلى (6217)، والبغوي (2468) من طريق هشام الدستوائي عن عباد بن أبي علي، عن أبي حازم به، وعند بعضهم أخصر مما هو هنا. وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي (5/ 200): رجاله ثقات. أقول: وعَبّاد بن أبي علي، ترجمه البخاري (6/ 35)، وابن أبي حاتم (6/ 84) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، لكن روى عنه جمع من الثقات، ووثقه ابن حبان، فمثله حسن الحديث -إن شاء اللَّه-. ثم وجدت ابن حبان (4483) يرويه من طريق موسى بن أعين، عن معمر، عن هشام بن حسان، عن أبي حازم (مولى أبي رُهْم)، عن أبي هريرة، مرفوعًا به. فإن كان الإسناد هكذا صحيحًا لا سِقْط فيه؛ فهذه متابعة قوية لعباد بن أبي علي، فإن هشام بن حسان من الثقات الأثبات، وباقي رواته ثقات، والحديث عزاه الحافظ في "الفتح" (13/ 169) لأحمد وابن خزيمة. ورواه عبد الرزاق (20660) من طريق معمر عن صاحب له، عن أبي هريرة! وروى نحوه البزار (1643 - كشف الأستار)، والحاكم (4/ 91) من طريقين عن عاصم بن بهدلة، عن يزيد بن شريك، عن أبي هريرة مرفوعًا: "ليوشكنّ رجل يتمنى أنه خرَّ من الثريا، وأنه لم يلِ من أمر الناس شيئًا" وصححه الحاكم، وهو حسن فقط لحال عاصم بن بهدلة. والحديث له شاهد من حديث عائشة، رواه أبو يعلى (4745)، وفي إسناده عمر بن سعد النَّصري، وليث بن أبي سُليم وهما ضعيفان، ومجاهد في سماعه من عائشة نَظَر. ووقع في (ن): "لم يعملوا عملًا" وفي (ك) و (ق): "لم يكونوا عملوا". (¬3) سيأتي تخريجه (2/ 439، 462).

فصل [المحرمات على مراتب أربع، وأشدها: القول على الله بغير علم]

وأما الحاكم فحكمه جزئي (¬1) خاص، لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله؛ فالمفتي يفتي حكمًا عامًا كليًا أنَّ: مَنْ فَعَلَ كذا [ترتب عليه كذا] (¬2)، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاء معينًا على شخص معين، فقضاؤه خاص مُلْزِم، وفتوى العالم عامة غير ملزِمة، وكلاهما (¬3) أجْرُهُ عَظيم، وخَطَرُه كبير. فصل [المحرمات على مراتب أربع، وأشدها: القول على اللَّه بغير علم] وقد حرم اللَّه -سبحانه- القول عليه بلا علم (¬4) في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات (¬5)، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] (¬6) وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فرتَّبَ المحرماتِ أربعَ مراتبَ، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريمًا وهو (¬7) الإثم والظلم، ثم ثلَّثَ بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به (¬8) سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]. فتقدم عليهم (¬9) سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما ¬

_ (¬1) في (ق): "فحكمه جزؤ". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في المطبوع و (ك) و (ق): "فكلاهما". (¬4) في المطبوع و (ك): "بغير علم"، وفي (ق): "حرم اللَّه عليه القول بغير علم". (¬5) سيأتي بحث قيم لابن القيم -رحمه اللَّه- في تحريم الفتيا بغير علم، وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 158)، و"الداء والدواء" (209 - 210)، و"الفوائد" (ص: 98 - 99)، و"مدارج السالكين" (1/ 372 - 374)، و"بدائع الفوائد" (3/ 275). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬7) في (ق): "أشد تحريمًا منه وهو". (¬8) في (ق): "باللَّه". (¬9) في المطبوع و (ك) و (ق): "إليهم"، وسقطت لفظة "سبحانه" من (ق)

[النهي عن أن يقال: هذا حكم الله]

لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ إلا لما (¬1) علم أنَّ اللَّه سبحانه أحَلّه أو حرمه (¬2). وقال بعض السلف (¬3): ليتَّقِ أحَدُكم أن يقول: أحل اللَّه كذا (¬4)، وحرم كذا، فيقول اللَّه [له] (¬5): كذبت، لم أحل كذا، ولم أحرم كذا؛ فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلمُ ورودَ الوحي المبين بتحليله وتحريمه (¬6): أحَلّه اللَّه، وحرَّمه اللَّه، [لمجرد التقليد أو بالتأويل] (¬7). [النهي عن أن يقال: هذا حكم اللَّه] وقد نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح أميرَهُ بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم اللَّه، وقال: "فإنَّكَ لا تَدْري أتصيبُ حكم اللَّه فيهم أم لا، ولكن أنْزِلْهُمْ على حكمك وحكم أصحابك" (¬8). فتأمل كيف فرَّق بين حكم اللَّه وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يُسمَّى حكم المجتهدين: حكم اللَّه. ومن هذا: لما كتب الكاتبُ بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-]، حكمًا حكم به؛ فقال: هذا ما أرى اللَّه أميرَ المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قُلْ: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (¬9). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "إلا بما". (¬2) في المطبوع: "أحله وحرمه"، وسقطت لفظة "سبحانه" من (ق). (¬3) هو الربيع بن خثيم، كما صرح به المصنف وسيأتي تخريجه. (¬4) في (ق): "أن يقول لما لا يعلم أحل اللَّه. . . ". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬6) قال (ط): في نسخة "لما يعلم ولا ورد الوحي المبين بتحليله وتحريمه. . . " انظر: "إعلام الموقعين" طبعة: فرج اللَّه زكي الكردي ج 1 صفحة 43" اهـ، وفي (د) نحوه باختصار. (¬7) في (ك): "بمجرد التقليد وبالتأويل" وفي (ق): "أو حرمه بمجرد التقليد وبالتأويل". (¬8) هو جزء من حديث بريدة، رواه مطولًا مسلم (1731) في (الجهاد): باب تأمير الأمراء على البعوث، ولكن ليس فيه: "وحكم أصحابك". وعند أبي داود (2612) وأبي عوانة (4/ 67) والبيهقي (9/ 97، 184): "ولكن أنزلوهم على حكمكم" وزاد أبو يعلى (1413): "ثم احكموا فيهم ما رأيتم" ووقع في (ق): "إنك لا تدري أتصيب". (¬9) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 116)، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" (2/ 102 - 103 رقم 258)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 48)، وقال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 195): "إسناده صحيح" وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[لفظ الكراهة يطلق على المحرم ودليله، وغلط المتأخرين في ذلك وسببه]

وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سَلَفِنا، ولا أدركت أحدًا أقْتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، ما كانوا (¬1) يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنًا؛ ونتقي هذا (¬2)، ولا نرى هذا (¬3). ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد: ولا يقولون: حلال ولا حرام، أما سمعت قول اللَّه [-تعالى- {قُلْ] أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، الحلالُ، ما أحلّه اللَّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللَّه ورسوله (¬4). [لفظ الكراهة يطلق على المحرم ودليله، وغلط المتأخرين في ذلك وسببه] قلت: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورَّع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فَنَفَى المتأخرون التحريمَ عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سَهُل عليهم لفظ (¬5) الكراهة وخَفّتْ مؤنته عليهم؛ فحمَله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير [جدًّا] (¬6) في تصرفاتهم؛ فحصل بسببه (¬7) غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة (¬8)، و [قد] (¬9) قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: أكرهه، ولا أقول هو حرام، ومذهبه تحريمه، وإنما تورَّع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان (¬10). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وما كانوا". (¬2) في المطبوع: "فينبغي هذا". (¬3) علقه عنه ابن عبد البر في "الجامع" (2091)، والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 145)، والشاطبي في "الموافقات" (5/ 324 - 325 - بتحقيقي). (¬4) تابع لما قبله، وجزء منه، وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "سبحانه". (¬5) في (ن): "أمر". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في (ن): "بسببهم". (¬8) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 6)، و"المسودة في أصول الفقه" (ص: 529 - 530). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬10) أخرج مالك في "الموطأ" (2/ 538)، ومن طريقه الشافعي في "الأم" (5/ 3)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 163) عن ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب أن رجلًا سأل عثمان بن عفان عن الأختين من ملك اليمن، فقال عثمان: أحلتها آية، وحَرَّمتها آية، فأما أنا فلا أحب أن أصنع ذلك. . . وإسناده صحيح، ورواه البيهقي من طريق آخر عن ابن شهاب به.

وقال أبو القاسم [عمر بن الحسين] الخِرَقي (¬1) فيما نقله عن أبي عبد اللَّه: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة (¬2). ومذهبه أنه لا يجوز، وقال في رواية أبي داود: ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر (¬3). وهذا استحبابُ وجوبٍ، وقال في رواية إسحاق بن منصور: إذا كان أكثر مال الرجل حرامًا فلا يعجبني أن يؤكل ماله (¬4)، وهذا على سبيل التحريم. وقال في رواية ابنه عبد اللَّه: لا يعجبني أكلُ ما ذُبح للزهرة ولا الكواكب (¬5) ولا الكنيسة، وكل شيء ذبِح لغير اللَّه، قال اللَّه [-عز وجل-]: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬6) [المائدة: 3]. فتأمَّل كيف قال: "لا يعجبني" فيما نَصَّ اللَّه [-سبحانه-] (¬7) على تحريمه، واحتج [هو] (¬8) أيضًا بتحريم اللَّه له في كتابه، وقال في رواية الأثرم: أكره لحومَ الجلَّالة وألبانَها (¬9)، وقد صَرَّح بالتحريم في رواية حَنْبل وغيره، وقال في رواية ابنه عبد اللَّه: أكره [(أكل) لحمِ] الحيَّةِ والعقرب؛ لأن الحية لها ناب والعقرب له حُمة (¬10)، ولا يختلف مذهبه في تحريمه، وقال في رواية حَرْب: إذا صاد الكلبُ من غير أن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من نسخة (و)، وقال في (ح): بالخاء المعجمة، والراء المهملة، شيخ الحنابلة اهـ. وقال (و): شيخ الحنابلة، وصاحب "المختصر"، كانت له تصانيف كثيرة، أودعها بغداد، وسافر، فاحترقت اهـ. (¬2) انظر: "مختصر الخرقي" (1/ 58/ 87 مع "المغني") لابن قدامة -رحمه اللَّه-، وفي (ن): "من آنية الذهب والفضة". (¬3) انظر: "مسائل أبي داود" (ص: 20)، وفي المطبوع: "إلا بمئزر له". (¬4) بنصه في "مسائل ابن منصور" (216/ 54). (¬5) وفي (ك) و (ق): "ولا للكواكب ولا للكنيسة". (¬6) تصرف المؤلف -رحمه اللَّه- في اللفظ شيئًا ما، انظر: "مسائل عبد اللَّه" (226/ 984، 985). وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "سبحانه". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬9) الجلَّالة: "البقرة تتبع النجاسات" (و). (¬10) انظر: "مسائل عبد اللَّه" (272/ 1017)، وما بين المعقوفتين سقط منها، ولفظ تعليله هناك: "وذلك أن العقرب لها حمة، والحية لها ناب". وقال (د)، و (ح): "الحمة": كثبة السم، أو الإبرة يضرب بها الزنبور، والحية وغير ذلك، ويلدغ بها، وأصلها: حمو أو حمى، والهاء عوض عن الواو أو عن الياء. اهـ، وبنحو الشطر الأول في (و) و (ط)، وما بين الهلالين سقط من (ق).

يُرْسَل فلا يعجبني؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ وسَمَّيْتَ" (¬1) فقد أطلق لفظة: "لا يعجبني" على ما هو حرام عنده، وقال في رواية جعفر بن محمد النَّسائي: لا يعجبني المُكْحُلة والمِرْوَد (¬2)، يعني من الفضة، وقد صرح بالتحريم في عدة مواضع، وهو مذهبه بلا خلاف؛ وقال جعفر بن محمد -أيضًا-: سمعت أبا عبد اللَّه سُئل عن رجل قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها أو جاريةٍ أشتريها للوَطْء وأنت حية؛ فالجارية حرة والمرأة طالق، قال: إن تزوَّجَ لم آمُرْهُ أن يفارقها، والعتقُ أخشى أن يلزمه؛ لأنه مخالف للطلاق، قيل له: يَهَبُ له رجل جارية، قال: هذا طريق الحيل (¬3)، وكرهه، مع أن مذهبه تحريم الحِيَلِ وأنها لا تخلِّصُ من الأيمان، ونص على كراهة البطة (¬4) من جلود الحمر، وقال: [لا] (¬5) تكون ذَكِية، ولا يختلف مذهبه في التحريم، وسئل عن شعر الخنزير، فقال: لا يعجبني، وهذا على التحريم (¬6)، وقال: يكره القِدُّ (¬7) من جلود الحمير (¬8)، ذَكِيًّا وغير ذكي؛ [و] (¬9) لا يكون ذكيًا، وأكرهه لمن يعمل وللمستعمل؛ وسئل عن رجل ¬

_ (¬1) رواه البخاري (175) في (الوضوء): باب الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان، و (2054) في (البيوع): باب تفسير المشبهات، و (5475) في (الذبائح): باب التسمية على الصيد، و (5476) باب صيد المعراض، و (5483): باب إذا أكل الكلب، و (5484) باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، و (5486) باب إذا وجد مع الصيد كلبًا آخر، و (5487) باب ما جاء في التصيّد، و (7397) في (التوحيد): باب السؤال باسماء اللَّه -تعالى- والاستعاذة بها، ومسلم (1929) في الصيد: باب الصيد بالكلاب المعلمة من حديث عدي بن حاتم، وفي الباب عن أبي ثعلبة الخشني، رواه البخاري (5478)، و (5488)، و (5496)، ومسلم (1930). (¬2) المرود -بكسر الميم-: الميل الذي يكتحل به، وحديدة تدور في اللجام، ومحور البكرة إذا كان من حديد، انظر: "لسان العرب" (3/ 1774). وقال في (ق): "لا تعجبني". (¬3) في المطبوع: "الحيلة". (¬4) "البطة [هي] رأس الخف بلا ساق" (د) و (ط) و (ح) و (و)، وما بين المعقوفتين زيادة الأخيرة عليهم. (¬5) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "على سبيل التحريم". (¬7) "القد" -[بالكسر]: السير يقد من جلد غير مدبوغ (و) و (ط) و (ح) و (د)، وما بين المعقوفتين زيادة الأخير عليهم. (¬8) في (ن) و (ق) و (ك): "الحُمُر". (¬9) بدلها في (ن) والمطبوع: "لأنه" وسقطت من (ك) و (ق).

[إطلاق المكروه على الحرام عند الحنفية]

حلف لا ينتفع بكذا، فباعه و (¬1) اشترى به غيره، فكره ذلك، وهذا عنده لا يجوز وسئل عن ألبان الأُتُنِ (¬2) فكرهه وهو حَرَام عنده، وسئل عن الخمر تتخذ (¬3) خلًا، فقال: لا يعجبني، وهذا على التحريم [عنده] (¬4)؛ وسئل عن بَيْع الماء، فكرهه، وهذا في أجوبته أكثر من أن يُسْتَقْصَى، وكذا (¬5) غيره من الأئمة. [إطلاق المكروه على الحرام عند الحنفية] وقد نص محمد بن الحسن (¬6) [على] (¬7) أن كل مكروه فهو حرام، إلا أنه لما لم يجد فيه نصًّا قاطعًا لم يطلق عليه لفظ الحرام (¬8)؛ وروى محمد أيضًا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقْرَبُ؛ وقد قال في "الجامع الكبير" (¬9): يكره الشرابُ في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء، ومراده التحريم؛ وكذلك قال أبو يوسف ومحمد: يكره النومُ على فرش الحرير والتوسُّدُ على وَسَائده (¬10)، ومرادهما التحريم؛ وقال أبو حنيفة وصاحباه: يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهبَ والحرير، وقد صَرَّح الأصحابُ أنه حرام، وقالوا: إن التحريم لما ثَبَتَ في ¬

_ (¬1) زاد هنا في (ك) و (ق): "وانتفع بثمنه". (¬2) "الأتن" -بضم الهمزة والتاء- جمع أتان، وهي أنثى الحمار (د) ونحوه في (و) و (ط). (¬3) في (ق): "يتخذ". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) في (ق): "وكذلك". (¬6) هو الإمام الفقيه محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني، أبو عبد اللَّه (131 - 189 هـ)، صاحب الإمام أبي حنيفة، ويرجع له الفضل في نشر مذهب أبي حنيفة، وعُرِفَ به، قال الشافعي: "لو أشاء أن أقول: نزل القرآن بلغة محمد بن الحسن؛ لقلتُ: لفصاحته"، له الكثير من كتب الفقه والأصول، منها: "الجامع الكبير"، و"الجامع الصغير"، و"الموطأ"، و"الحجة على أهل المدينة"، و"المبسوط" و"السير الكبير" و"الصغير"، وغيرها، انظر ترجمته في "الأعلام" (6/ 80) للزركلي، و"معجم المؤلفين" (9/ 207). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) والمطبوع. (¬8) نقله عنه الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 118). ووقع في (ك): "التحريم" ووقع في (ق): "إلا إن لم يجد فيه نصًا قاطعًا لم يطلق عليه لفظ التحريم". (¬9) في (ن) و (ك) و (ق): "الجامع الصغير" والصواب: "في "الجامع الكبير"". (¬10) انظر: "الجامع الصغير" (ص 476 - مع "النافع الكبير") و"بدائع الصنائع" (5/ 131، 132). وقال في (ق): "يكره الشرب".

[حكم المكروه عند المالكية]

حق الذكور، وتحريمُ اللبس يحرم الإلْبَاسَ، كالخمر لما حَرُم شربُهَا حرم سَقْيُها، وكذلك قالوا: يكره (¬1) مِنْدِيلُ الحرير الذي يُتَمَخطُ فيه ويتمسح من الوضوء، ومرادهم التحريم؛ وقالوا: يكره بيعُ العَذَرَة، ومرادهم التحريم؛ وقالوا: يكره الاحتكار في أقوات (¬2) الآدميين والبهائم إذا أضَرَّ بهم وضيَّق عليهم، ومرادهم التحريم (¬3)؛ وقالوا: يكره بيع السِّلاح في أيام الفتنة، ومرادهم التحريم؛ وقال أبو حنيفة: يكره بيع أرض مكة، ومراده (¬4) التحريم عنده؛ وقالوا (¬5): ويكره اللَّعِبُ بالشِّطْرَنْج، وهو حرام عندهم (¬6)؛ قالوا: ويكره أن يَجْعَل الرجلُ في عنق عبده أو غيره طَوْقَ الحديدِ الذي يمنعه من التحرك، وهو الغُلُّ، وهو حرام؛ وهذا كثير في كلامهم جدًّا. [حكم المكروه عند المالكية] وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مَرْتبَةٌ بين الحرام والمُبَاح، ولا يطلقون عليه اسم الجَوَازِ، ويقولون: إن أكل كل ذي نابٍ من السباع مكروه غير مباح؛ وقد قال مالك في كثير من أجوبته: أكره كذا، وهو حرام (¬7)؛ فمنها أن مالكًا نص على كراهة الشّطْرَنْج، وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم، وحمله بعضُهم على الكراهة التي هي دون التحريم. [رأي الشافعي في اللعب بالشِّطْرَنْج وتحريمه] و [كذلك] (¬8) قال الشافعي في اللعب بالشطرنج: هو (¬9) لَهْوٌ شبه الباطل، أكرهه، ولا يتبين لي تحريمُه (¬10)؛ فقد نصَّ على كراهته، وتوقَّف في تحريمه؛ فلا ¬

_ (¬1) في (ن): "يحرم". (¬2) في (ن): "قوت". (¬3) انظر: "الطرق الحكمية" (279 - 280)، و"بدائع الفوائد" (4/ 49، 94). (¬4) في المطبوع: "ومرادهم". (¬5) في (ق) والمطبوع: "قالوا". (¬6) انظر: "الفروسية" للمصنف (ص 302 - 315) وتعليقي عليه. (¬7) زاد في (ك): "عنده" والعبارة في (ق): "حرام عنده فمن ذلك أن". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬9) في (ق) والمطبوع: "إنه". (¬10) انظر: "الأم" (6/ 213)، "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 200، 202). وقال في "الأم" (6/ 224): "ولا نحب اللعب بالشطرنج، وهو أخف من النرد". وانظر "سنن البيهقي" (10/ 212)، و"معرفة السنن والآثار" (7/ 431 - 432) في الشهادات أواخر الكتاب.

[حكم تزوج الرجل ابنته من الزنا عند الشافعي]

يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح، فإنه لم يقل هذا ولا ما يدل عليه؛ والحق أن يقال: إنه كرهها، وتوقف في تحريمها، فأين هذا [من] (¬1) أن يُقال: إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحتها (¬2)؟. [حكم تزوج الرجل ابنته من الزنا عند الشافعي] ومن هذا أيضًا أنه نصَّ على كراهة تَزَوَّج الرجل ابنتَه [المخلوقة] (¬3) من ماء الزنا، ولم يقل قَطُّ إنه مباح ولا جائز (¬4)، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) قال ابن القيم في "الفروسية" (ص: 313 - بتحقيقنا): "والشافعي لم يجزم بإباحتها، فلا يجوز أن يقال: مذهب الشافعي إباحتها؛ فإن هذا كذب عليه، بل قال: "وأما الشطرنج؛ فلم يتبيّن لي تحريمها"، فتوقف -رضي اللَّه عنه- في التحريم، ولم يُفْتِ بالإباحة"، ثم قال: فصح عن ابن عمر أنه قال: "الشطرنج شر من النرد". ونص مالك على ذلك، وقال الإمام أحمد وأبو حنيفة: النرد أشد تحريمًا منها. ووقع في (ق): "تجويز اللعب بها وإباحته" وفي المطبوع: "وإباحته". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع ووقع في (ق): "كراهة تزويج". (¬4) قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "تحذير الساجد" (ص: 37): "لقد أخطأ من نسب إلى الإمام الشافعي القول بإباحته تزوج الرجل ابنته من الزنا بحجة أنه صرح بكراهة ذلك، والكراهة لا تنافي الجواز إذا كانت للتنزيه! " ثم نقل كلام ابن القيم من هنا، وقال قبل ذلك (ص: 35 - 37): ". . . لا أستبعد حمل الكراهة في عبارة الشافعي المتقدمة خاصة على الكراهة التحريمية؛ لأنه هو المعنى الشرعي المقصود في الاستعمال القرآني، ولا شك أن الشافعي متأثر باسلوب القرآن غاية التاثر، فإذا وقفنا في كلامه على لفظ له معنى خاص في القرآن الكريم وجب حمله عليه، لا على المعنى المصطلح عليه عند المتأخرين، فقد قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}، وهذه كلها محرمات، فهذا المعنى -واللَّه أعلم- هو الذي أراده الشافعي -رحمه اللَّه- بقوله المتقدم: "وأكره. . . " ويؤكد أن هذا المعنى هو المراد من الكراهة في كلام الشافعي في هذه المسألة أن من مذهبه أن الأصل في النهي التحريم، إلا ما دل الدليل على أنه لمعنى آخر، كما صرح بذلك في رسالته "جماع العلم" (ص 125) ونحوه في كتابه "الرسالة" (ص 343)، ولذلك فإني أقطع بان التحريم هو مذهب الشافعي" اهـ باختصار. قلت: قال الإسمندي (المتوفى: 552 هـ) في "طريقة الخلاف في الفقه بين الأئمة الأسلاف" (ص 51 - 53/ 21 - بتحقيق د. محمد زكي عبد البر): "مسألة: البنت المخلوقة من ماء الزاني يحرم على الزاني نكاحها، والوجه فيه، أن هذه ابنته، فيحرم عليه" فانظر الأدلة هناك، والنقاش مع المخالف مبسوطًا. وفي "مسائل عبد اللَّه لأبيه" (331/ 1218) قال: "سألت أبي عن رجل زنا بامرأة =

[استعمال السلف والخلف للفظ الكراهة]

الذي أحَلَّه (¬1) اللَّه به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة؛ لأن الحرام يكرهه اللَّه ورسوله (¬2)؛ وقد قال تعالى عقب (¬3) ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: [{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} إلى قوله:] (¬4) {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} (¬5) [إلى قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إلى آخر الآيات؛ ثم قال]: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:23 - 38]، وفي "الصحيح": "إن اللَّه [عز وجل] (4) كَرِهَ لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" (¬6). [استعمال السلف والخلف للفظ الكراهة] والسَّلَفُ (¬7) كانوا يستعملون الكراهَةَ في معناها الذي استعملت فيه في كلام اللَّه ورسوله، ولكِنِ المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم، وتركُهُ أرْجَحُ من فعله، ثم حمل من حمل [منهم] (¬8) كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغَلِطَ في ذلك، وأقْبَحُ غَلطًا منه مَنْ حمل لفظ الكراهة أو لفظ "لا ينبغي" في كلام اللَّه ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث. ¬

_ = فجاءت بابنة من فجور، ثم كبرت الابنة، هل يجوز أن يتزوج بها؟ قال: معاذ اللَّه! يتزوج ابنته!! هذا قول سوء. . . " اهـ. وقال الخرقي في "مختصره" (7/ 90/ 5355 مع "المغني"): "ووطء الحرام محرم؛ كما يحرم وطء الحلال والشبهة"، وانظر: "المغني" (7/ 91/ 5358). وانظر "القواعد الفقهية" لابن رجب (آخر القاعدة الثانية والخمسون بعد المئة (3/ 114 - بتحقيقي)، و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (3/ 325 رقم 1162) وتعليقي عليه و"مثارات الغلط في الأدلة" (ص 29 - 30) للشريف التلمساني. (¬1) في المطبوع: "أَجَلَّه" بالجيم. (¬2) انظر: "زاد المعاد" (4/ 173 - 174). (¬3) في (ق): "عقيب". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده إلى قوله". (¬6) رواه البخاري (1477) في (الزكاة): باب قول اللَّه تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، و (2408) في (الاستقراض): باب ما ينهى عنه من إضاعة المال، و (5975) في (الأدب): باب عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم (3/ 1341) (593) في (الأقضية): باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، من حديث المغيرة بن شعبة. (¬7) في (ق): "فالسلف". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[إطراد استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا]

[إطراد استعمال لا يَنبغي في المحظور شرعًا] وقد اطَّرد في كلام اللَّه ورسوله استعمالُ "لا ينبغي" في المَحْظُور شرعًا أو قدرًا، وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ [وَمَا يَسْتَطِيعُونَ]} (¬1) [الشعراء: 211] وقوله على لسان نبيه: "كذَّبَنِي ابنُ آدَمَ وما ينبغي له، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له" (¬2). وقوله - صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه لا يَنَامُ ولا ينبغي له أن ينام" (¬3) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في لباس الحرير: "لا ينبغي هذا للمتقين" (¬4) وأمثال ذلك (¬5). [ما يقوله المفتي فيما اجتهد فيه] والمقصود أن اللَّه [سبحانه] (1) حَرَّمَ القول عليه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، والمفتي يخبر عن اللَّه [عز وجل] (1) وعن دِينه، فإن لم يكن خبره مطابقًا لما شَرَعَه (¬6) كان قائلًا عليه بلا علم، ولكن إذا اجتهدَ واستفرغ وُسْعَه في معرفة الحق وأخطأ لم يلحقه الوعيد، وعفى له [عن ما] (¬7) أخطأ به، وأثيب على اجتهاده، ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن اللَّه ورسوله (¬8): إن اللَّه حرم كذا، وأوجب كذا، وأباح كذا، أو (¬9) إن هذا هو حكم اللَّه؛ قال ابن وَضَّاح: ثنا يوسف بن عَديّ، ثنا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه البخاري (3193) في (بدء الخلق) أوله، و (4974) في تفسير سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} باب (1)، و (4975) باب قوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الإيمان): باب قوله -عليه السلام-: "إن اللَّه لا ينام" (1/ 161 - 179/ 162) من حديث أبي موسى الأشعري. (¬4) رواه البخاري (375) في (الصلاة): باب من صلى في فروج حرير ثم نزعه، و (5081) في (اللباس): باب القباء وفروج حرير هو القباء، ومسلم (2075) في (اللباس والزينة): باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، من حديث عقبة بن عامر. (¬5) انظر: "بدئع الفوائد" (4/ 3)، و"الداء والدواء" (ص 194). (¬6) في (ق) بعدها: "اللَّه". (¬7) في (ق): "عما". (¬8) في (ق): "وعن رسوله صلى اللَّه عليه وسلم". (¬9) في المطبوع و (ك) و (ق): "و".

فصول في كلام الأئمة في أدوات الفتيا، وشروطها ومن ينبغي له أن يفتي وأن يسع قول المفتي: "لا أدري"؟

عَبيدة بن حُميد، عن عطاء بن السائب قال: [قال] (¬1) الربيع بن خُثَيْم: إياكم أن يقول الرجل لشيء: إن اللَّه حرم هذا أو نَهى عنه، فيقول اللَّه: كذبت [عليَّ] (2) لم أحرمه ولم أنْهَ عنه، أو يقول: إن اللَّه أحَلَّ هذا أو أمَرَ به، فيقول اللَّه: كذبت [عليَّ] (¬2) لم أُحلّه ولم آمُرْ به (¬3). قال أبو عمر: وقد روي عن مالك أنه قال في بعض ما كان ينزل به فيُسْأل عنه فيجتهد فيه رأيَهُ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (¬4) [الجاثية: 32]. فصول (¬5) في كلام الأئمة في أدَوَات الفُتْيا (¬6)، وشروطها ومَنْ ينبغي له أن يفتي وأنْ يَسَع قول المفتي: "لا أدري"؟ (¬7) [أدوات الفتيا] قال الإمام أحمد، في رواية ابنه صالح عنه: ينبغي للرجل إذا حَمَل نفسَه على الفُتْيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، عالمًا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ن) و (ك). (¬3) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2090)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 218) من طريق ابن وضاح به. وعطاء بن السائب اختلط، وعبيدة ممن روى عنه بعد الاختلاط. وله طريق أخرى عند أبي ذر الهروي في "ذم الكلام" (2/ 139 رقم 289 - ط المحققة). وورد نحوه عن ابن مسعود قوله، في "المعجم الكبير" (9/ 231 رقم 899) للطبراني، وفيه من لم يسم، كما في "المجمع" (1/ 177). وفي (ك): "الربيع بن خيثمة". وفي (ن) الجملة الأخيرة: "لم أحرمه، ولم آمر به" والصواب ما أثبتناه. (¬4) ذكره هكذا ابن عبد البر في "الجامع" (2092) بدون إسناد، وهو في "ترتيب المدارك" (1/ 148)، و"الموفقات" (5/ 329 - بتحقيقي). (¬5) كذا في (ن) و (و) و (لتى)، وفي (د) و (ح) و (ط): "فصل". (¬6) في (ن): "أدوات الجهاد". (¬7) انظر هذا المبحث في "بدائع الفوائد" (3/ 117)، و"زاد المعاد" (2/ 78)، و"تهذيب السنن" (3/ 40)، و"مدارج السالكين" (1/ 4 - 7) مهم، (3/ 143 - 148، 198، 438)، و"طريق الهجرتين" (ص: 712 - 716).

بالسُّنن، وإنما جاء خلافُ مَنْ خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقلة معرفتهم بصحيحها من سَقيمها (¬1). و [قال] (¬2) في رواية ابنه عبد اللَّه: إذا كان عند الرجل الكتُبُ المصنفة فيها قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير فيقضي به ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به (¬3)؛ فيكون يعمل (¬4) على أمر صحيح (¬5). وقال في رواية أبي الحارث: لا يجوز الإفتاء إلا لرجلٍ عالمٍ بالكتاب والسنة (¬6). وقال في رواية حَنْبل: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالمًا بقول مَنْ تقدَّم، وإلَّا فلا يُفتي (¬7). وقال محمد بن عبيد اللَّه بن المُنادي: سمعت رجلًا يسأل أحمد: إذا حفظَ الرجلُ مئة ألفِ حديثٍ يكون فقيهًا؟ قال: لا، قال: فمئتي ألفٍ؟ قال: لا، قال: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قال: فأربع مئة ألف، قال بيده هكذا، وحرّك يده (¬8). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (2/ 332/ 1049) بسنده إلى صالح به، ونقله عنه القاضي أبو يعلى في "العدة في أصول الفقه" (5/ 1595)، وابن تيمية في "المسودة" (ص 515)، ولم أظفر به في مطبوع "مسائل صالح". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬3) في (ق): "منه". (¬4) في (ن): "فيكون يعتمد"، وأظنها: "فيكون معتمدًا"، فسبق قلم الناسخ وفي (ك): "العمل". (¬5) نص المسألة في "مسائل عبد اللَّه" (438/ 1584): "قال: سالت أبي عن الرجل تكون له الكتب المصنفة فيها قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واختلاف الصحابة والتابعين، وليس للرجل بصر بالحديث الضعيف المتروك منها، فيفتي به، ويعمل به؛ قال: لا يعمل حتى يسأل: ما يؤخذ به منها؟ فيكون يعمل على أمر صحيح، يسأل عن ذلك أهل العلم" اهـ. وأسندها عنه أبو حفص في "أخبار أحمد" -كما في "العدة" (5/ 1601) - وانظر "المسودة" (ص 517)، و"صفة الفتوى" (ص 26). (¬6) نقله القاضي أبو يعلى في "العدة" (5/ 1595)، وابن تيمية في "المسودة" (ص 515). (¬7) نقله أبو يعلى في "العدة" (5/ 1595)، وابن تيمية في "المسودة" (ص 515). (¬8) أخرجها أبو حفص العكبري في "بعض تعاليقه"، قاله القاضي أبو يعلى في "العدة" (5/ 1597). وروى الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 163 أو 2/ 345 رقم 1072 - ط ابن الجوزي) =

قال أبو الحسن (¬1): وسألت جَدِّي محمدَ بن عبيد اللَّه، قلت: فكم كان يحفظ أحمد بن حنبل؟ قال: أخذ عن ست مئة ألف (¬2). قال أبو حفص (¬3): قال لي أبو إسحاق: لما جلستُ في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة، فقال لي رجل: فانت هو ذا [لا] (¬4) تحفظ هذا المقدار حتى تفتي الناس فقلت له: -عافاك اللَّه- إنْ كنتُ لا أحفظُ هذا المقدار، فإني هو ذا أفْتِي الناس بقول مَنْ كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه (¬5). قال القاضي أبو يَعْلَى (¬6): "وظاهر هذا الكلام [من أحمد] أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذ لم يحفظ من الحديث هذا القدرَ الكثير الذي ذكره، وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى. . . "، ثم ذكر حكاية أبي إسحاق لما جلس في جامع المنصور، قال: "وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يُقَلِّد أحمد فيما يفتي به؛ لأنه قد نص في بعض "تعاليقه على كتاب العلل" على الدلالة على منع الفتوى بغير علم؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} " [الإسراء: 36]. ¬

_ = من طريق الحسن بن إسماعيل عن أحمد بن حنبل نحوه إلا أن فيه: قيل خمس مئة ألف؟ قال: أرجو، فزاد مئة ألف. وفي إسناده محمد بن أحمد بن المقيل، فيه ضعف، انظر: "تاريخ بغداد" (1/ 346 - 348)، وذكره ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (2/ 164). وفي (ك): "وقال محمد بن عبد اللَّه بن المُنادي". (¬1) في الأصول جميعها، "أبو الحسين" والمثبت من (ك) و (ق) هو الصواب وهو أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد اللَّه بن المنادي، ترجمته في "طبقات الحنابلة" (2/ 3). (¬2) نقله القاضي أبو يعلى في "العدة" (5/ 1597)، وابنه في "طبقات الحنابلة" (2/ 164)، وفي "تاريخ بغداد" (4/ 419 - 420) قال أبو زرعة: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث! فقيل له: وما يدريك؟ قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. قال (و): "لا بد أن يكون قبلها تدبر القرآن بكل آية فيه، وقد كان الإمام كذلك" (و) وفي (ك): "أجاب عن ست مائة ألف". (¬3) هو العكبري. (¬4) ما بين المعقوفتين سقطت من (ق). (¬5) نقله أبو يعلى في "العدة" (5/ 1597) وابنه في "طبقات الحنابلة" (2/ 164)، "ولكن يجب أن يكون على بينة من مأخذ الحكم، وإلا تردَّى في التقليد الذميم" (و). (¬6) في "العدة في أصول الفقه" (5/ 1597، 1597 - 1598)، وما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).

[هل تجوز الفتوى بالتقليد؟]

[هل تجوز الفتوى بالتقليد؟] قلت: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد (¬1): أحدها: أنه لا يجوز الفَتْوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يُطْلَق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب وقول جمهور الشافعية. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفَتْوَى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يُفتي به غيره، وهذا قول ابن بَطَّة وغيره من أصحابنا؛ قال القاضي (¬2): ذكر ابنُ بَطَّة في "مكاتباته إلى البرمكِي": لا يجوز له أن يفتي بما يسمع مَنْ يفتي، وإنما يجوز أن يقلد لنفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي (¬3) به فلا. والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل، قال القاضي (¬4): ذكر أبو حَفْصٍ في "تعاليقه" قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد اللَّه النَّجَّاد يقول؛ سمعت أبا الحسن بن بشار (¬5) يقول: ما (¬6) أعِيبُ على [رجل] (¬7) يحفظ [عن أحمد] (¬8) خمسَ مسائل؛ استند إلى بعض سَوَاري المسجد يُفتي بها (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "المسودة في أصول الفقه" (ص 513 - 514)، و"روضة الناظر وجنة المناظر" (ص 338 - 340) لابن قدامة، و"صفة الفتوى والمفتي والمستفتى" (18 - 26) لابن حمدان الحنبلي، و"شرح مختصر الروضة" (3/ 629 - 637) للطوفي. (¬2) في "العدة" (5/ 1598)، وفيه: "بما يسمع ممن يفتي. . . يقلد نفسه"، ونقلها ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (4/ 562)، وابن حمدان في "صفة الفتوى والمفتي" (ص 26). (¬3) في (ق): "أو". (¬4) في "العدة" (5/ 1598) وفيه: "يحفظ لأحمد" وقال عقبها: "وهذا منه مبالغة" وزاد في "المسودة" عليه "في فضله"، ونقلها ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (4/ 562)، وابن تيمية في "المسودة" (ص 517)، وابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة". (¬5) في المطبوع: "أبا الحسين بن بشران"!! وصوابه ما أثبتناه؛ كما في "المنهج الأحمد" (2/ 7)، و"طبقات الحنابلة" (2/ 57)، والمصادر السابقة، ووقع في (ق): "إنما سمعت أبا الحسن بن بشران". (¬6) في (ك): "إنما". (¬7) في (ق): "من". (¬8) سقطت من (ك) و (ق). (¬9) في (ق): "يفتي الناس بها".

[شرط الإفتاء عند الشافعي]

[شرط الإفتاء عند الشافعي] وقال الشافعي فيما رواه عنه الخطيبُ في كتاب "الفقيه والمتفقه" له: لا يحل لأحد [أن] (¬1) يفتي في دين اللَّه إلا رجلًا عارفًا بكتاب اللَّه بناسخه ومنسوخه (¬2)، وبمُحْكَمِه (¬3) ومُتَشَابهه، وتأويله وتنزيله، ومَكّيّه ومَدَنيّه، وما أُريد به، و [فيما أُنزل، ثم] (¬4) يكون بعد ذلك بَصيرًا بحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبالناسخ والمنسوخ (¬5)، ويعرف من الحديث مثلَ ما عرف من القرآن، ويكون [بصيرًا] (¬6) باللغة، بصيرًا بالشعر وما يحتاج إليه [للسنة] (¬7) والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، [وقلة الكلام،] (4) ويكون بعد هذا مُشْرِفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحةٌ بعد هذا، فإذا كان [هذا] (4) هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن (هكذا) [فليس له أن يفتي] (¬8). وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال: ينبغي للرجل إذا حَمَلَ نفسه على الفُتْيا أن يكون عالمًا بالسنن، عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، وذكر الكلام المتقدم (¬9). ¬

_ (¬1) سقطت من مطبوع "الفقيه والمتفقه". (¬2) "الحق أنه ليس في القرآن آية يبطل العمل بها؛ كما يزعم المتأخرون، بل كل آية مفروضة علينا العمل بما توجبه" (و). قلت: وهذا إنكار للناسخ والمنسوخ. وهي نغمة رددها بعض المتأخرين من غير الموفقين، فكن على حذر منها. (¬3) كذا في "الفقيه والمتفقه" وفي نسخ الإعلام "محكمه" دون (بـ) ووقع في (ق): "بناسخة". (¬4) ما بين المعقوفات زيادات "الفقيه والمتفقه" على "الإعلام"، ووقع في (ق): "أن". (¬5) في (ق): "بالناسخ والمنسوخ منه". (¬6) في "الفقيه والمتفقه": "نصيرًا" والصواب ما أثبتناه. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في "الفقيه والمتفقه": "للعلم". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في "الفقيه والمتفقه": "فله أن يتكلم في العلم ولا يُفتي"، وبدل ما بين الهلالين في (ق): "كذلك" اهـ. وانظر كلام الشافعي -رحمه اللَّه- بطوله في "الفقيه والمتفقه" (2/ 331 - 332/ 1048 ط دار ابن الجوزي). (¬9) ونصه: "وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في السنة، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها" اهـ. وفي (ك) و (ق): "عالمًا بوجوه الأسانيد الصحيحة". انظر: "الفقيه والمتفقه" (2/ 332/ 1049)، و"المسودة" (ص 515).

فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول

وقال علي بن شقيق: قيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؛ قال: إذا كان عالمًا بالأثر، بصيرًا بالرأي (¬1). وقيل ليحيى بن أكثم: متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر (¬2). قلت: يريدان بالرأي القياسَ الصحيح والمعانيَ والعللَ الصحيحة التي عَلّق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طَرْدًا وعكسًا (¬3). فصل في تحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول قال اللَّه (¬4): {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬5) [القصص: 50] فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما: إمَّا الاستجابة للَّه والرسول وما جاء به، وإما اتباع الهوى، فكُلُّ ما لم يأتِ به الرسول فهو من الهوى. [(¬6) وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ]} (¬7) [ص: 26] فقسَّم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحقِّ، وهو الوحي الذي أنزله اللَّه على رسوله (¬8)، وإلى الهَوَى، وهو ما خالفه. وقال تعالى لنبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (7): {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 332/ 1050)، بسند جيد. وأخرجه البيهقي في "المدخل" (187)، وابن عبد البر في "الجامع" (1532). (¬2) علقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 333/ 1051) عن أبي نعيم عن إبراهيم بن محمد بن حاتم الزاهد عن الفضل بن محمد الشعراني عنه. (¬3) من قوله: "وقال في رواية أبي إلى هنا بدله في (ن): "إلى أن قال -رحمه اللَّه-". ووقع في (ق): "يريد". (¬4) في (ق): "اللَّه سبحانه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) من هنا إلى قوله (ص 92): "وإن عاقبته أحسن عاقبة" بدله في (ن): "إلى أن قال -رحمه اللَّه-". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "رسله".

أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) [إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (¬1) وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19] فقسَّم الأمر بين الشريعة التي جَعَله [هو] (¬2) سبحانه عليها وأوحى إليه العملَ (¬3) بها، وأمَرَ الأمة بها، وبين اتِّباع أهواء الذين لا يعلمون؛ فأمر بالأول، ونهى عن الثاني. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، فأمر باتِّباع المنزِّل منه خاصة، وأعْلَمَ أن من اتَّبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء. قال (¬4) تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فأمر تعالى (¬5) بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غير عَرْضِ ما أمر به [على الكتاب، بل إذا أمر وجَبَتْ طاعتُه مطلقًا، سواء (¬6) كان ما أمر به] (¬7) في الكتاب أو لم يكن [فيه] (¬8)، فإنه أوتي الكتاب ومثلَه معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالًا، بل حذف الفعلَ، وجعل طاعَتَهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذانًا بأنهم إنما يُطَاعون تَبَعًا لطاعة الرسول، فَمَنْ أمَرَ منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومَنْ أمَر (¬9) بخلاف ما جاء به الرسولُ فلا سَمْع [له] ولا طاعة كما صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا طاعَةَ لمخلوق في معصية الخالق" (¬10) وقال: "إنما الطَّاعة في ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "بالعمل". (¬4) في (ق): "وقال". (¬5) في (ق): "اللَّه". (¬6) في نسخة (د): "سواه"!. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وفي الهامش: "لعله ما أمر به الكتاب وسواء كان" وبدل ما بين الهلالين في (ق): "و". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) زاد في (ك) و (ق) هنا: "منهم". (¬10) ورد بهذا اللفظ من حديث عمران بن حصين، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (873)، وعلقه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 145) من طريق محمد بن جعفر الوركاني حدثنا يحيى الأبح عن محمد ابن سيرين عنه. وإسناده جيد لكن في سماع محمد ابن سيرين من عمران نظر، وفي بعض طرق الحديث سماعه منه، وهذا بحاجة إلى بحث. ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 381) من طريق يحيى بن سليم، عن =

المَعْرُوف" (¬1)، وقال في ولاة الأمور: "مَنْ أمركم منهم بمعصية اللَّه فلا سَمْعَ [له] ولا طاعة" (¬2)، وقد أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الذين أرادوا دخولَ النار لمَّا أمرهم أميرُهم بدخولها: "أنّهُمْ لو دَخَلُوا لما خَرَجُوا منها" (¬3) مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعةً لأميرهم، وظنًا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قَصَّرُوا في الاجتهاد، وبادَرُوا إلى [طاعة (¬4) مَنْ أمَرَ بـ] معصية اللَّه، وحَمَلُوا عموم الأمر بالطاعة بما (¬5) لم يُرِدْه الآمر [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (6)، وما قد عُلِمَ من دينه [إرادةُ] (¬6) خلافِهِ، ¬

_ = هشام بن حسان، عن الحسن عن عمران، ويحيى بن سليم -هو الطائفي- فيه كلام، والحسن مدلس، وقد عنعن، وفي سماعه من عمران نظر أيضًا. ورواه ابن أبي شيبة (12/ 546) من طريق مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. واعلم أن حديث عمران بن حصين هذا ثابت من طرق عنه بلفظ: "لا طاعة لمخلوق في معصية اللَّه"، رواه أحمد (4/ 426 و 432 و 436 و 5/ 66 و 67)، والطيالسي (856)، وعبد الرزاق (25700)، والبزار (1613 و 1614 و 1615 و 1616)، والطبراني في "الكبير" (3159 و 3160 و 18/ 324 و 367 و 381 و 385 و 407 و 432 - 438). (¬1) هو جزء من حديث رواه البخاري (4340) في (المغازي): باب سرية عبد اللَّه بن حُذافة السهمي، و (7145) في (الأحكام): باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن في معصية، و (7257) في (أخبار الآحاد): باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، ومسلم (1840) في (الإمارة): باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، من حديث علي بن أبي طالب. (¬2) الحديث رواه أحمد (3/ 67)، وابن أبي شيبة (12/ 543 و 14/ 341)، وابن ماجه (2863) في (الجهاد): باب لا طاعة في معصية اللَّه، وأبو يعلى (1349)، ومن طريقه ابن حبان (4558)، جميعهم من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن أبي سعيد الخدري به مرفوعًا بلفظ: "من أمركم بمعصية فلا تطيعوه"، وهو جزء من حديث طويل، ورجاله رجال الصحيح عدا محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 123): هذا إسناد صحيح. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه البخاري (4340) في (المغازي): باب سرية عبد للَّه بن حذافة السهمي، و (7145) في (الأحكام): باب السمع والطاعة للحكام ما لم تكن معصية، و (7257) في (أخبار الآحاد): باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ومسلم (1840) في (الإمارة) باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، من حديث علي بن أبي طالب. ووقع في (ك) و (ق): "أنهم لو دخلوها". (¬4) في (ك) و (ق): "طاعته في". (¬5) في (ق) و (ك): "فيما". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[حكم تنازع العلماء]

فَقَصَّرُوا في الاجتهاد، وأقْدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبُّت وتبيُّن، هل ذلك طاعة للَّه ورسوله أم لا؟ فما الظنُّ بمنْ أطاع غيرَه في صريح مخالفة ما بَعَثَ اللَّه به رسولَه؟ ثم أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى اللَّه ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل، وأحسنُ تأويلًا في العاقبة (¬1). [حكم تنازع العلماء] وقد تضمن هذا أمورًا: منها: أن أهلَ الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانًا. [لم يختلف الصحابة في مسائل الصفات والأسماء والأفعال] ولكن بحمد اللَّه لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتابُ والسنة كلمةً واحدة، من أولهم إلى آرهم، لم يَسُوموها تأويلًا، ولم يُحَرِّفُوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدو لشيء منها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يَدْفَعُوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صَرْفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تَلَقَّوْها بالقَبُول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرًا واحدًا، وأجْرَوْها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهلُ الأهواء والبِدَع حيث جعلوها عِضِينَ، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فُرْقَان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه (¬2) كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه. [التنازع في بعض الأحكام لا يخرج عن الإيمان] والمقصُودُ: أن أهل الإيمان لا يُخْرِجُهم تنازعُهم في بعض مسائل الأحكام ¬

_ (¬1) انظر في هذا المعنى: "الصواعق المرسلة" (3/ 828 و 4/ 1520 - 1521)، و"التبيان في أقسام القرآن" (430، 431). (¬2) في (ق): " أنكروا".

[الأمر بالرد دليل على أن الكتاب والسنة يشتملان على حكم كل شيء]

عن حقيقة الإيمان إذا رَدُّوا ما تنازعوا فيه إلى اللَّه ورسوله؛ كما شرطه اللَّه عليهم بقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] ولا رَيْبَ أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه. [الأمر بالرد دليل على أن الكتاب والسنة يشتملان على حكم كل شيء] ومنها: أن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرةٌ في سياق الشرط تعمُّ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دِقِّهِ وجِلِّهِ، جَلِيَّهِ وخَفِيِّهِ، ولو لم يكن في كتاب اللَّه ورسوله بيانُ حكم ما تَنَازعوا فيه ولم يكن كافيًا، لم يأمر بالردّ إليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع (¬1) إلى مَنْ لا يوجَد عنده فَصْلُ النزاع. ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى اللَّه سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الرد (إلى نفسِه) (¬2) في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. [الرد إلى اللَّه والرسول من موجبات الإيمان] ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجِبَاتِ الإيمان ولوازمه، فإذا انْتَفَى هذا الرد انتفى الإيمان؛ ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين؛ فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد (¬3) خيرٌ لهم، وأن عاقبته أحْسَنُ عاقبة] (¬4). [المتحاكمون إلى الطاغوت] ثم أخبر سبحانه أن مَنْ تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسولُ، فقد حَكَّم الطاغوتَ وتحاكم إليه، والطاغوت: كُل ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مُطَاعٍ؛ فطاغوتُ كل قوم مَنْ يتحاكمون إليه غير اللَّه ورسوله، أو يعبدونه من دون اللَّه، أو يتبعونه على غير بصيرة من اللَّه، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة للَّه؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتَهَا وتأملت أحوالَ الناس معها، ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "التنازع". (¬2) في (ك) و (ق): "إليه بنفسه". (¬3) سقطت من (ك) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وكتب بدله: "إلى أن قال -رحمه اللَّه-".

رأيت أكثرهم [ممن أعرض عن عبادة اللَّه] (¬1) إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى اللَّه ورسوله (¬2) إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريقَ (¬3) الناجِينَ الفائزين من هذه الأمة -وهم الصحابة ومن تبعهم- ولا قَصدوا قَصْدَهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معًا، ثم أخبرنا تعالى عن هؤلاء أنهم (¬4) إذا قيل لهم: تَعَالَوْا إلى ما أنزل اللَّه وإلى الرسول أعْرَضُوا عن ذلك، ولم يستجيبوا للداعي، ورَضُوا بحكم غيره، ثم توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم (¬5) وأموالهم؛ بسبب إعراضهم عما جاء به الرسولُ وتحكيم غيره، والتحاكم إليه؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق، أي بفعل (¬6) ما يرضي الفريقين، ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول، وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي؛ فمحضُ الإيمان في هذا الحربُ لا في التوفيق، وباللَّه التوفيق. [ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحَكِّمُوا رسولُه في كل ما شَجَرَ بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحَرَجُ والضِّيقُ عن (¬7) قضائه وحكمه، ولم يكتف منهم -أيضًا- بذلك حتى يسلموا تسليمًا، وينقادوا انقيادًا. وقال [تعالى] (¬8): {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فأخبر سبحانه: أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومَن تخير بعد ذلك فقد ضَلَّ ضلالًا مبينًا] (¬9). ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (و) و (ط): "رأيت أكثرهم من عبادة اللَّه"، وعلق (ط) قائلًا: "كذا في الأصل، ولعل صواب الجملة: "رأيت أكثرهم عدلوا عن عبادة اللَّه"، وفي (د) و (ح): "رأيت أكثرهم [عدلوا] من عبادة اللَّه". (¬2) في المطبوع: "وإلى الرسول". (¬3) في (ك) و (ق): "سبيل". (¬4) في المطبوع و (ك) و (ق): "بأنهم". (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "أو أبدانهم". (¬6) في (ق): "أن يفعل". (¬7) في (ق): "من". (¬8) سقطت من (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) وآخر جملة سقطت من (ك) و (ق) ووقع في (ق): "قضاء اللَّه وقضاء رسوله صلى اللَّه عليه وسلم".

[معنى التقديم بين يدي الله ورسوله]

[معنى التقديم بين يدي اللَّه ورسوله] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]} (¬1) [الحجرات: 1]، أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفْتُوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويُمْضِيه، روى (¬2) علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [-رضي اللَّه عنهما-] (1): لا تقولوا خِلَافَ الكتاب والسنة (¬3)، وروى العوفي [عنه] (¬4) قال: نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه (¬5). والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو يفعل (¬6). وقال [تعالى] (¬7): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] فإذا كان رَفْعُ أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم؛ فكيف تقديم آرائهم، وعقولهم، وأذواقهم، وسياساتهم، ومعارفهم، على ما جاء به ورفعها عليه؟ أليس (¬8) هذا أولى أن يكون مُحْبِطًا لأعمالهم (¬9)؟. وقال [تعالى] (7): {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]، فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبًا إذا كانوا معه إلا باستئذانه؛ فأولى [أن يكون] (¬10) من لوازمه أن لا ¬

_ (¬1) سقطت من (ق). (¬2) في (ق): "وعن". (¬3) رواه الطبري (26/ 116)، وابن أبي حاتم (10/ 3302 رقم 18604)، كلاهما في "التفسير"، وأبو نعيم في "الحلية"، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" (2/ 115 - 116 رقم 266) من طريق معاوية، عن علي به وهو في "صحيفة علي بن أبي طلحة" (458)، وعزاه في "الدر" (7/ 546) لابن المنذر وابن مردويه، وعلي لم يسمع من ابن عباس بينهما مجاهد. (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "عن ابن عباس". (¬5) رواه الطبري (26/ 116)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (10/ 3302 رقم 18606)، من هذا الطريق نفسه، وعزاه في "الدر المنثور" (7/ 546) لهما ولابن مردويه. ووقع في (ق): "نهوا عن أن يتكلموا". (¬6) انظر في تفسير الآية للمصنف -أيضًا- "الصواعق المرسلة" (3/ 996 - 998). (¬7) سقطت من (ق). (¬8) في (ن) و (ق): "أو ليس". (¬9) نحوه في "الوابل الصيب" (21) للمؤلف. (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[ينزع العلم بموت العلماء]

يذهبوا إلى قولٍ، ولا مذهبٍ [علميٍّ] (¬1)؛ إلا بعد استئذانه، وإذنُه يُعْرَفُ بدلالة ما جاء على أنه أذِن فيه (¬2). [ينزع العلم بموت العلماء] [وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي الأسود، عن عُرْوَة بن الزبير، قال: حَجَّ علينا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص فسمعته يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن اللَّه لا يَنْزعُ العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يَنْزِعُه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يُسْتَفْتَوْنَ فيفتون برأيهم فيُضِلُّون ويضِلُّون" (¬3)، وقال وكيع: حدثنا هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ينزع اللَّه العلمَ من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بموت العلماء، فإذا لم يُبْقِ عالمًا اتَخَذَ الناس رؤسَاء جهالًا؛ فقالوا بالرأي، فضلُّوا وأضلوا" (¬4). ¬

_ (¬1) في (ك): "عملي" ولعلها الصواب. (¬2) من هنا إلى ص (114): "أنه يحدث فيها بعدهم" بدله في (ن): "ثم ذكر - رحمه اللَّه من الأحاديث المرفوعة والموقوفة ما يصرح بذم الرأي، وتكلف القول بلا علم، والتغليظ على فاعله إلى أن قال". وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف الرأي، (13/ 282/ 7307)، ومسلم في "الصحيح": (كتاب العلم): باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل (4/ 2058 رقم 2673) عن عبد اللَّه بن عمرو. ووقع في (ق): "ولكن نزعه قبض العلماء مع علمهم". (¬4) أخرجه البخاري (100)، وفي "التاريخ الكبير"، (1/ 1/ 256 - 257)، ومسلم (2673) (13)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" (6/ 361) -، والترمذي (2652)، وابن ماجه (52)، والدارمي (1/ 77)، وأحمد (2/ 162، 190)، وابن أبي حاتم في "مقدمة الجرح والتعديل" (ص 254)، وابن المبارك في "الزهد" (816)، وأبو خيثمة في "العلم" (121)، والطبراني في "الصغير" (459 - مع الروض الداني)، و"الأوسط" (رقم 55، 992، 2322)، وابن حبان (4571، 6719، 6723)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 196، و 2/ 138، 142)، و"الحلية" (10/ 24 - 25)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1/ 148 - 149، 149، 149 - 150)، والبغوي في "شرح السنة" (147 و 1/ 316)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (2771)، والداني في "الفتن" (264، 265)، والبيهقي (10/ 116)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1103 - 1107)، وابن جميع في "معجم شيوخه" (رقم 156، 164، 241، 324)، والطحاوي في "المشكل" (1/ 127)، والخطيب في "تلخيص المتشابه" (1/ 380، 548)، و"تاليه" (رقم 262 - =

وفي "الصحيحين" من حديث عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: يا ابن أختي بَلَغَنِي أن عبد اللَّه بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج، فالْقَهُ فاسأله؛ فإنه قد حَمَلَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- علمًا كثيرًا، قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه لا ينزع العلم من الناس انتزاعًا، ولكن يقبض العلماء، فيرفع العِلْم معهم، ويَبقى في الناس رؤوسٌ جهال، يُفْتُونَهم بغير علم، فيُضِلُّون ويَضِلُّون"، قال عروة: فلما حدثْتُ عائشةَ بذلك؛ أعظمت ذلك وأنكرته (¬1)، قالت: أَحَدَّثَكَ أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول هذا؟ قال عروة: نعم، حتى إذا كان عام قابل قالت لي: إن ابن عَمْرو قد قدم، فالْقَه، ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم، قال: فلقيتُه فسألته فذكرهُ لي نحو ما حدثني به في المرة الأولى، قال عروة: فلما أخبرتُها بذلك قالت: ما أحْسَبه إلا قد صَدَق، أراه لم يزد فيه شيئًا، ولم ينقص. وقال البخاري في بعض طرقه: "فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون"، وقال: فقالت عائشة: واللَّه لقد حفظ عبدُ اللَّه (¬2). ¬

_ = بتحقيقي)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 188 - ترجمة عبد اللَّه بن الحسين بن غنجدة 7/ 143 - ترجمة أحمد بن فياض بن إسماعيل)، وابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد" (18/ 38)، والرافعي في "تاريخ قزوين" (3/ 130) والذهبي في "الميزان" (2/ 306) و"السير" (6/ 36)؛ من طرق عن هشام بن عروة به. وأخرجه البخاري (7307)، ومسلم (2673 بعد 13)، وأحمد (2/ 203)، والطيالسي (2292)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" (6/ 361) - والطحاوي في "المشكل" (1/ 128، 129)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 320)، وابن عبد البر (1/ 150، 151 و 2/ 33)، والبغوي (1/ 316)، والجورقاني في "الأباطيل" (104)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (262، 263)؛ من طرق عن عروة به. قال الذهبي في "السير" (6/ 36): "هذا حديث ثابت، متصل الإسناد، هو في دواوين الإسلام الخمسة -ما عدا "سنن أبي داود"-، وهو من ثلاثة عشر طريقًا عن هشام، ومن طريق أبي الأسود يتيم عروة عن عروة نحوه، وقد حدث به عن هشام عدد كثير سماهم أبو القاسم العبدي". وساق الذهبي أربع مئة وإحدى وثمانين نفسًا ممن رواه عن هشام، وانظر: "فتح الباري" (1/ 195 و 12/ 283). (¬1) في (ق): "عظمت ذلك وأنكرته فقالت". (¬2) رواه البخاري (100) في (العلم): باب كيف يقبض العلم، و (7307) في (الاعتصام): باب ما يذكر في ذم الرأي وتكلف القياس، ومسلم (2673) في (العلم): باب رفع العلم وقبضه، ومحاورة عائشة لعروة، رواها مسلم كما ذكرها المؤلف هنا، وهي في البخاري الموضع الثاني مختصرة.

[الوعيد على القول بالرأي]

[الوعيد على القول بالرأي] وقال نُعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك: ثنا عيسى بن يونس، عن حَرِيز بن عثمان الرَّحَبي (¬1): ثنا عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تفترق أمتي على بِضْع وسبعين فرقة، أعْظَمُها فتنةً قومٌ يقيسون الدين برأيهم، يحرِّمون [به] (¬2) ما أحلَّ اللَّه، ويحلُّون ما حرم اللَّه" (¬3). ¬

_ (¬1) كذا الصواب؛ كما في "تقريب التهذيب" (156/ 1184)، وفي (د): "جريز بن عثمان الرَّحَبي"، وفي (ح) و (و) و (ط): "حريز بن عثمان الزنجي"، وفي (ق): "جرير بن عثمان بن بحير" وعلق (د) قائلًا: "وقع في أصول هذا الكتاب: "الزنجي"، وما أثبتناه من "التقريب" اهـ. وقال (و): "هو في "التقريب": "الرحبي" -بفتح الراء، وبالحاء والباء-" اهـ. ونحوه في (ح)، وقال (ط): كذا الأصل، وفي "التقريب": "الرحبي" اهـ، وفي (ق) و (ك): "جرير بن عثمان بن يحيى". (¬2) سقطت من (ق). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (18/ 90)، وفي "مسند الشاميين" (رقم 1072)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 1264 و 7/ 2483)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 430)، والبزار في "المسند" (رقم 172 - زوائده)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 307 - 308)، و"الفقيه والمتفقه" (1/ 179 - 180)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 207)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 83)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 813)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1673)، وابن حزم في "إبطال القياس" من طرق عن نعيم بن حماد به، والحديث ضعيف، وأشار إلى ذلك الشاطبي في "الموافقات" (5/ 147 - بتحقيقي) بقوله: "ذكره ابن عبد البر بسند لم يرضه"، ثم قال: "وإن كان غيره قد هون الأمر فيه". قلت: الحديث ضعيف آفته نعيم بن حماد، وقد تكلم الحفاظ فيه بسببه، قال ابن عدي: "وهذا إنما يعرف بنعيم بن حماد، رواه عن عيسى بن يونس فتكلم الناس بجرّاه، ثم رواه رجل من أهل خراسان، يقال له: الحكم بن المبارك، يكنى أبا صالح، يقال له: "الخواشتي"، ويقال: إنه لا بأس به، ثم سرقه قوم ضعفاء ممن يعرفون سرقة الحديث، منهم: عبد الوهاب بن الضحاك، والنضير بن طاهر، وثالثهم سويد الأنباري"، وقال البيهقي عقبه: "تفرد به نعيم بن حماد، وسرقه عنه جماعة من الضعفاء، وهو منكر، وفي غيره من أحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية، وباللَّه التوفيق". وقال ابن عبد البر: "هذا عند أهل العلم بالحديث، حديث غير صحيح حملوا فيه على نعيم بن حماد، وقال أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين: حديث عوف بن مالك هذا لا أصل له، وأما ما روي عن السلف في ذم القياس؛ فهو عندنا قياس على غير أصل أو قياس يُردُّ به الأصل. =

قال أبو عمر بن عبد البر: "هذا هو القياس على غير أصل، والكلام في الدين بالْخَرْصِ والظن، ألا ترى إلى قوله في الحديث: "يحلّون الحرام ويحرّمون الحلال"، ومعلوم أن الحلال ما في كتاب اللَّه وسنة رسوله تحليلُه، والحرام ما في كتاب اللَّه وسنة رسوله تحريمُه، فمن جهل ذلك وقال (¬1) فيما سُئِل عنه بغير علم، وقَاسَ برأيه ما خرج به عن السنة (¬2)؛ فهذا الذي قاس الأمور برأيه فَضَلَّ وَأَضَلَّ، فأما من (¬3) رَدَّ الفروعَ إلى أصولها فلم يقل برأيه" (¬4). ¬

_ = قلت: مراد أحمد ويحيى هذا الحديث بلفظه المذكور، وفيه ذكر وذم للقياس، وإلا؛ فقد أخرج ابن ماجه في "السنن" (رقم 3992)، وابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 63)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (رقم 149) بسند جيد، من حديث عوف بن مالك مرفوعًا: "افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة، وسبعين في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وإحدى وسبعين في النار، والذي نفسي بيده لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة؛ فواحدة في الجنة واثنتين وسبعين في النار". قيل: يا رسول اللَّه من هم؟ قال: "هم الجماعة". وأخرجه من حديثه -أيضًا- الحاكم في "المستدرك" (1/ 128 - 129) من طريق أخرى، ولكن فيها كثير بن عبد اللَّه المزني، لا تقوم به الحجة. ولحديث عوف بلفظ السابق -وليس بلفظ المصنف- شواهد عديدة من حديث أبي هريرة، ومعاوية، وأنس وعبد اللَّه بن عمرو، وقد صححه جمع من الحفاظ كما بين ذلك بتطويل وتحقيق متين شيخنا الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "السلسلة الصحيحة" (رقم 203، 204). وقد ضعف حديث عوف -بلفظ المصنف- الزركشي، فقال في "المعتبر" (ص 227): "هذا حديث لا يصح، مداره على نعيم بن حماد، قال الحافظ أبو بكر الخطيب في "تاريخه" [13/ 311] بهذا الحديث سقط نعيم بن حماد عند كثير من أهل الحديث، وكان يحيى بن معين لا ينسبه إلى الكذب، بل إلى الوهم، وقال النسائي ليس بثقة. وقال أبو زرعة: قلت ليحيى بن معين في حديث نعيم هذا، وسألته عن صحته فأنكره، قلت يه: من أين يؤتى؟ قال: شُبِّه له. وقال محمد بن علي بن حمزة المروزي: سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث، قال: ليس له أصل. قلت: فنعيم بن حماد؟ قال: نعيم ثقة. قلت: كيف يحدث ثقة بباطل؟ قال: شبه له". (¬1) في (ق): "قال". (¬2) مفعول قاس، أي: الذي خرج بسببه عن السنة، واللَّه أعلم (ح)، ووقع في المطبوع: "ما خرج منه عن السنة". (¬3) في المطبوع: "ومن". (¬4) "جامع بيان العلم" (2/ 1039 بعد رقم 1997).

فصل فيما روي عن صديق الأمة وأعلمها من إنكار الرأي

وقالت طائفة من أهل العلم: مَنْ أداه اجتهادهُ إلى رأي رآه ولم تَقُمْ عليه حجة فيه بعد فليس مذمومًا (¬1)، بل هو معذور، خالفًا كان أو سالفًا، ومَنْ قامت عليه الحجة فعانَدَ وتمادى على الفتيا برأي إنسان بعينه، فهو الذي يَلْحَقه الوعيد؛ وقد رُوِّينا في "مسند عَبْد بن حُمَيدَ" (¬2): ثنا عبد الرزاق: ثنا سفيان الثوري، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قال في القرآن برأيه فَلْيَتَبَؤَأ مَقْعَدَه من النار" (¬3). فصل فيما روي عن صِدِّيقِ الأمة وأعلمها من إنكار الرأي روينا عن عَبْد بن حُمْيد: ثنا أبو أسامة، عن نافع، عن عمر الجُمحيّ، عن ابن أبي مليكة قال: قال أبو بكر [-رضي اللَّه عنه-] (¬4): أيُّ أرضٍ تُقِلني، وأيُّ سماء تُظِلني ¬

_ (¬1) في (ق): "فليس هذا مذمومًا". (¬2) في (و): "عبيد بن حميد"!! (¬3) أخرجه الترمذي في "الجامع" (برقم 12950 و 4023) -وأحمد (1/ 233 و 269 و 323)، والنسائي في "الكبرى" (8085)، وأبو داود في رواية ابن العبد، كما في "تحفة الأشراف" (4/ 423) -، والطبري (1/ 34) والطبراني في "الكبير" (12392)، والبغوي (118) وابن بطة في "الإبانة" (رقم 799) من طريق عبد الأعلى الثعلبي به وحسنه الترمذي وصححه ابن القطان، لكن فيه عبد الأعلى بن عامر الثعلبي ضعفه أحمد وأبو زرعة وقال: ربما رفع الحديث وربما وقفه، وقال أبو حاتم: ليس بقوي، وقال النسائي: ليس بالقوي ويكتب حديثه، وبالجملة فكلمة أهل الجرح والتعديل على تضعيفه، ومما يدل على ضعفه أنه اضطرب فيه فرواه مرفوعًا، ورواه موقوفًا -كما سيأتي. وله شاهد لا يفرح به عن جندب بن عبد اللَّه البجلي مرفوعًا بلفظ: "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ". أخرجه الترمذي في "الجامع" (أبواب التفسير): باب في الذي يفسر القرآن برأيه، (5/ 200/ رقم 2952)، وأبو داود في "السنن" (كتاب العلم): باب الكلام في كتاب اللَّه بغير علم، (3/ 320/ رقم 3652)، والنسائي في "فضائل القرآن" (رقم 111)، وأبو يعلى في "المسند" (3/ 90/ رقم 1520)، و"المفاريد" (رقم 32)، وابن بطة في "الإبانة" (2/ 614 رقم 798). وإسناده ضعيف -أيضًا-؛ فيه سهيل بن أبي حزم ليس بالقوي، قال الترمذي: "وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم" اهـ. وانظر: "الإيمان" (ص 273) لابن تيمية، و"شرح العقيدة الطحاوية" (167)، و"رفع الأستار" (111). (¬4) سقط من (ق).

إن (¬1) قلت في آيةٍ من كتاب اللَّه برأيي، أو بما لا أعلم (¬2). ¬

_ (¬1) في (ق): "إذا". (¬2) له طرق كثيرة متعددة عن أبي بكر، وهي لا تخلو من كلام أو انقطاع، ولكنه بمجموعها يصل إلى درجة الحسن -إن شاء اللَّه تعالى-، كما قال الحافظ ابن حجر وغيره، وهذا التفصيل: أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (ق 135/ ب و 3/ 300/ رقم 3527 المطبوعة) من طريق عبد اللَّه بن مرة، والطبري في "تفسيره" (1/ 78/ رقم 78، 79) من طريق إبراهيم النخعي، وعبد اللَّه بن مرة، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 833 - 834/ رقم 1561 - ط الجديدة) من طريق إبراهيم النخعي عن أبي معمر عن أبي بكر به. وإسناده منقطع، أبو معمر هو عبد اللَّه بن سَخْبَرة الأزدي، لم يسمع من أبي بكر، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 317)، وابن حجر في "الفتح" (13/ 271) لعبد بن حميد من طريق النخعي عن أبي بكر -من غير ذكر أبي معمر-، قال ابن حجر: "وهذا منقطع بين النخعي والصديق". قال ابن عبد البر عقبه: "وذكر مثل هذا عن أبي بكر الصديق: ميمون بن مهران، وعامر الشعبي، وابن أبي مليكة". قلت: أخرجه من طريق ابن أبي مليكة: سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 168/ رقم 39 - ط الجديدة) -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" (رقم 792) - بإسناد صحيح إلى ابن أبي مليكة، وهو لم يسمع من أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. وأخرجه من طريق الشعبي: ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 512/ رقم 10152)، والخطيب في "الجامع" (2/ 193/ رقم 1585)، وروايته عن أبي بكر مرسلة، وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (رقم 824 وص 227 - ط غاوجي)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 513/ رقم 10156)، وعبد بن حميد في "تفسيره"، ومن طريقه الثعلبي في "تفسيره"، قاله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (4/ 158) بإسناد صحيح إلى العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي به. والعوام ثقة ثبت؛ فإسناده صحيح إلا أنه منقطع بين التيمي وأبي بكر؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مقدمة أصول التفسير" (ص 108)، و"مجموع الفتاوى" (13/ 372)، والزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (4/ 158)، وابن كثير في "تفسيره" (1/ 5، 4/ 473)، وابن حجر في "الفتح" (13/ 271). وأخرجه البيهقي في "الشعب" (5/ 288/ رقم 2082) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن محمد أن أبا بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. . . وذكر نحوه. وإسناده ضعيف، فيه ابن جدعان وهو ضعيف، والقاسم بن محمد روايته عن جده مرسلة؛ كما قال العلائي في "جامع التحصيل" (ص 310). والأثر بمجموع هذه الطرق لا ينزل عن مرتبة الحسن؛ فقد ساقه ابن حجر في "الفتح" من طريق التيمي والنخعي، وأعَّلهما بالانقطاع، وقال: "لكن أحدهما يقوّي الآخر".

فصل في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب [-رضي الله عنه-]

وذكر الحسن بن علي الحُلْواني: حدثنا عارم، عن حماد بن زيد، عن سعيد ابن أبي صدقة، عن ابن سيرين قال: لم يكن أحَدٌ أهْيَبَ بما (¬1) لا يعلم من أبي بكر [-رضي اللَّه عنه-] (¬2)، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهْيَبَ بما (1) لا يعلم من عمر [-رضي اللَّه عنه-] (2)، وإن أبا بكر نزلَتْ به قضيةٌ فلم يجد في كتاب اللَّه منها أصلًا، ولا في السنة أثرًا فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خَطَأ؛ فمني وأستغفر اللَّه (¬3). فصل في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (2) [قال ابن وهب: ثنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-] (¬4) قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إن (¬5) الرأي إنما كان من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مصيبًا، إن اللَّه كان يُرِيهِ، وإنما هو منا الظنُّ والتكلفُ (¬6). قلت: مُراد عمر [-رضي اللَّه عنه-] (7) قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، فلم يكن له رأي غير ما أراه اللَّه إياه، و [أما] (¬7) ما رأى غيره فظن وتكلف. قال سفيان الئوري: ثنا أبو إسحاق الشَّيْباني، عن أبي الضَّحى، عن مسروق، قال: كَتَب كاتبٌ لعمر بن الخطاب: "هذا ما رأى اللَّه ورأى عمر"، فقال: بئس ما قلت، قل: هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمن عمر (¬8). وقال ابن وهب: أخبرني ابن لَهِيعَةَ، عن عبيد (¬9) اللَّه بن [أبي] (7) جعفر قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (7): السُّنَّةُ ما سَنَّهُ اللَّه ورسولُه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (7)، لا ¬

_ (¬1) في (ق): "لما". (¬2) سقط في (ق). (¬3) السند المذكور رجاله ثقات لكن ابن سيرين لم يسمع من أبي بكر ولا من عمر، وأورده ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 911/ 1712) عن ابن مسعود، ولم يسنده. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "إنما". (¬6) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (2000) من طريق ابن وهب به، وابن شهاب لم يدرك عمر. (¬7) سقط من (ق). (¬8) رواه البيهقي في "السنن الكبير" (10/ 116)، وقال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 195): إسناده صحيح. (¬9) في جميع المطبوعات و (ق) و (ك): "عبد"، ولعل الصواب ما أثبتناه؛ كما في التخريج الآتي.

تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة (¬1). قال (¬2) ابن وهب: وأخبرني ابن لَهِيعَةَ، عن أبي الزِّناد، عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) قال: أصبح أهلُ الرأي أعْدَاء السنن، أعيتهم أن يَعُوهَا وتَفَلَّتَتْ منهم أن يَرْوُوها، فاسْتَبَقُوهَا بالرأي (¬4). قال ابن وهب: وأخبرني عبد اللَّه بن عياش (¬5)، عن محمد بن عَجْلان، عن عبيد اللَّه بن عمر أن [عمر] بن الخطاب قال: اتَّقُوا الرأي في دينكم (¬6). وذكر ابن عجلان، عن صَدَقة بن أبي عبد اللَّه أن عمر بن الخطاب كان يقول: أصحابُ الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديثُ أن يحفظوها وتَفَلَّتَتْ [منهم] (¬7) أن يَعُوها، واسْتَحْيَوْا حين سُئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم (¬8). ¬

_ (¬1) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2014)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 786) من طريق ابن وهب، وعُبيد اللَّه بن أبي جعفر لم يسمع من عمر؛ إذ هو متأخر عنه. وذكره القاضي أبو يعلى في "العدة" (4/ 1305) عن ابن عمر لا عن عمر. (¬2) في (ق): "وقال" (¬3) سقط من (ق). (¬4) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2001) من طريقه، لكن في إسناده: ابن لهيعة عن ابن الهادي، وليس عن أبي الزناد؛ كما ذكر المؤلف، وعلى كلا الإسنادين فالسند جيد، فابن الهاد، هو عبد اللَّه بن يزيد بن الهاد، وهو ثقة، وأبو الزناد كذلك. (¬5) وقع في المطبوع و (ك): "عبد اللَّه بن عباس"! نسبه لجدِّه. (¬6) رواه البيهقي في "المدخل" (210)، وابن عبد البر في "الجامع" (2002) من طريق ابن وهب، لكن شيخ ابن وهب وقع في "المدخل": "عبد اللَّه بن سليمان: وفي "الجامع": "عبد اللَّه بن عياش". قلت: عبد اللَّه بن عياش هذا هو ابن عياش بن عباس: وهو ضعيف، أخرج له مسلم في الشواهد، وعبد اللَّه بن سليمان صدوق يخطئ. وعلى كل حال فالإسناد منقطع؛ عبيد اللَّه لم يسمع من عمر. انظر ما قبله وما بعده. وما بين معقوفتين سقط من (و). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) رواه ابن أبي زمنين في "السنة" (رقم 8)، وابن عبد البر في "الجامع" (2003) من طريق ابن وهب، عن رجل من أهل المدينة، عن ابن عجلان به. وإسناده ضعيف، للرجل المبهم، وصدقة بن عبد اللَّه بن كثير القرشي، ترجمه ابن أبي حاتم (4/ 433)، والبخاري (4/ 297) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وهو من طبقة أتباع التابعين عند ابن حبان، فهو لم يدرك عمر.

وذكر ابن الهادي (¬1)، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمي قال: قال عمر بن الخطاب: إياكم والرأيَ، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديثُ أن يَعُوهَا، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم (¬2). [و] (¬3) قال الشعبي: عن [عمرو بن حُرَيْث]، قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (3): إياكم وأصحابَ الرأي فإنهم أعداء السنن، أعْيتَهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا (¬4). وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصِّحة. وقال محمد بن عبد السلام الخُشَنيّ: ثنا محمد بن بشار: حدثنا يونس ابن (¬5) عُبيد اللَّه العميري (¬6): ثنا مُبارك بن فَضَالة، عن عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيها الناس، اتَّهِمُوا الرأي في الدين، فلقد رأيتني وإني لأرُدُّ أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأيي فاجتهد ولا آلو، وذلك ¬

_ (¬1) في (ق): "ابن الهاد". (¬2) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2005)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 1019) من طريق أبي بكر بن أبي داود، عن محمد بن عبد الملك القزاز، عن ابن أبي مريم، ونافع بن يزيد، عن ابن الهاد به، وإسناده جيد. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2004)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 180)، وابن حزم في "الأحكام" (6/ 1019)، واللالكائي في "السنة" (رقم 201)، والبيهقي في "المدخل" (213) من طريق عبد الرحمن بن شريك القاضي عن أبيه عن مجالد بن سعيد عن الشعبي به. وعبد الرحمن وأبوه ومجالد ضعفاء. نعم هو صحيح بطرقه وله طرق أخرى عند الدارمي في "السنن" (1/ 49)، والآجري في "الشريعة" (رقم 48، 52، 74)، وابن أبي زمنين في "السنة" (رقم 7)، والتيمي في "الحجة" (1/ 205، 312)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 83، 84، 790)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 68)، وأبي الفضل المقرئ في "ذم الكلام" (ص 103 - 104)، واللالكائي في "السنة" (رقم 202)، وابن النجار -كما في "كنز العمال" (1/ 375) - بألفاظ متقاربة، وانظر تعليقي على "الموافقات" (4/ 327) للشاطبي. ووقع في نسخة (و): "عمرو بن الحارث"، وفي النسخ الأخرى: "عمرو بن حرث"!! وكلاهما خطأ، وصوابه كما أثبتناه. (¬5) في (ق): "عن" ووقع اسمه في سائر النسخ: "بن عبيد العمري" وما أثبتناه هو الصواب، كما في مصادر ترجمته. (¬6) في (ق): "عبيد العمري".

يوم أبي جَنْدَل (¬1)، والكتابُ يكتب وقال: اكتبوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال: يكتب (¬2) باسمك اللهم، فرضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبيْتُ، فقال: يا عمر تراني قد رضيتُ وتأبى؟ (¬3) وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبدُ الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مَعْمر بن أبي حَبيبة مولى بنت صَفْوَان، عن عُبيد بن رفاعة، عن أبيه رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬4) إذ دَخَلَ عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يُفتِي الناسَ في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عليّ به، فجاء زيد، فلما رآه عمر، فقال عمر: أيْ عَدُوَّ نفسه قد بلغْتَ أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، واللَّه ما فعلْتُ، ولكن سمعتُ من أعمامي حديثًا فحَدَّثت به: من أبي أَيوب، ومن أُبيّ بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فقال عمر: عليّ برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل (¬5) أن يغتسل؟ قال (¬6): قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لم يأتنا فيه عن اللَّه تحريم، ولم يكن فيه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيء، فقال عمر: ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلم (¬7) ذلك؟ قال: ما أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فَجُمِعُوا، فشاورهم فشار الناس أن لا ¬

_ (¬1) "كان ذلك في صلح الحديبية، حين اتفق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أن يرجع هو وأصحابه ويعودوا من قابل، وكتبوا بذلك كتابًا، وكان عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يرى أن في ذلك إعطاء الدنية، ورجع إلى الصديق -رضي اللَّه عنه- فأمره أن يسمع ويطيع" قاله (د)، وفي (ط): "هو يوم صلح الحديبية، انظر القصة بطولها في كتب الغزوات" اهـ. ووقع في (ق): "والكاتب يكتب". (¬2) في (ق) و (ك): "فقالوا تكتب". (¬3) رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (558)، والطبراني في "الكبير" (82:)، والبيهقي في "المدخل" (217) من هذا الطريق، وقال الهيثمي (1/ 179): "رواه أبو يعلى ورجاله موثقون، وإن كان فيهم مبارك بن فضالة وهو مدلس وقد عنعن". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). ثم ذكره (6/ 145 - 146)، وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح"، وهو في "كشف الأستار" (2/ 338). وفي "صحيح البخاري" نحوه (7308) من قول سهل بن حنيف. (¬5) "أكسل: جامع ولم ينزل" (ط). (¬6) في (ق): "فقال". (¬7) في (ق): "يفعل".

قول عبد الله بن مسعود [في (ذم) الرأي]

غُسْلَ (¬1)، إلا ما كان من مُعَاذ وعلي، فإنهما قالا: إذا جاوز الختانُ الختان وجب الغسلُ، فقال (¬2) عمر: هذا وأنتم أصحابُ بَدْرٍ قد اختلفتم، فمن بعدكم أشَدُّ اختلافًا، فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحَدٌ أعلم بهذا من شأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أزواجه، فأرسَلَ إلى حَفْصَة فقالت: لا علم لي (¬3)، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان، الْخِتَانَ فقد وجب الغسل، فقال: لا أسمع برجلٍ فعل ذلك إلا أوْجَعْتُه ضربًا (¬4). قول عبد اللَّه بن مسعود [في (ذم) الرأي] (¬5) قال البخاري: حدثنا سُنيد (¬6): ثنا يحيى بن زكريا، عن مجالد، (عن الشعبي)، عن مسروق، عن عبد اللَّه قال: لا يأتي عليكم عامٌ إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لا أقول: أمير خير من أمير، ولا عامٌ أخْصَبُ من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تَجِدُون منهم (¬7) خَلَفًا، ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم (¬8). ¬

_ (¬1) في (ق): "فأشار الناس ألا غسل". (¬2) في (ق): "قال". (¬3) في (ق): "لا علم لي بهذا". (¬4) أخرجه الطحاوي في في "المشكل" (2/ 348 - 349)، و"شرح معاني الآثار" (1/ 58 - 59)، وأحمد في "المسند" (5/ 115)، والطبراني في "الكبير" (5/ 34 - 35/ رقم 4536)، وأخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 115، 19/ 111 - ط دار الفكر). بسند رجاله ثقات غير ابن إسحاق؛ وهو مدلس وقد عنعن. (¬5) ما بين المعقوفتين من (و) و (ط)، وما بين القوسين زيادة (ط) عليهما. (¬6) كذا في (ق)، وفي غيرها: "جنيد". (¬7) في (ق) و (ك): "فيهم". (¬8) أخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 65)، والطبراني في "الكبير" (9/ 109 رقم 8551)، وابن وضاح في "البدع" (رقم 78، 248)، وابن أبي زمنبن في في "السنة" (رقم 10)، والداني في "الفتن" (رقم 210، 211)، والفسوي في "المعرفة" (3/ 393)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 182)، وابن بطة في "الإبانة" (1/ ق 26/ ب)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 205)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 2007، 2008، 2009، 2010)، والهروي في "ذم الكلام" (2/ 129 رقم 280)، من طرق مدارها على مجالد بن سعيد وفي (ك): "مجاهد بن سعيد"، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف؛ لضعف مجالد واختلاطه، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 180): "وفيه مجالد بن سعيد وقد اختلط"، ومع هذا؛ فقد جوّده ابن حجر في "فتح الباري" (13/ 20). نعم، هو جيد من طرق أخرى، أخرجه يعقوب بن شيبة، أفاده ابن حجر -أيضًا- =

وقال ابن وهب: ثنا شقيق: عن مجالد به، قال: ولكن ذَهَابُ خياركم وعلمائكم، ثم يَحْدُث قوم يَقِيسُون [الأمور] برأيهم فينهدم الإسلام، ويثلم (¬1). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن مجالد، (عن الشعبي)، عن مسروق قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: عُلَماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسًا جهالًا يَقِيسون الأمور برأيهم (¬2). وقال سُنَيْد بن داود: حدثنا محمد بن فَضل (¬3)، عن سالم بن أبي حَفْصة، عن مُنْذر الثوري، عن الرَّبيع بن خُثَيْم أنه قال: قال عبدُ اللَّه: ما عَلّمَكَ اللَّه [من علم] (¬4) في كتابه فاحْمدِ اللَّه، وما استأثر به عليك من علم فكِلْه إلى عالمه، ولا تتكلف؛ فإن اللَّه [عز وجل] (¬5) يقول [لنبيه] (¬6): {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (¬7) [ص: 86]. يروى هذا عن الربيع بن خثيم وعن عبد اللَّه. وقال سعيد بن منصور: حدثنا خَلَف بن خَليفة: ثنا أبو يزيد، عن الشعبي قال: قال ابن مسعود: إياك وأرأيت [أرأيت] (6)، فإنما هَلَك مَنْ كان قبلكم بأرأيت [أرأيت] (5)، ولا تقيسوا شيئًا فتزلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها، وإذا سُئل أحدكم عما لا يعلم؛ فليقل: لا أعلم؛ فإنه ثلث العلم (¬8). ¬

_ = (13/ 20). وانظر: "سنن البيهقي" (3/ 363). وأوله محفوظ في حديث أنس مرفوعًا. أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الفتن): باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌّ منه، (13/ 19 - 20/ رقم 7068)، وغيره بسنده إلى الزبير بن عدي؛ قال: "أتينا أنس بن مالك؛ فشكونا إليه ما يلقون من الحجاج؛ فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده أشرُّ منه، حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيِّكم -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬1) هذه الزيادة عند ابن وضاح وأبي عمرو الداني وغيرهما. و"يثلم: بمعنى ينكسر، والمقصود: اندراسه" (ط) وفي (ح): "أي يكسر، وهو كناية عن اندراسه"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). وفي (ك): "وسيهدم" وفي (ق): "فيهدم". (¬2) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2010) من طريق ابن أبي شيبة به، ومجالد ضعيف. (¬3) في (ق): "فضيل". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2011)، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" (ص 138) من طريق سنيد بن داود، لكنه قال: عن الربيع بن خيثم أنه قال: يا عبد اللَّه. . . وسنيد هذا ضعيف. (¬8) رواه الطبراني في "الكبير" (9/ 109 رقم 8550، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" =

قول عثمان بن عفان [-رضي الله عنه-] [في (ذم) الرأي]

وصح عنه في الْمُفَوِّضَة (¬1) أنه قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسولُه بريء [منه] (¬2). قول عثمان بن عفان [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) [في (ذم) الرأي] (¬4) قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عَبَّاد، عن عبد اللَّه (¬5) بن الزبير قال: أنا واللَّه مع عثمان بن عفان بالْجُحْفَة إذ قال عثمان وذُكِرَ له التمتع بالعمرة إلى الحج: أتموا الحجَّ وأخلصوه (¬6) في أشهر الحج، فلو أخرَّتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيتَ زورتين كان أفضل؛ فإن اللَّه قد أوْسَعَ في الخير، فقال له علي (¬7): عمدت إلى سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورُخْصَة رَخّصَ اللَّه للعباد بها في كتابه (¬8) تُضَيِّقُ عليهم فيها وتنهى عنها، [وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار] (¬9)، ثم أهلّ علي بعمرة وحج معًا، فأقبل عثمان بن عفان [-رضي اللَّه عنه-] (3) على الناس فقال: أَنَهَيْتَ عنها؟ إني لم أنهَ عنها، إنما كان رأيًا أشرتُ به، فمن شاء أخَذَه ومن شاء تركهُ (¬10). ¬

_ = (رقم 278) من هذا الطريق، وفيه أبو يزيد وهي كنية جابر الجعفي، ووقعت في جميع النسخ من "الإعلام" أبو زيد!! قال الهيثمي (1/ 180): "والشعبي لم يسمع من ابن مسعود، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف". ورواه الطبراني (9081) من طريق يحيى الحماني عن قيس عن جابر الجعفي عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود وهذا إسناد متصل لكن فيه الجعفي وهو ضعيف ويحيى الحماني وهو متهم بسرقة الحديث. وورد نحوه عن ابن عباس عند الهروي في "ذم الكلام" (رقم 273). (¬1) "التفويض في النكاح": التزويج بلا مهر (د) و (ح) و (ط)، ونحوه في (و). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (و)، وفي (ق) و (ك): "منه برئ". والأثر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (10898) عن علقمة عن ابن مسعود. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين من (و) و (ط) و (ق)، وما بين القوسين زيادة (ط) عليها. (¬5) كذا في (ق): "عبد اللَّه" وهو الصواب، لأن يحيى هذا هو ابن عباد بن عبد اللَّه بن الزبير، يروي عن أبيه وعن جده، كما في "التهذيب"، وهو في الثقات، وفي سائر النسخ: "عبيد اللَّه"!! (¬6) في (ق): "فأخلصوه". (¬7) زاد هنا في (ق) و (ك): "الحمد للَّه". (¬8) في (ق): "رخص للعباد فيها في كتابه" ومثلها في (ك) إلا أنه قال: "رخص اللَّه للعباد". (¬9) في (ق): "فكانت لذي الحاجة والنائي الدار". (¬10) اختلاف عثمان ثابت بغير هذا السياق في "صحيح البخاري" في (كتاب الحج): باب التمتع والقران والإفراد في الجج (1563 و 1569).

قول علي بن أبي طالب [-رضي الله عنه-] [في (ذم) الرأي]

فهذا عثمان يخبر عن رأيه أنه ليس بلازم للأمة الأخذُ به [بل مَنْ شاء أخذ به] (¬1) ومن شاء تركه، بخلاف سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنه لا يَسَعُ أحدًا تركها، لقول أحد كائنًا (¬2) من كان. قول علي بن أبي طالب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) [في (ذم) الرأي] (¬4) قال أبو داود: حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء: ثنا حفص بن غِيَاث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق [السَّبيعي] (3)، عن عبدِ خَيْر، عن علي [-رضي اللَّه عنه -] (3) أنه قال: لو كان الدينُ بالرأي لكان أسْفَلُ الْخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه (¬5). قول عبد اللَّه بن عباس [-رضي اللَّه عنه -] (3) [في (ذم) الرأي] (4) قال ابن وهب: أخبرني بِشْر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عَبْدَة بن أبي لُبَابة، عن ابن عباس أنه قال: مَنْ أحدث رأيا ليس في كتاب اللَّه ولم تَمْضِ به سنة [من] (3) ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (و) بياض وسقط من (ق). (¬2) في (ق): "كائن". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين من (و) و (ط)، وما بين القوسين زيادة (ط) عليهما. (¬5) هو في "سنن أبي داود" (162) و (164) في (الطهارة): باب المسح على الخفين، ورواه بهذا اللفظ -أيضًا- ابن أبي شيبة (1/ 181) -ومن طريقه الهروي في "ذم الكلام" (2/ 106 - 107) - والدارقطني (1/ 199، 204) وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 111) والبيهقي (1/ 292). وفي "المدخل" (219)، والبغوي (239)، من طريق حفص بن غياث به. وتابع حفصًا: وكيع، عند ابن أبي شيبة (1/ 19) وأحمد (1/ 95) وابنه (1/ 114، 124)، وأبي يعلى (346، 613) ومحاضر، عند: أبي ذر الهروي في "ذم الكلام" (2/ 106 رقم 262). ويزيد بن عبد العزيز، عند: أبي داود (163) ومن طريقه البيهقي (2/ 292)، وعيسى بن يونس، عند النسائي في "االكبرى" -كما في "التحفة" (7/ 419) - وابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (56) -ومن طريقه الذهبي في "السير" (13/ 300) - وابن حزم في "المحلى" (2/ 56). وتوبع الأعمش، فرواه عن أبي إسحاق ابنه يونس، كما عند: أحمد (1/ 148)، والدارمي (1/ 181)، والبيهقي (1/ 292)، وأبي نعيم (8/ 190)، ورواه إبراهيم بن طهمان أيضًا، عن أبي إسحاق، عند البيهقي (1/ 292) ورواه عن عبد خير، ابنه قيل اسمه المسيب أفاده أبو ذر الهروي -عند الحميدي (47) - ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 149)، والهروي في "ذم الكلام " (263)، والشافعي في "الأم" (7/ 151). =

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يدر على ما هو منه إذا لقي اللَّه [عز وجل] (¬1). وقال عفان بن مسلم الصَّفَّار: ثنا عبد الرحمن بن زياد: حدثنا الحسن بن عمرو الفُقَيْمي، عن أبي فَزَارة قال: قال ابن عباس: إنما هو كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمن قال بعد ذلك برأيه؛ فلا أدْرِي أفِي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته (¬2). وقال عَبْدُ بن حُمَيد (¬3): حدثنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن ليث، عن بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (¬4). ¬

_ = وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائد المسند" (1/ 114/ 124)، وابن جرير في "التفسير" (6/ 82)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (122)، والهروي في "ذم الكلام" (2/ 107). ورواه شريك عن السُّدِّي عن عبد خير بنحوه، عند الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 35). قال الحافظ في "التلخيص" عن هذا الأثر (1/ 160): إسناده صحيح، وانظر مفصلًا "علل الدارقطني" (4/ 44). (¬1) رواه البيهقي في "المدخل" (190) من طريق أحمد بن عُبيد الصفار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ورواه الدارمي (1/ 57) والهروي في "ذم الكلام" (2/ 216 رقم 280) من طريق الأوزاعي، عن عبدة، عن ابن عباس؛ كما هو هنا. ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1402 و 2013) من طريق عفان -وفي جميع نسخ في "الإعلام" عثمان، وهو خطأ-، عن عبد الرحمن بن زياد به. وعبد الرحمن بن زياد: هو ابن أنعم الإفريقي ضعيف. وأبو فزارة راشد بن كيسان لم يدرك ابن عباس. (¬3) في (ق) و (ك): "عبد الرحمن بن حميد". (¬4) رواه الطبري (1/ 35) من طريق عبد بن حميد بهذا الإسناد وهو إسناد ضعيف لضعف ليث وهو ابن أبي سليم، ورواه من طريق عمرو بن قيس، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن ابن عباس وهو ضعيف أيضًا لضعف عبد الأعلى وهو ابن عامر الثعلبي وقد رُوي مرفوعًا أيضًا. رواه أحمد (1/ 233 و 269 و 323)، والترمذي (2950، 4023)، والنسائي في "الكبرى" (8085)، وأبو داود في "رواية ابن العبد" -كما في "تحفة الأشراف" (4/ 423) - والطبري (1/ 34)، والطبراني في "الكبير" (12392)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 799)، والبغوي (118) من طريق عبد الأعلى الثعلبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا، وحسنه الترمذي، وصححه ابن القطان، وفيه عبد الأعلى وهو ضعيف.

قول سهل بن حنيف (-رضي الله عنه-) [في ذم الرأي]

قول سهل بن حُنيف (-رضي اللَّه عنه-) [في ذم الرأي] (¬1) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا أبو عَوَانة، عن الأعمش، عن أبي وَائِل قال، قال سهل بن حُنَيْف: أيها الناس [اتهِمُوا رأيَكم (على دينكم)] (¬2)، لقد رأيتُني يومَ أبي جَنْدل، ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لرددته (¬3). قول عبد اللَّه بن عمر [في ذم الرأي] (¬4) (-رضي اللَّه عنه-) قال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار قال: أخبرني طاوس، عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان إذا لم يجد في الأمر يُسْأل عنه شيئًا قال: إن شئتم أخبرتكم بالظن (¬5). وقال البخاري: قال لي صدقة، عن الفضل بن موسى، عن موسى بن عُقبة، عن الضَّحاك، عن جابر بن زيد قال: لقيني ابنُ عمر فقال: يا جابر، إنك من فقَهَاء البصرة، وتُسْتَفْتَى فلا تفتيَنَّ إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من نسخة (ط) وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬2) في (ق) و (ك): "اتهموا آراءكم" وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الجزية والموادعة): باب منه، (6/ 281/ رقم 3181)، و (كتاب المغازي): باب غزوة الحديبية، (7/ 457/ رقم 4189)، و (كتاب التفسير): باب {يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، (8/ 587 /رقم 4844)، و (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، (13/ 282/ رقم 7307)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الجهاد والسير): باب صلح الحديبية في الحديبية، (3/ 1411 - 1412/ رقم 1785)، وأحمد في "المسند" (3/ 485)، والحميدي في "المسند" (رقم 404)، والبيهقي في "السنن" (9/ 222). (¬4) ما بين المعقوفتين من نسخة (ط) وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬5) ذكره ابن عبد البر في "جامعه" (1443 ص 777) كذا. قال: قال ابن وهب وسنده صحيح. (¬6) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 204). -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 540) - وسنده صحيح، رجاله كلهم ثقات. وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (12/ 63) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 86) من طريق آخر عن الفضل بن موسى به. وأخرجه الدارمي (2/ 161 رقم 171 - مع "فتح المنان")، والهروي في "ذم الكلام" (2/ 217 رقم 282) من طريق آخر عن الضحاك به. ووقع في (ق) و (ك): "صدقة بن الفضل".

قول زيد بن ثابت (-رضي الله عنه-) [في ذم الرأي]

وقال مالك، عن نافع عنه: العلم ثَلَاث: كتاب ناطق (¬1)، وسنة ماضية، ولا أدري (¬2). قول زيد بن ثابت (-رضي اللَّه عنه-) [في ذم الرأي] (¬3) قال البخاري: حدثنا سُنيد بن داود: ثنا يحيى بن زكريا مولى ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن (¬4) أبي خالد، عن الشَّعبي، قال: أتَى زيدَ بن ثابت قومٌ، فسألوه عن أشياء، فأخبرهم بها، فكتبوها ثم قالوا: [لو] أخبرناه، قال: فأتوه فأخبروه، فقال: أعذرًا لعل كل شيء حدثتكم خطأ، إنما اجتهدتُ لكم رأيي (¬5). قول مُعَاذ بن جبل (-رضي اللَّه عنه-) [في ذم الرأي] (¬6) قال حماد بن سلمة: ثنا أيوبُ السِّخْتِيَاني، عن أبي قلابة، عن يزيد بن عَميرة (¬7) عن مُعَاذ بن جبل قال: تكونُ فِتَنٌ فيكثر فيها المال، ويُفتح القرآن حتى ¬

_ (¬1) في المطبوع: "كتاب اللَّه الناطق". (¬2) رواه الطبراني في "الأوسط" (1005) من طريق إبراهيم بن المنذر، حدثنا عمر بن الحصين، قال: حدثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 172): "وفيه حصين غير منسوب، رواه عن مالك بن أنس وروى عنه إبراهيم بن المنذر ولم أر من ترجمه". كذا قال: والموجود "عمر بن الحصين" واستظهر محقق "جامع بيان العلم" أنه عمرو بن الحصين المتروك!! ولعله هو فهو في نفس الطبقة، ثم وجدتُ رشيد الدين العطار ذكره في كتابه "مجرد أسماء الرواة عن مالك" (ص 317 رقم 1308) في ترجمة (عمر بن حفص أبو حفص العبدي) وهذا قال عنه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 344): "كان ضعيفًا عندهم في الحديث، كتبوا عنه، وتركوه، وما يؤخذ من التنصيص مقدم على ما يؤخذ بالاجتهاد والاستنباط. وتابعه أبو حذافة عن مالك به، عَلَّقه ابن عبد البر (1387)، وأبو حذافة هذا روايته "للموطأ" صحيحة، وخَلَّط في غيرها وهو أحمد بن إسماعيل بن محمد. ورواه ابن عبد البر (1387) (ص 753) من طريق آخر فيه راويان ضعيفان. (¬3) ما بين المعقوفتين من نسخة (ط) وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬4) في الأصول: "ابن خالد"، وفي هامش (ق): "لعله: ابن أبي". (¬5) رواه من طريقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2069) (ص 1068) وسنيد ضعيف، وما بين المعقوفتين سقط من (ك) وفي المطبوع: "اجتهدت لكم برأيي". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ط) و (ك) و (ق) وما بين الهلالين أيضًا سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "بن أبي عميرة"!! والصواب حذف "أبي" انظر: "تالي تلخيص المتشابه" للخطيب (2/ 496)، وتعليقي عليه.

قول أبي موسى الأشعري [في ذم الرأي]

يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن، فيقرؤه الرجلُ فلا يُتَّبع، فيقول: واللَّه لأقرأنَّهُ عَلَانيةً، فيقرؤه علانية فلا يتبع، فيتخذ مسجدًا، ويبتدع كلامًا ليس من كتاب اللَّه ولا من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإيَّاكم وإيَّاه؛ فإنه بِدْعَة وضلالة، قاله معاذ ثلاث مرات (¬1). قول أبي موسى الأشعري [في ذم الرأي] (¬2) قال البغوي: ثنا الحجَّاجُ بن المِنْهَال: ثنا حماد بن سلمة، عن حُميد، عن أبي رجاء العُطَارِدي قال: قال أبو موسى الأشعري: مَنْ كان عنده علم فَلْيُعَلِّمه الناسَ، وإن لم يعلم فلا يقولَنَّ ما ليس له به علم، فيكونَ من المتكلفين ويَمْرُقَ من الدين (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (4/ 466)، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (رقم 63) عن حماد بن سلمة به، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وهو كما قال. وأخرجه التيمي في في "الحجة" (1/ 303 - 304)، واللالكائي في "السنة" (1/ 89 - رقم 117) عن حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة عن معاذ بنحوه، وأسقط (يزيد بن عميرة). وأخرجه أبو عمرو الداني في "الفتن" (رقم 284) عن عبيد اللَّه بن عمر، والهروي في "ذم الكلام" (ص 187) عن محمد بن عبد الرحمن الطفاوي كلاهما عن أيوب به مختصرًا. وذكر الطفاوي وصية معاذ ليزيد بن عميرة، كوصية مالك بن يخامر المتقدمة تحت عنوان (أعظم الصحابة علمًا). وأخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 67 أو رقم 205)، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" (ص 187) عن مروان بن محمد، حدثنا سعيد -وهو ابن عبد العزيز-، عن ربيعة بن يزيد، عن معاذ به. وإسناده منقطع، ربيعة لم يرو إلا عن متأخري الصحابة، ومعاذ مات سنة (17) أو (18)، فهو لم يدركه، واللَّه أعلم. وسعيد بن عبد العزيز اختلط. وللأثر طريق أخرى صحيحة، ستأتي، انظر (1/ 194 - 195 و 2/ 455). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ط). (¬3) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 109 - 110) أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء العجلي، حدثنا حميد الطويل، عن أبي رجاء عن أبي المهلب، قال: سمعت أبا موسى على منبره وهو يقول: وذكره. وإسناده حسن، رجاله كلهم ثقات غير عبد الوهاب وهو صدوق، وأبو المهلب هو الجرمي. ولم يعزه في "الدر المنثور" (7/ 209) إلا لابن سعد.

قول معاوية بن أبي سفيان [في ذم الرأي -رضي الله عنه-]

قول معاوية بن أبي سفيان [في ذم الرأي -رضي اللَّه عنه-] (¬1) قال البخاري: حدثنا أبو اليَمَان: ثنا شُعيب، عن الزهري قال: "كان محمدُ بن جُبَير بن مُطَعم يحدث أنه كان عند معاوية في وَفْدِ من قريش، فقام معاوية فحمِدَ اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنه قد بَلَغني أن رجالًا فيكم يتحدثون بأحاديثَ ليست في كتاب اللَّه، ولا تُؤْثَر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأولئكم جُهَّالكم (¬2). [إخراج الصحابة الرأي من العلم] فهؤلاء من الصَّحابة: أبو بكر الصِّدِّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدُ اللَّه بن مسعود، وعبدُ اللَّه بن عباس، وعبدُ اللَّه بن عُمَر، وزيدُ بن ثابت، وسهلُ بن حُنَيْف، ومُعَاذ بن جبل، ومعاويةُ خالُ المؤمنين (¬3)، وأبو موسى الأشعري يُخْرِجُونَ الرأيَ عن العلم، ويذمونه، ويحذرون منه، وَيَنْهَونَ عن الفُتْيَا به، ومن اضْطُر منهم إليه أخبَر أنه ظن، وأنه ليس على ثقةٍ منه، وأنه يجوز أن يكون منه ومن الشيطان، وأن اللَّه ورسوله برئ منه، وأن غايته أن يَسُوغ الأخذُ به عند الضرورة من غير لزوم لاتباعه ولا للعمل به، فهل يوجد عن (¬4) أحد منهم قَطُّ أنه جَعَلَ رأي رجل بعينه دينًا تُتْرَكُ له السنن الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُبَدَّع ويُضَلَّل مَنْ خالفه إلى اتباع السنن؟ فهؤلاء بَرْكُ (¬5) الإسلام، وعصابة الإيمان، وأئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأنْصَحُ الأئمة للأمة، وأعلمهم بالأحكام وأدلتها، وأفْقَهُهُمْ في دين اللَّه، وأعمقهم علمًا، وأقلّهم تكلفًا، وعليهم دارت الفتيا، وعنهم انتشر العلم، وأصحابُهم هم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ط). (¬2) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب المناقب): باب مناقب قريش (3500)، و (كتاب الأحكام): باب الأمراء من قريش (7139). (¬3) "لأن أخته أم حبيبة [زوج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] فهي، أم المؤمنين؛ فهو خالهم" اهـ. كذا في (ط)، (د)، (ح)، ونحوه في (و)، وما بين المعقوفتين زيادة (ط) عليهم. (¬4) في المطبوع: "فهل تجد من". (¬5) "بفتح الباء وسكون الراء - أي: صدر الإسلام" (د) و (ح)، ونحوه في (ط). وقال (و): "الجماعة من الأشراف". ووقع في (ق): "نزك الإسلام"!! والصواب ما أثبتناه.

فصل [تأويل ما روي عن الصحابة من الأخذ بالرأي]

فقهاء الأمة، ومنهم مَنْ كان مُقيمًا بالكوفة كعلي وابن مسعود، وبالمدينة كعمر بن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت، وبالبَصْرَة كأبي موسى الأشعري، وبالشام كمُعَاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان، وبمكة كعبد اللَّه بن عباس، وبمصر كعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعن هذه الأمصار انتشر العلم في الآفاق، وأكثر مَنْ رُوي عنه التحذير من الرأي مَنْ كان بالكوفة إرهاصًا بين يَدَيْ ما عَلِم اللَّه [سبحانه] (¬1) أنه يحدث فيها بعدهم] (¬2). فصل [تأويل ما روي عن الصحابة من الأخذ بالرأي] قال أهل الرأي: وهؤلاء الصحابةُ ومَنْ بعدهم من التابعين والأئمة -وإن ذَمُّوا الرأيَ، وحَذّروا منه، ونَهَوْا عن الفتيا والقضاء به، وأخرجوه من (¬3) جملة العلم- فقد رُوي عن كثير منهم الفُتْيَا والقضاء به، والدلالة عليه، والاستدلال به، كقول عبد اللَّه بن مسعود في المُفَوِّضة (¬4): أقول فيها برأيي (¬5)، [وقول عمر بن الخطاب لكاتبه: قل: هذا ما رأى عمر بن الخطاب (¬6)، وقول عثمان بن عفان في الأمر بإفراد العُمْرَة عن الحج: إنما هو رأيٌ رأيته (¬7)، وقول علي في أمَّهات الأولاد: اتفق رأيي ورأيُ عمر على أن لا يُبَعْنَ (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) من قوله: في "صحيح البخاري" في صفحة (95) إلى هنا بدله في (ن): "ثم ذكر -رحمه اللَّه- في الأحاديث المرفوعة والموقوفة ما يصرح بذم الرأي وتكلف القول بلا علم، والتغلبظ على فاعله، إلى أن قال:. . .". (¬3) في (ق): "عن". (¬4) "التفويض في النكاح: التزويج بلا مهر" (ط)، ووقع في هامش (ق) زيادة "به" قبل "في المفوضة". (¬5) سبق تخريجه. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) سبق تخريجه. (¬8) رواه الشافعي في "الأم" (7/ 162)، وسعيد بن منصور في "السنن" (رقم 2046 - 2048 - ط الأعظمي)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 436) وابن شبة في "تاريخ المدينة" (2/ 729 - 730)، والفسوي في "المعرفة" (1/ 442)، والدولابي في "الكنى" (2/ 113)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 343، 348، و"المدخل" (رقم 86)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1616)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 64) وابن حزم في في "المحلى" (9/ 217)، من طرق عن عبيدة، عن علي، وإسناده صحيح. ووقع في (ق): "على ألا يبعثن".

[طريقة أبي بكر وعمر في الحكم على ما يرد عليهما]

وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شُرَيح: إذا وَجَدْتَ شيئًا في كتاب اللَّه فاقْض به، ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب اللَّه فاقْضِ بما سنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن أتاك ما ليس في كتاب اللَّه [ولم يَسُنَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاقضِ بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب اللَّه ولا] (¬1) سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئتَ أن تجتهد رأيَكَ فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخرَ إلا خيرًا لك، ذكره سفيان الثوري، عن الشَّيْبانيّ، عن الشعبي، عن شُرَيْح أن عمر كتب إليه (¬2). [طريقة أبي بكر وعمر في الحكم على ما يرد عليهما] وقال أبو عُبيد في كتاب "القضاء": ثنا كَثير بن هِشَام، عن جعفر بن بُرْقَان، عن مَيْمون بن مَهْران قال: كان أبو بكر الصِّدِّيق إذا ورَدَ عليه حكمٌ؛ نَظَرَ في كتاب اللَّه تعالى، فإن وَجَد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب اللَّه نَظَر في سنة رسول اللَّه -رضي اللَّه عنه- فإن وَجَد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناسَ: هل علمتم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القومُ فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سُنَّةً سَنَّها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به (¬3). وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجدَ ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر [فيه] (¬4) قَضاءٌ قضى به، وإلا جَمَعَ علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق): "ولم يسن فيه رسول اللَّه". (¬2) الأثر صحيح، وسيأتي تخريجه قريبًا. (¬3) رواه الدارمي في "سننه" (1/ 58) من طريق زهير بن معاوية، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 114) من طريق عمر بن أيوب، كلاهما عن جعفر بن برقان به نحوه، ورجاله ثقات إلا أن ميمون بن مهران لم يدرك أبا بكر، وكان يرسل. ووقع في (ق): "فإذا أعياه ذلك". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬5) أخرجه بنحوه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (193)، والخليلي في "الإرشاد" (1/ 309)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 106 - ط القديمة)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 803)، وذكره الذهبي في "السير" (8/ 372 - 373).

[طريقة ابن مسعود]

[طريقة ابن مسعود] وقال أبو عبيد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال: أكثروا عليه ذاتَ يوم فقال: إنه قد أتى علينا زمان وَلَسْنَا نقضي (¬1)، ولسنا هناك، ثم إن اللَّه بلَّغَنا ما ترون، فمن عُرِضَ عليه قضاء بعد اليوم فَلْيَقْضِ بما في كتاب اللَّه، فإن جاءه أمر ليس في كتاب اللَّه ولا قَضَى به نبيه (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم-[فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب اللَّه ولا قضى به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقل: إنّي أرى، وإني أخاف؛ فإن الحلال بَيِّنٌ والحرام بيِّن، وبين ذلك مشتبهات (¬4)، فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يريبك (¬5). وقال محمد بن جَرير الطَّبري: حدثني يعقوب بن إبراهيم: أنا هُشَيْم: أنا سَيَّار، عن الشَّعْبي قال: لما بعث عمر شُرَيْحًا على قضاء الكوفة قال [له]: انْظُرْ ما يتبين لك في كتاب اللَّه فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب اللَّه فاتبع فيه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك (¬6). ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "نفتي". (¬2) في (ق): "رسول اللَّه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ك): "شبهات". (¬5) أخرجه النسائي في "سننه" (8/ 230)، والدارمي (1/ 61)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 241)، والدارقطني في "العلل" (5/ 211)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9/ 210 رقم 892)، ووكيع في "أخبار القصاة" (1/ 76). والبيهقي (10/ 115)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 200 - 201)، وابن بشران في "أماليه" (رقم 1111)، وابن عبد البر (1597)، وأبو ذر الهروي في "ذم الكلام" (2/ 204 رقم 361 - طـ مكتبة العلوم والحكم)، وأبو العباس الطبري في "أدب القاضي" (1/ 84 - 85 رقم 20)، وابن حزم في "الإحكام" (5/ 205) من طريق الأعمش به. وجعل بعضهم (حريث بن ظهير) بدل (عبد الرحمن بن يزيد) وقرنهما بعضهم، وقال النسائي: "هذا الحديث جيد جيد"، ورجاله كلهم ثقات. وهو عند ابن أبي شببة وابن بشران من طريق أبي معاوية به. (¬6) أخرجه بهذا اللفظ -أيضًا- ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 848 / رقم 1598)، وأخرجه النسائي في "المجتبى" (كتاب آداب القضاة): باب الحكم باتفاق أهل العلم، (8/ 231) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (رقم 133) - والدارمي في "سننه" (1/ 60)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 241 - ط دار الفكر) -ومن طريقه ابن أبي عاصم- كما في "مسند الفاروق" (2/ 548)، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (رقم 134) - وسعيد بن منصور -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (10/ 110) -، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 99)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 846/ رقم 1595، =

[من قياس الصحابة]

[من قياس الصحابة] وفي كتاب عمر إلى أبي موسى: "اعْرِفِ الأشبَاهَ والأمثال، وقِسِ الأمور" (¬1). وقايَسَ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في المكاتَبِ (¬2)، وقايسه في الجدِّ والإخوة؛ فشَبَّهه عليٌّ بسيلٍ انشعبت منه شُعْبة، ثم انشعبت من الشعبة شعبتان (¬3)، وقايسه (¬4) زيد على شجرة انشعب منها غُصْن، وانشعب من الغصن غصنان (¬5). وقولهما في الجد: إنه لا يحجب الإخوة (¬6)، وقاس ابنُ عباس الأضراس ¬

_ = 1596)، ووكيع في "أخبار القضاة" (2/ 189 - 190)، وابن حزم في "الإحكام" (5/ 206 و 6/ 29 - 30)، والبيهقي (10/ 115) من طرق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر -رضي اللَّه عنه- يسأله فكتب إليه، وذكروه بألفاظ متقاربة، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخُبر الخَبر" (1/ 120)، وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 548) لأبي يعلى، وفي (ق) و (ك): "ما لم يبن" بدل "ما لم يتبين" و"ما لم يبن لك في السنة" وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬1) هذه العبارة جزء من كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- أخرجه الدارقطني في "السنن" (4/ 206، 207)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 150)، وأيضًا في "معرفة السنن والآثار" (14/ 240)، وقال: "وهو كتاب معروف مشهور لا بد للقضاة من معرفته والعمل به" اهـ. قلت: والكتاب صحيح ثابت، سيأتي تخريجه مسهبًا إن شاء اللَّه تعالى. (¬2) انظر: "مصنف عبد الرزاق" (7/ 342 و 8/ 391، 395، 406 - 407)، "شرح معاني الآثار" (2/ 113)، "سنن البيهقي" (10/ 331)، "المحلى" (6/ 137 و 9/ 33، 241)، و"الآثار" (رقم 860) لأبي يوسف، "الإشراف" لابن المنذر (1/ 349، 356)، "تفسير القرطبي" (12/ 254). وفي (ك) و (ق): سقطت "الواو" من "وزيد". (¬3) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (19058)، والبيهقي في "السنن" (6/ 247) من طريق الثوري، عن عيسى المدني، عن الشعبي قال: "كان من رأي أبي بكر وعمر. . ." فذكره. لكن في "مصنف عبد الرزاق" قال في سياق القصة: "قال الثوري: وبلغني أنه قال له: يا أمير المؤمنين. . . وبلغني أن عليًا حين سأله عمر. . .". أما في "سنن البيهقي" فهو عنده موصول إلى الشعبي، والشعبي لم يدرك زمان عمر. ورواه الحاكم (4/ 339)، وليس فيه هذا التفصيل إذ أنه ذكر السيل فقط من طريق ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب. .، وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. (¬4) في (ق): "وقاسه". (¬5) هو تابع لسابقه؛ إذ هما في نفس القصة والسياق. (¬6) سيأتي تخريجه.

[حال ابن مسعود]

بالأصابع، وقال: اعتبرها بها (¬1)؛ وسئل عليٌّ (-رضي اللَّه عنه-) عن مَسِيره إلى صِفِّين: هل كان بعهدٍ عَهِدهُ إليه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أم رأْي رآه؟ قال: بل رأي رأيته (¬2). وقال عبد اللَّه بن مسعود وقد سئل عن المفوضة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسوله منه بريء (¬3). [حال ابن مسعود] وقال ابنُ أبي خَيْثَمة: ثنا أبي: ثنا محمد بن خَازِم (¬4)، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: مَنْ عَرَضَ له منكم قضاء فَلْيَقْضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فَلْيَقْضِ بما قضى فيه نبيُّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن جاءَهُ أمرٌ ليس في كتاب اللَّه ولم يَقْضِ فيه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلْيَقْضِ بما قضى به الصالحون، فإن جاءَهُ أمر ليس في كتاب اللَّه ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه، فإن لم يُحْسِن فَلْيَقُم ولا يستحيي (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 862)، ومن طريقه عبد الرزاق (17495)، والشافعي في "مسنده" (2/ 111)، والبيهقي في "سننه" (8/ 90). عن داود بن الحُصين أن أبا غطفان بن طريف المُزِّيّ أخبره أن مروان بن الحكم أرسله إلى ابن عباس وإسناده صحيح. وفي (ق): "اعتبروها بها". (¬2) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (11/ 449 رقم 25971)، وأحمد في "السنة" (رقم 1194، 1196)، وفي "مسنده" (1/ 122، 142، 148)، وابنه عبد اللَّه في "زياداته على السنة" (رقم 1195)، وأبو داود (4666) في "السنة": باب ما يدل على ترك الكلام في الفتنة، وأبو عبيد في "الأموال" (رقم 495)، والخطابي في "الغريب" (1/ 633)، والخطيب في "الموضح" (1/ 393)، والبيهقي (8/ 193)، وابن حزم (10/ 353) من طريق إسماعيل ابن عُلَيَّة، عن يونس، عن الحسن، عن قيس بن عباد قال: قلت لعلي. وإسناده صحيح. ورواه أحمد (1/ 142 - 143) من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن الحسن، عن قيس بن عباد به مطولًا. وعلي هذا ضعيف. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) سبق تخريجه، وفي (ق): "منه برءاء". (¬4) في (ق) و (ك): "حازم". (¬5) أخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 59)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 848 - 849/ رقم 1599) -والمذكور لفظه-، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخُبر الخَبر" (1/ 119). وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (10/ 115) من طريق آخر عن ابن مسعود. وفي المطبوع: "فإن جاء أمر". وفي (ك) و (ق): بدل من "ولم يقضِ فيه" "ولم يقضِ به" وفي (ق): "يستحي".

[حال ابن عباس]

[حال ابن عباس] وذكر سفيان بن عُيَيْنَة، عن عُبيد اللَّه بن أبي يزيد (¬1) قال: سمعت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب اللَّه قال به، وإن لم يكن في كتاب اللَّه وكان عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال به، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان عن أبي بكر وعمر قال به، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه (¬2). [حال أبيّ بن كعب] وقال ابن أبي خَيْثمة: حدثني أبي: ثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سُفيان، عن عبد الملك بن أبْجَر (¬3)، عن الشعبي، عن مسروق قال: سألتُ أبيَّ بن كعب عن شيء فقال: أكان هذا؟ قلت: لا، قال: فأجِمَّنَا (¬4) حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا (¬5). [جملة من أخذ من الصحابة بالرأي] قال أبو عمر بن عبد البر: وروينا عن ابن عباس أنه أرسل إلى زيد بن ثابت: أفي كتاب اللَّه ثُلُثُ ما بقي؟ فقال: أنا أقول برأيي وتقول برأيك (¬6). ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "عبد اللَّه بن يزيد". (¬2) أخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 59)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 242)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 366)، والحاكم (1/ 127)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 115)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 202 - 203 رقم 1600، 1601، 1602)، وابن حزم في "الإحكام" (5/ 206 و 6/ 28 - 29)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 849 - 850/ رقم 1600، 1601، 1602) من طريق سفيان بن عيينة عن، عُبيد اللَّه بن أبي يزيد؛ قال: سمعت ابن عباس: إذا سئل. . . به. وإسناده صحيح، وصححه البيهقي، وانظر "نصب الراية" (4/ 64). (¬3) في (ق) و (ك): "عبد الملك بن الحارث". (¬4) "من الإجمام، أي: اتركنا وأرحنا"، (د) و (ح) و (ط)، ونحوه في (و). (¬5) رواه الدارمي في "السنن" (2/ 132 رقم 157 - مع "فتح المنان")، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (3/ 499)، وأبو خيثمة في "العلم" (رقم: 76)، ومن طريقه ابن عبد البر (1604)، وإسناده صحيح، ورواه ابن بطة في "الإبانة" (315) و (316) من طريق سفيان به. (¬6) هو في "الجامع" برقم (1605) دون سند.

وعن ابن عمر أنه سئل عن شيء فَعَلَهُ: أرأيتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعل هذا أو شيء رأيته؟ قال: بل شيء رأيته (¬1). وعن أبي هريرة أنه كان إذا قال في شيء برأيه قال: هذه من كِيسِي، ذكره ابن وهْبَ، عن سُليمان بن بلال، عن كثير بن زَيْد، عن وليد بن رَبَاح (¬2) عن أبي هريرة (¬3). وكان أبو الدرداء يقول: إيَّاكم وفِرَاسَةَ العلماء (¬4)، احذروا أن يشهدوا عليكم شهادَةً تكُبُّكُمْ على وجوهكم في النار، فواللَّه إنه للحَقُّ يقذف اللَّه في قلوبهم (¬5). قلت: وأصل هذا في الترمذي (¬6) مرفوعًا: "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّه، ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر (1606) عنه من غير إسناد. (¬2) وفي (ك) و (ق): "هذا من كيسي" و"ابن أبي رباح" وزيادة "أبي" خطأ. (¬3) علقه عنه ابن عبد البر في "الجامع" (1607)، وإسناد ابن وهب حسن، كثير بن زيد هو الأسلمي، فيه كلام، ووليد بن رباح قال البخاري: حسن الحديث وقال أبو حاتم: صالح. وروى البخاري (5355) في (النفقات) حديثًا ثم زاد فيه أبو هريرة كلامًا فقالوا: يا أبا هريرة، سمعت هذا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: لا، هذا من كيس أبي هريرة. وروى أحمد في "مسنده" (2/ 299) حديثًا -أيضًا- ثم قال أبو هريرة: "هذه من كيسي". (¬4) "الفراسة -بالكسر-: الاسم من قولك: تفرست فيه خيرًا" و"هو يتفرس" أي: "يتثبت وينظر" (د) و (ط) و (ح). (¬5) ذكره ابن عبد البر (1609) دون إسناد. وفي (ك): "بشهادة تكبُّكم". (¬6) رواه الترمذي (3127) في (التفسبر): باب ومن سورة الحجر، والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 354)، وابن جرير في "تفسيره" (14/ 46)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (7/ 2270 رقم 12427)، وأبو الشيخ في "الأمثال" رقم (127)، والعقيلي في "الضعفاء" (4/ 129)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 281 و 282)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 191 و 7/ 242)، من طريق عمرو بن قيس، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا به. قال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". قلت: فيه عطية العوفي وهو ضعيف. ثم أعله العقيلي بعلة أخرى حيث رواه من طريق سفيان عن عمرو بن قيس قال: كان يقال: اتقوا فراسة المؤمن. . . =

وقال أبو عمر: ثنا عبد الوارث بن سفيان: ثنا قاسم بن أصْبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخُشَنِي (¬1) ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البَرْقّي الشيخ الصالح: ثنا سُليمان بن يَزيع الإسكندراني: ثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن سعيد بن المسَيَّبِ، عن علي، قال: قلت: يا رسول اللَّه الأمر ينزل بنا لم يَنْزِل فيه القرآن، ولم تَمْضِ فيه منك سنة، قال: "اجْمَعُوا له ¬

_ = قال: وهذا أولى، ونحوه قال الخطيب في "تاريخ بغداد". والحديث له شواهد عن جمع من الصحابة، منها: حديث أبي أمامة: رواه الطبراني في "الكبير" (7497)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 118)، والقضاعي (663)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 99)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1523 و 6/ 2401)، وابن عبد البر في "الجامع" (1197) من طريق عبد اللَّه بن صالح عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عنه. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 268): "إسناده حسن". وقال السيوطي في "اللآلئ" (2/ 330): "فإنه بمفرده على شرط الحسن، وعبد اللَّه بن صالح لا بأس به". قلت: هذا الطريق في رواته كلام، وإليك التفصيل: راشد بن سعد ثقة كثير الإرسال، ومعاوية بن صالح: وثقه ابن معين، والعجلي، وابن حبان، وعبد الرحمن بن مهدي، وكان يحيى بن سعيد لا يرضاه. وقال ابن عدي: وما أرى بحديثه بأسًا وهو عندي صدوق. وأما عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث، فقد تكلموا فيه كثيرًا، وقد قال فيه ابن حجر في "هدي الساري": "إن حديثه في الأول كان مستقيمًا، ثم طرأ عليه فيه تخليط؛ فمقتضى ذلك: أن ما يجيء من رواينه عن أهل الحذق كيحيى بن معين، والبخاري، وأبي زرعة، وأبي حاتم؛ فهو صحيح حديثه، وما يجيء من رواية الشيوخ عنه فيتوقف فيه". وقال في "التقريب": "صدوق كثير الغلط، ثَبْتٌ في كتابه، وكانت فيه غفلة". أقول: وكلا القولين لابن حجر فيه نظر، نَعَم الرجل كان متماسكًا ثم فسد في آخر عمره، وما يدرينا أن هؤلاء رووا عنه من صحيح حديثه فقط؛ قد يكون البخاري -إن صح أنه أخرج له في الصحيح- ينتقي من حديثه لأنه يخرج له في "الصحيح" فهل كان ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم لا يروون عن الراوي إلا صحيح حديثه؟ وأما أنه ثبت في كتابه فهذه عبارة لاين معين، لكن يظهر من ترجمته أنه كان عنده غفلة، فيُدخل له أحاديث في كتبه ثم يرويها، وقد قال هذا ابن حبان وغيره. وعلى كل حال؛ فالإسناد هذا ضعفه مُحْتَمِل. والحديث له طرق أخرى؛ ولكنها كلها واهية شديدة الضعف، لا تصلح في المتابعات، انظرها مفصلة في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" (1821). (¬1) في (ق) و (ك): في "الحسني".

العالِمين (¬1) -أو قال: العابدين- من المؤمنين، فاجعلوه شُورى بينكم، ولا تَقْضُوا (¬2) فيه برأي واحد" (¬3). وهذا غريب جدًّا من حديث مالك، وابراهيم البَرْقي وسُليمان ليسا ممن يحتج بهما. وقال عمرُ لعلي وزيد: لولا رأيُكما لاجتمع رأيي ورأي أبي بكر، كيف يكون ابني ولا أكون أباه؟ يعني الجد (¬4). وعن عمر أنه لقي رجلًا فقال: ما صنعت؟ قال: قضى عليٌّ وزيدٌ بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردُّك إلى كتاب اللَّه أو [إلى] سنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- لفعلت، ولكني أردك إلى رأيٍ، والرأي مشترك (¬5). فلم يَنْقُضْ ما قال علي وزيد. وذكر الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن مسعود أنه قال: إن اللَّه اطَّلَعَ في قلوب العباد فرأى قلب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خير قلوب العباد؛ فاختاره لرسالته، ثم اطلع في قلوب العباد بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، فما ¬

_ (¬1) وقع في (ق): "ولم يمض" و (ق) و (ك): "الصالحين". (¬2) في (ق) و (ك): "ولا تفتوا". (¬3) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1611) و (1612)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 191 و 2/ 184). قال ابن عبد البر: "هذا حديث لا يعرف من حديث مالك؛ إلا بهذا الإسناد، ولا أصل له في حديث مالك عنده، واللَّه أعلم، ولا في حديث غيره، وابراهيم البَرْقي، وسليمان بن بزيع، ليسا بالقويين، ولا ممن يحتج بهما، ولا يعوَّل عليهما". ونقل الحافظ ابن حجر في "لسان الميزان" عن الدارقطني قوله في "غرائب مالك": "لا يصح، تفرد به إبراهيم بن أبي الفياض، عن سليمان، ومن دون مالك ضعيف، ونحوه نقل عن الخطيب في الرواة عن مالك". قلت: إبراهيم وسليمان ترجمهما في "الميزان"، ونقل عن ابن يونس قوله في الأول: روى عن أشهب مناكير، وفي الثاني: منكر الحديث. وسليمان جاء اسم أبيه في (ك): "ربيع"!! (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 247) من طريق الشعبي به وقال: هذا مرسل، الشعبي لم يدرك أيام عمر، غير أنه مرسل جيد. وذكره ابن عبد البر في "الجامع" (1613) دون إسناد. (¬5) ذكره ابن عبد البر هكذا دون إسناد (1614) (ص 854). وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

رآه المؤمنون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح (¬1). وقال ابن وهب عن ابن لَهِيعة: إن عمر بن عبد العزيز استعمل عُرْوَة بن محمد السَّعْدي على اليمن، وكان من صالحي عُمَّال عمر، وإنه كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء، فكتب إليه عمر: لَعَمْرِي، ما أنا بالنشيط على الفتيا وما وجدت منها بُدًّا، وما جعلتك إلا لتكفيني، وقد حَمَّلتك ذلك، فاقض فيه برأيك (¬2). [و] (¬3) قال محمد بن سعد: أخبرني رَوْح بن عُبادة: ثنا حماد بن سلمة، عن الجُرَيْري أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن: أرأيت ما تُفْتِي به الناس، أشيء سمعته أم برأيك؟ فقال الحسن: لا واللَّه ما كُلُّ ما نفتي به سمعناه، ولكنْ رأيُنَا لهم خير من رأيهم لأنفسهم (¬4). وقال محمد بن الحسن: مَنْ كان عالمًا بالكتاب والسنة وبقول أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وبما استحسن فقهاء المسلمين وَسِعَهُ أن يجتهد رأيه فيما يُبتلى به، ويقضي به، ويمضيه في صلاته وصيامه وحجِّه وجميع ما أُمِرَ به ونُهي عنه، فإذا ¬

_ (¬1) أخرجه الطيالسي في "المسند" (رقم 246)، وأحمد في "المسند" (رقم 3600 - ط شاكر) والطبراني في "الكبير" (9/ 18 رقم 8582، 8583، 8593)، والبزار في "مسنده" (رقم 130 - زوائده)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 78 - 79)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 377 - 378)، والبيهقي في "المدخل" (ص 8)، و"الاعتقاد" (ص 162)، والبغوي في "شرح السنة" (رقم 150) بأسانيد بعضها حسن، عن ابن مسعود موقوفًا، قال الزركشي في "المعتبر" (رقم 294): "لم يرد مرفوعًا، والمحفوظ وقفه على ابن مسعود". قلت: أخرج الخطيب في "تاريخه" (4/ 165) نحوه مرفوعًا، وفيه سليمان بن عمرو النخعي كذاب. قال المصنف في "الفروسية" (ص 298 - بتحقيقي) عنه: "إن هذا ليس من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، يضيفه إلى كلامه مَنْ لا عِلْم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود من قوله، ذكره الإمام أحمد وغيره موقوفًا عليه". (¬2) علقه من طريقه: ابن عبد البر (1617)، وابن لهيعة مات سنة 174 هـ، وقد ناف عن الثمانين، فيظهر أنه لم يدرك الحادثة، فهو منقطع. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات" (7/ 165)، من هذه الطريق، وذكره ابن عبد البر عن ابن سعد (1619، ص 856)، وإسناده صحيح، رواته كلهم ثقات والجُريري هو سعيد بن إياس اختلط، لكن رواية حماد بن سلمة عنه قبل الاختلاط.

فصل

اجتهد ونَظَرَ وقاس على ما أشبه ولم يألُ؛ وَسِعَهُ العمل بذلك، دفين أَخْطَأَ الذي ينبغي أن يقول به (¬1). فصل ولا تعارض بحمد اللَّه بين هذه الآثار، عن السادة الأخيار، بل كلها حق، وكل منها له وجه، وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطِلِ الذي ليس من الدين والرأي [الحق] (¬2) الذي لا مَنْدُوحة [عنه] (2) لأحد من المجتهدين، فنقول وباللَّه المستعان: [معنى الرأي] الرأي في الأصل مصدر رَأَى الشَيءَ، يَرَاهُ، رَأْيًا (¬3)، ثم غلب استعماله على المْرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول، كالهَوَى في الأصل مصدر هَوِيه يَهْوَاهُ هَوًى (¬4)، ثم استعمل في الشيء الذي يُهْوَى؛ فيقال: هذا هَوَى فلانٍ، والعرب تفرق بين مصادر فعل (الرؤية) بحسب محلها (¬5) فتقول: رأى كذا في النوم رُؤْيا، ورآه في اليقظة رؤيةً، ورأى كذا -لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين- رَأيًا، ولكنهم خَصُّوه بما يراه القلب بعد فِكْرٍ وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات؛ فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرًا غائبًا عنه مما يَحُسُّ به: إنه رأي (¬6)، ولا يقال أيضًا للأمر المَعْقُول الذي لا تختلف فيه العقولُ ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأي، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها (¬7). ¬

_ (¬1) ذكره ابن عبد البر (1622) هكذا بدون إسناد. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) راجع "لسان العرب" (3/ 1537 - 1545 - ط: دار المعارف) لابن منظور، و"القاموس المحيط" (1658 - ط: الرسالة) للفيروزأبادي، وانظر: "الرأي وأثره في مدرسة المدينة" (ص 31 - 38) للدكتور أبي بكر إسماعيل محمد ميقا. (¬4) في (ن): "مصدر عن هواه هوى". (¬5) في المطبوع و (ق) و (ك): "محالها". (¬6) وقع في (ق): "لا يقال" بدل "فلا يقال" وفي المطبوع: "إنه رأيه"، وفي (ن): "إنه رآه". (¬7) انظر في ذلك: "الكليات" لأبي البقاء الكفوي (2/ 293)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" (354) للمناوي، و"المفردات" للراغب (303)، و"مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه" (ص 7 - 8) لعبد الوهاب خلاف.

[الرأي على ثلاثة أنواع]

[الرأي على ثلاثة أنواع] فإذا عُرِف هذا فالرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه؛ والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح، وعملوا به وأفْتَوا به، وسَوَّغُوا القول به، وذمُّوا الباطل، ومنعوا من العمل [به] (¬1) والفتيا والقضاء به، [وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله. والقسم الثالث: سَوَّغوا العمل والفُتْيَا والقضاء به] (¬2) عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بُدٌّ، ولم يلزموا أحدًا العمل به، ولم يُحرِّموا مخالفته، ولا جعلوا مُخالِفَه مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خَيَّرُوا بين قبوله ورده؛ فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه، كما قال الإمام أحمد: سألت الشافعي عن القياس، فقال لي: عند الضرورة (¬3) وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة: لم يُفَرِّطُوا فيه ويُفَرِّعُوه ويُوَلِّدُوه ويُوَسِّعُوه كما صنع المتأخرون، بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار، وكان أسهل عليهم من حفظها، كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتَعَسُّر حفظه، فلم يتعدَّوا (¬4) في استعماله قدر الضرورة، ولم يَبْغُوا العدول (¬5) إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار؛ كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المُحَرَّم: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (¬6)} [البقرة: 173] فالباغي: الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصُّل إلى المُذَكَّى، والعادي: الذي يتعدَّى قدر الحاجة بأكلها. [الرأي الباطل وأنواعه] فالرأي الباطل أنواع: أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) ووقع في (ق): "سوغوا العمل به". (¬3) انظر: "الرسالة" للإمام الشافعي (ص 599 رقم 1817)، سؤال أحمد في كتاب الخلال، كما سبق عند المصنف. (¬4) في (ق) و (ك): "فلم يعدو". (¬5) في (ن) و (ق) و (ك): "بالعدول". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [الرأي المتضمن تعطيل الأسماء والصفات الإلهية]

فسادُه وبطلانه، ولا تحلُّ الفتيا به ولا القضاء، وإن (¬1) وقع فيه مَنْ وقع بنوع تأويلٍ وتقليد. النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرْص والظن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، فإنَّ مَنْ جهلها وقاسَ برأيه فيما سئل عنه بغير علم، بل لمجرد (¬2) قدر جامع بين الشَّيئين ألحق أحدهما بالآخر، أو لمجرد قدرٍ فارقٍ يراه بينهما، ففرق (¬3) بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار؛ فقد وقع في الرأي المذموم الباطل [فضلَّ وأضل] (¬4). فصل [الرأي المتضمن تعطيل الأسماء والصفات الإلهية] النوع الثالث (¬5): الرأيُ المتضمنُ تعطيلَ أسماءِ الربِّ وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهلُ البدع والضلال من الْجَهْمِيَّة والمُعْتَزلة والقَدَريَّة ومن ضَاهَاهُم، [حيث استعمل أهله قياساتِهِم الفاسدة وآراءَهم الباطلة وشُبَهَهَم الداحضة في رَدِّ النصوص الصحيحة الصريحة، فردوا لأَجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي [لم يجدوا] (¬6) إلى رَدِّ ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف [والتأويل] (¬7)، فانكروا لذلك رؤية المؤمنين رَبَّهم في الآخرة، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده، وأنكروا مباينته للعالم، واستواءه على عرشه، وعُلوَّهُ على المخلوقات، وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن والإنس عن تعلُّقِ قُدْرَتِه ومشيئته وتكوينه لها، ونَفَوْا لأجلها حَقائقَ ما أَخبرَ به عن نفسه وأَخبرَ به رسولُه (¬8) من صِفاتِ كَمالهِ ونُعوتِ جَلَاله؛ وحرَّفوا لأجلها النصوص عن مَواضِعِها، وأخرجوها عن معانيها [وحقائقها] (¬9) بالرأي ¬

_ (¬1) في (ق): "ولو". (¬2) في (ق): "بمجرد". (¬3) في المطبوع و (ق) و (ك): "يفرق". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬5) في (ك): "وأصل النوع الثالث" وفي (ق): "ويصل النوع الثالث المتضمن لتعطيل". (¬6) في (ق): "لا يجدون". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "وأخبرت رسله" وفي (ك): "وأخبرت به رسله". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[نشأة الفساد من تقديم الرأي والهوى على الوحي]

المجرد الذي حقيقته أنه زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار وعُفارة (¬1) الآراء ووساوس الصدور، فملأوا به الأوراق سَوَادًا، والقلوب شُكوكًا، والعالم فسادًا. [نشأة الفساد من تقديم الرأي والهوى على الوحي] وكل من له مسْكَة من عقل، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، و [لا] (¬2) في أمة إلا فسد أمرها أتمَّ الفساد] (¬3)، فلا إله إلا اللَّه كم نُفِيَ بهذه الآراء من حق، وأُثْبِتَ بها من باطل، وأميت بها من هدًى، وأحيي بها من ضلالة؟ [وكم هُدِمَ بها من مَعْقَل الإيمان (¬4)، وعُمِّر بها من دين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل (¬5) الآراء الذين لا سَمْعَ لهم ولا عَقْل، بل هم شرٌّ من الحُمُر (¬6)، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] (¬7). [النوع الرابع من الرأي] النوع الرابع: الرأي الذي أُحدثت به البدع، وغُيِّرت به السنن، وعمَّ به البلاء، وتربَّى عليه (¬8) الصغير، وهَرِمَ فيه الكبير. فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمَّة وأئمتها على ذمِّه وإخراجه من الدين. [النوع الخامس من الرأي] النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن أصحابه والتابعين [- رضي اللَّه عنهم-] (¬9) أنه ¬

_ (¬1) وكذا في (ك) وفي الهامش: "لعله عصارة" وفي (ق): "وعصارة"، ووقع في (ك): "ونخامة الأفكار". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) وفي (ك) و (ق): "إلا وفسد أمرها فساد". (¬4) في (ق): "للإيمان". (¬5) في (ق) بعدها: "هذه". (¬6) في (ق): "الحمير". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬8) في (ق) و (ك): "فربا فيه". (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في "الجامع": "هو"، ووقع في (ق): "وعن الصحابة"، وما بين المعقوفتين سقط منها.

[لعن من يسأل عما لم يكن]

القول في [أحكام] (¬1) شرائع الدين بالاستحسان والظُّنون، والاشتغال بحفظ المعْضِلات والأغلوطات، ورَدِّ الفروع [والنوازل] (¬2) بعضها على (¬3) بعضٍ قياسًا، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستُعْمِل فيها الرأي قبل أن [تنزل] (¬4)، وفُرِّعت وشُققت (¬5) قبل أن تقع، [وتُكّلِّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن] (¬6)، قالوا: وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن، والبعث على [جهلها] (¬7)، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب اللَّه [عز وجل] ومعانيه، واحتجوا (¬8) على [صحة] (¬9) ما ذهبوا إليه [من ذلك] (¬10) بأشياء. [لَعْنُ مَنْ يسأل عَمَّا لم يكن] ثم ذكر من طريق أسد بن موسى: ثنا شَرِيك عن لَيْث، عن طاوس، عن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن مَنْ سأل (¬11) عما لم يكن (¬12)، ثم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) ما بين المعقوفتين من مطبوع "جامع بيان العلم". (¬3) في (ن): "إلي". (¬4) في المطبوع من: "الإعلام": "ينزل" ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬5) في (ق): "وشقت". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في "الجامع" بدلها: "حملها" وأشار المحقق في الهامش إلى أنه في نسخة أخرى "جهلها". (¬8) سقطت من (ق). (¬9) في نسخ "الإعلام": "احتجوا" والواو من "الجامع" لابن عبد البر. (¬10) ما بين المعقوفتين من مطبوع "جامع بيان العلم". (¬11) في نسخ "الإعلام": "يسأل". (¬12) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 1054 - 1055/ رقم 5362) من طريق أسد بن موسى به. وإسناده ضعيف لضعف شريك وليث بن أبي سُليم. وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 7) عن شربك عن ليث عن نافع مولى ابن عمر به، وأخرجه أبو خيثمة في "العلم" (143) والخطيب (2/ 8) عن جرير عن ليث عن مجاهد بن جبر به. وأخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 47) -ومن طريقه البيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (رقم 293) -، وابن بطة في "الإبانة" (317)، وابن عبد البر في "الجامع" (2051، 2052) من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن طاوس قال: قال عمر وهو =

ذكر من طريق أبي داود: ثنا إبراهيم بن موسى الرَّازي (¬1): ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عبد اللَّه بن سعد، عن الصُّنابحي، عن معاوية [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الأُغُلُوطات (¬3). ¬

_ = على المنبر: "أحرِّج باللَّه على كل امرئ مسلم سأل عن شيء لم يكن؛ فإن اللَّه قد بين ما هو كائن". ورجاله ثقات؛ إلا أنه ضعيف لانقطاعه فإن طاوسًا لم يلق عمر. وأخرجه أبو خيثمة في "العلم" (رقم 125)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 2056) من طريق حبيب بن الشهيد، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (رقم 292) من طريق سفيان، كلاهما عن ابن طاوس عن طاوس؛ قال: قال عمر: لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن. . "، وإسناده منقطع كالذي قبله. وأخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 47) من طرق حماد بن يزيد المنقري -وفي مطبوعه: ابن زيد، وهو خطأ- عن أبيه، قال: جاء رجل يومًا إلى ابن عمر، فسأله عن شيء لا أدري ما هو، فقال له ابن عمر. . . (وذكره). وإسناده مقبول. وأشار إليه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 358). وأخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (712) من طريق يعلى بن عبيد عن أبي سِنان عن عمرو بن مُرَّة؛ قال: خرج عمر على الناس؛ فقال: "أُحرِّج عليكم أن تسألونا عما لم يكن. .". وإسناده ثقات؛ إلا أنه منقطع أيضًا، عمرو بن مرة لم يلق عمر. والأثر بمجموع هذه الطرق يدل على أن له أصلًا. وهناك شواهد كثيرة عن السلف تدل على كراهيتهم السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، تراها في مقدمة "سنن الدارمي" باب كراهية الفتيا، و"الفقيه والمتفقه" (2/ 7)، باب القول في السؤال عن الحوادث والكلام فيها قبل وقوعها، و"جامع بيان العلم" (2/ 1037 وما بعدها - ط ابن الجوزي)، باب ما جاء في ذم القول في دين اللَّه تعالى بالرأي والظن والقياس على غير أصل، وعيب الإكثار من المسائل دون اعتبار، و"المدخل إلى السنن الكبرى" (ص 218) وما بعدها، باب من كره المسألة عما لم يكن ولم ينزل به وحي، و"الآداب الشرعية" (2/ 76 - 79) لابن مفلح. وانظر في الكلام على هذا المسلك في الفقه وتأريخه والمقدار المحمود منه في: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 700)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 483)، و"جامع العلوم والحكم" (شرح الحديث التاسع 1/ 243)، و"الفقيه والمتفقه" (2/ 9 - 12)، و"الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (2/ 117 - 122)، و"منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلم ما يقع وما لم يقع"، وما سيأتي في آخر الكتاب (الفائدة 38). (¬1) في (ق): "الداري". (¬2) ما بين المعقوفتين من "الجامع". (¬3) أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب العلم): باب التوَّقي في الفُتيا، (3/ 321/ رقم 3656)، وأحمد في "المسند" (5/ 435)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 305)، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والطبراني في "الكبير" (19/ 380/ رقم 982)، والآجري في "أخلاق العلماء" (183)، وتَمَّام في "الفوائد" (رقم 114، 115، 116 - مع ترتيبه الروض البسام)، وابن بطة في "الإبانة" (300، 302)، والدارقطني في "الأفراد" (ق 246/ أ - ب مع أطراف الغرائب)، والخطابي في "غريب الحديث" (1/ 354)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 135)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (رقم 303، 305)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 10 - 11)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1055 - 1056/ رقم 2037، 2038)، والمزِّي في "تهذيب الكمال" (ق 687) من طريقين عن الأوزاعي به. وفي إحدى الطريقين أبهم اسم الصحابي. وإسناده ضعيف؛ من أجل عبد اللَّه بن سعد بن فروة؛ فإنه مجهول كما قال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 2/ 64)، وترجمه ابن حبان في "الثقات" (7/ 39)، وقال: "يخطئ"، وبه أعله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (5/ 250)، ولذا قال فيه ابن حجر في "التقريب": "مقبول"؛ أي: إذا توبع، ولم يتابع. وانظر ترجمته في "ميزان الاعتدال" (2/ 428). نعم، له شواهد، ولكن لا يفرح بها. فقد أخرجه الطبراني في "الكبير" (19/ 913)، وفي "مسند الشاميين" (رقم 2130) من طريق سليمان بن داود الشاذكوني، عن عبد الملك، عن عبد اللَّه، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة، عن رجاء بن حَيْوَة، عن معاوية مرفوعًا، والشاذكوني متهم. وأخرجه الطبراني في "الكبير" (19/ رقم 865)، وفي "مسند الشاميين" (رقم 2257)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1056/ رقم 2039) من طريق سليمان بن أحمد الواسطي، عن الوليد بن مسلم، عن عبد اللَّه بن سعد، عن عبادة بن نُسي، عن الصنابحي، عن معاوية مرفوعًا بلفظ: "نهى عن عُضَل المسائل". وهذا إسناد واه، فيه علل كثيرة: الأولى: مخالفة الوليد بن مسلم لكل من عيسى بن يونس وروح بن عبادة؛ إذ روياه عن الأوزاعي، عن عبد اللَّه بن سعد، عن الصنابحي، قال الأول: عن معاوية، وقال الآخر: عن رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يسمه. الثانية: الوليد بن مسلم مدلس، ولم يصرح بالسماع. الثالثة: جهالة عبد اللَّه بن سعد كما تقدم. الرابعة: سليمان بن أحمد الواسطي، متروك، بل اتهمه ابن معين. قال الدارقطني في "العلل" (7/ 67/ رقم 1219): "والصحيح حديث عيسى بن يونس، وأفاد أن عبد الملك بن محمد الصنعاني رواه فوهم فيه؛ فقال: "عن الأوزاعي عن عمرو (!!) بن سعد عن عبادة بن نُسي عن معاوية". وعلى أيّ حال الحديث ضعبف، لا يجوز الاحتجاج به. قال بعض أهل العلم: الأغلوطات: أي: التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيهيج بذلك شرٌّ وفتنة، وإنما نهى عنها لأنها مع إيذائها غير نافعة في الدين.

وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي بإسناده [مثله] (¬1)؛ وقال: فسَّره الأوزاعي يعني صِعَاب المسائل. وقال الوليد بن مسلم: عن الأوزاعي، عن عبد اللَّه بن سَعْد، عن عبادة بن [نسي، عن] (¬2) الصُّنَابحي، عن معاوية بن أبي سُفيان أنهم ذكروا المسائل [عنده] (¬3)، فقال: أتعلمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[نهى عن عُضَل المسَائِل (¬4). قال أبو عمر: واحتجوا أيضًا بحديث سهل [بن سعد] (¬5) وغيره أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6) كره المسائل وعَابَها (¬7)، وبأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه [عز وجل] (¬8) يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال" (¬9). [وقال ابن أبي خَيْثمة: ثنا أبي: [ثنا عبد] (¬10) الرحمن بن مهدي: ثنا مالك، عن الزُّهْري، عن سهل بن سعد قال: لعن رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المسائل وعابها (¬11). قال أبو بكر: هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد، وهو خلاف لفظ "الموطأ" (¬12). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام" و (ق) و (ك): "قيس"، والتصويب من "الجامع". (¬3) ما بين المعقوفتين ليس في "الجامع". (¬4) مضى في التخريج السابق. (¬5) ما بين المعقوفتين من "الجامع". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) رواه البخاري (5259) في (الطلاق): باب من جَوَّز الطلاق الثلاث، ومسلم (1492) في أول اللعان. (¬8) ما بين المعقوفتين من "الجامع". (¬9) رواه البخاري (1477) في (الزكاة): باب قول اللَّه تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}، و (2408) في (الاستقراض): باب ما يُنهى عن إضاعة المال، و (5975) في (الأدب): باب عقوق الوالدين من الكبائر، ومسلم (3/ 1341) (593) في (الأقضية): باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة من حديث المغيرة، ورواه مسلم (1715) من حديث أبي هريرة. (¬10) بدل ما بين المعقوفتين في نسخة (د) بياض، وأثبته من (ق) و (ك) ومن النسخ الأخرى، و"الجامع". (¬11) رواه أبو خيثمة في (العلم) (77) بلفظ "كره رسول اللَّه. . ." ورواه ابن عبد البر (2042، ص 1057) من طريقه؛ ولكن قال: "لعن رسول اللَّه". ورواه مالك في الموطأ (2/ 566) في (الطلاق): باب ما جاء في اللعان، ومن طريقه البخاري (5259) في (الطلاق) باب من جوز الطلاق الثلاث، ومسلم (1492) في (اللعان) أوله عندهم "كره رسول" وهو جزء من حديث طويل. (¬12) انتهى بطوله من "الجامع" لابن عبد البر (2/ 1054 - 1057) باختصار يسير. وما بين المعقوفتين سقط من (ن) ووقع في (ق): "وهي خلاف لفظ "الموطأ"".

قال أبو عمر: وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال"، فقال: أما كثرة السؤال [فلا أدري أ] (¬1) هو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل؛ فقد كره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المسائل وعَابَها (¬2)، وقال اللَّه [عز وجل] (¬3): {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء؟!. وقال الأوزاعي، عن عَبْدة بن أبي لُبَابة: وددت أن [حَظِّيَ] (¬4) من أهل هذا الزمان أن لا أسالهم عن شيء ولا يسألوني [عن شيء] (¬5)، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدَّراهم بالدَّراهم (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) قال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1059/ رقم 2047): "وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . (وذكره) ". وأخرج زهير بن حرب أبو خيثمة في "العلم" (رقم 77) -ومن طريقه أبو ذر الهروي في "ذم الكلام" (ص 132)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1057/ رقم 2042) - عن عبد الرحمن بن مهدي، ثنا مالك، عن الزهري، عن سهل بن سعد؛ قال: "كره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المسائل وعابها". هكذا ذكره زهير بن حرب، ورواه عنه ابنه أحمد -كما عند ابن عبد البر-؛ فقال: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المسائل وعابها". وهذا خلاف لفظ "الموطأ" وكذا خلاف لفظ غير واحدٍ ممن رواه عن مالك على الجادة بلفظ: "كره. ." كما عند مالك في "الموطأ" (2/ 566 - رواية يحيى) -ومن طريقه البخاري في "الصحيح" (كتاب الطلاق): باب من جوَّز الطلاق الثلاث. . .، (9/ 361/ رقم 5259)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب اللعان): باب منه (2/ 1129/ رقم 1492)، وأحمد في "المسند" (5/ 334)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطلاق): باب في اللعان، (2/ 273 رقم 2245)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (رقم 2043، 2044) - عن الزهري به، وفيه قصة طويلة. وأخرجه من طرق عن الزهري به: البخاري في "صحيحه" (كتاب التفسير): باب {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ}. . . (8/ 448/ رقم 4745)، و (كتاب الاعنصام بالكتاب والسنة): باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلوّ في الدين والبدع، (13/ 276/ رقم 7304)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب اللعان): باب منه (2/ 1130/ رقم 1492 بعد 2، 3)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطلاق): باب بدء اللعان (6/ 170/ رقم 3466)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الطلاق): باب اللعان (2/ 667/ رقم 2066)، وأحمد في "المسند" (5/ 336، 337). (¬3) في (ق): "سبحانه". (¬4) في "الجامع": "أحظى". (¬5) ما بين المعقوفتين من "الجامع". (¬6) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (2045، ص 1058) وأخرجه الدارمي (1/ 67) وأبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/ 355) من طريق رجاء بن أبي سلمة عن عبدة مختصرًا.

[سؤال الصحابة عما ينفع]

قال: واحتجوا أيضًا (¬1) بما رواه ابن شِهَاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "أعْظَمُ المسلمين في المسلمين جُرْمًا مَنْ سأل عن شيء لم يُحرَّم على المسلمين فحرَّم عليهم من أجل مسألته" (¬2). وروى ابن وهب أيضًا قال: حدثني ابن لَهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ذَرُوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك (¬3) [من كان قبلكم بكثرة] (¬4) سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فَخُذُوا منه ما استطعتم" (¬5). وقال سفيان بن عُيَيْنة، عن عمرو، عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) وهو على المنبر: أحَرِّجُ باللَّه على [كل] (¬7) امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن اللَّه [عز وجل] (¬8) قد بَيَّين ما هو كائن (¬9). [سؤال الصحابة عما ينفع] وقال أبو عمر: وروى جَرير (¬10) بن عبد الحميد ومحمد بن فُضَيْل عن عطاء بن السَّائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: ما رأيت قومًا خَيْرًا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض -صلى اللَّه عليه وسلم-، كلهن في القرآن: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم (¬11). ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "له". (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) كذا في "الجامع" وفي سائر النسخ "هلك". (¬4) في "الجامع": "الذين من قبلكم". (¬5) الحديث متفق عليه، وسيأتي تخريجه قريبًا. (¬6) ما بين المعقوفتين من "الجامع". (¬7) "التحريج: التضييق، وتحرج: أي تأثم" (د) و (ط) و (ح)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) وسقطت لفظة: "باللَّه" من (ك) و (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين من "الجامع". (¬9) تقدم تخريجه وانظر الكلام المنقول بطوله عن ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 1059 - 1061). (¬10) في (ك) و (ق): "جبير" وقال في هامش (ق): "لعله جرير". (¬11) أخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 51)، والطبراني في "الكبير" (11/ 454/ رقم 12288)، وابن بطة في "الأبانة" (رقم 296) من طريق محمد بن فضيل، عن عطاء به، بألفاظ متقاربة. =

[الأشياء التي نهي عن السؤال عنها]

قال أبو عمر: ليس في الحديث من الثلاث عَشْرَة مسألة إلا ثلاث (¬1). قلت: ومراد ابن عباس بقوله: "ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة" المسائل التي حكاها اللَّه في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبيّنَ لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدَّرات والأغلوطات وعُضَل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت همَمُهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم (¬2). [الأشياء التي نُهيَ عن السؤال عنها] وقد قال [اللَّه] (¬3) تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101 - 102]. وقد اختُلِف في هذه الأشياء المسؤول عنها: هل (¬4) أحكام قَدَريَّة أو أحكام شرعية؟ على قولين؛ فقيل: إنها أحكام شرعية عفا اللَّه عنها، أي سكتَ عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها، ولو لم يسألوا ¬

_ = وقال ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1062/ رقم 2053): "روى جرير بن عبد الحميد، ومحمد بن فضيل، عن عطاء. . (وذكره) ". قلت: وجرير وابن فضيل ممن رويا عن عطاء بعد الاختلاط؛ فالإسناد ضعيف، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 159): "فيه عطاء بن السائب، وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجاله ثقات"، وحكمه هذا أدق من قول ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 77): "إسناده حسن"، إلا أنه فاته العزو للبزار، وهو عنده باللفظ الذي أوردناه آنفًا؛ كما أفاده السيوطي في "الإتقان" (في النوع الثاني والأربعين، 2/ 315)، وصححه. ولتحرير عدد الأسئلة التي في القرآن، وجدتُ أن مصادر التخريج تتابعت على إيراد الأثر بلفظ: "ثلاث عشرة مسألة"، وعند البزار: "عن اثنتي عشرة مسألة، كلها في القرآنِ" قال السيوطي في "الإتقان" (2/ 315) عقبه: "أورده الإمام الرازي بلفظ: "أربعة عشر حرفًا"، ثم ذكرها عنه تعدادًا، ثم بيّن أن اثنين منها -وهما السؤال عن الروح، والسؤال عن ذي القرنين- سألهما غير الصحابة، ثم قال: "فالخالص اثنا عشر؛ كما صحت به الرواية". قلت: رواية الطبراني فيها ستة عشر من الأسئلة، وبعضها ليس في القرآن. (¬1) انظر: "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 1062/ 2053). (¬2) من قوله: "وقال الأوزاعي" إلى هنا سقط من (ن). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق) بعدها: "هي".

[توضيح معنى آية النهي عن السؤال]

[عنها] (¬1) لكانت عفوًا، ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سُئل عن الحج-: "أفي كُلِّ عام؟ فقال: لو قُلتُ نعم لوجبت، ذَرُوني ما تركتكم، فإنما هَلَكَ مَنْ كان قبلكم بكثرة مَسَائِلِهم (¬2) واخِتلافِهِم على أَنْبِيائِهم" (¬3)؛ ويدل على هذا التأويل حديثُ أبي ثعلبة [المذكور] (¬4) "إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا [من سَئل عن شيء لم يُحرّم، فحُرِّم من أجل مسألته" (¬5)]، ومنه الحديث الآخر: "إن اللَّه فَرَضَ فرائض فلا تضيِّعوها، وحد حدودًا فلا تَعْتَدُوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم [من] (¬6) غير نِسْيَانٍ فلا تبحثوا عنها" (¬7) وفُسِّرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية؛ كقول عبد اللَّه بن حُذَافة: "مَنْ أبي يا رسول اللَّه؟ " (¬8)، وقول آخر: "أيْنَ أبي (¬9) يا رسول اللَّه؟ " قال: "في النار" (¬10). [توضيح معنى آية النهي عن السؤال] والتحقيق أن الآية تعم النهيَ عن النوعين، وعلى هذا فقوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) في (ن): "فإنما أهلك الذين قبلكم كثرة مسائلهم". (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب العمرة): باب عمرة التنعيم، (3/ 606/ رقم 1785)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الحج): باب بيان الإحرام، وأنه يجوز إفراد الحج والتمتع والقران (2/ 883 - 884/ رقم 1216)، من حديث جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) سيأتي تخريجه. وبدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ك): "الحديث"، اختصارًا له. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) سيأتي تخريجه. (¬8) رواه البخاري (93) في (العلم) باب من برك على ركبتيه عند الإمام أو المحدث، و (540) في (مواقيت الصلاة): باب وقت الظهر عند الزوال، و (6362) في (الدعوات): باب التعوذ من الفتن، و (7089) في (الفتن): باب التعوذ من الفتن، و (7294) في (الاعتصام): باب ما يكره من كثرة السؤال، ومسلم (2359) في (الفضائل) باب توقيره -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله، من حديث أنس بن مالك. (¬9) في (ق): "أنا" بدل "أبي"، وأشار في الهامش إلى أن في نسخة ما أثبتناه. (¬10) أخرجه مسلم، (كتاب الإيمان): باب بيان أن من مات على الكفر فهو في النار (1/ 191، رقم 203)، وأبو داود (كتاب السنة): باب في ذراري المشركين (4/ 191)، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" (1/ 232 - 233).

لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [إما] (¬1) في أحكام الخلق والقدر، فإنه يسوءهم أن يبدوَ لهم [ما يكرهونه مما سألوا عنه، وإما في أحكام التكليف فإنه يسوءهم أن يبدوَ لهم] (¬2) ما يشقُّ عليهم تكليفه مما سألوه عنه. وقوله [تعالى] (¬3): {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان: أحدُهما: أنَّ القُرْآن إذا نَزَل بها ابتداءً بغير سؤال فسَألتُم عن تفصيلِها وعِلْمها أُبديَ لكم وبُيّنَ لكم، والمراد بحين النزول زمنه المتصل [به] (¬4)، لا الوقت المقارن للنزول، وكأن في هذا إذنًا لهم في السؤال عن تَفْصيل المُنزَّل ومعرفته بعد إنزاله؛ ففيه رفعٌ لتوهُّمِ المَنْعِ من السؤال عن الأشياء مطلقًا. والقول الثاني: أنه من باب التهديد والتحذير، أي [إن] (¬5) سألتم عنها في وقتِ نُزولِ الوَحي جاءكم بيانُ ما سألتم عنه [ولا بد، وبَدا لكم ما يسُؤكم؛ (لأنه وقت وحي، فاحذروا أن يُوحيَ اللَّه إلى رسوله في بيان ما سألتم عنه ما] (¬6) يسوءكم والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوءُكُم) (¬7) بيانُه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أُبديَ لكم. وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي: عن بيانها خبرًا وأمرًا، بل طوى بيانَها عنكم رحمةً ومغفرةً وحلمًا (¬8) واللَّه غفور حليم. فعلى القول الأول: عفا اللَّه عن التكليف بها تَوْسِعَةَ عليكم، وعلى القول الثاني: عفا اللَّه عن بيانها لئلا يسوءكم بيانها (¬9). وقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} أراد نوع تلك المسائل، لا أعيانها، أي قد تعرَّضَ قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل، فلما بُيِّنَت لهم كفروا بها، فاحذروا مشابهتَهُم والتعرُّضَ (¬10) لما تعرضوا له. ولم ينقطع حكم هذه الآية، بل [لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال] (¬11) عما ¬

_ (¬1) في (ق): "ما". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ن): "ما" وسقط من (ك). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ن): "بما" ووقع في (ق): "مما يسؤكم والمعنى". (¬7) ما بين الهلالين سقط من (ك). (¬8) في (ك) و (ق): "وحكمة". (¬9) في (ق) و (ك): "لئلا يسؤكم شأنها". (¬10) في (ق): بعد هذه الكلمة: "والتعرض". (¬11) العبارة في (ق): "بل ينبغي ألّا يتعرض للسؤال".

فصل [الآثار عن التابعين في ذم الرأي]

إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو اللَّه، ومن ههنا قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬1): يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا، لما سأله رفيقه عن مائِه أطاهر أم لا (¬2)؟ وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طَوَاه عنه وسَتَره، فلعلَّه يسوءه إن بَدَى له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرُّض لما يكرهه اللَّه؛ فإنه سبحانه يكره إبدائها، ولذلك سكت عنها، [واللَّه أعلم] (¬3). فصل [الآثار عن التابعين في ذم الرأي] قالوا: ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدَها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة، ونحن نذكر آثار التابعين ومَنْ بعدهم بذلك؛ ليتبيَّن مرادهم: قال الخُشَني: ثنا محمد بن بَشَار: ثنا يحيى بن سعيد القَطَّان، عن مُجَالد عن الشعبي، قال: لعن اللَّه أَرأيتَ (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 23 - 24 رقم 14): (كتاب الطهارة): باب الطهور للوضوء -ومن طريقه عبد الرزاق في "المصنف" (1/ 76 - 77 رقم 250)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 250) - عن يحيى بن عبد الرحمن عن عمر بنحوه، وفي إسناده انقطاع، قاله ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 246)، وفضل النووي فقال في "المجموع" (1/ 174): "هذا أثر إسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن، لكنه مرسل منقطع، فإن يحيى -وإن كان ثقة- لم يدرك عمر، بل ولد في خلافة عثمان، هذا هو الصواب"، ثم قال: "إلا أن هذا المرسل له شواهد تقويه". قلت: ذكرتها وخرجتها في تعليقي على "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام (رقم 221، 222، 223)، و"الخلافيات" (3/ 124 رقم 927). وانظر -غير مأمور-: "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 142)، و"مصنف عبد الرزاق" (1/ 76، 77)، و"تهذيب الآثار" للطبري (2/ 213، 218، 219)، و"سنن الدارقطني" (1/ 26)، و"الأوسط" لابن المنذر (1/ 310). (¬3) في (ق): "ابتداءها" وما بين المعقوفتين سقط منها. (¬4) أخرجه البيهقي في "المدخل" (رقم 226)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 2095)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 605)، وفي إسناده مجالد بن سعيد وهو ضعيف، لكن هو صحيح عنه، فانظر "الموافقات" (5/ 383 - 384 بتحقيقي).

قال يحيى بن سعيد: وثنا صالح بن مُسْلِم قال: سألت الشعبي عن مسألة من النكاح فقال: إن أخبرتُكَ برأيي [فَبُل] عليه (¬1). [قالوا: فهذا قول الشعبي في رأيه، وهو من كبار التابعين] (¬2)، وقد لَقي مئة وعشرين من الصحابة، وأخذ عن جمهورهم (¬3). وقال الطحاوي: ثنا سُليمان بن شُعَيْب: ثنا عبد الرحمن بن خالد: ثنا مالك بن مِغْوَل، عن الشعبي قال: ما جاءكم به هؤلاء عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فخذوه، وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحشِّ (¬4). [وقال البخاري: حدثنا سُنيد بن داود: ثنا حماد بن زيد (¬5)، عن عمرو بن دينار قال: قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك، قال: إنا للَّه وإنا إليه ¬

_ (¬1) رواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 52) من طريق يحيى بن سعيد به. وروى أبو نعيم في "الحلية" (4/ 319) من طريق عبد الرحمن بن حماد الشُّعْيثي (في المطبوع: الشعبي: وهو خطأ!): حدثنا صالح بن مسلم به نحوه، وليس فيه أن المسألة في النكاح ونحوه في "طبقات ابن سعد" (6/ 250) من طريق محمد بن جحادة عن الشعبي، وبدل ما بين المعقوفتين في (و): "قبل"!. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) انظر "تهذيب الكمال" (14/ 28 - 40). (¬4) رواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 54) من طريق الطحاوي به، وعنده (خالد بن عبد الرحمن) بدل (عبد الرحمن بن خالد)! ورواه الدارمي (1/ 67)، ومن طريقه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (4/ 319)، وعلقه ابن عبد البر (1439) من طريق مالك بن مغول -وهو من الثقات- به. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (11/ 256) (20476)، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 319)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1438)، والبيهقي في "المدخل" (814) عن الثوري، ومعمر عن ابن أَبْجَر قال لي الشعبي: ما حدثوك عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فخذ به، وما قالوا برأيهم فبُل عليه. وإسناده صحيح. وأخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 592)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 251) من طريق ابن أبي السفر، والخطيب في "الجامع" (2/ 190 رقم 1575) من طريق أبي نعيم، وابن بطة في "الإبانة" (2/ 517 رقم 607) من طريق ابن إدريس، جميعهم عن الشعبي بألفاظ. و"الحش" (بضم الحاء وفتحها وكسرها): [والجمع: الحشان، مثل: ضيف وضيفان، والحش -أيضًا]: البستان المخرج -أيضًا-؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين. [والجمع: الحشوش]. (و) (ح)، وما بين القوسين زيادة (و) على (ح)، وما بين المعقوفتين زيادة (ح) على (و)، وفي (ط) باختصار شديد. (¬5) في (ق) و (ن): "قال البخاري" وفي (ق) بعد "حماد بن زيد" زيادة: "عن زيد"!!

راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غَدًا (¬1). وقال إسحاق بن راهويه] (¬2): قال سفيان بن عُيَينة: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن [يقول هو] (¬3) برأيه. [وقال ابن أبي خَيْثَمة: ثنا الحَوْطي: ثنا إسماعيل بن عَيَّاش، عن سوادة بن زياد وعَمرو بن المُهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: إنه لا رَأْيَ لأحد مع سنةٍ سَنَها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬4). قال أبو نَضْرَة (¬5): سمعت أبا سَلَمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري: بَلَغني أنك تُفْتِي برأيك، فلا تُفْتِ برأيك إلا أن يكون سنةً عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). [وقال البخاري: حدثني محمد بن مَحْبوبِ: ثنا عبد الواحد: ثنا الزِّبْرقان بن عبد اللَّه الأسدي أن أبا وائل شَقِيق بن سَلَمة قالَ: إياك ومجالسَةَ من يقول: أرأيت أرأيت (¬7). ¬

_ (¬1) ورواه من طريقه ابن عبد البر (2070) (ص: 1069) وعنه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 25) وسنيد ضعيف. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في (ك): "يقولوا"، وفي (ق): "أن يقول برأيه". (¬4) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (1456) (ص 781) وعنه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 53) من هذا الطريق، وانظر "الموافقات" (3/ 29 - 30) و (4/ 460 - 461) وتعليقي عليه. وما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) كذا في (ق) و (ك) وهو الصواب، وفي (ن): "أبو بصرة"، وفي المطبوع: "أبو بصيرة"، ووقع في (ق): "وقال". (¬6) أخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 58)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 163)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (رقم 321)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 54)، من طريق أبي نضرة عن أبي سلمة، وأبو نضرة هو المنذر بن مالك من الثقات، وكذا باقي رواته، فإسناده صحيح. وفي (ك) و (ق): "إلا أن تكون سنة سنها رسول اللَّه". (¬7) أخرجه البخاري في "التاريخ الأوسط" (1/ 374 رقم 831/ رواية الخفاف) ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 55) - والدارمي (1/ 66)، والبيهقي في "المدخل" (229) وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (2/ 282 رقم 368) من طريق يحيى بن سعيد عن الزِّبْرقان، وسنده صحيح. ورواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (رقم 2094 ص 1076) وابن بطة في الإبانة (2/ 451 رقم 429) من طريق علي بن هاشم بن البريد، وأخرجه ابن بطة =

وقال أبان بن عيسى بن دِينار، عن أبيه، عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شِهَاب قال: دَعُوا السنة تمضي، لا تَعَرَّضُوا لها بالرأي] (¬1). وقال يُونُس، [ثنا ابن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن أبي الأسود -وهو محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفَل- سمعت عُرْوة بن الزبير يقول: ما زال أمرُ بني إسرائيل معتدلًا حتى نشأ فيهم المولِّدون [أبناء] سَبَايا الأمم (¬2)، فأخذوا فيهم بالرأي، فأضَلُّوهم (¬3). ¬

_ = (رقم 415) من طريق عبدة بن سليمان الكلابي، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 228) من طريق عبد الواحد بن زياد جميعهم عن الزِّبْرقان به. وفي جميع الأصول: "ابن الزبرقان بن عبد اللَّه الأسيدي"!! وكذا في (ق)، وسقطت منه (ابن) قبل (الزبرقان) والصواب ما أثبتناه وترجمه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 436) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ثم وجدت أن الإمام أحمد وابن معين وثقاه، وقال ابن المديني: قلت ليحيى: إن سفيان كان لا يحدث عن الزّبرقان؟ قال: لأنه لم يره، ليت كل من يحدث عنه سفيان كان ثقة مثل الزبرقان، قلت: كان ثقة؟ قال: كان صاحب حديث. (¬1) أخرجه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 55) من طريق أبان بن عيسى به. عيسى بن دينار ترجمه القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 18) قال: "لم يذكر أحد من أصحاب علم الرجال والأثر سماعًا لعيسى من مالك، ولا أثبتوه، ولا روى أحد من الفقهاء وعلماء الرأي والمسائل له مقالًا عن مالك، ولا رفعوا له عنه فتيا، وعيسى في شهرته لا يخفى مثل هذا من فضائله، ويعد أول مناقبه" كذا في "مجرد أسماء الرواة عن مالك" (325 رقم 1335) لرشيد الدين العطار، وهو يروي هذا الأثر عن مالك بواسطة ابن القاسم، وابنه أبان لم أظفر له بترجمة، وما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) في (ن): "المولدون وسبايا الأمم"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 55) من طريق يونس بن عبد الأعلى به، وما بين المعقوفتين منه، وسقط من جميع الأصول. ورواه الدارمي في "مقدمة السنن" (1/ 50) من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن محمد بن عبد الرحمن به، وإسناده صحيح. ورواه البيهقي في "معرفة السنن الآثار" (1/ 188 رقم 335) في المقدمة، في ذم الاقتداء بمن لم يؤمر بالاقتداء به (1/ 109)، وفي "المدخل" (222)، وابن عبد البر في "الجامع" (2031)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 394) من طريق سفيان بن عيينة، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 393) من طريق إسماعيل بن عياش كلاهما عن هشام بن عروة به، وذكره ابن عبد البر (2015) من طريق هشام عن أبيه =

وذكر ابن وَهْب، عن ابن شِهَاب أنه قال وهو يذكر ما وَقَعَ فيه الناسُ من هذا الرأي وتركهم السنن، فقال: إن اليهودَ والنصارى [إنما] (¬1) انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتَّبَعُوا الرأي وأخذوا فيه (¬2). [وقال ابن وَهْب: حدثني ابنُ لَهيعة أن رجلًا سأل سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئًا، فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك اللَّه برأيك، فقال: لا، ثُمَّ أعاد عليه، فقال: إني أَرْضى برأيك (¬3)، فقال [سالم: إنِّي] لعلِّي إنْ أخبرتُك برأيي ثم تذهب فأرّى بعد ذلك رأيًا غيره فلا أجدك (¬4). وقال البُخاريُّ: حدثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه الأُوَيْسيُّ: ثنا مالك بن أنس قال: كان رَبيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يُشْبه حالك، أنا أقول برأيي ¬

_ = وخالف أصحاب هشام: وكيع، فرواه عن هشام عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو قوله، أخرجه ابن أبي شيبة (15/ 177 رقم 19438). وخالفهم قيس بن الرببع، فرواه عن هشام عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو رفعه، أخرجه البزار في "مسنده" (1/ 96 - "كشف الأستار")، وقال: "لا نعلم أحدًا" قال: عن هشام عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو إلا قيس، ورواه غيره مرسلًا. وعزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 180) للبزار وقال: "فيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة، والثوري، وضَعَّفه جماعة، وقال ابن القطان: هذا إسناد حسن". أقول: قيس بن الربيع لا يُحسَّن حديثه! والعجب أنه ذكره في الزوائد مع أن ابن ماجة أخرجه. فرواه (56) من طريق سويد بن سعيد ثنا ابن أبي الرِّجال عن الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن عبد اللَّه بن عمرو رفعه. قال البوصيري في "الزوائد" (1/ 50) هذا إسناد ضعيف لضعف ابن أبي الرِّجال. ورُوي من حديث عائشة -أيضًا- رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 180)، وفيه عبد اللَّه بن محمد بن يحيى بن عروة، وهو متروك. وروى البيهقي في "المعرفة" (1/ 109) نحوه عن عمر بن عبد العزيز. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ذكره عنه ابن عبد البر في "الجامع" (2028) (ص 1051) دون إسناد. (¬3) في (ك): "بذلك" وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "يا ابن أخي". (¬4) أخرجه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 55) من طريق ابن وهب به. وذكره ابن عبد البر (1442) (ص 777) هكذا: وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن سالم، وسنده حسن.

مَنْ شاء أخذه وعمل به ومَنْ شاء تركه (¬1). وقال الفريابي: ثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لأيوبَ السِّخْتِياني: مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار مالك لا تَجترُّ (¬2)؟ قال: أكره مَضْغَ الباطل (¬3). وقال الفِرْيَابي: ثنا العَبَّاس بن الوليد بن مَزْيَد: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعيَّ يقول: عليك بآثار مَنْ سَلَفَ وإن رَفَضَك الناسُ، وإياك وآراء الرجال وإن زَخْرَفوا لك القول (¬4). وقال أبو زرعة: ثنا أبو مُسْهِر قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه كان إذا سُئِل (¬5) لا يُجيبُ حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، هذا الرأي، والرأيُ يخطئُ ويصيب] (¬6). ¬

_ (¬1) هو في "التاريخ الكبير" له (3/ 286 - 287)، هكذا قال عبد العزيز بن عبد اللَّه. . . إن حالي ليس يشبه حالك: أنا أقول برأيي، مَنْ شاء أخذه، وأنت تحدث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتحفظ، ورواته ثقات. (¬2) "من الاجترار والجرة -بالكسر-: ما يخرجه البعير للاجترار، فيأكله ثانية، وبفتح: وقد اجتروا جر" (ح). وفي (ك) و (ق): "قيل للحمار". (¬3) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2085) (ص 1073)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 53) بهذا الإسناد، وإسناده صحيح. وأخرجه الدينوري في "المجالسة" (رقم 2950) من طريق الدورقي به. (¬4) رواه ابن عبد البر (2077) وعن ابن حزم في "الإحكام" (6/ 52 - 53) من طريق الفريابي به، ورواه البيهقي في "المدخل" (233) من طريق محمد بن يعقوب عن العباس به، وإسناده جيد. وأخرجه الآجري في "الشريعة" (ص 58 - ط القديمة و 1/ 445/ رقم 127)، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (8)، والهروي في "ذم الكلام" (رقم 116، 317) من طريق العباس بن الوليد به. وذكره الذهبي في "العلو" (ص 138)، وابن قدامة في "ذم التأويل" (ص 67). وفي (ك): "وإياك ورأي الرجال". (¬5) في (ق) و (ك) والنسخ المطبوعة: "قال: كان سعيد بن عبد العزيز إذا سئل"! وفيه نقص، وصوابه ما أثبتناه كما عند أبي زرعة. (¬6) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/ 326 رقم 622) -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (11/ ق 399) وابن حزم في "الإحكام" (6/ 57) - وذكره الذهبي في "السير" (5/ 161) في ترجمة (مكحول)، ورواته ثقات، أبو مسهر هو عبد الأعلى بن مسهر وما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[المتعصبون عكسوا القضية]

وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال: عِلْمُنَا هذا رأيٌ، وهو أحسن ما قَدِرْنا عليه، ومن جاءنا بأحْسَنَ منه قبلناه منه. [وقال الطحاوي: ثنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم: ثنا أشهب بن عبد العزيز قال: كنتُ عند مالك فسُئل عن ألبتَّة (¬1)، فأخَذْتُ ألواحي لأكتب ما قال، فقال لي مالك: لا تفعل، فعَسَى في العشيِّ أقول: إنها واحدة] (¬2). وقال مَعْنُ بن عيسى القَزَّاز: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب، فانظروا في قولي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتابَ والسنة فاتركوه (¬3). فرضيَ اللَّه عن أئمة الإسلام، وجَزَاهم عن نصيحتهم [للأمة] (¬4) خيرًا، ولقد امتثل وصيتَهم وسلك سبيلَهم أهلُ العلم والدين من أتباعهم. [المتعصبون عكسوا القضية] وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية، ونظروا في السنة، فما وافق أقوالَهم منها قبلوه، وما خالفها تحيَّلوا في ردِّه أو ردِّ دلالته، وإذا جاء نظيرُ ذلك أو أضعفُ منه سندًا ودلالَةً وكان موافقًا (¬5) قولَهم قبلوه، ولم يستجيزوا رده، واعترضوا به على (¬6) منُازعيهم، وأشاحوا (¬7) وقرَّروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته، فإذا جاء ذلك السندُ [بعينه] (¬8) أو أقوى منه، ودلالته كدلالة ذلك أو ¬

_ (¬1) "ألبتة": يريد طلاق ألبتة، وهو أن يقول الرجل لزوجته: أنت طالق ألبتة: أي لا رجعة لك" (ط)، ونحوه باختصار في (و) و (ح). (¬2) رواته ثقات، ونحوه في "ترتيب المدارك" (1/ 150) و"الموافقات"، (5/ 331، 332 - بتحقيقي). وما بين المعقوفتين سقط من (ن) ووقع في (ق): "قال الطحاوي". (¬3) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1435 و 1436)، من طريق إبراهيم بن المنذر عن معن بن عيسى به. وإسناده حسن. وذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 146 - 147)، والشاطبي في "الموافقات" (5/ 331 - بتحقيقي). وفي (ك): "فكل ما وافق الحقّ والسنة". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) في المطبوع و (ك): "يوافق" وفي (ق): "أو أضعف منه". (¬6) في (ق) و (ك): "وأعرضوا به عن". (¬7) في (ق) و (ك): "وأشاعوا". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[كلام أئمة الفقهاء في الرأي]

أقوى منه في خلاف قولهم، دفَعُوهُ ولم يقبلوه، وسنذكر من هذا إن شاء اللَّه طَرَفًا عند ذكر غائلة (¬1) التقليد وفساده، والفرق بينه وبين الاتِّباع. [كلام أئمة الفقهاء في الرأي] و [قال بَقِيُّ بن مَخْلَد: ثنا سَحْنون والحارثُ بن مِسْكين] (¬2)، عن [ابن] (¬3) القاسم عن مالك أنه كان يُكثر أن يقول: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (¬4) [الجاثية: 32]. وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مَرَضِه الذي مات فيه، فسلّمْتُ عليه، ثم جلستُ، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد اللَّه، ما الذي يبكيك؟ فقال [لي]: يا ابن قعنب، ومالي لا أبكي؟ ومَنْ أحقُّ بالبكاء مِنِّي؟ واللَّه لودِدْتُ أني ضُربت بكلِّ (¬5) مسألة أفْتَيْتُ فيها بالرأي سَوْطًا، وقد كانت لي السَّعَة فيما قد سُبقت [إليه]، وليتني لم أفْتِ بالرأي (¬6). وقال ابنُ أبي داود: ثنا أحمد بن سِنان قال: سمعت الشافعيَّ يقول: مَثَلُ الذي يَنْظرُ في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عُولج حتى بَرأ فأعقل ما يكون قد هاج به (¬7). وقال ابن أبي داود: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد تَرَى أحدًا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دَغَل (¬8). ¬

_ (¬1) "الغائلة" الشر، وفي "الصِّحاح" (5/ 1788): "فلان قليل الغائلة، والغالة الشر" (ح). ووقع في (ق): "وسنذكر من هذا طرفًا أن شاء اللَّه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬4) ذكره ابن عبد البر بصبغة التمريض (2092) (ص 1075) دون إسناد، وذكره أيضًا القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 148)، والشاطبي في "الموافقات" (5/ 329 - بتحقيقي). (¬5) في (ق) و (ك): "في كل". (¬6) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2081، ص 1072) من طريق مالك بن علي عن القعنبي به. وفي سنده محمد بن عمر بن لبابة ضعيف الرواية. وأسنده من طريق القعنبي به: الحميدي في "جذوة المقتبس" (2/ 552 - 553) والضبي في "البغية" (ص 464)، وابن حزم في "إبطال القياس" (67) وقال: "ثبت عنه"، ونحوه في "ترتيب المدارك" (1/ 149 - 150)، و"الموافقات" (5/ 330 - بتحقيقي) وما بين المعقوفات سقط من (ق). (¬7) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2034) (ص 1053)، وإسناده حسن. (¬8) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (2035) (ص 1054) بهذا الإسناد. =

[أبو حنيفة يقدم الحديث الضعيف على الرأي والقياس]

وقال عبد اللَّه بن أحمد أيضًا: سمعت أبي يقول: الحديثُ الضعيف أحَبُّ إليَّ من الرأي، وقال عبد اللَّه (¬1): سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجدُ [فيه] إلا صاحبَ حديثٍ لا يعرف صحيحَه من سقيمه وأصحابَ رأيٍ، فتنزل بهم (¬2) النازلة؟ فقال أبي: يسأل أصحابَ الحديث، ولا يسأل أصحابَ الرأي، ضعيفُ الحديثِ أقوي من الرأي (¬3). [أبو حنيفة يقدم الحديث الضعيف على الرأي والقياس] وأصحاب أبي حنيفة [رحمه اللَّه] (¬4) مُجْمِعُونَ على أن مذهبَ أبي حنيفة أن ضعيف الحديث [عنده أولى] (¬5) من القياس والرأي، وعلى ذلك بَنَى مذهبه، كما قدَّم حديث القَهْقَهة (¬6) مع ضعفه على القياس والرأي، [وقَدَّم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السَّفر (¬7) مع ضَعْفه على الرأي والقياس، ومنع قَطْعَ السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم (¬8) والحديث فيه ضعيف، وجعل أكثرَ الحيض عشرةَ أيام (¬9) والحديث فيه ضعيف، وشَرَط في إقامة الجمعة المِصْرَ والحديثُ فيه كذلك (¬10) ¬

_ = و"الدغل" [بالتحريك]: الفساد" (ط)، (ح)، وما بين المعقوفتين. زيادة (ح) على (ط). (¬1) في المطبوع: "فقال عبد اللَّه". (¬2) في المطبوع: "فتنزل به". (¬3) الذي وجدته في "مسائل عبد اللَّه" (ص 438): "سألت أبي عن الرجل يريد أن يَسأل عن الشيء من أمر دينه مما يبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره، وفي مصره من أصحاب الرأي، ومن أصحاب الحديث لا يحفظون، ولا يعرفون الحديث الضعيف، ولا الإسناد القوي، فلمن يسأل؟ لأصحاب الرأي، أو لهؤلاء -أعني- أصحاب الحديث، على ما قد كان من قلة معرفتهم؟ قال: يسأل أصحاب الحديث، لا يسأل أصحاب الرأي، ضعيف الحديث خير من رأي أبي حنيفة". والمذكور لفظ ابن حزم في "إبطال القياس" (ص 67). ورواه عن عبد اللَّه عن أحمد بنحو ما عند المصنف: الخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 418)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (2/ 179 - 180 رقم 326). وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فيها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "أولى عنده" وكذا في "إبطال القياس" (ص 68). (¬6) سيأتي تخريجه. (¬7) سيأتي تخريجه. (¬8) سيأتي تخريجه. (¬9) سبق تخريجه. (¬10) قلت: هو يريد حديث: "لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع" وهذا قال عنه الزيلعي: غريب مرفوعًا (2/ 195). أما الحافظ ابن حجر فقال في "التلخيص" (2/ 254) "ضعيف" وقال النووي في "المجموع": ضعيف جدًّا، وهذا يوهم أن له سندًا مرفوعًا وليس كذلك!!. =

[المراد بالحديث الضعيف عند السلف]

وترك القياس المحْضَ في مسائل [الآبار] لآثار فيها غيرِ مرفوعةٍ (¬1)، فتقديمُ (¬2) الحديثِ الضعيفِ وآثار الصحابة على القياس والرأي (¬3) قولهُ، وقولُ الإمام أحمد. [المراد بالحديث الضعيف عند السلف] وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسميه المتأخرون حسنًا قد يسميه المتقدمون ضعيفًا كما تقدم بيانه] (¬4). [السلف جميعهم على ذم الرأي] والمقصود أن السلف جميعَهم على ذَمِّ الرأي والقياس المخالِفِ للكتاب والسنة، وأنه لا يحل العمل به لا فُتْيَا ولا قضاءً (¬5)، وأن الرأي الذي لا يُعلم ¬

_ = فقد رواه عبد الرزاق (5175) (5/ 167)، من طريق الحارث، عن علي موقوفًا، والحارث ضعيف، وعزاه الزيلعي لابن أبي شيبة من طريق الحارث -أيضًا-، ولم أجده فيه، ولعله في "مسنده". ورواه عبد الرزاق (5176)، وابن أبي شيبة (2/ 10 - دار الفكر)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 179)، وفي "معرفة السنن والآثار" (1672، 2/ 467)، من طريق سعد بن عدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، وسنده صحيح، وعزاه الحافظ في "الفتح" (2/ 457) لأبي عبيد، وصححه موقوفًا على علي، وكذا في "الدراية" (131). ورواه ابن عدي (1/ 286 - 287)، عن علي موقوفًا بإسناد فيه راو ضعيف. وانظر في توجيه قول علي والرد على الحنفية في الاحتجاج به: "التحقيقات العلى بإثبات فرضية الجمعة في القرى" (ص 33 - 34) لأبي الطيب محمد شمس الحق العظيم آبادي، وانظر في المسألة: "إعلاء السنن" (8/ 1)، "فضائل الجمعة" (ص 97 - 102). (¬1) انظر في المسألة: "شرح فتح القدير" (1/ 102 - 103) لابن الهمام، و"البناية شرح الهداية" (1/ 406) للعيني، و"الجوهر النقي" (1/ 267) لابن التركماني. وانظر الآثار الواردة في الباب عند أبي عبيد في "الطهور" (ص 241 - 249 - بتحقيقي)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 17)، وابن أبي شيبة في: "المصنف" (1/ 162)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 274)، وعبد الرزاق في "المصنف" (1/ 82 - 83)، والدارقطني في "السنن" (1/ 33)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 266)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 326)، وابن حزم في "المحلى" (1/ 146). وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك) و (ق): "فيقدم". (¬3) زاد هنا في (ك): "فهذا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) انظر في تقرير هذا: "بيان فضل علم السلف على علم الخلف" (ص 57) ورسالة: =

مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه، من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه. [قال أبو عمر بن عبد البر: ثنا عبد الرحمن بن يحيى: ثنا أحمد بن سعيد بن حزم: ثنا عبد اللَّه بن يحيى [بن يحيى] (¬1)، عن أبيه أنه كان يأتي ابنَ وَهْبٍ فيقول له: من أين؟ فيقول له: من عند ابن القاسم، فيقول له ابن وهب: اتَّقِ اللَّه؛ فإن أكثر هذه المسائل رأي (¬2). وقال الحافظ أبو محمد: ثنا عبد الرحمن بن سلمة: ثنا أحمد بن خليل: ثنا خالد بن سعيد: أخبرني محمد بن عمر بن كنانة، ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال: كان أبي قد أجْمَع على ترك الفتيا بالرأي، وأحَبَّ الفُتْيَا بما رُوي من الحديث، فأعجلته المنية عن ذلك (¬3). وقال أبو عمر: وروى الحسنُ بن واصل أنه قال: إنما هَلَكَ مَنْ كان قبلكم حين تشَعَّبَتْ بهم السُّبُلُ، وحادُوا عن الطَّريق، وتركوا الآثار، وقالوا في الدين برأيهم، فضلَّوا وأضلَّوا (¬4). قال أبو عمر: وذكر نُعَيْم بن حَمَّاد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق: مَنْ يَرْغَب برأيه عن أمر اللَّه يَضِلُّ (¬5). وذكر ابن وهب قال: أخبرني بكر بن مضر (¬6) عن رجل من قريش أنه سمع ابنَ شِهاب يقول، وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن، فقال: إن اليهود والنصارى إنما انْسَلَخُوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقوا الرأي وأخذوا فيه (¬7). ¬

_ = "جميع الرسل كان دينهم الإسلام" (ص 34 - 38) كلاهما لابن رجب، و"صون المنطق" (ص 155 - 157)، "فتح الباري" (13/ 291 - 292). وفي (و)، و (ح): "ولا قضى"، وعلق (و) قائلًا: "أي القضاء"، وقال (ح): "بالقصر: القضاء، وهو الحكم". (¬1) ما بين المعقوفتين من نسخة (و) فقط. (¬2) الخبر في "ترتيب المدارك" (1/ 541 ط مكتبة الحياة) ووقع في (ق): "فإن كثرة هذه المسائل". (¬3) أورده القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (2/ 19 - طـ مكتبة الحياة) والذهبي في "السير" (10/ 440). (¬4) أخرجه في "الجامع" (2026) دون إسناد. (¬5) هو في "الجامع" (2/ 1051 رقم 2027) ورجاله ثقات غير نُعيم ففيه كلام. (¬6) كذا في هامش (ق) وهو الصواب لأن الذي يروي عنه ابن وهب بكر بن مضر وليس (ابن نصر)، كما في جميع النسخ!! (¬7) ذكره هكذا ابن عبد البر (2028، ص 1051)، وفيه الراوي المبهم.

وذكر ابن جَرير في [كتاب] (¬1) "تهذيب الآثار" له عن مالك قال: قُبِضَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد تمَّ هذا الأمر واستكمل؛ فإنما ينبغي (¬2) تَتّبع آثارَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا تتبَّع (¬3) الرأي؛ فإنه من اتَّبع الرأي جاء رجلٌ آخر أقوى منه في الرأي فاتبعه، [فأنت] كلما جاء رجل غَلَبَكَ اتبعته (¬4). وقال نُعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك، عن عبد اللَّه بن وَهْب أن رجلًا جاء إلى القاسم بن محمد، فسأله عن شيء، فأجابه، فلما ولّى الرجلُ دَعَاه فقال له: لا تَقُلْ إن القاسم زعمَ أن هذا هو الحق، ولكن إذا اضْطُرِرْتَ إليه عملتَ به (¬5). وقال أبو عمر: قال ابن وَهْب: قال لي مالك بن أنس، وهو يُنكر كثرةَ الجواب للمسائل: يا عبد اللَّه، ما علمتَه فَقُلْ به ودُلَّ عليه، وما لم تعلم فاسكت، وإياك أن تتقلد للناس قِلادَةَ سوء (¬6). وقال أبو عمر: وذكر محمد بن حارث بن أسد الخُشَني: أنبأنا أبو عبد اللَّه محمد بن عَبّاس (¬7) النَّحَّاس قال: سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحداد يقول: سمعتُ سحنون بن سعيد يقول: ما أدري ما هذا الرأي! سُفِكت به الدِّماء، واسْتُحِلَّت به الفُرُوج، واسْتُحِقَّت به الحقوق، غير أنَّا رأينا رجلًا صالحًا فقلدناه] (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق) بعدها: "أن". (¬3) في (ق): "يتبع". (¬4) ذكر سنده من "جامع بيان العلم" ابن عبد البر (2/ 1099 رقم 2072) من طريق الحسن بن الصباح، عن إسحاق بن إبراهيم الحنيني، عن مالك، وإسحاق ضعيف. ثم رواه (2117) من طريق يعقوب الفسوي، عن الحسن به، وفيه إسحاق -أيضًا- وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في "الجامع" (2/ 1070/ رقم 2076)، ورواته ثقات غير نعيم ففيه كلام. وفي (ك): "أن ابن القاسم زعم". (¬6) أخرجه الدوري في "ما رواه الأكابر عن مالك" (رقم 39)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (رقم 822)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (170)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 1071 رقم 2080) بإسنادٍ صحيح إلى ابن وهب. وذكره الشاطبي في "الموافقات" (5/ 382 - 383 بتحقيقي)، وفي النسخ جميعها: "يا أبا عبد اللَّه"!! والصواب حذف "أبا" كما في مصادر التخريج. (¬7) في (ق) و (ك): "ابن عياش". (¬8) هو في "الجامع" (2082) بإسناد صحيح، وما بين المعقوفتين سقط من (ن).

فصل في الرأي المحمود، وهو أنواع

وقال سَلَمة بن شَبيب: سمعت أحمد يقول: رأيُ الشافعي ورأيُ مالك ورأيُ أبي حنيفة كلّه عنده رأي (¬1)، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار (¬2). وقال أبو عُمَر بن عبد البر: أنشدني عبد الرحمن بن يحيى: أنشدنا أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي (¬3) بمكة أنشدنا محمد بن جعفر: أنشدنا عبدُ اللَّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه: دينُ النبيِّ محمدٍ آثارُ (¬4) ... نِعْمَ المطيَّةُ للفتى الأخْبَارُ لا تُخدَعَنَّ عن الحديث وأهلِهِ ... فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نَهَارُ ولربما جهل الفتى طُرُقَ الهُدَى ... والشمسُ طالعةٌ لها أنوارُ (¬5) ولبعض أهل العلم: العلم قال اللَّه قال رسوله ... قال الصَّحابةُ ليس خُلْفٌ فيهِ ما العلم نَصْبُكَ للخلاف سَفَاهَةً ... بين النصوص وبين رأي سَفِيهِ كلَّا! ولا نَصْبُ الخلاف جَهَالةَ ... بين الرسول وبين رأي فقيهِ كلَّا! ولا رَدُّ النُّصوصِ تعمُّدًا ... حَذَرًا من التَّجْسيم والتَّشبيهِ حاشا النُّصُوصَ من الذي رُمِيَتْ به ... من فرْقَةِ التَّعطيل والتَّمويهِ فصل في الرأي المحمود، وهو أنواع [النوع] (¬6) الأول: رأي أفقه الأمة، وأبَرِّ الأمة قلوبًا، وأعمقهم علمًا (¬7)، وأقلهم تكلَّفًا، وأصحهم قُصُودًا، وأكملهم فِطْرة، وأتمهم إدراكًا، وأصفاهم ¬

_ (¬1) في النسخ الخطية: "كلٌّ عنده رأي"!! (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (2107)، من طريق العباس بن الفضل، عن سلمة به، وإسناده صحيح. (¬3) في (ق) و (ك): "الحسين بن الخضر الأسبوطي". (¬4) قال (و): "كان الواجب أن يقال: دين النبي محمد قرآن!! والشعر الآخر أدق وأوفى في دلالته" اهـ. (¬5) هو في "الجامع" (رقم 1459)، ونسب الخطيب البغدادي في "شرف أصحاب الحديث" (163)، هذه الأبيات لعبدة بن زياد الأصبهاني، وكان عبد الرحمن بن مهدي يتمثل بها -أيضًا-، كما عند أبي إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (2/ 193 - 194 رقم 347) بسنده إليه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في (ن): "وأعمقها علمًا".

[قول الشافعي في الصحابة وآرائهم]

أذهانًا، الذين (¬1) شاهدوا التنزيل، وعَرَفوا التأويل، وفَهِمُوا مقاصد الرسول؛ فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كنسبتهم إلى صحبته؛ والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل، فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قَدْرهم إلى قَدْرهم. [قول الشافعي في الصحابة وآرائهم] قال الشافعي [رحمه اللَّه] (¬2) في "رسالته البغدادية" التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني (¬3)، وهذا لفظه: "وقد أثنى اللَّه تبارك وتعالى على أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم اللَّه وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحين، أدُّوا إلينا سُنَنَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشاهدوه والوحي (¬4) ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عامًا وخاصًا وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا (¬5)، وهم فوقنا في كل عملٍ واجتهادٍ وورعٍ [وعقلٍ] (2) وأمرٍ استدرك به علم واستنبط به، وآراوْهم [لنا] (2) أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومَنْ أَدْرَكنا ممن يُرْضى أو حُكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه سُنَّةً إلى قولهِم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله". ولما كان رأي الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال [الشافعي] (¬6) في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة (¬7): وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت، وعنه أخذنا أكثر الفرائض. قال: والقياس عندي قتل الرَّاهبِ لولا ما جاء عن أبي بكر -رضي اللَّه عنه- (¬8)، فترك ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الذي"! (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ذكره البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 442)، هكذا دون إسناد. وروى في "المدخل" (41) أوله بدون إسناد. (¬4) في (ق) و (ك): "وشاهدوا الوحي". (¬5) في (ق): "وحملنا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬7) انظره في "كتاب الأم" (4/ 85)، ولفظه هناك: "وهذا قول زيد بن ثابت، وعنه قبلنا أكثر الفرائض" اهـ. (¬8) في وصية "طويلة" له، انظر تخريجي لها في تعليقي على "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (مسألة 1592). وسقطت "رضي اللَّه عنه" من (ق). وفي (ك): "أبي الصديق رضي اللَّه عنه".

[ليس مثل الصحابة أحد، وما وافق فيه عمر القرآن]

صريح القياس لقول (¬1) الصديق. وقال في رواية الربيع عنه: والبدعة ما خالف كتابًا أو سنةً أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فجعل ما خالف قول الصحابي (¬2) بدعة، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى إشباع الكلام في هذه المسألة، وذكر نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة، ووجوب اتّباعهم في فتاويهم، [وأن لا] (¬3) يخرج من جملة أقوالهم، وأن الأئمة متفقون على ذلك. [ليس مثل الصحابة أحد، وما وافق فيه عمر القرآن] والمقصود أن أحدًا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، و [كيف يساويهم] (¬4) وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته؟ كما رأى عمر [في أَسَارَى] (¬5) بدر أن تُضرب أعناقُهم فنزل القرآن بموافقته (¬6)، ورأى أن تُحجب نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فنزل القرآن بموافقته (¬7)، ورأى أن يُتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته (¬8)؛ وقال لنساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما اجتمعن في الغيرة عليه: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5] فنزل القرآن بموافقته (¬9)، ولما توفي عبد اللَّه بن أبيّ قام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول اللَّه إنه منافق، فصلى عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأنزل اللَّه ¬

_ (¬1) في (ق): "لرأي". (¬2) في (ق): "الصحابة". (¬3) في (ق): "وألّا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "بأسارى". (¬6) سيأتي تخريجه. (¬7) انظر ما بعده. (¬8) و (¬9) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الصلاة): باب ما جاء في القبلة، (1/ 504/ رقم 402، و (كتاب التفسير) باب قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} (8/ 168/ رقم 4483)، وباب في سورة الأحزاب (8/ 527/ رقم 4790)، وباب في سورة التحريم (8/ 660/ رقم 4916)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب فضائل الصحابة): باب من فضائل عمر -رضي اللَّه عنه- (4/ 1865/ رقم 2399)، والنسائي في "التفسير" (الأرقام 18، 435، 623)، والترمذي في "الجامع" (4/ 69)، وابن ماجه في "السنن" (1/ 322/ رقم 1009)، وأحمد في "المسند" (1/ 23 - 24، 24، 36)، والدارمي في "السنن" (2/ 44)، من قول عمر -رضي اللَّه عنه-. وقد جمع موافقات عمر وتكلم عليها في رسالة مفردة السيوطي في "قطف الثمر" وهي مطبوعة ضمن "الحاوي للفتاوى"، واعتنى بها عناية جيدة ابن شبة في "تاريخ المدينة"، وذكر طرفًا منها ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 97 وما بعدها، ترجمة عمر).

[حكم سعد بن معاذ وابن مسعود بحكم الله]

عليه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (¬1) [التوبة: 84]. [حكم سعد بن معاذ وابن مسعود بحكم اللَّه] وقد قال سعد بن معاذ لما حكَّمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بني قريظة: إني أرى أن تُقْتل مقاتلتُهم، وتُسبى ذرياتُهم (¬2)، وتُغنم أموالُهم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه من فوق سبع سماوات" (¬3). ولما اختلفوا في [المفوضة (¬4) شهرًا إلى ابن مسعود قال]: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بريء منه، أرى أن لها مَهْر نسائها لا وَكْس ولا شَطَطْ، ولها الميراث، وعليها العِدَّة، فقام ناس من أشْجَعَ فقالوا: نشهد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى في امرأة منا يُقال لها بَرْوَع بنت واشِق، بمثل ما قضيت [به]، فما فرح ابن مسعود بشيء بعد الإسلام فرحه بذلك (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في "الجنائز" (1269) باب (الكفن في القميص)، وفي (4670) في التفسير: سورة التوبة: باب {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ. . .} و (4672) باب {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ}، و (5796) في اللباس: باب لبس القميص، ومسلم (2400) من حديث ابن عمر. (¬2) في (ك) و (ق): "ذريتهم". (¬3) رواه البخاري (3043) في (الجهاد): باب إذا نزل العدو على حكم رجل، و (3804) في (المناقب): باب مناقب سعد بن معاذ، و (4121) في (المغازي): باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب، و (6262) في (الاستئذان): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قوموا إلى سيدكم، ومسلم (1768) في (الجهاد): باب جواز قتال من نقض العهد، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "شهر قال ابن مسعود". (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 447)، وأبو داود (2116) في (النكاح): باب فيمن تزوج ولم يُسمِّ صداقًا حتى مات، والترمذي (1145) في (النكاح): باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها، والنسائي (6/ 121 و 122) في (النكاح): باب إباحة التزوج بغير نكاح، و (6/ 198) في (الطلاق): باب عدة المتوفى عنها زوجها قبل أن يدخل بها، وعبد الرزاق (10898 و 10899 و 11745)، وابن الجارود (718)، وابن حبان (4100)، و (4101)، والطبراني في "الكبير" (20/ 543 و 544 و 545)، والحاكم (2/ 180)، والبيهقي (7/ 245 و 246)، من طرق عن عبد اللَّه بن مسعود، وهو صحيح. وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[رأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا]

[رأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا] وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرًا من رأينا [لأنفسنا، وكيف لا] (¬1)، وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمةً وعلمًا ومعرفةً وفهمًا عن اللَّه ورسوله ونصيحةً للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم (¬2)، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غَضًّا طريًا لم يَشُبْه إشكالٌ، ولم يَشُبه خلافٌ (¬3)، ولم تدنسه (¬4) معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم (¬5) من أفسد القياس. فصل النوع الثاني من الرأي المحمود الرأي الذي يفسر النصوص، ويبيّن وجه الدلالة منها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويُسهِّل طريق الاستنباط منها، كما قال عَبْدَان: سمعت عبد اللَّه بن المبارك يقول: "ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث" (¬6). وهذا هو الفهم الذي [يختص اللَّه سبحانه به] (¬7) من يشاء من عباده. ومثال هذا رأي الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬8) في العَوْل (¬9) في الفرائض عند تزاحم الفروض، ورأيهم في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين، ورأيهم في توريث المَبْتُوتَة في مرض الموت، ورأيهم في مسألة جَرِّ الولاء، ورأيهم في المُحْرم يقع على أهله بفساد حجه ووجوب المُضيّ فيه ¬

_ (¬1) في (ق): "خيرًا من رأينا فكيف لا". (¬2) في (ق) بعدها: "صلى اللَّه عليه وسلم". (¬3) في (ك) و (ق): "اختلاف". (¬4) في (ق): "يدنسه". (¬5) في (ق) و (ك): "بقياس آرائهم". (¬6) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 168)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1457)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (2/ 268 رقم 343) عن عبدان بن عثمان به. (¬7) في (ق): "يخص اللَّه به". (¬8) سقط من (ق). (¬9) "عالة الفريضة": إذا ارتفعت، وزادت سهامها على أصل حساب الموجب عن عدد وارثيها، كمن مات وخلف ابن تين وأبوين وزوجة، فللابنتين الثلثان، وللأبوين السدسان، وهما الثلث، وللزوجة الثمن، فمجموع السهام واحد، وثمن واحد، فأصلها ثمانية، والسهام تسعة" لابن الأثير (و).

والقضاء والهَدْي من قابل، ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكينًا، ورأيهم في الحائض تَطْهُرُ قبل طلوع الفجر تصلي المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر، ورأيهم في الكلالة، وغير ذلك. قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون: أنا عاصم الأحول، عن الشعبي قال: سُئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد (¬1). فإن قيل: كيف يجتمع هذا مع ما صح عنه من قوله: "أَيُّ سَمَاء تُظِلُّني؟ وأي أرض تُقِلُّني إن قلت في كتاب اللَّه برأيي" (¬2)، وكيف يجامع هذا الحديث الذي تقدم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"؟ (¬3). فالجواب أن الرأي نوعان: أحدهما: رأي مجرد لا دليل عليه، بل هو خَرْص وتخمين، فهذا الذي أعاذ اللَّه الصديق والصحابة منه. والثاني: رأي مستندٌ إلى [استدلال واستنباط] (¬4) من النص وحده، أو من نص آخر معه، فهذا من ألطف فَهْمِ النصوص وأدقه، ومنه رأيه في الكلالة أنها ما عدا الوالد والولد، فإن اللَّه سبحانه ذكر الكلالة في موضعين من القرآن، ففي أحد الموضعين (¬5) وَرَّثَ معها الأخَ والأختَ من الأم، ولا ريب أن هذه الكلالة ما عد الوالد والولد، والموضع الثاني (¬6) وَرَّث معها ولد الأبو ين أو (7) الأب النصف أو (¬7) الثلثين، فاختلف الناس في هذه الكلالة، والصحيح فيها قول الصديق الذي ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) مضى تخريجه. (¬4) في (ك): "الاستدلال والاستنباط". (¬5) يعني قوله -سبحانه-: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12]، (و)، (ط). (¬6) يعنى قوله -سبحانه-: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]، (و): ونحوه في (ط) و (ح). (¬7) في (ن) و (ك): "و" ووقع في (ق): "والثلثين".

فصل النوع الثالث من الرأي المحمود

لا قول سواه، وهو الموافق للغة العرب كما قال (¬1): وَرِثْتُم قَنَاةَ المَجْدِ لا عَنْ كَلالةٍ ... عَنْ ابْنَي مَنَافٍ: عَبْدِ شَمْسٍ وهَاشِمِ أي: إنما ورِثْتموها عن الآباء والأجداد، لا عن حواشي النسب (¬2)، وعلى هذا فلا يَرِثُ ولد الأب والأبوين، لا مع أب [ولا] (¬3) مع جد، كما لم يرثوا مع الابن ولا ابنه، وإنما ورثوا مع البنات؛ لأنهم عصبة فلهم ما فضل عن الفروض (¬4). فصل النوع الثالث من الرأي المحمود [الرأي] (¬5) الذي تواطأت عليه الأمة، [وتَلَقاه] (¬6) خلَفُهم عن سلفهم، فإنّ ما تواطئوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابًا، كما تواطئوا عليه من الرواية والرؤيا، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصحابه وقد تعددت منهم رؤيا ليلة القدر في السبع (¬7) الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر [فمن كان منكم متحريها، فلْيتحرَّها في السبع الأواخر] " (¬8)، فاعتبر -صلى اللَّه عليه وسلم- تواطؤَ رؤيا المؤمنين؛ ¬

_ (¬1) الشعر للفرزدق في "ديوانه" (2/ 309) يخاطب سليمان بن عبد الملك، ورواية صدره: ورثتم قناة الملك غير كلالة. والبيت في: "لسان العرب" (5/ 3918)، و"خزانة الأدب" (1/ 90)، و"الكامل" للمبرد (3/ 1125 - ط الدالي)، وعزاه للفرزدق. (¬2) "حواشي": جمع حاشية، وهي أهل الرجل وخاصته؛ كما في "القاموس" (ح). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) "انظر في معنى الكلالة وتفصيل فرائضها: "كتاب روح المعاني" للآلوسي (4/ 349 - 351، 6/ 67 - 70، الطبعة الأولى لمؤسسة الحلبي) (ط) ووقع في (ق) "الفرائض". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬6) ما بين المعقوقين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في المطبوع و (ك) و (ق): "العشر"، وقال في هامش (ق): "لعله السبع"، وهو الموافق لما في الحديث. (¬8) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب ليلة القدر): باب التماس ليلة القدر في السبع الأواخر، (رقم 2015)، و (كتاب التهجد): باب فضل من تعار من الليل فصلى، (رقم 1158)، و (كتاب التعبير): باب التواطؤ على الرؤيا، (رقم 6991)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيام): باب فضل ليلة القدر، والحث على طلبها، (رقم 1165)، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك).

فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها [ورأيها] (¬1)، ولهذا [كان] (¬2) من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد، وقد مدح اللَّه سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) ليس عنده فيها نصٌّ اللَّه ولا عن رسوله جَمَعَ لها أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم جعلها شورى بينهم (¬4). قال البخاري: حدثنا سُنيد: ثنا يزيد، عن العوَّام بن حَوْشَب، عن المُسيَّب بن رافع قال: كان إذا جاءه (¬5) الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمى صوافي الأمر فرفع إليهم، فجمع لهم أهل العلم، فإذا (¬6) اجتمع عليه رأيهم [فهو] الحق (¬7). وقال محمد بن سُليمان الباغَنْدي (¬8): ثنا عبد الرحمن بن يونس: ثنا عمر بن أيوب: أخبرنا عيسى بن المسيب، عن عامر، عن شُريح القاضي، قال لي عمر بن الخطاب: [أن] (¬9) اقضِ بما استبان لك من قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم تعلم [كل أقضية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬10)، فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضى به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واسْتَشِر أهل العلم والصلاح (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) كان -رضي اللَّه عنه- يجمع الشباب تارة، وأهل بدر تارة أخرى، أخرج الأول عنه: الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (193)، والخليلي في "الإرشاد" (1/ 309)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 106 - ط القديمة)، وذكره عنه الذهبي في "السير" (8/ 372 - 373)، وأخرج الثاني: البيهقي في "المدخل" (رقم 803). (¬5) في (ق): "جاء". (¬6) في (ق): "وإذا". (¬7) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2071)، من هذا الطريق، وسُنَيد هو ابن داود قال ابن حجر: ضُعِّف مع إمامته ومعرفته. قال (ح): "هكذا في النسختين، والمعنى من إيراد هذه الجمل ظاهر إلا أن في التركيب ركاكة: تدبر"!!. وقال (و): "وقد أعجلني ما كنت فيه عن مراجعة الحديث في البخاري، فليراجع، ففيه هنا اضطراب ونقص!! قلت: وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، والأثر ليس في "صحيح البخاري". (¬8) في (ق) و (ك): "الباغدي". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬11) أخرجه النسائي في "المجتبى" (كتاب آداب القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم =

فصل النوع الرابع من الرأي المحمود

وقال الحُميدي: ثنا سُفيان: ثنا الشَّيبانيّ، عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: إذا حضرك أمر لا بد منه، فانظر ما في كتاب اللَّه فاقض به، فإن لم يكن، ففيما (¬1) قضى به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يكن ففيما (1) قضى به الصالحون وأئمة العدل، فإن لم يكن فأنت بالخيار، فإنْ شئتَ أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك، وإنْ شئت أن تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إيايَّ إلا خيرًا لك، والسلام (¬2). فصل النوع الرابع من الرأي المحمود أن يكون بعد طلب عِلْم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة فبما قضى به الخلفاءُ الرَّاشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده، ففيما (¬3) قاله واحد من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬4)، [فإن لم يجده] (¬5) اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب اللَّه وسنة رسوله (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سَوَّغَه (¬7) الصحابة واستعملوه، وأقروا (¬8) بعضهم بعضًا عليه. قال علي بن الجَعْد: أنبأنا شعبة، عن سَيَّار (¬9)، عن الشعبي، قال: أخذ عمر فرسًا من رجل على سَوْم، فحَمَل عليه فَعَطِبَ، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا، فقال الرجل: إني أَرْضى بشُريح العِراقي، فقال شُريح: ¬

_ = (8/ 231) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (رقم 1340) - وسعيد بن منصور -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (10/ 110) -، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 99)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 846/ رقم 1595)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 29 - 30)، والبيهقي (10/ 115) من طرق عن الشعبي عن شريح، أنه كتب إلى عمر -رضي اللَّه عنه- يسأله؛ فكتب إليه، وذكروه بألفاظ، منها المذكور هنا، ومنها ما سيأتي عند المصنف، وهو صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخُبْر الخَبر" (1/ 20). وانظر ما سيأتي قريبًا. (¬1) في (ق) و (ك): "فبما". (¬2) رواته ثقات، لكن صورته صورة المرسل لأن الشعبي لم يدرك عمر بن الخطاب وانظر ما قبله. (¬3) في (ق): "فبما". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) في (ق): "نبيه" (¬7) في (ق) و (ك): "سوغته". (¬8) في (ق) و (ك): "وأقر". (¬9) في (ق) و (ن) و (ك): "عن سنان".

[خطاب عمر إلى أبي موسى]

أخذته صحيحًا سليمًا، فأنتَ له ضامنٌ حتى تردَّه صحيحًا سليمًا، قال: فكأنه أعجبه فبعثه قاضيًا، وقال: ما استبان لك من كتاب اللَّه فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن في كتاب اللَّه فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك (¬1). [خطاب عمر إلى أبي موسى] وقال أبو عبيد: [ثنا] (¬2) كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقان، وقال أبو نعيم: عن جعفر بن بُرْقان، عن مَعْمَر البَصْري، عن أبي العَوَّام، وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس [أبو عبد اللَّه بن إدريس] (¬3) قال: أتيت سعيد بن أبي بُرْدة فسألته عن رسائل (¬4) عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بُرْدة، فأخرج له (¬5) كُتُبًا، فرأيت [في كتاب] (¬6) منها، رجعنا إلى حديث [أبي] (6) العَوَّام، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: " [أَمَّا بعد] (6)، فإن القضاء فريضةٌ محكمةٌ، وسنةٌ متبعةٌ، فَافْهَم إذا أُدْلي إليك، فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له، وآسِ (¬7) الناس في مَجْلِسِكَ، وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حَيْفِكَ، ولا يَيأس (¬8) ضعيف من عدلك، البينة على المُدَّعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حَرَّم حلالًا، ومن ادَّعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن [أحضر] (¬9) بَيِّنة أعطيتَه بحقِّه، وإن أعجزه ذلك اسْتَحْلَلْتَ (¬10) عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى (¬11)، ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فَهُدِيتَ [فيه] (¬12) ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 848 - رقم 1598) ورواته ثقات، لكنه مرسل الشعبي لم يسمع من عمر وله شواهد كثيرة، وقد تقدم، وسيأتي قريبًا، وفي (ن): "اجتهد برأيك". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬4) في المطبوع: "رُسُل"، وفي (ك): "مسائل". (¬5) في المطبوع و (ق) و (ك): "إليه". (¬6) سقطت من (ك). (¬7) في المطبوع: "آس"، وفي (ق) و (ك): "وواس". (¬8) في المطبوع: "ولا يبأس". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬10) في (ق): "استحلت". (¬11) في المخطوط: "للعلماء". (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

لرشدك أن تُراجعَ فيه الحق، فإن (¬1) الحقَّ قديمٌ لا يُبْطله شيءٌ، ومُراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجَرَّبًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حدٍ، أو ظنِّينًا في ولاءٍ أو قرابة، فإن اللَّه تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبيِّنات والأَيْمان، ثم الفَهْمَ الفَهْم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في [قرآنٍ ولا سنة] (¬2)، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد (¬3) فيما ترى إلى أحبِّها إلى اللَّه وأشبهها بالحق، وإيِّاك والغضب والقلق والضَّجر والتأذِّي بالناس والتنكُّر (¬4) عند الخصومة، أو الخصوم، شك أبو عبيد، فإن القضاء في مواطن الحق مما يُوجبُ اللَّه به الأجر، ويُحسنُ به الذِّكر. فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه اللَّه ما بينه وبين الناس، ومن تَزَيَّن بما ليس في نفسه شانَهُ اللَّه، فإن اللَّه تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنُّك بثواب عند اللَّه في عاجل رزقه، وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة اللَّه" (¬5). ¬

_ (¬1) في (ق): "وإن". (¬2) في (ك): "القرآن والسنة" وفي (ق): "ولا في سنة". (¬3) في (ن) و (ق) و (ك): "ثم اعتمد". (¬4) في (ن): "والشك". (¬5) أخرجه الدارقطني في "السنن" (4/ 207)، أو رقم (4381 - بتحقيقي)، وابن أبي الدنيا في "القضاء"، و"الإخلاص والنية" (رقم 80 - مختصرًا)، -وعنه الدينوري في "المجالسة" (8/ 267 رقم 3534 - بتحقيقي)، ومن طريقه ابن عربي في "محاضرة الأبرار" (2/ 293) -، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 70 - 73، 283 - 293)، والقاضي المعافى، -ومن طريقه الشجري في "الأمالي" (2/ 235 - 236) -، والدارقطني (4/ 207)، وابن القاص في "أدب القاضي" (1/ 168)، والبيهقي (6/ 65 و 10/ 106، 119، 135، 182، 253 - مفرقًا)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 72 - طـ دار الفكر)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 200)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 181)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 399) و"الإِحكام" (2/ 442 - 443 و 7/ 146 - 147) وابن عبد البر في "الاستذكار" (22/ 31) وابن الجوزي في "تاريخ عمر" (135) وابن العربي في "عارضة الأحوذي" (9/ 170)، من طرق عن ابن عيينة، عن إدريس الأودي قال: أتيت سعيد، وفي رواية: أخرج إلينا سعبد بن أبي بُردة به. وهذا إسناد رجاله ثقات مشهورون؛ لكن رواية سعيد إنما هي من كتاب عمر، وسعيد هذا روايته عن ابن عمر مرسلة، فكيف عن عمر؟ مات بعد المئة وثلاثين. وأخرجه ابن أبي شيبة (4/ 345)، والبيهقي (10/ 150)، و"معرفة السنن والآثار" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (14/ 240 - 241 رقم 19792) وابن عساكر (32/ 71)، من طريق جعفر بن برقان، عن معمر البصري، عن أبي العوام البصري، قال: كتب عمر بن الخطاب. . وذكره. وهذا إسناد جيد، وأبو العوام هذا هو عبد العزيز بن الربيع من الثقات، لكنه لم يدرك عمر. وانظر "الإرواء" (8/ 241). قال البيهقي عقبه في "المعرفة": "وهذا الكتاب قد رواه سعيد بن أبي بردة، وروي عن أبي المليح الهذلي أنه رواه" وقال: "وهو كتاب معروف مشهور، لا بُدَّ للقضاة من معرفته والعمل به". قلت: ورواية أبي المليح، أخرجها أبو يوسف القاضي في "الخراج" (ص 264 رقم 20/ 202 - ط إحسان عباس، مختصرًا)، -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (32/ 70 - 71 - ط دار الفكر، مطولًا) والدارقطني في "السنن" (4/ 206 - 207 أو رقم 4380 - بتحقيقي)، والبيهقي (10/ 197)، وابن عساكر (32/ 70)، والسيوطي في "الأشباه والنظائر"، عن عبيد اللَّه بن أبي حميد عن أبي المليح به. وعبيد اللَّه بن أبي حميد، ضعيف، بل تركه أحمد، وقال البخاري: منكر الحديث، وتابعه أبو بكر الهذلي -وهو متروك- عند محمد بن الحسن، كما في "المبسوط" (16/ 60)، وأبو المليح لم يسمع من عمر. قال الجاحظ في "البيان والتبيين" (2/ 48): "رسالة عمر -رضي اللَّه عنه- إلى أبي موسى الأشعري - رحمه اللَّه رواها ابن عيينة وأبو بكر الهذلي ومسلمة بن محارب، رووها عن قتادة!. ورواها أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن عبيد اللَّه بن أبي حُميد الهذلي، عن أبي المليح أسامة الهذلي، أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري. ." وساقها. قلت: ورواها الشعبي، فيما أخرجه هناد في "الزهد" (2/ 436 رقم 859 - مختصرة)، -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 50) -، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (302 - 303 - أخبار الشيخين) مطولة. ورواها -أيضًا- مطولة: الوليد بن معدان، عند: ابن شَبَّة في "تاريخ المدينة" (2/ 775 - 776)، وابن حزم في "الإحكام" (2/ 442 و 7/ 146) و"المحلى" (9/ 393)، وفيه عبد الملك بن الوليد بن معدان، متروك، ساقط بلا خلاف وأبوه مجهول، قاله ابن حزم. ورواها أيضًا: عيسى بن موسى، عند: البلاذري في "أنساب الأشراف" (304 - أخبار الشيخين)، وقتادة، عند: مدمر في "الجامع" (20676) بسندٍ جيد، قاله ابن مفلح في "أصوله" (3/ 1323). وذكر هذه الرسالة، واعتنى بها كثير من العلماء، وتداولتها كتب الأدب، ومدحتها، ففي "الكامل" (1/ 19 - ط الدالي) للمبرد عنها: "وهي التي جمع فيها -أي عمر- جمل الأحكام واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس بعده يتخذونها إمامًا، ولا يجد مُحِقٌّ عنها مَعْدِلًا، ولا ظالم من حدودها محيصًا" وساقها، وفسر غريبها. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" (6/ 71): "ورسالة عمر المشهورة في القضاء إلى أبي موسى الأشعري تداولها الفقهاء، وبَنَوْا عليها واعتمدوا على ما فيها من الفقه وأصول الفقه، ومن طرقها ما رواه أبو عبيد وابن بطة وغيرهما بالإسناد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الثابت عن كثير بن هشام عن جعفر بن برقان قال:. . ."، وذكرها. وعزاه ابن حزم في "المحلى" (9/ 393) لأبي عبيد، وعلقه من طريق كثير ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (1/ 133). وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 196): "وساقه ابن حزم من طريقين وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج فيها مما يقوّي أصل الرسالة، لا سيما وفي بعض طرقه أن راويه أخرج الرسالة مكتوبة". وجوّد البُلقيني في "محاسن الاصطلاح" (ص 219) إسناد رسالة عمر -رضي اللَّه عنه-، وانظر: "نصب الراية" (4/ 81)، و"الدراية" (295)، و"الجامع الكبير" (1/ 1156)، و"عارضة الأحوذي" (9/ 170) -وفيه: "وقد رويت من أسانيد كثيرة، لا نطول بها، وشهرتها أغنت عن إسنادها"- و"الاستذكار" (5/ 297) -وفيه: "وهذا الخبر روي عن عمر من وجوه، رواه أهل الحجاز، وأهل العراق، وأهل الشام، ومصر، والحمد للَّه"-. ومما ينبغي ذكره هنا أمور: الأول: اتخذ المصنف التعليق على هذه الرسالة وسيلة للإفاضة في كثير من أسرار التشريع التي نصب ابن القيم نفسه لبيانها، والدفاع عنها، وكتابنا هذا "إعلام الموقعين" يكاد يكون كتابًا موضوعًا لشرح رسالة عمر -رضي اللَّه عنه-. الثاني: ورد في هذه الرسالة أحاديث نبوية، لم يرفعها عمر إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، مثل: "البينة على من ادعى"، "الصلح جائز بين المسلمين. . .". الثالث: طعن ابن حزم في صحة هذه الرسالة، في مواطن من "المحلى"، منها (1/ 58 مسألة 100) قال: "في الرسالة المكذوبة على عمر" وكذا في مسألة (1793) و (1803)، وقال في "إبطال القياس" (6): "وهذه الرسالة لا تصح، تفرد بها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه، وكلاهما متروك، ومن طريق عبد اللَّه بن أبي سعيد وهو مجهول، ومثلها بعيد عن عمر" وكذا في مواطن من "الإحكام" أيضًا، منها: (7/ 146 - 147)، و"النبذ" (110). وهذا الزعم بتفرد ابن معدان بها غير صحيح، وإن قاله ابن حجر في ترجمته في "اللسان" (6/ 227)، انظر في الرد على ابن حزم: "المقنع" (1/ 247)، و"أصول الفقه" لابن مفلح (3/ 1324)، و"المعتبر" (ص 222)، و"الإرواء" (8/ 241)، و"فهرس اللبلي" (ص 89)، تعليق العلامة الشيخ أحمد شاكر على "المحلى" (1/ 56 - 57)، و"ابن حزم، حياته وعصره" (388 - 389) للشيخ محمد أبو زهرة، و"الأبحاث السامية" (1/ 118 - 119) للشيخ محمد المرير التطواني، و"منهج عمر بن الخطاب في التشريع" (ص 48 - 50) لمحمد بلتاجي، ومجلة "العربي" الكويتية: عدد (79) (ص 20)، سنة 1965 م، و"رسالة القضاء لأمير المؤمنين" لأحمد سحنون (ص 209 وما بعد، 437 وما بعد)، و"رسالة عمر" لبازمول (ص 26 - 38). الرابع: اعتنى المرصفي "بغية الآمل" (1/ 83 - 84) بكلام المصنف وتعليقاته عليها. الخامس: كتب مرجوليوث فصلًا عن هذه الرسالة في مجلة "الجمعية الآسيوية" عمد فيه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = للمقارنة بين ثلاث روايات اختارها، وهي: رواية الجاحظ، وابن قتيبة، وابن خلدون في "تاريخه" (1/ 390 - 391). وحاول أن يجعل من اختلاف الروايات سببًا للتشكيك في صحتها، وعجب أن تكون هذه الرسالة قد نقلت شفاهًا من عمر لأبي موسى!! وليس أحد الأمرين -فيما نرى- داعيًا للتشكيك في صحة هذه الرسالة، أما الثاني: فلأن أغلب الروايات تدور على سعيد بن أبي بردة، وفيها يقول الراوي عنه: "فأخرج لنا كتابًا". وأما الأول: فلأن اختلاف الروايات في الحديث لا يكون سببًا قادحًا فيه، وموجبًا لرده، خصوصًا وأن هذا الكتاب عن عمر لا عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو مكتوب في معنى خاص، لا يغير من شأنه اختلاف الروايات فيه، ما دامت كلها تحمل هذا المعنى، والعلماء الخبيرون بالأخبار، وطرق نقلها، لم يشكوا في صحتها، من التعليق على "أخبار القضاة" (1/ 74) بتصرف وزيادة. وطعن في هذه الرسالة: اليهودي المجري جولد تسهير، كما في "نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي" (75) لعلي حسن عبد القادر، والمستشرق جوستاف فون جربناوم في كتابه "حضارة الإسلام"، انظر مقدمة التحقيق لكتاب "أقيسة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 63) لأحمد حسن جابر وعلي أحمد الخطيب. وشكك محمود بن عرنوس في كتابه "تاريخ القضاء في الإسلام" (14 - 16) في صحتها، ولا دليل يعتمد عليه في هذا التشكيك، وسيأتي كلام متين للمصنف حولها. السادس: وقعت زيادات على الموجود في كتب الرواية من هذه الرسالة عند أبي الحسن علي بن عبد اللَّه المتيطي (ت 570 هـ) وذلك في كتابه "النهاية والتمام في معرفة الوثائق والأحكام" (ق 22/ ظ). السابع: أفرد محمد بن محمد بن أبي القاسم القسنطيني شرح هذه الرسالة بجزء مفرد، سماه: "الافتتاح من الملك الوهاب في شرح رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب"، وهي مخطوطة في الخزانة الملكية بالرباط. الثامن: قام الدكتور الشيخ سعود بن سعد بن دريب بدراسة هذه الرسالة، والرد على الاعتراضات والشكوك حولها، سواء من الأقدمين أم من المعاصرين، وذكر أربعين مصدرًا ومرجعًا من كتب السنة، والتاريخ، وعلوم القرآن، والفقه، والآداب، ذكرت هذه الرسالة واعتنت بها، ونشر دراسته هذه في "مجلة البحوث الإسلامية" (العدد السابع، ص 269 - 289). وقام -أيضًا- الدكتور الشيخ ناصر بن عقيل الطريفي بكتابة بحث مفيد حولها، بعنوان: "تحقيق رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري وبيان ما تضمنته من توجيهات للقضاة": ونشره في "مجلة البحوث الإِسلامية" -أيضًا- (العدد السابع عشر، ص 196 - 254). وقام -أيضًا- الأستاذ أحمد سحنون بكتابه دراسة مستقلة بعنوان: "رسالة القضاء لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، توثيق وتحقيق ودراسة، ونشرت عن وزارة الأوقاف بالمغرب، سنة 1412 هـ، دافع فيها عن صحة الرسالة. وقام أيضًا أحمد بازمول بكتابة دراسة جيدة منشورة بعنوان "رسالة عمر إلى أبي موسى في القضاء وآدابه، رواية ودراية". وانظر هذه الرسالة -أيضًا- في: "العقد الفريد" (1/ 86 - 88)، و"إعجاز القرآن" (140 - 142)، و"أدب القاضي" (1/ 250، 570، 688 و 2/ 8، 93، 231) =

[شرح كتاب عمر في القضاء]

قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا. وهذا (¬1) كتاب جليل، تلّقاه العلماءُ بالقبول، وبَنَوْا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والتفقه فيه. [شرح كتاب عمر في القضاء] وقوله: "القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة" يريد به أن ما يحكم به [الحاكم] (¬2) نوعان: أحدهما: فرض محكم غير منسوخ، كالأحكام الكلية التي أحكمها اللَّه في كتابه. والثاني: أحكام سَنَّها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذان النوعان هما المذكوران في حديث عبد اللَّه بن عمرو (¬3) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العلمُ ثلاثةٌ فما سِوى ذلك فهو فَضْل: آيةٌ محكمةٌ، وسنةٌ قائمةٌ، وفريضةٌ عادلةٌ" (¬4). ¬

_ = و"الأحكام السلطانية" (71، 72) كلاهما للماوردي، و"الرياض النضرة" (2/ 397 - 398)، و"التذكرة الحمدونية" (1/ 347 - 348) و"المستصفى" (2/ 59)، و"أدب القاضي" للخصاف (1/ 213)، و"أحكام القرآن" للجصاص (1/ 506)، و"تبصرة الحكام" (1/ 61)، و"معالم القربة" (98)، و"بدائع الصنائع" (7/ 9)، و"الإحكام" (2/ 54) للآمدي، و"المبسوط" (16/ 59)، و"طلبة الطلبة" (129)، و"الإحكام في نوازل الأحكام" (ص 12)، و"نثر الدر" (2/ 24 - 25)، و"نهاية الأرب" (6/ 257)، و"مقدمة ابن خلدون" (220)، و"مآثر الإنافة" (180)، و"طبقات الفقهاء" للشيرازي (39)، و"صبح الأعشى" (10/ 193 - 194)، و"شرح نهج البلاغة" (3/ 811)، و"جمهرة رسائل العرب" (252، 253)، و"مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة" (343 - 344)، و"أخبار عمر" للطنطاوين (ص 217 - 218). (¬1) في (ن): "هذا" من غير واو. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) كذا في (ن) و (ق)، وهو الصواب، وفي باقي النسخ "ابن عُمر". . . بضم العين!. (¬4) رواه أبو داود (2885) في (الفرائض): باب ما جاء في تعليم الفرائض، وابن ماجه (54) في (المقدمة): باب في اجتناب الرأي والقياس، والدارقطني (4/ 67 - 68)، والحاكم (4/ 332)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 208)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 291)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 172)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1384) من طريق عبد الرحمن بن زياد بن أنعم عن عبد الرحمن بن رافع عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا، به. وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي عنه وعن حديث سابق: "الحديثان ضعيفان"، قلت: علَّتُه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم وهو الإفريقي، وهو ضعيف.

[صحة الفهم نعمة]

رواه ابنُ وَهْب: عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد اللَّه بن رافع عنه. ورواه بَقِيَّةُ عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن أبي هريرة "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل المسجد فرأى جَمْعًا من الناس على رجل، فقال: "ما هذا"؟ قالوا: يا رسول اللَّه، رجل علَّامة، قال: "وما العلامة"؟ قالوا: أعلم الناس [بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بالشعر (¬1)، وأعلم الناس] بما اختلف فيه العرب، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر" (¬2). وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العلم ثلاثة، وما خلا فهو فَضْل: آية محكمة (¬3) أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة" (¬4). [صحة الفهم نعمة] وقوله: "فافهم إذا أُدلي إليك"، صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نِعم اللَّه التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطيَ عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامُه عليهما، وبهما بايَنَ (¬5) العبدُ طريقَ المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريقَ الضَّالين الذين فسدت فهومهم (¬6)، ويصير من المُنْعَم عليهم الذين حَسُنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين أُمرنا أن نسأل اللَّه أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه اللَّه في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بشعر". (¬2) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1385) من طريق سليمان بن محمد الخزاعي، حدثنا هشام بن خالد، عن بقية به، وقال: في إسناد هذا الحديث رجلان لا يحتج بهما، وهما: سليمان وبقية. قلت: وبقية مدلس مشهور، وكان يدلس عن الضعفاء والمتروكين، وهذا منها، وابن جريح مدلس أيضًا وقد عنعن. ووقع في (ق): "ما هذا؟ فقالوا:. . .". وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) في المطبوع: "علم آية محكمة". (¬4) الحديث ضعيف، ومرَّ قبل الحديث السابق. (¬5) في المطبوع: "يأمن"، وفي (ق) و (ك): "يتميز العبد من"، وفي (ك): "بايَنَ العبد من طريق". (¬6) في (ق): "فسد مفهومهم".

[التمكن بنوعين من الفهم]

والباطل، والهُدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى. [التمكن بنوعين من الفهم] ولا يتمكن المفتي [ولا] (¬1) الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن (¬2) والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علمًا. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حُكْم اللَّه الذي حَكَم به في كتابه أو على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بَذَلَ جَهْده واستفرغ وُسْعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا (¬3)؛ فالعالم مَنْ يتوصل بمعرفة الواقع [والتفقه فيه] (¬4) إلى معرفة حكم اللَّه ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دُبُرٍ إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5) بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما" (¬6) إلى معرفة عين الأم (¬7)، وكما توصَّل أميرُ المؤمنين علي -رضي اللَّه عنه- (¬8) بقوله للمرأة التي حملت كتاب ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ن): "به القرائن"، وفي (ق): "فهم الواقع أي: الفقه فيه باستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن". (¬3) انظر: "الطرق الحكمية" (2/ 3)، و"زاد المعاد" (2/ 78)، و"البدائع" (3/ 117)، و"مدارج السالكين" (1/ 41). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وفي (ك): "والتفقه" دون "فيه". (¬5) في (ق): "عليه السلام". (¬6) "ادعت امرأتان ولدًا، فحكم داود -كما رُوي- للكبرى، فقال سليمان ائتوني بالسكين أشقه بينهما، فسمحت الكبرى بذلك، وقالت الصغرى: لا تفعل -يرحمك اللَّه! - هو ابنها، فقضى به للصغرى" "الطرق الحكمية" (ص 5)، للإمام ابن القيم" (و) اهـ. وفي (ك): "أشقق الولد بينهما". (¬7) رواه البخاري (3427) في (أحاديث الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)}، (6769) في (الفرائض): باب إذا ادعت المرأة ابنًا، ومسلم (1720) في (الأقضية): باب اختلاف المجتهدين، من حديث أبي هريرة. (¬8) في الأصول جميعًا: "عليه السلام"!! بدل "-رضي اللَّه عنه-" وجاء في (ق): "علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه".

حاطب لمَّا أنكرته: "لتخرجن الكتاب أو لنُجَرِّدَنَّك" إلى استخراج الكتاب منها (¬1)، وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى دلَّهم على كنز [حُيَي] (¬2) لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: "المال كثير والعهد أقرب من ذلك" (¬3) وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ومن تأَمَّل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومَنْ سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3007) في (الجهاد): باب الجاسوس، و (3081) في باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، و (3983) في (المغازي): باب فضل من شهد بدرًا، و (4274) في (المغازي): باب غزوة الفتح، و (4890) في (التفسير) باب {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، و (6259) في (الاستئذان): باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين، و (6939) في (استتابة المرتدين): باب ما جاء في المتأولين، ومسلم (2494) في (فضائل الصحابة): باب في فضائل أهل بدر، من حديث علي -رضي اللَّه عنه-. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وبدله في المطبوع: "جبى"!! وهو خطأ. (¬3) رواه ابن حبان في "الصحيح" (11/ 607 - 609) رقم (5199 - "الإحسان")، والبيهقي في "الدلائل" (4/ 229 - 231)، و"السنن الكبرى" (6/ 114) بإسناد رجاله ثقات، قاله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 479). وصححه شيخنا الألباني في "تخريج أحاديث فقه السيرة" (273)، وأخرجه مختصرًا: أبو داود في "السنن" رقم (3006) من طريق أخرى عن حماد بن سلمة به، وأخرجه مختصرًا: أحمد في "المسند" (2/ 17، 22، 37) والبخاري في "الصحيح" رقم (2328، 2329، 2331)، ومسلم في "الصحيح" (رقم 1551)، وأبو داود في "السنن" (رقم 3408)، والترمذي في "الجامع" (رقم 1383)، وابن ماجه في "السنن" (رقم 2467)، وغيرهم. (¬4) رواه أبو داود (4382) في (الحدود): باب في الامتحان بالضرب، والنسائي (8/ 66) في (قطع يد السارق): باب امتحان السارق بالضرب والحبس، روياه من طريق بقية، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثنا أزهر بن عبد اللَّه الحَرَازي، عن النعمان، وليس فيه أنه ضربهم بل هددهم بذلك. وهذا إسناد جيد رجاله ثقات، وأزهر فيه كلام، لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، وأما النسائي فقال: هذا حديث منكر، لا يحتج بمثله وإنما أخرجته ليعرف!!. قال أبو داود: إنما أرهبهم بهذا القول، أي: لا يجب الضرب إلا بعد الاعتراف. وانظر: "الطرق الحكمية" (16 - 21) مهم، و"بدائع الفوائد" (3/ 117 - 119، 152 - 156 مهم، 174 - 175)، و"زاد المعاد" (2/ 78، 79، 143)، و"الحدود والتعزيرات" (70 - 71) للشيخ بكر أبو زيد.

وقوله: "فيما (¬1) أُدلي إليك" [أي ما توصل] (¬2) به إليك من الكلام الذي يُحكم به بين الخصوم، ومنه قولهم: أَدلى [فلان] (¬3) بحجَّتِه، وأدلى بنَسَبه، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] أي: تضيفوا ذلك إلى الحكام، وتتوصلوا بحكمهم إلى أكلها. فإن قيل: لو أُريد (¬4) هذا المعنى لقيل: "وتُدْلُوا بالحكام إليها" وأما الإدلاء بها إلى الحكام فهو التوصل بالبرطيل (¬5) بها إليهم، فَتَرْشُوا الحاكم لتتوصلوا (¬6) بِرِشْوَتِهِ إلى أكله (¬7) بالباطل. قيل: الآية تتناول النوعين: فكل منهما إدلاء إلى الحكام [بسببها] (¬8)، فالنهي عنهما معًا. وقوله: "فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له" ولايةُ الحق: نفوذُه، فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلًا له عن ولايته، فهو بمنزلة الوالي العدل الذي في توليته مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فإذا عزل عن ولايته لم ينفع، [ومراد عمر بذلك] (¬9): التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع، تكلمه به إن (¬10) لم يكن له قوة [على] (¬11) تنفيذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه، وقد مدح اللَّه سبحانه أُولي القوة في (¬12) أمره، والبصائر في دينه فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] [فالأيدي: القوي] (¬13) على تنفيذ أمر اللَّه، والأبصار: البصائر في دينه. ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "فما". (¬2) في (ن): "فيما توصل"، وفي (ك): "فيما يتوصل" وفي (ق): "مما يتوصل". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) في المطبوع: "فلو أراد". (¬5) "الرشوة، وبرطله: رشاه" (و). (¬6) في (ق) و (ك): "فيرشوا الحاكم ليتوصلوا". (¬7) في المطبوع: "الأكل". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وفي ذلك". (¬10) في (ق): "إذا". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬12) في (ق) زيادة: "في". (¬13) في (ك): "والأيدي: القوة" وفي (ق): "والأيدي القوى".

[واجب الحاكم]

[واجب الحاكم] وقوله: "وآس الناس (¬1) في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حَيْفك، ولا ييأس ضَعيفٌ من عدلك" إذا عدل الحاكم في هذا بين الخَصْمين فهو عنوان عدله في الحكومة، فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه، أو (¬2) القيام له، أو صَدْر المجلس، أو الإقبال عليه والبشاشة له، والنظر إليه، كان عنوان حَيْفِه وظلمه، وقد رأيت في بعض التواريخ [القديمة] (¬3) أن أحد قضاة العدل في بني إسرائيل أوصاهم إذا دفنوه أن ينبشوا قبره بعد مدة، فينظروا هل تغيَّر منه شيءٌ أم لا، وقال: إني لم أَجُرْ قط في حكم، ولم أحاب فيه، غير أنه دخل عليَّ خصمان كان أحدهما صديقًا لي فجعلت أصغي إليه بأُذُني أكثر من إصغائي إلى الآخر، ففعلوا ما أوصاهم به، فرأوا أذنه قد أكلها التراب، ولم يتغير جسده (¬4). [في تخصيص أحد الخصمين مفسدتان] وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مَفْسَدَتان: إحداهما (¬5): طمعه في أن تكون الحكومة له، فيَقْوى قلبُه وجنانُه. والثانية: أن الآخر يَيْأس من عدله ويضعف قلبه، وتنكسر حجَّتُه. [معنى البينة] وقوله: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" البينة في كلام اللَّه و [كلام] (¬6) رسوله، وكلام الصحابة: [اسم] (¬7) لكل ما يُبين الحقَّ، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشاهدين (¬8)، أو الشاهد واليمين، ولا حَجْر في الاصطلاح؛ ما لم يتضمن حَمْل كلام اللَّه ورسوله عليه، فيقع بذلك الغَلَط في فَهْم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم [منها] (¬9). ¬

_ (¬1) في (ق) و (ن): "وآس بين الناس". (¬2) في (ق): "و". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) أخرج النهرواني في "الجليس الصالح" (4/ 92) نحوه بسندٍ إلى بشر بن عبد اللَّه ابن سيار أنَّ رجلًا من بني إسرائيل حضره الموت. . . به. ونحوه في "تنبيه الخواطر" (ص 608). (¬5) في (ق): "أحدهما". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ق) و (ك): "خصوا بها الشاهدين". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وفي (ق): "بها".

[غلط المتأخرين في تفسير البينة]

[غلط المتأخرين في تفسير البينة] وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص، ونذكر من ذلك مثالًا واحدًا، وهو ما نحن فيه [من] (1) لفظ البينة، فإنها في كتاب اللَّه اسم لكل ما يبيِّن الحقَّ؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ [وَالزُّبُرِ]} (¬1) [النحل: 43، 44]، وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، وقال: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57]، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] وقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] وقال: {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]. وهذا كثير [في القرآن] (¬2)، لم يختص لفظ البينة بالشاهدين، [بل] (¬3) ولا استعمل في الكتاب فيهما ألبتة (¬4)، إذا عرف هذا فقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للمدَّعي: "ألك بينة" (¬5) وقول عمر: "البينة على المدعي"، وإن كان هذا قد روي مرفوعًا (¬6) المراد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق) و (ك): "فيه ألبتة". (¬5) ورد هذا في أكثر من حديث: منها حديث عبد اللَّه بن مسعود، أخرجه: أحمد (1/ 379 و 426 و 5/ 211)، والبخاري في (الخصومات) باب كلام الخصوم بعضهم في بعض (2416 و 2417)، وفي (الشهادات): باب سؤال الحاكم المدعي هل لك ببينة؟ (2666 و 2667)، وأبو داود في (الأيمان والنذور): باب فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا لأحد (3243)، والترمذي في (البيوع): باب ما جاء في اليمين الفاجرة يقتطع بها مال المسلم (1269)، وابن ماجه في (الأحكام): باب من حلف على يمين فاجرة ليقتطع بها مالًا (2323)، والبيهقي (10/ 179 - 180). وحديث وائل بن حُجْر، أخرجه مسلم (139) في (الأيمان): باب وعيد من اقتطع من مسلم بيمين فاجرة، وأبو داود (3245) في (الأيمان والنذور): باب فيمن حلف يمينًا ليقتطع بها مالًا لأحد، و (3623) في (الأقضية): باب الرجل يحلف على علمه فيما غاب عنه، والترمذي (1340) في (الأحكام): باب ما جاء في أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه. (¬6) هو جزء من رسالة عمر لأبي موسى في القضاء التي تقدمت، ورواه الدارقطني (4/ 218) من طريق شريح عن عمر، وفي إسناده عبد العزيز بن عبد الرحمن الجزري قال النسائي: ليس ثقة، وقال ابن حبان: لا يحل الاخجاج به، وحَمَل أحمد على حديثه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد ورد مرفوعًا من حديث ابن عباس، وحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، ومن حديث ابن عمر. * أما حديث ابن عباس، فقد رواه البيهقي (10/ 252) من طريق الفريابي، عن سفيان، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، والفريابي هو: محمد بن يوسف، من الثقات؛ إلا أنه ربما أخطأ في حديث سفيان، فقد رواه أصحاب نافع بن عمر بلفظ "اليمين على المُدَّعى عليه"، أخرجه البخاري (2514 و 2668)، ومسلم (1711) (2)، وأبو داود (3619)، والترمذي (1342)، والنسائي (8/ 248)، وغيرهم. مما يدل على وجود خطأ لا محالة، إما من الفريابي وإما من سفيان. ولفظ الحديث: "البينة على المدعي" له طريق آخر عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس، فقد رواه البيهقي (10/ 252) من طريق الحسن بن سهل، حدثنا عبد اللَّه بن إدريس، حدثنا ابن جريج، وعثمان بن الأسود عنه به، وهو عند الطبراني في "الكبير" (11225) مختصر، ورجاله ثقات إلا الحسن بن سهل فقد ذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. وقد روى عنه أبو زرعة، وأبو زرعة متشدِّد، لكن أصحاب ابن جريج رووه أيضًا بلفظ: "اليمين على المُدَّعى عليه"، أخرجه البخاري (4552)، ومسلم (1711 بعد 1)، وعبد الرزاق (15193)، والطبراني (11224)، والدارقطني (4/ 157)، وابن حبان (5082 و 5083)، وغيرهم. لكن حسَّن إسناده الحافظ في "الفتح" (5/ 283). ورواه الشافعي في "مسنده" (2/ 181) من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج به، قال: "البينة على المُدعي" -أحسبه قال ولا أثبته- إنه قال: "واليمين على المدعى عليه"، ومسلم بن خالد هذا هو الزنجي ضعيف، وقد اضطرب فيه كما يأتي. * وأما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فله عنه طرق: فقد رواه الترمذي (1341) في الأحكام: باب ما جاء في أن البيّنة على المدَّعي واليمين على المدعى عليه من طريق محمد بن عبيد اللَّه العرزمي وقال: "هذا حديث في إسناده مقال، ومحمد بن عبيد اللَّه العرزمي يضعف في الحديث. . ." قلت: بل أمره أشد. ورواه الدارقطني (4/ 157 و 218) والبيهقي (10/ 256) من طريق الحجاج بن أرطاة عن عمرو به والحجاج مدلس، وقالوا: "إنَّ أحاديث عمرو أخذها عن العرزمي ودلسها" ورواه البيهقي (10/ 256) من طريق المثنى عن عمرو به والمثنى ضعيف. ورواه الدارقطني (3/ 111 و 4/ 218) والبيهقي (8/ 123) وابن عدي (6/ 2312) من طريق مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب به ومسلم ضعيف، وقد اضطرب فيه فقد جعله من قبل من مسند ابن عباس وهنا من مسند ابن عمرو، وجعله أيضًا من مسند أبي هريرة، رواه الدارقطني (3/ 110 و 4/ 218) وابن عدي (6/ 2312). * حديث ابن عمر، رواه ابن حبان (5996) مطولًا جدًّا، والدارقطني (4/ 218 - 219) =

به: كلُّ (¬1) ما يُبيّن الحق من شهود أو دلالة، فإنَّ الشارع في جميع المواضع يقصد ظهورَ الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يردُ حقًا قد ظهر بدليله أبدًا فيضيع حقوقَ اللَّه وعباده ويعطِّلها، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مُسَاواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحًا (¬2) لا يمكن جَحْده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد، في صورة مَنْ على رأسه عمامة وبيده عمامة وآخر خَلْفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه، فبيِّنة الحال ودلالته هنا تُفيد من ظهور صدق المُدّعي أَضْعَاف ما يفيده مجرد اليد عند كل أحد، فالشارعُ لا يُهْمل مثل هذه البيِّنة والدلالة، ويضيّع حقًا يعلم كل أحد ظهوره وحجته، بل لمَّا ظنَّ هذا من ظَنَّه ضيَّعوا طريق الحكم (¬3)، فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين، وصار الظالم الفاجر ممكَّنًا من ظلمه وفجوره، [فيفعل ما يريد] (¬4)، ويقول: لا يقوم عليَّ بذلك شاهدان اثنان، فضاعت حقوقٌ كثيرةٌ للَّه ولعباده، فحينئذٍ (¬5) أخرج اللَّه أمر هذا الحكم العام (¬6) من أيديهم، وأدخل (¬7) فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويَضِيعُ به أخرى، ويحصلُ به العدوان تارة والعدل (¬8) أخرى، ولو عَرفَ ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المُغْنية عن التفريط والعدوان (¬9). ¬

_ = بلفظ: "المُدَّعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة"، ورجاله ثقات إلا سنان بن الحارث، فقد أورده ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ولم يذكر فيه شيئًا، وقد روى عنه ثلاثة من الثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وانظر "إرواء الغليل" (8/ 266). وقال الترمذي -رحمه اللَّه-: "والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وغيرهم، أن البينة على المُدَّعي واليمين على المدعى عليه"، وانظر "الطرق الحكمية" بتحقيقي. (¬1) في المطبوع: "ألك". (¬2) في (ق): "ترجحًا". (¬3) في (ن) و (ق): "ضيقوا طريق الحق". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) في المطبوع: "حينئذٍ" وفي (ق): "وحين". (¬6) في المطبوع: "أخرج اللَّه أمر الحكم العلمي" وفي (ق): "أخرج اللَّه هذا الحكم العام عن أيديهم". (¬7) في (ق): "دخل". (¬8) في (ن) و (ك): "والعدول". (¬9) قلت: انظر "الطرق الحكمية" (ص 5 - وما بعدها) لابن القيم، و"مجموع الفتاوى" (20/ 388 - 390 و 34/ 238 و 35/ 392 - 395) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-.

[نصاب الشهادة في القرآن]

[نصاب الشهادة في القرآن] وقد ذكر اللَّه [سبحانه] (¬1) نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع؛ فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور، وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين، والرجل والمرأتين في الأموال؛ فقال في آية الدَّيْن: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حَقَّه، لا في طريق الحكم وما (¬2) يحكم به الحاكم؛ فإن هذا شيءٌ وهذا شيءٌ، وأمر في الرجعة بشاهدين عَدْلين، وأمر في الشهادة على الوصية في السفر [باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين (¬3) من غيرهم، وغير المؤمنين هم الكفار، والآية صريحةٌ في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر] (¬4) عند عدم الشاهدين المسلمين، وقد حكم بها (¬5) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة بعده ولم يجئ بعدها ما يَنْسَخُها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولًا، وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية مُعَارِضٌ ألبتة، ولا يصح أن يكون المراد بقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير قبيلتكم، فإن اللَّه [سبحانه] (1) خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] [ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: "من غيركم"] (¬6) أيتها القبيلة، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَفْهَم هذا من الآية بل إنما فهم [منها] (¬7) ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه (¬8) من بعده، وهو سبحانه ذَكَر ما تُحفظ به الحقوق من الشهود، ولم يذكر أن الحكام [لا يحكمون] (¬9) إلا بذلك، فليس في القرآن نَفْي الحكم بشاهد ويمين (¬10)، ولا بالنُّكُولِ ولا باليمين المردودة، ولا بأَيْمان القَسَامة، ولا بأَيْمان اللِّعان، وغير ذلك مما يُبيّن الحق ويُظهره ويدل عليه. وقد أجمع (¬11) المسلمون على أنه يقبل في الأموال رجل وامرأتان، وكذلك ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "ولا ما". (¬3) في (ق): "آخران". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في المطبوع: "وقد حكم به" وفي (ق): "بشاهدين من غير المسلمين وقد حكم بها". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬8) في (ك): "الصحابة". (¬9) في (ك): "لم يحكموا". (¬10) في (ق) و (ك): "بالشاهد واليمين". (¬11) في المطبوع و (ن) و (ك): "وقد اتفق".

توابعها من البيع، [والأجل فيه] (¬1) والخِيار فيه، والرَّهْن، والوصية للمُعَيَّن، وهبته، والوقف عليه، وضمان المال وإتلافه، ودَعْوى رق مجهول النسب، وتسمية المهر، وتسمية عِوَض الخلع، و [يقبل في ذلك (كله) رجل وامرأتان] (¬2). وتنازعوا في العتق، والوكالة في المال، والإيصاء إليه [فيه] (¬3)، ودعوى قَتْل الكافر لاستحقاق سَلَبه، ودَعْوى الأسير الإسلامَ [السابق] (¬4) لمنع رقه، وجناية الخطأ والعَمْد التي لا قَوَد فيها، والنكاح، والرَّجْعة، هل يقبل فيها رجل وامرأتان أم لا بد من رجلين؟ (¬5) على قولين، وهما روايتان عن أحمد، فالأول قولُ أبي حنيفة، والثاني قول مالك والشافعي، والذين قالوا لا يقبل إلا رجلان قالوا: إنما ذكر اللَّه الرجل والمرأتين في الأموال، دون الرجعة والوصية وما معهما، [فقال لهم الآخرون] (¬6): ولم يذكر [سبحانه] (3) وصف الإيمان (¬7) في الرَّقبة إلا في كفارة القَتْل، ولم يذكر فيها إطعام ستين مسكينًا، وقلتم: نحمل (¬8) المطلق على المقيد إما بيانًا وإما قياسًا، وقالوا أيضًا (¬9): فإنه سبحانه إنما قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [وفي الآية الأخرى] (¬10): {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] بخلاف آية الدَّيْن فإنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وفي الموضعين الآخرين لمّا لم يَقُل: {رَجُلَانِ} لم يَقُل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}. [فإن قيل: اللفظ مذكر؛ فلا يتناول الإناث] (¬11). قيل: قد استقرَّ في عُرْف الشارع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكَّرين إذا أُطْلِقَت ولم تقترن بالمؤنث فإنها تتناول (¬12) الرجال والنساء؛ لأنه يُغلَّب المذكر عند الاجتماع كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقوله: {وَلَا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "الإيصال"، وما بين الهلالين سقط من المطبوع. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 149، 159، 161 - 170 الطريق الثامن). (¬6) في (ق): "وقال الآخرون". (¬7) في (ق) بعدها: "إلا". (¬8) في (ك): "يُحمل". (¬9) في (ق): "قالا وأيضًا". (¬10) في (ق): "وقال". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬12) في (ق): "فإنه يتناول".

يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (¬1)} [البقرة: 183] وأمثال ذلك، وعلى هذا فقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] يتناول الصنفين، لكن قد استقرت (¬2) الشريعة على أن شهادة المرأة نصفُ شهادة الرجل، فالمرأتان في الشهادة كالرجل الواحد، بل هذا أولى؛ فإن حضور النساء عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق بالديون، [وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت] (¬3)، فإذا جَوَّز الشارعُ استشهاد النساء في وثائق الديون (¬4) التي يكتبها الرجال مع أنها إنما تكتب غالبًا في مَجَامع الرجال فلأن يسوغ (¬5) ذلك فيما تشهده (¬6) النساء كثيرًا كالوصية والرَّجْعَة أولى. يوضِّحه: أنه قد شَرَعَ في الوصية استشهادَ آخرين من غير المسلمين عند الحاجة؛ فلأن يجوز استشهاد رجل وامرأتين بطريق الأولى والأحرى، بخلاف الديون فإنه لم يامر فيها باستشهاد آخرين من غيرنا؛ إذ كانت (¬7) مُدَاينة المسلمين تكون بينهم وشهودهم حاضرون، والوصية في السفر قد لا يشهدها إلا أهل الذمة، وكذلك الميت قد لا يَشهَدُه إلا النساء. وأيضًا فإنما أمر في الرَّجْعَة باستشهاد ذَوَي عَدْلٍ؛ لأن المستشهد هو المشهود عليه بالرجعة، وهو الزوج؛ لئلا يكتمها، فأمر بأن يستشهد أكمل النصاب، ولا يلزم إذا لم يشهد (¬8) هذا الأكمل أن لا (¬9) يقبل عليه شهادة النصاب الأنقص، فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق (¬10)، وقد أمَرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الملتقطَ أن يُشهد عليه ذَوَي عدل، ولا يكتم، ولا يغيب (¬11)، ولو شهد عليه باللقطة رجل وامرأتان قُبِلتْ بالاتفاق، بل يحكم عليه بمجرد وصف صاحبها لها. ¬

_ (¬1) في (ق) بعدها: "كما كُتب على الذين من قبلكم". (¬2) في (ق): "استقر في". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ن) و (ك) و (ق): "الدين". (¬5) في (ق) و (ن) و (ك): "يشرع". (¬6) في (ق): "يشهده". (¬7) في (ق): "إذا كانت". (¬8) في (ن): "يستشهد". (¬9) في (ق): "ألّا". (¬10) انظر: "الطرق الحكمية في السياسة الشرعية" (ص 67، 161)، و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (5/ 54 مسألة 1817) وتعليقي عليه. (¬11) رواه أحمد (4/ 161 - 162)، و"الطيالسي" (رقم 1801)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 456)، وأبو داود (1709) في (اللقطة)، وابن ماجة (2505) في (اللقطة): باب اللقطة، والطبراني في "الكبير" (17/ 985، 986، 988، 989)، وابن حبان في "صحيحه" (رقم 4894 "الإحسان")، والبيهقي (6/ 187 و 193)، والنسائي في "الكبرى" =

وقال تعالى في شهادة المال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال في الوصية والرَّجْعَة: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] لأن المستشهد [هناك صاحب الحق فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه، فإن لم يكن عدلًا كان هو المضيَّع لحقه، وهذا المستشهد يستشهد] (1) بحق ثابت عنده، فلا يكفي رضاه به، بل لا بُدَّ أن يكون عَدْلًا في نفسه، وأيضًا فإن اللَّه سبحانه [وتعالى] (¬1) قال هناك: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] لأن صاحب الحق هو الذي يحفظ [حقه فيحفظه] (¬2) بمن يرضاه، وإذا قال مَنْ عليه الحق: أنا راض (¬3) بشهادة هذا عليَّ، ففي قَبُوله نزاع، والآية تدل على أنه يقبل، بخلاف الرجعة والطلاق فإن فيهما حقًا للَّه، وكذلك الوصية فيها حقٌّ لغائب. ومما يوضح ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في المرأة: " [أليست] (1) شهادتها نصف شهادة الرجل؟ " (¬4) فأطلق ولم يقيد، ويوضحه أيضًا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للمُدَّعي لمَّا قال: هذا غَصَبني أرضي، فقال: "شَاهِداكَ أو يَمينه" (¬5)، وقد عَرَف أنه لو أتى برجل وامرأتين حكم له، فعلم أن هذا يقوم مقام الشاهدين، وأن قوله: "شاهداك ¬

_ = (رقم 5808/ 1) (اللقطة): باب الإشهاد على كتاب اللقطة. وابن الجارود (رقم 671) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 136)، و"شرح مشكل الآثار" (رقم 4916)، كلهم من طريق يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير، عن أخيه مُطَرِّف، عن عياض بن حمار، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من وجد لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل، ثم لا يغيّره ولا يكتم، فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال اللَّه يؤتيه من يشاء"، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات من رجال الصحيح. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "ماله". (¬3) في (ن): "أنا أرض" وفي (ق): "أنا أرضى". (¬4) هو جزء من حديث رواه مطولًا: البخاري في (الحيض): باب ترك الحائض الصوم رقم (304)، وفي (الشهادات): باب شهادة النساء (2658)، ومسلم في (الإيمان) باب بيان نقصان الإيمان بنقص الطاعات (80)، وابن حبان في "صحيحه" (5744)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 308 و 4/ 235 - 236) من حديث أبي سعيد الخدري. ووقع في (ن): "أليست شهادتها نصف الرجل". (¬5) رواه البخاري (2357) في (المساقاة): باب الخصومة في البئر، و (2516) باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، و (2670) في (الشهادات): باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود، و (4550) في (التفسير): باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا. . .}، ومسلم (138) (221) في (الأيمان): باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، من حديث الأشعث بن قيس.

أو يمينه" إشارة إلى الحجة الشرعية (¬1) التي شعارها الشاهدان، فإما أن يُقال: لفظ "شاهدان" معناه دَليلان يَشْهدان، وإما أن يُقال: رجلان أو ما يقوم مقامهما والمرأتان دليل بمنزلة الشاهد. يوضحه أيضًا: أنه لو لم يأت المُدَّعي بحجة حَلَف المُدَّعى عليه، فيمينهُ كشهادة آخر (¬2)؛ فصار معه دليلان شاهدان، أحدهما: البراءة، والثاني: اليمين، وإن نَكَل (¬3) عن اليمين فمن قضى عليه بالنُّكُول؛ قال: النكول إقرار أو بدل (¬4)، وهذا جيد إذا كان المدعَّى عليه هو الذي يعرف الحق دون المدَّعي، [كما] (¬5) قال عثمان لابن عمر: تحلف أنك بعته وما به عَيْب تعلمه، فلما لم يحلف قَضَى عليه (¬6)، وأما الأكثرون فيقولون: إذا نكل [تُرد اليمين] (¬7) على المُدَّعي فيكون نكول الناكل دليلًا (¬8)، ويمين المُدَّعي دليلًا ثانيًا، فصار الحكم بدليلين: شاهد ويمين، والشارع إنما جعل الحكم في الخصومة بشاهدين؛ لأنَّ المُدَّعي لا يحكم له بمجرد قوله، والخصم منكر، وقد يحلف أيضًا، فكان أحدُ الشاهدين يقاومُ ¬

_ (¬1) في (ن): "إشارة إلى حجة الشريعة التي. . ."، وفي (ق): "إلى أن الحجة الشرعية. . ." دون "إشارة"، واحتملها في الهامش. (¬2) في (ن) و (ق): "بيمينه كشاهد آخر". (¬3) في "الصحاح": "نكل عن العدو، وعن اليمين ينكل بالضم: أي جبن"، وفي "القاموس": "نكل عنه -كضرب، ونصر، وعلم- نكولًا نكص وجبن". اهـ. (د) و (ح)، وفي (طـ) باخنصار. وانظر في الحكم بالنكول: "الإشراف" (5/ 47 مسألة 1810، 1811 - بتحقيقي)، و"الذخيرة" (11/ 58)، و"روضة الطالبين" (11/ 20)، و"حلية العلماء"، (8/ 283). و"مختصر الخلافيات" (5/ 172) ووقع في (ق): "فإن نكل". (¬4) في (ن): "إقرار وبدل"، وفي (ق) و (ك): "إقرار أو بذل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬6) أخرجه مالك في "الموطأ" (3/ 612)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 330)، وعبد الرزاق في "المصنف" (8/ 163)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 328)، و"المعرفة" (8/ 132) و"السنن الصغير" (2/ 264)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 42). من طريق يحيى بن سعيد عن سالم بن عبد اللَّه أن عبد اللَّه بن عمر باع غلامه بثمان مئة درهم وباعه بالبراءة -فذكر قصةً وفيها قول عثمان هذا وصورته صورة الإرسال لأن سالمًا لم يدرك القصة إلا أن يكون أخذها عن أبيه. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "فرد" وفي (ك): "فرد اليمين" وفي (ق): "ردت اليمين". (¬8) في (ق) و (ك): "فيكون نكوله إن نكل دليلًا".

الخصم المنكر؛ فإن إنكاره ويمينه كشاهد، ويبقى الشاهد الآخر خبرَ عدلٍ لا مُعارضَ له؛ فهو حجة شرعية لا معارض لها. وفي (¬1) الرواية إنما يُقْبَل خبر الواحد إذا لم يعارضه أقْوَى منه، فاطَّرد القياس والاعتبار في الحكم والرواية. يوضحه أيضًا: أن [المقصود] (¬2) بالشهادة أن يُعلم بها ثبوت المَشْهودِ به، وأنه حقٌّ وصدق، فإنها خبر عنه، وهذا لا يختلف بكون المشهود به مالًا، أو طلاقًا، أو عتقًا، أو وصية، بل من صُدِّق في هذا صُدِّق في هذا، فإذا (¬3) كان الرجل مع المرأتين كالرجلين يُصدَّقان في الأموال، فكذلك صِدْقهما في هذا؛ وقد ذكر اللَّه [سبحانه] حكمة تَعَدُّد الأنثيين (¬4) في الشهادة، وهي أن المرأة قد تنسى الشهادة وتضل عنها فتذكِّرَها الأخرى، ومعلوم أن تذكيرها لها بالرجعة (¬5) والطلاق والوصية مثل تذكيرها لها بالدَّين وأولى، وهو سبحانه أمر بإشهاد امرأتين لتوكيد الحفظ؛ لأن عَقْلَ المرأتين وحفظهما يقوم مقام عقل رجل وحفظه، ولهذا جعلت على النصف من الرجل في الميراث والدِّية والعقيقة والعِتْق؛ فعتق امرأتين يقوم مقام عتق رجل، كما صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أعْتَقَ أمرأً مسلمًا أعتَقَ اللَّه بكل عضوٍ منه عضوًا [منه] (¬6) من النار، ومن أعتق امرأتين مسلمتين أعتَقَ اللَّه بكل عضو منهما عضوًا [منه] (¬7) من النار" (¬8) ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدُّد هي ¬

_ (¬1) في (ك): "وقال في". (¬2) في (د): "المقصوء" ولعله خطأ مطبعي. (¬3) في (ق): "لماذا". (¬4) في المطبوع و (ن): "الاثنين" وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ن): "أن تذكرها الرجعة" وفي (ك): "أن تذكرها بالرجعة" وفي (ق): "أن تذكيرها بالرجعة". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬8) رواه أبو داود الطيالسي (1197)، وأحمد في "مسنده" (4/ 235)، وأبو داود (3967) في (العتق): باب أي الرقاب أفضل؟ وابن ماجه (2522) في (العتق): باب العتق، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1408)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (725 و 726)، والطبراني في "الكبير" (20/ 755 و 756)، والبيهقي (10/ 272) من طرق عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن شُرحبيل بن السِّمْط قال: قلنا لكعب بن مرة. . فذكره وفيه زيادة. قال أبو داود بعده: سالم لم يسمع من شرحبيل، مات شرحبيل بصفين. أقول: سالم بن أبي الجعد مات في حدود المئة، وقد ذكروا أنه لم يسمع من جماعة من الصحابة ممن مات بعد شرحبيل بن السمط، فهو لم يسمع من عائشة، وأم سلمة. =

عند التحمل (¬1)، فأما إذا عَقَلت المرأة وحَفِظت وكانت ممن يوثق بدينها فإنَّ المقصود حاصلٌ بخبرها، كما يحصل بأخبار الديانات، ولهذا تقبل شهادتها وَحْدَها في مواضع، ويحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين، وهو قول مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد (¬2). قال شيخنا [-قدس اللَّه روحه-] (¬3): لو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجهًا، قال: لأن المرأتين إنما أقيمتا مقام الرجل في التحمل لئلا ¬

_ = والصحابي راوي الحديث هو: كعب بن مرة، وقيل: مرة بن كعب، ورجح غير واحد أنه كعب بن مرة، ورواه أحمد (4/ 321) من طريق سالم عن رجل عن كعب. ورواه النسائي في "السنن الكبرى" (4881، 4882)، ومن طريقه الطحاوي (730/ 731) من طريقين عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن كعب، فأسقط شرحبيل، ثم رواه منصور على الصواب فقال: حُدِّثت عن كعب بن مرة. رواه النسائي في "الكبرى" (4880)، والطحاوي في "المشكل" (128 و 729) من طريقين عن زائدة عنه به. وقد وجدت ابن عبد البر في "الاستيعاب" يقول في ترجمة كعب بن مرة (3/ 278): "وله أحاديث مخرجها عن أهل الكوفة يروونها عن شرحبيل بن السمط عن كعب بن مرة السلمي البهزي، وأهل الشام يروون تلك الأحاديث بأعيانها عن شرحبيل بن السمط، عن عمرو بن عَبَسَة". قلت: وهذا الحديث وجدته من طريق شرحبيل بن السمط عن عمرو بن عَبَسة عند الطحاوي في "المشكل" (732) من طريق أيوب، عن أبي قلابة عنه به ولفظه: "من أعتق رقبة مسلمة. . . ومن أعتق رقبتين مسلمتين فهما فداؤه. . ."، قال أيوب: فحسبته يعني: امرأتين. وإسناده صحيح؛ لكن وقع في سند الطحاوي: شرحبيل بن حسنة وهو خطأ. وأصل الحديث في إعتاق الرقبة دون ذكر: "ومن أعتق امرأتين" ثابت في "صحيح البخاري" (2517 و 6715)، ومسلم (1509) عن أبي هريرة. وانظر -لزامًا- "فضل الرمي في سبيل اللَّه" للقراب (رقم 17، 26) وتعليقي عليه و"فوائد الشاشي" (رقم 1) والتعليق عليه. (¬1) في المطبوع: "هي في التحمل". (¬2) انظر "الطرق الحكمية" (ص 174 - 177، الطريق العاشر، و"المدونة" (4/ 90)، و"شرح الزرقاني على الموطأ" (3/ 393)، و"المنتقى" (5/ 214)، و"تبصرة الحكام" (1/ 271)، و"المعونة"، (3/ 1548)، و"الإشراف" (5/ 46 مسألة 1809 - بتحقيقي) كلاهما للقاضي عبد الوهاب، و"جامع الأمهات" (ص 477)، و"شرح الزركشي" (7/ 313 - 314)، و"المحلى" (9/ 405) وفي (ق): "في مذهب أحمد". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) والعبارة بعدها في (ق): "ولو قيل بحكم. . .".

فصل [وجوب معرفة هذا الأصل العظيم]

تنسى إحداهما، بخلاف الأداء، فإنه ليس [في] (¬1) الكتاب ولا في السنة أنه لا يحكم إلا بشهادة امرأتين، ولا يلزم من الأمر باستشهاد المرأتين وَقْتَ التحمل ألا يحكم بأقل منهما؛ فإنه سبحانه (¬2) أمر باستشهاد رجلين في الديون، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، ومع هذا فيحكم بشاهد واحد (¬3) ويمين الطالب، ويحكم بالنكول والرد وغير ذلك. فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوْسَعُ من الطرق التي أرشَدَ اللَّه صاحبَ الحق إلى أن يحفظ حقه بها، وقد ثبت في "الصحيح" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سأله عقبة بن الحارث، فقال: "إني تَزَوَّجْتُ امرأة، فجاءت أمة سوداء، فقالت: إنها أرضَعَتْنَا" فأمره بفراق امرأته، فقال: "إنها كاذبة"، فقال: "دَعْهَا عنك" (¬4) ففي هذا قَبُول شهادة المرأة الواحدة، وإن كانت أَمَةً، وشهادتها على فعل نفسها، وهو أصل في شهادة القاسم والخارِص والوَزان والكَيَّال [على فعل نفسه] (¬5). فصل [وجوب معرفة هذا الأصل العظيم] وهذا أصل عظيم؛ فيجب [أن يُعرف، غلط فيه] (¬6) كثير من الناس؛ فإن اللَّه [سبحانه] (¬7) أمر بما يُحْفَظُ به الحقُّ فلا (¬8) يحتاج معه إلى يمين صاحبه -وهو الكتاب والشهود- لئلا يجحد الحق [أو ينسى] (7)، ويحتاج صاحبه إلى تذكير مَنْ لم يذكر، إما جُحُودًا واما نسيانًا، ولا يلزم من ذلك أنه إذا كان هناك ما يدل على الحق لم يقبل إلا هذه الطريق التي أمره أن يحفظ حقَّه بها. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) في (ق): "فإن اللَّه سبحانه". (¬3) في (ن): "فيحكم بشهادة واحد". (¬4) أخرجه البخاري في "الصحيح" (رقم 2660): كتاب (الشهادات): باب شهادة المرضعة، و (رقم 5104) (كتاب النكاح): باب شهادة المرضعة عن عقبة بن الحارث. وأصل الحديث في مواطن من "صحيح البخاري"، هي: (رقم 88): (كتاب العلم): باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله، و (رقم 2052): (كتاب البيوع): باب تفسير المشبَّهات و (رقم 2640): (كتاب الشهادات): باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء فقال آخرون: ما علمنا ذلك. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) في (ق): "أن يعرف فيه غلط كثير". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "ولا".

فصل [ما يتعلق بشهادة الزنا وغيرها]

فصل [ما يتعلق بشهادة الزنا وغيرها] وإنما أمر اللَّه (¬1) [سبحانه] (¬2) بالعَدَد في شهود الزنا؛ لأنه مأمور فيه بالسَّتْر، [ولهذا غَلَّظَ فيه النِّصاب، فإنه] (¬3) ليس هناك أحق، (¬4) يضيع، [وإنما حد (¬5) وعقوبة، والعقوبات تُدْرَأ بالشُّبهات، بخلاف حقوق اللَّه وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يقبل فيها قول الصادقين] (¬6)، ومعلوم أن شهادة العَدْل رجلًا كان أو امرأةً أقوى من استصحاب الحال، فإن استصحاب الحال من أضعف البيّنات (¬7)، ولهذا يُدفع (¬8) بالنكول تارة، وبا ليمين المردودة، [وبالشاهدين] (¬9) وبالشاهد واليمين، ودلالة الحال، وهو نظير رفع استصحاب الحال في الأدلة الشرعية بالعموم والمفهوم والقياس، [فيرفع بأضعف الأدلة، فهكذا] (¬10) في الأحكام يرفع بأدنى النصاب، ولهذا قدَّم الخبر الواحد في أخبار (¬11) الديانة على الاستصحاب، مع أنه يلزم جميع المكلفين، فكيف لا يقدم عليه فيما هو دونه؟ ولهذا كان الصحيح الذي دلت عليه السنة التي لا مُعارِضَ لها أن اللُّقَطَة إذا وصفها واصف صفةً تدلُّ على صدقه دُفعت إليه بمجرد الوصف (¬12)، فقام وَصْفُه لها مَقَامَ الشاهدين (¬13)، بل وصفه لها بيِّنة تبيِّن صدقَه وصحَّةَ دعواه، فإنَّ البيِّنة اسم لما يُبيِّن الحق (¬14). وقد اتفق العلماء أن مواضع الحاجات يقبل فيها من الشهادات (¬15) ما لا يقبل في غيرها من حيث الجملة، وإن تنازعوا في بعض التفاصيل، وقد أمر اللَّه [سبحانه] (2) بالعمل بشهادة شاهدين من غير المسلمين عند الحاجة، [في الوصية ¬

_ (¬1) في (ن): "وأما أمر اللَّه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "و". (¬4) في (د): "حتى". (¬5) في (ق): "وإنما هو حد". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في (ق): "من ضعف البيانات"، وقال في الهامش: "لعله: أضعف". (¬8) في (ق): "يرفع". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬11) في (ق): "أحكام". (¬12) الحديث المشار إليه، سبق تخريجه. (¬13) في (ك): "الشاهد" وفي (ق): "مقام الشاهدين وصفة لها". (¬14) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 7، 244). (¬15) في (ك): "الشهادة".

[حكم شهادة العبد]

في السفر] (¬1) مُنَبِّهًا بذلك على نظيره، وما هو أولى منه؛ كقبول شهادة النِّساء منفردات في الأعراس والحمَّامات والمواضع التي تنفرد النساء بالحضور فيها، ولا ريب أنَّ قبول شهادتهن هنا أولى من قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر (¬2)، وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصِّبيان على تَجارُحِ بعضهم بعضًا (¬3)، فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفرداتٍ لضاعت الحقوق وتعطَّلت وأُهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم وتواطئوا على خبر واحد، وفُرِّقُوا وقت الأداء واتفقت كلمتهم، فإنَّ الظن الحاصل حينئذٍ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل [من شهادة] (¬4) رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعُه وجَحْدُه، فلا يُظَنّ (¬5) بالشريعة الكاملة الفاضلة المتضمنة (¬6) لمصالح العباد في المعاش والمَعَاد أنها تُهْمِلُ مثل هذا الحق وتضيّعه، مع ظهور أدلته وقوتها، وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك. [حكم شهادة العبد] وقد روى أبو داود في "سننه" في قضية (¬7) اليهوديين اللّذين زَنَيا، فلما شهد أربعةٌ من اليهود عليهما أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[برَجْمهما] (¬8)،. . . . ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (15/ 297). (¬3) انظر في قبول شهادة الصبيان على تجارح بعضهم بعضًا: "الموطأ" (2/ 726) (كتاب الأقضية: باب القضاء في شهادة الصبيان)، و"الاستذكار" (22/ 77 - 79)، و"المدونة" (4/ 80)، و"تفسير القرطبي" (3/ 391 - 392، 395)، و"تبصرة الحكام" (1/ 216 و 2/ 7)، و"المحلى" (9/ 420)، و"الإنصاف" (12/ 37)، و"الأم" (7/ 88) وقد وردت آثار عديدة تدلل على الجواز، انظرها وتخريجها في تعليقي على "الإشراف" (5/ 42 - 43 مسألة 1807) للقاضي عبد الوهاب، و"الطرق الحكمية" (ص 170 - الطريق الخامس عشر). (¬4) في (ق): "بشهادة". (¬5) في المطبوع: "فلا نظن". (¬6) في المطبوع و (ق) و (ك): "المنتظمة". (¬7) في (ق) و (ن): "في قصة". (¬8) أخرجه أبو داود (4452) في (الحدود): باب في رجم اليهوديين، والبزار (1558 - "كشف الأستار")، والدارقطني (4/ 169 - 170) من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر فذكره. قال الدارقطني: "تفرد به مجالد عن الشعبي، وليس بالقوي" أما الهيثمي فقد ذكره في =

و [قد تقدم] (¬1) حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بشهادة الأمة الواحدة على فعل نفسها (¬2)، وهو يتضمن شهادة العبد، وقد حكى الإمامُ أحمد عن أنس بن مالك إجماعَ الصحابة على شهادته فقال: ما علمت أحدًا رَدَّ شهادة العبد (¬3)، وهذا هو الصواب، فإنه إذا قُبلت شهادتهُ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حكم يلزم [جميع] (¬4) الأمة، فلأَن تُقبل ¬

_ = "مجمع الزوائد" (6/ 271 - 272) لوجود زيادة في متنه عما في "سنن أبي داود"، وقال: "رواه البزار من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر وقد صححها ابن عدي". أقول: لا أدري كيف صححها ابن عدي؟ وعبارته كما في "كامله" (6/ 2417): "ومجالد له عن الشعبي عن جابر أحاديث صالحة، وعن غير جابر من الصحابة أحاديث صالحة، وجملة ما يرويه عن الشعبي، وقد رواه عن غير الشعبي ولكن أكثر روايته عنه، وعامة ما يرويه غير محفوظ". وقد نقل تضعيفه عن غير واحد من أئمة الجرح والتعديل!. وقد رواه الحميدي في "مسنده" (1294)، وأبو يعلى (2136) من طريق سفيان عن مجالد به، لكن ليس فيه أنه شهد أربعة شهود؟ والعجيب أن الهيثمي ذكره عن أبي يعلى (6/ 256) مرسلًا، وقال: "ورجاله ثقات". هكذا مع أن فيه مجالدًا! وهو في "المسند" المطبوع موصول. وقال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (3/ 551) -وكما في "نصب الراية" (4/ 85) -: "قوله في الحديث: "فدعا بالشهود فشهدوا" زيادة في الحديث تفرد بها مجالد، ولا يحتج بما انفرد". وأخرجه أبو داود (4453 و 4454). من طريقين عن الشعبي مرسلًا، ولم يذكر "فدعا بالشهود فشهدوا". وما بين المعقوفتين بياض في (ك)، وفي الهامش: "لعله أن يرجما". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) هو حديث الأمة التي زعمت أنها أرضعت، أخرجه أحمد (4/ 7 و 383 - 384)، والحميدي (579)، وعبد الرزاق (13968 و 15435)، والبخاري (2052) في (البيوع): باب تفسير المشتبهات، وفي (النكاح) (5104) باب شهادة المرضعة، وأبو داود (3604)، والترمذي (1151) في (الرضاع): باب ما جاء في شهادة المرأة الواحدة في الرضاع، والنسائي (6/ 109) في (النكاح): باب الشهادة في الرضاع، من حديث عقبة بن الحارث -رضي اللَّه عنه-. وفي (ك): "وأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم شهادة الأمة. . .". (¬3) انظر: "مسائل صالح لأبيه" (2/ 313)، و"الإنصاف" (12/ 60 - 61)، و"المغني" (9/ 195 - 197)، و"المحلى" (10/ 598)، و"حلية العلماء" (8/ 247)، و"الإشراف" (5/ 61 رقم 1821 - بتحقيقي)، و"تفسير القرطبي" (3/ 389 - 390، 399 و 5/ 414). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن).

[حول شهادة اليمين]

شهادته على واحد من الأمة في حكم جزئيٍّ أولى وأحرى، وإذا قبلت شهادته على حكم اللَّه ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى، فلأن تقبل شهادته على واحد من الناس أولى وأحرى، كيف وهو داخل في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}؟ فإنه منا وهو عَدْل وقد عَدَّله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "يَحْمِلُ هذا العلم من كل خَلَفٍ عَدُولُه" (¬1) وعَدَّلَتْه الأمة في الرواية عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[والفتوى] (¬2)، وهو من رجالنا فيدخل في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وهو مسلم فيدخل في قول عمر بن الخطاب: "والمسلمون عُدُولٌ بعضهم على بعض" (¬3) وهو صادق فيجب العمل بخبره، وأن لا يرد (¬4)، فإن الشريعة لا تردُّ خبر الصادق، بل تعمل (¬5) به، وليس بفاسق، فلا يجب التثبُّتُ في خبره وشهادته، وهذا كله من تمام رحمة اللَّه وعنايته بعباده، وإكمال دينهم لهم، وإتمام نعمته عليهم بشريعته؛ لئلا تضيع حقوق اللَّه وحقوق عباده مع ظهور الحق بشهادة الصادق، لكن إذا أمكن حفظ الحقوق بأعلى الطريقين، فهو أولى كما أمر بالكتاب والشهود؛ لأنه أبلغ في حفظ الحقوق. [حول شهادة اليمين] فإن قيل: أمرُ الأموال أسهل، فإنه يُحكم فيها بالنُكول، وباليمين المردودة، وبالشاهد واليمين، بخلاف الرَّجْعة والطلاق. قيل: هذا فيه نزاع، والحجة إنما تكون بنص أو إجماع، فأما الشاهد واليمين فالحديث الذي في "صحيح مسلم" عن ابن عباس: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بالشاهِدِ واليمين" (¬6) ليس فيه أنه في الأموال، وإنما هو قول عمرو بن دينار (¬7)، ولو كان مرفوعًا عن ابن عباس فليس فيه اختصاص الحكم بذلك في ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه، و (عَدوله) بفتح العين، جمع (عَدل). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) هو قطعة من كتاب عمر لأبي موسى الأشعري، ومضى تخريجه. (¬4) في (ق): "وألا". (¬5) في (ق): "لا يعمل". (¬6) الحديث في "صحيح مسلم" كما قال المؤلف -رحمه اللَّه- في (كتاب الأقضية)، باب: القضاء باليمين والشاهد، (3/ 1337/ 1712). (¬7) ورد كلام عمرو هذا في بعض طرق الحديث، عند أحمد في "المسند" (1/ 323)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 167)، وانظر: "الطرق الحكمية" (63 - 65، 141، 161، 350 - الطريق السابع)، و"تهذيب السنن" (5/ 225 - 230)، فهناك الأحاديث، والرد على من أعلَّها.

[الاحتجاج بصحيفة عمرو بن شعيب]

الأموال وحدها، فإنه لم يخبر عن شرع عام شَرَعَه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأموال، وكذلك سائر ما رُوي من حكمه بذلك، إنما هو في قضايا معينة قضى فيها بشاهد ويمين، وهذا كما لا يدل على اختصاص حكمه بتلك القضايا لا يقتضي اختصاص حكمه (¬1) بالأموال، كما أنه إذا حكم بذلك في الديون لم يدلَّ على أنَّ الأعيان ليست كذلك، بل هذا يحتاج إلى تنقيح المَنَاط، فيُنظر ما حكم لأجله إن وُجد في غير محل حكمه عُدِّيَ إليه. وفي حديث عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن المرأة إذا أقامت شاهدًا واحدًا على الطلاق، فإن حَلَف الزوج أنه لم يُطلِّق لم يُقضَ عليه، وإن لم يَحْلف حَلَفت المرأة، ويُقضى عليه" (¬2). [الاحتجاج بصحيفة عمرو بن شعيب] وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولا يُعْرَف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتجَّ بها (¬3)، وإنما طعن فيها من [لم] (¬4) يتحمَّل (¬5) أعباء الفقه والفتوى، كأبي حاتم البُسْتي (¬6) وابن حزم (¬7) وغيرهما (¬8)؛ وفي هذه الحكومة أن يُقضى في الطلاق بشاهد وما يقوم ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ق) و (ك): "لا يقتضي اختصاصه". (¬2) رواه ابن ماجه (2038)، والدارقطني (4/ 64)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 45) من طريق عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن زهير، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب به. وفيه علل: زهير بن أبي سلمة، قال فيه الحافظ ابن حجر: صدوق له أوهام، وزهير بن محمد ثقة لكن في رواية أهل الشام عنه مناكير -وهذه منها-، وابن جريج مدلس، وقد عنعن. أما البوصيري فقال (1/ 352): "إسناد حسن رجاله ثقات"!. (¬3) انظر تفصيل هذا الاحتجاج في دراسة الأخ أحمد عبد اللَّه أحمد بعنوان: "رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده في الكتب التسعة" (ص 63 - 74)، وهي أطروحة للماجستير، مرقومة على الآلة الكاتبة. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬5) في (ق) و (ك): "يحتمل". (¬6) انظر له "الثقات" (4/ 357 و 6/ 437)، و"المجروحين" (2/ 71، 73). (¬7) انظر له "المحلى" (8/ 270، 317). (¬8) مثل: الشافعي، فيما نقله عنه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 396)، وأيوب السختياني، كما في "الجرح والتعديل" (6/ 238)، و"الضعفاء الكبير" (3/ 273)، وأبو داود السجستاني كما في "السير" (5/ 169)، و"الميزان" (3/ 264)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1767).

مقام شاهد آخر من النكول ويمين المرأة، بخلاف ما إذا أقامت شاهدًا واحدًا وحلف الزوج أنه لم يُطَلِّق، فيمينُ الزوج عارَضَتْ شهادةَ الشاهد، وترجح جانبه بكون الأصل معه؛ وأما إذا نكل الزوج فإنه يُجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر، ولكن هنا لم يُقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداءً؛ لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا، وهو أحفظ [لما وقع منه] (¬1)، فإذا نكَلَ وقام الشاهد الواحد، وحلفت المرأة كان ذلك دليلًا ظاهرًا [جدًّا] (1) على صدق المرأة أفلم يقضي عليه بالنكول وحده، ولا بيمين المرأة، وإنما قضى بالشاهد المقوى بالنكول ويمين المرأة] (¬2). فإن قيل: ففي الأموال إذا أقام شاهدًا (¬3) وحلف (¬4) المدَّعِي حُكم له، ولا تُعْرَض اليمين على المُدَّعى عليه؛ وفي حديث عمرو بن شعيب: "إذا شهد الشاهد الواحد، وحلف الزوج أنه لم يُطَلِّق لم يُحكم عليه" (¬5). قيل: هذا من تمام حكمة هذه الشريعة وجَلالَتها، أن (¬6) الزوج لما كان أعْلَم بنفسه هل طلَّق أم لا، وكان أحفظ لما وقع منه وأعْقَل له وأعلم بنيَّته، وقد يكون [قد] (¬7) تكلم بلفظ مجمل أو بلفظ يظنه الشاهد طلاقًا وليس بطلاق، والشاهد يشهد بما سمع، والزوج أعلم بقصده ومراده، جعل الشارعُ يمين الزوج معارضةً لشهادة الشاهد الواحد، ويُقويّ جانبه الأصلُ واستصحابُ النكاح، فكان الظن المستفاد من ذلك أقوى من الظن المستفاد من مجرد الشاهد الواحد، فإذا نكَلَ قوي الأصلُ (¬8) في صدق الشاهد، فقاوم ما في جانب الزوج، فَقوَّاه الشارع بيمين المرأة، فإذا حلفت مع شاهدها ونكول الزوج قوي جانبها جدًّا، فلا شيء أحسن ولا أَبْيَن ولا أَعْدَل من هذه الحكومة، وأما المال المشهود به فإن المُدَّعي إذا قال: أقرضتُه أو بِعْتُه أو أعَرتُه، أو قال: غَصَبني أو نحو ذلك، فهذا الأمر لا يختص بمعرفته المطلوب (¬9)، ولا يتعلق بن يته وقصده، وليس مع المُدَّعى عليه من شواهد صدقه ما مع الزوج من بقاء عصمة النكاح، وإنما معه مجرد براءة الذمة، وقد عُهد كثرة اشتغالها بالمعاملات، فقويَ الشاهد الواحد والنكول أو يمين ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬3) في المطبوع: "إذا قام شاهد". (¬4) في (ق): "أو حلف". (¬5) تقدم تخريجه قريبًا. (¬6) في (ك) و (ق): "لأن". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ن) و (ك): "قويَ الأمر". (¬9) في (ن): "فهذا أمر لا يختص بمعرفة المطلوب" ووقع في (ق): "ونحو ذلك فهذا أمر لا يختص بمعرفته".

[يحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه]

الطالب على رَفْعها، فحُكم له، فهذا كله مما يبين حكمة الشارع (¬1)، وأنه يقضي بالبينة التي تبين الحق وهي الدليل الذي يدل عليه، والشاهد الذي يشهد به، بحسب الإمكان. [يحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه] بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صِدقُه حكم بشهادته وحده (¬2)، وقد أجاز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شهادة الشاهد الواحد لأبي قتادة بقتل المشرك وَدَفع إليه سَلَبه بشهادته وحده، ولم يُحَلِّف أبا قتادة (¬3)، فجعله بيِّنةً تامة، وأجاز شهادةَ خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته -صلى اللَّه عليه وسلم- الأعرابي (¬4) وجعل شهادته بشهادتين لما استندت إلى تصديقه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) بالرسالة المتضمنة تصديقه في كل ما يخبر به (¬6)، فإذا شهد المسلمون بأنه صادق في خبره عن اللَّه فبطريق الأَوْلى يشهدون أنه صادق (¬7) عن رجل من أمته، ولهذا كان من تَرَاجِم بعض الأئمة على حديثه (¬8): "الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عُرف صِدْقُه" (¬9). ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "مما يبين حكمه"، وفي (ق): "ما يبين حكمته". (¬2) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 126). (¬3) أخرجه البخاري (3142) في (فرض الخمس): باب من لم يخمس الأسلاب، و (4321) في (المغازي): باب قول اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، وعلَّقه (4322)، ووصله (7170) في (الأحكام): باب الشهادة تكون عند الحاكم، ومسلم (1751) في (الجهاد): باب استحقاق القاتل سلب القتيل، من حديث أبي قتادة نفسه. (¬4) في المطبوع و (ن): "بمبايعته للأعرابي". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) أخرجه أبو داود (رقم 3607) (كتاب الأقضية): باب إذا علم الحاكم صدق الشاهد الواحد يجوز له أن يحكم به، والنسائي (7/ 301 - 302) (كتاب البيوع): باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، وأحمد (5/ 215 - 216)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 115، 116 رقم 2084، 2085)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 87)، والطبراني في "الكبير" (4/ 101 رقم 3730)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 17 - 18)، وإسناده صحيح. (¬7) في (ق) بعد هذه الكلمة: "في خبره". (¬8) في (ق): "على هذا الحديث". (¬9) انظر "سنن أبي داود" (كتاب الأقضية) (3/ 308).

فصل [تشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين]

فصل [تشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين] والذي جاءت به الشريعة أن اليمين تُشرع من جهة أقوى المتداعيين، فأي الخصمين تَرجَّح جانبه جُعلت اليمين من جهته، وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم (¬1)؛ وأما أهل العراق فلا يحلِّفون إلا المُدَّعى عليه وحده، فلا يجعلون اليمين إلا من جانبه فقط، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، والجمهور يقولون: قد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قضى بالشاهد واليمين (¬2)، وثبت عنه أنه عرض الأَيْمان في القسامة على المدَّعِين أولًا، فلما أبَوْا جعلها من جانب المُدَّعى عليهم (¬3)، وقد جعل اللَّه [سبحانه] (¬4) أيمان اللعان من جانب الزوج أولًا، فإذا نكَلَتِ المرأة عن معارضة (¬5) أَيْمانه بأَيْمانها وجب عليها العذاب بالحد، وهو العذاب المذكور في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فإن المُدَّعي لما ترجَّح جانبه بالشاهد الواحد شُرعت اليمين من جهته، وكذلك أولياء الدَّم ترجَّحَ جانبهم باللَّوث فشُرعت اليمين من جهتهم وأُكِّدت بالعدد تعظيمًا لخطر النفس، وكذلك الزوج في اللعان جانبه أرجح (¬6) من جانب المرأة قطعًا، فإن إقدامه على إتلاف فراشه، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (6/ 321 - 322، 325)، و"زاد المعاد" (3/ 200 - 201)، و"الطرق الحكمية" (ص: 71، 155، 127)، و"الروح" (ص 16)، وانظر: "أحكام الجناية" (388 - 395) للشيخ الفاضل بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬2) سبق تخريجه قريبًا. (¬3) أخرجه البخاري (3173) في (الجزية والموادعة): باب الموادعة والمصالحة مع المشركين، و (6143) في (الأدب): باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، و (6898) في (الديات): باب القسامة، و (7192) في (الأحكام)، باب كتاب الحاكم إلى عماله، ومسلم (1669) في (القسامة) أوله، من حديث سَهْل بن أبي حَثْمة، ورافع بن خديج. وانظر: "تهذيب السنن" (6/ 325 - 326)، و"زاد المعاد" (3/ 201)، و"الطرق الحكمية" (ص 4، 10، 95، 155)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 119)، و"بدائع الفوائد" (3/ 118)، و"الروح" (ص 16)، و"أحكام الجناية" (ص 363 - 376). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "معارضته عن" وفي (ك): "معارضته". (¬6) في (ن): "أقوى".

ورميها بالفاحشة على رؤوس الأشهاد، وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة، وفضيحة أهله ونفسه على رؤوس الأشهاد، مما تاباه طباع العقلاء، وتَنفِرُ عنه (¬1) نفوسهم، لولا أن الزوجة اضْطَرَّتْهُ بما رآه وتيَّقنه (¬2) منها إلى ذلك، فجانبه أقوى من جانب المرأة قطعًا، فشُرعت اليمين من جانبه، ولهذا كان [الصواب] (¬3) القتل في القَسَامة واللِّعان وهو قول أهل المدينة، فأما فقهاء (¬4) العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا، وأحمد يقتل بالقسامة دون اللعان، والشافعي يقتل باللعان دون القسامة (¬5)، وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح، وهو قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6): "لو يُعطَى الناسُ بدَعْوَاهم لادَّعَى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالَهم، ولكن اليمين على المُدَّعى عليه" (¬7) فإن هذا إذا لم يكن مع المُدَّعي إلا مجرد الدعوى، فإنه لا يُقضى له بمجرد الدعوى، فأما إذا ترجَّحَ جانبه بشاهد أو لَوْثٍ أو غيره لم يقض له بمجرد دَعْوَاه، بل بالشاهد المجتمع من ترجُّح (¬8) جانبه ومن اليمين، وقد حكم سُليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد لترجُّحِ (¬9) جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته ورضى الأخرى بقتله، ولم يَلتفت إلى إقرارها للأخرى به، وقولها: "هو ابنها" (¬10)، ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث: "التَّوْسِعَة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله: [أفعل ليستبين الحق] (¬11) ¬

_ (¬1) في (ك): "منه". (¬2) في (ق): "بما رآه وعلمه" وفي (ك): "بما رآه وقيعة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) في (ق): "أهل". (¬5) انظر كلام المؤلف -رحمه اللَّه- في "الطرق الحكمية" (ص 10). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الرهن): باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه، فالبينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه (رقم 2514)، و (كتاب الشهادات)، باب اليمين على المدعى عليه في الأموال والحدود (رقم 2668)، و (كتاب التفسير)، باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (رقم 4552)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب اليمين على المدعى عليه (رقم 1711). (¬8) في المطبوع و (ن): "ترجيح". (¬9) في (ن): "لما ترجح". (¬10) سبق تخريجه قريبًا. (¬11) في (و): "أفعل كذا ليستبين به الحق"، وعلّق قائلًا: هذه ترجمة أبي عبد الرحمن النسائي في "سننه"، وزيادة كلمة (كذا) من "الطرق الحكمية" للمؤلف اهـ. وفي (د) و (ط) و (ح): "أفعل ليستبين به الحق". =

ثم ترجم [عليه] (¬1) ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه فقال: "الحكم بخلاف ما يَعْترف به المحكوم [عليه] (¬2) إذا تبيّن للحاكم أن الحقَّ غير ما اعترف به" (¬3) فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقول والفِطَرُ بها [منها] (¬4)، ولعمر اللَّه: إنّ هذا هو العلم (¬5) النافع لا خَرْصُ الآراء وتخمين الظنون (¬6). فإن قيل: ففي القسامة يُقبل مجرد أَيمان المُدَّعين، ولا تُجعل أَيمان المُدَّعى (¬7) عليهم بعد أيمانهم دافعة للقتل، وفي اللعان ليس كذلك، بل إذا حلف الزوج مُكِّنَتِ المرأة أن تدفع عن نقسها بأيمانها، ولا تُقتل بمجرد أيمان الزوج، فما الفرق؟ قيل: هذا من كمال الشريعة وتمام عَدْلها [ومحاسنها] (¬8)؛ فإن المحلوف عليه في القَسَامة [حقٌّ] (8) لآدمي، وهو استحقاق الدم، وقد جُعلت الأيمان المكررة بيِّنة تامة مع اللَّوْث، فإذا قامت البينة لم يُلتفت إلى أَيمان المُدَّعى عليه (¬9)، وفي اللعان المحلوف عليه حقٌّ للَّه وهو حد الزنا، ولم يشهد به أربعة شهود، وإنما جُعل الزوج (¬10) أن يحلف أيمانًا مكررةً مؤكدةً باللعنة أنها جَنَت على فراشه وأفسدته، فليس له شاهد إلا نفسه، وهي شهادة ضعيفة، فمكنت المرأة أن تعارضها بأيمان مكررة [مثلها] (8)، فإذا نكلَتْ [ولم تُعارضها] (8) صارت أيمان الزوج [مع نكولها] (8) بينة قوية [لا معارض لها] (8)؛ ولهذا كانت الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة، وأُكِّدت بالخامسة هي (¬11) الدعاء على نفسه [باللعنة] (8) ¬

_ = قلت: وكل هذه فيها زيادات، والصواب ما أثبتناه، كما في "سنن النسائي" (8/ 236)، وفيها بدل كلمة "التوسعة": "السعة"، ووقع في (ق) و (ك): "أفعل ليتبين له الحق". (¬1) ما بين المعقوفتين من (ن) و (و)، وعلّق (و) قائلًا: "يعني: النسائي، وإن كان لم يسبق ذكره" اهـ. (¬2) كذا في (و)، ولعله الصواب -واللَّه أعلم-، وفي (ق) و (ك)، وباقي النسخ و"الكشاف على تحفة الأشراف" (14/ 379) معزوًا لـ"السنن الكبرى" للنسائي "له". (¬3) قال (و): "ترجم عليه أخرى، فقال: نقض الحاكم ما حكم به غيره ممن هو مثله، أو أجل منه، وفيه قاعدة أخرى: "الحكم بالقرائن وشواهد الأحوال". قلت: انظر: "المجتبى" (8/ 234 فما بعدها) للنسائي. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) كذا في (ق)، وفي غيرها: "العمل". (¬6) انظر "الطرق الحكمية" (ص 3). (¬7) في (ن): "ولا يجعل المدعى". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬9) في (ك) و (ق): "عليهم". (¬10) في (ق): "للزوج". (¬11) في (ق): "وهي".

[لا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلا]

إن كان كاذبًا، ففي القَسَامة جُعل اللوث وهو (¬1) الأمارة الظاهرة الدالة على أن المُدَّعى عليهم [قبلوه] (¬2) شاهدًا، وجُعلت الخمسين يمينًا شاهدًا آخر، وفي اللعان جُعلت أَيْمان الزوج كشاهد، ونكولها كشاهد آخر. [لا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلًا] والمقصود أن الشارع لم يَقف الحكم في [حفظ] (¬3) الحقوق [البتة] (¬4) على شهادة رجلين (¬5)، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود، بل قد حَدَّ الخلفاء الراشدون والصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬6) في الزنا بالحبَل، وفي الخمر بالرائحة والقيء (¬7) ¬

_ (¬1) في (ق): "وهي" (¬2) في (د) و (ط) و (ق): "قتلوه"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وبدله في (ق) و (ك): "حق من". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) وفي (ك): "الحقوق إليه البتة". (¬5) في المطبوع و (ق) و (ك): "ذكرين". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) أخرج مالك في "الموطأ" (2/ 842)، ومن طريقه النسائي في "سننه" (8/ 326) عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب خرج عليهم فقال: إني وجدت في فلان ريح شراب، فزعم أنه شراب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان مسكرًا جلدته، فجلده عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- الحد تامًا. ورواه عبد الرزاق (17028) عن معمر، والبيهقي (8/ 315) من طريق سفيان كلاهما عن الزهري به نحوه. وعلقه البخاري في "صحيحه" قبل حديث (5598)، قال: قال عمر: وجدت في عبيد اللَّه ريح شراب، وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر جلدته. ففي هذه الروايات أنه جلد بعد السؤال، أو أنه أراد الاستفسار. لكن رواه ابن جريج، حدثني الزهري به، فقال: أنه حضر عمر بن الخطاب -وهو يجلد رجلًا- وجد منه ريح شراب، فجلده الحد تامًا. أخرجه عبد الرزاق (17029). ورواه ابن أبي ذئب عن الزهري به فقال: أن عمر كان يضرب في الريح. أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 532 - دار الفكر) حدثنا وكيع عن ابن أبي ذئب به، والأسانيد المذكور كلها صحيحة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 65) عن رواية ابن جريج: ظاهره أنه جلده بمجرد وجود الريح منه، وليس كذلك لما تبين من رواية معمر. وقال عن رواية ابن أبي ذئب: فإنها أشد اختصارًا، وأعظم لبسًا. وروى عبد الرزاق (17030) عن معمر عن إسماعيل بن أبي أمية قال: كان عمر إذا وجد من رجل ريح شراب جلده جلدات، إن كان ممن يدمن الشراب، وإن كان غير مدمن تَرَكه، وإسماعيل بن أمية ثقة ثبت إلا أنه لم يدرك عمر بن الخطاب. =

وكذلك إذا ظهر (¬1) المسروق عند السارق (¬2) كان أولى بالحد من ظهور [الحبل و] (¬3) الرائحة في الخمر، وكل ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحَبل والرائحة، بل أولى، فإن (¬4) الشبهة التي تعرض [في الحبل] (¬5) من الإكراه ووطء الشبهة؛ وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين [المسروقة] (¬6)، والخلفاء الراشدون والصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬7) لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي هي إلى تجويز (¬8) غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها [بكثير] (¬9)، فلو عُطِّل ¬

_ = وروى نحوه ابن أبي شيبة (6/ 533) عن عبد اللَّه بن الزبير، وفي إسناده ابن جريج وهو مدلس. هذا ما وجدته عن عمر من الخلفاء، وقد رأيت أنه لم يجلد بالرائحة فقط!! وجَلَد عثمانُ -ووافقه عليّ- بالتقيّؤ، أخرج مسلم في "صحيحه" (1707): (كتاب الحدود): باب حدّ الخمر، ضمن قصة، فيها قول عثمان: "إنه لم يتقيَّأ حتى شربها، فقال: (أي: عثمان): يا عليّ! قُم، فاجْلدْه. . ." وكذا عمر، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 533). وأما الحبل، والحد به، فسيأتي مفصَّلًا عند المصنف (3/ 348)، وكان علي -رضي اللَّه عنه- يسمّيه -أي: الحبل-: (زنا العلانية)، انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 134) و"المغني" (8/ 211) و"الأوسط" (2/ 14) "وموسوعة فقه علي" (ص 316). وأما ما ورد عن الصحابة في ذلك، فقد روى البخاري (5001) في (فضائل القرآن): باب القراء من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (801) في (صلاة المسافرين): باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظ للاستماع وابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 532 - طـ دار الفكر)، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: كنت بحمص فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا، فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم: واللَّه ما هكذا أنزلت. . فبينا، أنا أكلمه إذا وجدت منه ريح الخمر، قل: فقلت: أتشرب الخمر وتُكذِّب بالكتاب، لا تبرح حتى أجلدك، قال: فجلدته الحد. وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 4، 6)، و"زاد المعاد" (2/ 78 - 79، 143 و 3/ 211)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 325 - 342) للشيخ بكر أبو زيد، فإنه مهم جدًّا. (¬1) في المطبوع: "إذا وجد". (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 13)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 417 - 419). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "وإن". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (و) و (ك): "الشبهة إلى تجويز"، وفي باقي النسخ المطبوعة: "الشبهة التي تجويز"! هكذا. (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[لم يرد الشارع خبر العدل]

الحدُّ بها لكان تعطيله بالشبهة التي تكمن في شهادة الشاهدين أولى (¬1)، فهذا محض الفقه والاعتبار و [مصالح العباد، وهو] (¬2) من أعظم الأدلة على جلالة فقه الصحابة وعظمته (¬3) ومطابقته لمصالح العباد، وحكمة الرب وشرعه، وأن التفاوت الذي بين أقوالهم وأقوال من بعدهم كالتفاوت الذي [بين] (¬4) القائلين. [لم يردّ الشَّارعُ خبرَ العدل] والمقصود أن الشارع [صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله] (¬5) لم يَرُدَّ خبر العدل قط، لا في رواية ولا في شهادة، بل قَبلَ خبرَ العدل الواحد في كل موضع أَخْبر به، كما قبل شهادتَهُ لأبي قتادة بالقتيل (¬6) وقبل شهادة خزيمة وحده (¬7)، وقبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان (¬8). ¬

_ (¬1) في (ن): "شهادة الشاهد أولى" وفي (ك): "يمكن من شهادة الشاهدين". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق) و (ك): "وعصمته". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬6) مضى تخريجه ووقع في (ق): "بالقتل". (¬7) مضى تخريجه. (¬8) أخرجه ابن أبي شيبة (3/ 68)، وأبو داود (2340) في (الصوم): باب في شهادة الواحد على رؤية الهلال، والنسائي (4/ 132) في (الصوم): باب قبول شهادة الرجل الواحد على رؤية هلال رمضان، والترمذي (691) في (الصوم): باب ما جاء في الصوم بالشهادة، وابن ماجه (1652) في (الصيام): باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال، والدارمي (2/ 5)، وأبو يعلى (2529)، وابن الجارود (379)، و (380) وابن خزيمة (1923 و 1924)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (482 و 483 و 484)، وابن حبان (3446)، والدارقطني (2/ 158)، والحاكم (1/ 424)، والبيهقي (4/ 211، 212) من طرق عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس فذكره. وهذا إسناد ضعيف؛ سماك في روايته عن عكرمة ضعف، قال أبو داود: رواه جماعة عن سماك، عن عكرمة مرسلًا، وقال الترمذي: حديث ابن عباس فيه اختلاف، وروى سفيان الثوري وغيره عن سماك، عن عكرمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، وأكثر أصحاب سماك رووا عن سماك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. أما الحاكم فقال: قد احتج البخاري بأحاديث عكرمة، ومسلم بأحاديث سماك، وهذا الحديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي!!. والمرسل: رواه عبد الرزاق (7342)، وابن أبي شيبة (3/ 67 - 68)، وأبو داود (2341)، والنسائي (4/ 132)، والطحاوي (485)، والدارقطني (2/ 159) من طرق عن سماك عن عكرمة مرسلًا. وقال النسائي: إنه أولى بالصواب، وفي "نصب الراية" (2/ 443) و"التلخيص الحبير" =

[جانب التحمل غير جانب الثبوت]

وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة (¬1)، وقبل خبر تميم وحده وهو خبر عن أمر حسي شاهده ورآه فقبله ورواه عنه (¬2)، ولا فرق بينه وبين الشهادة؛ فإن كلًا منهما [خبر] (¬3) عن أمر مستند إلى الحِسِّ والمشاهدة، فتميم شهد بما رآه وعاينه، وأخبر به النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فصدَّقه وقَبِل خَبَرَه، فأيُّ فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعَاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم؟. وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المُؤذن الواحد، وهو شهادة منه بدخول الوقت، وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره، وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد، وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره. [جانب التحمل غير جانب الثبوت] وسر المسألة أنه (¬4) لا يلزم من الأمر بالتعدد في (¬5) جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت؛ فالخبر الصادق (¬6) لا تأتي الشريعة بردِّه أبدًا، وقد ذمَّ اللَّه في كتابه من [كذَّب بالحقِّ، و] (¬7) رَدُّ الخَبرِ الصَّادقِ تكذيبٌ بالحق (¬8)، وكذلك الدلالة الظاهرة لا ترد إلا بما هو مثلها أو أقوى منها، واللَّه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق، بل أمر بالتثبت والتبين (¬9)، فإن ظهرت ¬

_ = (2/ 187) نقلًا عن النسائي زيادةً على ما قال: "إن سماكًا إذا تفرد بأصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يلقن فيتلَقَّن". وفي الباب عن ابن عمر قال: تراءى الناس الهلال، فرأيتُه فأخبرت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فصام، وأمر الناس بصيامه، رواه الدارمي (2/ 4)، وأبو داود (2342)، وابن حبان (3447)، والدارقطني (2/ 156)، والحاكم (1/ 423)، والبيهقي (4/ 212) وإسناده صحيح، صححه الدارقطني، والحاكم، وابن حبان، والنووي، والذهبي، وغيرهم. (¬1) رواه البخاري (88) في (العلم): باب الرحلة في المسألة النازلة، وتعليم أهله، و (2052) في (البيوع): باب تفسير المشبهات، و (2640) في (الشهادات): باب إذا شهد شاهد أو شهود بشيء، و (2659) باب شهادة الإماء والعبيد، و (2660) باب شهادة المرضعة، و (5104) في (النكاح): باب شهادة المرضعة، من حديث عقبة بن الحارث. (¬2) هو حديث تميم الداري في قصة الدجال، رواه مسلم (2942) في (الفتن وأشراط الساعة): باب قصة الجَسَّاسة، من حديث فاطمة بنت قيس. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك) وحدها. (¬4) في المطبوع: "أن". (¬5) في (ن): "من". (¬6) في (ق): "فخبر الصادق". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "تكذيبًا بالحق". (¬9) في المطبوع: "بل بالتثبيت والتبيين".

الأدلة على صدقه قُبِل خبرهُ، وإنْ ظهرت الأدلة على كذبه رُد خبره، وإن (¬1) لم يتبين واحد من الأمرين وُقف خبره؛ وقد قَبِلَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خبر الدليل المشرك الذي استأجره ليدله على طريق المدينة في هجرته لما ظهر له صدقه وأمانته (¬2)؛ فعلى المسلم أن يتبع هدي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قبول الحق، ممن جاء به، من وليٍّ وعدو، وحبيب وبغيض، وبَرٍّ وفاجر، ويرد الباطل على من قاله كائنًا من كان، قال عبد اللَّه بن صالح: ثنا الليث بن سَعْد، عن ابن عَجْلان، عن ابن شِهَاب أن معاذ بن جبل كان يقول في مجلسه كل يوم قَلَّما يخطئه أن يقول ذلك: "اللَّه حكم قِسْط (¬3)، هلك المرتابون، إن وراءكم فتنًا يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول: [قد] (¬4) قرأت القرآن، فما أظنُّ أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإنَّ الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإنَّ المنافق قد يقول كلمة الحق، فتَلَقُّوا الحقَّ عن من جاء به، فإنَّ على الحق نورًا، قالوا: وكيف زَيْغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة [تروعكم] (¬5) وتنكرونها وتقولون: ما هذا؟! فاحذروا زيغته، ولا يصدَّنَّكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة" (¬6). ¬

_ (¬1) في (ق): "فإن". (¬2) أخرج خبر الدليل: البخاري (2263) في (الإجارة): باب استئجار المشركين عند الضرورة، و (2264) في باب إذا استأجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام، و (3905) في (مناقب الأنصار): باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث عائشة. (¬3) "حكم قسط: حكم عدل (ط)، وقال (ح): "القسط -بالكسر-: العدل، من المصادر الموصوف بها كالعدل، يستوي فيه الواحد والجمع". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) علقه بن عبد البر في "الجامع" (1871) من هذا الطريق، وابن شهاب لم يسمع من معاذ. وقد روي من طريق الزهري موصولًا، فقد رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 232) من طريق الوليد بن مسلم: حدثنا ابن عجلان، عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني حدثه عن معاذ. لكن رواه أبو داود (4611) في (السنة) باب لزوم السنة، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 233) -ومن طريقه الذهبي في "السير" (1/ 456) - والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 321) -ومن طريقهما البيهقي في "المدخل" (834) - والفريابي في "صفة المنافق" =

[الحاكم يحكم بالحجة التي ترجح الحق]

[الحاكم يحكم بالحجة التي ترجّح الحق] والمقصود أن الحاكم يحكم بالحجَّة التي ترجِّح الحقَّ إذا لم يعارضها مثلها، والمطلوب منه ومن كل من يحكم بين اثنين أن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب، فالأول مداره على الصِّدق، والثاني مداره على العدل (¬1)، وتمت كلماتُ (¬2) ربك صدقًا وعدلًا، واللَّه عليمٌ حكيم. [صفات الحاكم وما يشترط فيه] فالبيّنات والشهادات تظهر لعباده معلومة، وبأمره وشرعه يحكم بين عباده، والحكم إما إبداءً وإما إنشاءً؛ فالإبداء إخبارٌ وإثباتٌ وهو شهادة، والإنشاء [أمر و] (¬3) نهي وتحليلٌ وتحريم؛ والحاكم فيه ثلاث صفات؛ فمن جهة الإثبات (¬4) هو شاهد، ومن جهة الأمر والنَّهي هو مُفْتٍ، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان، وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد باتفاق العلماء؛ لأنه يجب عليه الحكم بالعدل، ¬

_ = (رقم 41) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (32/ 219)، والذهبي في "السير" (8/ 143) - من طريق الليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أبي إدريس الخولاني، (ووقع في سند أبي نعيم: أبو يزيد الخولاني، والظاهر أنه خطأ)، عن يزيد بن عميرة عن معاذ فذكر نحوه، وإسناده صحيح. ويظهر أن أبا إدريس الخولاني كان يرويه على الوجهين، إذ أنه ولد في حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقد أدرك معاذًا. ورواه جمع عن الزهري موصولًا غير عقيل بن خالد، منهم: * معمر بن راشد، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" (11/ رقم 20750)، ومن طريقه: الآجري في "الشريعة" (47)، واللالكائي في "السنة" (رقم 116) وابن بطة في "الإبانة" (143). * جعفر بن بُرقان، ومن طريقه ابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (رقم 59). * صالح بن كيسان، ومن طريقه الفريابي في "صفة المنافق" (42). * شعيب، ومن طريقه الخطيب في "تالي التلخيص" (2/ 497 - 498 رقم 300 - بتحقيقي). وله طريق آخر عن معاذ، مضى تخريجه (1/ 112)، وانظر (2/ 415). (¬1) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 190 - 194، 173، 20 الطريق السادس عشر)، و"مدارج السالكين" (1/ 360 - 361). (¬2) في (ق): "كلمة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬4) في المطبوع: "لإثبات".

[يجب تولية الأصلح للمسلمين]

وذلك يستلزم أن يكون عدلًا في نفسه؛ فأبو حنيفة لا يعتبر إلا العدالة، والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يعتبرون معها الاجتهاد. [يجب تولية الأصلح للمسلمين] وأحمد يوجب تولية الأصلح فالأصلح من الموجودين، وكل زمان بحسبه، فيُقدَّم الأدْيَنُ العَدْل على الأَعلم الفاجر، وقضاة السنة على قضاة الجهمية، وإن كان الجهميُّ أفْقَه، ولما سأله المتوكل عن القضاة أرسل إليه درجًا (¬1) مع وزيره، يذكر فيه تولية أناس [وعزل أناس] (¬2)، وأمسك عن أناس، وقال: لا أعرفهم، وروجع في بعض مَنْ سَمَّى لقلَّة علمه، فقال: لو لم يولوه لولّوا فلانًا، وفي توليته مضرة على المسلمين؛ ولذلك (¬3) أمر أن يُوَلَّى على الأموال الدَّيِّنُ السُّنِّي دون الدَّاعي إلى التَّعطيل؛ لأنَّه يضرُّ النَّاسَ في دينهم، وسئل عن رجلين أحدهما أنكى للعدو (¬4) مع شربه الخمر والآخر أَدْيَن، فقال: يُغْزى مع الأَنكى (¬5) في العدو؛ لأنه أنفع للمسلمين. [تولية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الأنفع على من هو أفضل منه] وبهذا مضتْ سَنّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنه كان يُوَلّي (¬6) الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه، كما وَلَّى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو، وقَدَّمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى أَبى حُذيفة، وعبد اللَّه بن عمر (¬7)؛ وهؤلاء ممن أنفق [من] (¬8) قبل الفتح وقاتل، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا؛ وخالد كان (¬9) ¬

_ (¬1) "الدرج": الذي يكتب فيه، وكذلك الدرج بالتحريك، يقال: أنفذته في درج الكتاب: أي في طيه (د) و (ح) و-أيضًا- "لسان العرب" (3/ 1353) لابن منظور، ونحوه باختصار في (ط). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في المطبوع و (ق): "وكذلك". (¬4) في المطبوع و (ك): "في العدو". (¬5) "أنكى العدو، وفيه نكاية: قتل وجرح" (د)، ونحوه في (ط) ونحو ما قرره المصنف في "السياسة الشرعية". (ص 21) لابن تيمية. (¬6) في (ن): "فإنه مرات يولي". (¬7) في (ك) و (ق): "عبد اللَّه بن عَمرو". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) (د) و (ط): "وخالد وكان" بزيادة "و".

ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحَجَبي (¬1)، ثم إنه فعل مع بني جذيمة ما [تبرأ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه] (¬2)، حين رفع يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" (¬3) ومع هذا فلم يعزله، وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له (¬4): "يا أبا ذر إنِّي أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تولَّيَنَّ مال يتيم. قال نعم" (¬5) وأمّر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل (¬6)؛ لأنه كان يقصد أخواله بني عذرة؛ فعلم أنهم يطيعونه مَا لَا يطيعون غيره للقرابة؛ وأيضًا فلِحُسن سياسة عمرو وخبرته وذكائه ودهائه (¬7)، فإنه كان من أدهى العرب؛ ودهاة العرب أربعة هو أحدهم، ثم أردفه بأبي عبيدة، وقال: "تَطَاوعا ولا تَخْتلفا" فلما تنازعا فيمن يُصلِّي سَلَّم أبو عبيدة لعمرو؛ فكان (¬8) يصلي بالطائفتين وفيهم أبو بكر (¬9)؛ وأمَّر أسامة بن زيد مكان أبيه لأنه -مع كونه خليقًا للإمارة- أحرص على ¬

_ (¬1) "نسبة إلى حجابة البيت الحرام" (و) وفي (ك): "الجمحي". (¬2) في (ق): "تبرأ منه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الأحكام): باب إذا قضى الحاكم بجور أو خلاف أهل العلم؛ فهو رد، (9/ 91)، قال (و): ". . . وكان خالد قد دعا بني جذيمة إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل ويأسر" اهـ. وسقطت "إني" من (ك). (¬4) في (ق) بعدها: "النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬5) أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب الإمارة): باب كراهة الإمارة بغير ضرورة (3/ 1457 - 1458/ رقم 1826)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الوصايا): باب ما جاء في الدخول في الوصايا (رقم 2868)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الوصايا): باب النهي عن الولاية على مال اليتيم (6/ 255)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 129 و 6/ 283) من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-. (¬6) تأمير عمرو بن العاص على غزوة ذات السلاسل: أخرجه البخاري (3662) في (فضائل الصحابة): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لو كنت متخذًا خليلًا، و (4358) في (المغازي): باب غزوة ذات السلاسل، ومسلم (2384) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل أبي بكر. وانظر مفصلًا: "طبقات ابن سعد" (2/ 131)، و"دلائل النبوة" للبيهقي (4/ 397). (¬7) "الدهاء: جودة الرأي [والأدب] " (د) و (ط)، وما بين المعقوفتين زيادة (د) على (ط). (¬8) في (ق): "وكان". (¬9) أما قوله لأبي عبيدة، وعمرو بن العاص "تطاوعا. . . "؛ فرواه أحمد في "مسنده" (1/ 196) من طريق عامر بن شراحيل قال: بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جيش ذات السلاسل فذكره. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 206): رواه أحمد، وهو مرسل ورجاله رجال الصحيح؛ لأن الشعبي لم يدرك القصة. =

طلب ثأر أبيه من غيره (¬1)، وقَدَّم أباه زَيدًا في الولاية على جعفر ابن عمه مع أنه مولى (¬2)، ولكنه من أسبق الناس إسلامًا قبل جعفر، ولم يلتفت (¬3) إلى طَعْن الناس في إمارة أسامة وزيد، وقال: "إن تطعنوا في إمارة أسامة فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيْم اللَّه! إنه (¬4) خليقًا للإمارة، ومن أحبِّ الناس إليَّ" (¬5) وأَمَّر خالد بن ¬

_ = وروى القصة -أيضًا- وفيها نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخلاف، البيهقي في "دلائل النبوة" (4/ 398) من حديث موسى بن عقبة مرسلًا، و (4/ 399) من حديث محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن الحصين مرسلًا -أيضًا-، ومحمد هذا ترجمه ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وأخرجها أبو داود في "الزهد" (رقم 25)، والخطيب في "الموضح" (2/ 98) موصولًا بإسناد صحيح. وذكر القصة ابن هشام في "السيرة النبوية" (4/ 299) عن ابن إسحاق دون إسناد، وكذا ذكرها ابن سعد في "الطبقات" (2/ 131)، والمحب الطبري في "الرياض النضرة" (1/ 253 - 254) دون إسناد أيضًا. وأما تسليم أبي عبيدة الإمارة لعمرو وصلاته بهم؛ فمذكور في المصادر التي ذكرت. وأما كون أبي بكر كان تحت إمرته فمذكور فيها أيضًا. وروى البخاري (3662 و 4358)، ومسلم (2384) من حديث عمرو بن العاص أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها ... ؛ وأخرجه البيهقي في "الدلائل" (4/ 401) من نفس الطريق قال: بعثني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على جيش ذي السلاسل، وفي القوم أبو بكر وعمر. (¬1) تأميره لأسامة وكونه خليقًا بالإمارة: أخرجه البخاري (3730) في (فضائل الصحابة): باب مناقب زيد بن حارثة، و (4250) في (المغازي): باب غزوة زيد بن حارثة، و (4468) في بَعْث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه، و (4469) باب رقم (86)، و (6627) في (الأيمان والنذور): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-) وأيم اللَّه، و (7187) في (الأحكام): باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء حديثًا، ومسلم (2426) في (فضائل الصحابة): باب فضائل زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد من حديث ابن عمر. (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (رقم 4251) (كتاب المغازي): باب عمرة القضاء عن البراء قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لزيد: "أنت أخونا ومولانا" ضمن حديث طويل. (¬3) في المطبوع: "يلفت". (¬4) في المطبوع و (ك): "إن كان". (¬5) أخرجه البخاري (3730) في (فضائل الصحابة): باب مناقب زيد بن حارثة، و (4250) في (المغازي): باب غزوة زيد بن حارثة، و (4468) في (المغازي): باب بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة بن زيد في مرضه الذي توفي فيه، و (6627) في (الأيمان والنذور): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأَيْم اللَّه"، ومسلم (2426) في (فضائل الصحابة): باب فضائل زيد بن حارثة، من حديث ابن عمر. ووقع في (ق): "إنه لخليق للإمارة".

فصل [الصلح بين المسلمين]

سعيد بن العاص وإخوته لأنهم من كبراء قريش (¬1) وساداتهم ومن السابقين الأولين، ولم يتول أحد (¬2) بعده (¬3). والمقصود أن هديه -صلى اللَّه عليه وسلم- تولية الأنفع للمسلمين وإن كان غيره أفضل منه، والحكم بما يظهر الحق ويوضحه إذا لم يكن هناك أقوى منه يعارضه، فسيرته تولية الأنفع والحكم بالأظهر، ولا تستطل هذا الفصل فإنه من أنفع فصول الكتاب [واللَّه المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به] (¬4). فصل [الصُلح بين المسلمين] وقوله: "والصلح جائز بين المسلمين الا صلحًا أحَلَّ حرامًا أو حرم حلالًا" (¬5) هذا مروي (¬6) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، رواه الترمذي وغيره من حديث عَمرو بن عَوْف المُزَني أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الصُّلحُ جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحلَّ حرامًا" والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا" قال الترمذي: هذا حديث صحيح (¬7)؛ وقد ندب اللَّه سبحانه إلى الصلح بين المتنازعين (¬8) في الدماء فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وندب الزوجين إلى الصلح عند التنازع في حقوقهما، فقال (¬9): {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وأصلح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين ¬

_ (¬1) في (ق): "من أكبر قريش"! (¬2) في (ق) و (ك): "ولم يتولوا لأحد". (¬3) انطر: "معجم الصحابة" لأبي نعيم (2/ 939 - ط دار الوطن)، و"الإصابة" (2/ 237 - 239). (¬4) ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق) إلا أنه قال في (ق): "ولا قوة إلا باللَّه". (¬5) تكلم المؤلف -رحمه اللَّه- أيضًا- عن الصلح في الشريعة الإسلامية، ورد الصلح الجائر، وأن الصلح يعتمد العدل في "بدائع الفوائد" (3/ 101)، فانظره -إن شئت-. (¬6) في (ك) و (ق): "هذا يُروى". (¬7) الحديث صحيح، أخرجه الترمذي (1352)، وابن ماجه (2353)، من طريقين عن كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده وهذا إسناد ضعيف، من أجل كثير، وسيأتي مفصَّلًا إن شاء اللَّه تعالى. (¬8) في المطبوع: "الطائفتين". (¬9) في (ق) و (ك) بعدها: "تعالى".

بني عَمرو بن عوف فيما وقع بينهم (¬1)، ولما تنازع كعب بن مالك وابن أبى حَدْرَد في دَيْنٍ على [ابن] (¬2) أبي حَدْرد، أصلح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ بأن استوضع من دَيْن كَعْبٍ الشَّطْرَ و [أمر] (¬3) غريمه بقضاء الشطر (¬4)، وقال لرجلين اختصما عنده: "اذْهَبَا فاقْتَسما ثم توخَّيَا الحقَّ ثم اسْتهما ثم ليحلل كلٌّ منكما صاحبه" (¬5)، وقال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عِرْض أو شيء فلْيتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ، وإن كان له عملٌ صالح أُخِذَ منه بقدر مَظْلمته، وإنْ لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه" (¬6) وجَوَّز في دم العمد أن يأخذ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (684) في (الأذان): باب من دخل ليؤم الناس؛ فجاء الإمام الأول، و (1201) في (العمل في الصلاة): باب ما يجوز من التسبيح، والحمد في الصلاة للرجال، و (1218) باب رفع الأيدي في الصلاة لأمر ينزل به، و (1234) في (السهو): باب الإشارة في الصلاة، و (2690) في (الصلح): باب ما جاء في الإصلاح بين الناس و (7190) في (الأحكام): باب الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم، ومسلم (421) في (الصلاة): باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، من حديث سهل بن سعد. وفي (ك): "لما وقع بينهم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) هذه الكلمة من (و) و (د) و (ك) و (ق)، وقال (و): "يقتضيها السياق، وستأتي مصرحًا بها" اهـ. ونحوه في (ط). (¬4) أخرجه البخاري (457) في (الصلاة): باب التقاضي والملازمة في المسجد، و (471) باب رفع الصوت في المساجد، و (2418) في (الخصومات): باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، و (2706) في (الصلح): باب هل يشير الإمام بالصلح، و (2710) باب الصلح بالدين والعين، ومسلم (1558) في (المساقاة): باب استحباب الوضع من الدين من حديث كعب بن مالك. (¬5) أخرجه أحمد (6/ 320)، وابن أبي شيبة (7/ 233 - 234)، وأبو داود (3584) و (3585) في (الأقضية): باب في قضاء القاضي إذا أخطأ، وابن الجارود (1000)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 154 و 155)، وفي "مشكل الآثار" (755 و 760)، والطبراني في "المعجم الكبير" (23/ 663)، والدارقطني (4/ 238 - 239 و 239)، والبيهقي (6/ 66) و (10/ 260)، والبغوي (2508) من طريق أسامة بن زيد الليثي، عن عبد اللَّه بن رافع، عن أم سلمة، وفيه قصة، وإسناده حسن؛ لحال أسامة بن زيد. (¬6) أخرجه البخاري (2449) في (المظالم): باب من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له هل يُبين مظلمته؟ و (6534) في الرقاق: باب القصاص يوم القيامة، من حديث أبي هريرة.

أولياء القتيل ما صُولحوا عليه (¬1)، ولما أستشهد عبد اللَّه بن حَرَام الأَنصاريّ والد جابر -رضي اللَّه عنه- (¬2)، وكان عليه دَيْن، سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غرماءه أن يقبلوا ثمر حائطه ويحلِّلوا أباه (¬3)؛ وقال عطاء، عن ابن عباس: إنَّه كان لا يرى باسًا بالمخارجة، يعني: الصلح في الميراث (¬4)؛ وسُمِّيت المخارجة لأنَّ الوارث يُعْطَى ما يُصَالَح عليه ويُخرجُ نفسه من الميراث، وصولحت امرأة عبد الرحمن بن عوف من نصيبها من ربع الثمن على ثمانين ألفًا (¬5)، وقد روى مِسْعَر، عن [أزهر، عن] (¬6) ¬

_ (¬1) لعله يشير إلى حديث "من قتل له قتيل فهو بخير النظرين إما أن يقتل وإما أن يفدي. . . " وهو جزء من حديث طويل، أخرجه البخاري (112) في (العلم): باب كتابة العلم، و (2434) في (اللقطة): باب كيف تُعرَّف لقطة أهل مكة، و (6880) في (الديات): باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ومسلم (1355) في (الحج): باب تحريم مكة وصيدها من حديث أبي هريرة. (¬2) في (ق): "رضي اللَّه عنهما". (¬3) أخرجه البخاري (2127) في (البيوع): باب الكيل على البائع والمعطي، و (2395) في (الاستقراض): باب إذا قضى دون حقه أو حلله فهو جائز، و (2396) باب إذا قاصَّ أو جازفه في الدين تمرًا بتمر أو غيره، و (2405) في (الشفاعة): باب في وضع الدين، و (2601) في (الهبة): باب إذا وهب دينًا على رجل، و (2709) في (الصلح): باب الصلح بين الغرماء، و (2781) في (الوصايا): باب قضاء الوصي ديون الميت، و (3580) في (المناقب): باب علامات النبوة في الاسلام، و (4053) في (المغازي): باب {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا. . .}، من حديث جابر بن عبد اللَّه وفي (ك): "ثمرة حائطه". (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 65) من طريق سعيد بن منصور، عن هُشيم: حدثنا داود بن أبي هند، عن عطاء به وإسناده صحيح. وانظر "مصنف عبد الرزاق" (8/ 288 - 289). (¬5) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (1955)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 65)، عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه قال: صولحت امرأة عبد الرحمن. . .، وأبو سلمة كان عمره يوم وفاة أبيه أقل من تسع سنوات. وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 136) من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد بن سيرين؛ فذكره وهذا مرسل -أيضًا-. وأخرج عبد الرزاق (15256) عن عمرو بن دينار أنها أخرجت بثلاث وثمانين ألف درهم. وأخرج ابن سعد في "الطبقات" (3/ 136) عن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف -أيضًا- أخرجت بمئة ألف. وهذه الطرق تدلل على أنّ له أصلًا. وانظر "الطبقات" أيضًا. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (و) وفي (ك): "ابن مسعود عن أزهر" وفي هامش (ق) أشار إلى أنه في نسخة "مسعود".

فصل [الحقوق ضربان حق الله تعالى وحق عباده]

مُحارب قال: قال عمر: "رُدُّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإنَّ [فصل] (¬1) القضاء يُحدثُ بين القوم الضَّغائن" (¬2)، وقال عمر أيضًا: "ردُّوا الخصوم [لعلهم أن يصطلحوا، فإنه آثر للصِّدْق، وأقل للخيانة" (¬3)، وقال عمر أيضًا: "ردُّوا الخصوم] إذا كانت بينهم قرابة، فإنَّ فصل القضاء يُورث بينهم الشنآن" (¬4). فصل [الحقوق ضربان حق اللَّه تعالى وحق عباده] والحقوق نوعان: حَقٌّ للَّه، وحَقٌّ لآدمي، فحق اللَّه [لا مَدْخَلَ للصلح فيه كالحدود والزكَوَات والكفارات ونحوها، وإنما الصلح] (¬5) بين العبد وبين ربه (¬6) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 346)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 66) من طريق مِسْعَر به، وأزهر هو: العَطَّار، ومُحارب هو: ابن دِثار لم يسمع من عمر بن الخطاب. وأخرجه عبد الرزاق (15304) من طريق الثوري عن رجل عن محارب به، وذكره في "المغني" (9/ 53). (¬3) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 66) من طريق مُصرِّف بن واصل عن محارب بن دثار قال عمر:. . . فذكر نحوه. وهو منقطع؛ كما قال البيهقي، ووقع عنده: "وأقل للحنات"!. وفي (ن): "وأقل للجناية". (¬4) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 66)، وأبو القاسم البغوي -كما في "مسند الفاروق" لابن كثير (2/ 550) - من طريق الحسن بن صالح عن علي بن بَذِيمة عن عمر، وعلي لم يدرك عمر، مات بعد "130" لذلك قال البيهقي عن جميع هذه الروايات: "هذه الروايات عن عمر منقطعة" اهـ. ونسبه في "كنز العمال" (5/ 14438، 14440) لعبد الرزاق، ولم أجده في "مصنّفه"، وللبيهقي في "السنن الكبرى". وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) بعدها في (ق) بياض يسع كلمتين وجاء بعده: "أمر"، وقال في الهامش: "لعله: لا يقبل الصلح؛ لأنه يعطل الحدود، وقد أمر اللَّه".

في إقامتها، لا في إهمالها، ولهذا لا تقبل الشفاعة في الحدود (¬1)، وإذا بلغت السلطان فلَعَن اللَّه الشَّافع والمُشَفَّع. وأما حقوق الآدميين؛ فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها، والصلح العادل هو الذي أمر اللَّه به ورسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬2)، كما قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9]، والصلح الجائر هو الظلم بعينه، وكثير من الناس لا يعتمد العدل في الصلح، بل يصلح صلحًا ظالمًا جائرًا، فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف (¬3) من حق أحدهما، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صالح بين كعب وغريمه [وصالح] (¬4) أعدل الصلح فأمره أن يأخذ الشطر ويدع الشطر (¬5)؛ وكذلك لما عزم على طلاق سَوْدَة رضيت بأن تَهبَ له ليلَتَها وتُبقي على حَقِّها من النفقة والكسوة (¬6)، فهذا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لا يقبل بالحدود". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) والعبارة بعدها: "كما قال تعالى". (¬3) في (ك) و (ق): "التطفيف" وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة: "الطفيف". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬5) سبق تخريجه قريبًا وقوله: "يدع الشطر" سقط من (ك). (¬6) ورد من حديث عائشة وحديث ابن عباس. أما حديث عائشة: فأخرج أبو داود في "سننه" (2135) في (النكاح): باب القسم بين النساء -ومن طريقه البيهقي (7/ 74 - 75) - والحاكم (2/ 186) من طريق أحمد بن يونس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وإسناده جيد، رجاله كلهم ثقات مشاهير، وفي عبد الرحمن بن أبي الزناد كلام خاصة في روايته عن أهل العراق. وتابع أحمد بن يونس على رواية الحديث موصولًا: الواقدي، أخرجه ابن سعد (8/ 53)، والواقدي متروك، وتابعه أبو بلال الأشعري أيضًا، أخرجه ابن مردويه في "تفسيره" -كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 575) -. وأبو بلال الأشعري روى عنه أبو حاتم الرازي، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ورواه ابن مردويه -أيضًا- من طريق عبد العزيز الدراوردي مختصرًا، وقد رواه سعيد بن منصور في تفسير سورة النساء رقم (702)، ومن طريقه البيهقي (7/ 297) عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به مرسلًا ولم يذكر عائشة. وهذا لا يعل رواية الوصل، لأنّ من وصلها ثقة حافظ. وأما حديث ابن عباس: فأخرجه الطيالسي (2683)، والطبري (10608)، والترمذي (3040)، في تفسير سورة النساء، والطبراني في "المعجم الكبير" (11746)، والبيهقي (7/ 297) من طريق سماك عن عكرمة عنه، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب!! مع أن رواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب كبير. =

فصل [الصلح إما مردود وإما جائز نافذ]

أعدل الصلح، فإن اللَّه سبحانه أباح للرجل أن يطلق زوجته ويستبدل بها غيرها، فإذا رضيت بترك بعض حقها وأخذ بعضه وأن يمسكها كان هذا من الصلح العادل، وكذلك أرشد الخصمين اللذين كانت بينهما المواريث (¬1) بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ثم يحلل كل منهما صاحبه (¬2)؛ وقد أمر اللَّه [سبحانه] (¬3) بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولًا، فإن بغت إحداهما على الأخرى فحينئذٍ أمر بقتال الباغية لا بالصلح فإنها ظالمة، ففي الإصلاح مع ظلمها هضم لحق الطائفة المظلومة، وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر والظالم والخصم الضعيف المظلوم، بما يَرْضَى به القادر رضًى لصاحب الجاه (¬4)، ويكون له فيه الحظ، ويكون الإغماص والحيف فيه على الضعيف، ويظن أنه قد أصلح، ولا يتمكن (¬5) المظلوم من أخذ حقه، وهذا ظلم، بل يُمكَّن المظلوم من استيفاء حقه، ثم يُطلب إليه برضاه أن يَتْرك بعض حقه بغير محاباة لصاحب الجاه، ولا يشتبه (¬6) بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوها. فصل [الصلح إما مردود وإما جائز نافذ] والصلح الذي يُحل الحَرام ويُحَرِّم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بُضْعٍ حلال، أو حل (¬7) بُضْعٍ حرام، أو ارقاق حُر، أو نقل نسب [أو ولاء] (¬8) عنَ محل إلى محل، أو أكل ربًا، أو إسقاط واجب، أو تعطيل حد، أو ظلم ثالث، وما أشبه ذلك؛ فكل هذا صلح جائر مردود. فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى اللَّه [سبحانه] (3) ¬

_ = وحسنه كذلك الحافظ في "الإصابة" (4/ 330) في ترجمة (سودة)، وذكره في "الفتح" (9/ 313) ساكتًا عنه. وفي "طبقات ابن سعد" روايات مرسلة تشهد لهذا. وروى البخاري (5212)، ومسلم (1463) هبة سودة يومها لعائشة؛ لكن ليس فيه ذكر السبب، قالت عائشة: فلما كبرت جعلت يومها من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة، قالت: يا رسول اللَّه! قد جعلت يومي منك لعائشة. (¬1) في (ن) و (ق): "كان بينهما إرث". (¬2) إسناده حسن، وقد سبق تخريجه قريبًا. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع (ن): "بما يرضى به القادر صاحب الجاه". (¬5) في المطبوع: "ولا يمكن". (¬6) في (ن): "ولا يشير"، وفي (ق) و (ك): "ولا يشبه". (¬7) في المطبوع: "أو إحلال". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

ورضى الخصمين؛ فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل؛ فيكون المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا، للعدل؛ فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصائم القائم؟! قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: إصلاح ذات البَيْن؛ فإن فساد ذات البَيْن [هي] (¬1) الحَالِقَة، أما إِنِّي لا أقول [تحلق] (2) الشَّعْر، ولكن [تحلق] (¬2) الدِّين" (¬3) وقد جاء في أثر: أصلحوا بين الناس، فإن اللَّه يصلح بين المؤمنين يوم القيامة (¬4)؛ وقد قال تعالى: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) تصحفت في (و) إلى: "بحلق". (¬3) أخرجه هناد في "الزهد" (رقم 1310) -ومن طريقه الترمذي في "الجامع" أبواب صفة القيامة (4/ 663/ رقم 2509) -، وأحمد في "المسند" (6/ 444 - 445)، والبخاري في "الأدب المفرد" (106)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الأدب): باب في إصلاح ذات البين (4/ 280/ رقم 4919)، والبيهقي في "الآداب" (رقم 130)، و"الشعب" (3/ 430) والتيمي في "الترغيب" (1/ 105، 107 رقم 181، 188)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (رقم 400) عن أبي الدرداء؛ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصوم والصلاة والصدقة؟ ". قالوا بلى: قال: "إصلاح ذات البين، وإن فساد ذات البين هي الحالقة". قال الترمذي: "هذا حديث صحيح، ويُروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين". ثم أخرج الترمذي برقم (2510)، وأحمد في "المسند" (1/ 165، 167)، والبزار في "المسند" (رقم 2002 - الزوائد)، وأبو يعلى في "المسند" (2/ 32/ رقم 669)، عن الزبير مرفوعًا: "دبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، وهي الحالقة، لا أقول حالقة الشعر؛ ولكن حالقة الدِّين، والذي نفس محمد بيده؛ لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أنبئكم بما يُثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام". لفظ أبي يعلى. وإسناده ضعيف؛ ولكنه حسن بشواهده، ولآخره: "والذي نفسي بيده. . . " شاهد عن أبي هريرة، أخرجه مسلم في "صحيحه" (رقم 54)، وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 260)، وزاد في آخره: "وإياكم والبغضة؛ فإنها هي الحالقة، لا أقول لكم: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين"، ولفظ الترمذي (رقم 2508) عنه مرفوعًا: "إياكم وسوء ذات البين؛ فإنها الحالقة". وانظر: "غاية المرام" (414)، و"الإرواء" (2/ 239)، و"صحيح الأدب المفرد" (رقم 197). (¬4) أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 1/ 459 مختصرًا)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 576) وأبو يعلى -كما في "المطالب العالية" (4655) و"تفسير ابن كثير" (2/ 285)، و"الجامع الكبير" (1/ 145 رقم 410) - وابن أبي الدنيا في "حسن الظن باللَّه" (رقم 118)، وابن أبي داود في "البعث" (رقم 32)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (رقم 402)، وأبو الشيخ في "الترغيب" والبيهقي في "البعث" -وسقط من مطبوعه، كما في =

فصل [يؤجل القاضي الحكم بحسب الحاجة]

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (¬1)} [الحجرات: 10]. فصل [يؤجل القاضي الحكم بحسب الحاجة] وقوله (¬2): "مَنْ ادّعى حقًا غائبًا أو بينةً فاضرِبْ له أمدًا ينتهي إليه" هذا من تمام العدل، فإن المُدّعي قد تكون حجته أو بينته غائبة، فلو عُجِّل عليه بالحكم بطل حقه، فإذا سأل أمدًا تحضر (¬3) فيه حجته أجيب إليه، ولا يتقيد ذلك بثلاثة أيام، بل بحسب الحاجة، فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم لم يضرب له أمدًا، بل يفصل الحكومة، فإنَّ ضرْب هذا الأمد إنَّما كان لتمام العدل، فإذا كانت فيه إبطال للعدل لم يُجَبْ إليه الخصم. [قد يتغير الحكم بتغير الاجتهاد] وقوله: "ولا يمنعنك قضاءٌ قَضيتَ به اليوم فراجعت فيه رأيك وهُديت فيه لرُشْدك (¬4) أن تُراجعَ فيه الحق، فإنَّ الحق قديم، ولا يبطله شيءٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك (¬5) الاجتهاد الأول من إعادته، فإن الاجتهاد قد يتغير، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعًا من العمل بالثاني إذا ظهر أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار؛ لأنه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه (¬6) قديم سابق على ما سواه، ¬

_ = "الترغيب" للمنذري (3/ 210) - جميعهم من طريق عباد بن شيبة عن سعيد بن أنس عن أنس به. قال الحاكم: "صحيح الإسناد"!! وتعقبه المنذري بقوله: "كذا قال! " والذهبي في "التلخيص" بقوله: "عباد ضعيف، وشيخه لا يعرف". قلت: تفرد به عباد، وقال عنه ابن حبان في "المجروحين" (2/ 171) "منكر الحديث جدًّا على قلّة روايته، لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به من المناكير" وانظر: "الميزان" (2/ 366). وأما سعيد بن أنس فهو مجهول، قاله العقيلي، وقال البخاري -وأورد الحديث في ترجمته-: "لا يتابع عليه"، وقال الذهبي في "ديوان الضعفاء" (ص 118 - رقم 1578): "لا يعرف" وانظر: "الميزان" (2/ 126). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) "أي قول عمر في كتابه إلى أبي موسى، فالمؤلف ما زال آخذًا في شرحه" (و). (¬3) في (ق): "يحضر". (¬4) في (ق): "رشدك". (¬5) في (ن): "فلا يمنعنك". (¬6) في (ن): "فإنه".

[من ترد شهادته]

ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلاف (¬1)، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول. قال عبد الرزاق: حدثنا مَعْمر، عن سِماك بن الفَضْل، عن وهب بن مُنبِّه، عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: قضى عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-]، (¬2) في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها (¬3) لأبيها وأمها وأخوتها (3) لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، قال (¬4) عمر: "تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم" (¬5)؛ فأخذ أمير المؤمنين (¬6) في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني؛ فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين (¬7). [من ترد شهادته] قوله: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مُجرَّبًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حد، أو ظنِّينًا في ولاءٍ أو قرابة" لما جعل اللَّه سبحانه هذه الأمة أمة وسطًا، ليكونوا شهداء على الناس -والوسط: العدل الخيار- كانوا عدولًا بعضهم على بعض، إلا من قام به مانع الشهادة، [وهو أن يكون قد] (¬8) جُرِّب عليه شهادة ¬

_ (¬1) في (ق): "خلافه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع: "وأخويها". (¬4) في (ق): "فقال". (¬5) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 120)، وابن عبد البر في "الجامع" (1670) من طريق معمر به. وإسناده صحيح؛ رجاله كلهم ثقات. وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق" (1/ 383) لمحمد بن نصر المروزي، وقال: "وهذا إسناد صحيح". وانظر "الموافقات" (5/ 161 - بتحقيقي). (¬6) زاد هنا في (ك): "بما ظهر كله" وسقطت كلمة "كلا" الآتية. (¬7) ليس للحاكم إذا تغير اجتهاده في القضية أن ينقض الاجتهاد الأول؛ لأن ذلك يؤدي إلى عدم استقرار الأحكام الشرعية، شرط ذلك: أن لا يكون ما حكم به أولًا مخالفًا لدليل قطعي؛ فإنه حينئذٍ ينقضه اتفاقًا. وانظر في ذلك: "المحصول" (6/ 64) للرازي، و"الإحكام" (4/ 219) للآمدي، و"أدب القضاة" (ص 161 - 167) لابن أبي الدم الحموي الشافعي، و"الأشباه والنظائر" (ص 105) لابن نجيم الحنفي، و"المستصفى" (2/ 382) للغزالي، و"المسودة" (ص 543)، و"إرشاد الفحول" (ص 263) للشوكاني. (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "ممن".

[شهادة القريب لقريبه أو عليه]

الزور؛ فلا يوثق (¬1) بعد ذلك بشهادته، أو من جُلد في حد؛ لأنَّ اللَّه سبحانه نهى عن قبول شهادته، أو متَّهم بأن يجر إلى نفسه نفعًا من المشهود له، كشهادة السيد لعتيقه بمال أو شهادة العتيق لسيده إذا كان في عياله أو منقطعًا إليه يناله نَفْعُه، وكذلك شهادة القريب لقريبه لا تُقْبل مع التُّهْمة، وتقبل بدونها، وهذا هو الصحيح. [شهادة القريب لقريبه أو عليه] وقد اختلف الفقهاء في ذلك: فمنهم من جوَّز شهادة القريب لقريبه مطلقًا كالأجنبي، ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال، كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر (¬2)، وهؤلاء (¬3) يحتجُّون بالعمومات التي لا تُفرِّق بين أجنبي وقريب، وهؤلاء أسعد بالعمومات. [منع شهادة الأصول للفروع والعكس ودليله] ومنعت طائفة شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول خاصة، وجَوَّزت شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض، وهذا مذهب الشافعي (¬4) وأحمد (¬5)، وليس مع هؤلاء نص صريح صحيح بالمنع. واحتج الشافعي بأنه لو قبلت شهادة الأب لابنه لكانت [شهادة منه] (¬6) لنفسه لأنه منه؛ وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما فاطمة بضعة مِنّي يُريبني ما رَابَها، ويُؤذيني ما آذاها" (¬7) قالوا: وكذلك بنو البنات، فقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحسن: "إن ابني هذا ¬

_ (¬1) في (ك): "يؤمن". (¬2) انظر "المحلى" (9/ 412) لابن حزم -رحمه اللَّه-. وهذا مذهب داود وأبي ثور والمزني، قاله الشاشي في "حلية العلماء" (8/ 258) وانظر: "فقه الإمام أبي ثور" (760)، "أدب القاضي" (1/ 309) لابن القاص، "الإشراف" (5/ 70 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب. (¬3) في (ق): "وهم". (¬4) "الأم" (7/ 42)، "روضة الطالبين" (11/ 236)، "مغني المحتاج" (4/ 434)، "نهاية المحتاج" (8/ 134)، "أدب القاضي" (1/ 309) لابن القاص، "حلية العلماء" (8/ 258) "المهذب" (2/ 330)، "الحاوي الكبير" (16/ 163 - ط دار الكتب العلمية)، "فتح الوهاب" (2/ 121). (¬5) "المغني" (9/ 191)، "الإنصاف" (12/ 66)، "منتهى الإرادات" (3/ 596)، "كشاف القناع" (6/ 428)، "تنقيح التحقيق" (3/ 548 رقم 804)، "الإفصاح" (436). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "شهادته". (¬7) بهذا اللفظ رواه مسلم (2449) في (فضائل الصحابة): باب فضائل فاطمة بنت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حديث المسور بن مخرمة. =

سَيّد" (¬1) قال الشافعي: فإذا شهد له فإنما يشهد لشيء منه، قال: [وبنوه هم] (¬2) منه، فكأنه شهد لبعضه، قالوا: والشهادة تُردُّ بالتُّهمة، والوالد متَّهم في ولده؛ فهو ظنينٌ في قرابته، قالوا: وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأولاد: "إنكم لتُبَخِّلُونَ وتُجَبّنُون، وإنكم لمن ريْحَان اللَّه" (¬3) وفي أثر آخر: "الولد مَبخَلة مَجْبَنة" (¬4) قالوا: وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت ومالُكَ لأبيك" (¬5) فإذا كان مال الابن لأبيه فإذا شهد له الأب ¬

_ = وأصل الحديث في "صحيح البخاري"، لكن بغير اللفظ المذكور هنا انظر (3110) و (3714) و (3767). (¬1) رواه البخاري (2704) في (الصلح): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للحسن بن علي: "ابني هذا سيد"، و (3629) في (المناقب): باب علامات النبوة في الإسلام، و (3746) في (فضائل الصحابة): باب مناقب الحسن والحسين -رضي اللَّه عنهما-، و (7109) في (الفتن): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للحسن بن علي: "إن ابني هذا لسيد. . . "، من حديث أبي بكرة. (¬2) في (ق): "وبنوهم". (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 409) وفي "فضائل الصحابة" (1363)، والحميدي في "مسنده" (334)، والترمذي (1910) في (البر والصلة): باب ما جاء في حب الولد، والباغندي في "مسند عمر بن عبد العزيز" (18)، وابن قتيبة في "غريب الحديث" (1/ 407)، وابن أبي الدنيا في "العيال" (182)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (6/ 60 رقم 3269)، والطبراني في "الكبير" (24) (609، 614)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 202) وفي "الأسماء والصفات" (ص 461)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 300)، والمزي في "تهذيب الكمال" (25/ 338) كلهم من طريق سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن ابن أبي سويد عن عمر بن عبد العزيز قال: نعمت المرأة الصالحة خولة بنت حَكِيم رفعته، وعند بعضهم "تجهلون" بدل (تجبنون) وعند بعضهم زيادة في آخره. وإسناده ضعيف، ابن أبي سويد هو محمد بن أبي سويد الطائفي الثقفي مجهول كما قال الحافظ في "التقريب"، ولمحقق "مسند عمر بن عبد العزيز" كلام آخر في تعيينه!! ينظر!! ثم هو منقطع بين عمر بن عبد العزيز وخولة؛ كما قال الترمذي وغيره، وله شاهد وهو الآتي. وعزاه الزَّبيدي في "الإتحاف" (8/ 208 و 9/ 21) إلى العسكري في "الأمثال". (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 172)، وفي (فضائل الصحابة): (1362)، وابن أبي شيبة (12/ 97)، وابن ماجه (3666) في (الأدب): باب بر الوالد والإحسان إلى البنات، والطبراني في "الكبير" (2587)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 164)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 202)، وفي "الأسماء والصفات" (461)؛ كلهم من طريق عبد اللَّه بن عثمان بن خُثَيم عن سعيد بن أبي راشد عن يعلى العامري به، وفي بعضها: "مجهلة" وصححه الحاكم على شرط مسلم وقال البوصيري: "إسناده صحيح رجاله ثقات". ورواه عبد الرزاق (20143) عن طريق ابن خثيم مرسلًا دون ذكر سعيد ولا يعلى. ورواه البزار (1891) والحاكم (3/ 296) من طريق ابن خثيم عن محمد بن الأسود بن خلف عن أبيه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وذكره. (¬5) ورد عن جمع من الصحابة، منهم: جابر بن عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عمر، وعبد اللَّه بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عمرو، وعبد اللَّه بن مسعود، وأنس بن مالك، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وسمرة بن جندب، وعائشة -رضي اللَّه عنهما-. * أما حديث جابر، فأخرجه ابن ماجه في "السنن" (رقم 2291)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 158)، وفي "المشكل" (4/ 277) رقم (1598 - ط المحققة)، أو (2/ 230 - ط القديمة)، والطبراني في "الأوسط" (رقم 3534، 6728)، والمخلص في "حديثه" (12/ 69/ ب - المنتقى منه)؛ -كما في "الإرواء" (3/ رقم 838) -، وابن عدي في "الكامل" (7/ 2621 - 2622)، من طريق عيسى بن يونس، عن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، عن محمد بن المنكدر، عن جابر رفعه. قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" (2/ 202): "إسناده صحيح: ورجاله ثقات على شرط البخاري"، وعزاه السخاوي في "المقاصد الحسنة" (رقم 196) لبقي بن مخلد من هذا الطريق، وتابع يوسف على وصله: * أبان بن تغلب، عند الإسماعيلي في "المعجم" (806/ رقم 408)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1727)، وقال: "وهذا الحديث رواه عن ابن المنكدر جماعة، ومن حديث أبان بن تغلب غريب لم يروه غير زهير، وعن زهير عمار بن مطر". قلت: وعمار هالك، وتركه بعضهم، انظر "اللسان" (4/ 275). * عمرو بن أبي قيس، عند: الخطيب في "الموضح" (2/ 74)، وابن بشران في "الأمالي" (2/ 287 - 288 رقم 1526) ونقل ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (رقم 1999) عن البزار أنه صححه، وقال المنذري: إسناده ثقات، وصححه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الكبرى" (ق 170/ ب). * المنكدر بن محمد بن المنكدر، عند الطبراني في "الصغير" (2/ 62 - 63)، و"الأوسط" (رقم 6570)، وفيه قصة ومعجزة، أخرجه من أجلها البيهقي في "الدلائل"، ورواه في "السنن" (7/ 481) مختصرًا دونها، وخرجه أبو الشيخ في "عوالي حديثه" (1/ 22/ أ)، والمعافى بن زكريا في "جزء من حديثه" (ق 2/ أ) مطولًا، وقال الطبراني عقبه: "لا يُروى عن محمد بن المنكدر بهذا التمام والشعر إلا بهذا الإسناد، تفرد به عبيد بن خلصة"، والمنكدر ضعفوه من قبل حفظه، وهو في الأصل صدوق. وعبيد بن خلصة لا يعرف، ولم أجد من ترجمه، كذا قال شيخنا في "الإرواء" (3/ 325)، وهو المراد بقول السخاوي في "المقاصد" (101)، وقبله الهيثمي في "المجمع" (4/ 155)، والغماري في "الهداية" (8/ 540): "وفي إسناده من لا يعرف". * هشام بن عروة، أخرجه البزار في "مسنده"، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (8/ 103)، وصححه فيه (8/ 106 و 9/ 407 و 10/ 160 و 11/ 344)، وصححه ابن القطان من هذا الوجه كما في "المقاصد" (ص 100). وقد أعلّ هذا الطريق كثير من المتقدمين بمخالفة الثوري وابن عيينة لمن وصلوه، قال أبو حاتم بعد ذكره لمن وصله -وهم الثلاثة المتقدمون-: "هذا خطأ، وليس هذا =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = محفوظًا عن جابر، رواه الثوري وابن عيينة عن ابن المنكدر أنه بلغه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال ذلك، قال أبي: وهذا أشبه" كذا في "العلل" (1/ 466) رقم (1399) لابنه. وقال البزار عقبه: "إنما روي عن هشام مرسلًا" يعني بدون جابر. ونقل ابن التركماني في "الجوهر النقي" (7/ 481) قول البزار عنه: "ومن صحيح هذا الباب حديث ذكره بقي بن مخلد. . .". قلت: أخرجه الشافعي في "الرسالة" (رقم 1290 - ط شاكر)، ومن طريقه البيهقي في "المعرفة" (1/ 166) رقم (263)، و (11/ 298) رقم (15587)، وسعيد بن منصور في "سننه" (رقم 2290): أخبرنا سفيان عن محمد بن المنكدر به مرسلًا. وأفاد البيهقي قبله أنه لم يقل أحد من أهل الفقه به وقال بعده: "لا يثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وقال: "وأن اللَّه لما فرض للأب ميراثه من ابنه، فجعله كوارث غيره، فقد يكونُ أقل حظًا من كثير من الورثة، دل ذلك على أن ابنه مالك للمال دونه"، وقال: "ومحمد بن المنكدر غاية في الثقة والفضل في الدين والورع، ولكنا لا ندري عمن قبل هذا الحديث". قال البيهقي في "المعرفة" (1/ 167) عقب قول الشافعي الأخير: "وقد رواه بعض الناس موصولًا بذكر جابر فيه، وهو خطأ". ونقل فيه -أيضًا- (12/ 158) تضعيف الشافعي له، ونقل الشافعي -بناءً على ما تقدم- أن أهل العلم أجمعوا على خلافه!! قلت: لا يوجد حديثٌ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا أسعد اللَّه عالمًا وقال به، وقد رأيت منذ عشر سنوات تقريبًا بحثًا ماتعًا في هذا للسندي في "دراسات اللبيب" فانظره غير مأمور. والحديث على توجيه الشافعي السابق، ومعارضته له بما فرض اللَّه للأب مع عدم حفظه من وصله، ينحى إلى ضعفه، وزاد البيهقي -نصرةً له، ووجد الموصول- أن زيادة "عن جابر" خطأ! وفصَّل في "الكبرى" (7/ 481) منشأ هذا باستشكال ثم عَرَّج على تأويل له، قال: "من زعم أن مال الولد لأبيه احتجَّ بظاهر هذا الحديث، ومن زعم أن له من ماله ما يكفيه إذا احتاج إليه، فإذا استغنى عنه لم يكن للأب من ماله شيء، احتج بالأخبار التي وردت في تحريم مال الغير، وأنه لو مات وله ابن لم يكن للأب من ماله إلا السدس، ولو كان أبوه يملك مال ابنه لحازه كله. ويروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "كل أحد أحق بماله من والده وولده والناس أجمعين" وبمثل هذا احتج ابن حزم في "المحلى" (8/ 103 - 106 و 9/ 417 و 10/ 460 و 11/ 344) على أنه منسوخ! وأطال في ذلك. قلت: الحديث الناسخ "كل أحد. . . " ضعيف، أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" رقم (2293)، والدارقطني في "السنن" (4/ 235)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 481 و 10/ 319) عن حبان بن أبي جبلة مرفوعًا، وهو ضعيف، حبان من التابعين، ولذا تعقب المناوي في "فيض القدير" (5/ 9) السيوطي لما رمز لصحته في "الجامع الصغير" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فقال: "أشار المصنف لصحته، وهو ذهول أو قصور، فقد استدرك عليه الذهبي في "المهذب" فقال: قلت لم يصح مع انقطاعه". وأخرجه البيهقي في "الكبرى" (6/ 178) عن عمر بن المنكدر مرسلًا، ونقل الطحاوي في "المشكل" (4/ 279) عن شيخين له توجيهًا آخر، وهذا نص كلامه: "سألت أبا جعفر محمد بن العباس (1) عن المراد بهذا الحديث، فقال: المراد به موجود فيه، وذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال فيه: "أنت ومالك لأبيك" فجمع فيه الابن، ومال الابن، فجعلهما لأبيه، فلم يكن جعله إياهما لأبيه على ملك أبيه إياه، ولكن على أن لا يخرج عن قول أبيه فيه، فمثل ذلك قوله: مالك لأبيك، ليس على معنى تمليكه إياه ماله، ولكن على معنى أن لا يخرج عن قوله فيه. وسألت ابن أبي عمران عنه، فقال: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الحديث: "أنت ومالك لأبيك" كقول أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنما أنا ومالي لك يا رسول اللَّه، لما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما نفعني مال ما نفعني مال أبي بكر" (2) انتهى. وقد لخص ابن عبد البر في "الاستذكار" (24/ 142) معنى كلامهما بقوله: "قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت" ليس على التمليك، فكذلك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ومالك" ليس على التمليك، ولكنه على البر به، والإكرام له". ونحوه عند ابن حبان في "الصحيح" (2/ 143 و 10/ 75 - الإحسان). والتوجيه الأول أقرب لزيادة وردت في حديث عائشة ستأتي، واللَّه الموفق. والخلاصة: الحديث صحيح بمجموع طرقه، قال ابن حجر في "الفتح" (5/ 211): "فمجموع طرقه لا تحطه من القوة، وجواز الاحتجاج به"، وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (100 - 102) بعد أن سرد طرقه: "والحديث قوي". أما شواهده: فحديث ابن عمر، وله أربع طرق: الأولى: ما أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 1/ 406) قال لي محمد بن مهران، وأبو يعلى في "المسند" (10/ 98 - 99) رقم (5731) حدثنا محمد بن إسماعيل بن أبي سمينة، وابن معين في "تاريخه" (4/ 156 - 157) رقم (3685) ثلاثتهم قال: حدثنا معتمر بن سليمان قال: فيما قرأت على فضيل بن ميسرة، عن أبي حريز، عن إسحاق أنه حدثه أن عبد اللَّه بن عمر، وذكر نحوه. وقال ابن أبي سمينة: "عن أبي إسحاق" بزيادة "أبي"!! قال الدوري في "تاريخه" عقبه: "قلت ليحيى: ابن أبي سمينة البصري حدثنا به عن معتمر يقول: عن أبي إسحاق؟! فأخرج يحيى "كتاب معتمر" كذا فيه: "أن إسحاق حدثه". = _______ (1) العجيب أنّ محققه لم يعرفه، وهو مترجم في "السير" (14/ 144 - 145). (2) خرجته بإسهاب في تعليقي على "المجالسة" (رقم 151) للدينوري، فانظره غير مأمور.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قلت: يتأكد ذلك أن البخاري أورده في ترجمة إسحاق في باب (ومن أفناء الناس)، وإسحاق هذا في عداد المجاهيل، وقد خفي ذلك على شيخنا الألباني في "الإرواء" (3/ 328)؛ فقال: "وهذا سند حسن في المتابعات، رجاله كلهم ثقات غير أبي حريز، واسمه عبد اللَّه بن حسين، قال الحافظ في "التقريب" صدوق يخطئ". قلت: نعم، أبو حريز وثقه أبو زرعة وأبو حاتم، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وضعفه أحمد وغيره، ولكن لم ينتبه لإسحاق، وأثبته (أبو إسحاق) مع عزوه له لـ"تاريخ ابن معين"، ولم يلتفت لمقولة الدوري عقبه آنفة الذكر، ولم يعزه لـ"تاريخ البخاري". وعلى فرض أنه (أبو إسحاق) -وهيهات- فهو السبيعي!! ونقل ابن أبي حاتم في "المراسيل" (ص 146) عن أبيه قوله: "لم يسمع أبو إسحاق من ابن عمر، ما رآه رؤية". وأخرج أحمد في "الورع" (رقم 396): حدثنا معتمر -كذا- قال: قرأت على الفضيل أن أبا إسحاق -كذا بزيادة (أبي) وإسقاط (أبي حريز) ولعله من المحقق، فالكتاب مليء بمثل هذا على جودة مادته ونفاسته، ولا قوة إلا باللَّه. الثانية: أخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 1/ 406)، وابن قتيبة في "عيون الأخبار" (3/ 86 ط المصرية، و 3/ 98 ط دار الكتب العلمية) من طريق عبد الأعلى، ثنا سعيد، عن مطر، عن الحكم بن عتيبة، عن النخعي، عن ابن عمر رفعه، وفي آخره: "أو ما علمت أنك ومالك لأبيك" لفظ ابن قتيبة، ولم يورد البخاري لفظه. الثالثة: أخرجه البزار في "مسنده"؛ كما في "نصب الراية" (3/ 339) من طريق ميمون بن زيد، عن عمر بن محمد بن زيد، عن أبيه، عن ابن عمر فذكره. وقال: "لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد!! وعمر بن محمد فيه لين". قلت: ورد عن ابن عمر من غير هذا الإسناد فليس الأمر كما قال البزار، وميمون ليّنه أبو حاتم، وعزاه الغماري في "الهداية" (8/ 542) من هذا الطريق للطبراني في "الكبير"، وما إخاله إلا وهمًا! الرابعة: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (رقم 5132) من طريق محمد بن أبي بلال، ثنا خلف بن خليفة عن محارب بن دثار عنه مرفوعًا بلفظ: "الولد من كسب الوالد". قال شيخنا الألباني في "الإرواء" (3/ 328): "وابن أبي بلال هذا لم أعرفه". قلت: هو محمد بن بكار بن بلال العاملي، وسيأتي عنه في حديث عمر! وقد خالفه سعيد بن منصور، فأخرجه في "سننه" (رقم 2295) نا خلف بن خليفة قال: سمعت واللَّه محارب بن دثار رفعه، وهو مرسل، وهو الأشبه، في هذا الطريق. وحديث عبد اللَّه بن عمرو، أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 61) من طريق ابن جريج، وأحمد في "المسند" (2/ 214)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 995)، والبيهقي في "معرفة السنن" (11/ 300 رقم 15596)، وفي "الكبرى" (7/ 480) من طريق عبيد اللَّه بن الأخنس، وأبو داود في "السنن" (رقم 3530)، وابن خزيمة -كما في "الهداية" (8/ 541) - وابن المقرئ في "معجمه" (523)، والبيهقي في "الكبرى" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (7/ 480) من طريق حبيب المعلم، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 158) من طريق حسين -وأخشى أن يكون تصحيفًا عن (حبيب): المعلم-، وأحمد في "المسند" (2/ 514)، وابن ماجه في "السنن" (رقم 2292) من طريق حجاج بن أرطاة كلهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "أتى أعرابي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقال: إن أبي يريد أن يجتاح مالي، قال: أنت ومالك لوالدك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أموال أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئًا". وأخرجه أبو بكر الشافعي في "حديثه" (2/ ب)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 22)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 49)، والأبهري في "الفوائد" (2/ أ)، والسِّلفي في "الطيوريات" (ج 7/ ق 115/ ب)، وابن النقور في "القراءة على الوزير" (2/ 20/ ب)، -كما في "الإرواء" (3/ 225) - من طريق قتادة عن عمرو بن شعيب به مختصرًا مقتصرًا على "أنت ومالك لأبيك" من غير ذكر ذلك الرجل أو الأعرابي. قال البيهقي في "المعرفة" (1/ 167) رقم (266). "وقوله: إن لأبي مالًا ليس في أكثر الروايات عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده"!! قلت: تبرهن لك خلاف ذلك، فهذا القول سقط من رواية قتادة فحسب، وهو موجود في رواية خمسة من أصحاب عمرو بن شعيب، فتنبه. وقال البيهقي ما قال، تعقيبًا على مقولة الشافعي السابقة في حديث جابر. وحديث عبد اللَّه بن مسعود، أخرجه ابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 472 رقم 1416)، والطبراني في "الصغير" (1/ 8)، و"الأوسط" (1/ 67) رقم (57)، و"الكبير" (10/ 82 رقم 10019)، و"مسند الشاميين" (3/ رقم 2481)، والمعافى بن زكريا في "جزء من حديثه (ق 2/ أ)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2398)، وعبد الأعلى بن مسهر في "نسخته" (رقم 48)، وابن المقرئ في "معجمه" (896) من طرق عن أبي مطيع معاوية بن يحيى، ثنا إبراهيم بن عبد الحميد بن ذي حماية عن غيلان بن جامع عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود به. قال الطبراني: "لا يروى عن ابن مسعود إلا بهذا الإسناد، تفرد به ابن ذي حماية، وكان من ثقات المسلمين". قلت: ابن ذي حماية تحرف في "المجمع" (4/ 154) إلى حماد. وقال الهيثمي: "لم أجد من ترجمه" وتوثيق الطبراني السابق عزيز، وهو مترجم في "التاريخ الكبير" (1/ 1/ 304 - 305)، وقال الهيثمي: "وبقية رجاله ثقات". قلت: معاوية بن يحيى، وحماد بن أبي سليمان، كلاهما صدوق له أوهام. وأعله أبو حاتم الرازي بكلام سيأتي في حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. وحديث أنس بن مالك: أخرجه أبو بكر الشافعي في "فوائده" (رقم 88 - بتحقيقي - انتقاء الدارقطني "الرباعيات") وفيه الحباب بن فضالة ضعيف. وحديث أبي بكر الصديق (أو حديث رجل مبهم رفعه للنبي بحضرة أبي بكر): أخرجه =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الطبراني في "الأوسط" (1/ 448 - 449) رقم (810)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 481)، و"المعرفة" (11/ 350 رقم 15597)، وإسناده ضعيف، فيه المنذر بن زياد قال الطبراني: لم يرو هذا الحديث عن إسماعيل بن أبي خالد إلا المنذر بن زياد". قلت: وهو متروك كما قال الدارقطني، وكذا في "المجمع" (4/ 155)، وقال البيهقي: "غير قوي". وحديث عمر بن الخطاب: أخرجه البزار في "البحر الزخار" (1/ 419 - 420 رقم 295)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 1212)، والدارقطني في "الأفراد" (ق 20/ ب) من طريق محمد بن بلال نا سعيد بن بشير، عن مطر، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر به. قال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يروى عن عمر عن النبى -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا من هذا الوجه، وقد رواه غير مطر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده". وقال الدارقطني: "تفرد به مطر الوراق، عن عمرو بن شعيب عنه، ولم يروه عنه غير سعيد بن بشير". وقال ابن عدي: "ولا أدري تشويش هذا الإسناد ممن هو، لأن هذا الحديث يرويه جماعة عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، ولا أعلم رواه عن سعيد بن المسيب عن عمر إلا من حديث سعيد بن بشير هذا"، وقال عن سعيد بن بشير: "ولعله يهم في الشيء بعد الشيء ويغلط". وقال أبو حاتم في "العلل" (2/ 469 رقم 1408)، لابنه عن طريق حديث عمر: "هذا خطأ، إنما هو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". ونحوه في "مسند الفاروق" لابن كثير (2/ 557). وقال الهيثمي في "المجمع" (2/ 84): "وسعيد بن المسيب لم يسمع من عمر". قلت: وقع خلاف في ذلك، ورجح المزي وابن حجر أنه روى عنه وسمع منه، وليس هذا موطن التفصيل. وحديث سمرة بن جندب: أخرجه الطبراني في "الأوسط" (رقم 7084)، و"الكبير" (7/ 230) رقم (6961)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 234)، والبزار في "مسنده" (رقم 1260 - زوائده) -كما في "نصب الراية" (3/ 338) - من طريق أبي مالك الجوداني -واسمه عبد اللَّه بن إسماعيل- عن جرير بن حازم عن الحسن به. وإسناده ضعيف ومنقطع، الحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، وعبد اللَّه بن إسماعيل "تفرد به"؛ كما قال الطبرانى، وقال العقيلى عنه: "عن جرير منكر الحديث، لا يتابع على شيء من حديثه". قلت: والحقيقة أنه توبع، ولكن المتابعة عدم، فأخرجه ابن بشران في "الأمالي" (ق 56/ أ) أو (1/ 148 رقم 334) من طريق عبد للَّه بن حرمان الجهضمي عن جرير به. وابن حرمان لم أظفر به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-: قال العقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 234) عقب حديث سمرة السابق: "وفي هذا الباب أحاديث من غير هذا الوجه، وفيها لين، وبعضها أحسن من بعض، ومن أحسنها حديث الأعمش عن منصور عن عمارة بن عمير عن عمته عن عائشة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أولادكم من كسبكم، فكلوا من كسب أولادكم". قلت: أخرج هذا الحديث بهذا اللفظ ونحوه، سعيد بن منصور في "سننه" رقم (2287 - ط الأعظمي)، وإسحاق بن راهويه في "المسند" (رقم 1508، 1657)، والدارمي في "السنن" (2/ 247)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 1/ 406 - 407)، وأبو داود في "السنن" (رقم 3528، 3529) والنسائي في "المجتبى" (7/ 240 - 241)، والترمذي في "الجامع" (رقم 1358)، وابن ماجه في "السنن" (رقم 3137، 2290)، وأحمد في "المسند" (6/ 31، 41، 127، 162، 193، 201، 202 - 203)، والحميدي في "المسند" (246)، والطيالسي في "المسند" (رقم 1580)، وابن حبان في "الصحيح" (10/ 72 - 73) رقم (4259 - الإحسان)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 45، 46)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (239)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 480)، و"المعرفة" (11/ 298 - 299 رقم 15589، 15590) من طريق عمارة به. قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي. قلت: عمة عمارة لم أهتد إليها، وفي بعض الروايات "عن أمه" وأم عمارة لم أهتدِ إليها أيضًا، وفي "المستدرك" "عن أبيه" بدل "عن عمته"، ولكنها توبعت، تابعها الأسود عن عائشة، كما عند سعيد بن منصور في "سننه" رقم (2288)، وإسحاق في "مسنده" (رقم 1507، 1561)، والنسائي في "المجتبى" (7/ 241)، وابن ماجه في "السنن" (رقم 2137) وأحمد في "المسند" (6/ 42، 220)، وابن حبان في "الصحيح" (10/ 74 رقم 4260، 4261 - الإحسان)، والبيهقي في "المعرفة" (11/ 299 رقم 15593)، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (ص 76) وإسناده صحيح. وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (رقم 2289) عن هشيم عن مغيرة عن إبراهيم عن عائشة قولها. وعد أبو حاتم الرازي -كما في "العلل" (1/ 472 رقم 1416) - طريق أبي مطيع معاوية -وفي المطبوع بينهما (ابن)!! فلتحذف- عن ابن أبي حماية به إلى ابن مسعود رفعه بلفظ: "أنت ومالك لأبيك" خطأ، قال: "إنما هو حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة". قلت: زاد فيه حماد عن إبراهيم: "إذا احتجتم" قال الثوري: وهذا وهم من حماد، وقال أبو داود: هو منكر، قاله البيهقي في "المعرفة" (11/ 299). وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 284)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 480) من طريق إبراهيم بن ميمون الصائغ عن حماد عن إبراهيم عن الأسود عنها، بلفظ: "إن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أولادكم هبة اللَّه لكم {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49]: فهم وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها". وإسناده صحيح، وفيه فائدة فقهية هامة وهي أنه يبين أن الحديث المشهور: "أنت ومالك لأبيك"، ليس على إطلاقه، بحيث إن الاب يأخذ من مال ابنه ما يشاء، كلا وإنما يأخذ ما هو بحاجة إليه، أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (رقم 2564). وانظر عن معناه:- "بر الوالدين" (ص 183 - 185) للطرطوشي. وورد عن عائشة باللفظ الذي أورده المصنف من ثلاثة طرق: الأولى: ما أخرجه ابن حبان في "الصحيح" (2/ 142 رقم 410 - الإحسان)، و (10/ 74 - 75 رقم 4262 - الإحسان)، من طريق حصين بن المثنى، حدثنا الفضل بن موسى، عن عبد اللَّه بن كيسان، عن عطاء به. وإسناده ضعيف، الحصين مترجم في "الجرح والتعديل" (3/ 197)، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وابن كيسان ضعفه أبو حاتم، والنسائي، وقال العقيلي: "في حديثه وهم كثير". والعجب من ابن الملقن فإنه اقتصر عليه في "تحفة المحتاج" (2/ 377) وقال: "وهو أصح طرقه الثمانية"؛ ولكنه قال في "خلاصة البدر المنير" (رقم 1999): "له سبعة طرق أُخر، موضحة في الأصل، وأصحها هذا، وطريق جابر". وانظر "الإرواء" (6/ 66 - 67). الثانية: أخرجه أبو القاسم الحامض في "حديثه" -كما في "المنتقى منه" (2/ 8/ 1) - حدثنا إبراهيم بن راشد، ثنا أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود. قلت: وإبراهيم بن راشد هو الأدمي، قال ابن أبي حاتم، (1/ 1/ 99): "كتبنا عنه ببغداد، وهو صدوق" قلت: وبقية رجاله ثقات رجال الشيخين غير الأسود، وهو ابن موسى بن باذان المكي، لم أجد له ترجمة، وقد ذكره في "التهذيب" في جملة من روى عنهم ابنه عثمان، قاله شيخنا في "الإرواء" (3/ 326). الثالثة: أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 747) من طريق الحسن بن عبد الرحمن ثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رفعته، وقال عقبه: "وهذا حديث ليس له أصل عن وكيع، وإنما يروى هذا عن عبد اللَّه بن عبد القدوس، عن هشام بن عروة". قلت: والحسن بن عبد الرحمن الاحتياطي يسرق الحديث منكر عن الثقات. انظر "اللسان" (2/ 218)، و"تاريخ بغداد" (7/ 337). وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 611) والخطيب في "تالي التلخيص" (رقم 310 - بتحقيقي) من طريقين عن الحارث بن عبيدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وفيه: "اردد على أبيك ما حبست عنه، فإنك ومالك كسهم من كنانته". والحارث هو الكلاعي ضعفه الدارقطني، وقال ابن حبان في "المجروحين" (1/ 224): "يأتي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إذا انفرد". وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 1/ 81) "شيخ ليس بالقوي". =

بمالٍ كان قد شهد به لنفسه، قالوا: وقد قال أبو عبيد: ثنا مروان بن معاوية، عن يزيد الجزري (¬1)، قال: أحسبه يزيد بن سنان، قال الزهري: عن عروة، عن عائشة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ظنينٍ في ولاء ولا قرابة (¬2) ولا مجلود" (¬3) قالوا: ولأن بينهما من البعضية والجزئية ما يمنع قبول ¬

_ = وورد عن عائشة مرفوعًا بلفظ: "يد الوالد مبسوطة في مال ولده، وأن أمرك في أن تخرج من أهلك، فاخرج منها". أخرجه أبو الشيخ في "الفوائد" (رقم 22) بسند ضعيف، ومنقطع. وورد -أيضًا- عن مبهمين من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- أحدهما أنصاري، عند سعيد بن منصور في "سننه" (رقم 2291، 2292). ومن مرسل محمد بن المنكدر، وعمر بن المنكدر، ومضيا عند كلامي على حديث جابر، ومن مرسل محارب بن دثار، ومضى عند الكلام على حديث ابن عمر، ومن مرسل المطلب بن عبد اللَّه بن حَنْطب، عند: أبي عبيد في "المواعظ والخطب" (رقم 17) وفيه: "وأطع والديك، وإن أمراك أن تخرج من مالك فاخرج منه". والخلاصة: أن الحديث صحيح بمجموع طرقه هذه كما أسلفنا، وهذا ما قال به ابن حجر وتلميذه السخاوي، فيما قدمناه عنهما واللَّه الموفق. (¬1) في جميع نسخ "الإعلام" المطبوعة والمخطوطة "قال أبو عبيد: ثنا جرير عن معاوية عن يزيد. . . " وهذا خطأ، إلا أن في المخطوطة: "الجريري"!! بدل "الجزري"، والذي عند أبي عبيد: "حدثناه مروان الفزاري عن شيخ من أهل الجزيرة، يقال له: يزيد بن زياد، قال أبو عبيد: هو يزيد بن سنان عن الزهري. . . " وفي "المحلى" -ومنه ينقل المصنف-: ". . . من طريق أبي عبيد نا مروان بن معاوية عن يزيد الجزري". والمثبت منه. (¬2) في المطبوع: "أو قرابة". (¬3) أخرجه أبو عبيد في "الغريب" (2/ 153) -ومن طريقه البغوي في "التفسير" (1/ 410 - ط دار الفكر)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 416)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (18/ ق 282 - 283)، والترمذي في "الجامع" (رقم 2298) - وابن عدي في "الكامل" (7/ 2714)، وابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 476)، والدارقطني (4/ 244)، والبيهقي (10/ 155) من طريق مروان بن معاوية به. وإسناده ضعيف يزيد هذا من شيوخ مروان بن معاوية كان مروان يحسن الظن به لكن ضعفه أحمد وابن معين وابن المديني وأبو حاتم والبخاري وأبو داود والنسائي وابن عدي وابن حزم وقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبا زرعة يقول: هذا حديث منكر" وضعفه الترمذي. ويشهد له ما أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 181، 204، 208، 225)، وأبو داود في "السنن" (4/ 24/ رقم 2600)، وابن ماجه في "السنن" (2/ 792/ رقم 2366)، وعبد الرزاق في "المصنف" (رقم 15364)، والدارقطني في "السنن" (4/ 243)، وابن جميع في "معجم الشيوخ" (ص: 108)، ابن مردويه في "ثلاثة مجالس من أماليه" (رقم 280)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 155) من طرق عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي عمر على =

فصل [الرد على من منع شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول]

الشهادة، كما مُنعَ (¬1) من إعطائِه [من] الزكاة، [ومن قَتْله بالولد] (¬2)، وحَدِّه بقذفه؛ قالوا: ولهذا لا يثبُتُ له في ذمته دين عند جماعة من أهل العلم، ولا يطالب به، ولا يُحبس من أجله، قالوا: وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61]، ولم يذكر بيوت الأبناء لأنها داخلة في بيوتهم (¬3) أنفسهم، فاكتفى بذكرها [دونها] (¬4)، وإلا فبيوتهم أقرب من بيوت مَنْ ذُكر في الآية؛ قالوا: وقد قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] أي: ولدًا، فالولد جزء؛ فلا تقبل شهادة الرجل في (¬5) جزئه. قالوا: وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6): "إن أطْيَبَ ما أكَلَ الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" (¬7) فكيف يشهد الرجل لكسبه؟ قالوا: والإنسان مُتَّهم في ولده، مَفْتُونٌ به، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 25] فكيف تقبل شهادة المرء لمن قد جُعل (¬8) مفتونًا به؟ والفتنة محل التهمة. فصل [الرد على من منع شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول] قال الآخرون: قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ¬

_ = أخيه، ولا موقوف على حد"، وبعض طرقها حسنة، وقواه ابن حجر في "التلخيص الحبير"، وفي الباب عن أبي هريرة، عند البيهقي في "الكبرى" (10/ 201)، وبعضهم أرسله كما في "الغيلانيات" (رقم: 599)، وأخرجه أبو داود في "المراسيل" (رقم 396)، وأبو عبيد في "الغريب" (2/ 155) بسند رجاله ثقات إلى طلحة بن عبد اللَّه بن عوف عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو مرسل، فهو ضعيف. (¬1) في (ق): "يمنع" وما بين المعقوفتين بعدها سقط من (ق). (¬2) في (ق): "ومن قتل الوالد بالولد". (¬3) في (ق): "بيوت". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "لجزئه". (¬6) في (ق): "النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬7) رواه أحمد (6/ 42 و 220)، والنسائي (7/ 241) في (البيوع): باب الحث على الكسب، وابن ماجه (2137) في (التجارات): باب الحث على المكاسب، وابن حبان (4260) و (4261)، والبيهقي (7/ 480) من طرق عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة مرفوعًا به، وسنده صحيح على شرطهما، ومضى قريبًا ضمن تخريج حديث "أنت ومالك لأبيك"، فراجعه (ص 259 - 218). (¬8) في (ك): "جعله".

حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وقال [تعالى] (¬1): {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] و [قد] (1) قال [تعالى] (1): {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقد قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ] (1)} [البقرة: 282] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] ولا رَيْبَ في دخول الآباء والأبناء والأقارب في هذا اللفظ كدخول الأجانب؛ وتناولها للجميع بتناول واحد (¬2)، هذا مما لا يمكن دفعه، ولم يستثن [اللَّه سبحانه ولا رسوله] (¬3) من ذلك أبًا ولا ولدًا ولا أخًا ولا قرابة، ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء؛ فتلزم (¬4) الحجة بإجماعهم. وقد ذكر عبد الرزاق عن أبي بكر بن أبي سَبْرَة، عن أبي الزِّناد، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬5): تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، والأخ لأخيه (¬6). وعن عمرو بن سُليم الزُّرقيّ، عن سعيد بن المسيب مثل هذا (¬7). وقال ابن وهب: ثنا يونس، عن الزُّهريِّ قال: لم يكن يُتَّهم سَلَفُ المسلمين الصالح [في] (5) شهادة الوالد لولده، [ولا] (5) الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لإمرأته، ثم دَخِلَ الناسُ (¬8) بعد ذلك فظهرت منهم أمور حَمَلَتْ الوُلاة على اتهامهم، فتُرِكَت شَهادةُ من يُتَّهم إذا كانت من قرابة، وصار ذلك من الولد والوالد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "تناولًا واحدًا" وفي (ك): "تناول واحد". (¬3) في (ق): "اللَّه ورسوله". (¬4) في (ق): "ما يلزم". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) رواه عبد الرزاق (15471)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 415)، وذكره في "المغني" (9/ 191)، وفيه أبو بكر بن أبي سبرة، وهو ضعيف جدًّا، وقد رماه بعضهم بالوضع. (¬7) رواه عبد الرزاق (15472) بالإسناد السابق، وذكره -أيضًا- ابن حزم في "المحلى" (9/ 415)، وعلته أبو بكر بن أبي سبرة -أيضًا-. (¬8) "دخل الناس -بوزن فرح- فسدوا، [ظهر فيهم المكر والخديعة والفساد] " (د) (ط)، وما بين المعقوفتين زيادة (ط) على (د). قلت: وفي "اللسان" (3/ 1342) لابن منظور قال: "دخِل الناس -بكسر الخاء- من الدخل، وهو ما داخلهم فساد في عقل أو جسم، والدَّخَل: العيب والغش والفساد".

والأخ والزوج والمرأة، لم يُتَّهم إلا هؤلاء في آخر الزمان (¬1). وقال أبو عُبيد: حدثني الحسن بن عازب، عن جَدِّه شبيب بن غَرْقَدَة قال: كنتُ جالسًا عند شُرَيح، فأتاه علي بن كاهل وامرأة وخصم، فشهد لها عليُّ بن كاهل وهو زوجها، وشهد لها أبوها، فأجاز شريحٌ شهادتهما؛ فقال الخصم: هذا أبوها وهذا زوجها، فقال له شريح: أتعلم شيئًا تُجرِّحُ به شهادتهما؟ كلُّ مسلم شَهادتُه جائزة (¬2). وقال عبد الرزاق: ثنا سفيان بن عُيَينة، عن شَبيب بن غَرْقَدة قال: سمعت شُريحًا أجاز لامرأة شهادة أبيها وزوجها، فقال له الرجل: إنه أبوها وزوجها، فقال شريح: فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها؟ (¬3). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا شَبَابة، عن ابن أبي ذِئْب، عن سُليمان قال: شهدتُ لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، فقضى بشهادتي (¬4). وقال عبد الرزاق: ثنا معمر، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه الأنصاري قال: أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عَدْلًا (¬5). قالوا: فهؤلاء عمر بن الخطاب وجميعُ السلف وشُرَيح وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم يجيزون شهادة الابن لأبيه والأب لابنه، قال ¬

_ (¬1) علقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 415 - 416) من طريق ابن وهب به. (¬2) رواه ابن حزم في "المحلى" (9/ 416) من طريق أبي عبيد به، والحسن بن عازب لم أجده ولكانه متابع، ورواه عبد الرزاق في "المصنف" (15473)، ومن طريقه ابن حزم (9/ 416) عن ابن عيينة عن شبيب بن غرقدة قال: سمعت شُريحًا. . . وفيه أنه أجاز شهادة أبيه وزوجها، وليس فيه تفصيل كما هنا. ورواته ثقات. ورواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 343 - دار الفكر)، ومن طريقه ابن حزم (9/ 416)، من طريق أبي حباب عن شريح أنه أجاز شهادة أب وزوج؛ هكذا مختصرًا. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (رقم 15473)، -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 416) ورواته ثقات كما تقدم، وسقط هذا الأثر بتمامه من (ق) و (ك). (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 343) - ط دار الفكر)، ومن طريقه ابن حزم (9/ 419) -ورواته ثقات سليمان هو ابن أبي سليمان أبو إسحاق الشيباني. وفي (ك) و (ق): "شهدت لابني". (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (رقم 15475) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 416) - ورواته ثقات، عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري هو أبو طُوالة، قاضي المدينة لعمر بن عبد العزيز.

ابن حزم (¬1): "وبهذا يقول إياس بن معاوية، وعثمان البَتِّيُّ، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والمزني، وأبو سُليمان وجميع أصحابنا" يعني: داود بن علي وأصحابه. وقد ذكر الزهري أن الذين رَدُّوا شهادة الابن لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه هم المتأخرون (¬2)، وأن السلف الصالح لم يكونوا يَرُدُّونها. قالوا: وأما حججكم (¬3) على المنع فَمَدَارها على شيئين: أحدهما: البعضية التي بين الأب وابنه، وأنها تُوجِب أن تكون شهادة أحدهما للآخر شهادة لنفسه، وهذه حجة ضعيفة؛ فإن هذه البعضية لا توجب أن تكون كبعضه في الأحكام، [لا في أحكام الدنيا ولا] (¬4) في أحكام الثواب والعقاب؛ فلا يلزم من وجوب شيء على أحدهما أو تحريمه وجوبُهُ على الآخر وتحريمه من جهة كونه بَعْضَه، ولا من وجوب الحد على أحدهما وجوبه على الآخر، وقد قال [النبي] (¬5) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يجني والدٌ على ولده" (¬6) فلا يَجْني عليه، ¬

_ (¬1) في "المحلى" (9/ 416). (¬2) من الولاة، كما في "المحلى" (9/ 416). (¬3) في المطبوع: "حجتكم". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وبدله في (ق): "لا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "المسند" (رقم 561، 562)، وأحمد (3/ 499)، والترمذي (3087) في (التفسير): باب ومن سورة التوبة، وابن ماجه (2669) في (الديات): باب لا يجني أحد على أحد، و (3055) في (المناسك): باب الخطبة يوم النحر، والطبراني في "الكبير" (58/ 18، 59)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (10/ 3710) رقم (1228)، والبيهقي (8/ 27) كلهم من طريق شبيب بن غرقدة، عن سليمان بن عمرو بن الأحوص، عن أبيه مطولًا ومختصرًا. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. أقول: لكن سليمان بن عمرو هذا لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال ابن القطان: مجهول. وهو اللائق بحاله فإنه لم يرو عنه إلا اثنان أحدهما ضعيف!. وله شاهد من حديث طارق المحاربي، رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (14/ 300)، و"المسند" (رقم 822)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (27)، النسائي (8/ 55) في (القسامة): باب هل يؤخذ أحد بجريرة أحد؟ وابن ماجه (2670) في (الديات): باب لا يجني أحد على أحد، وابن خزيمة في "الصحيح" (159)، والحاكم (2/ 611 - 612)، والدارقطني (3/ 44 - 45)، والطبراني في "الكبير" (8175)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1556 - 1557 رقم 3939)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (5/ 380 =

ولا يُعَاقَب بذنبه، ولا يُثاب بحسناته، ولا تجب عليه الزكاة ولا الحج بغنى الآخر، ثم [قد] (¬1) أجمع الناس على صحة بيعِه منه وإجَارتِه ومُضاربتِه ومُشاركتِه، فلو امتنعت (¬2) له لكونه جزءًا منه؛ فيكون شاهدًا لنفسه لامتنعت هذه العقود؛ إذ يكون عاقدًا لها مع نفسه. فإن قلتم: هو مُتَّهم بشهادته له، بخلاف هذه العقود؛ فإنه لا يتهم فيها معه. قيل: هذا عَوْد (¬3) منكم إلى المأخذ الثاني، وهو مأخذ التهمة، فيقال: التهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا، ولا ريب أن تهمة الإنسان في صَدِيقِهِ وعَشِيره ومن يعنيه (¬4) مودته ومحبته أعظم من تهمته في أبيه وابنه، والواقع شاهد بذلك، وكثير من الناس يُحابي صَديقَه وعَشيرَه وذا وُدِّه أعظم مما يحابي أباه وابنه. فإن قلتم: الاعتبار بالمظنة، وهي التي تنضبط، بخلاف الحكمة؛ [فإنها] (¬5) لانتشارها وعدم انضباطها لا يمكن (¬6) التعليل بها. قيل: هذا صحيح في الأوصاف التي شهد لها الشرع بالاعتبار، وعَلَّق بها الأحكام، دون مظانها، فأين علق الشارع عدم قبول الشهادة بوصف الأبوة أو البنوة أو الأخوة؟ والتابعون إنما نظروا إلى التهمة، فهي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب (¬7) تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا، ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها، بل قد توجد القرابة حيث لا تهمة، وتوجد التهمة حيث لا قرابة، والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة وكون الشاهد مرضيًا، وعلَّق عدم قبولها بالفسق، ولم يُعلِّق القبول والرد بأجنبية (¬8) ولا قرابة. قالوا: وأما قولكم: "إنه غير متهم معه في تلك العقود" فليس كذلك، بل هو متهم معه في المحاباة، ومع ذلك فلا يوجب ذلك إبطالها، ولهذا لو باعه في ¬

_ = - 381) وهو حديث صحيح، صححه الحاكم ووافقه الذهبي، والبوصيري في "مصباح الزجاجة"، وصححه ابن حبان حيث رواه في "صحيحه" (6562)، وله شواهد أخرى تجدها في "إرواء الغليل" (7/ 332). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق) بعدها: "شهادته". (¬3) في (ك): "هذه دعوى". (¬4) في (ق): "يصنعه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) في (ن) و (ك): "لم يمكن". (¬7) في (د): "فجيب" كذا بتقديم الجيم على الياء، والتصويب من باقي النسخ و (ن). (¬8) في (ق): "بأجنبي".

مرض موته ولم يُحَابِهِ لم يبطل البيع، ولو حاباه بَطَلَ في قدر المحاباة، فعلق البطلان بالتهمة لا بمظنتها. قالوا: وأما قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1): "أنْتَ ومَالُكَ لأبيكَ" (¬2) فلا يمنع شهادة الابن لأبيه، فإن الأبَ ليس هو وماله لابنه، ولا يدل الحديث على [عدم] (¬3) قبول شهادة أحدهما للآخر، والذي دل عليه الحديث أكثَرُ منازعينا لا يقولون به، بل عندهم أن مال الابن له حقيقة وحكمًا، وأن الأب لا يتملك عليه منه شيئًا، والذي لم يدل عليه الحديث حمَّلتموه إياه، والذي دل عليه لم تقولوا به، ونحن نتلقى أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[كلها] (¬4) بالقبول والتسليم، ونستعملها في وجوهها (¬5)، ولو دل قوله: "أنت ومالك لأبيك" (2) على أن لا تُقبل شهادةُ الولد لوالده ولا الوالد لولده لكُنَّا أول ذاهب إلى ذلك، ولما سبقتمونا إليه، فأين موضع الدلالة؟ واللام في الحديث ليست للملك قطعًا، وأكثركم يقول: ولا للإباحة إذ لا يُبَاح مال الابن لأبيه؛ ولهذا فرَّقَ بعضُ السلف فقال: تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا تقبل شهادة الأب لابنه، وهو إحدى الروايتين عن الحسن والشَّعْبيّ (¬6) ونَصَّ عليه أحمد في رواية عنه (¬7)، ومن يقول: هي للإباحة أسْعَدُ بالحديث، وإلَّا تعطلت فائدته ودلالته، ولا يلزم من إباحة أَخْذَهِ ما شاء من ماله [أن لا] (¬8) تُقبل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) سبق تخريجه مطولًا قريبًا. (¬3) ما بين المعقوفتين من (د) و (ق) و (ط) و (ك) وأشار إلى أنها في نسخة هكذا، وقال (ط): "في بعض الأصول التي في أيدينا بدون كلمة "عدم"، ولعل الصحيح: "ولا يدل الحديث على "عدم" قبول شهادة أحدهما للآخر" حتى يستقيم له الدليل" اهـ. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ك): "على وجهها". (¬6) الذي وجدته في مصنف ابن أبي شيبة (5/ 342 - دار الفكر) عن الشعبي: أنه كان لا يجيز شهادة الرجل لأبيه، ويجيز شهادة الرجل لابنه أي عكس ما هو هنا، رواه عن ابن أبي زائدة عن أشعث عنه وأشعث أظنه ابن سَوّار فهو الذي يروي عن الشعبي وهو مُتكلَّم فيه، والمصنف ينقل عن "المحلى" (9/ 415)، وانظر "موسوعة فقه الحسن" (2/ 565). (¬7) قال في "الكافي" (4/ 528): "وعنه [أي الإمام أحمد]: تقبل شهادة الولد لوالده؛ لدخوله في العموم، ولا تقبل شهادة الأب لابنه؛ لأن ماله كماله؛ لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت ومالك لأبيك" فكانت شهادته" اهـ. ونقل هذه الرواية عن الإمام أحمد: صاحب "المغني" (10/ 186)، و"الإنصاف" (12/ 66)، وعنه روايات أخرى انظرها في "مسائل عبد اللَّه" (436/ 1579)، وفي "مسائل صالح" (1/ 469/ 490)، وفي "مسائل ابن هانئ" (2/ 37/ 1337)، والمصادر السابقة -أيضًا-. (¬8) في (ق): "ألا".

شهادته له بحال، مع القطع أو ظهور انتفاء التهمة، كما لو شهد له بنكاح أو حَدٍّ أو ما لا تلحقه به تهمة. قالوا: وأما كونه لا يُعطى من زكاته، ولا يُقاد به، ولا يحدُّ به (¬1)، ولا يَثْبُت له في ذمته دَيْن، ولا يُحْبس به؛ فالاستدلال إنما يكون بما ثَبَتَ بنص أو إجماع، وليس معكم شيء من ذلك، فهذه مسائل نزاع لا مسائل إجماع، ولو سلم ثبوت (¬2) الحكم فيها أو في بعضها لم يلزم منه عدم قبول شهادة أحدهما للآخر حيث تنتفي التهمة؛ ولا تَلَازُم بين قبول الشهادة وجَرَيان القصاص وثبوت الدَّين له في ذمته لا عقلًا ولا شرعًا، فإن تلك الأحكام اقْتَضَتها الأبوة التي تمنع من مساواته للأجنبي في حَدِّه به، وإقادته منه، وحَبْسه بدَيْنه، فإن منصب الأبوة (¬3) يأبى ذلك، وقبحه مركوز في فِطَر الناس، وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رأوْهُ قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح، وأما الشهادة فهي خَبَر يعتمد الصدق والعَدَالة، فإذا كان المُخْبِرُ به صادقًا مبرِّزًا في العدالة غير متهم في الأخبار (¬4) فليس قَبُولُ قوله قبيحًا عند المسلمين، ولا تأتي الشريعة برد خبر المخبر به واتهامه. قالوا: والشريعة مَبْنَاها على تصديق الصادق وقبول خبره، وتكذيب الكاذب والتوقف في خبر الفاسق المتهم؛ فهي لا تَردُّ حقًا، ولا تَقْبل باطلًا. قالوا: وأما حديث عائشة (¬5) فلو ثبت لم يكن فيه دليل، فإنّه إنما يدل على عدم قبول شهادة المتهم في قرابته أو ذي ولاية، و [نحن] (¬6) لا نقبل شهادته إذا ظهرت تُهمَته، ثم منازعونا لا يقولون بالحديث، فإنهم لا يردُّون شهادة كل قرابة، والحديث ليس فيه تخصيص لقرابة الإيلاد بالمنع، وإنما فيه تعليق المنع بتهمة القرابة، فألغيتم (¬7) وَصْفَ التهمة، وخَصَّصتم وصف القرابة بفردٍ منها؛ فكنا نحن أسْعَدَ بالحديث منكم، وباللَّه التوفيق. وقد قال محمد بن الحكم: إن أصحاب مالك يُجيزون شهادة الأب والابن ¬

_ (¬1) في (ق): "ولا يحد بقذفه". (¬2) في (ق): "بثبوت". (¬3) في المطبوع: "أبوته". (¬4) زاد هنا في (ك) و (ق): "به". (¬5) المتقدم، وهو: "لا يجوز شهادة خائن. . .". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "فنفيتم".

[شهادة الأخ لأخيه]

[والأخ] (¬1) والزوج والزوجة على أنه وَكَّلَ فلانًا، ولا يجيزون شهادتَهم أن فلانًا وكَّلَه؛ لأن الذي يوكِّل لا يتهمان عليه في شيء (¬2). [شهادة الأخ لأخيه] وأما شهادة الأخ لأخيه فالجمهور يجيزونها، وهو الذي في "التهذيب" من رواية ابن القاسم (¬3) عن مالك، إلا أن يكون في عياله، وقال بعض المالكية: [لا تجوز إلا على شَرْط] (¬4)؛ ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: هو أن يكون مبرزًا في العدالة، وقال بعضهم: إذا لم تَنَلْه صِلتُه، وقال أشهب: تجوز (¬5) في اليسير دون الكثير، فإن كان مبرزًا جاز في الكثير وقال بعضهم: تقبل مطلقًا إلا فيما تتضح (¬6) فيه التهمة، مثل أن يشهد له بما يكسب (¬7) به الشاهد شرفًا وجاهًا (¬8). [الصحيح قبول شهادة الابن لأبيه، والأب لابنه] والصحيح أنه تقبل شهادة الابن لأبيه والأب لابنه فيما لا تهمة فيه، [ونص عليه أحمد (¬9)؛ فعنه في المسألة ثلاث روايات: المنع، والقبول فيما لا تهمة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) العبارة بحروفها في "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 142 - 143) وفيه: "يتّهمون" بدل "يتهمان". (¬3) انظر: "المدونة الكبرى" (4/ 21 دار الكتب العلمية) أو (4/ 80 - 81 و 5/ 154 - ط دار صادر). (¬4) في (ق): "يجوز على شرط". (¬5) في (ق): "يجوز". (¬6) في المطبوع: "تصح" والتصويب من (ق) و (ن) و"عقد الجواهر". (¬7) في "عقد الجواهر": "يكتسب". (¬8) النقل السابق من "عقد الجواهر الثمينة" لابن شاس (3/ 142) بتصرف يسير. وقال القاضي عبد الوهاب في "الإشراف" (5/ 74 - بتحقيقي): "تقبل شهادة الأخ لأخيه إلا فيما يتهم له فيه من دفع عار أو ما أشبه ذلك" وانظر: "المعونة" (3/ 1532)، "جامع الأمهات" (471)، "الذخيرة" (10/ 263، 282 - 283)، "تفسير القرطبي" (5/ 411)، "حاشية الدسوقي" (4/ 168 - 169). (¬9) نقلها عنه صاحب "المغني" (10/ 186/ 8382)، ومَثَّل له بالنكاح والطلاق والقصاص، والمال إذا كان مُسْتغنى عنه، وانظر: "الإنصاف" (12/ 66). أما صاحب "الكافي " فإنه أطلق رواية القبول، فقال فيه (4/ 528): "وعنه: تقبل شهادتهما؛ لأنهما عدلان من رجالنا، فيدخلان في عموم الآيات والأخبار" اهـ.

فيه] (¬1)، والتفريق بين شهادة الابن لأبيه فتقبل، وشهادة الأب لابنه فلا تقبل، واختار ابن المنذر (¬2) القبول كالأجنبي. وأما شهادة أحدهما على الآخر فنصَّ الإمام أحمد على قبولها (¬3)، وقد دل عليه القرآن في قوله [تعالى] (¬4): {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. وقد حكى بعض أصحاب أحمد عنه رواية ثانية أنها لا تقبل؛ قال صاحب "المغني": ولم أجد في "الجامع" -يعني "جامع الخلال"- خلافًا عن أحمد أنها تقبل (¬5)، وقال بعض الشافعية: لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حدِّ قَذْف، قال: لأنه لا يُقْتل بقَتْله، ولا يُحدُّ بقذفه، وهذا قياسٌ ضعيفٌ جدًّا؛ فإن [الحد والقتل] (¬6) في صورة المنع لكون المستحق هو الابن، وهنا المستحق أجنبي (¬7). ومما يدل على أن احتمال التهمة بين الولد ووالده لا يمنع (¬8) قبول الشهادة أن شهادة الوارث لمورِّثه جائزة بالمال وغيره، ومعلوم أن تَطَرُّقَ التهمة السببية مثلُ تطرقها إلى [الوالد والولد] (¬9)، وكذلك شهادة الابنين على أبيهما بطلاق ضَرَّةِ أُمِّهما جائزة، مع أنها شهادة للأم، ويتوفر حظها من الميراث، ويخلو لها وَجْه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) قال في "الإقناع" (2/ 527): "فكل مسلم قِبله شهادةً، فعليه القيام بها، وعلى الحاكم قبولها منه على ظاهر كتاب اللَّه، وسواء كان الشاهد والد المشهود له أو ولده،. . . ". (¬3) انظر: "المغني" (10/ 186 - 187/ 8383)، و"الكافي" (4/ 528 - 529). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) نصه في "المغني" (10/ 186 - 187/ 8383): "وهذا [أي: القول بقبولها] قول عامة أهل العلم، ولم أجد عن أحمد في "الجامع" فيه خلافًا، ثم استدل بالآية السابقة، ثم قال: "فأمر بالشهادة عليهم، ولو لم تقبل لما أمر بها، ولأنها إنما ردت للتهمة في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه. . . ". (¬6) في (ق): "القتل والحد". قلت: أما الرواية التي نقلها ابن القيم -رحمه اللَّه- عن الإمام أحمد أنّها لا تقبل؛ فقد نسبها صاحب "المغني" حكاية عن القاضي في "المجرد"، ثم ردها ابن قدامة -رحمه اللَّه- فانظرها -إن شئت- في الموضع السابق. (¬7) وقول بعض الشافعية هذا رده ابن قدامة -أيضًا- في "المغني" فراجعه -إن شئت-. وانظر ما مضى (ص 222). (¬8) في (ق): "تمنع". (¬9) في (ق): "الولد والوالد".

فصل [شاهد الزور]

الزوج، ولم تُرَدَّ هذه الشهادة باحتمال التهمة؛ فشهادة الولد لوالده (¬1) وعكسه بحيث (¬2) لا تُهمَة هناك أولى بالقبول، وهذا هو القول الذي نَدِينُ اللَّه به، وباللَّه التوفيق. فصل [شاهد الزور] وقوله (¬3): "إلا مُجربًّا عليه شهادة زور" يدل على أن المرة الواحدة من شهادة الزور تستقل برد الشهادة، وقد قَرَن اللَّه -سبحانه- في كتابه بين الإشراك وقول الزور، وقال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ (¬4)} [الحج: 31]، وفي "الصحيحين" [-أيضًا-] عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول اللَّه، قال: الشرك باللَّه، ثم عقوق الوالدين (¬5)، وكان متكئًا فجلس، ثم قال: ألا وقَوْل الزور، ألا وقول الزور (¬6)، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" (¬7)، وفي "الصحيحين"، [عن أنس] عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أكبر الكبائر: الإشراك باللَّه، وقَتْلُ النفس، وعُقُوق الوالدين، وقول الزور أو قال: وشهادة الزور" (¬8). [الكذب في غير الشهادة من الكبائر] ولا خلاف بين المسلمين أن شهادة الزور من الكبائر، واختلف الفقهاء في ¬

_ (¬1) العبارة في (ق): "ولم يرد هذه الشهادة احتمال التهمة بشهادة الولد لوالده". (¬2) في (ق): "فحيث". (¬3) أي "قول عمر في كتاب القضاء الذي أرسله إلى أبي موسى" (و). (¬4) الآية في (ق): " {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا. . .} ". (¬5) في (ق): "وعقوق الوالدين" وما بين المعقوفتين قبلها سقط من (ق). (¬6) في (ق): "ألا وشهادة الزور" وسقطت: "لا وقول الزور" الثانية من (ك). (¬7) رواه البخاري (2654) في (الشهادات): باب ما قيل في شهادة الزور، ومسلم (87) في (الأيمان): باب بيان الكبائر وأكبرها، من حديث أبي بكرة. (¬8) رواه البخاري (2653) في (الشهادات): باب ما قيل في شهادة الزور، و (5977) في (الأدب): باب عقوق الوالدين، و (6871) في (الديات): باب قول اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}. . .، ومسلم (88) في (الإيمان): باب بيان الكبائر وأكبرها، وما بين المعقوفتين من (ق) وفي (ك) و (ق): "وفي الصحيحين أيضًا".

الكذب في غير الشهادة: هل هو من الصغائر أو من الكبائر؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد، حكاهما أبو الحسين في "تمامه" (¬1)، واحتج مَنْ جعله من الكبائر بأن اللَّه [-سبحانه-] (¬2) جعله في كتابه من صفات شَرِّ البريّة، وهم الكفار والمنافقون، فلم يصف به إلا كافرًا أو منافقًا، وجعله عَلَمَ أهلِ النار وشِعارَهم، وجعل الصدق عَلَم أهل الجنة وشعارهم. وفي "الصحيح" من حديث ابن مسعود [قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): "عليكم بالصدق؛ فإنه يهدي إلى البِرّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصْدُق حتى يكتب عند اللْه صدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كَذَّابًا" (¬4). وفي "الصحيحين" مرفوعًا: "آيَةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان" (¬5)، وقال معمر، عن أيوب، عن [ابن] (¬6) أبي مُليكة عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: "ما كان خُلُقٌ أبغض إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة، فما تزال (¬7) في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة" (¬8)، ¬

_ (¬1) هو "كتاب التمام" لأبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى، وقد نقل الروايتين عن الإمام أحمد؛ فالأولى: أنه كبيرة، والثانية: أنه صغيرة، انظر: كتابه هذا (2/ 258 - 425). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال". (¬4) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الأدب): باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}، (6094)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب البر والصلة): باب قبح الكذب (2607). (¬5) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الإيمان): باب علامة المنافق، (1/ 89/ رقم 23)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الإيمان): باب بيان خصال المنافق، (1/ 78 رقم 59)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الإيمان): باب ما جاء في علامة المنافق (رقم 2631)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الإيمان): باب علامة المنافق، (8/ 117). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ق): "يزال". (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (20195)، ومن طريقه أحمد (6/ 152)، والترمذي في (كتاب البر والصلة): باب ما جاء في الصدق والكذب (1973)، وابن حبان (5736)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 196)، والبغوي (3576) عن معمر به؛ لكن عند عبد الرزاق وأحمد: "عن ابن أبي مليكة أو غيره" على الشك. ورواه ابن عدي (6/ 2292) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن غزوان، عن حماد عن أيوب عن ابن أبي مليكة به. ومحمد هذا متهم بوضع الحديث.

وقال مروان الطَّاطَري (¬1): ثنا محمد بن مسلم: ثنا أيوب، عن [ابن] (¬2) أبي مليكة، عن عائشة قالت: "ما كان شيء أبْغَضَ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكذب، وما جَرَّب على أحد كذبًا فرجع إليه ما كان حتى يعرف منه توبة" (¬3). حديث حسن، رواه الحاكم في "المستدرك" من طريق ابن وهب، عن محمد بن مسلم، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عائشة [-رضي اللَّه عنها -] (¬4) وروى [عبد الرزاق] (¬5)، عن مَعْمَر، عن موسى بن أبي شَيْبة (¬6) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبطَلَ شهادة رجل في كذبة كذبها" (¬7)، وهو مرسل، وقد احتج به أحمد (في إحدى الروايتين عنه)، وقال قَيْس بن أبي حَازم: سمعت أبا بكر الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (4) يقول: "إياكم والكذب، فإن الكذب مُجَانب الإيمان" يُروى موقوفًا ومرفوعًا (¬8)؛ ¬

_ (¬1) "مروان بن محمد بن حسان الأسدي الدمشقي، الطاطري -بفتح الطاءين- وثقه أبو حاتم، وقال البخاري: مات سنة عشر ومائتين" (د). ووقع في (ق) و (ك): "مروان الطاهري". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه البيهقي (10/ 196) من طريق مروان به ثم قال: وأخرجه شيخنا (أي الحاكم) فيما لم يُمل من كتاب "المستدرك" عن الأصم عن ابن عبد الحكم، عن ابن وهب، عن محمد بن مسلم، عن أيوب عن محمد بن سيرين عن عائشة. قلت: هو في "المستدرك" (4/ 98)، وصححه ووافقه الذهبي. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (و): "عبد الرازق". (¬6) قال في هامش (ق): "لعله: عائشة". (¬7) رواه عبد الرزاق (برقم 20197)، ومن طريقه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 163)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 196)، وموسى هذا هو ابن أبي شيبة، ويقال: ابن شيبة، قال فيه أحمد: "روى عنه معمر أحاديث مناكير، وقال العقيلي: لا يعرف إلا به". هذه هي عبارته في "الضعفاء"، وفي "تهذيب ابن حجر" قال العقيلي: "لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به". وموسى هذا له مرسل آخر في "المراسيل" لأبي داود (307)، والعجيب أن الشيخ شعيب -حفظه اللَّه- قال عن موسى هذا: مجهول؛ مع أن ترجمته في "التهذيب" واضحة وكذلك في "الميزان"، وفي "التهذيب" ترجمة لآخر قبله بنفس الاسم، وهو مجهول؛ فلعله حَصَل معه سبق نظر. وقوله في آخر الحديث: "كذبها" لا توجد لا في "المصنف" ولا في "الضعفاء"، وقد وضع المحقق في "المصنف" فراغًا، وقال: في (ص) كلمة ممحوة. (¬8) أما الموقوف؛ فرواه وكيع في الزهد (399)، ومن طريقه هناد في "الزهد" (1368)، وابن المبارك في "الزهد" (255)، وأحمد في "مسنده" (1/ 5)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (477)، والدارقطني في "علله" (1/ 258 - 259)، والخرائطي في "مساويء الأخلاق" (رقم 133)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 592)، والبيهقي في "سننه =

وروى شعبة، عن سَلَمة بن كُهيل، عن مُصْعب بن سعد، عن أبيه قال: "المسلم يُطْبَعُ على كل طبيعة غير الخيانة والكذب" (¬1)، ويُروى مرفوعًا [أيضًا] (¬2). ¬

_ = الكبرى" (10/ 196 - 197) و"الشعب" (رقم 4806، 4807) من طرق عن قيس بن أبي حازم به موقوفًا، وقد صحح الوقف الدارقطني، والبيهقي. وانظر عن وهم من رفعه: "علل الدارقطني" (1/ 258 - 259). وهو -مرفوع- عند ابن عدي في "الكامل" (1/ 43) والبيهقي في "الشعب" (4804، 4805). وأفاد أن الموقوف رواه جماعة، وانظر "مسند أبي بكر الصديق" للمروزي (رقم 92، 95). (¬1) رواه من طريق شعبة هكذا موقوفًا: ابن المبارك في "الزهد" (ص 285 رقم 828)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (492)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 197). ورواه -أيضًا- عن سلمة موقوفًا، سفيان الثوري، أخرجه ابن أبي شيبة (8/ 592 و 11/ 18)، وفي (الإيمان) (81)، والدارقطني في "العلل" (4/ 331). قال الدارقطني في "العلل": وقيل عن الثوري عن سلمة مرفوعًا ولا يثبت. أقول: وقد روي مرفوعًا من حديث سعد؛ كما قال ابن القيم، وهذا المرفوع رواه ابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (رقم 144)، وفي "الصمت" (474)، وأبو يعلى في "مسنده" (رقم 771)، والبزار في "مسنده" (1139)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (589 و 591)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 44)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 197) و"الشعب" (رقم 4809، 4810)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1175) من طريق داود بن رشيد عن علي بن هاشم بن البريد عن الأعمش عن أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن أبيه، ورواه الدورقي في "مسند سعد" (65)؛ دون ذكر أبي إسحاق؛ وقد أعله بالوقف البزار، وأبو زرعة (2/ 328 - 329) والدارقطني في "علله" (4/ 329 - 330)، والبيهقي، وابن الجوزي؛ حيث رواه كما قلنا من قبل سفيان وشعبة؛ فأوقفاه على سعد. قال الحافظ في "الفتح" (10/ 508): "وسنده قوي وذكر الدارقطني في "العلل" أن الأشبه أنه موقوف". وجعل ابن الجوزي الوهم من علي بن هاشم وشَنَّع عليه، مع أنه لم يُؤخذ عليه إلا تشيعه فقط. وله شاهد من حديث ابن عمر، رواه ابن عدي (4/ 1630)، وابن أبي عاصم في "السنة" (115)، والقضاعي (590) والبيهقي في "الشعب" (رقم 4811)، وفيه عبيد اللَّه بن الوليد الوصافي، وهو ضعيف جدًّا. ومن حديث أبي أمامة، رواه ابن أبي شيبة في "الإيمان" (82)، وابن أبي عاصم في "السنة" (114)، وأحمد في "مسنده" (5/ 252)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 44) وهو منقطع. قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في تعليقه على "السنة": "وللحديث شواهد كلها واهية وبعضها أشد ضعفًا من بعض". وقال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 315): وهو مما يُحكم له بالرفع على الصحيح؛ لكونه مما لا مجال للرأي فيه. (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (و): "إليه".

[أحاديث عن كبيرة شهادة الزور]

[أحاديث عن كبيرة شهادة الزور] وفي "المُسْنَد" والتِّرمذيِّ من حديث خُرَيْم بن فاتِك الأَسديّ، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "صَلّى صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائمًا فقال: عَدَلَتْ شهادة الزور الشرك باللَّه" ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآية: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ]} (¬1) [الحج: 31]. وفي "المسند" من حديث عبد اللَّه بن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بين يَديّ الساعة تسليمُ الخَاصَّة وفَشْو التِّجارة حتى تُعين المرأة زوجها (¬2) على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق" (¬3)، وقال الحسن بن زياد ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 321 و 322)، وأبو داود (3599) في (الأقضية): باب في شهادة الزور، والترمذي (2300) في (الشهادات): باب ما جاء في شهادة الزور، وابن ماجه (2372) في (الأحكام): باب شهادة الزور، والطبراني في "الكبير" (4162)، والبيهقي (10/ 121)، والطبري (9/ 144 - دار الكتب العلمية)، والمزي في "تهذيب الكمال" (3/ 447)، من طريق سفيان بن زياد العُصْفُري، عن أبيه عن حبيب بت النعمان الأسدي، عن خريم بن فاتك به، قال الحافظ في "التلخيص" (4/ 190): إسناده مجهول. أقول: زياد العصفري، وحبيب بن النعمان كلاهما مجهول. ورواه العقيلي (3/ 434) من طريق غالب بن غالب عن أبيه عن جده عن جندب عن خريم، وقال: إسناده مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث. ورواه أحمد (4/ 178 و 233)، والترمذي (2299)، والطبري (9/ 144 - 145)، من طريق سفيان بن زياد عن فاتك بن فضالة، عن أيمن بن خريم، وقال الترمذي: هذا الحديث غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان بن زياد، وقد اختلفوا في رواية هذا الحديث عن سفيان بن زياد، ولا نعرف لأيمن بن خريم سماعًا من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكأنّ الذهبي يميل إلى تضعيف هذا الحديث فقال: وفي الآثار. . . وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "سلم الخاصة سوء التجارة حتى تفيء المرأة زوجها" وفي (ك): "بنو التجارة حتى تفتن المرأة". (¬3) رواه أحمد (1/ 407 - 408، 419)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1049) (باب من كره تسليم الخاصة)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 98، 445 - 446) والطحاوي في "المشكل" (4/ 385)، والبزار -كما في "مجمع الزوائد" (7/ 329) - من طريق بشير بن سليمان (أبو إسماعيل)، عن سَيَّار أبي الحكم عن طارق عن ابن مسعود به مرفوعًا. ووقع في "المسند": أبو بشير أبو إسماعيل وهو خطأ. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وطارق هو ابن شهاب الأحمسي رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يسمع منه، وانظر شاهدًا آخر له في "السلسلة الصحيحة" (رقم 2767)، وهو في "صحيح الأدب المفرد" (ص 401 رقم 801)، وانظر: "إتحاف المهرة" (10/ 267) وفاته العزو لـ "الأدب المفرد"!

اللؤلؤي: ثنا أبو حنيفة قال: كُنّا عند محارب بن دِثار، فتقدم إليه رجلان، فادَّعى أحدهما على الآخر مالًا، فجحده المُدَّعَى عليه، فسأله البينة، فجاء رجل فشهد عليه، فقال المشهود عليه: لا واللَّه الذي لا إله إلا هو ما شهد عليّ بحق، وما علمته إلا رجلًا صالحًا، غير هذه الزلة؛ فإنه فَعَلَ هذا لحقدٍ كان في قلبه عليّ، وكان محارب متكئًا فاستوى جالسًا ثم قال: يا ذا الرجُلُ سمعتُ ابنَ عمر يقول: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليأتينّ على الناس يومٌ تشيب فيه الوِلْدان، وتَضَع الحوامل ما في بطونها، وتضرب الطير بأذنابها، وتضع ما في بطونها من شدة ذلك اليوم، ولا ذنب عليها وإن شاهد الزور [لا تقار] (¬1) قدماه على الأرض حتى يُقْذَفَ به في النار" (¬2)؛ فإنْ كنْتَ شهدتَ بحقِّ فاتَّقِ اللَّه وأقم على شهادتك، وإنْ كنتَ شهدتَ بباطلٍ فاتَقِ اللَّه وغطِّ رأسك، وأخرُج من ذلك الباب (¬3) [فغطى الرجل رأسه وخرج من ذلك الباب] (¬4). وقال عبد الملك بن عُمير: كنت في مجلس محارب بن دثار، وهو في قضائه، حتى تقدم إليه رجلان، فادعى أحدهما على الآخر حقًا، فأنكره، فقال: ألك بينة؟ فقال: نعم، ادْعُ فلانًا، فقال المُدَّعى عليه: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، واللَّه إن شَهِدَ عليّ ليشهدن بزور، ولئن سألتَنِي (¬5) عنه لأزكِّينَّه؛ فلما جاء الشاهد قال محارب بن دثار: حدثني عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الطير لتَضْرِبُ بمناقيرها، وتقذف ما في حَوَاصلها، وتُحرِّك أَذْنابَها من هَوْل يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تقار [قدماه]، (¬6) على الأرض حتى يُقْذَفَ به في النار"، ثم قال للرجل: بم تشهد؟ قال: كنت "أُشْهِدْتُ" (¬7) على شهادة وقد أُنسيتها، أرجع فأتذكَّرها (¬8)، فانصرف ولم يشهد عليه بشيء (¬9)، ورواه أبو يعلى المَوْصلي في "مسنده" فقال: ثنا محمد بن بَكَّار، ثنا زَافِر، عن أبي علي قال: كنت عند محارب بن دثار، فاختصم إليه رجلان، فشهد على أحدهما شاهد، فقال الرجل: لقد شهد عليّ بزور، ولئن سُئلت عنه لأُزِّكينه (¬10)، وكان محارب متكئًا فجلس ثم ¬

_ (¬1) في (د): "لا يقار"، وكلاهما جائز لغةً وفي (ك): "تقام". (¬2) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬3) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬4) ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق). (¬5) في (ق): "ولئن سألني". (¬6) في (و): "قدماء". . .!! (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ق): "قال: ارجع فتذكرها". (¬9) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬10) في المطبوع و (ق): "ليزكيني".

قال: سمعت عبد اللَّه بن عُمر يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزولُ (¬1) قدما شاهِدِ الزور من مكانهما حتى يوجب اللَّه له النار"، وللحديث طرقٌ إلى محارب (¬2). ¬

_ (¬1) في (ق): "نزال". (¬2) رواه الطبراني في "الأوسط" (رقم 7766)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (4/ 363)، والشجري في "أماليه" (2/ 238)، والمعافى في "الجليس الصالح" (3/ 163)، ووكيع في "أخبار القضاة" (3/ 34) من طريق هارون بن الجهم أبو الجهم، قال: حدثنا عبد الملك بن عُمير، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر مرفوعًا به. وقال العقيلي: "ليس له في حديث عبد الملك بن عمير أصل، وإنما هذا حديث محمد بن الفرات الكوفي، عن محارب بن دثار عن ابن عمر حدثناه الصائغ عن شبابة عن محمد بن الفرات". وقال عنه الذهبي: منكر؛ انظر "السير" (5/ 218)، و"الميزان" (4/ 282). وحديث محمد بن الفرات هذا، رواه البخاري في "التاريخ الصغير" (2/ 139)، وفي "الكبير" (1/ 208)، وابن ماجه في "الأحكام" (2373) باب شهادة الزور، وأبو يعلى (5672)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 281)، والعقيلي (4/ 123)، وابن عدي (6/ 2149) وابن أبي الدنيا في "الأهوال" (رقم 39)، والحاكم (4/ 98)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 403)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 122)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (3/ 249)، وفي "العلل المتناهية" (2/ 761)، و"المقلق" (رقم 36)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي!! وقال البيهقي: "محمد بن الفرات كوفي ضعيف". أقول: بل محمد بن الفرات أشد من هذا؛ فقد قال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أبو بكر بن أبي شيبة: شيخ كَذَّاب، وذكره الذهبي في "الميزان"، ونقل أقوال العلماء فيه!. وقال ابن عدي: وهذان الحديثان لا أعلم يرويهما عن محارب غير محمد بن الفرات. قلت: بل رواهما غيره؛ فرواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 63)، ووكيع في "أخبار القضاة" (3/ 34)، والمعافى النهرواني في "الجليس الصالح" (3/ 164) من طريق الحسن بن زياد اللؤلؤي، حدثنا أبو حنيفة عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعًا، والحسن بن زياد اللؤلؤي ضعيف جدًّا بل كذبوه، وهو من هذا الطريق في "مسند أبي حنيفة" (2/ 288 - 279/ جامع المسانيد). ورواه أبو نعيم في "الحلية" (7/ 264)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 761) من طريق محمد بن خليد، قال: حدثنا خلف بن خليفة قال: حدثنا مِسْعر، عن محارب عن ابن عمر به مرفوعًا. قال ابن الجوزي: محمد بن خليد، قال ابن حبان: يقلب الأخبار ويسند الموقوف لا يحل الاحتجاج به إذا انفرد، أقول: وخلف بن خليفة اختلط. وانظر "مجمع الزوائد" (4/ 200)، و"اللآلئ المصنوعة" (2/ 450)، و"نهاية البداية"، و"النهاية" لابن كثير (ص 181)، و"السلسلة الضعيفة" (رقم 1259، 1260).

فصل [الحكمة في رد شهادة الكذاب]

فصل [الحكمة في رد شهادة الكذاب] وأقوى الأسباب في رد الشهادة والفُتيا والرواية الكذبُ؛ لأنه فسادٌ في نفس آلة الشَّهادة والفتيا والرواية، فهو بمثابة شهادة الأعمى على رؤية الهلال، وشهادة الأصم الذي لا يسمع على إقرار المقر؛ فإن اللسان الكذوب بمنزلة العُضو الذي [قد] (¬1) تعطل نَفْعُه، بل هو شر منه، فشرُّ ما في المَرْء لِسانٌ كَذوبٌ؛ ولهذا يجعل اللَّه [-سبحانه-] (1) شعارَ الكاذب عليه يوم القيامة، وشعارَ الكاذب على رسوله (¬2) سَوَاد وجوههم، [والكذبُ له تأثير عظيم في سواد الوجه، ويكسوه بُرْقُعًا من المقْت يراه كلُّ صادق؛ فسيما الكاذب في وجهه] (¬3) يُنادي عليه (¬4) لمن له عينان، والصادق يرزقه اللَّه مَهَابة وجَلالة (¬5)، فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه إهانة (¬6) ومَقْتًا، فمن رآه مَقَته واحتقره، وباللَّه التوفيق، [وإليه ننيب] (¬7). فصل [رد شهادة المجلود في حد القذف] وقول أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه- في كتابه: "أو مجلودًا في حد" المراد به القاذفُ إذا حُدَّ للقذف لم تقبل شهادته بعد ذلك، وهذا متفقٌ عليه بين الأمة قبل التوبة (¬8)، والقرآن نص فيه (¬9). [حكم شهادة القاذف بعد التوبة] وأما إذا تاب، ففي قبول شهادته، قولان مشهوران للعلماء: أحدهما لا تقبل، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "ينادي عليهم". (¬5) في (ق): "حلاوة ومهابة". (¬6) في (ق): "يرزقه مهانة" وفي (ك): "يرزقه اللَّه مهانة". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬8) في (ك): "بين الأئمة قبل التوبة" وانظر عقوبات القاذف في "زاد المعاد" (2/ 113 - 115)، (3/ 210)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 224 - 244). (¬9) فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4)} [النور: 4].

وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأهل العراق (¬1)، والثاني تقبل، وهو قول مالك (¬2) والشافعي (¬3) وأحمد (¬4)؛ وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عَبَّاس: شهادةُ الفاسق (¬5) لا تجوز وإن تاب (¬6). وقال القاضي إسماعيل: ثنا أبو الوليد: ثنا قيس، عن سالم، عن قيس بن عاصم قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يُشهده قال: أشْهِدْ غيري، فإن المسلمين قد فَسَّقُوني. وهذا ثابت عن مجاهد وعكرمة والحسن ومسروق والشعبي، في إحدى الروايتين عنهم، وهو قول شُريح (¬7). ¬

_ (¬1) انظر "مختصر الطحاوي" (332)، "اللباب" (4/ 60) "المبسوط" (16/ 125)، "مختصر القدوري" (107)، "روضة القضاة" (1/ 258)، "شرح أدب القاضي" (4/ 443)، "أدب القضاة" (329) للسروجي، "البناية" (7/ 164)، "أحكام القرآن" (3/ 273) للجصاص، "الكشاف" (3/ 62)، "رؤوس المسائل" (536) كلاهما للزمخشري، "جامع الأسرار" (2/ 327 - 328) للكاكي، "البحر الرائق" (7/ 86)، "تبين الحقائق" (4/ 219)، "درر الحكام" (2/ 378). (¬2) "الإشراف" (5/ 58 - بتحقيقي)، "المعونة" (3/ 1537) كلاهما للقاضي عبد الوهاب، "تفسير القرطبي" (12/ 180، 181) "المنتقى" (5/ 207)، "شرح الزرقاني على الموطأ" (3/ 390)، "تبصرة الحكام" (1/ 223)، "تفسير القرطبي" (12/ 180 - 182)، "شرح الزرقاني على مختصر خليل" (8/ 112)، "حاشية الدسوقي" (4/ 73). (¬3) "الأم" (7/ 89)، "المهذب" (2/ 331)، "المنهاج" (ص 153)، "مختصر الخلافيات" (5/ 148 رقم 357)، "معرفة السنن والآثار" (14/ 264)، "السنن الكبرى" (10/ 152 - 154)، "أدب القاضي" (1/ 303) لابن القاص، "مغني المحتاج" (4/ 439)، "نهاية المحتاج" (8/ 138)، "فتح الوهاب" (2/ 121) "حاشية البجيرمي على الخطيب" (4/ 385). (¬4) "التمهيد" للكلوذاني (2/ 91)، "العدة" (2/ 678) لأبي يعلى، "روضة الناظر" (2/ 185)، "الوصول" (1/ 251) لابن برهان، "المسودة" (156)، "شرح الكوكب المنير" (3/ 312)، "مختصر الطوفي" (112)، "مختصر البعلي" (120)، "قواعد ابن اللحام" (257). (¬5) في (ق): "شهادة القاذف". (¬6) روى أبو داود في "الناسخ والمنسوخ"، وابن المنذر وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 269) عن ابن عباس {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} ثم استثنى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا}، فتاب اللَّه عليهم من الفسوق، وأما الشهادة فلا تجوز، وذكر نحوه من رواية ابن مردويه، أفاده السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 130) وقال ابن حزم في "المحلى" (9/ 431): "روينا من طريق ابن جريج. . . " به. (¬7) رواه البيهقي في "سننه" (10/ 152) من طريق قيس عن سالم بهذا الإسناد، لكن وقع عند البيهقي سعيد بن عاصم بدل قيس بن عاصم ولعل الصواب قيس حيث إني لم أجد راويًا اسمه سعيد بن عاصم. =

واحتج أرباب هذا القول بأن اللَّه سبحانه أبَّدَ المنع من قبول شهادتهم (¬1) بقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المَنْعُ من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده. قالوا: وقد روى أبو جعفر الرَّازي، عن آدم بن فَائِد، عن عَمرو بنَ شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام ولا محدودة، ولا ذي غَمْرٍ (¬2) على أخيه" وله طرق إلى عمرو، ورواه ابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو، ورواه البيهقي من طريق المثنى بن الصَّبَّاح عن عمرو (¬3)، قالوا: وروى يزيد بن أبي زياد الدِّمشقي، عن الزُّهريّ، عن عُروة، عن عائشة ترفعه: "لا تجوز شهادة خَائنٍ ولا خَائنةٍ، ولا مجلود في حَدٍّ، ولا ذي غَمْر لأخيه، ولا مُجَرَّب عليه [شهادة] (¬4) زور، ولا ظَنين في ولاء أو ¬

_ = وسالم المذكور في الإسناد هو ابن عجلان الأفطس من الثقات مات سنة 132، ولم أجد في الرواة من اسمه قيس بن عاصم إلا صحابيًا وسالم لم يدركه قطعًا وقيس المذكور هو قيس بن الربيع فيه كلام -وكأن البيهقي يميل إلى تضعيف الأثر فقد قال بعده: "وهذا إن صح" ثم وجدت المصنف ينقل هذا الأثر عن ابن حزم في "المحلى" (9/ 431) قال: "روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق به" وصرح بأن أبا داود هو الطيالسي. وسالم هو الأفطس. وقول الحسن في عدم قبول شهادة القاذف: رواه عبد الرزاق (15554 و 13572)، عن معمر عن قتادة، أو غيره عن الحسن، وله طريق آخر، أخرجه عبد الرزاق (15555)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 273)، وابن جرير (18/ 62)، ورواه أبو عبيد (رقم 272) والبيهقي (10/ 156) من طريق يونس عن الحسن. وقول شريح: رواه عبد الرزاق (13574، 15553)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 270، 271)، ووكيع في "أخبار القضاة" (2/ 284)، وابن جرير في "التفسير" (18/ 62 - ط المعرفة)، والبيهقي (10/ 156). وقول الشعبي: رواه عبد الرزاق (برقم 15552 و 13576)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 153). وحكاه ابن حزم في "المحلى" (9/ 431) عن المذكورين جميعًا. (¬1) في (ن): "شهادة". (¬2) "حقد وضغن" (و). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 181 و 204 و 208 و 225)، وأبو داود (3600 و 3601)، وعبد الرزاق (رقم 15364)، وابن ماجه (2366)، وابن جميع في "معجم الشيوخ" (ص 108)، وابن مردويه في "ثلاثة مجالس من أماليه" (رقم 28)، وابن عدي (6/ 2209)، والدارقطني (4/ 244)، والبيهقي (10/ 155 و 200 و 201)، من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وطرقه كلها ضعيفة ولكن يُقوِّي بعضها بعضًا، وانظر تعليقي على "الموافقات" للشاطبي (4/ 65 - 66). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

قرابة" (¬1)، وروى عن سعيد بن المسيب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. قالوا: ولأن (¬2) المنع من قبول شهادته جُعِلَ من تمام عقوبته، ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد، فلو قَذفَ ولم يُحَد لم ترد شهادته، ومعلوم أن الحد إنما زاده طُهْرة وخَفَّف عنه إثم القَذْف أو رَفَعه، فهو [بعد الحد خيرٌ منه قبله، ومع هذا فإنما تُرد شهادته بعد الحد] (¬3)، فردُّها من تَمامِ عقوبته وحَدِّه، وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة، ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع [توبتُه] (¬4) إقامةَ الحد عليه فكذلك شهادته، وقال سعيد بن جبير: تُقبل توبته فيما بينه وبين اللَّه من العذاب العظيم، ولا تقبل شهادته. وقال شريح: لا تجوز شهادته أبدًا، وتوبته فيما بينه وبين ربه (¬5). وسرُّ المسألة أن ردَّ شهادته جُعل عقوبة لهذا الذنب؛ فلا يسقط (¬6) بالتوبة كالحد. قال الآخرون، واللفظ للشافعي: والثُّنْيَا (¬7) في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهلُ الفقه إلا إن يَفْرِق بين [ذلك] (¬8) خبر، وأنبأنا ابن عيينة قال: سمعت الزهري يقول: زعم أهلُ العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، وأَشْهَد لأَخْبَرني (¬9) فلانٌ أن عمر قال لأبي بكرة: تُبْ أَقْبَلْ شهادتك، قال سفيان: نسيتُ اسمَ الذي حدث الزهري، فلما قمنا سألت مَنْ حضر، فقال لي ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (2298)، والدارقطني (4/ 244)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 2714) وابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 476)، وأبو عبيد في "الغريب" (2/ 153) -ومن طريقه البغوي في "التفسير" (1/ 410 - ط دار الفكر)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 416)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (18/ ق 282 - 283)، والبيهقي (10/ 155)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد الدمشقي، ويزيد يضعف في الحديث، ولا يُعرف هذا الحديث من حديث الزهري إلا من حديثه". وقال أبو زرعة: "هذا حديث منكر". وضَعَّفه الدارقطني والبيهقي؛ ولكن بعض طرقه حسنة، وقواه الحافظ في "التلخيص الحبير" (4/ 198)، وانظره في "الغيلانيات" (599). (¬2) في (ق): "وكأن". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "يعد بعض الحد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) انظر "المحلى" (9/ 431، 432) وفي (ك): "وبني اللَّه". (¬6) في (ق): "تسقط". (¬7) "الثنيا": اسم من الاستثناء (ط). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬9) في (ك): "لأن خبرني".

عَمرو بن قيس: هو سعيد بن المسيب، فقلت لسفيان: فهل (¬1) شَككَتَ فيما قال لك؟ قال: لا هو سعيد غير شك (¬2). قال الشافعي: وكثيرًا ما سمعته يحدث فيُسَمِّي سعيدًا، وكثيرًا ما سمعته يقول: عن سعيد إن شاء اللَّه، وأخبرني [به] (¬3) من أثق به من أهل المدينة عن ابن شهاب، عن ابن (¬4) المسيب أن عمر لما جَلَد الثلاثة استتابهم، فرجع اثنان فقبل شهادتهما (¬5)، وأبى أبو بكرة أن يرجع فرد شهادته (¬6)، ورواه سُليمان بن كَثير، عن الزُّهريِّ، عن ابنِ المسيب أن عمر قال لأبي بكرة وشِبْل ونافع: مَنْ تاب منكم قُبِلَت شَهادته (¬7)، وقال عبد الرزاق: ثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسَرة، عن ابن المسيب أن عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: توبوا تُقبل شهادتكم، فتاب منهم اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب، فكان عمر لا يقبل شهادته (¬8). قالوا: والاستثناء عائد على جميع [ما تقدمه سوى الحد] (¬9)، فإن المسلمين مجمعون على أنه لا يَسْقُط عن القاذف بالتوبة، وقد قال أئمة اللغة: إن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله (¬10). قال أبو عُبيد في "كتاب القضاء": وجماعة أهل ¬

_ (¬1) في (ق): "هل". (¬2) أخرجه الشافعي في "المسند" (2/ 393 رقم 644، 645 - مع "شفاء العي")، والبيهقي في "السنن" (1/ 152)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 153)، وإسناده صحيح. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "عن سعيد بن المسيب". (¬5) في (ق): "شهادتهم". (¬6) أخرجه الشافعي في "المسند" (2/ 393 - 394 رقم 646)، وفي سنده مبهم، والقصة لها طرق عديدة، انظر: "الإرواء" (8/ 28 - 30 رقم 2361). (¬7) علقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 431) من طريق إسماعيل بن إسحاق القاضي نا محمد بن كثير نا سليمان بن كثير به، وانظر الهامش الآتي. (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (برقم: 15550 و 13565) ثنا محمد بن مسلم به. وأخرجه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 276) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 431) - ثنا ابن أبي مريم عن محمد بن مسلم به. وإسناده صحيح وانظر "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 152). (¬9) في (ن): "ما تقدم إلا الحد"، وفي (ق) و (ك): "ما تقدم سوى الحد". (¬10) الجمل المتعاقبة بالواو إذا تعقبها استثناء، هل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، أم إلى كل الجمل؟ ذهب إلى الأول: أبو حنيفة، وجمهور أصحابه بشرط أن لا يقوم دليل يفيد التعميم، وذهب إلى الثاني: أصحاب الشافعي، قالوا: "ما لم يخصه دليل" عكس الأحناف، وذهب جماعة إلى الوقف، وجماعة أخرى إلى التفصيل فيها. =

الحجاز ومكة على قبول شهادته؛ وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول (¬1) لا تقبل أبدًا، وكلا الفريقين إنما تأولوا القرآن فيما نرى، والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى انقطع [من] (¬2) عند قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ثم استأنف فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4] فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة؛ وأما الآخرون فتأولوا أن الكلام تَبعَ بعضُه بعضًا على نَسَق واحد فقالوا (¬3): {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فانتظم الاستثناء كلَّ ما كان قبله. قال أبو عُبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به؛ لأن من قال به أكثر وهو أصح في النَّظَر، ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب (¬4). قالوا: وأما ما ذكرتم عن ابن عباس فقد قال الشافعي: بلغني عن ابن عباس أنه وإن يجيز شهادة القاذف إذا تاب (¬5)، وقال علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب اللَّه تقبل (¬6). وقال شَرِيك، عن أبي حَصين، عن الشعبي: يقبل اللَّه توبته ولا يقبلون شهادته (¬7)؟! وقال مُطَرِّف عنه: إذا فرغ من ضربه فأكذب ¬

_ = انظرها في: "البرهان" (1/ 288 - 289)، و"الكوكب الدري" (393 - 398)، و"إرشاد الفحول" (ص 150 - 152، المسألة العاشرة)، وفي "الإحكام" (2/ 278 - 280) للآمدي، "والاستغناء في حكم الاستثناء" (ص 657)، و"شرح تنقيح الفصول" (ص 249) كلاهما للقرافي، و"إحكام الفصول" (277)، و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (5/ 59 وتعليقي عليه)، و"تفسير القرطبي" (12/ 180 - 181). (¬1) في (ق) بعدها: "أنه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر النسح: "فقال". (¬4) نحو المذكور هنا عند أبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" أيضًا (ص 153 - 154). (¬5) قبول ابن عباس لشهادته رواه البيهقي (10/ 153) وابن حزم في "المحلى" (9/ 431) من طريق علي بن أبي طلحة عنه وانظر ما بعده. (¬6) رواه ابن جرير الطبري (18/ 79 - 80)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 275) والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 153)، وعزاه في "الدر المنثور" لابن المنذر (6/ 131)، من طريق عبد اللَّه بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي به، وعبد اللَّه بن صالح، ومعاوية فيهما كلام، وعلي بن أبي طلحة أرسل عن ابن عباس ولم يره وله "صحيفة" عنه انظر هذا الخبر فيها (رقم 907). (¬7) رواه البيهقي (10/ 153) من هذا الطريق وسنده ضعيف، لضعف شريك وهو القاضي، وأبو حصين هو عثمان بن عاصم من الثقات. =

نفسه ورجع عن قوله قبلت شهادته (¬1). قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها ففيها ضعف؛ فإن آدم بن فائد غير معروف، ورواته عن عمرو (¬2) قسمان: ثقات، وضعفاء، فالثقات لم يذكر أحدٌ منهم: "أو مجلود في حد" وإنما ذكره الضُّعفاء كالمُثنَّى بن الصَّبَّاح وآدم والحَجَّاج (¬3)، وحديث عائشة فيه يزيد وهو ضعيف، ولو صحت الأحاديث لحُمِلت على غير التائب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (¬4)، وقد قبل شهادتَه بعد التوبة عمر وابن عباس (¬5)، ولا يُعلم لهما في الصحابة مخالف. قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر والسحر [وقتل النفس] (¬6) وعقوق الوالدين [والزنا] (¬7)، ولو تاب من هذه الأشياء قُبلت شهادته اتفاقًا؛ فالتائب من القذف أولى بالقبول. قالوا: فأين جناية قتله من قذفه؟ قالوا: والحد يَدْرَأ عنه عقوبة الآخرة، وهو طُهْرة له؛ فإن الحدود طهرة لأهلها، فكيف تُقبل شهادته إذا لم يتطهر بالحد وترد [إذا كان] (¬8) أطهر ما يكون؟ فإنه بالحد والتوبة قد يَطْهُر طُهرًا (¬9) كاملًا. قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلَّة التي ذكرها اللَّه عقيب هذا الحكم، وهي (¬10) الفسق، وقد ارتفع الفسق بالتوبة، وهو (¬11) سبب الرد؛ فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع. ¬

_ = ورواه عبد الرزاق (13576، 15552)، من طريق الثوري، وأبو عبيد في "الناسخ" (رقم 281) من طريق يزيد بن هارون كلاهما عن إسماعيل عن الشعبي، ورواته ثقات، إسماعيل هذا هو ابن أبي خالد الأحمسي، ثقة ثبت، أخرج له الجماعة. وأخرجه ابن جرير (18/ 60)، وعلقه البخاري في "صحيحه" (3/ 150). (¬1) رواه البيهقي (10/ 153). (¬2) كذا في (ق)، وهو الصواب، وفي غيرها: "عمر"!! (¬3) لكن روايتهم تقوي بعضها بعضًا، وقارن بـ "السنن الكبرى" للبيهقي (10/ 155). (¬4) سيأتي تخريجه. (¬5) قبول عمر شهادته عند عبد الرزاق (15549 و 15550)، وأبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 276)، وابن حزم (9/ 431)، والبيهقي (10/ 152)، وابن عباس عند أبي عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 275) والبيهقي (10/ 153). (¬6) في (ق): "والقتل". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬9) ضبطها في (ك) و (ق): "تطهَّر". (¬10) في (ق): "وهو". (¬11) في (ق): "وهي".

قالوا: والقاذف فاسق بقذفه، حُدَّ أو لم يحد، فكيف تقبل شهادته في حال فسقه وترد شهادته بعد زوال فسقه؟. قالوا: ولا عهد لتا في الشريعة بذنب واحد أصلًا يُتَاب منه ويَبْقى أَثرُه المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"؟ (¬1) وعند هذا فيقال: تَوْبته من القذف تُنزله منزلة من لم يقذف؛ فيجب قبول شهادته، [أو كما قالوا] (¬2). قال المانعون: القذف متضمن للجناية على حَقِّ اللَّه وحق الآدمي، وهو من أوفى الجرائم، فناسب تغليظ الزجر، وردُّ الشهادة من أقوى أسباب الزجر (¬3)، لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس، إذ هو عَزْل لولاية لسانه الذي استطال به على عِرْض أخيه، وإبطال لها، ثم هو عقوبة في محل الجناية، فإن الجناية حصلت بلسانه، فكان أولى بالعقوبة فيه، وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قطع يد السارق، فإنه حد مشروع في محل الجناية؛ ولا يُنْتَقض هذا بأنه لم يجعل عقوبة الزاني بقطع العضو الذي جنى به لوجوه: أحدها: أنه عضو خفي مستور لا تراه العيون، فلا يحصل الاعتبار المقصود من الحد بقطعه. الثاني: أن ذلك يفضي إلى إبطال آلات التناسل وإنقطاع النوع الإنساني. الثالث: أن لذة البدن جميعه بالزنا كلذة العضو المخصوص، فالذي نال البدن (¬4) من اللذة المُحرَّمة مثل ما نال الفرج، ولهذا كان حد الخمر على جميع البدن. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي الدنيا في "التوبة" (رقم 85)، -ومن طريقه ابن عساكر في "التوبة" (رقم 9) -، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 154) عن ابن عباس رفعه. وإسناده ضعيف، فيه سَلْم بن سالم البلخي، وسعيد الحمصي، وضعفه البيهقي؛ وقال الذهبي: "إسناده مظلم"، وانظر "تخريج الإحياء" (5/ 2083). وفي الباب عن ابن أبي سعيد الأنصاري، عند الطبراني في "الكبير" (22/ 306)، وأبي نعيم في "الحلية" (10/ 398)، وفيه مجاهيل، انظر "المجمع" (10/ 200)، وعن أبي عُتبة الخولاني عند البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 154)، بإسناده ضعيف. وانظر -غير مأمور- تخريج "الإحياء" (5/ 2583)، و"السلسلة الضعيفة" (رقم 615، 616). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق) و (ك): "من أقوى أسبابه". (¬4) في (ق) و (ك): "اللسان".

الرابع: أن قطع هذا العضو مُفْضٍ إلى الهلاك، [وغير المحصن لا تستوجب جريمتُه الهلاك] (¬1)، والمُحْصَن إنما يُناسب (¬2) جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع بعض أعضائه؛ فافترقا (¬3). قالوا: وأما قبول شهادته قبل الحدِّ وردُّها بعده، فلِمَا تقدم أن رد الشهادة جُعِلَ من تمام الحد وتكملته؛ فهو كالصفة والتتمة للحد؛ فلا يتقدم عليه، ولأن إقامة الحد عليه يُنْقِص حاله عند الناس، وتقلّ حرمته، وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة غير منتهكها (¬4). قالوا: وأما التائب من الزنا والكفر والقتل، فإنما قبلنا شهادته؛ لأنَّ ردَّها كان نتيجة الفسق، وقد زال، بخلاف مسألتنا فإنا قد بينا أنَّ ردَّها من تتمة الحد، فافترقا. قال القائلون [بقبولها] (¬5): تغليظ الزجر لا ضابط له، وقد حصلت مصلحة الزجرِ بالحد، وكذلك سائر الجرائم جعل الشارع مصلحة الزجر عليها بالحد، وإلا فلا تَطْلُق نِساؤُه، ولا يُؤْخَذ مالُه، ولا يُعزل عن مناصبِه، ولا تَسْقط روايته؛ لأنه أغلظ [عليه] (5) في الزجر، وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة [-رضي اللَّه عنه-] (¬6)؛ وتغليظ الزجر من الأوصاف المنتشرة التي لا تنضبط، وقد حصل إيلام القلب والبدن والنكاية في النفس بالضرب الذي أخذ من ظهره؛ وأيضًا فإن رد الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين، وإنما يتأثر بذلك وينزجر أعيان الناس، وقَلَّ أن يُوجد القذف من أحدهم، وإنما يوجد غالبًا من الرَّعَاع والسَّقط ومَنْ لا يبالي برد شهادته وقبولها؛ وأيضًا فكم من قاذفٍ انقضى عمره وما أدى شهادة عند حاكم، ومصلحة الزجر إنما تكون في منع النفوس مما هي (¬7) محتاجة إليه، وهو كثير الوقوع منها، ثم هذه المناسبة التي ذكرتموها يعارضها ما هو أقوى منها؛ فإن رد الشهادة أبدًا تلزم منه مفسدة فوات الحقوق على الغير وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها، ولا يلزم مثل ذلك في القبول؛ فإنه لا مفسدة فيه في حق الغير؛ من عدل تائب (¬8) قد أصلح ما بينه وبين اللَّه، ولا ريب أن اعتبار مصلحة يلزم منها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ق): "تناسب". (¬3) انظر "الداء والدواء" (ص 160)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 97 - 100). (¬4) في (ق): "منهكها". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "إنما تكون بمنع النفوس ما هي". (¬8) في (ك): "وتاب" ووقع في (ق): "عدل وتاب فقد أصلح".

فصل [رد الشهادة بالتهمة]

مفسدة أولى من اعتبار مصلحة يلزم منها عدة مفاسد في حق الشاهد وحق المشهود له وعليه، والشارع له تَطلُّع إلى حفظ الحقوق على مستحقيها بكل طريق وعدم إضاعتها، فكيف يُبطل حقًا قد شَهد به عَدْلٌ رَضِي (¬1) مقبول الشهادة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى دينه روايةً وفتوى؟ وأما قولكم: "إن العقوبة تكون في محل الجناية" فهذا غير لازم؛ لما تقدم من عقوبة الشارب والزاني وقد جعل اللَّه سبحانه عقوبة هذه الجريمة على جميع البدن دون اللسان، [وإنما جعل عقوبة اللسان] (¬2) بسبب الفسق الذي هو محل التهمة، فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها (¬3). وأما قولكم: "إن رد الشهادة من تمام الحد" فليس كذلك؛ فإن الحد تَمَّ باستيفاء عَدَدِه، وسببه نفس القذف؛ وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف، لا الحد، فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق، وحصول الحد، وهما [حكمان] (¬4) متغايران. فصل [رد الشهادة بالتهمة] وقوله: "أو ظنينًا في ولاء أو قرابة" الظنين: المتَّهم، والشهادة تُردُّ بالتهمة، ودل هذا على أنها لا تُرَدُّ بالقرابة كما ترد (¬5) بالولاء، وانما ترد [بتهمتهما] (¬6)، وهذا هو الصواب كما تقدم؛ وقال أبو عبيد: ثنا حَجَّاج، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي سَبْرة، عن أبي الزِّناد، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن عمر بن الخطاب أنه قال: تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، والأخ لأخيه، إذا كانوا عدولًا، لم يقل اللَّه حين قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إلا والدًا وولدًا وأخًا (¬7)، هذا لفظه؛ وليس في ذلك عن عمر ¬

_ (¬1) في المطبوع: "مرضي". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) انظر: "تهذيب السنن" (3/ 62 - 63)، و"زاد المعاد" (4/ 40)، و"الطرق الحكمية" (ص 4). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) في (ق): "كما لا ترد". (¬6) في المطبوع: "بتهمتها". (¬7) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (15471) وابن حزم في "المحلى" (9/ 415)، من طريق ابن أبي سبرة به، وابن أبي سبرة هذا ضعيف جدًّا وقد اتهم. وفي (ك): "لا والدًا. . . ".

فصل [شهادة مستور الحال]

روايتان، بل إنما مَنعَ من شهادة المتهم في قرابته وولائه (¬1)؛ وقال أبو عبيد: حدثني يحيى بن بُكَيْر، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حَبيب، أن عمر بن عبد العزيز كتب أنه تجوز شهادة الولد لوالده (¬2). وقال إسحاق بن راهويه (¬3): لم تزل قُضَاة الإسلام على هذا، وإنما قُبلَ قولُ الشاهد لِظنِّ صدقه، فإذا كان مُتَّهمًا عارضت التُّهمةُ الظَّنَّ؛ فبقيت البراءة الأصلية [ليس] لها (¬4) معارض مقاوم. فصل [شهادة مستور الحال] وقوله: "فإن اللَّه تبارك وتعالى تولى من العباد (¬5) السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات" يريد بذلك أن من ظهرت لنا منه علانية خيرٍ قبلنا شهادته ووكلنا سَرِيرَتَه إلى اللَّه [سبحانه] (¬6)، فإن اللَّه [سبحانه] (¬7) لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر، بل على الظواهر، والسرائر تبع لها، وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر، والظواهر تبع لها. وقد احتج بعض أهل العراق بقول عمر هذا على قبول شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة وإن كان مجهول الحال (¬8)؛ فإنه قال: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" ثم قال: "فإن (¬9) اللَّه [تعالى] (7) تَوَّلى من عباده السرائر، وسَتَر عليهم الحدود" ولا يدلُّ كلامه على هذا المذهب، بل قد روى أبو عبيد: ثنا الحَجَّاج، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: [قال] (7) عمر بن الخطاب: لا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "وولايته". (¬2) رواته ثقات لكن ابن لهيعة في روايته ضعف من غير رواية العبادلة عنه وهذه منها، وروى عبد الرزاق في "المصنف" (15475) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلّى" (9/ 416) - عن معمر عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري قال: "أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عدلًا". (¬3) انظر: "المحلى" (9/ 416) ووقع في (ق): "لم يزل". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬5) في (ن): "العبد". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ق) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) انظر المجهول وأحكامه في البيوع وغيرها في "بدائع الفوائد" (3/ 209 و 4/ 23، 51)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 164، 167، 176، 177، 178). (¬9) في (ق): "إن".

[الحد والبينة]

يؤسر (¬1) أحد في الإسلام بشهداء السوء؛ فإنه لا يقبل إلا العدول (¬2). وثنا إسحاق بن علي، عن مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3): واللَّه لا [يؤسِرَنَّ] (1) رجل في الإسلام بغير العدول (¬4). وثنا إسماعيل بن إبراهيم (¬5)، عن الجُرَيْري، عن (¬6) أبي نَضْرة، عن أبي فِراس أن عمر بن الخطاب قال في خطبته: مَنْ أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه (¬7). [الحد والبيّنة] وقوله: "وستر عليهم الحدود" يعني المحارم، وهي حدود اللَّه التي نهى عن ¬

_ (¬1) في (ك) و (د) و (ط): بدون همز الواو ووقع في (ق): "يوسرن". وقال (و): "أي: لا يحبس"، وأصله الأسرة، القد، وهو قدر ما يشد به الأسير" اهـ. (¬2) اسناده ضعيف، المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عتبة، اختلط والحجاج بن محمد الأعور سمع منه بعد الاختلاط، وتوبع، تابعه وكيع، وعنه ابن أبي شيبة في "المصنف" ومن طريقه ابن حزم في "المحلى"، (9/ 394)، والقاسم لم يسمع من عمر، وفي المطبوع: "فإنا لا نقبل إلا العدول". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 720)، ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 166) من طريق ابن بكير عن مالك به. وإسناده ضعيف ربيعة هو المعروف بربيعة الرأي، لم يسمع من عمر بن الخطاب. (¬5) في (ق): "إسحاق بن إسماعيل بن إبراهيم". (¬6) في (ق) و (ك): "وعن". (¬7) أبو فراس هذا هو النهدي، لا يُعرف، وقال الحافظ في التقريب: مقبول!. والجريري اختلط إلا أن إسماعيل بن إبراهيم، هو ابن علية سمع منه قبل الاختلاط. والأثر صحيح، أخرجه البخاري في "صحيحه": كتاب الشهادات: باب الشهداء العدول: (رقم 2641) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 394) - عن عبد اللَّه بن عتبة -رضي اللَّه عنه- قال: "إن أناسًا كانوا يُؤخذون بالوحي في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإنّ الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمنَّاه وقرَّبناه، وليس إلينا من سريرته شيء، اللَّه يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نُصَدِّقه، وإنْ قال: إنّ سريرته حسنة"، وفات المزي في "تحفة الأشراف"، وذكره ابن حجر في "النكت الظراف" (8/ 52) وقال: "وأغفله المزي، وهو في جميع الروايات".

فصل [الأيمان في كتاب عمر]

قُرْبَانها، والحد يراد به الذنب تارة والعقوبة أخرى (¬1). وقوله: "إلا البينات (¬2) والأَيمان" يريد بالبينات الأدلة والشواهد، فإنه قد صح عنه الحد في الزنا بالحبل (¬3)، فهو بَيِّنة صادقة، بل هو أصدق من الشهود، وكذلك رائحة الخمر بينة على شربها عند الصحابة وفقهاء [أهل] المدينة [وأكثر فقهاء الحديث] (¬4). فصل [الأيمان في كتاب عمر] وقوله: "والأَيمان" يريد بها أيمان الزوج في اللِّعان، وأيمان أولياء القتيل في القسامة، وهي قائمة مقام البينة (¬5). فصل [القول في القياس] وقوله: "ثم الفَهْم الفهم فيما أُدلي إليك مما (¬6) وَرَدَ عليك مما ليس في قرآن ولا سنةِ، ثم قَايِس الأمور عند ذلك، واعْرِفْ الأمثال، [ثم اعمد] (¬7) فيما ترى [إلى] (¬8) أَحبِّها إلى اللَّه وأشبهها بالحق" هذا أحد [الآثار] (¬9) ما اعتمد عليه القَيَّاسون في الشريعة (¬10)، وقالوا: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى، ولم ينكره ¬

_ (¬1) انظر "الحدود والتعزيرات" (ص 21 - 26)، للشيخ الفاضل الدكتور بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬2) في (ق): "بالبينات". (¬3) مضى تخريج ذلك. (¬4) انظر: "سنن البيهقي" (8/ 315 - 316)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 532 - دار الفكر) ومضى تخريج ذلك عنهم، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. وما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) في (ن): "وهي غاية مقام البينة". (¬6) في (و): "بما" وسقطت "الفهم" الثانية من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ن)، وبدله في (ق): "واعتمد". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ن) و (ك). (¬9) كذا في (ك) و (ق)، وقال في هامش (ق): "لعله: الأمور" وسقط عن المطبوع، وبدل "ما" في (ك): "التي". (¬10) في القياس ومباحثه انظر: "جلاء الأفهام" (388 بتحقيقي)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 131 - 132، 132، 187) للمؤلف -رحمه اللَّه-. ووقع في (ق): "التي اعتمد عليها".

[إشارات القرآن إلى القياس]

أحد من الصحابة، بل كانوا متفقين على القول بالقياس، وهو أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه. [إشارات القرآن إلى القياس] وقد أرشد اللَّه [تعالى] (¬1) عباده إليه في غير موضع عن كتابه، فقاس (¬2) النَّشْأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان، وجعل النشأة الأولى أصلًا والثانية فرعًا عليها؛ وقاس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات؛ وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أَعداؤه على خلق السماوات والأرض، وجعله من قياس الأَوْلَى [كما جعل قياس النشاة الثانية على الأُوْلى من قياس الأَوْلى؛ وقاس] (¬3) الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم، وضرب الأمثال، وصَرَّفها في الأنواع المختلفة، وكلها أقيسة عقلية يُنبِّه بها عبادَهُ على أن حُكم الشَّيءِ حُكْمُ مثله، فإن الأمثال كلها قِياسات يُعلم منها حكم المُمثَّل عن الممثَّل به؛ وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلًا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]؛ فالقياس وضرب (¬4) الأمثال من خاصة العقل، وقد رَكَّز اللَّه في فِطَر الناس وعقولهم التسويَةَ بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما. [مدار الاستدلال] قالوا: ومَدَارُ الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين؛ فإنه إما استدلال بمعين على معين، أو بمعين على عام، أو بعام على عام، [أو بعامٍّ على معيِّنٍ] (¬5)، فهذه الأربعة هي مَجَامِعُ ضروب الاستدلال. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق) بعدها: "سبحانه". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وقياس"، وبدل "قاس" في (ك): "وقياس". (¬4) في المطبوع: "في ضرب". (¬5) في المطبوع: "أو بعام على معين، أو بعام على عام، بتقديم وتأخير" وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[الاستدلال بالمعين على المعين]

[الاستدلال بالمعيَّن على المعيَّن] فالاستدلالُ بالمُعيَّن على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه، فكلُّ ملزومٍ دليلٌ على لازمه، فإن كان التلازم من الجانبين كان كلٌّ منهما دليلًا على الآخر ومدلولًا له، وهذا النوع ثلاثة أقسام: أحدها: الاستدلال بالمؤثِّر على الأثَر. والثاني: الاستدلال بالأثر على المؤثر. والثالث: الاستدلال بأحد الأثَرَين (¬1) على الآخر. فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق، والثاني كالاستدلال (2) بالحريق على النار، والثالث كالاستدلال (¬2) بالحريق على الدخان، ومَدَارُ (¬3) ذلك كله على التلازم، فالتسوية بين المتماثلين، هو الاستدلال بثبوت أحد الأَثَرين على الآخر، وقياسُ الفَرْق هو الاستدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه، فلو جاز التفريقُ بين المتماثلين؛ لانسدَّت طرقُ الاستدلال وغُلِّقت أبوابه. قالوا: وأما الاستدلال بالمُعيَّن على العام، فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين؛ إذ لو جاز الفرقُ لما كان هذا المعينُ دليلًا على الأمر العام المشترك بين الأفراد (¬4)، ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذَّبهم على تكذيب رُسُله وعِصْيان أمره، على أن هذ الحكم عام شامل لكل (¬5) مَنْ سَلك سبيلهم واتَّصف (¬6) بصفتهم، وهو سبحانه قد نَبَّه عباده على نفس هذا الاستدلال، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم، كما قال تعالى عقيبَ إخباره عن عقوبات الأمم المكذِّبة لرسُلهم وما حَلَّ بهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}؟ [القمر: 43]، فهذا مَحْض تعدية الحكم إلى مَنْ عدا المذكورين بعموم العلة، وإلا (¬7) فلو لم يكن حُكمُ الشيء حُكمَ مثله لما لزمت التعدية، ولا تمت الحجة؛ ومثلُ هذا قولهُ تعالى عَقيب إخباره عن عقوبة قوم عادٍ حين رأوا العارض في السماء فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقال [تعالى] (¬8): {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ ¬

_ (¬1) في (ن): "بإحدى الأثرين" (¬2) في (ق): "الاستدلال". (¬3) وقع قبلها في (ق): "وعلى الدخان بالحريق". (¬4) في (ن): "من الأفراد". (¬5) في المطبوع: "على". (¬6) في (ق): "أو اتصف". (¬7) سقط من (ك) وسقط من (ق): "وإلا" فقط. (¬8) سقطت من (ق).

فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} ثم قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:24، 26]؛ فتأمل قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} وكيف تجد المعنى (¬1) أن حكمكم كحكمهم (¬2)، وأَنَّا إذا كُنا (1) قد أهلكناهم بمعصية رُسُلنا (¬3) ولم يدفع عنهم ما مُكّنُوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك، تسوية بين المتماثلين، وأن هذا مَحْضُ عَدْلِ اللَّه بين عباده. ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)} [محمد: 10]، فأخبر أن حُكْمَ الشيء حكمُ مثله. وكذلك كل موضع أمر اللَّه سبحانه فيه بالسَّيْر في الأرض، سواء كان السير الحسي على الأقدام والدوابِّ، أو السير المعنوي بالتفكر والاعتبار، أو كان اللفظ يَعمُّهما وهو الصواب، فإنه يدلُّ على الاعتبار والحذر أن يحل بالمُخَاطَبين ما حل بأولئك، ولهذا أمر اللَّه سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حَلَّ بالمكذبين، ولولا أن حكم النظير حكم نظِيرهِ حتى [تَعْبُر] (¬4) العقولُ منه إليه لَما حَصَلَ الاعتبار، وقد نفى اللَّه سبحانه عن حُكْمه وحِكْمته التسوية بين المختلفين في الحكم، فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36]، فأخبر أن هذا حكمٌ باطل في الفِطَر والعقول، لا يليق نسبته إليه سبحانه، وقال [تعالى] (5): {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]، وقال [تعالى] (¬5): {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]، أفلا تَرَاه كيف ذَكّرَ العقول ونَبَّه الفِطَر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره، وعدم التسوية بين الشيء (¬6) ومُخَالِفه في الحكم؟ وكل هذا من الميزان الذي أنزله اللَّه مع كتابه وجَعَله قَرينه ووزيره، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ¬

_ (¬1) بدله في (ق) و (ك): بياض، وبعده "العقل". (¬2) في (ق): "حكمهم". (¬3) في (ق): "رسول اللَّه". (¬4) في (ك): "المعين". (¬5) سقطت من (ق). (¬6) في (ك): "الشيئين".

[الأولى تسمية القياس بما سماه الله به]

لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقال [تعالى] (1): {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن: 1، 2]، فهذا الكتاب، ثم قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} [الرحمن: 7]، و [الميزان] (¬1) يُراد به العَدْلُ والآلة (¬2) التي يُعْرَفُ بها العدل وما يُضَاده. [الأولى تسمية القياس بما سَمَّاه اللَّه به] والقياس الصحيح هو الميزان؛ فالأولى (¬3) تسميتُه بالاسم الذي سمَّاه اللَّه به، فإنه يدل على العَدْل، وهو اسم مَدْح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، ولهذا لم يجئ في القرآن مَدْحُه ولا ذَمُّه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، فإنه مورد تقسم إلى صحيح وفاسد؟. فالصحيح (¬4) هو الميزان الذي أنزله مع كتابه. [أمثلة من القياس الفاسد أشار إليها القرآن] والفاسد ما يضاده، كقياسِ الذين قاسُوا البيعَ على الربا بجامع (¬5) ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقياسِ الذين قاسوا المَيْتَةَ على المذكَّى (¬6) في جَوَاز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح؛ هذا بسببٍ (¬7) من الآدميين وهذا بفعل اللَّه؛ ولهذا تجد في كلام السلف ذمَّ القياسِ وأنه ليس من الدِّين، وتجد في كلامهم استعمالَهُ والاستدلالَ به، وهذا حق [وهذا حق] (¬8) كما سنبينه إن شاء اللَّه تعالى. [أنواع القياس] والأقْيِسَةُ المستعملة في الاستدلال [ثلاثة] (¬9): قياس علة، وقياس دَلالَة، وقياس شَبه، وقد وردت كلها في القرآن. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ن): "الدلالات". (¬3) في (ق): "والأولى". (¬4) في المطبوع: "والصحيح". (¬5) في (ق): "مع". (¬6) في (ق): "الذكي". (¬7) في (ك) و (ق): "السبب"، وقال في هامش (ق): "لعله: بسبب". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

فأما قياس العلة؛ فقد جاء في كتاب اللَّه [عز وجل] (1) في مواضع، منها قوله [تعالى] (¬1): {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (¬2)} [آل عمران: 59]، فاخبر [تعالى] (1) أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تَعلَّق به وجود [سائر المخلوقات، وهو مجيئها طَوْعًا لمشيئته (¬3) وتكوينه، فكيف يَستنكرُ وجودَ عيسى من غير أبٍ مَنْ يُقِرُّ بوجود، (¬4) آدم من غير أبٍ ولا أُمٍّ؟ ووجود حؤَاء من غير أم؟ فآدم وعيسى عليهما السلام نَظِيرَان يجمعهما المعنى الذي يصحُّ تعليقُ الإيجاد والخلق [به] (1)، ومنها قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] (¬5)} [آل عمران: 137]، أي: قد كان (¬6) من قبلكم أممٌ أمثالكم فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات اللَّه ورسله، وهم الأصل وأنتم الفرع، والعِلَّةُ الجامعةُ: التَّكذيبُ، والحُكُم: الهلاك (¬7). ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]، فذكر سبحانه (¬8) إهلاك مَنْ قبلنا من القرون، وبَيَّنَ أن ذلك كان لمعنى القياس (¬9)، وهو ذنوبهم، فهم الأصل ونحن الفرع، والذُّنوبُ العِلَّةُ الجامِعة، والحكم الهلاك فهذا محض قياس العلة، وقد أكَّده سبحانه بضَرْبٍ من الأوْلى، وهو أن مَنْ قبلنا كانوا أقوى منا فلم تَدفع عنهم قوتُهم وشدتُهم ما حلَّ بهم، ومنه قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69] ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "فكان". (¬3) في (ن): "كمشيئته"، وفي (ق): "بمشيئته". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) من هنا إلى قوله: "ولهذا كان" ص 255 سقط من (ك). (¬6) في "ق" بعدها: "لكم " (¬7) في (ن): "والحكم بالهلاك". (¬8) في (ن): "فبين سبحانه" ووقع في "ق": "إهلاك من كان قبلنا". (¬9) قال في هامش (ق): "للمعنى القياسي".

وقد اختُلِفَ في محل هذه الكاف (¬1) وما يتعلق به، فقيل: هو رفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أنتم كالذين من قبلكم، وقيل: نَصبٌ بفعل محذوف، تقديرُه فعلتم كفعل الذين من قبلكم، والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل، وقيل: إن التشبيه في العذاب، ثم قيل: العاملُ محذوف، أي لَعَنهم وعَذَّبهم كما لعن الذين من قبل، وقيل: بل العاملُ ما تقدم، أي وعد اللَّه المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولَعَنهم كلعنهم، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم. والمقصود أنه سبحانه ألحَقَهم بهم في الوعيد، وسَوَّى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال، وكَوْنُهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فَرْقٌ غير مؤثِّر، فعلَّق الحكم بالوصف الجامع المؤثر، وألغى (¬2) الوصفَ الفارق، ثم نَبَّه [سبحانه] (¬3) على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]، فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامعُ، وقوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هو الحكم، والذين من قبل هم الأصل، والمخاطَبُون الفرع (¬4). قال عبد الرزاق في "تفسيره": ثنا مَعْمَر، عن الحسن في قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} قال: بدينهم (¬5). ويروى عن أبي هريرة (¬6). وقال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا (¬7). وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا (¬8). ¬

_ (¬1) يقصد بها الكاف الداخلة على الاسم الموصول في قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. . . (ط)، وفي المطبوع: "هذا الكاف" ووقع في (ق): "وما تتعلق به". (¬2) في (ن): "وألقى". (¬3) سقطت من المطبوع. (¬4) في (ق): "والخاطبون هم الفرع". (¬5) رواه عن الحسن عبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 283 - مكتبة الرشد)، والطبري في "تفسيره" (6/ 176)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (6/ 1834 رقم 10504)، وتصحف في المطبوع "إلى بذنبهم"، والتصويب من (ن) ومصادر التخريج. (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (4/ 1834 رقم 10506)، وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" (4/ 233). (¬7) في "الدر المنثور" (3/ 458) عن ابن عباس قال: بذنبهم، عزاه لابن أبي حاتم -وهو في "تفسيره" (4/ 1835 رقم 10509) - وأبي الشيخ. (¬8) انظر "تفسير الطبري" (10/ 176)، وعزاه في "الدر المنثور" (3/ 458) لابن أبي حاتم -وهو في "تفسيره" (4/ 1834 رقم 10505) - عن السدي.

[الخلاق]

[الْخَلَاق] وحقيقة الأمر أن الخَلَاق هو النصيب والحظُ، كأنه الذي خُلِق للإنسان وقُدِّر له، كما يقال (¬1): قَسْمه الذي قُسِمَ له، ونصيبه الذي نصب له، أي: أُثبت، وقِطه الذي قُطَّ له، أي قُطِع. ومنه قوله [تعالى] (¬2): {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما يَلْبَسُ الحرير في الدنيا مَنْ لا خَلاق له [في الآخرة] " (¬3) والآية تتناول ما ذكره السلف كله، فإنه [سبحانه] (2) قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة، وكذلك الأموال والأولاد، وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخَلَاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخَلَاق الذي استمتعوا به، ولو أرادوا بذلك اللَّه والدارَ الآخرة لكان لهم خَلَاق في الآخرة، فتمتُّعهم بها أخْذُ حظوظهم العاجلة، وهذا حال مَنْ لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان [عَمَله من] (¬4) جنس العبادات أو غيرها، ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} فدلَّ هذا على أن حُكمَهم حُكمُهم، وأنه ينالهم ما نالهم؛ لأن حُكْمَ النظير حُكْم نظيرِهِ. ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فقيل: الذي صفة لمصدر محذوف، أي: كالخوض الذي خاضوا، وقيل: لموصوف محذوف، أي: كخوض القوم الذي خاضوا (¬5)، وهو فاعل الخوض، وقيل: {الَّذِي} مصدرية [كما] (¬6)، أي: كخوضهم، وقيل: هي موضع الذين. ¬

_ (¬1) في (ق): "تقول". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه البخاري (886) في (الجمعة): باب يلبس أحسن ما يجد، و (948) في أول العيدين، و (2104) في (البيوع): باب التجارة فيما يكره لبسه للرجال والنساء، و (2612) في (الهبة): باب هدية ما يكره لبسها، و (3054) في (الجهاد والسير): باب التجمل للوفود، و (5841) في (اللباس): باب الحرير للنساء، و (6081) في (الأدب) باب من تجمل للوفود، ومسلم (2068) في (اللباس والزينة): باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، من حديث ابن عمر، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "في". (¬5) في (ن): "أي الخوض الذي خاضوا"، وفي "ق": "أي كالفوج الذي خاضوا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[أصل كل شر البدع واتباع الهوى]

[أصل كل شر البدع واتباع الهوى] والمقصود أنه [سبحانه] (¬1) جمع بين الاستمتاع بالخَلَاق وبين الخوْض بالباطل؛ لأنَّ فساد الدين، إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق، فالأول: البدَع، والثاني: اتّباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة [وبلاء] (1)، وبهما كُذَّبَت الرسل، وعُصِي الرب، ودُخِلت النار، وحَلَّت العقوبات، فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات، ولهذا كان (¬2) السلف يقولون: [احْذَرُوا من الناس صِنْفَين: صاحبَ هَوًى [فَتَنَه] (¬3) هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنياه. وكانوا يقولون:] (¬4) احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مَفْتُون، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. وفي صفة الإمام أحمد [-رحمه اللَّه (¬5) -]: عن الدنيا ما كان أصْبَرَه، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البِدَعُ فنَفَاها، والدنيا فأباها. وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم اللَّه في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فبالصبر تُتْرك الشهوات، وباليقين تُدفع الشبهات، كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]. وفي بعض المراسيل: "إنَّ اللَّه يحبُّ البصَرَ الناقد عند ورود الشبهات، ويُحبُّ العَقْلَ الكاملَ عند حلول الشهوات" (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) من ص 252 إلى هنا سقط من (ك). (¬3) في (و) و (د): "فتنته"! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) قال ذلك أبو عمير بن النحاس الرملي، أفاده الذهبي في "السير" (11/ 198)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) رواه القضاعي في "مسند الشهاب" (1080 و 1081)، والبيهقي في "الزهد" رقم (952)، وأبو مطيع في "أماليه"، وأبو مسعود سليمان بن إبراهيم الأصبهاني في "الأربعين" كما في "إتحاف السادة" (10/ 105)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 199) من طريق هلال بن العلاء، حدثنا أبي، حدثنا عمر بن حفص العبدي عن حوشب، ومطر الوراق، عن الحسن عن عمران بن حصين مرفوعًا به، وفيه زيادة، قال البيهقي: "تفرد به عمر بن حفص". قلت: وضعَّفه الجمهور، قاله العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 388)، وقال محقق =

[في الآية أركان القياس الأربعة]

فقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} إشارة إلى اتّباع الشهوات وهو داء العصاة، وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} إشارة إلى الشبهات وهو داء المبتدِعَةِ وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرًا ما يجتمعان، فَقَلَّ من تجده فاسدَ الاعتقاد إلا وفسادُ اعتقاده يَظْهر في عمله (¬1). والمقصود أن اللَّه أخبر أن في هذه الأمة مَنْ يستمتع بخَلاقَه كما استمتع الذين من قبلهم (¬2) بخَلَاقهم، ويخوض كخوضهم، وأنهم لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم، ثم حَضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70]. فتأمل صحةَ هذا القياس وإفادتَهُ لمن عُلِّقَ عليه من الحكم، وأن الأصل والفرعَ قد تساويا في المعنى الذي عُلّق به العقاب، وأكده كماِ تقدم بضَرْبٍ مِنَ الأَوْلى، وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد، فإن (¬3) لم يتعذَّر على اللَّه عقابُ الأقوى منهم بذَنْبه فكيف يتعذر عليه عقاب مَنْ هو دونه؟ ومنه قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]، فهذا قياس جَلِيٌّ، يقول سبحانه: إن شئتُ أذهبتُكم واستخلفتُ غيرَكم كما أذهبتُ مَنْ قبلكم (¬4) واستخلفتكم. [في الآية أركان القياس الأربعة] فذكر أركان القياس الأربعة: علة الحكم، وهي عُمومُ مَشيئتهِ وكمالِها، والحكم، وهو إذهابُه بهم (¬5) وإتيانه بغيرهم، والأصل، وهو مَنْ كان مِن قَبْل، والفرع، وهم المخاطبون. ¬

_ = "الشهاب": في إسناده عمر بن حفص العبدي، وهو متروك، وفي هلال بن العلاء كلام، أقول: وفي سماع الحسن من عمران نظر. وانظر: "تذكرة الموضوعات" (188). (¬1) ونحوه في "الكلام على مسألة السماع" (173)، و"الصواعق المرسلة" (2/ 511) كلاهما للمصنف. (¬2) في المطبوع: "قبله". (¬3) في (ق): "فإذا". (¬4) في (ن): "كما أذهبتُ غيركم من قبلكم" وفي (ق): "كما أهلكت من قبلكم". (¬5) في (ق): "لهم".

[عودة إلى أمثلة من القياس في القرآن]

[عودة إلى أمثلة من القياس في القرآن] ومنه قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] (¬1)} [يونس: 39]، فاخبر أن مَنْ قَبْلَ المُكذِّبين (¬2) أصلٌ يُعْتبر به، والفرع نفوسهم، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا] (¬3) وَبِيلًا (16)} [المزمل: 15، 16] فأخبر [سبحانه] (4) أنه أرسل محمدًا [-صلى اللَّه عليه وسلم- لينا] (¬4) كما أرسل موسى إلى فرعون، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذًا وبيلًا، فهكذا مَنْ عصى منكم محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، وهذا في القرآن كثير جدًّا (¬6)، فقد فُتح لك بابه. فصل [قياس الدلالة] وأما قياس الدَّلَالة فهو الجمع بين الأصل والفَرْعِ بدليل العلة ومَلْزَومها؛ ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]، فدَّل [سبحانه] (¬7) عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققَّوهُ وشاهَدوه على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياءٍ على إحياء، واعتبارُ الشيء بنظيره؛ والعلة الموجِبة هي عموم قدرته [سبحانه] (7)، وكمال حكمته؛ وإحياء الأرض دليل العلة. ومنه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]، فدلَّ بالنظير على النظير، وقَرَّبَ أحَدَهما من ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية". (¬2) العبارة في (ق): "من قبل من المكذبين". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬4) سقطت من (ق). (¬5) زاد بعده في (ن): "ومنه قوله: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} ". ووقع في (ق): "وأخذه أخذًا وبيلًا". (¬6) في (ق): "وهذا كثير في القرآن جدًّا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

الآخر جدًّا بلفظ الإخراج، أي يَخْرجون (¬1) من الأرض أحياءً كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ومنه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) [ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)] (¬2) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: 36 - 40]. فبَيّن سبحانه كيفيةَ الخلقِ واختلافَ أحوال الماء في الرحم إلى أن صارَ منه الزوجان الذكر والأنثى، وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء، ونَبَّه سبحانه (¬3) عباده بما أحْدَثَه في النطفة المَهِينة الحَقِيرة من الأطوار، وسَوْقها في مراتب الكمال من مرتبة إلى [مرتبة] (¬4) أعلى منها، حتى صارت بَشَرًا سَوِيًا في أحسن خَلْق (¬5) وتقويم - على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سُدَى مُهْمَلًا معطلًا لا يَأمُره ولا يَنْهاه ولا يقيمه في عبوديته، وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بَشَرًا سَويًا، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقًا بعد طبَق، وحالًا بعد حال، إلى أن يصير جاره في داره، يتمتَّع بأنواع النعيم، وينظر إلى وجهه، ويسمع (¬6) كلامه. ومنه قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ] (¬7) يَشْكُرُونَ (58)} [الأعراف: 57، 58]، فأخبر سبحانه أنهما إحياءان، [وأن] (¬8) أحدهما معتبر بالآخر مَقِيس عليه، ثم ذكر قياسًا آخر، أنَّ مِن الأرض ما يكون أرضًا طيبةً فإذا أَنزل (¬9) عليها الماء أخرجتْ نباتَها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضًا خبيثة لا تُخرج نَباتَها إلا نكدًا، أي: قليلًا غير مُنْتَفع به، فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة، فشَبَّه سبحانه الوَحْيَ الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض ¬

_ (¬1) في (ق): "تخرجون". (¬2) في (ق): "إلى قوله". (¬3) في (ق): "تعالى". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "خلقه". (¬6) في (ق): "فيسمع". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬8) في (ق): "و". (¬9) في المطبوع: "أنزلنا" ووقع في (ق): "ومن الأرض ما تكون أرضًا".

بحُصُول الحياة بهذا وهذا، وشَبَّه القلوبَ بالأرض إذ هي محل الأعمال، كما أنَّ الأرض محلُّ النبات، وأنَّ القلبَ الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلًا (¬1) لا ينفع، وأن القلب الذي آمن بالوحي وزَكَا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتَها بالمطر؛ فالمؤمن إذا سَمعَ القرآن وعَقَله وتَدَبَّرَه بانَ أثرهُ عليه، فشُبِّه بالبَلدِ الطيب الذي يمرعُ ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فيُنبت من كل زوج كريم، والمعْرِضُ عن الوحي عَكْسُه، واللَّه الموفق. ومنه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ] (¬2) لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، يقول سبحانه: إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مَخْلُوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خَلْقِكم من حال إلى حال إلى حين الموت، والبعث الذي وُعِدْتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع، فإعادتكم [بعد الموت] (¬3) خَلْقًا جديدًا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟ وقد أعاد سبحانه (¬4) هذا المعنى وأبْدَاه في كتابه بأوْجَز العبارات، وأدَلِّها، وأفصحها، وأقْطَعها للعُذْر، وألزمها للحجة، كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)] (2) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة: 58 - 62]، فدلَّهم بالنشأة الأولى على الثانية، وأنهم لو تذكَّروا لعلموا أن لا فَرْقَ بينهما في تَعلُّق القدرة بكل واحدة منهما، وقد جمع سبحانه بين النشأتين في قوله؛ {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)} [النجم: 45 - 47] وفي (¬5) قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً ¬

_ (¬1) في (ق): "يخرج نباتها إلا قليلًا". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) زاد هنا في (ك): "ذكر"، والعبارة في (ق): "أعاد سبحانه ذكر هذا المعنى في كتابه وأبداه". (¬5) في (ق): "و".

[تضمن الآيات عشرة أدلة]

فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)} [إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ] (¬1) الْمَوْتَى} [القيامة: 37 - 40]، وفي قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) [الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ] (¬2) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83))} [يس: 78 - 83]. [تضمُّن الآيات عشرة أدلة] فتضمنت هذه الآيات عشرة (¬3) أدلة: أحدها: قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} فذَكَّره مبدأ خلقه ليدلَّه به على النشأة الثانية، ثم أخبر أن هذا الجاحِدَ لو ذَكَر خَلْقه لما ضربَ المثلَ، بل لمَّا نسي خَلْقه ضَرَب المثل؛ فَتَحْتَ قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ألطف جوابِ وأبينُ دليلِ، وهذا كما تقول لمن جَحَدَك أن تكون قد أعطيته شيئًا: فلانُ جَحَدَني الإحسان إليه ونسي الثياب التي عليه والمالَ الذي معه والدارَ التي هو فيها؛ حيث لا يمكنه جَحْدُ أن يكون ذلك منك؛ ثم أجيبَ عن سُؤالِه بما يتضمن أبلغ الدليلِ على ثبوت ما جَحَده فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فهذا جواب واستدلال قاطع، [ثم أكد] (¬4) هذا المعنى [بالإخبار] (¬5)، بعموم عِلْمِهِ بجميع خلقه (¬6)، فإنَ تعذُّرَ الإعادة عليه إنما يكون لقصور علمه أو قصور في قدرته، ولا قصور في علم مَنْ هو بكل خلق عليم، ولا قدرةَ فوق قدرةِ (¬7) مَنْ خلق السمواتِ والأرض، وإذا أراد شيئًا، قال (¬8) له: كنْ فيكون وبيده ملكوت كل شيء، فكيف تَعْجزُ قدرتُه وعلمُه عن إحيائكم بعد مماتكم ولم تعجز (¬9) عن النشأة الأولى ولا عن خَلْق السموات والأرض؟ ثم أرشد عباده إلى دليل واضح [جلي] (¬10) متضمن للجواب عن شُبَهِ المنكرين بألطف الوجوه ¬

_ (¬1) في (ق): " {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} إلى قوله". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وبدل ما بين الهلالين في (ق): "إلى آخر السورة". (¬3) انظر سبعة منها في "الصواعق المرسلة" (4/ 1225 - 1226) وفيه كلام مسهب رائع حولها أيضًا، انظره (2/ 473 - 477). (¬4) في (ق): "فأكد". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "الخلق". (¬7) في (ق) و (ك): "ولا في قدرة". (¬8) في (ك): "أن يقول له". (¬9) في (ق): "يعجز". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)

وأبينها وأقربها إلى العقل، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} فإذن (¬1) هذا دليل على تمام قدرته وإخراج الأموات من قبورهم كما أخرج النار من [الشجرة الخضراء] (¬2)، وفي ذلك جوابٌ عن شُبْهةِ من قال من مُنكري المعاد: الموتُ باردٌ يابسَ، والحياة طَبْعها الرطوبة والحرارة، فإذا حَل الموتُ بالجسم لم يمكن أن تحل فيه الحياة بعد ذلك لتضاد ما بينهما، وهذه شبهة تليق بعقول المكذبين الذين لا سَمْعَ لهم ولا عَقْل؛ فإن الحياة لا تجامع الموتَ في المحل الواحد ليلزم ما قالوا، بل إذا أوجَدَ اللَّه فيه الحياة وطَبْعَها ارتَفَع الموتُ وطبعُه، وهذا الشجر الأخضر طبعُه الرطوبة والبرودة تَخرجُ منه النار الحارة اليابسة، ثم ذكر ما هو أوضح للعقول من كل دليل، وهو خَلْق السَّموات والأرض مع عظَمتهما وسَعَتهما وأنه لا نِسبةَ للخلق الضعيف إليهما، و [مَنْ] (¬3) لم تعجز قدرته وعلمه عن هذا الخلق العظيم الذي هو أكبر من خلق الناس كيف تعجز عن إحيائهم بعد موتهم؟ ثم قَرَّر هذا المعنى بذكر وَصفين من أوصافه مُستلزمين لما أخبر به فقال: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} فكونه خَلاقًا عليمًا يقتضي أنه (¬4) يخلق ما يشاء، ولا يعجزه ما أراده من الخلق، ثم قرر هذا المعنى بأن عموم إرادته وكمالها لا يَقْصر عنه (¬5) ولا عن شيء أبدًا، فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} فلا يمكنه الاستعصاء عليه، ولا يتعذر عليه، بل يأتي طائعًا منقادًا لمشيئته وإرادته، ثم زاده تأكيدًا وإيضاحًا [بقوله] (¬6): {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فنَّزهَ نفسه عما يَظنُّ (¬7) به أعداؤه المنكرون للمَعَاد [مُعظِّمًا لها] (¬8) بأن مُلْك كلِّ شيء بيده يتصرف فيه تصرف المالكِ الحق في مملوكه الذي لا يمكنه الامتناعُ عن أي تصرف شاءه فيه، ثم ختم السورة بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كما أنهم ابتدأوا منه هو فكذلك مَرْجِعُهم إليه، فمنه المبدأ وإليه المَعَاد، وهو الأول والآخر: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فإن". (¬2) في (ك): "من الشجر الأخضر"، ووقع في (ق) بعدها: "أو في". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في المطبوع و (ك): "أن". (¬5) في (ك) و (ق): "لا تقصر عن .. . . "، ومكان النقط بياض، وقال في هامش (ق): "لعله: إعادتهم، واللَّه أعلم". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "نَطَق". (¬8) في (ق): "معلمًا".

ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}؟ [مريم: 66، 67]، فتأمل تضمن (¬1) هذه الكلمات -على اختصارها وإيجازها وبلاغتها- للأصل والفرع والعلة والحكم. ومنه قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}؟ [الإسراء: 49]، فردّ عليهم سبحانه ردًّا يتضمن الدليل القاطع على قدرته على إعادتهم خلقًا جديدًا فقال: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 50، 51] فلما استبعدوا أن يُعيدهم اللَّه خلقًا جديدًا بعد أن صاروا عظامًا ورفاتًا قيل لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}، سواء كان الموت أو السماء أو الأرض أو أي خلق [استعظمتموه وكبرُ في صُدوركِم] (¬2)؛ ومَضْمُونُ الدليل أنكم مَرْبُوبُون مخلوقون مقهورون على ما يشاء خالقكم، وأنتم لا تقدرون على تغيير أحوالكم مِنْ خِلْقَة إلى خِلْقة لا تقبل الإضمحلال كالحجارة والحديد، ومع ذلك فلو كنتم على هذه الخلقة من القوة والشدة لنفذت أحكامي فيكم وقدرتي ومشيئتي، ولم تسبقوني ولم تفوتوني، كما يقول القائل لمن هو في قَبْضَته: اصْعَدْ إلى السماء فإني لاحِقُكَ، أي لو صعدت إلى السماء لِحقتُك، وعلى هذا فمعنى الآية: لو كنتم حجارة أو حديدًا أو أعْظَمَ خلقًا من ذلك؛ لما أعجزتموني ولما فتُّموني (¬3) وقيل: المعنى كونوا حِجَارة أو حديدًا عند أنفسكم، أي صَوِّروا أنفسكم وقَدِّروها [كذلك] (¬4) خَلْقًا لا يضمحلُّ ولا ينحل، فإنَّا سنميتكم ثم نحييكم ونعيدكم خلقًا جديدًا، وبَيْن المعنيين فَرْقٌ لَطيف، فإنَّ المعنى الأول يقتضي أنكم لو قَدَرتُم على نَقْل خلقتكم (¬5) من حالة إلى حالة هي أشد منعها وأقوى لنفذت مشيئتنا وقدرتنا فيكم ولم تعجزونا، فكيف وأنتم عاجزون عن ذلك؟ والمعنى الثاني يقتضي أنكم صوروا أنفسكم وأنزلوها هذه المنزلة، ثم انظروا أتفوتونا وتعجزونا أم قدرتُنا ومشيئتُنا مُحيطة بكم ولو كنتم كذلك؟ وهذا من ¬

_ (¬1) سقطت من (ك) و (ق). (¬2) في (ق) و (ك): "استعظموه وكبر في صدورهم". (¬3) في (ق): "فتوني". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬5) في (ن): "خلقكم".

أبلغ البراهين القاطعة التي لا تعرض فيها شبهة البتة، بل لا تَجدُ العقولُ السليمة عن الإذعان والانقياد لها بُدًّا (¬1)، فلما علم القومُ صحة هذا البرهان وأنه ضروري انتقلوا إلى المطالبة بمن يُعيدهم فقالوا: مَنْ يعيدنا؟ وهذا سواء كان سؤالًا منهم عن تعيين المعيد أو إنكارًا منهم له فهو (¬2) من أقبح التعنّت وأَبينِه، ولهذا كان جوابه: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ولمَّا علم القومُ أن هذا جوابٌ قاطع انتقلوا إلى باب آخر من التعنت، وهو السؤال عن وَقْت هذه الإعادة، فأنْغَضُوا إليه رؤوسهم (¬3) وقالوا: متى هو؟ فقال تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} فليتأمل اللبيبُ لُطْفَ موضع (¬4) هذا الدليل، واستلزامه لمدلوله استلزامًا لا مَحِيدَ عنه، وما تضمنه من السؤالات (¬5) والجواب عنها أبلغ جواب وأصحه وأوضحه، فلله ما يفوت المعْرضين عن تدبُّر القرآن المتعوضين عنه بزبالة الأذهان ونُخَالة الأفكار (¬6). ومنه قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا] (¬7) وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: 5 - 7]، وقوله [تعالى] (¬8): {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39]، جعل [اللَّه] (8) سبحانه إحياء الأرض [بالنبات] (8) بعد موتها نظيرَ إحياء الأموات، وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودلَّ بالنظير على نظيره. ¬

_ (¬1) وقع في (ق): "السليمة بدًا عن الإذعان والانقياد لها". (¬2) في (ن): "وهذا"، ووقع في (ق): "فهو أقبح التعنت". (¬3) يقال: نغض رأسه، من باب نصر وضرب، أي: تحرك، وأنغضه هو، أي حركه كالمتعجب من الشيء، ومنه قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ} [الإسراء: 51] " (د)، ونحوه في (ط) و (خ) و (و). (¬4) في المطبوع: "موقع". (¬5) وقع في (و): "السؤلان"، وفي (ك): "تضمنته من السؤالات". (¬6) في (ك): "ونخامة الأفكار" وفي (ق): "ونحاتة" وانظر تفسير الإمام ابن القيم لهذه الآيات في كتابه القيم: "الصواعق المرسلة" (3/ 478 - 480). (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[في الآيتين دليل على خمسة مطالب]

[في الآيتين دليل على خمسة مطالب] وجعل ذلك آيةً ودليلًا على خمسة مطالب، أحدها: وجود الصانع، وأنه الحق المبين، وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله. الثانى: أنه يحيي الموتى. الثالث: عمومُ قدرته على كل شيء. الرابع: إتيان الساعة وأنها لا ريب فيها. الخامس: أنه يخرج الموتى من القبور كما يخرج (¬1) النبات من الأرض. [لِمَ تكرر الاستدلال بإخراج النبات من الأرض على إخراج الموتى؟] وقد كَرَّر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مرارًا؛ لصحة مقدماته، ووضوح دَلَالته، وقُرْب تَنَاوله، وبُعْده من كل معارضة وشُبْهة، وجَعَلَه تبصرةً وذكرى كما قال تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 7، 8]. [التذكر] فالمنيب إلى ربِّه يتذكَّر بذلك، فإذا تذكَّر تبصَّرَ به، فالتذكُّر قبل التبصُّر، وإن قُدِّمَ (¬2) عليه في اللفظ كما قال [تعالى] (¬3): {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]، والتذكر: تَفَعُّلٌ من الذِّكر، وهو حصول (¬4) صورة من المذكور في القلب، فإذا استحضره القلبُ وشاهدَهُ على وَجْهه أوْجَبَ له [البصيرة، فابْصَرَ] (¬5) ما جُعل دليلًا عليه، فكان في حقه تبصرةً وذكرى، والهدى مداره على هذين الأصلين: التَّذكُّر، والتَّبصُّر. [دعوة الإنسان إلى النظر] وقد دعا سبحانه الإنسانَ إلى أن ينظر في مبدأ خلقه [ورزقه] (3)، ويستدل بذلك على مَعَاده وصِدْق ما أخبرت به الرسل؛ فقال في الأول: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ ¬

_ (¬1) في (د): "أخرج". (¬2) زاد هنا في (ك): "فاضلة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "صورة المذكور"، وله وجه. (¬5) في (ن) و (ك): "الصبر، فالصبر"، وفي (ق): "البصر، فالبصر"، ولعل الصواب ما أثبتناه وهو من المطبوع.

[الصلب والترائب والنطفة]

خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) [إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)}] (¬1) [الطارق: 5 - 9]، فالدافق على بابه، ليس فاعلًا بمعنى مفعول كما يَظُنُه بعضهم، بل هو بمنزلة ماءٍ جارٍ، وواقِفٍ، وساكِن. [الصُّلب والترائب والنطفة] ولا خلاف أن المراد بالطلب صلبُ الرجلِ، واخْتُلف في الترائب، فقيل: المراد بها ترائبه أيضًا، وهي عظام الصَّدْر ما بين التَرْقْوة إلى الثَّنْدُوَة (¬2)، وقيل: المرادُ ترائبُ المرأة، والأول أظهر؛ لأنه سبحانه قال (¬3): [{يَخْرُجُ] مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 7]، ولم يقل: يخرج من الصُّلْب والتَّرَائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين المحِلَّيْن (¬4)؛ كما قال في اللَّبن: يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66]، وأيضًا فإنه سبحانه أخبر أنه خَلَقه من نطفة في غير موضع، والنطفة هي ماء الرجل، كذلك قال أهل اللغة، قال الجوهري (¬5): "النطفة الماء الصافي قَلَّ أو كَثُرَ، [والجمع: النطاف] (¬6)، والنطفة ماء الرجل، والجمع نُطَفُ؛ وأيضًا فإن الذي يُوصَفُ بالدَّفْقِ والنضح (¬7) إنما هو ماء الرجل، ولا يُقال: نَضَحَت المرأة الماء ولا دَفَقَتْه، والذي أوجَبَ لأصحاب القول الآخر ذلك أنهم رأوا أهلَ اللغة قالوا: الترائب مَوْضِعُ القلادة من الصَّدْر (¬8)، قال الزَّجَّاج (¬9): أهلُ اللغة مُجْمِعون على ذلك، وأنشدوا لامرئ القَيْس: ¬

_ (¬1) في (ك): إلى قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)} وبدل ما بين الهلالين في (ق): "إلى قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)} ". (¬2) "الثندوة للرجل، الثدي للمرأة" (ط). قلت: قال في "اللسان" (1/ 510): "لحم الثدي، وقال ابن السكيت: هي الثندوة للحم الذي حول الثدي، غير مهموز" اهـ. (¬3) في (ق): "لأنه قال تعالى" وما بين المعقوفتين بعدها سقط من (ق). (¬4) في المطبوع و (ك): "المختلفين". (¬5) انظر: "الصحاح" (4/ 1434 - ط: دار العلم للملايين)، وما بين المعقوفتين منه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "والفضخ". (¬8) انظر: "لسان العرب" (1/ 230) لابن منظور، و"تحفة المودود" للمصنف (239)؛ فذكر نحو ما هنا. (¬9) في "معاني القرآن وإعرابه" (5/ 312).

[عود إلى الدعوة إلى النظر]

مُهفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرَائبُهَا مَصْقُولَة كَالسَّجَنْجَلِ (¬1) وهذا لا (¬2) يدلّ على اختصاص الترائب بالمرأة، بل يُطْلَق على الرجل والمرأة، قال الجوهري: التَّرَائب عِظَامُ الصدر ما بين التَّرْقُوة إلى الثنَّدُوة (¬3). وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} الصحيح أن الضمير يرجع على الإنسان (¬4) أي: إن اللَّه على ردِّه [إليه لقادر يوم القيامة] (¬5)، وهو اليوم الذي تُبْلَى فيه السرائر، ومَنْ قال: "إن الضمير يرجع إلى (¬6) الماء أي: إن اللَّه على رَجْعه في الإحليل أو في الصَّدر أو حَبْسه عن الخروج لقادر" فقد أبْعَد، وإن كان اللَّه [سبحانه] (¬7) قادرًا على ذلك، ولكن السياق ياباه، وطريقه القرآن -وهي (¬8) الاستدلالُ بالمبدأ والنشأة الأولى على المعَاد والرجوع إليه- وأيضًا فإنه قَيَّده بالظرف، وهو: "يوم تُبلى السرائر". [عود إلى الدعوة إلى النظر] والمقصود أنه سبحانه دعا الإنسان أن ينظر في مَبْدَأ خلقه ورزقه، فإن ذلك يدلُّه دلالةً ظاهرة على مَعَاده ورجوعه إلى ربه. وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ ¬

_ (¬1) قال (ط): "البيت رقم 31 من معلقة امرئ القيس". قلت: انظر "شرح المعلقات السبع" (27) لأبي عبد اللَّه الحسين الزوزني، قال (و): "المهفهفة: اللطيفة الخصر، الضامرة البطن، و"المفاضة": المرأة العظيمة البطن، المسترخية اللحم، و"الترائب": جمع التريبة: وهي موضع القلادة من الصدر، و"السقل والصقل": إزالة الصدأ، والدنس وغيرهما، و"السجنجل": المرآة لغة رومية، عربتها العرب، وقيل: بل هو قطع الذهب والفضة، يقول: هي امرأة دقيقة الخصر، ضامرة البطن، وغير عظيمة البطن، ولا مسترخيته، وصدرها براق اللون، متلألئ الصفا تلألؤ المرآة، (الزوزني في شرح المعلقات) "، ونحوه في (د) و (ط) و (ح). (¬2) سقطت من (ك). (¬3) انظر: "الصحاح" (1/ 91 - ط: دار العلم للملايين) للجوهري، ووقع في (ق): "الترقوة والثندوة". (¬4) أفاض المصنف في كتابه: "التبيان في أحكام القرآن" (100 - 108) في تصويب هذا القول، وذكر عشرة أوجه تدل عليه. (¬5) في (ق) و (ك): "يوم القيامة إليه لقادر". (¬6) في المطبوع: "يرجع على". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "وطريقة القرآن هي".

شَقًّا (26) [فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا] (¬1) (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 24 - 31]؛ فجعل سبحانه نَظَره في إخراج طعامه من الأرض دليلًا على إخراجه هو منها بعد موته، استدلالًا بالنظير على النظير. ومن ذلك قوله سبحانه ردًا (¬2) على الذين [قالوا: {(وَقَالُوا)] (¬3) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)} [الإسراء: 49]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 99]، أي: مثلَ هؤلاءِ المكذِّبين، والمراد به النشأة [الثانية] (4)، وهي الخلق الجديد، وهي المثل المذكور في غير موضع، وهم [هم] (¬4) بأعيانهم، فلا تنافي في شيء من ذلك، [بل هو الحق] (¬5) الذي دل عليه العقل والسَّمْع، ومَنْ لم يفهم ذلك حَق فهمه تخبَّطَ عليه أمرُ المعاد، وبقي منه في أمر مَرِيج؛ والمقصودُ أنه دَلَّهم [سبحانه] (¬6) بخلق السموات والأرض على الإعادة والبَعث، وأكد هذا القياسَ بضرب من الأَوْلى، وهو أن خلق السَّموات والأرض أكْبرُ من خلق الناس، فالقادر على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقْدَر على خلقكم، وليس أول الخلق بأهْوَنَ عليه من إعادته، فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجردُ تكذيب اللَّه ورُسُله وتعجيز قدرته، ونسبة علمه إلى القصور، والقدح في حكمته؛ ولهذا يخبر [اللَّه] (6) سبحانه عمن أنكر ذلك بأنه كافر بربه (¬7)، جاحد له، لم يُقِرَّ بربِّ العالمين فاطِرِ السموات والأرض (¬8) كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5]، وقال المؤمن للكافر الذي قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا (¬9) مُنْقَلَبًا (36)} [الكهف: 36]؛ فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)} [الكهف: 37]، فمنكر المعاد كافر برب العالمين وإن زعم أنه مُقِر به. ومنه قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬2) في (ك): "رادًا". (¬3) بياض في (ك) وفى الهامش: "لعله: أنكروا البعث" وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "بالحق". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "به". (¬8) انظر: "بدائع التفسير" (3/ 82 - 83). (¬9) "منها: الضمير يعود على الجنة، وقرأ نافع والشامي وابن كثير "منهما" أي: من الجنتين" (ط) و (خ).

فصل [قياس الشبه وأمثلة له]

النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20]، يقول تعالى: انظروا كيف بَدأتُ (¬1) الخَلْقَ؛ فاعتبروا الإعادة بالابتداء، ومنه قوله [تعالى] (¬2): {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} [الروم: 19] (¬3)، وقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] (¬4) إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} [الروم: 50]. وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) [وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا] (¬5) كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق: 9 - 11]، وقال [تعالى] (2): {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} (¬6) [الأنبياء: 104]، والسِّجِّل: الورق المكتوب فيه، والكتاب: نفس المكتوب (¬7)، واللام بمنزلة على، أي: نطوي السماء كطيّ الدَّرْج (¬8) على ما فيه من السطور المكتوبة، ثم استدل على النظير بالنظير فقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}. فصل [قياس الشبه وأمثلة له] وأما قياس الشبه فلم يحكه اللَّه سبحانه إلا عن المُبطلين؛ فمنه قوله تعالى إخبارًا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصُّوَاع (¬9) في رَحْل أخيهم: {إِنْ ¬

_ (¬1) في (ق): "بدأ". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) قال ابن القيم -رحمه اللَّه- فيما يأتي: "فدل بالنظير على النظير، وقرب أحدهما من الآخر جدًّا بلفظ الأخراج، أي: يخرجون من الأرض أحياء؛ كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي"، وانظر: "بدائع التفسير" (3/ 389 دار ابن الجوزي). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق): "ومنه قوله" بدل "وقوله تعالى". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬6) "الكتاب: هو المكتوب، وقد قرأ حمزة وحفص والكسائي: "للكتب" (ط) و (ح). قلت: قال ابن الجزري -رحمه اللَّه-: "واختلفوا في (السجل للكتاب)؛ فقرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص (للكُتُب) بضم الكاف والتاء من غير ألف على الجمع، وقرأ الباقون بكسر الكاف وفتح التاء مع الألف على الإفراد" اهـ. انظر: "النشر في القراءات العشر" (2/ 325 - ط دار الكتب العلمية). (¬7) في (ك): "المكتوبات". (¬8) في (ك) و (ق): "السجل" (¬9) في (ق) و (ك): "المتاع".

يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77]، فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مُجَرَّد الشَّبَه الجامع بينه وبين يوسف، فقالوا: هذا مقيس على أخيه، بينهما شبه من وجوه عديدة، وذاك قد سرق فكذلك هذا، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ، والقياس بالصورة (¬1) المجردة عن العلة المقتضية (¬2) للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كان (¬3) حقًا، ولا دليل على التساوي فيها؛ فيكون الجمع لنوع شبه خالٍ عن العلة ودليلها. ومنه قوله تعالى إخبارًا عن الكفار [أنهم قالوا] (¬4): {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} فاعتبروا مجرد صورة (¬5) الآدمية وشبه المجانسة، واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهين حكم الآخر؛ فكما لا نكون نحن رسلًا فكذلك أنتم، فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا، وهذا من أبطل القياس؛ فإن الواقع من التخصيص والتفضيل جعل (¬6) بعض هذا النوع شريفًا وبعضه دنيًا (¬7)، وبعضه مرؤوسًا وبعضه رئيسًا، وبعضه ملكًا وبعضه سوقة، يبطل هذا القياس، كما أشار سبحانه إلى ذلك في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] (4)} [الزخرف: 32]. وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وأجاب اللَّه [سبحانه] (4) عنه بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وكذلك قوله [سبحانه] (4): {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)} [المؤمنون: 33، 34]، فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب، وهذا مجرد (¬8) قياس شبه وجمع صوري، ونظير ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "بالضرورة". (¬2) في (ن) و (ك): "المفضية". (¬3) في (ق): "كانت". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع: "صورة مجرد" بتقديم وتأخير، ووقع في (ق): "وشبه المجانسة فيها". (¬6) في المطبوع: "وجعل". (¬7) في (ن): "وضيعًا". (¬8) سقطت من (ك).

فصل [ضرب الأمثال في القرآن والحكمة فيه]

هذا قوله (¬1): {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]. ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري، ومنه قياسهم الميتة على الذَّكيّ في إباحة الأكل بمجرد الشبه. وبالجملة فلم يجئ هذا القياس في القرآن إلا مردودًا مذمومًا، ومن ذلك قوله [تعالى] (¬2): {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 194، 195]، فبين سبحانه (¬3) أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية، وأن المعنى المعتبر معدوم فيها، وأنها لو دعيت لم تجب؛ فهي صور خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها، وزاد هذا تقريرًا بقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، أي أن جميع ما لهذه (¬4) الأصنام من الأعضاء التي نحَتتْها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها؛ لأن المعنى المراد المختص بالرِّجلِ هو مَشْيُها، وهو معدوم في هذه الرجل؛ والمعنى المختص باليد هو بطشها وهو معدوم في هذه اليد؛ والمراد بالعين إبصارها وهو معدوم في هذه العين؛ ومن الأُذن سَمْعُها وهو معدوم فيها، والصور في ذلك كله ثابتة موجودة، وكلها فارغة خالية عن الأوصاف والمعاني، فاستوى وجودها وعدمها، وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة والوصف المُقْتضي للحكم، واللَّه أعلم (¬5). فصل [ضرب الأمثال في القرآن والحكمة فيه] ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون؛ فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه (¬6)، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر، كقوله تعالى في حق المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ ¬

_ (¬1) في (ق) بعدها: "تعالى". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "تعالى". (¬4) في (ق) و (ك): "جميع مثال هذه". (¬5) انظر: "الصواعق المرسلة" (3/ 915). (¬6) في (ك): "حكمته".

ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}] [البقرة: 17، 18] (¬1) إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 20]، فضرب للمنافقين بحسب حالهم مَثَلين: مثلًا ناريًا، ومثلًا مائيًا، لما في النار والماء من الإضاءة (¬2) والإشراق والحياة؛ فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة، وقد جعل اللَّه الوحي الذي أنزله (¬3) من السماء متضمنًا لحياة القلوب واستنارتها، ولهذا سماه روحًا ونورًا، وجعل قَابِلِيه أحياءَ في النور، ومن لم يرفع به رأسًا أمواتًا في الظلمات، وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم (¬4) بمنزلة من استوقد نارًا لتضيء له وينتفع بها، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاؤا به، وانتفعوا به، وآمنوا به، وخالطوا المسلمين (¬5)، ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب اللَّه بنورهم، ولم يقل بنارهم؛ فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب اللَّه بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهذا حال من أبصر ثم عَمي، وعَرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع إليه؛ ولهذا قال: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي (¬6)، فشبههم بأصحاب صَيِّب -وهو المطر الذي يَصوب، أي؛ ينزل من السماء- فيه (¬7) ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم (¬8)، وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق، فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه، وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه (¬9). ¬

_ (¬1) "وتمام الآيات: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (ط)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ن): "من الإحياء". (¬3) في (ق): "أنزل". (¬4) في المطبوع: "وأنهم". (¬5) في (ق) و (ن): "وخالفوا المسلمين". وقال في هامش (ق): "لعله: وخالطوا" وقوله: "آمنوا به" سقطت من (ك) و (ق). (¬6) في (ك): "الثاني". (¬7) في (ق): "وفيه". (¬8) في (ق) و (ك): "أبصارهم". (¬9) انظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- حول تفسير هذه الآيات بتوسع أكثر من هذا في كتابه الفذ: "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 12 - 16، الطبعة الهندية)، و"الوابل الصيب" (ص 68 - 72 تحقيق الأرناؤوط)، و"شفاء العليل" (ص 96).

[مخانيث الجهمية والمبتدعة]

[مخانيث الجهمية والمبتدعة] وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرًا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة (¬1) إذا سمعوا شيئًا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين. {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 50، 51] ويقول مخنثهم (¬2): سُدُّوا عنا هذا الباب، واقرؤوا شيئًا غير هذا، وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون؛ لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم (¬3)، وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جُرِّدَ لهم التوحيد وتُليت عليهم النصوص (¬4) المُبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم (¬5)، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، وكذلك (¬6) تجد أعداء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا سمعوا نصوص الثناء [على الخلفاء] (¬7) الراشدين وصحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثقل ذلك عليهم جدًّا، وأنكرته قلوبهم؛ وهذا كله شَبَه ظاهر، ومَثَل مُحقَّق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه اللَّه لهم [بالماء] (¬8) فإنهم لمّا تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم [نسال اللَّه العفو والعافية] (¬9). ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "تلاميذ دين الجهمية والمبتدعة"، وفي (ك): "دين تلاميذ. . . ". (¬2) في (ق): "مجيبهم"، وفي (ك): "محسنهم". (¬3) قال (ط): "لقد حرص ابن القيم على إثبات أن للَّه صفات لا تحصى، وقد دفعه ذلك إلى التوسط، حتى قال بقيام الحوادث بذاته -تعالى-، انظر تفصيل ذلك في "مدارج السالكين"، وفي "ابن قيم الجوزية" للدكتور عبد العظيم شرف الدين اهـ. قال أبو عبيدة: وكلام ابن القيم -وشيخه ابن تيمة من قبل- في مسائل الصفات هو مذهب السلف الصالح، وجزاهما اللَّه خيرًا، فإنهما نصرا الحق في هذا الباب، وكشفا اللثام عن شبه أهل الزيغ والبدع والطغام، ولم يبق لمنصف بعدهما كلام، أما بالنسبة إلى قيام الحوادث بالذات، فانظر كتابنا "الردود والتعقبات" (ص 73 وما بعد)، و"موقف ابن تيمية من الأشاعرة" (3/ 1053). وانظر: "الرد على المنطقيين" (ص 463 - 464)، و"درء تعارض العقل والنقل" (10/ 17)، و"مجموع الفتاوى" (16/ 304) جميعها لابن تيمة، ووقع في (ق): "على قلوبهم وعقولهم". (¬4) في (ك) و (ق): "نصوصه". (¬5) في (ق) و (ن) و (ك): "وثقل عليهم". (¬6) في المطبوع: "ولذلك". (¬7) في (ن): "عليهم". (¬8) في (ق): "الذي ضرب اللَّه لهم". (¬9) ما بين المعقوفتين من (ق).

فصل [المثل المائي والناري في حق المؤمنين]

فصل [المثل المائي والناري في حق المؤمنين] وقد ذكر اللَّه المثلين المائي والنَّاري في سورة الرعد، ولكن في حق المؤمنين؛ فقال [تعالى] (¬1): {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ [ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ] (¬2) كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} [الرعد: 17]، فشبه [سبحانه] (¬3) الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا كواد كبير يسع ماءً كثيرًا، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها، واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها؛ وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومرَّ عليها احتمل غثاءً وزبدًا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوبَ أثار ما فيها من الشَّهوات والشُّبهات ليَقْلَعَها ويُذهبها، كما يثير الدواءُ وقتَ شُرْبه من البدن أخلاطَه [فيتكدَّر بها شاربه] (¬4)، وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهَب بها، فإنه لا يجامعها ولا يساكنها (¬5)؛ وهكذا يضرب اللَّه الحق والباطل. ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهو الخَبَثُ الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتُخرجُه النار وتميِّزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيُرمى ويُطرح ويذهب جُفاءً؛ فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزَّبدَ والغُثاءَ والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماءُ الصَّافي الذي يستقي منه الناسُ ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمانُ الخالصُ الصَّافي الذي يَنفع صاحبه ويَنْتفع به غيره؛ ومن لم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) بدلها في (ق): "إلى قوله". (¬3) في المطبوع: "شبه الوحي". (¬4) في (ن): "فسكرت بها مجاريه"، وفي (ق) و (ك): "فيتكرب بها شاربه". (¬5) في المطبوع: "ولا يشاركها".

فصل [مثل الحياة الدنيا]

يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ولعرف ما يُراد منهما فليس من أهلهما، واللَّه الموفق (¬1). فصل [مثل الحياة الدنيا] ومنها قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ [حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ] (¬2) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]، شبَّه سبحانه الحياة الدنيا بأنها (¬3) تتزين في عين الناظر [فتروقُه] (¬4) بزينتها وتُعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتى إذا ظنَّ أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشَبَّهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتَعْشُب ويحسنُ نباتُها ويروق منظرها للناظر، فيغتزُ بها، ويظن أنه قادرٌ عليها، مالكٌ لها، فيأتيها أمر اللَّه فتدرك نباتَها الآفةُ بغتةَ، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرًا (¬5) منها؛ فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء؛ وهذا من أبلغ التشبيه والقياس، ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات، والجنة سليمة [منها] (¬6) قال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} فسماها هنا (¬7) دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعمَّ بالدعوة إليها، وخصَّ بالهداية مَنْ يشاء، فذاك عدله وهذا فضله. ¬

_ (¬1) انظر تفسير الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه- لهذه الآية في "مفتاح دار السعادة" (ص 66 - 67)، و"طريق الهجرتين" (ص 98)، و"الوابل الصيب" (ص 82 - 78 - بتحقيق الأرناؤوط). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬3) في المطبوع: "في أنها"، وفي (ك) و (ق): "أنها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من مضروب عليه في (ن). (¬5) في (ك): "صفراء". (¬6) في (ن): "والجنة مسلمة منها". وفي (ك): "والجنة سليمة". وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ن) و (ق) و (ك): "ههنا".

فصل [مثل المؤمنين والكافرين]

فصل [مثل المؤمنين والكافرين] ومنها قوله [تعالى] (1): {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} [هود: 24]؛ فإنه [سبحانه] (¬1) ذكر الكفار، ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين، ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات (¬2) إلى ربهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن، وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه؛ فشُبِّه بمن بصره (¬3) أعمى عن رؤية الأشياء، وسمعه أصم عن سماع الأصوات، والفريق الآخر بصير القلب سميعه، كبصير العين وسميع الأذن؛ فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}. [مثل الذين اتخذوا الأولياء] ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين [اتخذوهم أولياءَهم] (¬4) أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها؛ وتحت هذا المثل أن [هؤلاء] (5) المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون اللَّه أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81، 82]، وقال [تعالى] (¬5): {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ [وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ] (¬6)} [يس: 74، 75]، وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) "الإخبات": الخشوع (ط). (¬3) في (ن): "شبه عن بصره". (¬4) بدل ما في المعقوفتين في (ك): "أتخذهم أولياءهم" وفي (ق): "اتخذوهم أولياء". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) بدلها في (ق): "الآية".

[من اتخذ أولياء من دون الله أشرك]

ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} (¬1) [هود: 101]. [من اتخذ أولياء من دون اللَّه أشرك] فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون اللَّه وليًا يتعزَّز به ويتكبّر (¬2) به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضدِّ مقصوده. فإن قيل: فهم يعلمون أنّ أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نَفى عنهم علم ذلك بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. فالجواب: أنه [سبحانه] (¬3) لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًا وقوة (¬4)، فكان الأمر بخلاف ما ظنُّوه، [ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم] (¬5). فصل [تمثيل أعمال الكافرين بالسَّراب] ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] (¬6)} [النور: 39، 40]. ¬

_ (¬1) "التتبيب": الخسران والهلاك (ط). (¬2) في (ك): "يتكثر" والعبارة في (ق): "يتعزر به ويتكثر". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "وقدرة" ووقع في (ق): "تفيدهم". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية".

[المعرضون عن الحق نوعان]

[المعرضون عن الحق نوعان] ذكر سبحانه (¬1) للكافر مثلين: مثلًا للسراب (¬2)، ومثلًا بالظلمات المتراكمة، وذلك لأن المعرضين عن [الهدى و] (¬3) الحق نوعان: أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له (¬4) عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم، فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب [بقيعة] (3)، يُرى في عين الناظر [ماءً] (¬5) ولا حقيقة له. [الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير أمره] وهكذا الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك، وهذه الأعمال التي قال اللَّه [عز وجل] (3) فيها: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، وتامَّل [تشبيه] (¬6) اللَّه سبحانه السراب بالقِيعة -وهي الأرض القفر الخالية من [البناء والشجر والنبات] (¬7)، والعالم- فمَحَلُّ (¬8) السَّرابِ أرضٌ قَفْر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى. وتامل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}، والظمآن الذي قد اشتدَّ عطشه، فرأى السراب فظنه ماءً فتبعه فلم يجده شيئًا، بل خانه أحوج ما كان إليه (¬9)، فكذلك هؤلاء، لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول (¬10)، ولغير اللَّه، جُعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها، فلم يجدوا شيئًا، ووجدوا اللَّه [سبحانه ثَمَّ] (¬11)؛ فجازاهم بأعمالهم ووفَّاهم حسابهم. وفي "الصحيح" من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث التجلِّي يوم القيامة: "ثم يُؤتى بجهنم تُعْرَض كأنها السراب، فيُقال لليهود: ما كنتم ¬

_ (¬1) في (ق): "تعالى". (¬2) في (ق) و (ك): "بالسراب". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق) و (ك): "فيبين له". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في المطبوع: "جَعْل". (¬7) في (ق): "البناء والنبات والشجر". (¬8) في (ق): "محل". (¬9) في (و) و (ق) و (ك): "بل جاء ربه أحوج ما كان إليه". (¬10) في (ن) و (ق) و (ك): "الرسل". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [أصحاب مثل الظلمات المتراكمة]

تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزيرًا ابن اللَّه، فيُقال: كذبتم، لم يكن للَّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن اللَّه، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن للَّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون" (¬1) وذكر الحديث. وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه، فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل؛ فإذا كان الاعتقاد غيرَ مطابق ولا حق كان مُتعلّقه باطلًا؛ وكذلك إذا كانت غايةُ العمل باطلةً -كالعمل لغير اللَّه، وعلى (¬2) غير أمره- بطل العملُ ببطلان غايته، وتضرَّر عامله ببطلانه، وبحصول ضدِّ [ما كان يأمِّله، فلم يذهب عليه عملُه واعتقادُه، لا له ولا عليه، بل صار مُعذبًا بفوات نَفْعِه، وبحصول ضد] (3) النفع، ولهذا قال [تعالى] (¬3): {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39] فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى. فصل [أصحاب مثل الظلمات المتراكمة] النوع الثاني: أصحاب [مثل] (4) الظلمات [المتراكمة] (¬4)، وهم الذين عرفوا الحقَّ والهدى، وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطَّبْع وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغَيّ والهوى، فحالهم كحال من كان في بحر لُجّيّ لا ساحل له، وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب التفسير): باب {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}، (4581)، و (كتاب التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} (رقم 7437)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الإيمان): باب معرفة طريق الرؤية، (رقم 183) عن أبي سعيد. (¬2) في المطبوع: "أو على". (¬3) في (ق): "هذا"، وقال في الهامش: "لعله: ضد". وبدل ما بين المعقوفتين في (ك): "هذا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[أصحاب مثلي السراب والظلمات]

وظلمة الموج وظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه اللَّه منها إلى نور الإيمان، وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهما (¬1) الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين اللذين ضربهما اللَّه للمنافقين والمؤمنين، وهما (¬2) المثل المائي والمثل الناري، وجعل حظَّ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة؛ فكذلك الكفار في هذين المثلين، حظُهم من الماء السراب الذي يغُرّ الناظر ولا حقيقة له، وحظهم (¬3) الظلمات المتراكمة، وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي؛ فيكون المثلان (¬4) صفتين لموصوف واحد؛ ويجوز (¬5) أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف، فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعَمُوا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا (¬6) حال المغضوب عليه، والأول (¬7) حال الضالين؛ وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله [تعالى] (8): {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [الْمِصْبَاحُ]} (¬8) إلى قوله: [{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}] (¬9) [النور:30، 38] فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة: المُنْعَم عليهم وهم أهل النور، والضالين وهم أصحاب السراب، والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة، واللَّه أعلم. [أصحاب مثلي السراب والظلمات] فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع، والمثل الثاني لأصحاب [العلوم والنظر والأبحاث الذي لا ينفع (¬10)، فأولئك أصحاب ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ق): "وهو". (¬2) في المطبوع: "وهو". (¬3) في (ق) بعدها: "من النور". (¬4) في (ق) و (ك): "المثل". (¬5) في (ق): "ويحتمل". (¬6) في (ف): "فهذه". (¬7) في (ق): "عليهم والأولى". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) بدلها في (ق): " {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ". (¬10) في (ق): "تنفع".

العمل الباطل، وهؤلاء أصحاب] (¬1) العلم (¬2) الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مَثَّل حال الفريق الثاني في (¬3) تلاطم أمواج [لشكوك و] (¬4) الشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشُّبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سُحُبُ الغَي والهوى والباطل، فليتدبر اللبيبُ أحوال الفريقين، وليطابق بينهما وبين المثلين، يعرف عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد. وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورًا، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور؛ [فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور] (¬5)، وفي "المسند" من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه خَلَقَ خَلْقَه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه [من] (5) ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ" (¬6) فلذلك أقول: جَفَّ القلم على علم اللَّه، فاللَّه [سبحانه] (4) خلق الخلق في ظلمة، فمن أراد هدايته جعل له نورًا وجوديًا يُحيي به قلبه وروحه، كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه، فهما حياتان: حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور، ولهذا سَمّى سبحانه الوحي روحًا لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، [وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) في (ق): "العمل" وأشار إلى أنه في نسخة "الباطل". (¬3) في (ق): "و". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من "ق". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) رواه أحمد (2/ 176 و 197) والطيالسي (57 - المنحة أو رقم 291)، والترمذي (2642) في (الإيمان): باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، وابن أبي عاصم (241 و 242 و 243 و 244)، والآجري في "الشريعة" (ص 175 ط الفقي أو 2/ 757 رقم 337، 338 - ط الدميج)، وابن حبان (6169 و 6170)، واللالكائي (1077 و 1079)، والحاكم (1/ 30) والفريابي في "القدر" (رقم 66، 67، 68، 69، 70، 71) وابن بطة في "الإبانة" (2/ 134 رقم 135)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1/ 203 رقم 229)، و"السنن الكبرى" (9/ 4) من طرق عن عبد اللَّه بن الديلمي، عن عبد اللَّه بن عمرو، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي (7/ 193 - 194): ورجال أحد إسنادي أحمد ثقات. ورواه البزار (2145) من طريق يحيى بن أبي عمرو السيباني، عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو. ووقع في (ك) و (ق): "عبد اللَّه بن عمر".

فصل [تمثيل الكفار بالأنعام]

يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]] (¬1)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا]} (¬2) [الشورى: 52]؛ فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحيه بهذا (¬3) الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نورًا فهو في الظلمات ما له من نور (¬4). فصل [تمثيل الكفار بالأنعام] ومنها قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]؛ فشَبَّه أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له، وجعل الأكثرين أضل سبيلًا من الأنعام؛ لأن البهيمة يهديها سائقُها فتهتدي وتتبع الطَّريقَ، فلا تحيد عنها يمينًا ولا شمالًا، والأكثرون يدعوهم الرسلُ (¬5) ويهدونهم السَّبيلَ فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرُّهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تُفَرِّق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره، واللَّه تعالى لم يخلق للأنعام قلوبًا تعقل بها، ولا ألسنةً تنطق بها، وأعطى اللَّه ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار، فهم أضلُّ من البهائم، فإنَّ من لا يهتدي (¬6) إلى الرُّشْدِ وإلى الطريق -مع الدليل إليه- أضلُّ وأسوأ حالًا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه. فصل [ضرب لكم مثلًا من أنفسكم] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية". (¬3) في (ك): "هذه". (¬4) أسهب ابن القيم -رحمه اللَّه- في تفسير هذه الآيات هنا، وكذلك في كتابه الفذ "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 6 - 12) فراجعه؛ وانظر له -أيضًا- "الجواب الكافي" (ص 269)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 59). ووقع في (ق): " {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا} ". (¬5) في (ن) و (ق) و (ك): "يدعونهم الرسل". (¬6) في (ق): "فإن من لم يهتد".

مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ] (¬1) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} [الروم: 28]، وهذا دليل قياس (¬2) احتج اللَّه سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عَبيده ومُلْكه شركاء، فأقام عليهم حُجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا (¬3) يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحِجَاج أن يُؤخذ (¬4) الإنسان من نفسه، ويُحتج عليه بما هو في نفسه، مُقَرَّرٌ عندها، معلومٌ لها، فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائِكم شُركاءَ في المال والأهل؟ أي: هل يُشارككم عَبيدُكُم في أَموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم، كما يخافُ الشَّريكُ شَريكَه؟ وقال (¬5) ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضُكم بعضًا (¬6)، والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبدُه شَريكَه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو (¬7) يخاف أن ينفرد في ماله بأمرٍ يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشُّركاءِ الأَحرار؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلًا في فطركم وعقولكم -مع أنه جائز عليكم ممن في حقكم؛ إذ ليس عبيدكم ملكًا لكم حقيقة، وإنما هم إخوانكم جعلهم اللَّه تحت أيديكم، وأنتم وهم عبيد لي (¬8) - فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي، مع أنّ مَنْ جعلتموهم (¬9) لي شُركاءَ عَبيدي ومُلْكي وخَلْقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول (¬10). ¬

_ (¬1) بدلها في (ق): "إلى قوله". (¬2) في (ق): "دليل قياسي" وسقطت لفظة "سبحانه" من (ق). (¬3) في (ك) و (ق): "ولا". (¬4) في المطبوع و (ك): "يأخذ". (¬5) في (ق): "قال". (¬6) أخرجه الطبري في "التفسير" (21/ 39)، قال: حُدِّثْتُ عن حجاج عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وفيه راو مبهم. ولم يعزه في "الدر المنثور" (6/ 492) إلا لابن جرير. (¬7) في (ق): "فهل". (¬8) في (ك): "عبيدي". (¬9) في (ق): "جعلتموه". (¬10) انظر تفسير ابن القيم -رحمه اللَّه- لهذه الآيات -أيضًا- في "الجواب الكافي" (ص 207)، و"مدارج السالكين" (1/ 240).

فصل [مثل من قياس العكس (التمثيل بالعبد المملوك)]

فصل [مثل من قياس العكس (التمثيل بالعبد المملوك)] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ] (¬1) وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 75، 76] (¬2) هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس، وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه، فإن القياس نوعان: قياس طرد يقتضي إثباتَ الحكم في الفرع لثبوت علَّة الأصل فيه؛ وقياس عكس يقتضي نفيَ الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه؛ فالمثل الأول [ما] (¬3) ضربه اللَّه سبحانه لنفسه وللأوثان، فاللَّه سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرًا وجهرًا وليلًا ونهارًا، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحَّاء (¬4) الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها [شركاء لي] (¬5) وتعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ وهذا قول مجاهد وغيره (¬6)؛ وقال ابن عباس: هو مثل ضربه اللَّه للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده [بمن] (¬7) رزقه منه رزقًا حسنًا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرًا وجهرًا، والكافر بمنزلة عبد مملوك [عاجز] (¬8) لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ (¬9) والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه (¬10) ¬

_ (¬1) في (ق) بدلها: "إلى قوله". (¬2) انظر تفسيره لهذه الآيات من سورة النحل في "الصواعق المرسلة" (3/ 1030 - 1036)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 410، 413 - 414). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) "السَّحُّ": الصب والسيلان من فوق (ط). (¬5) في (ق): "شركائي". (¬6) انظر: "تفسير الطبري" (14/ 151)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (7/ 2293)، "والدر المنثور" (5/ 149 - 151). (¬7) في المطبوع و (ك): "ثم". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) عند الطبري (14/ 149) كلام لابن عباس غير هذا، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (7/ 2292، 2293)، و"الدر المنثور" (5/ 149). (¬10) في (ق): "لأنه".

فصل [مثل ضربه الله لنفسه]

أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبًا بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] (¬1)} [النحل: 73، 74]؛ ثم قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحِّد كمن رزقه منه رزقًا حسنًا، و [الكافر] (¬2) المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا مما نَبَّه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس مُنَبِّهًا [به] (¬3) على إرادته لا (¬4) أن الآية اختصَّت [به] (1)، فتأمله فإنك تجده كثيرًا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن، فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله (¬5). فصل [مثل ضَرَبَه اللَّه لنفسه] وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه اللَّه [سبحانه وتعالى] لنفسه ولما يُعبد (¬6) من دونه أيضًا، فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب [واللسان] (¬7)، قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتّة، ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة، واللَّه سبحانه حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد، فإن أمره بالعدل -وهو الحق- يتضمن أنه سبحانه عالم به، مُعلِّم به (¬8)، راض به، آمرٌ لعباده به، محبٌّ لأهله، لا يأمر بسواه، [بل تنزَّه عن ضدِّه الذي هو الجور والظلم والسّفه والباطل، بل أمره] (¬9) وشرعه عدلٌ كله، وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور (¬10)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) سقطت من المطبوع. (¬4) في (ك): "لأن". (¬5) انظر في هذا "الموافقات" (3/ 514) للشاطبي. (¬6) في (ن): "يعبدون". وفي (ك): "يعبدون هم". وما بين المعقوفتين قبلها سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "له". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) يشير المصنف إلى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن المقسطين عند اللَّه عز وجل على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا". =

[إن ربي على صراط مستقيم]

وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح: "اللهم إني عبدك [ابنُ عبدك] (¬1) ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عَدْلٌ فيَّ قضاؤك" (¬2) فقضاؤه هو أمره الكوني، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، فلا يأمر إلا بحق وعدل، وقضاؤه وقدره (¬3) القائم به حق وعدل، وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر. [إنَّ ربي على صراط مستقيم] ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم، وهذا نظير قول رسوله هود (¬4): {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]؛ فقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله: "ناصيتي بيدك" (2) وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، نظير قوله: "عدل فيَّ قضاؤك" (2)؛ فالأول ملكه، والثاني حمده، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وكونه [سبحانه] (¬5) على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا ¬

_ = أخرجه مسلم في "صحيحه" (رقم 1827) عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا، وخرجته بنفصيل في تعليقي على "فضيلة العادلين" (رقم 20) لأبي نعيم الأصبهاني. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 391 و 452)، وأبو يعلى (5297)، والطبراني في "الكبير" (10352)، وابن حبان (972)، والحاكم في "مستدركه" (1/ 509) من طريق فضيل بن مرزوق، أخبرنا أبو سلمة الجهني عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه عن ابن مسعود به. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، إنْ سلم من إرسال عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن أبيه، فإنه مختلف في سماعه من أبيه". قلت: سماعه من أبيه أثبته غير واحد من الأئمة، منهم سفيان الثوري وابن معين والبخاري وأبو حاتم. وقد وقع خلاف في أبي سلمة هذا، حقق أمره شيخنا محمد ناصر الدين الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (199) فراجعه فإنه هام. ورواه البزار (3122)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (342) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود. وفيه عبد الرحمن بن إسحاق وهو الواسطي، وهو ضعيف ثم هو منقطع. (¬3) في (ق): "وقدره وقضاؤه". (¬4) في المطبوع: "شعيب"!. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة [ورحمة] (¬1) وحكمة وعدل؛ فهو على الحق في أقواله وأفعاله؛ فلا يقضي على العبد بما يكون ظالمًا له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئًا، ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب (¬2) إليها شيئًا، ولا يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يُحمد عليه، ويُثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة، والغايات المطلوبة، فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله. قال محمد بن جرير الطبري (¬3): وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على طريق الحق، يُجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام له، والإيمان به. ثم حكى عن مجاهد من طريق شِبْل [عن] (¬4) ابن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: الحق (¬5)، وكذلك رواه ابن جُرَيْج عنه. وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، وهذا اختلاف عبارة، فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن ربي يحثُّكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه؛ وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا، ولا دليل على هذا المُقدَّر، وقد فَرَّق [اللَّه] (¬6) سبحانه بين كونه آمرًا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم؛ وإن أرادوا أن حَثّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا. وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مَردَّ العباد والأمور كلها إلى اللَّه لا يفوته شيء منها، وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك، وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ق). (¬2) في (ك): "ينسب". (¬3) في "التفسير" (12/ 60). (¬4) زيادة "عن" من تفسير الطبري (و). وهي في (ق). (¬5) رواه الطبري (12/ 61) من طرق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، وهو في "تفسير مجاهد" (1/ 305). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

فصل

وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته، وهذا وإن كان حقًا فليس هو معنى الآية، وقد فَرَّق [عليه السلام] (¬1) بين قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهما معنيان مستقلان. فالقول قول مجاهد: وهو قول أئمة التفسير (¬2)، ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه؛ وقال (¬3) جرير يمدح عمر بن عبد العزيز: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجَّ الموارد مستقيم (¬4) وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 36]. وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط [المستقيم] (¬5) في أقوالهم وأفعالهم؛ فهو [سبحانه] (5) أحق بأن (¬6) يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله، [وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره؛ فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله] (¬7)، وباللَّه التوفيق. فصل وفي الآية قولٌ ثان مثل الآية الأولى، سواء أنه مثل ضربه اللَّه للمؤمن والكافر، وقد تقدم ما في هذا القول، (وباللَّه التوفيق) (¬8). فصل [في تشبيه من أعرض عن كلام اللَّه وتدبره] ومنها قوله تعالى في تشبيه مَنْ أعرض عن كلامه وتدبُّره: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "شعيب"، وفي (ك): "وقد فرق. . . عليه السلام" وفي الهامش: "لعله هود". (¬2) في (ك): "المفسرين". (¬3) في (ق): "قال". (¬4) هو في "ديوان جرير" (1/ 218) شرح محمد بن حبيب، من قصيدة يمدح بها هشام بن عبد الملك، وليس عمر بن عبد العزيز!. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "أن". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ك) و (ق): "واللَّه الموفق" ووقف في (ق): "قول ثاني".

فصل [مثل الذي حمل الكتاب ولم يعمل به]

مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51]، شبَّههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن [بحُمر رأت الأسدَ أو الرماة] (¬1) فَفرَّت منه، وهذا من بديع القياس التمثيلي (¬2)، فإن القوم في جهلهم بما بعث اللَّه به رسوله كالحُمُر، وهي لا تعقل شيئًا، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها، وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة؛ فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضًا وحضه على النفور، فإن في (الاستفعال) من الطلب قدرًا زائدًا على الفعل المجرد، فكأنها تواصت بالنفور، وتواطأت عليه، ومن قرأها بفتَح الفاء (¬3)، فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته. فصل [مثل الذي حُمِّل الكتاب ولم يعمل به] ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] (¬4)} [الجمعة: 5]؛ فقاس من حَمَّلَه [سبحانه] (¬5) كتابَهُ ليؤمنَ به ويتَدَبَّره ويعملَ به ويدعُوَ إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظَهْر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تَفهُّم ولا اتباع له ولا تحكيم له (¬6) وعمل بموجَبه، كحمارٍ على ظهره زَامِلَةُ أسفارٍ لا يدري ما فيها، وحَظُّه منها حملها على ظهره ليس إلا؛ فحظُّه من كتاب اللَّه كحظِّ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره؛ فهذا المثلُ وإنْ كان قد ضُرِبَ لليهود فهو مُتناوِل من حيث المعنى لمن حَمل القرآن فترك العَمَل به، ولم يؤدِّ حقه، ولم يَرْعَه حقَّ رعايته (¬7). ¬

_ (¬1) في (ق): "بالحمر إذا رأيت الأسد والرماة". (¬2) في المطبوع: "القياس والتمثيل" وفي (ق): "من باب القياس الئمثيلي". (¬3) "أي على صيغة اسم المفعول" (ط). (¬4) في (ق) بدلها: "الآية". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "وتحكيم له". (¬7) انظر تفسير ابن القيم لهذه الآيات في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 16)، و"هداية الحيارى" (ص 286 - 287).

فصل [مثل من انسلخ من آيات الله]

فصل [مثل من انسلخ من آيات اللَّه] ومنها: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) [وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ] (¬1) يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف: 175، 176] (¬2) فشبه سبحانه من آتاه كتابَهُ وعَلّمه العلم (¬3) الذي [منعه] (¬4) غيرَه، فترك العملَ به، واتَّبع هواه، [وآثر سَخَطَ اللَّه على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوقَ على الخالق] (¬5) بالكلب الذي هو من أخْبَث الحيوانات، وأوضَعها قَدْرًا، وأخَسِّها (¬6) نفسًا، وهمتُه لا تتعدَّى بطنه، وأشدها شرهًا (¬7) وحرصًا، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمَّمُ ويستروح (¬8) حِرْصًا وشرهًا، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاءه، وإذا رميت إليه بحَجَر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته (¬9) وهو من أمهَنِ الحيوانات، وأحملها للهَوَان، وأرضاها بالدنايا، والجِيَفُ القذرة المُروحَة (¬10) أحبُّ إليه من اللحم الطري، والعذرة أحبُّ إليه من الحلوى (¬11)، وإذا ظفر بميتة تكفي مئة كلب لم يَدع كلبًا واحدًا (¬12) يتناول [معه] (13) [منها شيئًا] (¬13) ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬2) انظر: "تفسير الطبري" (9/ 128)؛ فقد ذكر هناك أكثر الأقوال الواردة هنا. (¬3) في (ق) و (ك): "وعلمه العظيم". (¬4) في (و): "منه" ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في (ك) و (ق): "وأخبثها". (¬7) في (ن): "شرًا"، والصواب ما أثبتناه. والشَّرَه: أسوأ الحرص، وهو غلبة الحرص، كذا في "لسان العرب" (13/ 506 - دار الفكر). (¬8) في (ن): "ويروح"، وفي (ق): "ويتروح". (¬9) قال (ح): "النهم" -بالتحريك-: إفراط الشهوة في الطعام، و"النهمة": بلوغ الهمة والشهوة في الشيء. اهـ. وقال (د): "نهمته: شهوته البالغة إلى الطعام" ونحوه في (ط). (¬10) "راح الشيء، وأروح": أنتن، (و)، نحوه باختصار في (ط). (¬11) في (ن) و (ق): "الحلو". (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[سر بديع في تشبيه من آثر الدنيا بالكلب]

إلا هَرَّ عليه (¬1) [وقهره] (¬2)، لحرصه وبخله وشَرَهه، ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دَنيَّة وحال رزِية نَبَحه وحَمَل عليه، كأنّه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته، وإذا رأى ذا هَيْئة حَسَنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض، وخَضَع له، ولم يرفع إليه رأسه. [سر بديع في تشبيه من آثر الدنيا بالكلب] وفي (¬3) تشبيه من آثر الدنيا وعاجِلَها على اللَّه والدار الآخرة -مع وفور علمه- بالكلب في حال لهفه (¬4) سرٌّ بديع، وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره اللَّه من انسلاخه من آياته واتباعه هواه؛ إنَّما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن اللَّه والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم (¬5) في حال إزعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخَوَان (¬6) في اللفظ والمعنى، قال ابن جُريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، [إن تحمل عليه يلهث أو (¬7) تتركه يلهث، فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له] (¬8) إنما فؤاده منقطع (¬9). قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنّه ليس له فؤاد يَحْمله على الصبر وترك اللهث؛ وهكذا الذي انسلخ من آيات اللَّه، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها، فهذا يلهف على الدنيا من قلِّة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرًا عن الماء، وإذا عطش أكلَ الثرى من العطش، وإنْ كان فيه صبر على (¬10) الجوع؛ وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثًا، يلهث قائمًا وقاعدًا وماشيًا [وواقفًا] (¬11)، وذلك لشِّدة حرصه؛ فحرارة الحرص في كبِدِه [توجب له دوامَ اللهث] (8)، فهكذا مُشَبَّههُ شدة الحرص ¬

_ (¬1) قال (د): "هر عليه": نبحه، وفي (ط): "صَوّت عليه، وهو صوت دون النباح". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وفي (ك): "ونهره". وفي بعض النسخ: "شيئًا إلا عن غلبةٍ وقهر". (¬3) في (ن): "وفيه"!. (¬4) في المطبوع: "لهثه". (¬5) في (ن): "القائم". (¬6) في (ق): "وأخوان" وبياض على قدر حرف (و). (¬7) في (ن): "وإن". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) رواه الطبري (9/ 129) بعد أن روى من طريق ابن جريج عن مجاهد، قال: قال ابن جريج. (¬10) في (ق): "عن". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك).

وحرارة الشهوة (¬1) في قلبه توجب له دوام اللهف، فإن حملتَ عليه بالموْعِظة (¬2) والنصيحة فهو يلهف، [وإنْ تركته ولم تعظه فهو يلهف]، (¬3) قال مجاهد: وذلك مثل (¬4) الذي أُوتي الكتاب ولم يعمل به (¬5)، وقال ابن عباس: إنْ تحملْ عليه الحكمةَ لم يحملها، وإنْ تركته لم يهتد إلى خير، كالكلب إنْ كان رابضًا لهث، وإنْ طرد لهث (¬6)، وقال الحسن: "هو المنافق لا يثبت على الحق، دُعِيَ أو لم يُدْعَ، وُعِظَ أو لم يوعَظْ، كالكلب يلهث طُرِدَ أو ترك (¬7) " وقال عطاء: ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه، وقال أبو محمد بن قتيبة: "كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عَطَش [أو علة] (¬8) [إلا] (¬9) الكلب فإنه يلهث في حال الكَلال (¬10) وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض [وحال الريّ] (¬11) والعطش. فضربه اللَّه مثلًا لمن كذب بآياته، وقال (¬12): إنْ وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب إنْ طردته [وزجرته، فسعى] لهث وإن تركته على حاله لهث، ونظيره قوله [سبحانه] (¬13): {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ ¬

_ (¬1) في (ق): "فهكذا مشبهه لشدة حرارة الشهوة" وفي (ك): "فهكذا أشبهه لشدة حرارة الشهوة". (¬2) في المطبوع: "الموعظة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ن) و (ق) و (ك): "مثال". (¬5) أخرجه الطبري في "التفسير" (9/ 128 - 129)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ 1620 - 1621 رقم 8570) من طريقين عن مجاهد قال: هو مثل الذي يقرأ القرآن، ولا يعمل به. وانظر "تفسير مجاهد" (1/ 251)، وعزاه في "الدر المنثور" (3/ 116) لعبد بن حميد وابن المنذر وأبي الشيخ. (¬6) أخرجه الطبري في "التفسير" (9/ 129)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ 1620 رقم 8569) من طريق علي بن أبي طلحة عنه، وعلي لم يسمع من ابن عباس بينهما مجاهد أو عكرمة أو سعيد بن جبير، وانظر "صحيفة علي بن أبي طلحة" (رقم 509)، وعزاه في "الدر المنثور" (3/ 608) لابن المنذر أيضًا. وفي (ك): "وأن طردته لهث". (¬7) في "تفسير الطبري" (9/ 129): "كان الحسن يقول: هو المنافق". (¬8) ما بين المعقوفتين من "تأويل مشكل القرآن" (ص 369) لابن قتيبة. (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في "تأويل مشكل القرآن": "خلا". (¬10) في (ك) و (ق): "الضلال" وقال في هامش (ق): "لعله: الكلال". (¬11) ما بين المعقوفتين ليس في "المشكل" ولا في (ك) ولا في (ق). (¬12) زاد في (ك) بعدها: "ابن عطية"!! وهو خطأ، فالكلام ما زال لابن قتيبة. (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[إيتاؤه الآيات والانسلاخ]

أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} " (¬1) [الأعراف: 193]. [إيتاؤه الآيات والانسلاخ] وتأمَّل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني (¬2): فمنها قوله: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فاخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة، واللَّه هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يُسْلَخ عن اللحم، ولم يقل: فسلخناه منها، لأنه هو الذي تسبِّبَ إلى انسلاخه [منها] (¬3) باتّباع هواه، ومنها قوله [سبحانه] (¬4): {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: لحقه وأدركه؛ كما قال [تعالى في فرعون و] (¬5) قوم فرعون: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]، وكان (¬6) محفوظًا محروسًا بآيات اللَّه، مَحْمِي الجانب بها من الشيطان، لا ينال منه شيئًا إلا على غِرَّة [وخطفة] (3)، فلما انسلخ من آيات اللَّه ظفر به الشيطان ظَفْرَ الأسدِ بفريسته، فكان من الغاوين العاملين بخلاف عِلْمِهم (¬7)، الذين يعرفون الحقَّ، ويعملون بخلافه، كعلماء السوء. [رفعناه بها] ومنها: أنه [سبحانه] (4) قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فأخبر سبحانه أن الرِّفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقَصْدِ مرضاة اللَّه، فإنَّ هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه اللَّه بعلمه ولم ينفعه به، فنعوذُ باللَّه من علم لا ينفع، وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا ¬

_ (¬1) انظر: "تأويل مشكل القرآن" (ص 369) لابن قتيبة. ونقله عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 197)، والدميري في "حياة الحيوان الكبرى" (2/ 310) وما بين المعقوفتين قبلها سقط من (ق). (¬2) في المطبوع و (ك): "والمعنى". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "في"، وسقط "قوم فرعون" من (ك) ووقع في (ق): "في فرعون وقومه". ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "وحفظه" وفوقها "كذا". (¬6) في (ق): "فكان". (¬7) في ط الجيل: "خلاف الذين علَّمهم".

[أخلد إلى الأرض]

شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه اللَّه فهو موضوع لا يرفع أحدٌ به رأسًا (¬1)، فإنَّ (1) الخافضَ الرافعَ سبحانَه (¬2) خَفَضَه ولم يرفعه (¬3)، والمعنى: لو (¬4) شئنا فصَّلناه وشَرَّفْنَاه ورفَعْنَا قَدْرَه ومنزلته بالآيات التي آتيناه، قال ابن عباس: ولو شئنا لرفعناه بعلمه بها (¬5)، وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنَاهُ} عائد على الكفر، والمَعْنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكُفْرَ بما مَعَه من آياتنا، قال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعَصْمناه (¬6)؛ وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية، وهذا من لوازم المراد، وقد تقدم أن السلف كثيرًا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظَّانُّ أن ذلك هو المراد منها. [أخلد إلى الأرض] وقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} قال سعيد بن جبير: ركَن إلى الأرض (¬7) وقال مجاهد: سكن (¬8)، وقال مقاتل: رَضي بالدنيا وقال أبو عبيدة: لزمها وأَبطأ، والمخلد (¬9) من الرجال هو: الذي يُبْطئ (¬10) مشيته، ومن الدواب: ¬

_ (¬1) في (ق): "رأسه" ووقع بعدها: "فإن اللَّه الخافض". (¬2) في (ق): "فاللَّه". (¬3) انظر لفتة بديعة للمصنف في شرح حديث "إن حقًا على اللَّه ما ارتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" يفصِّل فيه هذا المعنى في كتابه "الفروسية" (ص 90 - 91 - بتحقيقي). (¬4) في (ق): "ولو". (¬5) أخرجه الطبري في "التفسير" (6/ 127) عن ابن جُريج قال ابن عباس: "لرفعه اللَّه بعلمه" وابن جريج لم يدرك ابن عباس بينهما مفاوز، وعزاه في "الدر المنثور" (3/ 610) لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، ووقع في المطبوع: "لرفعناه بعمله بها"، واستظهره في هامش (ق). (¬6) الذي وجدته عن مجاهد في "جامع البيان " (6/ 127)، وفي "الدر المنثور" (3/ 610) قال: "لرفعنا عنه بها". (¬7) أخرجه الطبري في "جامع البيان" (6/ 127)، من طريق سفيان بن وكيع عن أبيه عن إسرائيل عن أبي الهيثم عن سعيد، وسفيان ضعيف، ورواه ابن جرير (6/ 127)، وابن أبي حاتم (5/ 1619 رقم 8560) من طريق شريك عن سالم عن سعيد، وشريك هو "القاضي سيء الحفظ، وعزاه في "الدر المنثور" (3/ 611) لعبد بن حميد أيضًا. (¬8) أخرجه الطبري في "جامع البيان" (6/ 127) من طريق عيسى عن ابن أبي نجيح عنه، ووقع في (ن): "ركن" بدل: "سكن". (¬9) في (ك) و (ق): "وأما المخلد"، وقال في هامش (ق): "لعله لأن. . . ". (¬10) في (ق): "تبطئ".

[اتبع هواه]

التي (¬1) تبقى ثناياه إلى أن تخرج رَبَاعيته (¬2)، وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء (¬3)، ويقال: أخلد فلان بالمكان: إذا أقام به، قال مالك بن نُوَيْرَة (¬4): بأبناء حَيٍّ من قَبائِلِ مالكٍ ... وَعَمرو بْنِ يَرْبُوع أقاموا فأخْلَدُوا (¬5) قلت: ومنه قوله [تعالى] (¬6): {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17]؛ أي قد خلقوا للبقاء؛ [لذلك] (¬7) لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد [أبدًا] (7)، وقيل: هم المقَرَّطُون في آذانهم والمسَوَّرُون في أيديهم، وأصحاب هذا القول فسَّرُوا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد (¬8) على ذلك السن، فلا تنافي بين القولين. [اتبع هواه] وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال الكلبي: اتبع مسافلَ الأمور وترك مَعَاليها، وقال أبو روق (¬9): اختار الدنيا على الآخرة، وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه، ¬

_ (¬1) في (ق): "الذي". (¬2) انظر: "مجاز القرآن" (1/ 233) لأبي عبيدة، ففيه نحوه. (¬3) قول الزجاج في "معاني القرآن وإعرابه" (2/ 391): "ومعناه: ولكنه سكن إلى الدنيا، يقال: أخلد فلان إلى كذا وكذا، وخلد إلى كذا وكذا، وأخلد أكثر في اللغة، والمعنى أنه سكن إلى لذات الأرض"، ونقله عنه ابن الجوزي في "زاد المسير" (3/ 197). وفي (ق) و (ك): "تخلَّد وأخلد" ووقع بعدها "ويقال". (¬4) في (ق) زيادة كلمة "شعرًا". (¬5) البيت لمالك بن نويرة من قصيدة عدتها 26 بيتًا في "الأصمعيات" (1/ 25) وقبله في أولها: إلَّا أَكُنْ لاقَيْتُ يَوْمَ مُخَطِطٍ ... فَقَدْ خَبَّرَ الرُكْبانُ ما أَتَوَدَّدُ أَتانِي بِنَقْرِ الخُبْرِ ما قَدْ لَقِيتُهُ ... رَزِينٌ وَرَكْبٌ حَوْلَهُ مُتَصَعِّدُ يُهِلُّونَ عُمّارًا إذا مَا تَغَوَّرُوا ... وَلاقَوْا قُرَيْشًا خَبَّرُوهَا فَأَنْجَدُوا والشاهد في قوله: "فأخلدوا" أي: أقاموا، كالشاهد قبله". ووقع في (ق) و (ك): "وأخلدوا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وفي (ق) و (ك): "كذلك". (¬8) في (ق) و (ك): "وذلك إشارة إلى الخليد". (¬9) هو الإمام المحدث المفسر عطية بن الحارث (ت 105 هـ)، روى عن الضحاك بن مزاحم، وعكرمة وغيرهما، وروى له أصحاب السنن الأربعة، عدا الترمذي، انظر =

[تفسير الاستدلال في الآية]

وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم (¬1)، يعني: الذين حاربوا موسى وقومه، وقال يمان: اتبع امرأته (¬2) لأنها هي التي حملته على ما فعل. [تفسير الاستدلال في الآية] فإن قيل: لكن للاستدراك؛ فيقتضي أن يثبت بعدها نفي ما قبلها، أو نفي ما أثبت (¬3)، كما تقول: لو شئت لأعطيته لكنِّي لم أُعطِه، ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته؛ فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها [ولكنَّا لم نشأ أو لم نرفع، فكيف استدرك بقوله] (¬4): {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بعد قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}؟ قيل: هذا من الكلام الملحوظِ فيه جانب المعنى المعدولِ فيه عن مُرَاعاة الألفاظ إلى المعاني، وذلك أن مضمون قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أنه لم يَتَعَاط الأسباب التي تقتضي رَفْعَه (¬5) بالآيات من إيثار اللَّه ومَرْضَاته على هَوَاه، ولكنه آثَرَ الدنيا وأخلد إلى الأرض واتَّبَعَ هواه. وقال الزمخشري: "المعنى ولو لَزِمَ [العمل بالآيات ولم ينسلخ منها] (¬6) لرفعناه بها، [وذلك أن مشيئة اللَّه تعالى رَفْعه تابعة للزومه الآياتِ، فذُكرت] (¬7) المشيئة والمرادُ ما هي تابعة له ومُسَببة (¬8) عنه، كأنه [قيل: ولو لزمها لرفعناه ¬

_ = ترجمته في: "الطبقات" (6/ 369) لابن سعد، و"تهذيب التهذيب" (7/ 224) لابن حجر العسقلاني. (¬1) انظر: "تفسير الطبري" (6/ 128) و"زاد المسير" (3/ 197)؛ ووقع في المطبوع: "ابن دريد"!!. (¬2) في (ق) و (ك): "وقال هامان مع امرأته"، وقال في الهامش: "في نسخة يمان"، وقال: "كذا من كان هواه". (¬3) في المطبوع و (ك): "فإن قيل: الاستدراك بلكن يقتضي أن يثبت بعدها ما نفي قبلها، أو ينفي ما أثبت". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ن): "رفعته"، ووقع في (ق): "لم يتعاطى". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ق) و (ك): "آياتنا"، ووقع في (ق): "قال الزمخشري". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ق) و (ك): "فذكر". (¬8) في (ك): "ومشيئة" وفي الهامش: "ومسببة".

فصل [مثل من القياس التمثيلي (مثل المغتاب)]

بها] (¬1)، قال: ألا ترى إلى قوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} (¬2) فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون {وَلَوْ شِئْنَا} في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: لو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ" (¬3). فهذا منه شِنْشِنة نعرفها من قَدَرِيٍّ [نافٍ للمشيئة العامة، مُبْعد للنُّجْعة] (¬4) في جعل كلام اللَّه معتزليًا قدريًا، فأين قوله: {وَلَوْ شِئْنَا} من قوله: "ولو لزمها" ثم إذا كان الملزوم لها (¬5) موقوفًا على مشيئة اللَّه وهو الحق بطل أصله، وقوله: "إن مشيئة اللَّه تابعة للزومه الآيات" مِنْ أفْسَدِ الكلام وأبْطَلِهِ، بل لزومُه لآياته تابع (¬6) لمشيئة اللَّه، فمشيئة اللَّه سبحانه متبوعة، لا تابعة، وسبب لا مسبب، وموجبٌ مقتضٍ لا مقتضًى، فما شاء اللَّه وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده (¬7). فصل [مثل من القياس التمثيلي (مثل المغتاب)] منها (¬8) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ] (¬9) إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات: 12]، وهذا من أحسن القياس التمثيلي، فإنه شَبَّه تمزيق عِرْضِ الأخ بتمزيق لحمه، ولما كان المُغْتَابُ يمزق ¬

_ (¬1) ما بين المعفوفتين سقط من (ق) و (ك) وكذلك "كأنه" سقطت من (ق). (¬2) سقط من "الكشاف". (¬3) إلى هنا انتهى كلام الزمخشري من تفسيره: "الكشاف" (2/ 104 - ط دار المعرفة بيروت). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "بأن المشبهة العاملة" ووقع بعدها في (ق): "فإن المشيئة العاملة". (¬5) في المطبوع و (ن): "اللزوم لها"، وقال في الهامش (ن): "لعله: الملزوم لها"، وما بعدها مذكور في (ن) بعد قوله: "وهو الحق"، وفي (ك) و (ق): "الملزوم" دون "لها". (¬6) في (ك): "تابعة". (¬7) انظر تفسير ابن القيم لهذه الآيات بشيء من التفصيل في كتابه القيم "الفوائد" فقد أفاد وأجاد. ولم يتعقب ابن المنيِّر في كتاب "الانتصاف" الزمخشريَّ في هذا الموطن، ولذا فات الدكتور الشيخ صالح الغامدي في كتابه القيم "المسائل الاعتزالية في تفسير الكشاف للزمخشري". (¬8) في (ق): "ومنها". (¬9) بدلها في (ق): "إلى قوله".

فصل [مثل بطلان أعمال الكفار]

عرضَ أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت، ولما كان المغتاب عاجزًا عن دَفْعِه عن نفسه بكونه غائبًا عن ذمِّه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ولما كان مُقْتَضَى الأخوة التراحُمَ والتواصُلَ والتناصر فعلّق عليها المغتاب ضدَّ مقتضاها من الذم والعَيْب والطعن كان ذلك نظيرَ تقطيع لحم (¬1) أخيه، والأخوة تقتضي حِفْظَه وصيانته والذبَّ عنه، ولما كان المغتاب [متمتعًا بعرض أخيه] (¬2) متفكهًا بِغِيبته (¬3) وذمه متحلِّيًا بذلك شُبِّه [بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه، ولمَّا كان المغتاب محبًا لذلك مُعْجَبًا به شُبَّه] (¬4) بمن يُحب أكل لحم أخيه ميتًا، ومحبته لذلك قَدْرٌ زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدرٌ زائد على تمزيقه (¬5). فتأمل هذا التشبيهَ والتمثيلَ وحُسْنَ مَوْقِعه ومُطابقةَ المعقول فيه المحسوس، وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكْلِ لحم الأخ ميتًا، ووصْفهم بذلك في آخر الآية، والإنكار عليهم في أولها أن يُحِبَّ (¬6) أحدهم ذلك، فكَمَا أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟ فاحتجَّ عليهم بما كرهوه على ما أحبوه، وشَبَّه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم، وهو أشدُّ شيء نُفْرَةً عنه؛ فلهذا يوجِبُ العقلُ والفِطْرَة والحكمة أن يكونوا أشدَّ شيء نفرةً عما هو نظيره ومشبهه، وباللَّه التوفيق. فصل [مثل بطلان أعمال الكفار] ومنها قوله [تعالى] (¬7): {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} [إبراهيم: 18]؛ فشبه تعالى (¬8) أعمالَ الكفار في بُطْلانها وعدم الانتفاع بها برمَادٍ مَرَّتْ عليه ريحٌ شديدة في يوم عاصف، فشَبَّه [سبحانه] (¬9) أعمالهم -في حُبُوطها ¬

_ (¬1) في ط الجيل: "تقطيعه للحم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ن): "بعيبه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وبدلها في ط الجيل: "تقطيعه للحم". (¬5) في (ق): "على مجرد تمزيقه". (¬6) في (ق): "أيحب". (¬7) سقطت من (ك). (¬8) في (ق): "سبحانه". (¬9) سقطت من (ق).

[أنواع الأعمال]

وذَهَابها باطلًا كالهَباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكَوْنِها لغير اللَّه [عز وجل] (1) وعلى غير أمره- برمادٍ طَيَّرَتْهُ الريحُ العاصفُ فلا يقدر صاحبُه على شيء منه وقتَ شدة حاجته إليه؛ فلذلك قال: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}، لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثرًا من ثواب ولا فائدة نافعةً، فإن اللَّه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، موافقًا لشَرْعه. [أنواع الأعمال] والأعمالُ أربعة، فواحِدٌ مقبول وثلاثة مردودة؛ فالمقبولُ: الخالصُ الصوابُ، فالخالص أن يكون للَّه لا لغيره، والصواب أن يكون مما شَرعه [اللَّه] (¬1) على لسان رسوله، والثلاثة المردودة ما خالف ذلك. [في تشبيه الأعمال المردودة سرٌّ بديع] وفي تشبيهها [بالرماد سرٌّ بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد] (¬2) في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير مُرَاده طعْمَةً للنار، وبها تسَعَّر النار على أصحابها، ويُنشئُ اللَّه [سبحانه] (1) لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره [ونهيه] (1) التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا ورَوْحًا (¬3)، فأثرَّت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رَمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون اللَّه وقود النار. فصل [مثل الكلمة الطيبة] ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ] (¬4)} [إبراهيم: 24]؛ فشَبَّهَ سبحانه [وتعالى] (1) ¬

_ (¬1) سقطت من (ق). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "برماد". (¬3) في (ك): "وزوجات". (¬4) في (ك) و (ق) إلى قوله: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.

[مفهوم الكلمة الطيبة والأصل الثابت والفرع الذي في السماء]

الكلمةَ الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تُثْمِرُ العملَ الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع. [مفهوم الكلمة الطيبة والأصل الثابت والفرع الذي في السماء] وهذا طاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: "الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا اللَّه"، فإنها تُثْمِر جميعَ الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وكل عمل صالح مَرْضِيٍّ للَّه ثمرة هذه الكلمة، وفي "تفسير علي بن أبي طلحة"، عن ابن عباس قال: "كلمة طيبة: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، كشجرة طيبة وهو المؤمن، أصلها ثابت: قول لا إله إلا اللَّه، في قلب المؤمن، وفرعُها في السماء، يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء" (¬1). وقال الربيع بن أنس: "كلمة طيبة هذا مثل الإيمان؛ فالإيمان (¬2): الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفَرْعه في السماء: خشية اللَّه" (¬3) والتشبيه على هذا القول أصَحُّ وأظْهَر وأحسن؛ فإنه سبحانه شَبَّه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتةِ الأصْلِ الباسِقَةِ الفَرْع في السماء علوًا، التي لا تزال تُؤتي ثمرتها كل حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقًا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدةٌ إلى السماء. [أثر التوحيد في عبادة الإنسان وسلوكه وخُلُقه] ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها (¬4)، ومُرَاعاتها حق رعايتها، فمن رَسَخَت هذه الكلمةُ في قلبه بحقيقتها التي هي ¬

_ (¬1) أخرجه الطبري في "التفسير" (13/ 203)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (7/ 2241)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (ص 135 أو 1/ 266 رقم 199 - ط الحاشدي)، والطبراني في "الدعاء" (3/ 1527)، من طريق علي بن طلحة عنه وعلي لم يسمع من ابن عباس أخذ من مجاهد أو عكرمة أو سعيد بن جبير عنه، وله عنه "صحيفة"، وعزاه في "الدر المنثور" (4/ 142) لابن المنذر، وابن مردويه. (¬2) في (ق): "والإيمان". (¬3) أخرجه الطبري في "التفسير" (13/ 203 - 204)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (7/ 2242 رقم 12251)، من طريق أبي جعفر عنه. (¬4) في (ن) و (ك): "بحقها" وفي (ق): "معرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها".

[أثر كلمة التوحيد]

حقيقتها واتَّصَف قلبُه بها وانْصَبَغَ بها بصبغة اللَّه التي لا أحسن صبغةً منها، فعرف حقيقة الإلهيَّة التي يُثْبتها (¬1) قلبه للَّه ويَشهد بها (¬2) لسانُه وتُصَدِّقها جوارحه، ونَفَى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى اللَّه، وواطأ قلبُه لسانَه في هذا النفي والإثبات، وانقادتْ جوارحُه لمن شهد (¬3) له بالوحدانية طائعةً سالكةً سبلَ ربه ذُللًا غير ناكبةٍ عنها ولا باغيةٍ سواها بدلًا، كما لا يبتغي القلبُ سوى معبوده الحق بدلًا؛ فلا ريب أنَّ هذه الكلمة مِنْ هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تُؤتي ثمرها (¬4) من العمل الصالح الصاعِدِ [إلى اللَّه كل وقت؛ فهذه] (¬5) الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح الصاعد (¬6) إلى الربِّ [تعالى] (¬7)، وهذه الكلمة الطيبة تُثمرُ كَلِمًا (6) كثيرًا طيِّبًا يقارنه (¬8) عملٌ صالح فيرفعُ العملُ الصَّالحُ الكلمَ الطيب، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]؛ فأخبر سبحانه (¬9) أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تُثْمر لقائلها عملًا صالحًا كل وقت. [أثر كلمة التوحيد] والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمنُ عارفًا بمعناها (¬10) وحقيقتها نفيًا وإثباتًا مُتَّصفًا بموجَبها قائمًا قلبُه ولسانه وجوارحه بشهادته، فهذه الكلمة [الطيبة هي التي رَفَعَتْ هذا العمل] (¬11) من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها مُتَّصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كل وقت. [الشجرة الطيبة] ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح (¬12)، ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه، كما قال محمد بن سعد: ¬

_ (¬1) في (ك): "بينها". (¬2) في (ك) و (ق): "ويشهدها". (¬3) في (ق): "يشهد". (¬4) في المطبوع و (ك): "ثمرتها". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (و): "إلى الرب تعالى، وهذه". (¬6) سقطت من (ك). (¬7) سقطت من (ق). (¬8) في (ق): "كثيرًا طيبًا كلمًا يقارنه عمل". (¬9) في (ق): "تعالى". (¬10) في (ق): "لمعناها". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬12) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب العلم): باب الحياء في العلم (1/ 229/ =

[من المقصود بالمثل؟ وأسرار المثل]

حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} يعني بالشجرة الطيبة المؤمن، ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء، يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض (¬1)، وقال عطية العَوْفي في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرُجُ منه كلامٌ طيب وعمل صالح يصعد إلى اللَّه (¬2)، وقال الربيع بن أنس: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} قال: ذلك المؤمن، ضُرب مثلُه في الإخلاص للَّه وحده وعبادته وَحْدَه لا شريكَ له، أصلها ثابت، قال: أصل عمله ثابت في الأرض، وفرعها في السماء، قال: ذِكرُه في السماء (¬3)، ولا اختلاف (¬4) بين القولين. [من المقصود بالمَثَل؟ وأسرار المَثَل] فإن المقصود (¬5) بالمَثَل المؤمن، والنخلة مُشبَّهةٌ به وهو مُشبَّه بها، وإذا كانت النخلة شجرةً طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك، ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة. [بعض أسرار تشبيه المؤمن بالشجرة] وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علمُ الذي تكلم به وحكمته. ¬

_ = رقم 131)، و (كتاب الأدب): باب ما لا يستحى من الحق للتفقه في الدين، (10/ 523 - 524/ رقم 6122)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب صفات المنافقين): باب مثل المؤمن مثل النخلة، (4/ 2164 - 2165/ رقم 2811)، وأحمد في "المسند" (2/ 31، 61، 115) عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه-. (¬1) أخرجه الطبري في "التفسير" (13/ 204)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (7/ 2242، رقم 12250) بهذا الإسناد، ومحمد بن سعد هذا هو ابن محمد بن الحسن بن عطية العوفي فيكون الإسناد هكذا: محمد يروي عن أبيه سعد بن محمد وسعد يرويه عن عمه الحسن بن الحسن بن عطية العوفي والحسن يرويه عن أبيه الحسن بن عطية والحسن يرويه عن أبيه عطية العوفي وهذا إسناد مسلسل بالضعفاء والمجاهيل!، وعزاه لهما في "الدر المنثور" (4/ 142). (¬2) أخرجه الطبري في "التفسير" (13/ 204) من طريق فضيل بن مرزوق عنه. (¬3) أخرجه الطبري في "التفسير" (13/ 204) من طريق أبي جعفر عنه. (¬4) في (ك) و (ق): "خلاف". (¬5) في المطبوع: "والمقصود" وفي (ك) و (ق): "فالمقصود".

فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق [وساقٍ وفروع] (¬1) وورق وثمر، فكذلك شجرة الإيمان والإسلام؛ ليطابق المُشَبَّه المشبَّه به؛ فعروقها العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعُها الأعمال، وثمرتُها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصِّفات الممدوحة والأخلاق الزكيَّة والسَّمْتِ الصالح والهَدْي والدَّلِّ المرضِيِّ، فيُستدل على غَرْسِ هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور، فإذا كان العلمُ صحيحًا مطابقًا لمعلومه الذي أنزل اللَّه كتابه به، والاعتقادُ مطابقًا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسُلُه، والإخلاصُ قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر، والهدْي والدَّلُّ والسَّمْت مُشَابه لهذه الأصول مناسبة (¬2) لها، عُلِمَ أن شَجرةَ الإيمان في القلب أصلُها ثابت وفرعها في السماء، وإذا كان الأمر بالعكس عُلِم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجْتُثَّتْ من فوق الأرض ما لها من قَرار. ومنها: أن الشجرة لا تَبْقَى حيةً إلا بمادة تَسْقيها وتُنْميها، فإذا قُطِعَ (¬3) عنها السقي أوشَكَ (¬4) أن تيبس، فهكذا شجرة الإسلام في القلب إنْ لم يتعاهَدْهَا صاحبُها بسَقْيِها كلَّ وقت بالعلم النافع (¬5) والعمل الصالح والعَوْد بالتّذكُّرِ على التَّفكُّر والتَّفكُّر على التذَّكُّر، إلا أوشَكَ (4) أن تَيْبس، وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الإيمان يَخْلَقُ في القلب كما يَخْلَقُ الثَّوبُ، فجدِّدُوا إيمانكم" (¬6)، وبالجملة فالغَرْسُ إن لم يتعاهده صاحبه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ك) و (ق): "مناسب". (¬3) في (ن): "انقطع". (¬4) لعلها أوشكت. (¬5) في (ق): "بالتذكير على التفكير والتذكر على التفكر وإلا أوشك أن تيبس". (¬6) رواه الحاكم في "مستدركه" (1/ 4) من طريق ابن وهب: أخبرني عبد الرحمن بن ميسرة عن أبي هانئ الخولاني حميد بن هاني عن أبي عبد الرحمن عن الحبلي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص مرفوعًا، وقال: رواته مصريون ثقاث، ووافقه الذهبي. قال شيخنا في "اللسلة الصحيحة" (1585): "رجاله كلهم رجال مسلم، غير عبد الرحمن بن ميسرة. . . لم يوثقه أحد غير الحاكم كما رأيت، ولكن روى عنه جمع غير ابن وهب، وقال أبو عمر الكندي: كان فقيهًا عفيفًا. فهو حسن الحديث إن شاء اللَّه تعالى"، وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 52)، وقال: "رواه الطبراني في "الكبير"، وإسناده حسن". وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "جددوا إيمانكم، قيل: يا رسول اللَّه! كيف نجدد إيماننا؟ قال: أكثروا من قول لا إله إلا اللَّه". رواه أحمد (2/ 359)، وعبد بن حميد (1422 - "المنتخب")، وابن عدي =

أوشَكَ أن يهلك، ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر اللَّه به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظَّفَها عليهم (¬1)، وجعلها مادةً لسَقْي غراس التوحيد الذي غَرَسَه في قلوبهم. ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى اللَّه [سبحانه] (¬2) العادةَ [أنه] (2) لا بُدَّ أن يُخَالطه دَغَل ونَبْتٌ غريب ليس من جنسه، فإنْ تَعَاهده رَبُّه ونَقَّاه وقَلَعه كمل (¬3) الغرس والزرع، واستوى، وتَمَّ نباتُه، وكان أوْفَرَ لثمرته، وأطيَبَ وأزكى، وإنْ تركه أوشَكَ أن يغلب على الغرس والزرع، ويكون الحكم له، أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة (¬4) ناقصة بحسب كثرته وقلَّته، ومَنْ لم يكن له فِقْهُ نفسٍ في هذا ومعرفة به، فاته (¬5) ربْحٌ كبير (¬6) وهو لا يشعر؛ فالمؤمن دائمًا سعيُه في شيئين: سَقْي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها، [فبسقيها تبقى] (¬7) وتدوم، [وبتنقية ما حولها] (¬8) تكمل (¬9) وتتم، واللَّه المستعان وعليه التُّكْلَان. [ولا حول ولا قوة إلا به] (¬10). فهذا بعض ما تَضَمَّنه هذا المثلُ العظيم الجليل من الأسرار والحِكم، ولعلها ¬

_ = (4/ 1394)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 357) والحاكم (4/ 356)، وابن البناء في "فضل التهليل" (رقم 21) من طريق صدقة بن موسى: حدثنا محمد بن واسع عن شُتير بن نهار عنه به مرفوعًا، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، ورده الذهبي بقوله: "صدقة ضعفوه". أما الهيثمي فقال في "المجمع" (1/ 52): "رواه أحمد وإسناده جيد، وفيه سمير بن نهار، وثقه ابن حبان [4/ 346، 370] "!!! وقال: في موضع آخر (10/ 82) "رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات"!!. وله شاهد آخر من حديث ابن عباس رفعه: "جددوا إيمانكم، يقول: لا إله إلا اللَّه، فإنها تطفئ غضب الرب" أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 277 - 278)، وفي إسناده الحسين بن عبد اللَّه بن حمران، قال أبو نعيم: "فيه ضعف"، وساق له خبرًا باطلًا. (¬1) في المطبوع: "عليها"!! ووقع في (ق) بعدها: "مادة تسقي غراس". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) في (ق): "ونفاه وقلعه محمل". (¬4) في (ن) و (ق): "دميمة" بالدال المهملة. (¬5) في المطبوع: "فإنه يفوته". (¬6) في (ق) و (ك): "كثير". (¬7) في (ق): "لتبقى". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "وتنقية ما حولها". (¬9) في (ق): "وتكمل". (¬10) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).

فصل [مثل الكافر: مثل الكلمة الخبيثة]

قَطْرة من بَحْرٍ بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخبطة (¬1)، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجبُ التوبةَ والاستغفار، وإلا فلو طَهُرَتْ منا القلوب، وصفت الأذهانُ، وزكَتِ النفوسُ، وخَلُصت الأعمالُ، وتجرَّدت الهِمَم للتَلقِّي عن اللَّه ورسوله؛ لشَاهَدْنَا من معاني كلام اللَّه وأسراره وحِكَمه ما تضمحِلُّ عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارفُ الحق، وبهذا تعرف (¬2) قدرَ علوم الصحابة ومعارفهم [رضي اللَّه عنهم] (3)، وأنَّ التفاوت الذي بين علومهم وعلوم مَنْ بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل، واللَّه أعلم حيث يجعل مواقعَ فضله، ومَنْ يختصُّ برحمته. فصل [مثل الكافر: مثل الكلمة الخبيثة] ثم ذكر [سبحانه] (¬3) مثل الكلمة الخبيثة (¬4) فشبَّهها بالشَّجرة الخبيثة التي اجْتُثَّتْ من فوق الأرض [ما لها من قرار] (3)، فلا عِرْقٌ ثابت، ولا فَرعْ عالٍ، ولا ثمرة زاكية، ولا ظل، ولا جَنًى، ولا ساقٌ قائم، ولا عرق في الأرض ثابت، فلا أسفلها مُغْدِق، ولا أعلاها مُوْنِق، ولا جَنَى لها، ولا تعلوا بل تُعْلى. واذا تأمل اللبيبُ [أكثر] (¬5) كلام هذا الخلق في خطابهم وكُتبهم (¬6) وجَدَه كذلك؛ فالخسران [كل الخسران] (¬7) الوقوفُ معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه. قال الضحاك: ضرب اللَّه مثلًا للكافر بشجرة اجْتُثَّتْ من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول: ليس لها أصل ولا فرع، وليس لها ثمرة، ولا فيها منفعة (¬8)، كذلك الكافر ليس يعمل (¬9) خيرًا ولا يقوله، ولا يجعل اللَّه فيه بركة ولا منفعة (¬10). ¬

_ (¬1) كذا في (ق)، وفي سائر النسخ: "المخطئة". (¬2) في (ق): "يعرف". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)} [إبراهيم: 26] (و). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) في (ن) والمطبوع: "وكسبهم". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬8) في (ن): "وليس لها ثمرة طيبة فيها منفعة". (¬9) في المطبوع: "لا يعمل". (¬10) أخرجه الطبري في "تفسيره" (13/ 213)، وقال في أوله: "حُدِّثتُ. . . ".

وقال ابن عباس: ومثلُ كلمةٍ خبيثة -وهي الشرك- كشجرة خبيثة، يعني: الكافر، [قال]: {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان، ولا يقبل اللَّه مع الشرك عملًا (¬1)، فلا يُقبل عملُ المشرك، ولا يصعد إلى اللَّه، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء؛ يقول: ليس له عمل صالح في [الدنيا ولا في الآخرة] (¬2). وقال الربيع بن أنس: مثل الشجرة الخبيثة مثلُ الكافر، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع، [ولا يستقر قولُه ولا عملُه على الأرض] ولا يصعد إلى السماء (¬3). وقال سعيد، عن قتادة في هذه الآية: إن رجلًا لَقِيَ رجلًا من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: لا أعلم لها في الأرض مستقرًا، ولا في السماء مَصْعدًا، إلا أن تلزم عُنُقَ صاحبها حتى يوافي [بها يوم القيامة] (¬4). وقوله: {اجْتُثَّتْ} أي: استُؤْصِلَت من فوق الأرض، ثم أخبر سبحانه عن فضله وعَدْله في الفريقين، أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث، فأخبر أنه يُثَبِّتُ الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحْوَجَ ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة، وأنه يُضِل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت، فأضَلَّ هؤلاء -بعَدْله- لظُلْمهم (¬5)، وثَبَّتَ المؤمنين -بفضله- لإيمانهم. ¬

_ (¬1) كلام ابن عباس إلى هنا أخرجه الطبري في "تفسيره" (13/ 213) قال: حدثني المثنى، قال: ثنا عبد اللَّه بن صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي عن ابن عباس وعلي هو ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس أخذ مجاهد أو عكرمة أو سعيد بن جبير عنه، وما بين المعقوفتين منه. (¬2) من قوله: "فلا يقبل عمل المشرك، إلى هنا أخرجه -أيضًا- الطبري في "التفسير" (13/ 212) قال: حدثني محمد بن سعد: قال: حدثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس. وهو إسناد مسلسل بالضعفاء والمجاهيل كما تقدم. قلت: وبدل ما بين المعقوفتين في (د) و (ح) و (ط): "السماء ولا في الأرض"، وفي (ق) و (ك): "السماء ولا في الآخرة". (¬3) رواه الطبري (13/ 213) من طريق أبي جعفر عنه. وبدل ما بين المعقوفتين في "جامع البيان": "ولا قوله ولا عمله يستقر على الأرض". (¬4) أخرجه الطبري في "جامع البيان" (13/ 213) من طريق سعيد عنه. وبدل ما بين المعقوفتين في (و): "بها القامة"!. (¬5) في (ق): "بظلمهم".

[يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت, وما فيه من أسرار]

[يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت, وما فيه من أسرار] وتحت قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} كنز عظيم مَنْ وُفقَ (¬1) لمظنته وأحْسَنَ استخراجَه واقتناءه وأنفق منه فقد غَنِم، ومن حُرِمَه فقد حُرم، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت اللَّه له طَرْفَةَ عينٍ، فإنْ لم يثبته وإلا زالَتْ سماءُ إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خَلْقه عليه عبده ورسوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وقال [تعالى لأكرم خلقه] (¬2): {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وفي "الصحيحين" من حديث التَّجلِّي (¬3): قال: "وهو يسألهم ويثبِّتُهم" (¬4) وقال تعالى لرسوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]؛ فالخلق (¬5) كلهم قسمان: مُوَفَّق بالتثبيت، ومَخْذُول بترك التثبيت، ومادةُ التثبيتِ أصله ومنشأه من القول الثابت وفعلِ ما أُمِرَ به العبدُ، فبهما يُثبِّتُ اللَّه عبدَه، وكل من كان (¬6) أثبتَ قولًا وأحسنَ فعلًا كان أعظَمَ تثبيتًا؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} [النساء: 66]؛ فأثبتُ الناسِ قلبًا أثبتهم قولًا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب؛ فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبتُ القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت اللَّه بها عباده (¬7) في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ترى الصَّادقَ من أثبت الناس وأشْجَعِهم قلبًا، والكاذبَ مِنْ أمْهَن الناس وأجبنهم (¬8) وأكثرهم تَلَوُّنًا وأقلهم ثباتًا، وأهلُ الفِرَاسة يعرفون صدق الصادق من ثَبَات قلبه وقت الاختبار (¬9)، وشجاعَتِهِ ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "من وقف عليه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) كذا في (ق) وهو الصواب، وفي سائر النسخ: "البجلي". (¬4) أخرجه البخاري (806) في (الأذان) باب فضل السجود، و (6573)، في (الرقاق) باب الصراط جسر جهنم، و (7437) في (التوحيد): باب قول اللَّه تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ}، ومسلم (182) في (الإيمان): بالجامعرفة طريق الرؤية، من حديث أبي هريرة، وفيه التجلي، وليس فيه: "وهو يسألهم ويثبتهم". وعند أحمد (2/ 368) والترمذي (2557) في الحديث نفسه: "وهو يأمرهم ويثبتهم"، وانظر: "تحفة الأشراف" (10/ 233). (¬5) في (ق): "والخلق". (¬6) في (ن): "فكلما كان". (¬7) في المطبوع: "عبده". (¬8) في المطبوع و (ق) و (ك): "وأخبثهم"!! (¬9) في المطبوع: "الإخبار"!

[سؤال القبر والتثبيت فيه]

ومَهَابته، ويعرفون كذبَ الكاذب بضد ذلك؛ ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة. وسئل بعضُهم عن كلام سَمِعَه من مُتكلِّم به، فقال: واللَّه ما فهمتُ منه شيئًا، إلا أني رأيتُ لكلامه صَوْلَةً ليست بصَوْلة مُبْطِل، فما مُنِحَ العبدُ منحةً أفْضَلَ من منحة القول الثابت، ويجد أهلُ القول الثابت ثمرته أحوجَ ما يكونون إليه في قبورهم ويوم مَعَادهم، كما في "صحيح مسلم" من حديث البَرَاء بن عازب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن هذه الآية (¬1) نَزَلت في عذاب القبر (¬2). [سؤال القبر والتثبيت فيه] وقد جاء [هذا] (¬3) مُبيَّنًا في أحاديث صحاح؛ فمنها ما في "المسند" من حديث داود بن أبي هند، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال: "كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنازة، فقال: يا أيها الناس إنّ هذه الأمة تُبْتَلَى (¬4) في قبورها، فإذا الإنسان دُفن وتَفرَّق عنه أصحابه جاءه مَلَكٌ بيده مِطْرَاق فأقعده، فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول له: صدقتَ، فيُفتح له بابٌ إلى النار فيُقال له: هذا منزلك لو كَفَرْتَ بربِّك، فأما إذا آمنتَ فإنَّ اللَّه أبْدَلَكَ به هذا، ثم يُفتح له بابٌ إلى الجنة، فيريد أن ينهض له، فيُقال له: اسْكُنْ، ثم يُفْسَح له في قبره، وأما الكافر والمنافق؛ فيُقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا اهْتَدَيْتَ، ثم يُفتح له بابٌ إلى الجنة، فيُقال له: هذا منزلك لو آمَنْتَ بربك، فأما إذا كفرتَ، فإن اللَّه أبدلك به هذا، ثم يُفتح له بابٌ إلى النار، ثم يقمعه المَلَكُ بالمطراق قمعةً يسمعه خلقُ اللَّه كلهم إلا الثقلين، قال (¬5) بعض أصحابه: يا رسول اللَّه، ما مِنَّا من أحد يقوم على رأسه مَلَكٌ بيده مِطْرَاق إلا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الآيات"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬2) هو في "صحيح مسلم" (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها): باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، (5/ 722 - 723/ 2871)، وراجع "صحيح البخاري" (كتاب الجنائز): باب ما جاء في عذاب القبر، (3/ 274). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ك): "تفتن". (¬5) في (ق): "قال قال" بالتكرار.

هِيلَ (¬1) عند ذلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُثَبِّتُ اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل اللَّه الظالمين، ويفعل اللَّه ما يشاء" (¬2). وفي "المسند" نحوه من حديث البراء بن عازب، وروى المِنْهَال بن عَمرو، عن زَاذَان، عن البَرَاء قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذَكَرَ قَبْضَ روحِ المؤمن فقال (¬3): يأتيه آتٍ -يعني في قبره- فيقول: مَنْ رَبُّكَ؟ وما دينُكَ؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي اللَّه، والإسلام ديني (¬4)، ونبيي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: فينتهِرُه (¬5) فيقول: من (¬6) ربك؟ وما دينك؟ وهي في آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك قولُ اللَّه تعالى (¬7): {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، فيقول: ربي اللَّه، وديني الإسلام، ونبيي محمد (¬8)، فيقال له: صدقت" وهذا حديث صحيح (¬9). ¬

_ (¬1) "أصابه الخوف والرعب" (و). وأشار في (ق): إلى أنه في نسخة: "هبل". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 3 - 4)، -ومن طريقه البيهقي في "إثبات عذاب القبر" (41)،- والبزار (872 كشف الأستار)، وابن جرير في "التفسير" (16/ 591 - 592 رقم 20762 - ط شاكر)، وابن أبي عاصم في "السنة" (865) من طريق عباد بن راشد عن داود بن أبي هند به، وعزاه في "الدر المنثور" (5/ 30) لابن مردويه وابن أبي الدنيا في "الموت"، - هو فيه برقم (270 - بتجميعي) - وصحح إسناده في "الدر" و"شرح الصدور" (133 - ط المعرفة) وصححه أيضًا الصنعاني في "جمع الشتيت" (126)، وأحمد شاكر في تعليقه على "تفسير الطبري"! (16/ 592). قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 48): "ورجاله رجال الصحيح". أقول: عباد بن راشد، وإنْ روى له البخاري مقرونًا، ففي حديثه شيء. (¬3) في (ق): "قال". (¬4) في (ق): "وديني الإسلام" ووقع فيها: "عليه السلام". (¬5) في (ق): "فينهره". (¬6) في المطبوع و (ك) و (ق): "ما"! (¬7) في المطبوع: "فذلك حيث يقول اللَّه". (¬8) في (ق): "محمد عليه السلام". (¬9) حديث البراء بن عازب، رواه مطولًا ومختصرًا، الطيالسي (753)، وأحمد (4/ 287 و 288 و 295 و 296)، وعبد الرزاق (6737)، وابن أبي شيبة (3/ 380 - 382)، وهناد في "الزهد" (339)، وابن المبارك في "الزهد" (1219)، وابن منده في "الإيمان" (2/ 963)، و"الروح والنفس" -كما في "الروح" لابن القيم (65) - وأبو داود في "السنة" (4753 و 4754) باب في المسألة في القبر وعذاب القبر، والنسائي (4/ 78) وفي "الكبرى" كما في "التحفة" (2/ 467)، وابن ماجه (1548، 4269)، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (1365 و 1371)، والطبري في "التفسير" (13/ 217 و 218 أو 16/ 589 - 591، 593, 595 ط شاكر)، و"تهذيب الآثار" (1/ رقم 2480 - 2485)، والآجري =

وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ]} (¬1) قال: إذا قيل له في القبر: مَنْ رَبُّك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي اللَّه، وديني الإسلام، ونَبِيِّي محمد، جاءنا بالبينات [والهدى] (¬2) من عند اللَّه، فآمنْتُ به وصَدَّقتُ، فيقال له: صَدقْتَ: على هذا عشْتَ، وعليه متَّ، وعليه تُبْعَثُ" (¬3) وقال الأعمش، عن المِنْهال بن عمرو، وعن زَاذَان، عن البراء بن عازب قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر قَبْضَ روح المؤمن، قال: فترجِعُ روحه في جَسَده، ويُبْعَثُ إليه ملكان شديدا الانتهار، فيجلسانه وَينْتَهِرَانه (¬4) ويقولان (¬5): مَنْ ربك؟ فيقول: اللَّه، وما (¬6) دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل أو النبي الذي بُعث فيكم؟ فيقول: محمد رسول اللَّه، فيقولان (¬7) له: وما يُدْرِيك؟ قال: فيقول (¬8): قرأت كتاب اللَّه فآمنت به وصَدَّقْتُ، فذلك (¬9) قول اللَّه تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ ¬

_ = في "الشريعة" (ص 367 - 370)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 37 - 40)، والبيهقي في "إثبات عذاب القبر" (20 - 27 و 440)، و"المدخل" (رقم 656)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 56)، والرافعي في "التدوين" (1/ 62 - 64 و 3/ 9، 140)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال ابن منده: "هذا إسناد متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء"، وقال البيهقي في "إثبات عذاب القبر": "هذا حديث كبير، وصحيح الإسناد رواه جماعة الأئمة الثقات عن الأعمش"، وقال ابن تيمية في "الفتاوى" (4/ 290): "وهو حديث حسن ثابت". وذكره القرطبي في "التذكرة" وقال: "وهو حديث صحيح له طرق كثيرة تهمم بتخريج طرقه علي بن معبد". وقال المصنف في كتابه "الروح" (65): "الحديث صحيح لا شك فيه، رواه عن البراء جماعة" وأفاد أن الدارقطني جمع طرقه في جزء مفرد. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق): "محمد عليه السلام". (¬3) رواه من هذا الطريق: أي طريق حماد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، الطبري في "تفسيره" (13/ 215)، وإسناده حسن، لحال محمد بن عمرو وهو ابن علقمة وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (5/ 32) لابن مردويه وانظر ما سيأتي بعد. (¬4) في (ق): "شديدان الانتهار"، ووقع في (ق) و (ك): "وينهرانه". (¬5) في (ق): "فيقولان". (¬6) في (ق): "فيقولان وما دينك". (¬7) في (ق) قبلها: "قال". (¬8) في (ق): "يقول". (¬9) في (ق): "وذلك".

الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} رواه ابن حبَّان في "صحيحه" (¬1)، والإمام أحمد، وفي "صحيحه" أيضًا من حديث أبي هريرة يرفعه، قال: "إن الميت ليَسْمَعُ خَفْقَ نعالهم حين يُوَلون عنه مُدْبِرين، فإذا كان مؤمنًا كانت الصلاةُ عند رأسِهِ، والزكاة عن يَمينه، والصيام (¬2) عن يساره، وكان فعلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيُؤتَى من عند رأسه؛ فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل، فيُؤتى عن يمينه، فتقول الزكاة: ما قِبلي مَدْخَل، فيُؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قِبلي مَدْخل، فيُؤتى من عند رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قِبلي مَدْخل، فيقال له: اجلس، فيجلس قد مُثِّلت [له] (¬3) الشَّمس قد دَنَتْ للغروب، فيقال له: أخبرنا عن ما نسألك عنه؟ فيقول: دعُوني حتى أصلي، فيقال: إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك، فيقول: وعمَّ تسالوني؟ فيقال له: أرأيْتَ هذا الرجُلَ الذي كان فيكم، ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد [-صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فيقال] (¬4): نعم، فيقول: أشهد أنه رسول اللَّه، وأنه جاء بالبينات من عند اللَّه فَصَدَّقناه، فيقال له: على ذلك حَيِيتَ، وعلى ذلك مِتَّ، وعلى ذلك تُبْعَثُ إن شاء اللَّه، ثم يُفْسَحُ له في قبره سبعون ذراعًا، وينَوَّر له فيه، ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعَدَّ اللَّه لك فيها (¬5)، فيزداد غبطَةً وسرورًا، ثم تُجعل نسمته في النَّسَم (¬6) الطيب، وهي طير خُضْر تعلَق بشجر الجنة، ويعاد الجسدُ إلى ما بدأ منه من التراب، وذلك قول اللَّه تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} " (¬7). ¬

_ (¬1) حديث البراء بن عازب لم يروه ابن حبان في "صحيحه" بل قال: (7/ 387): "خبر الأعمش عن المنهال بن عمرو عن زاذان عن البراء سمعه الأعمش عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو، وزاذان لم يسمعه من البراء؛ فلذلك لم أُخرِّجه. أقول: بل ثبت سماع الأعمش من المنهال في طرق؛ كما هو في مصادر التخريج من قبل. (¬2) في المطبوع: "وكان الصيام". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "فيقول". (¬5) في (ق): "بها". (¬6) في (ق): "ثم يجعل نسمة في النسيم الطيب". (¬7) رواه هناد في "الزهد" (338)، والطبري (13/ 215 - 216)، وابن حبان (3113)، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (1453)، والطبراني في "الأوسط" (2630)، والحاكم (1/ 379 - 380 و 380 - 381)، والبيهقي في "الاعتقاد" (ص 220 - 222)، وفي "إثبات عذاب القبر" (67) من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة =

فصل [مثل المشرك]

ولا تستَطِلْ هذا الفصلَ المعترض في المفتي والشاهد والحاكم، [بل] (¬1) وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس، وباللَّه التوفيق، [وإليه الملجأ] (¬2). فصل [مثل المشرك] ومنها قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} [الحج: 30، 31]، فتأمل هذا المثلَ ومطابَقَتَهُ لحال مَنْ أشرك باللَّه وتعلَّق بغيره، ويجوز لَكَ في هذا التشبيه أمران: أحدهما: أن تجعله تشبيهًا مركَّبًا، ويكون قد شبه مَنْ أشْرَك باللَّه، وعَبَدَ معه غيرَه [برجل] (¬3) قد تسبَّب إلى هَلاكَ نفسه هلاكًا لا يُرْجَى معه نجاةٌ، فصَوَّرَ حاله بصورة حالِ مَنْ خَرَّ من السماء فاختطفته الطيرُ في الهوى فتمزَّق مِزعًا (¬4) في حواصلها، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به (¬5) في بعض المطارح البعيدة، وعلى هذا لا تنظر (¬6) إلى كل فرد من أفراد المشبَّه ومُقَابِله (¬7) من المُشَبَّه به. والثاني: أن يكون من التشبيه المُفَرَّقِ، فيقابَلُ كلُّ واحدٍ من أجزاء الممثَّلِ بالممثَّل به، وعلى هذا فيكون قد شَبَّهَ الإيمانَ والتوحيدَ في عُلُوه وسَعَته [وشَرَفه] (1) بالسماء التي هي مصْعَدُهُ ومَهْبطُه، فمنها يهبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها، وشبَّه تارك الإيمان والتوحيد بالسَّاقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث الضيق (¬8) الشديدُ والآلام المتراكمة والطيرُ التي تخطف (¬9) أعضاءه وتمزِّقُه كل ممزَّقٍ بالشياطين التي يُرْسِلُها اللَّه سبحانه [وتعالى] (1) عليه وتَؤُزُّهُ أزًّا ¬

_ = مرفوعًا، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، لكن رواه عبد الرزاق (6703)، وابن أبي شيبة (3/ 383 - 384) من طريق جعفر بن سليمان، ويزيد بن هارون عن محمد بن عمرو به موقوفًا على أبي هريرة، ومثل هذا له حكم الرفع. ورواه أحمد (2/ 445) وغيره من طريق السدي عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا، بالقسم الأول منه فقط. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) في المطبوع: "فتمزق مزقًا". (¬5) في (ن): "أو عصف به حتى هوى به". (¬6) في (ق): "ينظر". (¬7) في (ق): "مقابلته" وفي الهامش: "لعله مقابل". (¬8) في المطبوع: "التضييق". (¬9) في المطبوع: "والطير الذي تخطف".

فصل [قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون الله]

وتزعجه [وتقلقه] (¬1) إلى مَظَانِّ هلاكه (¬2)؛ فكل شيطانٍ له مزعة من دِينِه وقلبه، كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هَوَاه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفلِ مكانٍ وأبعدِه من السماء. فصل [قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون اللَّه] ومنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] (¬3) إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73، 74]، حقيق على كل عبد أن يستمع قلبُه لهذا المثل، ويتدبره حقَّ تدبره، فإنه يقطع مواردَ (¬4) الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقلُّ درجاته أن يقدِرَ على إيجاد ما ينفع عابدَه وإعدام ما يضرُّه، والآلهةُ التي يعبدها المشركون من دون اللَّه لن تقدرَ على خَلْق الذباب (¬5) ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر [منه] (¬6)؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سَلَبهم شيئًا مما عليهم من طِيب ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلَقْ الذباب الذي هو من أضعفِ الحيواناتِ ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سَلَبهم (¬7) إياه، فلا أعْجَزَ من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يَستحسن عاقلٌ عبادتها من دون اللَّه؟ وهذا المثلُ من أبلغ ما أنزل اللَّه [سبحانه في بُطْلَان الشرك] (¬8)، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تَلاعَبَ بهم أعْظَمَ من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعْطَوا الإلهيِّة التي مِنْ بعض لوازمها القدرةُ على جميع المقدورات، والإحاطة بجميع المعلومات، والغنى عن جميع المخلوقات، وأن يُصْمدَ (¬9) إلى الربِّ في جميع الحاجات، وتفريج الكُرُبات، وإغاثة اللهفات، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وفي (ق) و (ك): "تؤزه أزًا وتزعجه وتقله". (¬2) في (ن): "مهالكه". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬4) في (ق): "مواد". (¬5) في (ق): "ذباب". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ك) و (ق): "يسلبهم". (¬8) في (ق): "أنزل اللَّه في تبطيل الشرك". (¬9) في (ق) و (ك): "تعتمد".

فصل [مثل المقلدين والمقلدين]

وإجابة الدعوات، فأعطوها صورًا وتماثيل يمتنع عليها (¬1) القدرةُ على أقلِّ مخلوقاتِ الإله (¬2) الحق وأذلِّها وأَصْغرِها وأَحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه. وأدلُّ من ذلك على عَجْزهم وانتفاء [إلا هيَّتهم] (¬3) أن هذا الخلقَ الأقلَّ الأذلَّ العاجز الضعيفَ لو اختطَفَ منهم شيئًا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك، ولم يقدروا عليه، ثم سَوَّى بين العابد والمعبود في الضَّعْف والعجز بقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قيل: الطالب العابد، والمطلوب المعبود، فهو عاجزٌ متعلِّق بعاجز، وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب، وهو تسوية بين الآلهة (¬4) والذباب في الضَّعْف والعَجْز؛ وعلى هذا فقيل: الطالبُ: الإله الباطل، والمطلوب: الذباب يطلب منه ما استلبه منه (¬5)، وقيل: الطالب الذباب، والمطلوب الإله؛ فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه، والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع، فضَعُف العابدُ والمعبودُ، والمُستلِب والمُستَلَب (¬6)؛ فمَنْ جعل هذا إلهًا مع القوي العزيز فما قَدَرَه حقَّ (¬7) قَدْره، ولا عَرَفه حقَّ معرفته، ولا عَظَّمه حق تعظيمه (¬8). فصل [مثل المقلِّدين والمقلَّدين] ومنها قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]، فتضمَّن هذا المثلُ ناعقًا، أي: مُصَوِّتًا بالغنم وغيرها، ومنعوقًا به وهو الدوَابُّ، فقيل: الناعق العابد، وهو الداعي للصنم، والصنم هو المَنْعُوقُ به المدعُوُّ، وإنَّ حالَ الكافر في دعائه كحال من يَنْعق بما لا يسمعه، هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره (¬9). ¬

_ (¬1) في (ق): "عليه". (¬2) في المطبوع: "الآلهة". (¬3) في (و): "لإلهيتهم". (¬4) في المطبوع و (ق) و (ك): "الإله". (¬5) في (ن) و (ق): "ما اسننقذه منه"، واستظهر في هامش (ق) ما أثبتناه. (¬6) سقطت من (ك) و (ق). (¬7) تحرفت في المطبوع إلى "حتى". (¬8) انظر تفسير ابن القيم -رحمه اللَّه- لهذه الآية بشيء من التفصيل في "الصواعق المرسلة" (2/ 466 - 467 و 4/ 1363 - 1364). (¬9) انظر: "جامع البيان" (2/ 79 - 81) للطبري.

واستشكل صاحبُ "الكشاف" وجماعة معه هذا القول، وقالوا: قوله: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} لا يساعد عليه؛ لأن الأصنام لا تسمع دعاءً ولا نداءً (¬1). وقد أجيب عن هذا الاستشكال (¬2) بثلاثة أجوبة: أحدها: أن "إلا" زائدة، والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء، قالوا: وقد ذكر ذلك الأصمعيُّ في قول الشاعر: حَرَاجِيحُ ما تَنْفَكُ إلَّا مُنَاخَةً (¬3) أي: ما تنفك مُنَاخة، وهذا جواب فاسد، فإن "إلا" لا تزاد في الكلام. الجواب الثاني: أن التشبيه وقَعَ في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو. الجواب الثالث: [أن المعنى] (¬4) أن مَثَل هؤلاء في دعائهم آلهتَهم التي لا تفقَه دعاءهم كمثل الناعِقِ بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه (¬5) بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذلك (¬6) المشركُ ليس له من دعائه وعبادته إلا العَنَاء. وقيل: المعنى: ومَثَلُ الذين كفروا كالبهائم التي لا تَفْقَهُ مما (¬7) يقول الراعي أكْثَرَ من الصوت؛ فالراعي هو داعي الكُفَّار، والكفار هم البهائم المَنْعوق بها. [قال سيبويه: [المعنى] (¬8): ومثلكَ يا محمد ومَثلُ [الذين كفروا] (¬9) كمثل الناعق والمنعوق به] (¬10)؛ وعلى قوله فيكون [المعنى] (8): ومثل الذين كفروا ودَاعيهم كمثل الغنم والناعق بها. ¬

_ (¬1) انظر: "الكشاف" (1/ 107) للزمخشري. (¬2) في (ق): "الإشكال". (¬3) "هذا صدر بيت لذي الرمة يصف إبلًا، وعجزه قوله: "على الخسف أو نرمي بها بلدًا قفرا" (د)، ونحوه في (و)، ونحو الشطر الأول في (ط). قلت: والشعر في "ديوان ذي الرمة" (3/ 1419)، ونسبه له سيبويه في "كتابه" (3/ 48) وغيره. ووقع في (ن) و (ك): "حوايج" بدلًا من "حراجيج". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "بنعيقه". (¬6) في (ق): "وكذا". (¬7) في (ق): "ما". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ق): "الكفار". (¬10) قال سيبويه في "الكتاب" (1/ 212) ما نصه: "فلم يشبَّهوا بما يَنْعقُ، وإنما شُبِّهوا بالمنعوق به. وإنما المعنى: مثلكم ومثل الذين كفروا، كمثل الناعق والمنعوق به الذي لا يسمع، ولكنه جاء على سعة الكلام والإيجاز؛ لعلم المخاطبَ بالمعنى". وقول سيبويه هذا كله سقط من (ك).

فصل [مثل المنفقين في سبيل الله]

ولك أنْ تجعلَ هذا من التشبيه المركَّب، وأن تجعله من التشبيه المُفرَّق، فإنْ جعلتَه من المركب كان تشبيهًا للكفار -في عَدَم فِقْههم (¬1) وانتفاعهم- بالغنم التي يَنْعِقُ بها الراعي فلا تفقهُ من قوله شيئًا غيرَ الصَّوتِ المجرَّد الذي هو الدعاء والنداء (¬2)، وإنْ جعلتَه من التشبيه المفَرَّق، فالذين كفروا بمنزلة البهائم، [ودعاءُ داعيهم إلى الطَّريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها] (¬3) ودعاؤهم إلى الطريق والهدى بمنزلة النعيق (¬4)، وإدراكهم مجرد الدعاءِ والنداءِ كإدراك البهائم مجردَ صوت الناعق، واللَّه أعلم (¬5). فصل [مثل المنفقين في سبيل اللَّه] ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]؛ شبه سبحانه المُنْفِقَ في سبيله، سواء كان المراد به الجهاد، أو جميع سبل الخير من كل بر، بمن بَذَرَ بَذْرًا فأنبتتْ كل حبةٍ منه سبعَ سنابل، اشتملَتْ كلُّ سنبة على مئة حبة، واللَّه يضاعف [لمن يشاء فوق] (¬6) ذلك بحسب حال المُنْفِق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونَفْع نفقته وقَدْرها ووقُوعها موقعَهَا؛ فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة، وهو إخراجُ المال بقلبٍ ثابت قد انشرح صدرُه بإخراجه، وسَمَحَتْ به نفسُه، وخَرَجَ من قلبه قبلَ خروجه من يده، فهو ثباتُ (¬7) القلب عند إخراجه، غيرُ جَزع ولا هَلع ولا مُتْبعَه نفَسه ترجُفُ يدُه وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومَصَارفه بمواقعه (¬8)، وبحسب طِيبِ المنفق وزكاته (¬9). ¬

_ (¬1) في (ن): "فهمهم". (¬2) "وهذا هو حال المقلِّدين والمقلَّدين" (و). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في المطبوع: "ودعاؤهم إلى الهدى بمنزلة النعق". (¬5) انظر "مفتاح دار السعادة" (ص 86) للمؤلف. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ق): "ثابت". (¬8) في (ق) و (ك): "ومصارفه في المواقع" وفي ط الجيل: "لمواقعه". (¬9) في (ق): "وزكائه".

[مثل المنفق ماله لغير الله]

وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شَبَّه الإنفاق بالبذَر، فالمُنْفق ماله الطيَّب للَّه لا لغيره باذر ماله في أرضٍ زكية، فمَغِلَّه بحسب بَذْره وطِيب أرضه وتعاهُدِ البذر بالسقي ونَفْي (¬1) الدَّغَل والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعتْ هذه الأمور ولم تحرقِ (¬2) الزرعَ نارٌ ولا لحقته جائحةٌ جاء أمثالَ الجبال، وكان مثله كمثل جنَّةٍ بربوةٍ، وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنةُ فيه نصب الشمس والرياح فتتربى (¬3) الأشجارُ هناك أتمَّ تربية فنزل عليها من السماء مطرٌ عظيمُ القَطْر مُتَتَابع فرَوَّاها ونَمَّاها فآتت أُكُلَها ضِعْفي ما يؤتيه (¬4) غيرها بسبب ذلك الوابل، فإنْ لم يُصبها وابلٌ فطَلٌّ: مطر صغير القَطْر، يكفيها لكرم مَنْبَتِها، تزكو على الطل وتنمو عليه، مع أن في ذكر نَوْعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل. [مثل المنفق ماله لغير اللَّه] فمن الناس من يكون [إنفاقه] (¬5) وابلًا، ومنهم من يكون إنفاقه طَلًّا، واللَّه لا يضيع مثقالَ ذرة، فإنْ عَرَضَ لهذا العامل ما يغرق أعماله ويُبْطل حسناته كان بمنزلة رجل {لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266]، فإذا كان يومُ استيفاءِ الأعمال وإحراز الأجور وَجَدَ هذا العاملُ عملَه قد أصابه ما أصاب صاحبَ هذه الجنة، فحسْرَتُهُ حينئذٍ أشَدُّ من حَسْرة هذا على جنته؛ فهذا مثل ضربه اللَّه [سبحانه] (¬6) في السيرة لسَلْب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عِظِم قَدْرِها ومَنْفَعتِها، والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبرُ والضَّعفُ فهو أحْوَجُ ما كان إلى نعمته (¬7)، ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نَفْعه والقيام بمصالحه، بل هم في عِيَاله، فحاجَتُه إلى جنته (¬8) حينئذٍ أشَدُّ ما كانت لضعفه وضعف ذريته، فكيف يكون (¬9) حالُ هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر؟ وسلطانُ ثمره أجلُّ الفواكه [وأجملها] (¬10) وأنفعها، وهو ثمر ¬

_ (¬1) في (ق): "ويتعاهد البذر بالسقي وينفي". (¬2) في (ق): (يحرق). (¬3) في (ق): "فتربي". (¬4) في (ن): "ما يؤتى". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "جنته". (¬8) في المطبوع و (ك): "نعمته". (¬9) في (ق): "تكون". (¬10) ما بين المعقوفتين من (ق)، ووقع بعدها: "وهو ثمرة النخيل".

فصل [آفة الإنفاق الرياء، والمن، والأذى، يبطل الأعمال]

النخيل والأعناب، فمغلّه يقومُ بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يومًا وقد وجده محترقًا كله كالصَّريم، فأيُّ حسرةٍ أعظمُ من حسرته؟. قال ابن عباس: هذا مثلُ الذي يُختم له بالفساد في آخر عُمُره (¬1). وقال مجاهد: هذا مثلُ المفرط في طاعة اللَّه حتى يموت (¬2). وقال السُّدِّي: هذا مثل المُرَائي في نفقته الذي يُنْفِقُ لغير اللَّه، ينقطع عنه نفعُهَا أحوج ما يكون إليه (¬3)، وسأل عمر بن الخطاب (¬4) الصحابة يومًا عن هذه الآية، فقالوا: اللَّه أعلم، فغضب عمر، وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك، قال: ضُرب مثلًا لعمل (¬5)، قال: لأي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بالحسنات (¬6) ثم بعث اللَّه له شيطانًا فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كُلَّها" (¬7)، قال الحسن: هذا مثلٌ قلَّ واللَّه مَنْ يعقله من الناس، شيخ [كبير] (¬8) ضَعُف جِسْمُه، وكثُر صِبْيانه، أفقرَ ما كان إلى جنته، وإن أحَدَكم واللَّه أفْقَرُ ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا (¬9). فصل [آفة الإنفاق الرياء، والمن، والأذى، يبطل الأعمال] فإنْ عَرَضَ لهذه الأعمال من الصَّدقات ما يُبْطلها من المَنِّ والأذى والرياء؛ فالرياء يمنع انعقادها سببًا للثواب، والمنُّ والأذى يُبطل الثواب [الذي كانت سببًا ¬

_ (¬1) نحوه في "تفسير الطبري" (3/ 75). (¬2) أخرجه الطبري في "تفسيره" (3/ 75) من طريق ابن أبي نجيح عنه. (¬3) أخرج الطبري في "تفسيره" (3/ 75)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 523/ رقم 2775) نحوه عنه. (¬4) في (ق) بعدها: "رضي اللَّه عنه". (¬5) في (ن): "بعمل"، والصواب ما أثبتناه. (¬6) في (ق): "الحسنات". (¬7) رواه البخاري (4538) في (التفسير): باب {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} -إلى قوله- {تَتَفَكَّرُونَ}، وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 522 - 523 رقم 2775). والذي يظهر من عبارة ابن القيم أن ابن عباس هو الذي فَسَّر العمل؛ لكن الذي في "الصحيح"، فقال عمر: لرجل غني. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) رواه الطبري في "جامع البيان" (3/ 76 و 77)، وعبد الرزاق في "التفسير" (3/ 108)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 524/ رقم 2782) بنحوه.

فصل [من ينفق ماله في غير طاعة الله ورضوانه]

له] (¬1)، فمثلُ صاحبها وبطلان عمله كمثل صَفْوَان -وهو الحجر الأمْلَسُ- عليه تراب فأصابه وابلٌ -وهو المطر الشديد- فتركه صَلْدًا لا شيء عليه، وتأمَّلْ أجزاء هذا المثل [البليغ] (¬2)، وانطباقها على أجزاء الممثَّل به، تعرفْ عظمةَ القرآن وجلالَتَه، فإنَّ الحجرَ في مقابلة قَلْب هذا المرائي والمانِّ والمؤذي؛ فقلبه في قَسْوَته عن الإيمان والإخلاص [والإحسان] (¬3) بمنزلة الحجر، والعملُ الذي عمله لغير اللَّه بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر؛ فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من الثبات والنَّبَات عند نزول الوابل؛ فليس له مادةٌ متَصلة بالرّي (¬4) تقبل [الماء] (3) وتُنبت الكلأ، وكذلك قلب المرائي ليس له ثباتٌ عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر، فإذا نزل عليه وابلُ الوَحْي انكشف عنه ذلك الترابُ اليسيرُ الذي كان عليه، فبرز ما تحته حجرًا صَلْدًا لَا نبات فيه؛ وهذا مثلٌ ضربه اللَّه [سبحانه] (3) لعمل المُرَائي ونفقته، لا يقدر يومَ القيامة على ثواب شيء منه أحْوَجَ ما كان إليه، وباللَّه التوفيق (¬5) [ولا حول ولا قوة إلا به] (3). فصل [من ينفق ماله في غير طاعة اللَّه ورضوانه] ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]} (¬6) [آل عمران: 116، 117]، هذا مثلٌ ضَرَبه اللَّه [تعالى] (3) لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته، فشبَّه سبحانه ما يُنفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكَسْب الثناء وحُسْن الذكر لا يبتغون به وَجْه اللَّه، وما ينفقونه لِيَصُدُّوا به عن سبيل اللَّه واتِّباع رسله، بالزرع الذي زرَعه صاحبُه يرجو نفعه وخيره ¬

_ (¬1) في (ق): "الذي كان له". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) تحرفت في المطبوع إلى: "بالذي"، ووقع في (ق): "تتصل". (¬5) انظر تفسير ابن القيم لهذه الآية في "طريق الهجرتين" (ص: 339 - 340)، و"مدارج السالكين" (1/ 241 - 242). وما بين المعقوفتين من (ك) وحدها. (¬6) بدلها في (ق): "الآية".

فصل [مثل الموحد والمشرك]

فأصابته ريحٌ شديدةُ البردِ جدًّا، يحرق بردُها ما يمر (¬1) عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرعَ وأيْبسته. واخْتُلف في الصِّر؛ فقيل: البرد الشديد، وقيل: النار، قاله ابن عباس (¬2). قال ابن الأنباري: وإنَّما وُصفت النار بأنها (¬3) صِرٌّ لِتَصْرِيتها عند الالتهاب. وقيل: الصر: الصوتُ الذي يصحبُ الريحَ من شدة هُبُوبها، فالأقوالُ الثلاثة متلازمة؛ فهو بَرْد شديد مُحْرِق بيبسه (¬4) للحَرْث كما تحرقه النار، وفيه صوت شديد. وفي قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} تنبيهٌ على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظُلْمهُم؛ فهو الذي سَلَّط عليهم الريحَ المذكورةَ حتى أهلكتْ زرعهم وأيبسته، فظلمهم هو الريح التي أهلكتْ أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها، [واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به] (¬5). فصل [مثل المُوحِّد والمشرك] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} [الزمر: 29]، هذا مثل ضربه اللَّه [سبحانه] (¬6) للمشرك والموحِّدِ؛ فالمشركُ بمنزلة عبد يملكه (¬7) جماعةٌ متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل الشَّكِسُ (¬8): الضَّيقُ الخُلُق، فالمشرك [لمَّا كان يعبد آلهة شَتَّى شُبِّه بعبد يملكه جماعة متنافسون] (¬9) في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، والموحِّدُ لمَّا كان يعبد اللَّه وحده فمثله كمثل عبدٍ لرجلٍ ¬

_ (¬1) (ق): "تمر". (¬2) لم أعثر في "الدر المنثور"، ولا في "جامع البيان"، ولا في غيرهما على تفسير لابن عباس أن الصر: النار، وإنما ورد عنه أنه البرد الشديد؛ فانظر تفسير ابن أبي حاتم (2/ 524)، و"جامع البيان" (4/ 59 - 60)، و"الدر المنثور" (2/ 299). (¬3) في (ق): "أنها". (¬4) (ن): "ميبسه"، وسقطت من (ق). (¬5) بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) (ق): "تملكه". (¬8) المطبوع: "متشاحون، والرجل المتشاكس". (¬9) (ن): "متشاكسون" وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

فصل [مثل للكفار ومثلان للمؤمنين]

واحدٍ (¬1)، قد سَلَّم (¬2) له، وعلم مَقَاصده، وعرفَ الطَّريقَ إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحُنِ الخُلَطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتولِّيه (¬3) لمصالحه، فَهَل يستويان هَذَان العَبْدان؟ وهذا من أبلغ الأمثال: فإنَّ الخالصَ لمالكٍ واحدٍ يستحق (¬4) من مَعُونته وإحسانه والتفاته (¬5) إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحبُ الشركاء [المتشاكسين] (¬6) الحمد للَّه، بل أكثرهم لا يعلمون (¬7). فصل [مَثَلَ للكفار ومَثَلان للمؤمنين] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ [كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)] (¬8) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (¬9)} [التحريم: 10 - 12]، فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مَثَل للكفار، ومَثلين للمؤمنين. [مثل الكافر] فتضمَّن مَثلُ الكُفَّار: أنَّ الكافر يُعاقَبُ على كفره وعداوته للَّه ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لُحْمَةِ نسب أو وُصْلَة (¬10) صِهْر أو سَبَب من أسباب الاتصال؛ فإن الأسباب كلها تنقطع يوم ¬

_ (¬1) في (ن): "كمثل عبدٍ لواحد". (¬2) في (ك) و (ق): "أسلم". (¬3) في (ن): "وتوليته". (¬4) في (ق): "مستحق". (¬5) في (ك): "و. . . به" بدل "والتفاته" وسقطت "التفاته" من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) انظر: "مدارج السالكين" (1/ 240)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 410)؛ حيث تفسير ابن القيم -رحمه اللَّه- لهذه الآية. (¬8) بدلها في (ق): "إلى قوله". (¬9) بدلها في (ق): "إلى آخر السورة". (¬10) في (ك) و (ق): "صِلة".

فصل [مثلا المؤمنين]

القيامة إلا ما كان منها متصلًا باللَّه وحده على أيدي (¬1) رسله، فلو نفعت وُصْلَةُ القرابة والمصاهرة (¬2) أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوُصْلَةُ التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، [فلما لم] (¬3) يُغْنِيَا عنهما من اللَّه شيئًا، قيل (¬4) لهما: {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (¬5) قطعت الآيةُ حينئذٍ طمع من ارتكب (¬6) معصية اللَّه وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال، فلا اتصال فَوْقَ اتصال البنوَّة والأبوة والزوجية، فلم يُغْن نوح عن ابنه، ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من اللَّه شيئًا، قال اللَّه تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3]، وقال [تعالى] (7): {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19]، وقال [تعالى] (¬7): {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ] (7)} [لقمان: 33]، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أنَّ مَنْ تعلَّقوا به من دون اللَّه من قَرَابةٍ أو صِهْرٍ أو نكاح أو صُحْبة ينفعهم (¬8) يوم القيامة، أو يُجيرُهم من عذاب اللَّه، أو [هو يشفع] (¬9) لهم عند اللَّه، وهذا أصْل ضَلالِ بني آدم وشِرْكِهِم، وهو الشرك الذي لا يغفره اللَّه، وهو الذي بعث اللَّه جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم. فصل [مَثَلا المؤمنين] وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما: امرأة فرعون، ووَجْهُ المثلِ أن اتصال المؤمن بالكافر لا يَضُره شيئًا إذا فارقه في كُفره وعملِه، فمعصية العاصي (¬10) لا تضر [المؤمن] (7) المطيع ¬

_ (¬1) في (ق): "يدي". (¬2) في (ق): "أو المصاهرة". (¬3) في (ك) و (ق): "فلم". (¬4) في (ك) و (ق): "وقيل". (¬5) قال ابن القيم في "روضة المحبين" (ص 75): "كأن الكون كله نطق بذلك وقاله لهم" اهـ. (¬6) في المطبوع: "ركب"، ووقع في (ق): "فقطعت الآية". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "تنفعهم". (¬9) في (ق) بدلها: "تشفع". (¬10) في (ن): "العادي"، وفي المطبوع: "الغير".

[في هذه الأمثال أسرار بديعة]

شيئًا في الآخرة، وإنْ تَضَرَّرَ بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحلُّ بأهل الأرض إذا أضاعوا أمرَ اللَّه فتأتي عامة؛ فلم يَضُرَّ امرأة فرعون اتصالُها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأةَ نوح ولوطٍ اتصالُهما بهما وهما رسولا رب العالمين. المثل الثاني للمؤمنين: مريمُ التي لا زَوْجَ لها، لا مؤمن ولا كافر، فذكر ثلاثة أصناف [من] (¬1) النساء: المرأة الكافرة التي لها وُصْلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وُصْلة بالرجل الكافر، والمرأة العزبة (¬2) التي لا وُصْلَة بينها وبين أحد. فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها، والثانية: لا تضرها (¬3) وصلتها وسببها، والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة [شيئًا] (¬4). [في هذه الأمثال أسرار بديعة] ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياقَ السورة؛ فإنها سِيقَتْ في ذكر أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتحذير من تظاهرهنَّ عليه (¬5)، وأنهن إن لم يُطِعْنَ اللَّه ورسوله ويُرِدْنَ الدارَ الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب اللَّه في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سَلَّام: ضرب اللَّه المثلَ الأولَ يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرِّضْهما على التمسك بالطاعة (¬6). وفي ضَرْب المثل للمؤمنين [بمريم] (¬7) أيضًا اعتبارٌ آخَرُ، وهو أنها لم يضرها عند اللَّه شيئًا قَذْفُ أعداء اللَّه اليهود لها، ونسبتُهم إياها وابنها إلى ما بَرَّأهما اللَّه عنه، مع كونها الصِّدِّيقَةَ الكبرى المصطفاة على نساء العالمين؛ فلا يضرُّ الرجلَ الصالحَ قَدْحُ (¬8) الفجار والفساق فيه، وفي هذا تَسْلِية لعائشة أُمِّ المؤمنين (¬9) إن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع: "العَزَبُ". (¬3) في (ق): "يضرها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) راجع تفسير الحافظ ابن كثير لهذه الآية (4/ 410). (¬6) يحيى هذا له ترجمة في "سير أعلام النبلاء" (3/ 396 - 397)، وقال: سكن إفريقية دهرًا، وسمعوا منه "تفسيره" الذي ليس لأحد من المتقدمين مثله، وله اختيار في القراءة من طريق الآثار وطبع مختصره في المغرب، ولم أظفر به مع تتبعي له. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ن) و (ق) و (ك): "قذف". (¬9) في (ق) بعدها: "رضي اللَّه عنها".

[السر في ضرب الأمثال]

كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك (¬1)، أو توطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إنْ كانت قبلها (¬2)، [كما في] (¬3) ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذيرٌ لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فتضمنت هذه الأمثالُ التحذيرَ لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسليةَ وتوطينَ النفس لمن أوذِيَ منهن وكُذِب عليه. وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون. قالوا: فهذا بعضُ ما اشتملَ عليه القرآنُ من التمثيل والقياس والجمع والفرق، واعتبار العلل والمعاني، وارتباطها بأحكامها تأثيرًا واستدلالًا. [السر في ضرب الأمثال] قالوا: قد (¬4) ضرب اللَّه [سبحانه] الأمثالَ وصَرَّفها قدرًا وشرعًا ويقظةً ومنامًا، ودَلَّ عباده على الاعتبار بذلك، وعُبُورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير. [أصل عبارة الرؤيا] بل هذا أصل (¬5) عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوعٌ من أنواع الوحي؛ فإنها مبنيةٌ على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس، ألا تر أنَّ الثيابَ في التأويل كالقُمُصِ (¬6) تدلُّ على الدِّين، فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دَنَس فهو في الدين، كما أوَّل النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- القُمص (¬7) بالدِّين والعلم (¬8)، ¬

_ (¬1) السورة نزلت بعد الإفك بمدة طويلة، وفي "صحيح البخاري" من رواية أبي الضحى عن ابن عباس ما يرشد إلى ذلك" اهـ. (¬2) قال (ط): "لم تنزل السورة قبل قصة الإفك، بل نزلت بعدها بمدة طويلة، وفي "صحيح البخاري" من رواية أبي الضحى عن ابن عباس ما يرشد إلى ذلك" اهـ. (¬3) في (ق): "وفي"، وفي (ك): "وفي ذلك". (¬4) في (ق): "وقد"، وما بين المعقوفتين بعدها سقط من (ق). (¬5) في (د) و (ط): "أهل"! (¬6) في (ق): "كالقميص". (¬7) في المطبوع و (ك) و (ق): "القميص". (¬8) رواه البخاري (23) في (الإيمان): باب تفاضل أهل الإيمان في الأعمال و (3691) في (فضائل الصحابة): باب مناقب عمر بن الخطاب، و (7008) في (التعبير): باب القمص في المنام، و (7009) باب جر القميص في المنام، ومسلم (2390) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل عمر، من حديث أبي سعيد الخدري؛ لكن في الحديث فسره بالدين وحده.

[الرؤيا الحلمية وتأويلها]

والقَدْرُ المشترك بينهما أن كُلًّا منهما يستر صاحبه ويُجَمِّلُه بين الناس، فالقميصُ يستر بدنه، والعلم والدين يستر روحه وقلبه، ويجمِّله بين الناس. [الرؤيا الحُلْمية وتأويلها] ومن هذا تأويل اللَّبَن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجِبَةِ للحياة وكمال النشأة، وأن الطفل إذا خُلِّي وفطرتَهُ لم يعدل عن اللبن؛ فهو مفطور على إيثاره على ما سواه، وكذلك فطرة الإسلام التي فَطَر اللَّه عليها الناسَ. ومن هذا تأويلُ البقر [باهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض كما أن البقر] (¬1) كذلك مع عدم شَرِّها وكثرة خيرها وحاجة الأرض وأهلها إليها؛ ولهذا لما رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقرًا تُنْحَر كان ذلك نحرًا في أصحابه (¬2). ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل؛ لأن العامل زارعٌ للخير والشر، ولا بد أن يخرج له ما بَذَرَه كما يخرج للباذر زرع ما بذره؛ فالدنيا مزرعة، والأعمالُ البذار (¬3)، ويومُ القيامة يوم طلوع الزرع [للباذر] (1) وحصاده. ومن ذلك تأويلُ الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين، والجامع بينهما أن المنافقَ لا رُوحَ فيه ولا ظل ولا ثمر، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك؛ ولهذا شَبّه [اللَّه تعالى] (¬4) المنافقين بالخشُبِ المسَنَّدة؛ لأنهم أجسامٌ خالية عن الإيمان والخير، وفي كونها مُسَنَّدة نكتةٌ أخرى، وهي أن الخشب إذا انتُفع به جُعل في سَقْف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكًا فارغًا غير مُنْتَفع به جُعل مُسنَدًا بعضه إلى بعض، فشبَّه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع [فيها بها] (¬5). ومن ذلك تأويل النار بالفتنة لإفساد كلٍّ منهما ما يمُرُّ عليه ويتصل به، فهذه تحرقُ الأثاثَ والمتاعَ والأبدانَ، وهذه تحرق القلوبَ والأديانَ [والإيمانَ] (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) رواه البخاري (3622) في (المناقب): علامات النبوة، و (4581) في (المغازي): في من قتل من المسلمين يوم أحد، و (7035) في (كتاب التعبير): باب إذا رأى بقرًا تنحر، ومسلم (2272) (كتاب الرؤيا): باب رؤيا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حديث أبي موسى الأشعري، وفي الباب عن ابن عباس رواه أحمد (1/ 271) وغيره. (¬3) في (ق) و (ك): "فالدنيا مزرعة الأعمال". (¬4) في (ق) بدلها: "سبحانه". (¬5) في (ق): "بها فيها". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

ومن ذلك تأويل النجوم بالعلماء والأشراف؛ لحصول هداية أهل الأرض بكل منهما، ولارتفاع الأشراف بين الناس كارتفاع النجوم. ومن ذلك تأويلُ الغيثِ (¬1) بالرحمة والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس. ومن ذلك خروج الدم في التأويل يدل على خروج المال، والقَدْرُ المشترك أنَّ قِوامَ البدن بكل واحدٍ منهما. ومن ذلك الحدَثُ في التأويل يدل على الحدث في الدين؛ فالحدث الأصغر ذَنْبٌ صغير، والأكبر ذنب كبير. ومن ذلك أن اليهودية والنصرانية [في التأويل] (¬2) بِدْعَة في الدين؛ فاليهودية تدل على فساد القَصْد واتباعِ غير الحق، والنصرانية تدل على فساد العلم والجهل والضلال. ومن ذلك الحديدُ في التأويل وأنواع السلاح يدل على القوة والنصرة بحسب جوهر ذلك السلاح ومرتبته. ومن ذلك الرائحة الطيبة تدلُّ على الثَّناء الحسن وطيب القول والعمل، والرائحة الخبيثة بالعكس، والميزان يدل على العدل، والجراد يدل على الجنود والعساكر والغَوْغاء (¬3) الذي يَموجُ بعضُهم في بعض، والنَّحلُ يدل على مَنْ يأكل طيبًا ويعمل صالحًا، والديك رجلٌ عالي الهمة بعيدُ الصيت، والحية عدو أو صاحب بدعة يهلك بسمِّه، والحشرات أوْغَاد (¬4) الناس، والخُلْد (¬5) رجل أعمى يتكفَّفُ الناسِ بالسؤال، والذِّئْبُ رجل غَشوم (¬6) ظلوم غادر فاجر، والثعلب رجل ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك) "العنب"!. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) "الغوغاء": الجراد بعد أن ينبت جناحه، أو إذا انسلخ من الألوان وصار إلى الحمرة، [وهو] شيء يشبه البعوض [الهاموش]، و [هو] لا يعض؛ لضعفه، وبه سُمِّي الغوغاء من الناس. اهـ من (ح) و (ط)، ونحوه في (و) باختصار. (¬4) "جمع وغد": "الرجل الأحمق الدنيء الرذل" (و)، ونحوه في (ط)، وبنصه في (ح)، وزاد: "الذي يخدم بطعام بدنه". (¬5) "الخلد -بالضم-": الفأرة العمياء، وبفتح: أو دابة عمياء تحت الأرض تحب رائحة البصل والكراث، فإن وضع على حجره خرج له، فاصطيد. (ح)، ونحوه في (ط)، أما (و)؛ فاقتصر على قوله: "الغبرة والفأرة العمياء". (¬6) "الذي يخبط الناس، ويأخذ كل ما قدر عليه" (و).

[من كليات التعبير]

غادر محتال مَكَّار مراوغ عن الحق، والكلب عدو ضعيف كثير الصخب والشر في كلامه وسبابه، أو رجلٌ مبتدع متبع هَوَاه مُؤثر له على دينه، والسِّنَّوْرُ العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدار، والفأرة امرأة سوء فاسقة فاجرة، والأسد رجل قاهر مسلط، والكبش الرجل المنيعُ المتبُوع. [من كليات التعبير] ومن كليات التعبير أن كل ما كان وعاءً للماء فهو دال على الأثاث، وكل ما كان وعاءً للمال كالصندوق والكيس والجراب فهو دال على القلب، وكل مدخولٍ بعضُه في بعض وممتزج ومختلط فدالٌّ على الاشتراك والتعاونِ أو النكاح، وكلُّ سُقوطٍ وخُرور من علوٍ إلى سفل فمذموم، وكل صعود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادَة [وكان ممن] (¬1) يليق به، وكل ما أحرقته النار فجائحة وليس يُرجى صلاحُهُ ولا حياتُه، وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب (¬2) مثلها؛ وكل ما خُطِفَ وسُرِق من حيث لا يُرى خَاطفُه ولا سارقه فإنه ضائع لا يُرجى، وما عُرف خاطفه أو سارقه أو مكانه أو لم يغب عن عين صاحبه فإنه يُرْجَى عَوْدُهُ، وكل زيادة محمودة في الجسم والقامة واللسان والذكر واللحية واليد والرجل فزيادة خير، وكل زيادة متجاوزة للحد في ذلك فمذمومة وشر وفضيحة، وكل ما رؤي (¬3) من اللباس في غير موضعه المختص به فمكروهٌ، كالعمامة في الرِّجل، والخف في الرأس، والعقد في الساق، وكل مَنْ اسْتَقضى أو اسْتَخَلَف أو أَمَّر أو استوزر أو خَطَب ممن لا يليق به ذلك ناله بلاءٌ من الدنيا وشرُّ وفضيحة وشهوة قبيحة (¬4)، وكل ما كان مكروهًا من (¬5) الملابس فخَلِقُهُ أَهْوَنُ على لابسه من جَديده، والجَوْز مالٌ مكنوز، فإن تفقَّع (¬6) كان قبيحًا وشرًا، ومَنْ صار له ريش أو جناح صار له مال، فإنْ طار سافر، وخروجُ المريض من داره ساكتًا يدلُّ على موته، ومتكلِّمًا يدل على حياته، والخروجُ من الأبواب الضيقة يدل على النجاة ¬

_ (¬1) في (ق): "وكلما". (¬2) في (ق): "يتشعب". (¬3) في المطبوع: "رأى". (¬4) في (ط) و (و): "وفضيحة وشهوة وشهرة قبيحة". (¬5) في (ق): "في". (¬6) قال (ح): "أي اضطرب وتحرك"، وفي (و): "يبس، فصلب".

[أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم التعبير]

والسلامة من شرٍّ [وضيق] (¬1) هو فيه وعلى تَوْبة، ولا سيما إنْ كان الخروجُ إلى فضاء وسَعَة فهو خيرٌ محض، والسفرُ والنقلةُ من مكان إلى مكان انتقالٌ من حال إلى حال بحسب حال المكانين، ومن عاد في المنام إلى حال كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شر، وموت الرجل ربما دلَّ على توبته ورجوعه إلى اللَّه، لأنَّ الموت رجوع إلى اللَّه، قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] , والمرهون مأسور بدَيْن، أو بحقٍّ عليه للَّه أو لعبيده (¬2)، ووَدَاعُ المريض أهله أو توديعهم له دالٌّ على موته. [أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم التعبير] وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلالَ بها، وكذلك مَنْ فهم القرآن فإنه تُعبَّر به الرؤيا أحسنَ تعبير، وأصول التعبير الصحيحة إنما أُخذت من مشكاة القرآن (¬3)، فالسفينة تعبر بالنجاة، لقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15]، وتعبر بالتجارة، والخشب بالمنافقين، والحجارة بقساوة القلب (¬4)، والبَيْض بالنساء، واللباس أيضًا بهنّ، وشرب الماء بالفتنة، وأكل لحم الرجل بغيبته، والمفاتيح بالكسب، والخزائن والأموال، والفتح يُعبَّر مرة بالدعاء ومرة بالنصر، وكالمَلِك (¬5) يُرى في محلَّةٍ لا عادةَ له بدخولها يعبر بإذلال أهلها وفسادها، والحبل يُعبَّر بالعهد والحق والعضد (¬6)، والنعاس قد يعبر بالأمن، والبقل والبصل والثوم والعدس يُعبَّر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئًا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار، والمرض يعبر بالنفاق والشك وشهوة الرياء (¬7)، والطفل الرضيع يعبر بالعدو, لقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ق): "لعبده". (¬3) الأصول السابقة واللاحقة في التعبير تجدها عند البغوي في "شرح السنة" (12/ 214 وما بعد) والمصنف في "زاد المعاد" (2/ 336 و 3/ 614 - 616)، و"الذيل على طبقات الحنابلة" (2/ 337)، و"الآداب الشرعية" (3/ 433 - ط شعيب)، و"أبجد العلوم" (2/ 170) وما يخص الحيوانات في "حياة الحيوان الكبرى" للدّميري في حروف أسمائها، وهو مرتب على حروف المعجم. (¬4) في (ق): "القلوب". (¬5) في (ق): "وكالمحلة"، وأشار في الهامش إلى ما أثبتناه. (¬6) في (ق): "والقصد". (¬7) في (ق) و (ك): "وشهوة الزنا".

8]، والنعاج بالنساء (¬1)، والرماد بالعمل الباطل؛ لقوله [تعالى] (¬2): {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18]، والنور يُعبَّر بالهدى، والظلمة بالضلال، ومن ههنا قال عمر بن الخطاب (¬3) لحابس بن سعد الطائي وقد ولاه القضاء، فقال له: يا أمير المؤمنين! أني رأيت الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم بينهما نصفين، فقال عمر: مع أيهما كنتَ؟ قال: مع القمر على الشمس، قال: كنتَ مع الآية الممْحُوَّة، اذهب فلست تعمل لي عملًا، ولا تُقْتَل إلا في لَبْس من الأمر، فقتل يوم صفين (¬4). وقيل لعابر: رأيت الشمس والقمر دخلا في جوفي، فقال: تموت، واحتج بقوله [تعالى] (¬5): {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) [يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ]} (¬6) [القيامة: 7 - 10] وقال رجل لابن سيرين: رأيت معي أربعة أرغفة حين طلعت الشمس (¬7)، فقال: تموت إلى أربعة أيام، ثم قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "والنكاح بالبناء"، وفي (ق): "والنكاح بالنساء". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق) بعدها: "رضي اللَّه عنه". (¬4) حكاه أبو سعد الواعظ في كتابه "تفسير الأحلام الكبير" (262)، وأفاد صاحبه أن القصة وقعت لقاضي حمص مع عمر، وفي آخرها: "وصرفه عن عمل حمص؛ فقضى أنه خرج مع معاوية إلى صفّين؛ فقتل"، ثم ظفرتُ به مسندًا؛ فعزاه الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 548) إلى أبي يعلى، قال: حدثنا غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن مُحارب بن دثار عن عمر به؛ ثم ظفرت به من طريق حماد عند ابن أبي الدنيا في "الإشراف" (رقم 255). ورجال اسناده ثقات؛ إلا أن إسناده ضعيف، حماد سمع من عطاء قبل اختلاطه وبعده، ولم يتميز حديثه فترك، وفي سماع محارب من عمر نظر، انظر ترجمة (محارب) في "تهذيب الكمال" (27/ 255)، وتابع حمادًا ابن فضيل، وعنه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 241 - ط دار الفكر)، ولكن فيه: "عن عطاء؛ قال: حدثني غير واحد أن قاضيًا من قضاة أهل الشام أتى عمر بن الخطاب؛ فقال. . . " وذكر نحوه، ولم يعزه في "كنز العمال" (11/ 349 / رقم 21709) إلا له. فائدة: طبع كتاب "تفسير الأحلام الكبير" منسوبًا لابن سيرين وهو خطأ، وصوابه أنه لأبي سعد الواعظ، وكنت نفيت صحة نسبته لابن سيرين في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" (2/ 275 وما بعدها)، وسردت أدلة على ذلك، ووقفت فيما بعد على اسم مؤلفه، وهو ممن يروي عن ابن جُميع الصيداوي وطبقته. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) انظر "تفسير الأحلام الكبير" (262) لأبي سعد الواعظ، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "أربعة أرغفة خبز، فطلعت الشمس".

[عن الرؤيا وتعبيرها]

ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)} [الفرقان: 45، 46]، وأخذ هذا التأويل أنه حَمَل رزقه (¬1) أربعة أيام، وقال له آخر: رأيت كيسي مملوءً أَرَضَةً، فقال: أنت ميت، ثم قرأ: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14]، والنخلة تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة، والحنظلة على ضد ذلك، والصنم يدل على العبد السوء الذي لا ينفع، والبستان يدل على العمل، واحتراقه يدلُّ على حبوطه؛ لما تقدم في أمثال القرآن، ومن رأى أنه ينقض غزلًا أو ثوبًا ليعيده (¬2) مرة ثانية فإنه ينقض عهدًا وينكثه، والمشي سَويًّا في طريق مستقيم يدل على استقامته على الصراط المستقيم، والأخذ في بُنَيَّاتِ الطريق يدل على عُدُوله عنه إلى ما خالفه، وإذا عُرض له طريقان ذات يمين وذات شمال، فسلك أحدهما فإنه من أهلها، وظهورُ عورة الإنسان له ذنب يرتكبه ويُفْتَضحُ به، وهروبه (¬3) وفراره من شيء نجاةٌ وَظَفَرٌ، وغرقه في الماء فتنة في دينه ودنياه، وتعلّقه بحبل بين السماء والأرض تمسكه بكتاب اللَّه وعهده واعتصامه بحبله، فإن انقطع به فارَقَ العصمةَ إلا أن يكون ولي أمرًا فإنه قد يقتل أو يموت (¬4). [عن الرؤيا وتعبيرها] فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها المَلَكُ الذي قد وكَلَهُ اللَّه بالرؤيا، ليستدلَّ الرائي بما ضُرب له من المثل على نَظيره، ويَعْبر منه إلى شبهه، ولهذا سُمِّي (¬5) تأويلُها تعبيرًا، وهو تفعيلٌ من العُبُور، كما أنَّ الاتعاظ يُسمَّى اعتبارًا وعِبْرة للمتَّعِظِ (¬6) من النظير إلى نظيره، ولولا أن حكم الشيء حكمُ مثله، وحكم النظير حكم نظيره، لبطَل هذا التعبير والاعتبار، ولما وجد إليه سبيل. [قيمة المثل في القرآن] وقد أخبر اللَّه [سبحانه] (¬7) أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من ¬

_ (¬1) في (ق): "رزق". (¬2) في المطبوع: "لعبيده". (¬3) في (ق): "وهربه". (¬4) قال (ط): "انظر في ذلك "تعبير الرؤيا" لابن سيرين". قلت: الكتاب لم نصح نسبته إلى ابن سيرين على التحقيق، وإنما هو لأبي سعد الواعظ، وانظر كتابنا "كتب حذر منها العلماء" (2/ 275 فما بعد). (¬5) في (ق): "سمى اللَّه". (¬6) في المطبوع: "وعبرة لعبور المتعظ". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[التسوية بين المتماثلين في الأحكام الشرعية]

كتابه (¬1)، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها، والتفكر فيها، والاعتبار بها، وهذا هو المقصود بها. [التسوية بين المتماثلين في الأحكام الشرعية] وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلُّها هكذا، تجدها مشتملةً على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر (¬2)، وشريعته سبحانه مُنَزَّهة أن تنهى (¬3) عن شيء لمفسدة فيه تُبيح (¬4) ما هو مشتملٌ على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيدَ منها، فمن جَوَّز ذلك على الشريعة فما عرفها حقَّ معرفتها؛ ولا قدَّرها حَقَّ قدرها. وكيف يُظَنُّ بالشريعة أنها تبيح شيئًا لحاجة المكلف إليه ومصلحته، ثم تحرم ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر، وهذا من أمْحَل المحال. [لا يشرع اللَّه الحيل التي تبيح الواجب وتسقط المحرم] ولذلك كان من المستحيل أن يَشْرَعَ اللَّه ورسوله من الحِيَل ما يُسْقِط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حَرَّمه، ولَعَنَ فاعله، وآذنه بحربه وحرب رسوله، وشَدّد فيه الوعيد؛ لما تضمنه من المفسدة في الدنيا والدين، ثم بعد ذلك يسوغ التوصل إليه بأدنى حيلة، ولو أن المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطبيب ويمنعه منه لكان مُعينًا على نفسه، ساعيًا في ضرره، وعُدَّ سفيهًا مفرطًا. [أحكام فطرية في النفس] وقد فطر اللَّه سبحانه عباده على أنَّ حكم النظير حكم نظيره، وحكمَ الشيء حكم مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، [وعلى إنكار] (¬5) الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله اللَّه شرعًا وقدرًا يأبى ذلك. [الجزاء من جنس العمل] ولذلك (¬6) كان الجزاء مماثلًا للعمل من جنسه في الخير والشر، "فمن ستر ¬

_ (¬1) في (ق): "كتاب اللَّه". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 152)، و"شفاء العليل" (148 - 420) للمؤلف -رحمه اللَّه-. (¬3) في (ق): "ينهى". (¬4) في (ق): "ثم يبيح". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "وكذلك".

مسلمًا ستره اللَّه، ومن يَسَّر على معسر يَسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن نَفَّس عن مؤمن كربة من كُرَب الدنيا نَفّس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة" (¬1)، "ومن أقال نادمًا أقاله (¬2) اللَّه عَثْرَته [يوم القيامة] " (¬3)، و"من تَتَبعَ عَوْرة أخيه تتبع اللَّه عورته" (¬4)، و"من ضارَّ مسلماَ ضارَّ اللَّه به، ومن شاق شاق اللَّه [عليه] " (¬5)، و"من خَذَل مسلمًا في موضع يحب نُصْرَته فيه خَذَله اللَّه في موضع يحب نصرته فيه" (¬6)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2442) في (المظالم): باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، ومسلم (2580) في (البر والصلة): باب تحريم الظلم، من حديث عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنهما-، ولم يذكر فيه: "ومن يسر على معسر. . . ". وهو وارد في حديث أبي هريرة، رواه مسلم (2699): في (الذكر والدعاء): باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، وفيه: "من نفس عن مؤمن كربة. . . ومن يسر. . . ومن ستر مسلمًا. . . ". (¬2) في (ق): "أقال". (¬3) أخرجه أحمد (2/ 252)، وأبو داود (3460)، وابن ماجة (2199)، وابن حبان (5029، 5030 - الإحسان)، والطحاوي في "المشكل" (5291)، والحاكم (2/ 45)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 345)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 198)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 27) من حديث أبي هريرة، وإسناده حسن، وقوله: "يوم القيامة" سقط من (ك) و (ق). (¬4) هذا لفظ أبي يعلى (1675)، وأبي نعيم في "الدلائل" (356) ورجاله ثقات، كما في "المجمع" (8/ 93). وعند أحمد (4/ 421، 424) من حديث أبي برزة الأسلمي، رفعه: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان. . ولا تتبعوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتغ عوراتهم يتبع اللَّه عورته" وأخرجه أبو داود (4880) في (الأدب): باب في الغيبة، والروياني (1312) وأبو يعلى (13/ 419)، والبيهقي (10/ 247) وإسناده قوي، وانظر: "العلل" (6/ 309) للدارقطني، والحديث سقط من (ك). (¬5) أخرجه أحمد (3/ 453)، وأبو داود (3635)، والترمذي (1940)، وابن ماجه (2342)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 829، 835)، والدولابي في "الكنى" (1/ 40)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2169)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (41، 623) والبيهقي (6/ 70) والمزي في "تهذيب الكمال" (35/ 300) من حديث أبي صرمة، والحديث حسن بشواهده، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) أخرج أحمد (4/ 30)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 347)، وأبو داود (4884)، والطبراني في "الأوسط" (8642)، والبيهقي في الشعب (رقم 763) من حديث جابر وأبي طلحة بن سهل رفعاه: كما من امرئ يخذل امرأ مسلمًا في موضع تُنْتَهك فيه حرمتُه، ويُنتقص فيه من عرضه، إلا خذله في موطن يحب فيه نصرته". وتصحف "يحب" في الموطنين عند المصنف في جميع طبعات الكتاب إلى "يجب".

و"من سمع سمع اللَّه به" (¬1)، و"الراحمون يرحمهم الرحمن" (¬2)، و"إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء" (¬3)، و"من أنفق أُنفق عليه" (¬4)، و"من أوعى أُوعي عليه" (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6499) في (الرقاق) باب الرياء والسمعة، ومسلم؛ (2986) في (الزهد والرقائق): باب من أشرك في عمله غير اللَّه، من حديث جندب، وتحرف "سمع" في الموطنين في جميع الطبعات و (ق) إلى "سمح" و"به" إلى "له"!! وسقط لفظ الجلالة (اللَّه) من (ك). (¬2) أخرجه الترمذي في "الجامع" (أبواب البر والصِّلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين، 4/ 323 - 324/ رقم 1924)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الأدب، باب في الرحمة، 4/ 285/ رقم 4941)، وأحمد في "المسند" (2/ 160)، والحميدي في "المسند" (رقم 591)، والبخاري في "التاريخ" (9/ 64)، وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (69)، والرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (775)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 159)، والبيهقي في "الأسماء" (ص 423)، والخطيب في "التاريخ" (3/ 260)، وابن أبي الدنيا في "العيال" (1/ 426) من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد اللَّه بن عمرو عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وحسنه ابن حجر في كتابه "الإمتاع" (ص 63)، وذكر تصحيح الترمذي وعلِّق عليه بقوله: "وكأنه صححه باعتبار المتابعات والشواهد، وإلا؛ فأبو قابوس لم يرو عنه سوى عمرو بن دينار، ولا يُعرف اسمه، ولم يوثقه أحدٌ من المتقدّمين". قلت: وأقوى هذه الشواهد ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب التوحيد، باب قول اللَّه تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} 13/ 358 / رقم 7376)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الفضائل، باب رحمته -صلى اللَّه عليه وسلم- الصبيان والعيال وتواضعه وفضل ذلك، 4/ 1804/ رقم 2319) عن جرير بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا بلفظ: "من لا يرحم الناس؛ لا يرحمه اللَّه عز وجل". وما أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الأدب، باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، 10/ 426/ رقم 5997)، ومسلم في "الصحيح" (رقم 2318) عن أبي هريرة مرفوعًا: "من لا يرحم؛ لا يُرحم". وانظر: "الأربعين في فضل الرحمة والراحمين" لابن طولون، والحديث الآتي. (¬3) أخرجه البخاري (1284) في (الجنائز): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُعذّب الميت ببعض بكاء أهله عليه"، ومسلم (923) في (الجنائز): باب البكاء على الميت، من حديث أسامة بن زيد -رضي اللَّه عنهما-، وأطرافه عند البخاري (5655، 6602، 6655، 7377، 7448). (¬4) أخرج البخاري (4684) في (التفسير): باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، ومسلم (993) في (الزكاة): باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "قال اللَّه عز وجل: أَنْفِقْ أُنْفِق عليك،. . . ". (¬5) أخرج البخاري (1433) في (الزكاة): باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها من حديث أسماء قالت: قال لي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُوكي فيُوكى عليك". وأخرج البخاري (1434) ومسلم (1029) من حديثها: "ولا توعي فيُوعي اللَّه عليك".

[أصل الشرع الحاق النظير بالنظير والقرآن يعلل الأحكام]

و"من عفا عن حقه عفا اللَّه له عن حقه"، و"من تجاوز تجاوز اللَّه عنه" (¬1)، و"من استقصى استقصى اللَّه عليه" (¬2). [أصل الشرع الحاق النظير بالنظير والقرآن يعلل الأحكام] فهذا شرع اللَّه وقدره، ووحيه وثوابه وعقابه، كله قائمٌ بهذا الأصل، وهو إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المثل بالمثل، ولهذا يَذْكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية (¬3) ليدلَّ بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت، واقتضائها لأحكامها، وعدم تخلُّفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويُوجبُ تخلف آثارها عنها، كقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12]، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35] {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد: 26] {وَذَلِكُمْ (¬4) ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]. [الحروف التي يجيء بها التعليل في القرآن] وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة، وباللام تارة، وبأنْ تارة، وبمجموعها (¬5) تارة، [وبكي تارة] (6)، ومن أجل تارة، وترتيب [الجزاء على الشرط تارة، وبالفاء المؤذْنة بالسببية تارة، وترتيب] (¬6) الحكم على الوصف المُقْتض له تارة، وبلمَّا (¬7) تارة، وبأنَّ المشددة تارة، وبلعل تارة، وبالمفعول ¬

_ (¬1) ورد معناه في حديث، أخرجه مسلم (1560) في (المساقاة) باب فضل إنظار المعسر، عن حذيفة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) يغني عنه حديث أسماء قبل السابق، وفي بعض ألفاظه: "ولا تُحصي فيُحصيَ اللَّه عليكِ". (¬3) في (ك) و (ق): "والجزئية" واستظهر في هامش (ق) ما أثبتناه. (¬4) في (ق): "وذلكم". (¬5) في المطبوع: "وبمجموعهما". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق): "ورتب الجزاء". (¬7) في (ك): "وبلا".

[له] (¬1) تارة (¬2)؛ فالأول كما تقدم [من قوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ} وأشباهه،] (¬3)، واللام كقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، وأنْ كقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]؛ ثم قيل: التقدير لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا، [وأن] (¬4) واللام كقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وغالب ما يكون هذا النوع في النفي فتأمله، [وكي كقوله] (¬5): {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] والشرط والجزاء كقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، والفاء كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء: 139] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16]، وترتيب الحكم على الوصف كقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170]، {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [يوسف: 56]، {وَأَنَّ (¬6) اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)} [يوسف: 52]، ولمَّا كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 166] وإنَّ المشددة كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 77]، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)} [الأنبياء: 74]، ولعل كقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 44] , {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬7) {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} (¬8)، والمفعول له كقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) انظر: "شفاء العليل" (ص 396 - 418)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 36 - 38)، و"بدائع الفوائد" (1/ 44 - 60 و 2/ 205، 210، 211، و 3/ 179 و 4/ 127 - 130)، و"الداء والدواء" (ص 6، 8، 350 - 351، 427، 373 مهم)، و"حادي الأرواح" (ص 81 - 82)، و"مدارج السالكين" (1/ 94 و 2/ 116، 118، 133، 134 و 3/ 395 - 410، 495 مهم). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) في (ق): "وفي قوله". (¬6) في (ق): "و". (¬7) في يوسف والنور والزخرف والحديد {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}، (رقم 2، 61، 3، 17) (و). (¬8) في الأعراف، والنحل، والنور، مرتين، وفي الذاريات {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (57، 90، 1، 27، 49) (و).

[ما ورد في السنة من تعليل الأحكام]

رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 19 - 21]، أي: لم يفعل ذلك جزاءَ نعمة أحد من الناس، إنما (¬1) فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى، ومن أجل كقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (¬2)} [المائدة: 32]. [ما ورد في السنة من تعليل الأحكام] وقد ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عِلَلَ الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها؛ ليدلَّ على ارتباطها بها، وتَعَدِّيها بتعدِّي أوصافها وعللها، كقوله في نبيذ التمر: "تَمْرَةٌ طيبة وماء طهُور" (¬3). ¬

_ (¬1) في (ق): "وإنما". (¬2) في (ق) بعدها: "أنه من قتل نفسًا بغير حق". (¬3) أخرجه عبد الرزاق (693)، وأحمد (1/ 450)، وابن ماجه (384)، والطبراني (9962)، وابن عدي (7/ 2746)، والبيهقي (1/ 9)، و"الخلافيات" (19)، وابن المنذر في "الأوسط" (رقم 173)، والهيثم الشاشي في "المسند" (رقم 827، 828)، وابن الأعرابي في "المعجم" (رقم 727) عن سفيان، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 264 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عدي (7/ 2746) - وعبد الرزاق (693)، وأحمد (1/ 402/ 450)، ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" (1/ 355)، والهيثم الشاشي في "المسند" (رقم 828) عن إسرائيل بن يونس، وابن عدي (7/ 2747) عن ليث بن أبي سليم، والطبراني (10/ رقم 9962)، والبيهقي (1/ 9 - 10) عن قيس بن الربيع، وابن ماجه (رقم 384)، وابن أبي شيبة (1/ 38 - 39)، وأبو يعلى (9/ رقم 5301)، والطبراني (10/ رقم 9967) عن الجراح بن مليح، وأبو داود (رقم 84)، والترمذي (88)، وأبو يعلى (8/ رقم 5046)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (رقم 94)، والطبراني (10/ رقم 9964)، ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (33/ 333)، والهيثم الشاشي في "المسند" (رقم 822) عن شريك النخعي جميعهم عن أبي فزارة العبسي حدثنا أبو زيد مولى عمرو بن حريث عن عبد اللَّه بن مسعود رفعه. وإسناده ضعيف جدًّا، وفيه ثلاث علل: الأولى: جهالة أبي زيد، قال أبو زرعة: "حديث أبي فزارة ليس بصحيح" أبو زيد مجهول، يعني: في "الوضوء بالنبيذ" كما في "العلل" (17/ 1) و"الجرح والتعديل" (1/ 2/ 485)، وبجهالته أعله البخاري والترمذي وابن عدي وجماعة. الثانية: إنكار كون ابن مسعود شهد ليلة الجن، وورد ذلك في هذا الحديث، وانظر: "نصب الراية" (1/ 139 - 141، 143 - 147)، و"الهداية" للغماري (رقم 59). الثالثة: التردد في أبي فزارة هل هو راشد بن كيسان، وهو ثقة، وقيل: هما رجلان، وأن هذا ليس براشد وإنما هو مجهول: حكاه ابن الجوزي في "الواهيات" (1/ 357)، و"التحقيق" وتعقبه ابن عبد الهادي في "التنقيح" (1/ 233). =

وقوله: "إنما جُعِلَ الاستئذانُ مِنْ أجل البصر" (¬1)، وقوله: "إنما نَهَيْتُكُم من أجل الدَّافَّة" (¬2)، وقوله في الهرة: "لَيْسَتْ بنجس، إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوافات" (¬3). ¬

_ = قال ابن حجر في "الفتح" (1/ 354): "وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه" وحكى شيخ الإسلام في "منهاج السنة النبوية" (3/ 425) تضعيفه عن الجمهور. وضعفه البيهقي في "المعرفة" (1/ 140 - 141)، وأبو عبيد في "الطهور" (ص 315 - بتحقيقي)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 95)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 256)، -وحكاه عن جماعة-، وابن حزم في "المحلى" (1/ 204). وانظر -لزامًا- "الخلافيات" (مسألة 2) فقد استوعبت طرقه جميعًا، وكلام الحفاظ فيها. (¬1) رواه البخاري (5924) في (اللباس): باب الامتشاط، و (6241) في (الاستئذان): باب الاستئذان من أجل البصر، و (6901) في (الديات): باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له، ومسلم (2156) في (الأداب): باب تحريم النظر في بيت غيره، من حديث سهل بن سعد. (¬2) أخرج مسلم في "صحيحه" (كتاب الأضاحي): باب بيان ما كان من النهي عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاث في أول الإسلام وبيان نسخه وإباحته إلى متى شاء، (3/ 1651/ رقم 1971) بسنده إلى عبد اللَّه بن واقد، قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، قال: عبد اللَّه بن أبي بكر: فذكرت ذلك لعمرة؛ فقالت: صدق، سمعت عائشة تقول: دفَّ أهل أبيات من أهل البادية حضرة الأضحى زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ادخروا ثلاثًا، ثم تصدقوا بما بقي"، فلما كان بعد ذلك قالوا: يا رسول اللَّه إن الناس يتخذون الأسقية من ضحاياهم، ويجملون منها الودك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وما ذاك"؟. قالوا: نهيت أن تؤكل لحوم الضحايا بعد ثلاث، فقال: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت؛ فكلوا، وادخروا، وتصدقوا". قال (و): "في حديث لحوم الأضاحي: "إنما نهيتكم عنها من أجل الدافة التي دفت. الدافة: القوم يسيرون جماعة، سيرًا ليس بالشديد وقوم من الأعراب يريدون المصر: يريد أنهم قدموا المدينة عند الأضحى، فنهاهم عن ادخار لحوم الأضاحي ليفرقوها، ويتصدقوا بها، فينتفع أولئك القادمون بها [النهاية] " اهـ. ونحوه باختصار في (ط)، وأكثر منه اختصارًا في (د) وزاد (ك) بعد الدافة: "بكم". (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 22 - 23)، والشافعي في "مسنده" (1/ 22)، وعبد الرزاق (352 و 353)، وابن أبي شيبة (1/ 31)، وأحمد (5/ 303)، والحميدي (430)، والدارمي (1/ 187 - 188)، والترمذي (92)، والنسائي (1/ 55) في (الطهارة): باب سؤر الهرة، و (1/ 178) في (المياه): باب سؤر الهرة، وابن ماجة (367) في (الطهارة): باب الوضوء بسؤر الهرة، وابن خزيمة (104)، وأبو داود (75) في (الطهارة): باب سؤر الهرة، وابن الجارود (60)، والحاكم (1/ 160)، وابن حبان (1299)، والدارقطني =

[أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك عن القرآن]

ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقَصَتْه (¬1) ناقته وتقريبه الطيب، وقوله: "فإنه يُبْعَثُ يَوْمَ القيامة مُلَبيًا" (¬2)، وقوله: "إنكم إذا فعلتم ذلك قَطَعْتُم أرحامكم" (¬3) ذكره تعليلًا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها. [أخذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك عن القرآن] وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقوله في الخمر والميسر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]. [عود إلى الحديث] وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سئل عن بيع الرُّطَب بالتمر: "أَيَنْقُصُ الرطب إذا جَفَّ؟ قالوا: نعم، فَنَهَى عنه" (¬4)، وقوله: "لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك ¬

_ = (1/ 70)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 18)، وابن سعد (8/ 478)، من طريق إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن حُميدة بنت عُبيد، عن كبشة بنت كعب أن أبا قتادة. وقال الترمذي: حسن صحيح، وقال الحاكم: صحيح، وهو مما صححه مالك، واحتج به في الموطأ، ووافقه الذهبي. . وصححه البخاري والعقيلي والدارقطني؛ كما في "التلخيص الحبير" (1/ 41)، وقد اعترض بأن حميدة لم يوثقها إلا ابن حبان، وكبشة قيل: إنها صحابية وهو على الاحتمال. . . ويظهر أن تصحيح من صححه إنما اعتمد على إخراج مالك له في "الموطأ" وله طرق وشواهد ذكرها الحافظ في "التلخيص" فلتنظر. وانظر "الخلافيات" (3/ 85)، وتعليقي عليه. (¬1) "كسرت عنقه" (و). (¬2) رواه البخاري (1265) في (الجنائز): باب الكفن في ثوبين، و (1266) في (الحنوط للميت)، و (1267 و 1268)، باب كيف يكفن المحرم، و (1839) في (جزاء الصيد): باب ما ينهى عن الطيب للمحرم، و (1849 و 1850): باب المحرم يموت بعرفة، و (1851) باب سنة المحرم إذا مات، ومسلم (1206) في (الحج): باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، من حديث ابن عباس، ووقع في (ق): "إنه يبعث". (¬3) سيأتي تخريجه. (¬4) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 624)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (2/ 159)، وعبد الرزاق (14185)، والطيالسي (94)، وأحمد (1/ 175 و 179)، وأبو داود في "سننه" (3359) في (البيوع): باب في التمر بالتمر، والترمذي (1225) في (البيوع): باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، والنسائي (7/ 269) في (البيوع): باب اشتراء التمر =

يُحْزِنُه" (¬1)، وقوله: "إذا وَقَعَ الذبابُ في إناء أحدكم فامقُلُوه (¬2)، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءٌ، وإنه يَتّقِي بالجناح الذي فيه الداء" (¬3)، وقوله: "إن اللَّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمُر فإنها رجس" (¬4)، وقوله وقد سئل عن مَسِّ الذكر هل ينقض الوضوء؟ فقال: "هل هو إلا بضعة منك" (¬5)، وقوله في ابنة ¬

_ = بالرطب، وابن ماجه (2246) في (التجارات) باب بيع الرطب بالتمر، والحميدي (75)، وابن أبي شيبة (6/ 182 و 14/ 204)، وابن الجارود (657)، وأبو يعلى (712 و 713 و 825)، والدورقي في "مسند سعد" (111)، وابن حبان (4997 و 5003)، والدارقطني في "سننه" (3/ 49)، والحاكم (2/ 38)، والبيهقي (5/ 294)، والبغوي (2068) من طريق عبد اللَّه بن يزيد، عن زيد أبي عياش، عن سعد بن أبي وقاص، وصححه الترمذي، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث، إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح، خصوصًا في حديث أهل المدينة". وزيد أبو عياش هو ابن عياش المدني، وثقه الدارقطني، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وصحح الترمذي وابن خزيمة وابن حبان حديثه؛ كما في "تهذيب التهذيب". (¬1) رواه البخاري في (الاستئذان) (6290): باب إذا كانوا أكثر من ثلاثة فلا بأس بالمساورة والمناجاة، ومسلم (2184) في (السلام): باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، من حديث ابن مسعود. (¬2) "اغمسوه فيه" (و). (¬3) رواه البخاري (3320) في (بدء الخلق): باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، و (5782) في (الطب): باب إذا وقع الذباب في الإناء، من حديث أبي هريرة. ويظهر أن ابن القيم دمج الحديثين في حديث، إذ أن لفظة: "امقلوه" واردة في حديث أبي سعيد الخدري عند أحمد وغيره. (¬4) رواه البخاري (2991) في (الجهاد): باب التكبير عند الحرب، و (4199) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5528) في (الذبائح): باب لحوم الحمر الأنسية، ومسلم (1940) في (الصيد): باب تحريم أكل لحم الحمر الأنسية، من حديث أنس بن مالك. زاد مسلم: "فإنها رجس أو نجس". (¬5) رواه ابن أبي شيبة (1/ 165)، وأبو داود (182 و 183) في (الطهارة): باب الرخصة في ذلك، والترمذي (85) في (الطهارة): باب ما جاء في الوضوء من مس الذكر، وابن ماجه (483) في (الطهارة): باب الرخصة في ذلك، والنسائي (1/ 101) في (الطهارة): باب ترك الوضوء من ذلك، وأحمد في "مسنده" (4/ 22 و 23)، وعبد الرزاق (426)، وابن الجارود (20 و 21)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 75 و 76)، وابن حبان (1119 - 1121)، والطبراني في "الكبير" (8233 و 8234)، والدارقطني (1/ 149)، والبيهقي في "السنن" (1/ 134)، وابن سعد في "الطبقات" (5/ 552)، وأبو داود =

حمزة: "إنها لا تحلُّ لي؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة" (¬1)، وقوله في الصدقة: "إنها لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخُ الناس" (¬2). وقد قَرَّب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأحكام لأمته (¬3) بذكر نظائرها وأسبابها، وضَرَبَ لها الأمثال، فقال له عمر: يا رسول اللَّه صَنَعْتُ اليوم أمرًا عظيمًا (¬4)؛ قَبَّلْتُ وأنا صائم، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أرأيت لو تَمَضْمَضْتَ بماء وأنت صائم؟ فقلت (¬5): لا بأس بذلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَصُمْ" (¬6) ولولا أنَّ حكم المثل حكم مثله، وأنَّ المعاني والعِلَلَ مؤثرة في الأحكام نفيًا وإثباتًا لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى، فذكرهُ ليدل به على أنَّ حكم النظير حكمُ مثله، وأن نسبة القُبْلة التي هي وسيلة للوطء كنسبة وَضْع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شُرْبِه، فكما أن هذا الأمر ¬

_ = الطيالسي (204 - منحة)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1675) من طريق قيس بن طلق عن أبيه. والحديث صححه عمرو بن علي الفلاس، وابن المديني، والطحاوي، وابن حبان، والطبراني، وابن حزم؛ كما في "التلخيص" (1/ 125)، وتكلم فيه غير واحد -أيضًا- وانظر "الخلافيات" للبيهقي (2/ 306)، وتعليقي عليه. (¬1) رواه أحمد (1/ 82 و 114 و 126 و 158)، ومسلم (1446) في (الرضاع): باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، من حديث علي -رضي اللَّه عنه-. وأخرجه البخاري (4251) في (المغازي): باب عمرة القضاء، من حديث البراء، وفيه قصة. (¬2) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الزكاة): باب ترك استعمال آل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الصدقة (1072) من حديث المطلب بن ربيعة بن الحارث. (¬3) في المطبوع و (ك): "إلى أمته"، وفي (ك): "وقد فَرَّق"!. (¬4) في المطبوع و (ق) و (ك): "صنعت اليوم يا رسول اللَّه أمرا عظيمًا" كذا بتقديم وتأخير. (¬5) في (ق): "فقال". (¬6) رواه ابن أبي شيبة (3/ 61)، وأحمد (1/ 21، 52)، والدارمي (2/ 13)، وأبو داود (2385) في (الصوم): باب القبلة للصائم، والنسائي في "الكبرى" (3048)، وابن حبان (3544)، والحاكم (1/ 431)، والبيهقي (4/ 218 و 261)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 89) من طريق الليث بن سعد، عن بُكير بن عبد اللَّه بن الأشج، عن عبد الملك بن سعيد، عن جابر بن عبد اللَّه أن عمر قال. . . وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي! لكن عبد الملك بن سعيد من رجال مسلم فقط. وقوله: "فصم" وقعت في (ك) و (ق): "نعم".

لا يضر فكذلك الآخر (¬1)، وقد [قال -صلى اللَّه عليه وسلم- للرجل الذي] (¬2) مسألة فقال: إنَّ أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوبَ الرَّحْلِ، والحجُّ مكتوب عليه، أفأحجُّ عنه؟ قال (¬3): "أنْتَ أكْبَرُ ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يُجْزي عنه؟ قال: نعم، قال: فَحُجَّ عنه" (¬4) فقرَّب الحكمَ من الحكم، وجعل دَيْن اللَّه [سبحانه] (¬5) في وجوب القضاء أو في قبوله بمنزلة دَيْن الآدمي، وألحق النظير بالنظير، وأكَد هذا المعنى بضَرْب من الأوْلى، وهو قوله: "اقْضُوا اللَّه؛ فاللَّه أحَقُّ بالقَضَاء" (¬6) ومنه الحديث الصحيح أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ¬

_ (¬1) في (ق): "فكذلك نظيره"، وفي (ك): "فكذلك". (¬2) ما بين المعقوفتين في (ك): "قال لرجل النبي"، وفي (ق): "قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لرجل". (¬3) في (ق): "فقال". (¬4) رواه بهذا اللفظ أحمد (4/ 5)، والدارمي (2/ 41) في (الحج): باب الحج عن الميت، والنسائي في (الحج) (5/ 117) باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين، وأبو يعلى (6812)، والبيهقي (4/ 329) من طريق جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير عن عبد اللَّه بن الزبير. قال البيهقي: اختلف في هذا على منصور، فرواه جرير بن عبد الحميد هكذا، ورواه عبد العزيز بن عبد الصمد عن منصور عن مجاهد عن مولى لابن الزبير يقال له: يوسف بن الزبير، أو الزبير بن يوسف عن ابن الزبير عن سودة، وأرسله الثَّوري عن منصور فقال: عن يوسف بن الزبير عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، والصحيح عن مجاهد، عن يوسف بن الزبير، عن ابن الزبير عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كذلك قاله البخاري. أقول: رواية عبد اللَّه بن الزبير عن سودة: رواها أحمد (6/ 429)، والدارمي (2/ 41)، وأبو يعلى (6818)، والطبراني في "الكبير" (24/ 101)، والبيهقي (4/ 429). ومثل هذا الاختلاف لا يضر؛ لكن يبقى النظر في حال يوسف بن الزبير أو الزبير بن يوسف، إذ أنه روى عنه أكثر من واحد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبي في "الكاشف": "وثق"، وذكر حديثه هذا في "الميزان" (4/ 465)، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد"، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 282): رجاله ثقات. على كل حال يوسف هذا حديثه يرتقي إلى الحسن في أحسن أحواله. وشاهده عند البخاري في "صحيحه" (كتاب جزاء الصيد): باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة: (4/ 66/ رقم 1853، 1854)، وفي (باب الحج والنذور عن الميت): (4/ 64/ رقم 1852) من نفس الكتاب، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الحج): باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، (2/ 973 /رقم 1334)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنه-. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) رواه البخاري في (جزاء الصيد) (1852): باب الحج والنذور عن الميت، و (6699) في =

"وفي بُضْع أحَدكم صدقة، قالوا: يا رسول اللَّه يأتي أحَدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضَعَها في حرام أكان يكن (¬1) عليه وِزْر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر" (¬2) وهذا من قياس العكس الجَليّ البيّن (¬3)، وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه، ومنه الحديث الصحيح: "أن أعرابيًا أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إن امرأتي وَلَدَتْ غلامًا أسْوَدَ، وإني أنكَرْتُه، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل لَكَ من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْر، قال: هل فيها من أوْرَقَ؟ قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: فأنَّى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول اللَّه عِرْق نَزَعه، قال: ولعلَّ هذا عرق نزعه" (¬4)، ولم يرخَّصْ له في الانتفاء منه، ومن تراجم البخاري على هذا الحديث "باب مَنْ شَبَّه أصلًا معلومًا بأصل مُبين قد بَيِّن اللَّه حكمهما ليفهم السائل" ثم ذكر بعده حديث ابن عباس: "أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: إن أمي نَذَرَتْ أن تحجَّ فماتت قبل أن تحج، أفأحجُّ عنها؟ قال: نَعَمْ حُجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيتَهُ؟ قالت: نعم، فقال: اقضوا اللَّه [فإن اللَّه] (¬5) أحقُّ بالوفاء" (¬6). ¬

_ = (الأيمان والنذور): باب من مات وعليه نذر، و (7315) في (الاعتصام): باب من شبه أصلًا معلومًا بأصل مُبَيَّن، من حديث ابن عباس. ولفظ الحديث في الموطن الأول والثالث: "فإن اللَّه أحق بالوفاء". (¬1) في (ق): "يكون". (¬2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الزكاة) باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، (2/ 697/ رقم 1006) من حديث أبي ذر. ووقع في (ك): "قال نعم، قال أرأيتم". وفي الحديث ثبتَ -عليه الصلاة والسلام- الأجر لوضع الشهوة في حلال مقارنًا له على وجه التمثيل بثبوت الوزر بوضعها في حرام، وهذا ما يسميه الأصوليون قياس العكس، وهو الاستدلال بنقيض العلة على الحكم، والتحقيق أنه بطريق أضعف من قياس الشبه؛ فلا يستقل بتفصيل الحكم، ومن الجائز أن يكون ثبوت الأجر لوضع الشهوة في الحلال متلقى من طريق الوحي، وتكون مقارنته بوضعها في حرام، واردة لغرض آخر كتقريب المعنى إلى فهم المخاطب، لا للتنبيه على دخول هذا النوع في المقاييس المعتد بها في أصول الأحكام. (¬3) في (ق): "المبين". (¬4) رواه البخاري (5305) في (الطلاق): باب إذا عَرَّض بنفي الولد، و (6847) في (الحدود): باب ما جاء في التعريض، و (7314) في (الاعتصام): باب من شَبَّه أصلًا معلومًا بأصل مبين، ومسلم (1500) في (اللعان)، من حديث أبي هريرة. (¬5) بدلها في (ق): "فاللَّه". (¬6) رواه البخاري (1852) في (جزاء الصيد): باب الحج والنذور عن الميت، و (6699) في =

[ذكر البخاري فصل النزاع في القياس]

[ذكر البخاري فصل النزاع في القياس] وهذا الذي ترجمه البخاري هو فَصْلُ النزاع في القياس، لا كما يقوله المفْرِطون فيه ولا المفرِّطون؛ فإن الناس فيه طرفان ووسط، فأحد الطرفين مَنْ ينفي العلَل والمعاني والأوصاف المؤثرة (¬1)، ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين والجمع بين المختلفين، ولا يثبت أن اللَّه أسبحانه، (¬2) شرع الأحكامَ لعلل ومصالح، ورَبَطها باوصاف مؤثرة فيها مقتضية لها طَرْدًا وعكسًا، وأنه قد يوجبُ الشيءَ ويحرم نظيره من كل وجه، ويحرِّم الشيء ويبيح (¬3) نظيره من كل وجه، وينهى عن الشيء لا لمفسدة فيه، ويأمر به لا لمصلحة، بل لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والمصلحة، وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه، وتوسَّعُوا جدًّا، وجمعوا بين الشيئين اللذين فَرَّقَ اللَّه بينهما بأدنى (¬4) جامع من شَبَهٍ أو طَرْدٍ أو وَصْفِ يتخيَّلونه علةً يمكن أن يكون علته و [يمكن] (¬5) أن لا يكون، فيجعلونه هو السبب الذي عَلَّق اللَّه ورسوله عليه الحكم بالخَرْصِ والظَّنِّ، وهذا هو الذي أجمع السلفُ على ذمِّه كما سيأتي إن شاء اللَّه [تعالى] (2). والمقصود أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر في الأحكام العللَ والأوصافَ المؤثرة فيها طَرْداَ وعَكْسًا؛ كقوله للمستحاضة التي سألته: هل تَدَعُ الصلاة زمن استحاضتها؟ فقال: "لا، إنما ذلك عِرْقٌ ولَيْسَ بالحَيْضَةِ" (¬6) فأمَرَها أن تصلي مع هذا الدم، وعلل بأنه دم عِرْق وليس بدم حيض، وهذا قياس يتضمن الجمع والفرق. ¬

_ = (الأيمان والنذور): باب من مات وعليه نذر، و (7315) في (الاعتصام): باب من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين، وفي (6699) قالت: إن أختي. (¬1) انظر عن هؤلاء ومناقشتهم نقاشًا طويلًا قويًا مع دحض حججهم "الموافقات" للشاطبي (5/ 229 - 231)، وتعليقي عليه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "ويدع". (¬4) في (ن): "بأدق". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك)، ووقع في (ق): "أن يكون علة وألا يكون". (¬6) رواه البخاري (228) في (الوضوء): باب غسل الدم، و (356) في (الحيض): باب الاستحاضة، و (320) باب إقبال المحيض وإدباره، و (325) باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيضات، و (331) باب إذا رأت المستحاضة الطهر، ومسلم (333، 334) في (الحيض): باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، من حديث عائشة.

[قد تغني العلة عن ذكر الأصل]

[قد تغني العلة عن ذكر الأصل] فإن قيل: فشرطُ صحَّةِ القياس ذكر الأصل المقيس عليه، ولم يذكر في الحديث؟. قيل: هذا من حُسْن الاختصار، [والاستغناء] (¬1) بالوصف الذي يستلزم ذكر الأصل [المقيس عليه] (¬2)؛ فإن المتكلَّم قد يُعَلل بعلةٍ يغني ذكرُها عن ذكر الأصل، ويكون تركه لذكر الأصل أبَلَغَ من ذكره، فيعرف السامع الأصْلَ حين يسمع ذكر العلة؛ فلا يُشْكِل عليه، ورسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين علَّل عدمَ وجوب (¬3) الصلاة مع هذا الدم بأنه عِرقٌ صار الأصل الذي يُرَدُّ إليه هذا الكلام معلومًا، فإنَّ كل سامعٍ سَمِعَ هذا يفهم منه أن دم العرق لا يوجب ترك الصلاة، [ولو قال: "هو عرق فلا يوجب ترك الصلاة] (¬4) كسائر دم العروق"؛ لكان عيًّا، وعُدَّ من الكلام الركيك، ولم يكن لائقًا بفصاحته، وإنما يليق هذا بِعَجْرفة المتأخّرين وتكلُّفهم وتطويلهم. ونظيرُ هذا قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) لمن سأله عن مَسِّ ذكره: "هلْ هُوَ إلا بضعة منك" (¬6) فاستغنى بهذا عن تكلف قوله: كسائر البضعات. ومن ذلك قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (5) للمرأة التي سألته: "هل على المرأة من غسْلٍ إذا هي احتلَمَتْ؟ فقال: نعم، فقالت أم سليم: أَوَ تحتلمُ المرأةُ يا رسول اللَّه؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما النساء شَقَائِقُ الرجال" (¬7) فَبيَّن أن النساء والرجال شقيقان ¬

_ (¬1) في (د): "والاستغناه"، ووقع في (ق): "من أحسن". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) قال في هامش (ق): "لعله: عدم ترك". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) وقال الناسخ في الهامش: "لعله: ولو قال". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) نقدم تخريجه قريبًا. (¬7) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 256)، وأبو دود (236) في (الطهارة): باب في الرجل يجد البلة في منامه، والترمذي (113) في (الطهارة): باب ما جاء فيمن يستيقظ فيرى بللًا، ولا يذكر احتلامًا، وأبو يعلى في "مسنده" (4694)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 168)، والدارقطني (1/ 133)؛ كلهم من طريق عبد اللَّه العمري، عن أخيه عبيد اللَّه العمري، عن القاسم، عن عائشة به، وقال الترمذي: "وعبد اللَّه بن عمر ضعفه يحيى بن سعيد من قبل حفظه في الحديث". أقول: وقد ضَعّفه غير واحد، لكن يقبل حديثه في المتابعات، وله شاهد من حديث أنس بن مالك، رواه الدارمي (1/ 195)، وأبو عوانة (1/ 290)، وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" للبزار -ولم أجده في "كشف الأستار"، ولا "مجمع الزوائد" وساق ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 271) إسناده ولفظه- من طريق محمد بن كثير، عن =

فصل [حديث معاذ حين بعثه الرسول إلى اليمن]

ونَظيران لا يتفاوتان ولا يتباينان في ذلك، وهذا يدل على أنه من المعلوم الثابت في فِطَرهم أن حكم الشقيقين والنظيرين حكم واحد، سواء كان [ذلك] (¬1) تعليلًا منه -صلى اللَّه عليه وسلم- للقدر أو للشرع أو لهما؛ فهو دليل على تساوي الشقيقين وتشابه القرينين، وإعطاء أحدهما حكم الآخر. فصل [حديث معاذ حين بعثه الرسول إلى اليمن] وقد أقر (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معاذًا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه [نصًا] (¬3) عن اللَّه ورسوله (¬4)، فقال شعبة: حدثني أبو عَون، عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أصحاب معاذ [عن معاذ] (3) أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال (¬5): كيف تَصنع إن عَرَضَ لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب اللَّه، قال: فإن لم يكن في كتاب اللَّه؟ قال: فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: أجتهد رأيي، لا آلو (¬6)، قال: فَضَرَبَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صدري، ثم قال: الحمدُ للَّه الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللَّه لما يُرضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬7) فهذا حديث وإن كان [عن] (3) ¬

_ = الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة، عن أنس: وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات، غير أن محمد بن كثير صدوق، كثير الخطأ. وصححه عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (1/ 192) وأقره ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (1/ 229 و 5/ 271) لكن وجدته في "مسند أحمد" (6/ 377) من طريق المغيرة عن الأوزاعي. حدثني إسحاق عن جدته أم سليم: قال الهيثمي (1/ 268): وإسحاق لم يسمع من أم سُليم، أقول: وهذا لا يعل الطريق السابق لثقة رجاله واللَّه أعلم. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ن): "أمر". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ق) بعدها: "-صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬5) في (ق): "فقال". (¬6) "لا آلو: لا أقصر ولا أدخر وسعًا" (د) ونحوه في (ط) وقد سقطت من (ق). (¬7) أخرجه أحمد في "المسند" (5/ 230، 236، 242)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الأقضية): باب اجتهاد الرأي في القضاء (4/ 18 - 19/ رقم 3592)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الأحكام): باب ما جاء في القاضي كيف يقضي (3/ 616/ رقم 1327)، والدارمي في "السنن" (المقدمة): باب الفتيا وما فيه من الشدة، (1/ 60)، والطيالسي في "المسند" (1/ 286 - منحة المعبود)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (2/ 347، 584)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ص 145 - 155، 188 - 189)، وابن عبد البر في "جامع البيان" (2/ 55 - 56)، والبيهقي في "السنن الكبرى" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (10/ 114)، و"معرفة السنن والآثار" (1/ 173 - 174)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 272)، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير" (1/ 205 - 206/ رقم 101)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (1/ 215)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (124)، وابن حزم في "الإحكام في أصول الأحكام" (6/ 26، 35 و 7/ 111 - 112)، والمزي في "تهذيب الكمال" (5/ 266 - 267) من طرق عن شعبة عن أبي عون الثقفي؛ قال: سمعت الحارث بن عمرو يحدث عن أصحاب معاذ من أهل حمص أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له:. . . وذكره، وذكر بعضهم أن شعبه قال في الحارث: "ابن أخي المغيرة بن شعبة". ورجال إسناد الحديث ثقات إلا الحارث بن عمرو؛ فأبو عون اسمه محمد بن عبيد اللَّه الثقفي، الكوفي، الأعور، ثقة، من الرابعة؛ كما في "التقريب" (2/ 187)، و"التهذيب" (9/ 322). ومدار إسناد الحديث على الحارث بن عمرو، قال الترمذي عقبه: "لا نعرفه إلا من هذا الوجه". فتحرير حاله، وبيان أصحاب معاذ، وهل هم الذين رفعوا الحديث أم رووه عن معاذ، ومن هو الذي رفعه؟ هذه الأمور هي الفيصل في الحكم على الحديث. الكلام على الحارث بن عمرو: قال ابن عدي في "الكامل" (613/ 2): "سمعت ابن حماد يقول: قال البخاري: الحارث بن عمرو ابن أخي المغيرة بن شعبة، روى عن أصحاب معاذ عن معاذ، روى عنه أبو عون، لا يصح ولا يعرف، والحارث بن عمرو، وهو معروف بهذا الحديث الذي ذكره البخاري عن معاذ لما وجهه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى اليمن فذكره" انتهى بحروفه. قلت: المتمعن في هذا النقل يتأكد له ما قاله الترمذي من أن حديث معاذ لا يعرف إلا من طريق الحارث هذا، ووجدت الإمام البخاري -رحمه اللَّه تعالى- في "التاريخ الكبير" (2/ 177/1، 275)، يقول في الحارث وحديثه هذا: "ولا يصح ولا يعرف إلا بهذا". ونقله عنه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (1/ 215) وارتضاه بسكوته عنه، وكذلك فعل الحافظ ابن كثير القرشي في "تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" (ص 152). وجهَّل الحارث بن عمرو جماعةٌ من أهل العلم؛ منهم ابن الجوزي؛ فقال في "العلل المتناهية" (2/ 272): ". . . ثبوته لا يعرف لأن الحارث بن عمرو مجهول. . . "، وقال الجورقاني في "الأباطيل" (1/ 106): "هذا حديث باطل، رواه جماعة عن شعبة عن أبي عون الثقفي عن الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة بن شعبة كما أوردناه، واعلم أنني تصفحت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألت من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقًا غير هذا، والحارث بن عمرو هذا مجهول". وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 68): "والحارث هو ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا تعرف له حال ولا يدرى، روى عنه غير أبي عون: محمد بن عبيد اللَّه الثقفي". قلت: وقال بنحو كلام الجورقاني هذا شيخه ابن طاهر القيسراني في تصنيف مفرد في طرق هذا الحديث، ونقل خلاصة كلامه الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 183)؛ فقال: "اعلم أنني فحصت عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وسألت عنه من لقيته من أهل العلم بالنقل؛ فلم أجد له غير طريقين: أحدهما: طريق شعبة، والأخرى: عن محمد بن جابر، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن رجل من ثقيف، عن معاذ، وكلاهما لا يصح". ثم أفاد الحافظ ابن حجر أن الخطيب البغدادي أخرجه في كتاب "الفقيه والمتفقه" من رواية عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل، فلو كان الإسناد إلى عبد الرحمن ثابتًا؛ لكان كافيًا في صحة الحديث. انتهى. ولا بد هنا من ضرورة التأكيد على صحة ما قدمناه عن جماعة من جهابذة الجرح والتعديل: أن الحارث بن عمرو قد تفرد بالحديث عن أصحاب معاذ، ومجرد وجود طرق أخرى من غير طريق أصحاب معاذ، لا يعني أن الحارث لم يتفرد به. وهنا طريقان غير طريق الحارث: الأولى: التي ذكرها ابن طاهر: محمد بن جابر عن أشعث بن أبي الشعثاء عن رجل من ثقيف عن معاذ، وهي غير صحيحة؛ كما قال ابن طاهر، للإبهام الذي فيها، ولضعف رواتها. والثانية: طريق عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وتفرد بها عبادة بن نُسَي -بضم النون، وفتح السين، بعدها ياء مشددة-، وهو من الرواة الأردنيين، يكنى أبا عمر، ثقة فاضل مات سنة ثمان عشرة ومئة؛ كما في "التهذيب" (5/ 113). وروى هذا الحديث عن عبادة بن نُسَيّ محمد بن سعيد بن حسان، وقد أبهم في رواية الإمام سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي في كتاب "المغازي" له؛ كما في "النكت الظراف" (8/ 422) لابن حجر، و"تحفة الطالب" (ص 153) لابن كثير؛ فوقع إسناد الحديث عنده هكذا: قال الإمام سعيد بن يحيى: حدثني أبي حدثني رجل عن عبادة بن نُسَيّ به. ولكن وقع التصريح به في "سنن ابن ماجه" (1/ 12/ رقم 55)، ومن طريقه الجورقاني في "الأباطيل" (1/ 108 - 109/ رقم 102)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 310/ أ)؛ فرواه من طريق الحسن بن حماد سجادة -صدوق-، ثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن سعيد بن حسان عن عبادة به. قال الجورقاني عقبه: "هذا حديث غريب حسن"، وذكره المؤلف -رحمه اللَّه- في "تهذيب السنن" (5/ 213)، وقال: "هذا أجود إسنادًا من الأول (أي: حديث معاذ المتكلم عليه)، ولا ذكر للرأي فيه" انتهى. قلت: ولفظ هذا الحديث: "لا تقضين ولا تفصلن إلا بما تعلم، فإنْ أشكل عليك أمر؛ فقف حتى تبينه أو تكتب إلَيّ فيه". وذكره الجورقاني وحسنه مع غرابته؛ كما تقدم ليبيِّن بطلان لفظ حديث معاذ هذا، إذ أورده تحت عنوان "في خلف ذلك". وما أصاب الجورقاني، ولا ابن القيم في قولهم: إن إسناد هذا الحديث أجود من الحديث الذي فيه للرأي ذكر؛ إذ فيه: "محمد بن سعيد بن حسان": وهو المصلوب، المتهم الكذاب. قال ابن كثير في "تحفة الطالب" (ص 155) بعد أن ذكر طريق الأموي في "مغازيه" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بوجود المبهم فيه، ومن ثم طريق ابن ماجه المبينة أنه المذكور؛ فقال: "فتبيَّنا بهذا أن الرجل الذي لم يُسَمّ في الرواية الأولى، هو محمد بن سعيد بن حسان، وهو المصلوب، وهو كذاب وضاع للحديث، اتفقوا على تركه". ولهذا قال البوصيري في "زوائد ابن ماجه" (ورقة / ب): "هذا إسناد ضعيف، محمد بن سعيد هو المصلوب، اتهم بوضع الحديث"، وقال ابن حجر في "موانقة الْخُبْر الْخَبر" (1/ 122): "لا يصلح حديثه لاستشهاد ولا متابعة". نعم، لم يتفرد به محمد بن سعيد المصلوب؛ فقد رواه آخر عن عبادة بن نُسَيّ، ولكن إسناده لا يفرح به؛ فقد أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (16/ 310/ أ) من طريق سليمان الشاذكوني: نا الهيثم بن عبد الغفار، عن سَبْرة بن معبد، عن عُبادة به، ولكن الشاذكوني كذاب؛ فهذه الطريق كالماء، لا تشدُّ شيئًا. فالخلاصة: أن هذين الطريقين غير صحيحين، ولهذا قال الحافظ عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (3/ 96): "لا يسند، ولا يوجد من وجه صحيح"، بل قال ابن الملقن في "البدر المنير" (5/ في 214): "وهو حديث ضعيف بإجماع أهل النقل فيما أعلم"، ونقل فيه عن ابن دحية في كتابه "إرشاد الباغية والرد على المعتدي مما وهم فيه الفقيه أبو بكر بن العربي": "هذا حديث مشهور عند ضعفاء أهل الفقه، لا أصل له؛ فوجب اطراحه". عودة إلى الحارث بن عمرو: اضطرب الإمام الذهبي في الحكم على "الحارث بن عمرو"؛ فقال في ترجمته في "الميزان" (1/ 439): "ما روى عن الحارث غير أبي عون؛ فهو مجهول"، وأورده في "مختصر العلل" (ص 1046 - 1047)، وقال: "قال ابن الجوزي وغيره: الحارث مجهول، قلت (الذهبي): ما هو مجهول، بل روى عنه جماعة، وهو صدوق إن شاء اللَّه". كذا قال هنا، مع أنه قال في "الميزان": "مجهول"؛ فانظر إلى هذا الاضطراب (1). ولم يذكر لنا الجماعة الذين رووا عنه، أما إخراج بعضهم له من حيز الجهالة؛ -كما فعل الكوثري في "مقالاته" (ص 60 - 61) - بمجرد قول شعبة: "ابن أخي المغيرة بن شعبة"؛ فلا شيء لأنه لم يقل أحد من علماء الحديث أن الراوي المجهول إذا عرف اسم جده أو بلده، بل اسم أخي جده، خرج بذلك عن جهالة العين إلى جهالة الحال، قال الخطيب في "الكفاية": "المجهول عند أهل الحديث من لم يعرفه العلماء، ولا يعرف حديثه إلا من جهة واحد. . . "، ومن ثم؛ فإن قول: "وهو ابن أخي المغيرة بن شعبة": يحتمل أن تكون ممن هو دون شعبة، والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط من الاستدلال. = _______ (1) ووجدت له في "السير" (18/ 72) في ترجمة الجويني اضطرابًا آخر، إذ قال: ". . . بل مداره على الحارث بن عمرو، وفيه جهالة، عن أهل حمص عن معاذ، فإسناده صالح" فجعل إسناده صالحًا هنا، مع تصريحه بجهالة الحارث.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أصحاب معاذ: ضعّف هذا الحديث كثير من المحدثين بجهالة أصحاب معاذ، قال ابن حزم: "هذا حديث ساقط، لم يروه أحد من غير هذا الطريق، قلت: أي طريق الحارث: وأول سقوطه أنه عن قوم مجهولين لم يسموا؛ فلا حجة فيمن لا بعرف من هو"، وقال بعد نَقْل قول البخاري السابق فيه ما نصه: "وهذا حديث باطل لا أصل له"، وقال الجورقاني: "وأصحاب معاذ من أهل حمص لا يعرفون، ومثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصل من أصول الشريعة"، وكذا قال ابن الجوزي في "الواهيات". وأعله الحافظ العراقي في "تخريج أحاديث البيضاوي" (ص 87 - بتحقيق العجمي) بجهالة أصحاب معاذ -أيضًا-، وسيأتي كلامه إن شاء اللَّه تعالى. ورد المصنفُ هذه العلة؛ فأجاب عنها بقوله في "إعلام الموقعين" الآتي: "وأصحاب معاذ كان كانوا غير مسمين؛ فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق، بالمحل الذي لا يخفى. . . " (1)، وكذا قال ابن العربي في "العارضة" (6/ 72 - 73)، وقبله الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 189). قلت: وكلامهم متين وقوي، ولكن علة الحديث غير محصورة في جهالة أصحاب معاذ؛ فالحديث يعل بالعلة الأولى والأخيرة، ولا يعل بهذه، ولبسط ذلك وتوضيحه أقول في كون هذه الحلة قاصرة غير صالحة: أخرج البخاري -الذي شرطه الصحة- حديث عروة البارقي: سمعت الحي يتحدثون عن عروة، ولم يكن ذلك الحديث في جملة المجهولات، وقال مالك في "القسامة": "أخبرني رجال من كبراء قومه"، وفي "الصحيح" عن الزهري: "حدثني رجال عن أبي هريرة: من صلى على جنازة؛ فله قيراط". فجهالة أصحاب معاذ جرح غير مؤثر، لا سيما أن مذهب جمع من المحدثين كابن رجب، وابن كثير تحسين حديث المستور من التابعين، والجماعة خير من المستور كما لا يخفى، ولهذا لم يذكر ابن كثير في "تحفة الطالب" هذه العلة ألبتة، مع أن كلامه يفيد تضعيفه للحديث. تنبيه: وقال الذهبي في "مختصر العلل" (ص 1046 - 1047) في رد هذه العلة: "وقال -أي ابن الجوزي-: وأصحاب معاذ لا يعرفون، قلت (الذهبي): ما في أصحاب محمد بحمد اللَّه ضعيف لا سيما وهم جماعة". كذا وقع فيه، والعبارة لا تخلو من أمرين: إما سليمة فهذا وهم من الذهبي -رحمه اللَّه-، فأصحاب معاذ ليسوا أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ حتى يقال فيهم هذا الكلام، والسياق يدل على أنهم من التابعين، والتابعي يجوز أن يكون ضعيفًا، وإما خطأ من النساخ، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والصواب (أصحاب معاذ)، وهذا الظاهر؛ فحينئذٍ يتوافق ما قلناه مع ما عنده، مع ملاحظة أن التابعي يجوز أن يكون ضعيفًا. الكلام على وصله وإرساله: وخير من تكلم وحرر هذا المبحث الدارقطني في "العلل" (م 2/ 48 / ب، و 49/ أ - مخطوط)؛ فقال: "رواه شعبة عن أبي عون هكذا (أي: موصولًا، وأرسله ابن مهدي وجماعات عنه، والمرسل أصح، قال أبو داود (أي: الطيالسي): أكثر ما كان يحدثنا شعبة عن أصحاب معاذ أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال مرة: عن معاذ" انتهى. وقال الترمذي في الحديث: "ليس إسناده عندي بمتصل"، قال ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر"، (1/ 118): "وكأنه نفى الاتصال باعتبار الإبهام الذي في بعض رواته، وهو أحد القولين في حكم المبهم". وأعل العراقي الحديث في "تخريج أحاديث البيضاوي" بعلل ثلاث: الأولى: الإرسال هذا، والثانية: جهالة أصحاب معاذ، والثالثة: جهالة الحارث بن عمرو. مسرد عام بأسماء من ضعف الحديث: ضَعّف حديث معاذ هذا جماعة من جهابذة أهل الحديث، على رأسهم أميرهم الإمام البخاري، وتلميذه الترمذي، والدارقطني، والعقيلي، وابن طاهر القيسراني، والجورقاني -بالراء المهملة وليس بالمعجمة، ذاك الجوزجاني صاحب "أحوال الرجال"-، وابن حزم، والعراقي، وابن الجوزي، وابن كثير، وابن حجر، وغيرهم من الأقدمين، واضطرب فيه الذهبي كما بينا. مسرد بأسماء من صحيح الحديث: صحيح حديث معاذ هذا أبو بكر الرازي، وابن العربي المالكي في "عارضة الأحوذي"، والخطيب البغدادي، وابن قيم الجوزية، وغيرهم من المتأخرين. ملحظ من صححه ومن ضعفه: نظر مصححوه إلى عدم كون جهالة أصحاب معاذ علة قادحة فيه، وتناسوا الإرسال، وجهالة الحارث بن عمرو، أما من ضعفه؛ فبعضهم ذكر العلل القادحة -على ما بيناه-، وهما علتا الإرسال، وجهالة الحارث، كالحافظ ابن كثير في "تخريج أحاديث منتهى ابن الحاجب"، وبعضهم زاد علة غير قادحة -على ما حققناه-، وهي جهالة أصحاب معاذ، ونحى بعضهم منحى آخر؛ فقال بعد أن اعترف بضعفه، وأنه لا يوجد له إسناد قائم: "لكن اشتهاره بين الناس وتلقيهم له بالقبول مما يقوي أمره"؛ كما فعل عبد اللَّه الغماري في "تخريج أحاديث اللمع في أصول الفقه" (ص 299)، وسبقه أبو العباس ابن القاضي فيما نقله عنه الحافظ في "التلخيص" (4/ 183)، وقال الغزالي في "المستصفى" (2/ 254): "وهذا حديث تلقته الأمة بالقبول، ولم يظهر أحد فبه طعنًا وإنكارًا، وما كان كذلك؛ فلا يقدح فيه كونه مرسلًا، بل لا يجب البحث عن إسناده"، وأطلق صحة الحديث جماعة من الفقهاء -أيضًا- كالباقلاني، وأبي الطيب الطبري؛ لشهرته وتلقي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = العلماء له، وكأني بالجورقاني يرد عليهم عندما قال في "الأباطيل" (1/ 106): "فإن قيل لك: إن الفقهاء قاطبة أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه؟ فقل: هذه طريقة، والخَلَف قلّد فيه السلف، فإن أظهروا غير هذا مما ثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم ألبتة"، وكذلك ابن الجوزي عندما قال في "العلل المتناهية" (2/ 272): "وهذا حديث لا يصح، وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه في كتبهم ويعتمدون عليه". هل معنى حديث معاذ صحيح؟ اختلف العلماء: هل معنى هذا الحديث صحيح أم لا؟ فمن نفى صحة معناه؛ فنفيه لصحة مبناه من باب أولى؛ ولكن كان سبب صحة معناه عند بعضهم صحة مبناه؛ فكأنه صححه لشواهده، واعتدل الآخرون فنفوا صحته من حيث الثبوت، وأثبتوها من حيث الدلالة، وإن كان إطلاق ذلك لا يسلم من كلام ما سيتبين معك -إن شاء اللَّه تعالى-. فممن صحيح معنى الحديث، وانبنى عليه تصحيحه لمبناه: الإمام الذهبي؛ فقال في "مختصر العلل"؛ "هذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح؛ فإن الحاكم يضطر إلى الاجتهاد، وصح أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر". فتحسينه وإسناده غير صحيح؛ إذ لم يسلم من علة الإرسال، وجهالة الحارث؛ ولكن تصحيح معناه فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص صحيح، لا مجال للقول بخلافه، لا سيما أن شواهده كثيرة من نصوص أخرى تؤكد هذا المعنى. وأطلق ابن الجوزي تصحيح معنى الحديث في "العلل المتناهية" (2/ 272)، وإن كان يرى عدم ثبوته؛ فقال: ". . . ولعمري إن كان معناه صحيحًا، إنما ثبوته لا يعرف". قلت: وإطلاق تصحيح معناه فيه نظر؛ فمتنه لا يخلو من نكارة؛ إذ فيه تصنيف السنة مع القرآن، وإنزاله إياه معه منزلة الاجتهاد منهما، فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة؛ فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب، وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معًا، وعدم التفريق بينهما؛ لما علم من أن السنة تبين مجمل القرآن وتقيد مطلقه، وتخصص عمومه؛ كما هو معلوم، أفاده شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم 881). الخلاصة والتنبيهات: وخلاصة ما تقدم أن حديث معاذ هذا أعل بثلاث علل، لم تسلم إلا واحدة منها، وهي جهالة أصحاب معاذ، وبقيت اثنتان، وهما جهالة الحارث والإرسال؛ فهو ضعيف من حيث الثبوت، وصحيح في بعض معناه، ومنكر في التفرقة بين الكتاب والسنة من حيث الحجية، وحصر حجية السنة عند فقد الكتاب؛ كما ذكرناه آنفًا. ونختم الكلام على هذا الحديث بملاحظتين: الأولى: أفاد ابن حزم في "ملخص إبطال القياس" (ص 14) أن بعضهم موه وادّعى فيه التواتر!! قال: "وهذا كذب، بل هو ضد التواتر؛ لأنه لا يعرف إلا عن أبي عون، وما =

غير مُسمَّيْنَ فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حَدَّث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ، لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمّي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى؟ ولا يُعْرف في أصحابه مُتهم وكذاب (¬1) ولا مجروح، [بل أصحابه] (¬2) من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث (¬3)؟ وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدُدْ يديك به، قال أبو بكر الخطيب (¬4): "وقد قيل إن عُبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غُنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوه (¬5) واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا وصية لوارث" (¬6) وقوله في البحر: "هُوَ ¬

_ = احتج به أحد من المتقدمين"، وأقره الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 183). والأخيرة: قال ابن طاهر القيسراني: "وأقبح ما رأيت فيه قول إمام الحرمين في كتاب "أصول الفقه": والعمدة في هذا الباب على حديث معاذ! قال: وهذه زلة منه، ولو كان عالمًا بالنقل لما ارتكب هذه الجهالة". وتعقبه الحافظ في "التلخيص" (4/ 183)؛ فقال: "قلتُ: أساء الأدب على إمام الحرمين، وكان يمكنه أن يعبر بألين من هذه العبارة، مع أن كلام إمام الحرمين أشد مما نقله عنه؛ فإنه قال: والحديث مدون في الصحاح، متفق على صحته، لا يتطرق إليه التأويل، كذا قال -رحمه اللَّه-". اللهم ارزقنا الأدب مع علمائنا ومشايخنا، وتقبل منا، وارزقنا السداد والصواب، وجنبنا الخطأ والخلل والزلل. (¬1) في (ق): "ولا كذاب". (¬2) في (ك) و (ق): "وأصحابه". (¬3) نحوه عند القاضي أبي يعلى في "العدة" (4/ 12192 - 1293). (¬4) في "الفقيه والمتفقه" (1/ 472 - 473/ 515 - تحقيق عادل العزازي). (¬5) في (ن): "تقبلوه". (¬6) ورد الحديث عن عشرة من الصحابة: أمثلها حديث أبي أمامة الباهلي. رواه أحمد (5/ 267)، والطيالسي (1127)، وأبو داود (3565) في (البيوع): باب في تضمين العارية، و (2870) في (الوصايا): باب ما جاء في الوصية للوارث، وابن ماجه (2713) في (الوصايا): باب لا وصية لوارث، وسعيد بن منصور في "سننه" (428)، والطبراني في "الكبير" (7531 و 7615 و 7621)، والترمذي و (2120 و 2121) في (الوصايا): باب لا وصية لوارث، وعبد الرزاق في "مصنفه" (7277 و 16308)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (11/ 149)، والدارقطني (3/ 41)، والبيهقي (6/ 212 و 244 و 264)، =

الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته" (¬1) وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمةٌ ¬

_ = وابن عدي (1/ 290) من طريقين عن أبي أمامة أحدهما حسن، والآخر صحيح. وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وانظر أحاديث (الصحابة) مفصلة في "نصب الراية" (4/ 403)، و"التلخيص الحبير" (3/ 92)، و"إرواء الغليل" (6/ 88). (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (كتاب الطهارة): باب الطهور للوضوء، (1/ 22/ رقم 12) -ومن طريقه الشافعي في "الأم" (1/ 16) و"المسند" (8/ 335 - مع الأم)، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 231)، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" (رقم 46) -، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 131)، و"المسند" -كما في "نصب الراية" (1/ 96) -، وأحمد في "المسند" (2/ 237 و 361 و 393)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطهارة؛ باب الوضوء بماء البحر، (1/ 176، وكتاب الصيد والذبائح، باب ميتة البحر، 7/ 207)، و"السنن الكبرى" (رقم 67)، والنرمذي في "الجامع" (أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1/ 100 - 101/ رقم 69)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر، (1/ 64/ رقم 83)، والدارمي في "السنن" (كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر، (1/ 186، وكتاب الصيد، باب في صيد البحر 2/ 91) وابن ماجه في "السنن" (كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر) (1/ 136 رقم 386)، وكتاب الصيد، باب الطافي من صيد البحر (2/ 1081/ رقم 3246)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 478، ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 119 - موارد الظمآن)، وابن خزيمة في "الصحيح" (1/ 59/ رقم 111)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 43)، والدارقطني في "السنن" (1/ 36)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 140 - 141)، و"معرفة علوم الحديث" (ص 87)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 3)، و"السنن الصغرى" (1/ 63/ رقم 155)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 247)، والبغوي في "شرح السنة" (2/ 55 - 56/ رقم 281)، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" (1/ 346)، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، ونقل عن البخاري تصحيحه لهذا الحديث. وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، وابن السكن، وابن المنذر، والخطابي، والطحاوي، وابن منده، وابن حزم، والبيهقي، وعبد الحق، وابن الأثير، وابن الملقن، والزيلعي، وابن حجر، والنووي، والشوكاني، والصنعاني، وأحمد شاكر، والألباني. انظر: "نصب الراية" (1/ 95)، و"البدر المنير" (2 - 5)، و"التلخيص الحبير" (1/ 9)، و"المجموع" (1/ 82)، و"خلاصة البدر المنير" (رقم 1)، و"تحفة المحتاج" (رقم 3)، و"البناية في شرح الهداية" (1/ 297)، وتعليق شاكر على "جامع الترمذي" (1/ 101)، و"نيل الأوطار" (17/ 1)، و"سبل السلام" (1/ 15)، و"إرواء الغليل" (1/ 42). وقال الإمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا الحديث نصف علم الطهارة" انظر "المجموع" (1/ 84)، وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد (رقم 231 - 240)، مع تعليقي عليه. وفي تعظيم شأن الماء انظر: "زاد المعاد" (3/ 190 - 192)، و"بدائع الفوائد" (2/ 47).

تحالفا وترادَّا البيع" (¬1) وقوله: "الدِّيَة على. . . . . . . . ¬

_ (¬1) الحديث حديث ابن مسعود، وله عنه طرق، وفيها اختلاف. فقد أخرجه أبو داود (3511)، والنسائي (7/ 302)، وابن الجارود (625)، والحاكم (2/ 45)، والبغوي (2122)، والبيهقي (5/ 332)، وابن عبد البر (24/ 291 - 292). من طريق أبي عميس عن عبد الرحمن بن قيس بن محمد بن الأشعث عن أبيه عن جده عن ابن مسعود رفعه -وفيه قصة-: "إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بيّنة، فهو ما يقول رب السلعة أو يتتاركان"، وإسناده ضعيف، عبد الرحمن بن قيس مجهول، وكذا أبوه، وفيه انقطاع. قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 525 - 526): "وعبد الرحمن بن قيس هذا، ليس فيه مزيد، فهو مجهول الحال، وكذلك أبوه قيس، وكذلك جده محمد، إلا أنه أشهرهم". قال: "فأما روايته عن ابن مسعود، فمنقطعة" ورد عليه الذهبي بقوله: "هو كبير، ولقيه ممكن". (تنبيه) تحرف (أبو الأعمى) في مطبوع "التمهيد" إلى "الأعمش"! فليصحح وانظر: "نصب الراية" (4/ 105)، "والتلخيص الحبير" (3/ 31). وأخرجه الدارمي في (2/ 250)، وأبو داود (3512)، وابن ماجه (2186)، وأبو يعلى (4963)، والدارقطني: (3/ 20، 21)، والبيهقي (5/ 333)، وابن عبد البر (24/ 292)، والبغوي (8/ 170 - 171) من طريق ابن أبي ليلى عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن مسعود رفعه -وفيه قصة-: "إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة، والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع" لفظ ابن ماجه. ولفظ الدارمي والبغوي: "والمبيع قائم بعينه" وفي لفظ للدارقطني: "والسلعة كما هي لم تستهلك" وفي لفظ: "والمبيِع مستهلك" وإسناده ضعيف، فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى صدوق سيء الحفظ جدًّا، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود لم يسمع من أبيه. وتابع ابن أبي ليلى: عمر بن قيس الماصر، عند الدارقطني (3/ 20) وابن عبد البر (24/ 293)، والحسن بن عمارة -وهو متروك-. عند الدارقطني (3/ 20) وخالفهم جمع، فأسقطوا (عن أبيه)، كما تراه عند الطيالسي (399) وأحمد (1/ 166) وعبد الرزاق (8/ 271) وأبو يعلى (5/ 178) وابن عبد البر (24/ 293). وأخرجه النسائي: (7/ 303) وأحمد (1/ 446) والدارقطني (3/ 19) والبيهقي (5/ 332 - 333) من طريق أبي عبيدة عن ابن مسعود، وهو منقطع وأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 227)، والترمذي (1270)، وأحمد (1/ 466)، والبيهقي (5/ 332) من طريق عون بن عبد اللَّه عن ابن مسعود رفعه: "إذا اختلف الببيعان فالقول ما قال البائع، والمبتاع بالخيارة" وسنده ضعيف، لانقطاعه، قال الترمذي: "هذا حديث مرسل، عون بن عبد اللَّه لم يدرك ابن مسعود". وقال المنذري في "مختصره لأبي داود": فقد رُوي هذا الحديث من طرق عن عبد اللَّه بن مسعود كلها لا تثبت وقد وقع في بعضها: ". . والسلعة قائمة"، وهو لا يصح فإنها من رواية ابن أبي ليلى وهو ضعيف. وقال ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 561 - مع "التنقيح"): "في هذه الأحاديث مقال فإنها مراسيل وضعاف". =

فصل [كان أصحاب النبي يجتهدون ويقيسون]

العاقلة" (¬1) و [إن] (¬2) كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد (¬3)، لكن لما تلقتها (¬4) الكافة عن الكافة غنُوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديثُ معاذ لما احتجوا به جميعًا غَنُوا عن طلب الإسناد له" انتهى كلامه. وقد جَوَّز النبي [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) للحاكم أن يَجتَهِدَ رأيهُ وجعل له على خطئِه في اجتهاد الرأي أجرًا واحدًا إذا كان قصدُه معرفة الحقَ وأتباعَهُ (¬6). فصل [كان أصحاب النبي يجتهدون ويقيسون] وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجتهدون في النَّوَازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعضِ، ويعتبرون النَّظيرَ بالنظير. قال أسد بن موسى: ثنا شعبة، عن زُبيد اليامي (¬7)، عن طلحة بن ¬

_ = أما محمد بن عبد الهادي فقال في "التنقيح" (2/ 561): "والذي يظهر أن حديث ابن مسعود في هذا الباب حسن بمجموع طرقه، وله أصل، قالوا: حديث حسن يحتج به، لكن في لفظه اختلاف". وصححه ابن السكن -كما في "التلخيص الحبير" (3/ 31) - وابن عبد البر في "التمهيد" (24/ 290). وقواه شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (5/ 166). وقوله في الحديث: "تحالفا أو ترادا"؛ فذكر التحالف فيه لا أصل له؛ كما في "التلخيص الحبير" (3/ 31)، وانظر تعليقي على "الإشراف" (2/ 532 - 534) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 2816 - 2828). (¬1) هو جزء من حديث رواه البخاري (5758 و 5759 و 5760 و 6740 و 6904 و 6909 و 6910)، ومسلم (1681 بعد 34 و 35 و 36) من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (6905 و 6906 و 6907 و 6908 و 7317 و 7318)، ومسلم (1682 بعد 37 و 38) من حديث المغيرة بن شعبة. وفيه كذلك: "فقضى على عاقلتها بالدية". و"العاقلة": هي العصبة والأقارب من الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ، وهي صفة جماعة عاقلة. (و). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ثبت بعضها، ولبعضها شواهد في "الصحيحين"؛ كما قدمناه، واللَّه الموفق. (¬4) في (ك): "نقلها" وفي (ق): "نقلتها". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ورد في "الصحيحين" عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا حكم الحاكم، فاجتهد، ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فأخطأ؛ فله أجر". أخرجه البخاري (برقم 7352)، ومسلم (رقم 1716). (¬7) "يقال: الإيامي -أيضًا-؛ كما في "خلاصة التذهيب"، و"لباب الأنساب" (و).

مُصَرِّف (¬1)، عن مرَّة [الطَّيَّب] (¬2)، عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- (¬3): "كلُّ قومٍ على بينة [من أمرهم] ومصلحة من أنفسهم يُزرُون (¬4) على مَن سواهم، ويُعرفَ الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب" (¬5)، وقد رَوَاه الخطيبُ وغيره مرفوعًا، ورفعهُ غير صحيح. وقد اجتهد الصحابةُ في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كثير من الأحكام ولم يعنِّفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يُصفوا العصر في بني قريظة (¬6)، فاجتهد بعضُهم وصلَّاها في الطَّريق، وقال: لم يُرِدْ منا التأخير، وإنما أراد سُرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخّرُوها إلى بني قريظة فَصَلّوْها ليلًا، نَظَروا إلى اللفظ، وأولئك (¬7) سَلَفُ أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس (¬8). ولمّا كان علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬9) باليمين أتاه ثلاثة نفرٍ يختصمون في غلَامٍ، فقال ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "مطرف". (¬2) وقع في النسخ المطبوعة: "الطبيب"، وهو خطأ، والتصويب من (ن) و (ك) و (ق)، واسمه: "مرة بن شرحبيل الهمداني الطيب"؛ كما في كتب الرجال. (¬3) ساقطه في (ك) و (ق) بدلها في (د): "كرم اللَّه وجهه في الجنة". (¬4) "يزرون": أي: يحملون، والمراد: يقيسون، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "ويعرفون"، وفي (ك): "يرون"، وما بين المعقوفتين سقط في (ك) و (ق). (¬5) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 191) من طريق الأزدي، عن علي بن إبراهيم بن الهيثم، عن أحمد بن محمد الكندي، عن أسد بن موسى، عن شعبة، عن زبيد اليامي، عن طلحة بن مُصرِّف، عن مرة، عن علي مرفوعًا به. أقول: فيه علي بن إبراهيم بن الهيثم ترجمه الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 238)، ثم ذكر له حديثًا وقال: "هذا الحديث منكر جدًّا ورجال إسناده كلهم مشهورون بالثقة سوى أبي الحسن البلدي"، (وهو علي هذا)؛ لذلك قال الذهبي في "الميزان": اتهمه الخطيب. ولم أجده موقوفًا. (¬6) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الخوف): باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماء (2/ 436/ 946، وكتاب المغازي، باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب، 7/ 407 - 408/ رقم 4119)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الجهاد والسير): باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين (3/ 1391/ رقم 1770)، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-، ولفظ مسلم: "أن لا يصلين أحدٌ الظهر. . . ". وانظر في فقه الحديث تعليقنا على "الموافقات" (3/ 407 - 409)، فإنه هام. (¬7) في (ك) و (ق): "وهؤلاء". (¬8) انظر: "زاد المعاد" (2/ 72 - 73)، و"مدارج السالكين" (1/ 385 - 386). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

كلٌّ منهم: هو ابني، فأقرع علي بينهم، فجعل الولد للقارع (¬1)، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبَلَغَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فضحك حتى بدت نوَاجِذُه من قضاء علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬2). واجتهد سعد بن معاذ في بني قُرَيظة وحكم فيهم باجتهاده، فصوَّبه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: "لَقَدْ حَكَمتَ فيهم بحكم اللَّه من فوق سبع سموات" (¬3). واجتهد الصحابيان اللذان خَرَجا في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماءٌ فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فَأعاد أحدُهما ولم يعد الآخر، فصوَّبهما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال للذي لم يعد: "أصَبْتَ السنةَ، وأجزأتْكَ صلاتك" وقال للآخر: "لك الأجْرُ مرتين" (¬4). ¬

_ (¬1) "القارع": أصله الذي غلب في المقارعة، وأراد الذي خرجت له القرعة. (د)، ونحوه باختصار في (ط). (¬2) سيأتي تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه البخاري (3043) في (الجهاد): باب إذا نزل العدو على حكم رجل، و (3804) في (مناقب الأنصار): باب مناقب سعد بن معاذ -رضي اللَّه عنه-، و (4121) في (المغازي): باب مرجع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأحزاب، و (6262) في (الاستئذان): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قوموا إلى سيدكم"، ومسلم (1768) في (الجهاد): باب جواز قتال من نقض العهد، من حديث أبي سعيد الخدري. قال (و): "الذي يوازن بين حكم سعد وبين ما في (الإصحاح المتمم العشرين) من (سفر التثنية) أحد أسفار اليهود، أو العهد القديم، أو كما يقولون: التوراة، يجد حكم سعد مطابقًا كل المطابقة له، أفكان سعد -رضي اللَّه عنه- على بينة منه؟ يجوز؛ فقد كان -رضي اللَّه عنه- يعلم شرعتهم في الحرب، فحكم بنفس ما كانوا يدينون ويحكمون به في شرعتهم، وتصويب الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لسعد في حكمه يدل على أن ذلك كان حكم اللَّه في شريعة بني إسرائيل، فلتراجع من أول الفقرة (10 إلى الفقرة 20) من الاصحاح المتمم العشرين) من سفر التثنية، ولقد أشرت إلى هذا في تعليقاتي على "الروض الأنف" الذي أخرجته دار الكتب الحديثة" اهـ. قلت: والكلام المشار إليه في التوراة -آنفًا- هو في كتابهم "الكتاب المقدس" (ص 215 - ط: المطبعة الأميركانية في بيروت سنة 1913)، ونصه الآتي: "حين تقترب من مدينة كي تحاربها فاستدعها إلى الصلح، فإن أجابتك إلى الصلح، وفتحت لك؛ فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك، إن لم تسالمك، بل عملت معك حربًا؛ فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك؛ فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها؛ فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك، هكذا نفعل بجميع المدن البعيدة منك جدًّا، التي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا". (¬4) رواه الدارمي (1/ 190)، وأبو داود (338) في (الطهارة): باب في المتيمم يجد الماء =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بعدما يصلي في الوقت، والنسائي في (الغسل): باب التيمم لمن لم يجد الماء بعد الصلاة (1/ 213)، والدارقطني (1/ 189)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 178)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 231) من طريق عبد اللَّه بن نافع، عن الليث بن سعد، عن بكر بن سوادة، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، به. وهذا إسناد ظاهره الصحة؛ لذلك قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين فإن عبد اللَّه بن نافع ثقة. لكن أعله غير واحد؛ فقال أبو داود بعد إخراجه: وكير ابن نافع يرويه عن الليث عن عميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء بن يسار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال أبو داود: وذكر أبي سعيد في هذا الحديث ليس بمحفوظ، وهو مرسل. وقد أعله -أيضًا- النسائي، والدارقطني حيث قال بعد روايته: وخالفه ابن المبارك وغيره؛ ثم رواه من طريق ابن المبارك عن ليث عن بكر عن عطاء مرسلًا. أقول: والطريق الذي ذكره أبو داود رواه الحاكم (1/ 179)، والبيهقي (1/ 231) من طريق يحيى بن بكير عن الليث بن سعد. ويحيى بن بكير هذا من ثقات أصحاب الليث، وأما عبد اللَّه بن نافع الذي عليه مدار الحديث فهو عبد اللَّه بن نافع الصائغ، وقد تكلم في حفظه غير واحد منهم أحمد، وأبو حاتم، والبخاري، وابن حبان، وقد خالفه فيما وقفنا عليه اثنان يحيى بن بكير، وابن المبارك، وهما أوثق منه بدرجات. ثم وجدت ابن القطان يفيد في "الوهم والإيهام" (2/ 432 - 434 رقم 440) أن الذي أسنده أسقط في الإسناد رجلًا، وهو عميرة فيصير منقطعًا، والذي يرسله فيه مع الإرسال عميرة، وهو مجهول الحال، لكن رواه أبو علي بن السكن: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد الواسطي حدثنا عباس بن محمد حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا الليث عن عمرو بن الحارث، وعميرة بن أبي ناجية عن بكر بن سوادة عن عطاء عن أبي سعيد. . . قال: فوصله ما بين الليث وبكر بعمرو بن الحارث وهو ثقة. وقد ذكر نحو كلامه هذا الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 160) وابن حجر في "التلخيص" (1/ 155). أقول: لكن رواه النسائي في "سننه" (1/ 213) من طريق سويد بن نصر (وهو راوية ابن المبارك) عن ابن المبارك عن الليث عن عميرة عن بكر عن عطاء مرسلًا! وعميرة بن أبي ناجية هذا ليس مجهولًا؛ كما قال ابن القطان بل وثقه النسائي وابن حبان؛ لكن رجع الحديث إلى الإرسال؛ فينظر في رواية ابن السكن تلك. قال البيهقي: وفيه اختلاف ثالث؛ ثم رواه من طريق أبي داود، وهذا في "سننه" (339) عن القعنبي عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أبي عبد اللَّه مولى إسماعيل بن عبيد عن عطاء بن يسار مرسلًا. قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 434) بعد هذا الطريق: "أليس هذا يعطي انقطاعًا آخر فيما بين بكر وعطاء برجل مجهول، وهو أبو عبد اللَّه مولى إسماعيل؟ قلنا: هذا لا يلتفت إليه لضعف رواية ابن لهيعة".

ولما قاس مُجزَّز المدلجي وقافَ (¬1)، وحكم بقياسه وقيافته على أنَّ أقدام زيدٍ وأسامة ابنه بعضها من بعض سُرَّ بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى برقت أساربرُ وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق (¬2)، وكان زيدٌ أبيضَ وابنه أسامة أسود، فأَلحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله، وألغى وصفَ السواد والبياض الذي لا تأثيرَ له في الحكم. وقد تقدّم قولُ الصديق [-رضي اللَّه عنه-] في الكلالة: "أقولُ فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد" (¬3) فلما اسْتُخْلِف عمر قال: "إني لأستحي من اللَّه أن أردَّ شيئًا قاله أبو بكر" (¬4) وقال الشعبي، عن شُريح قال: قال لي عمر: اقضِ بما استبانَ لك من كتاب اللَّه، فإنْ لم تعلم كلَّ كتاب اللَّه فاقض بما استبان لك من قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنْ لم تعلم كلَّ أقْضِيَةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاقْضِ بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإنْ لم تعلم كل ما قَضَتْ به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واستشرْ أهل العلم والصلاح (¬5). وقد اجتهد ابن مسعود في المفَوِّضة وقال: أقول فيها برأيي (¬6)، ووفقه اللَّه للصواب، وقال سفيان، عن (¬7) عبد الرحمن الأصبهاني، عن عكرمة ¬

_ (¬1) "القائف": الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل باخيه وأبيه، يقال: قاف فلان يقوف. (و). (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) أخرجه عبد الرزاق (10/ 304 رقم 19191)، وابن أبي شيبة (11/ 415 - 416) في "مصنفيهما"، والدارمي (2/ 365)، وسعيد بن منصور (3/ 1185 رقم 591)، والبيهقي (6/ 224)، وابن جرير في "التفسير" (4/ 283، 284) من طريق عاصم بن سليمان الأحول عن الشعبي به. وأورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 911/ رقم 1712) عن ابن مسعود، ولم يسنده، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) قاله في تفسير أبي بكر للكلالة الذي تقدم: رواه الدارمي في "سننه" (2/ 365)، وابن جرير في "التفسير" (4/ 284). (¬5) وجدت قريبًا من هذا اللفظ ما رواه النسائي (8/ 231)، وابن أبي شيبة (7/ 240)، والدارمي (1/ 60)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 99)، وابن عبد البر (1595 و 1596)، ووكيع في "أخبار القضاة" (2/ 189 - 190، 190) والبيهقي (10/ 115)، وابن حزم في "الإحكام" (5/ 206) من طرق عن الشعبي به، وإسناده صحيح. ووقع في (ك): "كل قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في (ق) و (ك): "بن".

[اجتهاد الصحابة بالقياس]

قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أساله عن زوج وأبوين، فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال، فقال: تجده في كتاب اللَّه أو تقوله برأيك؟ قال: أقوله برأيي، ولا أفضِّلُ أمًا على أب (¬1). [اجتهاد الصحابة بالقياس] وقايَسَ [علي بن أبي طالب -كرم اللَّه وجهه- وزيد بن ثابت في المكاتب (¬2)، وقايسه في الجد والإخوة (¬3)، وقاس] (¬4) ابن عباس الأَضْراس بالأصابع، وقال: عَقْلها سواء، اعتبروها بها (¬5). [ما أجمع الفقهاء عليه من مسائل القياس] قال المزني: الفقهاء من عصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يومنا وهلَمَّ جرًا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا [بأن] (¬6) نظير الحقِّ حقٌّ، ونظيرَ الباطل باطلٌ؛ فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها (¬7). قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه (¬8): ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا المكلَّب (¬9) من الجوارح قياسًا على الكلاب، لقوله (¬10): {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]. وقال [عز وجل] (¬11): {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، فدخل في ذلك المحصنون قياسًا، وكذلك قوله في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (رقم 19020)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 327 - دار الفكر)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 228) من طريق عبد الرحمن بن عبد اللَّه الأصبهاني عن عكرمة به. وإسناده صحيح. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) مضى تخريجه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) مضى تخريجه. (¬6) في "الجامع": "أن" بدون الباء. (¬7) نقله عنه ابن عبد البر -كما ذكر المؤلف- في "الجامع" (2/ 872 - 873/ 1648 - دار ابن الجوزي). (¬8) في "الجامع": (2/ 873 - 874/ 1649). (¬9) في "الجامع": "الكلاب"!، وفي (ن) و (ك) و (ق): "الكلب". (¬10) في المطبوع و (ق): "بقوله". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وبدله في "الجامع": "تعالى".

نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬1) [النساء: 25]، فدخل في ذلك العبد (¬2) قياسًا عند الجمهور، إلا من شذَّ (¬3) ممن لا يكاد يُعدُ [قوله] (¬4) خلافًا؛ وقال في جزاء الصيد المقتول في الحرم (¬5): {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]؛ فدخل فيه قتل الخطأ قياسًا عند الجمهور إلا من شذ (¬6)؛ [لأنه أتلف ما لا يملك قياسًا على مال غيره إذا أتلفه عمدًا أو خطأ] (¬7)، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فدخل في ذلك الكتابيات قياسًا [فكل من تزوج كتابية وطلقها قبل المسيس؛ لم يكن عليها عدة، والخطاب قد ورد بالمؤمنات] (¬8)، وقال في الشهادة في المداينات: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬9) [البقرة: 282]، فدخل في معنى [قوله] (8) {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] قياسًا [على الدين] (¬10): المواريثُ (¬11) والودائع والغُصُوب وسائر الأموال. وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسًا على الأختين [وهذا كثير جدًّا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين زيادة "الإعلام" على "الجامع". (¬2) في (ن): "العبيد". (¬3) هذا القول منسوب لداود، انظر: "المغني" (8/ 174)، و"الميزان" للشعراني (2/ 155)، و"الإشراف" (4/ 230 - بتحقيقي)، و"فقه داود" (669). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من "الجامع". (¬5) في المطبوع و (ق) و (ك): "الإحرام". (¬6) نسبه ابن حجر في "الفتح" (4/ 21): لأهل الظاهر وأبي ثور وابن المنذر من الشافعية في الخطأ، قال: "وتمسكوا بقوله تعالى: {مُتَعَمِّدًا} فإن مفهومه أن المخطئ بخلافه" قال: "وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وعكس الحسن ومجاهد فقالا: يجب الجزاء في الخطأ دون العبد، فيختص الجزاء بالخطأ، والنقمة بالعمد، وعنهما: يجب الجزاء على العامد أول مرة! فإن عاد كان أعظم لإثمه وعليه النقمة لا الجزاء". وانظر: "المغني" (5/ 395)، "الإنصاف" (3/ 527)، "كشاف القناع" (2/ 458). ومذهب داود التفرقة بين الناسي والمتعمد، انظر: "المحلى" (7/ 323)، و"التحقيق" (2/ 441 - مع "التنقيح")، و"المغني" (3/ 555)، و"الإشراف" (2/ 398 - بتحقيقي)، و"رحمة الأمة" (1/ 135)، و"فقه داود" (585). (¬7) ما بين المعقوفتين من إحدى نسختي "الجامع"؛ كما قال محققه وسقط من المطبوع و (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين زيادة "الإعلام" على "الجامع". (¬10) ما بين المعقوفتين من إحدى نسختي "الجامع" كما قال محققه، وسقط من (ق): "قياسًا على الدين". (¬11) في (ق): "الموارث".

[جواب نفاة القياس، ورده]

يطول الكتاب بذكره] (¬1)، وقال عَمَّن (¬2) أعسَرَ بما بقي عليه من الربا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فدخل في ذلك كلُّ مُعسِرٍ بدَيْنٍ [حلالٍ] (¬3)، وثبت ذلك قياسًا [واللَّه أعلم] (¬4). ومن هذا الباب توريثُ الذَّكَر ضِعْفي ميراث الأنثى منفردًا، وإنما ورد النص في اجتماعهما بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وقال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]، ومن هذا الباب أيضًا قياسُ التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم، [لأن العلة أن يكون المتظاهر بها رحمًا محرمًا] (¬5)، وقياس الرقبة في الظِّهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان، وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع [بينهن] (¬6) في التَّسرِّي [والنكاح] (¬7)، قال (¬8): وهذا لو تَقَضَيتُه (¬9) لطال به الكتاب [واللَّه الموفق للصواب] (¬10). قلت: بعض هذه المسائل فيها نزاع، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف. [جواب نفاة القياس، ورده] وقد رام بعض نُفَاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية؛ فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات، وجعل المحصنات صفةً للفروج لا للنساء، وأدخل صيدَ الجوارح كلها في قوله: [{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]، وقوله:] (¬11) {مُكَلِّبِينَ} وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مُغْرِين لها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬2) في "الجامع": "فيمن". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين من "الجامع"، وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 94). (¬5) ما بين المعقوفتين في إحدى نسختي "الجامع"؛ كما قال محققه. (¬6) ما بين المعقوفتين في إحدى نسختي "الجامع"؛ كما قال محققه. (¬7) ما بين المعقوفتين من "الجامع". (¬8) أي: ابن عبد البر -رحمه اللَّه-، ووقع في (ق): "وقال". (¬9) في "الجامع": "تقصيانه". (¬10) ما بين المعقوفتين من "جامع بيان العلم" وإلى هنا انتهى كلام ابن عبد البر. (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

على الصيد، قاله مجاهد والحسن، وهو رواية عن ابن عباس (¬1)، وقال أبو سليمان الدمشقي: مكلبين معناه معلِّمين، وإنما قيل لهم مكلبين لأنّ الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب. وهؤلاء وإنْ أمكنهم ذلك، في بعض المسائل، كما جزموا بتحريم [أجزاء] (¬2) الخنزير لدخوله في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه [دون المضاف] (¬3)، فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع، وهم مضطرون فيها -ولا بد- إلى القياس، أو القول بما لم يَقُلْ به غيرُهم ممن تقدَّمهم، فلا نعلم أحدًا من أئمة الفتوى يقول في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سئل عن فأرة وقعت في سَمْن: "ألقوها وما حولها وكُلُوه" (¬4) إن ذلك مختصٌّ بالسَّمن دونَ سائرِ الأَدهان والمائعات، هذا مما يقطعُ بأنَّ الصَّحابة والتابعين وأئمة الفتوى (¬5) لا يُفَرِّقون فيه بين السَّمن والزيت والشيرج والدِّبْس (¬6) كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك (¬7)، وكذلك نَهْي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الرطُّب بالتمر (¬8)، لا ¬

_ (¬1) نقله المصنف عن ابن الجوزي في "زاد المسير" (2/ 242)، وتحرف في مطبوعه "مغرين" إلى "مصرين"!! فلتصوب، وعند ابن الجوزي أيضًا كلام أبي سليمان الدمشقي الآتي. وانظر كلامًا لابن عباس في الآية عند البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 235)، و"صحيفة علي بن أبي طلحة" (رقم 291)، و"تفسير ابن عباس" (1/ 316 - 318) للدكتور عبد العزيز الحميدي. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). وانظر: "تفسير القرطبي" (2/ 222)، و"أحكام القرآن" (1/ 54) لابن العربي و"الموافقات" (4/ 228 - بتحقيقي)، و"الإعتصام" (1/ 302 - بتحقيقي). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) رواه البخاري (235 و 236) في (الوضوء): باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، و (5538 و 5539 و 5540) في (الذبائح والصيد): باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب، من حديث ميمونة بنت الحارث. (¬5) في المطبوع: "الفتيا". (¬6) "الدبس -[بالكسر وبالكسرتين] بوزن حمل وإبل-: عسل التمر، وعسل النحل، ويصنع أحيانًا [-الآن- في بلاد الشام] من زبيب العنب"، كذا في (د)، وما بين المعقوفتين زيادة من (ح) على (د)، وفي (ط) نحو ما في (د)، ووقع في (ق): "لا يفرقون". (¬7) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 336 - 341). (¬8) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 624)، والطيالسي (214)، وعبد الرزاق (14185 و 14186)، والحميدي (75)، وأحمد (1/ 179)، وأبو داود (3359) في (البيوع): باب في التمر بالتمر، والترمذي (1225) في (البيوع): باب في النهي عن المحاقلة والمزابنة، =

يفرِّق عالمٌ يفهم عن اللَّه ورسوله بين ذلك وبين بيع العنب بالزبيب. ومن هذا أن اللَّه سبحانه قال في المطلقة ثلاثًا: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي فإن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، والمراد به تجديد العقد، وليس ذلك مختصًا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط، بل متى تفارقا بموت أو خُلْع أو فَسْخ أو طلاق حَلَّت للأول، قياسًا على الطلاق. ومن ذلك قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صِحافِها فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" (¬1)، وقوله: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجرجر في بطنه نارَ جهنم" (¬2) وهذا التحريم لا يختصُّ بالأكل والشرب، بل يعمّ سائرَ وجوهِ الانتفاع؛ فلا يحلُّ له أن يغتسل بها، ولا يتوضَّأ بها، ولا يَدّهن فيها، ولا يكتحل منها، وهذا أمر لا يشك فيه عالم (¬3). ومن ذلك نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المُحْرِم عن لبس القميص والسراويل والعمامة ¬

_ = والنسائي (7/ 269) في (البيوع): باب اشتراء الرطب بالتمر، وابن ماجه (2284) في التجارات باب بيع الرطب بالتمر، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 6)، والدارقطني (3/ 49)، والحاكم (2/ 38 و 43)، والبيهقي (5/ 294) من طريق زيد بن عياش أبو عياش عن سعد. وزيد هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" ووثقه الدارقطني. قال الحاكم: هذا إسناد صحيح لإجماع أئمة النقل على إمامة مالك بن أنس، وأنه محكم في كل ما يرويه من الحديث، إذ لم يوجد في رواياته إلا الصحيح خصوصًا في حديث أهل المدينة. وانظر: "تهذيب السنن" (5/ 32 - 33) لابن القيم. (¬1) رواه البخاري (5426) في (الأطعمة): باب الأكل في إناء مفضّض، و (5632) في (الأشربة): باب الشرب في آنية الذهب، و (5633) في الشرب في آنية الفضة، و (5831) في (اللباس): باب لبس الحرير للرجال، و (5837) في باب افتراش الحرير، ومسلم (2067) في (اللباس والزينة): باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، من حديث حذيفة بن اليمان. (¬2) رواه البخاري (5634) في (الأشربة): باب آنية الفضة، ومسلم (2065) في (اللباس والزينة): باب استعمال أواني الذهب والفضة، من حديث أم سلمة، وانظر تخريجًا مسهبًا له في تعليقي على "الخلافيات" (رقم 100، 101)، وهو عند البخاري دون ذكر الذهب. (¬3) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (21/ 84)، و"المغني" (1/ 77 - 78)، و"الكافي" (1/ 17 - 18)، و"الإنصاف" (1/ 81 - 82).

والخفين (¬1)، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط، بل يتعدى النَّهيُ إلى الجباب والدُّلوق والمُبَطَّنات والفَرَاجِي والأقْبِيَة والعرقشينات (¬2)، وإلى [القبع] (¬3) والطاقية والكوفية والكلوتة والطيلسان والقلنسوة، وإلى الجَوْرَبَيْنِ والجُرْمُوقَيْنِ والزربول ذي الساق، وإلى التُّبَّانِ ونحوه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (134) في (العلم): باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، و (366) في (الصلاة): باب الصلاة في القميص، و (1542) في (الحج): باب ما لا يلبس المحرم من الثياب، و (1838) في جزاء الصيد: باب ما يُنهى من الطيب للمحرم، و (1842) باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، و (5794) في (اللباس): باب لبس القميص، و (5803) باب البرانس، و (5805) باب السراويل، و (5806) باب العمائم، ومسلم (1177) في (الحج): باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، من حديث ابن عمر، ووقع في (ق): "عن لبس المحرم القميص". (¬2) في (ق): "بالسين المهملة". (¬3) في (ق): "القناع". (¬4) انظر: "تهذيب السنن" (2/ 344 - 352) لابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-. وهذا تعريف بأهم الملابس المذكورة عند المصنف: - (الجباب) جمع (جُبّة)، وهي رداء مفتوح، يوضع فوق الرداء الأول، وهو (القفطان)، وردنا الجبة قصيران بالنسية لردني (القفطان)، وتبطن الجبة في الشتاء، ببطانة من الفرو، انظر: "معجم بأسماء ملابس العرب" (94) لدوزي. - (المبطنات) جمع (مبطنة) وهو لباس للرجال، وهو عبارة عن ضرب من الأردية يلبس فوق الثياب له بطانة قوية ثخينة. - (الدّلوق) جبة فراء طويلة الكمين. - (الفَراجي) جمع (فرجية) نوع من الأقبية، التي تتالف من ثوب واسع له كمان، وفيه شق من خلفه، وهي بهذا تختلف عن (القباء) نفسه، حيث أن الأخير تكون فتحته من الأمام. و (العرقشينات) هي شبه كلوتة يلبسها البدو، وهي نفس (العرقية السورية)، ولكن (المعرقة) معمولة من وبر الجمل، أفاده صاحب "رحلات في كردستان وبلاد ما بين النهرين" (1/ 228) بواسطة "تكملة المعاجم العربية" (7/ 193)، وانظر بشأن ما سبق "الملابس العربية الإسلامية في العصر العباسي من المصادر التاريخية والأثرية" (ص 290، 278، 280) للدكتور صلاح العُبَيدي. وأما ملابس الرأس، فهذا تعريف بها أيضًا: (القلنسوة) لباس الرأس المشتركة بين الرجال والنساء، وهي: ما يلاث على الرأس تكويرًا، كما في "المخصص" (4/ 92). و (الطاقية) نوع من القلانس، اكتسبتها من شكلها العام الذي يشبه (الطاق). و (الكوفية) لباس يتخذ للرأس، وصفها دوزي في "معجمه" (315) بقوله: "إنها منديل مربع، يلبس فوق الرأس، وله من الطول ذراع ومثله من العرض، وهو من ألوان مختلفة،=

ومن هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا ذهب أحدكم إلى الغَائط فليذهب معه بثلاثة أحجار" (¬1) فلو ذهب معه بخرقة وتنظِّف (¬2) أكثرَ من الأحجار أو قطن أو صوف أو خَزٍّ أو نحو ذلك جاز، وليس للشارع غَرضٌ في غير التنظيف (¬3) والإزالة، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز [بل] (¬4) أولى؛ ومن ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = ولونه أحمر غامق، أو ضارب إلى الدكنة، أو من اللون الأخضر الزاهي، ومن الأصفر أحيانًا ترقيطات واسعة، وأحيانًا ضيقة وعلى طول النهايتين المتقابلتين لها أهداب كثيرة مؤلفة من شرائط" وزاد: "وتطوى هذه الطرحة -أي المنديل- بصورة منحرفة وتوضع على الطاقية بهيئة تتدلى منها على الظهر الزاويتان المثنيتان، والزاويتان الأخريان على الجهة الأخرى، وهناك قطعة من الصوف أو عمامة (قلت: هي العقال) تلف على العموم حول الطرحة" والظاهر أن اسمها اتخذ نسبة إلى مدينة (الكوفة). انظر: "الملابس العربية" (136، 147، 153)، "ألبسة على مشجب التراث" (42، 93). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 108 و 133)، والدارمي (1/ 171 - 172)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 271)، وأبو داود (40) في (الطهارة): باب الاستنجاء بالحجارة، والنسائي (1/ 41 - 42) في (الطهارة): باب الاجتزاء في الاستطابة بالحجارة دون غيرها، وفي "الكبرى" (1/ 13/ رقم 42)، وأبو يعلى (4376)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 121)، والدارقطني (1/ 54 - 55)، والبيهقي (1/ 103)، و"الخلافيات" (رقم 359 - بتحقيقي)، وابن عبد البر في "التمهيد" (22/ 310، 311)، والمزي في "تهذيب الكمال" (529/ 27) من طريق مسلم بن قرط عن عروة عن عائشة به. قال الدارقطني في "السنن": إسناده صحيح، وكذا نقله الحافظ في "التلخيص" و"التهذيب" (10/ 122) من كتابه (العلل)، لكن محقق "سنن الدارقطني" نقل العبارة عنه: "إسناده حسن". ونقلها النووي في "المجموع" (93/ 2، 96) عنه هكذا: "إسناده حسن صحيح". أقول: في تحسين هذا الإسناد نظر؛ لأن مسلم بن قرط هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 447)، وقال: يخطئ، قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب" (10/ 121 - 122): هو مقل جدًّا. وإذا كان مع قلة حديثه يخطئ فهو ضعيف، وقال الذهبي في "الكاشف" (رقم 5517): نكرة، وفي "الميزان" (رقم 81503): لا يعرف. وانظر "تهذيب الكمال" (27/ 529). وهذا الحديث عزاه الحافظ في "التلخيص" (1/ 109) لابن ماجه، وليس هو فيه، وفي الباب عن سلمان، رواه مسلم (262) في (الطهارة): باب الاستطابة وفيه: "لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار"، وانظر مفصلًا: "نصب الراية" (1/ 214 - 216)، و"الخلافيات" (مسألة رقم 15). (¬2) في (ق): "تنظف". (¬3) في (ق): "التنظف". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "و".

نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته (¬1)، ومعلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة، فلا يحل له أن يُؤجِّر على إجارته، وإنْ قُدِّر دخول الإجارة في لفظ البيع العام، وهو بيع المنافع، فحقيقتها غير حقيقة البيع، وأحكامها غير أحكامه. ومن ذلك قوله سبحانه في آية التيمم: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، فألحقت الأمةُ أنواعَ الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط، والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه أو على اللَّمْس على قول مَنْ فسَّره بما دون الجماع، وألحقتِ الاحتلامَ بملامسة النساء، وألحقت واجَد ثمن الماء بواجده، وألحقت مَنْ خاف على نفسه أو بهائِمه من العطش إذا توضَّأ بالعادم؛ فجوَّزت له التَّيممَ وهو واجدٌ للماء، وألحقت مَنْ خشيَ المرض من شدة برد الماء (¬2) بالمريض في العدول عنه إلى البدل؛ وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب مَنْ له فهمٌ عن اللَّه ورسوله في قَصْدِ عمومها وتعليق الحكم به وكونه متعلقًا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عموماتٍ لفظية بعيدةٍ التناول لها ليست بحرية (¬3) الفهم مما لا ينكر تناول العمومين لها؛ فمن الناس من يتنبَّه لهذا، ومنهم من يتنبَّه لهذا، ومنهم من يتفطَّن لتناول العمومين لها. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وقاست الأمةُ الرَّهنَ في الحضر على الرهن في السفر، والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه، فإن استُدل على ذلك بأنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رَهَنَ دِرْعَه في الحضر (¬4)؛ فلا عمومَ في ذلك، فإنَّما رهنها على شعير استقرضه من ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) انظر في المسألة "الخلافيات" (2/ 477 رقم 31) وتعليقي عليه. (¬3) أشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "تجربة"، وهي كذا في (ك) وسقطت: "لها" من (ك) و (ق)!! (¬4) رواه البخاري (2069) في (البيوع): باب شراء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسيئة، و (2508) في (الرهن): باب في الرهن في الحضر، من حديث أنس بن مالك. ورواه البخاري (2068) في (البيوع): باب شراء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسيئة، و (2096) باب شراء الإمام الحوائج بنفسه، و (2252) في (السلم): باب الرهن في السلم، و (2386) =

يهودي، فلا بُدَّ من القياس إما على الآية وإما على السنة؛ ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمرَ أهلِ الذمة وأخذه في العشور التي عليهم، فبلغ عمر فقال: قاتل اللَّه سمرة، أما علم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَعَنَ اللَّه اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشحوم فجَمَلوها (¬1) وباعوها وأكلوا أثمانها" (¬2) وهذا محض القياس من عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬3)؛ فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين، وكما يحرم ثمن الشحوم المحرَّمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام. ومن ذلك أن الصحابة [-رضي اللَّه عنه-] (4) جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعِدَّةِ، قياسًا على ما نص اللَّه عليه من قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، قال عبد الرزاق: أنا سفيان بن عُيينة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سليمان بن يَسار، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن عمر بن الخطاب [رضي اللَّه عنه] (¬4) قال: يَنْكِحُ العبد اثنتين (¬5). وقال عبد الرزاق: أنبأنا سفيان الثوري وابن جريج قالا: ثنا جعفر بن ¬

_ = في الاستقراض: باب من اشترى بالدَّين، وليس عنده ثمنه، و (2509) في (الرهن) باب من رهن درعه، ومسلم (1603 بعد 163) في (المساقاة)؛ باب الرهن وجوازه في السفر والحضر، من حديث عائشة. (¬1) "أذابوها" (و). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب بيع الميتة والأصنام (4/ 424/ رقم 2236)، و (كتاب التفسير): {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} (8/ 295/ رقم 4633)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساقاة): باب تحريم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام (3/ 1207/ رقم 1581) عن جابر بن عبد اللَّه -رضي اللَّه عنه-. وحديث عمر، أخرجه البخاري (2223، 3460) ومسلم (1582). وفي الباب عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب البيوع): باب في ثمن الخمر والميتة، (3/ 280/ رقم 3488)، وأحمد في "المسند" (1/ 242، 293، 322)، والطبراني في "الكبير" (رقم 12887)، وابن حبان في "الصحيح" (11/ 313/ رقم 4938 - الإحسان)، والبيهقي في "الكبرى" (6/ 13 - 14). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (2/ 1281 و 7/ 13134) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 444) -، وأخرجه الشافعي في "مسنده" (2/ 57)، ومن طريقه: البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 158 و 425) وإسناده صحيح.

محمد، عن أبيه أن علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬1) قال: ينكحُ العبد اثنتين (¬2). وذكر الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال: سأل عمر بن الخطاب الناسَ: كم يتزوج العبد؟ فقال (¬3) عبد الرحمن بن عوف: "ثنتين، وطلاقه ثنتان" (¬4)، وهذا كان بمَحْضَر من الصحابة فلم ينكره أحد. وقال محمد بن عبد السلام الخُشَني (¬5): حدثنا محمد بن المثنى: ثنا عبد الرحمن بن محمد (¬6) المحاربي، عن ليث بن أبي سُلَيم، عن عطاء قال: أجمع أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين (¬7). وروى حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس أن عمر قال: لو استطعت (¬8) أن أجعل عِدَّةَ الأمَةِ حَيْضَةً ونصفًا لفعلت، فقال رجل: يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرًا ونصفًا، فسكت (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (13133) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 444) - ورواه ابن أبي شيبة (3/ 284 - الفكر) والبيهقي 7/ 158 من طريقين عن جعفر به. وإسناده ضعيف محمد هو ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب لم يدرك عليًا. (¬3) في (ق): "قال". (¬4) رواه عبد الرزاق (13135) عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن عمر بن الخطاب، وليس فيه: "وطلاقه ثنتان". وروى ابن أبي شببة (3/ 285)، والبيهقي (7/ 158) من طريقين عن ابن سيرين عن عمر. . . قال: فقام إليه رجل. . . هكذا مبهم وابن سيرين لم يدرك عمر. ووقع في (ق): "وطلاقه ثنتين". (¬5) قال في هامش (ق): "هو من رهط أبي ثعلبة الخشني". (¬6) في (ق) و (ك): "مخلد". (¬7) أخرجه ابن حزم في "المحلى" (9/ 444) من طريق قاسم بن أصبغ في "مصنفه" قال: نا محمد بن عبد السلام الخشني به، وعنده "من" بدل "بين"، وهذا الأثر وما قبله نقله المصنف من ابن حزم. وروى هذا الإجماع: ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 285)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 158) عن الليث عن الحكم. وليث بن أبي سُليم ضعيف، ووقع في (ك) اسمه: "ليث بن أبي سليمان". (¬8) في المطبوع: "أستطيع". (¬9) رواه عبد الرزاق (12874) من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن رجل من ثقيف عن عمر. =

[صور من قياس الصحابة]

وقال عبد اللَّه بن عتبة، عن (¬1) عمر: عِدَّةُ الأمَةِ إذا لم تحض شهران كعدتها إذا حاضت حيضتين (¬2). وروى ابن عيينة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسار، عن عبد اللَّه بن عتبة عن عمر: ينكح العبد امرأتين، ويطلق طلقتين، وتعتدُّ الأمة حيضتين، وإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرًا ونصفًا (¬3). وقال علي (¬4): عدةُ الأمَةِ حيضتان، فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف (¬5). والمقصود أن الصحابة نصَّفُوا ذلك قياسًا على تنصيف اللَّه [سبحانه] (6) الحدَّ على الأمَة. [صور من قياس الصحابة] ومن ذلك أن الصحابة قَدَّمُوا الصِّدِّيق في الخلافة وقالوا: رضِيَهُ رسول اللَّه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6) ¬

_ = ورواه ابن أبي شيبة (4/ 120 - دار الفكر) من طريق ابن عيينة (كذا عن عمرو بن أوس وأظنه سقط عمرو بن دينار) عن رجل من ثقيف عن عمر، وكذا رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 57) بإثبات عمرو بن دينار، وإسناده ضعيف لإبهام الرجل من ثقيف، ورواه البيهقي (7/ 426) من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عمر دون ذكر الرجل من ثقيف، وأخشى أن يكون فيه سقط!! وعلى كل حال فعمرو بن أوس لم يدرك عمر، ونقله المصنف عن ابن حزم من "المحلى" (10/ 306) إذا علقه عن الحجاج بن منهال نا حماد بن زيد به. (¬1) في هامش (ق): "لعله جعل". (¬2) رواه بهذا اللفظ: البيهقي (7/ 425)، ورواه الشافعي في "المسند" (2/ 57)، ومن طريقه البيهقي (7/ 158 و 425)، وعبد الرزاق (12872) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 306) - عن ابن عيينة عن محمد بن عبد الرحمن -مولى آل طلحة- عن سليمان بن يسار عن عبد اللَّه بن عتبة عن عمر بن الخطاب قال. . تعتد الأمة حيضتين فإن لم تحض فشهرين أو قال: فشهر ونصف، وإسناده صحيح. ووقع في (ق): "شهرين كعدتها إذا طلقت حيضتين"، وفي (ك): "لعدتها". (¬3) رواه الشافعي في "المسند" (2/ 57)، ومن طريقه البيهقي (7/ 158 و 425)، ورواه عبد الرزاق (12872)، ومن طريقه ابن حزم (10/ 306) من طريق ابن عيينة به وإسناده صحيح، وانظر ما قبله. (¬4) في (ق): "علي رضي اللَّه عنه". (¬5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 120 - دار الفكر) من طريق حبيب المعلم عن الحسن عن علي. وذكره البيهقي في "سننه" (7/ 426) دون سند، والحسن البصري مدلس وقد عنعن، وفي سماعه من علي نظر، ووقع في (ق): "وإن لم تكن". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

لديننا، أفلا نرضاه لدُنيانا؟ (¬1) فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة، وكذلك اتِّفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه، وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد (¬2)، وكذلك مَنْعُ عمر وعلي من ¬

_ (¬1) أخرج ابن سعد (3/ 183) -ومن طريقه البلاذري في "أنساب الأشراف" (1/ 558، وص 40 - أخبار الشيخين-) والتيمي في "الحجة" (ق 203/ ب)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (9/ ق 663) من طريقين عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: قال علي بن أبي طالب: لما قبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ نظرنا في أمرنا، فوجدنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قدم أبا بكر في الصلاة، فرضينا لدنيانا، ما رضيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لديننا، فقدّمنا أبا بكر. وإسناده ضعيف جدًّا، أبو بكر الهذلي، اخباري، متروك، وفي سماع الحسن من علي كلام، والصواب عدم تحققه. وانظر: "الاستيعاب" (3/ 971)، "أسد الغابة" (3/ 221)، "الصفوة" (1/ 257)، "نهاية الأرب" (19/ 27). (¬2) أخرج البخاري (4986) في (فضائل القرآن): باب جمع القرآن عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليَّ أبو بكر، مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بقُرَّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن. قلت لعمر: كيف تفعل شيئًا لم يفعله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟! قال عمر: هذا واللَّه خير، فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر. قال زيدٌ: قال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فتتبع القرآن فاجمعه. فواللَّه لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلون شيئًا لم يفعله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟! قال: هو واللَّه خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح اللَّه صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما-، فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُب واللخاف وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع أحد غيره: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ} [التوبة: 128] حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه اللَّه، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر -رضي اللَّه عنه-. وأخرج أيضًا (4987) بسنده أن أنس بن مالك قال إنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينِيَة وأذْرَبيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين: أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب، اختلاف اليهود والنصارى. فأرسل عثمان إلى حفصة: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في ضيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، =

بيع أمهات الأولاد برأيهما (¬1)، وكذلك تسوية الصِّدِّيق بين الناس في العطاء برأيه (¬2)، وتفضيل عمر برأيه (¬3)، وكذلك إلحاق عمر حدَّ الخمر بحد القذف برأيه (¬4) وأقرَّهُ الصحابة (¬5)، وكذلك توريث عثمان بن عفان [-رضي اللَّه عنه-]، (¬6) المبتوتة في مرض الموت برأيه (¬7)، ووافقه الصحابة، وكذلك قول ابن عباس في نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة. وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. (¬1) الثابت عن عمر أنه قضى بأنها لا تباع، وأنها حرة من رأس مال سيدها إذا مات، وهو قول أكثر التابعين، وجمهور فقهاء الأمصار، والثابت عن أبي بكر وعلي وابن عباس أنهم يجيزون بيعها وبه قال الظاهرية. وأخرج اختلاف علي وعمر في ذلك: عبد الرزاق في "المصنف" (7/ 291 - 292 رقم 13224) بإسناد صحيح. وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 14 - 15)، و"الموافقات" (5/ 162) وتعليقي عليه. (¬2) ثبت ذلك عنه في "الأموال" (ص 263 - 264) لأبي عبيد، و"الخراج" (50) لأبي يوسف، و"السنن الكبرى" (6/ 348) للبيهقي، وانظر "كنز العمال" (3/ 714، 4/ 521، 552 و 5/ 593، 614)، و"المحلى" (7/ 332). (¬3) أخرج ذلك عنه البخاري في "صحيحه" (كتاب المغازي): باب منه (رقم 4022) حدثنا إسحاف بن إبراهيم سمع محمد بن فضيل من إسماعيل عن قيس قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، وقال عمر: "لأفضلنهم على من بعدهم". وانظر: "الخراج" لأبي يوسف (50)، و"الأموال" (226، 264) لأبي عبيد، و"السنن الكبرى" للبيهقي (6/ 349، 351)، و"المغني" (6/ 416). (¬4) سيأتي تخريجه. (¬5) انظر: (عقوبة شارب الخمر) في: "زاد المعاد" (2/ 66، 98 و 3/ 210، 211 و 4/ 40، 41)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 331)، و"الطرق الحكمية" (10 - 20، 308، 312)، و"تهذيب السنن" (6/ 237 - 238)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 292 - 325). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 571)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (2/ 193)، والبيهقي في "سننه" (7/ 362) عن ابن شهاب، عن طلحة بن عبد اللَّه بن عوف قال: وكان أعلمهم بذلك، وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن: أن عبد الرحمن بن عوف (وقع في مسند الشافعي طلحة بن عبد الرحمن بن عوف). قال الشافعي: "هذا منقطع"؟ ولا أدري لماذا! فليس في إسناده من لم يسمع من الآخر. نعم أبو سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من أبيه، لكن طلحة بن عبد اللَّه سمع من عمه عبد الرحمن ومن عثمان. ورواه كذلك الشافعي في "مسنده" (2/ 193)، ومن طريقه البيهقي (7/ 362)، =

عن بيع الطعام قبل قبضه (¬1)، قال: أحْسِبُ كل شي بمنزلة الطعام (¬2)، وكذلك عمر وزيد لما وَرَّثا الأم ثُلُثَ ما بقي [في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين قاسا وجودَ الزوج على أما إذا لم يكن زوج] (¬3)؛ فإنه حينئذٍ يكون للأب ضعفي ما للأم] (¬4)، فقدَّرا أن [يكون] (¬5) الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال (¬6)، وهذا من أحسن ¬

_ = وعبد الرزاق (12192) من طريق ابن جريج: قال أخبرنا ابن أبي مليكة أنه سأل ابن الزبير عن الرجل يطلق امرأته. . . وإسناده صحيح. وله طرق أخرى في "سنن البيهقي" (7/ 362). (¬1) رواه البخاري (2132) في (البيوع): باب ما يذكر في بيع الطعام والحُكْرة، و (2135) في (البيوع): باب بيع الطعام قبل أن يقبض، وبيع ما ليس عندك، ومسلم (1525) في (البيوع): باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، من حديث عمرو بن دينار عن ابن عباس. وفي الباب عن ابن عمر رواه البخاري (2124) في (البيوع): باب ما ذكر في الأسواق، و (2126) باب (الكيل على البائع والمعطي)، و (2136) باب بيع الطعام قبل أن يقبض، ومسلم (1526) في (البيوع): باب بطلان بيع المبيع قبل القبض، وانظر: "تهذيب السنن" (5/ 130 - 137)، و"بدائع الفوائد" (4/ 56). (¬2) هو تابع لما قبله. (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "عدمه". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "في مسألة: زوج وأم وأب، فإنه حينئذ يكون للأم ضعف ما للأب"، وكذلك في (ك) إلا أن "ضعفي" منها، وفي غيرها "ضعف". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ن). (¬6) أما رواية عمر في امرأة وأبوين: فرواها عبد الرزاق (19015)، وسفيان الثوري في "الفرائض" (رقم 13)، وابن أبي شيبة (11/ 239، 240، 241 أو 7/ 326 - 327 ط دار الفكر)، وسعيد بن منصور في "السنن" (6، 7، 8)، والدارمي (2/ 345)، والبيهقي (6/ 227 - 228)، وسنده صحيح. وأما رواية عمر في زوج وأبوين فرواها الدارمي (2/ 344) من طريق الأعمش عن إبراهيم قال قال عبد اللَّه كان عمر إذا سلك بنا طريق وجدناه سهلًا فإنه قال في زوج وأبوين. . . وشريك هو القاضي ضعيف وأصحاب الأعمش رووه بهذا الإسناد فجعلوه في مسألة امرأة وأبوين كما سبق. وأما رواية زيد في امرأة وأبوين: فرواها عبد الرزاق (19017)، والدارمي (2/ 345) من طريق الثوري عن عيسى عن الشعبي عن زيد بن ثابت. وعيسى هذا أظنه الخياط أو الحناط المتروك، وفي طبقته عيسى بن أبي عزة صدوق، وتوبع، تابعه ابن أبي ليلى عند سعيد بن منصور (1/ 38 رقم 12)، والشعبي ينظر في سماعه من زيد فإنه لم يسمع من جماعة ممن مات بعد زيد. ورواها البيهقي (6/ 228) من طريق همام بن يحيى عن يزيد الرشك عن سعيد بن المسيب عنه ورواته ثقات لكن سعيد لم يسمع من زيد كما قال مالك.=

[قياس الصحابة حد الشرب على حد القذف]

القياس؛ فإنَّ قاعدةَ الفرائض أن الذكر والأنثى إذا [اجتمعا وكانا] (¬1) في درجة واحدة فإما أن ياخذ الذكرُ ضعفَ ما تأخذه (¬2) الأنثى كالأولاد وبني الأب، وإما أن تساويه كولد الأم، وإما أنَّ الأنثى تأخذ ضعفَ ما يأخذ الذكر مع مساواته لها في الدرجة (¬3) فلا عَهْدَ به في الشريعة، فهذا من أحسن الفهم عن اللَّه ورسوله، وكذلك أخذ الصحابة في الفرائض بالعَوْل (¬4) وإدخال النَّقْص على جميع ذوي الفروض قياسًا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مالُ المُفْلِسِ عن توْفيتهم، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للغرماء: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك" (¬5) وهذا مَحْضُ العَدْل، على أنَّ تخصيصَ بعض المستحقين بالحرمان وتوفية بعضهم بأخذ نصيبه ليس (¬6) من العدل. [قياس الصحابة حد الشرب على حد القذف] وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعمر، عن أيوب السَّخْتياني، عن عكرمة أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- شاور الناس في حد الخمر، وقال: إن الناس قد شربوها واجترؤوا عليها، فقال له علي: إن السكران إذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى، فاجعله حد ¬

_ = وأما رواية زيد في زوج وأبوين: فرواها عبد الرزاق (19020)، ومن طريقه ابن حزم (9/ 260)، وابن أبي شيبة (7/ 327 - دار الفكر)، والبيهقي (6/ 228) من طريق سفيان عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه الأصبهاني عن عكرمة قال: بعثني ابن عباس إلى زيد بن ثابت. . . وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات. ورواه ابن أبي شيبة (7/ 328) من طريق الأعمش عن ابن عباس أنه أرسل إلى زيد، ورواه الدارمي (2/ 346) من طريق الحكم عن عكرمة عن ابن عباس. (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "اجتمعوا وكانوا". (¬2) في (ق): "تأخذ". (¬3) في المطبوع و (ك): "في درجته". (¬4) انظر في ذلك: "مصنف ابن أبي شيبة" (11/ 282)، و"سنن سعيد بن منصور" (1/ 43)، و"مصنف عبد الرزاق" (10/ 258)، و"سنن الدارمي" (10/ 282 وما بعد مع "فتح المنان")، و"سنن البيهقي" (6/ 253)، و"التهذيب في الفرائض" (275) للكلوذاني، و"نهاية الهداية إلى تحرير الكفاية" (2/ 48 وما بعد) لزكريا الأنصاري. (¬5) رواه أحمد (3/ 36 و 58)، ومسلم (1556) في (المساقاة): باب استحباب الوضع عن المدين، وأبو داود (3469) في (البيوع): باب وضع الجائحة، والترمذي (655) في (الزكاة): باب ما جاء فيمن تحل له الصدقة، والنسائي (7/ 265) في (البيوع): باب وضع الجوائح، و (7/ 312) باب الرجل يبتاع فيفلس، وابن ماجه (2356) في (الأحكام): باب تفليس المعدم والبيع عليه لغرمائه، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬6) في (ق): "فليس".

الفرية، فجعله عمر حد الفرية ثمانين (¬1). ورواه مالك عن ثور بن زيد الدِّيلي (¬2) أن عمر شاور الناس (¬3)، ورواه وكيع: حدثنا ابن أبي خالد (¬4)، عن الشعبي قال: استشارهم عمر، فذكره، ولم ينفرد علي بهذا القياس، بل وافقه عليه الصحابة؛ قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن وبرة الصلتي قال: بعثني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته وعنده عليّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف مُتَّكئون في المسجد، فقلت له: إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن الناس انبسطوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، فما ترى؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك، قال: فقال علي: أراه إذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فاجتمعوا على ذلك، فقال عمر: بَلِّغ صاحبك، ما قالوا، فضرب خالد ثمانين، وضرب ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (7/ 378 رقم 13542)، ومالك في "الموطأ" (2/ 842)، ومن طريقه الشافعي في "المسند" (2/ 90 - ترتيب السندي)، وإسناده منقطع عكرمة لم يدرك عمر ووصله النسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" (5/ 118) - والحاكم في "المستدرك" (4/ 375)، وفي صحته نظر؛ كما قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 75)، وعلل ذلك من وجهين: الأول: الانقطاع؛ فإن ثورًا لم يدرك عمر. الثاني: ما ثبت في "الصحيحين" عن أنس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جلد في الخمر بالجريد والنعال، وجلد أبو بكر أربعين، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون، فأمر به عمر، ولا يقال: يحتمل أن يكون عبد الرحمن وعليّ أشارا بذلك جميعًا؛ لما ثبت في "صحيح مسلم" عن علي في جلد الوليد بن عقبة أنه جلده أربعين، وقال: جلد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أربعين، وأبو بكر أربعين، وعمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إليّ؛ فلو كان هو المشير بالثمانين؛ ما أضافها إلى عمر، ولم يعمل بها؛ لكن يمكن أن يقال: إنه قال لعمر باجتهاد، ثم تغير اجتهاده. وانظر في تقرير ضعفه: "المحلى" (10/ 211). (¬2) في (ك) و (و): "الأيلي"، وقال (و) معلقًا: "الصواب: الديلي؛ كما في "التقريب"، و"خلاصة التذهيب"" أهـ. وأثبتها (ح): "الأيلي"، وقال معلقًا: "كذا في الأصل، وفي "التقريب": "الديلي"، واللَّه أعلم" أهـ. (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" (كتاب الأشربة): باب الحد في الخمر، (2/ 842/ 2). وثور لم يدرك عمر. (¬4) في (ق) و (ك): "حدثنا أبو خالد".

[قياس الصحابة في الجد مع الإخوة]

عمر ثمانين، قال: وكان عمر إذا أُتي بالرجل القوي المنهمك (¬1) في الشراب ضربه ثمانين، وإذا أتي بالرجل الذي كانت منه الزلة (¬2) الضعيف ضربه أربعين، وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين (¬3)، وهذه مراسيل ومُسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضًا، وشهرتها تغني عن إسنادها. [قياس الصحابة في الجد مع الإخوة] وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري، عن عيسى بن أبي عيسى الخَيَّاط، عن الشعبي قال: كره عمر (¬4) الكلام في الجد حتى صار جدًا، وقال: إنه كان من [رأي] (¬5) أبي بكر أن الجد أولى من الأخ، وذكر الحديث، وفيه: فسأل عنها زيدَ بن ثابت فضرب له مثلًا بشجرة خرجت ولها أغصان، قال: فذكر شيئًا لا أحفظه، فجعل له الثُّلُث، [قال الثوري] (¬6): وبلغني أنه قال: يا أمير المؤمنين، شجرة نَبتت، فانشعب منها غُصْن، فانشعب من الغصن غصنان، فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول؟ قال: ثم سأل عليًا، فضرب له مثلًا واديًا سال [فيه سيلٌ] (5)، فجعله أخًا فيما بينه وبين ستة، فأعطاه السُّدس، وبلغني أن عليًا [كرم اللَّه وجهه] (5) حين سأله عمر جعله سيلًا، قال: فانشعب منه شُعْبة، ثم انشعبت (¬7) شعبتان، فقال: أرأيت لو أنَّ هذه الشعبة الوسطى تيبس (¬8) أما ¬

_ (¬1) في المطبوع "المنتهك" وفي (ك): "المنهك"، وسقطت "القوي" من (ق). (¬2) "الزلة" -بفتح الزاي وسكون اللام-: التحير. أهـ. قلت: وانظر: "لسان العرب" (13/ 494). (¬3) رواه الدارقطني (3/ 157)، والحاكم (4/ 375)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 320) و"معرفة السنن والآثار" (13/ 49) رقم (17421)، و"الخلافيات" (3/ق 251)، وفيه وبرة ويقال: ابن وبرة، جهله ابن حزم كما ذكر الحافظ في "اللسان". وأما الحاكم فقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي!! وانظر في ذلك: "المحلى" (11/ 232، 365)، و"كنز العمال" (5/ 473، 482)، و"المغنى" (7/ 115). (¬4) قال (ط): في نسخة: "عثمان"، انظر: "إعلام الموقعين" المطبوع بمطبعة فرج اللَّه زكي الكردي (1/ 355)، ونحو الشطر الأول في (د). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في (ق): "انشعب". (¬8) في (ك) و (ق): "تبس"، وقال في هامش (ق): لعله "يبست"، والذي بعدها في (ك): "ما كان"، والذي بعدها في (ق): "ما كان يرجع".

كانت ترجع إلى الشعبتين جميعًا؟ قال الشعبي: فكان (¬1) زيد يجعله أخًا حتى يبلغ ثلاثة هو ثالثهم، فإنْ زادوا على ذلك أعطاه الثلث، وكان عليٌّ يجعله أخًا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم، ويعطيه السدس، فإن زادوا [على ستة] (¬2) أعطاه السدس، وصار ما بقي بينهم (¬3). وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق: حدثنا إسماعيل بن أبي أُويس: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة، قال زيد: وكان رأَيي (¬4) [يومئذٍ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد، وعمر بن الخطاب يرى] (¬5) يومئذٍ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته، فتحاورتُ أنا وعمر محاروةً شديدةً، فضربت له في ذلك مثلًا، فقلت: لو أنَّ شجرةَ تشعَّبَ من أصلها غصن، ثم تشعَّب في ذلك الغصن خُوطَان (¬6) ذلك الغصن يجمع الخوطَيْنَ دون الأصل ويغْذُوهما، ألا ترى يا أمير المؤمنين أنَّ أحدَ الْخُوطَيْن أقربُ إلى أخيه منه إلى الأصل؟ قال زيد: فانا أُعْذِلُه وأضربُ له هذه الأمثال، وهو يأبى إلا أنَّ الجدَّ أولى من الإخوة، ويقول: واللَّه لو أنِّي قضيت اليوم لبعضهم لقضيتُ به للجدِّ كله، ولكن لعَلّي لا أخيب منهم أحدًا، ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوي حق، وضرب علي وابن عباس لعمر يومئذٍ مثلًا معناه: لو أن سَيْلًا سألَ فخلج (¬7) منه خليج، [ثم خلج من] (¬8) ذلك الخليج شعبتان (¬9). ¬

_ (¬1) في (ق): "وكان". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (19058) -ومن طويقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 292) -، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 247) من طريقين عن الثوري عن عيسى عن الشعبي قال: كان عمر. . .، والشعبي لم يدرك زمن عمر، وعيسى الخياط متروك، وضعفه ابن حزم (9/ 293). (¬4) قال في هامش (ق): "لعله: رأي عمر". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وسقطت "بن الخطاب" من (ق). (¬6) "الخوط" -بالضم-: الغصن الناعم لسنه، أو كل قضيب. كذا في (د) و (ط) و (ح)، ونحوه في (و). وأنظر: -إن شئت-: "لسان العرب" (2/ 1290). (¬7) في (ق): "وفلج" (¬8) في (ق) و (ك): "ومن". (¬9) علقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 292) من طريق إسماعيل بن إسحاق به، ومنه ينقل المصنف، ورواه البيهقي في "سننه" (6/ 247) من طريق ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: أخذ أبو الزناد هذه الرسالة من خارجة بن زيد بن ثابت، ومن كبراء. . . من زيد بن ثابت. =

ورَأْيُ الصديق (¬1) أولى من هذا الرأي وأصح في القياس، لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها. والجواب عن هذه الأمثلة: أنَّ المقصود أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر، ولا يُلتفت إلى مَنْ (¬2) يقدح في كل سند من هذه الأسانيد وأثر من هذه الآثار، فهذه في تَعَدُّدها (¬3) واختلاف وجوهها وطرقها جارية مجرى التواتر المعنوي، الذي لا يشك فيه، وإنْ لم يثبت كل فرد من الأخبار به (¬4)، وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جُرَيْج [قال] (¬5): أخبرني عمرو، قال: أخبرني حيي (¬6) بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول، وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها (¬7)، أن عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-]، كتب إليّ أن اقْتُلْهُمَا فلو اشترك فيه أهلُ صنعاء كلهم لقتلتُهم (¬8)، قال ابن جريج: فأخبرني ¬

_ = أقول: في هذه الرسالة رواية بالوجادة، ثم عبد الرحمن بن أبي الزناد فيه كلام طويل. ولها سياق آخر رواه الدارقطني (4/ 93)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 247)، و"الخلافيات" (3/ ق 12)، وابن حجر في "تغليق التعليق" (5/ 216)، وإسناد. قوي. (¬1) في (ق): "الصديق رضي اللَّه عنه". (¬2) يشير إلى ابن حزم، فإنه صنع ذلك في "المحلى" (9/ 292 - 293). (¬3) في (ك): "تعدادها". (¬4) قال شيخ الإسلام -رحمه اللَّه- في "مجموع الفتاوى" (20/ 504 - 505): "فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين؛ والفرق بين المختلفين، الأول: قياس الطرد، والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث اللَّه به رسوله". (¬5) سقطت من (ق). (¬6) في (ق) و (ك): "حسين". وفي النسخ المطبوعة: "عمر، وقال: أخبرني حيي. . . "!! وفي مطبوع: "المصنف" (9/ 475): "أخبرني عمر أن"! فليصوب. (¬7) في (ق): "امرأة ابنه وحليلها"، وما بين المعقوفتين بعدها سقط من (ق). (¬8) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (18075، 18077)، والبخاري في "الصحيح" (كتاب الديات، باب إذا أصاب قوم من رجل هل يعاقب أم يقتصُّ منهم كلهم؟ (12/ 227/ رقم 6896) بسنده عن نافع عن ابن عمر؛ أن غلامًا قتل غيلةً، فقال عمر: "لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتُهم"، ثم قال: "وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبيًا؛ فقال عمر. . . مثله". وأخرجه الخمطابي في "الغريب" (2/ 83 - 84)، ومالك (2/ 192)، والبيهقي (8/ 40 - 41)، وانظر: "تغليق التعليق" (5/ 252)، و"تحفة الطالب" (ص 435)، و"المعتبر" =

[بين ابن عباس والخوارج]

عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعًا: إن عمر كان يشك (¬1) فيها حتى قال له عليّ: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ لو أنَّ نفرًا اشتركوا في سرقة جَزُور، فأخذ هذا عضوًا وهذا عضوًا، أكنتَ قاطعَهم؟ قال: نعم، قال: وذلك حين استخرج له الرأي (¬2). [بين ابن عباس والخوارج] وقال عبد اللَّه بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشج عَمّن حدثه عن ابن عباس قال: أرسلني على إلى الحَرورية (¬3) لأكلّمهم، فلما (¬4) قالوا: "لا حَكَمَ إلا اللَّه" قلت: أجل، صدَقْتُم (4)، لا حكم إلا اللَّه، وأن اللَّه قد حَكَّم في رجل وامرأته، وحَكَّم في قتل الصيد؛ فالحكم في رجل وامرأته، والصيد أفضل أم الحكم في الأمَّة يرجع بها، وَيحْقن دماءها، وَيلُمُّ شعثها؟ (¬5). وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا عكرمة بن عمار: ثنا سِمَاك الحنفي قال: سمعت ابنَ عباس يقول: قال على: لا تُقَاتلوهم حتى يخرجوا، فإنهم سيخرجون، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أَبْرِد بالصلاة، فإنِّي أريد أن أدخل عليهم فأسمع من كلامهم وأكلّمَهُم، فقال علي: أخشى عليكَ منهم، قمال: وكنتُ (¬6) رجلًا حسن الخلق لا أوذي أحدًا، قال: فلبستُ أحسنَ ما يكون من اليمنية، وترجّلتُ، ثم دخلتُ عليهم وهم قائلون، فقالوا [لي] (¬7): ما هذا اللباس؟ فَتَلَوْتُ عليهم القرآن: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ولقد رأيتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يلبس أحسن ما يكون من اليمنية، فقالوا: لا بأس، فما جاء بك؟ فقلتُ: أتيتُكم من عند صاحبي، وهو ابنُ عمِّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، [وخَتْنه] (¬8)، ¬

_ = (ص 218 - 219)، و"موافقة الخبر الخبر" (2/ 419 - 421)، و"فتح الباري" (12/ 227 - 228)، و"الاعتصام" للشاطبي (2/ 623 - 624 - ط ابن عفان)، وسقطت "كلهم" من (ق) (¬1) في (ق): "شك" ووقع في (ق) بعدها: "قال علي". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 78)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 363) للمؤلف -رحمه اللَّه- وانظر: "أحكام الجناية" (103 - 123) للشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬3) "الذين خرجوا على عليٍّ، نسبة إلى حروراء، وتضبط بفتح الراء الأولى، فيكون النسب كما أثبت، وتضبط بضم الراء فتضم الراء في النسب إليها" (و). (¬4) سقطت من (ك) و (ق) ووقع في (ق): "قال أجل". (¬5) انظر التخريج الآتي. (¬6) في (ق): "وقال: كنت". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق) و (ك): "وحبيبه".

وأصحابُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعلمُ بالوحي منكم، وعليهم نزلَ (¬1) القرآنُ، أبلِّغُكم عنهم وأبلغهم عنكم، فما الذي نقمتم؟ فقال بعضهم: إنّ قريشًا قوم خَصِمون قال اللَّه [عز وجل] (2): {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، فقال بعضهم: كلموه، فانتحى لي رجلان منهم أو ثلاثة، فقالوا: إنْ شئتَ تكلَّمتَ، وإنْ شئتَ تكلَّمنا، فقلتُ: بل تكلَّموا، فقالوا: ثلاث نقمناهن عليه، جعل الحكم إلى الرجال، وقال اللَّه [عز وجل] (¬2): {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، فقلت: قد جعلَ اللَّه الحكمَ من أمره إلى الرجال في رُبع درهم في الأرنب، وفي المرأة وزوجها: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم، قالوا: وأُخرى مَحَا نَفْسَه أن يكون أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فأمير الكافرين هو؟ فقلت لهم: أرأيتم إن قرأتُ [من] (2) كتاب اللَّه عليكم وجئتكم به من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أترجعون؟ قالوا: نعم، قلتُ: قد سمعتُم أو أُراه قد بَلَغكم، أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي: أكتبْ هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقالوا: لو نعلم أنك رسولُ اللَّه لم نقاتلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي: "امحُ يا علي"، أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم، قال: وأما قولُكم: قَتَلَ ولم يَسْب ولم يغنم، أفَتَسْبُون أُمَّكم وتَسْتحلُّون منها ما تستحلُّون من غيرها؟ فإن قلتم: نعم فقد كفرتم بكتاب اللَّه، وخرجتم من الإسلام، فأنتم بين ضلالتين، وكلَّما جئتُهم بشيء من ذلك أقول: أفخَرجتُ منها؟ فيقولون: نعم، قال: فرجع منهم ألفان وبقي ستةُ آلاف (¬4)، وله طرق عن ابن عباس، وقياسُه المذكور من أحسن القياس وأوضحه. وقد أنكر ابنَ عباس على زيد [بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد ¬

_ (¬1) في (ك): "أُنزل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "رسول اللَّه". (¬4) أخرجه هكذا مطولًا: عبد الرزاق في "المصنف" (18678)، وأحمد في "المسند" (1/ 342)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 522)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10598)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 150) من طرق عن عكرمة بن عمار، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 241): "ورجالهما (أي: أحمد والطبراني) رجال الصحيح"، ووقع عند عبد الرزاق والطبراني أن عددهم كان أربعة وعشرين ألفًا رجع منهم بعد المناظرة عشرون ألفًا.

والإخوة، فقال: ألا يتقى اللَّه زيد؟] (¬1) يجعلُ ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبَ الأبِ أبًا؟ (¬2) وهذا محض القياس. ولما خَصَّ الصِّدِّيق أُمَّ الأم بالميراث دون أم الأب، قال له بعض الأنصار: لقد وَرَّثتَ امرأةً من ميتٍ، لو كانت هي الميتة لم يَرثْها، وتركتَ امرأةً لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فشَرَّك بينهما. قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عُيينة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: جاءت جَدَّتان إلى أبي بكر، فأعطى الميراث أمَّ الأم دون أم الأب، فقال له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له: عبد الرحمن بن سهل (¬3): يا خليفة رسول اللَّه، قد أعطيتَ الميراث التي لو ماتت لم يرثها، فجعل الميراث بينهما (¬4). ولما شهد أبو بكرة وأصحابُه على المغيرة بن شعبة بالحدِّ، ولم يكمَّلوا النصاب حَدَّهم عمر (¬5)، قياسًا على القاذف، ولم يكونوا قَذَفَةً بل شهودًا؛ وقال عثمان لعمر: إن نتَّبع رأيك فرأيك أسَدُّ (¬6)، وإن نتبع مَنْ قبلك فلنعم ذو الرأي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 46 رقم 46) بنحوه، وانظر: "تغليق التعليق" (5/ 214، 215). (¬3) في (ق): "سهيل". (¬4) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 513)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (10/ 275 رقم 19084)، وابن أبي شيبة (7/ 366 ط - الفكر)، والبيهقي (6/ 235) من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد به. والقاسم لم يدرك جده أبا بكر. (¬5) رواه عبد الرزاق (13564) -ومن طريقه ابن حزم (11/ 259) - من طريق معمر ورواه البيهقي (10/ 157) من طريق سفيان كلاهما عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا. . . فذكره. ورواه عبد الرزاق (13565) من طريق آخر عن سعيد بن المسيب به. والطرق إلى سعيد بن المسيب صحيحة، لكنه لم يسمع من عمر إلا اليسير جدًا. ورواه عبد الرزاق (13566) من طريق الثوري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي قال: شهد أبو بكرة ونافع وشبل على المغيرة. . . فذكر نحو ما سبق، وسُليمان هو ابن طرخان من الثقات وكذا باقي رواة السند، وأبو عثمان النهدي هو عبد الرحمن بن مل تابعي مخضرم من الثقات فالإسناد صحيح، وله طرق أخرى، انظر: "المحلى" (11/ 259). (¬6) قال في هامش (ق): "لعله رشيد".

[اختلافهم في المرأة المخيرة]

كان (¬1)؛ وقال علي: اجتمع رأيي ورأيُ عمر في بيع (¬2) أمهات الأولاد أن لا يُبَعْنَ، ثم رأيت بيعهن، فقال له قاضيه عَبيدة السَّلْماني: [يا أمير المؤمنين] (¬3) رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحَبُّ الينا من رأيك وَحْدك في الفرقة (¬4). ولما أرسل عمرُ إلى المرأة فاسقطت جنينها استشار الصحابةَ؛ فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان: إنما أنت مُؤَدِّب، ولا شيء عليك؛ وقال له علي: أما المأثَم فأرجو أن يكونَ محطوطًا عنك، وأرى عليك الدية (¬5)، فقاسه عثمان وعبد الرحمن على مؤدِّب امرأته وغلامه وولده، وقاسه عليّ عَلَى قاتل الخطأ، فاتَّبع عمرُ قياس علي. ولما احتُضِرَ الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) أوصى بالخلافة إلى عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬7)، وقاس ولايتَه لمن بعده إذ هو صاحب الحلِّ والعقد على ولاية المسلمين له إذ (¬8) كانوا هم أهل الحل والعقد، وهذا من أحسن القياس. [اختلافهم في المرأة المُخَيَّرة] وقال علي: سألني أمير المؤمنين عمر عن الخيار، فقلت: إنْ اختارت ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (19052) عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه أن عمر قال: إني كنت قضيتُ في الجد قضاء، فإن شئتم أن تأخذوا به فافعلوا، فقال عثمان:. . . وذكره ورجاله ثقات إلا أنه منقطع عروة لم يسمع من عمر، قاله أبو زرعة وأخرجه الدارمي في "سننه" (2/ 354) وعبد الرزاق (19051)، والحاكم (4/ 340)، والبيهقي (6/ 246) عن عروة عن مروان بن الحكم قال: قال عثمان، وإسناده صحيح. (¬2) في (ق): "في منع بيع". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 442 - 443، 444)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 64)، والبيهقي (6/ 249)، و"المدخل" (86، 87)، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، ومحمد بن نصر بسند صحيح، قاله ابن حجر في "الفتح" (12/ 21، 22)، وفي "التلخيص الحبير" (4/ 219). (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (رقم 18010) عن معمر عن مطر الوراق عن الحسن قال: أرسل عمر بن الخطاب. . . بغير هذا السياق. ورواية الحسن عن عمر مُرْسلة. وأخرجه البيهقي من طريق آخر عن الحسن كذلك. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) أخرجه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 274)، وابن شبه في "تاريخ المدينة" (2/ 668)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (ص 147 - أخبار الشيخين)، وابن الجوزي في "مناقب عمر" (243) من طرق بنحوه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "إذا".

زوجها فهي واحدة، وهو أحقُّ بها، وإنْ اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، فقال: ليس كذلك، إنْ اختارت نفسها فهي واحدة، وهو أحق بها، وإن اختارت زوجها فلا شيء، فاتبعته على ذلك، فلما خلص الأمرُ إليَّ، وعلمتُ أني أُسأل عن الفروج عُدتُ إلى ما كنت أرى، فقال له زاذان: لأمرٌ جامعت عليه أمير المؤمنين وتركت رأيك له أحبُّ ألينا من أمر انفردت به، فضحك وقال: أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت، وخالفني وإياه (¬1)، وقال: إن اختارت زوجَها فهي واحدة، وزوجها أحقُّ بها، وإن اختارت نفسها فهي ثلاث (¬2)، وهذا رأيٌ منهم كُلُّهم [-رضي اللَّه عنه-] (3)؛ ورأي عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) أقوى وأصح. وقال عمرُ لِعَليٍّ: إني قد رأيت في الجد رأيًا فاتَّبعوني، فقال علي: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد، كان نتبع رأي من قبلك فنِعمَ ذو الرأي كان (¬4). وهل مع زيد بن ثابت في مسائل الجد والإخوة والمعَادَّة والأكدرية (¬5) نصٌّ من قرآن أو سنة أو إجماع إلا مجرد الرأي؟ ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لامرأته: "أنت عليَّ حرام"؛ فقال شيخا الإسلام وبَصَرا الدِّين وسَمْعُه أبو بكر وعمر [-رضي اللَّه عنهما-] (3): هو يمين (¬6)، وتبعهما حبرُ ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "وخالفني وأتاه". (¬2) أخرجه الشافعي في "الأم" (7/ 159)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 345)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (4/ 46 - دار الفكر) من طريق جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم عن زاذان عن علي، وإسناده جيد. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) رواه عبد الرزاق (19051)، والدارمي (2/ 354)، والحاكم (4/ 340)، والبيهقي (6/ 246) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن مروان بن الحكم عن عمر؛ لكن عندهم جميعًا الذي أجاب عمر هو عثمان -رضي اللَّه عنه-. ورواته ثقات ومروان بن الحكم نقموا عليه أمورًا لا علاقة لها بالرواية ورواه عبد الرزاق (19052) من طريق هشام عن أبيه عن عمر وعروة لم يسمع من عمر كما قال أبو زرعة. (¬5) "هي في الفرائض: زوج وأم وجد وأخت لأب، لقبت بها؛ لأنها كدرت على زيد، أو لأن الميتة كانت تسمى أكدرية" (و). (¬6) قول أبي بكر: رواه أبو بكر بن أبي شيبة (4/ 57 - دار الفكر)، من طريق جويبر عن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا. . . وجويبر ضعيف جدًا. وأما قول عمر، فرواه عبد الرزاق (11360)، وابن أبي شيبة (4/ 56)، والدارقطني (4/ 40)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 350) و"معرفة السنن والآثار" =

[الصحابة فتحوا باب القياس والاجتهاد]

الأمة وتَرجُمانُ القرآن ابن عباس (¬1)؛ وقال سيف اللَّه علي بن أبي طالب وزيد: هو طلاق ثلاث (¬2)؛ وقال ابن مسعود: طلقة واحدة (¬3)، وهذا من الاجتهاد والرأي. [الصحابة فتحوا باب القياس والاجتهاد] [فالصحابة -رضي اللَّه عنهم-] (¬4) مَثَّلوا الوقائع بنظائرها، وشَبّهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء بابَ الاجتهاد، وَنَهَجُوا لهم طريقه، وبيّنوا لهم سبيله، وهل يستريبُ عاقل في أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غَضْبَان" (¬5) إنما كان ذلك لأن الغضب يُشوِّشُ عليه قلبَه وذهنَه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويُعَفي عليه طريقَ العلم ¬

_ = (11/ 60 رقم 14777) من طريق عكرمة عن عمر. وعكرمة هو مولى أبن عباس لم يسمع من عمر، وله طريق أخرى مرسلة عند سعيد بن منصور في "السنن" (1/ 63 رقم 1069)، ووقع في (ق): "شيخ الإسلام وبصر الدين". (¬1) رواه البخاري (4911) في تفسير سورة التحريم: باب {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، و (5266) في الطلاق: باب لِم تُحرّم ما أحل اللَّه لك، ومسلم (1473) في الطلاق) باب وجوب الكفارة على من حَرَّم امرأته ولم ينو الطلاق. ولفظه عن ابن عباس أنه كان يقول في الحرام: يمين يكفرها. وانظر: "سنن الدارقطني" (رقم 3936 - بتحقيقي). (¬2) قول علي: رواه ابن أبي شيبة (4/ 55 - دار الفكر)، وعبد الرزاق (11380) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن علي، وله طرق أخرى عندهما. وقول زيد: رواه ابن أبي شيبة (4/ 56)، وكذا عبد الرزاق (11383)، وسقطت ثلاث من (ك) و (ق). (¬3) رواه عبد الرزاق (11366)، وابن أبي شيبة (4/ 56 - دار الفكر)، والبيهقي (7/ 351) من طرق عنه. لكن قال ابن مسعود: إن نوى به يمينًا، وإن نوى طلاقًا فطلاق. (¬4) في (ق): "والصحابة". (¬5) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الأحكام): باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان؟ (13/ 136/ رقم 7158)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب كراهية قضاء القاضي وهو غضبان، (3/ 1342 - 1343/ رقم 1717)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب آداب القضاة): باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه (8/ 237 - 238)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الأحكام): باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان (2/ 776/ رقم 2316)، من حديث أبي بكرة -رضي اللَّه عنه-. وسقطت "بين اثنين" من (ك) و (ق).

[العمل بالقياس مركوز في فطر الناس]

والقصد، فمن قَصَرَ النَّهيَ (¬1) على الغضب وحده دون الهَمّ المزعج، والخوف المقلق، والجوع والظمأ الشديد، وشُغْل القلب المانع من الفهم؛ فقد قَلَّ فِقهُه وفهمُه (¬2)، والتعويل في الحكم على قَصْد المتكلِّم، والألفاظُ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، والمتوصل (¬3) بها إلى معرفة مراد المتكلِّم، ومُراده يظهر من عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فَهْمُه من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان؛ كما إذا قال الدليل لغيره: لا تَسْلُكْ هذا الطريقَ فإن فيها مَنْ يقطع الطريق، أو هي مَعْطَشَة مخوفة؛ عَلِمَ هو وكلُّ سامع أنَّ قصدَه أعمُّ من لفظه، وأنه أراد نَهْيه عن كل طريق هذا شأنها؛ فلو خالفه وسلك طريقًا أخرى عَطِبَ بها حَسُنَ لومه، ونُسِبَ إلى مخالفته ومعصيته، ولو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن: لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض، لَفَهِمَ كُلُّ عاقل منه أن لحم الإبل والبقر (¬4) كذلك، ولو أكل منهما لَعُدَّ مخالفًا، والتحاكمُ في ذلك إلى فِطَرِ الناس وعقولهم، ولو مَنَّ عليه غيره بإحسانه فقال (¬5): واللَّه لا أكلت له لقمةً، ولا شربتُ له ماءً، يريد خلاصه من مِنَّتهِ عليه، ثم قَبِلَ منه الدراهم والذهب والثياب (¬6) والشاة ونحوها لَعَدَّهُ العقلاءُ واقعًا فيما هو أعظم [مما] (¬7) حَلَف عليه، ومُرتكبًا لذروة سَنَامه؛ ولو لَامَه عاقلٌ على كلامه لمن لا يليق به [مُحَادثته] (¬8) من امرأة أو صبي فقال: واللَّه لا كَلَّمته، ثم رآه خاليًا به يُؤاكله ويشاربه ويُعَاشره ولا يكلمه لَعَدُّوه مرتكبًا لأشدِّ مما حلف عليه وأعظمه. [العمل بالقياس مركوز في فطر الناس] وهذا مما فطر اللَّه عليه عباده؛ ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] جميعَ وجوهِ الانتفاع من اللبس والركوب والسكنى (¬9) وغيرها. ¬

_ (¬1) في (ن): "فمن قصر اللفظ". (¬2) انظر في تقرير هذا: "الموافقات" (1/ 132، 320، 411 و 2/ 245، 520). (¬3) في المطبوع: "والتوصل" وفي (ق): "المتوصل". (¬4) في (ق): "البقر والإبل". (¬5) في (ق): "وقال". (¬6) في (ك) و (ق): "والنثار". (¬7) ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في المطبوع و (ك): "والمسكن".

[العبرة بإرادة المتكلم لا بلفظه]

وفهمت من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إرادة النَّهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفِعل، وإنْ لم تَرِد (¬1) نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى، فلو بَصَقَ رجل في وَجْه وَالديه وضَرَبهما بالنعل (¬2)، وقال: إني لم أقل لهما: أُفٍّ، لَعَدَّهُ الناس في غاية السَّخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه، وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره، ومَنْعُ هذا مكابرةٌ للعقل والفهم والفطرة، فمَنْ عَرف مراد المتكلِّم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تُقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يُستدلُّ بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده، ووضَحَ بأيِّ طريق كان؛ عُمِلَ بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو إيماء أو دلالة عقلية، أو قرينة حاليَّة، أو عادة [له] (¬3) مطّردة لا يُخِلُّ بها، أو مِنْ مُقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته (¬4)، وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله [وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثلة ونظيره] (¬5) ومشبهه، فيقطع العارفُ به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا، ويحبُّ هذا [ويبغض هذا] (3)، وأنت تجد من له اعتناءٌ شديد بمذهب رجل [وأفتى له] (¬6) كيف يفهم مراده من تصرفه ومذهبه (¬7)؟ ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا، ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يجد في كلامه صريحًا، وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة. [العبرة بإرادة المتكلم لا بلفظه] وهذا [أمر] (3) يَعُمُّ أهلَ الحقِّ والباطلِ، لا يمكن دفعه؛ [فاللفظ الخاص قد ينتقل] (¬8) إلى معنى العموم بالإرادة، [والعام قد ينتقل إلى معنى الخصوص بالإرادة] (¬9)، فإذا دُعي إلى غَداء فقال: واللَّه لا أتغدَّى، أو قيل له: "نَمْ" فقال: ¬

_ (¬1) في (ق): "يرد". (¬2) قال (د): "في نسخة: وضربهما بالفعل"، وكذا (ط): وزاد: انظر: "إعلام الموقعين" طبعة: فرج اللَّه زكي الكردي (1/ 263). أهـ. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "المصلحة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في المطبوع: "وأقواله". (¬7) في طبعة الجيل و (ك): "ومذاهبه"، ووقع في (ق) بعده: "أنه يفتي بكذا أو يقوله". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "باللفظ الخاص وقد ينقل". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق) بعدها: "وقال" بدل "فقال".

واللَّه لا أنام، أو: "اشرب هذا الماء" فقال: واللَّه لا أشرب، فهذه كلها ألفاظ عامة نُقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يَقْطع السامعُ عند سماعها بأنه لم يُرِد النَّفيَ العام إلى آخر العمر (¬1)، والألفاظ ليست تَعَبُّديَّة (¬2)، والعارفُ يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال، كما كان [يقول] الذين لا يفهمون (¬3) إذا خرجوا من عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: ماذا قال آنفًا؛ وقد أنكر اللَّه سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]؛ فذمَّ من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم؛ وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وَضْعِ اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت (¬4) مراتبهم في الفقه والعلم. وقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره، وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ، بل بما عرف من مُوجب أسمائه وصفاته، وأنه لا يُقرُّ على باطل حتى يبينه، وكذلك استدلال الصِّدِّيقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عَرَفته من حكمة (¬5) الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته، أنه لا يُخْزي محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه (¬6) يصلُ الرَّحم، ويحملُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيف، ويُعين على نوائب الحق (¬7)، وأَنَّ مَنْ كان بهذه المثابة فإنَّ العزيزَ الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإلهُ العالمين لا يُخزيه، ولا يُسَلِّط عليه الشَّيطانَ، وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حقِّ مَنْ هذا شأنه؛ فهذا معرفة منها بِمُرادِ الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المُحْسنَ (¬8) بإحسانه، وأنه لا يُضيع أَجر المحسنين، وقد كانت الصحابةُ أَفْهَمَ الأمة لمراد نبيّها وأتْبَعَ ¬

_ (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 377)، في (ق): "واللَّه لا أنام أو أشرب". (¬2) في (ق): "تعمدته" وفي الهامش: "بعمده". (¬3) في المطبوع: "لا يفقهون"، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) في (ق): "تفاوت". (¬5) في (ق): "حكم". (¬6) في (ق): "بأنه". (¬7) وردت هذه الألفاظ على لسان خديجة في حديث رواه البخاري (3) في (بدء الوحي)، و (4953) في (تفسير سورة {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ})، و (6982) في (التعبير): باب أول من بُديء به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصادقة، ومسلم (160) في (الإيمان): باب بدء الوحي برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حديث عائشة. (¬8) في (ق): "للمحسن".

[بم يعرف مراد المتكلم؟]

له، وإنما وكانوا يُدَنْدِنُونَ حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مُرَادُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم يَعْدِلُ عنه إلى غيره ألبتة. [بم يعرف مراد المتكلم؟] والعلمُ بمراد المتكلم يُعرفُ تارةً من عموم لفظه، وتارةً من عموم علَّته، والحوالة على الأول أوضَحُ لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضَحُ لأرباب المعاني والفهم والتدبر. [أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني] وقد يعرض لكلٍّ من الفريقين ما يُخِلُّ بمعرفة مراد المتكلِّم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصيرُ بها عن (¬1) عمومها، وهضْمُها تارة، وتحميلها فوقَ ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربعُ آفاتٍ هي منشأ غلط الفريقين. ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره، فنقول: [بعض الأغلاط التي وقع فيها أهل الألفاظ وأهل المعاني] قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]؛ فلفظ الخمر عام في كل مُسكر، فإخراج بعض الأشربة المُسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصيرٌ به وهضمٌ لعمومه، بل الحق ما قاله صاحب الشرع: "كل مسكر خمر" (¬2)، وإخراجُ بعضِ أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضًا به، وهضم لمعناه (¬3) فما الذي جعل النردَ الخالي عن (¬4) العِوَضِ من الميسر وأخرج الشطْرَنْجَ عنه، مع أنها من أظهر أنواع الميسر؟ كما قال غير واحد من السلف: إنه مَيْسِر (¬5). وقال ¬

_ (¬1) في (ق): "من". (¬2) أخرجه بهذا اللفظ مسلم (2002): (كتاب الأشربة): باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام عن جابر، و (2003) عن ابن عمر، وهو في "الصحيحين" عن عائشة، انظر تعليقي على "الموافقات" (2/ 522) للشاطبي. (¬3) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 262 - 264)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 256 - 262). (¬4) في (ن): "من". (¬5) انظر: "الفروسية" (ص 307 - 311 - بتحقيقي).

عليُّ [-رضي اللَّه عنه-]: هو مَيْسر المعجم (¬1). وأما تحميلُ اللفظ فوق ما يحتمله؛ فكما حُمّل لفظ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله في آية البقرة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] مسألة العينة (¬2) التي هي ربًا بحيلة، وجعلها من التجارة، ولَعَمْرُ اللَّه إنَّ الربا الصريح تجارةٌ للمُرابي وأيُّ تجارة (¬3)، وكما حُمِّل قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [على] (¬4) مسألة التحليل، وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- داخلًا في اسم الزوج (¬5)، وهذا في التجاوز يقابل الأول في التقصير. ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 212)، و"الآداب" (ص 416 - 417) من طريق ابن وهب عن سليمان بن بلال عن جعفر بن محمد عن أبيه عنه، وقال: هذا مرسل، ولكن له شاهد. ثم ذكر قول علي: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون. . . وغيره. وانظر "تحريم النرد والشطرنج" للآجري (ص 132 و 133) و"الفروسية" (ص 310 - بتحقيقي)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) "هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم لأجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به" (و). (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 340 - 353، 363)، و"تهذيب سنن أبي داود" (5/ 99 - 109)، ففيه بيان صورها، ومناقشة الخلاف وأدلته، وبيان معناها لغة (ص 108)، وانظره -أيضًا- (5/ 148 - 149)، و"بدائع الفوائد" (4/ 84)، و"الوابل الصيب" (ص 14)، و"الفروسية" (ص 100 - بتحقيقي)، ووقع في (ق): "للمربي". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ورد من حديث جمع من الصحابة، منهم: أولًا: حديث ابن مسعود، وله عنه طرق: الأولى: هزيل بن شرحبيل عنه، أخرجه من طريقه أحمد (1/ 448، 462)، والترمذي في (النكاح) (1120): باب ما جاء في المحلل والمحلل له، والنسائي (6/ 149) في (الطلاق): باب حلال المطلقة ثلاثًا، وما فيه من التغليظ، والدارمي (2/ 158)، وابن أبي شيبة (3/ 392)، وأبو يعلى (5350)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 208)، و"المعرفة" (5/ 346). وقال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 170): "صححه ابن القطان، وابن دقيق العيد على شرط البخاري". وانظر -غير مأمور-: "بيان الوهم والإيهام" (4/ 442)، و"الاقتراح" (207) لابن دقيق العيد، و"تحفة المحتاج" (2/ 372) لابن الملقن. =

ولهذا كان معرفةُ حدود ما أنزل اللَّه على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخِيَّته التي يرجع إليها، فلا يخرج شيئًا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يُعطيها حقَّها، ويفهم المراد منها. ¬

_ = الثانية: أبو واصل، رواه أحمد (1/ 450 - 451)، وأبو يعلى (5054)، والبغوي (2293)، وأبو واصل هذا مجهول؛ كما في "تعجيل المنفعة" (ص 527). الثالثة: الحارث عن ابن مسعود، رواه عبد الرزاق (6/ رقم 10793)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده"؛ كما في "التلخيص الحبير"، والحارث هذا هو الأعور وهو ضعيف، والحديث عنه عن علي، كما سيأتي. قال الذهبي في "الكبائر" (ص 213 - بتحقيقي) بعد أن أورده عن ابن مسعود: "جاء ذلك من وجهين جيدين عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-". ثانيًا: حديث علي -رضي الله عنه-، رواه عبد الرزاق (6/ رقم 10790)، والنسائي في رواية ابن حيوية -كما في "تحفة الأشراف" (7/ 18)، وأبو داود (2076)، في (النكاح): باب التحليل، والترمذي (1119) في (النكاح): باب ما جاء في المحلل والمحلل له، وابن ماجه (1935) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له؛ والبيهقي (7/ 208)، وأحمد (1/ 83 و 87 و 107 و 121، 133، 150، 158 - 159)، وأبو يعلى (402) من طريق الشعبي عن الحارث عن علي، والحارث ضعيف، وأعله الترمذي. ثالثًا: حديث ابن عباس، رواه ابن ماجه (1934) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له، وأعله البوصيري في "مصباح الزجاجة" بـ "زمعة بن صالح". رابعًا: حديث جابر، رواه الترمذي في (النكاح): (1119) باب ما جاء في المحلل والمحلل له، وأعله الترمذي، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1073). خامسًا: حديث عقبة بن عامر، رواه ابن ماجه (1936) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له، والطبراني (17/ 825)، والدارقطني (3/ 251)، والحاكم (2/ 198 - 199)، والبيهقي (7/ 208)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1072)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وحسّنه عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (3/ 228). وأعله ابن الجوزي بابي صالح كاتب الليث، وبمشرح بن هاعان، أما أبو صالح فقد توبع، وأعله البوصيري في "مصباح الزجاجة" بمشرح بن هاعان -أيضًا-، وأنكر أبو حاتم، وأبو زرعة سماع الليث من مثرح بن هاعان، وأثبت ذلك الحاكم!! وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (3/ 504 - 556)، و"العلل" (1/ 411) لابن أبي حاتم. سادسًا: حديث أبي هريرة، رواه أحمد (2/ 323)، والترمذي في "العلل" (273)، وابن أبي شيبة (4/ 392)، وابن الجارود (684). قال الترمذي: "فسألت محمدًا عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن". والبزار (2/ 167 - زوائده)، والبيهقي (7/ 208). وانظر في الحديث: "نصب الراية" (3/ 238 - 240)، و"التلخيص الحبير" (3/ 194 - 195)، و"مجمع الزوائد" (4/ 267)، و"إرواء الغليل" (6/ 307 - 311). وفي المسألة: "زاد المعاد" (4/ 5 - 6، 66، 212)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 97).

[ومن هذا] (¬1): لفظ الأيْمَانِ والْحَلِفِ، أخرجت طائفةٌ من الأيمان الالتزامية التي يلتزم (¬2) صاحبُها بها إيجابَ شيء أو تحريمه، وأدخلت طائفةٌ فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضًّا ولا منعًا، والأول نَقْصٌ من المعنى، والثاني تحميلٌ له فوق معناه. ومن ذلك لفظُ الربا، أدخلتْ فيه طائفةٌ ما لا دليل على تناول اسم الربا له، كبيع الشَّيْرَج بالسِّمسِم، والدِّبْس بالعنب، والزيت بالزيتون، وكل ما استخرج من ربويٍّ وعمل منه بأصله، وإنْ خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته، وهذا لا دليلَ عليه يوجب المصيرَ إليه لا من كتاب، ولا من سنة، ولا إجماع ولا ميزان صحيح، وأدخلت فيه من مسائل مُد عَجْوَة ما هو أبعد شيء عن الربا، وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصريح (¬3) حقيقة وقصدًا وشرعًا (¬4)، كالحيل الربوية التي هي أعظم مَفْسدةً من الربا الصريح، ومفسدة الربا البَحْت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقلُّ بكثير، وأخرجت منه طائفةٌ بيع (¬5) الرطب [بالتمر] (¬6)، وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه، فإن التماثُلَ موجودٌ فيه في الحال دون المآل، وحقيقةُ الربا في الحيل الربوية أكملُ وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه. ومن ذلك لفظ البينة (¬7)، قَصَّرَتْ به (¬8) طائفة، فأخرجتْ منه الشاهدَ واليمين (¬9)، وشهادة العبيد (¬10) العُدُول الصادقين المقبولي القول على اللَّه ورسوله، وشهادة النساء منفردات (¬11) في المواضع التي لا يحضرهنّ فيه الرجالُ، كالأعراس ¬

_ (¬1) في (ك): و (ق): "ومنها". (¬2) في (ن): "يلزم". (¬3) في المطبوع: "الصحيح". (¬4) في المطبوع: "قصدًا وشرعًا" بدون (و). (¬5) في المطبوع: "تبع"!. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق)، وقال في هامش (ق): "لعله باليابس". (¬7) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 9، 12، 20، 63، 175، 259، 263)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 61، 119)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 159 - 160)، و"بدائع الفوائد" (3/ 118). (¬8) في المطبوع: "بهما". (¬9) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 44 رقم 1808) وتعليقي عليه. (¬10) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 61 رقم 1821) وتعليقي عليه، ووقع في (ق): "المقبولين". (¬11) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 53 رقم 1816) وتعليقي عليه، ووقع في (ق): "في الموضع".

والحمامات، وشهادة الزوج في اللِّعان إذا نَكَلتِ المرأة (¬1)، وأَيْمان المدَّعِين الدمَ إذا ظهر اللَّوْثُ (¬2)، ونحو ذلك مما يبيِّن الحق أعظم من بيان الشاهدين، وشهادة القاذف (¬3)، وشهادة الأعمى (¬4) على ما يتيقنه، وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم (¬5)، وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاعَ البيت (¬6)، وتداعي النجار والخياطِ آلَتَهُما ونحو ذلك، وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال، الذي (¬7) لا يُعرف بعَدَالة ولا فسق (¬8)، وشهادة وجوه الآجر (¬9) ومعاقد القمط (¬10) ونحو ذلك (¬11)؛ والصَّوابُ أنَّ كلَّ ما يُبيِّنُ الحق فهو بينة، ولم يعطل اللَّه ولا رسوله حقًا بعد ما تبين بطريق من الطرق أصلًا، بل حكم اللَّه ورسوله الذي لا حكم له سواه، أنه متى ظهر الحقُّ ووضَح بأي طريق كان، وجب تنفيذه ونصره، وحَرُمَ تعطيلُه وإبطالُه، وهذا بابٌ يطول استقصاؤه، ويكفي المستبصر التنبيه عليه، وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء. ¬

_ (¬1) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (3/ 507 رقم 1333) وتعليقي عليه، وقع في (ق): "للدم". (¬2) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (4/ 156 رقم 1507) وتعليقي عليه. (¬3) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 58 رقم 1819) وتعليقي عليه. (¬4) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 62 رقم 1822) وتعليقي عليه. (¬5) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 66 رقم 1824) وتعليقي عليه، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (30/ 396). (¬6) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 101 رقم 1854) وتعليقي عليه. (¬7) في (ق): "كشهادة المجهول الذي"، ووقع في (ق): "ما ليس فيه كشهادة المجهول". (¬8) انظر المسألة والتفصيل فيها في: "الإشراف" (5/ 20 رقم 1794) وتعليقي عليه. (¬9) في (ق) و (ك): "وشهادة وجه الآجر". (¬10) هي: الشُّرُط التي يشدُّ بها الخصُّ، ويوثق من ليف، أو خوص، أو نحوها، وينطبق هذا على ما يسمى اليوم بـ "جسر الحديد". انظر: "النهاية" (4/ 108)، و"لسان العرب" (3/ 297)، و"المصباح المنير" (2/ 516). (¬11) انظر تفصيل المسألة في: "الحيطان" (ص 27 - 28)، و"أحكام البنيان" (1/ 129 - 131)، و"تبصرة الحكام" (2/ 133 - 134)، و"الفواكه الدواني" (2/ 257 - 258)، و"المغني" (7/ 42)، و"حلية العلماء" (5/ 25) للشاشي، و"الإشراف" (3/ 48 رقم 909) وتعليقي عليه.

[القياسيون والظاهرية مفرطون]

[القياسيون والظاهرية مفرطون] وأصحاب الرأي والقياس حَمَّلوا معاني النصوص فوق ما حَمَّلها الشارع، وأصحاب الألفاظ الظواهر (¬1) قَصَّروا بمعانيها عن مراده، فأولئك قالوا: إذا وقعت قَطْرةٌ من دم في البحر، فالقياس أنه ينجس، ونَجَّسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء ألبتة بتلك القطرة، وهؤلاء قالوا: إذا بال جَرَّةً [من بول] (¬2) وصَبَّها في الماء لم تنجسه (¬3)، وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نَجَّسَه (¬4)، فنَجَّسَ ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وأصحاب الألفاظ والظواهر". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "ينجسه". (¬4) انظر: "المحلى" (1/ 135 - 136 - ط: شاكر). وقد اعتنى العلماء بهذه المسألة، وأكثروا من الكلام على ابن حزم، وأغلظوا عليه، وتجاوزوا الحدّ في الحط عليه، وإن أصابوا في تعقبهم هذا، ووجدت لابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (1/ 282 - 283) كلامًا جيدًا حول هذا التعقب، وهذا نصه: ارتكبت الظاهرية الجامدة ههنا مذهبًا شنيعًا واخترعوا في الدين أمرًا فظيعًا، منهم ابن حزم القائل: إن كل ماء راكد قلّ أو أكثر من البرك العظام وغيرها يال فيه إنسان لا يحل لذلك البائل خاصة، الوضوء منه ولا الغسل، وإن لم يجد غيره، وفرضه التيمم، وجائز لغيره الوضوء منه والغسل وهو طاهر مطهر لغير الذي بال فيه، قال: ولو تغوط فيه أو بال خارجًا منه فسال البول إلى الماء الراكد، أو بال في إناء وصبه في ذلك الماء ولم يغير له صفة: فالوضوء منه والغسل جائز لذلك المتغوط فيه والذي سال بوله ولغيره. وهذا مما يعلم بطلانه قطعًا واستبشاعه واستشناعه عقلًا وشرعًا لا جرم أخرجهم بعض الناس من أهلية الاجتهاد ومن اعتبار الخلاف في الإِجماع، بل من العلم مطلقًا، ووجه بطلان ما ادعوه -وهو من أجمد ما لهم- استواء الأمرين في الحصول في الماء وأن المقصود اجتناب ما وقعت فيه النجاسة من الماء، وليس هذا من محال الظنون، بل هو مقطوع به. وما أحسن كلام الحافظ أبي بكر بن مُفَوَّز في تشنيعه على ابن حزم، حيث قال بعد حكاية كلامه: "تأمل أكرمك اللَّه ما جمع في هذا القول من السخف وحوى من الشناعة، ثم يزعم أنه الدين الذي شرعه اللَّه تعالى وبعث به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، واعلم أكرمك اللَّه أن هذا الأصل الذميم مربوط على ما أقول، ومخصوص على ما أُمثل: أن البائل على الماء الكثير ولو نقطة أو جزء من نقطة فحرام عليه الوضوء منه، وإن تغوط فيه حملًا أو جمع بوله في إناء شهرًا ثم صبه فيه فلم يغير له صفة جاز له الوضوء منه، فأجاز له الوضوء منه بعد حمل غائط أنزله به أو صب من بول صبه فيه، وحرمه عليه لنقطة بول بالها فيه، جلّ اللَّه تعالى عن قوله وكرَّم دينه عن إفكه". وانظر: "إحكام الأحكام" (1/ 132 - 133)، ووقع في (ق): "ينجسه فينجس".

أصحابُ الرأي والقياس (¬1) القناطير المقنطرة، ولو كانت ألف ألف قنطار من سمن أو زيت أو شَيْرَج بمثل رأس الإبرة من البول والدم، والشعرة الواحدة من الكلب والخنزير عند من يُنجِّس شَعْرَهما، وأصحاب الظواهر والألفاظ عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو (¬2) أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت أو شَيْرَج أو خَلٍّ أو دبْس أو وَدَكٍ غير السمن أُلقيت الميِّتةُ فقط، وكان ذلك المائع حلالًا طاهرًا كله، فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو خنزير أو أي نجاسة كانت، فهو طاهر حلال ما لم يتغيِّر. ومن ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تَنْتَقِبُ المرأة ولا تلبس القُفَّازَيْنِ" (¬3) يعني في الإحرام، فسوَّى بين يَدَيها ووجهها في النهي عما صنع على قدر العضو، ولم يمنعها من تغطية وجهها، ولا أمَرَها بكشفه ألبتة، ونساؤه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعلم الأمة بهذه المسألةُ، وقد كُنَّ يُسْدِلْنَ على وجوههن إذا حاذاهن الركبانُ، فإذا جاوزوهن كَشَفْنَ وجوهَهن (¬4)، وروى وَكيع عن شعبة عن يزيد الرشك (¬5) عن مُعَاذَة العدَوية قالت: سألتُ عائشة: ما تَلْبَسُ المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب، ولا تتلثم، وتُسْدِل الثوب على وجهها (¬6)، فَجَاوَزَتْ (¬7) طائفةٌ ذلك، ومنعتها من تغطية وجهها جملة، قالوا: فإذا سَدَلت على وجهها فلا تَدَعُ الثوبَ يمسُّ وجهها، فإن مسه افتَدَتْ، ولا دليل ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ونجس أصحاب الرأي والمقاييس". (¬2) في (ق): "و". (¬3) رواه البخاري (1838) في (جزاء الصيد): باب ما يُنهى من الطيب للمحرم والمحرمة، من حديث ابن عمر. (¬4) أخرجه أبو داود (1833)، وابن ماجة (2935)، وأحمد (6/ 30)، وابن خزيمة (4/ 203 - 204)، والدارقطني (2/ 294، 295)، والبيهقي (5/ 48) من طريق يزيد عن مجاهد عن عائشة، ويزيد بن أبي زياد، تغير في آخر عمره، وكان يتلقن؛ ولكن الأثر صحيح، فله شاهد يقويه. أخرجه مالك (1/ 328)، واسحاق بن راهويه (2255)، وابن خزيمة (4/ 203)، والحاكم (1/ 454)، وابن حزم (7/ 91) عن أسماء. قالت: "كنا نغطي وجوهنا من الرجال" ومعنى نغطي: نسدل، وإسناده صحيح. وانظر: "الإرواء" (1023، 1024)، و"جلباب المرأة المسلمة" (107 - 108). (¬5) "لقب ليزيد بن أبي يزيد الضبعي، أحسب أهل زمانه" (و). (¬6) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 47) من طريق شعبة عن يزيد الرشك عن معاذة عن عائشة، واسناده صحيح، وعلقه ابن حزم في "المحلى" (7/ 91) عن وكيع به. (¬7) في (ك): "فأجازت" ووقع في (ق): "فجاوزت ذلك طائفة".

[على هذا] (¬1) البتة، وقياسُ قولِ هؤلاء أنها إذا غطَّتْ يَدَها (¬2) افتدت، فإنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوَّى بينهما في النهي، وجعلهما كَبَدَنِ المحرم، فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين، هذا للبدن وهذا للوجه وهذا لليدين، ولا يحرم ستر البدن (¬3)، فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر اللَّه لها أنْ تُدْنِيَ عليها من جلبابها لئلا تعرف، ويفتتن بصورتها؟ (¬4) ولولا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في المحرم: "ولا يُخَمَّرُ رأسُه" (¬5) لجاز تغطيته بغير العمامة. وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة: عثمان وابن عباس وعبد اللَّه بن الزبير وزيد بن ثابت وجابر، أنهم كانوا يُخَمِّرون وجوههم وهم محرمون (¬6)؛ فإذا كان هذا في حق الرجل، وقد أمر بكشف رأسه (¬7)؛ فالمرأة بطريق الأولى [والأحْرَى] (¬8). ¬

_ (¬1) في (ك): "عليها" وفي (ق): "عليه". (¬2) في (ن): "يديها". (¬3) زاد هنا في (ك) و (ق): "ولا اليدين". (¬4) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 141 - 143 مهم جدًا)، و"تهذيب السنن" (2/ 349، 350 - 351). (¬5) رواه البخاري (1265) في (الجنائز): باب الكفن في ثوبين، وفي (1266) باب الحنوط للميت، و (1267 و 1268) في (كيف يُكفَّن المحرم)، و (1839) في (جزاء الصيد): باب ما يُنهى عن الطيب للمحرم والمحرمة، و (1849 و 1850) في باب المحرم يموت بعرفة، و (1851) باب سنة المحرم إذا مات، ومسلم (1206) في (الحج): باب ما يُفعل بالمحرم إذا مات، من حديث ابن عباس. (¬6) أما فعل عثمان: فرواه مالك (1/ 327)، وابن أبي شيبة (4/ 370 - الفكر)، والبيهقي (5/ 54) من طريق يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن الفرافصة بن عمير عن عثمان، والفرافصة هذا لم يُعرف بتوثيق، اللهم إِلا عند ابن حبان والعجلي. وله طريق آخر رواه البيهقي (5/ 54)، وابن حزم (7/ 91) من طريق عبد اللَّه بن عامر بن رببعة عن عثمان، وعبد اللَّه هذا ولد على عهد رسول اللَّه، ووثقه العجلي، وروى ابن أبي شيبة (4/ 371) -ومن طريقه ابن حزم (7/ 91) - من طريق ابن جريج عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن الفرافصة قال: رأيت عثمان وزيدًا وابن الزبير يغطون وجوههم. وروى البيهقي (5/ 54) من طريق الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم. ورواته ثقات والقاسم بن محمد أدرك عثمان ومروان ولكنه لم يدرك زيدًا كما قال ابن المديني. وروى ابن أبي شيبة (4/ 370)، والبيهقي (5/ 54)، وابن حزم (7/ 91)، من طريق أبي الزبير عن جابر. . . ويغطي وجهه. وفي رواية لابن حزم: "عن جابر وابن الزبير أنهما كانا يخمران وجوههما وهما محرمان". (¬7) في (ق): "بكشف وجهه". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وانظر: "زاد المعاد" (1/ 225).

وقَصَّرت طائفةٌ أخرى فلم تمنع المحرمة (¬1) من البُرْقُعِ ولا اللِّثام، قالوا: إِلا أن يدخلا (¬2) في اسم النقاب فتُمنع منه، وعُذْرُ هؤلاء أنَّ المرجعَ إلى ما نَهَى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودخل في لفظ المَنْهي عنه [فقط] (¬3)، والصَّوابُ النهيُّ عما دخل في عموم لفظه وعموم معناه وعلَّته؛ فإنَّ البرقع واللثام وإن لم يُسمَّيا نقابًا، فلا فرق بينهما وبينه، بل إذا نُهِيَتْ عن النقاب فالبرقع واللِّثام أولى؛ ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام. ومن ذلك لفظ الفدْيَة، أدخل فيها طائفةٌ خُلْعَ الحيلة على فعل المحلوف عليه مما هو ضد الفدية؛ إذ المراد بقاء النِّكاح بالْخَلاص من الحِنْث، وهي إنّما شُرِعت لزوال النكاح عند الحاجة إلى زواله، وأخرجت منه طائفة ما فيه حقيقة [الفدية] (¬4) ومعناها، واشترطت له لفظًا معينًا، وزعمت أنه لا يكون فدية وخلعًا إِلا به، وأولئك تجاوزوا به، وهؤلاء قصروا به؛ والصواب أن كل ما دخله المال فهو فدية بأي لفظ كان، والألفاظ لم تُرَدْ لذواتها ولا تعبدنا بها (¬5)، وإنما هي وسائل إلى المعاني؛ فلا فرق قَطُّ بين أن تقول: "اخلعني بألف"، أو: "فَادِني بألف" (¬6) لا حقيقة ولا شرعًا، ولا لغة ولا عرفًا؛ وكلامُ ابن عباس والإمام أحمد عام في ذلك، لم يقيده أحدهما بلفظ، ولا استثنى لفظًا دون لفظ، بل قال ابن عباس: عامة طلاق أهل اليمن الفداء (¬7)، وقال الإمام أحمد: الخلع فرقة، وليس بطلاق، وقال: الخلع ما كان من جهة النساء (¬8)، وقال: ما أجازه المال فليس بطلاق، وقال: إذا خالَعَهَا بعد تطليقتين فإن شاء راجَعَها فتكون معه على واحدة. ¬

_ (¬1) في (ق): "المرأة". (¬2) في (ق): "يدخل". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "والألفاظ لا تراد لذواتها ولعدمانها". (¬6) في (ق) و (ك): "أن تقول: اخلعني أو فارفني بألف". (¬7) أقول: القائل ليس ابن عباس، ففي "مصنف عبد الرزاق" (11765) أن طاوسًا قال: كنت عند ابن عباس إذ سأله إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص، فقال: أني أُستعمل هاهنا -وكان ابن الزبير يستعمله على اليمن على السعايات- فعلمني الطلاق فإن عامة تطليقهم الفداء. (¬8) هل الخلع طلاق أو لا؟ قرار ابن القيم -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (4/ 36 - 37) أنه فسخ، وليس طلاقًا، وانظر في تقرير هذا: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (32/ 309)، "فتح الباري" (9/ 307)، و"أحكام الخلع" (54 - 56، 63 - 64)، وتعليقي على "الإشراف" (3/ 376 - 377) للقاضي عبد الوهاب.

وقال في رواية أبي طالب: الخلعُ مثلُ حديث سَهْلة إذا كرهت المرأة الرجل وقالت: لا أبرُّ لَكَ قسَمًا، ولا أطيعُ لك أمرًا، ولا أغتسلُ لك من جنابة، فقد حلَّ له أن يأخذ منها ما أعطاها (¬1)؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ" قلت: وقد قال في الحديث: "اقْبَلِ الحدِيقَة وطلِّقها تطليقة" (¬2) وجعل أحمد ذلك فداء. وقال ابن هانيء: سُئل أبو عبد اللَّه عن الخلع: أفسخ [نكاح] أم [خلع] طلاق (¬3) هو؟ أم تذهب إلى حديث ابن عباس كان يقول: فرقة وليس بطلاق؟ فقال أبو عبد اللَّه: كان ابن عباس يتأول هذه الآية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} (¬4) [البقرة: 229]، وكان ابن عباس يقول: هو فداء (¬5)، قال ابن عباس: ذكر اللَّه الطلاقَ في أول الآية، والفداءَ في وسطها، وذكر الطلاق بعد؛ فالفداء ليس هو بطلاق (¬6)، [و] (¬7) إنما هو فداء (¬8)، فجعل ابن عباس وأحمد الفداءَ فداءً [لمعناه لا للفظه] (¬9)، وهذا ¬

_ (¬1) حديث الخلع هو حديث حبيبة بنت سَهْل الأنصارية، التي كانت تحت ثابت بن قيس: رواه مالك (2/ 564)، ومن طريقه الشافعي (2/ 50 - 51)، وأحمد (6/ 433 - 434) وأبو داود (2227) في (الطلاق) باب الخلع، والنسائي (6/ 169) في (الطلاق): باب ما جاء في الخلع، وابن الجارود (749)، وابن حبان (4280)، والبيهقي (7/ 312 - 313). (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الطلاق): باب الخلع وكيف الطلاق فيه، (5273 - 5277)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬3) في المطبوع و (ك): "أفسخ أم طلاق هو"!! وما بين المعقوفتين من "مسائل ابن هانئ"، وسقط من جميع الأصول. (¬4) بعدها في (ق): "به". (¬5) أخرج ذلك عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 487)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 316)، وله في "المصنف" لعبد الرزاق عن ابن عباس عدة طرق، فانظره، وانظر: "تفسير الطبري" (2/ 466). (¬6) في "مسائل ابن هانئ": "ليس هو طلاقًا". (¬7) ما بين المعقوفتين زيادة من المطبوع و (ق) و (ك). (¬8) رواه عبد الرزاق (11765 و 11767)، وابن أبي شيبة (4/ 86 - دار الفكر)، والبيهقي (7/ 316) من طريق طاوس عن ابن عباس، وإسناده صحيح. والمسألة كلها رواها ابن هانئ في "مسائله" (1/ 332/ 1125). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين بياض في (ق).

[وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقهما]

هو الصواب؛ فإنَّ الحقائق (¬1) لا تتغير بتغيير الألفاظ، وهذا باب يطول تتبعه. [وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقّهما] والمقصود أن الواجب فيما عَلَّق عليه الشارعُ الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يُتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يُقصر بها، ويُعطى اللفظ حقَّه والمعنى حقَّه؛ وقد مدح اللَّه [تعالى] (¬2) أهلَ الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهلُ العلم؛ ومعلوم أنَّ الاستنباطَ إنما هو استنباطُ المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيُعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومُشَبَّهه (¬3) ونظيره، ويَلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط؛ قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج (¬4)؛ ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإنَّ ذلك ليس طريقة الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تُنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم؛ واللَّه سبحانه ذَمَّ مَنْ سمع ظاهرًا مجردًا فأذاعه وأفشاه، وحمد مَنِ استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه. يوضِّحه أنَّ الاستنباطَ استخراجُ الأمر الذي من شأنه أن يَخفى على غير مُستنبِطِه، ومنه (¬5) استنباطُ الماء من أرض البئر والعين؛ ومن هذا قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد سئل: هل خَصَّكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بشيء دون النَّاس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبَّة وبرأ النَّسمة، إِلا فهمًا يؤتيه اللَّه عبدًا في كتابه (¬6). ومعلوم أنَّ هذا الفهَم قدرٌ زائدٌ على معرفة موضوع اللفظ أو عمومه (¬7) أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره، ومراد المتكلم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد. ¬

_ (¬1) في (ق): "الحقيقة". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "وشبهه". (¬4) في "الصحاح" (3/ 1162): "الاستنباط: الاستخراج". (¬5) في (ك) و (ق): "ومن ذلك". (¬6) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب العلم: باب كتابة العلم، رقم 111)، وفي (كتاب الجهاد: باب فكاك الأسير، رقم 3047)، وفي (كتاب الديات: باب العاقلة، رقم 6903)، وباب لا يقتل مسلم بكافر، (رقم 6915). (¬7) في المطبوع و (ق) و (ك): "وعمومه".

وأنت إذا تأملت قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]، وجدتَ الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن هذا القرآن جاء من عند اللَّه، وأن الذي جاء به روح مطهر (¬1)، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيلٌ، ووجدت الآية أُخْتَ قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211]، ووجدتها دالَّةً بأحسن الدلالة على أنه لا يمسَّ المصحف إِلا طاهر (¬2)، ووجدتها دالة -أيضًا- بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوتَه وطعمه إِلَّا من آمن به وعمل به، كما فهمه البخاريُّ من الآية فقال في "صحيحه" في باب: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} (¬3) [آل عمران: 93]: "لا يمسه": لا يجد طَعْمه ونفعه، إِلَّا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إِلَّا [الموقن] (¬4)؛ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وتجد تحته -أيضًا-[أنه] (¬5) لا يَنَال معانيه ويفهمه كما ينبغي إِلَّا القلوبُ الطاهرة، وأنَّ القلوب النجسة ممنوعةٌ من فهمه مصروفة عنه، فتأمل هذا النسبَ القريبَ، وعَقْدَ هذه الأخوة بين هذه المعاني، وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسنِ وجه وأبينه. فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي (¬6) -رضي اللَّه عنه-. وتأمل قوله تعالى لنبيّه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] كيف يفهم منه أنه إذا كان وجودُ بدنه وذاتِهِ فيهم، دفَعَ عنهم العذاب، وهم أعداؤُه، فكيف [وجود] (5) سِرِّه والإيمان به ومحبته ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص؟ أفليس دَفْعه (¬7) العذاب عنهم بطريق الأولى والأحرى؟ (¬8). ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "روح مطهرة". (¬2) انظر تفصيل هذا في "الفتاوى الكبرى" (1/ 56) لابن تيمية، و"التبيان في أقسام القرآن" (219 وما بعد). (¬3) الباب في (كتاب التوحيد): من "الصحيح" (13/ 507 - 508 مع "فتح الباري"). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ق) و (ك): "المؤمن"، والتصويب من "صحيح البخاري" وسقطت لفظة "تعالى" من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في كلامه المتقدم قريبًا، وهناك تخريجه. (¬7) في (ن): "منعه"، وفي (ق): "أوليس دفعه". (¬8) نعم، ولا سيما أن الآية فيها: {وَأَنْتَ فِيهِمْ}، وليس {وأنت منهم}، فتأمل.

وتأمل قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] كيف تجد تحته -بألطف دلالة وأدقها وأحسنها- أنه من اجتنب الشرك جميعه كُفِّرتْ عنه كبائرُه، وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر، فإذا وقعت الصغائر مكفَّرة باجتناب الكبائر، فالكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك، وتجد الحديث الصحيح؛ كأنه مشتقٌ من هذا المعنى، وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يَروي عن ربه تبارك وتعالى: "ابن آدم إنك لو لَقيتني بقُراب (¬1) الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لقيتُكَ بقُرابها مغفرة" (¬2)، وقوله: "إن اللَّه حَرم على النار مَنْ قَال: لا إله إِلَّا اللَّه خالصًا من قلبه" (¬3) بل مَحْو التوحيدِ -الذي هو توحيد- الكبائر (¬4) أعظم من مَحْو اجتناب الكبائر للصغائر. وتأمل قوله [تعالى] (¬5): {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14]، كيف نبَّههم (¬6) [بالسفر الحسي علي] (¬7) السفر إليه؟ وجمع لهم بين السفرين، كما جمع لهم [بين] (¬8) الزادين في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم؟ وكما جمع بين اللِّباسين في قوله: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ¬

_ (¬1) أي: "ما يقارب ملأها" (و). (¬2) رواه أحمد (5/ 147، 148، 153، 154، 155، 167، 172، 180)، ومسلم (2687) في (الذكر والدعاء): باب فضل الذكر والدعاء، والتقرب إلى اللَّه تعالى، وابن ماجة (3821) في (الأدب): باب فضل العمل، من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه-. (¬3) رواه البخاري (425) في (الصلاة): باب المساجد في البيوت، و (1186) في (التهجد): باب صلاة النوافل جماعة، و (4509) في (المغازي): باب شهود الملائكة بدرًا، و (5401) في (الأطعمة): باب الخريزة، و (6423) في (الرقاق): باب العمل الذي يبتغي به وجه اللَّه، و (6938) في استتابة المرتدين: باب ما جاء في المتأولين، ومسلم (33) (54) في (الإيمان): باب الدليل على من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، من حديث عتبان بن مالك ولفظه: "إن اللَّه حرم على النار من قال: لا إله إِلَّا اللَّه يبتغي بذلك وجه اللَّه"، وفي (ق): "مخلصًا من قلبه". (¬4) في (ن): "الذي هو التوحيد والكبائر"، وفي (ق): "الذي هو التوحيد للكبائر". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (د): "نبهم"، وفي (و): "لبههم". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "عن السفر الحسي عن". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.

فصل [قول نفاة القياس وأدلتهم]

لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]، فذكر سبحانه زينة ظواهرهم و [زينة] (¬1) بواطنهم ونَبَّههم بالحِسِّيِّ على المعنوي؛ وفَهْمُ هذا القدر زائد على فَهْمِ مجرد اللفظ ووضعه في أصل اللسان، واللَّه المستعان، وعليه التُّكْلَان، ولا حول ولا قوة إِلَّا به (¬2). فصل [قول نفاة القياس وأدلّتهم] قد أتينا على ذكر فصول نافعة، وأصول جامعة، في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منها، فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلة الدالة على ذم القياس، وأنه ليس من الدين، وحصول الاستغناء عنه والاكتفاء بالوَحْيين، وها نحن نسوقها مفصَّلة مبينة بحمد اللَّه تعالى: قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، وأجمع المسلمون على أن الرد إلى اللَّه سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) هو الرد إليه في حضوره وحياته، وإلى سنَّته في غَيْبته وبعد مماته (¬4)، والقياس ليس بهذا ولا هذا. ولا يقال: الردُّ إلى القياس هو من الردِّ إلى اللَّه [ورسوله] (¬5)، لدلالة كتاب اللَّه وسنة رسوله [-عليه السلام-] (3)، كما تقدَّم تقريرُه؛ لأنَّ اللَّه سبحانه إنما رَدّنا إلى كتابه وسنة رسوله، ولم يردَّنا إلى قياس عقولنا وآرائنا قط، بل قال تعالى لنبيّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، ولم يقل: بما رأَيتَ أنتَ، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (¬6)، {وَمَنْ لَمْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) في المطبوع و (ك): "إِلَّا باللَّه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر في هذا [الموافقات] (4/ 191) وتعليقي عليه. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) سقطت هذه الآية والتي قبلها من (ك).

يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]} (¬1) [العنكبوت: 51]، وقال: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، فلو كان القياسُ هُدًى لم ينحصر الهُدى في الوحي، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده (¬2)، وهو تحكيمه في حال حياته، وتحكيم سنته فقط بعد وفاته، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] أي: لا تقولوا حتى يقول. قال نُفَاةُ القياس: والإخبار عنه بأنه حَرَّمَ ما سكت عنه أو أوجبه قياسًا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدُّم بين يديه؛ فإنه إذا قال: "حَرَّمْتُ عليكم الربا في البر" فقلنا: ونحن نقيس على قولك البلوط (¬3)، فهذا مَحْضُ التَّقدُّم. قالوا: وقد حَرَّم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم، فإذا فعلنا ذلك فقد واقعنا (¬4) هذا المحرم يقينًا، فإنَّا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة، تحريمه في القَدِيد من اللحوم، وهذا قَفْوٌ منا ما ليس لنا به علم، وتعدٍّ لما حَدَّ لنا، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، والواجب أن نقف عند حدوده، ولا نتجاوزها ولا نُقصِّر بها. ولا يقال: فإبطالُ (¬5) القياس وتحريمه والنهي عنه تقدُّمٌ بين يديّ اللَّه ورسوله، وتحريم ما (¬6) لم ينص على تحريمه، [و] (1) قَفْوٌ منكم ما ليس لكم به علم؛ قالوا: لأنا نقول: اللَّه سبحانه [وتعالى] (1) أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، وأنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله (¬7) يعلِّمنا الكتاب والحكمة، فما عَلَّمناه وبيّنه لنا فهو من الدين، وما لم يُعَلِّمناه ولا بَيَّنَ لنا أنه من الدين فليس من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "حتى يؤخذ بحكمه وحده". (¬3) قال في هامش (ق): "شجر يُتغذى بثمره"، ووقع في (ق): "فهذا محض تقدم". (¬4) في (ن): "وافقنا" والعبارة في (ق): "وإذا فعلنا هذا فقد واقعنا". (¬5) في (ق): "إبطال". (¬6) في المطبوع: "لما". (¬7) في (ق): "رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-".

الدين ضرورة (¬1)، وكل ما ليس من الدين فهو باطل؛ فليس بعد الحق إِلَّا الضلال؛ [وقد] (2) قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فالذي أكمله اللَّه [سبحانه] (¬2) وبيَّنه هو ديننا، لا دينَ لنا سواه، فأين فيما أكمله لنا: قِيسوا ما سَكَتُّ عنه على ما تكلمت بإيجابه أو (¬3) تحريمه أو (3) إباحته سواء كان الجامع بينهما علة، أو دليل علة، أو وصفًا شَبيهًا، فاستعملوا ذلك [كُلَّه] (¬4) وانْسُبُوه إليَّ وإلى رسولي وإلى ديني، واحكموا به علي. قالوا: وقد أخبر سبحانه {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وأخبر رسوله: "أن الظَّنَّ أكذبُ الحديث" (¬5)، ونهى عنه، ومن أعظم الظَّن ظَنُّ القياسيين؛ فإنهم ليسوا على يقين أن اللَّه سبحانه [وتعالى] (¬6) حَرَّم بيع السِّمسم بالشيرج، والحلوى بالعنب، والنشا بالبُرِّ، وإنما هي ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئًا. قالوا: وإنْ لم يكن قياس (الضُّرَاط) على (السلام عليكم) من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه، وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئًا فليس في الدنيا ظن باطل، [فأين الضُّرَاط من "السلام عليكم"؟] (¬7)، وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعْضَاء الطاهرة الطيبة عند اللَّه في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخْبَثَ العذرات والميتات والنجاسات، ظنّا فلا ندري ما الظَّنُّ الذي حرم اللَّه [سبحانه] (6) القولَ به، وذمَّه في كتابه وسَلَخه من الحقِّ، وإنْ لم يكن قياس ¬

_ (¬1) في (ن): "أنه من الدين ضرورة، فليس من الدين". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ك) و (ق): "و". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) رواه البخاري (5143) في (النكاح): باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، و (6064) في (الأدب): باب ما يُنهى عن التحاسد والتدابر، و (6066) في باب: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}، و (6724) في (الفرائض): باب تعليم الفرائض، ومسلم (2563) في (البر والصلة): باب تحريم الظن والتجسس. . . من حديث أبي هريرة. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "بابطال الضراط في السلام عليكم". وفيه إيماء إلى أنَّ مذهب الحنفية في عدم ركنية السلام مرجوح، إذ عندهم من خرج من الصلاة بالضراط، سقطت من ذمته، وليس مدرك المسألة عندهم على القياس، قال ابن العربي، "وكان شيخنا فخر الإسلام ينشدنا في الدرس: ويرى الخروج من الصلاة بضرطةٍ ... أين الضراط من السلام عليكم" انظر تفصيل ذلك في "تفسير القرطبي" (1/ 174).

أعداء اللَّه ورسوله من عُبّاد الصُّلّبان واليهود الذين (¬1) هم أشد الناس عداوة للمؤمنين على أوليائه، وخيار خَلْقه، وسادات الأمة وعلمائها، وصلحائها في تكافؤ دمائهم وجَرَيان القِصاص بينهم، فليس في الدنيا ظَنٌّ يُذَمُّ أتباعه. قالوا: ومن العجب أنكم قِسْتُم أعداءَ اللَّه على أوليائه في جَرَيان القصاص بينهم، فقلتم: ألف ولي للَّه قتلوا نصرانيًا واحدًا يُجَاهرهم بسبِّ اللَّه ورسوله، وكتابه [علانيةً] (¬2)، ولم تقيسوا مَنْ ضربَ [رأسَ رجل] (¬3) بدبوس فَنَثَر دماغَه بين يديه على مَنْ طعنه بمسَلّة فقتله. قالوا: وسُنبيِّن لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يُبيّن أنه من عند غير اللَّه (¬4). قالوا: واللَّه تعالى (¬5) لم يَكِلْ بيانَ شريعَتِهِ إلى آرائنا (¬6) وأقيستنا واستنباطنا، وإنما وَكَلَها إلى رسوله المبيِّنِ عنه، فما بيَّنه عنه وَجَبَ اتِّباعه، وما لم يبيِّنه فليس من الدين، ونحن نُنَاشدكم اللَّه: هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشّبَهية والأَوصاف الحَدْسِيّة التخمينية على بيان الرسول أم على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم؟ قال اللَّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فأين (¬7) بيَّن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أني إذا حرمتُ شيئًا أو أوجبته أو أبحتُه، فاستخرجوا وصفًا ما شبهيًا (¬8) جامعًا بين ذلك وبين جميع ما سكتُ عنه، فألحقوه به، وقيسوا عليه. قالوا: واللَّه تعالى (¬9) قد نَهى عن ضَرْب الأمثال له، فكما لا تُضرب له الأمثال لا تُضرب لدينه، وتمئيل ما لم ينص على حُكمه بما نَصَّ عليه لِشَبهٍ (¬10) مَّا ضربُ الأمثال لدينه، وهذا بخلاف ما ضربه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأمثال في كثير من الأحكام التي سُئل عنها، كما أمرهم بقَضَاء الصلاة التي نامُوا عنها، فقالوا: ألَّا نصلِّيها لوقتها من الغد؟ فقال: "أينهاكم عن الرِّبا ويَقْبَله منكم" (¬11)، وكما قال ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الذي"!! (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في (ق): "رجلًا". (¬4) في (ن): "أنها ليست من عند اللَّه". (¬5) في (ق): "سبحانه". (¬6) في (ك) و (ق): "رأينا". (¬7) في (ق) و (ك): "فإن". (¬8) في (ق): "شبهًا". (¬9) سقط من (ق). (¬10) في (ق) و (ك): "كتشبيه". (¬11) رواه أحمد (4/ 441)، وعبد الرزاق (2241)، والدارقطني (1/ 385، 387)، وابن حزم في "الإحكام" (7/ 108)، وابن خزيمة (994)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 400)، وابن حبان (1462)، والبيهقي في "السنن" (2/ 217) من طرق عن الحسن =

[من الأمثال التي ضربها الله ورسوله]

لعمر وقد سأله عن القُبْلة للصائم: "أرأَيتَ لو تمضمضت بماء ثم مَجَجْتَه" (¬1)، وكما قال لمن سأَلَتْهُ عن الحجِّ عن أبيها: "أرأيتِ لو كان على أبيك دَيْن" (¬2)، وكما قال لمن سأله: هل يثابُ على وطْءِ زوجته؟ "أرأيتم لو وَضَعَها في الحرام؟ " (¬3). [من الأمثال التي ضربها اللَّه ورسوله] ومن أحسن هذه الأمثال وأبلغها وأعظمها تقريبًا إلى الأفهام: ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه سبحانه أمر يحيى بن زكريا (¬4) بخمس كلمات ليعمل بها، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يُبطئ بها، فقال عيسى -عليه السلام-: إن اللَّه أمَرَكَ بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإمَّا أَن تَأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سَبَقْتَنِي أن يُخسف بي أو أُعذَّب، فجمع الناس في بيت ¬

_ = البصري عن عمران بن حصين مرفوعًا، ورجاله ثقات إِلا أن الحسن البصري مدلّس، وقد عنعن، ثم في سماعه من عمران بن حصين كلام، وقد نفاه غير واحد. والقصة أصلها ثابت، دون قوله: "أينهاكم. . . " في "صحيح البخاري" (رقم 344، 348، 3571) و"صحيح مسلم" (رقم 682). وانظر تفصيلًا في تخريج هذا الحديث في "المجالسة" (165، 2932)، وتعليقي عليها. (¬1) رواه عبد بن حميد (21)، وابن أبي شيبة (3/ 60 - 61)، وأحمد في "مسنده" (1/ 21 و 52)، وابن حزم في "الإحكام" (7/ 99 - 100)، وأبو داود (2385) في (الصوم): باب القبلة للصائم، والنسائي في "الكبرى" (2945)، والدارمي (2/ 13)، وابن خزيمة (1999)، والطحاوي (2/ 89)، وابن حبان (3544)، والحاكم (1/ 431)، والبزار (236)، والبيهقي (4/ 218 و 261)، من طريق الليث بن سعد: حدثني بكير عن عبد الملك بن سعيد الأنصاري عن جابر بن عبد اللَّه عن عمر، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو على شرط مسلم فقط، وعبد الملك هذا لم يخرج له البخاري. (¬2) أخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب جزاء الصيد): باب الحج والنذور عن الميت (4/ 64/ رقم 1852)، نحوه من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- "الإحكام" (7/ 103) (¬3) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الزكاة): باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2/ 697/ رقم 1006). (¬4) في (ق) بعدها: "عليه السلام".

المقدس، فامتلأ [المسجد] (¬1)، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنَّ اللَّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهنَّ، وآمركم أن تعملوا بهن؛ أولاهن أنْ تعبدوا اللَّه، ولا تشركوا به شيئًا، وإنَّ مَثَلَ مَنْ أشرك بالته كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو وَرِقٍ، فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إليّ، فكان يعملُ ويؤدي إلى غير سيِّده، فأيكم يرضى أن يكون عبدُه كذلك؟ وإن اللَّه أمركم بالصَّلاة، فإذا صلَّيتم فلا تلتفتوا، فإنَّ اللَّه ينصبُ وَجْهَه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفتْ، وأمركم بالصيام؛ فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل في عِصَابة معه صُرَّة فيها مِسْك، وكُلُّهم يعجبه ريحُها، وإنّ ريح الصائم (¬2) أطْيَبُ عند اللَّه من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل أَسَرَهُ العدو فأوثَقُوا يديه إلى عُنُقه وقَدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بكل قليل وكثير، فَفَدى نَفْسه منهم، وأمركم أنْ تذكُروا اللَّه، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوُّ في أثره سِرَاعًا حتى إذا أتى على حِصْنٍ حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبدُ لا يحرز نفسه من الشيطان إِلَّا بذكر اللَّه (¬3)، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: وأنا آمركم بخَمْسٍ اللَّه أمرني بهن: السمعُ، والطاعة، والجهاد، والهِجْرة، والجماعة؛ فإنَّه من فارق الجماعة قِيْدَ شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه إِلا أن يُراجَع، ومن ادَّعى دَعْوَى الجاهلية فإنّه من جُثَّاء (¬4) جهنم، قالوا: يا رسول اللَّه وإنْ صلَّى وإنْ صام؟ قال: وإنْ صلى وإنْ صام، فادعُوا بدعوى اللَّه الذي سَمّاكم المسلمين المؤمنين عباد اللَّه" (¬5) حديث صحيح. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ق): "الصيام". (¬3) في (ق): "اللَّه تعالى". (¬4) في (ق): "جثى" وفي (و): "جُثا"، وعَلّق عليها قائلًا: "جمع جثوة" -بضم الجيم-؛ وهو الشيء المجموع" اهـ. (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 130 و 252 و 5/ 344 - مختصرًا)، والطيالسي (1161 و 1162)، والترمذي (2863 و 2864) في (الأمثال): باب ما جاء في مثل الصلاة والصيام والصدقة، وابن طهمان في "مشيخته" (200)، وأبو يعلى في "مسنده" (1571)، وفي "المفاريد" (رقم 83)، وابن منده في "الإيمان" (رقم 212)، وابن خزيمة (930 و 1895)، وأبو عبيد في "المواعظ والخطب" (رقم 95)، والآجري في "الشريعة" (ص 8)، والبخاري في "التاريخ" (2/ 260)، وابن سعد في "الطبقات" (4/ 359)، والطبراني في "الكبير" (3427، 3428، 3429، 3430، 3431)، وابن حبان (6233)، والحاكم (1/ 117 - 118 و 118 و 236 و 421)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (1/ 383)، وابن =

وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه (¬1) خمس مرات، هل يَبقى من دَرَنه شيء؟ قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه بهن الخطايا" (¬2)، ومَثَّلَ -صلى اللَّه عليه وسلم- المؤمن القارئ للقرآن بالأُتْرجَّة في طِيب الطعم والريح، وضده بالحنظلة، والمؤمن الذي لا يقرأ بالتمرة في طيب الطعم، وعدم الريح، والفاجر القارئ بالرَّيْحانة ريحها طيب وطعمها مُرّ (¬3)، ومَثَّل المؤمن بالخامة من الزرع لا تزال الرياح تُميلها ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومَثل المنافق بشجرة الأرز -وهي الصَّنَوْبرَة- لا تهتز ولا تميل حتى تُقْطَع مرةً واحدة (¬4)، ومثّل المؤمن بالنخلة في كثرة خيرها ومنافعها وحاجة الناس إليها وانتيابهم لها لمنافعهم بها (¬5)، وشَبَّه أمته ¬

_ = أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2510)، والبغوي في "شرح السنة" (2460) كلهم من طريق زيد بن سلام عن جده أبي سلَّام عن الحارث الأشعري. وقال الترمذي: "حسن صحيح غريب"، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. والحارث هذا هو ابن الحارث الأشعري، وجعله بعضهم: ابن مالك أبو مالك الأشعري، وهو خطأ؛ كما بينه الحافظ في "الإصابة"، وفي "تهذيب التهذيب". وانظر كتابي "من قصص الماضين" (ص 115 - 119)، ففصلت الكلام على الحديث، وللَّه الحمد. (¬1) في (ق): بعدها "كل يوم". (¬2) رواه البخاري (528) في (مواقيت الصلاة): باب الصلوات الخمس كفارة، ومسلم (667) في (المساجد): باب المشي إلى الصلاة تُمحى به الخطايا. (¬3) رواه البخاري (5020) في (فضائل القرآن): باب فضل القرآن على سائر الكلام، و (5059) باب إثم من راءى بقراءة القرآن أو تَأكَّل به، و (5427) في (الأطعمة): باب ذكر الطعام، و (7560) في (التوحيد) باب قراءة الفاجر والمنافق، ومسلم و (797) في (صلاة المسافرين) باب فضيلة حافظ القرآن، من حديث أبي موسى الأشعري. وقع في (ق): "ولا طعم لها"، وكذا في (ك) إشار في الهامش أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬4) رواه البخاري (5644) في (المرض): باب ما جاء في كفارة المرض، و (7466) في (التوحيد): باب في المشيئة والإرادة، ومسلم (2809) في (صفات المنافقين وأحكامهم): باب مثل المؤمن كالزرع، ومثل الكافر كشجر الأرز، من حديث أبي هريرة، ولفظ مسلم أقرب إلى سياق المؤلف، وفي الباب عن كعب بن مالك: رواه البخاري (5643)، ومسلم (2810). ووقع في (ق): "تقلع مرة واحدة". (¬5) رواه البخاري (61) في (العلم): باب قول المحدث: "حدثنا". . .، و (62) في باب طرح الإمام المسألةُ على أصحابه، و (72) باب الفهم في العلم، و (131) باب الحياء في العلم، و (2209) في (البيوع): باب بيع الْجُمّار وأكله، و (4698) في (التفسير): باب =

بالمطر في نفع أوله وآخره (¬1)، وحياة الوجود به، ومَثّل أمته والأمتين الكتابيتين قبلها فيما خص اللَّه به أمته وأكرمها به بِأُجَرَاءَ عَمِلوا بأجرٍ مسمًى لرجل يومًا على أن يوفّيهم أجورهم، فلم يكملوا بقيّة يومهم وتركوا العمل من أثناء النهار، فعملتْ أمته بقيةَ النهار فأستكملوا أجرَ الفريقين (¬2)، وضرب له ولأُمَّته جبريلُ وميكائيلُ مثلَ ملك اتخذ دارًا، ثم بَنى (¬3) فيها بيتًا، ثم جعل مائدة، ثم بعث رسولًا يدعو الناسَ إلى طعامه، فمنهم مَنْ أجاب الرسول، ومنهم مَنْ تركه، فاللَّه هو الملك، ومحمد (¬4) الداعي، والدار الإسلام، والبيت الجنة، فمن أجابه دخلَ الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل دار الملك وأكلَ منها، ومن لم يُجبه لم يدخل داره، ولم يأكل منها (¬5). وفي "المسند"، والترمذي من حديث النَّوَّاس بن سَمْعان قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا، على كَنَفيّ الصراط سوران ¬

_ = {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ. . .}، و (5444) في (الأطعمة): باب أكل الْجُمّار، و (5448) باب بركة النخل و (6122) في (الأدب): باب ما لا يستحى من الحق للتفقه في الدين، و (6144) باب إكرام الكبير. ومسلم (2811) في (صفات المنافقين): باب مثل المؤمن مثل النخلة، من حديث ابن عمر. وللشيخ عبد الرزاق بن عبد المحسن رسالة مطبوعة بعنوان: "تأملات في مماثلة المؤمن للنخلة" وانظر: "مفتاح دار السعادة" للمصنف (1/ 120 - ط دار ابن عفان)، و"فتح الباري" (1/ 147). وسقطت "بها" من (ق). (¬1) وذلك في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل أُمتي مثل المطر، لا يُدرى أَوَّلُه خيرٌ أم آخره". أخرجه أحمد (3/ 130، 143)، والترمذي (2869) والطيالسي، (2023)، وأبو يعلى (3475، 3717)، والعقيلي (1/ 309)، وابن عدي (2/ 163 و 3/ 918 و 4/ 1638)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (230)، والقضاعي (1351، 1352)، والخطيب (11/ 114)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 68، 69) من حديث أنس. وحسنه الترمذي وابن حجر في "الفتح" (8/ 6)، والحديث صحيح لطرقه. وفي الباب عن عمار بن ياسر، عند أحمد (4/ 319)، والطيالسي (90) وابن حبان (2307 - موارد)، والرامهرمزي (رقم 70). (¬2) رواه البخاري (558) في (مواقيت الصلاة): باب من أدرك ركعة من العصر في الغروب، و (2271) في (الإجارة) باب: الإجارة من العصر إلى الليل، من حديث أبي موسى الأشعري. (¬3) في المطبوع: "ابتنى". (¬4) في (د): "والرسول محمد". (¬5) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الاعتصام): باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه (برقم 7281)، من حديث جابر.

لهما (¬1) أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا (¬2)، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك (¬3)! لا تفتحه، فإنَّك إنْ تفتحه تَلِجْهُ، فالصِّراطُ الإسلامُ، والسوران حدودُ اللَّه، والأبوابُ المفتَّحةُ محارمُ اللَّه، فلا يقع أحد في حد من حدود اللَّه حتى يكشف الستر، والداعي على رأس الصراط كتاب اللَّه، والداعي من فوق الصراط واعظُ اللَّه في قلب كلِّ مسلم" (¬4)، فليتأمَّل العارف قدر هذا المثل، وليتدبره حقَّ تدبُّره، ويزن به نفسه (¬5)، وينظر أين هو منه، وباللَّه التوفيق. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَثَلي ومَثَلَ الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إِلا موضع لَبِنَة، فجعل الناسُ يدخلونها ويتعجَّبون منها، ويقولون: لولا (¬6) موضعُ تلك اللبنة، فكنتُ [أنا] موضع تلك اللبنة"، رواه مسلم (¬7). وفي "الصحيحين" من ¬

_ (¬1) في (ق): "لها". (¬2) في المطبوع: "ولا تعرجوا". (¬3) في (ق): "ويلك". (¬4) أخرجه أحمد في "المسنده" (4/ 182 - 183 و 183)، والترمذي في "السنن" (كتاب الأمثال): باب ما جاء في مثل اللَّه لعباده (5/ 144/ 2859)، والطبري في "جامع البيان" (186 و 187)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2141 و 2142 و 2143)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 3)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 280)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11233)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 73)، وابن أبي عاصم في "السنة" (18، 19)، وابن نصر في "السنة" (5) والآجري في "الشريعة" (11) من طريقين عن جببر بن نفير عن النواس بن سمعان به. قال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي "تحفة الأشراف" (9/ 61): حسن غريب، وهو اللائق؛ لأن رواته ثقات. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في "تفسيره": "وهذا إسناد حسن صحيح". (¬5) في (ق): "ويزن نفسه به". (¬6) في (ك) و (ق): "لو"، وقال في هامش (ق): "لعله: لولا". (¬7) في (كتاب الفضائل): باب ذكر كونه -صلى اللَّه عليه وسلم- خاتم النبيين (رقم 2287). ووقع في (ق): "وكنت أنا". وما بين المعقوفتين سقط من (ك). وهو في "صحيح البخاري" -أيضًا- في (كتاب المناقب): باب خاتم النبيين -صلى اللَّه عليه وسلم- من حديث جابر (رقم 3534).

حديث أبي هريرة وأبي سعيد عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعل الدواب والفراش يَقَعْنَ فيها، فأنا آخذ بحُجَزِكم عن النَّار، وأنتم تقتحمون فيها" (¬1). ومَثَّل مَنْ وقع في الشُّبهات بالراعي يرعى حول الحمى، وأنه يوشك أن يقع فيه (¬2). وقال الحافظ أبو محمد بن خَلَّاد الرامهرمزي (¬3): حدثنا أبو شعيب (¬4) الحَرّاني: ثنا يحيى بن عبد اللَّه البابلتي (¬5): ثنا صفوان بن عمرو قال: ثني سليم بن عامر قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نُصرت بالرعب [مسيرةَ شهر] (¬6)، وأُوتيت جوامع الكلم، وأوتيت الحكمة، وضرب لي من الأمثال مثل القرآن، وإني بينا أنا نائم إذ أتاني ملكان، فقام أحدهما عند رأسي، وقام الآخر عند رجلاي (¬7)، فقال للذي عند رأسي: اضرب مثلًا وأنا أُفسِّره، فقال الذي عند رأسي وأهوى إليّ: لِتَنَمْ عينُك، ولتسمع (¬8) أذنُك، ولْيَعِ قلبُك، قال: فكنتُ كذلك، أنها الأذن فتسمع، وأما القلبُ فيعي، وأما العين فتنام، قال: فضرب مثلًا فقال: بِرْكة فيها شجرة ثابتة، وفي الشجرة غصن خارج، فجاء ضاربٌ فضرب الشَّجرةَ، فوقع الغُصنُ، ووقع معه ورقٌ كثير، كل ذلك في البِركة لم يَعْدُها، ثم ضرب الثانية، فوقع ورقٌ كثير، كل ذلك في البركة لم يَعْدُها، ثم ضرب الثالثة فوقع ورقٌ كثير، لا أدري ما وقع فيها أكثر أو ما خرج منها، قال: ففسر الذي عند رجلاي (7)، فقال: أما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (3426) في (أحاديث الأنبياء): باب قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ}، و (6483) في (الرقاق): باب الانتهاء عن المعاصي، ومسلم (2284) في (الفضائل): باب شفقته -صلى اللَّه عليه وسلم- على أمته، من حديث أبي هريرة. ورواه مسلم (2285) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-. وسقطت "فيها" من (ك). (¬2) قطعة عن آخر حديث النعمان بن بشير: "إن الحلال بيّن، وإن الحرام بين"، أخرجه البخاري (52) (كتاب الإيمان): باب فضل من استبرأ لدينه، و (رقم 2051): (كتاب البيوع): باب الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات، ومسلم (1599) (كتاب المساقاة): باب أخذ الحلال وترك الشبهات. ووقع في (ك) و (ق): "يرتع فيه". (¬3) في (ق) و (ك): "الرامهزي". (¬4) في (د) و (ط) و (و) و (ك) و (ق): "أبو سعيد" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه. (¬5) في (ق) و (ك): "النابلي". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) ومضروب عليها في (ك). (¬7) في المطبوع: "رجلى". (¬8) في (ق): "وتسمع".

البركة فهي الجنةُ، وأما الشجرة فهي الأمة، وأما الغصنُ فهو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما الضارب فملك الموت: ضرب الضربة الأولى في القرن الأول، فوقع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهل طبقته، وضرب الثانية في القرن الثاني، فوقع كل ذلك في الجنة، ثم ضرب الثالثة في القرن الثالث فلا أدري ما وقع فيها أكثر أم ما خرج منها" (¬1). وفي "المسند" من حديث جابر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا خطب احمرَّت عيناه، وَعلا صَوْتُه، واشتدَّ غضبُه، حتَّى كأنَّه نذيرُ جيشٍ يقول؛ صَبَّحكم ومَسّاكم (¬2)، ثم يقول: بعثُت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى" (¬3)، وفي حديث المسْتَوْرِد: "بُعثت في نَفَس الساعة سبقتها، كما سبقتْ هذه هذه، وأشار بأصبعيه" (¬4)، وفي "المسند" عنه (¬5): "إنَّ مَثَلي ومَثَلَ ما بعثني اللَّه، كمثلِ رجلٍ أتى ¬

_ (¬1) هو في "الأمثال" رقم (6)، وفيه يحيى بن عبد اللَّه البابلتي: ضعفه أبو زرعة وغيره، وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة تفرد ببعضها، وأثر الضعف على حديثه بين، وقال أبو حاتم: لا يعد به، وسليم بن عامر (وقد ورد اسمه في المطبوع من الأمثال: سليمان ثم وجدته على الجادة في الطبعة الأصلية منه ص 15 - ط الباكستانية)، وهو الكلاعي الخبائري ثقة من التابعين، فهو مرسل. (¬2) في (ق): "صبحكم أو مساكم". (¬3) هو في "المسند" (3/ 315 و 338 و 371)، وهو في "صحيح مسلم" (867) في (الجمعة): باب تخفيف الصلاة والخطبة. (¬4) أخرجه الترمذي في "سننه" (كتاب الفتن): باب ما جاء في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بعثت أنا والساعة كهاتين" (رقم 2213)، والطبراني في "المعجم الكبير" (20/ 724 و 732) والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 9)، عن مجالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد، وقال الترمذي: "حديث غريب من حديث المستورد، لا نعرفه إِلا من هذا الوجه". قلت: وسنده ضعيف؛ لضعف مجالد. وشاهده حديث أنس: أخرجه البخاري في "الصحيح" (برقم 6504)، وكذلك مسلم في "الصحيح" (برقم 2951). وحديث أبي هريرة: أخرجه البخاري في "الصحيح" (برقم 6505). وحديث سهل بن سعد: أخرجه البخاري -أيضًا- في "الصحيح" (برقم 4936 و 5301 و 6503)، ومسلم في "الصحيح" (برقم 2950). ووقع في (ك): "فسبقتها. . . وأشار إلى إصبعيه"، وفي (ق): "هذه" مرة واحدة و"إلى أصبعيه". (¬5) هذا الحديث ليس في "مسند أحمد" عن المستورد، ولا ذكر له في "مسنده" في "أطراف المسند" (5/ 272 - 274)، وفي "المسند" (4/ 399) عن أبي موسى الحديث الآتي، الذي عزاه المصنف لـ"الصحيحين"، فلعل تقديمًا وتأخيرًا وقع في الأصول، أو الضمير في (عنه) يعود على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والسياق الآتي يساعد عليه. ووقع في (ق): "بعثني اللَّه به".

قومه، فقال: يا قوم! إني رأيتُ الجيش بعيني، وأنا النَّذير العُرْيان فالنّجاءَ، فأطاعه طائفةٌ منهم فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبه (¬1) طائفة فأصبحوا مكانهم فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، وكذلك مثل مَنْ أطاعني واتَّبع ما جئتُ به، ومثل من عصاني، وكَذَّب بما جئتُ به من الحق" (¬2)، وفي "الصحيحين" عنه (¬3): "مثلي ومثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكان منها أجَادِبُ أَمْسَكَت الماء، فبفع اللَّه بها الناس فشربوا وزرعوا وسَقَوا، وأصاب طائفةً أخرى منها إنما هي قيعانٌ، لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأ، فذلك مثل من فقُهَ في دين اللَّه ونفَعَه اللَّه بما بعثني به (¬4)، فعَلِمَ وعَلَّم، ومثلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقْبل هدى اللَّه الذي أُرْسِلتُ به" (¬5) وفي "الصحيحين" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه خطب الناس فقال: "واللَّه ما الفقرَ أخْشَى عليكم، وإنما أخشى عليكم ما يُخْرجُ اللَّه لكم من زهرة الدنيا، فقال رجل: يا رسول اللَّه أو يأتي الخيرُ بالشر؟ فَصَمَتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم قال: كيف قلت؟ فقال: يا رسول اللَّه أو يأتي الخيرُ بالشر؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الخير لا يأتي إِلا بالخير، وإنَّ مما يُنبتُ الربيعُ ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمَّ، إِلَّا آكلة الخضرِ، أكلتْ حتى إذا امتدَّت خاصِرَتاها استقبلتِ الشمسَ فَثَلَطَتْ وبالت (¬6)، ثم ¬

_ (¬1) في (د): "وكذبته". (¬2) أخرجه الرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 10) من حديث أبي موسى، واللفظ له، والمصنف ينقل منه، وأخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، (11/ 316/ رقم 6482)، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، (13/ 250/ رقم 7283)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الفضائل، باب شفقته -صلى اللَّه عليه وسلم- على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، 4/ 1788/ 1879 رقم 2283) من حديث أبي موسى مرفوعًا: "إن مثلي ومثل ما بعثني اللَّه به كمثل رجل أتى قومه، فقال: يا قوم! إني رأيت الجيش بعيني، وإني أنا النذير العُريان؛ فالنَّجاء. . . ". ووقع في (ك): "ومثل ما بعثني اللَّه به". (¬3) في (ق): "عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬4) في المطبوع: "ونفعه ما بعثني اللَّه به". (¬5) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب العلم): باب فضل من عَلِمَ وعَلَّم، (رقم 79)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الفضائل): باب بيان مثل ما بُعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الهدى والعلم (رقم 2282) من حديث أبي موسى أيضًا. واللفظ للرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 12) وعنده: "وأصاب طائفة أخرى منها الماء وهي قيعان. . . " وقبلها: "فشربوا ورعوا وسقوا". (¬6) "الحبط": الهلاك: "يلم": يقرب. "الخضر": نوع من البقول ليس من أحرارها وجيدها. "ثلط البعير": ألقى رجيعه سهلًا رقيقًا. (و).

اجتَرَّتْ (¬1) وعادت [فأكلت] (¬2)، فمن أخذ مالًا بحقِّه يُبارك له فيه، ومن أخذ مالًا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكلُ ولا يشبع" (¬3). وقالت ميمونة: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرو بن العاص: "الدنيا حُلوة خَضِرَة، فمن اتقى اللَّه فيها وأصلح، وإلا فهو كالذي يأكلُ ولا يشبع، وبين الناس في ذلك كبُعد الكوكبين (¬4)، أحدهما يطلع في المشرق والآخر يغيب في المغرب" (¬5)، ومَثَّل نفسه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدنيا براكب مَرَّ بأرض فَلاةٍ، فرأى شجرةً، فاستظل [تحتها] (¬6)، ثم راح وتركها (¬7). ¬

_ (¬1) في (ك): "رتعت". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه البخاري (921) في (الجمعة): باب يستقبل الإمام القوم، و (1465) في (الزكاة): باب الصدقة على اليتامى، و (2842) في (الجهاد): باب فضل النفقة في سبيل اللَّه، و (6427) في (الرقاق): باب ما يحذر من زهرة الحياة الدنيا، والتنافس فيها، ومسلم (1052) في (الزكاة): باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) في (ق) و (ك): "كمثل الكوكبين". (¬5) رواه أبو يعلى في "مسنده" (7599)، والرامهرمزي في "الأمثال" (19) من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن سليمان بن يسار عن ميمونة به، وفيه زيادة. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 246 - 247): رواه أبو يعلى، والطبراني باختصار كثير، وفيه المثنى بن الصباح وهو ضعيف. أقول: هو في "المعجم الكبير" (24/ 58) أوله فقط، وكذا في "الزهد" لابن أبي عاصم (156) وليس في رواية أبي يعلى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال هذا لعمرو بن العاص، وانظر شواهده في "المجمع". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) أخرجه وكيع في "الزهد" (رقم 64) -ومن طريقه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 217)، وأحمد في "المسنده" (1/ 7 - 8، 441)، و"الزهد" (8)، وابن أبي عاصم في "الزهد" (رقم 183)، وأبو يعلى في (المسند) (8/ 416/ رقم 4998 و 9/ 148/ رقم 5229)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 297)، و"أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 295 أو 272 - ط أخرى)، وابن أبي الدنيا في "قصر الأمل" (رقم 126)، وفي "ذم الدنيا" (رقم 133)، وتمام في "الفوائد" (رقم 912 أو رقم 1619 - مع ترتيبه "الروض البسام") - والطيالسي في "المسند" (277 أو 2/ 120 - مع منحة المعبود)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الزهد): باب منه (4/ 588 - 589/ رقم 2377)، وابن ماجة في "السنن" (كتاب الزهد): باب مثل الدنيا (2/ 1376/ رقم 4109) والرامهرمزي في "الأمثال" (20)، ونعيم بن حماد في "زيادات زهد ابن المبارك" (رقم 195)، ويونس بن بكير في "زيادات السيرة" (ص 195)، وهناد في "الزهد" (رقم 744)، وأحمد في "المسند" (1/ 391)، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = و"الزهد" (ص 12)، وأبو يعلى في "المسند" (9/ 195 - 196/ رقم 5292)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 165)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (1/ 467)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 310)، والطبراني في "الأوسط" (2/ ق 297/ ب)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 20)، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (رقم 1434)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/ 337 - 338)، و"الشعب" (7/ 311)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 102 و 4/ 234)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (رقم 1384)، والبغوي في "شرح السنة" (14/ 235 - 236/ رقم 4034)، جميعهم من طريق المسعودي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعًا. وإسناده حسن، المسعودي هو عبد الرحمن بن عبد اللَّه، اختلط قبل موته، وسماع وكيع منه قديم؛ قبل الاختلاط؛ كما قال الإمام أحمد. وله عن ابن مسعود طريقان آخران: الأول: أخرجه ابن أبي عاصم في "الزهد" (رقم 181) -وعنه أبو الشيخ في "أخلاق النبي" (ص 272) -، والطبراني في "الكبير" (10/ 200 - 201 / رقم 10327)، والبيهقي في "الشعب" (7/ 311) من طريق عبيد اللَّه بن سعيد قائد الأعمش عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه به رفعه. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 326): "وفيه عبيد اللَّه بن سعيد، قائد الأعمش، وقد وثقه ابن حبان وضعفه جماعة". قلت: وفيه أيضًا حبيب، وهو مدلس وقد عنعن؛ فإسناده ضعيف. والآخر: أخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 332)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 238)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 234) من طريق الحسن بن الحسين العرني عن جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه رفعه. وإسناده ضعيف -أيضًا-، الحسن بن الحسين العرني يروي المقلوبات؛ كما قال ابن حبان، وقال أبو حاتم: "لم يكن بصدوق عندهم"، وقال ابن عدي: "لا يشبه حديثه حديث الثقات"، قال أبو نعيم عقبه: "وهو غريب"، وقال ابن حبان: "هذا خبر ما رواه عن إبراهيم إِلا المسعودي؛ فإنه روي عن عمرو بن مرة عن إبراهيم، والمسعودي لا تقوم الحجة بروايته". قلت: ولحديث ابن مسعود شاهدان يصح بأحدهما، هما: الأول: حديث ابن عباس، أخرجه أحمد في (المسند) (1/ 301)، و"الزهد" (ص 13)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (رقم 599)، وابن أبي الدنيا في "ذم الدنيا" (رقم 134)، و"قصر الأمل" (رقم 127) -ومن طريقه البيهقي في "الشعب" (7/ 312) -، وابن أبي عاصم في "الزهد" (رقم 182)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 298)، وابن حبان في "الصحيح" رقم 2526 - موارد، و 14/ 265/ رقم 6352 - الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (11/ 327/ رقم 11898)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 310)، وأبو نعيم =

وفي "المسند" والترمذي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إِلا كما يَضعُ أحدُكم أصبعه في اليَمّ، فلينظر بم يرجع" (¬1)، ومرَّ مع الصحابة بسَخْلة منبوذة، فقال: "أَتروْن هذه هانت على أهلها، فوالذي نَفْسي بيده للدُّنيا أهون على اللَّه من هذه على أهلها" (¬2)، وقال: "إنّما مَثَلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازةً ¬

_ = في "الحلية" (3/ 342)، والخطيب في "الموضح" (2/ 366 - 367)، كلهم من طريق هلال بن خباب عن عكرمة عنه مرفوعًا. وإسناده قوي في الشواهد، هلال ثقة؛ إِلا أنه تغير، كما قال الثوري ويحيى القطان، وهما أعلم بشيخهما من ابن معين عندما قال: "لا ما اختلط ولا تغير"، والمثبت مقدم على النافي، قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 326): "رجال أحمد رجال الصحيح؛ غير هلال بن خباب، وهو ثقة". والآخر: حديث عائشة، أخرجه أبو الشيخ في "أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 268)، وإسناده واهٍ، فيه الوازع بن نافع، متروك، له ترجمة في "اللسان" (6/ 213). والخلاصة الحديث صحيح بمجموع هذه الطرق. (¬1) رواه أحمد (4/ 228 و 229)، والترمذي (2323) في (الزهد) باب رقم (15)، وابن ماجة (4108) في (الزهد)، وابن المبارك في "الزهد" (496)، والطبراني في "الكبير" (20/ 713)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (14/ 4948، 4949 رقم 1933، 1934)، والحاكم (3/ 592)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 21) -وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2602 - 2603 رقم 6270). وهو في صحيح مسلم أيضًا (2858) في الجنة وصفة نعيمها: باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، من حديث المستورد بن شداد. ووقع في (ق): "بم ترجع". (¬2) رواه ابن المبارك في "الزهد" (508)، وأحمد (4/ 229 و 230)، والترمذي (2321) في (الزهد): باب ما جاء في هوان الدنيا، وابن ماجة في "الزهد" (4111) باب عمل الدنيا، والطبراني في "الكبير" (20/ 723)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 22) من طريق مجالد بن سعيد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد بن شداد به. وقال الترمذي: "حديث حسن!! " وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف. وله شاهد من حديث ابن عباس رواه ابن أبي شيبة (13/ 245)، وأحمد (1/ 329)، وأبو يعلى (2593)، والبزار (3691)، وأبو نعيم (2/ 189) قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 287): "فيه محمد بن مُصْعَب وقد وثق على ضعفه؛ وبقية رجالهم رجال الصحيح". ومن حديث جابر، رواه مسلم (2957) في (الزهد)، وأبو داود (186) في (الطهارة) باب: ترك الوضوء من مس الميتة، وأحمد (3/ 365). ومن حديث سهل بن سعد وأبي هريرة وأنس وغيرهم، انظرها مفصلة في "الزهد" لابن أبي عاصم رقم (131 - 136)، و"مجمع الزوائد" (10/ 287). ووقع في (ك): "هانت على نفسها".

غَبْراء لا يدرون ما قطعوا منها أكثر أو ما بقي منها، فحسرت ظهورهم، ونفد زادهم، وسقطوا بين ظَهْري المفازة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حُلّة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا لحديثُ عهدٍ بريفٍ، فانتهى إليهم، فقال: يا هؤلاء، ما شأنكم؟ فقالوا: ما ترى كيف حسرت ظهورنا، ونفدت أزوادنا بين [ظهري] (¬1) هذه المفازة، لا ندري ما قطعنا منها أكثر أم ما بقي؟ فقال: ما تجعلون لي إنْ أَوردتُكم ماءً رُواءً (¬2) ورياضًا خضرًا؟ قالوا: حكمك، قال: تُعطوني عهودَكم ومواثيقكم ألا تعصوني، ففعلوا، فمال بهم فأوردهم ماءً رواءً (¬3) ورِياضًا خُضْرًا، فمكث يسيرًا، ثم قال: هلُمُّوا إلى رياض أعشبَ من رياضكم هذه، وماءٍ أروى من مائكم هذا، فقال جُلُّ القوم: ما قدرنا على هذا حتى كدنا أنْ لا نقدر عليه، وقالت طائفةٌ منهم: ألستُم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ومواثيقَكم أن لا تعصوه؟ فقد صدقكم في أول حديثه، فآخرُ حديثه مثل أوله، فراح وراحوا معه، فأوردهم رياضًا خضرًا وماءً رواءً، وأتى الآخرين العدوُّ من ليلتهم فأصبحوا ما بين قتيل وأسير" (¬4). وقال: "مثل المؤمن كمثل النَّخْلة، أكلت طيِّبًا ووضعت طيبًا، وإنَّ مثل المؤمن كمثل القطعةِ الجيدةِ من الذهب، أُدخلت النَّار فنُفِخَ عليها فخرجت جيدة" (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) "بفتح الراء: الماء الكثير" (و)، ووقع في (ق): "وقال". (¬3) في (ق): "رويًا". (¬4) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (رقم 176 و 507) ومن طريقه: الرامهرمزي في "الأمثال" (ص: 84، رقم 23) حدثنا غير واحد عن الحسن مرسلًا. وعزاه العراقي في "تخريج الإحياء" (3/ 218) لابن أبي الدنيا، وهو في "ذم الدنيا" له (رقم 88)، وروى نحوه عبد بن حميد في "المنتخب" (667)، وأحمد في "المسند" (1/ 267)، والبزار (2407)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12940) من طرق عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران عن ابن عباس. قال العراقي في "تخريج الإحياء" (3/ 218): "وإسناده حسن". وكذلك قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 260)!!. قلت: فيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف. ووقع في (ك): "وأتى الأخرى العدو"، وفي (ق): "وأتى العدو الأخرى". (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (11/ 404 - 406) -ومن طريقه أحمد (2/ 199) وأبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 343) - والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 29) -واللفظ له- من =

وروى لَيْث، عن مجاهد، عن ابن عمر يرفعه: "مثل المؤمن مثل النخلة -أو النحلة- إنْ شاورته نفعك، وإنْ ماشَيْته نَفَعك، وإنْ شاركته نفعك" (¬1)، وقال: ¬

_ = طريق مطر الوراق، وأحمد (1/ 263) -ومن طريقه الحاكم (1/ 75) - والمروزي في "زوائد الزهد" (رقم 1610)، والبيهقي في "الشعب" (5/ 58) من طريق حسين المعلم، والحاكم (4/ 513) من طريق قتادة جميعهم عن عبد اللَّه بن بريدة، عن أبي سبرة عن عبد اللَّه بن عمرو به؛ وإسناده ضعيف. وعند الرامهرمزي (يحيى بن يعمر) بين ابن بريدة وأبي سبرة. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 295): "رجاله رجال الصحيح غير أبي سبرة، وقد وثقه ابن حبان" بينما قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، فقد اتفق الشيخان على الاحتجاج بجميع رواته، غير أبي سبرة الهذلي، وهو تابعي كبير مبين -كذا، ولعله مُسِنّ-، ذكره في المسانيد والتواريخ، غير مطعون فيه". قلت: أبو سبرة الهذلي، قال الذهبي في "الميزان" (4/ 572): "لا يعرف" ومع هذا فهو القائل في آخر "ديوان الضعفاء" (ص 478): "وأما المجهولون من الرواة، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم احتمل حديثه وتلقي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول، وركاكة الألفاظ. وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين، فيتأنى في رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه، وعدم ذلك" وأبو سبرة من كبار التابعين، فلا يضره هذا على هذه القاعدة! ولكن أخرج البيهقي في "الشعب" (5/ 58 رقم 5765) هذا اللفظ عن عبد اللَّه بن عمرو قوله، وإسناده صحيح، وهذا الأشبه. وقال عقبه: "هذا هو المحفوظ بهذا الإسناد، موقوف". وأخرج أبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 342) من طريق آخر عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا، وسنده مظلم. وروي أوله من حديث أبي رَزين، أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 248)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأحوذي" (8/ 335) - وابن حبان (247)، والطبراني في "الكبير" (19/ 460)، و"الأوسط" (رقم 2637)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1353 و 1354)، من طريق شعبة عن يعلى بن عطاء عن وكيع بن عُدُس عن عمه به، ووكيع لم يوثقه إِلا ابن حبان. (¬1) أخرجه الرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 30)، والشجري في "أماليه" (1/ 36)، والطبراني في "الكبير" (12/ 418 رقم 13541)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 129) من طريقين عن ليث به قال أبو نعيم: "غريب بهذا اللفظ، تفرد به ليث عن مجاهد، وهو ثابت صحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-". وأخرجه أبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 353). والبيهقي في "الشعب" (9072) عن ليث بن أبي سُليم عن محمد بن طارق عن مجاهد به. بإسناده ضعيف، فيه ليث، وهو صدوق، اختلط جدًا ولم يتميز حديثه، فترك. وروى الطبراني في "الكبير" (13514)، وأبو الشيخ (رقم 353)، والرامهرمزي =

"مثل المؤمن والإيمان كمثل الفَرَس في آخيته (¬1) يجول ما يجول ثم يرجع إلى آخيته؛ وكذلك المؤمن يَقْتَرِف ما يقترف (¬2) ثم يرجع إلى الإيمان" (¬3)، وقال: "مثل المؤمنين في تَوَادهم وتراحُمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى شيء منه، تَدَاعى سائرُه بالسَّهَر والحمى" (¬4)، وقال: "مثل المنافق كمثل الشاة العَائِرة بين ¬

_ = (رقم 31) كلاهما في "الأمثال"، من حديث ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "مثل المؤمن مثل النخلة ما أخذت منها من شيء نفعك". وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 147). (¬1) "الآخية" -بهمزة [مكسورة أو] ممدودة وياء مشددة، [وقد تخفف إذا مدت الهمزة]-، حبيل أو عويد يضرب في الحائط ويدفن طرفاه فيه، ويصير وسطه كالعروة، والمراد من الحديث: أن المؤمن يبعد عن ربه بالذنوب، ثم يرجع، كذا في (ط)، وما بين المعقوفات زيادة (د) على (ط)، ونحو ما في (ط) في (ح). وانظر "النهاية" (1/ 29 - 30). (¬2) في (ق) و (ك): "المؤمن يعرو ما يعرو" (وفي جميع النسخ المطبوعة: يفترق ما يفترق) بتقديم الفاء على القاف!! (¬3) رواه ابن المبارك في "الزهد" (73) -ومن طريقه ابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (2/ 609 رقم 650) - والبخاري في "التاريخ الكبير" (37 - الكنى مختصرًا)، وأحمد (3/ 38، 55)، وأبو يعلى (1106 و 1332)، وابن حبان (616)، وابن بشران في "الأمالي" (رقم 1435)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 179)، والبغوي (3485) والسهروَردي في "عوارف المعارف" (ص 117) من طريق سعيد بن أبي أيوب، حدثنا عبد اللَّه بن الوليد التجيبي عن أبي سليمان الليثي عن أبي سعيد الخدري به مرفوعًا، وفيه زيادة على ما هنا. وتحرف أبو سليمان الليثي عند أبي يعلى (1332) إلى التيمي. ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 201)، وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح غير أبي سليمان الليثي، وعبد اللَّه بن الوليد التميمي (وصوابه التجيبي) وكلاهما ثقة!!. أقول: في كلامه نظر، فالأول -وهو أبو سليمان الليثي-: لم يوثقه إِلا ابن حبان (5/ 569)، وقال علي بن المديني، مجهول، انظر: "اللسان" (7/ 58)، وعبد اللَّه بن الوليد، وثقه ابن حِبَّان، وضعفه الدارقطني. وله شاهد من حديث ابن عمر، -باللفظ الذي أورده المصنف- رواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث" (ص 84 - ط الباكستانية أو رقم 39 - ط أحمد تمام) من طريق قتادة بن وسيم -أو رستم- الطائي، حدثنا عبيد بن آدم العسقلاني، حدثنا أبي، عن ابن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا، وقتادة هذا ذكره الذهبي في "الميزان" وقال: مجهول، وبقية رجاله ثقات. (¬4) رواه البخاري (6011) في (الأدب): باب رحمة الناس والبهائم، ومسلم (2586) في (البر والصلة): باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم، من حديث النعمان بن بشير، وهذا لفظ مسلم والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 40)، وانظر تخريجه بتوسع في "الحنائيات" (رقم 242) وتعليقي عليه.

الغنمين (¬1)، تَكرُّ إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة" (¬2)، وقال: "مثل القرآن كمثل الإبل المُعقَّلة (¬3)، إن تعهَّد صاحبها عُقُلَها أمسكها، وإنْ أغفلها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن به ذكره، وإذا لم يَقُم به نسيه" (¬4)، وقال موسى بن عبيدة، عن مَاعِز (¬5) بن سُويد العَرْجي، عن عليّ بن أبي طالب -كرم اللَّه وجهه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مثلُ المؤمن الذي لا يُتِمُّ صلاته مثلُ المرأة التي حَمَلت حتى إذا دنا نِفاسُها أسقطت، فلا حامل ولا ذات رِضاع؛ ومثلُ المصلي كمثل التاجر لا يَخْلُص له الربح حتى يخلص له رأس المال؛ وكذلك المصلي لا يقبل اللَّه له نافلة حتى يؤدِّي الفريضة" (¬6). ¬

_ (¬1) "المترددة بين قطيعين" (و). (¬2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب صفات المنافقين): في فاتحته، (برقم 2784)، من حديث ابن عمر؛ واللفظ للرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 44). (¬3) "المشدودة بالعقال" (و). (¬4) رواه البخاري (5531) في (فضائل القرآن): باب استذكار القرآن وتعاهده، ومسلم (789 و 226 و 227) في (صلاة المسافرين): باب فضائل القرآن وما يتعلق به، من حديث ابن عمر، ولفظ مسلم أتم. ووقع في (ك) (ق): "إنْ تعاهد". (¬5) في الطبعة الباكستانية من "أمثال الحديث" (ص 91) للرامهرمزي، بالغين المعجمة والراء!! وفي طبعة مؤسسة الكتب الثقافية منه (ص 88 - 89 رقم 55). "ماعز" -بالعين المهملة والزاي-، ولم يذكره البرديجي في "طبقات الأسماء المفردة" ولم يترجم له في "التاريخ الكبير"، و"الجرح والتعديل"، ولم يذكر له صاحب "مسند علي" -على سعة جهده، وكثرة المصادر التي نقل منها- غير هذا الحديث، وهو محرف عن (صالح)، وهذا من أوهام الراوي عنه، ولذا أثبتها على ما هي عليه. (¬6) رواه الرامهرمزي في "أمثال الحديث" (91 ط الباكستانية ورقم 55 - ط الأخرى) حدثنا شيخ من أهل مدينة السلام، حدثنا محرز بن سلمة عن الدراوردي عن موسى بن عبيدة به. ورواه أبو يعلى (315)، والبيهقي (2/ 387)، وفي "الشعب" (2/ ق 70/ أ)، والتيمي في "الترغيب" (رقم 1913 - ط أيمن شعبان)، والخطيب في "تلخيص المتشابه" (2/ 415)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (10/ ق 638) من طريق موسى بن عبيدة عن إبراهيم بن عبد اللَّه بن حنين عن أبيه عن علي رفعه، وليس عند أبي يعلى: "ومثل المصلي. . . ". ورواه ابن بشران في "أماليه" (رقم 1452)، والبيهقي (2/ 387) من طريق موسى بن عبيدة عن صالح بن سويد عن علي مرفوعًا. وقال البيهقي: "موسى بن عبيدة لا يحتج به، وقد اختلف عليه في إسناده. . . " ثم ذكر الطريقين. =

وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أَوس بن خالد، عن أبي هريرة يرفعه: "مثل الذي يسمع الحكمةَ ولا يحملُ إِلا شَرَّها، كمثل رجل أتى راعيًا فقال: آجرني (¬1) شاةً من غنمك، فقال: انْطَلِقْ فخذ بأذُنِ شاة منها، فذهب فأخذ بأذُن كلب الغنم" (¬2)، وقال عبد اللَّه بن المبارك: ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: حدثني أبو عبد ربه (¬3) قال: سمعت مُعَاوية يقول على هذا المنبر: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنما بَقي من الدنيا بَلَاء وفتنة، وإنما مَثَلُ عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاهُ طاب أسفلهُ، وإذا خَبُثَ أعلاه خبث أسفلهُ" (¬4). ¬

_ = وعزاه الهيثمي في "المجمع" (2/ 122) لأبي يعلى، وأعله بموسى بن عبيدة. ووقع في (ق): "عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه" وقال: "حتى يخلص رأس ماله". (¬1) في (ق): "ربي أجر". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 353 و 405 و 508)، وابن ماجة في "الزهد" (4172) باب الحكمة، والطيالسي (2563)، وأبو يعلى (6388)، وابن عدي (5/ 1843)، وابن الأعرابي في "معجمه" (3/ 1100 رقم 2368 - ط دار ابن الجوزي)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (291)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 57، 58) والبيهقي في "الشعب" (2593، 2650 - ط الهندية)، وأحمد بن منيع في "مسنده" -كما في "مصباح الزجاجة" (2/ 332) -. والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 128)، وعزاه لأبي يعلى! مع أنه في "سنن ابن ماجة"، وفاته أن يعزوه لأحمد وقال: علي بن زيد مختلف في الاحتجاج به. أما السيوطي فرمز لحسنه في "الجامع الصغير"! فتعقبه المناوي بأن العراقي ضعفه، وذلك في تعليقه على "الإحياء" (2/ 232)، وضعفه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 332)، وشيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1761) لأن فيه ابن جدعان سيء الحفظ، وله مناكير. (¬3) في (ك) و (ق): "حدثنا عبد الرحمن بن زيد، حدثني جابر حدثني أبو هريرة" وفي المطبوع: "أبو هريرة"!! وهو خطأ. (¬4) رواه ابن المبارك في "الزهد" (596)، وأحمد (4/ 94)، وابن ماجة (4035 و 4199)، وابن أبي عاصم في "الزهد" (146)، وابن حبان في "صحيحه" (339 و 392 و 691)، وأبو يعلى (7362)، والطبراني في "الكبير" (19/ 866)، وفي "مسند الشاميين" (606 و 607)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1175)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 59)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 2722)، وأبو عمرو الداني في "الفتن" (رقم 3، 67)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 162) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ثنا أبو عبد ربه قال: سمعت معاوية فذكره، وهو عندهم مطول ومختصر. قال أبو نعيم: "لم يروه عن معاوية إِلا أبو عبد رب". =

وفي "المسند" من حديث عبد اللَّه بن عمرو (¬1) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن رجلًا كان فيمن كان قبلكم اسْتَضَاف قومًا فأضافوه، ولهم كلبة تَنْبح، قال: فقالت الكلبة: واللَّه لا أنبح ضَيف أهلي اللَّيلة، قال: فَعَوَى جِرَاؤُها في بطنها فبلغ ذلك نبيًّا لهم أو قَيْلًا لهم (¬2)، فقال: مثل هذه مثل أمة تكون بعدكم يقهر سفهاؤها حكماءَها، ويغلب سفهاؤُها علماءَها" (¬3). ¬

_ = وأبو عبد ربه هذا يقال له: أبو عبد رب ويقال: أبو عبد رب العزة، كان زاهدًا روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 305 رقم 1422): "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات". وقال في الموضع الثاني: "هذا إسناد فيه مقال، عثمان بن إسماعيل لم أر من جرحه، ولا من وثقه، وباقي رجال الإسناد موثقون"، أقول: وعثمان هذا متابع. وقال الذهبي في "الميزان": (4/ 443): "حديث صالح الإسناد" وأخرجه نعيم بن حماد في "الفتن" (رقم 46) حدثنا محمد بن شابور عن ابن جابر به، مختصرًا. (¬1) في (ق): "عمر". (¬2) في (ك) و (ق): "وأملا لهم"، القيل هو اسم لملوك اليمن، كل ملك منهم يسمى "قيل" كما في "المؤتلف والمختلف" (4/ 1852) للدارقطني. (¬3) أخرجه أحمد في "المسنده" (2/ 170) -ومن طريقه يوسف بن عبد الهادي في "الإغراب في أحكام الكلاب" (ص 155) - والخطيب في "تلخيص المتشابه" (رقم 1093 بتحقيقي)، والرامهرمزي في "الأمثال" (رقم 60) من طريق يحيى بن حماد ثنا أبو عوانة عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو رفعه. ورواية أبي عوانة عن عطاء بعد اختلاطه فلا يحتج بحديثه، قاله ابن معين. وكان عطاء يرفع أشياء بعد اختلاطه لم يكن يرفعها، فلعل هذا منها، واللَّه أعلم. وانظر "الكواكب النيرات" (323، 328). وأخرجه الطبراني في "الأوسط" (6/ رقم 5605)، والنقاش في "فنون العجائب" (رقم 19 - بتحقيقي) من طريق إبراهيم بن إسماعيل التَّرجُماني، عن شعيب بن صفوان عن عطاء به. وقال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن عطاء بن السائب إِلا شعيب بن صفوان وأبو عوانة، ولم يروه عن أبي عوانة إِلا يحيى بن حماد". قلت: إسناده ضعيف جدًا، شعيب بن صفوان ليس بشيء، والترجماني يروي وليس يبالي عمن روى، قال ابن عدي في "الكامل" (4/ 1320) في ترجمة (شعيب): "روى عن عطاء أحاديث، وله غير ما ذكرت من حديث، وليس بالكثير، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه" وعطاء اختلط، ورواية شعيب عنه بعد اختلاطه. وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 183): "فيه شعيب بن صفوان، وثقه اين حبان =

وفي "صحيح البخاري" من حديث النعمان بن بشير أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مثلُ القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قومٍ اسْتَهَموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلَاها، وبعضُهم أسفَلَها، فكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فوقهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنَا في نصيبنا خَرْقًا، ولم (¬1) نُؤْذِ مَنْ فوقنا، فإنْ هم تركوهم، وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإنْ أخَذُوا على أيديهم نَجَوْا ونجوا جميعًا" (¬2). وفي "المعجم الكبير" عنه من حديث سهل بن سعد قال: "إياكم وَمُحَقّرَاتِ الذنوب، فإنَّ مَثَلَ ذلك كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء هذا بعُودٍ وهذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنَّ محقرات الذنوب متى يُؤخذ بها صاحبها تُهْلِكهُ" (¬3). ¬

_ = وضعفه يحيى، وعطاء بن السائب قد اختلط". وعزاه الدّميري في "حياة الحيوان الكبرى" (2/ 308) للبزَّار والطبراني. ووقع في (ق): "ويغلب سفهاؤها علماءها". (¬1) في (ق): "لم". (¬2) هو في "صحيح البخاري" (كتاب الشركة): باب هل يقرع في القسمة، (2493)، وفي (كتاب الشهادات): باب القرعة في المشكلات (2686)، وانظر تخريجه بتوسع في "الحنائيات" (رقم 209) وتعليقي عليه. ووقع في (ق): "فإنهم إن تركوهم". (¬3) رواه الطبراني في "الكبير" (5872)، وفي "الأوسط" (7323)، وفي "الصغير" (904)، ورواه أحمد (5/ 331)، والروياني في "المسند" (2/ 216 رقم 1065)، وابن أبي الدنيا في "التوبة" (3، 43)، والبيهقي في "الشعب" (رقم 7267)، والبغوي في "شرح السنة" (14/ 399). وقال في "المجمع" (10/ 190): "رواه الطبراني في الثلاثة من طريقين، ورجال إحداهما رجال الصحيح غير عبد الوهاب بن عبد الحكم وهو ثقة". وللحديث شواهد، منها: حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد (1/ 402)، وفي "الزهد" (21)، والطبراني في "الكبير" (10500)، وفي "الأوسط" (2529)، والطيالسي (رقم 400)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (رقم 319)، والبيهقي (10/ 187 - 188)، وفي "الشعب" (1/ 269 رقم 285 - ط دار الكتب العلمية و 2/ 83 رقم 281 - ط الهندية). قال الهيثمي (10/ 189): "رجاله رجال الصحيح، غير عمران القطان، وقد وثقه جمع". ومنها: حديث عائشة، ولفظه: "يا عائش! إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من اللَّه طالبًا". أخرجه أحمد (6/ 70، 151)، وفي "الزهد" (31)، والدارمي (2729)، وابن أبي شيبة (13/ 229)، وابن ماجة (4243)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" (12/ 250) - والطبراني في "الأوسط" (رقم 3776)، وابن حبان (5568 - الإحسان ورقم 2497 - موارد)، والقضاعي (955)، وأبو نعيم (3/ 168)، والخطيب في "الموضح" (1/ 304).

وفي "المسند" من حديث أبيّ بن كعب يرفعه: "إن مَطْعَمَ ابن آدم قد ضُرب مثلًا للدنيا، فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزَّحه ومَلَّحَه (¬1) قد علم إلى ما يصير" (¬2). قال (¬3): أبو محمد بن خلاد: ثنا عبد اللَّه بن أحمد بن مَعْدان: ثنا يوسف بن مسلم المِصِّيصي: ثنا حَجَّاج الأعور، عن أبي بكر الهُذَليّ، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إني ضَرَبْتُ للدنيا مثلًا، ولابن آدم عند الموت، مَثَلُه مثلُ رجلٍ له ثلاث (¬4) أخِلَّاء، فلما حَضَرهُ الموتُ قال لأحدهم: إنك كنتَ لي خليلًا، وكنت أبرّ الثّلاثة عندي، وقد نزل بي من أمر اللَّه ما ترى، فماذا عندك؟ قال: يقول: وماذا عندي؟ وهذا أمرُ اللَّه قد غَلَبني، ولا أستطيع أن ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "قد علم مرحه وملحه إلى ما يصيرا، وفي المطبوع: "وإن فرخه وملحه"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه هكذا في نسخة. و"قزّحه": بتشديد الزاي- أي توبله، من القِزْح، وهو التابل الذي يطرح في القدر، كالكمون والكزبرة ونحو ذلك. والمعنى أن المطعم كان تكلف الإنسان التنمق في صنعته وتطببه فإنه عائد إلى حال تكره، فكذا الدنيا المحروص على عمارتها ونظم أسبابها راجعة إلى خراب وإدبار. انظر "مجمع بحار الأنوار" (4/ 266) و"النهاية" (3/ 251). (¬2) رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائد المسند" (5/ 136)، وابن أبي عاصم في "الزهد" (205)، وابن حبان (702)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (269)، والطبراني في "الكبير" (531)، وابن صاعد في "زوائد الزهد" (رقم 495)، والمروزي في "زوائده" عليه -أيضًا- (493 و 494)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 389)، والشاشي في "مسنده" (3/ رقم 1501، 1502)، وابن أبي الدنيا في "الجوع" (رقم 165)، وابن جميع في "معجمه" (ص 198 - 199)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 254)، وفي "معرفة الصحابة" (2/ 173)، والبيهقي في "الشعب" (رقم 10473)، و"الزهد الكبير" (414)، وفي "الآداب" (702)، والضياء في "المختارة" (4/ رقم 1245، 1246)، والذهبي في "السير" (15/ 439 - 440) من طريق يونس بن عبيد عن الحسن عن عُتي -وتحرف في "السير" إلى أبي السفر، فليصحح- عن أبي بن كعب، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 288): و"رجاله رجال الصحيح غير عتي وهو ثقة". وقال المنذري في "الترغيب" (3/ 143 و 4/ 174): "رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائده" بإسناد جيد قوي". ورواه أبو داود الطيالسي في "المسند" (548)، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 254) عن أبي الأشهب عن الحسن - (وسقط الحسن من مطبوع "المسند")! - عن أبيّ موقونًا وهذا لا يضر، فالذي رفعه قد جوّده كما قال أبو نعيم. وزاد الحسن قوله عقبه: "أما رأيتم يلطخونه بالطيب والأفواه ثم يرمونه كما رأيتم". (¬3) في (ق): "وقال". (¬4) في (ق): "ثلاثة".

أنفِّس كُرْبَتك، ولا أفرّج غمَّك، ولا أؤخَّر ساعتك، ولكن ها أنذا بين يديك (¬1)، فخذني زادًا تذهب به (¬2) معك، فإنّه ينفعك، قال: ثم دعا الثاني، فقال: إنكَ كنتَ لي خليلًا، وكنت أبرّ الثلاثة عندي، وقد نزل بي من أمر اللَّه ما ترى، فماذا عندك؟ قال: يقول: وماذا عندي؟ وهذا أمر اللَّه [قد] (¬3) غلبني، ولا أستطيع أن أُنفِّس كربتك، ولا أفرج غمك، ولا أؤخر ساعتك (¬4) ولكن سأقوم [عليك] (¬5) في مرضك، فإذا مُتَّ أنْقَيْتُ غسلَك، وجَدَّدْتُ كسوتك، وسَتَرْتُ جَسَدك وعورتك، قال: ثم دعا الثالث فقال: قد نزل بي من أمر اللَّه ما ترى وكُنتَ أهْوَنَ الثلاثة عليّ، وكنتُ لك مُضَيعًا، وفيك زاهدًا، فما عندك؟ قال: عندي أني قرينكَ وحليفُكَ (¬6) في الدنيا والآخرة، أدخل معك قبرك حين تدخله، وأخرج منه حين تخرج منه، ولا أفارقك أبدًا، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا ماله وأهله وعمله، أما الأول الذي قال: خذني زادًا، فمالُه، والثاني: أهلُه، والثالث: عمله" (¬7). وقد رواه -أيضًا- بسياق آخرَ من حديث أبيّ -أيضًا-، ولفظه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال يومًا لأصحابه: "أتدرون ما مَثَلُ أحدكم ومثل مالِه وأهلِه وعمله؟ قالوا: اللَّه ورسوله أَعْلَم، فقال: إنَّما مثلُ أحدكم ومثلُ أهله وماله وعمله، كمثل رجل له ثلاثة إِخْوَة، فلما حضرته الوفاةُ دعا بعضَ إخوته، فقال: إنه قد نزل بي من الأمر ما ترى، فمالي عندك؟ وما لديك؟ فقال: لك عندي أن أُمرِّضَك ولا أُزايلك، وأنْ أَقومَ بشأنك، فإذا مُتَّ غسَّلتُك وكَفَّنْتُكَ وحَمَلْتُكَ مع الحاملين، أحملك طورًا (¬8) وأميطُ عنك طورًا (8)، فإذا رجعتُ أثنيتُ عليك (¬9) بخيرٍ عند من يسألني عنك، هذا [أخوه] (¬10) الذي هو أهله، فما ترونه؟ قالوا: لا نسمع ¬

_ (¬1) في (ق): "سعيك ولكن ها أنا بين يديك". (¬2) في (ق): "بي". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬4) في (ق) و (ك): "ولا أؤخر سعيك". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق) و (ك): "وخليفتك" وقال في هامش (ق): "لعله: وخليلك". (¬7) أخرجه الرامهرمزي في "الأمثال" (ص 171) (رقم 74)، وفيه أبو بكر الهذلي، قال ابن معين، وابن المديني: "ليس بشيء"، وقال الدارقطني: "منكر الحديث متروك". والأصح من هذا، ما أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 356)، وأبو داود في "الزهد" (رقم 391) عن النعمان بن بشير قوله، وإسناده حسن. (¬8) في (ق): "طوري". (¬9) في (ق): "عنك". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

طائلًا يا رسول اللَّه، ثم يقول [للأخ الآخر] (¬1): أترى ما قد نزل بي؟ فما لي لديك؟ وما لي عندك؟ فيقول: ليس عندي [غناء] (¬2) إِلا وأنتَ في الأحياء، فإذا مُتَّ ذُهِبَ بك مذهبٌ، وذُهِبَ بي مذهب، هذا أخوه الذي هو ماله، كيف ترونه؟ قالوا: لا (¬3) نسمع طائلًا يا رسول اللَّه، ثم يقول لأخيه الآخر: أترى ما قد نزل بي، وما ردَّ عليَّ أهلي ومالي؟ فمالي عندك؟ وما [لي] (¬4) لديك؟ فيقول: أنا صاحبُكَ في لَحْدك، وأنيسُكَ في وَحْشَتِكَ، وأقعدُ يوم الوزن في ميزانك [فأثقِّل ميزانك] (4)، هذا أخوه الذي هو عَمَلُه، فكيف ترونه؟ قالوا: خيرُ أخٍ، وخيرُ صاحبٍ يا رسولَ اللَّه، قال: فإنَّ الأمر هكذا" (¬5). وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَثَلُ الجليس الصالح مثلُ صاحب المسك (¬6)، إما أن يُحْذِيْكَ، وإما أن يَبيعك، وإما أن تَجِدَ (¬7) منه ريحًا طيبة، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكِير، إنْ لم يُصبك مِنْ شَرَره أصابكَ من ريحه" (¬8). وفي "الصحيح" عنه (¬9) أنه قال: "مَثَلُ الْمُنْفِقِ والبخيل، مثل رجلين عليهما جُبَّتَان -أو جُنَّتان (¬10) - من حديد من لَدُن ثديهما إلى تَرَاقيهما، فإذا أراد الْمُنْفِقُ أن ينفقَ سبغت عليه حتى يجر (¬11) بنانه ويعفو أثره، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت، ولَزمتْ كلُّ حلقة موضعها فهو يوسعها فلا تتسع" (¬12). ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "للآخر". (¬2) في (ق) و (ك): "حيا". (¬3) في (ق): "ما". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) هذا السياق رواه الرامهرمزي من حديث عائشة (ص 173) رقم (76) وليس من حديث أُبيّ، كما قال المصنف، وسبب هذا الوهم: أن المصنف أورد حديث أبيّ، ثم سند عائشة لهذا الحديث. ثم طريقًا آخر لحديثها، فيه: ". . . عمرو بن عثمان ثنا أبي" فلم ينتبه المصنف لطريق عائشة الذي يلتقي مع هذا في والد عمرو، وهو عثمان بن كثير الحمصي، فظن أن قول عمروة ثنا أبي، إنما هو (أُبيّ) وقد يكون سقط من نسخته طريق حديث عائشة الأول، فتأمَّل وفيه عبد اللَّه بن عبد العزيز الليثي، ذكره العقيلي في "ضعفائه" (2/ 277) وذكر حديثه هذا، وقال "ليس لما روى أصل". (¬6) في (ق) و (ك): "مثل حامل المسك". (¬7) في (ق): "تأخذ". (¬8) رواه البخاري (2101) في (البيوع): باب في العطار وبيع المسك، و (5534) في (الذبائح): باب المسك، ومسلم (2628) في (البر والصلة): باب استحباب مجالسة الصالحين من حديث أبي موسى الأشعري. ووقع في (ق): "أصابك من رائحه شرره". (¬9) في (ق): "عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬10) في (ق): "جنتان أو جبتان". (¬11) في (ق): "حتى يحفر" وفي (ك): "يخفي". (¬12) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الزكاة): باب مثل المنفق والبخيل (1443)، =

فصل [فائدة ضرب الأمثال]

وقال: "مثل الذين يَغْزُونَ من أُمَّتي وَيَتَعَجَّلُونَ أجورَهم، كمثل أم موسى تُرَضعُ وَلَدَهَا وتأخُذ أجْرَها" (¬1). فصل [فائدة ضرب الأمثال] قالوا: فهذه وأمثالها من الأمثال التي ضرَبها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لتقريب المراد، وتفهيم (¬2) المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره (¬3) في نفسه صورة (¬4) المثال الذي مَثَّل به، فإنه [قد] (¬5) يكون أقربَ إلى تَعقُّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره؛ فإنَّ النفسَ تأنس بالنظائر والأشباه الأُنسَ التام، وتنفِرُ من الغُرْبة والوَحْدَة وعدم النظير؛ ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمرٌ لا يجحده أحد، ولا ينكره (¬6)، وكلما ظهرتْ لها الأمثال ازْدَادَ المعنى ظهورًا، ووضوحًا، فالأمثالُ شواهدُ المعنى المراد، ومزكية له، فهي: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]، وهي خاصة العقل ولبّه وثمرته. [فرق بين الأمثال المضروبة من اللَّه ورسوله وبين القياس] ولكن أين [في] (¬7) الأمثال التي ضربها اللَّه ورسوله على هذا الوجه، فهمنا ¬

_ = ومسلم في "الصحيح" (كتاب الزكاة): باب مثل المنفق والبخيل (1021)، من حديث أبي هريرة. وانظر: "جزء سعدان" (رقم (143). ووقع في (ك): "وفي الصحيحين". (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2361)، وابن أبي شيبة (5/ 347)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 382)، وأبو داود في "المراسيل" (333)، ومن طريقه البيهقي في "سننه" (9/ 27) من طريق إسماعيل بن عياش عن معدان بن حُدير الحضرمي عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- به، وهذا مرسل، ومعدان بن حُدير لم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلًا. (¬2) في (ق): "وتعميم". وقال في الهامش: "لعله: وتفهيم". (¬3) في (ق) و (ك): "واحتضاره". (¬4) في (د): "بصورة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "أمر لا نجحده ولا ننكره"، وسقطت "أحد" من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

أنَّ الصِّداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة قياسًا [وتمثيلًا] (1) على [أقل] (¬1) ما يقطع فيه السارق؟ هذا بالألغاز والأحاجيِّ أشبهُ منه بالأمثال المضروبة للفهم، كما قال إمامُ الحديثِ محمدُ بنُ إسماعيل البخاريُّ في "جامعه الصحيح": (باب مَنْ شبَّه أصلًا معلومًا بأصلٍ مبيَّن، قد بيَّن اللَّه حكمهما ليفهمَ السامع) (¬2)، فنحن لا ننكر هذه الأمثالَ التي ضَرَبها اللَّه ورسوله، ولا نجهل ما أريد بها، وإنما ننكر (¬3) أن يُسْتَفَادَ وجوب (¬4) الدم على مَنْ قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربع من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وأنَّ الآيةَ تدلُّ على ذلك؛ وأن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- صدقة الفطر: "صاع من تمر، أو صاع من بُرٍّ، أو صاع من شعير، أو صاع من أقِطٍ، أو صاع من زبيب" (¬5) يفهم منه أنه لو أعطى صاعًا من إهليلج (¬6) جاز، وأنه يدلُّ على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار؛ وأن قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬7): "الوَلدُ لِلْفِرَاشِ" (¬8) يُستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال له الوليُّ بحضرة الحاكم: زوجتُك ابنتي -وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب- فقال: قبلتُ هذا التَّزويجَ وهي طالق ثلاثًا، فأتت (¬9) بعد ذلك بولدٍ لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه، وقد صارت فراشًا بمجرد قوله: "قبلتُ هذا التزويج" (¬10)، ومع هذا لو ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) هذا الباب في (كتاب الاعتصام): باب (رقم 12) ترجمة حديث رقم (7314) وصوابه: وقد بين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حكمها. (¬3) في (ق): "نشك"، وقال في الهامش: "لعلّه: ننكر". (¬4) في (ن) و (ك) زيادة: "تحريم". وضرب عليها في (ق)، وهو الصواب. (¬5) رواه البخاري (1506) في (الزكاة): باب صدقة الفطر صاعًا من طعام، و (1505) باب صاع من شعير، و (1508) باب صاع من زبيب، ومسلم (985) في (الزكاة): باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬6) "شجر ينبت في الهند وكابل والصين، ثمره على هيئة حب الصنوبر الكبار" (و). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) رواه البخاري (6750) في (الفرائض): باب الولد للفراش، و (6818) في (الحدود): باب للعاهر الحجر، ومسلم (1458) في "الرضاع": باب الولد للفراش، من حديث أبي هريرة. (¬9) في المطبوع: "ثم جاءت". (¬10) مسألة زواج مشرقي بمغربية، ولم يلتقيا، ومجيئها بولد لمن هو؟ انظرها في "زاد المعاد" (4/ 115)، و"الطرق الحكمية" (253).

كانت له سُرِّيَّةٌ يطأها ليلًا ونهارًا لم تكن فراشًا [له] (¬1)، ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إِلا أن يَدَّعيه ويَسْتَلْحقه، [فإن لم يستلحقه فليس بولده] (¬2). وأين يفهم من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن في قَتْل الخطأ شِبْهِ العَمْد ما كان بالسَّوْطِ والعَصا مئةً من الإبل" (¬3)، أنه لو ضَرَبَهُ بحَجَر المنجنيق أو بكُور الحدَّاد (¬4) أو بِمَرَازب الحديد العظام، حتى خَلَطَ دماغَهُ [بلَحْمه] (¬5) وعَظْمه أن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودًا. وأين يُفهم من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أدرؤُا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإنْ يكن له مخرج فخلُّوا سَبيله، فإنَّ الإمام أن يُخْطِئَ في العفو خيرٌ له من أن يخطئ في العقوبة" (¬6) أن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "فليس بولده". (¬3) ورد عن حديث عبد اللَّه بن عمرو، وابن عمر، وابن عباس. أما حديث عبد اللَّه بن عمرو، فرواه أبو داود (4547) و (4548) في (الديات): باب في الخطأ شبه العمد، والنسائي (8/ 41) في (القسامة): باب كم دية شبه العمد، وابن ماجة (2627) في الديات: باب دية شبه العمد مغلظة، والدارقطني (3/ 104 - 105)، وابن حبان (6011)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 773)، والبيهقي (8/ 45) و"المعرفة" (6/ 195 رقم 4872) من طريق خالد بن مهران عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد اللَّه بن عمرو. وعقبة بن أوس وثقه ابن سعد والعجلي وابن حبان، وباقي رجاله ثقات. ورواه النسائي عن خالد الحذاء عن القاسم عن عقبة عن رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورواه أيضًا عن خالد عن القاسم عن عقبة مرسلًا. ورواه أحمد (2/ 164 و 166)، والدارمي (2383)، والنسائي (8/ 40)، وابن ماجة (2627)، والدارقطني (3/ 104)، والبيهقي (8/ 44) من طريق شعبة عن أَيوب السختياني عن القاسم بن ربيعة عن عبد اللَّه بن عمرو، ولم يذكر فيه عقبة بن أوس. قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 409 - 410 رقم 2576): "هو حديث صحيح من رواية عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، ولا يضره الاختلاف الذي وقع فيه، وعقبة بن أوس بصري تابعي ثقة". وانظر باقي طرق الحديث في: "نصب الراية" (4/ 331)، و"الدارية" (2/ 261)، و"التلخيص الحبير" (4/ 15)، و"سنن الدارقطني" (رقم 3129، 3130) وتعليقي عليه، و"الإشراف" اللقاضي عبد الوهاب المالكي (4/ 107 - 108) وتعليقي عليه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "وأو بكورين الحداد". (¬6) أخرجه الترمذي في "سننه" (كتاب الحدود): باب ما جاء في درء الحدود (1424)، والدارقطني في "سننه" (3/ 84)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 384)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 238 و 9/ 123)، والخطيب (5/ 331) من طريق يزيد بن زياد عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعًا به، وقال الترمذي: "لا نعرفه مرفوعًا إِلَّا من حديث =

مَنْ عَقَد على أُمِّه أو ابنته [أو أخته] (¬1)، ووطأها فلا حَدَّ عليه، وأنَّ هذا مفهومٌ من قوله: "ادْرَؤُوا الحدودَ بالشُّبهات" (¬2) فهذا في معنى الشبهة التي تُدْرَأ بها الحدود، ¬

_ = يزيد بن زياد الدمشقي، ورواه وكيع عن يزيد بن زياد نحوه، ولم يرفعه، ورواية وكيع أصح". أما الحاكم فقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، فتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: قال النسائي: يزيد بن زياد شامي متروك". ورواية وكيع الموقوفة التي ذكرها الترمذي أخرجها هو بعد، والبيهقي (8/ 238)، وفيه يزيد أيضًا. ثم قال البيهقي: "ورواه رشدين بن سعد عن عقيل عن الزهري مرفوعًا ورشدين ضعيف". وروى البيهقي في "سننه" (8/ 238) نحوه من قول ابن مسعود، وقال: "منقطع وموقوف". وانظر الحديث بعده. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) عزاه الحافظ في "التلخيص" (4/ 56) بهذا اللفظ لمسند أبي حنيفة رواية الحارثي من طريق مقسم عن ابن عباس. وفي الباب عن علي مرفوعًا: "ادرؤوا الحدود" رواه الدارقطني (3/ 84)، والبيهقي (8/ 238) من طريق مختار التَّمَّار عن أبي مطر عنه، ومختار هذا هو ابن نافع التمار، قال البخاري: منكر الحديث. وأبو مطر قال أبو حاتم: مجهول لا يُعرف، وتركه حفص بن غياث. وقال البيهقي: "في هذا الإسناد ضعف". وقد رواه مختار هذا عن ابن حِبَّان التيمي عن أبيه عن علي مرفوعًا: "ادرؤوا الحدود ولا ينبغي للإمام أن يعطل الحدود". أخرجه البيهقي (8/ 238)، وهذا من اضطرابه، وفي الباب عن أبي هريرة. رواه أبو يعلى (6618) من طريق وكيع عن إبراهيم بن الفضل المخزومي عن سعيد المقبري عنه مرفوعًا: "ادرؤوا الحدود ما استطعتم". ورواه ابن ماجة (2545) من نفس الطريق ولفظه: "ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعًا". ذكره البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 70)، وقال: "وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي ضعفه أحمد وابن معين والبخاري والنسائي والأزدي والدارقطني". وقد ورد موقوفًا على ابن مسعود ومعاذ وعقبة بن عامر، رواه الدارقطني (3/ 84)، والبيهقي (8/ 238)، وقال: "منقطع". قلت: وفيه إسحاق بن أبي فروة وهو متروك. ثم رواه البيهقي (8/ 238) من طريق وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود موقوفًا، وقال: هذا موصول. أقول: وسنده حسن.

وهي الشبهة في المحلِّ، أو في الفاعل، أو في الاعتقاد، ولو عرض هذا على فَهْم مَنْ فُرض من العالمين، لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه، وأنَّ مَنْ يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حدَّ عليه مع علمه بأنَّها خالتُه أو عمتُه، وتحريم (¬1) اللَّه لذلك، ويفهم هذا مِنْ: "ادرؤوا الحدود بالشُّبهات" (¬2) وأَضْعاف [أضعاف] (¬3) هذا مما لا يكاد ينحصر. فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره، وننكرُ أن يكونَ في كلام اللَّه ورسوله دلالةٌ على فهمه بوجهٍ ما. قالوا (¬4): ومن أين يُفهم من قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66 والمؤمنون: 21]، ومن قوله: {فَاعْتبِرُواْ} [الحشر: 2] تحريم بيع الكشك باللبن، وبيع الخل بالعنب، ونحو ذلك؟ قالوا: وقد قال اللَّه تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، ولم يقل: "إلى قياساتكم وآرائكم" ولم يجعل اللَّه آراءَ الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدًا. وقالوا (¬5): وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فإنّما منعهم من الْخِيَرَةِ عند حكمه وحكم رسوله، [لا] (¬6) عند آراء الرِّجال وأقيستهم وظنونهم، وقد أمر اللَّه -سبحانه- رسولَه باتِّباع ما أوحاه إليه خاصة، وقال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50، يونس: 15]، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وقال [تعالى] (¬7): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، قالوا: فدل هذا النصُّ على أنَّ ما لم يأذن به اللَّه من الدين فهو شَرْعُ غيرِهِ الباطلُ. قالوا: وقد أخبر النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ربه تبارك وتعالى أنَّ كل ما سَكَتَ عن إيجابه أو تحريمه فهو عَفْوُ عَفَا عنه لعباده (¬8)، يباح إباحة العفو؛ فلا يجوزُ تحريمه ولا ¬

_ (¬1) في (ن): "بتحريم". (¬2) مضى تخريجه قريبًا. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) "يعني المنكرين للقياس" (و). (¬5) في (ق): "قالوا". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ق) وحدها. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) أخرج الدارقطني (2/ 137)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 375)، والبزار في "مسنده" (رقم 123، 2231، 2855 - زوائده)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 12)، وابن أبي =

إيجابُه قياسًا على ما أَوْجبه أو حرَّمه بجامع بينهما؛ فإنَّ ذلك يستلزم رَفْعَ هذا القسم بالكليَّة وإلغاءه؛ إذ المسكوتُ عنه لا بدَّ أن يكون بينه وبين المُحرَّم شَبَهٌ ووصفٌ جامع (¬1)، أو بينه وبين الواجب، فلو جاز إلحاقُهُ به لم يكن هناك قِسْمٌ قد عُفي عنه، ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه، بل يكون ما سكت عنه قد حَرَّمَه قياسًا على ما حرمه، وهذا لا سبيلَ إلى دفعه، وحينيذٍ فيكون (¬2) تحريم ما سكت عنه تبديلًا لحكمه، وقد ذَمَّ تعالى مَنْ بَدَّل غير القول الذي أُمر به؛ فمن بدَّل غيرَ الحكم الذي شَرَع له فهو أولى بالذم، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ مِن أعظم المسلمين [في المسلمين] جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرَّمْ فحُرِّم على الناس من أجل مسألته" (¬3)، فإذا كان (¬4) فيمن تسبَّب إلى تحريم الشارع صريحًا بمسألته عن حُكم ما سَكتَ عنه، فكيف بمن حَرَّم المسكوتَ عنه بقياسه وبرأيه؟ يوضِّحه أنَّ المسكوتَ عنه لما كان عَفْوًا عفا اللَّه لعباده عنه، وكان البحثُ عنه سببًا لتحريم اللَّه إيّاه لما فيه من مُقْتَضى التحريم، لا لمجرد السؤال عن ¬

_ = حاتم وابن المنذر وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" (5/ 531) - عن أبي الدرداء مرفوعًا: "ما أحل اللَّه في كتابه؛ فهو حلال، وما حرم؛ فهو حرام، وما سكت عنه؛ فهو عفو، فاقبلوا من اللَّه عافيته؛ فإن اللَّه لم يكن لينسى شيئا". بإسناده حسن، ورجاله موثقون؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 171)، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وقال البزار: "إسناده صالح" ونقله عنه ابن رجب في "شرح الأربعين" (ص 200) وأقره، وحَسَّن إسناده شيخنا الألباني في "غاية المرام" (رقم 2). وفي الباب عن سلمان وعائشة وابن عمر ومرسل الحسن وعن ابن عباس موقوفًا انظر تخريجها في تعليقي على "تحقيق البرهان" (ص 136 - 137/ ط الثانية) للشيخ مرعي، والتعليق على "سنن سعيد بن منصور" (2/ 320 - 330) للشيخ سعد آل حميد. (¬1) في (ق) و (ك): "شبهًا ووصفًا جامعًا"! (¬2) في (ق): "يكون". (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب ما يكره من كثرة السؤال ومن تكلف ما لا يعنيه، (13/ 264/ رقم 7289)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الفضائل): باب توقيره -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، (4/ 1831/ رقم 2358) من حديث سعد ابن أبي وقاص -رضي الله عنه-. قال بعض أهل العلم: الحكمة من مثل هذا الإنذار تأكيد النهي عن إلقاء الأسئلة في وقت غير لائق من غير أن تدعو إليها الحاجة، وتحريم الشيء عقوبة وتأديبًا وقع في بعض الشرائع الماضية، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، ولكن لم يقع في الشريعة الإسلامية بحال. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "فإذا كان هذا فيمن".

حكمه، وكان اللَّه قد عفا عن ذلك وسامَحَ به عباده، كما يعفو عما فيه مَفْسَدة من أعمالهم وأقوالهم؛ فمن المعلوم أنَّ سكوته عن ذكر لَفْظٍ عام (¬1) يحرِّمه يدلُّ على أنه عَفْو عنه (¬2)، فمن حَرَّمه بسؤاله عن علَّة التحريم، وقياسِهِ على المحرَّم بالنص كان أدْخَلَ في الذَّمِّ ممّن سأله عن حكمه لحاجته إليه؛ فحُرَّم من أجل مسألته، بل كان الواجبُ عليه أن لا يبحثَ عنه، ولا يسأل عن حُكمه، اكتفاءً بسكوتِ اللَّه عن [عَفْوه] (¬3) عنه؛ فهكذا الواجبُ [عليه] (3) أن لا يُحرِّم المسكوت عنه بغير النَّص الذي حرَّم اللَّه أصْلَه الذي يُلْحَق به. قالوا: وقد دلَّ على هذا كتاب اللَّه حيث يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101، 102]، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "ذَرُونِي ما تركتُكُم، فإنما هَلَكَ الذين مِنْ قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجْتَنِبُوهُ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬4)، فأمرهم أن يتركوا من السؤال ما تركهم، ولا فَرْقَ في هذا في حياته (¬5)، و [بعد] (¬6) مماته، فنحن مأمورون أن نتركه -صلى الله عليه وسلم-، وما نصَّ عليه، فلا نقول [له] (3): لِمَ حرَّمت كذا؟ لِنُلحق به ما سكت عنه، بل هذا أبْلَغُ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكمْ فيه، فتأمَّلْه فإنه واضحٌ. [ويدل عليه قوله في نفس الحديث: "وإذا نهيتكم عن شيء فاجْتَنبُوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم"] (¬7)، فجعل الأمور ثلاثةً، لا رابع لها: مأمور به، فالفَرْض عليهم فِعْلُه بحسب الاستطاعة، ومنهيٌّ عنه، فالفرض عليهم اجتنابُه بالكليَّة، ومسكوت عنه؛ فلا يُتَعَرَّضُ (¬8) للسُّؤَالِ والتفتيش عنه. وهذا حكم لا يختصُّ بحياته فقط، ولا يخصُّ الصَّحابةَ دون مَنْ بعدهم، بل ¬

_ (¬1) في (ق): "أن سكوته عن ذلك بلفظ عام". (¬2) في (ق): "عفو عنده". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) سبق تخريجه، وفي (ق): "فإنما هلك من كان قبلكم. . .، وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا". (¬5) في المطبوع و (ن): "في هذا بين حياته". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "ما نهيتكم عنه؛ فاجتنبوه. . . " الحديث. (¬8) في (ق): "فلا نتعرض".

فَرَضَ علينا نحن امتثالَ أمره بحسب الاستطاعة، واجتنابَ نهيه، وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه، وليس ذلك التركُ جهلًا وتجهيلًا لحكمه، بل إثبات لحكم (¬1) العفو، وهو الإباحة العامة ورفع الحرج عن فاعله، فقد استوعَبَ الحديثُ أقسامَ الدِّينِ كُلِّها، فإنها إما واجب، وإما حرام، وإما مباح؛ والمكروه والمستحب فرعان: على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح؛ وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 - 19]، فوَكَّل بيانَه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين (¬2)؛ و [قد] (¬3) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فقسم الحكم إلى قسمين: قِسمٌ أذنَ فيه [وهو الحق] (¬4) وقسم افْتُرِيَ عليه [فيه] (¬5)، وهو ما لم يأذنْ فيه، فأين أَذِن لنا أن نقيسَ البلَّوط على التمر في جريان الربا فيه؟ وأَنْ نقيسَ القزدير (¬6) على الذهب والفضة، والخردلَ على البُرِّ؟ فإن كان اللَّه ورسوله وَصَّانا بهذا فَسَمْعًا وطاعة للَّه ورسوله، وإلا فإنا قائلون [لمنازعينا] (4): {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا}؟ [الأنعام: 144] فما لم تأتِنَا به وصيةٌ من عند اللَّه على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو عينُ الباطل، وقد أمرنا اللَّه بردِّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فلم (¬7) يُبحْ لنا قطُّ أن نَرُدَّ ذلك إلى رأي، ولا قياس، ولا تقليد إمام، ولا منام، ولا كُشوف، ولا إلهام، ولا حديث قلب، ولا استحسان، ولا معقول، ولا شريعة الديوان، ولا سياسة الملوك، ولا عوائد الناس التي ليس (¬8) على شرائع المرسلين (¬9) أضرَّ منها، فكل هذه طواغيت مَنْ تحاكم إليها أو دَعَا (¬10) منازعَه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت. و (¬11) قال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، قالوا: ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبيِّن له أنَّها نصٌّ على إبطال القياس ¬

_ (¬1) في (ق): "بل إثبات الحكم". (¬2) في (ق) و (ك): "القياس والآراء". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬6) في (ن) و (ق) و (ك): "القديد" ولها وجه، وهو المعدن المعروف. (¬7) في (ق): "ولم". (¬8) في (ك) و (ق): "ليست". (¬9) في المطبوع: و (ق) "المسلمين"!! (¬10) في (ق) و (ك): "ودعا". (¬11) زاد هنا في (ك) و (ق): "قد".

وتحريمه؛ لأنَّ القياس كله ضربُ الأمثال للدّين، وتمثيل ما لا نصَّ فيه [بما فيه نَصٌّ] (¬1)، ومَنْ مَثَّل ما لم ينص اللَّه على تحريمه أو إيجابه بما حَرَّمه أو أَوجبه فقد ضرب للَّه الأمثال، ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نصَّ عليه لأعلَمنا به، ولَمَا أغْفَله [سبحانه] (¬2)، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ولبيِّن لنا ما نتقي، كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول [سبحانه] (2): {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]، ولَمَا وكَله إلى آرائنا (¬3) ومقاييسنا التي ينقضُ بعضُها بعضًا، فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره، فيجيء مُنَازِعُه فيقيس ضد قياسِه من كلِّ وجهٍ، ويُبدي من الوصف الجامع مثلَ ما أبداه منازعُوه أو أظهرَ منه، ومحالٌ أن يكون القياسانِ معًا من عند اللَّه، وليس أحدهما أولى من الآخر، [فليسا من عنده] (¬4)، وهذا وحده كافٍ في إبطال القياس. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فكل ما بيَّنه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعن ربه [سبحانه] (2)، بيَّنه بأمره وإذنه، وقد عَلِمنا يقينًا وقوعَ كل اسم في اللغة على مُسمَّاه فيها، وأن اسم البُرِّ لا يتناول [الخردل، وأسم التمر لا يتناول البلوط، واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير] (¬5)، وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المَهْر، وأن تحريم أكلِ الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند اللَّه حيًا وميتًا إذا مات صار نجسًا خبيثًا، وأن هذا [عن] (2) البيان -الذي وَلَّاه اللَّه رسولَه وبعثه به- أبعد شيء وأشده منافاة له، فليس هو مما بُعث به الرسول قطعًا، فليس إِذًا من الدين. وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بَعثَ اللَّه من نبيٍّ إِلَّا كان حقًا عليه أن يَدُلَّ أمته على خير ما يَعْلمُه لهم، وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم" (¬6)، ولو كان الرأيُ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق): "رأينا". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "فليسئلن عنه". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "القديد". (¬6) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الإمارة): باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول (1844)، من حديث عبد اللَّه بن عمرو.

والقياس خيرًا لهم لدلَّهم [عليه] (¬1)، وأرشدهم إليه، ولقال لهم: إذا أوجَبْتُ عليكم شيئًا أو حرَّمتُهُ فقيسوا عليه ما كان بينه وبينه وَصْفٌ جامع أو ما أشبهه، أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه، ولما حذّرهم من ذلك أشَدَّ الحَذَر كما ستقف عليه إن شاء اللَّه، وقد أحكم اللسانُ كلَّ اسمٍ على مُسمَّاه لا على غيره، وإنما بعث اللَّه [سبحانه] (2) محمدًا [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) بالعربيّة التي يفهمُها (¬3) العربُ من لسانها، فإذا نصَّ سبحانه في كتابه، أو نصَّ رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬4) على اسم من الأسماء، وعلَّق عليه حُكمًا من الأحكام، وَجَبَ ألا يُوقعَ ذلك الحكم إِلا على ما اقتضاه ذلك الاسمُ، ولا يُتعدَّى به الوضع الذي وضعه اللَّه [ورسوله] (2) فيه، ولا يُخرج عن ذلك الحكم شيءٌ مما يقتضيه الاسم؛ فالزيادةُ على ذلك زيادةٌ في الدين، [والنَّقصُ منه نقصٌ في الدين] (2)؛ فالأول القياس، والثّاني التخصيص الباطل، وكلاهما ليس من الدِّين، ومن لم يَقفْ مع النصوص، فإنه تارةً يزيد في النص ما ليس منه، ويقول: هذا قياس، ومرةً ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه، يقول (¬5): هذا تخصيص، ومرةً يترك النَّصَّ جملةً، ويقول: ليس العمل عليه، أو يقول: هذا خلاف [القياس، أو خلاف] (2) الأصول. قالوا: ولو كان القياس من الدِّين لكان أهلُه أتْبَعَ الناسِ للأحاديث، وكان كلما توغل فيه الرجُلُ (¬6) كان أشدَّ اتِّباعًا للأحاديث والآثار. قالوا: ونحن نرى أنَّ كلَّما اشتدَّ توغّلُ الرجل فيه اشتدَّتْ مخالفته للسُّنن، ولا نَرَى مخالفة (¬7) السنن والآثار إِلا عند أصحاب الرأي والقياس، فلله كم من سنةٍ صحيحةٍ صريحةٍ قد عُطِّلت [به] (¬8)؟ وكم من أثرِ دَرَسَ حُكمه بسببه؟ فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين (¬9) خاويةٌ على عُروشها، مُعطَّلة أحكامُها، معزولة عن سلطانها وولايتها (¬10)، لها الاسمُ ولغيرها الحكم، لها السِّكَةُ والخطبة، ولغيرها الأمرُ والنهي، وإلّا فلماذا تُرِك حديثُ العَرَايا (¬11)، وحديثُ قسم الابتداء [وأن] (8) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق): "تفهمها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) في (ق): "ويقول". (¬6) في (د) زيادة لفظة: "فيه" بعد قوله: "كلما توغل فيه الرجل". (¬7) في المطبوع و (ق) و (ك): "خلاف". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ق) و (ك): "الآرائيين والقياسة". (¬10) في (ن): "عن سلطان ولايتها". (¬11) سبق تخريجه.

للزوجة حق العقد سبع ليال إنْ كانت بكرًا، وثلاثًا إنْ كانت ثيِّبًا ثم يُقْسم بالسويَّة (¬1)، وحديث تغريب الزاني غير المحصَنِ (¬2)، وحديث الاشتراط في الحج، وجواز التحلل بالشرط (¬3)، وحديث الْمَسْح على الجوربين (¬4)، وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أنَّ كلام الناسي والجاهل لا يبطل الصلاة (¬5)، وحديث دَفْع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5213) في (النكاح): باب إذا تزوج البكر على الثيب، و (5214) باب إذا تزوج الثيب على البكر، ومسلم (1461) في (الرضاع): باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، من حديث أنس. وقد اختلف في رفعه ووقفه، وانظر شرح ابن حجر هناك. ووقع في (ق): "أو ثلاثًا إن كانت ثيبًا". (¬2) أخرجه أحمد (5/ 313)، ومسلم (1690 بعد 12) في (الحدود): باب حد الزاني، وأبو داود (4416) في (الحدود): باب في الرجم، والترمذي (1434) في (الحدود): باب ما جاء في الرجم على الثيب، من حديث عبادة بن الصامت. (¬3) أخرجه البخاري (5089) في (النكاح): باب الأكفاء في الدين، ومسلم (1207) في (الحج): باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعرض المرض ونحوه، من حديث عائشة. ورواه مسلم (1208) في (الحج): باب اشتراط المحرم التحلل بعرض المرض ونحوه، من حديث ابن عباس. (¬4) ورد عن جماعة من الصحابة، ومن أمثلها: حديث المغيرة بن شعبة: رواه أحمد (4/ 252)، وأبو داود (159) في (الطهارة): باب المسح على الجوربين، والترمذي (99)، وابن ماجة (559) في (الطهارة): باب ما جاء في المسح على الجوربين، والنسائي (1/ 83)، وفي "الكبرى" (129)، وابن أبي شيبة (1/ 88) وعبد بن حميد (398 - "المنتخب") وابن خزيمة (198) وابن حبان (1338)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 97)، والطبراني في "الكبير" (20/ رقم 996)، والبيهقي في "السنن" (1/ 283)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد طعن فيه بعضهم؛ كما في "نصب الراية" (1/ 184 - 185)، و"إرواء الغليل" (1/ 138) والصحيح أنه صحيح. وقد ورد المسح عن جماعة من الصحابة، وانظر رسالة القاسمي: "المسح على الجوربين" بتحقيق شيخنا الألباني رحمه اللَّه (ص 23). (¬5) حديث عمران بن الحصين، رواه مسلم (574) في (المساجد): باب السهو في الصلاة والسجود له، وعزاه الزيلعي في "نصب الراية" للبخاري أيضًا، وليس هو فيه!! إذ لم يعزه إليه المزِّي ولا غيره. وحديث أبي هريرة رواه البخاري في مواطن منها: (714) في الأذان: باب هل يأخذ الإمام إذا شك بقول الناس، و (1227) في السهو: باب إذا سلم في ركعتين أو في ثلاث فسجد سجدتين مثل سجود الصلاة أو أطول، ومسلم (573).

اللّقَطَة إلى مَنْ جاء فوصَفَ وعاءها ووكاءها وعِفَاصها (¬1) وحديث المصَرَّاة (¬2)، وحديث القُرْعَة بين العبيد إذا أُعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث (¬3)، [وحديث خِيار الْمَجْلس] (¬4)، وحديث إتمام الصَّوْم لمن أكل ناسيًا (¬5)، وحديث إتمام صلاة الصُّبح لمن طلعت عليه الشمسُ، وقد صَلَّى منها ركعة (¬6)، وحديث الصوم عن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (91) في (العلم): باب الغضب في الموعظة والتعليم إذا رأى ما يكره، و (2372) في (المساقاة): باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار، و (2427) في (اللقطة): باب ضالة الإبل، و (2428) باب ضالة الغنم، و (2429) باب إذا لم يوجد صاحب اللقطة بعد سنة فهي لمن وجدها، و (2436) باب إذا جاء صاحب اللقطة بعد سنة ردها عليه لأنها وديعة عنده، و (2438) باب من عرف اللقطة ولم يرفعها للسلطان و (5292) في (الطلاق): باب حكم المفقود في أهله وماله، و (6112) في (الأدب): باب ما يجوز من الغضب والشدة لأمر اللَّه، ومسلم (1722) في اللقطة، من حديث زبد بن خالد الجهني. (¬2) أخرج البخاري (رقم 2148) في (البيوع): باب النهي للبائع أن لا يحفّل الإبل والبقر والغنم، ومسلم (رقم 1524) في (البيوع): باب حكم بيع المصرَّاة، عن أبي هريرة رفعه: "لا تصرَّوا الإبل والغنم للبيع، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين من بعد أن يحلبها، إن رضي أمسكها، وإن سخطها ردَّها، وصاعًا من تمر". وفي رواية لمسلم: "من اشترى مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإنْ ردّها، ردّ معها صاعًا من تمر لا سمراء"، وهي في "صحيح البخاري" معلقة، دون "لا سمراء". (¬3) هو حديث عمران بن حصين، رواه مسلم (1668) في (الأيمان): باب من أعتق شركًا له في عبد، وانظر "الطرق الحكمية" وتعليقي عليه، فقد فصلتُ الكلام عليه، تبعًا للمصنف رحمه اللَّه. (¬4) فيه حديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". أخرجه البخاري (2107) في (البيوع): باب كم يجوز الخيار؟، و (2109) في إذا لم يُوَقَّت الخيار هل يجوز البيع؟، و (2111) باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، و (2112) باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع، و (2113) باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع، و (2116) باب إذا اشترى شيئا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا، ومسلم (1531) في (البيوع): باب ثبوت خيار المجلس، من حديث ابن عمر. وفي الباب عن حكيم بن حزام، رواه الخاري (2079) و (2082) و (2108) و (2110) و (2114)، ومسلم (1532)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) أخرجه البخاري (1933) في (الصوم): باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، و (6669) في (الأيمان والنذور): باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1155) في (الصوم): باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، من حديث أبي هريرة. (¬6) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب مواقيت الصلاة): باب من أدرك من الفجر ركعة (2/ 56/ رقم 579)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساجد): باب من أدرك ركعة من الصلاة (1/ 424/ رقم 608)، عن أبي هريرة مرفوعًا.

الميِّت (¬1)، وحديث الحج عن المريض المأيوس من بُرْئه (¬2)، وحديث الحكم بالقَافَةِ (¬3)، وحديث مَنْ وجد متاعَه عند رجل قد أفلس (¬4)، وحديث النهي عن بيع الرُّطب بالتمر (¬5)، وحديث بيع المدبَّر (¬6)، وحديث القضاء بالشاهد مع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الصيام): باب من مات وعليه صوم (4/ 192/ رقم 1952)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الصيام)؛ باب قضاء الصيام عن الميت (2/ 803/ رقم 1147)، أبو داود في "السنن" (كتاب الصوم): باب فيمن مات وعليه صيام (2/ 791 - 792/ رقم 2400)، وأحمد في "المسند" (6/ 69)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 255)، وغيرهم من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬2) أخرجه البخاري (1513) في (الحج)؛ باب وجوب الحج وفضله، و (1853) في (جزاء الصيد): باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة، و (1855) باب حج المرأة عن الرجل، و (4399) في (المغازي): باب حجة الوداع، و (6228) في (الاستئذان): باب قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا. . .}، ومسلم (1334) في (كتاب الحج): باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما أو للموت، عن ابن عباس. (¬3) أخرجه البخاري (3555) في (الأنبياء): باب صفة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (3731) في (فضائل الصحابة): باب مناقب زيد بن حارثة، و (6770) في (الفرائض): باب القائف، ومسلم (1459) في (الرضاع): باب العمل بإلحاق القافة بالولد، من حديث عائشة. (¬4) أخرجه البخاري (2402) في (الاستقراض): باب اذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض، ومسلم (1559) في (المساقاة): باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس، من حديث أبي هريرة. (¬5) في هذا حديثُ سهل بن أبي حثمة، أخرجه البخاري (2191) في (البيوع): باب بيع الثمر على رؤوس النخل، و (2383 و 2384) في (المساقاة): باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ومسلم (1540): في (البيوع): باب تحريم بيع الرطب بالتمر إِلَّا في العرايا، ولفظه: "نهى عن بيع الثمر بالتمر"، وهو المقصود. وحديث ابن عمر: أخرجه البخاري (2183)، ومسلم (1534). وحديث أبي هريرة: أخرجه مسلم (1538). وحديث سعد بن أبي وقاص: أخرجه مالك (2/ 624)، وأبو داود (3359)، والنسائي (7/ 269)، والترمذي (1225)، وابن ماجة (2246). (¬6) أخرجه البخاري (2141) في (البيوع): باب بيع المزايدة، و (2230 و 2231) باب بيع المدبر، و (2403) في (الاستقراض): باب من باع مال المفلس أو المعدم، و (2415) في (الخصومات): باب من باع على الضعيف ونحوه، و (2534) في (العتق): باب بيع المدبر، و (6716) في (الكفارات): باب عتق المدبر، و (6947) في (الإكراه): باب إذا أُكره حتى وهب عبدًا أو باعه لم يجز، وفي كتاب (الأحكام): باب بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم (7186)، ومسلم في "الصحيح" في الزكاة: باب الابتداء بالنفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة (997)، من حديث جابر.

اليمين (¬1)، وحديث الولد للفراش إذا كان من أمة (¬2)، وهو سبب الحديث، وحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا (¬3)، وحديث قطع السارق في رُبْع دينار (¬4)، وحديث رجم الكتابيين في الزنا (¬5)، وحديث من تزوج امرأة أبيه ¬

_ (¬1) أخرج مسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب القضاء باليمين والشاهد (3/ 1337 / رقم 1712)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الأقضية): باب القضاء باليمين والشاهد (4/ 32/ رقم 3608)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "مختصر سنن أبي داود" (5/ 225) للمنذري-، وابن ماجة في "السنن" (كتاب الأحكام): باب القضاء بالشاهد واليمين (2/ 793/ رقم 2370)، وأحمد في "المسند" (1/ 248، 315)، والشافعي في "المسند" (2/ 178/ رقم 627، 628 - ترتيبه)، والدارقطني في "السنن" (4/ 214)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 167) عن ابن عباس: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى باليمين مع الشاهد. (¬2) أخرجه البخاري (2053) في (البيوع): باب تفسير المشبهات، و (2218) باب شراء المملوك من الحربي، و (2421) في (الهبة): باب الخصومات، و (2533) في (العتق): باب أم الولد، و (2745) في (الوصايا): باب قول الموصي لوصيه، و (4303) في (المغازي): باب رقم (53)، و (6749) في (الفرائض): باب الملاعنة، و (6765) باب ميراث العبد النصراني، و (6817) في (كتاب الحدود): باب للعاهر الحجر، و (7182) في (كتاب الأحكام): باب من قضى له بحق أخيه؛ فلا يأخذه، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الرضاع): باب الولد للفراش، وتوقي الشبهات (1457)، من حديث عائشة. (¬3) أخرجه أبو داود (2277) في (الطلاق): باب من أحق بالولد؛ والترمذي (1357) في (الأحكام): باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه، وفي "العلل الكبير" (369)، والنسائي (6/ 185 و 186) في (الطلاق): باب إسلام أحد الزوجين، وتخيير الولد، وابن ماجة (2351) في (الأحكام): باب تخيير الصبي بين أبويه، وأحمد (2/ 447)، وعبد الرزاق (12611)، والشافعي في "الأم" (5/ 92)، و"المسند" (2/ 62)، وسعيد بن منصور (2275)، والحميدي (1083)، والدارمي (2298)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3085)، وأبو يعلى (6131)، والحاكم (4/ 97)، والبيهقي (8/ 3)، والبغوي (2399) من طريق هلال بن أبي ميمونة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيَّر غُلامًا بين أبيه وأُمّه، ورجاله ثقات. (¬4) أخرجه البخاري (6789 و 6790) في (الحدود): باب قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، وفي كم يقطع، ومسلم (1684) في الحدود: باب حد السرقة ونصابها عن عائشة رفعته: "تُقطع اليدُ في ربع دينار، فصاعدًا". (¬5) أخرجه البخاري (1329) في (الجنائز): باب الصلاة على الجنائز بالمصلى، و (3635) في (المناقب): باب قول اللَّه تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، و (4556) في (التفسير): باب {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، و (6819) في (الحدود): باب الرجم في البلاط، و (6841): باب أحكام أهل الذمة وإحصانهم إذا زنوا ورفعوا إلى الإمام، و (7332) في (الاعتصام): باب ما =

[أُمِر] (¬1) بِضَرْب عنقه وأخذ ماله (¬2). وحديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" (¬3)، وحديث: "لعن اللَّه المحلِّل والمحلَّل له" (¬4)، وحديث: "لا نكاح إِلا بولي" (¬5)، وحديث المطلَّقة ثلاثًا لا سُكْنى لها ولا ¬

_ = ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحض على اتفاق أهل العلم، و (7543) في (التوحيد): باب ما يجوز في تفسير التوراة، وغيرها من كتب اللَّه بالعربية. .، ومسلم (1699 بعد 27) في (الحدود): باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، من حديث ابن عمر. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (10/ 104 - 105)، والنسائي (6/ 109)، وأحمد (4/ 290) والطحاوي (3/ 148)، وابن حبان (4112)، والحاكم (2/ 191) من طريق السُّدي (إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة) عن عدي بن ثابت عن البراء به، وهذا إسناد جيد رجاله ثقات، وفي إسماعيل كلام رغم أنه من رجال مسلم، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وأخرجه عبد الرزاق (10804)، وابن أبي شيبة (10/ 104)، وسعيد بن منصور (942)، وأحمد (4/ 292)، وأبو داود (4457) في (الحدود): باب الرجل يزني بحريمه، والترمذي (1362) في (الأحكام): باب فيمن تزوج امرأة أبيه، وفي "العلل الكبير" (372)، وابن حزم في "المحلى" (11/ 252)، والمزي في "تهذيب الكمال" (5/ 265)، وابن ماجة (2607) في (الحدود): باب من تزوج امرأة أبيه من بعده، وأبو يعلى (1666، 1667)، والطحاوي (3/ 148)، والدارقطني (3/ 196)، والبغوي (2592) من طرق عن أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت عن البراء. وأشعث هذا ضعيف، ثم رواه على وجه آخر. فرواه عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن البراء. أخرجه البيهقي (8/ 237)، ولم ينفرد أشعث هذا بل رواه أحمد (4/ 292 و 295)، والنسائي (6/ 109 - 110)، والبيهقي (7/ 162)، والدارمي (2/ 153)، والحاكم (4/ 357)، وابن حزم (11/ 252) من طرق عن عدي عن يزيد عن البراء فلعله يصح على الوجهين، فيكون عدي سمعه من يزيد ثم سمعه من البراء، وصححه ابن حزم وغيره، وانظر: "نيل الأوطار" (7/ 285 - 286). ورواه سعيد بن منصور (943)، وأحمد (4/ 295)، وأبو داود (3356)، والدارقطني (3/ 196)، والبيهقي (8/ 237) من طريق مطرف عن أبي الجهم عن البراء. (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (111) و (3046) و (6903)، و (6915) من حديث علي بن أبي طالب ضمن حديث. وقد ورد عن عدد من الصحابة. (¬4) مضى تخريجه. (¬5) الحديث ورد عن جماعة من الصحابة، أمثلها حديث عائشة. رواه عبد الرزاق (10472)، والطيالسي (1463)، وأحمد (6/ 47، 165 - 166)، =

نفقة (¬1)، وحديث: "أعْتَقَ صفيةَ وجعل عتقها صداقها" (¬2)، وحديث: "أصْدِقْهَا ولو خاتمًا من حديد" (¬3)، وحديث إباحة لحوم الخيل (¬4)، وحديث: "كُلُّ مسكر حرام" (¬5) ¬

_ = وأبو داود (2083)، والترمذي (1102)، وابن ماجة (1879)، وابن الجارود (700)، والطحاوي (3/ 7، 8)، والدارقطني (3/ 221 و 225 - 226)، والحاكم (2/ 168)، والبيهقي (7/ 105 و 113 و 124 - 125 و 125 و 138) من طرق عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة بن عائشة. ورجاله رجال الشيخين عدا سليمان بن موسى، وهو صدوق، وللحديث علة، وهي: قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه. وردَّ هذا الأئمة، منهم الترمذي والحاكم وابن حبان وأبن عدي وابن عبد البر، انظر "التلخيص الحبير" (3/ 157)، و"السنن الكبرى" (7/ 107)، و"إرواء الغليل" (6/ 243 - 249)، ولصديقنا الشيخ مفلح الرشيدي دراسة بعنوان "التحقيق الجلي لحديث لا نكاح إِلا بولي"، وهي مطبوعة، عن مؤسسة قرطبة، مصر. وانظر: تعليقي على "الأشراف" للقاضي عبد الوهاب (3/ 285). (¬1) أخرجه مسلم (1480) في (الطلاق): باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، من حديث فاطمة بنت قيس. (¬2) أخرجه البخاري (4200) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5086) في (النكاح): باب من جعل عتق الأمة صداقها، و (5169) باب الوليمة ولو بشاة، ومسلم (1365 بعد 85) (ص 1045) في (النكاح): باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها، من حديث أنس بن مالك. (¬3) أخرجه البخاري (2310) في (الوكالة): باب وكالة المرأة الإمام في النكاح، و (5029) في (فضائل القرآن): باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، و (5030) في باب القراءة عن ظهر قلب، و (5087) في (النكاح): باب تزويج المعسر، و (5121) في باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، و (5132) في باب إذا كان الولي هو الخاطب، و (5135) باب السلطان ولي، و (51441) باب إذا قال الخاطب للولي: زوجني فلانة، و (5149) باب التزويج على القرآن وبغير صداق، و (5150) باب المهر بالعروض وخاتم الحديد، و (5871) في (اللباس): باب خاتم الحديد، و (7417) في (التوحيد): باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}، ومسلم (1425 بعد 77) في (النكاح): باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن، وخاتم حديد وغير ذلك، من حديث سهل بن سعد، ولفظه: "التمس ولو خاتمًا من حديد". (¬4) أخرجه البخاري (4219) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5520) في (الذبائح): باب لحوم الخيل، و (5524) باب لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1941) في (الصيد): باب في أكل لحوم الخيل، من حديث جابر. (¬5) ورد من حديث جماعة من الصحابة، منهم: ابن عمر، أخرجه البخاري (5575)، ومسلم (2003). =

وحديث: "ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صدقة" (¬1)، وحديث المزارعة والمساقاة (¬2)، وحديث: "ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمّة" (¬3). ¬

_ = وعائشة: أخرجه البخاري (242) و (5585 و 5586)، ومسلم (2001). وانظر مفصلًا "الأشربة" الأحمد (ص 97)، و"الأشربة" لابن قتيبة (ص 31، 66، 115، 125)، و"ذم المُسْكر" لابن أبي الدنيا (رقم 58، 60)، و"التلخيص الحبير" (4/ 74)، و"إرواء الغليل" (8/ 40 - وما بعدها)، و"الموافقات" (2/ 522) (4/ 360) (5/ 418). (¬1) أخرجه البخاري (1447) في (الزكاة): باب زكاة الوَرِق، ومسلم (979) أوّل الزكاة، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) أخرجه البخاري (2285 و 2328 و 2329 و 2331 و 2338 و 2499 و 2720 و 3152 و 4248)، ومسلم (1551) من حديث ابن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من تمر أو زرع. (¬3) أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب الأضاحىٍ): باب ما جاء في ذكاة الجنين (3/ 103/ رقم 2827)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الأطعمة): باب ما جاء في ذكاة الجنين (4/ 72/ رقم 1476)، وابن ماجة في "السنن" (كتاب الذبائح): باب ذكاة الجنين ذكاة أمه (2/ 1067/ رقم 3199)، وأحمد في "المسند" (3/ 31، 53)، وعبد الرزاق في "المصنف" (4/ 502/ رقم 8650)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 900)، وأبو يعلى في "المسند" (2/ 278/ رقم 992)، والدارقطني في "السنن" (4/ 272 - 273، 274)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 335)، والبغوي في "شرح السنة" (11/ 2281)، جميعهم من طريق مجالد بن سعيد عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد الخدري رفعه. وإسناده ضعيف لضعف مجالد، ولكنه توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق، وهو متفق على ثقته، وأبو الودَّاك ثقة، احتجَّ به مسلم. وقد ضعّفه ابن حزم في "المحلى" (7/ 419) بقوله: "مجالد ضعيف" وأبو الودَّاك ضعيف". قلت: أبو الوداك وثقه ابن معين وابن حبان، وقال النسائي: "صالح"، ولذا قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 157): "أما أبو الوداك فلم أَرَ من ضعّفه". وأخرج متابعة يونس عن أبي الوداك: أحمد في "المسند" (3/ 39)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 1077 - موارد)، والدارقطني في "السنن" (4/ 274)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 335)، والخطيب في "الموضح" (2/ 249). قال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 157): "فهذه متابعة قوية لمجالد"، وقال المنذري في "مختصر السنن" (4/ 120): "وهذا إسناد حسن، ويونس -وإن تُكلِّم فيه-؛ فقد احتج به مسلم في "صحيحه"، وقال الذهبي في "الميزان" (4/ 483) -وساق كلام الأئمة فيه وعنه-: "قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مِسْعَر ولا شعبة"، وترجمه في: "مَنْ تُكلِّم فيه وهو موثق" (رقم 389). =

وحديث: "الرهنُ مركوبٌ ومحلوب" (¬1)، وحديث النهي عن تخليل ¬

_ = وأخرجه أحمد في "المسند" (3/ 45)، وأبو يعلى في "المسند" (2/ رقم 1206)، والطبراني في "الصغير" (1/ 88، 168)، والخطيب في "التاريخ" (8/ 412)، وأبو نعيم في "مسانيد فراس بن يحيى المكتب" (رقم 39) من طريق عطيّة العوفي -وهو ضعيف مدلس ولم يصرح بالسماع- عن أبي سعيد به. وله شاهد من حديث جابر، أخرجه الدارمي في "السنن" (2/ 84)، وأبو داود في "السنن" (رقم 2828)، وأبو يعلى في "المسند" (3/ 343/ رقم 1808)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 660، 733، و 6/ 2403)، والدارقطني في "السنن" (4/ 273)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 114)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 92 و 9/ 236)، و"أخبار أصبهان" (1/ 92 و 2/ 82)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (رقم 288)، وابن الأعرابي في "المعجم" (رقم 200)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (265) -موقوفًا-، والخليلي في "الإرشاد" (1/ 438)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 334 - 335) من طرق عن أبي الزبير عن جابر، وليس من بينها طريق الليث بن سعد، ولم يصرح أبو الزبير في أيّ منها بالتحديث؛ فهو معلول من هذه الجهة، وبنحوه أعله ابن حزم في "المحلى" (7/ 419). وورد الحديث عن ابن عمر، وأبي هريرة، وكعب بن مالك، وأبي ليلى، وأبي أيوب الأنصاري، وابن مسعود، وابن عباس، وعلي، وأبي أمامة، وأبي الدرداء، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، ولا تخلو طرقه هذه من ضعف، وليس هذا موطن سردها؛ إِلا أن الحديث صحيح ثابت من هذه الطرق، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 156): "قال عبد الحق: لا يحتج بأسانيده كلها، وخالف الغزالي في "الإحياء"؛ فقال: "هو حديث صحيح"، وتبع في ذلك إمامه". قلت: يريد إمام الحرمين الجويني، كما صرح به العراقي في "تخريج الإحياء" (2/ 116). قال ابن حجر: "فإنه -أي: إمام الحرمين- قال في "الأساليب": "هو حديث صحيح، لا يتطرّق احتمال إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة، وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر". (¬1) أخرجه عبد الرزاق (8/ 244 رقم 15066)، وابن عدي (1/ 272 و 2/ 757 و 7/ 2504 و 2727)، والدارقطني (3/ 34)، و"الغرائب" (1/ ق 320 - أطراف) وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 45)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 58)، وابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 374)، والبزار (ق 221/ أ)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 185)، والبيهقي (6/ 38)، من طرق عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا. وقد أعل بالوقف ورجح ابن أبي حاتم (1/ 374)، والدارقطني (10/ 112 - 114 رقم 1903) كلاهما في "العلل"، وابن عدي، والبيهقي رواية الوقف. قال ابن عدي: الأصل فيه موقوف، وقد رواه عن أبي عوانة عيسى بن يونس وأبو معاوية وشعبة والثوري مرفوعًا وموقوفًا، والأصح هو الموقوف. أما الحاكم فقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لإجماع الثوري =

الخمر (¬1)، وحديث قسمة الغنيمة للراجل سهمٌ وللفارس ثلاثة (¬2)، وحديث: "لا تحرم المصَّة والمصَّتان" (¬3). وأحاديث حَرَم المدينة (¬4)، وحديث إشعار الْهَدْي (¬5) وحديث: "إذا لم يجد المُحْرم الإزار فليلبسْ السَّراويل" (¬6)، وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده ¬

_ = وشعبة على توقيفه عن الأعمش، وأنا على أصلي الذي أصلته في قبول الزيادة من الثقة. وانظر: "التلخيص الحبير" (3/ 36)، وتعليقي على "الإشراف" (3/ 23 - 24). (¬1) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الأشربة): باب تحريم تخليل الخمر (1983)، من حديث أنس بن مالك. (¬2) أخرجه البخاري (2863) في (الجهاد): باب سهام الفرس، و (4228) في (المغازي): باب غزوة خيبر، ومسلم (1762) في (الجهاد): باب كيفية القسمة بين الحاضرين، من حديث ابن عمر. وللنووي جزء "وجوب قسمة الغنيمة" جمع فيه جملة من أحاديث الباب، وهو قيد التحقيق، يسر اللَّه إتمامه بمنه وكرمه. (¬3) أخرجه أحمد (6/ 31 و 95 - 96 و 216 و 247)، ومسلم (1450) في (الرضاع): باب في المصة والمصتان، من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬4) ورد من حديث أبي سعيد الخدري، رواه مسلم (1374 بعد 478) في (الحج): باب الترغيب في سكنى المدينة، والصبر على لأوائها. ومن حديث جابر، رواه مسلم -أيضًا- (1362) في (الحج): باب فضل المدينة. ومن حديث أبي هريرة: رواه البخاري (1869) في (فضائل المدينة): باب حرم المدينة، و (1873) في (فضائل المدينة): باب لابتي المدينة، ومسلم (1372) في (الحج): باب فضل المدبنة. ووقع في المطبوع و (ن): "حرمة المدينة". (¬5) رواه البخاري (1696) في (الحج): باب من أشعر وقلد بذي الحليفة ثم أحرم، و (1699) باب إشعار البدن، ومسلم (1321) (362) في (الحج): باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه، من حديث عائشة. ورواه مسلم (1243) في (الحج): باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام، من حديث ابن عباس. (¬6) رواه البخاري (1841) في (جزاء الصيد): باب لبس الخفين للمحرم إذا لم يجد النعلين، و (1843) في إذا لم يجد الإزار فليلبس السراويل، و (5804) في (اللباس) باب السراويل، و (5853) في باب النعال السبتية وغيرها، ومسلم (1178) في (الحج): باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (5794) في (اللباس)؛ باب لبس القميص، من حديث ابن عمر، ورواه البخاري (1179) في (الحج)، من حديث جابر.

على بعض، وأنه جَوْرٌ لا تجوز الشهادة عليه (¬1)، [وحديث] (¬2): "أنت ومالُكَ لأبيك" (¬3)، وحديث القَسَامة (¬4)، وحديث الوضوء من لحوم الإبل (¬5)، وأحاديث الْمَسْح على العمامة (¬6)، وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صَلَّى خَلْف الصف وحده (¬7). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2586) في (الهبة): باب الهبة للولد، و (2587) باب الإشهاد في الهبة، و (2650) في (الشهادات): باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم في (الهبات): (1623) باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة، من حديث النعمان بن بشير. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) سبق تخريجه مطولًا. (¬4) رواه البخاري (2702) في (الصلح): باب الصلح مع المشركين، و (3173) في (الجهاد): باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، و (6142 و 6143) في (الأدب): باب إكرام الكبير، ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال، و (6898) في الديات: باب القسامة، و (7192) في (الأحكام): باب كتاب الحاكم إلى عماله، ومسلم (1669)، من حديث سهل بن أبي حثمة. (¬5) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الحيض): باب الوضوء من لحم الإبل (رقم 360)، من حديث جابر بن سمرة. (¬6) ورد من حديث المغيرة بن شعبة: رواه مسلم (274 بعد 82 و 83) في (الطهارة): باب المسح على الناصية والعمامة. ومن حديث عمرو بن أمية الضمري: رواه البخاري (205) في (الوضوء): باب المسح على الخفين. ومن حديث بلال بن رباح: رواه مسلم (275) في (الطهارة). وغيرها. (¬7) الحديث يرويه وابصة بن معبد الأسدي ورواه عنه: أولًا- عمرو بن راشد: أخرجه من طريقه: الطيالسي (1201)، وأحمد (4/ 228)، وأبو داود (682) في (الصلاة): باب الرجل يصلي خلف الصف وحده، والترمذي (231) في (الصلاة): باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده، والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 393)، والطبراني في "الكبير" (22/ 371)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 104) من طريق عمرو بن مرة عن هلال بن يساف عنه به. ورواته ثقات من رجال الصحيح، غير عمرو بن راشد فقد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى عنه اثنان ثم هو متابع. وقد جاء الحديث من طريق هلال عن وابصة بإسقاط عمرو، رواه أحمد (4/ 228)، والطبراني في "الكبير" (22/ 383) من طريق شِمْر بن عطية عن هلال به. وسنده صحيح إنْ صحَّ سماع هلال من وابصة، حيث لم أر في كتب الرجال من نفاها. ثانيًا: زياد بن أبي الجعد: أخرجه من طريقه الحميدي (884)، وابن أبي شيبة =

وحديث: مَنْ دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد (¬1)، [وحديث ¬

_ = (2/ 192 و 193)، وأحمد (4/ 228)، والترمذي (230) في (الصلاة): باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده، وابن ماجه (1004) في (الإقامة): باب صلاة الرجل خلف الصف وحده، والطبراني في "الكبير" (22/ 376 و 377 و 378 و 379 و 380 و 381)، وابن حبان (2200)، والبيهقي في "السنن" (3/ 104) من طريق حصين -وهو: ابن عبد الرحمن السهمي- عن هلال بن يساف أن زياد بن أبي الجعد أخبره عن وابصة. قال ابن حبان: سمع هذا الخبر هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة، وسمعه من زياد بن أبي الجعد عن وابصة. أي إنه عند هلال على الوجهين، وهو صحيح عنده، وزياد هذا لم يوثقه إلا هو وروى عنه اثنان، أما الترمذي -رحمه اللَّه- فقال: قال بعضهم: حديث عمرو بن مرة أصح، وقال بعضهم: حديث حصين أصح، وهو عندي أصح من حديث عمرو لأنه روي من غير وجه عن هلال عن زياد عن وابصة. وأما البزار، فقد قال فيما نقله الزيلعي عنه في "نصب الراية" (2/ 38): "وأما حديث عمرو بن راشد، فإن عمرو بن راشد رجل لا يعلم حَدّث إلا بهذا الحديث، وليس معروفًا بالعدالة، فلا يحتج بحديثه، أما حديث حصين فإن حصينًا لم يكن بالحافظ فلا يحتج بحديثه في حكم، وأما حديث يزيد بن زياد (يرويه عن عمّه عبيد بن أبي الجعد عن زياد عند أحمد (4/ 228)، وابن حبان (2201))، فلا نعلم أحدًا من أهل العلم إلا وهو يضعف أخباره، فلا يحتج بحديثه، وقد روى عن شمر بن عطية عن هلال بن يساف عن وابصة، وهلال لم يسمع من وابصة، فأمسكنا عن ذكره لإرساله"، وفي كلام البزار مبالغة، فحصين بن عبد الرحمن من رواة الصحيح، ويزيد بن زياد صدوق، وأما عمرو بن راشد فقد عرفت حاله. والحديث رواه الطبراني في "الكبير" (22/ 388 و 390 و 391) من طريق سالم بن أبي الجعد و (22/ 392 و 393 و 394)، وأبو يعلى (1588) من طريق الشعبي، والطبراني (22/ 395 و 396 و 397) من طريق حنش بن المعتمر، و (22/ 398) من طريق بكير بن الأخنس كلهم عن وابصة وأسانيدها فيها نظر. وفي الباب عن علي بن شيبان، أخرجه أحمد (4/ 23)، وابن أبي شيبة (2/ 193)، وابن ماجه (1003)، وابن سعد (5/ 551)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 275 - 276)، وابن خزيمة (1569)، وابن حبان (2201)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 394) والبيهقي (3/ 105)، ولفظه: "استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف" وسنده صحيح. (¬1) رواه البخاري (930) في (الجمعة): باب إذا رأى الإمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين خفيفتين، و (931) باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، و (1166) في (التهجد): باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى، ومسلم (875) في (الجمعة): باب التحية والإمام يخطب، من حديث جابر.

الصلاة على الغائب (¬1)، وحديث الجهر بآمين في الصلاة،] (¬2) وحديث جَوَاز رجوع الأب فيما وَهبه لولده ولا يرجع غيره (¬3)، وحديث الكلب الأسود يقطع ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1245) في (الجنائز): باب الرجل ينعى إلى أهل الميت نفسه، و (1333) باب التكبير على الجنائز أربعًا، ومسلم (951 بعد 62) في (الجنائز): باب التكبير على الجنازة، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (1317) في (الجنائز): باب من صف صفين أو ثلاثة على الجنازة، و (1334) في (الجنائز): باب التكبير على الجنازة أربعًا، و (1320) في الصفوف على الجنازة، و (3877 و 3878 و 3879) في (مناقب الأنصار): باب موت النجاشي، ومسلم (952) في (الجنائز) باب في التكبير على الجنازة، من حديث جابر. (¬2) هو حديث وائل بن حجر: وقد رواه أحمد (4/ 316 و 317)، وابن أبي شيبة (2/ 425)، وأبو داود (932 و 933)، والترمذي (248 و 249)، والدارمي (1/ 284)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 111 و 113)، والدارقطني (1/ 334)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 57)، وفي "معرفة السنن والآثار" (1/ 530 رقم 738) من طرق عن سلمة بن كهيل عن حجر بن عنبس عن وائل، وفيه يمد بها صوته". ومن ضمن من رواه هكذا بالجهر سفيان الثوري، وهذا إسناد صحيح. لكن رواه الطيالسي (1024)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (2/ 57)، ورواه أحمد (4/ 316)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 109، 110، 112)، والحاكم (2/ 232)، وابن حبان (1805) من طريقين عن شعبة عن سلمة بن كهيل به، وفيه أنه أخفى صوته بها. وصححه الحاكم على شرط الشيخين!! وقد انتقد غير واحد من العلماء رواية شعبة هذه وصححوا رواية سفيان السابقة منهم: الدارقطني والبيهقي وابن حجر، بل ذكر البيهقي في "معرفة السنن" أن أبا الوليد الطيالسي روى الحديث عن شعبة بالجهر. وللحديث طريق آخر عن وائل، يرويه أحمد (4/ 318)، والنسائي (2/ 145)، وابن ماجه (855)، والدارقطني (1/ 334، 335)، والطبراني (22/ 30 - 40)، والبيهقي (2/ 58) من طرق عن أبي إسحاق عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه، وفيه الجهر بآمين. وقد أفردتُ هذا الحديث في جزء مستقلٍ، يسر اللَّه نشره، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه أحمد (2/ 27 و 78)، وأبو داود (3539) في (البيوع والإجارات): باب الرجوع في الهبة، والترمذي (1299) في (البيوع): باب ما جاء في الرجوع في الهبة، والنسائي (6/ 265) في (الهبة): باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده، و (6/ 267 و 268) باب ذكر الاختلاف على طاوس، وابن ماجه (2377) في (الهبات): باب من أعطى ولده ثم رجع =

الصلاة (¬1). وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال (¬2)، وحديث نَضْح بَوْل الغلام الذي لم يأكل الطعام (¬3)، وحديث الصلاة على ¬

_ = فيه، وأبو يعلى (2717)، والحاكم (2/ 64)، والبيهقي (6/ 179، 185) من طرق عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عباس وابن عمر، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. (¬1) رواه مسلم في الصلاة: باب قدر ما يستر المصلي من حديث أبي ذر (510)، ورواه (511) من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه أحمد (5/ 57، 58)، وابن أبي شيبة (3/ 67)، وعبد الرزاق (7339)، وأبو داود (1157) في (الصلاة) باب إذا لم يخرج الإمام للعيد من يومه يخرج من الغد، والنسائي (3/ 180)، في (صلاة العيدين): باب الخروج إلى العيد من الغد، وابن ماجه (1653) في (الصيام): باب ما جاء في الشهادة على رؤية الهلال، والدارقطني (2/ 170)، والبيهقي (3/ 316)، و (4/ 249 و. 25)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (1787)، من طريق جعفر بن أبي وحشية عن أبي عمير عبد اللَّه بن أنس بن مالك عن عمومة له من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن ثابت. وقال البيهقي في الموضع الأول: إسناده صحيح، وأقره النووي في "المجموع" (5/ 33)، وفي الموضع الثاني: هو إسناد حسن. رواه أبو عمير عن عمومة له من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كلهم ثقات، فسواء سموا أم لم يسموا. وأبو عمير هذا وثقه ابن سعد وابن حبان، وجهله ابن عبد البر، وفيه نظر، وصححه ابن السكن، وابن المنذر، وابن حزم؛ كما في "التلخيص الحبير" (2/ 87). والحديث رواه البزار (972)، وابن حبان (3456)، والبيهقي (4/ 249) من طريق سعيد بن عامر عن شعبة عن قتادة عن أنس أن عمومة له. قال البزار: أخطأ فيه سعيد بن عامر، وإنما رواه شعبة عن أبي بشر عن أبي عمير بن أنس أن عمومة له شهدوا .. وكذا قال البيهقي. (¬3) بهذا اللفظ وهو "ينضح بول الغلام، ويغسل بول الجارية". رواه أحمد (1/ 76 و 97 و 137)، وأبو داود (378) في (الطهارة) باب بول الصبي يصيب الثوب، والترمذي (615) في (الصلاة): باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، وابن ماجه (525) في (الطهارة): باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، وابن خزيمة (284) من حديث علي بن أبي طالب، قال الحافظ في "التلخيص الحبير" (1/ 28): إسناده صحيح إلا أنه اختلف في رفعه، ووقفه، وفي وصله، وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني. وفي صحيح البخاري (223) في (الطهارة)، و (5693) في (الطب): باب السعوط =

القبر (¬1)، وحديث: "مَنْ زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزَّرع شيء، وله نفقتُه" (¬2) وحديث بيع جابر بعيره واشتراط. . . . ¬

_ = بالقسط الهندي والبحري، ومسلم (287) في (الطهارة): باب حكم بول الطفل الرضيع من حديث أم قيس بنت محصن الأسدية. . فأخذ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ماء فنضحه، ولم يغسله. وفي صحيح البخاري -أيضًا- (222) و (5468) و (6002) و (6355)، ومسلم (286) من حديث عائشة كذلك، عدم غسل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لبول الغلام. (¬1) رواه البخاري (857) في (الأذان): باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، و (1247) في (الجنائز): باب الإذن بالجنازة، و (1319) باب الصفوف على الجنازة، و (1322) باب سنة الصلاة على الجنازة، و (1326) باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، و (1336) باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، و (1340) باب الدفن بالليل، ومسلم (954) في (الجنائز): باب الصلاة على القبر، من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (458) في (الصلاة): باب كنس المسجد، و (460) باب الخدم للمسجد، و (1337) في (الجنائز): باب الصلاة على القبر بعدما يدفن، ومسلم (956) في (الجنائز): باب الصلاة على القبر، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه أحمد (3/ 465 و 4/ 141)، وأبو داود (3403)، والترمذي (1366)، وفي "العلل الكبير" (رقم 226)، وابن ماجه (2466)، وأبو عبيد في "الأموال" (364، 708)، ويحيى بن آدم في "الخراج" (رقم 295)، وابن زنجويه في "الأموال" (رقم 1057)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 117 - 118)، وفي "مشكل الآثار" (2667 - 2669)، والطبراني في "الكبير" (4437)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 148)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 136)، وابن عدي (4/ 1334) كلهم من طرق عن شريك عن أبي إسحاق عن عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج. وقال الترمذي: "حسن غريب لا نعرفه من حديث أبي إسحاق إلا من هذا الوجه من حديث شريك بن عبد اللَّه، وسألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن". ويفهم من كلام البيهقي في "السنن" عقب الحديث أن فيه عللًا: الأولى: شريك القاضي، وهو سيء الحفظ. الثانية: أبو إسحاق مدلس. . . ثم هو اختلط. الثالثة: عطاء لم يسمع من رافع بن خديج، ونقل هذا عن الشافعي، ورد ذلك أبو حاتم، وقال: بل قد أدركه. أقول: ومما يدل على تدليس أبي إسحاق أن ابن عدي رواه من طريق حجاج بن محمد عن شريك عن أبي إسحاق عن عبد العزيز بن رفيع عن عطاء به، فزاد عبد العزيز، وشريك توبع تابعه قيس بن الربيع عن أبي إسحاق به. رواه البيهقي (6/ 136)، وقيس هذا ضعيف، وبقي فيه علة. قال البيهقي (6/ 137) وقد رواه عقبة بن الأصم عن عطاء قال: حدثنا رافع. =

ظهره (¬1)، وحديث النهي عن جلود السِّباع (¬2)، وحديث: "لا يمنع أحدكم جاره ¬

_ = وعقبة هذا ضعيف لا يحتج به. وله طريق أخرى عن رافع بن خديج. رواه أبو داود (3402)، والبيهقي (6/ 136) من طريق بكير عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن رافع بمعناه، قال البيهقي: بكير وإن استشهد به مسلم بن الحجاج في غير هذا الحديث فقد ضعفه يحيى بن سعيد القطان، وحفص بن غياث، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين. وله طريق أخرى رواه أبو داود (3399)، ومن طريقه البيهقي (6/ 136) من طريق يحيى القطان: حدثنا أبو جعفر الخطمي عن سعيد بن المسيب عن رافع بمعناه. ورواه حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي مرسلًا، أشار إلى ذلك أبو حاتم في "العلل" (1/ 475)، وصحح الطريق الموصول وقال: هذا يقوي حديث شريك عن أبي إسحاق عن عطاء عن رافع بن خديج عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأما البيهقي فقال: أبو جعفر عمير بن يزيد الخطمي لم أر البخاري ولا مسلمًا احتجا به في الحديث!!! ولا شك أن الحديث بمجموع طرقه صحيح خلا لفظة: "بغير إذنهم" فهي من انفرادات أبي إسحاق فيما ذكر الإمام أحمد في "مسائل أبي داود" (ص 200)، وحسنه المصنف في "تهذيب السنن" (5/ 64)، وذكر أن لفظة: "بغير إذنهم" صحيحة في النظر، وإن لم تثبت في النقل، وانظر تعليقي على "تقرير القواعد" لابن رجب (2/ 134 - 140). ووقع في (ق): "زرع بأرض قوم". (¬1) رواه البخاري (2097) في (البيوع): باب شراء الدواب والحمير، و (2309) في (الوكالة): باب إذا وكل رجل رجلًا، و (2967) في (الجهاد): باب استئذان الرجل الإمام، ومسلم (3/ 1221) (715) في (المساقاة): باب بيع البعير واستثناء ركوبه، من حديث جابر. ووقع في (ق) و (ك): "واشترط ظهره". (¬2) رواه أبو داود (4131) في (اللباس): باب في جلود النمور والسباع، والنسائي في (الفرع والعتيرة) (7/ 176) من طريق عمرو بن عثمان: حدثنا بقية عن بَحير عن خالد بن معدان قال: قدم وفد المقدام بن معدي كرب على معاوية فقال له: أنشدك باللَّه. . . وهو مطول عند أبي داود وفيه عنعنة بقية وهو مدلس معروف. أما شيخنا الألباني فقال في "السلسلة الصحيحة" (3/ 9 رقم 1011): وقد صرح بقية بالتحديث فزالت شبهة تدليسه. أقول: روى أحمد (4/ 132) من طريق حيوة بن شريح ثنا بقية ثنا بحير بن سعد به بلفظ: "نهى عن الحرير والذهب وعن مياثر النمور" وليس باللفظ السابق. وروى الحديث بهذا اللفظ الأخير: النسائي (6/ 176) من طريق عمرو بن عثمان عن بقية، وليس فيه تصريح بقية بالسماع. وفي الباب عن أسامة والد المليح: رواه أبو داود (4132)، والترمذي (1770)، =

أن يغرز خشبة في جداره" (¬1)، وحديث: "إن أحقَّ الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬2)، وحديث: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع" (¬3)، وحديث إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء (¬4)، وحديث الوتر على الراحلة (¬5). ¬

_ = والنسائي (6/ 176)، وأحمد (5/ 74 و 75)، والحاكم (1/ 148)، وصححه ووافقه الذهبي، وانظر لزامًا "الخلافيات" (رقم 54, 70) فقد أطلت النفس في التخريج، والحمد للَّه وحده. (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب المظالم): باب لا يمنع جاره أن يغرز خشبةً في جداره (5/ 110/ رقم 2643)، و (كتاب الأشربة): باب الشرب من فم السِّقاء (9/ 90/ رقم 5627)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساقاة): باب غرز الخشب في جدار الجار (3/ 1230/ رقم 1609)، عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) رواه البخاري (2721) في (الشروط): باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، و (5151) في (النكاح): باب الشروط في النكاح، ومسلم (1418) في (النكاح): باب الوفاء بالشروط في النكاح، من حديث عقبة بن عامر. (¬3) رواه البخاري في "صحيحه" في (المساقاة): باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل (5/ 49/ 2379)، ومسلم في "صحيحه" في (البيوع): باب من باع نخلًا عليها ثمر، (3/ 1172/ رقم 1543) من حديث ابن عمر وفيه زيادة: "إلا أن يشترط المبتاع". (¬4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 317)، وعبد الرزاق (12627)، وأحمد (4/ 232)، وأبو داود (2243) في (الطلاق): فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان، والترمذي (1129 و 1130)، في (النكاح) باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده أختان، وابن ماجه (1950 و 1951) في (النكاح): باب الرجل يسلم وعنده أختان، والعقيلي (2/ 44)، وابن حبان (4155)، والطبراني في "الكبير" (18/ 843 و 844 و 845)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (5/ 311 رقم 2847)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (12/ 4259، 4260 رقم 1528، 1529)، والدارقطني (3/ 273)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 184)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 255)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2297 - 2298 رقم 5673) من طريق أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه. وقال الترمذي: "حديث حسن"، وأبو وهب الجيشاني: اسمه الديلم بن هوشع. أقول: أبو وهب هذا جهله ابن القطان، وقال البخاري: في إسناده نظر، وقال العقيلي بعد روايته للحديث من طريقه: لا يحفظ إلا عنه، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" وروى عنه جماعة. ومثله الضحاك بن فيروز لم يوثقه إلا ابن حبان وروى عنه جمع، وقال الحافظ في "التلخيص الحبير" (3/ 176): "وصححه البيهقي وأعله العقيلي وغيره". وفي (ق): "اختار أيهما شاء"! (¬5) رواه البخاري (999) في (الوتر): باب الوتر على الدابة، و (1000) باب الوتر في =

وحديث: "كُلُّ ذي نابٍ من السِّباع حَرَام" (¬1)، وحديث من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (¬2)، وحديث: "لا تجزئ صلاةٌ لا يقيم الرّجلُ فيها صُلْبَه من ركوعه وسجوده" (¬3)، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه (¬4). وأحاديث الاستفتاح (¬5)، وحديث كان للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَكْتَتان في ¬

_ = السفر، و (1095) كتاب تقصير الصلاة: باب صلاة التطوع على الدواب، و (1096) باب الإيماء على الدابة، ومسلم (700) (36 و 38) في (صلاة المسافرين): باب جواز صلاة النافلة على الدابة، من حديث ابن عمر. (¬1) رواه بهذا اللفظ: مسلم (1933) في (الصيد): باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (5530) في (الصيد): باب أكل ذي ناب من السباع، و (5780 و 5781) في (الطب): باب ألبان الأتن، ومسلم (1932) في (الصيد): باب تحريم أكل ذي ناب من السباع، من حديث أبي ثعلبة الخشني بلفظ: "نهى عن أكل ذي ناب من السباع". (¬2) رواه مسلم (401) من حديث وائل بن حجر "أنه رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وضع يده اليمنى على اليُسرى". وروى البخاري (740) في (الأذان): باب وضع اليمنى على اليسرى، من حديث سهل بن سعد: "كانوا يؤمرون بوضع اليد اليمنى. . . ". (¬3) رواه أحمد (4/ 119 و 122)، وأبو داود (855) في (الصلاة): باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (265) في (الصلاة): باب فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والنسائي (2/ 183) في (الافتتاح): باب إقامة الصلب في الركوع، و (2/ 214) باب إقامة الصلب في السجود، وابن ماجه (870) في (الإقامة): باب الركوع في الصلاة، وابن خزيمة في "صحيحه" (591 و 666)، وابن حبان (1892) من حديث أبي مسعود البدري عقبة بن عمرو. وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬4) رواها البخاري في جزء "رفع اليدين في الصلاة"، وتكلم عليها بنفسٍ علميٍ مسهبٍ محققُهُ الشيخُ بديع السندي -رحمه اللَّه- في "جلاء العينين" وهو مطبوع، وقال الذهبي في "السير" (5/ 293) عن هذه السنة: "إنها متواترة". (¬5) ورد عن جمع من الصحابة منها: حديث علي في "صحيح مسلم" (771) في (صلاة المسافرين): باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه. ومنها: حديث أبي هريرة (598) عنده في (المساجد): باب ما يقال بين تكبيرة الإحرام والقراءة. ومنها: حديث ابن عمر: عند مسلم (601). =

الصلاة (¬1)، وحديث: "تَحريمها التَّكبير وتَحليلها التَّسليم" (¬2). وحديث حمل الصِّبْية في الصلاة (¬3)، وأحاديث القُرْعَة (¬4). ¬

_ = ومنها: حديث أنس عند مسلم -أيضًا- (600). وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 229)، و"نصب الراية" (1/ 319)، و"إرواء الغليل"، وتعليقي على "الإشراف" (1/ 251 - 252) للقاضي عبد الوهاب، وانظر "صحيح ابن حبان" (1779). (¬1) رواه أحمد (5/ 7، 11، 12، 15 , 20، 21)، وأبو داود (777 و 778 و 779 و 780) في (الصلاة): باب في السكتة عند الافتتاح، والترمذي (251) في (الصلاة): باب ما جاء في السكتتين في الصلاة، وابن ماجه (844 و 845) في (إقامة الصلاة): باب في سكتتي الإمام، والطبراني (6875 و 6876 و 6942)، والدارقطني (1/ 336)، والبيهقي (2/ 196) من حديث الحسن عن سمرة. وفي بعض طرقه: "فسأل سمرة عمران بن حصين". وأخرجه ابن حبان (1807) لهذا، حيث قال: "الحسن لم يسمع من سمرة شيئًا، وسمع من عمران بن حصين، واعتمادنا فيه على عمران دون سمرة". وانظر الكلام على الحديث في "إرواء الغليل" (2/ 284). (¬2) أخرجه أبو داود في "سننه" (كتاب الصلاة): باب الإمام يحدث بعدما يرفع رأسه، (1/ 165 رقم 618)، والترمذي في "سننه" (كتاب الصلاة): باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور (1/ 8، 9 رقم 3)، وابن ماجه في "سننه" (كتاب الطهارة): باب مفتاح الصلاة الطهور (1/ 101 رقم 275)، والدارمي في "سننه" (كتاب الطهارة والصلاة): باب مفتاح الصلاة الطهور، (1/ 175)، وأحمد في "المسند" (1/ 123 و 129)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 173/ 2962) و (2/ 379/ 3970)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 273)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 372) كلهم عن وكيع عن سفيان عن ابن عقيل عن علي مرفوعًا. قلت: وابن عقيل هذا فيه مقال، لكن للحديث شواهد كثيرة تقويه، انظرها في "نصب الراية" (1/ 307) للزيلعي. (¬3) رواه البخاري (516) في (الصلاة): باب حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، ومسلم (543) في (المساجد): باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، من حديث أبي قتادة. (¬4) منها حديث عمران بن الحصين، الذي يرويه مسلم (1668) في (الأيمان): باب من أعتق شركًا له في عبد، وهو: "أن رجلًا أعتق ستة مملوكين له عند موته، وليس له مال غيرهم، فأقرع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بينهم، فأعتق اثنين ورد أربعة في الرق". ومنها حديث زيد بن أرقم في إقراع علي بين الثلاثة الذين وقعوا على امرأة في طهر واحد، وضحك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما وصله الخبر. رواه أحمد (4/ 373)، وأبو داود (2269) في (الطلاق): باب من قال بالقرعة إذا =

وأحاديث العقيقة (¬1)، وحديث: "لو أَن رجلًا اطَّلع عليك بغير إذنك" (¬2)، وحديث: "أَيَدعُ يَده في فيك تَقْضِمُها كما يقْضِم الفحل" (¬3)، وحديث: "إن بلالًا ¬

_ = تنازعوا في الولد، والنسائي (6/ 183)، وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائد فضائل الصحابة" (1095)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 134) من طريق الأجلح عن الشعبي عن عبد اللَّه بن الخليل عن زيد بن أرقم. وعبد اللَّه بن الخليل -ويقال: ابن أبي الخليل- ذكره ابن حبان في "الثقات" وجعله اثنين، وكذا فعل البخاري في "تاريخه" فقال في الراوي عن زيد بن أرقم: لا يتابع عليه، وقال ابن سعد: كان قليل الحديث. ورواه أبو داود (2271)، والنسائي (6/ 184) من طريق سلمة بن كهيل عن الشعبي عن الخليل -أو ابن الخليل- (وفي "سنن النسائي" عن أبي الخليل أو ابن الخليل). قال: أتي علي. . .، فلم يذكر زيد بن أرقم ولا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورجّح النسائي هذا. ورواه أبو داود (2270)، والنسائي (6/ 182) وابن ماجه (2348) والبيهقي (10/ 266) من طريق صالح الهمداني عن الشعبي عن عبد خير عن زيد بن أرقم قال:. . . فذكره. وسنده صحيح رجاله كلهم ثقات، وصالح هو ابن صالح بن حي الهمداني. ورواه النسائي (6/ 183) من طريق الشيباني عن الشعبي عن رجل من حضرموت عن زيد بن أرقم به. ومن أحاديث القرعة، ما رواه البخاري (2674) في (الشهادات): باب إذا تسارع قوم في اليمين، وفيه. . . "فأمر أن يسهم بينهم في اليمين أيهم يحلف". وذكر المصنف في كتابه "الطرق الحكمية" جلَّ هذه الأحاديث، وخرجتها في تعليقي عليه، وللَّه الحمد والمنّة. (¬1) في (د): "العيقة"! أحاديث العقيقة وردت عن جماعة من الصحابة، منها: حديث عائشة. رواه أحمد (6/ 31، 82، 158، و 251)، وعبد الرزاق (7956)، وابن أبي شيبة (8/ 239)، وأبو داود (2833)، والترمذي (1513) في (الأضاحي): باب ما جاء في العقيقة، وابن ماجه (3163) في (الذبائح): باب العقيقة، وابن حبان (5310)، والطحاوي في "المشكل" (1044) وأبو يعلى (4521) والبيهقي (9/ 301، 303 - 304). وقال الترمذي: حسن صحيح. وانظر أحاديث العقيقة مفصلة في "إرواء الغليل" (4/ 379 و 394)، و"التلخيص الحبير" (4/ 139). (¬2) رواه البخاري (6888) في (الديات): باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، و (6902) باب من اطلع في بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية له، ومسلم (2158) في (الآداب): باب تحريم النظر في بيت غيره، من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه البخاري (2265) في (الإجارة): باب الأجير في الغزو، و (2973) في (الجهاد): =

يُؤذِّن بليل" (¬1). وحديث النَّهي عن صوم يوم الجمعة (¬2)، وحديث النَّهي عن الذَّبح بالسِّنِّ والظّفُر (¬3)، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء (¬4)، وحديث النهي عن ¬

_ = باب الأجير، و (4417) في (المغازي): باب غزوة تبوك، ومسلم (1674) في القسامة: باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، من حديث يعلى بن أمية. (¬1) رواه البخاري (617) في (الأذان): باب أذان الأعمى، و (620) باب الأذان بعد الفجر، و (622 و 623) باب الأذان قبل الفجر، و (1918) في (الصوم): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال"، و (2656) في (الشهادات): باب شهادة الأعمى، و (7248) في (أخبار الآحاد): باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان، ومسلم (1092) في (الصيام): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، من حديث ابن عمر. ورواه البخاري (621) في (الأذان): باب الأذان قبل الفجر، و (5298) في (الطلاق): باب الإشارة في الطلاق والأمور، و (7247) في (أخبار الآحاد): باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الصيام) باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر (1093)، من حديث ابن مسعود. (¬2) أخرج البخاري (1985) (كتاب الصوم): باب صوم يوم الجمعة، ومسلم (1144) (كتاب الصيام): باب كراهة صوم يوم الجمعة منفردًا، من حديث أبي هريرة رفعه: "لا تخصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام، إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم". ولتمام التخريج وأحاديث الباب، انظر "الباعث على إنكار البدع والحوادث" لأبي شامة المقدسي (ص 155 - 165 - بتحقيقي). (¬3) رواه البخاري (2488) في (الشركة): باب قسمة الغنائم، و (2507) باب من عدل عشرة من الغنم بجزور في القسم، و (3075) في (الجهاد): باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم، و (5498) في (الذبائح): باب التسمية على الذبيحة، و (5503) باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، و (5506): باب لا يذكى بالسن والعظم والظفر، و (5509) باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، و (5543) باب إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم غنمًا أو إبلًا، و (5544) إذا ند بعير لقوم فرماه بعضهم بسهم فقتله، ومسلم (1968) في (الأضاحي): باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، من حديث رافع بن خديج. (¬4) حديث صلاة الكسوف: رواه البخاري (1052) في (الكسوف): باب صلاة الكسوف جماعة، و (5197) في (النكاح): باب كفران العشير، ومسلم (907) في (الكسوف): باب ما عرض على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار، من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (1046)، ومسلم (902) من طريق آخر عن ابن عباس. وحديث صلاة الاستسقاء: رواه البخاري (1012) في (الاستسقاء): باب تحويل =

عَسْب الفَحْل (¬1)، وحديث: "المُحْرِم إذا مات لم يُخَمَّرْ رأسه ولم يقْرَبْ طيبًا" (¬2)، إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من [أجل] (¬3) القول بالقياس والرأي؟. فلو كان القياس حقًا لكان أهلُه أتبَعَ الأمة للأحاديث ولا حُفظ لهم تركُ حديث واحد إلا لنصٍّ ناسخٍ له، فحيثُ رأينا كلَّ مَنْ كان أشد توغّلًا في القياس، والرأي كان أشدَّ مخالفةً للأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة علمنا أنَّ القياس ليس من الدين، وإنَّ شيئًا تُتْرَكُ (¬4) له السّننُ لأبينُ شيء منافاةً للدِّين، فلو كان القياس من عند اللَّه لطابقَ السُّنةَ أعظم مطابقة، ولم يخالف أصحابه حديثًا واحدًا منها، ولكانوا أسْعَدَ بها من أهل الحديث، فلْيُرُوا أهلَ الحديث والأثر حديثًا واحدًا صحيحًا قد خالفوه، كما أريناهم آنفًا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس (¬5). قالوا: وقد أخذ اللَّه الميثاق على أهل الكتاب، وعلينا بعدهم، أن لا نقول على اللَّه إلا الحق، فلو كانت هذه الأقيسةُ المتعارضةُ المتناقضة التي ينقضُ بعضُها بعضًا بحيث لا يدري النَّاظرُ فيها أَيُّها الصواب (¬6) حقًا لكانت متَّفقةً يُصدِّق بعضُها بعضًا، كالسُّنَّة التي يصدِّق بعضُها بعضًا، وقال تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [يونس: 82] لا بآرائنا و [لا] (¬7) مقاييسِنا، وقال: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ¬

_ = الرداء في الاستسقاء، و (1024) في الجَهْر بالقراءة في الاستسقاء، و (1025) في كيف حَوّل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ظهره إلى الناس، و (1026) باب صلاة الاستسقاء ركعتين، و (1027) في (الاستسقاء في المصلى)، و (1028) باب استقبال القبلة في الاستسقاء، ومسلم (894) في (الاستسقاء)، من حديث عَبَّاد بن تميم عن عمه عبد اللَّه بن زيد. (¬1) رواه البخاري (2284) في (الإجارة): باب عَسْب الفحل، وأبو داود (3429) في (البيوع): باب في عسب الفحل، والترمذي (1273) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية عسب الفحل، من حديث ابن عمر. (¬2) رواه البخاري (851) في (جزاء الصيد): باب سنة المحرم إذا مات، ومسلم (1206) في (الحج): باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، عن ابن عباس أن رجلًا كان مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فوقصته ناقته -وهو محرم- فمات، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسُّوه بطيب، ولا تخمِّروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيًّا". (¬3) في (ق) و (ك): "ترك". (¬4) في (ق): "تركت". (¬5) في (ق): "حرر للقياس"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة: "القياس تحريره". (¬6) في (ق) بعدها: "ولو كانت حقًا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [لم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقياس بل نهى عنه]

السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فما لم يَقُلْه [سبحانه] (¬1)، ولا هَدَى إليه فليس من الحق، وقال [تعالى] (1): {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، فقسم الأمور قسمين (¬2) لا ثالث لهما: اتِّباعٌ لِما دعا إليه الرسول، واتباع الْهَوَى. فصل [لم يأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقياس بل نهى عنه] والرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَدْعُ أمته إلى القياس قط، بل قد صحَّ عنه أنه أنكر على عمر وأسامة محض القياس في شأن الحُلَّتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسًا للبس على التَّملُّك والانتفاع [والبيع] (¬3) وكسوتها لغيره، وردها عمر قياسًا لتملكها على لبسها، فأسامة أباح، وعمر حَرَّم [قياسًا] (1)، فأبطل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كل واحد من القياسين، وقال لعمر: "إنما بعثت بها إليك لتسْتَمتِعَ بها"، وقال لأسامة: "إني لم أبعثها إليك لتلبَسَها، ولكن بعثت بها إليك (¬4) لتُشقِّقها خُمْرًا لنسائك" (¬5)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما تقدَّم إليهم في الحرير بالنَّص على تحريم لبسه فقط (¬6)، فقاسا قياسًا أخطآ فيه، فأحدهما قاس اللبس على الملك، وعمر قاس التملك على اللبس، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أن ما حرَّمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره، وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس، وهذا عينُ إبطال القياس. وصح عنه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬7) ما رواه أبو ثعلبة الخُشَنيُّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "إن اللَّه فرض فرائض فلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في المطبوع و (ن): "إلى قسمين". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع و (ن): "ولكن بعثها إليك". (¬5) رواه أحمد (2/ 39 - 40)، والبخاري (2104) في (البيوع): باب التجارة فيما يُكره لبسه للرجال والنساء، و (5841) في (اللباس): باب الحرير للنساء، و (6081) في (الأدب): باب من تجمل للوفود، ومسلم (2067 بعد 7) في (اللباس والزينة): باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة على الرجال والنساء، من حديث ابن عمر. وفي (ق) و (ك): "بين نسائك". (¬6) روى البخاري (5832) في (اللباس): باب في لبس الحرير للرجال وقدر ما يجوز منه، ومسلم (2073) في (اللباس): باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة، من حديث أنس بن مالك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحرير: "من لبسه في الدنيا، لم يلبسه في الآخرة". والأحاديث في الباب كثيرة. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نَسْيان فلا تبحثوا عنها" (¬1)، وهذا الخطاب كما يعمّ أَوَّلُه للصحابة ولمن بعدهم فهكذا آخره؛ فلا يجوز أن نبحث ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" (22/ 589)، والدارقطني في "سننه" (4/ 183 - 184)، وأبو نعيم في "الحلية" (17/ 9)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (9/ 2)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 12 - 13)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 314)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1045/ رقم 2012)، وأبو الفتوح الطائي في "الأربعين" (رقم 16) -ومن طريقه الذهبي في "السير" (17/ 625) - من طرق عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة الخشني. والحديث له علتان كما ذكر الحافظ ابن رجب في "شرحه على الأربعين النووية" وهما: الأولى: أن مكحولًا لم يصح له سماع من أبي ثعلبة، كما قال أبو مسهر الدمشقي، وأبو نعيم الحافظ، ثم هو مدلس، وقد عنعن. الثانية: أنه اختلف في رفعه ووقفه، فقد رواه البيهقي (10/ 12) من طريق حفص عن داود موقوفًا. وروي عن مكحول قوله -أيضًا -كما قال الحافظ الدارقطني في "العلل" (1170) ثم قال: "والأشبه بالصواب مرفوعًا وهو أشهر"، وقد حسن الحديث النووي، وأبو بكر السمعاني في "أماليه" كما قال ابن رجب، وأبو الفتوح الطائي، قال في "أربعينه" (ص 108): "هذا حديث كبير عال حسن، من حديث مكحول الشامي عن أبي ثعلبة الخشني. تفرد به داود بن أبي هند عن مكحول"، وقال الهيثمي (1/ 117): "ورجاله رجال الصحيح". لكن تبقى فيه علة الانقطاع بين مكحول وأبي ثعلبة. وله شاهد من حديث أبي الدرداء بلفظ: "ما أحل اللَّه في كتابه فهو حلال، وما حرمه فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. . . ". رواه الدارقطني (2/ 137)، والبزار (123)، و (2231)، و (2855)، والحاكم (2/ 375)، وعنه البيهقي (10/ 12)، وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" (5/ 531) - من طريق عاصم بن رجاء بن حيوة عن أبيه عن أبي الدرداء مرفوعًا، قال البزار: وإسناده صالح. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 121): "وإسناده حسن، ورجاله موثقون". قلت: عاصم بن رجاء فيه كلام، فلا يرقى حديثه للصحيح. وحسنه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "غاية المرام" (رقم 2). فتصحيح المصنف لحديث أبي ثعلبة فيه نظر، نعم، قد يكون صحيحًا لغيره لشواهده، انظرها مع تخريجها في تعليقي على "تحقيق البرهان" (ص 137/ ط الثانية)، والتعليق على "سنن سعيد بن منصور" (2/ 320 - 330).

عما سكت عنه ليحرمه أو يوجبه (¬1). وقال عبد اللَّه بن المبارك: ثنا عيسى بن يونس، عن حَرِيز بن عثمان (¬2)، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعيِّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تفترق أمتي على بِضْع وسبعين فِرْقة، أعظمها فتنة على أمتي قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فيحِلُّون الحرام، ويحرِّمون الحلال" (¬3). قال قاسم بن أصبغ: ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي: ثنا نُعيم بن حَمَّاد: ثنا عبد اللَّه، فذكره. وهؤلاء كلهم أئمةٌ ثقات حُفاظ إلا حَريز (¬4) بن عثمان فإنه كان منحرفًا عن علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬5)، ومع هذا فاحتج به البخاري في "صحيحه"، [وقد رُوي عنه أنَّه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علي، ونُعيم بن حماد إمام جليل، وكان سيفًا على الجهمية، روى عنه البخاري في "صحيحه"] (¬6). وقد صح عنه صحة (¬7) تقرب من التواتر أنه قال: "ذروني ما تركتم، فإنما هلك الذين مِنْ قَبْلكم بكثرة مسائِلِهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتُكُم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكُم به فأتوا منه ما استطعتم" (¬8) فتضمن هذا الحديث أنَّ ما أَمر به [أَمْر] (¬9) إيجابٍ فهو واجبٌ، وما نَهَى عنه فهو حرام، وما سكت عنه فهو [عَفْو] (¬10) مباحٌ, فبطل ما سوى ذلك، والقياسُ خارجٌ عن هذه الوجوه الثلاثة؛ فيكون باطلًا، والمقيسُ مسكوتٌ عنه بلا ريب؛ فيكون عفوًا بلا ريب، فإلحاقه ¬

_ (¬1) في (ق): "لنحرمه أو نوجبه". (¬2) وقع في المطبوع و (ك) و (ق): "جرير بن عثمان" وهو خطأ، وصوابه "حريز بن عثمان"، وهو مترجم في "تهذيب التهذيب" (2/ 207)، و"ميزان الاعتدال" (1/ 475)، و"ضعفاء العقيلي" (1/ 321). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في المطبوع و (ك) و (ق): "جرير"! وصوابه "حريز" كما قدمناه آنفًا. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬6) نعيم بن حماد روى له البخاري مقرونًا بغيره، وهو مترجم في "التاريخ الكبير" (8/ 100)، و"الجرح والتعديل" (8/ 463) لابن أبي حاتم، و"الكامل" (7/ 2482) لابن عدي، و"تهذيب الكمال" (29/ 466)، و"الميزان" (4/ 267) وغيرها. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ق) و (ك): "بصحة". (¬8) تقدم تخريجه. (¬9) في (ق) و (ك): "من". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

بالمحرم [تحريمٌ لما] (¬1) عفا اللَّه عنه، وفي قوله: "ذروني ما تركتكم" بيانٌ جليٌّ أَنَّ مَا لَا نصَّ فيه فليس بحرام ولا واجب. ودل الحديث على أن أوامره على الوجوب حتى يجيء ما يرفع ذلك، أو يُبيّن أن مراده الندب، وأن ما لا نستطيعه فساقط (¬2) عنا. وقد روى ابنُ المُغَلِّس: ثنا عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن: ثنا أبو قِلابة الرَّقاشِيُّ: ثنا أبو الربيع الزَّهرانيُّ: ثنا سيف بن هارون البُرْجُميُّ، عن سليمان التَّيميُّ، عن أبي عثمان النَّهديِّ، عن سلمان [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) قال: سُئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أشياء، فقال: "الحلال ما أحل اللَّه، والحرام ما حرم اللَّه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬4) وهذا إسناد جيدٌ مرفوع، واللَّه المستعان، وعليه التُّكْلَان. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "يحرم ما". (¬2) في (ق): "ساقط". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) أخرجه الترمذي في اللباس: باب ما جاء في لبس الفراء (4/ 220) (رقم: 1726)، وابن ماجه في الأطعمة: باب أكل الجبن والسمن (2/ 1117) (رقم: 3367) من طريق سيف بن هارون البرجميّ عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي به. وقال الترمذي في "جامعه": "وهذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وروى سفيان وغيره عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان قوله، وكان الحديث موقوف أصح، وسألت البخاري عن هذا الحديث، فقال: ما أراه -أي: أظنه- محفوظًا، روى سفيان عن سليمان التيمي عن أبي عثمان عن سلمان موقوفًا، قال البخاري: وسيف بن هارون مقارب الحديث، وسيف بن محمد عن عاصم ذاهب الحديث". ومن هذا الطريق أخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 115)، والطبراني في "الكبير" (6124)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 10 رقم 1503)، -وقال: "هذا خطأ، رواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليس فيه سلمان وهو الصحيح"- وبيبي الهرثمية في "جزئها" (رقم 85)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 212)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 346)، وابن عدي في "الكامل في ضعفاء الرجال" (3/ 1267)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 174)، والبيهقي في "السنن" (10/ 12)، والمزي في "تهذيب الكمال" (12/ 335)، وقال الحاكم: "هذا حديث مفسر في الباب، وسيف بن هارون لم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي في "التلخيص" فقال: "قلت: ضعفه جماعة" يعني سيفًا هذا، ونقل العقيلي عن يحيى بن معين، أنَّه قال فيه، "ليس سيف بشيء"، ثم قال عقب روايته لهذا الحديث: "ولا يحفظ إلا عنه بهذا الإسناد". قلت: فقول المصنف: "هذا إسناد جيد" قول غريب. ويغني عن هذا الحديث حديث أبي الدرداء السابق واللَّه الموفق.

فصل [الصحابة نهوا عن القياس أيضا]

فصل [الصحابة نهوا عن القياس أيضًا] وأما الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬1) فقد قال أبو هريرة لابن عباس: إذا جاءك الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا تَضرِبْ له الأمثال (¬2). وفي "صحيح مسلم" من حديث سَمُرة بن جُنْدب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحبُّ الكلام إلى اللَّه [عز وجل] (¬3) أربع" فذكر الحديث، وفي آخره: "لا تُسمينَّ غلامك يسارًا ولا رباحًا ولا نَجيحًا ولا أفلح، فإنّك تقول: أثمَّ هو؟ فيُقال: لا، إنما هن أربع فلا تزيدُن [عليّ" (¬4). قالوا: فلم يُجِزْ سمرة] (¬5) أن ينهى عما عدا الأربع قياسًا عليها، وجعل ذلك زيادة فلم يزد على الأربع بالقياس التسمية بسعد وفَرَج وخَير (¬6) وبَرَكة ونحوها، ومقتضى قول القياسيين (¬7) أن الأسماء التي سكت عنها النص أولى بالنَّهي؛ فيكون إلحاقها بقياس الأولى أو مثله. فإن قيل: فلعل قوله: "إنما هُنَّ أربع فلا تزيدُنَّ عليَّ" مرفوع من نفس كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو لعل سمرة أراد به (¬8)، إنما حفظتُ هذه الأربعَ فلا تزيدُنَّ عليَّ في الرواية. قيل: أما السؤال الأول فصريح في إبطال القياس، فإنَّ المعنى واحد، ومع هذا فخص النهي بالأربع (¬9)، وأما السؤال الثاني فقوله: "إنما هن أربع" يقتضي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) رواه الترمذي (79) في (الطهارة): باب الوضوء مما غيرت النار، وابن ماجه (22) في (المقدمة): باب تعظيم حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتغليظ على من عارضه، و (485) في (الطهارة): باب الوضوء مما غيرت النار. من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة قالها لابن عباس بعد أن أخبر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "توضؤوا مما غيرت النار" فقال ابن عباس: "أتوضأ من الحميم؟ فقال. . . " وذكره، وإسناده حسن. ورواه بنحوه: أحمد (2/ 503)، وابن خزيمة (146)، والبيهقي (1/ 46). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) هو في "صحيح مسلم" (كتاب الآداب): باب كراهية التسمية بالأسماء القبيحة (2137). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "على ما قالوا قلت يستجيز، فلم يجز سمرة بن جندب" وفي (ق): "سمرة بن جندب". (¬6) في (ق) و (ك): "وفرج وخيره". (¬7) في (ق): "القياسين". (¬8) في (ق): "أراد بها". (¬9) في (ق) و (ك): "فخص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأربع".

تخصيصَ الرواية والحكم بها، ونفي الزيادة عليها روايةً وحكمًا؛ فلا تنافي بين الأمرين. وقال شعبة: سمعت سُليمان (¬1) بن عبد الرحمن قال: سمعت عبيد (¬2) بن فيروز قال: قلت للبراء بن عازب: حدثني ما كَرِه أو نهى عنه النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أربعٌ لا تُجزيء في الأضاحي"، فذكر الحديث، قال: فإني أكره أن تكون ناقصة القَرْن أو (¬4) الأذن، قال: "فما كرهتَ منه فدَعْه، ولا تُحَرِّمه على أحد (¬5)، ولم يأذنْ له في القياس على الأربع، ولم يَقسْ عليها هو ولا أحد من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. وقال عمرو بن دينار، عن أبي الشَّعْثاء، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تَقَذُّرًا (¬6)، فبعث اللَّه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنزل عليه كتابه، وأحلَّ حلاله، وحرَّم حرامه؛ فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو (¬7). ¬

_ (¬1) في (ن): "سلمان"! وهو خطأ. (¬2) في جميع الأصول: "عبدة" وصوابه ما أثبته. (¬3) في (ق) و (ك): "رسول اللَّه". (¬4) في (ن) و (ق): "و". (¬5) أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 284 و 289)، والطيالسي (749)، والدارمي (2/ 76 - 77)، وأبو داود في "سننه" (كتاب الضحايا): باب ما يكره في الضحايا (2802)، والترمذي في "سننه" (كتاب الأضاحي): باب ما لا يجوز في الأضاحي (1497)، وفي "العلل الكبير" (446)، والنسائي في "سننه" (كتاب الضحايا): باب العجفاء (7/ 214 - 215) و (7/ 215) باب العرجاء، و (7/ 215 - 216) باب العجفاء، وابن ماجه (3144) في (الأضاحي): باب ما يكره أن يُضحى به، وابن الجارود (907)، وابن خزيمة (2912)، والحاكم (1/ 467 - 468)، والطحاوي (4/ 168)، وابن حبان (5919، 5921، 5922)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (رقم 873 - ط نادر و 900 - ط الفلاح) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (19/ 228)، والبيهقي (5/ 242 و 9/ 273 و 274) من طريق سليمان بن عبد الرحمن عن عُبيد بن فيروز عن البراء. وإسناده صحيح رجاله ثقات، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه لقلة روايات سليمان بن عبد الرحمن، وقد أظهر علي بن المديني فضائله وإتقانه، ولهذا الحديث شواهد متفرقة بأسانيد صحيحة، لم يخرجاها". وانظر: "علل ابن أبي حاتم" (2/ 42 - 43). (¬6) في (ن) و (ق): "تقززًا". (¬7) أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب الأطعمة): باب ما لم يُذكر تحريمه (3/ 354 - 355/ رقم 3800)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 436)، و"الإحكام" (8/ 28) من طريق محمد بن شريك المكي عن عمرو بن دينار به. وإسناده صحيح، وفي آخره: "وتلا: =

وقال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬1): قد وضحت الأمور، وتبيَّنت السنة (¬2)، ولم يُترك لأحد منكم متكلم إلا أن يضلَّ عبدٌ (¬3). وقال ابن مسعود: مَنْ أتى الأمرَ على وجهه فقد بُيِّن له، وإلا فواللَّه ما لنا طاقة بكل ما تُحدِّثون (¬4)، ولو كان القياس من الدين لكان له ولغيره طاقة بقياس كل ما يَرد عليهم على نظيره بوصف جامع شبهي، وإذا كان القياسيون (¬5) لا يعجزون عن ذلك فكيف الصحابة؟ ولو كان القياس من الدين لكان الجميع مُبيّنًا، ولما قسم ابن مسعود وغيره ما يرد عليه إلى ما بيَّنه اللَّه وإلى ما لم يبينه؛ فإن اللَّه على قولكم قد بَيَّن الجميعَ بالنَّصِ والقياسِ. فإن قيل: فهذا (¬6) ينقلب عليكم، فإنكم تقولون: إن اللَّه [سبحانه] (¬7) قد بيَّن [الجميع (¬8). قلنا: ما بيَّنه اللَّه سبحانه نطقًا فقد بَيَّن حكمه، وما لم يبيِّنه نطقًا (بل) سكت عنه فقد بَيَّن لنا] (¬9) أنه عفو، وأما القياسيون (¬10) فيقولون: ما سكت عنه فقد بيَّن أنَّ حكمه حكم ما تكلم به، وفَرْقٌ عظيم بين الأمرين، ونحن أسعد بالبيان النطقي ¬

_ = {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} إلى آخر الآية". وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (4/ 115)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ 1404 رقم 8000)، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 184) - وعبد بن حميد، وأبو الشيخ؛ كما في "الدر المنثور" (3/ 372). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬2) في (ق) و (ك): "وسنت السنة" وكذا في "الإحكام". (¬3) أخرجه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 28 - 29) وزاد في آخره: "عن عمد"، وفيه عيسى بن حنيف -وفي المطبوع "حبيب" وهو خطأ، والتصويب من "الإكمال" (2/ 559)، و"توضيح المشتبه" (3/ 374). (¬4) أخرجه الطبراني في "معجمه الكبير" (9/ 227، 382 رقم 8982، 9636)، والدارمي في "السنن" (1/ 46)، وابن حزم في "الأحكام" (8/ 29)، وابن بطة في "الإبانة" (1/ 332 رقم 188) بسندٍ صحيح عن النزال بن سبرة قال: شهدتُ عبد اللَّه، وأتاه رجل وامرأة في تحريم، فقال: "إن اللَّه قد بيَّن، فمن أتى الأمر من قبل الوجه فقد بيَّن، ومن خالف فواللَّه ما نطيق خلافكم". (¬5) في (ق): "القياسون". (¬6) في (ق) و (ك): "هذا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ق): "قد بين أنه عفو". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬10) في (ق): "القياسيون".

والسكوتي منكم لتعميمنا البيانين وعدم تناقضنا فيهما، وباللَّه التوفيق. وقد تقدم قول ابن مسعود: ليس عامٌ إلا والذي بعدهُ شر منه، لا أقول: عامٌ أَمطرُ من عام، ولا عام أخْصَبُ من عام، ولا أميرٌ خير من أمير، ولكن ذهابُ خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلامُ وينثلم (¬1). وتقدم قول [ابن] عمر: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري (¬2)، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) هو قول ابن عمر: رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1387)، وابن حزم في "الإحكام" (8/ 29 - 30) من طريق عبيد اللَّه بن محمد بن عبد العزيز العمري عن الزبير بن بكار عن سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن داود بن الحصين عن طاوس عن ابن عمر به. وهذا إسناد ضعيفٌ جدًا. عبيد اللَّه بن محمد، ضعفه الدارقطني ورماه النسائي بالكذب، وسعيد بن داود بن أبي زنبر، قال ابن معين: ما كان ثقة، وقال أبو زرعة: ضعيف، وقال ابن حبان: يروي عن مالك أشياء مقلوبة. وقال ابن عبد البر بعده: رواه أبو حُذافة عن مالك عن نافع عن ابن عمر: "العلم ثلاثة. . . " فذكره. أقول: أبو حذافة هذا هو أحمد بن إسماعيل بن محمد بن نبيه. قال الدارقطني: ضعيف أدخلت عليه أحاديث في غير "الموطأ" فرواها. وقال ابن عدي: حدث عن مالك وغيره بالبواطيل. ثم وجدت طريق أبي حذافة هذا أسنده الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 23)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 179) من طريقين عنه به. ثم قال ابن عدي: وهذا الحديث بهذا الإسناد يرويه شيخ يقال له: عمرو -كذا وصوابه عمر- بن عصام عن مالك. أقول: وجدت في "معجم الطبراني الأوسط" (1001) ومن طريق إبراهيم بن المنذر عن عمر بن حصين عن مالك به. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 172) فيه حصين غير منسوب ... ولم أر من ترجمه. أقول: في الطبعتين "للمعجم الأوسط"، وفي "مجمع البحرين" -أيضًا- وقع اسم الراوي "عمر بن حصين"، وهذا لم نجد له ترجمة والصواب أنه (ابن عصام)، فأخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 392) -ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 366 رقم 1111 - ط دار ابن الجوزي) - نا إبراهيم بن المنذر به. وعمر بن عصام ترجمه ابن أبي حاتم (6/ 128) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وهو ممن روى عن مالك، كما تراه في "مجرد أسماء الرواة عن مالك" (ص 113 رقم 528) =

وقوله لأبي الشعثاء: لا تُفتِيَنَّ إلا بكتاب ناطق، أو سنة ماضية (¬1). وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق الشَّيْباني قال: سمعت عبد اللَّه بن أبي أوفى يقول: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نبيذ الجَرِّ (¬2) الأخضر، قلت: فالأبيض؟ قال: لا أدري (¬3). ولم يقل: [و] (¬4) أي فرق بين الأخضر والأبيض، كما يبادرُ إليه القياسيون (¬5). وقال الزهري: كان محمد بن جُبير بن مُطْعِم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش، فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله (¬6)، ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالًا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه، ولا تُؤثر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأولئك جهالكم (¬7). ومعلومٌ أن القياس خارج عن كليهما. ¬

_ = لرشيد الدين العطار، و"ترتيب المدارك" (2/ 208)، ثم وجدت الأثر من طريق ابن المنذر به عند ابن حزم في "الإحكام" (8/ 30) وفيه: "ثنا طاهر بن عصام"!! وفيه: "قال -أي ابن المنذر- طاهر وكان ثقة" و"طاهر" تحريف عن "عمر" كما قدمناه، واللَّه أعلم. (¬1) رواه الدارمي (1/ 59)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 204) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 30)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 163)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 86)، وأبو إسماعبل الهروي في "ذم الكلام" (رقم 274، 322) من طريق يزيد بن عقبة، حدثنا الضحاك عن جابر بن زيد أبي الشعثاء أن ابن عمر. . . وفيه يزيد بن عقبة ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" ولم يذكر فيه شيئًا، ونقل الذهبي في "الميزان" عن السُّليماني قال: فيه نظر، ووثقه ابن حبان. ووقع في (ق): "وسنة ماضية". (¬2) الجر: "جمع جرة، وهو الإناء المعروف من الفخار" (و). (¬3) هو من هذا الطريق في "سنن النسائي" (8/ 304) في (الأشربة): باب الجر الأخضر، ولفظه: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض. لكن اللفظ الذي ذكره المؤلف رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 30) من طريق ابن مهدي حدثنا سفيان، والنسائي (8/ 304) من طريق شعبة كلاهما عن أبي إسحاق به. وأصل الحديث في "صحيح البخاري" (5596) في (الأشربة): باب ترخيص النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأوعية والظروف بعد النهي من طريق عبد الواحد عن أبي إسحاق عن ابن أبي أوفى قال: نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجر الأخضر. قلت: أنشرب في الأبيض؟ قال: لا. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "القياسون". (¬6) في (ق) و (ك) ت "كما هو أهله". (¬7) أخرجه البخاري (3500) في (المنا قب): باب مناقب قريش، و (7139) في (الأحكام): باب الأمراء من قريش، ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 31)، ومنه ينقل المصنف.

وتقدم قول معاذ: تكون فتنٌ يكثر فيها المال، ويُفتح [فيها] القرآن، حتى يقرأه الرجل والمرأة والكبير والصغير (¬1) والمؤمن والمنافق، ويقرأه الرجل فلا يُتَّبع، فيقول: واللَّه لأقرأنه علانية، فيقرؤه علانية فلا يتبع، فيتخذ مسجدًا ويبتدع كلامًا ليس من كتاب اللَّه ولا من سنة رسول اللَّه فإياكم وإياه فإنها بدعةٌ وضلالة (¬2). وقال عبد العزيز بن المطلب، عن ابن مسعود: إنَّكم إنْ عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرًا مما حُرِّم عليكم، وحرَّمتم كثيرًا مما أُحلَّ لكم (¬3). وقال الأوزاعي، عن عَبْدة بن أبي لُبابة، عن ابن عباس: منْ أحدث رَأيًا ليس في كتاب اللَّه ولم تمض به سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَدْرِ على ما هو منه إذا لقي اللَّه [عز وجل] (¬4). وقال أبو خيثمة: حَدّثنا جرير، [عن ليث بن أبي سليم] عن مجاهد أن عمر نَهى عن المُكايلة، يعني المقايسة (¬5). ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك) و"الإحكام": "والصغير والكبير" بتقديم وتأخير. (¬2) رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 232)، وابن حزم في "الإحكام" (8/ 31)، وإسناده جَيّد، وله عنده إسناد آخر (1/ 233)، وفيه مجهول، وقد تقدم تخريجه مسهبًا وللَّه الحمد والمنة. (تنبيه) ما بين المعقوفتين من "الإحكام" وسقط من جميع الأصول، وكذا كلمة "كلامًا" وبدلها في سائر الأصول: "فكل ما" ووقع في (ق): "ولا من سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-"!! (¬3) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 182 أو 1/ 457 رقم 486 - ط دار ابن الجوزي) من طريق إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عبد العزيز به، وعبد العزيز بن المطلب هو ابن حنطب، لم يدرك ابن مسعود. وروى الدارمي في "المقدمة" (1/ 47)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 183 و 184)، وابن حزم في "الإحكام" (8/ 32 - 33)، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" (2016) من طريق عيسى بن أبي عيسى الخياط عن الشعبي نحوه، وعيسى هذا ضعيفٌ جدًا. (¬4) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 458 رقم 488) من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي به، ورجاله ثقات إلا أن فيه عنعنة الوليد. وأخرجه البيهقي في "المدخل" (190) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وواضح أن في الطريق إلى سعيد بن جبير سِقطًا لم ينبه عليه محقق الكتاب. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) رواه أبو خيثمة في "العلم" (65) -ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 182) أو (1/ 455 رقم 481 - ط دار ابن الجوزي، وابن حزم في "الإحكام" (8/ 28) - من طريق جرير به. =

فصل [التابعون يصرحون بذم القياس]

وقال (¬1) الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا حفص بن غياث، عن أبيه عن مجاهد قال: [قال عمر] (¬2): إياك والمكايلة، يعني: المقايسة (¬3). وقال (1) الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا حفص بن غِياث، عن الأعمش، عن حَبيب، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: قال عبد اللَّه: يا أيها الناس إنكم سَتُحْدثون (¬4) ويُحْدَث لكم، فإذا رأيتم مُحْدَثًا فعليكم بالأمر الأول (¬5) [وباللَّه التوفيق] (¬6). فصل [التابعون يصرحون بذمِّ القياس] وكذلك أئمة التابعين وتابعوهم (¬7) يصرِّحون بذم القياس، وإبطاله، والنهي عنه. ¬

_ = ورواه الدارمي (1/ 66)، والبيهقي في "المدخل" (211)، من طريق سفيان الثوري عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن عمر. وليث ضعيف جدًا, ومجاهد لم يدرك عمر. وما بين المعقوفتين سقط من جميع الأصول، وتحرف أبو خيثمة فيها جميعًا إلى "أبو حنيفة"!!. (¬1) في (ك): "قال". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وبدله في (ك): "قال". (¬3) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 455 - 456 رقم 482) من طريق عمر بن محمد الجوهري نا أبو بكر الأثرم به، وفي جميع النسخ -الخطية والمطبوعة- من "الإعلام": "جعفر بن غياث عن أبيه"!! وهو خطأ، صوابه ما أثبتناه. وهذا الإسناد ضعيف ومنقطع، ليث هو ابن أبي سليم، ومجاهد لم يدرك عمر، وانظر ما قبله. (¬4) في (ن): "تحدثون". (¬5) أخرجه الدارمي (1/ 61) -ومن طريقه أبو شامة في "الباعث" (67 - بتحقيقي) - وابن أبي شيبة (14/ 137)، ومحمد بن نصر في "السنة" (رقم 80)، وابن بطة في "الإبانة" (1/ 329 - 330)، واللالكائي في "السنة" (1/ 77 رقم 85)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 182)، ورجاله ثقات. حبيب هذا هو ابن أبي ثابت، لكنه كثير الإرسال والتدليس، وصححه ابن حجر في "الفتح" (13/ 253)، وابن رجب في "جامع بيان العلم" (ص 292). وخالف الأعمش، سفيانُ بن سعيد فرواه عن حبيب عن عمارة بن عمير عن ابن مسعود، أخرجه وكيع في "الزهد" (رقم 316)، وأحمد في "الزهد" (237)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 182). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وحدها. (¬7) في (ق) و (ك): "أئمة التابعين وتابعيهم".

قال الطحاوي: ثنا ابن عُلَيَّة: حدثني عَمرو بن أبي عِمْران (¬1): ثنا يحيى بن سُليم (¬2) الطائفي: حدثني داود بن أبي هند قال: سمعتُ محمد ابن سيرين يقول: القياسُ شُؤم، وأول من قاس إبليس [فهلك] (¬3)، وإنما عُبدتِ الشمسُ والقمر بالمقاييس (¬4). وقال ابن وهب: أخبرني مسلمة (¬5) بن علي أن شُريحًا الكندي -هو القاضي- قال: إن السنة سبقت قياسكم (¬6). وقال ابنُ أبي حاتم: ثنا محمد بن إسماعيل الأَحْمسي: ثنا وهب بن إسماعيل، عن داود الأوْدي (¬7) قال: قال لي الشعبي: احفظ عني ثلاثًا (¬8) لها شأن (¬9): "ذا سُئِلت عن مسألة فأجَبْتَ فيها فلا تتبع مسألتك: أرأيت؛ فإن اللَّه قال ¬

_ (¬1) في (ن): "أبي عمر". (¬2) في المطبوع و (ك) و (ق): "سليمان" والتصويب من مصادر التخريج. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 32) من طريق الطحاوي به، ووقع في إسناده تحريف كثير، يصحح من ها هنا. ورواه الدارمي (1/ 65)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1675 ص 892)، والطبري (8/ 98)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 466 رقم 506)، والبيهقي في "المدخل" (223)، وأبو إسماعيل الهروي في "ذم الكلام" (رقم 356) من طريق يحيى بن سليم عن داود بن أبي هند عن ابن سيرين. ويحيى هذا قال فيه الحافظ: "صدوق يخطيء"، وهو من رجال "الصحيحين" وباقي رواته ثقات، فإسناده حسن. (¬5) في (ق): "مسلم". (¬6) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 32) من طريق ابن وهب به. وابن وهب وشريح من الثقات الأكابر وأما مسلمة -وفي المطبوع: مسلم، وهو خطأ- بن علي فهو ضعيف جدًا. ورواه الدارمي (1/ 66) من طريق أبي بكر الهذلي عن الشعبي عن شُريح، وفيه كلام طويل وأبو بكر الهذلي إخباري متروك كما قال ابن حجر، وأخرجه عبد الرزاق (9/ 385) مختصرًا دون الشاهد، وعزاه ابن حجر في "الفتح" (12/ 236) لابن المنذر، وقال: "سنده صحيح". وذكره ابن عبد البر (2024 ص 1050) عن شُريح دون إسناد. وفي (ق) و (ك): "إن السنة هي سيف قياسكم". (¬7) في (ق) و (ن) و (ك): "الأزدي". (¬8) في (ق): "ثلاث". (¬9) كذا في (ق) و"الإحكام"، وفي سائر النسخ: "بيان".

في كتابه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] حتى فرغ من الآية الأولى؛ والثانية (¬1) إذا سئلت عن مسألة فلا تقسْ شيئًا بشيء، فربما حرمت حلالًا أو حَلَّلت حرامًا، وإذا سئلت عمَّا لا تعلم فقل: لا أعلم، وأنا شريكك (¬2). وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، عن عيسى بن أبي عيسى، عن الشعبي أنه سمعه يقول: "إياكم والمقايسة؛ فوالذي نفسي بيده إنْ أخذتم بالمقايسة لتُحِلُّنَّ الحرام ولتُحَرِّمُنَّ الحلال، ولكن ما بلغكم عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاحفظوه (¬3). وقال الطحاوي: ثنا يوسف بن يزيد القَرَاطيسي: ثنا سعيد بن منصور: ثنا جَرير بن عبد الحميد، عن المغيرة بن مِقْسَم، عن الشعبي قال: السنة لم توضع بالقياس (¬4). وقال الخُشَني: ثنا محمد بن بشار: ثنا يحيى بن سعيد القطان: ثنا صالح بن مسلم قال: قال لي عامر الشعبي يومًا، وهو آخذ بيدي: إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس (¬5). ¬

_ (¬1) في (ق): "والثاني". (¬2) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2096 ص 1076) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 32) -. وداود الأودي هو ابن يزيد بن عبد الرحمن الزعافري ضعيف، وانظر "الموافقات" (5/ 384 - بتحقيقي). (¬3) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 32 - 33) من طريق ابن وهب به. ورواه الدارمي (1/ 47)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2016 ص 1047)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 183 - 184)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 225) من طرقٍ عن عيسى بن أبي عيسى عن الشعبي. وعيسى هذا هو الحَنَّاط ويقال الخياط: متروك الحديث. وله عنه طريق أخرى عند ابن قتيبة في "تأويل مختلف الحديث" (ص 57)، والبيهقي في "المدخل" (225)، والهروي في "ذم الكلام" (358)، ورواته ثقات. (¬4) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 33) عن ابن عبد البر في "الجامع" (2025) من طريق الطحاوي به، ورواته ثقات، وعنده "بالمقاييس" بدل "بالقياس"، ورواه البيهقي في "المدخل" (227) من طريق أحمد بن نجدة وابن حزم (8/ 33) من طريق محمد بن علي الصائغ كلاهما عن سعيد بن منصور به. وإسناده صحيح. ووقع في (ق): "يونس بن زيد"! (¬5) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 33) من طريق الخشني به. =

وقال عَبَّاس بن الفَرَج [الرياشي] (¬1) عن الأصمعي أنه قيل له: إن الخليل بن أحمد يُبطل القياس، فقال: أخذ هذا عن إياس بن معاوية (¬2). وقال علي بن عبد العزيز [البغوي] (¬3): ثنا أبو الوليد القرشي: أخبرنا محمد بن عبد اللَّه بن بَكَّار القرشي، ثنا سليمان بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى الربعي، عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال لأبي حنيفة: اتق اللَّه ولا تقس، فإنَّا نقف (¬4) غدًا نحن ومن خَالَفنا بين يدي اللَّه، فنقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال اللَّه. وتقول أنت وأصحابك: رأينا، وقسنا. فيفعل اللَّه بنا وبكم ما يشاء (¬5). وبهذا الإسناد إلى ابن شبرمة قال: دخلتُ أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد ابن الحنفية، فسلَّمتُ عليه وكنت له صديقًا، ثم أقبلتُ على جعفر، وقلت [له] (3): أمْتَعَ اللَّه بك، هذا رجلٌ من أهل العراق، وله فِقْهٌ وعَقْل، فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه، ثم أقبل عليَّ فقال: أهو النعمان؟ فقال له أبو حنيفة: نعم، أصلحك اللَّه، فقال له جعفر: اتق اللَّه ولا تقس الدين برأيك، فإنَّ أول من قاس إبليس؛ إذ أمره اللَّه بالسجود لآدم، فقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]، ثم قال لأبي حنيفة: أَخْبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان، فقال: لا أدري، قال جعفر: هي لا إله إلا اللَّه، فلو قال: "لا إله" ثم أمسك كان مشركًا؛ فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان، ثم قال له: ويحك! أيهما أعظمُ عند اللَّه: قتلُ النفس التي حَرَّم اللَّه، أو الزنا؟ قال: بل قتلُ ¬

_ = ورواته ثقات مشهورون، والخشني هو الحافظ الرحال محمد بن عبد السلام القرطبي وصالح بن مسلم، هو صالح بن صالح بن حي. ورواه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 320) من طريق أيوب بن رشيد عن صالح بن مسلم به، ومن طريق عبد الرحمن بن حماد عن صالح به. ورواه ابن عبد البر في "الجامع" (2097) من طريق آخر عن الشعبي به. (¬1) في (ق) و (ك): "الرباني". (¬2) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 34) من طريق الزُّبيدي في "طبقات النحوين واللغوين" (ص 49) بسنده إلى الرياشي به. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) كذا في (ق) و"الإحكام"، وفي سائر النسخ: (غدًا نقف). (¬5) أخرجه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 34) بسنده إلى علي بن عبد العزيز به، وانظر ما سيأتي.

النفس، فقال له جعفر: إن اللَّه [قد] (¬1) قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيها (¬2) أعظم عند اللَّه: الصوم، أو الصلاة؟ قال: بل الصلاة، قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام (¬3) ولا تقضي الصلاة؟ اتق اللَّه يا عبد اللَّه، ولا تقس، فإنا نقفُ غدًا نحن وأنت بين يدي اللَّه (¬4) فنقول: قال اللَّه [عز وجل] (¬5)، وقال رسول اللَّه (¬6) وتقول أنت وأصحابك: قِسْنَا، ورأينا، فيفعل اللَّه بنا وبكم ما يشاء (¬7). وقال ابن وهبٍ: سمعت مالك بن أنس يقول: الزَم ما قاله رسول اللَّه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (1) في حجة الوداع: "أمران تركتُهُما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب اللَّه، وسنة نبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] " (¬8). [قال ابن وهب] (1): وقال مالك: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إمام المسلمين، وسيد العالمين، [يُسئل عن الشيء فلا يُجيب حتى يأتيه الوحي من السماء" (¬9). فإذا كان رسول رب العالمين] (1) لا يجيب إلا بالوحي، وإلا لم يُجبْ، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه أو قياس، أو تقليد من يُحْسَن به الظن (¬10)، أو عرف، أو عادة، أو سياسة، أو ذوق، أو كشف، أو منام، أو استحسان، أو خرصٍ، واللَّه المستعان وعليه التكلان. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ق): "أيهما". (¬3) في (ق): "الصوم". (¬4) في (ق): "اللَّه سبحانه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق) بعدها: "-صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬7) روى هذه القصة الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 185 - 188 أو 1/ 464 - 466 رقم 505 - ط دار ابن الجوزي) بإسناد البغوي السابق. وبإسناد آخر من طريق أحمد بن علي الأبار عن هشام بن عمار عن محمد بن عبد اللَّه القرشي عن ابن شبرمة فذكره. وله طريق أخرى عند الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (164)، وأبي نعيم في "الحلية" (3/ 196)، وأبي إسماعبل الهروي في "ذم الكلام" (رقم 354). (¬8) هو هكذا في "الموطأ" (ص 899) بلاغًا، ورواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 35) من طريق ابن وهب به. والحديث له طرق وألفاظ بهذا المعنى انظر "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1761). وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬9) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 35) من طريق ابن وهب به، وذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (ص 839). (¬10) في (ق) و (ك): "الظن به" بتقديم وتأخير.

وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو: ثنا يزيد بن عبد ربه قال: سمعت وكيع بن الجَرَّاح يقول ليحيى بن صالح الْوُحَاظِيِّ: يا أبا زكريا، احذر الرأي فإنِّي سمعتُ أبا حنيفة يقول: البولُ في المسجد أحسن من بعض قياسهم (¬1). وقال عبد الرزاق: قال لي حماد بن أبي حنيفة: [قال أبي: مَنْ لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه (¬2). فهذا أبو حنيفة] (¬3) يقول: إنه لا يفقه من لم يترك القياس (¬4) في موضع الحاجة إليه، وهو مجلس القضاء، قالوا: فتبًا لكل شيء لا يفقه المرءُ إلا بتركه (¬5). وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شبرمة: ما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس (¬6). وقال داود بن الزِّبْرِقان، عن مُجالد بن سعيد قال: ثنا الشعبي يومًا، [قال]: يوشك أن يصيرَ الجهلُ علمًا والعلمُ جهلًا، قالوا: وكيف يكون هذا يا أبا عمرو؟ قال: كنا نتَّبع الآثار وما جاء عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، فأخذ الناس في غير ذلك وهو القياس (¬7). وقال وكيع: حدثنا عيسى الخَيَّاط، عن الشعبي قال: لأنْ أتعنَّى بِعَنيَّةٍ أحبُّ إليَّ من أنْ أقولَ في مسألة برأي (¬8). ¬

_ (¬1) رواته ثقات، وأخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/ 507 رقم 1337) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 35 - 36) - حدثنا يزيد به. وأخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 673)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 209)، والبيهقي في "المدخل" (243). (¬2) رواه ابن حزم في "الإحكام" (8/ 36) بسنده إلى عبد الرزاق به. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) كذا في (ق) و"الإحكام" وفي سائر النسخ: "يدع القياس". (¬5) الإحكام (8/ 36). (¬6) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 466 رقم 507) عن عبد الرزاق به، وإسناده صحيح، وورد مثله عن ابن سيرين، ومضى ذكره وتخريجه. (¬7) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 184 أو 1/ 460 - 461 رقم 495 - ط دار ابن الجوزي) من طريق داود به. وهذا اسناد واهٍ بمرة. داود بن الزبرقان متروك، وكذبه الأزدي، ومجالد ضعيف. ووقع في (ق): "وقال داود بن الزبير قال مجالد"!! وفي (ك): "داود بن الزببر"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) ذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1679 ص 893).

قلت: روأه أبو محمد بن قُتيبة (¬1) بالعين المهملة، وعَنية برزن غَنية، ثم فسره (بأن) العنية أخلاط تُنْقَع في أبوال الإبل، [وتترك] حينًا حتى تُظلى بها الإبلُ عن الجرب (¬2). وقال الأثرم: حدثنا قبيصة: حدثنا سفيان عن جابر، عن الشعبي، عن مسروق قال: لا أقيس شيئًا بشيء، [قيل]: لم؟ قال: أخشى أن تزلَّ رجلي (¬3). وسئل عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فقس لنا برأيك، فقال: أخاف أن تزلَّ قدمي (¬4). وكان يقول: إيَّاكم والقياس والرأي؛ فإنَّ الرأي قد يزلّ (¬5). ¬

_ = ورواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 183، 184 أو 1/ 459 رقم 492 - ط دار ابن الجوزي) من هذا الطريق، وفي الطبعة القديمة: (أنعي نعية)!! وعيسى هذا هو الحناط أو الخياط ضعيف جدًا. ووقع في (ق): "أيعن بالعينة"، وقال في الهامش: "لعله أيقن" وفي (ك): "بالعينة". (¬1) في "غريب الحديث" (2/ 651)، ونحوه في "الفائق" (3/ 35) ووقع في (ك): "أحمد بن قتيبة". (¬2) "غريب الحديث" (2/ 651) لابن قتيبة، وما بين المعقوفتين فيه، وما بين الهلالين سقط من (ق). وذكره عنه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 183) ووقع في (ق): "أبو أحمد بن قتيبة"، و"عينة" بدل "غنية"، و"العينة" بدل "العنية" وفي (ك): "ثم فسّر العينة". (¬3) إسناده ضعيف، لضعف جابر وهو الجعفي لكنه مُتابع فقد رواه الدارمي (1/ 65)، وابن عبد البر في "الجامع" (1676 و 1677 و 1678 و 2018)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 490)، وابن حزم في "الإحكام" (8/ 32)، وعلقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 458 رقم 489) من طريق الأثرم به. من طرق عن الشعبي عن مسروق به. وقد روي هذا عن ابن مسعود، رواه الطبراني في "الكبير" (9581) من طريق جابر عن الثعبي عن مسروق عن ابن مسعود، وجابر ضعيفٌ. وبدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "قلت" وكذا في "الفقيه والمتفقه". (¬4) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 458 - 459 رقم 490) بسندٍ رجاله ثقات، ورواه أيضًا ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 167 - ط القديمة)، وأورده بنحوه أبو يعلى في "العدة" (5/ 1306) وانظر ما مضى. (¬5) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 183 أو 1/ 459 رقم 491 - ط دار ابن الجوزي) من طريق سعدان عن معتمر بن سليمان عن عبد اللَّه بن بشر (وفي المطبوع: معمر بن سليمان عن عبيد اللَّه بن بشر، وهو خطأ كما في كتب الرجال) عنه به، وعبد اللَّه بن بشر هو ابن تيهان الرقي، قال النسائي، وأبو زرعة: لا بأس به. واختلفت فيه عبارة ابن معين وابن حبان، وسعدان هذا لقب وهو صدوق.

وكان الشَّعبي يقول: لا تجالس أصحاب القياس فتحل حرامًا أو تحرم حلالًا (¬1). وقال الخَلَّال: ثنا أبو بكر المروزي قال: سمعت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل ينكر على أصحاب القياس، ويتكلم فيه بكلام شديد (¬2). وقال الأثرم: ثنا محمد بن كُناسة: ثنا صالح بن مسلم، عن الشعبي قال: لقد بَغَّض إليَّ هؤلاء القوم هذا المسجدَ، حتى لهو أَبغضُ إليَّ من كناسة داري، قلتُ: من هم يا أبا عمرو؟ قال: هؤلاء الآرائيون: أرأيت [أرأيت] (¬3). وقال حماد بن زيد، عن مطر الوَرَّاق قال: ترك أصحاب الرأي الآثارَ واللَّه! (¬4). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 461 رقم 496) ضمن قول -وسئل عن مسألة- أوله: "لا أدري، ولكن احفظ عني ثلاثًا، لا تقل لما لا تعلم -إنك تعلم، ولا تقولن بشيء قد كان؛ لو لم يكن، ولا تجالس. . . "، وسنده ضعيف. وأوله ثابت في "صحيح البخاري" (4774): في (التفسير): باب سورة الروم، و"صحيح مسلم" (2798) عن ابن مسعود قوله. وورد نحوه -أيضًا- من قول الشعبي بلفظ: "أما واللَّه لئن أخذتم بالمقايسة لنحرمن الحلال ولتحلن الحرام". رواه الدارمي في "المقدمة" (1/ 65)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 76)، والييهقي في "المدخل" (225)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 461 رقم 497). (¬2) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 463 رقم 502) من طريق الخلال بسند صحيح ووقع في (ك) و (ق): "سمعت أبا عبد اللَّه ابن حنبل". (¬3) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 462 رقم 500) من طريق الأثرم به، وسنده صحيح، وأخرجه ابن سعد (6/ 251)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 600 - 603، 605)، والبيهقي في "المدخل" (215، 226)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 2089، 2095)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 105) وابن حزم في "الإحكام" (8/ 33) من طرقٍ عنه، وهو صحيح. ورواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 184 - 185) من طريق يحيى بن محمد بن سابق عن زيد بن الحباب -وتحرف فيه إلى (ابن جابر) ووقع على الصواب في الطبعة الأخوى (1/ 463 رقم 501) - عن حماد بن زيد به، وسنده لا بأس به. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 185 أو 1/ 463 رقم 501 - ط الأخرى) من طريق أحمد بن خاقان عن أخيه محمد به. ومحمد هذا ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (7/ 248)، وقال: "صاحب ابن المبارك، روى عنه حمدويه، وأخوه أحمد"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. وأخوه أحمد ترجمه الخطيب (137/ 4) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا أيضًا. ووقع في (ك): "أحمد بن زيد".

فصل [القياس يعارض بعضه بعضا]

وقال محمد بن خاقان: شيَّعنا (¬1) ابن المبارك في آخر خَرْجَة خَرَج، فقلنا له: أوْصنا، فقال: لا تتخذوا الرأي إمامًا (¬2). فصل [القياس يعارض بعضه بعضًا] [قالوا] (¬3): ولو كان القياسُ حجةً لَمَا تعارضت الأقيسةُ، وناقض بعضُها بعضًا، فترى كلَّ واحدٍ من المتنازعين من أرباب القياس يزعم أنَّ قوله هو القياس، فيُبدي مُنازعُه قياسًا آخر ويزعم أنه هو القياس، وحججُ اللَّه وبيِّناته لا تتعارض، ولا تتهافت. قالوا: فلو جاز القولُ بالقياس في الدين لأفضى إلى وقوع الاختلاف الذي حَذر اللَّه منه (¬4) ورسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5)، بل عامة الاختلاف بين الأمة إنما نشأ من جهة القياس، فإنه إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياسٌ مقتضاه [نقيضُ] (3) حكم الآخر اختلفا (¬6)، ولا بد، وهذا يدل على أنه من عند غير اللَّه من ثلاثة أوجه: أحدها: صريح قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. الثاني: [أن] (3) الاختلاف سببه (¬7) اشتباه الحق وخفاؤه، وهذا لعدم العلم الذي يُميز [به] (¬8) بين الحق والباطل. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: "سمعت" والصواب ما أثبتناه كما في "تاريخ بغداد" و"الفقيه والمتفقه"، ومنه ينقل المصنف. (¬2) أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 25)، و"الفقيه والمتفقه" (1/ 463 - 464 رقم 504) من طريق محمد بن خاقان به. ورواه ابن سعد في "الطبقات" (6/ 251)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2089 ص 1074)، والبيهقي في "المدخل" (215) من طريقين عن صالح بن مسلم عن الشعبي. وسنده صحيح. صالح بن مسلم: هو صالح بن صالح بن مسلم بن حي، وهو ثقة، لا كما ظنه محقق "جامع بيان العلم" أنه صالح بن مسلم بن رومان. ورواه ابن سعد (6/ 251) من طريق سفيان عن عبد اللَّه بن أبي السَّفر عن الشعبي، وهذا إسناد صحيح أيضًا. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "حذر منه اللَّه" بتقديم وتأخير. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في المطبوع: "اختلف". (¬7) في (ق): "وسببه" بزيادة الواو. (¬8) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).

الثالث: أن اللَّه سبحانه ذمَّ الاختلافَ في كتابه، ونهى عن التفرق والتنازع، فقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى] (¬1) أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقال: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، والزبر: الكُتُب، أي كل فرقة صنفوا كتبًا أخذوا بها وعملوا بها [ودعوا إليها] (¬2) دون كتب الآخرين؛ كما هو الواقع سواء، وقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودُّ وجوه أهل الفرقة والاختلاف (¬3). وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم" (¬4)، وقال: "اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا" (¬5)، وكان التنازع والاختلاف أشد شيء ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) أخرجه اللالكائي في "شرح السنة" (1/ 72 رقم 74) من طريق أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، والسهمي في "تاريخ جرجان" (ص 132 - 133) من طريق إسماعيل بن صالح الحلواني، والخطيب (7/ 379)، والآجري في "الشريعة" (3/ 589 - 590 رقم 2128 - ط وليد سيف)، من طريق أبي عمر الدوري، كلهم قالوا: حدثنا علي بن قدامة عن مجاشع بن عمرو عن ميسرة بن عبد ربه عن عبد الكريم به، وألفاظهم قريبة من بعضها. وأخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 464 رقم 339 - آل عمران) من طريق مجاشع به. قلت: وإسناده ضعيف جدًا، إن لم يكن موضوعًا؛ ففيه علي بن قدامة ضعيف، وشيخه مجاشع بن عمرو اتهم بالكذب، وشيخه ميسرة مثله. ثم إن المتأمل في هذا التفسير يجد فيه نكارة، وهي أنه مخالف لنص القرآن الكريم، فقد بيّن اللَّه تعالى لنا من هم الذين تبيض وجوههم، ومن الذين تسود وجوههم فقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران: 106] واللَّه أعلم. (¬4) رواه مسلم (432) في (الصلاة): باب تسوية الصفوف وإقامتها، من حديث أبي مسعود. (¬5) رواه البخاري (5060) و (5061) في (فضائل القرآن): باب اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، و (7364) و (7365) في (الاعتصام): باب كراهية الاختلاف، ومسلم (2667) في (العلم): باب النهي عن أتباع متشابه القرآن، من حديث جندب بن عبد اللَّه.

[الاختلاف مهلكة]

على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان إذا رأى من الصحابة اختلافًا يسيرًا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنّما (¬1) فقئ فيه حب الرُّمان ويقول: "أبهذا أمِرتُم؟ " (¬2)، ولم يكن أحدٌ بعده (¬3) أشد عليه الاختلاف من عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬4)، وأما الصديق فصان اللَّه خلافته عن الاختلاف المستقر في حكم واحد من أحكام الدين، وأما خلافة عمر فتنازع (¬5) الصحابة تنازعًا يسيرًا في قليل من المسائل جدًا، وأقر بعضهم بعضًا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن، فلما كانت خلافة عثمان، اختلفوا في مسائل يسيرة [صَحِبَ] (¬6) الاختلاف فيها بعضُ الكلام (¬7) واللوم، كما لام عليٌّ عثمان في أمر المتعة وغيرها (¬8)، ولامه عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات (¬9)، فلما أفضت الخلافة إلى علي -رضي اللَّه عنه- (¬10) صار الاختلافُ بالسيف. [الاختلاف مهلكة] والمقصود أنَّ الاختلاف منافٍ لما بعث اللَّه به رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬11)؛ قال عمر [-رضي اللَّه عنه-] (4): "لا تختلفوا؛ فإنكم إن اختلفتم كان مَنْ بعدكم أشدَّ اختلافًا" (¬12)؛ ولما ¬

_ (¬1) في (ق): "كأنه". (¬2) ورد من حديث أبي هريرة: رواه الترمذي (2133) في (القدر): باب ما جاه في التشديد في الخوض في القدر، وأبو يعلى (6045)، وقال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث صالح المُرِّيّ، وصالح المري له غرائب يتفرد بها لا يتابع عليها". وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يأتي (ص 478). (¬3) في (ق): "ولم يكن بعده أحد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "فيتنازع". (¬6) ما بين المعقوفتين مضروب عليه في (ق)، وقال في الهامش: "لعله: جره". (¬7) في (ق): "الاختلاف فيها إلى بعض الكلام". (¬8) أي في أمر حج التمتع، وكان عثمان لا يراه، كما في "الموطأ" (2/ 213 - مع "المنتقى"). وسبق تخريجه، وانظر تعليقي على "الإشراف" (2/ 389) للقاضي عبد الوهاب، و"الإحكام" (5/ 73 - 74). (¬9) انظر فيما جرى بين عثمان وعمار: "تاريخ دمشق" (ص 247، 301 - ترجمة عثمان) وبينه وبين عائشة، فيه -أيضًا-. (¬10) في المطبوع و (ن): "كرم اللَّه وجهه في الجنة". (¬11) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬12) وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة "خلافًا" وفي (ك): "أشد خلافًا".

سمع أُبيَّ بن كعب وابنَ مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين، صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اختلفا، فعن أيِّ فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت (¬1)؛ وقال علي [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬2) في خلافته لقُضَاته: اقْضُوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف (¬3)، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي (¬4). وقد أخبر النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ هلاك الأمم من قبلنا إنما (¬5) كان باختلافهم على أنبيائهم (¬6)؛ وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: "خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن نتنازع في شيء من الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، [قال] (7) ثم انتَهَرنا، قال: يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال: أبهذا أمرتم؟ أو لَيْس عن هذا نُهيتم؟ إنما هَلَك مَنْ [كان] (¬7) قبلكم ¬

_ (¬1) أقرب لفظ لهذا ذكره ابن عبد البر في "الجامع" (1713) دون إسناد. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 347)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 238) من طريق داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: اختلف أبي بن كعب ... فذكر نحوه، وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات مشهورون. ورواه عبد الرزاق (1384) عن معمر عن قتادة عن الحسن، قال: اختلف أبي بن كعب وابن مسعود. . . والحسن يدلس ويرسل، وهو لم يدرك القصة قطعًا لأنه لم يدرك عمر. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) كذا في (ن) و"صحيح البخاري"، وفي سائر النسخ: "الخلاف". (¬4) رواه البخاري (3707) في (الفضائل): باب مناقب علي، وأبو عبيد (417)، وابن زنجويه (2/ 735 رقم 1251) كلاهما في "الأموال"، ووكيع في "أخبار القضاة" (2/ 399)، والأصبهاني في "الحجة" (2/ 367 رقم 360)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 42). (¬5) في (ق): "إنه". (¬6) أخرجه البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (13/ 251/ رقم 7288)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الحج): باب فرض الحج مرة في العمر (2/ 975/ رقم 1337)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب مناسك الحج): باب وجوب الحج (5/ 110 - 111)، والترمذي في "الجامع" (أبواب العلم): باب الانتهاء عما نهى عنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (5/ 47/ رقم 2679) -وقال: "هذا حديث حسن صحيح"-، وابن ماجه في "السنن" (المقدمة): باب اتباع سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (1/ 3/ رقم 2)، وأحمد في "المسند" (2/ 312، 313، 517)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

بهذا" (¬1)، وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص (¬2) أنهما قالا: "جلسنا مجلسًا في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كأنه أشد اغتباطًا (¬3)، فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[خَلْفَ الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول اللَّه] (¬4) مُغْضَبًا يُعرف في وجهه الغضبُ، حتى وَقفَ عليهم، وقال (¬5): يا قوم بهذا ضلَّتْ الأمُم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتابَ بعضَه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضَه ببعض، ولكن نزل القرآن يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به، ثم التفت فرآني [أنا] (¬6) وأخي جالسين، فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم" (¬7)، قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد اللَّه، والحميدي (¬8)، وإسحاق بن إبراهيم (¬9)، [وأبا عبيد وعامة أصحابنا] (¬10) يحتجُّون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال أحمد بن صالح: أجمع آل عبد اللَّه [على] (6) أنها صحيفة عبد اللَّه (¬11). ¬

_ (¬1) لم أعثر عليه بهذا السياق، وفي "معجم الطبراني" (7659)، و"كامل ابن عدي" (6/ 2089) حديثًا نحوه من رواية أبي الدرداء، وأنس، وواثلة بن الأسقع، وأبي أمامة. ذكره في "المجمع" (1/ 106)، وقال: وفيه كثير بن مروان كذبه يحيى والدارقطني. وذكره في (1/ 156)، وقال: كثير بن مروان ضعيف جدًا، وكذا في (7/ 259). وانظر -أيضًا- الطبراني (7660)، وما قدمناه في التعليق على (ص 476). (¬2) في (ق) و (ك): "عن ابن العاص". (¬3) في (ق) و (ك): "كأنه اعتباطًا أسد حسًا"! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) في (ق): "فقال". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) رواه ابن سعد (4/ 192)، وأحمد (2/ 179 و 181 و 185 و 195 - 196)، وابن ماجه (رقم 85)، وعبد الرزاق (6741، 20367)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 70)، والآجري في "الشريعة" (ص 68)، والطبراني في "الأوسط" (1/ 315 و 2/ 182 - 183)، والبغوي وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 287) من طرق عن عمرو به مطولًا، ومختصرًا، وفي بعضها: "كانوا يتنازعون في القرآن"، وإسناده جيّد. (¬8) في (ك): "ابن الحميدي". (¬9) "يعني: ابن راهويه" (و). (¬10) ما بين المعقوفتين من "التهذيب" (و). (¬11) انظر: "التاريخ الكبير" (6/ 2578) للبخاري، و"الضعفاء الصغير" (261)، و"تهذيب الكمال" (22/ 69). وانظر ترجمة عمرو بن شعيب في "الجرح والتعديل" (6/ 1323)، و"الكامل" (2/ 230)، و"سير أعلام النبلاء" (5/ 165)، و"الميزان" (3/ 6383)، و"تهذيب الكمال" =

[ليس أحد القياسين أولى من الآخر]

[ليس أحد القياسين أولى من الآخر] قالوا: وأيضًا فإذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين (¬1) فإمَّا أنْ يُقال: كل مجتهد مصيب؛ فيلزم أن يكونَ الشيء وضدُّه صوابًا، وإمَّا أنْ يقال: المصيب واحد (¬2)، وهو القول الصواب، ولكن ليس أحد القياسين بأولى من الآخر، ولا سيما قياس الشَّبه فإن الفرع قد يكون فيه وصفان شبيهان للشيء وضده، فليس جعل أحدهما صوابًا دون الآخر بأولى من العكس (¬3). قالوا: وأيضًا فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال (¬4): "أوتيتُ جوامع الكلم، واختُصرتْ لي الحكمة اختصارًا" (¬5)، وجوامع الكلم: هي الألفاظ الكُليّة العامة المتناولة لأفرادها، فإذا انضاف ذلك إلى بيانه الذي هو أعلى رُتَب البيان (¬6) لم يُعْدَل عن ¬

_ = (22/ 64 - 75)، و"تهذيب التهذيب" (8/ 48 - 55)، و"تقريب التهذيب" (2/ 72)، وانظر كتاب "من روى عن أبيه عن جده" لابن قطلوبغا (ص 489 - 492 - حاشيته) للدكتور باسم فيصل الجوابرة. (¬1) في (ق): "المجتهد". (¬2) في (ق): "المصيب الواحد". (¬3) "الأحكام" (8/ 44). (¬4) في (ق): "وأيضًا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬5) ذكره في "كشف الخفاء" (1/ 263)، وقال: رواه العسكري عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا، ورواه النسائي عن ابن عباس بلفظ: أعطيت! ولم أجده في "سنن النسائي" بهذا اللفظ. ثم وجدت الزبيدي في "إتحاف السادة المتقين" (7/ 113) عزاه للعسكري من طريق سليمان بن عبد اللَّه عن جعفر بن محمد، وقال: وهو مرسل، في سنده من لم يعرف. ثم وجدته موصولًا من حديث ابن عباس، رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 144 - 145)، وعزاه إليه العراقي في "تخريج الإحياء" (2/ 364)، وقال: إسناده جَيّد. أقول: فيه زكريا بن عطية، فإن كان هو المترجم في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم فقد قال عنه أبو حاتم: منكر الحديث. وله شاهد من حديث عمر بن الخطاب: رواه عبد الرزاق (11/ 111/ رقم 20062)، ومن طريقه البيهقي في "شعب الإيمان" (5202) عن أبي قلابة أن عمر بن الخطاب. . . وعزاه السيوطي في "الجامع الصغير" للبيهقي في "الشعب" عن أبي قلابة مرسلًا، وسكت عليه المناوي في "الفيض"، وأبو قلابة لم يسمع من عمر، مات بعد المئة. ورواه خالد بن عرفطة عن عمر. رواه أبو يعلى، كما في "إتحاف السادة المتقين" (7/ "3)، و"الدرر المنتثرة" (رقم 160). ويغني عنه ما ثبت في "صحيح البخاري" (7013، 7273)، و"صحيح مسلم" (523) عن أبي هريرة رفعه: "بعثت بجوامع الكلم". (¬6) في (ق): "أعلا مراتب البيان".

الكلمة الجامعة التي [في غاية البيان لما دلَّت عليه إلى لفظ أطول منها وأقلّ بيانًا، مع أن الكلمة الجامعة] (¬1) تزيلُ الوهمَ وترفع الشَّكَ، وتبيِّن المرادَ؛ فكأن يقول: "لا تبيعوا (¬2) كلَّ مكيل ولا موزون بمثله إلا سواء بسواء"!! فهذا أخصرُ وأبينُ وأدلُّ وأجمعُ من أن يذكر ستة أنواع، ويدل بها على ما لا ينحصر من الأنواع، فكمالُ علمه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكمالُ شفقته ونصحه وكمالُ فصاحته وبيانه يأبى ذلك. قالوا: وأيضًا فحكمُ القياس إما أن يكون موافقًا للبراءة الأصلية، وإما أنْ يكون مخالفًا لها؛ فإنْ كان موافقًا لم يُفِدِ القياسُ شيئًا؛ لأنَّ مقتضاه متحقِّق بها، وإنْ كان مخالفًا لها امتنع القولُ به؛ لأنها متيقنة فلا ترفع بأمر لا تتيقن (¬3) [صحته؛ إذ اليقين يمتنع] (¬4) رفعه بغير يقين. قالوا: وأيضًا فإن غالب القياسات التي رأينا القياسيين يستعملونها رجمٌ بالظنون (¬5)، [وليس ذلك من العلم في شيء، ولا مصلحة للأمة في اقتحامهم وَرْطَات الرجم بالظنون] (¬6) حتى يخبطوا [فيها] (6) خَبْطَ عشواء [في ظلماء] (6)، ويحكموا بها على اللَّه ورسوله. قالوا: وأيضًا فقول (¬7) القياسي: هذا حلال وهذا حرام، هو خبر عن اللَّه [سبحانه] (¬8) أنه أحلَّ كذا وحرَّمه، وأنه أخبر عنه بأنه حلال أو حرام، فإن حُكمَ اللَّه خبرُه فكيف يجوز لأحد أن يشهد على اللَّه أنه أخبر بما لم يُخْبِر به هو ولا رسوله، قال اللَّه تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]. قالوا: وأيضًا فالقياسُ لا بدَّ فيه من علة مُسْتَنبطة من حكم الأصل، والحكم في الأصل احتمل (¬9) أن يكون مُعَللًا، وأن يكون غير معلل، وإذا كان معللًا احتمل [أن يكون لنا طريق إلى العلم بعلته واحتمل أن لا يكون لنا طريق، وإذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ك): "تشبهو". (¬3) في (ق) و (ك): "لأنه متيقن فلا يرفع بأمر لا تقين". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض، وقال في الهامش: "لعله: لا يجوز" وسقطت "صحته" من (ك). (¬5) في (ق): "القياسين يستعملونهما رجمًا بالطنون". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) وثبتت "فيها" في (ق). (¬7) في (ق): "فيقول". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ق) و (ك): "يحتمل".

[لم يكن القياس حجة في زمن الرسول]

كان لنا طريق احتمل] (¬1) أن تكون العلة هي هذه المُعيَّنة، وأن تكون جزءَ علة (¬2)، وأنْ تكون العلة غيرها، وإذا ظهرت العلة احتمل أن لا تكون في الفرع، وإذا كانت فيه احتمل أنْ يتخلَّف الحكمُ عنها لمعارض آخر، وما هذا شأنه كيف يكون من حُجج اللَّه وبيناته وأدلةِ الأحكام التي هدى اللَّه بها عباده؟ قالوا: وأيضًا فلو كان القياس حُجَّة لأفْضَى ذلك إلى تكافؤ الأدلة الشرعية؛ وهو محال؛ فإنه قد يتردد فرعٌ (¬3) بين أصلين، أحدهما: التحريم، والآخر: الإباحة، فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكمُ بالحلِّ والحرمة في شيء واحد، وهو مُحالٌ. قالوا: وأيضًا فليس قياس الفرع على الأصل في تَعْديةِ حكمه (¬4) إليه أولى من قياسه عليه في عدم ثبوته بغير النص؛ فحينئذٍ نقول (¬5) حكمُ الفرعِ حكمٌ من أحكام الشرع، فلا يجوز ثبوتُه بغير النص كحكم (¬6) الأصل، فما الذي جعل قياسكم أولى من هذا؟ ومعلوم أن هذا (¬7) أقربُ إلى النصوص وأشد موافقةً لها من قياسكم، وهذا ظاهر. قالوا: وأيضًا فحكمُ اللَّه بإيجاب الشيء يتضمن محبته له، وإرادته لوجوده، وعلمه بأنه أوجبه، وكلامه الطَّلبي والخَبَري، وجَعْل فعله سببًا [لمحبته لعبده ورضاه عنه وإثابته عليه، وتركه سببًا] (¬8) لضدِّ ذلك، ولا سبيل لنا إلى العلم بهذا إلا من خبر اللَّه عن نفسه أو خبر رسوله [عنه] (¬9)، فكيف يُعلم ذلك بقياس أو رأي؟ هذا ظاهر الامتناع. [لم يكن القياس حجة في زمن الرسول] قالوا: ولو كان القياس من حجج اللَّه وأدلة أحكامه لكان حُجةً في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كسائر الحجج، فلما لم يكن حجة في زمنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن حُجةً بعده. وتقرير هذه الحجة بوجهين: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين مذكور في المطبوع بعد قوله السابق: "والحكم في الأصل احتمل. . ". (¬2) في (ق) و (ك): "علته". (¬3) في (ق): "الفرع". (¬4) في (ك) و (ق): "الحكم". (¬5) في المطبوع و (ك) و (ق): "فنقول". (¬6) في (ك): "الحكم". (¬7) في (ق): "هذه". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

أحدهما: أن الصحابة لم يكن أحد منهم يقيس على ما سمع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) ما لم يسمع (¬2)، ولو كان هو معقول النصوص لكان تعدية الحكم به وشمول المعنى كتعدية الحكم باللفظ وشموله لجميع أفراده، وذلك لا يختصُّ بزمان دون زمان، فلمَّا قلتم: لا يكون القياس في زمن النص عُلم أنه ليس بحجة. الوجه الثاني: أن تعلق النصوص بالصحابة كتعلّقها بمن بعدهم، ووجوب اتباعها على الجميع واحد. قالوا: ولأنا لسنا على ثقة من [عدم] (¬3) تعليق الشارع الحكمَ بالوصف الذي يُبديه القياسيون (¬4)، وأنه إنما علَّق الحكم بالاسم بحيث يوجد بوجوده وينتفى بانتفائه، بل تعليقُ الحكم بالاسم تعليق (¬5) بما لنا طريق إلى العلم به طردًا وعكسًا، بخلاف تعليقه بالوصف الشبهي فإنه خَرْصٌ وحَزْرٌ، وما كان هكذا لم تَرِدْ به الشريعة. قالوا: ولأن الأصلَ عدمُ العمل بالظنون، إلا فيما تيَّقنا أن الشرع أوجب علينا العملَ به؛ للأدلة الدالة على تحريم اتباع الظن (¬6)، فمعنا منعٌ يقينيٌّ من اتباع الظن، فلا نتركه إلا بيقين يُوجبُ اتباعه. قالوا: ولأن تشابه الفرع والأصل يقتضي أن لا يثبت الفرع إلا بما يثبت (¬7) به الأصل، فإن كان القياسُ حقًّا لزم توقُّفُ الفرع في ثبوته على النص كالأصل؛ فالقول بالقياس من أبينِ الأدلة على بطلان القياس. قالوا: ولأن الحكم لا يخلو إما أنْ يتعلَّق بالاسم وحده، أو بالوصف المشترك وحده، أو بهما، فإنْ تعلَّق بالاسم وحده أو بهما بطلَ القياس، وإن تعلق بالوصف المشترك بينهما لزم أمران محذوران: أحدهما: إلغاء الاسم الذي اعتبره الشارع؛ فإنَّ الوصف إذا كان أعم منه، وكان هو المستقل بالحكم كان الأخص؛ وهو الاسم عديم التأثير. الثاني: أنه إذا كان الاسمُ عديمَ التأثير لم يكن جَعْلُ ما دلَّ (¬8) عليه أصلًا ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ن): "ما سمع منه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬2) في (ق): "يسمعه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "الذي يبدي به القياسون". (¬5) في (ق): "بالاسم بل تعليق". (¬6) في المطبوع و (ن): "الظنون". (¬7) في (ق): "ثبت". (¬8) في (ك) و (ق): "يدل".

لما سكت عنه أولى من العكس؛ إذ التأثيرُ للوصف وحده، بل يلزم أن لا يكون هناك فرعٌ وأصل، بل تكون الصورتان فردَين (¬1) من إفراد العموم المعنوي، كما يكون (¬2) إفراد العام لفظًا كذلك ليس بعضها أصلًا لبعض. قالوا: ولا ريب أنَّ البيانَ بالألفاظ العامة أعلى من البيان بالقياس، فكيف يعدل الشارعُ -مع كمال حكمته- عن البيان الجليِّ إلى البيان الأخفى؟. قالوا: ونسال القياسيَّ (¬3) عن محل القياس (¬4): أيجب في الشيئين إذا تشابها من كل وجه، أم إذا اشتبها من بعض الوجه وإن اختلفا في بعضها؟ فإن قال بالأول تَرَك قوله وادعى محالًا، إذ ما من شيئين إلا وبينهما جامع وفارق، وإن قال بالثاني قيل له: فهلَّا حكمتَ للفرع بضد حكم الأصل من أجل الوجه الذي خالفه [فيه] (¬5)؛ فإن (¬6) كانت تلك جهة وفاق (¬7) تدلُّ على الائتلاف فهذه جهةُ افتراق تدل على الاختلاف؛ فليس إلحاقُ صُور النزاع بموجب الوفاق أولى من إلحاقه بموجب الافتراق. قالوا: ولا ينفعه الاعتذار بأنه متى وقع الاتِّفاقُ في المعنى الذي ثبت الحكمُ من أجله عَدَّيْت الحكم، وإلا فلا. قيل له: إذا كانت (¬8) في الأصل عدة أوصافِ فتعيينُك أنَّ هذا الوصفَ الذي من أجله شُرع الحكم قولٌ بلا علم، وقد عارضكَ فيه منازعوك فادعوا أنَّ الحُكم شُرع لغير ما ذكرتَ، مثاله أنَّ الشَّارعَ لمّا نَصَّ على ربا الفضل في الأعيان المذكورة في الحديث (¬9) فقال قائل: إن المعنى الذي حرم التفاضل لأجله هو الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات، قال له منازعه: لا، بل كونها (¬10) مطعومة، فقال آخر: لا، بل هو كونها مُقْتَاتَةٌ [و] (¬11) مُدَّخَرة، فقال آخر: لا، بل كونها (¬12) تجري فيها الزكاة، فقال آخر: لا، بل كونها (10) جنسًا واحدًا، وكل ¬

_ (¬1) في (ك): "فرد"، وفي (ق): "فردًا". (¬2) في (ق): "تكون". (¬3) في (ك): "القياسيين". (¬4) في (ق): "ونسأل القياسيين عن مخل القياس". (¬5) بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في (ق) و (ك): "وإن". (¬7) في (ق): "وفارق يدل" وفى (ك): "وفارق". (¬8) في المطبوع و (ن): "كان". (¬9) سيأتي نص الحديث وتخريجه. (¬10) في (ق): "لا بل هو كونها". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬12) في (ق) و (ك): "بل هو كونها".

فريق يزعم أن الصواب ما ادعاه دون منازعه، ويقدح فيما ادعاه [الآخر، ولا] (¬1) يتهيأ له قدح في قول منازعه (¬2)، إلا ويتهيأ (¬3) لمنازعه مثله أو أكثر منه أو دونه، فلو ظن آخرون فقالوا: العلة كونها (¬4) مما تُنبته الأرضُ، واحتجَّ بأنَّ اللَّه سبحانه امتن على عباده بما تنبته لهم الأرض، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وقال: إن من تمام النعمة فيه أن لا يُباع بعضُه ببعض متفاضلًا، لكان قولُه واحتجاجُه من جنس قول الآخرين واحتجاجهم، وما هذا سبيلُه فكيف يكون من الدين بسبيل؟ (¬5). قالوا: وأيضًا فإذا كان النَّصُّ [في الأصل قد دل على شيئين: ثبوت الحكم فيه نطقًا، وتعديته إلى ما في معناه بالعلة، فإذا نُسخ الحكم] (¬6) في الأصل هل يبقى الحكم في الفرع أو يزول؟ فإنْ قلتم: "يبقى" فهو محال، وإنْ قلتم: "يزول" تناقضتم؛ إذ من أصلكم أنَّ نسخَ بعض ما يتناوله النص لا يوجبُ نسخَ جميع ما يتناوله (¬7) كالعام إذا خُصَّ بعضُ أفراده لم يوجب ذلك تخصيصَ (¬8) غيره؛ فإذا كان حكم الأصل قد دلَّ على شيئين فارتفع أحدُهما فما الموجب لارتفاع الثاني؟ وإن قلتم: "يثبت بالقياس ويرتفع بالقياس" قيل: إنما أثبتُّموه لوجود العلة الجامعة عندكم، والعلة لم تزلْ بالنسخ، وهي سبب ثبوته، وما دام السبب قائمًا فالمسبَّب كذلك، ولو زالت العلة بالنسخ لأمكن تصحيحُ قولِكم. فإن قلتم: نسخُ حكمِ الأصلِ [يقتضي نسخ كون العلَّةِ علةً. قيل: هذه دعوى لا دليلَ عليها، فإن النص اقتضى ثبوتَ حكم الأصل] (6)، وكون وصف كذا علة تقتضي (¬9) التعدية على قولكم، فهما حكمان متغايران؛ فزوالُ أحدهما لا يستلزم زوالَ الآخر. قالوا: ولو كان القياسُ من الدين لقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأمته: "إذا أمرتكم بأمرٍ أو نهيتكم عن شيء فقيسوا عليه ما كان مثله أو شبهه" ولكان هذا أكثر شيء في ¬

_ (¬1) في (ق): "والآخر، لا". (¬2) في (ق) و (ك): "منازعيه". (¬3) في (ق) و (ك): "إلا وتهيأ". (¬4) في المطبوع و (ق) و (ك): "كونه". (¬5) في (ق) و (ك): "كيف يكون من الرب سبيل إذًا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) انظر: "مفتاح دار السعادة" (ص 361 - 364، 370)، و"زاد المعاد" (2/ 183)، و"شفاء العليل" (ص 405 - 406). (¬8) في (ك): "تخليص". (¬9) في المطبوع و (ن): "مقتضى".

كلامه، وطرق الأدلة عليه متنوعة لشدَّة الحاجة إليه، ولا سيما عند غلاة القياسيين الذين يقولون: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الحوادث، وعلى قول هذا الغالي الجافي عن النصوص، فالحاجة إلى القياس أعظم من الحاجة إلى النصوص، فهلا جاءت الوصيةُ باتباعه ومراعاته، والوصية (¬1) بحفظ حدود ما أنزل اللَّه على رسوله وأن لا تُتعدى (¬2)؛ ومعلوم أن اللَّه سبحانه حَدَّ لعباده حدودَ الحلال والحرام بكلامه، وذمَّ مَنْ لم يعلم حدودَ ما أنزل اللَّه على رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3)، والذي أنزله هو كلامه؛ فحدود ما أنزله (¬4) اللَّه هو الوقوف عند حد الاسم الذي عَلَّق عليه الحِلَّ والحرمةَ، فإنه هو المنزلُ على رسوله وحده بما (¬5) وُضع له لغة أو شرعًا، بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه (¬6)، ومن المعلوم أنَّ حد البُرِّ لا يتناول الخردل، وحد التمر لا يدخل فيه البلوط، وحد الذهب لا يتناول القطن؛ ولا يختلف الناس أن حدّ الشيء ما يمنع دخول غيره فيه، ويمنع خروجَ بعضه منه. وقد تقدم تقريرُ هذا (¬7) وأعَدْنَاهُ لشدة الحاجة إليه، فإنَّ أعلمَ الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي عُلِّق بها الحل والحرمة، والأسماء التي لها حدود في كلام اللَّه ورسوله ثلاثة أنواع (¬8): نوع له حد في اللغة، كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار، فمن حمل هذه الأسماء على غير مُسمَّاها أو خَصَّها ببعضه أو أخرج منها بعضه (¬9) فقد تَعدَّى حدودها؛ ونوعٌ له حد في الشرع، كالصَّلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوى ونظائرها، فحكمها في تناولها لمسمياتها الشرعية كحكم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي؛ ونوعٌ له حد في العُرف لم يحده اللَّه ولا رسوله (¬10) بحد غير المتعارف، ولا حد له في اللغة كالسفر والمرض المبيح للتَّرخُّص والسَّفَه والجنون الموجب للحَجْرِ، والشقاق الموجب لبعث الحكمين، والنشوز المسوِّغ لهجر الزوجة وضَرْبِها، والتراضي المسوغ لحلِّ التِّجارة، والضّرار المحرم بين المسلمين، وأمثال ذلك، ¬

_ (¬1) في (ق): "أو الوصية". (¬2) في (ق): "يتعدى". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "ما أنزل اللَّه". (¬5) في (ق): "ما". (¬6) في (ك): "موضعه". (¬7) في (ق): "بعضه عنه وتقدم تقرير هذا" وفي (ك): "بعضه عنه". (¬8) نحوه في "مجموع فتاوى ابن تيمية" (19/ 235 - 236). (¬9) في (ق): "بعضًا". (¬10) في المطبوع و (ق) و (ك): "ورسوله".

وهذا النوع في تناوله لمسماه العرفي كالنوعين الآخرين في تناولهما لمسماهما، ومعرفة حدود هذه (¬1) الأسماء ومراعاتها مُغْنٍ عن القياس غير مُحوج إليه، وإنَّما يَحتاج إلى القياس مَنْ قصر في [معرفة] (¬2) هذه الحدود، ولم يُحط بها علمًا، ولم يعطها حقَّها من الدلالة. مثاله: تقصير (¬3) طائفة من الفقهاء في معرفة حد الخمر حيث خصُّوه بنوع خاص من المسكرات، فلما احتاجوا إلى تقرير تحريم كل مسكر سلكوا طريق القياس، وقاسوا ما عدا ذلك النوع في التحريم عليه، فنازعهم الآخرون في هذا القياس، وقالوا: لا يجري في الأسباب، وطال النزاع بينهم، وكَثُر السؤال والجواب، وكل هذا من تقصيرهم في معرفة حد الخمر؛ فإنَّ صاحب الشرع قد حدَّه بحد يتناول كلَّ فردٍ من أفراد المسكر فقال: "كل مسكر خمر" (¬4) فأغنانا (¬5) هذا الحدُّ عن بابٍ طويلٍ عريضٍ كثيرِ التَّعب من القياس، وأثبتنا التحريم بنصّه لا بالرأي والقياس. ومن ذلك أيضًا تقصيرُ طائفة في لفظ الميسر، حيث خصُّوه بنوع من أنواعه، ثم جاؤوا إلى الشَّطْرَنْج مثلًا فراموا (¬6) تحريمه قياسًا عليه، فنازعهم آخرون في هذا القياس وصحته، وطال النِّزاعُ، ولو أعطوا لفظ الميسر حقَّه، وعرفوا حدَّه؛ لعلموا أن دخول الشَّطْرَنْجَ فيه أولى من دخول غيره، كما صَرَّح به مَنْ صرح من الصحابة والتابعين [-رضي اللَّه عنهم-] (¬7)، وقالوا: الشطرنج من الميسر (¬8). ومن ذلك تقصيرُ طائفةٍ في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور، ثم راموا قياسه في القطع على السارق، فقال لهم منازعوهم: الحدود والأسماء لا تثبتُ قياسًا، فأطالوا وأعرضوا في الرد عليهم، ولو أعطوا لفظَ السَّارقِ حقّه (¬9) لرأوا أنه لا فرق في حدِّه ومسمَّاه بين سارق الأثمان و [سارق] (¬10) الأكفان، وأنَّ إثباتَ الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس. ¬

_ (¬1) في (ق): "ومعرفة الحدود لهذه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬3) في (ق): "مثاله في تقصير". (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (ك): "فأغنا". (¬6) في (ن): "فرأوا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) سبق مبحث تحريم الشطرنج، وأقوال السلف فيه. (¬9) في المطبوع و (ق): "حده". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

ونحن نقول قولًا ندينُ اللَّه به، ونحمدُ اللَّه على توفيقنا [له] (¬1)، ونسأله الثَّبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس (¬2) قط، وأنَّ فيها غُنيةً وكفايةً عن كل رأي وقياس (¬3) وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه اللَّه عبدَه فيها، وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، وقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬4): "إلا فهمًا يؤتيه اللَّه عبدًا في كتابه" (¬5)، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن عباس "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" (¬6)، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)، وقال عمر لأبي موسى: "الفَهْمَ الفَهْمَ" (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق) و (ك): "القياس". (¬3) في (ك): "وقياسة". (¬4) في المطبوع: "كرم اللَّه وجهه". (¬5) رواه البخاري (111): في (العلم): باب كتابة العلم، و (3047) في (الجهاد): باب فكاك الأسير، و (6903) في (الديات): باب العاقلة، و (6915) في باب لا يقتل المسلم بالكافر، وهو جزء من حديث. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) رواه البخاري (466) في (الصلاة): باب الْخَوْخَة والممر في المسجد، و (3654) في (فضائل الصحابة): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر"، و (3904) في "مناقب الأنصار": باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، ومسلم (2382) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل أبي بكر الصديق، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬8) هو جزء من كتاب عمر إلى أبي موسى -رضي اللَّه عنهما- في القضاء، وقد تقدم مطولًا، وهناك تخريجه.

سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الثالث] دار ابن الجوزي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [3]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339

فصل [تناقض أهل القياس دليل فساده]

[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي] (¬1) فصل [تناقض أهل القياس دليل فساده] قالوا (¬2): ومما يبين فساد القياس وبطلانه تناقض أهله فيه، واضطرابهم تأصيلًا وتفصيلًا. أما التأصيل فمنهم من يحتج بجميع أنواع القياس، وهي: قياس العلة، والدلالة، والشبه (¬3)، والطرد، وهم غُلاتهم كفقهاء ما وراء النهر وغيرهم، فيحتجون (¬4) في طرائقهم على منازعهم في مسألة المنع من إزالة النجاسة بالمائعات بأنه مائع لا تُبنَى عليه القناطر ولا تجري فيه السفن؛ فلا تجوز (¬5) إزالة النجاسة به كالزيت والشيرج، وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي إلى التلاعب بالدين أقرب منها إلى تعظيمه (¬6). وطائفة يحتجون (¬7) بالأقيسة الثلاثة دونه، وتقول: قياس العلة أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شُرع الحكم في الأصل، وقياس الدلالة: أن يُجمع بينهما بدليل العلة، وقياس الشبه: أن يتجاذب الحادثة أصلان حاظر ومبيح، ولكل واحد من الأصلين أوصاف، فتلحق الحادثة بأكثر (¬8) الأصلين شبهًا بها، مثل أن يكون بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف وبالحظر بثلاثة؛ فيلحق بالإباحة. وقد قال الإمام أحمد في هذا النوع في رواية أحمد بن الحسين (¬9): القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه (¬10) في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وحدها. (¬2) أي: النافون للقياس. (¬3) في (ن) و (ك): "التشبيه"! (¬4) في (ق): "ويحتجون". (¬5) في (ق): "يجوز". (¬6) انظرها مفصّلة مع الرد عليها عند القاضي أبي يعلى في "العدة" (5/ 1438 - 1439). (¬7) في (ك) و (ق): "تحتج". (¬8) في (ق): "ألحقنا الحادثة أكثر". (¬9) نقله القاضي أبو يعلى في (العدة في أصول الفقه) (5/ 1432، 1436) من رواية أحمد بن الحسين بن حسان عن أحمد، وأفاد أن نحوه عن أحمد في رواية الأثرم ووقع في (ق): "أحمد بن الحسن". (¬10) في (ك): "شابهه".

حال (¬1) وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه فهذا خطأ، وقد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعضها، فإذا كان مثله في كل أحواله فما أقبلت به وأدبرت به فليس في نفسي منه شيء؛ وبهذا قال أكثر الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والحنابلة (¬4)؛ وقالت طائفة: لا قياس إلا قياس العلة فقط، وقالت فرقة بذلك، [و] (¬5) لكن إذا كانت العلة منصوصة. ثم اختلف (¬6) القياسيون في محل القياس فقال جمهورهم: يجري في الأسماء والأحكام؛ وقالت فرقة: [لا بل] (5) لا تثبت الأسماء قياسًا، وإنما محل القياس الأحكام. ثم اختلفوا فأجراه جمهورهم في العبادات واللغات والحدود والأسباب وغيرها، ومنعه طائفة في ذلك (¬7)، واستثنت طائفة الحدود والكفارات [فقط] (¬8)، واستثنت طائفة أخرى معها الأسباب (¬9). وكل هؤلاء قسموه إلى ثلاثة أقسام: قياس أولى، وقياس مثل، وقياس أدنى؛ ثم اضطربوا في تقديمه على العموم أو بالعكس على قولين، واضطربوا في تقديمه على خبر الآحاد الصحيح؛ فجمهورهم قدم الخبر. و [قد] (¬10) قال أبو بكر بن الفرج القاضي وأبو بكر الأبهري المالكيان (¬11): ¬

_ (¬1) في (ن): "في كل حال". (¬2) منهم الجرجاني والسرخسي، انظر "كشف الأسرار" (3/ 1085)، و"أصول السرخسي" (2/ 176)، و"تيسير التحرير" (4/ 52)، و"ميزان العقول" (ص 599). (¬3) انظر: "إحكام الفصول" (655)، و"الإشارة" (300 - 301) كلاهما للباجي. (¬4) انظر: "روضة الناظر" (2/ 321)، و"المسودة" (ص 427)، و"التمهيد" (4/ 30)، و"شرح الكوكب المنير" (4/ 198). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). وانظر "مشيخة الرازي" (244) في عدم ثبوت الأسماء قياسًا. (¬6) في (ق): "اختلف القياسون" وقال في الهامش: "لعله: فاختلف". (¬7) في (ق) و (ك): "ومنعت طائفة من ذلك". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) انظر: "المحصول" (5/ 349) للرازي، و"الإحكام" (4/ 64 - 67) للآمدي، و"المستصفى" (2/ 334) للغزَّالي، و"الرسالة" (ص 528) للشافعي، و"المسودة" (ص 398)، و"روضة الناظر" (ص 305) لابن قدامة، و"البرهان" (2/ 895) للجويني. (¬10) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬11) نقله عنهما ابن حزم في "الإحكام" (8/ 45)، وتعقّبهما بقوله: "وما يعلم في البدع أشنع من هذا القول! ثم هو مع شناعته بارد سخيف متناقض" وطول في الرد عليه بعبارات شديدة؛ كعادته، رحمه اللَّه تعالى.

[أمثلة من تناقض القياسيين]

هو مقدم على خبر الواحد، ولا يمكنهم ولا أحد من الفقهاء طرد هذا القول ألبتة، بل لا بد من تناقضهم، واضطربوا في تقديمه على الخبر المرسل، وعلى قول الصحابي؛ فمنهم من قدم القياس، ومنهم من قدم المرسل وقول الصحابي، وأكثرهم -بل كلهم- يقدمون هذا تارة، وهذا تارة؛ فهذا تناقضهم في التأصيل. وأما تناقضهم في التفصيل فنذكر منه طرفًا يسيرًا يدل على ما وراءه من قياسهم في المسألة قياسًا وتركهم فيها مثله أو ما هو أقوى منه، أو تركهم نظير ذلك القياس أو أقوى منه في مسألة أخرى، لا فرق بينهما ألبتة. [أمثلة من تناقض القياسيين] فمن ذلك أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر، وقاسوا في أحد القولين عليه سائرَ الأنبذة، وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه، فإن كان هذا القياس حقًا فقد تركوه، وإن كان باطلًا فقد استعملوه، ولم يقيسوا عليه الخل ولا فرق بينهما؛ وكيف كان نبيذ التمر تمرةً طيبةً وماءً طهورًا (¬1)، ولم يكن الخل عنبةً طيبةً وماءً طهورًا (1)، والمرق لحمًا طيبًا وماءً ظهورًا (¬2)، ونقيع المشمش [والزبيب] (¬3) كذلك؟ فإن ادعوا الإجماع على عدم الوضوء بذلك فليس فيه إجماع؛ فقد قال الحسن بن صالح بن حي، وحميد بن عبد الرحمن: يجوز الوضوء بالخل، وإن كان الإجماع (¬4) كما ذكرتم فهلا قستم المنع من الوضوء بالنبيذ على ما أجمعوا عليه من المنع من الوضوء بالخل؟ فإن قلتم: اقتصرنا على موضع النص ولم نقس عليه، قيل لكم: فهلا سلكتم ذلك في جميع نصوصه، واقتصرتم على محالها الخاصة، ولم تقيسوا عليها؟ فإن قلتم: لأن هذا خلاف القياس، قيل لكم: فقد صرحتم أن ما ثبت على خلات القياس يجوز القياس عليه، ثم هذا يبطل أصل القياس، فإنه إذا جاز ورود الشريعة (¬5) بخلاف القياس علم أن القياس ليس من الحق، وأنه عينُ الباطل؛ فإن الشريعة لا ترد بخلاف الحق أصلًا؛ ثم إن من قاعدتكم أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يقبل، وفي أي الأصول وجدتم ما ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ماء طهور"! (¬2) في (ق): "لحم طيب وماء طهور". (¬3) في (ق) و (ك): "الزيت"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة كما أثبتناه. (¬4) في (ق): "إجماع". (¬5) في (ن): "الشرع"، وفي (ك) و (ق): "جاز ورود الشرع".

يجوز التطهير (1) به خارج المصر والقرية [ولا يجوز التطهير (¬1) به داخلهما] (¬2)؟ فإن قالوا: اقتصرنا في ذلك على موضع النص، قيل: فهلا اقتصرتم به على خارج مكة فقط حيث جاء الحديث، وكيف ساغ لكم قياس الغسل من الجنابة في ذلك على الوضوء دون قياس داخل المِصْر على خارجه؟ وقياس العنبة الطيبة والماء الطهور واللحم الطيب والماء الطهور والدِّبْس الطيب والماء الطهور على التمرة الطيبة والماء الطهور، فقستم قياسًا، وتركتم مثله، وما هو أولى منه، فهلا اقتصرتم على مورد الحديث ولا عديتموه [إلى] (¬3) أشباهه ونظائره؟ ومن ذلك أنكم قستم على خبر مرويّ: "يا بني المطلب إن اللَّه كَرِه لكم غسالة أيدي الناس" (¬4) فقستم على ذلك الماء الذي يُتوضأ به، وأبحتم لبني المطلب غسالة أيدي الناس التي نص عليها الخبر، وقستم الماء المستعمل في رفع الحدث (¬5) وهو طاهر لاقى أعضاءً طاهرة (¬6) على الماء الذي لاقى العذرة والدم والميتات، وهذا من أفسد القياس، وتركتم قياسًا أصح منه وهو قياسه على الماء المستعمل في محل التطهير من عضو إلى عضو ومن محل إلى محل، فأيّ (¬7) فرق بين انتقاله من عضو المتطهر الواحد إلى عضوه [الآخر] (3) وبين انتقاله إلى عضو أخيه المسلم؛ وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل المسلمين (¬8) في توادهم وتراحمهم [وتعاطفهم] (¬9) كمثل الجسد الواحد" (¬10)، ولا ريب عند كل عاقل أن قياس جسد المسلم على جسد أخيه أصح من قياسه على العَذِرَة والجِيَفِ والميتات والدم. ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي توضأ به الرجل على العبد الذي أعتقه في ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "التطهر". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "لا داخلها". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ذكره الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 403)، وقال: "غريب بهذا اللفظ" أي لا أصل له، وبمعناه ما رواه مسلم في "صحيحه" (1072) في (الزكاة): باب ترك استعمال آل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الصدقة، ضمن حديث طويل جاء فيه: "إن الصدقة لا تنبغي لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس". (¬5) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 47)، و"زاد المعاد" (2/ 129). (¬6) في (ن): "لاقى طاهر"! (¬7) في (ق) و (ك): "وأي". (¬8) في (ق) و (ك): "المؤمنين". (¬9) ما بين المعقوفتين أثبته من (ق). (¬10) سيأتي تخريجه.

كفارته والمال الذي أخرجه في زكاته، وهذا من أفسد القياس، وقد تركتم قياسًا أصح في العقول والفطر منه، وهو قياس هذا الماء الذي قد أُدي به عبادة على الثوب الذي قد صُلِّي فيه، وعلى الحصى الذي رُمي به (¬1) الجِمَار مرة عند من يجوِّز منكم الرمي بها ثانية، وعلى الحجر الذي استُجمر به مرة إذا غسله أو لم (¬2) يكن به نجاسة. ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغيِّر له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا على الماء الذي غيَّرت النجاسة لونه أو طعمَه أو ريحَه، وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحس (¬3)، وتركتم قياسًا أصح منه، وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة؛ فقياس الوارد على المورود مع استوائهما (¬4) في الحد والحقيقة والأوصاف أصحُ من قياس مئة رطل [ماء وقع فيه شعرة كلب على مئة رطل] (¬5) خالطها مثلها بولًا وعذرة حتى غيّرها. ومن ذلك [أنكم] (¬6) فرَّقتم بين ماء جارٍ بقدر طرف الخنصر تقع فيه النجاسة فلم تغيره وبين الماء العظيم المستبحر إذا وقع فيه مثل رأس الإبرة من البول، فنجّستم الثاني دون الأول، وتركتم محض القياس فلم تقيسوا الجانب الشرقي من غدير كبيرٍ (¬7) في غربيِّه نجاسة على الجانب الشمالي والجنوبي، وكل ذلك مُمَاسٌّ لما قد تنجَّس عندكم مماسة مستوية. وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة، فأوجبوا الاستنشاق، ولم يقيسوه عليه في الوضوء الذي أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه بالاستنشاق [نصًا] (¬8)، ¬

_ (¬1) في (ك): "بها". (¬2) في (ق) و (ك): "ولم"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬3) في (د)، و (و) و (ح): "والحسن"، وقال (د): كذا، ولعله "والحس". قلتُ: وهو ما أثبته (ط). (¬4) في (ق) بعدها: "الورود أصح مع استوائهما". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "غدير كثير". (¬8) ورد ذلك عند أحمد في "المسند" (4/ 211، 33)، وأبو داود في "سننه" (كتاب الطهارة): باب الاستنثار (1/ 35/ 142)، والترمذي في "سننه" (كتاب الصوم): باب ما جاء في كراهية مبالغة الاستنشاق للصائم (3/ 146/ 788)، والنسائي في "سننه" (كتاب الطهارة): باب المبالغة في الاستنشاق (1/ 66) وابن ماجه في "سننه" (كتاب الطهارة): باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار (1/ 142/ 407)، والحاكم في "المستدرك" =

ففرقوا بينهما، وأسقطوا الوجوب في محل الأمر به، وأوجبوه في غيره، والأمر بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل البَدَن (¬1) في الجنابة سواء. ومن ذلك أنكم قستم النسيان على العمد في الكلام في الصلاة، وفي فعل المحلوف عليه ناسيًا، وفيما يوجب الفدية [من محظورات الإحرام] (¬2) كالطيب واللباس والحلق والصيد، وفي حَمْل النجاسة في الصلاة، ثم فرَّقتم بين النسيان والعمد في السلام قبل تمام الصلاة، وفي الأكل والشرب في الصوم، وفي ترك التسمية على الذبيحة، وفي غير ذلك من الأحكام، وقستم الجاهل على الناسي في عدة مسائل وفرَّقتم بينهما في مسائل أُخر، ففرقتم بينهما فيمن نسي أنه صائم فأكل أو شرب (¬3) لم يبطل صومه، ولو جهل فظن وجودَ الليل فأكل أو شرب فسد صومه، مع أن الشريعة تعذر الجاهل كما تعذر الناسي أو أعظم (¬4)؟ كما عذر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المسيء في صلاته بجهله بوجوب الطمأنينة فلم يأمره بإعادة ما مضى (¬5)، وعَذَر الحامل المستحاضة بجهلها بوجوب الصلاة والصوم عليها مع الاستحاضة ولم يأمرها بإعادة ما مضى (¬6)، وعَذَرَ عديَّ بن حاتم بأكله في رمضان حين تبين له الخيطان اللذان جعلهما تحت وسادته (¬7) ولم يأمره بالإعادة (¬8)، وعَذَر أبا ذر بجهله ¬

_ = (1/ 147، 148)، وغيرهم من طريق إسماعيل بن كثير، قال: سمعت عاصم بن لقيط عن أبيه، وفيه عن النبي قوله للقيط: "وبالغ في الاستنشاف إلا أن تكون صائمًا". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو كما قالوا، وانظر "الطهور" لأبي عبيد (284) بتحقيقي، و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (1/ 262). وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬1) في (ق) و (ك): "كالأمر بغسل اليدين"! (¬2) في (ن): "في الإحرام". (¬3) في (ق): "فأكل وشرب". (¬4) في (ق) و (ك): "وأعظم". (¬5) حديث المسيء صلاته رواه البخاري (757) في الأذان: باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، و (6251) و (6252) في الاستئذان: باب من رد فقال: إن عليك السلام، و (6667) في الأيمان والنذور، ومسلم (397) في الصلاة: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من حديث أبي هريرة. ووقع في (ق) و (ك): "لما مضى". (¬6) لم أجده بعد بحثٍ واستقصاءٍ، وفي "مصنف عبد الرزاق" (1/ 316) آثار فلتنظر، وكذا في "سنن البيهقي"، ووقع في (ن): "ولم يأمرها بالإعادة" وسقطت "الحامل" من (ك). (¬7) في (ق): "حتى يبين له" وفي (ق) و (ك): "وساده". (¬8) سيأتي تخريجه.

بوجوب الصلاة إذا عدم الماء فأمره بالتيمم ولم يأمره بالإعادة (¬1)، وعذر الذين ¬

_ (¬1) هي قصة وقعت لأبي ذر رواها مطولةً أبو داود (332) في الطهارة: باب الجنب يتيمم، وابن حبان (1311) و (1312)، والحاكم (1/ 170)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 220) من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن عمرو بن بُجدان عن أبي ذر وذكرها. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح، ولم يخرجاه إذ لم نجد لعمرو بن بُجْدان راويًا غير أبي قلابة الجرمي، وهذا مما شرطت فيه، وثبت أنهما خرجا مثل هذا في مواضع من الكتابين" ووافقه الذهبي. أقول: عمرو بن بُجْدان هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" ووثقه العجلي. وتوثيقهما معروف، وذكره البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا وقال ابن القطان: لا يعرف له حال. وكذا قال ابن حجر في "التقريب". أما الحافظ ابن دقيق العيد فرد على ابن القطان كما -في "نصب الراية" (1/ 149) - فقال: ومن العجب كون ابن القطان لم يكتف بتصحيح الترمذي في معرفة حال عمرو بن بُجْدان مع تفرده بالحديث وأي فرق بين أن يقول: هو ثقة أو يصحح له حديثًا انفرد به؟ وإن كان توقف عن ذلك لكونه لم يرو عنه إلا أبو قلابة، فليس هذا مقتضى مذهبه، فإنه لا يلتفت إلى كثرة الرواة في نفي جهالة الحال، فكذلك لا يوجب جهالة الحال بانفراد راو واحد عنه بعد وجود ما يقتضي تعديله وهو تصحيح الترمذي. أقول: هنا أمران: الأول: تصحيح الترمذي لحديث لا يعني توثيق رواته وذلك لأن الإمام الترمذي معروف عنه بالاستقراء أنه لا يحكم على السند وإنما يحكم بمجموع طرق الحديث، وهذا الحديث جاء في آخره: "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو عشر حجج فإن وجد الماء فليمسّ بشرته الماء" وهو الجزء الذي رواه الترمذي (124) وهذا له شواهد. الثاني: أن رواية واحد أو اثنين أو أكثر عن راو لا تعتبر توثيقًا له هذا هو الأصل وإنما العبرة بتصريح أحد علماء الجرح والتعديل أو أكثر بالتوثيق، لكن عُرف بالاستقراء -كما قال الذهبي- أن رواية جماعة من الثقات عن راو مما يُحسِّن أمره، أما هنا فلم يرو عنه إلا أبو قلابة فقط ولم ينص أحد على توثيقه فهو إذن على الجهالة. والحديث رواه ابن أبي شيبة (1/ 156 - 157)، وأحمد (5/ 146) والطيالسي (484)، وأبو داود (333)، والدارقطني (1/ 187) من طرق عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني عامر عن أبي ذر. ورواه عبد الرزاق (912)، وأحمد (5/ 146 - 147) من طريقين عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل من بني قشير عن أبي ذر. قال أحمد شاكر في تعليقه على "سنن الترمذي" (1/ 215): وهذا الرجل هو الأول نفسه لابن بني قشير من بني عامر كما في "الاشتقاق" لابن دريد (ص 181) وهو عمرو بن بجدان نفسه، وفي السند اختلاف آخر ذكره الدارقطني في "علله" (9/ 252 - 255): ثم قال: والقول قول خالد ومعناه. =

تَمَعَّكوا في التراب كتمعك الدابة لما سمعوا فرض التيمم ولم يأمرهم بالإعادة (¬1)، وعذر معاوية بن الحكم بكلامه في الصلاة عامدًا لجهله بالتحريم (¬2)، وعذر أهل قباء بصلاتهم إلى بيت المقدس بعد نَسْخ استقباله لجهلهم (¬3) بالناسخ ولم يأمرهم بالإعادة (¬4)، وعذر الصحابةُ والأئمة بعدهم من ارتكب محرمًا جاهلًا بتحريمه فلم يحدّوه (¬5). ¬

_ = ورواه دون ذكر القصة مقتصرًا على قوله: الصعيد الطيب وضوء المسلم: عبد الرزاق (913) وأحمد (5/ 155 و 180) والترمذي (124) والنسائي (1/ 171) والدارقطني (1/ 186، 187) والبيهقي (1/ 212) من طريق أبي قلابة عن عمرو به. ثم وجدت لقصة أبي ذر شاهدًا من حديث أبي هريرة رواه الطبراني في "الأوسط" (1355) من طريق مقدم بن محمد المقدمي حدثنا القاسم بن يحيى بن عطاء حدثنا هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: كان أبو ذر في غنيمةٍ له. . . فذكر القصة. وقال: لم يرو هذا الحديث عن محمد إلا هشام ولا عن هشام إلا القاسم تفرد به مُقَدَّم. أقول: ونقل الزيلعي في نصب الراية (1/ 150) عن ابن القطان قوله: إسناده صحيح وهو غريب من حديث أبي هريرة وله علة والمشهور حديث أبي ذر. وقال الهيثمي (1/ 261): ورجاله رجال الصحيح. ونقل الحافظ في "التلخيص" (1/ 154) عن الدارقطني في "العلل" أن إرساله أصح. أقول: وأنا أخشى أن يكون فيه وهم، فإن مقدم بن محمد هذا وإن وثقه البزار والدارقطني وروى له البخاري إلا أن ابن حبان في "الثقات" قال: يُغرْب ويخالف. وانظر لزامًا "الخلافيات" للبيهقي (2/ 455) وتعليقي عليه. (¬1) أحدهم عمار بن ياسر روى حديثه البخاري (338) في التيمم: باب المتيمم هل ينفخ فيهما، و (341) في التيمم للوجه والكفين ومسلم (368) (112) من حديث عبد الرحمن بن أبزى، ورواه البخاري (347) ومسلم (368) (110) من حديثه. (¬2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الصلاة) باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة رقم (537) من حديث معاوية بن الحكم نفسه. (¬3) في المطبوع: "بجهلهم" وفي (ك): "استقبالهم بجهلهم". (¬4) ورد أن أهل قباء جاءهم الخبر وهم في الصلاة فاستداروا إلى الكعبة، جاء هذا من حديث ابن عمر، رواه البخاري (403) في الصلاة: باب ما جاء في القبلة ومن لا يرى الإعادة على من شك فصلى إلى غير القبلة، و (4488) و (4490) و (4491) و (4493) و (4494) في التفسير، و (7251) في أخبار الآحاد: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ومسلم (526) في المساجد: باب تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة. وقد جاء من حديث غيره من الصحابة أيضًا. (¬5) أما عند الصحابة لمن ارتكب محرمًا: فانظر مثلًا "سنن البيهقي" (7/ 238 - 239) وتعليقي على "الطرق الحكمية" للمصنف.

وفرّقتم بين قليل النجاسة في الماء وقليلها في الثوب والبدن، وطهارة الجميع شرط لصحة الصلاة، وترك الجميع صريح القياس في مسألة الكلب؛ فطائفة لم تقس عليه غيره، وطائفة قاست عليه الخنزير وحده دون غيره كالذئب الذي هو مثله أو شر منه، وقياس الخنزير على الذئب أصح (¬1) من قياسه على الكلب، وطائفة قاست عليه البغل والحمار، وقياسهما على الخيل التي هي قرينتهما (¬2) في الذكر وامتنان اللَّه [سبحانه] (¬3) على عباده بها (¬4) بركوبها (¬5) واتخاذها زينة وملامسة (¬6) الناس لها أصح من قياس البغل [على الكلب (¬7)؛ فقد علم كل أحد أن الشبه بين البغل والفرس أظهر وأقوى من الشبه بينه وبين الكلب، وقياس البغل] (¬8) والحمار على السِّنَّوْر لشدة (¬9) ملامستهما والحاجة إليهما وشربهما من آنية البيت أصح من قياسهما على الكلب. وقستم الخنافسَ والزنابيرَ والعقاربَ والصِّرْدَانَ على الذباب في أنها لا تنجس بالموت بعدم النفس السائلة لها وقلة الرطوبات والفضلات التي توجب التنجيس فيها (¬10)، ونَجَّسَ من نَجَّس منكم العظام بالموت مع تعريها من الرطوبات والفضلات [جملة] (¬11)، ومعلوم أن النفس السائلة التي في تلك الحيوانات المقيسة أعظم من النفس المسائلة التي في العظام. وفرَّقتم بين ما شرب منه الصقر والبازي والحدأة والعقاب والأحناش (¬12) وسباع الطير وما شرب منه سباع [البهائم من غير فرق بينهما] (¬13)؛ [قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الفرق في هذا بين سباع] (¬14) الطيور وسباع ذوات الأربع، فقال: أما في القياس فهما سواء، ولكني أستحسن في هذا (¬15). ¬

_ (¬1) في (ق): "وقياس الخنزير عليه أصح". (¬2) في (ق): "قرينتها". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في المطبوع و (ن): "لها". (¬5) في (ك) و (ق): "يركبونها". (¬6) في (ق): "وملابسة". (¬7) قال في هامش (ق): "لعله: قياسهما على الكلب وقياس". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق)، وقال في هامش (ق): "لعله: قياسهما على الكلب وقياس". (¬9) في المطبوع: "بشدة" وفي (ك) و (ق): "لشدة ملابستهما". (¬10) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" مسألة (رقم 40) للبيهقي، وتعليقي عليها. (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) في (ق) و (ك): "والأجناس". (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬14) ما بين المعقوفتين مذكور في (ق) بعد قوله الآتي: "وسباع ذوات الأربع". (¬15) الذي وجدته في "كتاب الآثار" لأبي يوسف (ص 7، رقم 33): "عن أبي حنيفة عن حماد =

وتركتم صريح القياس في التسوية بين نبيذ التمر والزبيب والعسل والحنطة ونبيذ العنب، وفرقتم بين المتماثلين، ولا فرق بينهما ألبتة، مع أن النصوص الصحيحة الصريحة قد سَوَّت (¬1) بين الجميع. وفرَّقتم بين من معه إناءان طاهر ونجس فقلتم: يريقهما ويتيمم، ولا يتحرّى فيهما (¬2)، ولو كان معه ثوبان كذلك يتحرى فيهما، والوضوء بالماء النجس كالصلاة في الثوب النجس، ثم قلتم: فلو كانت الآنية ثلاثة تحرى ففرقتم بين [الاثنين والثلاثة، وهو فرق بين] (¬3) متماثلين، وهذا على أصحاب الرأي، وأما أصحاب الشافعي ففرقوا بين الإناء الذي كلّه بول وبين الإناء الذي نصفه فأكثر بول، فجوّزوا الاجتهاد بين الثاني والإناء الطاهر، دون الأول، وتركوا محض القياس في التسوية بينهما. وقستم القيء على البول، وقلتم: كلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف، ولم تقيسوا الجشوة (¬4) الخبيثة على الفسوة ولم تقولوا: كلاهما ريح خارجة من الجوف. وقستم الوضوء وغسل الجنابة على الاستنجاء وغسل النجاسة (¬5) في صحته بلا نية، ولم تقيسوهما على التيمم وهما أشبه به من الاستنجاء، ثم تناقضتم فقلتم: لو انغمس جنب (¬6) في البئر لأخذ الدلو ولم ينوِ الغسل لم يرتفع حدثه، كما قاله أبو يوسف ونقض أصله في أن مسَّ الماء لبدن الجنب يرفع حدثه وإن لم ينوِ، وقال محمد: بل يرتفع حدثه ولا يفسد الماء، فنقض أصله في فساد الماء الذي يرفع الحدث (¬7). ¬

_ = عن إبراهيم أنه قال: "لا بأس بسؤر السنور، إنما هي من أهل البيت". ووقع في (ق): "ولكن استحسن". (¬1) في (ك): "ساوت". (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 259، 273 و 4/ 28)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 129، 176). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) "الجشوة: نفس المعدة بالريح الخارج من الفم". (ط). (¬5) في (ن): "غسل الجنابة". (¬6) في (ق): "الجنب". (¬7) في اشتراط النية في الطهارة، انظر كلام المؤلف -رحمه اللَّه- في "تهذيب السنن" (1/ 48)، و"بدائع الفوائد" (3/ 186 - 193 مهم جدًا)، و"الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 7) مع تعليقي عليها.

وقستم التيمم إلى المرفقين على غسل اليدين إليهما (¬1)، ولم تقيسوا المسح على الخفين إلى الكعبين على غسل الرجلين إليهما، ولا فرق بينهما ألبتة، وأهل الحديث أسعدُ بالقياس منكم كما هم أسعد بالنص. وقستم إزالة النجاسة عن الثياب بالمائعات على إزالتها بالماء (¬2)، ولم تقيسوا إزالتها من القذر بها على الماء، فما الفرق؟ ثم قلتم: تُزَال من المَخْرَجين بكل مزيل جامد، ولا تزال من سائر البدن إلا بالماء، وقلتم: تزال من المخرجين بالروث اليابس، ولا تزال بالرجيع اليابس، مع تساويهما في النجاسة (¬3). وقستم قليل القيء على كثيره في النجاسة، ولم تقيسوه عليه في كونه حدثًا (¬4)، وقستم نوم المتورِّك على المضطجع في نقض الوضوء، ولم تقيسوا عليه نوم الساجد (¬5) وتركتم محض القياس المؤيد بالسنة المستفيضة في مسح العمامة (¬6) -[إذ] (¬7) هي ملبوس معتاد ساتر لمحل الفرض ويشق نزعه على كثير من الناس إما لحنك (¬8) [أو لكلاب] (¬9) أو لبرد- على المسح على الخفين، والسنة قد سَوّتْ بينهما (¬10) في المسح كما هما (¬11) سواء في القياس ويسقط فرضهما في التيمم، وقستم مسح الوجه واليدين في التيمم على الوضوء في وجوب الاستيعاب [ولم تقيسوا مسح الرأس في الوضوء على الوجه في وجوب الاستيعاب] (¬12)، والفعل ¬

_ (¬1) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (مسألة رقم 28) للبيهقي، وتعليقي عليها. (¬2) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (رقم 1) وتعليقي عليها. (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 151). (¬4) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" للبيهقي (رقم 15، 16) وتعليقي عليها. (¬5) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 89). (¬6) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 112) ولاحظ أن كلام المؤلف -رحمه اللَّه- هناك مبتور في المطبوع، وانظر: "زاد المعاد" (1/ 49، 50). (¬7) في المطبوع و (ن): "و". (¬8) "يقال: تحنك: أدار العمامة من تحت حنكه" (و). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) انظر ما مضى من الإشارة إلى أحاديث المسح على الخفين، والإشارة إلى أحاديث المسح على العمامة، وانظر: "دفع الملامة في استخراج أحكام العمامة" (ص 142 - 229)، "فقه الممسوحات" (135 - 169)، "أحكام المسح على الحائل" (497 - 589). (¬11) في (ق): "وكلاهما". (¬12) في (ق): "ولم تقيسوهما على مسح الرأس"، وسقط من (ك).

والباء والأمر في الموضعين سواء (¬1). وقستم وجود الماء في الصلاة على وجوده خارجها في بطلان صلاة المتيمم به (¬2)، ولم تقيسوا القهقهة في الصلاة على القهقهة في خارجها (¬3)، وفرقتم بين تقديم الزكاة قبل وجوبها فأجزتموه وبين تقديم الكفارة [قبل وجوبها] (4) فمنعتموه، وقستم وجه المرأة في الإحرام على رأس الرجل [وتركتم قياس وجهها على يديها أو على بدن الرجل] (¬4)، وهو محض القياس وموجب السنّة فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوّى بين يديها ووجهها وبين يدي الرجل ووجهه حيث قال: "لا تلبس القفازين ولا النقاب" (¬5) وكذلك قال: "لا يلبس المحرمُ القميصَ ولا السَّراويل ولا تنتقب المرأة" (¬6) فتركتم محض القياس وموجب السنّة. وقستم المزارعة والمساقاة (¬7) على الإجارة الباطلة فأبطلتموهما، وتركتم محض القياس وموجب السنّة وهو قياسهما على المضاربة والمشاركة (¬8) فإنهما أشبه بهما منهما بالإجارة؛ فإن صاحب الأرض والشجر يدفع أرضه وشجره لمن يعمل عليهما وما رزق اللَّه من نماء (¬9) فهو بينه وبين العامل، وهذا كالمضاربة (¬10) سواء؛ فلو لم تأتِ السنّة الصحيحة بجوازها (¬11) لكان القياس يقتضي جوازها (11) عند القياسيين (¬12). ¬

_ (¬1) الموضعين هما: آية الوضوء {. . . وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ. . .} الآية السادسة من سورة المائدة، وآية التيمم: {. . . فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ. . .} الآية الثالثة والأربعون من سورة النساء (ط). (¬2) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (رقم 26)، وتعليقي عليها. (¬3) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (رقم 22)، وتعليقي عليها وسقطت "في" من (ك) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب جزاء الصيد: باب ما يُنهى من الطيب للمحرم والمحرمة، 1838) من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬6) سبق تخريجه (1/ 364). (¬7) "انظر: نيل الأوطار فيهما" (و). (¬8) سيأتي تخريج هذه الأحاديث المشار إليها. (¬9) في (ق) و (ك): "النماء". (¬10) "هي أن تعطي مالًا لغيرك يتجر فيه، فيكون له سهم معلوم من الربح، وهي مفاعلة من الضرب في الأرض". (و). (¬11) في (ق): "بجوازهما". (¬12) في (ق): "القياسين".

واشترط (¬1) أكثرُ من جوزّها كون البذر من رب الأرض، وقاسها على المضاربة في كون المال من واحد والعمل من واحد. وتركوا محض القياس وموجب السنّة (¬2)؛ فإن الأرض كالمال في المضاربة، والبذر يجري مجرى الماء والعمل فإنه يموت في الأرض، ولهذا (¬3) لا يجوز أن يرجع إلى ربه مثلُ بذرة ويقتسما الباقي، ولو كان كرأس المال في المضاربة لجاز، بل اشترط (¬4) أن يرجع إليه [مثل] (¬5) بذرة كما [يشترط أن] (¬6) يرجع إلى رب المال مثل ماله، فتركوا [محض] (¬7) القياس كما تركوا موجب السنّة الصحيحة الصريحة وعمل الصحابة كلهم. وقستم إجارة الحيوان للانتفاع بلبنه على إجارة الخبز للأكل، وهذا من أفسد القياس، وتركتم محض القياس وموجب القرآن، فإن اللَّه سبحانه قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فقياس الشاة والبقرة والناقة للانتفاع بلبنها على الظئر أصح وأقرب إلى العقل من قياس ذلك على إجارة الخبز للأكل؛ فإن الأعيان المستخلفة شيئًا بعد شيء تجري مجرى المنافع كما جرت مجراها في المنيحة (¬8) والعارية والضمان بالإتلاف، فتركتم [محض القياس. وقستم على ما لا خفاء بالفرق بينه وبينه، وهو أن الخبز والطعام تذهب جملته بالأكل ولا يخلُفُه غيره، بخلاف اللبن ونقع البئر، وهذا من أجلى القياس. وقستم الصداق على ما يُقطع فيه يَدُ السارق، وتركتم] (¬9) محض القياس وموجب السنّة (¬10)؛ فإنه عقد مُعَاوضة فيجوز بما يتراضى عليه المتعاوضان ولو خاتمًا (¬11) من حديد. وقستم الرجل يسرقُ العين ثم يملكها بعد ثبوت القطع على ما إذا ملكها قبل ذلك، وتركتم محض القياس وموجب السنّة؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسقط القطع عن ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فاشترط". (¬2) سيأتي تخريج الأحاديث المشار إليها. (¬3) في (ق): "وبهذا". (¬4) في (ق) و (ك): "يشترط". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬8) "منحة الناقة: جعل له وبرها ولبنها وولدها، فهي منيحة". (و). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) وقال في هامش (ق): "سقط شيء". (¬10) سيأتي تخريج هذه الأحاديث المشار إليها. (¬11) في (ق): "خاتم".

سارق الرداء بعدما وهبه إياه صَفْوَان (¬1)، وفرقتم بين ذلك وبين الرجل يزني بالأمة ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 834)، وعنه الشافعي في "المسند" (325)، والطبراني في "الكبير" (7325)، والطحاوي في "المشكل" (2383)، والبيهقي (8/ 265) عن ابن شهاب عن صفوان بن عبد اللَّه بن صفوان: أن صفوان بن أمية قيل له: إنه من لم يهاجر هلك! فقدم صفوان بن أمية المدينة، فنام في المسجد، وتوسّد رداءه، فجاء سارق، فأخذ رداءه، فأخذ صفوان السارق، فجاء به إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أسرقت رداء هذا؟ " قال: نعم، فأمر به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تقطع يده، فقال صفوان: هو عليه صدقة. فقال: "هلا قبل أن تأتيني به" وهذا مرسل. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 612): "هكذا روى هذا الحديث جمهور أصحاب مالك مرسلًا، ورواه أبو عاصم النبيل عن مالك عن الزهري عن صفوان بن عبد اللَّه بن صفوان عن جده؛ قال: قيل لصفوان:. . . " وذكره بنحوه. قال: "ولم يقل أحد فيما علمت في هذا الحديث عن صفوان بن عبد اللَّه بن صفوان عن جده؛ غير ابن عاصم -وهو النبيل-؛ ورواه شبابة بن سوار عن مالك عن الزهري عن عبد اللَّه بن صفوان عن أبيه". قلت: رواية شبابة؛ أخرجها ابن ماجه (2595)، والطحاوي في "المشكل" (2384)، وابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 216). ورواية أبي عاصم النبيل، أخرجها الطبراني (7325). قال الطحاوي: "ووافق شبابة على هذا الإسناد في هذا الحديث أبو علقمة الفروي". وإذا كان إسناد هذا الحديث كما ذكرنا، احتمل أن يكون الزهري قد سمعه من عبد اللَّه بن صفوان، عن أبيه، وسمعه من صفوان بن عبد اللَّه، فحدّث به مرة هكذا ومرة هكذا، كما يفعل في أحاديثه عن غيرهما ممن يحدث عنه. فإن قال قائل: أفيتهيأ في سنه لقاء عبد اللَّه بن صفوان؟ قيل له: نعم ذلك غير مستنكر، لأن عبد اللَّه بن صفوان قُتل مع عبد اللَّه بن الزبير في اليوم الذي قتل فيه من سنة ثلاث وسبعبن، والزهري يومئذ سنّه أربع عشرة سنة، لأن مولده كان في السنة التي قتل فيها الحسين بن علي -رضي اللَّه عنهما-، وهي سنة إحدى وستين. فقال قائل: فقد يجوز أن يكون عبد اللَّه بن صفوان هو ابن عبد اللَّه بن صفوان. قيل له: ما نعلم لصفوان بن عبد اللَّه ابنًا أُخذ عنه شيء من العلم، وإنما عبد اللَّه بن صفوان بن أمية" انتهى. قلت: ولحديث صفوان هذا طرق عديدة يصح بمجموعها. أخرجها أحمد (3/ 401 و 6/ 465، 466)، والنسائي (8/ 68 - 70)، وأبو داود (4394)، وابن الجارود (828)، والدارقطني (3/ 204 - 206)، والحاكم (4/ 380)، والطحاوي (2385 - 2389)، والطبراني (7338 - 7341)، والبيهقي (8/ 267). وصحح هذا الحديث جمع من العلماء. انظر: "التمهيد" (11/ 215 - 220)، "بيان الوهم والإيهام" (1/ 90)، "تنقيح التحقيق" =

ثم يملكها فلم تروا ذلك مسقطًا للحد، مع أنه لا فرق بينهما. وقستم قياسًا أبعد من هذا فقلتم: إذا قُطع بسرقتها مرة ثم عاد فسرقها لم يقطع به ثانيًا، وتركتم محض القياس على ما إذا زنى بامرأةٍ فحُدَّ بها ثم زنى بها ثانية فإن الحد لا يسقط عنه، ولو قذفه [فَحُدَّ ثم قَذَفه] (¬1) ثانيًا لم يسقط [عنه] (¬2) الحد. وقستم نذر صوم يوم العيد في الانعقاد ووجوب الوفاء على نذر صوم اليوم القابل له شرعًا، وتركتم محض القياس وموجب السنّة (¬3)، ولم تقيسوه على صوم يوم الحيض، وكلاهما غير محل للصوم شرعًا فهو بمنزلة الليل. وقستم وجعلتم المحتقن بالخمر كشاربها في الفطر بالقياس، ولم تجعلوه كشاربها في الحد؛ وقستم (¬4) الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله به، ولم تقيسوه (¬5) على الحربي في إسقاط القود. ومن المعلوم قطعًا أن الشبه الذي بين المعاهد والحربى أعظم من الشبه الذي بين الكافر والمسلم، واللَّه سبحانه [وتعالى] (¬6) قد سوى بين الكفار كلهم في إدخالهم [نار] (6) جهنم، وفي قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين، [وفي عدم التوارث بينهم وبين المسلمين] (6)، وفي منع قبول شهادتهم على المسلمين، وغير ذلك، وقطع المساواة بين المسلمين والكفار؛ فتركتم محض القياس -وهو التسوية بين ما سوى (¬7) اللَّه بينه- وسويتم بين ما فرّق اللَّه بينه. ومن العجب أنكم قِسْتُمُ المؤمنَ على الكافر في جَريان القصاص بينهما في النفس والطرف، ولم تقيسوا العبد المؤمن على الحُرِّ في جريان القصاص بينهما في الأطراف؛ فجعلتم حرمة عدوِّ اللَّه الكافر في أطرافه أعْظَمَ من حرمة وليه المؤمن (¬8)، ¬

_ = (3/ 324)، "نصب الراية" (3/ 368)، "التلخيص الحبير" (4/ 64)، "نيل الأوطار" (7/ 375). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) سيأتي تخريج الأحاديث المشار إليها. (¬4) في (ق) و (ك): "وقاسوا". (¬5) في (ق): "ولم يقيسوه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق) و (ك): "ما يسوي". (¬8) انظر: "تهذيب سنن أبي داود" (6/ 330)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 146)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 435)، وانظر كتاب: "أحكام الجناية" (ص 167 - 173) للشيخ الفاضل بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-.

وكان نقص المؤمن العبودية (¬1) الموجب للأجرين عند اللَّه أنقص عندكم من نقص الكفر، وقلتم: يقتل الرجلُ بالمرأة، ثم ناقضتم فقلتم: لا يؤخذ طرفه بطرفها، وقلتم: يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مئة درهم و [قيمة] (¬2) الآخرة مئة ألف درهم، ثم ناقضتم فقلتم: لا يؤخذ طرفه بطرفه، إلا أن تتساوى قيمتهما، فتركتم (¬3) محض القياس؛ فإن اللَّه سبحانه ألغى التفاوتَ بين النفوس والأطراف في الفضل لمصلحة المكلفين، ولعدم ضبط التساوي؛ فألغيتم ما اعتبره اللَّه [سبحانه] (¬4) من الحكمة والمصلحة، واعتبرتم ما ألغاه من التفاوت، وقستم قوله: "إن كَلَّمتُ فلانًا أو بايعته فامرأتي طالق [وعبدي حر" على ما إذا قال: "إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق] (4) " ثم عديتم ذلك إلى قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانًا" ثم كلّمه، ولم تقيسوه على قوله: "إن كلّمت فلانًا فعليَّ صومُ سنة، أو حج إلى بيت اللَّه، أو فمالي صدقة" وقلتم: هذا يمينٌ (¬5) لا تعليق مقصود؛ فتركتم محض القياس؛ فإن (¬6) قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانًا" يمين لا تعليق، وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه، وحكى غيرُ واحدٍ إجماع الصحابة أيضًا على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث، وممن حكاه أبو محمد بن حزْم (¬7)، [وحكاه] أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم (¬8) بن أحمد بن علي التميمي (¬9) المعروف بابن بَزيزة (¬10) في كتابه المسمى بـ"مصالح ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فكأن نقص العبودية". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) ووقع في (ق): "والآخر مئة". (¬3) في (ق) و (ك): "وتركتم". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "هذا نهي". (¬6) في (ق) و (ك): "وإن". (¬7) فقال: "واليمين بالطلاق لا يلزم، وسواء بر أو حنث لا يقع به طلاق، ولا طلاق إلا كما أمر اللَّه عز وجل، ولا يمين إلا كما أمر اللَّه عز جل على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، برهان ذلك: قول اللَّه عز وجل: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ}، وجميع المخالفين لنا ههنا لا يختلفون في أن اليمين بالطلاق والعتاق والمشي إلى مكة وصدقة المال؛ فإنه لا كفارة عندهم في حنثه في شيء منه إلا بالوفاء بالفعل، أو الوفاء باليمين، فصح بذلك يقينًا أنه ليس شيء من ذلك يمينًا؛ إذ لا يمين إلا ما سماه اللَّه تعالى يمينًا" انظر: "المحلى" (10/ 211 - 212/ مسألة: 1969). (¬8) في (ق) و (ك): "عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم" وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وحكى". (¬9) في (ق) و (ك): "التيمي". (¬10) هو الفقيه المفسر أبو محمد عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد القرشي التميمي المالكي، توفي سنة (660 هـ). =

الأفهام في شرح كتاب الأحكام" (¬1) في بابٍ ترجمتُه: البابُ الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه. وقد قدمنا في "كتاب الأيمان" اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق [والشرط] (¬2) وغير ذلك: هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب وشُريح وطاوس: لا يلزم من ذلك شيء، ولا يُقضى بالطلاق على مَنْ حلف به فحنث (¬3)، ولا يُعرف لعلي (¬4) في ذلك مخالف من الصحابة؛ قال (¬5): وصح عن عطاء فيمن قال لامرأته: "أنت طالق إن لم أتزوج عليك" قال: إن لم يتزوج عليها حتى يموت أو تموت فإنهما يتوارثان (¬6)، وهو قول الحكم بن عُتَيْبة (¬7)، ثم حكى عن عطاء فيمن حَلَف بطلاق امرأته ليضربنَّ زيدًا فمات أحدهما أو ماتا معًا فلا حنث ¬

_ = انظر ترجمته في: "التبصير" (1/ 79)، و"التوضيح" (1/ 482). (¬1) هذا الكتاب ذكره الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" في عدة مواضع، انظر كتابنا "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري" (رقم 667). ووقع في (ق): "مصلح الأفهام في شرح كتاب الأحكام". (¬2) في (ق) و (ك): "والمشي". (¬3) قول علي: هو ما رواه ابن حزم في "المحلى" (10/ 212) تعليقًا عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة وأراد سفرًا، فأخذه أهل امرأته، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل، ولم يبعث إليها بشيء، فلما قدم خاصموه إلي عليّ، فقال علي: اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا، فردها عليه. وأخرج عبد الرزاق (11454)، وسعيد بن منصور (رقم 1025 - ط الأعظمي)، وأبو عبيد -ومن طريقه ابن حزمٍ في "المحلى" (10/ 205) - عن المبارك بن فضالة عن الحسن قال: سأل رجل عليًا، قال: قلت: إنْ تزوّجتُ فلانة، فهي طالق، فقال علي: ليس بشيء. وقول شريح: أخرجه عبد الرزاق (رقم 11467)، ومن طريق ابن حزم (10/ 212). وقول طاوس، أخرجه عبد الرزاق (رقم 11469)، ومن طريقه ابن حزم (10/ 213) أيضًا. (¬4) في المطبوع و (ن): "ولم يعلم لعلي كرم اللَّه وجهه في الجنة". (¬5) أي: ابن حزم في "المحلى" (10/ 212). (¬6) قول عطاء: رواه عبد الرزاق (11310) (6/ 368)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 212) عن ابن جريج عن عطاء بالعنعنة. (¬7) قول الحكم بن عتيبة: رواه عبد الرزاق (11309) ومن طريقه ابن حزم (10/ 212) عن الثوري عن غيلان بن جامع عنه، وسنده صحيح. وذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 212)، وتصحف اسمه في مطبوع "الإعلام" إلى "ابن عتبة"!!

عليه ويتوارثان (¬1)، وهذا صريح في أَنَّ يمين الطلاق لا يلزم (¬2)، ولا تطلق الزوجة بالحنث فيها، ولو حنث قبل (¬3) موته لم يتوارثا، فحيث أثبت التوارث دلّ على أَنَّها زوجة عنده، وكذلك عكرمة مولى ابن عباس أيضًا عنده يمين الطلاق لا يلزم، كما ذكره عنه سُنيد (¬4) بن داود في "تفسيره" في سورة النور عند قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] ومن العجب أنكم قلتم: [إذا قال] (¬5): "إن شَفى اللَّه مريضي فعليَّ صوم شهر، أو صدقة، أو حَجة" (¬6) لزمه لأنه قاصدٌ للنذر، فإذا قال: "إن كَلَّمتُ فلانًا فعليَّ صوم، أو صدقة" لم يلزمه (¬7)؛ لأنه نذرُ لجاجٍ وغضب، فهو يمين فيه كفارة اليمين؛ فجعلتم قَصْده لعدم الوقوع مانعًا من ثلاثة أشياء: إيجاب ما التزم (¬8)، ووجوبه عليه، ووقوعه (¬9). وقلتم: لو قال: "إن فعلت كذا فعليَّ الطلاق" وفعله لَزِمه، ولم يمنع قصد الحلف من وقوعه، وهو أبغض الحلال إلى اللَّه (¬10)، ومنع من وجوب القُرُبات ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق بنحوه (رقم 11310)، ومن طريقه ابن حزم. (¬2) في (ق): "تلزم". (¬3) في (ق): "قبيل". (¬4) في (ك): "سعيد". (¬5) في (ق): "إن قال" وسقط من (ك). (¬6) في (ن) و (ق): "أو حج". (¬7) في (ق): "يلزم". (¬8) في (ق) و (ك): "إيجاب بالتزام". (¬9) في (ن) و (ك) و (ق): "ووقوعه عليه". (¬10) يشير إلى حديث: "أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق"، وهو ضعيف. أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب الطلاق): باب كراهية الطلاق (2/ 255 رقم 2178)، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (7/ 322)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2453) من طريق محمد بن خالد الوهبي عن معرِّف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعًا. وإسناده ضعيف، شذ محمد بن خالد الوهبي في وصله؛ فرواه من هو أوثق منه وأكثر عددًا فأرسلوه، وهذا البيان. أخرجه أبو داود في "سننه" (رقم 2177) -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (7/ 322): ثنا أحمد بن يونس، والبيهقي أيضًا (7/ 322) من طريق يحيى بن بُكير، وابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 253) من طريق وكيع بن الجراح، وعبد اللَّه بن المبارك في "البر والصلة" -كما في "المقاصد الحسنة" (12) -، وأبو نعيم الفضل بن دكين -كما قال الدارقطني في "العلل" (4/ ق 52/ ب) -، خمستهم عن معرَّف بن واصل عن محارب مرسلًا دون ذكر (ابن عمر) فيه، وهذا هو الصواب، وهو الذي رجحه أبو حاتم -كما في "العلل" (1/ 431) لابنه-، والدارقطني في "العلل" (4/ ق 52/ ب)، والخطابي في "معالم السنن" (4/ 231)، وإليه مال البيهقي حيث رجح رواية أبي داود عن أحمد بن يونس المرسلة على رواية محمد بن عثمان بن أبي شيبة عن أحمد بن يونس الموصولة - =

التي هي أحبُّ شيء إلى اللَّه؛ فخالفتم صريح القياس والمنقول عن الصحابة والتابعين بأصحَّ إسناد يكون، ثم ناقضتم القياس من وجه آخر فقلتم: إذا قال: "الطَّلاقُ يلزمني لأفعلنَّ كذا إن شاءَ اللَّه" ثم لم يفعله لم يحنث؛ لأنه أخرجه مخرج اليمين؛ وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَلفَ فقال: إن شاء اللَّه، فإن شَاء فَعل وإن شاء ترك" (¬1) فجعلتموه يمينًا، ثم قلتم: يلزمه وقوع الطلاق؛ لأنه تعليقٌ فليس بيمين، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو قال: "الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة" فهو مُؤلٍ فيدخل في قوله [تعالى] (2): {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] والألية والإيلاء [والائتلاء] (¬2) هو الحلف بعينه كما في الحديث: ¬

_ = وهي عند الحاكم (2/ 196)، والبيهقي- حيث قال عقبها: "ولا أراه -أي: ابن أبي شيبة- حفظه". وقد جاء الحديث موصولًا من حديث ابن عمر، ولكن من طريق المعتمد عليها "كالقابض على الماء"، أخرجه ابن ماجه في "السنن" (رقم 2018)، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" (رقم 14)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 64) -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 1056) -، وتمام في "الفوائد" (رقم 798 - ترتيبه) -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (2/ ق 103/ أ) -، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1630) من طريق عبيد اللَّه بن الوليد الوصافي عن محارب به. والوصافي ليس بشيء؛ كما قال ابن معين، وقال الفَلَّاس والنسائي: متروك الحديث؛ فإسناده ضعيف جدًا. وفي الباب عن معاذ عند الدارقطني في "السنن" (4/ 35)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 694) بلفظ: "ما أحل اللَّه شيئًا أبغض إليه من الطلاق"، وله ألفاظ أخرى، وإسناده ضعيف. وحمل الفقهاء هذا الحديث على الصور التي لا يتحقق فيها الموجب للفراق؛ فإنه يكون وقتئذ من المكروه الذي يناله نصيب من بغض اللَّه لما يترتب عليه من الإساءة للزوجة أو أقاربها، أو الولد الذي تتركه من خلفها، وإنما سمّي بالحلال؛ لأن الحلال يطلق على ما يقابل الحرام، فيتناول المباح والمكروه. (¬1) رواه أحمد (2/ 6 و 48 - 49 و 68 و 126 و 127 و 153)، وأبو داود (3262) في (الأيمان والنذور): باب الاستثناء في اليمين، والترمذي (1531) كذلك، والنسائي (7/ 12) في (الأيمان والنذور): باب من حلف فاستثنى، و (7/ 25) باب الاستثناء، وابن ماجه (2105) في (الكفارات): باب الاستثناء في اليمين، والدارمي (2/ 185)، والبيهقي (7/ 360 - 361 و 10/ 46) من طرق عن أيوب عن نافع عن ابن عمر، وإسناده صحيح. ولفظه: ". . . إن شاء مضى، وإن شاء ترك غير حنث"، وفي حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" (6720)، و"صحيح مسلم" (1654) (23). . . "لو قال: إن شاء اللَّه لم يحنث". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

"تأَلَّى على اللَّه أن لا يفعل خيرًا" (¬1)، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22]، وقال الشاعر: قليل الألَايا حافظٌ لِيمينه ... وإن بَدَرتْ منهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ (¬2) ثم قلتم: وليس بيمين فيدخل في قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فياللَّه العَجَب: ما الذي أحلَّه عامًا وحَرَّمه عامًا، وجعله يمينًا وليس بيمين؟ ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: إن قال: "إن فعلتُ كذا فأنا كافر" وفَعَله لم يكفر؛ لأنه لم يقصد الكفر، وإنما قصد منع نفسه من الفعل بمنعها من الكفر؛ وهذا حق، لكن نقضتموه في الطلاق والعتاق مع أنه لا فرق بينهما ألبَتَّة في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن فعلتُ كذا فعليَّ أن أطلق امرأتي" فحنث لم يلزمه أن يطلقها، ولو قال: "إن فعلته فالطلاق يلزمني" فحنث وقع عليه الطلاق، ولم (¬3) تفرق اللغةُ [ولا] (¬4) الشريعة بين المصدر و [أن] (4) والفعل (¬5). فإن قلتم: الفرقُ بينهما أنه التزم (¬6) في الأول التطليق [وهو فعله] (¬7)، وفي الثاني وقوع الطلاق وهو أَثرُ فعله. قيل: هذا الفرق الذي تخيَّلتموه لا يُجدي شيئًا؛ فإن الطلاق هو التطليق بعينه، وإنَّما أَثَرُه كونُها طالقًا، وهذا غير الطلاق؛ فههنا (¬8) ثلاثة أمور مرتبة: ¬

_ (¬1) أي: حلف، يقال: تألَّى، يتألى، تأليًا، وائتلى يأتلي ائتلاءً: إذا حلف. والحديث: أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الصلح): باب هل يشير الأمام بالصلح (5/ 307/ رقم 2705)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساقاة): باب استحباب الوضع من الدين، (3/ 1191 - 1192/ رقم 1557) عن عائشة؛ قالت: سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صوت خصوم بالباب، عالية أصواتهم، واذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: "واللَّه لا أفعل" فخرج عليهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "أين المتألي على اللَّه لا يفعل المعروف؟ "، وأبهم مسلم شيخه فيه، انظر به: "غرر الفوائد المجموعة" (ص 678 - 680 - بتحقيقي). (¬2) "البيت في "اللسان" (14/ 40 - مادة ألا) غير منسوب، ورواه ابن خالويه: قليل الإلاء، وفسر أبو عبيدة: لا يأتل بأنه من ألوت، أي: قصرت" (و). (¬3) في المطبوع و (ك) و (ق): "ولا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق): "و" بدل "ولا". (¬5) "لأنه لا فرق في المعنى بين المصدر الصريح، والمصدر المؤول من أنْ والفعل" (ط). (¬6) في (ن) و (ق) و (ك): "إن الملتزم". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬8) في (ق): "وههنا".

التزام التطليق، وهذا غير الطلاق بلا شك، والثاني: إيقاع التطليق، وهو الطلاق بعينه الذي قال اللَّه فيه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬1). الثالث: صَيْرُورة (¬2) المرأة طالقًا وبينونتها؛ فالقائل: "إن فعلتُ كذا فعليَّ الطلاق" لم يُرد هذا الثالث قطعًا، فإنه ليس إليه ولا من فِعْله، وإنَّما هو إلى الشارع، والمكلفُ إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته (¬3) وهو إنشاء الطلاق؛ فلا فرق أصلًا بين هذا اللفظ وبين قوله: "فعليَّ أن أُطلِّق" فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين، وهو عدول عن محض القياس من غير نص ولا إجماع ولا قول صاحب. يوضحه أن قوله: "فالطلاق لازم لي" إنما هو فعله الذي يلزمه بالتزامه (¬4)؛ وأما كونها طالقًا فهذا وصفها، فليس هو لازمًا له، وإنما هو لازم لها (¬5)، فلينظر ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2081) من طريق يحيى بن عبد اللَّه بن بكير ثنا ابن لهيعة عن موسى بن أيوب الغافقي عن عكرمة عن ابن عباس به مطولًا، وفيه قصة. وضعفه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 358) بابن لهيعة. قلت: ومما يدل على ضعفه أنه رواه مرة أخرى مرسلًا؛ كما رواه الدارقطني (4/ 37)، ومن طريقه البيهقي (7/ 360)، وابن لهيعة توبع، فقد رواه الطبراني في "الكبير" (11800) من طريق يحيى الحماني عن يحبى بن يعلى عن موسى بن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به. ويحيى الحماني ضعيف. وله متابعة أخرى، فقد رواه الدارقطني (4/ 37)، والبيهقي (7/ 360) من طريق أبي عتبة أحمد بن الفرج الحجازي، حدثنا بقية بن الوليد حدثنا أبو الحجاج المهري عن موسى بن أيوب به. وأحمد بن الفرج هذا ضعفه محمد بن عوف الطائي، وقال ابن عدي: ليس ممن يُحتج بحديثه، أو يُتدين إلا أنه يكتب حديثه، وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق. وله شاهد من حديث عصمة بن مالك رواه ابن عدي في "الكامل" (6/ 2040)، والطبراني في "الكبير" (17/ 473)، والدارقطني (4/ 37)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" من طريق الفضل بن المختار البصري عن عبيد اللَّه بن موهب عنه مرفوعًا. وهذا إسناد ضعيف جدًا، الفضل هذا قال فيه أبو حاتم: أحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل، وقال ابن عدي: وعامته مما لا يتابع عليه إما إسنادًا وإما متنًا. (¬2) في (ق): "والثالث تصيير" وفي (ك): "تصيير". (¬3) في (ن) و (ق) و (ك): "قدرته". (¬4) في (ق) و (ك): "إن فعله هو الذي يلزم بالتزامه". (¬5) في (ق) و (ك): "فليس هو لازمًا [لها]، وإنما هو لازم له"، وما بين المعقوفتين هنا سقط من (ك).

اللبيبُ المُنصفُ الذي العلمُ أحب إليه من التقليد إلى مقتضى القياس المحض واتباع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (¬1) والتابعين في هذه المسألة، ثم ليختر لنفسه ما شاء، واللَّه الموفق. ثم [ناقضتم] (¬2) أيضًا من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن حلفتُ بطلاقك أو وقع مني يمين بطلاقك" أو لم يَقُل: بطلاقك، بل قال: "متى حلفتُ أو أَوقعتُ (¬3) يمينًا فأنتِ طالق" ثم قال: "إن كَلَّمتُ فلانًا فأَنت طالقٌ" حنث وقد وقع عليه الطلاق؛ لأنه قد حلف وأوقع اليمين، فأدخلتم الحلف بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام [المكلف، ولم تدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام] (¬4) اللَّه ورسوله، وزعمتم أنكم اتبعتم في ذلك القياس والإجماع، وقد أريناكم مخالفتكم لصريح القياس مخالفة لا يمكنكم الانفكاك عنها بوجه، ومخالفتكم للمنقول عن الصحابة والتابعين كأصحاب ابن عباس؛ فظهر عند المنصفين أَنَّا أَولى بالقياس والاتِّباع منكم في هذه المسألة، وباللَّه التوفيق. وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فصَدَّق الشهود سقط عنه الحد (¬5) وإن كَذَّبهم أُقيم عليه الحد؛ وهذا من أفسد قياس (¬6) في الدنيا؛ فإن تصديقهم إنما زادهم قوة، وزاد الإمام يقينًا وعلمًا أعظم من العلم الحاصلِ بالشهادة وتكذيبه، وتفريقكم -بأن البيِّنة لا [يُعمل بها إلا] (¬7) مع الإنكار فإذا أقرَّ فلا عمل للبينة، و [الإقرار مرةً لا يكفي فيسقط الحد- تفريقٌ باطلٌ؛ فإن العمل هاهنا بالبينة] (8) لا بالإقرار، وهو إنما [صدر منه تصديق البينة التي وجب الحكم بها بعد الشهادة، فسواء أقر أو لم يقر؛ فالعملُ إنما] (¬8) هو بالبينة (¬9). وقلتم: لو وجد الرجلُ امرأة في فراشه فظنَّ أنها امرأته [فوطئها (¬10) حُدَّ حَدَّ الزنا]، ولا يكون هذا شبهة مسقطة للحد، [ولو عقد على ابنته أو أُمِّه ووطئها كان ذلك شبهةً مسقطة للحد] (8)، ولو حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد وولدت مرة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) في (ق): "أو واقعت". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (د): "الحسد". (¬6) في (ك): "القياس". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "تعمل"، وفي (ق): "تعمل إلا". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) انظر كتاب: "الحدود والتعزيرات" (ص: 159 - 160) للشيخ بكر أبو زيد. (¬10) زاد هنا في (ك): "شبهة مسقطة للحد" والعبارة في (ق): "فوطئها حد شبهة مسقطة للحد حد الزنا".

بعد مرة لم تحد، ولو تقايأ (¬1) الخمر كل يوم لم يُحد؛ فتركتم محض القياس والثابت عن الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬2) ثبوتًا لا شك فيه من الحد بالحبل ورائحة الخمر (¬3). وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فطعن في عدالتهم حُبس إلا (¬4) أن يُزكى الشهود، ولو شهد عليه اثنان بمالٍ فطعن في عدالتهما لم يحبس قبل التزكية؛ فتركتم محض القياس وقستم دعوى المرأتين الولد وإلحاقه بهما وجعلهما أُمَّيْنِ له على دعوى الرجلين، وهذا من أفسد القياس؛ فإن خروج الولد من أمين معلوم الاستحالة، وتخليقه من ماء الرجلين ممكن بل واقع، كما شهد به القَائِف عند عمر وصَدَّقه (¬5). وقلتم: لو قال لأجنبي: "طلِّقِ امرأتي" فله أن يطلّق في المجلس وبعده، ولو قال لامرأته: "طلقي نفسك" فلها أن تطلق [نفسها] (¬6) ما دامت في المجلس، ثم فرقتم بينهما بأن "طلقي نفسك" تمليكٌ لا توكيل؛ لاستحالة أن يكون [الإنسان] (¬7) وكيلًا في التصرت لنفسه فيقيَّد بالمجلس، وأما بالنسبة إلى الأجنبي فتوكيل فلا يتقيد، [وهذا الفرق] (6) دعوى مجردة ولم تذكروا (¬8) حجة على أن قوله: "طلِّقي نفسك" تمليك، وقولكم: "الوكيل لا يتصرف لنفسه" جوابه له أن ¬

_ (¬1) في (ق): "تقيأ". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬3) مضى تخريج هذه الآثار المشار إليها. (¬4) في (ق): "إلى". (¬5) أخرج الدينوري في "المجالسة" (رقم 2085 - بتحقيقي) بسنده إلى الأصمعي قال: "اختصم رجلان إلى عمر بن الخطاب في غلام كلاهما يدَّعيه، فسأل عمر أمّه، فقالت: غشيني أحدُهما ثم هرقت ماءً، ثم غشيني الآخر، فدعا عمر قائفين فسألهما، فقال أحدهما: أعلن أم أسر؟ قال: بل أسر قال: اشتركا فيه، فضربه عمر حتى اضطجع، ثم سأل الآخر، فقال مثل قوله، فقال: ما كنت أرى هذا يكون وقد علمت أن الكلبة تسفدها الكلاب، فتؤدي إلى كل فَحْل نَخلَهُ". وإسناده ضعيف، وهو معضل. وعلقه ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (2/ 81 - 82 - ط دار الكتب العلمية) عن الأصمعي أيضًا. وفي (ق) و (ك): "عند عمر فصدقه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك). (¬8) في (ق) و (ك): "ولم يذكروا".

يتصرف لنفسه ولموكله، ولهذا كان الشريك وكيلًا بعد قبض المال والتصرف وإن كان متصرفًا لنفسه، فإن تصرفه لا يختص به، ثم ناقضتم هذا الفرق فقلتم: لو قال: "أبرئ نفسك من الدَّيْن الذي عليك" فإنه لا يتقيدُ بالمجلس، ويكون توكيلًا، مع أَنَّه تصرف مع نفسه؛ ففرَّقتم بين "طلِّقي نفسك" و"أبرئ نفسك مما عليك من الدين" وهو تفريق بين متماثلين، فتركتم محض القياس. وقالوا: من أقام شهود زور على أن زيدًا طَلَّق امرأته فحكم الحاكم بذلك فهي حلال لمن تزوجها من الشهود، وكذلك لو أقام شهود زور على أن فلانة تزوجته بولي ورضى فقضى القاضي بذلك فهي له حلال، وكذلك لو شهدوا عليه بأنه أعتق جاريته هذه فقضى القاضي بذلك فهي حلال لمن تزوجها ممن يدري باطن الأمر؛ فتركوا محض القياس وقواعد الشريعة، ثم ناقضوا فقالوا: لو شهدوا له زورًا بأنه وهب له مملوكته هذه أو باعها منه لم يحل له وطؤها [بذلك] (¬1)، ثم ناقضوا بذلك أعظم مناقضة فقالوا: [لو شهدا] (¬2) بأنه تزوجها بعد انقضاء عدتها من المطلق وكانا (¬3) كاذِبَيْن فإنها لا تحل وحَبْسها على زوجها أعظم من حبسها على عدته؛ فأحلّوها في أعظم العِصْمَتين، وحَرَّموها في أدناهما، وحرمة النكاح أعظم من حرمة العدة. وقلتم: لا يُحد الذميُّ إذا زنى بالمسلمة ولو كانت قُرشيَّة علوية (¬4) أو عَبَّاسية [ولا بسبِّ] (¬5) اللَّه ورسوله وكتابه ودينه جَهْرةً في أسواقنا ومجامعنا، ولا بتخريب مساجد المسلمين ولو أَنَّها المساجد الثلاثة (¬6)، ولا ينتقض عهده بذلك، وهو معصوم المال والدم، حتى إذا منع دينارًا واحدًا مما عليه من الجزية وقال: "لا أعطيكموه" (¬7) أنتقضَ بذلك عَهدُه (¬8)، وحَل ماله ودمه، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو سرق لمسلم عشرة دراهم لقُطِعت يده، ولو قذفه حُدَّ بقذفه؛ فيا للقياس الفاسد الباطل المُناقِض للدين والعقل الموجب لهذه الأقوال التي يكفي في ردها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "شهد". (¬3) في (ق): "فكانا". (¬4) في (ق) و (ك): "قرشية أو علوية". (¬5) في (ق): "ولو سب". (¬6) "المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد الرسول بالمدينة المنورة، والمسجد الأقصى، وعيَّنها لما تختص به من مزيد الشرف" (ط). (¬7) في (ق) و (ك): "أعطينكموه". (¬8) في (ق) و (ك): "انتقص عهده بذلك".

تصورها، كيف استجاز المستجيز تقديمها على السُّنن والآثار؟ [واللَّه المستعان] (¬1). وأجزتم شهادة الفَاسِقَيْن والمحدُودَيْن في القذف والأعميَيْن في النكاح، ثم ناقضتم فقلتم: لو شهد فيه عَبْدان صالحان عالمان يُفْتيان في الحلال والحرام لم يصح النكاح ولم ينعقد بشهادتهما؛ فمنعتم انعقاده بشهادة من عَدَّلَهُ اللَّه ورسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (1) وعقدتموه بشهادة من فَسَّقَهُ اللَّه ورسوله ومنع من قبول شهادته. وقلتم: لو شهد شاهد على زيد أنه غصب عمرًا مالًا اْو شَجَّه أو قذفه وشهد آخر بأَنه أقر بذلك ولم يتم النصاب لم يقض عليه بشيء (¬2)، ولو شهد شاهد بأنه طَلَّق امرأته أو أعْتَقَ عبده أو باعه وشهد آخر بإقراره بذلك تمت الشهادة وقُضي عليه. وقلتم: لو قال له: "بعتك هذا العبد [بألف] (¬3) " فإذا هو جارية أو بالعكس فالبيع باطل؛ فلو قال: "بِعتُك هذه النعجة بعشرة" فإذا هي كبشٌ أو بالعكس فالبيع صحيح، ثم فرَّقتم بأن قلتم: المقصودُ من الجارية والعبد مختلف، والمقصود من النعجة والكبش متقارب وهو اللحم، وهذا غير صحيح؛ فإن الدَّر والنَّسل المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر، وعسب الفحل وضرابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى، ثم ناقضتم أبْيَنَ مناقضة بأن قلتم: لو قال: "بعتك هذا القمح" فإذا هو شعير أو "هذه الألية" فإذا هي شحمٌ لم يصح البيع مع تقارب القصد. وقلتم: لو باعه ثوبًا من ثوبين لم يصح البيع لعدم التعيين، فلو كان (¬4) ثلائة أثواب فقال: "بعتك واحدًا منها" صح البيع؛ فياللَّه العجب! كيف أبطلتموه مع قلة الجهالة والغرر وصححتموه مع زيادتهما؟ [أفترى زيادة] (¬5) الثوب الثالث خففّت الغرر ورفعت الجهالة (¬6)؟ وتفريقكم بأن العقد على واحد من اثنين يتضمن الجهالة والتغرير لأنه قد يكون أحدهما مرتفعًا والآخر رديئًا فيُفضي إلى التنازع والاختلاف، فإذا كانت ثلاثة فالثلاثة تتضمن الجيد والرديء والوسط، فكأَنه قال: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق) و (ك): "أقر بذلك لم يتم النصاب ولم يقص عليه بشيء". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع و (ن): "فلو كانت". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فزيادة" وفي (ك): "أقوى فزيادة". (¬6) في (ق) و (ك): "ورفعته".

"بعتك أوسطها" وذلك أقل غررًا من بيعه واحدًا من اثنين رديء وجيد، وإذا أمكن حملُ كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه، وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غررًا وجهالة؛ فإن النزاع كان يكون في ثوبين فقط وأما الآن فصار في ثلاثة، وإذا قال: "إنما وقع العقد على الوسط" قال الآخر: "بل على الأدنى، أو على الأعلى". وقلتم: لو اشترى جاريةً ثم أراد وطأها قبل الاستبراء لم يجز، ولو تيقَّنَّا فراغ رحمها بأن كانت بكرًا أو كانت بائعتها امرأة معه في الدار بحيث تيقَّن أنها غير مشغولة الرحم، أو باعها وقد ابتدأت في الحيضة ونحو ذلك، ثم قلتم: لو وطئها السيدُ البارحةَ ثم زوَّجها منه الغد جاز له وطؤها ورحمها مشتمل (¬1) على ماء الوطء (¬2)؛ فتركتم محض القياس والمصلحة وحكمة الشارع لفرقٍ مُتَخَيَّل (¬3) لا يُجْدي شيئًا، وهو أن النكاح لما صح كان ذلك حكمًا بفراغ الرحم، فإذا حكم بفراغ رحمها (¬4) جاز له وطؤها، فيُقال: ياللَّه العجب! كيف يُحكم بفراغ رحمها وهو حديث عهد بوطئها؟ وهل هذا إلا حكمٌ باطلٌ مخالف للحس والعقل والشرع؟ نعم لو أنكم قلتم: "لا يحل له تزوجها حتى يستبرئها ويحكم بفراغ رحمها" لكان هذا فرقًا صحيحًا وكلامًا متوجهًا، ويقال حينئذ: لا معنى لاستبراء الزوج؛ فله أن يطأها عقيب العقد فهذا محض القياس، وباللَّه التوفيق. وقلتم: من طاف أربعة أشواط من السبع فلم يكمله حتى رجع (¬5) إلى أهله أنه يجبره بدم وصح حَجُّه، إقامة للأكثر مقام الكل، فخرجتم عن محض القياس؛ لأن الأركان لا مدخل للدم في تركها، وما أمر به الشارعُ لا يكون المكلف ممتثلًا به حتى يأتي بجميعه، ولا يقوم أكثره مقام كله، كما لا يقوم الأكثر مقام الكل في الصلاة والصيام والزكاة والوضوء وغسل الجنابة، فهذا هو القياس الصحيح، والمأمور ما لم يفعل ما أُمر به فالخطاب متوجهٌ إليه بعد، وهو في عهدته والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسامح المتوضئ بترك لمعة في محل الفرض لم يصبها الماء (¬6)، ¬

_ (¬1) في المطبوع: "مشتغل". (¬2) في (ق): "الواطئ". (¬3) في (ق) و (ك): "مستحيل". (¬4) في (ق): "الرحم". (¬5) في (ق): "يرجع إلى أهله. . . ويصح حجه". (¬6) أخرجه مسلم (243) (كتاب الطهارة): باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة عن عمر بن الخطاب، وخرجته مع العناية بألفاظه والحكم عليها مع الأحكام المستنبطة منها في تعليقي على "الخلافيات" للبيهقي (1/ مسألة رقم 10)، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

ولا أقام الأكثر مقام الكل, والذي جاءت به الشريعة هو الميزان العادل، لا هذا الميزان العائل، وباللَّه التوفيق. وقستم الادِّهَانَ بالخل والزيت في الإحرام على الادهان بالمسك والعنبر في وجوب الفدية، ويا بُعد ما بينهما، ولم تقيسوا نبيذ التمر على نبيذ العنب مع قرب الأخوة التي بينهما. وقلتم: لو أفطر في نهار رمضان فلزمته الكفارة ثم سافر لم تسقط عنه؛ لأَنَّ سفره قد يُتخذ وسيلة وحيلة إلى إسقاط ما أوجب الشرعُ، فلا تسقط (¬1)، وهذا بخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة فإن الكفارة تسقط؛ لأن الحيض والمرض ليس من فعله، ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم: لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحول فملَّك ماله لزوجته (¬2) لحظة فلما انقضى الحول استرده منها، واعتذاركم بالفرق -بأن هذا تحيُّل على [منع الوجوب، وذاك تحيل على] (¬3) إسقاط الواجب بعد ثبوته، والفرق بينهما ظاهر- اعتذار (¬4) لا يجدي شيئًا، فإنه كما لا يجوز التحيل لإسقاط ما (¬5) أوجبه اللَّه [ورسوله] (3) لا يجوز التحيل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها ولا تسقط بذلك. وإذا انعقد سبب الوجوب لم يكن للمكلف إلى إسقاطه (¬6) بعد ذلك سبيل، وسبب الوجوب هنا قائم (¬7) وهو الغِنَى بملك النِّصاب، وهو لم يخرج عن الغِنَى بهذا التحيّل. ولا يَعدُّه اللَّه ولا رسوله ولا أحد من خلقه ولا نفسه فقيرًا مسكينًا بهذا التحيل يستحق (¬8) أخذ الزكاة ولا تجب عليه الزكاة. هذا من أقبح الخداع والمكر، فكيف يَروجُ على من يعلم خفايا الأمور وخبايا (¬9) الصدور؟ وأين القياس والميزان والعدل الذي بعث اللَّه به [رسله من] (¬10) التحيّل على المحرمات وإسقاط الواجبات؟ وكيف تخرج الحيلة المفسدة التي في العقود المحرمة عن كونها مفسدة؟ أم كيف [يقلبها] (¬11) مصلحة محضة ومن ¬

_ (¬1) في (ق): "يسقط". (¬2) في (ق): "زوجته". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "اعتذارًا"! (¬5) في (ق): "من". (¬6) في المطبوع و (ن): "لم يكن للمكلف لإسقاطه". (¬7) في (ق) و (ك): "وسبب الوجوب في هذا قائم". (¬8) في (ق) و (ك): "فيستحق". (¬9) في (ك): "وخفايا" (¬10) في (ق) و (ك): "رسوله إلى". (¬11) في المطبوع و (ن): "يقلل بها".

المعلوم أن المفسدة تزيد بالحيلة ولا تزول وتُضاعَف (¬1) ولا تَضْعُف؟ فكيف تزول المفسدة العظيمة التي اقتضت لعنة اللَّه ورسوله للمُحلِّل والمُحَلَّل له (¬2) بأن يشترطا ذلك قبل العقد ثم يعقدا بنيَّة ذلك الشرط ولا يشترطاه (¬3) في صُلب العقد؟ فإذا أَخْلَيا صلب العقد من التلفظ بشرطه حسب، واللَّه ورسوله والناس وهما يعلمون أن العقد إنما عُقد على ذلك، فياللَّه العجب! أكانت هذه اللعنة [على مجرد ذكر الشرط في صُلب العقد، فإذا تقدم على العقد انقلبت اللعنة] (¬4) رحمة وثوابًا؟ وهل الاعتبار في العقود إلا بحقائقها ومقاصدها؟ وهل الألفاظ إلا مقصودة لغيرها قصد الوسائل؟ فكيف يُضاع المقصود ويُعدل عنه في عقد مساوٍ لغيره من كل وجه لأجل تقديم لفظ أو تأخيره أو إبداله بغيره والحقيقة واحدة؟ هذا مما تُنَزَّه عنه الشريعة الكاملة المشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم؛ فأصحاب الحيل تركوا محض القياس، فإن ما احتالوا عليه من العقود المحرمة مساوٍ من كل وجه لها في القصد والحقيقة والمفسدة والفارق أمر صوري أو لفظي لا تأثير له ألبتة، فأيُّ فرقٍ بين أن يبيعه تسعة (¬5) دراهم بعشرة ولا شيء معها وبين أن يضم إلى أحد العَوضَين خرقة تساوي فلسًا أو عود حطب أو أذن شاة ونحو ذلك؟ فسبحان اللَّه! ما أعجب حال هذه الضميمة الحقيرة التي لا تقصد! كيف جاءت إلى المفسدة التي أذن اللَّه ورسوله بحرب من توسل إليها بعقد الربا فأزالتها [ومحتها] (¬6) بالكلية، بل قَلَبتها مصلحة، وجعلت حرب اللَّه ورسوله سلمًا ورضًا؟ وكيف جاء مُحلِّل الربا المُستعار الذي هو أخو مُحلِّل النِّكاح إلى تلك المفاسد العظيمة فكشطها كشط الجلد عن اللحم بل قلبها مصالح بإدخال سلعة بين المُرَابيَيْن تعاقدا (¬7) عليها صورة ثم أُعيدت إلى مالكها؟ وللَّه (¬8) ما أفقه ابن عباس في الدين وأعلمه بالقياس والميزان! حيث سئل عما هو أقربُ من ذلك بكثير فقال: دراهم ¬

_ (¬1) في (ق): "وتتضاعف". (¬2) كما ورد في الحديث الصحيح، وتقدم تخريجه، والعبارة في (ك): "للمُحلّ والمُحلَّل له بأن شرطا". (¬3) في المطبوع: "ولا يشرطاه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "سبعة". (¬6) في (ق) و (ك): "وصحتها"!، وقال في هامش (ق): "لعله: صححتها". (¬7) في (ق): "المرابين يعاقد عليها". (¬8) في (ق): "وذلك".

بدراهم دخلت بينهما حريرة (¬1)، فياللَّه العجب! كيف اهتدت هذه الحريرة لقلب مفسدة الربا مصلحة ولعنة آكله رحمة وتحريمه إذنًا وإباحة؟ ثم أين القياس (¬2) والميزان في إباحة العِينَة التي لا غرض للمرابيين (¬3) في السلعة قط، وإنما غرضهما ما يعلمه اللَّه ورسوله وهما والحاضرون من أخذ مئة حالة وبذل مئة وعشرين مُؤجّلة [في ذمته، ثم يبيعها بنقد] (¬4)، ليس لهما غرض وراء (¬5) ذلك ألبتة، فكيف يقول الشارع الحكيم: إذا أردتم حِلّ هذا فتحيَّلوا عليه بإحضار سلعة يشتريها آكلُ الربا بثمنٍ مؤجل في ذمته ثم يبيعها للمرابي بنقد حاضر فينصرفان على مئة بمئة وعشرين والسلعة حرف جاء لمعنى في غيره؟ وهل هذا إلا عُدُول عن محض القياس وتفريق بين متماثلين في الحقيقة والقصد والمفسدة من كل وجه؟ بل مفسدة الحيل الربوية أعظم من مفسدة الربا الخالي عن الحِيلة، فلو لم تأت الشريعة بتحريم هذه الحيل لكان محضُ القياس والميزان العادل يوجب تحريمها؛ ولهذا عاقب اللَّه سبحانه و [تعالى] (¬6) من احتال على استباحة (¬7) ما حَرَّمه بما لم يعاقب به من ارتكب ذلك المحرم عاصيًا؛ فهذا من جنس الذنوب التي يُتاب منها، وذاك من جنس البدع التي يظن صاحبها أنه من المحسنين. والمقصود ذكر تناقض أَصحاب القياس والرأي فيه، وأنهم يُفَرِّقون بين المتماثِلَيْن، ويجمعون بين المُخْتَلفيْن، [كما] (6) فَرَّقتم بين [ما] (6) لو وكَّل رجلين معًا في الطلاق فقلتم: لأحدهما أن ينفرد بإيقاعه، ولو وكلهما (معًا) في الخُلع لم يكن لأحدهما أن ينفرد به، وفرقتهم [بين الأمرين] (6) بما لا يجدي شيئًا، وهو أن الخلع كالبيع وليس لأحد الوكيلين الانفراد به لأنه أشرك بينهما في الرأي ولم يرض بانفراد أحدهما، وأما الطلاق فليس المقصود منه المال، وإنما هو تنفيذ قوله وامتثال أمره، فهو كما لو أمرهما بتبليغ الرسالة، وهذا فَرْق لا تأثير له ألبتة، ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) في (ق): "ثم إن القياس". (¬3) في (ق): "للمرابين". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ك) وكتب فوقها أنه كذا في نسخة وفي (ق): "في ذمته" فقط، وسقط من سائر النسخ. (¬5) في (ك) و (ق): "غير". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). وما بين الهلالين سقط من (ق) وحدها. (¬7) في (ق) و (ك): "إباحة".

بل هو باطل فإنَّ احتياج الطلاق (¬1) ومفارقة الزوجة إلى الرأي والخبرة والمشاورة مثلُ احتياج الخلع أو أعظم؛ ولهذا أمر اللَّه سبحانه ببعث الحَكميْن معًا، وليس لأحدهما أن ينفرد بالطلاق، مع أنهما وكيلان عند القياسيين، واللَّه تعالى (¬2) جعلهما حكمين، ولم يجعل لأحدهما الانفراد، فما بال وكيلي الزوج لأحدهما الانفراد؟ وهل هذا [إلا] (¬3) خروج عن محض القياس وموجب النص؟ وقلتم: لو قال لامرأته: "طلِّقي نفسك" ثم نهاها في المجلس ثم طَلَّقت نفسها وقع الطلاق، ولو قال ذلك لأجنبي ثم نهاه في المجلس ثم طلق لم يقع الطلاق؛ فخرجتم عن موجب (¬4) القياس، وفرقتم بأن قوله لها تمليك وقوله للأجنبي توكيل، وقد تقدم بطلان هذا الفرق قريبًا، وقلتم: لو وَصَّى إلى عبد غيره فالوصية باطلة وإن أجاز سيده، ولو وكَّل عبد غيره فالوكالة جائزة وإن ردها السيد ولكن تُكره بدون إذنه، وقلتم: إذا أَوْصى بأن يعتق عنه عبدًا بعينه فأعتقه الوارثُ عن نفسه وقع عن الميت، ولو أعتقه الوَصِيُّ عن نفسه لم يجز عن نفسه ولا عن الميت، وفرَّقتم بأن تصرف الوارث بحق الملك فنفذ تصرفه وإن خالف المُوصي، وتصرف الوصي بحق الوكالة فلا يصح فيما خالف المُوصي [وتصرف] (¬5)، وهذا فرقٌ لا يصح، فإن تعيين المُوصي للعتق (¬6) في [هذا] (3) العبد قطع ملك الوارث له، فهو كما لو أوصى إلى أَجنبي بعتقه سواء؛ وإنما ينتقل إلى الوارث من التركة ما زاد على الدَّيْن والوصية اللازمة. وقلتم: لو قال: "ثلث مالي لفلان وفلان" وأحدهما ميت فالثلث كله للحي [وقلتم:] (¬7) ولو قال: "بين فلان وفلان" وأحدهما ميت فللحي نصفه، وهذا تفريق بين متماثلين لفظًا ومعنًى وقصدًا، واقتضاء الواو للتشريك كاقتضاء "بين" ولهذا استويا في الإقرار وفي استحقاق كل واحد منهما النصف لو كانا حَيّين، وقلتم: لو أوصى له بثلث ماله وليس له من المال شيء، ثم اكتسب مالًا فالوصية لازمة في ثُلُثه، ولو أوصى له بثلث غنمه ولا غنم له ثم اكتسب غنمًا فالوصية باطلة؛ ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فإن احتياجه في الطلاق". (¬2) في (ق) و (ك): "فاللَّه سبحانه"، ووقع في (ق) قبلها: "القياسين". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "محض". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬6) في (ق) و (ك): "الموصى بالعتق". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، ووقع في (ق): "لو قال".

فصل [مثل مما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات]

فتركتم محض القياس، وفرقتم بفرق (¬1) لا تأثير له، ولا يتحصَّل منه عند التحقيق شيء، واللَّه المستعان وعليه التكلان. فصل [مَثلٌ مما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات] وجمعتم بين ما فرَّق اللَّه بينه من الأعضاء الطاهرة والأعضاء النجسة؛ فنجَّستم الماء الذي يُلاقي هذه وهذه عند رفع الحدث، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من الوضوء والتيمم فقلتم: يصح أحدهما بلا نية دون الآخر، وجمعتم بين ما فرَّق اللَّه بينهما من الشُّعور والأعضاء فنجستم كليهما بالموت، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينهما من سباع البهائم فنجستم منها الكلب والخنزير دون سائرها، وجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه وهو الناسي والعامد والمخطئ والذاكر والعالم والجاهل؛ فإنه سبحانه (¬2) فرّق بينهم في الإثم فجمعتم بينهم في الحكم في كثير من المواضع، كمن صلى بالنجاسة ناسيًا أو عامدًا، وكَمَنْ فعل المحلوف عليه ناسيًا أو عامدًا، [وكمن تطيَّب في إحرامه أو قَلَّم ظُفره أو حلق شعره ناسيًا أو عامدًا] (¬3) فسويتم بينهما، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من الجاهل والناسي فأوجبتم القضاء على من أكل في رمضان جاهلًا ببقاء النهار دون الناسي، وفي غير ذلك من المسائل، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من عقود الإجارات كاستئجار الرجل لطحن الحب بنصف كُرٍّ (¬4) من دقيقٍ واستئجاره لطحنه بنصف كُرٍّ منه، فصححتم الأول دون الثاني، مع استوائهما من جميع الوجوه، وفرَّقتم بأَنَّ العمل في الأول [في] (¬5) العوض الذي استأجره به ليس مُسْتَحقًا عليه، وفي الثاني العملُ مستحقٌ عليه فيكون مستحقًا له وعليه، وهذا فرق صوري لا تأثير له ولا تتعلق (¬6) بوجوده مفسدةٌ قط، لا جهالة ولا ربا ولا غَرَر ولا تنازع ولا هي مما يمنع صحة العقد بوجه، وأيُّ غررٍ أو مفسدة أو مضرة للمتعاقِدَيْن في أن يدفع إليه غزله ينسجه ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ن): "تفريقًا". (¬2) في (ق): "فإن اللَّه سبحانه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) "الكر": مكيال للعراق. (ط). قلت: الكُرّ -بضم الكاف وتشديد الراء، جمعه: أكرار-: مكيال لأهل العراق، قدره 60 قفيزًا، أو 40 أردبًا، أو 720 صاعًا. انظر: "معجم لغة الفقهاء" (ص: 379). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في (ق): "يتعلق".

ثوبًا بربعه وزيتونه يعصره زيتًا بربعه وحبه يطحنه بربعه؟ وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين لا تتم مصلحتهما في كثير من المواضع إلا به؛ فإنه ليس كل واحد يملك عوضًا يستأجر به من يعمل له ذلك، والأجير محتاج إلى جزء من ذلك، والمستأجر محتاج إلى العمل، وقد تراضيا بذلك، ولم يأت من اللَّه ورسوله نصٌ يمنعه، ولا قياسٌ صحيح، ولا قولُ صاحب، ولا مصلحةٌ معتبرة ولا مرسلة، ففرقتم بين ما جمع اللَّه بينه، وجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه، فقلتم: لو اشترى عنبًا ليعصره خمرًا أو سلاحًا ليقتل به مسلمًا ونحو ذلك إنَّ البيع صحيح، وهو كما لو اشتراه ليقتل به عدو اللَّه ويجاهد به في سبيله أو اشترى عنبًا ليأكله، كلاهما سواء في الصحة، وجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه فقلتم: لو استأجر (¬1) دارًا ليتخذها كنيسةً يَعبدُ فيها الصليب والنار جاز له كما لو استأجرها ليسكنهما، ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم: لو استأجرها ليتخذها مسجدًا لم تصح الإجارة، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه فقلتم: لو استأجر أجيرًا بطعامه وكسوته لم يجز، واللَّه سبحانه لم يفرِّق بين ذلك وبين استئجاره بطعام مُسمَّى وثياب معينة، وقد كان الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬2) يؤجر (¬3) أحدهم نفسه في السَّفر والغَزو بطعام بطنه ومركوبه (¬4)، وهم أفقه الأمة، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من عقدين متساويين من كل وجه، وقد صرح المتعاقدان فيهما بالتراضي، وعلم اللَّه سبحانه تراضيهما والحاضرون، فقلتم: هذا عقد باطل لا يفيد الملك ولا الحِل حتى يصرحا بلفظ: بعتُ واشتريتُ، ولا يكفيهما أن يقول كل واحد منهما: أنا راضٍ بهذا كل الرضى، ولا قد رضيت بهذا عوضًا عن هذا، مع كون هذا اللفظ أدلَّ على الرضى الذي جعله اللَّه [سبحانه] (¬5) شرطًا للحل من لفظة: بعت واشتريت؛ فإنه [لفظ] (¬6) صريحٌ فيه، وبعت واشتريت إنما يدل عليه باللزوم؛ وكذلك عقدُ النكاح، وليس ذلك من العبادات التي تعبَّدنا الشارع فيها بألفاظ لا يقوم غيرها مقامها كالأذان وقراءة الفاتحة في الصلاة وألفاظ التشهد وتكبيرة الإحرام وغيرها، بل هذه العقود تقع من ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "لو اشترى". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬3) في (ق) و (ك): "يؤاجر". (¬4) في (ق): "وركوبه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) قال في هامش (ق): "لعله: رضى" وسقطت لفظة (في) من (ق).

البرِّ والفاجر والمسلم والكافر، ولم يتعبدنا (¬1) الشارع فيها بألفاظ معينة، فلا فرق أصلًا بين لفظ الإنكاح (¬2) والتزويج وبين كل لفظ يدل على معناهما. وأفسدُ من ذلك اشتراط العربية مع وقوع النكاح من العرب والعجم والتُّرك والبربر ومن لا يَعْرِف كلمة عربية، والعجب أنكم اشترطتم تلفظه بلفظ (¬3) لا يَدري ما معناه ألبتة وإنما هو عنده بمنزلة صوتٍ في الهواء (¬4) فارغ لا معنى تحته، فعقدتم [العقد] (¬5) به، وأبطلتموه بتلفظه (¬6) باللفظ الذي يعرفه ويفهم معناه ويميز بين معناه وغيره، وهذا من أبطل القياس، ولا يقتضي القياس إلا ضد هذا، فجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه. وبإزاء هذا القياس قياس من يُجوِّز قراءة القرآن بالفارسية، ويجوز انعقاد الصلاة بكل لفظ يدل على التعظيم -كسبحان اللَّه، وجَلَّ اللَّه، واللَّه العظيم، ونحوه- عربيًا كان أو فارسيًا، ويجوز إبدال لفظ التشهد بما يقوم مقامه، وكل هذا من جنايات الآراء والأقيسة، والصوابُ اتِّباعُ ألفاظ العبادات، والوقوف معها، وأما العقود والمعاملات فإنما تتبع مقاصدها والمراد منها بأي لفظ كان؛ إذ لم يشرع اللَّه ورسوله لنا التعبد بألفاظ معينة لا نتعداها (¬7). وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه من إيجاب النفقة والسكنى للمبتوتة وجعلتموها كالزوجة، وفرّقتم بين ما جمع اللَّه ورسوله بينه من ملازمة الرجعية المعتدة والمتوفى عنها زوجها منزلهما (¬8) حيث يقول [تعالى] (¬9): {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وحيث أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المتوفى عنها أن تمكث في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله (¬10)، وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينهما من بول الطفل والطفلة ¬

_ (¬1) في (ق): "ولا يتعبدنا". (¬2) في (ق): "لفظ النكاح". (¬3) في (ق) و (ك): "اشترطتم تلفظًا". (¬4) في (ق) و (ك): "بمنزلة صوري في الهواء". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في (ن): "بلفظه". (¬7) انظر في هذا "الموافقات" للإمام الشاطبي (1/ 440 و 2/ 513 - بتحقيقي). (¬8) في (ق) و (ك): "منزلها". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 591)، وأحمد (6/ 370 و 420 - 421)، والدارمي (2/ 168)، وأبو داود (2300) في (الطلاق: باب المتوفى عنها تنتقل)، والترمذي (1204) في (الطلاق: باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها)، والنسائي (6/ 199 و 199 - 200) في (الطلاق: باب مقام المتوفى عثها زوجها في بيتها حتى تحل)، وابن ماجه (2031) في (الطلاق: باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها) كلهم من طرق عن سعيد بن =

الرَّضِيعينِ فقلتم: يُغْسَلان (¬1)، وفرّقتم بين ما جمعت السنّة بينه من وجوب غسل قليل البول وكثيره، وفرّقتم بين ما جمع اللَّه ورسوله بينهما من ترتيب أعضاء الوضوء وترتيب أركان الصلاة، فأوجبتم الثاني دون الأول، ولا فرق بينهما لا في المعنى ولا في النَّقل، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو المبين عن اللَّه سبحانه أَمْره ونهيه، ولم يتوضأ قط إلا مرتبًا ولا مرة واحدة في عمره (¬2) كما لم يُصَلِّ إلا مرتبًا، ومعلوم أن العبادة المنكوسة ليست كالمستقيمة، ويكفي هذا الوضوء اسمه وهو أنه وضوء منكس، فكيف (¬3) يكون عبادة؟ وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه من إزالة النجاسة ورفع الحدث فسوَّيتم بينهما في صحة كل منهما بغير نية، وفرّقتم بين ما جمع اللَّه بينهما من الوضوء والتيمم فاشترطتم النية لأحدهما دون الآخر، وتفريقكم بأن الماء يطهر بطبعه فاستغنى عن النية بخلاف التراب فإنه لا يصير مطهرًا إلا بالنية فرقٌ صحيح بالنسبة إلى إزالة النجاسة فإنه مزيلٌ لها بطبعه، وأما رفع الحدث فإنه ليس رافعًا له بطبعه؛ إذ الحدث ليس جسمًا محسوسًا يرفعه الماء بطبعه بخلاف النجاسة، وإنما يرفعه بالنية؛ فإذا لم تقارنه النية بقي على حاله، فهذا هو القياس المحض. ¬

_ = إسحاق بن كعب بن عُجرة عن عمته زينب بنت كعب أن الفريعة بنت مالك. . . به، وفيه قصة. وأعله عبد الحق -كما في "التلخيص الحبير" (3/ 240) - بجهالة حال زينب وبأن سعد بن إسحاق غير مشهور العدالة. وتعقبه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 394 - 395) بأن سعدًا وثقه النسائي، وابن حبان وزينب وثقها الترمذي. قال ابن حجر: وذكرها ابن فتحون، وابن الأمين (كذا!! الصواب: الأثير) في "الصحابة". (¬1) انظر: "تحفة المودود" (ص: 213 - 217). (¬2) قلت: قال البيهقي -رحمه اللَّه- في "الخلافيات" (1/ 478 - بتحقيقي): "ولم يرو عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه توضأ منكوسًا قط" اهـ. قلت: والترتيب في أعضاء الوضوء مما لا بد منه، والأحاديث التى اعتمد عليها القائلون بغير ذلك: الصريح منها غير صحيح، والصحيح منها لا يفيد ما ذهبوا إليه، وانظر: "تنقيح التحقيق" (1/ 402 - 403) فهنالك مؤيدات كثيرة لهذا القول، ولا يتسع المقام لسرد ذلك بالتفصيل، وانظر: كتاب "الخلافيات" للإمام البيهقي (1/ 478 - 496/ المسألة: 11 - بتحقيقي). (¬3) في (ق) و (ك): "أنه وضوء منكوس، وكيف".

وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه فسويتم بين بدن أطيب المخلوقات وهو وليُّ اللَّه المؤمن وبين بدن أخبث المخلوقات وهو عدوه الكافر، فنجستم كليهما بالموت، ثم فرقتم بين ما جمع اللَّه بينه فقلتم: لو غُسل المسلم ثم وقع في الماء لم ينجسه، ولو غُسل الكافر ثم وقع في ماء نجَّسه، ثم ناقضتم في الفرق بأن المسلم إنما غُسل ليُصَلَّى عليه فطهر بالغسل لاستحالة الصلاة عليه وهو نجس بخلاف الكافر، وهذا الفرق ينقض ما أصَّلتموه من أن النجاسة بالموت نجاسة عينية فلا تزول بالغسل لأن سببها قائم وهو الموت، وزوال الحكم مع بقاء سببه ممتنع، فأي القياسين هو المعتدُّ به في هذه المسألة؟ وفرقتم بين ما جمعت السنّة والقياس بينهما فقلتم: لو طلعت عليه الشمس وقد صَلَّى من الصبح ركعة بطلت صلاته، ولو غربت عليه الشمس وقد صلى من العصر ركعة صحت صلاته، والسنّة الصحيحة الصريحة قد سَوَّت بينهما (¬1)، وتفريقكم بأنه في الصبح خَرج (¬2) من وقت كامل إلى [غير] (¬3) وقت [كامل ففسدت صلاته وفي العصر خرج من وقت كامل إلى وقت] (¬4) كامل وهو وقت صلاة فافترقا (¬5)، ولو لم يكن في هذا القياس إلا مخالفته لصريح السنّة لكفى في بطلانه؛ فكيف وهو قياس فاسد (¬6) في نفسه؟ فإن الوقت الذي خرج إليه في الموضعين ليس وقت الصلاة الأولى، فهو ناقصٌ بالنسبة إليها، ولا ينفع كماله بالنسبة إلى الصلاة التي هو فيها. فإن قيل: لكنه خرج إلى وقت نَهْي في الصبح وهو وقت طلوع الشمس، ولم يخرج إلى وقت نهي في المغرب. قيل: [و] (¬7) هذا فرق فاسد؛ لأنه ليس بوقت نهي عن هذه الصلاة التي هو فيها بل [هو] (¬8) وقت أمر بإتمامها بنص صاحب الشرع حيث يقول: "فَلْيُتِمَّ صلاته" (¬9)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (579) في (مواقيت الصلاة: باب من أدرك من الفجر ركعة)، ومسلم (608) في (المساجد): باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، من حديث أبي هريرة. (¬2) في (ق) و (ك): "خروج". (¬3) ما بين المعقوفتين مضروب عليه في (ق) وسقط في (ك). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض يسع ثلاث كلمات، وسقط من (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "فافترقتا". (¬6) في (ك): "باطل". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) قطعة من الحديث السابق.

وإن كان وقت نهي بالنسبة إلى التطوع؛ فظهر أن الميزان الصحيح مع السنّة الصحيحة، [وباللَّه التوفيق] (¬1). وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه فقلتم: المختلعة البائنة التي قد ملكت نفسها يلحقها الطلاق، فسويتم بينها وبين الرجعية في ذلك، وقد فرّق اللَّه بينهما بأن جعل هذه مفتدية لنفسها مالكة لها كالأجنبية وتلك زوجها أَحقُّ بها، ثم فرّقتم بين ما جمع اللَّه بينه، فأوقعتم عليها مُرْسَلَ الطلاق دون مُعلَّقة وصريحه دون كنايته (¬2)؛ ومن المعلوم أن من مَلَّكه اللَّه أحد الطلاقين ملكه الآخر، ومن لم يملكه هذا لم يملكه هذا!! وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه فمنعتم مِن أَكْل الضَّبَّ وقد أُكل على مائدة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ينظر، فقيل له: أحرام هو؟ فقال: لا (¬3)، فقستموه على الأحناش والفيران، وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من لحوم الخيل التي أكلها الصحابة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لحوم الإبل وأذن اللَّه [تعالى] فيها (¬4)؛ فجمع اللَّه [سبحانه] (¬5) ورسوله بينهما في الحل، وفرّق اللَّه ورسوله بين الضب والحنش في التحريم، وجمعتم بين ما فرقت السنّة بينه من لحوم الإبل وغيرها حيث قال: "توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم" (¬6) فقلتم: لا نتوضأ لا من هذا (¬7) ولا من هذا، وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينه فقلتم في ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "واللَّه أعلم". (¬2) قال في هامش (ق): "قوله: "فأوقعتم عليها من مرسل الطلاق. . . " إلخ، الظاهر أن العبارة مقلوبة؛ لأن المروي عن أبي حنيفة أنه يلحقها الطلاق الصريح المعين دون الكناية والمرسل، وهو أن يقول: كل امرأة لي طالق". (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الذبائح والصيد): باب الضب (9/ 663/ رقم 5537)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيد والذبائح): باب إباحة الضب، (3/ 1543/ رقم 1946)، عن خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنه-. (¬4) أخرجه البخاري (5519) في (الصيد): باب النحر والذبح، ومسلم (1942) في (الصيد): باب في أكل لحوم الخيل عن أسماء قالت: "نحرنا فرسًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأكلناه" وانظر رسالة ابن قطلوبغا: "حكم الإسلام في لحوم الخيل" (ص 53 وما بعدها)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬6) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الحيض: باب الوضوء من لحوم الابل، رقم: 360)، من حديث جابر بن سمرة. (¬7) في (ق): "لا يتوضأ من هذا".

القيء: إنْ كان ملء الفم فهو حَدَث (¬1)، وإن كان دون ذلك فليس بحدث، [ولا يُعرف في الشريعة شيء يكون كثيره حدثًا دون قليله، وأما النوم فليس بحدث] (¬2)، وإنما هو مظنة فاعتبر (¬3) ما يكون مظنة وهو الكثير، وفرَّقتم بين ما جمع اللَّه بينه فقلتم: لو فتح على الإمام في قراءته لم تبطل صلاته، ولكن تُكره (¬4)؛ لأن فتحه قراءة منه، والقراءة خلف الإمام مكروهة، ثم قلتم: فلو (¬5) فتح على قارئ غير إمامه بطلت صلاته؛ لأن فتحه عليه مخاطبة له فأبطلت الصلاة (¬6)، ففرقتم بين متماثلين؛ لأن الفتح إن كان مخاطبة في حق غير الإمام فهو مخاطبة في حق الإمام (¬7)، وإن لم يكن مخاطبة في حق الإمام فليس بمخاطبة في حق غيره، ثم ناقضتم من وجه (¬8) آخر أعظم مناقضةً فقلتم: لو نوى (¬9) الفَتْح على غير الإمام خرج عن كونه قارئًا إلى كونه مُخاطِبًا بالنية، ولو نوى الربا الصريح والتحليل الصريح وإسقاط الزكاة بالتمليك الذي اتخذه حِيلة لم يكن مرابيًا ولا مسقطًا للزكاة ولا محللًا بهذه النية (¬10). فياللَّه العجب! كيف أَثَّرت نية الفتح والإحسان على القارئ وأخرجته عن كونه قارئًا إلى كونه مخاطبًا ولم تُؤثِّر نية الربا والتحليل مع إساءته بهما وقصده نفس ما حرمه (¬11) اللَّه فتجعله مرابيًا محللًا؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وجمع بين ما فرّق الشارع بينهما وتفريق بين ما جمع بينهما؟ وقلتم: لو اقتدى المسافر بالمقيم بعد خروج الوقت لا يصح اقتداؤه، ولو اقتدى المقيم بالمسافر بعد خروج الوقت صح اقتداؤه. وهذا تفريق بين متماثلين، ولو ذهب ذاهب إلى عكسه لكان من جنس قولكم سواء، ولأمكنه تعليله بنحو ما عَلَّلتم به. ووجَّهتم (¬12) الفرق بأَنَّ مِنْ شرط صحة اقتداء المسافر بالمقيم أن ينتقل فرضُه إلى فرض إمامه، وبخروج الوقت استقر الفرض عليه استقرارًا لا يتغير بتغير ¬

_ (¬1) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (مسألة رقم 21 - بتحقيقي). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في المطبوع: "وإنما هو مظنته فاعتبروا". (¬4) في (ق): "يكره". (¬5) في (ق): "لو". (¬6) في (ق): "فأبطلتم الصلاة". (¬7) في (ق) و (ك): "في حقه". (¬8) في (ن): "في وجه". (¬9) في المطبوع: "لما نوى". (¬10) في (ن): "ولا محلَّلًا ولا مسقطًا". (¬11) في (ق): "حرم". (¬12) في (ك): "وجمعتم".

حاله فبقي فرضه ركعتين؛ فلو جَوَّزنا له اقتداءَه بالمقيم بعد خروج الوقت جَوَّزنا اقتداء من فرضه ركعتان (¬1) بمن فرضه أربعٌ، وهذا لا يصح، كمُصلِّي الفجر إذا اقتدى بمصلي الظهر، وليس كذلك المقيم إذا اقتدى بالمسافر بعد خروج الوقت؛ إذ ليس من شرط [صحة] (¬2) اقتداء المقيم بالمسافر أن ينتقل (¬3) فرضه إلى فرض إمامه؛ [بدليل أنه لو اقتدى به في الوقت لم ينتقل فرضه إلى فرض إمامه، بخلاف المسافر، فإنه لو اقتدى بالمقيم في الوقت انتقل فرضه إلى فرض إمامه] (¬4). ثم ناقضتم وقلتم (¬5): إذا كان الإمام مسافرًا وخلفه مسافرون ومقيمون فاستخلف الإمام مقيمًا فإن فرض الإمام لا ينتقل إلى فرض إمامه وهو فرض المُقِيمين؛ مع أنَّ الفرق في الأصل مدخول. وذلك أن الصلاتين سواء في الاسم والحكم والوَضْع والوجوب، وإن اختلفتا في كون الإمام مصلِّيًا (¬6)، فإذا صلى [الإمام] (¬7) أربعًا وجب على المأموم أن يصلي بصلاته كما لو كان في الوقت، وخروج الوقت لا أثر له في ذلك، فإن الذي فرضه اللَّه عليه في الوقت هو بعينه فَرْضُه بعد الوقت، ولا سيما (¬8) إذا كان نائمًا أو ناسيًا؛ فإن وقت اليقظة والذكر هو الوقت الذي شرع اللَّه له الصلاة فيه، وعذر السفر قائم، وارتباط صلاته بصلاة الإمام حاصل، فما الذي فرّق بين الصورتين مع اتحاد السبب الجامع وقيام الحكمة المجوِّزة للقصر والمرجِّحة لمصلحة الاقتداء عند الانفراد؟ وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينهما -وهو الحيض، والنفاس- فجعلتم أقل الحيض محدودًا إما بثلاثة أيام أو بيوم (¬9) وليلة [أو يوم]، ولم تحدوا أقل النفاس (¬10)، وكلاهما دمٌ خارج من الفرج يمنع أشياء ويوجب أشياء، وليسا اسمين شرعيين لم يُعرفا إلا بالشريعة، بل هما اسمان لغويان رد الشارع أُمَّته فيهما إلى ما يتعارفه النساء حيضًا ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "الركعتان". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق) و (ك): "ينقل". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) في (ق): "ثم ناقضتم فقلتم" وفي (ك): "ثم تناقضتم فقلتم". (¬6) في (ق) و (ك): "وإن اختلفا في كون الإمام يصلي". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق) و (ك): "بعد الوقت الذي. . . ولا سيما" هكذا بزيادة "الذي" مع فراغ يسع كلمة، وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "أو بيوم". (¬9) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 47 - بتحقيقي). (¬10) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 49 - بتحقيقي).

ونفاسًا، قليلًا كان أو كثيرًا. وقد ذكرتم هذا بعينه في النفاس، فما الذي فَرَّق بينه وبين الحيض؟ ولم يأتِ عن اللَّه ولا عن رسوله ولا عن الصحابة تحديدُ أقل الحيض بحد [أبدًا] (¬1)، ولا في القياس ما يقتضيه. والعجب أنكم قلتم: المرجع فيه إلى الوجود حيث لم يحدّه الشارع، ثم ناقضتم فقلتم: حد أَقلِّه يومٌ وليلة. وأما أصحابُ الثلاث فإنما اعتمدوا على حديث توهَّموه صحيحًا وهو غير صحيح باتفاق أهل الحديث (¬2)، فهم أعذر من وجه؛ قال المُفرِّقون: بل فرَّقنا بينهما بالقياس الصحيح؛ فإن للنفاس علمًا ظاهرًا يدل على خروجه من الرَّحم وهو تقدم الولد عليه، [فاستوى قليله وكثيره؛ لوجود علمه الدال عليه] (¬3)، وليس مع الحيض علم يدل على خروجه من الرحم، فإذا امتد زمنه صار امتداده علمًا ودليلًا على أنه حيض معتاد، وإذا (¬4) لم يمتد لم يكن معنا ما يدل عليه أنه حيض (¬5) فصار كدم الرُّعاف. ثم ناقضوا (¬6) في هذا الفرق نفسه أبْيَنَ مناقضة؛ فقال أصحاب الثلاث: لو امتد يومين ونصف يوم دائمًا لم يكن حيضًا حتى يمتد ثلاثة أيام. وقال أصحاب اليوم (¬7): لو امتد من غدوة إلى العصر دائمًا لم يكن حيضًا حتى يمتد إلى غروب الشمس؛ فخرجوا بالقياس عن محض القياس. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) وهو حديث أبي أمامة رفعه: "لا يكون الحيض للجارية والثيب التي قد أيست من الحيض أقل من ثلاثة أيام". أخرجه الدارقطني (1/ 218)، والطبراني في "الأوسط" (603)، و"مسند الشاميين" (1515، 3420)، و"الكبير" (7586)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 182)، والبيهقي (1/ 326)، و"المعرفة" (2266)، و"الخلافيات" (1040، 1041 - بتحقيقي) بسند واهٍ جدًا كما بينته في تعليقي على "الخلافيات" (3/ 376 - 379). وقال ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 150) عن أحاديث التوقيت: "وروي مرفوعًا من طرق، والمرفوع كله باطل لا يصح، وكذلك الموقوف طرقه واهية، وقد طعن فيها غير واحد من الأئمة الحفاظ"، وقال: (2/ 151): "ولم يصح عند أكثر الأئمة في هذا الباب توقيت مرفوع ولا موقوف، وإنما رجعوا فيه إلى ما حُكي من عادات النساء خاصة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ك): "وإنما". (¬5) في (ك): "حيضة". (¬6) في (ك): "ناقضوه". (¬7) في (ك): "الثلاث".

وقلتم: إذا صلى جالسًا ثم تشهد في حال القيام سهوًا فلا سجودَ عليه، وإن قرأ في حال التشهد فعليه السجود، وهذا فرق بين متساويين من كل وجه؛ وقلتم: إذا افتتح الصلاة في المسجد فظن أنه قد سبقه الحَدَثُ فانصرف ليتوضأ ثم علم أنه لم يسبقه الحدث وهو في المسجد جاز له المضي في (¬1) صلاته، وكذلك لو ظن أنه قد أَتم صلاته ثم علم أنه لم يتم، ثم قلتم: لو ظن أن على ثوبه نجاسة أو أنه لم يكن متوضئًا فانصرف ليتوضأ أو يغسل ثوبه ثم علم أنه كان متوضئًا أو طاهر الثوب لم يجز له البناء طى صلاته، ففرَّقتم بين [متساوييْن] (¬2) لا فرق بينهما وتركتم محض القياس، وفرقتم بأنه لما ظن سبق الحدث فقد انصرف من صلاته انصراف استئنافٍ لا انصراف رفض، فإنه لو تحقق ما ظنه جاز له المضي، فلم يصر قاصدًا للخروج من الصلاة، فلم يمتنع البِناءُ, وكذلك (¬3) لو ظَنَّ أنه قد أتم صلاته فلم ينصرف انصراف رفضٍ، وإذا لم يقصد الرفض لم تصر الصلاة مرفوضة كما لو سَلَّم ساهيًا، وليس كذلك إذا ظن أنه لم يتوضأ أو [أن] (¬4) على ثوبه نجاسة لأنه انصرف منها انصراف رفضٍ ونوى الرفض مقارنًا لانصرافه؛ فبطلت كما لو سلم عامدًا، وهذا الفرقُ غير مجدٍ شيئًا، بل هو فرق بين ما جمعت الشريعة بينهما (¬5)، فإنه في الموضعين انصرف انصرافًا مأذونًا فيه أو مأمورًا به، وهو معذور في الموضعين، بل هذا الفرق حقيقٌ باقتضائه ضد ما ذكرتم، فإنه إذا ظن أنه لم يتوضأ فانصرافه مأمور به وهو عاصٍ للَّه بتركه، بخلاف ما إذا ظن أنه قد أتم صلاته فإن انصرافه مباحٌ مأذونٌ له فيه، فكيف تصحُّ الصلاة مع هذا الانصراف وتبطل بالانصراف المأمور به؟ ثم إنه أيضًا في انصرافه [حين] (¬6) ظَنَّ أنه قد أَتم صلاته ينصرف انصراف تركٍ حقيقةً لأنه يَظنّ أنه قد فرغ منها، فتَركها تَرْكَ مَنْ قد أكملها، ومن ظن أنه محدث فإنما تركها ترك قاصدٍ ليكملَهَا (¬7)، فهي أولى بالصحة. وقلتم: لو قال: "للَّه عَلَيَّ أن أُصلي ركعتين" [وقال آخر: "وأنا للَّه عَلَيَّ ¬

_ (¬1) في (ق): "على". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ن) و (ك): "ما". (¬3) في (ق) و (ك): "فكذلك". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "بينه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع و (ن): "لتكملتها".

أصلي ركعتين"] (¬1) لم يجز لأحدهما أن يأتم بصاحبه؛ لأنهما فرضان بسببين، وهو نذر كل (¬2) واحد منهما، ولا يُؤدَّى فرضٌ خلف فرض آخر؛ ثم ناقضتم فقلتم: لو قال الآخر: "وأنا للَّه عليَّ أن أصلي الركعتين (¬3) اللتين أوجَبْتُ على نفسك" جاز لأحدهما أن يأتم بالآخر؛ لأنه أوجب على نفسه عين ما أوجبه (¬4) الآخر على نفسه، فصارتا كالظهر الواحدة، وهذا ليس يُجدي شيئًا؛ فإن سبب الوجوب مختلف كما في الصورة الأولى سواء، وهو نذر كل واحد منهما على نفسه وليس الواجب على أحدهما هو عين الواجب على الآخر، بل هو مثله، ولهذا لا يتأَدَّى أحدُ الواجبين بأداء الآخر، ولا فرق بين المسألتين في ذلك ألبتة، فإن كل واحد [منهما] (¬5) يجب عليه ركعتان نظير ما وجب على الآخر بنذره (¬6)، فالسبب مماثل (¬7)، والواجب مماثل، والتعدد في الجانبين سواء، فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين، وخروج عن محض القياس. وفرّقتم بين ما جمع النَّصُّ والميزان بينهما، فقلتم: إذا ظفر برِكَاز فعليه فيه الخمس، ثم يجوز له صرفه إلى أولاده وإلى نفسه إذا احتاج إليه، وإذا وجب عليه عُشْرُ الخارج من الأرض لم يكن [له] (¬8) صرفه إلى ولده ولا إلى نفسه، وكلاهما واجب عليه إخراجه لحق اللَّه (¬9) وشكر النعمة بما أنعم عليه من المال، ولكن لما كان [الركاز مالًا مجموعًا لم يكن نماؤه وكمالُه بفعله فالمؤنة فيه أيسر كان الواجب فيه أكثر، ولمَّا كان] (¬10) الزَّرع فيه من المُؤنة والكُلفة والعمل أكثر مما في الركاز كان الواجب فيه (¬11) نصفه وهو العشر، فإن اشتدت المؤنة بالسقي بالكلفة حُط الواجبُ إلى نصفه وهو نصف العشر، فإن اشتدت المؤنة في المال غيره بالتجارة والبيع والشراء كل وقت وحفظة وكراء مخزنه ونقله خفف إلى شطره وهو ربع العشر؛ فهذا من كمال حكمة الشارع [في] (¬12) اعتبار كثرة الواجب وقلَّته، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق)، وقال في هامش (ق): "لعل هنا سقط"! هكذا، والصواب: "سقطًا". (¬2) في (ق): "لكل". (¬3) في (ق): "ركعتين". (¬4) في (ق) و (ك): "ما أوجب به". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في (ق): "على آخر بنذره". (¬7) في (ق) و (ك): "متماثل". (¬8) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬9) في (ق) و (ك): "بحق اللَّه". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬11) في (ق): "كان له الواجب فيه". (¬12) في (ق) و (ك): "بـ".

فكيف يجوز له أن يعطي الواجب الأكثر الذي هو أقل مؤنة وتعبًا وكلفة لأولاده ويمسكه لنفسه وقد أضعفه عليه الشارع أكثر من كل واجب في الزكاة ومخرج الجميع وإيجابه واحد نصًا واعتبارًا؟ فالتفريق بينهما تفريق بين ما جمعت الشريعة بينهما حيث قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في الركاز الخمس، وفي الرِّقَةِ (¬1) ربعُ العُشُرِ" (¬2). وقلتم: لو أَودعَ مَنْ لا يعرفه مالًا فغاب عنه سنين ثم عَرَفه فلا زكاةَ عليه؛ لأنه لا يقدر على ارتجاعه منه، فهو كما لو دفنه بمغارة فنسيه (¬3)، ثم ناقضتم فقلتم: لو أودعه من يعرفه فنسيه [سنين] (¬4) ثم عرفه فعليه زكاة تلك السنين الماضية كلها، والمال خارجٌ عن قَبْضَتِه وتصرفه، وهو غير قادر على ارتجاعه في الصورتين، ولا فرق بينهما، وقد صَرَّحتم في مسألة المغارة (¬5) أنه لو دفنه في موضع (¬6) منها ثم نسيه فلا زكاةَ عليه إذا عرفه بعد ذلك، ولا فرق في هذا بين المغارة (5) وبين المودع بوجه؛ ثم ناقضتم من وجه آخر وقلتم: لو دفنه في داره وخفي عليه موضعه سنين ثم عرفه وجبت عليه الزكاة لما مضى. وقلتم: لو وجبت عليه أربع شياه فاخرج ثنتين سمينتين تُساوي الأربع جاز، فطرد قياسكم هذا أنه لو وجب عليه عشرة أقفزة بُرّ فأخرج خمسة من بُرِّ مرتفع تُساوي قيمة العشرة التي هي عليه جاز، وطرده لو وجب عليه خمسة أبعرة فأخرج بعيرًا يساوي قيمة الخمسة أنه يجوز، ولو وجب [عليه] (¬7) صاع في الفطرة فأخرج ربع صاع يساوي الصاع الذي لو أخرجه لتأَدَّى به الواجبُ إنه يجوز، فإن طَرَدتم هذا القياس فلا يخفى ما فيه من تغيير المقادير الشرعية والعدول عنها، ولزمكم طرده في أَنَّ مَنْ (¬8) وجب عليه عتقُ رقبةٍ فأعتق عُشْرَ رقبة تساوي قيمة رقبة غيرها ¬

_ (¬1) "الفضة والدراهم المضروبة منها، وأصل اللفظة: الورق، وهي الدراهم المضروبة خاصة، فَحُذِفت الواو، وعوض منها الهاء، وجمعها: رقات ورقين" (و). (¬2) أخرجه البخاري (1499) في (الزكاة): باب في الركاز الخمس، و (2355) في (الشرب): باب من حفر بئرًا في ملكه لم يضمن، و (6912، 6913) في الديات: باب العجماء جبار، ومسلم (1710)، من حديث أبي هريرة. وقوله: "وفي الرقة ربع العشر" رواه البخاري (1454) في (الزكاة): باب زكاة الغنم من حديث أنس عن أبي بكر، وهو جزء من حديث طويل. (¬3) في (ق): "بمفازة ونسيه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "المفازة". (¬6) في (ق) و (ك): "بموضع". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "ولزمكم طرده وأن من".

جاز؛ ومَنْ نذر الصدقة بمئة شاة فتصدَّق بعشرين تساوي قيمة المئة جاز، ثم ناقضتم فقلتم: لو وجب عليه أُضحيتان فذبح واحدًا سمينًا يساوي وسطين (¬1) لم يجز، ثم فرّقتم بأن قلتم: المقصود في الأضحية الذبح وإراقة الدم، وإراقةُ دم واحد لا تقوم (¬2) مقام إراقة دمين، والمقصود في الزكاة سدُّ خُلّة الفقير وهو يحصل بالأجود الأقل كما يحصل بالأكثر إذا كان دونه (¬3)؛ وهذا فرق إن صح لكم [في الأضحية لم يصح لكم] (¬4) فيما ذكرناه من الصور، فكيف ولا يصح في الأضحية؟ فإن المقصود في الزكاة (¬5) أمور عديدة منها: سدُّ خلَّة الفقير، ومنها إقامة عبودية اللَّه بفعل نفس ما أُمِرَ به، ومنها شكر نعمته عليه في المال، ومنها إحراز المال وحفظه بإخراج هذا المقدار منه، [ومنها المواساة بهذا المقدار لما علم اللَّه فيه من [المصلحة] (¬6) مصلحة رب المال ومصلحة الآخذ] (¬7). ومنها التعبد بالوقوف عند حدود اللَّه وأن لا يُنْقَص منها ولا تُغيَّر، وهذه المقاصد إن لم تكن أعظم من مقصود إراقة الدم في الأضحية فليست بدونه، فكيف يجوز إلغاؤها واعتبار مجرد إراقة الدم؟ ثم إنَّ هذا الفرق ينعكس عليكم من وجه آخر، وهو أن مقصود الشارع من إراقة دم الهدي والأضحية التقرب إلى اللَّه سبحانه بأجل ما يقدر عليه من ذلك النوع وأعلاه وأغلاه ثمنًا وأنفسه عند أهله، فإنَّه لن يَنَالَه سبحانه لحومُها ولا دماؤها وإنما يناله تقوى العبد منه، ومحبته له، وإيثاره بالتقرب إليه بأَحبِّ شيء إلى العبد وآثره عنده وأنفسه لديه، كما يتقرب المُحبُّ إلى محبوبه بأنفس ما يقدر عليه وأفضله عنده. ولهذا فطر اللَّه العباد على أن مَنْ تقرَّب إلى محبوبه بأفضل هدية يقدر عليها وأجلها وأعلاها كان أحظى لديه، وأحب إليه ممن تقرب إليه بألف واحد رديء من ذلك النوع. وقد نَبَّه سبحانه على هذا بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ ¬

_ (¬1) في (ق): "سبطين". (¬2) في (ق): "يقود". (¬3) انظر حكمة التشريع في الزكاة، وفرضيتها، ومقاديرها، وفي مستحقيها، ووقتها، ونصابها، ومن تجب عليه في "زاد المعاد" (1/ 147 - 148)، و"مفتاح دار السعادة" (ص: 329)، و"الوابل الصيب" (ص: 49 - 60). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) انظر في ذلك "الموافقات" للشاطبي (3/ 120 - 121 - بتحقيقي). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين مذكور في (ق) بعد قوله الآتي: "وأن لا ينقص منها ولا تغير".

طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ (¬1)} [البقرة: 177]، وقال (¬2): {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] وسُئل النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أفضل الرقاب فقال: "أغلاها ثمنًا وأَنفَسُها عند أهلها" (¬3) ونذر عمر أن ينحر (¬4) نجيبةً فأعطى بها نجيبتين، فسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَن يأخذَهما بها وينحرهما، فقال: "لا، بل انحرها إياها" (¬5) فاعتبر في الأضحية عين المنذور دون ما يقوم مقامه وإن كان أكثر منه، فلأن يُعتبر في الزكاة نفس الواجب دون ما يقوم مقامه ولو كان أكثر منه أولى وأحرى. وطرد قياسكم أنه لو وجب عليه أربعُ شياهٍ جياد فأخرج عشرة مِنْ أردأ الشياه وأهزلها وقيمتهن قيمة الأربع، أو وجب عليه أربع حقاق (¬6) جياد فأخرج عشرين ابن لبون من أردأ الإبل وأهزلها أنه يجوز، فإن منعتم ذلك نقضتم (¬7) القياس، وإن طردتموه تيممتم الخبيث منه تنفقون، وسلَّطتم رب المال على إخراج رديئه ومعايبه عن جَيِّده، والمرجع في التقويم إلى اجتهاده، وفي هذا من مخالفة الكتاب والميزان ما فيه. ¬

_ (¬1) في (ق): "على حبه ذوي القربى". (¬2) في (ق) و (ك): "وقوله". (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب العتق): باب أيُّ الرقاب أفضل (5/ 148/ رقم 2518) عن أبي ذر -رضي اللَّه عنه-. (¬4) في (ق): "ونذر عمر نحر". (¬5) روى البخاري في "التاريخ" (2/ 230)، وأبو داود (1756)، ومن طريقه البيهقي (5/ 241 - 242) من طريق أبي عبد الرحيم عن جهم بن الجارود عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه قال: "أهدى عمر بن الخطاب نجيبًا فأعطى بها ثلاث مئة دينار، فأتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه، إني أهديت نجيبًا، فأعطيت بها ثلاث مئة دينار، أفأبيعها واشتري بثمنها بُدْنًا؟ قال: "لا، انحرها إياها". وعزاه الحافظ في "التلخيص" لابن خزيمة، وابن حبان، وفيه الجهم بن جارود، وهو مجهول، لم يرو عنه غير أبي عبد الرحيم؛ كما ذكر الذهبي في "الميزان". وسقطت "لا" من (ك) و (ق). (¬6) في (و): "حقائق"، وعلق قائلًا: "الحقاق من الإبل: جمع حق وحقة، وهو الذي دخل في السنة الرابعة، وعند ذلك يتمكن من ركوبه وتحميله، وابن اللبون وبنت اللبون ما أتى عليه سنتان، ودخل في الثالثة، فصارت الأم لبونًا، أي: ذات لبن؛ لأنها تكون قد حملت حملًا آخر، ووضعته" اهـ. (¬7) زاد هنا في (ك) و (ق): "ذلك".

وفرّقتم بين ما جمع الشارع بينه وجمعتم بين ما فرق بينه، أما الأول فقلتم: يصح صوم رمضان بنية من النهار قبل الزوال، ولا يصح صوم الظهار وكفارة الوطء في رمضان وكفارة القتل إلا بنية من الليل (¬1)، وفرّقتم بينهما بأن صوم رمضان لمَّا كان معينًا بالشرع أجزأ بنية من النهار، بخلاف صوم الكفارة، وبنَيْتُم على ذلك أنه لو قال: "للَّه عليَّ صوم يوم" فصامه بنية قبل الزوال لم يجزئه، ولو قال: "للَّه عليَّ أن أصوم غدًا" فصامه بنية قبل الزوال جاز، وهذا تفريق بين ما جمع الشارع بينه من صوم الفرض وأخبر أنه لا صيام لمن لم يبيِّتُه من الليل (¬2)، وهذا في صوم الفرض، وأما النفل فصح [عنه] أنه كان -صلى اللَّه عليه وسلم-، (¬3) يُنشئه بنية من النهار (¬4)، فسوَّيتم بينهما في أجزائهما بنية من النهار وقد فَرَّق الشارع بينهما. وفرّقتم بين بعض الصوم المفروض [دون] (¬5) بعض في اعتبار النية من الليل وقد سَوَّى الشارع بينهما. والفرق بالتعيين وعدمه عديم التأثير فإنه وإن تعيَّن لم يصر عبادة إلا بالنية؛ ولهذا لو أمسك عن الأكل والشرب من غير نية لم يكن صائمًا؛ فإذا لم تقارن النية جميع أجزاء اليوم فقد خرج بعضُه عن أن يكون عبادة؛ فلم يُؤد ما أمِرَ به، وتعيينه لا يزيد وجوبه إلا تأكيدًا واقتضاءً؛ فلو قيل: إن المُعيَّن أولى بوجوب النية من الليل من غير المعين لكان أصح في القياس، والقياس الصحيح هو الذي ¬

_ (¬1) انظر مبحث النية عند المؤلف في "زاد المعاد" (1/ 288)، و"تهذيب السنن" (3/ 327 - 328، 331 - 333). (¬2) أخرجه أبو داود (2454)، والترمذي (730)، والنسائي (4/ 196، 197)، وابن خزيمة (1933) عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن عمر عن حفصة رفعته: "من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له"، وإسناده صحيح. وأخرجه أحمد (6/ 287)، وليس فيه ابن عمر، والدارمي (1705)، والنسائى (4/ 196)، وابن ماجه (1705) من طرق عن سالم به. (¬3) زيادة من (ك) و (ق) ووقع في (ق): "وأما النفل فصح أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان ينشئه". (¬4) أخرجه مسلم (1254) (كتاب الصيام): باب جواز صيام النافلة بنية من النهار قبل الزوال، وجواز فطر الصائم نفلًا من غير عذر عن عائشة، قالت: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذات يوم: يا عائشة! هل عندكم شيء؟ قالت: فقلتُ: يا رسول اللَّه؟ ما عندنا شيء. قال: فإني صائم. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع و (ن): "و".

جاءت به السنّة من الفرق بين الفرض والنفل؛ فلا يصح الفرض إلا بنية من الليل، والنفل يصح بنية من النهار؛ لأنه يُتسامَح فيه ما لا يتسامح في الفرض، كما يجوز أن يُصلّي النفل قاعدًا وراكبًا على دابته إلى القبلة وغيرها. [وفي] (¬1) ذلك تكثير النفل وتيسير الدخول فيه، والرجل لما كان مخيَّرًا بين الدخول فيه وعدمه ويخير بين الخروج منه وإتمامه خُيِّر بين التبييت والنية من النهار؛ فهذا محض القياس وموجب السنّة. وللَّه الحمد. وفرّقتم بين ما جمع اللَّه بينهما من جماع الصائم والمعتكف فقلتم: لو جامع في الصوم ناسيًا لم يفسد صومه، ولو جامع المعتكف ناسيًا فسد اعتكافه وفرّقتم بينهما بأن الجماع من محظورات الاعتكاف، ولهذا لا يباح ليلًا ولا نهارًا، وليس من محظورات الصوم؛ لأنه يباح ليلًا. وهذا فرق فاسد جدًا؛ لأن الليل ليس محلًا للصوم فلم يحرم فيه الجماع؛ وهو محل للاعتكاف فحرم فيه الجماع؛ فنهار الصائم كليل المعتكف في ذلك، ولا فرق بينهما، والجماعُ محظورٌ في الوقتين، ووزان ليل الصائم اليوم الذي يخرج فيه المعتكف من اعتكافه، فهذا هو القياس المحض، والجمع بين ما جمع اللَّه بينه والتفريق بين ما فرق اللَّه بينه، وباللَّه التوفيق. وقلتم: لو دخل عَرَفَة في طلب بعيرٍ له أو حاجة ولم ينوِ الوقوف أجزأه عن الوقوف، ولو دار حول البيت في طلب شيءٍ سقط منه ولم ينوِ الطواف لم يجزئه، وهذا خروج عن محض القياس، وفَرّقتم تفريقًا فاسدًا فقلتم: المقصود الحضور (¬2) بعرفة في هذا الوقت وقد حصل، بخلاف الطواف؛ فإن المقصود العبادة ولا تحصل إلا بالنية، فيقال: والمقصود بعرفة العبادة أيضًا، فكلاهما ركنٌ مأمور به، ولم ينوِ المكلف امتثال الأمر لا في هذا [ولا في هذا؛ فما الذي صحح هذا وأبطل هذا؟ ولما تنبَّه بعضُ القياسيين لفساد هذا] (¬3) الفرق عدل إلى فرق آخر؛ فقال: الوقوف ركن يقع في نفس الإحرام، فنية الحج مشتملة عليه، فلا يفتقر إلى تجديد نية، كأَجْزَاء الصلاة من الركوع والسجود ينسحب (¬4) عليها نية الصلاة. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين غير مقروء جيدًا في (ق)، وفي (ك): "في". (¬2) في (ق): "الحصول" وقال في الهامش: "أكثر العلماء لا يشترطون للوقوف بعرفة النية". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وفي هامش (ك): "لعله: ولما نوى المكلف اعتبار الأمر في هذا الفرق". (¬4) في (ق): "وتشتمل".

وأما الطواف فيقع خارج العبادة (¬1) فلا تشتمل عليه نية الإحرام فافتقر إلى النية، ونحن نقول لأصحاب هذا الفرق: ردُّونا إلى الأول فإنه أقل فسادًا وتناقضًا من هذا، فإن الطواف والوقوف كلاهما جزء من أجزاء العبادة، فكيف تضمنت [جزءًا من أجزاء] (¬2) العبادة لهذا الركن دون هذا؟ وأيضًا فإن طواف المعتمر يقع في الإحرام، وأيضًا فطواف الزيارة يقع في بقية الإحرام، [فإنه إنما] (¬3) حل من إحرامه قبله تحللًا أول ناقصًا (¬4)، والتحلل الكامل موقوف على الطواف. وفرّقتم بين ما جمعت السنّة والقياس بينهما فقلتم: إذا أحرم الصبي ثم بلغ فجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام، وإذا أحرم العبد ثم عتق فجدد إحرامه لم يجزئه عن حجة الإسلام، والسنّة قد سَوَّت بينهما، وكذا القياس، فإن إحرامهما قبل البلوغ والعتق صحيح وهو سبب للثواب، وقد صارا من أهل وجوب الحج قبل الوقوف بعرفة فأجزأهما عن حجة الإسلام، كما لو لم يوجد منهما إحرام قبل ذلك، فإن غاية ما وجد منهما من الإحرام أن يكون وجوده كعدمه، فوجود الإحرام السابق على العتق لم يضره شيئًا بحيث يكون عدمه أنفع له من وجوده، وتفريقكم بأن إحرام الصبي إحرام تخلق وعادة وبالبلوغ انعدم ذلك فصح منه الإحرام عن حجة الإسلام، وأما العبد فإحرامه إحرام عبادة لأنه مكلف فصح إحرامه موجبًا فلا يتأتَّى (¬5) له الخروج منه حتى يأتي بموجبه فرق فاسد (¬6)؛ فإن الصبي مثاب (¬7) على إحرامه بالنص، وإحرامه إحرام عبادة -وإن كانت لا تُسقط الفرض- كإحرام العبد سواء. وفرّقتم بين ما جمع القياس الصحيح بينه فقلتم: لو قال: ["أحِجُّوا فلانًا حجة" فله أن يأخذ النفقة ويأكل بها ويشرب ولا يحج، ولو قال] (¬8): "أحِجُّوه عني" لم يكن له أن يأخذ النفقة إلا بشرط الحج (¬9)، وفرّقتم بأن في المسألة الأولى أخرج كلامه مخرج الإيصاء بالنفقة له، وكأنه أشار عليه بالحج، ولا حق للمُوصي في الحج الذي يأتي به، فصححنا الوصية بالمال، ولم نُلزِم (¬10) المُوصى ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الإحرام". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "نية". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "فإنما". (¬4) في (ك): "وقبل تحلل أول ناقص" وفي (ق): "قبل الطواف تحللًا ناقصًا" (¬5) في (ق) و (ك): "ولا يتأتى". (¬6) "خير تفريقكم السابقة". (و). (¬7) في (ق): "يثاب". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) بعدها في (ق) فراغ يسع نصف سطر. (¬10) في (ق): "ولا يلزم".

له بما لا حَقَّ للمُوصي فيه، وأما في المسألة الثانية فإنما قصد أن يعود نفعه إليه بثواب النفقة (¬1) في الحج، فإن لم يحصل له غرضه لم تنفع الوصية، وهذا الفرق نفسه هو المبطل للفرق بين المسألتين؛ فإنه بتعيُّن الحج قطع ما توهموه (¬2) من دفع المال إليه يفعل به ما يريد، وإنما قصد إعانته على طاعة اللَّه ليكون شريكًا له في الثواب، ذاك بالبدن وهذا بالمال، ولهذا عين الحج مصرفًا للوصية، فلا يجوز إلغاء ذلك وتمكينه من المال يصرفه في ملاذِّه وشهواته، هذا من أفسد القياس، وهو كما لو قال: "أعطوا فلانًا ألفًا ليبني بها مسجدًا أو سقاية أو قنطرة" لم يجز أن يأخذ الألف [إن لم] (¬3) يفعل ما أوصى به، كذلك الحج سواء. وفرّقتم بين ما جمع محض القياس بينهما فقلتم: إذا اشترى عبدًا ثم قال له: "أَنت حُرٌّ أمس" عتق عليه، ولو تزوجها ثم قال لها: "أنت طالق أمس" لم تطلق، وفرّقتم بأن العبد لما كان حرًا أمس اقتضى تحريم شرائه واسترقاقه [اليوم] (¬4)، وأما الطلاق فكونها مطلقة أمس لا يقتضي تحريم نكاحها اليوم، وهذا فرق صوري لا تأثير له ألبتة، فإن الحكم إن جاز تقديمه (¬5) على سببه وقع العتق والطلاق في الصورتين، وإن امتنع تقدمه [في الموضعين] (¬6) على سببه لم يقع واحد منهما، فما بال أحدهما وقع دون الآخر؟ (¬7). فإن قيل: نحن لم نفرِّق بينهما في الإنشاء، وإنما فرقنا بينهما في الإقرار والإخبار، فإذا أقرّ بأَنَّ العبدَ حر بالأمس [لزمه العتق، وإذا أقرّ بالطلاق] (¬8) لم يلزم بطلان النكاح اليوم؛ لجواز (¬9) أن يكون المُطلِّق الأول قد طلقها أمس قبل الدخول فتزوج هو بها اليوم. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "أن يعود إليه بثبوت النفقة". (¬2) في المطبوع: "توهمتموه". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "ولا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "تقدمه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 100، 148)، و"تهذيب السنن" (5/ 424 - 425) و (6/ 339). (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "فقد بطل أن يكون عبدًا، فعتق باعترافه، وإذا أقر بأنها طالق أمس". (¬9) في (ق): "إذ يجوز".

قلنا: إذا كانت المسألة على هذا الوجه فلا بد أن يقول: أنت طالق أمس من غيري، أو ينوي ذلك، فينفعه حيث يدين؛ فأما إذا أطْلق فلا فرق بين العتق والطلاق. فإن قيل: يمكن أن يطلقها بالأمس ثم يتزوجها اليوم. قيل: هذا يمكن في الطلاق الذي [لم] (¬1) يُستوف إذا كان مقصوده الإخبار، فأما إذا قال: "أنت طالق أمس ثلاثًا" ولم يقل من زوج كان قبلي ولا نواه فلا فرق أصلًا بين ذلك وبين قوله للعبد: "أنت حرّ أمس" فهذا التفصيلُ هو محض القياس، وباللَّه التوفيق. وجمعتم بين ما فرّقت السنّة بينهما فقلتم: يجب على البائن الإحداد كما يجب على المُتوفى عنها، والإحداد لم يكن من ذلك لأجل العدة، وإنما كان لأجل موت الزوج, والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نفى وأثبت وخصَّ (¬2) الإحداد بالمتوفى عنها زوجها (¬3)، وقد فارقت المبتوتة في وصف العدة وقدرها وسببها؛ فإن سببها الموت، وإن لم يكن الزوج دخل بها، وسبب عدة البائن الفراق وإن كان الزوج حيًا، ثم فرّقتم بين ما جمعت السنّة بينهما فقلتم: إن كانت الزوجة ذمية أو غير بالغة فلا إحداد عليها، والسنّة تقتضي التسوية كما يقتضيه القياس. وفرّقتم بين ما جمع القياس المحض بينهما فقلتم: لو ذبح المُحرم صيدًا فهو ميتة لا يحل أكله، ولو ذبح الحلال صيدًا حَرَميًا فليس بميتة وأكله حلال، وفرّقتم بأن المانع من (¬4) ذبح المحرم فيه، فهو كذبح المجوسي والوثني، فالذابح غير أهل، وفي المسألة الثانية الذابح أهل، والمذبوح محلٌّ للذبح إذا كان حلالًا، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق)، واحتمله في هامش (ق). (¬2) تصحفت في (ق) إلى: "وحض". (¬3) أخرجه مسلم (1490) (كتاب الطلاق): باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة: عن حفصة أو عن عائشة أو عن كلتيهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يحلّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر (أو: تؤمن باللَّه ورسوله) أن تحدّ على ميّتٍ فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها". وأخرجه البخاري (5334، 5335، 5336) (كتاب الطلاق): باب تحد المتوفى عنها أربعة أشهر وعشرًا، ومسلم (1486، 1487، 1489) (كتاب الطلاق): باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة عن أم حبيبة بنحوه. وانظر حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في إحداد المعتدة نفيًا وإثباتًا في "زاد المعاد" (4/ 220 - 226) للمؤلف -رحمه اللَّه-. وسقطت "زوجها" من (ك). (¬4) في المطبوع و (ك): "في".

وإنما منع منه حُرْمة المكان، ألا ترى أنه لو خرج من الحَرَم حل ذبحه؛ وهذا من أفسد فرق، وهو باقتضاء عكس الحُكم أولى؛ فإن المانع في الصيد الحَرَمي في نفس المذبوح، فهو كذبح ما لا يؤكل، والمانع في ذبح المحرم في الفاعل، فهو كذبح الغاصب. وقلتم: لو أرسل كلبه على صَيْد في الحل فطرده حتى أدخله الحرم فأصابه لم يضمنه، ولو أرسل سهمه على صيد في الحل فأطارته (¬1) الريح حتى قَتَل صيدًا في الحرم ضمنه، وكلاهما تولَّد القتل فيه عن فعله، وفرّقتم بأن الرمي حصل بمباشرته وقوّته التي أمدّت السهم فهو محض فعله، بخلاف مسألة الكلب فإن الصيد فيه يُضاف إلى فعل الكلب، وهذا الفرق لا يصح، فإن إرسال السهم والكلب (¬2) كلاهما من فعله؛ فالذي (¬3) تولَّد منهما تولد عن فعله، وجَرَيانُ السَّهم وعَدْو الكلب كلاهما هو المتسبب فيه، وكون الكلب له اختيار والسهم لا اختيار له فرق لا تأثير له إذ (3) كان اختيار الكلب بسبب إرسال صاحبه له. وقلتم: لو رهن أرضًا مزروعة أو شجرًا مثمرًا دخل الزرع والثمر في الرهن، ولو باعهما لم يدخل الزرع والثمر (¬4) في البيع، وفرّقتم بينهما بأن الرهن متصل بغيره، واتصال الرهن بغيره يمنع صحته؛ للإشاعة (¬5)، فلو لم يدخل فيه الزرع والثمرة لبطل، بخلاف المبيع، فإن اتصاله بغيره لا يبطله، إذ الإشاعة لا تنافيه، وهذا قياس في غاية الضعف؛ لأن الاتصال هنا اتصال مجاورة، لا إشاعة، فهو كرهن زيت في ظروفه (¬6) وقماش في أعداله ونحوه. وقلتم: لو أُكره على هبة جاريته لرجل فوهبها له مالكها فأعتقها الموهوب له نفذ عتقُه، ولو باعها لم يصح بيعه، وهذا خروج عن محض القياس، وتفريقكم -بأن هذا عتق صدر عن إكراه والإكراه لا يمنع صحة العتق، وذلك (¬7) بيعٌ صدر عن إكراه والإكراه يمنع صحة البيع- لا يصح؛ لأنه إنما أكره على التمليك، ولم يكن للمكره غرض في الإعتاق، والتمليك لم يصح، والعتق لم يكره عليه فلا ينفذ كالبيع سواء، هذا مع أنكم تركتم القياس في مسألة الإكراه على البيع والعتق، ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "فطارت به". (¬2) في (ق): "الكلب والسهم". (¬3) في (ق): "إذا". (¬4) في (ك) و (ق): "الثمرة". (¬5) في المطبوع و (ك): "صحة الإشاعة". (¬6) في (ق): "ضروفه". (¬7) في (ق): "وذاك".

فصححتم العتق (¬1) دون البيع، وفرّقتم بأن العتق لا يدخله خيار فصح مع الإكراه [كالطلاق، والبيع يدخله الخيار فلم يصح مع الإكراه] (¬2)، وهذا فرق لا تأثير له، وهو فاسد في نفسه؛ فإن الإقرار والشهادة والإسلام لا يدخلها خيار، ولا تصح مع الإكراه، وإنما امتنعت عقود المكره من النفوذ لعدم الرضى الذي هو مُصحِّحُ العقد، وهذا (¬3) أمر تستوي فيه عقوده كلها معاوضاتها (¬4) وتبرعاتها وعتقه وطلاقه وخلعه وإقراره، وهذا هو محض القياس والميزان؛ فإن المُكْرَه محمول على ما أكره عليه غير مختار له، فأقواله كأقوال النائم والناسي، فاعتبار بعضها وإلغاء بعضها خروج عن محض القياس، وباللَّه التوفيق. وقلتم: لو وقع في الغدير العظيم -الذي إذا حُرِّك (¬5) أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر- قطرة دم أو خمر أو بول آدمي نجَّسَه كله، وإذا وقع في آبار الفلوات والأمصار البعرُ والرَّوثُ والأخباثُ لا تنجِّسها (¬6) ما لم يأخذ وجه ربع الماء أو ثلثه، وقيل: أن لا يخلو دلوٌ عن شيء منه، ومعلوم أنَّ ذلك الماء أقرب إلى الطيب والطهارة حسًا وشرعًا من هذا؛ ومن العجب أنكم نجَّستُم الأدهان والألبان والْخَلَّ والمائعاتِ بأسرها بالقطرة من البول والدم، وعفوتم عما دون ربع الثوب من النجاسة المخففة، وعما دون [قدر] (¬7) الكف من المغلَّظة، وقستم العفو عن ربع الثوب على وجوب مَسْح ربع الرأس ووجوب حَلْق ربعه في الإحرام، وأين مسح الرأس من غسل النجاسة؟ ولم تقيسوا الماء والمائع على الثوب مع عدم ظهور أثر النجاسة فيها (¬8) ألبتة وظهور عينها ورائحتها في الثوب، ولا سيما عند محمد (¬9) حيث يعفو عن قدر ذراع [في ذراع] (¬10)، وعند أبي يوسف عن قدر شبر في شبر (¬11)، وبكل حال فالعفو عما هو دون ذلك بكثير مما لا نسبة له إليه ¬

_ (¬1) في (ق): "المعتق". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) في (د): "وهو أمر. . . ". (¬4) في (د) و (ك): "معاوضتها". (¬5) في المطبوع: "تحرك". (¬6) في (ق): "ينجسها". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "فيهما". (¬9) هو محمد بن الحسن الشيباني، صاحب أبي حنبفة، ومثله المذكور بعد ذلك: أبو يوسف، وهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي -رحم اللَّه الجميع-. (¬10) "الاختيار" (1/ 72) ونقله الطحاوي في "مختصره" (31) عن أبي يوسف. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) "الاختيار" (1/ 72) ونقله الشاشي في "الحلية" (2/ 44) عن أبي بكر الرازي.

فصل

في المائع (¬1) الذي لا يظهر أثر النجاسة فيه بوجه بل يحيلها ويذهب عينها وأثرها أولى وأحْرَى. وجمعتم بين ما فرّق الشرع والحس بينهما، فقستم المني الذي هو أصْلُ الآدميين على البول والعذرة، وفرّقتم بين ما جمع الشرع والحسُّ بينهما ففرّقتم بين بعض الأشربة المسكرة وغيرها مع استوائها (¬2) في الإسكار، فجعلتم بعضها نجسًا كالبول وبعضها طاهرًا طيّبًا كاللبن والماء، وقلتم: لو وقع في البئر نجاسة تنجَّس (¬3) ماؤها وطينها، فإن نزح منها دلو فرشرش (¬4) على حيطانها تنجست حيطانها، وكلما نزح منها شيء نبع مكانه شيء فصادف ماءً نجسًا وطينًا نجسًا، فإذا وجب نزح أربعين دلوًا مثلًا فنزح تسعة وثلاثون كان المنزوح والباقي كله نجسًا، والحيطان التي أصابها الماء والطين الذي في قرار البئر، حتَّى إذا نزح الدلو الأربعون قشقش النجاسة كلها، فطهر الطين والماء وحيطان البئر وطهر نفسه، فما رؤي أكرم من هذا الدلو ولا أعقل ولا أخير!! فصل [و] قالت الحنابلة والشافعية (¬5): لو تزوجها على أن يَحُجَّ بها لم تصح التسمية ووجب مهر المثل، وقاسوا هذه التسمية على ما إذا تزوجها على شيء لا يدرى ما هو، ثم قالت الشافعية: لو تزوج الكتابية على أن يعلمها القرآن جاز، وقاسوه على جواز إسماعها (¬6) إياهُ، فقاسوا أبعد قياس، وتركوا محض القياس، فإنهم صَرَّحُوا بأنه لو استأجرها ليحملها إلى الحج جاز، ونزلت الإجارة على العُرْفِ، فكيف صح أن يكون مورد العقد الإجارة ولا يصح أن يكون صداقًا؟ ثم ناقضتم أبين مناقضة فقلتم: لو تزوجها على أن يردَّ عبدَها الآبقَ من مكان كذا وكذا صح مع أنّه قد يقدر على رده وقد يعجز عنه؟ فالغَرَرُ الذي في هذا الأمر أعظم من الغرر الذي في حملها إلى الحج بكثير، وقلتم: لو تزوجها على أن يُعَلمها القرآن أو بعضَه صح، وقد تقبل التعليم وقد لا تقبله، وقد يطاوعها لسانها وقد يأبى عليها، وقلتم: لو تزوجها على مهر المثل صحت التسمية مع اختلافه ¬

_ (¬1) في المطبوع: "في الماء والمائع". (¬2) في (ق): "وغيرهما مع استوائهما". (¬3) في (ق): "ينجس". (¬4) في المطبوع: "فترشرش". (¬5) في (ن) و (ق) و (ك): "وقالوا"، وما بين المعقوفتين سقط من (ح) و (ق). (¬6) في (ق): "سماعها".

فصل

لامتناع مَنْ يساويها من كل وجه أو لقربه (¬1) وإن اتفق مَنْ يساويها في النسب فنادر جدًا من يساويها (¬2) في الصِّفات والأحوال التي يقل المهر بسببها ويكثر، فالجهالة التي في حجه بها دون هذا بكثير، وقلتم: لو تزوجها على عبد مطلق صح ولها الوسط، ومعلوم أن في الوسط من التفاوت ما فيه، وقلتم: لو تزوجها على أن يشتري لها عبدَ زيدٍ صحت التسمية، مع أنه غرر ظاهر؛ إذ تسليم المهر موقوف على أمر غير مقدور له، وهو رِضَى زيد ببيعه، ففيه من الخطر ما في رد [عبدها] (3) السابق، وكلاهما أعظم خطرًا من الحج بها، وقلتم: لو تزوجها على أن يرعى غنمها مدة صح، وليس جهالة حملانها [إلى الحج] (¬3) بأعظم (¬4) من جهالة أوقات الرعي ومكانه، على أن هذه المسألة بعيدة من أصول أحمد ونصوصه، ولا تُعرف منصوصة عنه، بل نصوصه على خلافها، قال في رواية مهنأ، فيمن تزوج على عبد من عبيده جاز: وإن كانوا عشرةَ عبيدٍ يُعْطِي من أوسطهم، فإن تشاحَّا أقرع بينهما، قلت: وتستقيم القرعة في هذا؟ قال: نعم (¬5)، وقلتم: لو خالعها على كفالة ولدها عشر سنين صح، وإن لم يذكر قدر الطعام والإدام والكسوة، فياللَّه العجب (¬6)! أين جهالة هذا من جهالة حملانها إلى الحج؟! فصل وقالت (¬7) الشافعية: له أن يجبر ابْنَتَه البالغة المفتية (¬8) العالمة بدين اللَّه التي تفتي في الحلال والحرام على نكاحها بمن هي أكره الناس له، وأشد الناس نُفرة عنه بغيَر رضاها، حتَّى لو عينت كفوًا شابًا جميلًا ديِّنًا تحبّه وعَيَّنَ كفوًا شيخًا مشوّهًا دميمًا كان العبرة بتعيينه دونها، فتركوا مَحْضَ القياس والمصلحة ومقصود النكاح من الود والرحمة وحسن المعاشرة، وقالوا: لو أراد أن يبيع لها حَبْلًا (¬9) أو عُودَ أراكٍ من مالها لم يصح إلَّا برضاها، وله أن يرقَّها مدة العمر عند مَنْ هي ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "من يساويهما من كل وجه والقرابة". (¬2) في (ق) و (ك): "وإن اتفق تساويهما في النسب فنادر جدًا تساويهما". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ق): "أعظم". (¬5) نقل ابن رجب في "قواعده" (3/ 221) (بتحقيقي) رواية مهنأ هذه. (¬6) في (د): "فياللعجب". (¬7) في (ق): "قالت". (¬8) في (ق): "المعنسة". وقال (د) و (ط): في نسخة: "الغنية". (¬9) قال (د) و (ط): في نسخة: "جلا".

أكرهُ شيء فيه بغير رضاها، قالوا: وكما خرجتم عن محض القياس خرجتم عن صريح السنة؛ فإنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيَّرَ جاريةً بكرًا زوَّجَها أبوها وهي كارهة (¬1)، وخيَّر أُخرى ثيبًا (¬2)، ومن العجب أنكم قلتم: لو تصرَّفَ في حبل من مالها على غير وجه الحفظ لها كان مردودًا، حتَّى إذا تصرَّف في بُضْعها على خلاف حظها كان لازمًا، ثم قلتم: هو أخبر بحظها منها، وهذا يرده الحس؛ فإنها أعلم بميلها ونفرتها وحظها ممن [تحب أن] (¬3) تعاشره وتكره عشرته، وتعلقتم بما رواه مسلم من حديث ابن عباس يرفعه: "الْأَيِّمُ أحَق بنفسها من وليها، والبكر تُسْتَأذن في نفسها، وإذْنها صُمَاتها" (¬4) وهو حجة عليكم، وتركتم ما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة يرفعه: "لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن" (¬5) ¬

_ (¬1) ورد في الباب أحاديث عديدة، منها: ما أخرجه أحمد (1/ 273)، وأبو داود (2096)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" (6001) - وابن ماجه (1875) عن عكرمة عن ابن عباس أن جارية بكرًا أتت النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرت له أن أباها زوّجها وهي كارهة، فخيّرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". هكذا رواه جرير بن حازم يزيد بن حبان عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس، ورواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلًا، كما عند أبي داود (2097) وهو المحفوظ، على ما ذكر البيهقي (7/ 117) وهذا الذي رجحه ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 414 رقم 1243) عن أبيه، والدارقطني والحديث صحيح بمجموع طرقه، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 249 - 250): "فأما قصة الجارية البكر التي زوجها أبوها وهي كارهة، تظاهرت بها الروايات، من حديث ابن عمر وجابر وابن عباس وعائشة" قال: "ذكر فيها أبو داود حديث ابن عباس، وهو صحيح، ولا يضرّه أن يرسله بعض رواته، إذا أسنده من هو ثقة". وانظر تتمة كلامه، و"نصب الراية" (3/ 190 - 191) و"الحنائيات" (رقم 232) وتعليقي عليه. (¬2) يشير إلى ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (5138، 5139) كناب النكاح: باب إذا زوّج ابنته وهي كارهة، فنكاحه مردود عن خنساء بنت خذام الأنصاريّة أنَّ أباها زوَّجها وهي ثيّبٌ، فكرهت ذلك، فأتت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فردّ نكاحه. وانظر حديثًا آخر في "مصنف عبد الرزاق" (6/ 146)، و"سنن البيهقي" (7/ 120)، وانظر الكلام عليه في "الأحكام الوسطى" (5/ 168)، و"بيان الوهم والإيهام" (3/ 82). وانظر: "زاد المعاد" (4/ 2 - 3)، "تهذيب السنن" (3/ 40 - 43 مهم). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق) والعبارة قبلها: "أعلم بميلها وحظها ونفرتها". (¬4) أخرجه مسلم (1421): كتاب النكاح: باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت. (¬5) أخرجه البخاري (5137): كتاب النكاح: باب لا يُنْكِح الأبُ وغَيرُه البكر والثَّيِّب إلَّا =

فصل

وفيهما أيضًا من حديث عائشة قالت: "قلت: يا رسول اللَّه تُسْتأمر النساء في أبْضَاعهن؟ قال: نعم، قلت (¬1): فإن البكر تُسْتَأذن فتستحيي، قال: إذْنُهَا صِمَاتهَا" (¬2) فنهى أن تنكح بدون استئذانها، وأمر بذلك وأخبر أنه (¬3) هو شَرْعه [وحكمه] (¬4)، فاتفق على ذلك أمره ونهيه وخبره، وهو محض القياس والميزان. فصل وقالت الحنابلة والشافعية والحنفية: لا يصح بيع المَقاثِي والمَباطِخ والباذنجان إلَّا لقطة (¬5)، ولم يجعلوا المعدوم تبعًا للموجود مع شدة الحاجة إلى ذلك، وجعلوا المعدوم مُنزلًا منزلة الموجود في منافع الإجارة للحاجة إلى ذلك، وهذا مثله من كل وجه؛ لأنَّه يُستخلف كما تُستخلف المنافع، وما يقدر من عروض الحظر له فهو مشترك بينه وبين المنافع، وقد جوَّزوا بيع الثمرة إذا بدا الصلاح في واحدة منها، ومعلوم أن بقية الأجزاء معدومة فجاز بيعها تبعًا للموجود، فإن فرّقوا بأن هذه أجزاء متصلة، وتلك أعيان منفصلة، فهو فرق فاسد من وجهين: أحدهما: أن هذا لا تأثير له ألبتة. الثاني: أن من الثَّمرة التي بدا صلاحها (¬6) ما يخرج أثمارًا متعددة كالتوت والتين فهو كالبطيخ والباذنجان من كل وجه، فالتفريق خروجٌ عن القياس والمصلحة، وإلزام بما لا يُقدر عليه إلَّا بأعظم كلفة ومشقة، وفيه مفسدة عظيمة يردها القياس؛ فإن اللقطة لا ضابط لها، فإنه يكون في المقاثي (¬7) الكبار والصغار وبين ذلك، فالمشتري يريد استقصاءَها، والبائع يمنعه من أخذ الصغار، فيقع بينهما من التنازع والاختلاف والتشاحن ما لا تأتي به شريعة (¬8)، فأين هذه ¬

_ = برضاها، و (6946) كتاب الإكراه: باب لا يجوز نكاحُ المكرَه، و (6971) كتاب الحيل: باب في النكاح، ومسلم (1420) كتاب النكاح: باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت. (¬1) في (ق): "فقلت". (¬2) انظر الحاشية (5) من الصفحة السابقة. (¬3) في (ق): "بأنه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) ووقع في (ق): "واتفق". (¬5) في (ق) و (ن) و (ك): "لقطة لقطة". (¬6) في (ك): "أن الثمرة التي بدا صلاحها" وعندها أشار في الهامش "لعله: منها". (¬7) في المطبوع و (ق): "المقثأة". (¬8) في (ق) و (ك): "فيقع بينهما التنازع والاختلاف والتشاحن وما لا يأتي به الشريعة".

فصل [من تناقض القياسيين مراعاة بعض الشروط دون بعضها الآخر]

المفسدة العظيمة التي هي منشأ النزاع التي من تأمَّل مقاصد الشريعة علم قصد الشارع لإبطالها وإعدامها إلى المفسدة اليسيرة التي في جعل ما لم يوجد (¬1) تبعًا لما وجد لما فيه من المصلحة؟ وقد اعتبرها الشارع، ولم يأتِ عنه حرف واحد أنه نهى عن بيع المعدوم (¬2)، وإنما نهى عن بيع الغرر (¬3)، والغررُ شيء وهذا شيء، ولا يُسمَّى هذا البيع غررًا لا لغة ولا عرفًا ولا شرعًا (¬4). فصل [من تناقض القياسيين مراعاة بعض الشروط دون بعضها الآخر] وقالت الحنفية والمالكية والشافعية: إذا شَرَطت (¬5) الزوجة أن لا يخرجها الزوج من بلدها أو دارها أو أن لا يتزوج عليها ولا يَتسرَّى فهو شرطٌ باطل، فتركوا محض القياس، بل قياس الأولى، فإنهم قالوا: لو شرطت في المهر تأجيلًا أو غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لَزِمَ الوفاء بالشرط، فأين المقصود الذي لها في الشرط الأول إلى المقصود الذي في هذا الشرط؟ وأين فواته إلى فواته؟ وكذلك من قال منهم: لو شرط أن تكون جميلة شابة سويَّة فبانت عجوزًا شمطاء قبيحة المنظر أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه، حتَّى إذا فات درهم واحد من الصداق فلها الفسخ لفواته قبل الدخول، فإن استوفى المعقود عليه ودخل بها وقضى وَطَره منها ثم فات الصداق جميعه ولم تظفر [منه] (¬6) بحبةٍ واحدةٍ فلا فسخ لها، وقستم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يؤويها ولا يُنفق عليها (¬7)، ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ما لا يوجد". (¬2) حول بيع المعدوم وأنواع المعدوم انظر: "زاد المعاد" (4/ 262 - 266)، و"تهذيب السنن" (5/ 158). (¬3) النهي عن بيع الغرر أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب بطلان بيع الحصاة، (10/ 156 - نووي) من حديث أبي هريرة. (¬4) اختار ابن القيم -رحمه اللَّه- جواز بيع المقاثي والمباطخ والمغيبات في الأرض بعد أن يبدو صلاحها، وناقش الخلاف فيها، والحيلة في الجواز على قول الممانع، ورجح وضع الحوائج فيها، فانظر: "زاد المعاد" (4/ 267 - مهم)، و"بدائع الفوائد" (4/ 15، 74). (¬5) في (ق): "اشترطت". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) وقال في (ق) قبلها: "ولم يظفر". (¬7) في (ق) و (ك): "على شرط ألا يؤدها ولا ينفق عليها".

[هل يعتبر شرط الواقف مطلقا]

ولا يطأها و (¬1) لا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك مما هو من أفسد القياس الذي فرّقت الشريعة بين ما هو أحقُّ بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به، وجمعتم بين ما فرَّق الشرع والقياس بينهما، وألحقتم (¬2) أحدهما بالآخر، وقد جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الوفاء بشروط النكاح التي يَستحلُّ بها الزوج [فرج] (¬3) امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق (¬4)، فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقها بعدم الوفاء وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح وكشرط الصلاة في المكان الذي شَرَطَ فيه الصلاة وإن كان وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين (¬5)، وقد ألغى الشارع هذا الشرط في النذر الذي هو قُرْبَة محضةٌ وطاعة فلا تتعين عنده بقعة عَيَّنها الناذر للصلاة إلَّا المساجد الثلاثة، وقد شرط الناذر في نذره تعيّنه؛ فألغاه الشارع لفضيلة غيره [عليه] (¬6) أو مساواته له فكيف يكون [شرط الواقف] (¬7) الذي غيره أفضل منه وأحب إلى اللَّه ورسوله لازمًا يجب الوفاء به؟ وتعيين الصلاة في مكان مُعيَّن لم يرغب الشارع فيه ليس بقربة، وما ليس بقربة لا يجب الوفاء به في النذر، ولا يصح اشتراطه في الوقف. [هل يعتبر شرط الواقف مطلقًا] [فإن قلتم: الواقفُ لم يخرج ماله إلَّا على وجه معين، فلزم اتباعُ ما عَيَّنه في الوقف] (¬8) من ذلك الوجه، والناذر قصد القربة، والقُرَبُ متساوية في المساجد غير الثلاثة، فتعيّن (¬9) بعضها لغو. قيل: هذا الفرق [بعينه] (8) يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة فيه من شروط ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أو". (¬2) في (ق): "فألحقتم". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) يشير المصنف -رحمه اللَّه- إلى ما أخرجه البخاري (2721) (كتاب الشروط): باب الشروط في المهر عند عُقدة النكاح، و (5151) (كتاب النكاح): باب الشروط في النكاح، ومسلم (1418) (كتاب النكاح): باب الوفاء بالشروط في النكاح عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحق الشُّروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج". (¬5) انظر: "زاد المعاد" (4/ 4 - 5، 8). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الشرط" في (ك): "شرط". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ق): "فتعيين".

الواقفين (¬1)، واعتبار ما فيه قربة، فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف التقريب إلى اللَّه فتقربه بوقفه كتقربه بنذره؛ فإن العاقل لا يبذل ماله إلَّا لما له فيه مصلحة عاجلة أو آجلة؛ والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه، مباحة كانت أو غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى اللَّه، وأما (¬2) بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه يقرب إلى اللَّه، فلو (¬3) قيل له: "إن هذا المصرف لا يقرب إلى اللَّه [عز وجل] (¬4)، أو إن غيره أفضل وأحب إلى اللَّه منه وأعظم أجرًا" لبادر إليه، ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: "إذا بذلت مالك في مقابلة هذه الشروط (¬5) حصل لك أجر واحد، وإن تركته حصل لك أجران" فإنّه يختار ما فيه الأجر الزائد، فكيف إذا قيل له: "إن هذا لا أجر فيه ألبتة" فكيف إذا قيل [له] (¬6): "إنه مخالف لمقصود الشارع مضاد له يكرهه اللَّه ورسوله"؟ وهذا كشرط العزوبية مثلًا وترك النكاح، فإنه شرط لترك واجب أو سنّة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنَّة دون الصلاة والصوم، فكيف يلزم الوفاء بـ[شرط] (¬7) ترك الواجبات والسنن اتباعًا لشرط الواقف وترك شرط اللَّه ورسوله الذي قضاؤه أحق وشرطه أوثق؟ يوضحه أنه لو شرط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء كان (¬8) شرطًا باطلًا عند جمهور الفقهاء، قال أبو المعالي الجويني -هو إمام الحرمين-[-رضي الله عنه-] (¬9): ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان، هذا مع أن وصف الغنى وصف مباح ونعمة من اللَّه وصاحبه إذا كان شاكرًا فهو أَفضل من الفقير مع صبره عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية (¬10)، فكيف يلغى هذا الشرط ويصح شرط الترهب (¬11) ¬

_ (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 378). (¬2) في (ق): "فأما". (¬3) في (د): "ولو". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع: "هذا الشرط". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ق): "أكان". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) انظر في المفاضلة بين الفقر والغنى: "تفسير القرطبي" (3/ 329 و 5/ 343 و 14/ 306 و 15/ 216 و 19/ 213)، و"عدة الصابرين" (ص: 193 - 195، 284، 203 - 204، 208 - 209، 217، 313 - 314، 317 - 322)، و"مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (11/ 21، 69، 119 - 121، 195 و 14/ 305 - 306)، ورسالة محمد البيركلي (ت: 981 هـ): "المفاضلة بين الغني الشاكر والفقير الصابر" وهي مطبوعة عن دار ابن حزم - بيروت سنة 1414 هـ في 64 صحيفة، وانظر: "الموافقات" (1/ 187 - 188 و 5/ 366 - 367 - بتحقيقي). (¬11) في (ك): "الترهيب".

[عرض شروط الواقفين على كتاب الله]

في الإسلام الذي أبطله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "لا رهبانية في الإسلام" (¬1)؟ يوضحه أن من شرط التعزُّب فإنما قصد أن تركه أفضل وأحب إلى اللَّه، فقصد أن يتعبد الموقوف عليه بتركه، وهذا هو الذي تبرأ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه بعينه فقال: "مَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي" (¬2)، وكان قصد أولئك الصحابة هو قصد هؤلاء الواقفين بعينه سواء، فإنهم قصدوا ترفيه (¬3) أنفسهم على العبادة وترك النكاح الذي يشغلهم تقربًا إلى اللَّه بتركه، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم ما قال، وأخبر أنه من رغب عن سنته فليس منه؛ وهذا في غاية الظهور، فكيف يحل الإلزام بترك شيء قد أخبر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ مَنْ رغب عنه فليس منه؟ هذا ممَّا لا تحتمله الشريعة بوجه. [عَرْض شروط الواقفين على كتاب اللَّه] فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة (¬4) غيره عرض شروط الواقفين على كتاب اللَّه سبحانه وعلي شرطه، فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح، وما خالفه ¬

_ (¬1) قال في "كشف الخفاء" (2/ 377): "قال ابن حجر: لم أره، لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند البيهقي: إن اللَّه أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة" اهـ. قلت: هو عند البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 78). وأخرج عبد الرزاق (10375)، وأحمد (6/ 106، 226، 268)، والبزار (1458 - زوائده)، وابن حبان (9 - الإحسان) عن عائشة مرفوعًا: "يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا". وإسناده قوي وأخرجه الدارمي في "سننه" (كتاب النكاح): باب النهي عن التبتل (2/ 133) عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قال رسول اللَّه لعثمان بن مظعون: يا عثمان إني لم أؤمر بالرهبانية. . . ". (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب النكاح): باب الترغيب في النكاح (9/ 104/ رقم 5063)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب النكاح): باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤنة (2/ 1020/ رقم 1401) من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، وأخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب فضائل القرآن): باب قول المقريء للقاريء: حسبك، (9/ 94/ رقم 5052) دون لفظة: "من رغب. . . "، وهي ثابتة من طريق سند البخاري؛ كما عند اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (1/ 97). (¬3) الترفيه: "التسكين والأقامة على الشيء" (د، ط، ح)، وقال (و): "رفا فلانًا سكن من الرعب، والمقصود جعل أنفسهم تسكن إلى العبادة". قلت: وانظر: "لسان العرب" (3/ 1698 - 1699)، ووقع بدلها في (ق): "توفية". (¬4) في (ق): "لا يسوغ في الشريعة".

[خطأ القول بأن شرط الواقف كنص الشارع]

كان شرطًا باطلًا مردودًا، ولو كان مئة شرطٍ، وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم اللَّه ورسوله، ومن رد (¬1) فتوى المفتي، وقد نص اللَّه سبحانه على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها، مع أن الوصية تصح في غير قربة، وهي أوسع من الوقف، وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره، فهذا الشرط مردود بنص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه. ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها وإن لم تكن قربة ولا للواقفين فيها غرض صحيح، [وإنما غرضهم ما يقربهم إلى اللَّه] (¬3)، ولا يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما بذلت المرأة بَضْعَها للزوج بشرط وفائه لها بها، ولها فيها (¬4) أصح غرض ومقصود، وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء به بنص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)؛ وهل هذا إلَّا بخروج (¬6) عن محض القياس والسنّة؟ [خطأ القول بأن شرط الواقف كنص الشارع] ثم من العجب العجاب قول من يقول: إن شروط الواقف كنصوص الشارع، ونحن نبرأ إلى اللَّه من هذا القول، ونعتذر ممَّا جاء به قائله، ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدًا، وإن أحسنَّا الظن بقائل هذا القول حُمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة، وتخصيص عامِّها بخاصها، وحمل مطلقها على مقيدها، واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها، وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الاتِّباع وتأثيم من أخلّ بشيء منها فلا يُظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم، فإذا كان حكمُ الحاكمِ ليس كنص الشَّارعِ، بل يرد ما خالف حُكمَ اللَّه ورسوله من ذلك، فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال، ¬

_ (¬1) في (د): "ورد". (¬2) هو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد". أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب البيوع): باب إذا اصطلحوا على صلح جور؛ فالصلح مردود (رقم 2697)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب نقض الأحكام الباطلة (رقم 1718)، من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "ولا يقربهم" وفي (ك): "ولا ما يقربهم". (¬4) كذا في (د)، وفي سائر النسخ "فيه" وله وجه. (¬5) سبق تخريجه قريبًا. (¬6) في (ك): "خروج".

فقد (¬1) ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات، وخروجهم [فيها] (¬2) عن موجب القياس الصحيح والسنّة، وباللَّه التوفيق. يوضح ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قَسَم يُعطي الآهل حَظَّين والعزب حظًا (¬3)، وقال: "ثلاثةٌ حق على اللَّه عونهم" (¬4) ذكر منهم الناكح يريد العفاف؛ ومصححو هذا الشرط عكسوا مقصوده، فقالوا: نعطيه ما دام عزبًا، فإذا تزوج لم يستحق شيئًا، ولا يحل لنا أن نُعينه؛ لأنَّه ترك القيام بشرط الواقف وإن كان قد فعل ما هو أحبُّ إلى اللَّه ورسوله؛ فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم أو (¬5) الصلاة لا يحلُّ (¬6) مخالفته، ومن خالفه كان عاصيًا آثمًا، حتى إذا خالف الأحب إلى اللَّه ورسوله و [خالف] (¬7) الأرضى له كان بارًّا مثابًا قائمًا بالواجب عليه! يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع اللَّه ورسوله أنكم قلتم: كلُّ شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل، حتى أبطلتم (¬8) بذلك شرط دار الزوجة أو بلدها، وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة، وأبطلتم اشتراط الخيار بعد (¬9) ثلاثة، وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي صححها النَّصُّ والآثار عن الصحابة والقياس، كما صَحَّح عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان (¬10) اشتراط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها (¬11)، ودلَّت السنّة على أن ¬

_ (¬1) في (ق): "وقد". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) أخرجه أبو داود (2953)، وأحمد (6/ 25، 29)، والبيهقي (6/ 346) من حديث عوف بن مالك الأشجعي -رضي اللَّه عنه-. وانظره مفصلًا في (5/ 86). (¬4) سيأتي تخريجه. (¬5) في (ق) و (ك): "و". (¬6) في (ق): "تحل". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (د) و (ك). (¬8) في (ق): "حتى إذا أبطلتم". (¬9) بدلها في (د): "فوق" وفي (ق): "بعد ثلاث". (¬10) في (ق): " أبي سفيان -رضي اللَّه عنه-". (¬11) أثر عمر رواه عبد الرزاق (10608) (6/ 227)، وابن أبي شيبة (3/ 326 - دار الفكر)، والبيهقي (7/ 249) من طريق يزيد بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد اللَّه عن عبد الرحمن بن غنم عن عمر، وإسناده صحيح. وله طرق أخرى عن عمر في "مصنف عبد الرزاق"، و"سنن البيهقي" ثم روى عبد الرزاق عن عمر خلافه بسند فيه ضعف. =

الوفاء به أحقُّ من الوفاء بكل شرط (¬1)، وكما صححت السنّة اشتراطَ انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة (¬2)، فأبطلتم ذلك، وقلتم: يُخالِف مقتضى العقد، وصححتم الشروط المخالفة [بمقتضى عقد الوقف لعقد الوقف] (¬3)؛ إذ هو عقد قُربة مقتضاه التقريب إلى اللَّه تعالى (¬4) ولا رَيبَ أن شرط ما يخالف القُربة يناقضه مناقضة صريحة؛ فإذا شرط عليه الصلاة في مكان لا يُصلّي فيه إلَّا هو وحده أو واحدٌ بعد واحد أو اثنان فعدوله عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع فيه جماعة المسلمين مع قربه (¬5) وكثرة جماعته فيتعدَّاه إلى مكان أقل جماعة وأَنقص فضيلة وأقل أجرًا اتباعًا لشرط الواقف المخالف لمُقتضى عقد الوقف خروجٌ عن محض القياس، وباللَّه التوفيق. يوضحه أن المسلمين مُجمعون على أن العبادة في المساجد من الذِّكر والصلاةِ وقراءةِ القرآن أفضلُ منها عند القبور؛ فإذا منعتم فعلها في بُيوتِ اللَّه سبحانه وأوجبتم على الموقوف عليه فعلها بين المقابر إن أراد أن يتناولَ الوقف [وإلا كان] (¬6) تناوله حرامًا كنتم قد ألزمتموه بترك الأحبِّ إلى اللَّه الأنفع للعبد والعدول إلى الأنقص المفضول (¬7) أو المنهي عنه مع مخالفته لقصد الشارع تفصيلًا وقصد الواقف إجمالًا فإنه إنما يقصد الأَرْضى [للَّه] (¬8) والأحبَّ إليه؛ ولما كان في ظنّه أن هذا أرضى للَّه (¬9) اشترط؛ فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود الشارع، وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا اللَّه ورسوله ومقصوده في ¬

_ = وأما أثر معاوية وعمرو بن العاص: فرواه عبد الرزاق (10612)، وابن أبي شيبة (3/ 326) من طريق عبد الكريم عن أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود أن معاوية سأل عنها عمرو بن العاص فقال: لها شرطها. وإسناده صحيح. عبد الكريم هو ابن مالك الجزري، وهذان الأثران في اشتراط المرأة دارها. (¬1) مضى لفظه وتخريجه. (¬2) رواه البخاري (2718) في (الشروط): باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، ومسلم (715) (ص 1221) في (المساقاة): باب بيع البعير واستثناء ركوبه، من حديث جابر بن عبد اللَّه. (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "لمقتضى عقد الوقف". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ولا يكون" وفي (ق): "وألا". (¬5) في المطبوع: "مع قدمه". (¬6) في (ق): "سبحانه". (¬7) في (ق) و (ك): "إلى بعض المفضول". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في المطبوع: "إرضاء للَّه"، وفي (ك): "رضا للَّه".

نفسه أو لا، ثم لا يمكنكم طردُ ذلك أبدًا، فإنه لو شَرَط أن يُصلي وحده حتى لا يخالط الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر أو شرط أن لا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار أو شرط على الفقهاء ألا يجاهدوا في سبيل اللَّه ولا يصوموا تطوعًا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك، فهل يمكنكم تصحيحُ هذه الشروط؟ فإن أبطلتموها فعقدُ (¬1) النكاح أفضل من بعضها أو مساوٍ له في أصل القُرْبة، وفعلُ الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل (¬2) وذكر اللَّه وقراءة القرآن في المسجد أفضلُ منه بين القبور، فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك؟ فما هو الفارق بين ما يصح من الشروط وما لا يصح؟ ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم يشترط التعزُّب فأبحتم له التزويج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط الواقف منه فكيف تقسمونه بينهما؟ أم ماذا تُقدِّمون: ما أوجبه اللَّه (¬3) ورسوله من المبيت والقَسْم (¬4) للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين وصيانة المرأة وحفظها وحصول الإيواء المطلوب من النكاح، أم ما شرطه الواقف وتجعلون شرطه أحق والوفاء به أَلزم؟ أم تمنعونه من النكاح والشارع والواقف لم يمنعاه منه؟ فالحق أن مبيتَهُ عند أهله إن كان أحبَّ إلى اللَّه ورسوله جاز له، بل استحب ترك شرط الواقف لأجله، ولم يمنعه فعل ما يحبه اللَّه ورسوله من تناول الوقف، (¬5) بل ترك ما أوجبه سببًا لاستحقاق الوقف، فلا نص ولا قياس ولا مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه ولا مرضاة للَّه ورسوله. والمقصود بيان [بعض] (¬6) ما في الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي هو من عند غير اللَّه (¬7)؛ لأن ما كان من [عنده فإنه] (¬8) يصدِّق بعضه بعضًا، ولا يخالف بعضه بعضًا، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ففعل". (¬2) بعدها فراغ في (ق) يسع كلمتين، قال في الهامش: "لعله: منها في الأقل؛ وإلا نقص". (¬3) في (د): "ما أوجبه من اللَّه". (¬4) في (ق) و (ك): "من المبيت والفسخ". (¬5) زاد هنا في (ك) و (ق): وهو ترك ما يحبه اللَّه ورسوله. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق) و (ك): "الذي يبين أنه من عند غير اللَّه". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "عند اللَّه فهو".

فصل [هل في اللطمة والضربة قصاص؟]

فصل [هل في اللطمة والضربة قصاص؟] [وقالت الحنفية والشافعية والمالكية ومتأخرو أصحاب أحمد] (¬1): إنه لا قصاص في اللطمة والضربة، وإنما فيه التعزير، وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع (¬2)، وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة؛ فإن ضمان النفوس والأموال مبناه (¬3) على العدل، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص؛ فيجب اعتبارها بحسب الإمكان، والأمثل هو المأمور [به] (¬4)؛ فهذا المَلْطُوم المضروب قد اعتُدي عليه، فالواجب أن يَفعل بالمُعْتَدي كما فَعَل به، فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل (¬5)، وسقط ما عَجِز عنه العبدُ من المساواة من كل وجه، ولا ريب أن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلهما بالآلة التي لطمه بها أو بمثلها (¬6) أقربُ إلى المماثلة المأمور بها حسًا وشرعًا من تعزيره بها بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته، وهذا هو هَدْيُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه الراشدين ومحض القياس [وهو منصوص الإمام أحمد، ومن خالفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس] (¬7) والميزان، قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في [كتابه] (4) "المترجم" له: "باب في القصاص من اللطمة والضربة: حدثني إسماعيل بن سعيد قال: سألتُ أحمد [بن حنبل] (4) عن القصاص من اللطمة والضربة، فقال: عليه القود من اللطمة والضربة" وبه قال أبو داود وأبو خَيْثَمة ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "وقالت الشافعية والمالكية والحنفية والمتأخرون من أصحاب أحمد". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 78 - 90، 200، 203، 304، 213)، و"تهذيب السنن" (6/ 334 - 344)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 432)، وانظر: "أحكام الجناية" (ص: 204 - 228) للشيخ بكر أبو زيد. (¬3) في (ق) و (ك): "مبناها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "الأمثل والأقرب". (¬6) في (ق): "مثلها". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

وابنُ أبي شيبة، وقال إبراهيم الجوزجاني: وبه أقول: لما حدثنا شَبَابَة بن سَوَّار: ثنا شعبة، عن يحيى بن الحصين قال: سمعتُ طارق بن شهاب يقول: لَطَمَ أبو بكر رجلًا يومًا لطمة، فقال له: اقتصَّ، فعفا الرجل (¬1)، حدثنا شَبَابة: أنبأ شعبة (¬2)، عن مخارق قال: سمعت طارقًا يقول: لطم ابن أخ لخالد بن الوليد رجلًا من مُراد، فأقاده خالد منه (¬3)، حدثنا أبو بَهْز: حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش قال: سمعتُ الأعمش، عن كُمَيل بن زياد قال: لطمني عثمان ثم أقادني فعفوتُ (¬4)، حدثني ابن الأصفهاني: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن نَاجِيَة، عن عمه يزيد بن عربي قال: رأيت عليًا [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬5) أقاد من لطمة (¬6)، وحدثنا الحُميديُّ: ثنا سفيان: ثنا عبد اللَّه بن إسماعيل بن زياد ابن أخي عمرو بن دينار أن ابن الزبير أقاد من لَطْمة (¬7)، ثنا يزيد بن هارون: أنا الجُريريُّ، عن أبي نَضْرة، عن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال: إني لم أبعث عُمَّالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن إنما بعثتهم ليبلِّغوكم دينكم وسنَّة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 448 - دار الفكر) من طريق شبابة بن سوار به، وسقط منه "شعبة بن الحجاج"، ورواته ثقات. وطارق بن شهاب مات سنة (83)، وهو قد رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخرجه عبد الرزاق (9 رقم 18042) عن سعد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب به، وانظر: "المحلى" (8/ 308)، و"كنز العمال" (5/ 596). (¬2) في (ق): "إنا بشر"، وفي (ك): "ثنا شبابة بن بشر". (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 447 - دار الفكر)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 65) من طريقين عن مخارق عن طارق أن خالدًا. . .، وإسناده صحيح. (¬4) أخرجه البيهقي (8/ 50)، ولم يعزه في "كنز العمال" (15/ 71) إلا له. (¬5) ما بين المعقوفتين من (د) و (ك). (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 447 ط دار الفكر، و 9/ 445 - ط الهندية)، وابن المنذر في "الأوسط" (4/ ق 276/ أ) من طريق المسعودي عن عبد اللَّه بن عبد الملك بن أبي عتبة عن ناجية أبي الحسن عن أبيه: أن عليًا. . . ". وأخرجه الخطيب في "تلخيص المتشابه" (1/ 259) عن غيلان بن جامع عن يزيد بن عربي به. (¬7) رواه البيهقي (8/ 65) من طريق يعقوب بن سفيان عن الحميدي عن سفيان عن عبد اللَّه بن إسماعيل عن عمرو بن دينار. ورواه ابن أبي شيبة (6/ 447 - دار الفكر)، والبيهقي (8/ 65) من طريقين عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير، والأثر سقط بتمامه من (ق) و (ك).

نبيكم ويقسموا فيكم فيئكم، فمَنْ فُعل به غير ذلك فليرفعه إليّ فوالذي نفسُ عمر بيده لأقصنَّه منه، فقام إليه (¬1) عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنْ كان رجلٌ [من المسلمين] (¬2) على رعية فأدَّب بعض رعيته لتقصنه منه؟ فقال عمر: ألا أقصه (¬3) منه وقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقصُّ من نفسه؟ (¬4) ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن ابن حَرْملة قال؛ تلاحى رجلان فقال أحدهما: ألم أخنقك حتى سَلَحت؟ فقال: بلى، ولكن لم يكن لي عليك شهود، فاشهدوا على ما قال، ثم رفعه إلى عمر بن عبد العزيز، فأرسل في ذلك إلى سعيد بن المسيب فقال: يخنقُه ¬

_ (¬1) في (ك): "له". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ك) و (ق): "لأقصنه"، وقال في هامش (ق): "لعله: ألا أقصه". (¬4) أخرجه أبو داود في "سننه" (كتاب الديات): باب القود من الضربة وقص الأمير من نفسه (4/ 183/ رقم 4537)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب القسامة): باب القصاص من السلاطين (8/ 34)، وأحمد في "المسند" (1/ 41)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 480)، وأبو يعلى في "المسند" (1/ 174 - 175/ رقم 196)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 29، 42)، و"الشعب" (5/ 555/ رقم 2379)، والفريابي في "فضائل القرآن" (رقم 170، 172 - 173)، والآجري في "أخلاق أهل القرآن" (رقم 26)، ومسدد كما في "المطالب العالية" (ق 75/ ب)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 439) عن أبي فراس -وهو مقبول-؛ أن عمر -رضي اللَّه عنه- قال: "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقص من نفسه". وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (9/ 468/ رقم 18040)، والبزار في "مسنده" (رقم 285)، والدارقطني في "الأفراد" (ق/ 20/ 1 - الأطراف) من وجه آخر عنه، وفيه ضعف. وقد وردت قصص كثيرة تشهد لهذا الحديث، منها: - عند الطبراني: عن عبد اللَّه بن جبير الخزاعي، واختلف في صحبته، والراجح أنه ليس له صحبة، ولذا قال عنه في "التقريب": "مجهول". - وعند عبد الرزاق في "المصنف" (9/ 465 - 466/ رقم 18037): عن أبي سعيد الخدري، وإسناده واهٍ جدًا، فيه أبو هارون العبدي، واسمه عمارة بن جُوَيْن، وهو متَّهم. - وعند عبد الرزاق في "المصنف" (9/ 469/ رقم 18042) من مرسل سعيد بن المسيب. - وعند عبد الرزاق في "المصنف" (9/ 466، 467/ رقم 18038، 18039) من مرسل الحسن البصري. - وكذا عند ابن إسحاق -كما في "سيرة ابن هشام" (2/ 278) -، وعبد الرزاق كما في "الإصابة" (3/ 218) عن سواد بن غزية، وإسنادهما ضعيف. ومجموع هذه الطرق يعطيها قوة، واللَّه أعلم.

كما خَنَقه حتى يُحدث أو يفتدي منه، فافتدى منه بأربعين بعيرًا، فقال ابن كثير: أحسِبُه ذكره عن عثمان (¬1)، ثنا الحسين بن محمد (¬2): ثنا ابنُ أبي ذئب، عن المُطَّلب بن السائب أن رجلين من بني ليث اقتتلا، فضرب أحدهما الآخر فكسر أنفه، فانكسر عظم كَفِّ الضارب، فأقاد أبو بكر من أنف المضروب ولم يُقد من كف الضارب، فقال سعيد بن المسيب: كان لهذا أيضًا القود من كَفِّه، قضى عثمان أن كل مقتتلين [اقتتلا ضمنا ما بينهما، فأقيد منه] (¬3)، فدخل المسجد وهو يقول: يا عباد اللَّه كسر ابنُ المسيب يدي (¬4)، قال الجوزجاني: فهذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجلة أصحابه فإلى من يركن بعدهم؟ أو كيف يجوز خلافهم؟ ". قلت: وفي "السنن" لأبي داود، والنَّسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقسم قسمًا أقبل رجل فأكبَّ [عليه] (¬5) فطعنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعُرْجُون كان معه، فجَرحَ وجهه (¬6)، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: تعال فاسْتِقدْ، فقال: بل عفوتُ يا رسول اللَّه (¬7)؛ وفي "سنن" النسائي، وأبي داود، وابن ماجه عن عائشة [-رضي اللَّه عنها-] (5): "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث أبا جَهْم بن حُذيفة مُصدقًا (¬8)، فلاحَاه (¬9) رجلٌ في صَدَقتِه، فضربه أبو جَهْم فشجَّه، فأتوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق (10/ 24/ رقم 18245)، وابن أبي شيبة (6/ 387 - ط دار الفكر)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 459) بنحوه. وإسناده صحيح. وذكره ابن المنذر في "الإشراف" (3/ 119)، وابن قدامة في "المغني" (7/ 835)، وانظر: "كنز العمال" (15/ 112) ووقع في (ق): "فذاكر ابن كثير. . . " بدل "فقال ابن كثير". (¬2) في (ق): "ثنا الجبير بن محمد"وفي (ك): "حدثنا الجرير بن محمد". (¬3) في (ق): "ضمن ما بينهما فاقتد منه". (¬4) انظر: "الإشراف" لابن المنذر (3/ 119). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "بوجهه". (¬7) رواه أبو داود (4536) في (الديات): باب القود من الضربة، وقص الأمير من نفسه، والنسائي (8/ 32) في (القسامة): باب القود في الطعنة، وأحمد (3/ 28)، وابن حبان (6434)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 43 و 48) من طريق بكير بن الأشج عن عبيدة بن مُسافع عن أبي سعيد الخدري، وعبيدة بن مسافع روى عنه ابنه مالك وهو مجهول كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، وبكير بن الأشج وهو ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات" على عادته!! (¬8) "مصدقًا: جامعًا للصدقات" (ط). (¬9) "لاحاه ملاحاة: خاصمه ونازعه، وفي الحديث: نهيت عن ملاحاة الرجال: أي مقاولتهم ومخاصمتهم" (ح).

فقالوا: القودُ يا رسول اللَّه، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لكم كذا وكذا" [فلم يرضوا [به] (¬1)، فقال النبي [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬2): "لكم كذا وكذا" فرضوا، فقال النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنني خاطب [العشية] (1) على الناس ومخبرهم برضاكم" فقالوا (¬4): نعم، فخطب رسول اللَّه (¬5) -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "إن هؤلاء أتوني يُريدون القصاص (¬6)، فعرضت عليهم كذا وكذا، فقال النَّبيُّ] (¬7): فَرَضوا، أرضيتُم؟ " فقالوا (8): لا، فهمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يكفُّوا عنهم، فكفوا عنهم، ثم دعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم؟ فقالوا (¬8): نعم، [فقال: إني خاطبٌ على الناس ومخبرُهُم برضاكم، فقالوا: نعم، فخطب النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم] " (¬9) وهذا صريحٌ في القَوَدِ في الشَّجّة، ولهذا صولحوا من القود مرة بعد مرة حتى رضوا، ولو كان الواجب الأَرْشُ (¬10) فقط لقال لهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين طلبوا القود: إنه لا حَقَّ لكم فيه (¬11)، وإنما حقكم في الأرش. فهذه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا إجماع الصحابة، وهذا ظاهر القرآن، وهذا محض القياس؛ فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد وقالوا: اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة، والقصاص لا يكون إلَّا مع المماثلة. ونَظَرُ الصحابة أكمل وأصح وأتبع للقياس، كما هو اتبع للكتاب والسنّة، فإن المماثلة من كل وجه متعذرة، فلم يبق إلَّا أحد أمرين؛ قصاصٌ قريب إلى المماثلة، أو (¬12) تعزيرٌ بعيد منها، والأول أولى؛ لأنَّ التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها، بل قد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "رسول اللَّه". (¬4) في (ق): "قالوا". (¬5) في (ق): "النبي". (¬6) في (ق): "القود". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وسقطت "فرضوا" من (ق). (¬8) في (ق): "قالوا". (¬9) رواه عبد الرزاق في "المصنف" (18032)، ومن طريقه رواه أحمد (6/ 232)، وأبو داود (4534) في (الديات) باب العامل يُصاب على يديه خطأ، والنسائي (8/ 35) في (القسامة): باب السلطان يُصاب على يده، وابن ماجه (2638) في (الديات): باب الجارح يفتدي بالقود، وابن حبان (4487)، والبيهقي (8/ 49) عن معمر عن الزهري عن عروة عنها، وإسناده صحيح. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) "الدية" (و). (¬11) في (ق) و (ك): "لا حظ لكم فيه". (¬12) في (ق): "و".

يُعزِّر بالسوط والعصا، وقد يكون (¬1) لطمه أو ضربه بيده، فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد، وقد يزيد وينقص، وفي العقوبة بجنس ما فعله تَحَرِّ للمماثلة (¬2) بحسب الإمكان، وهذا أقربُ إلى العدل الذي أمر اللَّه به وأنزل به الكتاب والميزان: فإنه قصاص بمثل ذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب فيه بقَدَرِه، وقد يساويه أو يزيد قليلًا أو ينقص قليلًا، وذلك عفو لا يدخل تحت التكليف، كما لا يدخل [تحت] (¬3) التكليف المساواة في الكيل والوزن في (¬4) كل وجه كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] فأمر بالعدل المقدور، وعفا عن غير المقدور منه، وأما التعزيرُ فإنه لا يسمى قصاصًا، فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة، ومنه قَصَّ الأثرَ إذا اتَّبَعه وقَصَّ الحديثَ إذا أتى به على وجهه، والمقاصّة: سقوط أحد الدَّيْنين بمثله جنسًا وصفة، وإنما هو تقويم للجناية، فهو قيمة لغير المُثلى، والعدول إليه كالعدول إلى قيمة المتلف (¬5)، وهو ضَربٌ له بغير تلك الآلة في غير ذلك المحل، وهو إما زائدٌ وإما ناقصٌ، ولا يكون مماثلًا ولا قريبًا من المثل، فالأول أقرب إلى القياس، والثاني تقويم للجناية بغير جنسها كبدلِ المُتْلفِ، والنزاع أيضًا فيه واقع إذا لم يوجد مثله من كل وجه كالحيوان والعقار والآنية والثياب وكثير من المعدودات والمذروعات، فأكثر القياسيين (¬6) من أتباع الأئمة الأربعة قالوا: الواجبُ في بدل ذلك عند الإتلاف القيمة، قالوا: لأنَّ المثل في الجنس يتعذَّر (¬7)، ثم طَردَ أصحابُ الرأي قياسهم فقالوا: وهذا هو الواجب في الصيدُ في الحرم والإحرام إنما تجب قيمته لا مثله كما لو كان مملوكًا. ثم طردوا هذا القياس في القرض فقالوا: لا يجوز قرض ذلك لأنَّ موجب القرض رد المثل، وهذا لا مثل له. [ومنهم من خرج عن] (¬8) موجب هذا القياس في الصيد لدلالة القرآن والسنّة وآثار الصحابة [على أنه] (¬9) يضمن بمثله من النعم وهو مثل مقيد بحسب الإمكان وإن لم يكن مثلًا من كل وجه وهذا قول الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد، وهم ¬

_ (¬1) في (ك): "ويكون قد". (¬2) في (ق) و (ك): "وقد يزيد وينقص في العقوبة، فأين ما يفعله بتحري المماثلة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "من". (¬5) انظر: "تهذيب السنن" (6/ 340 - 341 مهم)، و"الداء والدواء" (ص: 213 - 214). (¬6) في (ق): "القياسين". (¬7) في (ق): "لأن الجنس في المثل يتعذر"!. (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض. (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

يجوِّزون قرض الحيوان أيضًا كما دلت عليه السنّة الصحيحة؛ فإنه قد ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-[في الصحيح] (¬1) أنه استسْلَفَ بَكْرًا وقضى جملًا رباعيًا (¬2)، وقال: "إن خياركم أحسنكم قضاء" (¬3). ثم اختلفوا بعد ذلك في مُوجب قرض الحيوان، هل يجب رَدُّ القيمة أو المثل؟ على قولين، وهما في مذهب أحمد وغيره، والذي دَلَّت عليه سنّة رِسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة الصريحة أنَّه يجب رَدُّ المثل (¬4)، وهذا هو المنصوص عن أحمد، ثم اختلفوا في الغَصْب والإتلاف على ثلاثة أقوال، وهي في مذهب أحمد: أحدها: يضمن الجميع بالمثل بحسب الإمكان، والثاني: يضمن الجميع بالقيمة، والثالث: يضمن الحيوان بالمثل (¬5) وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة. واختلفوا في الجِدار يُهدم، هل يضمن بقيمته أو يُعاد مثله؟ على قولين، وهما للشافعي، والصحيح ما دلت عليه النصوصُ وهو مقتضى القياس الصحيح، وما عداه فمناقض للنص والقياس (¬6)؛ لأنَّ الجميع يضمن بالمثل تقريبًا، وقد نص اللَّه سبحانه على ضمان الصيد بمثله من النَّعَم، ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النَّعامة والبعير وبين شاة وشاة أَعظم منها بين طير ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) "البكر: الفتيّ من الإبل، والرباعي من الإبل: من ألقى السنن الرباعية، وهي ما بين الثنية والناب، ولا يلقى الإبل أسنانها الرباعية إلَّا في السنة السابعة من عمرها، ويقال حينئذ: أنها أربعت" (ط). (¬3) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب المساقاة): باب من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه (رقم 1600)، من حديث أبي رافع -رضي اللَّه عنه-. (¬4) روى ذلك البخاري (2305) في (الوكالة): باب وكالة الشاهد والغائب جائزة، و (2306) في (الوكالة): في قضاء الديون، و (2390) في (الاستقراض): باب استقراض الإبل، و (3292) باب هل يعطي أكبر من سِنِّه، و (2393) باب حسن القضاء، و (2401) في باب لصاحب الحق مقال، و (2606) في (الهبة): باب الهبة المقبوضة، وغير المقبوضة، و (2609) باب من أُهدَي له هدية، وعنده جلساؤه فهو أحق، ومسلم (1601) في (المساقاة): باب من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه، من حديث أبي هريرة. (¬5) في (د): "والثالث أن الحيوان يضمن بالمثل". (¬6) استدل البخاري بقصة الراهب جريج، وقوله لمَّا قالوا له: "نبني صومعتك من ذهب؟ قال: لا، إلَّا من طين". وبَوَّب على هذا (باب إذا هدم حائطًا فليبن مثله) باب رقم (35) من كتاب المظالم حديث (2482).

وشاة، وقد رَدَّ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بدل البعير الذي اقترضه مثله [دون قيمته] (¬1) ورد عوض القَصْعَة التي كسرتها بعض أزواجه بقصعة (¬2) نظيرها، وقال: إناءٌ بإناء وطعامٌ (¬3) بطعام (¬4)، فسوَّى بينهما في الضَّمان، وهذا عين العدل ومحض القياس وتأويل القرآن. وقد نص الإمام أحمد على هذا في (مسائل إسحاق بن منصور)، قال إسحاق: قلت لأحمد: قال سفيان: من كسر شيئًا صحيحًا: فقيمته صحيحًا، فقال (¬5) أحمد: إنْ كان يوجدُ مثله فمثله، وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته (¬6)، ونص عليه أَحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: سألت أحمد عن الرجل يكسر قصعة الرجل أو عصاه أو يشق ثوبًا لرجل (¬7)، قال: [عليه المثل في العصا والقصعة والثوب، فقلت: [أرأيت] (¬8) إن كان الشق قليلًا، فقال] (¬9): ¬

_ (¬1) تقدم قبل قليل من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع: "قصعتها". (¬3) في (د)، و (ط): "وطام" بسقوط حرف العين! (¬4) رواه أحمد (6/ 148 و 277)، وأبو داود (3568) في (البيوع): باب من أفسد شيئًا يغرم مثله، والنسائي (7/ 71) في عشرة النساء: باب الغيرة، وفي عشرة النساء من "الكبرى" (19)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 132)، والبيهقي (6/ 96) من طريق فُليت: ويُقال: أفلت عن جسرة عن عائشة، قال البيهقي: فليت وجسرة فيهما نظر. أقول: أما فليت: فقد قال فيه أحمد: ما أرى به بأسًا، وقال الدارقطني: صالح، ووثقه ابن حبان وصحح حديثه ابن خُزيمة. وجسرة بنت دجاجة قال عنها البخاري: عندها عجائب، وذكرها العجلي، وابن حبان في الثقات كالعادة!! وقد حَسَّن الحافظ ابن حجر هذا الحديث في "الفتح" (5/ 125). وله شاهد من حديث أنس رواه الترمذي (1363) في الأحكام باب ما جاء فيمن يُكسر له الشيء من طريق أبي داود الحفري عن سفيان الثوري عن حُميد عنه وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وأصل القصة في "صحيح البخاري" (2481 و 5225) من حديث أنس أيضًا ولكن ليس فيه: "إناء بإناء وطعام بطعام". (¬5) في (ق): "قال". (¬6) هي عند ابن منصور في "مسائله للإمام أحمد" (396/ 309)، وفيها بدل: "فقال أحمد": "قال" وبدل "فعليه قيمته": "فقيمته صحيحًا"، وفي آخرها: وقال إسحاق: كما قال أحمد"، ووقع في (ك): "وإن كان مالًا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ق): "ثوب الرجل". (¬9) في (ق): "عليه المثل في القصعة والعصا والثوب، قلت: إن كان الشق قليلًا؟ قال".

صاحب الثوب مُخيَّر في ذلك قليلًا كان أو كثيرًا. وقال في رواية إسحاق بن منصور: مَنْ كَسَر شيئًا صحيحًا فإن كان [شيئًا] (¬1) يوجد مثله [رد مثله] (¬2) وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته، فإذا كَسَر الذهب فإنه يصلحه (¬3) إنْ كان خلخالًا، وإن كان دينارًا أعطى دينارًا آخر مكانه، قال إسحاق: كما قال (¬4)، وقال في رواية موسى بن سعيد (¬5): وعليه المثل في العصا والقَصْعَة والقصبة إذا كسر وفي الثوب، ولا أقول في العبد والبهائم والحيوان، وصاحب الثوب مُخيَّر إن شاء شق الثوب وإن شاء [أخذ] (¬6) مثله، واحتج في رواية ابنه عبد اللَّه (¬7) بحديث أنس فقال حُميد، عن أنس: "أنَّ رسول اللَّه (¬8) -صلى اللَّه عليه وسلم- كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقَصْعة (¬9) فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القَصْعة، فأخذَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكسرتين فضم إحداهما (¬10) إلى الأخرى وجعل يجمع فيهما الطعام ويقول: غَارَت أُمُّكم، كلوا، فأكلوا، وجلس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬11) حتى جاءت قصعةُ التي هو في بيتها فدفع القصعة إلى الرسول، وحبس المكسورة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "فمثله" وفي (ق) بعدها: "وإن كان ما لا يوجد مثله". (¬3) في (ق): "يصلح". (¬4) رحم اللَّه الإمام ابن القيم، فقد تصرف في اللفظ، ودمج المسألتين مع بعضهما، فالنصف الأول هنا هي الرواية السابقة. ثم قال ابن منصور: "قلت: قال [أي: سفيان]: فإذا كسر الذهب، فقيمته بالفضة، وإذا كسر الفضة فقيمتها بالذهب، قال أحمد: يُصْلِحُهُ له أحَبُّ إليَّ إن كان خلخالًا، وإن كان دينارًا أعطاه دينارًا آخر مثله، وقال إسحاق: كما قال، إلَّا أنه إن أعطاه الذهب من الفضة، أو الفضة من الذهب جاز". كذا في "مسائل ابن منصور" (397/ 310)، والصحيح من المذهب: أن من غصب شيئًا، فأتلفه، أو غيَّر من صفته متعمدًا؛ فعليه رده بزيادته وأرش نقصه. انظر "الإنصاف" (6/ 146). قلت: والذي يكسر شيئًا من مال غيره فهو كالغاصب. (¬5) في (ك) و (ق) "موسى بن إسماعيل". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) لم أظفر به في "مسائل الإمام أحمد" رواية ابنه عبد اللَّه، لا في طبعة عليّ المهنا، ولا في طبعة المكتب الإسلامي. (¬8) في (ق): "النبي". (¬9) في (ق): "القصعة". (¬10) في (ق): "وضم إحديهما". (¬11) في (د): "وحبس الرسول".

في بيته" والحديث في صحيح البخاري (¬1)، وعند الترمذي فيه: ["فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2): طعام بطعام وإناء بإناء" وقال: حديثٌ صحيحٌ (¬3)، وعند أَبي داود، والنسائي [فيه] (2) قالت عائشة: "فقلت: يا رسول اللَّه ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام" (¬4)، وهذا هو مذهبه الصحيح عنه عند ابن أبي موسى، قال في "إرشاده" (¬5): ومن استهلك لإنسان (¬6) مَا لَا يُكال ولا يُوزن عليه (¬7) مثله إن وُجد، وقيل: عليه قيمته، وهو اختيار المحققين من أصحابه، وقضى عثمان وابن مسعود على مَنْ استهلك لرجل فصلانًا بفُصلانٍ مثلها (¬8)، وبالمثل قضى شُريح والعنبري، وقال به قتادة وعبد اللَّه بن عبد الرحمن الدَّارمي (¬9)، وهو الحق، وليس مع من أوجب (¬10) القيمة نص ولا إجماع ولا قياس، وليس معهم أكثر ولا أكبر من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أعتق شِرْكًا له في عبد فكان ¬

_ (¬1) في (كتاب المظالم): باب إذا كسر قصعة أو شيئًا لغيره (2481)، و (كتاب النكاح): باب الغيرة (رقم 5225). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) عند الترمذي في "سننه" (كتاب الأحكام): باب ما جاء فيمن يكسر له الشيء (3/ 631 رقم (1363) وفيه قال الترمذي: حديث حسن صحيح، ومض الكلام عليه. (¬4) عند أبي داود في "سننه" (كتاب البيوع): باب فيمن أفسد شيئًا يغرم مثله (3/ 826)، والنسائي في "سننه" (كتاب عشرة النساء): باب الغيرة (7/ 71)، ومضى الكلام عليه. (¬5) "الإرشاد" للقاضي الشريف الهاشمي محمد بن محمد بن أبي موسى (المتوفى سنة 428 هـ)، وهو متن اعتمد مؤلفه المسائل التي يوجد للإمام فيها رواية أخرى، فما كان فيه روايتان فأكثر، ذكرهما وهو محقق في رسائل علمية بالمعهد العالمي للقضاء في السعودية، من "المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل" (2/ 681)، وطبع مؤخرًا. (¬6) في (د): "لآدمي". (¬7) في (ك) و (ق): "فعليه". (¬8) هذه عبارة ابن حزم في "المحلى" (8/ 141). (¬9) قضاء شريح، أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (8/ 218 - 219 رقم 14953) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (8/ 141) - عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين عن شريح أنه قضى في قصار شقَّ ثوبًا أن الثوب له، وعليه مثله. فقال رجل: أو ثمنه. فقال شريح: إنه كان أحب إليه من ثمنه. قال: إنه لا يجد. قال: لا وجد، وقال ابن حزم: "وعن قتادة أنه قضى في ثوب استهلك بالمثل"، وهو في "مصنف عبد الرزاق" (8/ 219 رقم 14954). وقول الدارمي في "سننه" (2/ 264). (¬10) أشار في (ق) إلى أن في نسخة: "أوجبه" وبعدها بياض يسع كلمة واحتمل فيها "القيمة".

له من المال ما يَبلغُ ثَمَنَ العبدِ قُوِّمَ عليه [قيمة عدل] ولا وَكْسَ ولا شَطَط (¬1) فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد" (¬2) قالوا: فأوجب (¬3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في إتلاف نصيب الشريك القيمة لا المثل، فقسنا على هذا كل حيوان، ثم عَدَّيناه إلى كل غير مثليّ، قالوا: ولأن القيمة أضبط وأحصر بخلاف المثل، قال الآخرون: أما الحديث الصحيح فعلى الرأس والعين وسمعًا [له] (¬4) وطاعة، ولكن فيما دل عليه، وإلا فيما (¬5) لم يدل عليه ولا أريد به فلا ينبغي أن يُحمل عليه، وهذا التضمين الذي يضمنه ليس [هو] (¬6) من باب تضمين المتلفات، بل هو من باب تملُّك مال الغير بقيمته؛ فإن نصيب الشريك يملكه المُعتق ثم يُعتق عليه، فلا بد من تقدير دخوله في ملكه ليعتق عليه، ولا خلاف بين القائلين بالسراية في ذلك، ولأن (¬7) الولاء له، وإن تنازعوا: هل يسري عقيب عتقه، أو لا يُعتق حتى يُؤدي القيمة، أو يكون موقوفًا فإذا أدى تبيَّن أنه عتق من حين العتق؟ وهي في مذهب الشافعي (¬8)، والمشهور في مذهبه ومذهب أحمد القول الأول (¬9)، وفي مذهب مالك (¬10) القول الثاني، [وعلى هذا الخلاف ينبني (¬11) ما لو أَعتق الشريكُ نَصيبَه ¬

_ (¬1) "الوكس: النقص، والشطط: الجور" (و). (¬2) رواه البخاري (2522 و 2523 و 2524 و 2525) في (العتق): باب إذا أَعتق عبدًا بين اثنين أو أمة بين الشركاء، ومسلم (1501) في (العتق): أوله، و (3/ 1286) في (الأيمان) باب من أعتق شركًا له في عبد، من حديث ابن عمر. ولفظ الحديث تمامًا كما ذكر المؤلف عند مسلم (3/ 1287) (50). وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في المطبوع: "أوجب". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (د): "فما" وفي (ق): "لا فيما". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (د) و (ك). (¬7) في (د): "وأن". (¬8) انظر: "الأم" (7/ 197)، "مختصر المزني" (319)، "روضة الطالبين" (12/ 112، 117) "مغني المحتاج" (4/ 495 - 496)، "مختصر الخلافيات" (5/ 187)، و"الإشراف" (رقم 1581، 1589). (¬9) انظر: "المغني" (5/ 239)، "كشاف القناع" (4/ 512)، "الإنصاف" (7/ 409)، "منتهى الإرادات" (2/ 580)، "تنقيح التحقيق" (3/ 1435)، "قواعد ابن رجب" (3/ 331 - 332 - بتحقيقي). (¬10) انظر: "الموطأ" (2/ 772)، "المدونة" (2/ 360)، "التفريع" (2/ 21)، "المعونة" (3/ 1433)، "الإشراف" (4/ 609 رقم 1860 - بتحقيقي)، "الذخيرة" (11/ 140)، "مواهب الجليل" (6/ 336)، "أسهل المدارك" (3/ 245). (¬11) في (د): "يبتنى".

بعد عتق الأول؛ فعلى القول الأول لا يُعتق، وعلي القول الثاني] (¬1) يُعتق عليه ويكون الولاء بينهما، وينبني (¬2) على ذلك أيضًا إذا قال أحد الشريكين: "إذا عتق نصيبك فنصيبي حر" فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق ويعتق نصيبه من مال المعتق، وعلي القول الثاني يصح التعليق ويعتق على المعلق، والمقصود أن التضمين ههنا كتضمين الشفيع [الثمن] (¬3) إذا أخذ بالشفعة، فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف، ولكن من باب التقويم للدخول في الملك، لكن الشفيع أَدخل الشارع الشقص (¬4) في ملكه بالثمن باختياره والشريك المعتقُ أدخل الشِّقْص في ملكه بالقيمة بغير اختياره، فكلاهما تمليك: هذا بالثمن، وهذا بالقيمة، فهذا شيء وضمان المتلف شيء، قالوا: وأيضًا فلو سلم أنه ضمان إتلاف لم يدخل على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة، والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما مالًا ينقسم كالعبد والحيوان والجوهرة ونحو ذلك فحقُ كل واحدٍ منهما في نصف القيمة، فإذا (¬5) اتفقا على المُهايأة جاز، وإن تنازعا وتشاحا (¬6) بيعت [العينُ] (¬7) وقسم [بينهما] (¬8) ثمنها على قدر ملكيهما كما يقسم المثلي، فحقهما في المثلي في عينه، وفي المُتقوَّم عند التشاجر والتنازع في قيمته، فلولا أن حقه في القيمة لما أجيب إلى البيع إذا طلبه، وإذا ثبت ذلك [فإذا أَتلف له] (¬9) نصف عبد فلو ضمناه بمثله لفات حَقُّه من نصف القيمة الواجبة له شرعًا عند طلب البيع، والشريك إنما حقه في نصف القيمة، وهما لو [تقاسماه] (¬10) تقاسماه بالقيمة، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالقيمة، وعكسه المثلي لو تقاسماه تقاسماه بالمثل، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالمثل، فهذا هو القياس والميزان الصحيح طردًا وعكسًا الموافق للنصوص وآثار الصحابة، ومن خالفه فلا بد له من أحد أمرين: إما مخالفة السنة الصحيحة وآثار الصحابة إن طرد قياسه، وإما التناقض البيّن إن لم يطرده (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (د): "يبتنى". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) "السهم والنصيب والشرك" (و). (¬5) في (ق): "فإن". (¬6) في المطبوع: "وتشاجرا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض ووقع قبلها: "وإذا طلبه". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬11) انظر تأصيلًا وتفصيلًا لما ورد تحت هذا الباب في دراسة الأستاذ عليّ محيى الدين القره =

فصل [حكومة النبيين الكريمين داود وسليمان]

فصل [حكومة النَّبيَّين الكريمين داود وسليمان] وعلي هذا الأصل تنبني الحكومة المذكورة في كتاب اللَّه [عز وجل] (¬1) التي حكم فيها النَّبيّان الكريمان داود وسليمان صلى اللَّه عليهما وسلم؛ إذ حكما في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، والحرث: هو البستان، وقد رُوي أنه كان بستان عنب، وهو المُسمَّى بالكرم، والنَّفش: رعيُ الغنم ليلًا، فحكم داود بقيمة المُتْلَف، فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، إما لأنهم (¬2) لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها [ورضوا بدفعها] (1) ورَضي أولئك بأخذها بدلًا عن القيمة، وأما سليمان فقضى بالضمان على أصحاب (¬3) الغَنَم أن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يَعْمروا البُستان حتى يعود كما كان، ولم يُضيّع عليهم مغله من (¬4) الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى [أصحاب البستان] (¬5) ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نَماءِ حَرْثهم، وقد اعتبر النماءين فوجدهما (¬6) سواء، وهذا هو العلم الذي خصَّه اللَّه به وأثنى عليه بإدراكه (¬7). وقد تنازع علماء المسلمين في مثل هذه القضية (¬8) على أربعة أقوال: أحدها: موافقة الحكم السُّليْمَاني في ضمان النَّفش وفي المثل (¬9)، وهو ¬

_ = داغي بعنوان "قاعدة المثلي والقيمي في الفقه الإسلامي"، وهي من منشورات دار الاعتصام، القاهرة، سنة 1413 هـ، ووقع في (ق): "وإلا التناقض البين". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (د): "لأنه". (¬3) في (ق) و (ك): "صاحب" وفي (ق) بعدها: "أن يضمنوا". (¬4) زاد هنا في (ك) و (ق): "حين". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "صاحب الحرث" وفي (ق): "صاحبه". (¬6) في (ق): "فوجدوهما". (¬7) إذ يقِول سبحانه وتعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}. ا. هـ (ط). قلت: والآيات من سورة الأنبياء، الآيتان: (78، 79). (¬8) في (ق): "القصة". (¬9) في (ق): "موافقة حكم سليمان وضمان النفش بالمثل" وفي (ك): "ضمان النفش في المثل".

الحقُّ (¬1)، وهو أحد القولين في مذهب أَحمد، ووجه للشافعية والمالكية، والمشهور عنهم (¬2) خلافه. والقول الثاني: موافقته في ضمان النفش دون التضمين بالمثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك (¬3) والشافعي (¬4) وأحمد (¬5). والثالث: موافقته في التضمين بالمثل دون النفش كما إذا رَعَاها صاحبُها باختياره دون ما إذا انفلتت (¬6) ولم يشعر بها، وهو قول داود ومن وافقه (¬7). والقول الرابع: أن النفش لا يوجب الضمان بحال، وما وَجبَ من ضمان الراعي بغير النفش فإنه يضمن بالقيمة لا بالمثل، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬8). وما حَكمَ به نبيُّ اللَّه سليمان هو الأقرب إلى العدل والقياس، وقد حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن على أهل الحَوائطِ حِفْظَهَا بالنهار وأَن ما أفسدت المواشي بالليل ضمانه على أهلها (¬9)، فصح بحكمه ضمان النفش، وصح بالنصوص السابقة ¬

_ (¬1) انظر: "مفتاح دار السعادة" (ص: 62)، و"تهذيب السنن" (6/ 341). (¬2) في (د): "عندهم" وفي (ق): "ووجه للشافعي". (¬3) انظر: "التفريع" (2/ 282)، "المعونة" (3/ 1370)، "الإشراف" (3/ 242 رقم 1090 - بتحقيقي)، "تفسير القرطبي" (11/ 314)، "الفروق" (6/ 186)، "تبصرة الحكام" (2/ 355 - 356) "الخرشي" (8/ 112 - 113)، "مواهب الجليل" (6/ 323). (¬4) انظر: "اختلاف الحديث" (7/ 402 - مع "الأم")، "روضة الطالبين" (10/ 195)، "مغني المحتاج" (4/ 204)، "حاشية الشرواني" (9/ 207 - 208)، "حاشية الشبراملسي" (8/ 35). (¬5) انظر: "المحرر" (2/ 162)، "الإنصاف" (12/ 541)، "تنقيح التحقيق" (3/ 331). (¬6) في (د): "تفلتت". (¬7) انظر: "المحلى" (12/ 335). (¬8) انظر: "مختصر الطحاوي" (251 - 252)، "اللباب" (3/ 164)، "تبيين الحقائق" (3/ 152)، "جامع الفصولين" (2/ 114)، "مختصر اختلاف العلماء" (5/ 211 رقم 2310) ووقع في (ق): "من ضمان الرعي". (¬9) رواه عبد الرزاق (18437)، ومن طريقه أحمد (5/ 436)، وأبو داود (3569) في (الأقضية): باب المواشي تفسد زرع قوم، والدارقطني (3/ 154 - 155)، والبيهقي (8/ 342) عن معمر عن الزهري عن حرام بن مُحيّصة عن أبيه أن ناقةً للبراء بن عازب دخلت حائطًا. قال الدارقطني والبيهقي: خالفه وهب وأبو مسعود الزجاج عن معمر فلم يقولا: عن أبيه. وقال أبو داود -كما نقله عنه ابن عبد البر على ما ذكر ابن التركماني- لم يتابع أحد عبد الرزاق على قوله في هذا الحديث: عن أبيه، وقال ابن عبد البر: أنكروا عليه قوله فيه: عن أبيه، وقال ابن حزم: هو مرسل، رواه الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة عن أبيه. أقول: لكن رواه النسائي في "الكبرى" (8/ 366 - تحفة الأشراف) من طريق محمد بن =

[ما يفعل بالجاني على النفس]

والقياس الصحيح وجوب الضمان بالمثل، وصح بنص الكتاب الثناء على سليمان بتفهيم هذا الحكم، فصح أَنه الصواب، وباللَّه التوفيق. [ما يُفعل بالجاني على النفس] ومن ذلك المماثلة في القصاص في الجنايات الثلاث على النفوس والأموال والأعراض؛ فهذه ثلاث مسائل: [الأولى]: هل يُفعل بالجاني كما يُفعل بالمجني عليه (¬1)؟ فإن كان الفعل ¬

_ = كثير، والدارقطني (3/ 155) من طريق الشافعي عن أيوب بن سويد كلاهما عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه، وفي "سنن الدارقطني" عن أبيه إن شاء اللَّه عن البراء. إلا أن رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 107)، والدارقطني (3/ 155) من طريق أيوب بن سويد وليس فيه "عن أبيه". ورواه الحاكم (2/ 47 - 48) من طريق محمد بن كثير، وليس فيه "عن أبيه"، أقول وسعد بن محيصة هذا قيل: له صحبة أو رؤية. ورواه الشافعي (2/ 107)، وأحمد (4/ 295)، وأبو داود (3570)، والطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 203)، والحاكم (2/ 47 - 48)، والدارقطني (3/ 155)، والبيهقي (8/ 341) من طرق عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب ووقع فيه اختلاف من هو صاحب الناقة. . . قال الحاكم: صحيح الإسناد على خلاف فيه بين معمر والأوزاعي، فإن معمرًا قال: عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه. أقول: ومثل هذا الخلاف لا يضر إن شاء اللَّه إذا كان هنالك سماع لحرام بن محيصة من البراء. ولم يتكلم المتقدمون في سماع حرام من البراء، إلا أن ابن حبان وابن حزم وعبد الحق قالوا: لم يسمع، وهؤلاء من المتأخرين، وفي قولهم نظر وما أدري ما دليلهم؟ فإن البراء مات سنة (72)، وحرام مات سنة (113)، وعمره (70) سنة فأدركه والسماع منه ممكن جدًا. وأما مالك فقد روى الحديث عن الزهري مرسلًا. رواه في الموطأ (2/ 747 - 748)، ومن طريقه الشافعي (2/ 107)، والطحاوي (2/ 203)، والدارقطني (3/ 156)، والبيهقي (8/ 341) عن الزهري عن حرام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء هكذا. ورواه أيضًا الليث بن سعد عن الزهري مرسلًا: رواه ابن ماجه (2332). قال ابن عبد البر: والحديث من مراسيل الثقات وتلقاه أهل الحجاز وطائفة من أهل العراق بالقبول، وجرى عليه عمل أهل المدينة. (¬1) في (ق) و (ك): "هل يفعل المجني عليه كما فعل الجاني؟ " وسقط ما بين المعقوفتين من (ق).

محرمًا لِحقِّ اللَّه كاللواط وتجريعه الخمر لم يُفعل به كما فعل اتفاقًا؛ وإن كان غير ذلك كتحريقه بالنار وإلقائه في الماء ورض رأسه بالحجر ومنعه من الطَّعام والشَّراب حتى يموت فمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه يَفعلون به كما فَعَل، ولا فَرْق بين الجرح (¬1) المزهق وغيره، وأبو حنيفة وأحمد في رواية عنه يقولان (¬2): لا يقتل إلا بالسيف في العنق خاصة، وأحمد في رواية ثالثة يقول: إن كان الجرح مزهقًا فُعل به كما فَعَل، وإلا قُتِل بالسيف، وفي الرواية الرابعة يقول: إن كان مُزهقًا أو موجبًا للقود بنفسه لو انفرد فُعل به كما فَعل، وإن كان غير ذلك قُتل بالسيف، والكتاب والميزان مع القول الأول، وبه جاءت السنّة (¬3)، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رضَّ رأس اليهودي بين حجرين كما فعل بالجَارِية (¬4)، وليس هذا قتلًا لنقضه العهد [لأن ناقض العهد] (¬5) إنما يقتل (¬6) بالسيف في العنق، وفي أَثر مرفوع: "مَنْ حرّق حَرَّقناه، ومن غرَّق غرَّقناه" (¬7) وحديث: "لا قَوَدَ إلا بالسيف" (¬8) ¬

_ (¬1) في (د): "الجرج". (¬2) في (ق): "يقولون". (¬3) انظر: "زاد المعاد" (3/ 205)، و"تهذيب السنن" (6/ 338، 342)، و"مفتاح دار السعادة" (ص: 432)، وانظر: "أحكام الجناية" (ص: 189 - 202) للشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬4) رواه البخاري (2413) في "الخصومات": باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهود، و (2746) في (الوصايا): باب إذا أومأ المريض برأسه إشارة بينة جازت، و (5295) في (الطلاق): باب الإشارة في الطلاق، و (6876) في (الديات): باب سؤال القاتل حتى يقر، و (6879) باب من أقاد بالحجر، و (6884) باب إذا أقر بالقتل مرة قُتل به، و (6885) باب قتل الرجل بالمرأة، ومسلم (1672) في (القسامة): باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر، من حديث أنس بن مالك. (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "و". (¬6) زاد هنا في (ك) و (ق): "في ذلك". (¬7) رواه البيهقي في "السنن" (8/ 43) من طريق بشر بن حازم عن عمران بن يزيد بن البراء عن أبيه عن جده مرفوعًا: "من عرض عرضنا له ومن حرق حرقناه. . . ". قال الزيلعي (4/ 344): "قال صاحب "التنقيح" في هذا الإسناد من يُجهل حاله كبشر وغيره". أقول: فقد طُبع "تنقيح التحقيق" كاملًا وهو فيه (3/ 275) دون قوله: كبشر. وقال الحافظ في "التلخيص" (4/ 19) نحوه ثم قال: وإنما قاله زياد في خطبته. (¬8) ورد عن جماعة من الصحابة منهم: أولًا: أبو بكرة: رواه ابن ماجه (2668) من طريق الحر بن مالك عن مبارك بن فضالة عن الحسن عنه به. وقال البزار كما نقله عنه شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (7/ 285): ولا نعلم أحدًا =

[ضمان إتلاف المال]

قال الإمام أحمد: ليس إسناده بجيد، والثابت عن الصحابة أنه يُفعل به كما فَعَل، فقد اتفق على ذلك الكتاب والسنّة والقياس وآثار الصحابة، واسم القصاص يقتضيه لأنه يستلزمُ المُماثَلة. [ضمان إتلاف المال] المسألة الثانية: إتلاف المال؛ فإن كان ممَّا له حُرمة كالحيوان والعبيد (¬1) ¬

_ = قال: عن أبي بكرة إلا الحر بن مالك، وكان لا بأس به، وأحسبه أخطأ في هذا الحديث لأن الناس يروونه عن الحسن مرسلًا. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 88): هذا إسناد ضعيف لضعف مبارك بن فضالة وتدليسه. أقول: والحسن البصري مدلس أيضًا. ومما يدل على اضطراب المبارك بن فضالة أنه رواه أيضًا عن الحسن عن نعمان بن بشير. رواه من طريق الدارقطني (3/ 106)، والبيهقي (8/ 62 - 63) من طريق الحسين بن عبد الرحمن الجرجرائي ثنا موسى بن داود عنه به. ورواه أيضًا الوليد بن محمد عنه عن الحسن عن أبي بكرة، رواه الدارقطني (3/ 105 - 106)، وابن عدي (7/ 2543)، والبيهقي (8/ 63)، وقال ابن عدي عن الوليد هذا: "أحاديثه غير محفوظة"، وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي. . . فقال: "هذا حديث منكر". ومما يدل على ضعف رواية فضالة: أنه رواه ابن أبي شيبة (6/ 396 - دار الفكر) من طريق أشعث بن عبد الملك، وعمرو عن الحسن مرفوعًا مرسلًا، وأشعث وعمرو أوثق من فضالة بدرجات. ثانيًا: حديث أبي هريرة: رواه ابن عدي (3/ 1102)، ومن طريقه البيهقي (8/ 63)، وابن الجوزي في "العلل" (2/ 792)، والدارقطني (3/ 87)، والبيهقي (8/ 63)، وفيه سليمان بن أرقم وهو متروك. ثالثًا: حديث ابن مسعود: رواه الطبراني في "الكبير"، وابن عدي (5/ 1978)، والبيهقي (8/ 62)، وفيه سليمان بن أرقم وعبد الكريم بن أبي المخارق، وهما ضعيفان جدًا. رابعًا: حديث علي بن أبي طالب: رواه الدارقطني (3/ 87 - 88)، وقال: معلى بن هلال متروك. والحديث طرقه كلها ضعيفة، كما قال عبد الحق في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 181 - 185 رقم 2411)، ونقله عنه ابن حجر كما في "التلخيص الحبير" (4/ 19)، وأقره، وقال البيهقي: لم يثبت له إسناد. (¬1) في (ق): "كالعبيد والحيوان".

فليس له أن يُتلف ماله كما أَتلف مَالَه، وإن لم تكن له حُرمة كالثوب يشقُّه والإناء يكسره فالمشهور أنه ليس له أَن يُتلف عليه نظير ما أتلفه، بل له القيمة في (¬1) المثل كما تقدم، والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه كما فعله الجاني [به] (¬2)؛ فيشق ثوبه كما شق ثوبه، ويكسر عصاه كما كسر عصاه إذا كانا متساويين، وهذا من العدل، وليس مع من منعه نص ولا قياس ولا إجماع! فإن هذا ليس بحرام لِحقِّ اللَّه، وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والأطراف، وإذا مَكَّنه الشارع أن يُتلف طَرَفَه بِطرفه فتمكينه من إتلاف ماله في مقابلة ماله (¬3) هو أولى وأحرى، وإن حكمةَ القصاص من التَّشَفِّي ودرك الغَيْظ (¬4) لا تحصل إلا بذلك، ولأنه قد يكون له غرض في أذاه وإتلافِ ثيابه ويعطيه قيمتها، ولا يشق ذلك عليه لكثرة ماله، فيَشفي نفسَه منه (¬5) بذلك، وَيبقى المجني عليه بُغبنهِ وغيظِه، [فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه ودَرْك ثأره] (¬6) وبَرْد قلبه وإذاقة الجاني من الأذى ما ذاق هو (¬7)؟ فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة وقياسها [معًا] (2) يأبى ذل وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، [وقوله] (2): {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يقتضي جواز ذلك، وقد صَرَّح الفُقهاء بجواز إحراق زروع (¬8) الكفار وقطع أشجارهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا، وهذا عين المسألة، وقد أقرّ اللَّه [سبحانه] (2) الصحابة على قطع نخل اليهود لما فيه من خِزْيِهِم (¬9)، وهذا يدل على أنه (¬10) سبحانه يُحبُّ خزي الجاني الظالم ويشرعُه، وإذا جَازَ تحريق متاع الغَالّ (¬11) لكونه تعديَّ على المسلمين في خيانتهم في شيء ¬

_ (¬1) في المطبوع: "القيمة أو المثل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "في مقابلة ما أتلفه هو" وفي (ك): "في مقابلة أنه هو". (¬4) في (ق) و (ك): "الغيض". (¬5) في (ق): "فيشتفي منه". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "فكيف يعطي عطاؤه القيمة من شفى غيظه وأدرك ثأره" وفي (ق) قبلها: "فيشتفي بذلك ويبقى المجني عليه بقيته وغيظه". (¬7) في (ق): "وبرد قلبه وأذاق الجاني من الأذى من ذاق هو؟ فحكم هذه الشريعة". (¬8) في (ق): "زرع". (¬9) انظر: سورة الحشر، آية (5). (¬10) في (ق): "أن اللَّه". (¬11) أخرج أبو داود في "سننه" (رقم 2714) عن صالح بن محمد قال: غزونا مع الوليد بن هشام ومعنا سالم بن عبد اللَّه بن عمر وعمر بن عبد العزيز، فغل رجل متاعًا، فأمر الوليد بمتاعه، فأُحرق وطيف به، ولم يعطه سهمه. =

[كيف يجزى الجاني على العرض؟]

من الغنيمة فلأن يُحرق مالُه إذا حَرقَ مالَ المسلم المعصوم أولى وأحرى، وإذا شُرعت العقوبة المالية (¬1) في حَقِّ اللَّه الذي مسامحته به أكثر من استيفائه فلأن تُشرع في حق العبد الشحيح أولى وأحرى، ولأن اللَّه سبحانه شرع القصاص زجرًا للنفوس عن العدوان، وكان من الممكن أن يوجبَ الدية استدراكًا لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرعه أَكمل وأَصلح للعباد، وأشفى لغيظ المجني عليه (¬2)، وأحفظ للنفوس والأطراف، وإلا فمن كان في نفسه من الآخر مِنْ قَتْله وقَطْع (¬3) طرفه قَتَله وقَطَع (3) طَرَفَه وأعطى ديته، والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك، وهذا بعينه موجود في العدوان على المال. فإن قيل: فهذا ينجبرُ (¬4) بأن يعطيه نظيرَ ما أتلفه عليه. قيل: إذا رضي المجني عليه بذلك فهو كما لو رضي بدية طرفه، [فهذا هو محض القياس] (¬5)، وبه قال الأحمدان: أحمد بن حنبل وأحمد ابن تيمية (¬6)، قال في رواية موسى بن سعيد: وصاحب الشيء مُخيَّر (¬7)، إن شاء شَقَّ الثوبَ، وإن شاء [أخذ] (¬8) مثله. [كيف يُجزى الجاني على العرض؟] المسألة الثالثة: الجناية على العِرْض، فإن كان حرامًا في نفسه كالكذب عليه وقَذفهِ وسَبِّ والديه فليس له أن يَفعل به كما فُعل به اتفاقًا، وإن سَبَّه في نفسه أو ¬

_ = وروى أيضًا (رقم 2715) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه، قال أبو داود وزاد فيه علي بن بحر عن الوليد -ولم أسمعه منه-: "ومنعوه سهمه"، وصالح بن محمد بن زائدة أبو واقد الليثي، وهو ليس ممن يحتج به، ورواه مرفوعًا، وهذا الذي ذكره عن الوليد -وهو ابن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم- أصح من المرفوع، كما قال أبو داود، وانظر: "عون المعبود" (7/ 383)، "تفسير القرطبي" (4/ 259). وهذا أحد الروايتين عن أحمد، انظر: "تقرير القواعد" (2/ 404 - بتحقيقي) لابن رجب. (¬1) كما هو مبسوط في "الطرق الحكمية". وانظر: "العقوبة بالغرامة المالية" للدكتور ماجد أبو رخية، منشورات مكتبة الأقصى، عمان. (¬2) في (ق) و (ك): "وأشفى للغيظ عليه". (¬3) في المطبوع: "أو قطع". (¬4) في (ق): "تخيير". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (18/ 167 - 169). (¬7) في (د): "يخير" وفي (ك): "مختار". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

سَخِرَ به أو هزأ به أو بال عليه أو بصق عليه أو دعا عليه فله أن يفعل به نظير ما فعل به متحريًا للعدل، وكذلك إذا كسعه أو صفعه فله أن يستوفيَ منه نظير ما فعل به سواء، وهذا أَقرب إلى الكتاب والميزان وآثار الصحابة من التعزير المخالف للجناية جنسًا ونوعًا (¬1) وقدرًا وصفة، وقد دلّت السنّة الصحيحة الصريحة على ذلك، فلا عبرة بخلاف من خالفها؛ ففي "صحيح البخاري": "أن نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرسلنَ زَيْنب بنت جحش إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تكلمه في شأن عائشة، فأتته فأغلظت، وقالت: إن نساءَك يَنْشُدنك العَدْلَ في بنت (¬2) ابن أبي قُحافة، فرَفَعت صوتَها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة، فسبَّتها، حتى إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لينظر إلى عائشة هل تتكلم، فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عائشة وقال: إنها بنتُ أبي بكر" (¬3)، وفي "الصحيحين" [في] (¬4) هذه القصة، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زينب بنت جحش زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-وهي التي كانت تُساميني في المنزلة عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت الحديث، وقالت: ثم وقعت فيَّ، فاستطالت عليَّ، وأنا أرقبُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأرقبُ طَرفَه: هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يكره أن أَنتصر، فلما وقعت بها لم أَنْشَبها حتى أنحيت عليها (¬5)، قالت: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتبسَّم: "إنها ابنةُ أبي بكر"، وفي لفظ [فيهما]: "فلم أنشبها أن أثخنتها غلبة" (¬6) وقد حكى اللَّه سبحانه عن يوسف الصديق إنه قال لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ] (¬7)} [يوسف: 77] لما قالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} (¬8) [يوسف: 77] ¬

_ (¬1) في (ق): "نوعًا وجنسًا". (¬2) في (ق): "ابنة". (¬3) أخرجه البخاري (2581) في (الهبة): باب من أهدى إلى صاحبه وتَحرَّى بعض نسائه دون بعض، ومسلم (2442) في (فضائل الصحابة): باب في فضل عائشة، من حديث عائشة، ووقع في (ق): "ابنة". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬5) "تريد كلام عائشة -رضي اللَّه عنها- أنها لما خاصمتها؛ لم تزل بها حتى غلبتها" (ط)، وفي (ك) و (ق): "أثخنت". (¬6) انظر الحديث السابق، ووقع في (ق): "أثخنتها عليه"، وما بين المعقوفتين قبلها سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) أول الآية: {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ}، وختامها {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف: 77] " (و).

فصل [قوة أدلة الفريقين تحتاج إلى نظر دقيق]

للمصلحة (¬1) التي اقتضت كتمان الحال، ومن تأمل الأحاديث رأى ذلك فيها كثيرًا جدًا، وباللَّه التوفيق. فصل [قوة أدلة الفريقين تحتاج إلى نظر دقيق] قالوا: وهذا غَيْضٌ من فيضٍ، وقطرة من بحر، من تناقض القياسيين (¬2) الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أو أولى منه (¬3) وخروجهم في القياس عن موجب القياس، كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك، فليوجدنا القياسيون (¬4) حديثًا واحدًا صحيحًا [صريحًا] (¬5) غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، فإن كان مخالفةُ القياس ذنبًا (¬6) فقد أريناهم مخالفته صريحًا، ثم نحن أسعدُ الناس بمخالفته منهم؛ لأنا إنما خالفناه للنصوص؛ وإن كان حقًا فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فانظر إلى هذين البَحْرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما، والحزبين اللذين قد ارتفع في مُعتركِ الحَرْب عَجَاجُهما، فجرَّ كلُّ منهما جيشًا من الحجج لا تقوم له الجبال، وتتضاءل له شجاعةُ الأبطال، وأدلى كل منهما (¬7) من الكتاب والسنة والآثار بما خضعت له الرقاب، وذَلَّت له الصِّعاب، وانقاد له علم كل عالم، ونفَّذَ (¬8) حكمه كلُّ حاكم، وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه، ويحيط علمًا بما أضَّلاه وفضَّلاه؛ فليعرف الناظر في هذا المقام قدره، ولا يتعدى طوره، وليعلم أن وراء سويقتيه (¬9) بحارًا طامية، وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السُّهى (¬10) عالية، فمن وثق من نفسه بأنه (¬11) من ¬

_ (¬1) في (د) و (ك): "ذلك للمصلحة". (¬2) في (ق): "القياسين". (¬3) في (ق): "وأولى منه" وفي (ك): "وأولى". (¬4) في (ق): "القياسون". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في المطبوع و (ك): "دينًا"، وفي (ق): "فإذا كان". (¬7) في المطبوع: "وأتى كل واحد منهما". (¬8) في (ن): "وفقده". (¬9) في (د) و (ك): "سويقته"، وفي (ق): "سويقيته بحار طامية". (¬10) في (ك): "السماء" وفي (ق): "الشمس"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬11) في (د): "فإن وثق من نفسه أنه"، وفي (ك): "فإن من وثق من نفسه بأنه".

فصل [القول الوسط بين الفريقين]

فرسان هذا الميدان، وجملة هؤلاء الأقران، فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين، ويحكم بما يرضي اللَّه ورسوله بين هذين الحزبين، فإن الدين كله للَّه، وإن الحكم إلا للَّه، ولا ينفع في هذا المقام: قاعدة المذهب كيت وكيت، وقطع به جمهورٌ [من] (¬1) الأصحاب، وتحصَّل لنا في المسألة كذا وكذا وجهًا، [و] (1) صحح هذا القول خمسة عشر، وصحح الآخر سبعة، وإن على نسبُ علمه قال: "نصَّ عليه" (¬2) فانقطع النزاع، ولزم ذلك النص في قرن الإجماع (¬3)، واللَّه المستعان وعليه التكلان. فصل [القول الوسط بين الفريقين] قال المتوسطون بين الفريقين: قد ثَبتَ أن اللَّه سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان، [فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه فالميزان] (¬4) الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض (¬5) دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح (¬6) والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض؛ فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدًا، ونصوص الشارع نوعان: أخبار، وأوامر، فكما أن أخباره لا تخالف العقل (¬7) الصحيح، بل هي نوعان: نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة أو جملة وتفصيلًا، ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة، فهكذا أوامره سبحانه نوعان: نوع يشهد به القياس والميزان، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه، كما (¬8) أن القسم الثالث ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "نصًا". (¬3) "أي: لصق به، وجمع حتى صار نظيره" (ط). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "والميزان". (¬5) في (ن): "فلا تناقض"، وفي (ك) و (ق): "فلا تناقض أدلة". (¬6) في المطبوع و (ن): "النص الصريح". (¬7) في (ق) و (ن) و (ك): "القول"!، وقال في هامش (ق): "لعله: العقل" وزاد بعد الصحيح في (ك) و (ق): "أبدًا". (¬8) في (د): "وكما".

[إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين]

في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقلُ الصحيحُ (¬1) فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح. [إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين] وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين: إحداهما (¬2) أن الذِّكر الأمري محيطٌ بجميع أفعال المكلفين أمرًا ونهيًا وإذنًا وعفوًا، كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علمًا وكتابةً وقدرًا، فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده وأمره ونهيه وإباحته وعفوه [الواقعة تحت التكليف وغيرها] (¬3)، قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية، فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري (¬4)، فقد بَيِّن اللَّه سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمره (¬5) به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحلَّه وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه، وبهذا يكون دينه كاملًا كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] (¬6)} [المائدة: 3] ولكن قد يقصُر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها (¬7)، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن اللَّه ورسوله، لا يحصيه إلا اللَّه، ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص اللَّه سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى (¬8) عليه وعلي داود بالعلم والحُكْم (¬9)، وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه "الفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدلي إليك" (¬10)، وقال علي: "إلا فهمًا يؤتيه اللَّه عبدًا في كتابه" (¬11)، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬12) ودعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن عباس أن ¬

_ (¬1) في (ن)، و (ق) و (ك): "العقل الصريح"، وفي (ق): "فكذا" بدل "فكذلك". (¬2) في (ق): "إحديهما". (¬3) ما بين المعقوفتين مذكور في المطبوع قبل قوله: "وأمره" والعبارة قبلها في (ق): "وعفوه وأمره ونهيه وإباحته". (¬4) انظر: "مفتاح دار السعادة" (ص: 324 - 334)، و"مدارج السالكين" (2/ 458 - 459)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 5، 88، 90)، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص: 3). (¬5) في (ق): "أمر". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق) و (ك): "وتنويعها". (¬8) في (ق): "اثنى اللَّه سبحانه". (¬9) في (ك): "الحكيمة". (¬10) سبق تخريجه. (¬11) سبق تخريجه. (¬12) سبق تخريجه.

فصل اختلفوا هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث

يُفَقِّهه (¬1) في الدين ويعلمه التأويل (¬2)، والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهمُ المعنى المراد (¬3)، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيَّتُه وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل، فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى؛ فإن الراسخين في العلم يعلمون بُطلانَه، واللَّه يعلم بطلانه. فصل [اختلفوا هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث. رأي الفرقة الأولى] والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق: فرقة قالت: [إن] (¬4) النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا بعض هؤلاء حتى قال: ولا بعُشر معشارها (¬5)، قالوا: فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، ولعمرُ اللَّه إن هذا مقدار [النصوص في] (¬6) فهمه وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر، واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، وهذا احتجاج فاسد [جدًا] (4) من وجوه: أحدها: أن مالا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يُجعل أنواعًا، فيُحكم لكل نوع منها بحكم واحد فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع. الثاني: أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية. الثالث: أنه لو قُدِّر عدم تناهيها فإن أفعال (¬7) العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية، وهذا كما تُجعل الأقارب نوعين: نوعًا مباحًا، وهو بنات العَمِّ والعمة وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام، وكذلك تجعل ما ينقض الوضوء محصورًا، وما سوى ذلك لا ينقضه، وكذلك ما يفسد الصوم، وما يوجب الغسل وما يوجب العدة، وما يُمنع منه المحرمُ، وأمثال ذلك، وإذا كان أرباب المذاهب ¬

_ (¬1) في (ق): "يفهمه" وفي الهامش: "صوابه يفقهه". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ق) و (ك): "هو معنى المراد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) انظر: "الإحكام" لابن حزم، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (19/ 280). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في (ق): "تناهيها فأفعال العباد".

يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يَحلُّ ويَحرمُ عندهم مع قصور بيانهم فاللَّه ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- يأتي بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة وقضية كليَّة تجمع أنواعًا وأفرادًا وتدل دلالتين دلالة طرد ودلالة عكس. وهذا كما سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه عن أنواع من الأشربة كالبتْع والمِزْر (¬1)، وكان قد أوتي بجوامع الكلم فقال: "كل مسكر حرام" (¬2)، و"كُلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" (¬3)، و"كُل قرضٍ جر نفعًا فهو ربا" (¬4)، و"كُلُّ شرطٍ ليس في كتاب اللَّه فهو ¬

_ (¬1) "البتع": بكسر فسكون: أي: كعنب نبيذ العسل المشتد أو سلالة العنب، والمزر: نبيذ الذرة والشعير" (و). (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب المغازي): باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (8/ 4343/62 و 4344 و 4345)، من حديث أبي موسى. وفي "صحيح البخاري" (كتاب الأشربة): باب الخمر من العسل (10/ 41/ 5585)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأشربة: باب بيان أن كل مسكر خمر، وأن كل خمر حرام (3/ 1585/ 2001) عن عائشة قالت: سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البِتْع؟ فقال: "كل شراب أسكر؛ فهو حرام". وأخرجه مسلم برقم (2002) عن جابر مرفوعًا بلفظ: "كل مسكر حرام"، وبرقم (2003) عن ابن عمر مرفوعًا: "كل مسكر خمر، وكل خمر حرام". (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الصلح): باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود (5/ 301/ رقم 2697)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الأقضية): باب نقض الأحكام الباطلة، وردّ محدثات الأمور (3/ 1343/ رقم 1718) بلفظ: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه؛ فهو رد"، وورد بلفظ: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد"، علقه البخاري في "صحيحه" (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب إذا اجتهد العامل (13/ 317)، ووصله مسلم في "صحيحه" (كتاب الأقضية): باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور (3/ 1343 - 1344). وانظر: "فتح الباري" (5/ 302)، و"تغليق التعليق" (3/ 396 و 5/ 326). (¬4) أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (رقم 437 - زوائده)، وأبو الجهم الباهلي في "جزئه" (ق 63/ أ/ ب أو رقم 92 - ط الرشد) والبغوي في "حديث العلاء بن مسلم" (ق 280) -كما في "الإرواء" (5/ 235) - من طريق سوار بن مصعب عن عمارة الهمداني عن علي. قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": "هذا إسناد ساقط وسوار متروك الحديث"، وكذا قال السخاوي، وابن حجر في "التلخيص" (3/ 34)، وتبعه الشوكاني في "النيل" (5/ 232)، وقال البوصيري في "إتحاف المهرة" (3/ 34/ ب): "وهذا إسناد ضعيف، لضعف سوّار بن مصعب الهمذاني، وله شاهد وهو موقوف على نضلة بن عبيد، ولفظه: =

باطلٌ" (¬1)، و"كل المسلم على المسلم حرام دمُه وماله وعرضه" (¬2)، و"كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" (¬3)، و"كل مُحدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة" (¬4)، ¬

_ = "كل قرض جرّ منفعة فهو وجه من وجوه الربا" رواه الحاكم في "المستدرك"، والبيهقي في "سننه"، واللفظ له" انتهى. وفي معناه ما رواه ابن ماجه (2432)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 350) من طريق إسماعيل بن عياش حدثني عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إسحاق الهنائي قال: سألت أنس بن مالك: الرجل منا يُقرض أخاه فيُهدي له؟ فرفع معنى الحديث إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 48): هذا إسناد فيه مقال، عتبة بن حميد ضعفه أحمد، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويحيى بن أبي إسحاق الهنائي لا يُعرف حاله. ووقع في مطبوع "السنن الكبرى": "يزيد بن أبي يحيى" بدل يحيى بن أبي إسحاق، وهو وهم. (¬1) رواه البخاري في مواطن منها: (2155) في البيوع: باب الشراء والبيع مع النساء، و (2561) في المكاتب: باب ما يجوز من شروط المكاتب، و (2717) في الشروط: باب الشروط في البيوع، ومسلم (1504) في العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة. (¬2) رواه مسلم (2564) في (البر والصلة): باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله، من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 235 - 236)، ومن طريقه البيهقي في "سننه" (10/ 319) من طريق عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة مرفوعًا. وقال البيهقي: "هذا مرسل، حبان بن أبي جبلة القرشي من التابعين". وعبد الرحمن بن يحيى الصدفي أخو معاوية بن يحيى لَيّنه أحمد. وقال المناوي في "فيض القدير" (5/ 9): "أشار المصنف لصحته، وهو ذهول أو قصور، فقد استدرك عليه الذهبي في "المهذب"، فقال: قلت: لم يصح مع انقطاعه" أ. هـ. وله طريق آخر عند البيهقي في "سننه" (6/ 178) من طريق سعيد بن أبي أيوب عن بشير بن أبي سعيد عن عمر بن المنكدر مرفوعًا بلفظ: "كل ذي مال أحق بماله". ولم أجد في الرواة من اسمه عمر بن المنكدر فلعله محمد بن المنكدر كما استظهره شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم 359)، وبشير هذا استظهر كذلك أنه ابن سعيد المترجم في "الجرح والتعديل" ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه شيئًا، وهو مرسل أيضًا. (¬4) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الجمعة): باب تخفيف الصلاة والخطبة (867)، عن جابر -رضي اللَّه عنه-.

و"كُلُّ معروفٍ صدقة" (¬1) وسَمَّى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الآية جامعة فاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬2) [الزلزلة: 7، 8] ومن هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] فدخل في الخمر كل مسكرٍ، جامدًا كان أو مائعًا، من العنب أو من غيره، ودخل في الميسر كل أكل مالٍ بالباطل، وكل عمل محرم يُوقع في العداوة والبغضاء ويصدُ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، ودخل في قوله (¬3): {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] كل يمين منعقدة، ودخل في قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] كل طَيّبٍ من المطاعم والمشارب والملابس والفروج، ودخل في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ما لا تُحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها حتى اللَّطمة والضَّربة والكَسْعة كما فهم الصحابة، ودخل في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33] تحريم كل فاحشة ظاهرة وباطنة، وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض، وكل شرك باللَّه وإن دَقَّ في قول أو عمل أو إرادة بأن يُجعل للَّه عدلًا بغيره (¬4) في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد، [وكل قول على اللَّه لم] (¬5) يأتِ به نصٌّ عنه ¬

_ (¬1) ورد من حديث حذيفة: رواه أحمد (5/ 383 و 397 و 398 و 405)، ومسلم (1005) في (الزكاة): باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، وأبو داود (4947) في (الأدب): باب المعونة للمسلم. ومن حديث جابر، رواه أحمد (3/ 344 و 360)، والبخاري (6021) في (الأدب): باب كل معروف صدقة، والترمذي (1970) في (البر والصلة): باب ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر. (¬2) وهي لما سُئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الحُمُر فقال: "ما أنزل عَلي فيها شيءٌ إلا هذه الآية الجامعة الفاذة". رواه مالك في "الموطأ" (2/ 444)، ومن طريقه البخاري (2371) في (الشرب والمساقاة): باب شرب الناس وسقي الدواب من الأنهار، و (2860) في الجهاد: باب الخيل ثلاثة، و (3646) في المناقب، و (4962 و 4963) في (التفسير)، و (7356) في (الاعتصام) باب الأحكام التي تعرف بالدلائل، ورواه مسلم (987) في (الزكاة): باب إثم مانع الزكاة، من حديث أبي هريرة. (¬3) في (ق): "قوله تعالى". (¬4) في (ق) و (ك): "يجعل عدلًا لغيره". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "وكل قائل على اللَّه ما لم".

فصل الفرقة الثانية

ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل أو إيجاب أو إسقاط أو خبر عنه باسم أو صفة نفيًا أو إثباتًا، أو خبرًا عن فعله؛ فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله وصفاته ودينه، ودخل في قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه، وليس هذا تخصيصًا، بل هذا (¬1) مفهومٌ من قوله: {قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وهو المماثلة، ودخل في قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وجوب نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته على كل وارث قريبٍ أو بعيدٍ، ودخل في قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] جميع الحقوق التي للمرأة وعليها، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معروفًا لا منكرًا، والقرآن والسنة كفيلان بهذا أتم كفالةٍ. فصل الفرقة الثَّانية قابلت هذه الفرقة، وقالت: القياس كُلُّه باطلٌ، محَرَّم في الدين، ليس منه، وأنكروا القياس الجلي الظَّاهر حتى فرقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئًا لحكمة أصلًا، ونفوا تعليل خلقه وأمره، وجَوَّزوا -بل جزموا- بأنه يُفرّق بين المتماثلين، ويقرن بين المختلفين في القضاء [والشرع، وجعلوا كل مقدور فهو عدل، والظلم عندهم هو] (¬2) الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين. هذا (¬3) وإن كان قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، [وخالفوا القدرية والنفاة؛ فقد أصابوا في إثبات القدر وتعليق] (¬4) المشيئة الإلهية بأفعال العباد الاختيارية كما تتعلق بذواتهم وصفاتهم، وأصابوا في إثبات (¬5) تناقض القدرية النفاة، ولكن (¬6) ردّوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سَلَّطوا عليهم به خصومهم، وصاروا ممن رد بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، ومكَّنوا خصومهم بما نفوه من الحق من الرد عليهم، وبيان تناقضهم، ومخالفتهم الشرع والعقل. ¬

_ (¬1) في (ق): "هو". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ووقع في (ق): "هو الممتنع الممتنع لذاته". (¬3) في (ك) و (ق): "وهذا". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "وتعلق". (¬5) في (ك) و (ق): "بيان". (¬6) في (ق): "لكن".

فصل الفرقة الثالثة

فصل الفرقة الثالثة (¬1) قوم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب، وأقروا بالقياس كأبي الحسن الأشعري وأتباعه ومن قال بقوله من الفقهاء أتباع الأئمة، وقالوا: إن علل الشرع إنما هي مجرد أمارات وعلامات محضة كما قالوه في ترك الأسباب. وقالوا: إن الدعاء علامة محضة على حصول المطلوب، لا أنه سَببٌ فيه، والأعمال الصالحة والقبيحة علاماتٌ محضة ليست سببًا في حصول الخير والشر، وكذلك جميع ما وجدوه من الخلق والأمر مقترنًا بعضه ببعض قالوا: أحدهما دليل على الآخر، مقارنٌ له اقترانًا عاديًا، وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجه من الوجوه. وليس عند أكثر الناس غير أقوال هؤلاء الفرق الثلاثة (¬2)، وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب ومناقضة بعضها لبعض [ومعارضة بعضها لبعض] (¬3) بقي في الحيرة، فتارة يتحيز إلى فرقة منها له ما لها وعليه ما عليها، وتارةً يتردد بين هذه الفرق تميميًا (¬4) مرَّة وقيسيًا أخرى، وتارة يَلقى الحرب بينهما ويقف في النظارة (¬5)، وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان، وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون من إثبات الحِكَم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره، وإثبات لام التعليل وباء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة واتفق عليه الكتاب والميزان. ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يُنكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط؛ فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين للحِكَم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية، ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل، وعامة البدع المحدثة (¬6) في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية، والجهمية ¬

_ (¬1) في (ق): "والفرقة الثالثة". (¬2) في (ق): "الثلاث". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) في (ك) و (ق): "يمنيًا"، وقال في هامش (ق): "لعله تيميًا". (¬5) في (ق) و (ك): "ويقف للنضارة". (¬6) في (ق) و (ك): "الحادثة".

[النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث]

رؤوس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة اللَّه ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة، والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته؛ فأولئك أثبتوا نوعًا من [الملك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من] (¬1) الحمد بلا ملك؛ فأنكر أولئك عُمومَ حَمْدِه، وأنكر هؤلاء عموم مُلكه، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه؛ فله كمال الملك وكمال الحمد؛ فلا يخرج عينٌ ولا فعلٌ عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراطٍ مستقيم، وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به لأجله (¬2). والمقصود أنهم كما انقسموا ثلاث (¬3) فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه -وهو القياس- إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحِكَم والتعليل والأسباب (¬4)؛ والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين (¬5) وأنها أحالت على القياس، ثم قالت غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرًا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها (¬6) إلا به. [النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث] والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلنا اللَّه ولا رسوله (¬7) على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق (¬8) للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان، وقد تخفى دلالةُ النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا؛ وفي نفس الأمر (¬9) لا بد من موافقته أو مخالفته، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، والعبارة في (ق): "أنواعًا من الجهل بلا ملك". (¬2) في المطبوع: "ولأجله". (¬3) في (د): "إلى ثلاث". (¬4) في المطبوع و (ق) و (ك): "والمناسبات"! (¬5) في (ق) و (ك): "أفعال المكلفين". (¬6) في (ق) و (ك): "اتباعها". (¬7) في (ق): "يحلنا اللَّه ورسوله". (¬8) في (ق) و (ك): "موافق". (¬9) في (ق): "فيكون فاسدًا في نفس الأمر".

فصل [الرد على الفرق الثلاث]

فصل [الرد على الفرق الثلاث] وكل فرقة من هذه (¬1) الفرق سَدُّوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق؛ فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر ممَّا تحتمله؛ فنفاة القياس لما سدّوا على أنفسهم (¬2) باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله اللَّه احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحمَّلوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يَسعَانه، فحيث (¬3) فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث [لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب] (¬4)، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها (¬5)، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه. ولكن أخطأوا من أربعة أوجه: أحدها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما لعن عبدَ اللَّه حِمَارًا (¬6) على كثرة شُرْبه للخمر: "لا تلعنه، فإنه يُحِبُّ اللَّه ورسوله" (¬7) بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل من يحب اللَّه ورسوله، وفي أن قوله: "إن اللَّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُرِ فإنها رِجْسٌ" (¬8) بمنزلة قوله: ¬

_ (¬1) في (ك): "هؤلاء" وفي (ق): "هؤلاء الفرق الثلاث". (¬2) في (د): "نفوسهم". (¬3) في (ق): "حيث". (¬4) في (ق): "لم يفهموه منه نفوه وحملوه الاستصحاب". (¬5) في (ق) و (ك): "ونظرها". (¬6) في نسخة: "خمارًا"، وفي أخرى: "حمادًا"، وكلاهما تحريف وصوابه: "حمارًا" بالحاء والراء المهملتين وانظر: "الإصابة" في ترجمة (حمار) (1/ 351) -التجارية، كذا في (د)، ونحوه باختصار في (و)، ووقع في (ق): "رسول اللَّه" بدل "النبي". (¬7) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الحدود): باب: ما يكره من لعن شارب الخمر، (رقم: 6780)، من حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. تنبيه: الرجل اسمه: عبد اللَّه، ولقبه: حمار. (¬8) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب المغازي): باب غزوة خيبر (7/ 467، 467 - 468/ رقم 4198، 4199)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيد والذبائح، باب تحريم =

[الاستصحاب: معناه وأقسامه]

ينهيانكم (¬1) عن كل رجس، وفي أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] نهي عن كل رجس، وفي [أن] (¬2) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الهِرِّ (¬3): "ليست بنَجَس إنها من الطَّوافين عليكم والطوافات" (¬4) بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس (¬5)؛ ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره: "لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم"، نَهْي [له] (¬6) عن كل طعام كذلك، وإذا قال: "لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر" نَهْي له عن كل مسكر، و"لا تتزوج (¬7) هذه المرأة فإنها فاجرة" وأمثال ذلك. الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص؛ فكم من حُكم دَلَّ عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ، دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعُرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ضربًا ولا سبًا ولا إهانة غير لفظة أف، فقصَّروا في فهم الكتاب كما قصَّروا في اعتبار الميزان. الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه؛ لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علمًا بالعدم. [الاستصحاب: معناه وأقسامه] وقد تنازع الناس في الاستصحاب، ونحن نذكر أقسامه ومراتبها (¬8) ¬

_ = أكل لحم الحمر الإنسية (3/ 1540/ رقم 1940) عن أنس؛ قال: ". . . فأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبا طلحة، فنادى: إن اللَّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر؛ فإنها رجس أو نجس". وفي الباب عن جماعة من الصحابة. (¬1) في (ق): "ينهاكم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ك): "الهرَّة"، وفي (ق): "الهرة إنها ليست". (¬4) الحديث صحيح، وقد سبق تخريجه. (¬5) في (ق) و (ك): "فإنها ليست بنجس"! (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "تزوج". (¬8) انظر هذه المباحث في: "الإحكام في أصول الأحكام" (4/ 132) للآمدي، و"المحصول" (6/ 109) للرازي، و"المستصفى" (1/ 217) للغزالي، و"شرح تنقيح الفصول" (ص: 447) للقرافي، و"روضة الناظر" (ص: 137) لابن قدامة، و"شرح مختصر الروضة" (3/ 147) للطوفي، و"الإحكام" (5/ 2 - 49) لابن حزم، و"الفقيه والمتفقه" (1/ 216) للخطيب، و"شرح اللمع" (2/ 977 - 993) للشيرازي، و"إرشاد الفحول" (ص: 237) للشوكاني، وانظر: "أثر الأدلة المختلف فيها" (ص: 183 - 238) للدكتور مصطفى البغا.

[استصحاب البراءة الأصلية]

فالاستصحابُ: استفعالٌ من الصحبة، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتًا أو نفي ما كان منفيًا (¬1)، وهو ثلاثة أقسام: استصحاب البراءة الأصلية، واستصحاب الوصف المُثْبت للحكم الشرعي حتى يثبت (¬2) خلافه، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. [استصحاب البراءة الأصلية] فأما النوع الأول (¬3) فقد تنازع الناسُ فيه: فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين: إنه يصلح للدفع لا للإبقاء، كما قاله بعض الحنفية، ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال [لا] (¬4) لإبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم، لا إلى عدم المُغيِّر له، فإذا لم نجد دليلًا ناقلًا ولا مثبتًا (¬5) أمسكنا، لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع (¬6) بالاستصحاب دعوى مَنْ أثبته (¬7)، فيكون حالُ المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل؛ فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها، لا أنه (¬8) يقيم دليلًا على نفي ما ادعاه، وهذا غير حال المعارض؛ فالمعارض لون والمعترض لون، فالمعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلًا على نقيضه (¬9)، وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه، [قالوا: لأنَّه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه] (¬10). [استصحاب الوصف المثبت للحكم] ثم النوع الثاني استصحابُ الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، وهو حجة، كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح (¬11) ¬

_ (¬1) في (ك): "منتفيًا". (¬2) في (ك) و (ق): "حيث ثبت"، واحتمل في هامش (ق) ما أثبتاه. (¬3) في (ن): "فأما القسم الأول". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك) ووقع في (ق): "يصلح للدفع". (¬5) في (ن): "ناقلًا ولا مبينًا"، وفي المطبوع و (ك): "نافيًا ولا مثبتًا". (¬6) في (ق): "بل يدفع". (¬7) في (ق): "يثبته". (¬8) في (ق) و (ك): "لأنه". (¬9) في (ن): "نقضه". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬11) في (ن): "وحكم استصحاب بقاء النكاح".

وبقاء الملك وشُغل الذمة بما تُشغل به (¬1) حتى يثبت خلاف ذلك، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد: "وإن وجَدْتهُ غريقًا فلا تأكله، فإنك لا تَدْري الماءُ قَتَله أو سهمُك" (¬2) وقوله: "فإن خالطها (¬3) كلامه من غيرها فلا تأكل، فإنك إنما سَمَّيت على كلبك ولم تُسمِّ على غيره" (¬4) لما كان الأصلُ في الذبائح التحريم وشَكَّ هل وجد الشرط المبيح أم لا بقي الصيدُ على أصله في التحريم، ولما كان الماء طاهرًا فالأصل (¬5) بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك، ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث، بل قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬6)، ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمَّته أمر الشاكَّ أن يبنى على اليقين ويطرح الشك (¬7)، ولا يعارض هذا ¬

_ (¬1) في (ن): "تشتغل به". (¬2) رواه البخاري (5484) في (الذبائح والصبد): باب الصيد إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، ومسلم (1929) (6، 7) في (الصيد والذبائح): باب الصيد بالكلاب المعلَّمة، من حديث عدي بن حاتم. وفي البخاري: "فإنك لا تدري أيها قتل". (¬3) في (ن): "خالطته"، وفي (د): "وإن خالطها". (¬4) أخرجه الخاري في "الصحيح" (كتاب الذبائح والصيد): باب إذا أكل الكلب (9/ 609/ رقم 5483)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيد والذبائح): باب الصيد بالكلاب المعلمة (3/ 1529/ رقم 1929) عن بيان عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب. قال: "إذا أرسلت كلابك المعلَّمة، وذكرت اسم اللَّه، فكل مما أمسكن عليك وإن قتلن؛ إلا أن يأكل الكلب؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، لأن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل". لفظ البخاري. (¬5) في (ق): "في الأصل". (¬6) رواه البخاري (137) في (الوضوء): باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، و (177) باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القُبُل والدُبُر، و (2056) في (البيوع): باب من لم يَرَ الوساوس ونحوها من الشبهات، ومسلم (361) في الحيض: باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلِّي بطهارته تلك، من حديث عبد اللَّه بن زيد. وفي الباب عن أبي هريرة: رواه مسلم (362)، وانظر: "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 17)، وتعليقي عليه. (¬7) يشير إلى ما أخرجه مسلم (571): (كتاب المساجد ومواضع الصلاة): باب السهو في الصلاة والسجود له من حديث أبي سعيد الخدري رفعه: "إذا شك أحدكم في صلاته، =

رفعهُ للنِّكاح المتيقِّن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين (¬1)؛ فإن أصل الأبضاع على التحريم، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية، وقد عارض هذا الظاهر ظاهرٌ مثله أو أقوى منه وهو الشهادة، فإذا تعارضا تساقطا (¬2) وبقي أصلُ التحريم لا معارض له؛ فهذا الذي حكم به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو عين الصواب ومحض القياس، وباللَّه التوفيق. ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع، وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين، مثاله أن مالكًا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ، لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذِمّته (¬3)، فإن قلتم: لا نخرجه من الطهارة [بالشك] (¬4)، قال مالك: [ولا ندخله في الصلاة بالشك] (¬5)، فيكون قد خرج منها بالشك، فإن قلتم: يقين (¬6) الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك، قال منازعكم (¬7): وبقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا (¬8) يعود بالشك، قالوا: والحديث الذي تحتجون به من أكبر حُجَجِنا، فإنه مَنَع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقَّنة أن يخرج منها بالشك، فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك (¬9)؟ ومن ذلك لو شك هل طَلَّق واحدة أو ثلاثًا فإن مالكًا يلزمه بالثلاث؛ لأنه تيقن طلاقًا وشك هل هو ممَّا تُزيلُ أَثَره الرَّجعةُ أم لا، وقول الجمهور في هذه المسألة أصح؛ فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك، ولم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا ¬

_ = فلم يدر كم صلّى، ثلاثًا أو أربعًا، فليطرح الشك، وليَبْن على ما استيقن، ثم يسجدُ سجدتين قبل أن يُسَلِّم، فإن كان صلّى خمسًا، شَفَعْنَ له في صلاته، وإنْ كان صلّى إتمامًا لأربع، كانتا ترغيمًا للشيطان". (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ك): "وتساقطًا"، انظر -لزامًا- "القواعد الفقهية" لابن رجب (3/ 162 - بتحقيقي). (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 272)، و"إغاثة اللفهان" (1/ 175 - 176). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "لا يدخل في الصلاة". (¬6) في (ق) و (ك): "تيقن". (¬7) في المطبوع و (ق) و (ك): "منازعهم". (¬8) في (ق): "ولا". (¬9) كتب هنا في هامش (ق): "في صحيح مسلم" عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا، فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؛ فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا"، قال الجمهور: وهذا عام في حال الصلاة وغيرها". قلت: وانظر تفصيل المسألة في "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 17 - بتحقيقي).

فصل [استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع]

يزول به، وليس هذا نظير الدخول في الصلاة بالطهارة التي شك في انتقاضها؛ فإن الأصل هناك شغل الذمة وقد وقع الشك في فراغها، ولا يُقال هنا (¬1): إن الأصل التحريم بالطلاق وقد شككنا في الحِل، فإن التحريم قد زال بنكاح متيقن وقد حصل الشك في ما يرفعه، فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقن ثم شك في زواله، فإن قيل: هو متيقن للتحريم بالطلاق شاك في الحل بالرَّجعة، فكان جانب التحريم أقوى، قيل: ليست الرجعية بمحرِّمَة، وله أن يخلو بها، ولها أن تتزين له وتتعرض له، وله أَن يطأها، والوطءُ رجعة عند الجمهور، وإنما خالف في ذلك الشافعيُّ وحده (¬2)، وهي زوجته في جميع الأحكام إلا في القسم خاصة، ولو سلم أنها محرمة فقولُكم: "إنه متيقن للتحريم" إن أردتم به التحريم المطلق فإنه (¬3) غير متيقن، وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث؛ فإن مطلق التحريم أعم من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص، وهذا في غاية الظهور. فصل [استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع] النوع الثالث (¬4): استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة (¬5)؟ على قولين: أحدهما: أنه حجة، وهو قول المُزَنَي (¬6)، والصَّيْرفي (¬7) وابن شاقلا (¬8). . . . ¬

_ (¬1) أشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "ولا يقال هنا: هب أن الأصل التحريم". (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 97) للمؤلف رحمه اللَّه، وفي (ق) بعدها: "وهي زوجة في جميع الأحكام". (¬3) في (ك) و (ق): "فهو". (¬4) في المطبوع و (ق) و (ك): "القسم الثالث". (¬5) انظر تفصيل المسألة في: "المعتمد" (2/ 884)، و"المحصول" (9/ 106)، و"المستصفى" (1/ 223)، و"التبصرة" (ص 526)، و"الإحكام" للآمدي (4/ 136)، و"الإبهاج" (3/ 182)، و"تيسير التحرير" (4/ 177)، و"نهاية الوصول" (8/ 3956)، و"البحر المحيط" (6/ 21)، و"تخريج الفروع على الأصول" (ص: 73) للزنجاني، و"المسودة" (494). (¬6) هو الإمام إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل المزني المصري أبو إبراهيم، من كبار أصحاب الشافعي (ت: 264 هـ). (¬7) هو الإمام محمد بن عبد اللَّه الصيرفي أبو بكر الشافعي (ت: 330 هـ)، وسقط اسمه من (ق) و (ك). (¬8) هو الإمام إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقلا الحنبلي، (ت: 369 هـ).

وابن حامد (¬1) وأبي عبد اللَّه الرَّازي (¬2)، والثاني: ليس بحجة، وهو قول أبي حامد (¬3)، وأبي الطيب الطَّبري (¬4) والقاضي أبي يعلى (¬5)، وابن عَقيل (¬6) وأبي الخَطَّاب (¬7) والحَلْواني (¬8) وابن الزَّاغُوني (¬9)، وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد الرؤية فلا إجماع، فليس هناك ما يُستصحب؛ إذ يَمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع، والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيُستصحب ثبوتُه، أو لأمر منتفٍ (¬10) فيستصحب نفيه، قال الأولون: غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محل النزاع، وهذا حق، ونحن لم نَدَّع الإجماع في محل النزاع، بل استصحبنا حال المجمع عليه حتى يثبت ما يزيلُه، قال الآخرون: الحكم إذا كان إنما ثبت بالإجماع (¬11)، وقد زال الإجماع، زال الحكم لزوال دليله (¬12)، فلو ثبتَ الحكم [بعد ذلك] (¬13) لثبتَ بغير دليل، وقال المُثبتون: الحكم كان ثابتًا، وعلمنا بالإجماع ثُبوتَه، فالإجماع ليس هو عِلَّةُ ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتى يلزم من زوالِ العلةِ زوال معلولها، ومن زوال السبب زوال حكمه، وإنما الإجماع دليلٌ عليه، وهو في نفس الأمر مستندٌ إلى نص أو معنى [نص] (¬14)، فنحن نعلمُ أن الحكم المجمع عليه ثابتٌ في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من ¬

_ (¬1) هو الإمام الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي الحنبلي، (ت: 403 هـ). (¬2) هو الإمام محمد بن عمر بن الحسين بن فخر الدين الرازي، إمام أُصولي مفسر (ت: 606 هـ)، وكلامه في "المحصول": (6/ 109). (¬3) هو الإمام أبو حامد الغزالي، محمد بن محمد (ت: 505 هـ)، وكلامه في "المستصفى" (2/ 222). (¬4) هو الإمام طاهر بن عبد اللَّه بن طاهر بن عمر الطبري الشافعي، (ت: 450 هـ). (¬5) هو الإمام الحسن بن الحسين بن أبي هريرة الشافعي أبو علي (ت: 345 هـ). (¬6) هو الإمام علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الحنبلي أبو الوفاء (ت: 513 هـ). (¬7) هو الإمام محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي أبو الخطاب (ت: 510 هـ). (¬8) هو الإمام عبد الرحمن بن عمار بن علي بن محمد الحلواني الحنبلي، يكنى بأبي محمد، (ت: 546 هـ)، أو لعله: محمد بن علي بن محمد بن عثمان الحلواني الحنبلي (ت: 505 هـ). (¬9) هو الإمام علي بن عبيد اللَّه بن نصر بن السري الزاغوني الحنبلي أبو الحسن، فقيه أصولي (ت: 527 هـ). (¬10) في (ق): "منفي". (¬11) في المطبوع: "بإجماع". (¬12) في المطبوع: "بزوال". (¬13) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "لذلك". (¬14) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

انتفاء الإجماع انتفاء الحكم، بل يجوز أن يكون باقيًا ويجوز أن يكون منتفيًا، لكن الأصل بقاؤُه، فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث، ولكن يفتقر إلى بقاء (¬1) سبب ثبوته، وأما الحكم المخالف فيفتَقِر إلى ما يُزيل [الحكم] (¬2) الأَوَّل، وإلى ما يُحدث الثاني، وإلى ما يُبينه (¬3)، فكان ما يفتقر إليه الحادثُ أكثر ممَّا يفتقر إليه الباقي، فيكون البقاء أولى من التغيير، وهذا مثلُ استصحاب حال براءة الذمة، فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يُظنّ [به] (¬4) أنه شاغل، ومع هذا فالأصل البراءة، والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، ومن لا يُجوِّز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل فلا يجوز الاستدلال به لمن لم يعرف الأدلة الناقلة، [كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن يعرف الأدلة الناقلة] (¬5)؛ وبالجملة فالاستصحاب لا يَجوزُ الاستدلالُ به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل، فإن قَطَع المُسْتَدِل بانتفاء الناقل قطع بانتفاء الحكم، كما يُقطع ببقاء شريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنها غير منسوخة، وإن ظَنَّ انتفاءَ النَّاقل أو ظن انتفاء دلالته ظن انتفاء النَّقلْ، وإن كان الناقل معنى مؤثرًا وتبيَّن له عدم اقتضائه تبيّن له انتفاء النقل، [وإن كان الناقل معنى مؤثرًا وتبين له عدم اقتضاءه تبيّن له انتفاء النقل] (¬6)، مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض (¬7) الوضوء، وإلا فمع تجويزه لكونه ناقضًا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء، وهكذا كل مَنْ وقع النزاع في انتقاضِ وضوئه ووجوب الغسل عليه فإن الأصل بقاء طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين، وبالخارج النادر منهما، وبمس النساء بشهوة (¬8) وغيرها، وبأكل ما مَسَّته النار، وغسل الميت، وغير ذلك، لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتيقن له بطلان ما يُوجب الانتقال، وإلا بَقي شاكًّا، وإن لم يتبين له صحة الناقل -كما لو أخبره فاسق بخبر (¬9) - فإنه مأمور بالتبيُّن والتَّثبت، لم يُؤمر بتصديقه ولا بتكذيبه (¬10) فإنَّ كليهما ممكن منه، وهو مع خبره لا يَستدلُّ باستصحاب الحال كما ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "انتفاء". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في المطبوع: "ما ينفيه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬7) في (ق): "ينقض". (¬8) في (ق): "الشهوة". (¬9) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 68)، و"الطرق الحكمية" (ص: 173)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 81)، و"مدارج السالكين" (2/ 16). (¬10) في (ق): "تكذيبه".

فصل [الدليل على أنه حجة]

كان يستدل به بدون خبره، ولهذا (¬1) جعل لوثًا وشُبهة، وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في [حال] (¬2) المشهود به، فإذا تبين كونه عدلًا تم الدليل، وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما [تضعف] عند شهادة الفاسق (¬3)، [لأنه ليس بدليل، لكن يمكن صدقه، وذلك] (¬4) قد يكون دليلًا ولكن لا تعرف دلالته، [وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل، لكن يمكن وجود المدلول [عليه] في هذه الصورة؛ فإن صِدْقَه ممكن] (¬5). فصل [الدليل على أنه حجة] ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبديل (¬6) حال المَحلِّ المُجمع على حكمه أو لا كتبديل (¬7) زمانه ومكانه وشخصه، وتبديل (¬8) هذه الأمور وتغيُّرها لا يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبديل (¬9)، فكذلك تبدُّل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم (¬10) دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلًا للحكم مثبتًا لضده، كما جعل الدباغ ناقلًا لحكم نجاسة الجلد، وتخليل الخَمْرة للحكم بتحريمها (¬11)، وحدوث الاحتلام ناقلًا لحكم البراءة الأصلية، وحينئذ لا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحًا، وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع، والنزاع في رؤية الماء في الصلاة (¬12) وحدوث العَيْب عند المُشتري واستيلاد الأمة ¬

_ (¬1) في (ن): "هذا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في المجهول وأحكامه في البيوع وغيرها، انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 209 و 4/ 23، 51)، و"إغاثة اللهفان" (ص: 164، 176، 167، 177، 178) وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "يضعف". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع و (ق) و (ك): "فإنه في الشاهد". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) وما بين الهلالين سقط من (ق). (¬6) في المطبوع و (ن): "تبدُّل" (¬7) في المطبوع و (ن): "كتبدل". (¬8) في المطبوع و (ن): "تَبَدُّل". (¬9) في المطبوع و (ن): "التبدل". (¬10) في (ق): "يرد". (¬11) في (ق) و (ك): "ناقلًا لحكم تحريمها" وفي (ق): "وتخلّل الخمر". (¬12) قال في هامش (ق): "مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد: لا يبطل تيممه بوجود الماء في الصلاة".

فصل [الأصلي في الشروط الصحة أو الفساد]

لا يُوجب رفع ما كان ثابتًا قبل ذلك من الأحكام؛ فلا يقبل قول المعترض: إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث؛ فإن النزاع (¬1) لا يرفع ما ثبت من الحكم؛ فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلًا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم، وحينئذ فيكون معارضًا في الدليل لا قادحًا في الاستصحاب، فتأمله فإنه التحقيقُ في هذه المسألة. فصل [الأصلي في الشروط الصحة أو الفساد] الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة (¬2)، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقدٍ أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من اللَّه بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح؛ فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم (¬3)، ومعلوم أنه لا حرامٌ إلا ما حَرَّمه اللَّه ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثمَّ اللَّه ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجبَ إلا ما أوجبه اللَّه، ولا حرامَ إلا ما حرمه اللَّه، ولا دينَ إلا ما شرعه؛ فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم (¬4). والفرق بينهما أن اللَّه سبحانه لا يُعبدُ إلا بما شرعه على ألسنة رُسُلِه، فإن العبادة حَقُّه على عباده، وحَقُّه الذي أحقَّه هو ورضي به وشَرَعَه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها؛ ولهذا نعى اللَّه سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين (¬5) -وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما ¬

_ (¬1) في (ن): "فإنه". (¬2) انظر مباحث في الشرط في "بدائع الفوائد" (1/ 43 - 60 و 3/ 345)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 180)، ووقع في (ق): "عقود المسلمين ومعاملاتهم وشروطهم". (¬3) في (ق): "حكم بالتأثيم والتحريم". (¬4) انظر: "روضة الناظر" (22)، "التبصرة" (533)، "الإبهاج" (1/ 61، 84)، "المسوّدة" (479)، "الإحكام" (1/ 52) للآمدي، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (7/ 45 - 46 و 29/ 151 و 21/ 535، 539). (¬5) في (ن): "ولهذا نهى اللَّه سبحانه المشركين عن خلاف هذين الأصلين".

لم يشرعه- وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان [ذلك] (¬1) عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله؛ فإن الحلال ما أحلَّه اللَّه، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكلُّ شَرْط وعَقْد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القولُ بتحريمها؛ فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما (¬2) عدا ما حَرَّمه؟ وقد أمر [اللَّه تعالى] (¬3) بالوفاء بالعقود والعهود كلها؛ فقال [تعالى] (1): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]، وقال: {وَالَّذِينَ [هُمْ] (1) لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)} [المعارج: 32]، وقال [تعالى] (1): {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]، وقال [تعالى] (1): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]، وقال؛ {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)} [آل عمران: 76]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وهذا كثير في القرآن، وفي "صحيح مسلم" من حديث الأعمش، عن عبد اللَّه بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَنْ كانت فيه خَصْلةٌ منها (¬4) كانت فيه خَصْلةٌ من النِّفاق [حتى يَدَعَهَا] (1): إذا حَدَّث كَذَب، وإذا عَاهَدَ غَدَر، وإذا وعد أخلَفَ، وإذا خَاصَم فَجَر" (¬5) وفيه من حديث سعيد بن المُسيَّب، عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من عَلاماتِ المنافقِ ثلاثٌ وإن صلى وصَامَ وزعم أنه مسلم: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا ائتُمنَ خانَ" (¬6)، وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُرفعُ لكل غادرٍ لواء يوم القيامة بقدر غَدْرَته، فيُقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان" (¬7)، وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن أحقَّ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "ما". (¬3) في (ق): "سبحانه". (¬4) في (د): "منهن" وفي (ق): "فيه خصله منها كان فيه خصلة". (¬5) هو فيه (58) في (الإيمان): باب خصال الإيمان. وهو في "صحيح البخاري" أيضًا فقد رواه في (الإيمان): (34) باب علامة المنافق، و (2459) في (المظالم): باب إذا خاصم فجر، و (3178) في (الجزية)؛ باب إثم من عاهد ثم غدر من طريق الأعمش به. (¬6) هو فيه (59) (108 و 109 و 110) في الإيمان: باب بيان خصال المنافق. (¬7) رواه البخاري (3188) في (الجزية): باب إثم الغادر للبر والفاجر، و (6177 و 6178) =

الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفُروج" (¬1)، وفي "سنن أبي داود" عن أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما رأيته أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول اللَّه، واللَّه إني لا أَرجعُ إليهم أبدًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لا أَخِيسُ (2) بالعهد، ولا أحبس البُرُدَ (¬2)، ولكن ارْجِع إليهم، فإنْ كانَ في نفسك الذي في نفسك الآنَ فارْجِع" قال: فذهبت ثم أتيتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأَسلمتُ (¬3)، وفي "صحيح مسلم" عن حذيفة قال: "ما مَنَعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْلٌ، فاخَذَنَا كُفَّارُ قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فاخذوا مِنَّا عَهْدَ اللَّه وميثاقَه لننصرِفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبرناه الخبرَ، فقال: "انْصرِفَا نَفِي (¬4) لهم بعهدِهم ¬

_ = في (الأدب): باب ما يُدعى الناس بآبائهم، و (6966)، في (الحيل): باب إذا غصب جاريته فزعم أنها ماتت، و (7111) في (الفتن): باب إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه، ومسلم (1735) في (الجهاد): باب تحريم الغدر. (¬1) رواه البخاري (2721) في (الشروط): باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، و (5151) في (النكاح): باب الشروط في النكاح، ومسلم (1418) في (النكاح): باب الوفاء بالشروط في النكاح. (¬2) "هو بخاء معجمة، أي: لا أنقضه وأخلفه، والبرد: الرسل جمع بريد، وهو الرسول" (ط)، ونحوه في (و). (¬3) رواه أبو داود (2758) في (الجهاد): باب في الإمام يُسْتَجَنُّ به في العهود، والنسائي في "الكبرى" (5/ 205 رقم 8674)، وابن حبان (4877)، والحاكم (3/ 598)، والطبراني في "الكبير" (963)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 145)، والبغوي في "شرح السنة" (11/ 163) من طرق عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج عن الحسن بن علي بن أبي رافع عن جده أبي رافع به. وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. ورواه أحمد في "مسنده" (6/ 8) من طريق عبد الجبار بن محمد عن ابن وهب به، وقال: عن أبيه عن جده. والحسن بن علي هذا ترجمه الحافظ في "التهذيب"، وقال: روى عن جده، وقيل: عن أبيه عن جده، وثقه النسائي، وابن حبان. قلت: كل من روى الحديث عن ابن وهب ذكر روايته عن جده إلا عبد الجبار بن محمد هذا، وقد ترجمه الحافظ في "تعجيل المنفعة"، ولم يوثقه إلا ابن حبان في "ثقاته"! وقد ترجمه ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه شيئًا، والخطأ في هذا الإسناد منه، واللَّه أعلم. (¬4) في (ق): "نفيء" بالهمز.

ونستعينُ اللَّه عليهم" (¬1)، وفي "سنن أبي داود" عن عبد اللَّه بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاعد في بيتها، فقالت: تعال أُعْطِك، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أردت أن تعطيه؟ " فقالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما إنك لو لم تعطيه شيئًا كُتبت عليك كذبة" (¬2)، وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "قال اللَّه عز وجل: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غَدَر، ورجلٌ بَاعَ حرًا [فأكل ثمنه]، ورجل استاجر أجيرًا [فاستوفى منه] ولم يُعْطِ أَجْرَه" (¬3)، وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن الخطاب أن يُوفي بالنَّذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام (¬4)، وهذا عَقْدٌ كان قبل الشرع (¬5)، وقال ابن وهب: [ثنا هشام بن سعد، ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الجهاد والسير): باب الوفاء بالعهد (1787). (¬2) رواه أبي شيبة (8/ 405)، وأحمد (3/ 447)، والبخاري في "التاريخ" (5/ 11)، وأبو داود في (الأدب): باب في التشديد في الكذب (4991)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 198 - 199) من طريق محمد بن عجلان عن مولى لعبد اللَّه بن عامر بن ربيعة العدوي عن عبد اللَّه بن عامر به. ومولى عبد اللَّه هذا وقع تسميته في بعض الروايات "زيادًا" كما ذكر الحافظ في "الإصابة"، ولم أجد له ترجمة. وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء": "وله شاهد من حديث أبي هريرة وابن مسعود، ورجالهما ثقات إلا أن الزهري لم يسمع من أبي هريرة". أقول: وحديث أبي هريرة يأتي. ووقع في (ك): "تعال أعطيك. . . لكتبت عليك كذبة". (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 358)، والبخاري في "الصحيح" (كتاب البيوع): باب إثم من باع حرًا (2227)، وفي (كتاب الإجارة): باب إثم من منع أجر الأجير (2270). وما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وفيه بدل من "لم يُعْط"، "لم يعطيه" وفي (ق): "وأكل ثمنه" وسقط "فاستوفى منه ولم يعطه أجره". (¬4) رواه البخاري (2032) في (الاعتكاف): باب الاعتكاف ليلة، و (2042) في (الاعتكاف): باب من لم ير عليه -إذا اعتكف- صومًا، و (2043) في (الاعتكاف): باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، و (6697) في "الأيمان والنذور": إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم، ومسلم (1656) (27) في (الأيمان): باب نذر الكافر، وما يفعل فيه إذا أسلم، من حديث ابن عمر. ورواه البخاري (3144) في فرض الخمس من حديث نافع أن عمر دون ذكر ابن عمر. (¬5) في (ق): "وهكذا كان عقد قبل الشرع".

عن زيد بن أسلم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وأْيُ المؤمن واجب" (¬1) قال ابن وهب: و] (¬2) أخبرني إسماعيل بن عَيَّاش، عن أبي إسحاق أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول: "ولا تَعِدْ أخاك عِدَةً وتخلفه، فإن ذلك يُورثُ بينك وبينه عداوة" (¬3)، قال ابن وهب: وأخبرني اللَّيثُ بن سعد، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شِهاب، عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ قال لصبِيِّ: تعالَ هذا لك، ثم لم يعطهِ شيئًا فهي كذبة" (¬4)، وفي "السنن" من حديث كثير بن عبد اللَّه بن زيد بن عَمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: "المؤمنون عند شروطهم" (¬5)، وله شاهد من حديث محمد بن ¬

_ (¬1) رواه أبو داود في "المراسيل" (523) (ص 352) من طريق ابن وهب ورجاله ثقات. وفي "المراسيل": مرسل آخر بمعناه (522)، و"الوأي: الوعد" (ط). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه ابن وهب في "جامعه" (208) لكن قال: وأخبرني مسلمة وغيره عن رجل عن أبي إسحاق فذكره. وكأنه حصل من المؤلف سبق نظر، فإن الحديث قبله يرويه عن إسماعيل بن عياش. ومسلمة هذا قال فيه ابن معين ودحيم: ليس بشيء، وقال البخاري وأبو زرعة: منكر الحديث. وأبو إسحاق هذا هو الهمداني السبيعي وهو ثقة من التابعين، فالإسناد ضعيف جدًا. ويشهد لأوله: ما رواه الترمذي (1995) في (البر والصلة): باب ما جاء في المراء، والبخاري في "الأدب المفرد" (394)، وابن أبي الدنيا في (الصمت): (123 و 390)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 344) من طريق ليث بن أبي سليم عن عبد الملك عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا: "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعدة فتخلفه"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وعبد الملك عندي هو ابن بشير". أقول: لكن نقل الحافظ العراقي عبارة الترمذي غريب دون قوله: "حسن" (2/ 180)، وقال: "فيه ليث بن أبي سليم وضعفه الجمهور". (¬4) رواه ابن وهب في "جامعه" (514)، وأحمد في "مسنده" (2/ 452)، وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 142): رواه أحمد من رواية الزهري عن أبي هريرة، ولم يسمعه منه. ويشهد له حديث عبد اللَّه بن عامر السابق، وفي (ق): "تعال هاه لك". (¬5) رواه الترمذي (1352)، وابن عدي (6/ 2081)، والطبراني في "الكبير" (17/ 30)، والدارقطني (3/ 27)، والبيهقي (6/ 79)، وفي "المعرفة" (10/ 237 رقم 14349)، من طرق كثير بن عبد اللَّه به. وقال الترمذي: "حسن صحيح"!! وكثير هذا تكلموا فيه قال الشافعي: من أركان الكذب، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة، وقال ابن عدي: عامة حديثه لا يتابع عليه. =

فصل [أجوبة المانعين]

عبد الرحمن [بن] (¬1) البَيْلَماني عن أبيه، عن ابن عمر يرفعه: "النَّاسُ على شروطهم ما وافق الحق" (¬2)، وليست العمدة على هذين الحديثين، بل على ما تقدم. فصل [أجوبة المانعين] وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج: تارة بنسخها، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه، وتارة بمعارضتها بنصوص أخرى، كقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب اللَّه، ما كان من شَرطٍ ليس في كتاب اللَّه فهو باطلٌ وإن كان مئةَ شرط، كتابُ اللَّه أحق، وشرطُ اللَّه أوثقُ" (¬3)، وكقوله: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬4)، وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229] ونظائر هذه الآية. قالوا: فصح بهذه النصوص إبطال كل عهد وعقد ووعد (¬5) وشرط ليس في كتاب اللَّه الأمرُ به أو النَّصُ على إباحته، قالوا: وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن (¬6) فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوهٍ أربعةٍ: إما أن يكون ¬

_ = وقد قوّى أمره الترمذي والبخاري وابن خزيمة على ما قاله الحافظ في "الفتح"، والصحيح أنه ضعيف الحال. ولذا قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 23) عن حديثه هذا: "ضعيف"، والحديث له شواهد انظرها مفصلة في "التلخيص" (23/ 3)، و"إرواء الغليل" (5/ 142 - وما بعده) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 2855، 2856)، ووقع في (ق): "الناس على شروطهم ما وافق الحق". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) رواه البزار (1296 - كشف الأستار)، والعقيلى (4/ 48) من طريق محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني به. ذكره العقيلي في ترجمة محمد بن الحارث، وقال: قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البزار: عبد الرحمن له مناكير وهو ضعيف عند أهل العلم. وقال الهيثمي في "المجمع" (4/ 86): وفيه محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، وهو ضعيف جدًا. (¬3) أخرجه البخاري (2168) كتاب البيوع: باب إذا اشترط شروطًا في الييع لا تحل، ومسلم (1504): كتاب العتق: باب إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬4) سبق تخريجه قريبًا. (¬5) في (ق): "كل عهد ووعد وعقد وشرط". (¬6) في (ق) و (ك): "ولا الإيذان".

فصل [رد الجمهور على أجوبة المانعين]

صاحبُه قد التزم فيه إباحةَ ما حَرَّم اللَّه ورسوله، أو تحريم ما أباحه، أو إسقاط ما أوجبه، أو إيجاب ما أسقطه، ولا خامس لهذه الأقسام البتة؛ فإن مَلَّكتُم المُشترط والمعاقد (¬1) والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين، وإن ملكتموه البعض دون البعض تناقضتم، وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملكه؛ ولن تجدوا إليه سبيلًا. فصل [رد الجمهور على أجوبة المانعين] قال الجمهور: أما دعواكم النسخ [فإنها دعوى] (¬2) باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين اللَّه، ولا يحل العمل بها، وتجب مخالفتها، وليس معكم برهان قاطع بذلك؛ فلا تسمع دعواه، وأين التحاكم (¬3) إلى الاستصحاب والتثبت (¬4) به ما أمكنكم؟ وأما تخصيصها فلا وجه له، وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم، وذلك غير جائز إلا ببرهان من اللَّه ورسوله. وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة. وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد اللَّه بينها وبينه تعارض، وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب اللَّه في قوله: "ما كان من شرط ليس في كتاب اللَّه" (¬5)، ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعًا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل عُلمت من السنة؛ فعُلم أنَّ المرادَ بكتاب اللَّهِ حُكمُه كقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كتابُ اللَّه القصاصُ" (¬6) في ¬

_ (¬1) في (ق): "والعاقد". (¬2) في (ق): "فدعوى". (¬3) في المطبوع: "التجاؤكم"، وفي (ق): "فأين التحاكم". (¬4) في المطبوع: "والتسبب". (¬5) سبق تخريجه قريبًا. (¬6) رواه البخاري (2806) في (الجهاد): باب قول اللَّه عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} و (4500) في (التفسير): تفسير سورة البقرة: باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}، و (4611) في تفسير سورة المائدة: باب قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، ومسلم (1675) في (القسامة): باب إثبات القصاص في الأسنان، وما في معناها، من حديث أنس بن مالك.

كسر السن فكتابُه سبحانه يُطلَق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم اللَّه فهو مخالف له فيكون باطلًا (¬1)؛ فإذا كان اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- قد حكم بأن الولاء للمُعتِق، فشرط خلاف ذلك يكون شرطًا مخالفًا لحكم اللَّه سبحانه، ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه [من العقود والشروط يكون باطلًا حرامًا] (¬2) [وتعديًا لحدوده] (¬3)؛ وتعدِّي حدود اللَّه هو تحريم ما أحلَّه اللَّه أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه، لا إباحة ما سكت عنه أو عفا عنه، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده. وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط (¬4) لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق، وهو ما أباح اللَّه سبحانه للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي مَلَّكه إياها، فيباشر من الأسباب ما يُحلُّه له بعد أن كان حرامًا عليه، أو يُحرِّمه عليه بعد أن كان حلالًا له، أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبًا، أو يُسقطه بعد وجوبه (¬5)، وليس في ذلك تغيير لأحكامه، بل كل ذلك من أحكامه سبحانه؛ فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط، وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا، فكما أن شراء (¬6) الأمة ونكاح المرأة يُحلُّ له ما كان حرامًا عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويُسقط عنه ما كان واجبًا عليه من حقوقها، كذلك التزامه (¬7) بالعقد والعهد والنذر (¬8) والشرط؛ فإذا ملك تغيير الحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له؛ وقد قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فأباح التجارة التي تراضَى بها المتبايعان؛ فإذا تراضيا على شرطٍ لا يخالف حكم اللَّه جاز لهما ذلك، ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزماه ولا ألزمهما اللَّه و [لا] (¬9) رسوله به، ولا (¬10) يجوز إلزامهما بما لم يلزمهما اللَّه ورسوله به ولا هما التزماه ولا إبطال ما شَرطَاهُ مما لم يحرم اللَّه ورسوله عليهما شَرْطَه، ومُحرِّم الحلال كمحلل الحرام، فهؤلاء ألغوا من شروط ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" (4/ 24). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "لم يكن باطلًا". (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "الشروط". (¬5) في المطبوع: "أو يسقط وجوبه بعد وجوبه". (¬6) في (ق): "سرى". (¬7) في (ن): "إلزامه". (¬8) في (ن): "كالنذر". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في (ق): "فلا".

فصل [أخطاء القياسيين]

المتعاقدين ما لم يلغه اللَّه ورسوله (¬1)، وقابلهم آخرون من القياسيين (¬2) فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه اللَّه ورسوله، وكلا القولين خطأ، بل الصوابُ إلغاءُ كل شرط خالف حكم اللَّه، واعتبار كل شرط لم يحرمه اللَّه ولم يمنع منه، وباللَّه التوفيق. فصل [أخطاء القياسيين] وأما أصحاب الرأي والقياس [فإنهم] (¬3) لمَّا لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها؛ وغلاتُهم على أنها لم تفِ بعُشر معشارها فوسَّعوا (¬4) طرق الرأي والقياس، وقالوا بقياس الشَّبَه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يُعلم أن الشارع عَلَّقها بها، واستنبطوا عللًا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا فتارة يُقدِّمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النَّص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنَّها شُرعت على خلاف القياس؛ فكان خطؤهم من خمسة أوجه: أحدها: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث. الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس. الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان هو العدل، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به هذه (¬5) الأحكام. الرابع: اعتبارهم عللًا وأوصافًا [لم يُعلم اعتبار الشارع لها وإلغاؤهم عللًا وأوصافًا] (¬6) اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه. الخامس: تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضًا. ونحن نعقد ههنا ثلاثة فصول: ¬

_ (¬1) زاد بعدها في (ن): "عليهما". (¬2) في (ق): "قياسين". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "وسعوا". (¬5) في (د): "من هذه". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ما"، وفي (ق): "وأوصافًا ما لم يعلم. . . ".

الفصل الأول [شمول النصوص وإغناؤها عن القياس]

الفصل الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. الفصل الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس، وبطلانها مع وجود النص. الفصل الثالث: في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح، وليس فيما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح. وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما هو عامُّ الرسالة إلى كل مكلف فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه ودقيقه وجليله، فكما لا يخرج أحدٌ عن رسالتِه فكذلك لا يخرج حكمٌ تحتاج إليه الأمة عنها وعن بيانه له، ونحن نعلم أنا لا نوفِّي هذه [الفصول] (¬1) حقَّها ولا نقارب، وأنَّها أَجلُّ من علومنا وفوق إدراكنا، ولكن ننبه أدنى تنبيه ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها وينهج طرقها، واللَّه المستعان وعليه التكلان. الفصل الأول [شمول النصوص وإغناؤها عن القياس] في شمول النصوص وإغنائها (¬2) عن القياس. وهذا يتوقف على بيان مقدمة، وهي أن دلالة النصوص نوعان: حقيقية، وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة [فكره] (¬3) وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافًا متباينًا بحسب تباين السامعين في ذلك، وقد كان أبو هريرة وعبد اللَّه بن عمر (¬4) أحفظَ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له، وكان الصِّدِّيقُ وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما، بل عبد اللَّه بن عباس أيضًا أفقه منهما ومن عبد اللَّه بن عمر، وقد أنكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على عمر فهمه إتيانَ البيتِ الحرام عام الحُدَيبية من إطلاقِ قوله: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) في (ن): "استغناؤها". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "عمرو"، وله وجه.

"إنك ستأتيه وتطوف به" (¬1) فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه، وأنكر على عديّ بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفسَ العقالين (¬2)، وأنكر على مَنْ فهم من قوله: "لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبه مثقالُ حبة خَرْدلةٍ من كِبْر" شمول لفظه لحسْن الثوب وحُسن النعل، وأخبرهم أنه: "بَطرُ الحق وغَمطُ الناس" (¬3) وأنكر على من فهم من قوله: "مَنْ أحبَّ لقاء اللَّه أحبَّ اللَّه لقاءَه، ومن كره لقاءَ اللَّهِ كره اللَّه لقاءه" أنه كراهة الموت، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احْتُضِرَ وبُشِّر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء اللَّه، واللَّه يكره لقاءه، وأن المؤمن إذا احْتُضِرَ وبُشِّر بكرامة اللَّه أحَبَّ لقاء اللَّه وأحبَّ اللَّه لقاءه (¬4)، وأنكر ¬

_ (¬1) هو جزء من الحديث الطويل في صلح الحديبية رواه البخاري (2731 و 2732) في (الشروط): باب الشروط في الجهاد، من حديث المِسور بن مخرمة ومروان. وانظر: "مرويات غزوة الحديبية". (¬2) أخرج البخاري في "صحيحه" (كتاب التفسير): باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ} (8/ 182/ رقم 4059)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيام): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، (2/ 766 - 767/ رقم 1090) عن عدي بن حاتم؛ قال: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]؛ قال له عدي بن حاتم: يا رسول اللَّه! إِني أجعل تحت وسادتي عِقاليْن: عقالًا أبيضَ وعِقالًا أسود، أعرف الليل من النهار. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِن وسادتك لعريض، إِنما هو سواد الليل وبياض النهار" لفظ مسلم. وأخرج البخاري في "صحيحه" (رقم 4511)، ومسلم في "صحيحه" (رقم 1091) عن سهل بن سعد؛ قال: أنزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ}، ولم ينزل: {مِنَ الْفَجْرِ}، وكان رجال إِذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما؛ فانزل اللَّه بعده: {مِنَ الْفَجْرِ}؛ فعلموا أنما يعني الليل من النهار. (¬3) رواه مسلم (91) في (الإيمان): باب تحريم الكبر وبيانه، من حديث ابن مسعود. و"بطر الحق": التكبر عليه فلا يقبله، و"غمط الناس": احتقارهم، والإزدراء بهم (ط). ووقع في (ك) و (ق) بدل "حبة خَرْدلة"، "ذرة". (¬4) رواه البخاري (6507) في (الرقاق): باب من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه، من حديث عبادة بن الصامت، وفي الباب عن عائشة، رواه مسلم (2684) في (الذكر والدعاء): باب من أحب لقاء اللَّه أحب اللَّه لقاءه. . .، وعلقه البخاري بعد (6507). وعن أَبي هريرة: رواه مسلم أيضًا (2685).

على عائشة (¬1) إذ فهمت من قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] معارضته لقوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-]: "مَنْ نُوقش الحِسَاب عُذِّبَ" وبيَّن لها أن الحساب اليسير هو العَرْض، أي حساب العرض لا حساب المناقشة (¬2)، وأنكر على مَنْ فهم من قوله [تعالى] (¬3): {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحدٌ من عمل السوء، وبيَّن لهم أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بِالهَمِّ (¬4) والحَزَنِ والمرض والنَّصبِ وغير ذلك من مصائبها، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة (¬5)، وأنكر على مَنْ فهم من قوله [تعالى] (3): {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] (3)} [الأنعام: 82] أنه ظُلم ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "أم سلمة". (¬2) الحديث أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب التفسير): باب: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)}، (8/ 697/ 4939)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها) (4/ 2204/ 2876)، عن عائشة -رضي اللَّه عنها- وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ن): "بالغَمِّ". (¬5) في هذا حديث أَبي بكر الصديق: رواه أحمد في "مسنده" (1/ 11)، وهناد (49)، وأبو يعلى (98 و 99 و 100 و 101)، والطبري (10523 - 10528)، والمروزي في "مسند أبي بكر" (111 و 112)، وابن حبان (2910 و 2926)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (394)، والحاكم (3/ 74 - 75)، والبيهقي (3/ 373) من طرق عن إِسماعيل بن أَبي خالد عن أَبي بكر بن أَبي زهير عنه قال: يا رسول اللَّه! كيف الصلاح بعد هذه الآية: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، وكل شيء عَمِلنا جُزينا به؟! فقال: "غفر اللَّه لك يا أبا بكر ألست تمرض، ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء؟ " قلت: بلى! قال: "هو ما تجزون به"، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قلت: هذا إسناد ضعيف: أبو بكر بن أبي زهير لم يدرك أبا بكر الصديق، ثم هو لم يذكر بجرح ولا تعديل. ورواه أبو يعلى (18)، و (99)، والطبري (10521 و 10522 و 10529 و 10533 و 10534)، والترمذي (3039)، والحاكم (3/ 552 - 553) من طرق عن أبي بكر وكل أسانيده فيها مقال لا أطيل ذكرها وانظر: "علل الدارقطني" (1/ 284 و 285). وفي الباب عن عائشة: رواه أحمد (6/ 65 - 66)، وأبو يعلى (4675)، و (4839)، وابن حبان (2923)، قال الهيثمي (7/ 12): رواه أحمد وأبو يعلى ورجالهما رجال الصحيح. أقول: فيه يزيد بن أَبي يزيد ليس من رجال الصحيح، ذكره البخاري وابن أَبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقد روى عنه جمع. وروى مسلم (2574) في (البر والصلة): باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض من حديث أبي هريرة قال: لما نزلت {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} بلغت من المسلمين مبلغًا =

النَّفس بالمعاصي، وبيَّن لهم أنه الشرك، وذَكَر قولَ لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] (¬1) مع أن سياق اللفظ عند (¬2) إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك؛ فإن اللَّه سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] ولَبْسُ الشيء بالشيء تغطيتهُ به وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمانَ ويحيطُ به ويلبسه إلا الكفرُ، ومن هذا قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} [البقرة: 81] فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدًا، فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به، ومع أن سياق قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 81] ثم حُكمُ اللَّه أعدلُ حُكمٍ وأصدقُه أَنَّ مَنْ آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهُدى، فدل على أن الظلم الشِّرك، وسأله عمر بن الخطاب (¬3) -رضي اللَّه عنه- عن الكَلالَة وراجعه فيها مرارًا، فقال: تكفيك آية الصَّيف (¬4)، ¬

_ = شديدًا فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قاربوا وسددوا، ففي كل ما يصاب به المسلم كفارة، حتى النكبة يُنْكبها أو الشوكة يشاكها"، وانظر له -لزامًا- "غرر الفوائد المجموعة" (رقم 19 - بتحقيقي ضمن "الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح". (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الإيمان): باب ظلم دون ظلم (1/ 87/ رقم 32)، و (كتاب الأنبياء): باب قول اللَّه -تعالى-: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (6/ 389/ رقم 3360)، و (كتاب أَحاديث الأنبياء): باب قول اللَّه -تعالى-: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} (6/ 465/ رقم 3428، 3429)، و (كتاب التفسير): باب {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (8/ 294/ رقم 4629)، وباب سورة لقمان (8/ 513/ رقم 4776)، و (كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم): باب إِثم من أشرك باللَّه وعقوبته في الدنيا والآخرة (12/ 264/ رقم 6918)، وباب ما جاء في المتأولين، (12/ 303/ رقم 6937)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الإيمان): باب صدق الإيمان وإِخلاصه، (1/ 114 - 115/ رقم 124)، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. وقال بعض أهل العلم: "فتكون الآية {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} من قبيل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} فلا يقال: كيف يتأتى لبس الإيمان بالشرك، ولا يوجد الإيمان معه؟! وفي قصة الصحابة في الآية، والحديث الدلالة الواضحة على أَن هذه المطلقات من النواهي غير الصريحة لم تحدد تحديدًا يوقف عنده؛ فهي في الآية والحديث في أعلى مراتب النهي، وقد فهم الصحابة أنها شاملة للمراتب الأخرى". (¬2) في (ق): "مع". (¬3) في (ق): "عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-". (¬4) هي آية الكلالة التي في آخر النساء؛ لأنها نزلت في الصيف، أما الأولى نزلت في الشتاء (و).

واعترف عمر بأنه خَفِيَ عليه فهمهما وفهمها الصديق (¬1)، وقد نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لحومِ الحُمرِ الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تُخمَّس وفهم بعضهم أن النهي لكونها (¬2) كانت حمولة القوم وظهورهم، وفهم بعضهم [أنه لكونها] (¬3) كانت جوَّالي القرية، وفهم علي بن أبي طالب وكبار الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ما قَصَدَه [رسول اللَّه] (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنهي وصَرَّح بعلَّته من كونها رجسًا (¬5)، وفهمت المرأة ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" (567) في (المساجد): باب نهي من أكل ثومًا أو بصلًا أو كراثًا أو نحوها، و (1617) في (الفرائض)، باب ميراث الكلالة من حديث عمر، وانظر: "سنن سعيد بن منصور" (رقم 587، 591) تحقيق الشيخ سعد الحميد حفظه اللَّه، ووقع في (ق): "خفي عليه فهمها وفهمها". (¬2) في (ك) و (ق): "لأنها". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "أنها". (¬4) في (ق): "النبي". (¬5) النهي عن لحوم الحمر ثابت من حديث جابر: رواه البخاري (4219) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5520) في (الذبائح): باب لحوم الخيل، و (5524) باب لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1941) في (الصيد): باب في أكل لحوم الخيل. ومن حديث أنس: رواه البخاري (2991) في (الجهاد): باب التكبير عند الحرب، و (4199) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5528) في (الذبائح): باب لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1940) في (الصيد): باب تحريم أَكل الحمر الإنسية، ومن حديث ابن عمر: رواه البخاري (4217)، و (5521)، و (5522)، ومسلم (561) (24)، و (25). ومن حديث البراء بن عازب رواه البخاري (4221 و 4223 و 4225 و 4226)، ومسلم (1938) (28)، و (29) وفي بعضها عن البراء وعبد اللَّه بن أَبي أوفى، ومن حديث سلمة بن الأكوع في "الصحيحين" أيضًا. وحديث علي رواه البخاري (4216) و (5115) و (5523) و (6961)، ومسلم (1407)، وأما ما ورد عن الصحابة فقد روى البخاري (4227)، ومسلم (1939) عن ابن عباس قوله: "لا أدري إنما نهى عنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أجل أنه كان حمولة الناس. . . أو حرّمه في يوم خيبر. . وروى البخاري في "الصحيح" (4220)، ومسلم في "الصحيح" (1937) من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى قال. . . وتحدثنا بيننا فقلنا: حرَّمها ألبتة وحرمها من أجل أنها لم تخمس. وروى البخاري أَيضًا في "صحيحه" (4420) من حديث ابن أبي أوفى، وفيه: "وقال بعضهم: نهى عنها ألبتة؛ لأنها كانت تأكل العذرة. وقد ورد في حديث أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حرمها من أجل جوال القرية، رواه أبو داود (3809)، وابن أبي شيبة (8/ 87)، وابن سعد (6/ 48)، والطبراني (18/ 664) (665) (666)، و (667)، والبيهقي (9/ 332) من حديث غالب بن أبجر، وفي سنده اضطراب واختلاف، كما قال البيهقي وغيره، وانظر: "نصب الراية" (4/ 196).

من قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] جواز المُغَالاة في الصَّداق فذكرته لعمر فاعترف به (¬1)، وفهم ابن عباس من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تَلدُ لستة أشهر، ولم يفهمه عثمان فهمَّ برجم امرأة ولدت لها حتى ذكَّره به ابنُ عباس فأقر به (¬2)، ولم يفهم عمر من قوله: ¬

_ (¬1) الأثر لا يصح وسيأتي تخريجه. (¬2) رواه عبد الرزاق (13446)، ومن طريقه الطبري في "تفسيره" (4952) عن معمر، وابن شبّة في "تاريخ المدينة" (3/ 977) عن يونس كلاهما عن الزهري عن أَبي عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف قال: رفع إِلى عثمان. . . فذكره، ورجاله ثقات، وأبو عبيد صوابه مولى عبد الرحمن بن أزهر اسمه سعد بن عبيد ثقة، ورواه سعيد بن منصور في "سننه" (2075)، وعبد الرزاق (13447)، وابن أَبي حاتم في "التفسير" (2/ 428 رقم 2265)، وعنه ابن شبة في "تاريخ المدينة" (3/ 978) من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن قائد لابن عباس فذكره. وعزاه في "الدر المنثور" (1/ 688) لوكيع وابن أبي حاتم وله طرق أخرى عن ابن عباس دون ذكر قضية عثمان مع المرأة. وقد ورد نحو هذا الفهم أيضًا عن عدة من الصحابة فأخرج مالك في "الموطأ" (2/ 825 - رواية يحيى)، ومن طريقه إسماعيل بن إِسحاق القاضي في "أحكام القرآن"، وكما في "المعتبر" (رقم 208)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 442 - 443) أنه بلغه أَن عثمان بن عفان أتي بامرأة قد ولدت في ستة أشهر، فامر بها أَن ترجم، فقال له علي بن أَبي طالب: ليس ذلك عليها، وقد قال اللَّه -تعالى- في كتابه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}، وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} قال: فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل ستة أشهر. ووصله ابن أبي ذئب في "موطئه"، كما في "الاستذكار" (24/ 73)، ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" (35/ 102)، وابن شبة في "تاريخ المدينة" (3/ 979)، وابن أَبي حاتم في "تفسيره"، ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (2/ 214) من طريق يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط عن بعجة بن عبد اللَّه الجهني به مطولًا، قال ابن حجر: "وهذا موقوف صحيح"، وقال: "وأظن مالكًا سمعه من ابن قسيط؛ فإِنه من شيوخه". ثم قال: وقد أخرج إِسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بسندٍ له فيه رجل مبهم عن ابن عباس أنه جرى له مع عثمان في نحو هذه القصة الذي جرى لعلي؛ فاحتمل أن كان محفوظًا أن يكون تواقق معه، وأما احتمال التعدد؛ فبعيد جدًا". وما جرى بين ابن عباس مع عثمان هي رواية ثقات أهل مكة، والرواية الأولى رواية أهل المدينة، وأهل البصرة يروونها لعمر عن علي؛ كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" (3/ 979)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 442). وانظر: "الاستذكار" (24/ 74 - 75)، و"المعتبر" (ص 194) للزركشي، و"تفسير ابن كثير" (4/ 136، 157).

"أُمرت أن أقاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عَصموا مِنِّي دِماءَهم وأَموالَهم إلا بحقها" قتال مانعي الزكاة حتى بَيّن له الصديق فأقرَّ به (¬1)، وفهم قُدامة بن مَظْعون من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] رفع الجُناح (¬2) عن الخَمْر حتى بَيَّن له عمر أنه لا يتناول الخمر (¬3)، ولو تأمَّل سياق الآية لفهم المراد منها، فإنه إنما رفع الجُناح عنهم فيما طعموه مُتَّقين له فيه، وذلك إنما يكون باجتناب ما حَرَّمه من المطاعم؛ فالآية لا تتناول المحرَّم بوجه ما، وقد فهم من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] انغماس الرجل في العدو حتى بَيَّن له (¬4) أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التَّهلُكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضات اللَّه، وأن الإلقاء [بيده] (¬5) إلى التهلكة هو الإقبال على الدنيا وعمارتها وترك الجهاد (¬6)، وقال الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتَضَعُونها على غير مواضعها (¬7): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ الناس إذا ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك عند البخاري في "الصحيح" (كتاب الزكاة): باب وجوب الزكاة (3/ 262/ رقم 1399، 1400)، و (كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم): باب قتل من أبى قبول الفرائض وما نسبوا إلى الردة (12/ 275/ رقم 6924، 6925) مع كلام الشارح ابن حجر في "الموطن الثاني"، وانظر "مسند الفاروق" (2/ 672 - 673) لابن كثير رحمه اللَّه. (¬2) في (ق): "أنه رفع للجناح". (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر بنحوه؛ كما في "الدر المنثور" (3/ 174)، والقاضي إِسماعيل في "الأحكام"، وابن شبة في "تاريخ المدينة" (3/ 842 - 844)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 315)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 56). (¬4) في (ق): "لهم". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) رواه أبو داود (2512) في (الجهاد): باب في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} والترمذي (2972) في "التفسير": باب ومن سورة البقرة، والطبري (3179)، و (3180)، والطبراني في "الكبير" (4060)، والحاكم (2/ 275)، والبيهقي (9/ 99) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبى عمران قال:. . . فذكر قصة أبي أيوب وذاك الرجل وقال الترمذي: حسن صحيح غريب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفي (ك): "هو ترك الجهاد والإقبال على الدنيا وعمارتها". (¬7) في (ق): "موضعها".

رَأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهُم اللَّه بعقاب من عنده" (¬1) فأخبرهم أنهم يضعُونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلافَ مَا أريد بها، وأشكل على ابن عباس أمْرُ الفِرْقَةِ الساكتة التي لم ترتكب ما نُهيت عنه من اليهود: هل عُذِّبُوا أو نَجَوا حتى بين له مولاه عِكْرِمة دخولهم في الناجين دون المعذبين، وهذا هو الحق؛ لأنه سبحانه قال عن الساكتين: {وَإِذْ [قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ] (¬2) لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم، وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به مَن أدَّى الواجب عنهم، فإن ¬

_ (¬1) رواه الحميدي (3)، وأحمد (1/ 522، 527)، وابن أبي شيبة (ق 11/ أ)، وعبد بن حميد (1 - "المنتخب") في "مسانيدهم"، وأَبو داود في (الملاحم): (4338) باب الأمر والنهي، والترمذي (2168) في "الفتن": باب ما جاء في نزول العذاب إِذا لم يغير المنكر، و (3057) في "التفسير": باب ومن سورة المائدة، وابن ماجه (4005) في "الفتن": باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمروزي في "مسند أبي بكر" (86 - 89)، والبزار في "مسنده" (رقم 65، 68)، وأبو يعلى في "مسنده" (128 و 130 و 131 و 132)، وابن حبان (304 و 305)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1165 - 1170)، وابن أبي الدنبا في "الأمر بالمعروف" (رقم 1، 40)، والضياء في "المختارة" (رقم 54، 60)، والطبري في "التفسير" (7/ 98)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (رقم 62، 63)، والطبراني في "مكارم الأخلاق" (رقم 79)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (528)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 91)، والخطيب في "الفصل والوصل" (ق 7/ أ)، والخطابي في "العزلة" (ص 103) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (رقم 123)، والذهبي في "معجم الشيوخ" (1/ 120)، وابن الجوزي في "نواسخ القرآن" (ص 381)، من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن حازم عن أبي بكر الصديق مرفوعًا به. والذين رووه عن إسماعيل مرفوعًا أكثر من عشرين نفسًا ذكرهم الدارقطني في "علله" (1/ 251). وقد رواه بعضهم عن إسماعيل فوقفوه على أبي بكر. قال البزار: والحديث لمن زاد فيه إذا كان ثقة. وقال أبو زرعة كما في "علل ابن أبي حاتم" (2/ 98): وأحسب إسماعيل بن أبي خالد كان يرفعه مرة ويوقفه مرة. أقول: يظهر أن هذا ليس من إسماعيل بل من قيس بن أبي حازم: فقد رواه أبو يعلى (129) من طريق الحكم عن قيس به موقوفًا، لذلك قال الدارقطني: وجميع رواة هذا الحديث ثقات (أي من وصل ومن وقف)، ويشبه أن يكون قيس بن أبي حازم كان ينشط في الرواية مرة فيسنده ومرة يجبن عنه فيوقفه على أبي بكر. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين، فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم، وأيضًا فإن اللَّه سبحانه إنما عذب الذين نَسُوا ما ذُكِّروا به وعَتْوا عمَا نُهوا عنه، وهذا لا يتناول الساكتين قطعًا، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كَسَاه بُرْدَة [وفرح به] (¬1)، وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] السورة؟ قالوا: أمر اللَّه نبيَّه إذا فَتحَ عليه أن يستغفره، فقال لابن عَبَّاس: ما تقول أنت؟ قال: هو أجلُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أعلمه إيَّاه، فقال: ما أعلمُ منها غيرَ ما تَعلم (¬2)، وهذا من أدق الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد، فإنه سبحانه لم يُعلِّق الاستغفار بعلمه (¬3)، بل علّقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة من فَتْحِه على رسوله ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسببٍ للاستغفار، فعلم أن سببَ الاستغفار غيرُه (¬4)، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة اللَّه على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرًا مطهرًا من كل ذنب فيقدم عليه مسرورًا راضيًا مرضيًا عنه، ويدل عليه أيضًا قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُسبِّح بحمده دائمًا (¬5)، فعلم أن المأمور به من ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 240)، ومن طريقه الطبري في "تفسيره" (15272) أخبرنا ابن جريج قال: حدثني رجل عن عكرمة قال: جئت ابن عباس يومًا فذكره مطولًا جدًا وإسناده ضعيف لإبهام الرجل. ورواه الطبري (15271) من طريق يحيى بن سليم عن ابن جريج عن عكرمة. . فأسقط منه الرجل المبهم، ورواه الطبري (15269)، و (15270) من طريق حماد عن داود عن عكرمة عن ابن عباس. . . وهو مختصر. ورواية داود بن الحصين عن عكرمة ضعيفة، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه البخاري (3627) في (المناقب): باب علامات النبوة في الإسلام، و (4294) في (المغازي): باب منزل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم الفتح، و (4430) باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته، و (4969) في "التفسير" باب قوله: {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)}، و (4970) باب قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} من حديث ابن عباس عن عمر. (¬3) في المطبوع: "بعمله" وقال في هاش (ق): "لعله: بعمله" ثم ضرب عليه. (¬4) في (ن): "فعلم أنه غيره". (¬5) روى مسلم في "صحيحه" (484) (218) من حديث عائشة قالت: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكثر من قول: "سبحان اللَّه وبحمده، استغفر اللَّه وأتوب إليه" قالت: قلت: يا رسول اللَّه ما هذه الكلمات التي أراك أحدثتها تقولها؟! قال: "جعلت لي علامة في أمتي إِذا رأيتها =

ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمرٌ أكبر (¬1) من ذلك المتقدم، وذلك مقدمةٌ بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي تُرقيه إلى ذلك المقام بقيةٌ فأمره بتوفيتها، ويدل عليه أيضًا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال (¬2)، فشرعها (¬3) في خاتمة الحج وقيام الليل، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سَلَّم من الصلاة استغفر ثلاثًا (¬4)، وشرع للمتوضئ [بعد كمال وضوئه أن يقول] (¬5): "اللَّهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهرين" (¬6) فعُلم أن التوبةَ مشروعةٌ عَقيب الأعمال الصالحة، فأمر رسولَه ¬

_ = قلتها: إِذا جاء نصر اللَّه والفتح. . . " إلى آخر السورة. وروى البخاري (794)، و (817)، و (4293)، و (4967)، و (4968)، ومسلم (484) من حديث عائشة أيضًا قالت: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي" يتأول القرآن. وفي إحدى روايات البخاري: ما صلى بعد أن نزل عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} صلاةً إلا يقول فيها: "سبحانك ربنا. . . " وسقطت "دائمًا" من (ق). (¬1) في (ق): "ودخول الناس في الدين أمر أكثر من ذلك". (¬2) انظر: "مدارج السالكين" (1/ 175)، و (2/ 62، 426)، و (3/ 435)، و"جلاء الأفهام" (ص: 188)، و"طريق الهجرتين" (ص: 371)، و"التبيان في أقسام القرآن" (ص: 59، 184). (¬3) في (ق): "فشرعه". (¬4) رواه أحمد (5/ 275)، و (279)، و (280)، ومسلم (591) في (المساجد): باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، من حديث ثوبان، وسقطت "ثلاثًا" من (ق). (¬5) في (ق): "أن يقول بعد كمال وضوئه". (¬6) رواه الترمذي (55) في (الطهارة): من طريق زيد بن حباب عن معاوية عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني وأبي عثمان عن عمر. وقال: "حديث عمر قد خولف زيد بن الحباب في هذا الحديث وروى عبدُ اللَّه بن صالح وغيره عن معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إِدريس عن عقبة بن عامر عن عمر، وعن ربيعة عن أبي عثمان عن جُبير بن نُفير عن عمر. وهذا حديثٌ في إسناده اضطراب، ولا يصح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب كبير شيء. وقال الحافظ ابن حجر في "أمالي الأذكار" -كما في "الفتوحات الربانية" (1/ 19) -: وهذه الزيادة التي عند الترمذي لم تثبت في هذا الحديث فإن جعفر بن محمد تفرد بها ولم يضبط الإسناد. . . ثم قال: وقد وجدت للزيادة شاهدًا من حديث ثوبان أخرجه الطبراني، قلت: هو عند الطبراني في "الأوسط"، كما ذكر الهيثمي في "المجمع" (1/ 239)، وقال: تفرد به مسور بن مورع ولم أَجد من ترجمه، وفيه أحمد بن سهيل الوراق ذكره ابن حبان في: =

بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجًا، فكأنَّ التبليغَ عبادةٌ قد أكملها وأدَّاها، فشُرع له الاستغفارُ عقيبها، والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم [منها] (¬1) عشرة أحكام أو (¬2) أكثر من ذلك، ومنهم من [يقتصر فهمُه] (¬3) على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائِه [وإشارته وتنبيهِه] (¬4) واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر (¬5) متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يَنْتبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، وهذا كما فهم ابنُ عباس من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تَلِدُ لستة أشهر (¬6)، وكما فهم الصدِّيقُ من آية الفرائض في أول السورة وآخرهَا أن الكلالةَ مَنْ لا ولدَ له ولا والِد، وأسقط الإخوةَ بالجدِّ (¬7)، وقد أرشد النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجَعَه ¬

_ = "الثقات"، وهو في "الكبير" من حديث ثوبان، وليس فيه هذه الزيادة (1441)، وفي إسناد "الكبير" أبو سعيد البقال، والأكثر على تضعيفه. وقال الحافظ ابن حجر: وله شاهد آخر غريب من حديث البراء. وانظر: "نتائج الأفكار" (1/ 237 - 241). قلت: وللشيخ أحمد شاكر على حديث الباب كلام يستحق النظر. وانظر: "زاد المعاد" (1/ 95). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "و". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك) والمطبوع: "يقتصر في الفهم". (¬4) في (ق): "وتنبيهه وإشارته". (¬5) في (ن): "بضم النص إلى نص آخر". (¬6) بيان ذلك أننا إِذا طرحنا الحولين -مدة الرضاع- من الثلاثين شهرًا مدة الحمل والفصال؛ لبقي معنا ستة أشهر وهي المدة التي استنتجها ابن عباس -رضي اللَّه عنه- التي قد تلد المرأة لها (ط). قلت: والأثر سبق تخريجه. (¬7) قول أبي بكر في الكلالة: رواه عبد الرزاق (10/ 304 رقم 19191)، وابن جرير في "التفسير" (8/ 54 رقم 8747، 8745، 8746)، وابن أبي شيبة (11/ 415 - 416)، والدارمي (1/ 365)، وسعيد بن منصور في "السنن" (رقم 591)، والبيهقي (6/ 223، 224)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 199) من طريق الشعبي عن أبي بكر، وهو منقطع الشعبي لم يدرك أبا بكر، وعزاه ابن حجر في "التلخيص" (4/ 195) لكتاب =

[المسألة المشتركة في الفرائض]

السؤال فيها مرارًا، فقال: يكفيك آية الصَّيْف (¬1)، وإنما أشكل على عمر قولُه: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176]، الآية، فدلَّه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما يبيِّن له المراد منها وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف، فإنه وَرَّثَ فيها ولَدَ الأم في الكلالة (¬2) السدس، ولا ريبَ أنَّ الكلالةَ فيها مَنْ لا ولد له ولا والد، وإن عَلَا. ونحن نذكر عدة مسائل مما اختلف فيها السَّلَفُ ومَنْ بعدهم، قد (¬3) بينتها النصوص، ومسائل قد احتُجُّ فيها بالقياس وقد بيَّنها النَّصُ وأغنى فيها عن القياس. [المسألة المشتركة في الفرائض] المسألة الأولى: [المشتركة في الفرائض] (¬4)، وقد دل القرآن على اختصاص ولَدِ الأم فيها بالثلث، بقوله (¬5) تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وهؤلاء ولد الأم، فلو أدخلنا معهم ولد الأبوين لم يكونوا شركاء في الثلث بل يزاحمهم فيه غيرهم، فإن قيل: بل وَلدُ الأبوين منهم، إلغاء لقرابة الأب، قيل: هذا وهم، لأن اللَّه سبحانه قال (¬6) في أول الآية: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] ثم قال: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فذَكَرَ حُكمَ واحدهم وجماعتهم حكمًا يختص به الجماعة منهم كما يختص به واحدُهُم، وقال في ولد الأبوين: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ¬

_ = "الحجة" لقاسم بن محمد من طريق ابن سيرين عن أبي بكر وقال: وهو منقطع وفي (ك) و (ق): "بالأب" وسقطت "وقد" من (ق). (¬1) الحديث في "صحيح مسلم" وقد سبق تخريجه قريبًا. (¬2) في (ق) و (ك): "بالكلالة". (¬3) في (د): "وقد" ووقع في (ق): "عدة مسائل مما عليه السلف ومن بعدهم قد". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ط): "المشتركة" وفي (ك) و (ق): "المشركة"، وانظر عنها: "شرح الرحبية" (ص 50 - 52)، "العذب الفائض" (1/ 101 - 102)، "عدة الباحث" (31 - 32). (¬5) في (ك) و (ق): "لقوله". (¬6) في (ن): "ذكر".

الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فذكر حكم ولد الأب والأبوين واحدُهُم وجماعتهم، وهو حكم يختص به جماعتهم [كما يختص به واحدهم] (¬1) فلا يشاركهم فيه غيرُهُم، فكذا حكم ولد الأم، وهذا يدل على أن أحد الصِّنفين غيرُ الآخر، فلا يشارك أحدُ الصنفين الآخر، وهذا الصنف الثاني هو ولد الأبوين أو الأب بالإجماع (¬2)، والأول هو ولد الأم بالإجماع، كما فسَّرته قراءةُ بعض الصحابة (¬3): "من أم" وهي تفسيرٌ وزيادةُ إيضاح، وإلا فذلك معلوم من السياق ولهذا ذكر سبحانه ولد الأم في آية الزوجين، وهم أصحاب فرض مُقَدَّر لا يخرجون عنه، ولا حَظَّ لأحد منهم في التعصيب، ولم يذكر فيها أحدًا من العصبة، بخلاف ذكر (¬4) في آية العمودين الآية التي قبلها؛ فإن لجنسهم حظًا في التعصيب، ولهذا قال في آية الإخوة من الأم والزوجين: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] ولم يقل ذلك في آية العمودين، فإن الإنسان كثيرًا ما يَقْصِدُ ضِرَار الزوجين (¬5) وولد الأم لأنهم ليسوا من عصبته، بخلاف أولاده وآبائه فإنه لا يضَارهم في العادة، فإذا (¬6) كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث لم يجز تنقيصهم منه، وأما ولد الأبوين فهم جنس آخر وهم عصبته (¬7) وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألِحْقُوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأوْلى رَجلٍ ذَكَر" (¬8) وفي ¬

_ (¬1) في (ن): "كواحدهم". (¬2) في (ن): "والصنف الثاني هو ولد الأبوين والأب بالإجماع". (¬3) أخرج الدارمي (2/ 366)، وابن أبي شيبة (11/ 416 - 417)، وسعيد بن منصور (3/ 1187)، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (رقم 589)، والطبري (8/ 61 - 62/ ط شاكر)، والبيهقي (6/ 333، 231) من طريق القاسم بن عبد اللَّه بن ربيعة بن قانف أن سعدًا كان يقرؤها: "وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم"، والقاسم لم يرو عنه إلا يعلى بن عطاء، ووثقه ابن حبان (5/ 302)، وانظر: "التهذيب" (8/ 320). وعزاه في "الدر المنثور" إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر وذكر أبو حيان في "البحر المحيط " (3/ 160) أن هذه قراءة أُبيّ وقال ابن المنذر في "الإجماع" (ص 83): "وأجمعوا أن مراد اللَّه عز وجل في الآية في أول سورة النساء الأخوة من الأم، وبالتي في آخرها الإخوة من الأب والأم "، وحكى هذا الإجماع الرازي (9/ 233 - 224) والقرطبي (5/ 78) في "تفسيريهما"، وانظر -غير مأمور-: "القراءات وأثرها في التفسير والأحكام" (2/ 761 - 764). (¬4) في المطبوع: "ما ذكر" وفي (ق): "من ذكر". (¬5) في (ق): "الزوج". (¬6) في (ق): "وإذا". (¬7) في (ن): "عصبة". (¬8) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب الفرائض): باب ميراث الولد من أبيه وأمه، =

هذه المسألة لم تُبْقِ الفرائضُ شيئًا، فلا شيء للعصبة بالنَّص، وأما قول القائس (¬1): "هَبْ أن أبانا كان حمارًا" فقول باطل حسًا وشرعًا، فإن الأبَ لو كان حمارًا لكانت الأم أتانًا، وإذا قيل: يُقدَّر وجوده كعدمه، قيل: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون كالمعدوم، وأما بطلانه شرعًا فإن اللَّه سبحانه حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم. فإن قيل: الأب إن لم ينفعهم لم يضرهم. قيل: بل قد يضرهم كما ينفعهم (¬2) فإن ولد الأم لو كان واحدًا وولد الأبوين مئة وفَضَل نصفُ سدس (¬3) انفرد ولد الأم بالسُّدُس، واشترك ولد الأبوين في نصف السدس، فهلَّا قبلتم (¬4) قولَهم ههنا: هَبْ أن أبانا كان حمارًا؟ وهلا قدَّرتم الأب مَعْدُومًا فخرجتم عن القياس كما خرجتم عن النص، وإذا جاز أن ينقصهم الأبُ جاز أن يحرمهم، وأيضًا فالقرابة المتصلة الملتئمة من الذكر والأنثى لا تفرق أحكامها، هذه قاعدة النسب في الفرائض وغيرها، فالأخ من الأبوين لا نجعله (¬5) كأخ من أب وأخ من أم فنعطيه السدس [فرضًا] (¬6) بقرابة الأم والباقي تعصيبًا بقرابة الأب. فإن قيل: فقد فرقتم بين القرابتين (¬7)، فقلتم في ابني عم أحدهما أخ لأم: يُعطى الأخ للأم بقرابة الأم السدسَ ويقاسم ابن العم بقرابة العمومة. قيل: نعم هذا قول الجمهور، وهو الصواب، وإن كان شُرَيْح ومَنْ قال (¬8) بقوله أعطى الجميع لابن العم الذي هو أخ لأم، كما لو كان ابن عم لأبوين، والفرقُ بينهما على قول الجمهور أن كليهما في بُنوَّة العم سواء، وأما الأخوة للأم فمستقلة ليست [مقترنة] (6) بأبوة حتى تُجعل كابن العم للأبوين، فههنا (¬9) قرابة الأم ¬

_ = (12/ 11/ رقم 6732)، وباب ميراث ابن الابن إذا لم يكن ابن، (12/ 16/ رقم 6735)، وباب ميراث الجد مع الأب والإخوة (12/ 18/ رقم 6737)، وباب أبناء عم أحدهما أخ لأم، والآخر زوج، (12/ 27/ رقم 6746)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الفرائض): باب ألحقوا الفرائض بأهلها (3/ 1233/ رقم 1615)، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬1) في (ن): "القياسيين". (¬2) في (ن): "بلى. . . ". (¬3) في (ن): "نصف السدس". (¬4) في (ق): "قلتم". (¬5) في (ن): "لا يحصل". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ن): "قد فرقتم أحكام القرابتين". (¬8) في (ك): "يقول". (¬9) في (ق): "فهنا".

[المسألة العمرية]

منفردة عن قرابة العمومة، بخلاف قرابة الأم في مسألتنا فإنها متحدة بقرابة الأب. ومما يبين أن عدم التشريك هو الصحيح أنه لو كان فيها أخوات لأب لفرض لهنَّ الثلثان وعالَت الفريضة، فلو كان معهن أخوهن سَقَطْنَ به، ويُسمَّى الأخ المشئوم، فلما كنَّ بوجوده يَصِرْن عصبة صار تارة ينفعهن، وتارة يضرهن ولم يجعل وجوده كعدمه في حال الضرار فكذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عَصَبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى، وهذا شأن العَصَبة فإن العَصَبة تارة تحُوزُ (1) المالَ وتارة تحوز (¬1) أكثره وتارة تحوز أقله وتارة تَخيبُ (¬2)؛ فمن أعطى العصبة مع استغراق الفروض المال (¬3) خرج عن قياس الأصول وعن موجب النص. فإن قيل: فهذا (¬4) استحسان. قيل: لكنه استحسان يخالف الكتاب والميزان، فإنه ظلمٌ للإخوة من الأم حيث يؤخذ ضهم ويُعطاه غيرهم، وإن كانوا يَعقِلُون عن الميت ويُنفِقون عليه لم يلزم من ذلك أن يشاركوا مَنْ لا يعقل ولا يُنفق في ميراثه، فعاقلة المرأة -من أعمامها وبني عمها وإخوتها- يعقلون عنها، وميراثها لزوجها وولدها كما قضى بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، فلا يمتنع أن يعقل ولدُ الأبوين ويكون الميراثُ لولد الأم. [المسألة العمرية] المسألة الثانية: العمريتان (¬6)، والقرآن يدل على قول جمهور الصحابة فيها كعمر وعثمان وعبد اللَّه بن مسعود وزيد بن ثابت: إن للأم ثُلثَ ما بقي بعد فَرْضِ [أحد] الزوجين (¬7)، وههنا طريقان: ¬

_ (¬1) في (ق): "يحوز". (¬2) في (ق): "يخيب". (¬3) في (ق): "للمال". (¬4) في (ق): "هذا". (¬5) أخرج البخاري (6745) (كتاب الفرائض): باب ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره عن أبي هريرة قال: قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميِّتًا بغُرَّة: عبد أو أمة ثم إنّ المرأة التي قضى عليها بالغرة توفِّيت، فقضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها. (¬6) العمريتان: هما: (زوج وأب وأم) و (زوجة وأم وأب)، انظر: "المغني" (6/ 279)، "الميراث في الشريعة الإسلامية" (ص 344). (¬7) أخرج البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 228)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 261 - =

أحدهما: بيان عدم دلالته على إعطائِها الثلث كاملًا مع الزوجين، وهذا أظهر الطريقين. والثاني: دلالته على إعطائها ثُلثَ الباقي، وهو أدقُّ وأخفى من الأول، أما الأول فإن اللَّه سبحانه إنَّما أعطاها الثلث كاملًا إذا انفرد الأبوان بالميراث، فإن قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] شرطان (¬1) في استحقاق الثلث: عدمُ الولد، وتفردُهما بميراثه، فإن قيل: ليس في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] ما يدل على أنهما تفردا بميراثه، قيل: لو لم يكن [تفردُهما] (¬2) شرطًا لم يكن في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] فائدة، وكان تطويلًا يغني عنه قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فلما قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] علم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على الأمرين، وهو سبحانه ذكر أحوالَ الأم كُلِّها نصًا وإيماء، فذكر أن لها السدس مع الإخوة، وأن لها الثلث كاملًا مع عدمِ الولد وتفرُّدِ الأبوين بالميراث، بقي لها ¬

_ = 262)؛ عن عكرمة قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أسأله عن زوج وأبوين، فقال زيد: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال. فقال ابن عباس: للأم الثلث كاملًا. وفي لفظ له: فأرسل إليه ابن عباس: "أفي كتاب اللَّه تجد هذا؟ قال: لا، ولكن أكره أن أفضّل أمًا على أب، قال: وكان ابن عباس يعطي الأم الثلث من جميع المال". وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" (رقم 19018)، والدارمي (2/ 250)، والبيهقي (6/ 228) في "سننيهما"، وسفيان الثوري في "الفرائض" (رقم 14)؛ عن إبراهيم قال: خالف ابن عباس أهل الصلاة في زوج وأبوين، فجعل النصف للزوج، وللأم الثلث من رأس المال، وللأب ما بقي" لفظ عبد الرزاق، ولفظ الدارمي: "وجعل للأم الثلث من جميع المال". وعلقه عنه ابن حزم في "المحلى" (9/ 260). وأسند عبد الرزاق (19017، 19019)، وابن أبي شيبة (11/ 238)، وسفيان (12، 15)، وسعيد بن منصور (9)، والدارمي (2/ 249)، والبيهقي (6/ 228)؛ بإسناد صحيح عن عثمان، وابن أبي شيبة (11/ 239، 240، 241)، وسعيد (6 - 8)، وسفيان (13 - 15)، وعبد الرزاق (19019)، والدارمي (2/ 2500)، والبيهقي (6/ 228)، وابن حزم (9/ 260)؛ عن عمر وابن مسعود (ثلاثتهم) قالوا بما قال به زيد بن ثابت في الأثر السابق. وانظر: "حلية العلماء" (6/ 281)، "التهذيب في الفرائض" (ص 199)، "موسوعة فقه ابن عباس" (1/ 132 - 136). وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬1) في المطبوع و (ن): "شرط أنَّ". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

حالة ثالثة -وهي مع عدم الولد وعدم تفرد الأبوين بالميراث- وذلك لا يكون إلا مع الزوج والزوجة، فإما أن تُعطى في هذه الحال الثلث كاملًا وهو خلاف مفهوم القرآن، وإما أن تُعطى السُّدس فإنَّ اللَّه سبحانه لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الإخوة، وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرضِ الزوجة (¬1) هو المال الذي يستحقه الأَبوان، ولا يشاركُهُما فيه مُشارِك، فهو (¬2) بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة، فإذا تقاسماه أثلاثًا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك. فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا ورثته الأم [مع] (¬3) مَنْ دون الأب كالجد والعم والأخ وابنه. قيل: إذا كانت تأخذ الثلث مع الأب فأخذُها له مع مَنْ دُونه من العصبات أولى، وهذا من باب التنبيه. فإن قيل: فمن أين أعطيتموها الثلثَ كاملًا إذا كان معها ومع هذه العَصَبة الذي هو دون الأب زوج أو زوجة، واللَّه سبحانه إنما جعل لها الثلث كاملًا إذا انفرد الأبوان بميراثِه على ما قرَّرتموه، فإذا كان جد وأم أو عم وأم أو أخ وأم أو ابن عم أو ابن أخ مع أحد الزوجين (¬4)، فمن أين أعُطيت الثلث كاملًا، ولم ينفرد الأبوان بالميراث؟ قيل: بالتنبيه ودلالة الأولى، فإنها إذا أخذت الثلث كاملًا مع الأب فلأن تاخذه مع [ابن] (¬5) العم أولى وأما إذا كان أحَدُ الزوجين مع هذه (¬6) العصبة فإنه ليس له إلا ما بقي بعد الفروض، ولو استوعبت الفروضُ المالَ سقط كأم وزوج وأخ لأم، بخلاف الأب. فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا كان مع العَصَبَة ذو فرض غير البنات والزوجة؟ ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "الزوجبن"، وفي (ق): "الزوجة و"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) في (ق): "وهو". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وبدله في المطبوع: "و" وفي (ق): "الأم من دون الأب" وفي الهامش: "لعله مع". (¬4) في (ق): "أو ابن أخ وأم مع أحد الزوجين". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "هذا".

قيل: لا يكون ذلك إلا [مع] (¬1) ولد الأم أو الأخوات لأبوين أو لأب (¬2) واحدة أو أكثر، واللَّه سبحانه قد أعطاها السدس مع الإخوة، فدلَّ على أنها تأخذ الثلث مع الواحد إذ ليس بإخوة. بقي (¬3) الأختان والأخوان؛ فهذا مما تنازع فيه الصحابة فجمهورُهم أدخلوا الاثنين في لفظ الإخوة، وأبى ذلك ابنُ عباس (¬4)، ونَظَرُه أقرب إلى ظاهر اللفظ (¬5)، ونظر الصحابة أقربُ إلى المعنى وأولى به؛ فإن الإخوة إنما حجبوها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في المطبوع و (ن): "للأبوين أو للأب". (¬3) في (ن): "أما". (¬4) يريد ما رواه ابن جرير (8/ 40 رقم 8732 - ط شاكر) والحاكم (4/ 335)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 227) وابن حزم (9/ 258) من طريق ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان بن عفان فقال: إن الأخوين لا يردان الأم إلى الثلث؛ قال اللَّه عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فالأخوان في لسان قومك ليسا بإخوة، فقال عثمان بن عفان: لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار وتوارث به الناس". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"! قلت: بل إسناده ضعيف. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 85): "وفيه نظر، فإن فيه شعبة مولى ابن عباس وقد ضعَّفه النسائي". قلت: وضعفه أيضًا مالك ويحيى القطان، وأبو زرعة، وقال ابن حبان: "روى عن ابن عباس ما لا أصل له، حتى كأنه ابن عباس آخر". وانظر: "حلية العلماء": (6/ 281)، "الإشراف" (5/ 201 مسألة رقم 1953) وتعليقي عليه، "تفسير ابن جرير" (8/ 40 - ط شاكر)، "موسوعة فقه ابن عباس" (1/ 135 - 136). (¬5) الراجح ما قال به جماهير أهل العلم سلفًا وخلفًا، قال ابن جرير في "تفسيره" (8/ 41 - 43 - ط شاكر): "والصواب من القول في ذلك عندي أن المعنى بقوله: "فإن كان له إخوة" اثنان من إخوة الميت فصاعدًا، على ما قاله أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، دون ما قاله ابن عباس رضي اللَّه عنهما لنقل الأمة وراثة صحة ما قالوه من ذلك عن الحجة وإنكارهم ما قاله ابن عباس في ذلك. فإن قال قائل: وكيف قيل في الأخوين: "إخوة"، وقد علمت أن "الأخوين" في منطق العرب مثالًا لا يشبه مثال "الإخوة" في منطقها؟ قيل: إن ذلك وإن كان كذلك؛ فإن من شأنها التأليف بين الكلامين يتقارب معنياهما، وإن اختلفا في بعض وجوههما، فلما كان ذلك كذلك وكان مستفيضًا في منطقها منتشرًا مستعملًا في كلامها: "ضربت من عبد اللَّه وعمرو رؤوسهما، وأوجعت منهما ظهورهما"، وكان ذلك أشد استفاضة في منطقها من أن يقال: أوجعت منهما ظهريهما"، وإن كان مقولإً: "أوجبت ظهريهما"، كما قال الفرزدق [في "ديوانه" (554)]: بما في فؤادينا من الشوق والهوى ... فيبرأ منهاض الفوائد المشعف =

إلى السدس لزيادة ميراثِهِم على ميراثِ الواحد، ولهذا لو كانت واحدةً أو أخًا واحدًا لكان لها الثلث معه، فإذا كان الإخوةُ ولدَ أمِ كان فرضُهم الثُّلثَ اثنين كانا (¬1) أو مئة، فالاثنان والجماعة في ذلك سواء، وكذلك لو كُنَّ أَخواتٍ لأب أو لأب وأم ففرضُ الثنتين (¬2) وما زاد واحد، فحجبُها عن الثلث إلى السدس باثنين كحَجْبها بثلاثة سواء، لا فرق بينهما ألبتة. وهذا الفهم في غاية اللطف، وهو من أدق فهم القرآن، ثم طرد ذلك في الذكور من ولد الأب والأبوين لمعنى يقتضيه (¬3)، وهو توفير السدس الذي حُجبت عنه لهم لزيادتهم على الواحد (¬4) نظرًا لهم ورعايةً لجانبهم، وأيضًا فإن قاعدة الفرائض أن كُلَّ حكم اختصَّ به الجماعة عن الواحد اشتركَ فيه الاثنان وما فوقهما كولدِ الأُمِّ والبناتِ وبناتِ الابنِ والأَخواتِ للأبوين أو للأب، والحَجْبُ ههنا قد اختص به الجماعة، فيستوي فيه الاثنان وما زاد عليهما، وهذا هو القياس ¬

_ = غير أن ذلك وان كان مقولًا فأصح منه: "بما في أفئدتنا"، كما قال جل ثناؤه: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. فلما كان ما وصفت من إخراج كل ما كان في الإنسان واحدًا إذا ضم إلى الواحد منه آخر من إنسان آخر فصارا اثنين من اثنين، بلفظ الجميع، أفصح في منطقها وأشهر في كلامها، وكان "الإخوان" شخصين كل واحد منهما غير صاحبه، من نفسين مختلفين، أشبه معنياهما معنى ما كان في الإنسان من أعضائه واحدًا لا ثاني له، فأخرج اثناهما بلفظ اثني العضوين اللذين وصفت، فقيل: "إخوة" في معنى "الأخوين"، كما قيل: "ظهور" في معنى "الظهرين"، و"أفواه" في معنى "فموين"، و"قلوب" في معنى "قلبين". وقد قال بعض النحويين: إنما قيل: "إخوة"؛ لأن أقل الجمع اثنان، وذلك أن ضم شيء إلى شيء صارا جميعًا بعد أن كانا فردين، فجمعا ليعلم أن الاثنين جمع". وانظر: "المبسوط" (29/ 145)، "الاختيار" (4/ 163)، "الفتاوى الهندية" (6/ 449)، "شرح السراجية" (129 - 131)، "شرح الرحبية" (60 - 61)، "حاشية البقري على المارديني" (ص 19، 65)، "نهاية الهداية" (1/ 188 - 191)، "التهذيب في الفرائض" (ص 199)، "مغني المحتاج" (3/ 10)، "روضة الطالبين" (5/ 11)، "الإقناع" (3/ 85)، "المغني" (6/ 176)، "الإفصاح" (2/ 85)، "زاد المسير" (2/ 27)، "معاني القرآن" للزجاج (2/ 22)، "أنوار التنزيل" للبيضاوي (2/ 71)، "الحقوق المتعلقة بالتركة" (322 - 324). (¬1) في (ق) و (ك): "كانوا". (¬2) في (ك): "البنتين". (¬3) في (ق): "وهو لمعنىً يقتضيه". (¬4) في (ق) و (ن): "لزيادتهم لهم عن الواحد"! وانظر: "الأشراف" للقاضي عبد الوهاب (5/ 201) وتعليقي عليه.

الصحيح والميزان الموافق لدلالة الكتاب وفهم أكابر الصحابة؛ وأيضًا فإن الأمة مُجْمِعة على أن قوله [تعالى] (¬1): {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] يدخل في حكمه الثنتان (¬2)، وإن اختلفوا في كيفية دخولهما في الحكم كما سيأتي، فهكذا دخول الأَخَويْن في الإخوة؛ وأيضًا فإن لفظ الإخوة كلفظ الذكور والإناث والبنات والبنين، وهذا كله قد يُطلق ويراد به الجنس الذي جاوَزَ الواحد وإن لم يزد على اثنين، فكلُّ حكمٍ عُلِّق بالجمع من ذلك دخل فيه الاثنان كالإقرار والوصية [والوقف] (1) وغير ذلك؛ فلفظ الجمع قد يُرَاد به الجنس المتكثِّر أعم من تكثيره بواحد أو اثنين (¬3)، كما أن لفظ المثنَّى قد يراد به المتعدّد أعم من أن يكون تعدده بواحد أو أكثر، نحو: {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ودلالتهما [حينئذ] (¬4) على الجنس المتكثر (¬5)، وأيضًا فاستعمال [الاثنين في الجمع بقرينة واستعمال] (4) الجمع في الاثنين بقرينة (¬6) جائز بل واقع، وأيضًا فإنه سبحانه قال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وهذا يتناول الأخَ الواحدَ والأخت الواحدة كما يتناول مَنْ فوقهما (¬7)، ولفظُ الإخوةِ وسائرُ ألفاظ الجمع [قد] (¬8) يُعْنَى به الجنسُ من غير قصد التعدد، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] وقد يُعْنَى به العددُ من غير قصد [لعدد معين بل لجنس التعدد، وقد يُعنى به العددُ مع قصدِ معدودٍ معيَّن] (¬9)، فالأول يتناول الواحدَ وما (10) زاد، والثاني يتناول الاثنين وما (¬10) زاد، والثالث يتناول الثلاثة فما زاد عند إطلاقه، وإذا قُيِّد اختص بما قيد به. ومما يدل على أن قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] أن المراد به الاثنان فصاعدًا أنه سبحانه قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "البنتان". (¬3) في (ق) و (ك): "الجنس المنكر أعم من تنكيره بواحد واثنين". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "المنكر". (¬6) في (ق): "فاستعمال الجمع بقرينة في الاثنين". (¬7) في (ن) و (ق): "ما فوقهما". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وفي (ق): "قصد تعدد" بدل "قصد التعدد". (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "العدد المعين"، وبعده فراغ يسع كلمتين. (¬10) في (ق): "فما".

شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فقوله: {كَانُوا} [النساء: 12] ضمير جمع، ثم قال: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فذكَرهم بصيغة الجَمْعِ المُضْمَر وهو قولُه: {فَهُمْ} [النساء: 12] والمْظْهَر وهو قوله: {شُرَكَاءُ} [النساء: 12] ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] فذكر حكم الواحد وحكم اجتماعه (¬1) مع غيره، وهو يتناول الاثنين قطعًا؛ فإن قولَه: {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 12] أي أكثر من أخ أو أخت، ولم يرد أكثر من مجموع الأخ والأخت، بل أكثر من الواحد، فدل على أن صيغةَ الجَمْعِ في الفرائض تتناول العدَدَ الزائد على الواحد مطلقًا، ثلاثةً كان أو أكثرَ منه؛ وهذا نظير قوله: {وَإِنْ (¬2) كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] ومما يوضح ذلك أن لفظ الجمع قد يختص بالاثنين مع البيان وعدم اللبس، كالجمع المضاف إلى اثنين مما يكون المضاف فيه جزءًا من المضاف إليه أو كجزئه، نحو "قلوبهما" و"أيديهما"، فكذلك يتناول الاثنين فما فوقهما مع البيان (¬3) بطريق الأَوْلَى، وله ثلاثةُ أحوالٍ: أحدها: اختصاصُه بالاثنين، الثانية: صلاحيتُه لهما، الثالثة: اختصاصُه بما زاد عليهما، وهذه الحالُ له عند إطلاقه، وأما عند تقييده فبحسب ما قُيِّد به، وهو حقيقةٌ في الموضعين، فإن اللفظ تختلف دلالته بالإطلاق والتقييد، وهو حقيقةٌ في الاستعمالين؛ فظهر أن فهم جمهور الصحابة أحسن من فهم ابن عباس في حَجْب الأم بالاثنين، كما أن فهمهم في العمريتين أتمُّ من فهمه؛ وقواعد الفرائض تشهد لقولهم؛ فإنه إذا اجتمع ذكرٌ وأنثى في طبقة واحدة كالابنِ والبنتِ والجدِّ والجدّةِ والأَبِ والأمِّ والأخِ والأختِ فإما أن يأخذ الذكر ضعفَ ما تأخذه (¬4) الأنثى أو يساويها؛ وأَمَّا أن تأخذ الأنثى ضعفَ الذَّكرِ فهذا خلاف قاعدة الفرائض التي أوجبها شرعُ اللَّه وحكمته؛ وقد عهدنا اللَّه سبحانه أعطى الأب ضعفَ ما أعطى الأم إذا انفرد الأبوان بميراث الولد، وساوى بينهما في وجود الولد، ولم يفضِّلها عليه في موضع واحد، فكان جعل الباقي بينهما بعد نصيبِ أحدِ الزوجين أثلاثًا هو الذي يقتضيه الكتاب والميزان؛ فإن ما يأخذه الزوج أو الزوجة من المال كأنه مأخوذٌ بدَيْنٍ أو وصية إذ لا قرابةَ بينهما، وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة، فصارا هما المستقلين بميراث الولد بعد فرض الزوجين، وهما في طبقة واحدة، فقسم الباقي بينهما أثلاثًا. ¬

_ (¬1) في (ق): "وحكمه في اجتماعه". (¬2) في (ق): "فإن". (¬3) في (ك): "البنات". (¬4) في (ق): "تأخذ".

فإن قيل: فههنا (¬1) سؤالان: أحدهما: أنكم هلَّا أعطيتموها ثلثَ جميع المال في مسألة زوجة وأبوين؛ فإن الزوجة إذا أخذتِ الرُّبعَ وأخذت هي الثلث كان الباقي للأب وهو أكثر من الذي أخذته، فوفيّتُم حينئذ بالقاعدة، وأعطيتموها الثلثَ كاملًا، والثاني: أنكم هلَّا جعلتم لها ثلثَ الباقي إذا كان بدل الأب في المسألتين جَدٌّ. قيل: قد ذهب إلى كل واحد من هذين المذهبين ذاهبون من السلف الطيب، فذهب إلى الأول محمد ابن سيرين (¬2) ومَنْ وافقه، وإلى الثاني عبد اللَّه بن مسعود (¬3)، ولكن أبى ذلك جمهورُ الصحابة والأئمة بعدهم، وقولُهم أصحُّ في الميزان وأقرب إلى دلالة الكتاب؛ فإنا لو أعطيناها (¬4) الثلث كاملًا بعد فرض الزوجة (¬5) كنّا قد خَرَجْنَا عن قاعدة الفرائض وقياسها (¬6) وعن دلالة الكتاب، فإن الأب حينئذٍ يأخذ [رُبُعًا وسُدُسًا] (¬7)، والأم لا تساويه ولا تأخذ شطره، وهي في طبقته، وهذا لم يشرعه اللَّه قط، ودلالة الكتاب لا تقتضيه؛ وأما في مسألة الجد فإن الجد أبعد منها، وهو يُحجَب بالأب، وليس في طبقتها فلا يُحجبُها عن شيء من حَقِّها، فلا يمكن أن تُعطى ثُلثَ الباقي ويُفضل الجد عليها بمثل ما تأخذ، فإنها أقرب منه، وليس في درجتها، ولا يمكن أن تُعطى السُّدس؛ فكان فرضها الثلث كاملًا. وهذا مما فهمه الصحابة -رضي اللَّه عنهم- من النصوص بالاعتبار الذي هو في معنى ¬

_ (¬1) في (ق): "ههنا". (¬2) انظر: "المحلى" (9/ 269 - 270)، و"معجم فقه السلف" (6/ 257 - 258). (¬3) أخرجه عبد الرزاق (10/ 270 رقم 19072)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 295) ورواه البيهقي في "سننه الكبرى" (6/ 250) من طريق يزيد بن هارون كلاهما عن سفيان الثوري -وهو في "الفرائض" (رقم 27) وسقط منه ذكر (ابن مسعود)!! - عن الأعمش عن إبراهيم عن مسروق عن ابن مسعود أنه قال في جد وابنة وأخت: هي من أربعة، للبنت سهمان، وللجد سهم، وللأخت سهم، فإن كانتا أختين فمن ثمانية، للبنت أربعة وللجد سهمان، وللأخت بينهما سهمان، فإن كن ثلاث أخوات فمن عشرة، للبنت خمسة أسهم، وللجد سهمان، وللأخوات ثلاثة أسهم بينهن. وإسناده على شرط الشيخين وانظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (5/ 214) وتعليقي عليه. (¬4) في المطبوع: "لو أعيناها". (¬5) في (ن): "الزوج". (¬6) في (ق) و (ك): "عن قاعدة الفرائض وقاعدتها". (¬7) في (ن): "السدس".

الأصل، أو بالاعتبار الأولى، أو بالاعتبار الذي فيه إلحاقُ الفرع بأشبه الأَصْلين به، أو تنبيه اللفظ، أو إشارته وفَحْواه، أو بدلالة التركيب، وهي ضَمُّ نص إلى نص آخر، وهي غير دلالة الاقتران، بل هي ألطف منها وأدق وأصح كما تقدم. فالقياس المحض والميزان الصحيح أنَّ الأم مع الأب كالبنت مع الابن والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكرٌ وأُنثى من جنس واحد، وقد أعطى اللَّه [سبحانه] (¬1) الزوجَ ضِعْفَ ما أعطى الزوجة تفضيلًا لجانب الذُكورية، وإنما عدل عن هذا في ولد الأم لأنهم يُدْلُون بالرحم المجرَّدِ ويُدْلُون بغيرهم وهو الأم، وليس لهم تعصيبٌ [بحال] (¬2)، بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم يُدْلُون بأنفسهم، وسائر العصبة يُدْلون بذكرٍ كولدِ البنين وكالإخوةِ للأبوين أو للأب، فإعطاءُ الذَّكرِ مثلُ حَظِّ الأنثيين معتبرٌ فيمن يُدْلي بنفسه أو بعصبة؛ وأما مَنْ يُدلي بالأمومة كولد الأم فإنه لا يُفضَّلُ ذكرُهم على أنثاهم، وكان الذكر كالأنثى في الأخذ، وليس الذكر كالأنثى في باب الزوجية ولا في باب الأبوة ولا البنوة ولا الأخوة؛ فهذا هو الاعتبارُ الصحيحُ، والكتاب يدل عليه كما تقدم بيانه. وقد تناظر ابنُ عباس وزيد بن ثابت في العمريتين، فقال له ابن عباس: أين في كتاب اللَّه ثُلثُ ما بقي؟ فقال زيد: وليس في كتاب اللَّه إعطاؤها الثلث كله مع الزوجين (¬3)، أو كما قال، بل كتابُ اللَّه يمنعُ إعطاءَها الثلث مع أحد الزوجين؛ فإنه لو أعطاها الثلثَ مع الزوج لقال: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث، فكانت تستحقه مطلقًا، فلما خَصَّ الثلثَ ببعض الأحوال عُلم أنَّها لا تستحقه مطلقًا، ولو أعطيته مطلقًا لكان قولُه: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] زيادة في اللفظ ونقصًا في المعنى، وكان ذِكْرُه عديمَ الفائدة، ولا يمكن أن تُعطى السدس [لأنه إنما جُعلَ لها مع الولد أو الإخوة، فدل القرآن على أنها لا تُعطى السدس] (¬4) مع أحد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق). (¬3) رواه عبد الرزاق (19020) (10/ 254)، وابن أبي شببة (7/ 327 - 328 - دار الفكر)، والبيهقي (6/ 228)، وابن حزم (9/ 261 - 262) من طريق عبد الرحمن بن الأصبهاني عن عكرمة عن ابن عباس. . . وفيه: في كتاب اللَّه تجد هذا؟! وإسناده صحيح. ورواه الدارمي (2/ 346) نحوه من طريق شعبة عن الحكم عن عكرمة به ورواته ثقات. ورواه ابن أبي شيبة من طريق عبدة عن الأعمش عن ابن عباس. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

الزوجين ولا تعطى الثلث؛ وكان قسمةُ ما بقي بعد فرض الزوجين بين الأبوين مثلَ قسمةِ أَصلِ المال بينهما، وليس بينهما فرقٌ أصلًا لا في القياس ولا في المعنى. فإن قيل: فهل هذه دلالةٌ خطابيةٌ لفظية أو قياسية محضة؟ قيل: هي ذات وجهين؛ فهي لفظيةٌ من جهةِ دلالةِ الخطاب، وضمِّ بعضه إلى بعض، واعتبارِ بعضِه ببعض؛ وقياسيةٌ من جهة اعتبار المعنى، والجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، وأكثر دلالات النصوص كذلك كما في قوله: "مَنْ أعتق شِرْكًا [له] في عبد" (¬1) وقوله: "أيما رجل وَجَدَ مَتَاعَه بعينِه عند رجلٍ قد أفْلَسَ فهو أحقُّ به" (¬2) وقوله: "من باع شركًا له في أرض أو رَبْعة (¬3) أو حائط (¬4) " حيث يتناول الحوانيت؛ وقوله (¬5): {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] فخص الإناث باللفظ، إذ كُنَ سببَ النزول، فنَصَّ عليهن بخصوصهن، وهذا أصح من فَهْم من قال من أهل الظاهر: المرادُ بالمحصناتِ: الفروجُ المحصناتُ، فإن هذا لا يفهمه السامع من هذا اللفظ ولا من قوله: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] ولا من قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ ¬

_ (¬1) تمام الحديث: "وكان له مال يبلغ ثمن العبد قُوِّمَ عليه العَدْل، فأعطى شركاءَهُ حصصهم وعتق عليه العبد، وإلَّا؛ فقد عتق منه ما عتق". أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الشركة): باب تقويم الأشياء بين الشركاء (5/ 132/ رقم 2491)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب العتق): باب منه (/ 2/ 1139 رقم 1501)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الأحكام): باب العبد يكون بين الرجلين (3/ 629/ رقم 1346)، وأبو داود في "السنن" (كتاب العتق): باب مَنْ رَوى أنه لا يُستسعى (4/ 256 / رقم 3940)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب البيوع): باب الشركة في الرقيق (7/ 319)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب العتق): باب من أعتق شركًا له في عبد (2/ 844/ رقم 2527)، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه البخاري (2402) في (الاستقراض): باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض، ومسلم (1559) في (المساقاة): باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس، من حديث أبي هريرة. (¬3) "الربع: المنزل، والربعة أخص" (و). (¬4) رواه أحمد (3/ 312 و 397)، ومسلم (1608) (133) في (المساقاة): باب الشفعة من حديث جابر، ولفظه: "من كان له شريك في رَبْعة أو نخل. . . "، وفي مسلم بلفظ: "الشفعة في كل شِرك في أرض رَبْع أو حائط. . . ". (¬5) في (ق): "وقوله تعالى".

فصل [مسألة ميراث الأخوات مع البنات]

النِّسَاءِ} [النساء: 24] ولا من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] بل هذا من عُرْف الشارع، حيث يُعبِّر باللفظ الخاص عن [المعنى] (¬1) العام، وهذا غير باب القياس؛ وهذا تارة يكون لكون اللفظ الخاص صار في العُرف عامًّا كقوله: {لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (¬2) [النساء: 53] {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (¬3) [فاطر: 13] {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (¬4) [النساء: 49، الإسراء: 71] ونحوه، وتارة لكونه قد عُلم بالضرورة من خطاب الشارع تعميمُ المعنى لكل ما كان مماثلًا للمذكور، وأن التَّعيين في اللفظ لا يُراد به التخصيص بل التمثيل، أو لحاجة المخاطب إلى تعيينه بالذكر، أو لغير ذلك من الحِكَم. فصل [مسألة ميراث الأخوات مع البنات] المسألة الثالثة: ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة؛ فإن القرآن يدل عليه كما أوجبته السنة الصحيحة (¬5)، فإن اللَّه سبحانه قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وهذا دليل على أن الأختَ ترثُ النِّصف مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها، وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النِّصفُ مما ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] زيادة في اللفظ، ونقصًا (¬6) في المعنى، وإيهامًا لغير المراد، فدل على أنَّها مع الولد لا ترثُ النصفَ، والولد إما ذكر وإما أنثى، [فأما ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (د) و (ط): "لا يكون نقيرًا"!، وفي (و): "لا يظلمون نقيرًا"، وما أثبتناه من (ق). (¬3) في (ق) و (د) و (ط) -أيضًا-: "وما يملكون من قطمير"! بزيادة الواو. (¬4) وردت مرتين في [النساء: 149]، و [الإسراء: 71] " (و). (¬5) أخرج البخاري (6741) (كتاب الفرائض): باب ميراث الأخوات مع البنات عَصَبة بسنده إلى سليمان عن إبراهيم عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- النصفُ للابنة، والنصف لأُخت، ثم قال سليمان: قضى فينا، ولم يذكر: على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". وأخرج (6742) عن ابن مسعود قال: لأقضين فيها بقضاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت. (¬6) في (ق): "ونقص".

الذكر] (¬1) فإنه يُسْقطها كما يُسقط الأخ بطريق الأولى، ودل قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] على أن الولدَ يُسقطه كما يسقطها، وأما الأنثى فقد دلَّ القرآنُ على أنها إنما تأخذ النصفَ ولا تمنع الأخ عن النصف الباقي إذا كانت بنت وأخ، بل دل القرآن مع السنة والإجماع أن الأخ يفوز بالنصف الباقي، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألْحِقُوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأوْلى رجلٍ ذكرٍ" (¬2) وليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت مع إناث الولد بغير جهة الفرض، وإنما صريحُه ينفي أن يكون فرضُها النصفَ مع الولد (¬3)، فبقي ههنا ثلاثة أقسام: إما أن يُفرضَ لها أقل من النصف، وإما أن تُحرمَ بالكلية، وإما أن تكون عَصَبة، والأولُ مُحَال، إذ ليس للأخت فرضٌ مُقدر غير النصف، فلو فرضنا لها أقلَّ منه لكان ذلك وضع شرع جديد، فبقي إما الحِرمانُ وإما التعصيبُ (¬4)، والحرمانُ لا سبيل إليه؛ فإنها وأخاها في درجة واحدة، وهي لا تُزاحم البنت (¬5)، فإذا لم يسقط أخوها بالبنت لم تسقط هي بها أيضًا، فإنها لو سَقَطت بالبنت ولم يسقط أخوها بها لكان أقوى منها وأقربَ إلى الميت، وليس كذلك، وأيضًا فلو أسقطتها البنتُ إذا انفردت عن أخيها لأسقطتها مع أخيها، فإن أخاها لا يزيدُها قوةً، ولا يحَصِّلُ لها نفعًا في موضع واحد، بل لا يكون إلا مضرًا لها ضررَ نقصان أو ضرر حرمان، كما إذا خلَّفت زوجًا وأمًا وأخوين لأم وأختًا لأب وأم، فإنها يُفرض لها النصفُ عائلًا، وإن كان معها أخوها سَقَطَا معًا، ولا تنتفع به في الفرائض في موضع واحد؛ فلو أسقطتها البنتُ إذا انفردت لأسقطتها بطريق الأولى مع من يضعفها ولا يقويها؛ وأيضًا فإن البنت إذا لم تُسْقط ابنَ الأخ وابن العم [وابن عم الأب] (¬6) والجد وإن بَعُد فأنْ (¬7) لا تُسْقِطَ الأخت مع قربها بطريق الأولى، وأيضًا فإن قاعدة الفرائض إسقاط البعيد بالقريب، وتقديم الأقرب على الأبعد، وهذا عكس ذلك فإنه يقتضي (¬8) تقديم الأبعد جدًا الذي بينه وبين الميت وسائط كثيرة على الأقرب الذي ليس بينه وبين الميت إلا واسطة الأب وحده، فكيف يرثُ ابنُ عمِّ جَدِّ الميت مثلًا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ق) و (ك): "وإنها صريحة أن يكون فرضها مع عدم الولد". (¬4) في (ق): "أو التعصيب". (¬5) في (ن): "البنين". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ق): "فلأن". (¬8) في المطبوع و (ك): "يتضمن".

مع البنت وبينه وبين الميت وسائط كثيرة وتُحرم الأخت القريبة التي ركَضَتْ معه في صُلْب أبيه ورحم أمه؟ هذا من المحال الممتنع شرعًا؛ فهذا من جهة الميزان. وأما من جهة فهم النص فإن اللَّه سبحانه قال في الأخ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] ولم يمنع ذلك ميراثه منها إذا كان الولد أنثى، فهكذا قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] لا ينفي أن ترث غيرَ النصف مع إناث الولد أو ترث (¬1) الباقي إذا كان نصفًا؛ لأن هذا غير الذي أعطاها إياه فرضًا مع عدم الولد، فتأمله فإنه ظاهر جدًا؛ وأيضًا فالأقسام ثلاثة: * إما أن يقال: يُفرضُ لها النصف مع البنت. * أو يقال: تَسقطُ معها بالكلية. * أو يقال: تأخذ ما فَضَلَ بعد فَرْضِ البنت أو البنات. والأول ممتنع للنص والقياس، فإن اللَّه سبحانه إنما فرض لها النصفَ مع عدم الولد، فلا يجوز إلغاءُ هذا الشرط وفَرْضُ النصف لها مع وجوده، واللَّه سبحانه إنما أعطاها النصف إذا كان الميتُ كَلَالة لا ولدَ له ولا والد، فإذا كان له ولد لم يكن الميتُ كلالةً فلا يفرض لها معه [منه] (¬2)؛ وأما القياس فإنها لو فُرض لها النصف مع وجود البنت لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفريضة [كزوجة أو زوج] (¬3) وبنت وأخت [وإخوة] (¬4)، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرضٍ ولا تعصيب، فإن الأولاد أولى منهم، فبطل فرض النصف، وبطل سقوطها بما ذكرناه؛ فتعين القسم الثالث وهو أن تكون عصبة لها ما بقي، وهي أولى به من سائر العصَبَات الذين هم أبعد منها؛ وبهذا جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي قضى بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فوافَقَ قضاؤه كتابَ ربه والميزانَ الذي أنزله (¬5) مع كتابه؛ وبذلك قضى الصحابةُ بعده كابن مسعود ومُعاذ بن جبل وغيرهما. فإن قيل: لكن خرجتم عن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألحقُوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأوْلى رجلٍ ذكرٍ" (¬6) فإذا أعطينا البنت فرضها وجب أن يُعطى الباقي لابن الأخ ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "وترث". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "كزوج". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "لكتاب ربه وللميزان الذي أنزل". (¬6) سبق تخريجه.

أو العم أو ابنه دون الأخت؛ فإنه رجل ذكر، فأنتم عدَلتم عن هذا النص وأعطيتموه الأنثى، فكنا أسعدَ بالنص منكم، وعملنا به وبقضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث أعطى البنتَ النصفَ وبنتَ الابن السدسَ والباقي للأخت إذا لم يكن هناك أولى رجل ذكر (¬1)، فكانت الأختُ عصبةَ، وهذا توسط بين قولكم و [بين] (¬2) قول من أسقط الأخت بالكلية، وهذا مذهب إسحاق بن راهويه، وهو اختيار أبي محمد بن حزم (¬3)، وسقوطها بالكلية مذهب ابن عباس كما قال عبد الرزاق: أنبا معمر، عن الزُّهريِّ، عن أبي سلمة: قيل لابن عباس: رجلٌ تَركَ ابنته وأخته لأبيه وأمه، فقال: لابنته (¬4) النصفُ ولأمهِ السدسُ وليس لأخته شيءٌ مما ترك، وهو لعصبته، فقال له السائل: إنّ عُمر قضى بغير ذلك، جَعلَ للبنتِ النصفَ، وللأختِ النصفَ، فقال ابنُ عباس: أأنتم أعلم أم اللَّه؟ قال معمر: فذكرت ذلك لابن طاوس، فقال [لي] (2): أخَبَرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: قال اللَّه عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فقلتم أنتم: لها النصفُ، وإن كان له ولد (¬5)، وقال ابنُ أبي مُليكة، عن ابن عباس: أَمرٌ ليس في كتاب اللَّه ولا في قضاءِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وستَجِدُونه في الناس كُلِّهم: ميراثُ الأخت مع البنت (¬6). فالجواب أن نصوص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها حق يُصدِّقُ بعضُها بعضًا ويجب الأخذُ بجميعها، ولا يُترك له نصٌ إلا بنص آخر ناسخ له، لا (¬7) يُترك بقياسٍ ولا رأي ولا عملِ أهلِ بلدٍ ولا إجماع، ومحال أن تُجمعَ الأمةُ على خلاف نص له إلا أن يكون له نص آخر ينسخه؛ فقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فما أبْقَتِ الفرائضُ فلأوْلى رجلٍ ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (6742) (كتاب الفرائض): باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة عن ابن مسعود، ومضى لفظه قريبًا. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) انظر: "المحلى" (9/ 256 - 257) لابن حزم، ونقله عن ابن راهويه. (¬4) في (ق): "لبنته". (¬5) رواه عبد الرزاق (19023) (10/ 254)، ومن طريقه البيهقي (6/ 233)، وابن حزم (9/ 257) عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة قال جاء ابن عباس. . . وإسناده صحيح. (¬6) رواه الحاكم في "المستدرك" (4/ 337)، والقاضى إسماعيل في "أحكام القرآن"، ومن طريقه ابن حزم (9/ 257) من طريق مصعب بن عبد اللَّه عن ابن أبي مليكة به، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. (¬7) في (ق): "ولا".

ذكرٍ" (¬1) عامٌّ قد خص منه قوله: "تَحُوزُ المرأة ثلاثَ مواريث: عتيقَها، ولقيطَها، وولدَهَا الذي لاعَنَتْ عليه" (¬2) وأجمع الناسُ على أنها عَصبة عتيقها، واختلفوا في كونها عصبة لقيطها وولدها المنفي باللعان، وسُنَّةُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تقضي (¬3) بين المتنازعين، فإذا خُصَّت منه هذه الصور بالنص (¬4) وبعضها مجمعٌ عليه خصت منه هذه الصورة لما ذكرناه من الدلالة (¬5). فإن قيل: قولُه: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب وهذا لا تخصيص فيه (¬6). قيل: فأنتم تقدمون المعتق على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، فخالفتم النصين معًا، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "فلأولى رجل ذكر" فأكده بالذكورة ليبين أن العاصب بنفسه المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظ الرجل ما يتناول الذكر والأنثى كما في قوله: "مَنْ وَجَدَ متاعَهُ عند رجل قد أفلس" (¬7) ونحوه مما يُذكر فيه لفظ الرجل والحكمُ يعمُّ النوعين، وهو نظير قوله في حديث الصدقات: "فابْنُ لَبُونٍ ذكر" (¬8) ليبين أن المراد الذكر دون الأنثى، ولم يتعرض في الحديث ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) رواه أحمد (3: 106، 490 و 4/ 107)، وأبو داود (2906) (الفرائض): باب ميراث ابن الملاعنة، والترمذي (2115) في (كتاب الفرائض): باب ما جاء في ما يرث النساء من الولاء، وابن ماجه (2742) في (الفرائض): باب تحوز المرأة ثلاث مواريث، والنسائي في "الكبرى" (ق 83، 84) -وكما في "التحفة" (9/ 78) - والطحاوي في "المشكل" (7/ 309 رقم 2870)، والدارقطني (4/ 89، 90)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1707)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 340 - 341)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (6/ 240) كلهم من طريق عمر بن رؤبة عن عبد الواحد بن عبد اللَّه عن واثلة، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه"، وفي كلامه نظر. فقد قال ابن عدي عن عمر بن رؤبة: "وإنما أنكروا عليه أحاديثه عن عبد الواحد النصري". وصححه الحاكم في "المستدرك" وسكت الذهبي، مع أنه ذكر عمر بن رؤبة في "الميزان"، وقال: ليس بذاك، وليس له في "السنن" إلا هذا الحديث، فالحديث ضعيف. انظر: "الإرواء" (1576)، وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4049، 4050). (¬3) في المطبوع: "تفصل". (¬4) في (ق) و (ك): "بالنصوص". (¬5) في (ق): "بما ذكرناه من الأدلة". (¬6) في (ن): "وهذا لا يخص منه". (¬7) مضى تخريجه، ووقع في (ق): "من وجد متاعه بعينه عند رجل". (¬8) هو في "صحيح البخاري" (1448) في (الزكاة): باب الفرض في الزكاة، وانظر أطرافه هناك، وقال فيه: "وعنده ابن لبون فإنه بقبل منه" من حديث أنس عن أبي بكر، وقوله: "فابن لبون ذكر" وارد في طرق الحديث الأخرى منها عن أبي داود (1567) وغيره.

فصل [صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات]

للعاصب بغيره، فدلَّ قضاؤه الثابتُ عنه في إعطاء الأخت مع البنت وبنت الابن (¬1) ما بقي أن (¬2) الأخت عصبة بغيرها، فلا تنافي بينه وبين قوله: "فلأولى رجل ذكر" بل هذا إذا لم يكن ثَّمَّ عصبة بغيره، بل كان العصبة عصبة بأنفسهم، فيكون أولاهُم وأقربُهم إلى الميت أحقهم بالمال؛ وأما إذا اجتمع العصبتان (¬3) فقد دلَّ حديثُ ابن مسعود الصحيح أن تعصيب الأخت أولى من تعصيب مَنْ هو أبعدُ منها، فإنه أعطاها الباقي ولم يعطه لابن عمه مع القطع (¬4)، فإن العرب بَنُو عم بعضُهم لبعض، فقريب وبعيد، ولا سيما إن كان ما حكاهُ ابنُ مسعود من قَضَاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضاء عامًا كليًا، فالأمر حينئذ يكون أظهر وأظهر. فصل [صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات] ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] إنما يدل منطوقُه على أنها تَرِثُ النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلًا للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيلٌ حصل بذلك مقصود المخالفة، فلا يجب أن تكون كل صورة من صُوَر المسكوت مخالفة لكل صور المنطوق، ومَنْ تَوَهم ذلك فقد توهم باطلًا، فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص، والحكم إذا ثبت لعلةٍ فانتفت في بعض الصور أو جميعها جاز أن يخلُفها علةٌ أخرى. وأما قصد التخصيص فإنه يحصل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نَفَيْنَا إرْثَهَا مع ذكور ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وبنت البنت". (¬2) في (ق): "لأن". (¬3) في (ن): "العصبات". (¬4) أخرجه البخاري (6742): كتاب الفرائض: باب ميراث الأخوات مع البنات عَصبة، ومضى لفظه. وانظر: "الفرائض" للثوري (16)، و"مصنف عبد الرزاق" (19031، 19032)، و"سنن سعيد بن منصور" (28 - ط الأعظمي)، و"مسند أحمد" (1/ 463)، و"سنن الدارمي" (2/ 252)، و"مسند الطيالسي" (375)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (11/ 245)، و"سنن ابن ماجه" (2721)، و"جامع الترمذي" (2093)، و"سنن الدارقطني" (4/ 79)، و"سنن البيهقي" (6/ 329)، و"منتقى ابن الجارود" (962)، ووقع في (ق): "مع القطع أن العرب".

فصل [المراد بأولى رجل ذكر في المواريث]

الولد ونفينا (¬1) إرثَها النصفَ [فرضًا] (¬2) مع إناثهم وَفَّينا بدليل الخطاب. فصل [المراد بأولى رجل ذكر في المواريث] ومما يبين أن المراد بقوله؛ "فلأولى رجل ذكر" العصبةُ بنفسه لا بغيره أنه لو كان بعد الفرائض إخوةٌ وأخواتٌ أو بَنُون وبنات [أو بنات] ابن وبنو ابن لم ينفرد الذكر (¬3) بالباقي دون الإناث بالنص والإجماع، فتعصيبُ الأختِ بالبنت كتعصيبها بأخيها؛ فإذا لم يكن قوله: "فلأولى رجل ذكر" موجبًا لاختصاص أخيها دونها لم يكن موجبًا لاختصاص ابن عم الجد (¬4) بالباقي دونها. يوضحه أنه لو كان معها أخوها لم تسقط، وكان الباقي بعد فرض البنات بينها وبين أخيها هذا، وأخوها أقربُ إلى الميت من الأعمام وبنيهم، فإذا لم يُسقطها [الأخ] (¬5) فَلأن لا يُسقطها ابنُ عم الجد بطريق الأولى والأحْرَى، وإذا لم يسقطها ورثت دونه، لكونها أقْرَبَ منه، بخلاف الأخ فإنها تشَاركه (¬6)، لاستوائهما في القرب من الميت، فهذا مَحْضُ القياس والميزان الموافق لدلالة الكتاب ولقضاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)؛ وعلى هذا الطريق فلا تخصيص في الحديث، بل هو على عُمومِه، وهذه الطريقة (¬8) أفْقَه وألطف. يوضح ذلك أن قاعدة الفرائض أن جنس أهل الفروضِ فيها مُقَدَّمون على جنس العصبة، سواء كان ذا فَرْضٍ مَحْض أو كان له مع فَرْضِه تعصيبٌ في حال إما بنفسه وإما بغيره، والأخَوات من جنس أهل الفرائض؛ فيجب تقديمهنَّ على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض كالأعمام وبنيهم وبني الإخوة، والاستدلال بهذا الحديث على حرمانِهنّ مع البناتِ كالاستدلال على حرمانِهنَّ مع إخوتِهنَّ وحرمانِ بناتِ الابن، بل البنات أنفسهن مع إخوتهن، وهذا (¬9) باطلٌ بالنص، والإجماع، فكذا الآخر. ومما يوضحه أنا رأينا قاعدة الفرائض أن البعيد من العَصَبات يعصبُ من هو ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "أو نفيًا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في (ق): "الذكور". (¬4) في (ق): "والجد". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في (ن): "مشاركته". (¬7) مضى تخريجه. (¬8) في (د): "الطريق". (¬9) في (ق): "وهو".

فصل [ميراث البنات]

أقرب منه إذا لم يكن له فرضٌ، كما إذا كان بناتٌ وبناتُ ابنِ وأسفل منهن ابنُ ابنِ ابنٍ فإنه يعصبُهن فيحصل (¬1) لهن الميراث بعد أنْ كُنَّ محروماتٍ، وأما أن البعيد من العَصَبَات يمنع الأقرب من الميراث بعد أن كان وارثًا فهذا ممتنع شرعًا وعقلًا، وهو عكس قاعدة الشريعة، واللَّه الموفق. وفي الحديث مسلك آخر، وهو، أن قولَه: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد به من كان من أهلها في الجملة، وإن لم يكن في هذه الحال من أهلها كما في اللفظ الآخر: "اقْسِمُوا المالَ بين أهل الفرائض" (¬2) وهذا أعم من كونه من أهل الفرائض بالقوة أو بالفعل، فإذا كانوا كلهم من أهل الفرائض بالفعل كان الباقي للعصبة، وإن كان فيهم مَنْ هو من أهلِ الفرائضِ بالقوةِ وإن حُجب عن الفرضِ بغيره دَخَلَ في اللفظ الأول وإن لم يكن لأولى رجلٍ ذكر معه شيءٌ، وإنما يكون له إذا كان أهل الفرائض مطلقًا معدومين، واللَّه أعلم. فصل [ميراث البنات] المسألة الرابعة: ميراث البنات، وقد دلَّ صريحُ النص على أن للواحدة النصف ولأكثر من اثنتين الثلثين، بقي الثِّنْتان (¬3)، فأشْكَلَ دلالة القرآن على حكمهما على كثير من الناس، فقالوا: إنما أثبتناه بالسنة الصحيحة، وقالت طائفة: بالإجماع، وقالت طائفة: بالقياس على الأختين. قالوا: واللَّه سبحانه نصَّ على الأختينِ دون الأَخوات، ونص على البنات دون البنتين، فأخذنا حكم كل واحدة من الصورتين المسكوت عنها من الأخرى. وقالت طائفة: بل أُخذ من نص (¬4) القرآن، ثم تنوعت طرقهم في الأخذ: فقالت طائفة: أخذناه من قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فإذا أخذ الذكرُ الثلثين والأنثى الثلثَ عُلم قطعًا أن حظ الأنثيين الثلثان، وقالت طائفة: إذا كان للواحدة مع الذكر الثلثُ، لا الربع، ¬

_ (¬1) في (ق): "ويحصل". (¬2) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الفرائض): باب ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر، (3/ 1234 / رقم 1615)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬3) في (ن): "بقي البنتان". (¬4) في (د): "نصوص".

فلأن (¬1) يكون لها الثلث مع الأنثى أوْلى وأحْرَى، وهذا من تنبيه النص بالأدنى على الأعلى، وقالت طائفة: أخذناه من قوله سبحانه (¬2): {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فقيد النِّصفَ بكونها واحدةً، فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا في حال وَحْدَتها، فإذا كان معها مثلُها فإما أن تُنقصَها عن (¬3) النصفِ وهو محالٌ أو يشتركان فيه وذلك يُبطلُ الفائدةَ في قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} [النساء: 11]، ويجعلُ ذلك لغوًا مُوهِمًا خلافَ المراد به وهو محال، فتعين القسم الثالث وهو انتقالُ الفرضِ من النصف إلى ما فوقه وهو الثُلثان. فإن قيل: فأيُّ فائدةٍ [في التقييد بقوله] (¬4): {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] والحكمُ لا يختص بما فوقهما؟ قيل: حسنُ ترتيب الكلامِ وتأليفهِ ومطابقةِ مضمرِه لظاهره أوجبَ ذلك؛ فإنه سبحانه قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، فالضمير في {كُنَّ} مجموعٌ يطابق الأولاد، أي: فإن كان الأولادُ نساءً فذكر لفظ الأولاد وهو جمع {كُنَّ} (¬5) وهو ضمير جمع، و {نِسَاءً} وهو اسم جمع، فلم يكن بد من فوق اثنتين، وفيه نكتة أخرى، وهي (¬6) أنه سبحانه قد ذكر ميراثَ الواحدةِ نصًا وميراث الثنتين تنبيهًا كما تقدم، فكان في ذكر العدد الزائد على الاثنتين دلالة على أن الفرضَ (¬7) لا يزيدُ بزيادتِهنَّ على الاثنتين كما زاد بزيادة الواحدة على الأخرى. وأيضًا فإن ميراثَ الاثنتين قد عُلم من النص، فلو قال: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176] كان تكرارًا (¬8) ولم يُعلم منه حكم ما زاد عليهما، فكان ذكر الجمع في غاية البيان والإيجاز، ومطابقة أولُ الكلام وآخرُه وحسن تأليفه وتناسبه. وهذا بخلاف سياق آخر السورة فإنه قال: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، فلم يتقدم اسمُ جمعٍ ولا ضميرُ جمع يقتضي أن يقول: فإن كُنَّ [نساءً] (¬9) فوق اثنتين. ¬

_ (¬1) في (د) و (ك): "فأن". (¬2) في (ق): "تعالى". (¬3) في (ق): "من". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "بالتقييد بقوله له". (¬5) في (د): "وضمير كُنَّ" وفي (ق): "وكن". (¬6) في المطبوع و (ق) و (ك): "وهو". (¬7) في (ن): "النص". (¬8) في المطبوع و (ق) و (ك): "تكريرًا". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل

وقد ذَكَر ميراثَ الواحدةِ وأنه النصفُ، فلم يكن بُدّ من [ذكر] (¬1) ميراث الأختين وأنه الثلثان؛ لئلا يُتوهَّم أن الأخرى إذا انضمت إليها أخذت نصفًا آخر، ودل تشريكُه بين البنات وإن كَثُرن [في الثلثين] (¬2) على تشريكه بين الأخوات وإن كثرن [في ذلك] (2) بطريق الأولى؛ فإن البناتِ أقربُ من الأخواتِ ويُسقطنَ فرضهن؛ فجاء بيانُه سبحانه في كُلِّ من الآيتين من أحسن البيان، فإنه لما بَيَّن ميراث الاثنتين (¬3) بما تقرر بين ميراث ما زاد عليهما، وفي آية الإخوة والأخوات لمَّا بين ميراثَ الأخت والأختين لم يحتج أن يبين ميراث ما زاد عليهما؛ إذ قد عُلمَ بيانُ الزائد على الاثنتين في مَنْ هن (¬4) أوْلى بالميراث من الأخوات، ثم بيَّن حُكمَ اجتماع ذكورهم وإناثهم، فاستوعب بيانُه جميعَ الأقسام. فصل المسألة الخامسة: ميراث بنت الابن السدس مع البنت، وسقوطها إذا استكمل البناتُ الثلثين (¬5)، ودلالة القرآن على هذا أخفى من سائر ما تقدم، وبيانها أنه تعالى (¬6) قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وقد عُلم أن الخطاب يتناول ولد البنين، دون ولد البنات، وأن قوله: {أَوْلَادِكُمْ} يتناول مَنْ ينتسب إلى الميت وهم ولدُه وولدُ بنيه، وأنه يتناولُهم على الترتيب، فيدخل فيه ولدُ البنين عند عدم ولد الصُّلبِ؛ فإذا لم يكن إلا بنتٌ فلها النصف، وبقي من نصيبِ البناتِ السدسُ، فإذا كان ابنُ ابنٍ (¬7) أَخذَ الباقي كله بالتعصيب للنص، فإن كان معه أخَواته شاركْنَه في الاستحقاق لأنهن معه عصبة، وهذ أحد ما يدل على [أن] (1) قوله: "فلأولى رجلٍ ذكر" (¬8) لا يمنع أن تأخُذ الأنثى إذا كانت عصبية (¬9) بغيرها؛ ولهذا أخذت الأختُ مع البنت الباقيَ بالتعصيب، لأنها عصبية (9) بها، وإن لم يكن مع البنت إلا بناتُ ابنٍ فقد كنَّ بصَدَد أخذ الثلثين لولا البنتُ، فإذا أخذت النصف فالسدس الباقي لا مانع لهن من أخذه فيفُزنَ به؛ ألا ترى أنه إذا استكمل البنات الثلثين لم يكن لهن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في المطبوع و (ق): "الابنتين". (¬4) في (ق): "هو". (¬5) انظر المسألة في "الإشراف" (5/ 204 رقم 1955 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب. (¬6) في (ق): "وبيانه أنه سبحانه". (¬7) في (ق): "فإذا كان بنت وابن ابن". (¬8) الحديث في "صحيح مسلم"، وقد سبق مرارًا. (¬9) في المطبوع و (ن) و (ك) و (ق): "عصبة".

شيءٌ، ولو لم يكن بناتٌ أخذنَ جميع الثلثين، فإذا قُدِّمت البنت عليهن بالنصف أخذن بقية الثلثين اللذين كُنَّ يفزن بهما جميعًا لولا البنت، وهذا حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[سواء] (¬1). فإن قيل: فمن أين أعطيتم بناتِ الابنِ إذا استكمل البناتُ الثلثين وكان معهن أخوهن، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الباقي لأولى رجلٍ ذَكَر؟ قيل: قد تقدم بيان ذلك مستوفى، وأن هذا حكم كل عصبة معه وارث من جنسه في درجته كالأولاد والإخوة بخلاف الأعمام وبني الإخوة. فإن قيل: فكيف عَصَّبَ ابنُ ابنِ الابنِ مَنْ فوقه وليس في درجته؟ قيل: إذا كان يَعصبُ مَنْ [هو] (¬2) في درجته مع أنه أنزلُ ممن فوقه ولا يُسقطه فتعصيبه لمن (¬3) هو فوقه وأقرب منه إلى الميت بطريق الأولى؛ فإذا كان الأنْزلُ لا يقوى هو على إسقاطه فكيف يقوى على إسقاط (¬4) الأعلى (¬5)؟ على أن عبد اللَّه بن مسعود لا يُعصِّبُ به مَنْ في درجته ولا من فوقه، بل يخصه بالباقي (¬6). ووجه قوله ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "من". (¬4) في (ن): "إسقاطه" وفي (ق): "يقوي هو على إسقاط". (¬5) انظر في هذا: "الذخيرة" (13/ 42)، "الإشراف" (5/ 205 رقم 1956 بتحقيقي)، "المعونة" (3/ 1672)، "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 437، 438)، "شرح السنة" (8/ 335)، "المحلى" (9/ 269)، "حلية العلماء" (6/ 283)، "المبسوط" (29/ 141)، "أحكام القرآن" للجصاص (2/ 101)، "شرح السراجية" (159)، "شرح الرحبية" (78 - 80)، "التهذيب في الفرائض" (206)، "أحكام المواريث" (151) للشلبي، "التركات والمواريث" (ص 137) "التحقيقات المرضية" (109، 125). (¬6) أخرج عبد الرزاق في "المصنف" (15/ 151/ رقم 19012)؛ والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 235)؛ عن معبد بن خالد، عن مسروق في ابنتين وبني ابن ذكورًا وإناثًا، قال مسروق: كانت عائشة تشرك بينهم، ثم قال: وكان ابن مسعود يقول: للذكران دون الأناث، والأخوات بمنزلة البنات، ولفظ البيهقي، وكان عبد اللَّه لا يشرك بينهم، يعني: يجعل ما بقي للذكر دون الإناث، وسنده صحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (رقم 11143) ضمن خبر، فيه: "وكان عبد اللَّه لا يزيد الأخوات والبنات على الثلثين". وفي لفظ البيهقي (6/ 230) ضمن خبر، فيه: "وفي قول عبد اللَّه بن مسعود، للابنتين الثلثان، وما بقي للذكر دون الأنثى؛ لأنه لم يكن يزيد البنات على الثلثين". وذكره عنه البغوي في "شرح السنة" (8/ 335)، وابن حزم في "المحلّى" (9/ 269، =

فصل [ميراث الجد مع الإخوة]

أنَّها لا ترث مفردةٌ (¬1) فلا ترث مع أخيها، كالمحجوبة برقِّ أو كفرٍ، بخلاف ما إذا كانت وارثةً كبنتٍ وبنتِ ابنٍ معها أخوها فإنه يعصبها اتفاقًا لأنها وارثةٌ. وقولُ الجمهور (¬2) أصحُّ، فإنها وارثة في الجملة، وهي ممن يستفيدُ التعصيب بأخيها. وهنا إنَّما سقط ميراثها بالفرض لاستكمال من فوقها الثلثين، ولا يلزم من سقوطِ الميراثِ بالفرض سقوطه بالتعصيب مع قيام مُوجبهِ وهو وجودُ الأخِ، [وإذا كان وجودُ الأخِ] (¬3) يجعلُها عصبةً فيمنعها الميراثَ بالكلية ولولاه وَرِثت بالفرضِ وهو الأخُ المشئوم فالعَدْل يقتضي أن يجعلَها عصبةً فيورِّثَها إذا لم ترث بالفرض وهو الأخُ النافعُ، فهذا محض القياس والميزان، وقد فهمت دلالة الكتاب عليه. والنزاعُ في الأختِ للأب مع الأختِ أو الأخواتِ للأبوين كبنتِ الابنِ مع البنتِ والبناتِ (¬4) سواء، وباللَّه التوفيق. فصل [ميراث الجد مع الإخوة] المسألة السادسة: ميراث الجد مع الإخوة، والقرآن يدل على قول (¬5) الصدِّيق ومَنْ معه من الصحابة كأبي موسى وابن عباس وابن الزبير وأربعة عشر منهم -رضي اللَّه عنهم- (¬6)، ووجه دلالة القرآن على هذا القول قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ]} (¬7) [النساء: 176] إلى آخر الآية، فلم يجعل للإخوة ميراثًا إلا في الكلالة. ¬

_ = 271) وفيه: "وهو قول ابن مسعود وعلقمة وأبي ثور وأبي سفيان"، والسرخسي في "المبسوط" (29/ 142)، والشاشي في "حلية العلماء" (6/ 838)، والكلوذاني في "التهذيب في الفرائض" (ص 206)، ونقله عن علقمة وأبي ثور، وقال: "وكان جمهور العلماء من الصحابة وغيرهم يجعلون الباقي بين الذكور والإناث". (¬1) في (ق): "منفردة". (¬2) انظر: "الذخيرة" (13/ 42)، "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 442)، "المعونة" (3/ 1671)، "جامع الأمهات" (ص 551)، "حلية العلماء" (6/ 838)، "التهذيب في الفرائض" (206)، "التحقيقات المرضية" (ص 109 - 110). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) في (ق): "أو البنات". (¬5) في المطبوع: "يدل لقول". (¬6) تقدم تخريج هذه الآثار في ميراث الجد. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

وقد اختلف الناس في الكلالة، والكتابُ يدل على قول الصِّدِّيق أنها ما عدا الوالد والولد (¬1)، فإنه سبحانه قال في ميراثِ وَلدِ الأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فسَوَّى بين ميراث الإخوة في الكَلالةِ وإنْ فرَّق بينهم في جهةِ الإرثِ ومقداره، فإذا كان وجودُ الجدِّ مع الإخوة للأم لا يُدْخِلهم في الكلالة، بل يمنعهم من صِدْقِ اسم الكلالة على الميت أو عليهم أو على القرابة، فكيف أُدخل ولد الأب في الكلالة ولم يمنعهم وجودُه صدقَ اسمها؟ وهل هذا إلا تفريقٌ محض بين ما جمع اللَّه بينه؟ يوضحه الوجه الثاني، وهو أن ولد الولد يمنع الإخوة من الميراث، ويخرج المسألة عن كونها كلالة؛ لدخوله في قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] ونسبة أبي (2) الأبِ إلى الميت كنسبةِ ولدِ ولده إليه، فكما أن الولَد وإن نَزَلَ يُخرج المسألة عن الكلالة فكذلك أبو (¬2) الأب وإن علا، ولا فرق بينهما ألبتة. يوضحه الوجه الثالث، [وهو] (¬3) أن نسبة الإخوة إلى الجد كنسبة الأعمام إلى أبي الجد، فإن الأخَ ابنُ الأب والعم ابن الجد، فإذا خَلَفَ عَمَّه وأبا جده فهو كما لو خلف أخاه وجدَّه سواء، وقد أجمع المسلمون على تقديم أبي (2) الجد على العم، فكذلك يجب تقديم الجد على الأخ، وهذا من أبين القياس وإن لم يكن هذا قياسًا جليًا فليس في الدنيا قياسٌ جلي! يوضحه الوجه الرابع، وهو أن نسبة ابن الأخ إلى الأخ كنسبة أبي (2) الجد إلى الجد، فإذا قال الأخ: أنا أرِثُ (¬4) مع الجد لأني ابنُ أبي (2) الميت والجد أبو أبيه (¬5) فكِلانا في القُرب إليه سواء، صاحَ ابنُ الأخِ مع أبي (2) الجد (¬6) وقال: أنا ابنُ ابنِ أبي (2) الميت فكيف حَرَمتموني مع أبي أبي أبيه ودرجَتُنا واحدة؟ وكيف ¬

_ (¬1) سبق تخريج قول أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- في الكلالة. (¬2) في المطبوع: "أب". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "وارث". (¬5) في أصول هذا الكتاب: "والجد ابن أبيه" تحريف (ظاهر عما أثبتناه) [لا يستقيم المعنى المراد، انظر: "إعلام الموقعين" (1/ 328 - الطبعة المنيرية) (2/ 72 - مطبعة: فرج اللَّه زكي الكردي)]، كذا في (د)، و (ط)، وما بين القوسين زيادة (د) على (ط)، وما بين المعقوفتين زيادة (ط) على (د). (¬6) في (ق): "مع ابن الجد".

سمعتم قول أبي مع الجدِّ ولم تسمعوا قولي مع أبي الجد؟ فإن قيل: أبو الجدِّ جَدٌ وإنْ علا، وليس ابنُ الأخ أخًا. قيل: فهذا حجةٌ عليكم؛ لأنه إذا كان أبو الأب أبًا، و [أبو] الجدِّ جدًا، فما للإخوة ميراثٌ مع الأب بحال. فإن قلتم: نحن نجعل أبا الجَدِّ جدًا، ولا نجعل أبا الأب أبًا. قيل: هكذا فعلتم، وفرَّقتم بين المتماثلين، وتناقضتم أبين تناقض، وجعلتموه أبًا في موضع وأخرجتموه عن الأبوة في موضع. يوضحه الوجه الخامس، وهو أن نسبة الجد إلى الأب في العَمُود الأعلى كنسبة ابنِ الابنِ إلى الابن في العمود الأسفل، فهذا أبو أبيه، وهذا ابنُ ابنهِ، فهذا يُدْلي إلى الميت بأبي الميت (¬1)، وهذا يُدلي إليه بابنهِ، فكما كان ابنُ الابنِ ابنًا فكذلك يجب أن يكون أبو الأب أبًا، فهذا هو الاعتبار الصحيح من كل وجه وهذا معنى قول ابن عباس: ألَا يَتَّقي اللَّه زيدٌ؟ يجعل ابنَ الابن ابنًا ولا يجعل أبا الأب أبًا؟ (¬2) يوضحه الوجه السادس، وهو أن اللَّه سبحانه سَمَّى الجَدَّ أبًا في قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وقوله: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وقوله: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: 76] وقول يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] وفي حديثِ المعراج: "هذا أبوك آدم، وهذا أبوك إبراهيم" (¬3) وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لليهود: "مَنْ أبوكم؛ قالوا: فلانٌ، قال: كذبتم، بل أبوكم فلانٌ، قالوا: صدقتَ" (¬4) وسَمَّى ابنَ الابنِ ابنًا كما في قولهْ {يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] و {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 47] وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارْمُوا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا" (¬5) والأبوةُ والبنوةُ من الأمور المتلازمة المتضايفة ¬

_ (¬1) في المطبوع: "باب الميت". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) هذا ثابت في حديث أنس عن مالك بن صعصعة: رواه البخاري (3207) في (بدء الخلق): باب ذكر الملائكة، و (3887) في (مناقب الأنصار): باب المعراج، ومسلم (164) في (الإيمان) باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات. (¬4) رواه أحمد (2/ 451)، والبخاري (3169) في (الجزية): باب إذا غدر المشركون بالمسلمين هل يُعفى عنهم، و (5777) في (الطب): باب ما يذكر في سَمِّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حديث أبي هريرة. (¬5) رواه البخاري (2899) في (الجهاد): باب التحريض على الرمي، و (3373) في =

يمتنع ثبوت أحدهما بدون الآخر، فيمتنع ثبوتُ بنوَّةِ الابنِ (¬1) إلا مع ثبوت الأبوَّةِ لأبي الأب. يوضحه الوجه السابع، وهو أن الجد لو مات ورثه بنو بنيه دون إخوته باتفاق الناس، فهكذا الأب إذا مات يرثه أبو أبيه دون إخوته، وهذا معنى قول عمر بن الخطاب لزيد: كيف يرثني أولادُ عبدِ اللَّه دون إخوتي ولا أرثهم دون إخوتهم؟ (¬2) فهذا هو القياس الجلي والميزان الصحيح الذي لا مغمزَ فيه ولا تطفيف. يوضحه الوجه الثامن، [وهو] (¬3) أن قاعدة الفرائض وأصولها [أنه] (¬4) إذا كان ¬

_ = (الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}، و (3507) في (المناقب): باب نسبة اليمن إلى إسماعيل، من حديث سلمة بن الأكوع. وانظر: "الفروسية" (ص 91 - بتحقيقي). (¬1) في المطبوع: "ثبوت البنوة لابن الابن" وفي (ق): "فيمتنع بثبوت بنوة الابن". (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (6/ 248) عن زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- أنه كتب إلى معاوية في شأن الجد؛ قال: "وجرى بيني وبين عمر كلام في الجد مع الإخوة، وكنت أرى يومئذٍ أن الأخوة أقرب حقًا إلى أخيهم من الجد، وكان يرى أن الجد أقرب". وحسنه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/ 160)، وأخرج الدارمي (رقم 2910، 2911) مذهب أبي بكر، وقال ابن حجر عنه: "هذا موقوف صحيح، وثبت عن أبي بكر من طرق أخرى من رواية ابن عباس وابن الزبير وأبي سعيد الخدري وغيرهم، وبعضها في البخاري". قلت: قال البخاري في "صحيحه" (كتاب الفرائض): باب ميراث الجد مع الأب والإخوة (8/ 18 - الفتح): "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: الجد أب، وقرأ ابن عباس: {يَابَنِي آدَمَ. . . وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}، ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه، وأصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متوافرون، وقال ابن عباس: يرثني ابن ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابن ابني"، قال: "ويذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد أقاويل مختلفة". قلت: وسيذكرها المصنف قريبًا، وانظرها مع الكلام عليها في "تغليق التعليق" (5/ 214 - 222)، وخلاصة ما في هذا الباب أن المال للجد ثابت عن أبي بكر، وتابعه عمر وعثمان وابن عباس وابن الزبير وغيرهم، ثم رجع بعضهم إلى القول بالمقاسمة، وهو قول الأكثر، وأما القول بحرمان الجد؛ فجاء عن زيد وعلي وعبد الرحمن بن غنم، ثم رجع علي وزيد الى المقاسمة. وانظر: "الموافقات" (5/ 160 - 162) و"الإشراف" (5/ 212 رقم 1961) وتعليقي عليهما -ففيه تخريج ما ورد عن المذكورين- و"حلية العلماء" (6/ 305) و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (31/ 342)، و"التحقيقات المرضية" (ص 138 - 139). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك).

قرابةُ المُدْلي من الواسطة من جنس قرابة الواسطة كان أقوى مما إذا اختلف جنس القرابتين، مثال ذلك أن الميت يُدْلي إليه ابنُه بقرابة البنوَّة، وأبوهُ يُدْلي إليه بقرابة الأبوة، فإذا أدلى إليه واحد ببنوَّةِ البنوة وإنْ بعُدت كان أقوى ممن يدلي إليه بقرابة بنوة الأبوة وإن قربت، فكذلك قرابةُ أبوة الأبوة وإن عَلَتْ أقوى من قرابة بنوة الأب وإنْ قرُبت، وقد ظهر اعتبار هذا في تقديم جَدِّ الجد، وإن عَلا على ابنِ الأخِ وإن قَرُب وعلى العم؛ لأن القرابة التي يُدْلي بها الجد من جنسٍ واحد وهي الأبوة، والقرابة التي يدلي بها الأخ وبَنُوه من جنسين وهي بنوة الأبوة، ولهذا قُدِّمت قرابةُ ابنِ الأخ على قرابة ابن الجد؛ لأنها قرابةُ بنوةِ أبٍ، وتلك قرابةُ بنوةِ أبي أب، فبين ابنُ (¬1) الأخ فيها وبين الميت جنسٌ واحد وهي الأخوةُ، فبواسطتها وَصَل إليه، بخلاف العم فإن بينه وبينه جنسين (¬2) أحدهما الأبوة والثاني بنوتها، وعلى هذه القاعدة بناء [باب] (¬3) العَصَبات. يوضحه الوجه التاسع، وهو أن كُلَّ بني أبٍ أدنى وإن بَعدُوا عن الميت يُقَدَّمون في التعصيب على بني الأبِ الأعلى وإن كانَوا أقربَ إلى الميت، فابنُ ابنِ ابنِ الأخ يُقدَّم على العَمِّ القريب، وابنُ ابنِ ابنِ العَمِّ وإن نزل يُقدَّم على عَمّ الأبِ، وهذا مما يبين أن الجنس الواحد يقومُ أقصاه مقام أدناه، ويقدَّم الأقصى على من يقدم عليه الأدنى، فيُقدم ابنُ ابنِ الابنِ على من يقدم عليه الابنُ، وابن ابن الأخ على من يُقدَّم عليه الأخُ، وابن ابن العم على من يقدم عليه العم، فما بال أبي (¬4) الأب وحدَه خرج عن (¬5) هذه القاعدة ولم يقدم على من يقدم عليه الأب؟ وبهذا يظهر بطلان تمثيل الأخ والجد بالشجرة التي خرج منها غصنان والنهر الذي خرج منه ساقيتان (¬6)، فإن القرابة التي من جنس واحد أقوى من القرابة المركبة من جنسين؛ وهذه القرابة البسيطة مقدمة على تلك المركبة بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح، ثم قياس القرابة على القرابة والأحكام الشرعية على مثلها أولى من قياس قرابة الآدميين على الأشجار والأنهار مما ليس في الأصل حكم شرعي، ثم نقول: بل النهر الأعلى أولى بالجَدْول من الجدول التي (¬7) اشتق ¬

_ (¬1) زاد هنا في (ك): "أب". (¬2) في (ق): "جنسان"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "أب". (¬5) في (د): "من". (¬6) تقدم وتخريجه. (¬7) في (ق) و (ك): "الذي".

منه، وأصل الشجرة أولى بغصنها من الغصن الآخر، فإن هذا صِنْوه ونظيره الذي لا يحتاج إليه، وذلك أصله وحاكمله الذي يحتاج إليه، واحتياج الشيء إلى أصله أقوى من احتياجه إلى نظيره، فاصلُه أولى به من نظيره. يوضحه الوجه العاشر، [وهو] (¬1) أن هذا القياس لو كان صحيحًا لوجَبَ طَرْدُه، ولما انتقض، فإن طرده تقديم الإخوة على الجد، فلما اتفق المسلمون على بطلان طَرْده علم أنه فاسد في نفسه. يوضحه الوجه الحادي عشر، [وهو] (1) أن الجد يقوم مقام الأب في التعصيب في كل سورة من صُوره، ويُقدَّم على كل عصبة يقدم عليه الأب، فما الذي أوجب استثناء الإخوة خاصة من هذه القاعدة؟ يوضحه الوجه الثاني عشر، [وهو] (1) أنه إن كان الموجِبُ لاستثنائهم قربهم (¬2) وجب تقديمهم عليه، وإن كان مساواتهم له في القرب وجب اعتبارهم (¬3) في بنيهم وآبائه لاشتراكهم في السبب الذي اشترك فيه هو والإخوة، وهذا مما لا جوابَ [لهم] (¬4) عنه. يوضحه الوجه الثالث عشر، وهو أنه قد اتفق الناس على أن الأخَ لا يُساوي الجد، فإن لهم قولين: أحدهما: تقديمُه (¬5) عليه، والثاني: توريثُه معه، والمورِّثون لا يجعلونه كأخ مطلقًا، بل منهم مَنْ يقاسم به الإخوة إلى الثلث (¬6)، ومنهم من يُقاسمهم به إلى السدس (¬7)، فإن نَقَصَتْه المقاسمةُ عن ذلك أعطوه إياه فرضًا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في المطبوع: "قوتهم". (¬3) في (ك) و (ق): "اعتبارها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "وتقديم الجد عليه". (¬6) هذا مذهب جماهير العلماء، انظر: "قوانين الأحكام الشرعية" (332، 335)، "الموافقات" (5/ 160 - 162)، "الإشراف" (5/ 212 رقم 1961). (¬7) هذا مذهب علي -رضي اللَّه عنه-. أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 293)، والدارمي (2917، 2918)، والبيهقي (6/ 249)، في "سننهما" والطحاوي في "اختلاف العلماء" (4/ 462 - مختصره)، وابن حجر في "تغليق التعليق" (5/ 219، 221)، من طرق عن الشعبي قال: كتب ابن عباس إلى على، وابن عباس بالبصرة: إني أتيتُ بجد وستة إخوة، فكتب إليه علي: أن أعطِ الجدّ سُبُعًا، ولا تعطه أحدًا بعده. وإسناده قوي. وفي مطبوع "سنن الدارمي": "سدسًا" بدل "سبعًا"، وهو خطأ، وصوابه ما في المصادر الأخرى، وهو على الجادة في "سنن الدارمي" (10/ 76 - مع "فتح المنان"). وأخرج يزيد بن هارون في "الفرائض" عن الشعبي، قال: كان علي يشرك بين الجد =

وأدخلوا النقصَ عليهم أو حَرموهم، كزوجٍ وأمٍ وجدٍّ وأخٍ، فلو كان الأخُ مساويًا للجد وأولى منه كما ادَّعى المورثون أنه القياس لساواه في هذا السدس أو قُدِّم عليه (¬1)، فعُلم (¬2) أنَّ الجدَّ أقوى، وحينئذ فقد اجتمع عَصَبتان وأحدهما أقوى من الآخر فيقدم عليه. يوضحه الوجه الرابع عشر، [وهو] (¬3) أن المورِّثين للإخوة لم يقولوا في التوريث قولًا يدل عليه نصٌ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ مع تناقضهم، وأما المقَدِّمون له على الإخوة فهم أسْعَدُ الناس بالنص والإجماع والقياس وعدم التناقض، فإن من المورثين مَنْ يُزاحِم به إلى الثلث، ومنهم من يزاحم به إلى السدس، وليس في الشريعة مَنْ يكون عَصَبة يُقاسم عصبة نظيره إلى حد ثم يُفرض له بعد ذلك الحد، فلم يجعلوه معهم عصبةً مطلقًا، ولا ذا فرض مطلقًا، ولا قدموه عليهم مطلقًا، ولا ساوَوْهُ بهم مطلقًا، ثم فرضوا له سدسًا أو ثلثًا بغير نص ولا إجماع ولا قياس، ثم حَسَبُوا عليه الإخوة من الأب ولم يعطوهم شيئًا إذا كان هناك إخوة لأبوين، ثم جعلوا الأخواتِ معه عصبةً إلا في سورة واحدة فرضوا فيها للأخت، ثم لم يهنوها بما فرضوا لها (¬4)، بل عادوا عليها بالإبطال فأخذوه وأخذوا ما أصابه فقسموه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم أعالوا هذه المسألة خاصةً من مسائل الجد والإخوة، ولم يُعِيلوا غيرها، ثم ردُّوها بعد العَوْل إلى التعصيب، وسَلِم المُقدِّمون له على الإخوة من هذا كله (¬5) مع فَوْزهم بدلالة الكتاب والسنة والقياس ودخولهم في حزب الصِّدِّيق. يوضحه الوجه الخامس عشر، [وهو] (3) أن الصِّديقَ لم يَختلف عليه أحدٌ من ¬

_ = والإخوة إلى السدس، يجعله كأحدهم، أفاده ابن حجر في "التغليق" (5/ 220). وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (11/ 293/ رقم 11267)، والدارمي (2919، 2921)، والبيهقي (6/ 249) في "سننهما"؛ عن عبد اللَّه بن سَليمة أن عليًا كان يجعل الجد أخًا حتى يكون سادسًا. وإسناده ضعيف. وله طرق أخرى عن علي انظرها في: "سنن الدارمي" (2120، 2122)، "مصنف عبد الرزاق" (10/ 268)، "مصنف ابن أبي شيبة" (11/ 292، 295، 298 - 299)، "سنن سعيد بن منصور" (1/ 53)، "سنن البيهقي" (6/ 249)، "تغليق التعليق" (5/ 225). (¬1) في المطبوع: "وقدم عليه". (¬2) في (ق): "وعلم". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "فرض لها". (¬5) في المطبوع و (ق): "والمقدم له على الإخوة سلم من هذا كله".

الصحابة في عهده أنه مقدَّم على الإخوة، قال البخاري في "صحيحه" في [باب] (¬1) ميراث الجد مع الإخوة: "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: "الجَدُّ أبٌ"، وقرأ ابنُ عباس: {يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه، وأصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متوافرون، وقال ابن عباس: يرثني ابنُ ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابنَ ابني؟ ويُذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أقاويل مختلفة" (¬2)، انتهى، وقال عبد الرزاق: ثنا ابنُ جُرَيج قال: سمعتُ ابنَ أبي مليكة يحدث أن ابنَ الزُّبير كتب إلى أهل العراق: إن الذي قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا حتى ألقى اللَّه سِوى اللَّه لاتخذتُ أبا بكر خليلًا" كان يجعل الجدَّ أبًا (¬3)، وقال الدارمي في "صحيحه": ثنا مُسلم (¬4) بن إبراهيم: ثنا وُهَيبٌ: ثنا أيوب: عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جعله الذي قال [له] (¬5) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذته خليلًا ولكن أخوَّة الإسلام أفضل" يعني: أبا بكر جعله أبًا (¬6). ثنا محمد بن يوسف (¬7)، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَةَ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) انظره في "صحيح البخاري" قبل حديث (رقم 6737) في (كتاب الفرائض): باب ميراث الجد مع الأب والأخوة (8/ 18 - مع الفتح). (¬3) هو في "المصنف" لعبد الرزاق (19049) (2/ 263) لكن سنده هكذا: ابن جريج عن أبيه عن ابن الزبير. ووالد ابن جريج هو عبد العزيز، وهو ليّن. نعم رواه أحمد في "مسنده" (4/ 4 و 5)، والبيهقي (6/ 246) من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة به. ورواه البخاري (3658) في (الفضائل): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لو كنت متخذًا خليلًا، والبيهقي (6/ 246) من طريق حماد بن زيد عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن ابن الزبير به. (¬4) في المطبوع والمخطوط: "سلم" وفي (ق): "سالم"، وصوابه ما أثبتناه، كما في "سنن الدارمي". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) رواه الدارمي (2/ 353)، وإسناده صحيح، وهو في "صحيح البخاري" (6738) في (الفرائض) باب ميراث الجد مع الأب والإخوة، و"سنن سعيد بن منصور" (1/ 46 رقم 48)، و"سنن البيهقي" (6/ 246) من طرق عن أيوب به. (¬7) في (ق) و (ك): "محمد بن يونس".

قال: لقيتُ مروان بن الحكم بالمدينة فقال: يا ابن أبي موسى ألم أُخْبَرْ اْن الجدَّ لا ينزل فيكم منزلة الأب وأنت لا تنكر؟ قال: قلت: [ولو كنت] (¬1) أنت لم تنكر، قال مروان: فأنا أشْهَدُ على عثمان بن عفان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجدَّ أبًا، إذا لم يكن دونه أب (¬2). ثنا يزيد بن هارون: ثنا أشعث، [عن عروة] (¬3)، عن الحسن قال: إن الجد قد مضت فيه سُنَّة، وإن أبا بكر جعل الجدَّ أبًا، ولكن الناس تحيَّروا (¬4)، وقال حماد بن سلمة: ثنا هشام بن عروة، عن عروة، عن مروان قال: قال لي عثمان بن عفان: قال لي عمر (¬5): إني قد رأيت في الجد رأيًا، فإن رأيتم أن تتَّبعوه فاتبعوه، فقال عثمان: إن نَتبعْ رأيَك فرأيك رشد (¬6)، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان، قال: وكان أبو بكر يجعله أبًا (¬7)، والمورِّثون للإخوة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) أخرجه الدارمي (2/ 353) ووقع متنه في المطبوعة بإسناد الذي قبله، والذي نقله المصنف صحيح يوافق النخ الخطية منه، وهو كذلك فيه (10/ 66 رقم 3088 - مع "فتح المنان"). ووقع اختلاف فيه على أبي إسحاق الشيباني. فأخرجه سعيد بن منصور (44) -ومن طريقه ابن حزم (9/ 287) - والبيهقي (6/ 246) من طريق الشيباني به، ولكن زاد سعيد بعد أبي إسحاق: (سعيد بن أبي بردة). وأخرجه الدارمي (3085 - مع "فتح المنان") عن أبي إسحاق عن كردوس عن أبي موسى عن أبي بكر أنه جعل الجدّ أبًا، و (رقم 3086) عنه عن أبي بردة عن كردوس عن أبي موسى به، وهكذا أخرجه ابن أبي شيبة (11/ 288). وأخرجه الدارمي (3087) عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي بردة عن مروان عن عثمان أن أبا بكر كان يجعل الجد أبًا، وسنده صحيح، قاله ابن حجر في "الفتح" (12/ 20). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه الدارمي (2/ 353) لكن ليس في إسناده "عروة" وكذا في الطبعة الأخرى (10/ 68 رقم 3092)، وفيها "سنته"، بدل "فيه سنة" ولا أدري أيها أصح اثبات عروة أم إسقاطه، فإن أشعث هو ابن سَوّار الكندي، وآخر من حدث عنه يزيد بن هارون، وأشعث هذا أدرك الحسن البصري، وروى عنه وعلى كل حال فهو ضعيف في الرواية. وأخرج قوله سعيد بن منصور (1/ 46 رقم 45). تنبيه: وقع في الطبعتين من "سنن الدارمي": ولكن الناس تخيروا، بالخاء وهو خطأ. (¬5) في المطبوع و (ك): "إن عمر قال لي"، وسقطت من (ك): "إن". (¬6) في (د): "فهو رشد"، وفي (ق): "فرأيك رشيد". (¬7) هو ينقل عن الدارمي، وليس فيه هذا من طريق حماد بن سلمة، وإنما رواه (2/ 354 أو 10/ 75 رقم 3096 - مع "فتح المنان") من طريق وهيب عن هشام بن عروة به. ثم وجدت نقل المصنف عن "المحلى" لابن حزم (9/ 287) بالحرف، ورواه =

بعدهم عمرُ وعثمانُ وعلي وزيد وابن مسعود (¬1)، فأما عمر فإن أقواله اضطربت فيه، وكان قد كتب كتابًا في ميراثه، فلما طُعِنَ دعا به فمحاه (¬2). وقال الخُشنيُّ: عن محمد بن بَشَّار (¬3)، عن محمد بن أبي عَدي، عن شُعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر حين طُعِنَ: إني لم أقض في الجد شيئًا (¬4). وقال وكيع: عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: مات ابنٌ لابن عمر بن الخطاب، فدعا زيدَ بن ثابت فقال: شَعِّبْ ما كنت تشعّب إني لأعلم (¬5) أنَّي أولى به منهم (¬6)، وأما علي فقال عبد الرزاق: عن معمر: ثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، ¬

_ = عبد الرزاق (19051 و 19052) من طريق ابن جريج ومعمر كلاهما عن هشام به. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 246) من طريق موسى بن عقبة حدثنا عروة بن الزبير به. وأسانيده صحيحة. (¬1) انظر: "المحلى" (9/ 287)، ووقع في (ق): "عمر وعلي وعثمان وزيد وابن مسعود". (¬2) أما اضطراب أقوال عمر في الجد، فقد روى ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 363)، وعبد الرزاق (19043 و 19044)، ومن طريقه ابن حزم (9/ 295)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 245)، وابن حجر في "تغليق التعليق" (5/ 218 - 219) من طريق عَبَيدة السلماني قال: لقد حفظت من عمر بن الخطاب فيها مئة قضية مختلفة، وإسناده صحيح. قال ابن حزم: "لا سبيل إلى وجود إسناد أصح من هذا". وروى نحوه الدارمي (2/ 351) لكن قال: ثمانين قضية. وأما أنه كتب كتابًا فلما طعن محاه. فقد روى ذلك ابن أبي شيبة (7/ 363) من طريق معمر عن الزهري عن سعيد عن عمر. وسعيد لم يدرك عمر. وروى الدارمي أيضًا (2/ 351) من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري وابن أبي شيبة (11/ 320) عن الزهري كلاهما عن سعيد بن المسيب أن عمر كتب ميراث الجد. . . حتى إذا طعن دعا به فمحاه. وله طريقان آخران عند البيهقي (6/ 245). (¬3) في المطبوع و (ك): "يسار"، وفي (ق): "سيار" وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة: "يسار"، وما أثبتناه من (ن)، هو الصواب كما في كتب الرجال. (¬4) رواته ثقات لكن في سماع سعيد من عمر نظر، وروى عبد الرزاق (19046) من طريق ابن سيرين عن عمر نحوه. وابن سيرين لم يدرك عمر، وانظر: "المحلى" (9/ 294). (¬5) في المطبوع: "لأني أعلم". (¬6) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (53) عن هشيم عن أبي بشر به. وفيه: "شغب. . . مشغبًا" بالغين المعجمة، وأخرجه أحمد في "العلل" (1868) من طريق شعبة عن أبي =

عن رجل من مراد قال: سمعت عليًا يقول: مَنْ سرَّه أن يتقحَّمَ (¬1) جراثيم جهنم فَلْيَقْضِ بين الجد والإخوة (¬2)، وأما عثمان وابن مسعود فقال البَغويُّ: ثنا حجَّاجُ بن المِنْهال: ثنا حماد بن سلمة: أخبرنا اللَّيث بن أبي سُلَيْم، عن طاوس أن عثمان وعبد اللَّه بن مسعود قالا: الجدُّ بمنزلةِ الأب (¬3). فهذه أقوال المورثين كما ترى قد اختلفت في أصل (¬4) توريثهم معه، واضطربت في كيفية التوريث، وخالفت دلالة الكتاب والسنة والقياس الصحيح، بخلاف قول الصديق ومَنْ معه (¬5). يوضحه الوجه السادس عشر، [وهو] (¬6) أن الناس اليوم قائلان: قائلٌ بقول أبي بكر، وقائل بقول زيد، ولكن قول الصديق هو الصواب وقول زيد بخلافه، فإنه يتضمن تعصيبَ الجَدِّ للأخوات وهو تعصيبُ الرجل جنسًا آخر ليسوا من جنسه، وهذا لا أصل له في الشريعة، إنما يُعْرَف في الشريعة تعصيب الرجال للنساء إذا كانوا من جنس واحد كالبنين والبنات والإخوة والأخوات، ولا يُنتقض هذا بالأخوات مع البنات فإن الرجال لم يعصبوهنَّ، وإنما عصبهن البناتُ، ولما كان تعصيبُ البنين أقوى كان الميراث لهم دون الأخوات، بخلاف قول من عصَّب الأخوات بالجد، فإنه عصبهنَّ بجنس آخر أقوى تعصيبًا منهن، وهذا لا عهد به في الشريعة البتة. ¬

_ = بشر، وفيه: "شعث. . . مشعثًا". وقال: "وقال وكيع. . . شعب. . . وهو الصواب" قلت: وإسناده منقطع، سعيد لم يسمع عمر. (¬1) في (ق) و (ك): "يقتحم". (¬2) رواه عبد الرزاق (19048)، وابن أبي شيبة (7/ 363 - ط دار الفكر)، و (11/ 319 - ط الهندية)، وسعيد بن منصور في "السنن" (56، 57 - ط الأعظمي)، والدارمي (2/ 352)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 245 - 246) من طريق أيوب به، وفيه هذا الرجل المبهم. (¬3) قال الحافظ في "الفتح" (12/ 19): "وأخرج يزيد بن هارون من طريق ليث عن طاوس أن عثمان وابن عباس كانا يجعلان الجد أبًا" ويزيد بن هارون هذا أحد المشاهير له كتاب في "الفرائض" نقل عنه الحافظ في مواطن من "شرحه". وأخرجه القاضي إسماعيل، ومن طريقه ابن حزم (9/ 288) عن حماد بن سلمة به. وفي إسناده ليث بن أبي سُليم وهو ضعيف. (¬4) في (ك) و (ق): "أصول"، ووقع في (ق): "واضطرب في كيفية التوريث". (¬5) سبق تخريجه تقريبًا. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ق) و (ك).

يوضحه الوجه السابع عشر، [وهو] (¬1) أن الجد والإخوة لو اجتمعوا في التعصيب لكانوا إما من جنس واحد أو من جنسين، وكلاهما باطل، أما الأول فظاهر البطلان لوجهين: أحدهما: اختلافُ جهة التعصيب، والثاني: أنهم لو كانوا من جنس واحد لاستووا في الميراث والحرمان كالإخوة والأعمام وبنيهم إذا انفردوا، وهذا هو التعصيب المعقول في الشريعة، وأما الثاني فبطلانُه أظهر، إذ قاعدة الفرائض أن العصبةَ لا يرثون في المسألة إلا إذا كانوا من جنس واحد، وليس لنا عصبة من جنسين يرثان مُجتَمِعيْن قط، بل هذا محال (¬2)، فإن العصبة حكمُه أن يأخذَ ما بقي بعد الفروض، فإذا كان هذا حكم هذا الجنس وجب أن يأخذَ دون الآخر، وكذلك الجنس الآخر فيفضي أحدهما (¬3) إلى حرمانهما، واشتراكهما ممتنع لاختلاف الجنس، وهذا ظاهر جدًا. يوضحه الوجه الثامن عشر، [وهو] (¬4) أن الجدَّ أبٌ في باب الشهادة وفي بابِ سقوط القصاص، وأبٌ في باب المنعِ من دفعِ الزكاة إليه، وأبٌ في باب وجوب إعتاقه (¬5) على ولد ولده، وأبٌ في باب سقوط القطع في السرقة، وأبٌ عند الشافعي في باب الإجبار في النكاح، وفي باب الرجوع في الهبة، وفي باب العتق بالملك، وفي باب الإجبار على النفقة، وفي باب إسلام ابن ابنهِ تبعًا لإسلامه، وأبٌ عند الجميع في باب الميراث عند عدم الأب فرضًا وتعصيبًا في غير محل النزاع، فما الذي أخرجه عن أبوَّته في باب الجد والإخوة؟ فإن اعتبرنا تلك الأبواب فالأمر في أبوته في محل النزاع ظاهر، وإن اعتبرنا باب الميراث فالأمر أظهرُ وأظهر. يوضحه الوجه التاسع عشر، [وهو] (¬6) أن الذين وَرَّثوا الإخوة معه إنما ورَّثوهم لمساواة تعصيبهم لتعصيبه (¬7)، ثم نقضوا الأصل، فقدَّموا تعصيبَهُم على تعصيبه في باب الوَلَاءِ وأسقطوه بالإخوة لقوة تعصيبهم عندهم، ثم نقضوا ذلك أيضًا فقدَّموا الجدَّ عليهم في باب ولاية النكاح، وأسقطوا تعصيبهم بتعصيبه، وهذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (د): "بل هو محال". (¬3) في (ق): "أخذهما". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) أشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "إعفافه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ق) و (ك). (¬7) في المطبوع و (ك): "تعصيبه لتعصيبهم".

غاية التناقض والخروج عن القياس لا بنص ولا إجماع. يوضحه الوجه العشرون، وهو قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" (¬1) فإذا خَلَّفت المرأةُ زوجَهَا وأمها وأخاها وجدها (¬2)؛ فإن كان الأخ أولى رجل ذَكَر فهو أحقُّ بالباقي، وإن كانا سواء في الأولوية وجَبَ اشتراكُهما فيه، وإن كان الجَدُّ أولى وهو الحق الذي لا ريب فيه فهو أولى به، وإذا كان الجد أولى رجل ذَكَر وجب أن ينفرد بالباقي بالنص، وهذا الوجه وحده كافٍ وباللَّه التوفيق. وليس القصد هذه المسألة بعينها، بل بيان دلالة النص والاكتفاء به عما عداه، وأن القياسَ شاهدٌ وتابع، لا أنه مستقل في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص. ومن ذلك الاكتفاء بقوله: "كُلٌّ مسكرٍ خَمْر" (¬3) عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم كما يفعله مَنْ لم يحسن الاستدلال بالنص. ومن ذلك الاكتفاء بقوله (¬4): {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] عن إثبات قطع النَّبَّاش بالقياس اسمًا أو حكمًا، إذ السارقُ يعمُّ في لغةِ العرب وعُرْفِ الشارع [سارقَ] (¬5) ثياب الأحياء والأموات. ومن ذلك الاكتفاء بقوله (4): {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ [لَكُمْ] (¬6) تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] في تناوله لكل يمينٍ منعقدةٍ يحلفُ بها المسلمون، من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع، وقد بيَّن ذلك سبحانه (¬7) في قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (89)} (6) [المائدة: 89] فهذا صريحٌ في أنَّ كل يمين منعقدة فهذا كفارتها، وقد أدخلتِ الصحابةُ في هذا ¬

_ (¬1) الحديث في "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، وقد سبق مرارًا. (¬2) في (ق): "زوجها وأمها وجدها وأخاها". (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب الأشربة): باب بيان أن كل مسكر خمر، وأنَّ كل خمر حرام (3/ 1587/ رقم 2003)، عن ابن عمر مرفوعًا بلفظ: "كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام"، وعن عائشة في "الصحيحين" وقد سبق. (¬4) في (ق): "بقوله تعالى". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "وقد بين سبحانه ذلك".

النص الحلفَ بالتزام الواجباتِ والحلف بأحب القُرباتِ المالية إلى اللَّه وهو العتقُ، كما ثبت ذلك عن ستة (¬1) منهم ولا مخالف لهم من بقيَّتِهم (¬2)، وأدخلت فيه الحلفَ بالبغيض إلى اللَّه وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه (¬3) ولا مخالف له منهم (¬4)، فالواجبُ تحكيمُ هذا النص العام والعملُ بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعًا متيفنًا (¬5) على خلافه، فالأمة لا تُجمِع على خطأ البتة. ومن ذلك الاكتفاء بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" (¬6) في إبطالِ كُلِّ عقدِ نهى اللَّه ورسوله عنه وحَرَّمه، وأنه لغوٌ لا يُعتدُّ به، نكاحًا كان أو طلاقًا أو غيرهما، إلا أن تُجمع الأمة إجماعًا معلومًا على أن بعض ما نهى اللَّه ورسوله عنه وحَرَّمه من العقود صحيحٌ لازم معتدّ به غير مردود، فهي لا تجمع على خطأ، وباللَّه التوفيق. ومن ذلك الاكتفاء بقوله [تعالى] (¬7): {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] مع قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬8) فكل ما لم يبين اللَّه ولا رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- تحريمَه من المطاعم و [المشارب] (7) والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن اللَّه سبحانه قد فصَّل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلا بد أن يكون تحريمه مفصلًا، وكما أنه لا يجوز [إباحة ما حرّمه اللَّه، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه] (¬9)، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) في (د): "سنة" بالنون! والصواب أنه ثبت عن سبعة منهم، هم: ابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة، وأم سلمة، وحفصة، وزينب ربيبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (33/ 50) وأسند ذلك عنهم البيهقي: كتاب الأيمان: باب من جعل شيئًا من ماله صدقة أو في سبيل اللَّه. . . (10/ 65). (¬2) في (ق) و (ك): "من نفسهم". (¬3) مضى تخريجه. (¬4) "هدي الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الثابت عنه: أن من كان حالفًا، فليحلف باللَّه، أو فليسكت وأن من حلف بغير اللَّه، فقد كفر، فلا يجوز الحلف بطلاق ولا عتاق ولا غيرهما مما ليس من هدي اللَّه" (و)، وانظر مذهب علي في الحلف بالطلاق: "المحلى" (10/ 211 - 213)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 89)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (47/ 33 - 50). (¬5) في (ق) و (ك): "مستيقنًا". (¬6) الحديث في "الصحيحين"، وقد سبق تخريجه. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) سبق تخريجه. (¬9) في (ق): "وكما أنه لا يجوز تحريم ما عفا عنه لم نحرمه".

الفصل الثاني [ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس]

الفَصل الثَّاني [ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس] في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يُظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد: إما أن يكون القياس فاسدًا، أو (¬1) يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع (¬2). وسألت شيخنا قدس اللَّه روحه (¬3) عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: "هذا خلافُ القياس" لِما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم، وربَّما كان مجمعًا عليه، كقولهم: طهارةُ الماء إذا وقعت فيه نجاسةٌ [على] (¬4) خلاف القياس، وتطهيرُ النجاسةِ على خلاف القياس، والوضوءُ من لحوم الإبل، والفِطْر بالحجامة، والسَّلَم، والإجارة، والحوالة، والكتابة، والمُضَاربة، والمزارعة، والمساقاة، والقَرْض، وصحةُ صوم الأكل الناسي (¬5)، والمضيُّ في الحج الفاسد، كل ذلك على خلاف القياس، فهل ذلك صواب أم لا؟ فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس. وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه، وما فتح اللَّه سبحانه لي بِيُمن إرشاده، وبركة تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه (¬6). [لفظ القياس مجمل] [أصْلُ هذا أن لفظ] (¬7) القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح ¬

_ (¬1) في (ك): "وأما أو". (¬2) في (ق): "الشارع". (¬3) هو شيخ الأسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- وانظر السؤال والجواب عنه بطوله في "مجموع الفتاوى" (20/ 504 - 585) و (1/ 21 - 23)، وللشيخ عمر بن عبد العزيز -رحمة اللَّه عليه- كتاب بعنوان: "المعدول به عن القياس حقيقته وحكمه، وموقف شيخ الإسلام أحمد بن تيمية منه" وهو من منشورات مكتبة الدار، بالمدينة النبوية، سنة 1408 هـ. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "ناسيًا". (¬6) في (ن): "وما فتح اللَّه سبحانه عليَّ من بركة إرشاده، وحسن تعليمه. . فقط، ووقع في (ق): "بتمييز إرشاده. . .". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين سقط من (ك): "إنّ أصل هذا أن تعلم أن" وفي (ق): "أصل هذا أن يعلم أن".

[شبهة من ظن خلاف القياس وردها]

والفاسد، والصحيح هو الذي وَرَدَتْ به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، فالأول قياس الطَّرْد، والثاني قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث اللَّه به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علَّق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو أن لا يكون بين الصورتين فرقٌ مؤثر في الشَّرع، فمثل هذا القياس أيضًا لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكمٍ يفارق به نظائره فلابد أن يختص ذلك [النوع] (¬1) بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره، لكن (¬2) الوصف الذي اختص به ذلك النوع وقد (¬3) يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح أن يَعْلم صحتَه كلُّ أحد، فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر، وحيث علمنا أن النص [ورد] (¬4) بخلاف قياس علمنا قطعًا أنه قياس فاسد، بمعنى أن سورة النص امتازت عن تلك الصور التي يُظن أنها مثلها بوصفٍ أوجب تخصيصَ الشارع لها بذلك الحكم، فليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا، ولكن يخالف القياس الفاسد، وإن كان بعضُ الناس لا يعلم فساده، ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال. [شبهة من ظن خلاف القياس وردها] فالذين قالوا: "المضاربة والمُسَاقاة والمزَارعة على خلاف القياس" ظنّوا أن هذه العقود من جنس الإجارة؛ لأنها عملٌ بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعِوَض والمعوض، فلما رأوا العمل والرِّبْحَ في هذه العقود غير معلومين قالوا: هي على خلاف القياس (¬5)، وهذا من غلطهم؛ فإن هذه العقود من جنس ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق) و (ك): "فكيف". (¬3) في (ق): "قد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ممن نص على أن المضاربة ثبتت على خلاف القياس: الكاساني في "بدائع الصنائع" (6/ 79) والعيني في "البناية" (7/ 874)، وأما بشأن المزارعة، فانظر: "البناية" (8/ 701، 703)، وأما بشان المساقاة، فانظر: "البناية" أيضًا (8/ 741 - 744)، "فتح الباري" (5/ 13). وانظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 506 - 511) و"زاد المعاد" (2/ 77، 143)، و"الطرق الحكمية، (ص: 286 - 290)، و"تهذيب السنن" (5/ 56 - 62، 64، 65، 66).

[العمل المقصود به المال على ثلاثة أنواع]

المشاركات، لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، والمشاركاتُ جنسٌ غير جنس المعاوضات، وإن كان فيها شَوْبُ المعاوضة، وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة المحضة، وإن كان فيها شَوْبُ المعاوضة حتى ظن بعضُ الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص. [العمل المقصود به المال على ثلاثة أنواع] وإيضاح هذا أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع (¬1): أحدهما: أن يكون العمل مقصودًا معلومًا مَقْدُورًا على تسليمه، فهذه الإجارة اللازمة. الثاني: أن يكون العمل مقصودًا، لكنه مجهولٌ أو غَرَرٌ، فهذه الجَعَالة (¬2)، وهي عقدٌ جائزٌ ليس بلازم، فإذا قال: "مَنْ رد عبدي الآبق فله مئة" فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يردُّه من مكان بعيد أو قريب، فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة، فإن عَمِل العملَ استحق الجعل، وإلّا فلا، ويجوز أن يكون الجُعْلُ فيها إذا حصل بالعمل جزءًا شائعًا ومجهولًا جهالة لا تمنع التسليم، كقول أمير الغزو: "مَنْ دَلَّ على حصنٍ فله ثلث ما فيه" أو يقول (¬3) للسّريَّة التي يسيرُ بها: "لكم خمسُ ما تغنمون أو ربُعُه" وتنازعوا في السَّلَب: هل هو مُستحقٌ بالشرع كقول الشافعي (¬4) أو بالشرط كقول أبي حنيفة (¬5) ومالك (¬6)؟ [على قولين] (¬7) وهما ¬

_ (¬1) انظر كتاب "الفروسية" (ص 98 - 99 بتحقيقي). (¬2) "ما يجعل على العمل من أجر أو رشوة، ومن هنا يتبين أنها ليست بحلال في كل حال" (و). قلت: وانظر: "الفروسية" (ص 101 - بتحقيقي). (¬3) في (ق) و (ك): "ويقول". (¬4) انظر: "الأم" (4/ 153) "الحاوي الكبير" (14/ 155 - ط دار الكتب العلمية)، "المجموع" (21/ 184، 187)، "حلية العلماء" (7/ 658)، "مغني المحتاج" (4/ 234)، "نهاية المحتاج" (6/ 144)، "مختصر الخلافيات" (4/ 46 رقم 172). (¬5) انظر: "الرد على سير الأوزاعي" (46 - 47)، "الآثار" (190)، "عمدة القاري" (12/ 206)، "فتح القدير" (5/ 512). (¬6) انظر: "الموطأ" (2/ 455)، "المدونة" (1/ 386)، "التفريع" (1/ 358)، "المعونة" (1/ 606)، "الذخيرة" (3/ 421)، "الرد على الشافعي" (52 - 53) لابن اللباد. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل

روايتان عن أحمد (¬1)، فمن جعله مستحقًا بالشرط جعله من هذا الباب، ومن ذلك إذا جعل للطبيب جُعْلًا على الشفاء جاز، كما أخذ أصحابُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- القطيع من الشَّاءِ الذي جعله لهم سَيِّدُ الحي، فَرَقَاه أحدُهم حتى برئ (¬2)، والجُعْل كان على الشفاء لا على القراءة، ولو استأجر طبيبًا إجارة لازمة على الشفاء لم يصح؛ لأن الشفاء غير مقدور له (¬3)، فقد يشفيه اللَّه وقد لا يشفيه، فهذه ونحوه مما تجوز فيه الجَعَالة، دون الإجارة اللازمة. فصل وأما النوع الثالث فهو: ما لا يُقْصَد فيه العمل، بل المقصود فيه المال، وهو المضاربة، فإن ربَّ المال ليس له قصدٌ في نفس العمل كما للجاعل (¬4)، والمستأجر [له] (¬5) قصد في عَملِ العامل، ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئًا لم يكن له شيءٌ، وإن سَمَّى هذا جَعَالة بجزء مما يحصل من العمل كان [هذا] (¬6) نزاعًا لفظيًا، بل هذه مشاركة: هذا بنفعِ ماله، وهذا بنفع بدنه (¬7)، وما قسم اللَّه من ربح كان بينهما على الإشاعة؛ ولهذا لا يجوز أن يختص أحدُهما بربح مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن العَدْل الواجب في الشركة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المزارعة، فإنهم كانوا يشترطون لربِّ الأبيض زرعَ بقعة بعينها، وهو ما نبت على الماذياناتِ (¬8) وأقبال الجداول ونحو ذلك، فنهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه (¬9)، ولهذا قال الليث بن سعد وغيره: " [إن] (5) الذي نَهَى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرٌ لو نَظرَ فيه ذو البصيرة ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" (13/ 64)، "المبدع" (3/ 370)، "المحرر" (2/ 174)، "الإنصاف" (4/ 148)، "منتهى الإرادات" (1/ 635)، "كشاف القناع" (3/ 70). (¬2) أخرجه البخاري (2276) (كتاب الإجارة): باب ما يُعطى في الرُّقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، عن أبي سعيد الخدري رفعه، ووقع في (ق): "فرقاه بعضهم حتى برأ". (¬3) في (ن): "لأنه غير مقدور له". (¬4) في المطبوع: "في نفس عمل العامل كالمجاعل"، وفي (ن) و (ك): "في نفس عمل العامل كالجاعل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬7) في (ن): "هذا ينفع بماله، وهذا ينفع ببدنه"، وفي (ق): "هذا لنفع ماله، وهذا لنفع بدنه". (¬8) "بكسر الذال وفتحها: مسائل الماء، أو ما ينبت على حافتي مسيل الماء، أو حولي السواقي" (و). قلت: وهي لفظة معربة، وليست عربية. ووقع في (ك): "وهو ما ينبت على الماذيانات" (¬9) أخرج البخاري (2332) (كتاب الحرث والمزارعة): باب ما يكره من الشروط في =

بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز" (¬1)، فتبين (¬2) أن النهي عن ذلك مُوجَبُ القياس، فإن هذا لو شرط في المضاربة لم يجز، فإن مبنى المشاركات (¬3) على العدل بين الشريكين، فإذا خُصَّ أحدهما بربح دون الآخر لم يكن ذلك عدلًا، بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء مشاع (¬4) فإنهما يشتركان في المَغْنَمِ والمَغْرم، فإن حصل ربح اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم، وذهب نفعُ بَدَنِ هذا كما ذهب نفعُ مال هذا، ولهذا كانت الوضيعة على المال؛ لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال، ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل (¬5)، فيُعْطَى العامل ما جرت العادة أن يُعطاه (¬6) مثله إما نصفه أو ثلثه، فأما أن يُعطى شيئًا مقدَّرًا مضمونًا في ذمة المالك كما يُعطى في الإجارة والجَعَالة فهذا غلط ممن قاله، وسببُ غلطه (¬7) ظنُّه أن هذه إجارة فإعطاءه في فاسدها عوضَ المثلِ كما يعطيه في الصحيح المُسمَّى، ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر، فلو أُعطي أجرة أُعطي (¬8) أضعاف رأس المال، وهو في الصحيح (¬9) لا يستحق إلا جزءًا من الربح إن كان هناك ربح، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة؟ وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة (¬10) ظنوا أنهما إجارة بعوض مجهول فابطلوهما، وبعضُهم صحَّح منهما (¬11) ¬

_ = المزارعة، ومسلم (1547) (كتاب البيوع): باب كراء الأبيض بالذهب والوَرِق عن رافع قال: كنا أكثر أهل المدينة حقلًا، وكان أحدنا يكري أرضه، فيقول هذه القطعة لي، وهذه لك، فربما أخرجت ذه، ولم تخرج ذه، فنهاهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. لفظ البخاري. وأخرج مسلم (1536) (96) عن جابر بن عبد اللَّه قال: كُنّا في زمان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نأخذ الأرض بالثلث أو الربع بالماذيانات فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك، فقال: من كانت له أرض فليزرعها، فإن لم يزرعها فليمنحها أخاه، فإن لم يمنحها أخاه فلْيُمسِكها". (¬1) علق البخاري في "الصحيح" (كتاب الحرث والمزارعة): (قبل رقم 2346، 2347) عن الليث بن سعد قوله: "وكان الذي نُهي عن ذلك، ما لو نظر فيه ذوو الفهم بالحلال والحرام لم يجيزوه، لما فيه من المخاطرة". ووقع في (ك) و (ق): "إذا نظر فيه ذو البصر". (¬2) في (ن): "فبين". (¬3) في (ن): "الشركات" وفي (ق): "بناء المشاركات". (¬4) في المطبوع: "شائع". (¬5) زاد هنا في (ك): "لا أجرة المثل". (¬6) في (ك) و (ق): "يُعطى". (¬7) في (ن): "وسببه". (¬8) في (ق): "فلو أُعطي أجرة المثل أعطي". (¬9) في (د) و (ك): "الصحيحة". (¬10) في (ق): "المساقاة والمزارعة". (¬11) في (ق): "منها".

[الأصل في جميع العقود العدل]

ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها، وجوَّزوا من المزارعة ما يكون تبعًا للمساقاة إما مطلقًا وإما إذا كان البياضُ الثلث، وهذا كله بناء على أن مُقتضى الدليل بطلان المزارعة، وإنما جُوِّزت للحاجة، ومن أعطى النظر حقه على أن المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة، فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض، فإذا لزمته الأجرة ومقصوده [من الزرع] (¬1) قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المعاوضين (¬2) على مقصوده دون الآخر، فأحدُهما غانمٌ ولا بد، والآخر متردد بين المغنم والمغرم، وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة. [الأصل في جميع العقود العدل] والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بُعثت به الرسل وأُنزلت به الكتب، قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من الظلم، والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا، وكلاهما أكل المال (¬3) بالباطل، وما نهى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المعاملات -كبيع الغَرر (¬4)، وبيع الثمر قبل بُدُوِّ صلاحه (¬5)، وبيع السِّنين (¬6)، وبيع حبَل الحَبَلة (¬7)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ن): "حصول أحدهما". (¬3) في (ق): "للمال". (¬4) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب البيوع): باب بطلان بيع الحصاة (10/ 156 - نووي)، من حديث أبي هريرة. (¬5) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الشرب والمساقاة): باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، (رقم 2194)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب البيوع): باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها (10/ 177 - نووي)، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. (¬6) أخرجه البخاري في "الصحيح" (2381) (كتاب المساقاة): باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ومسلم (1536) (85) (كتاب البيوع): باب النهي عن المحاقلة والمزابنة وعن المخابرة وبيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها، وعن بيع المعاومة، وهو بيع السنين، عن جابر بن عبد اللَّه قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة (قال أحدهما -أي أبو الزبير أو سعيد بن ميناء: بيع السنين هي المعاومة وعن الثنيا ورخص في العرايا". (¬7) أخرجه البخاري (2143) (كتاب البيوع): باب بيع الغرر وحَبَلَ الحبلة، ومسلم (1514) =

وبيع المُزَابَنة (¬1) والمحَاقَلة (¬2)، وبيع الحصاة (¬3)، وبيع المَلاقيح والمضامين (¬4)، ونحو ذلك- هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر. فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يَكْرِيَه الدار بما يكسبه المكتري من (¬5) حانوته من المال هو من الميسر، وأما المُضَاربة والمسَاقاة والمزَارعة فليس فيها شيء من الميسر، بل هي [من] (¬6) أقْوَم العَدْل، وهو مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البَذْر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من رب الأرض؛ ولهذا كان أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يزارعون على هذا الوجه، وكذلك عَامَلَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أهلَ خيبر بشَطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم (¬7)، والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسُوا ذلك على ¬

_ = (كتاب البيوع): باب تحريم بيع الرجل حبل الحبلة، وانظر في معناه ما سيأتي قريبًا. (¬1) مضى تخريجه قريبًا، وانظر في معناه ما سيأتي قريبًا. (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب بيع المخاضرة (2207)، من حديث أنس. (¬3) أخرجه مسلم (1513) (كتاب البيوع): باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر عن أبي هريرة قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر. وانظر في معناه: "المعلم بفوائد مسلم" (2/ 160)، و"الموافقات" (2/ 522 و 3/ 417 - بتحقيقي)، وما سيأتي قريبًا. (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" (4060 - رواية يحيى ورقم 2610 - رواية أبي مصعب الزهري) عن سعيد بن المسيب قوله. وورد مرفوعًا في أحاديث فيها ضعف، وانظر: "مجمع الزوائد" (4/ 204)، وقال (و): "الحبل: مصدر سمي به المحمول، والحبل الأول يراد به ما في بطون النوق من الحمل، والثاني -الحبلة- حبل الذي في بطون النوق، وإنما نهى عنه لمعنيين، أحدهما: أنه غرر، وبيع شيء لم يخلق بعد، وهو أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن تكون أنثى، فهو بيع نتاج النتاج، وقيل أراد بحبل الحبلة أن يبيعه إلى أجل ينتج فيه الحمل الذي في بطن الناقة، فهو أجل مجهول ولا يصح، والمزابنة: بيع الرطب في رءوس النخل بالتمر، وفي المحاقلة اختلاف، فقيل: هي اكتراء الأبيض بالحنطة، وقيل: هي المزارعة على نصيب معلوم كالثلث والربع، وقيل: هي بيع الطعام في سنبله بالبر، أو بيع الزرع قبل إدراكه، وبيع الحصاة هو أن يقول البائع أو المشتري: إذا نبذت إليك الحصاة، فقد وجب البيع، وقيل: هو أن يقول: بعتك من السلع ما تقع عليه حصاتك إذا رميت بها، أو بعتك من الأبيض إلى حيث تنتهي حصاتك، والكل فاسد لأنه من بيوع الجاهلية، والملاقيح: جمع ملقوح، وهو جنين الناقة، وقيل ما في صلب الفحل، وما في بطن الناقة يسمى: مضمونًا". (¬5) في المطبوع و (ق) و (ك): "في". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) أخرجه البخاري (2328) (كتاب الحرث والمزارعة): باب المزارعة بالشطر، و (2331): =

فصل [الحوالة موافقة للقياس]

المضاربة، فقالوا: المضاربة المال فيها من واحد والعمل من آخر، فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البَذْر فيها من مالك الأرض، وهذا القياس -مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة- فهو من أفسد القياس، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه، ويقتسمان الربح، فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البَذْر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأجل (¬1) الباقي؛ فالعامل إذا أخرج البَذْرَ ذهب عمله وبذره، ورب الأرض يذهبُ نفعُ أرضه، وبدن هذا (¬2) كأرض هذا؛ فمن جعل البَذْرَ كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه، كما قال مثل ذلك في المضاربة، كيف ولو اشترط رب البذر عَوْد نظيره لم يجوّزوا ذلك؟ فصل [الحوالة موافقة للقياس] وأما الحوالة فالذين قالوا: "إنها على خلاف القياس" (¬3) قالوا: هي بيع دين بدين، والقياس يأباه، وهذا غلطٌ من وجهين (¬4): أحدهما: أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ (¬5)، والكالئ: هو المؤخَرُ الذي لم يُقْبَضْ (¬6)، كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة، وكلاهما مُؤخَّر، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ (¬7)، وأما بيع الدَّيْن بالدَّيْن فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرنا، ¬

_ = باب المزارعة مع اليهود ونحوه، ومسلم (1551) (كتاب المساقاة): باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع، عن ابن عمر. (¬1) في المطبوع و (ق) و (ك): "بالأصل". (¬2) في (ق) و (ك): "وبذر هذا". (¬3) هذا قول كثير من المالكية والشافعية انظر: "المهذب" (1/ 344)، "فتح العزيز" (10/ 338)، "شرح منح الجليل" (6/ 187). (¬4) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 364)، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 513) وذهب معظم فقهاء الحنفية والحنابلة إلى أنه موافق للقياس، انظر: "البناية" (6/ 808)، "إحكام الأحكام" (3/ 198 - 199) لابن دقيق العيد، "فتح الباري" (4/ 465 - 466)، "شرح النووي على صحح مسلم" (10/ 228)، "المغني" (4/ 576)، "حاشية الروض المربع" (2/ 191). (¬5) سيأتي تخريجه. (¬6) زاد هنا في (ك): "بالمؤخر الثاني". (¬7) "وصورته: أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل، فإذا حلَّ الأجل، لم يجد ما يقضي به، =

وهو الممتنع (¬1)، وينقسم إلى بيع ساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط، وهذا فيه نزاع. قلت (¬2): الساقطُ بالساقط في سورة المقاصَّة، والساقطُ بالواجبِ كما لو باعه دينًا له في ذمته بدَيْن آخر من غير جنسه، فسقط الدينُ المبيعُ ووجب عِوَضه، وهو (¬3) بيع الدين ممن هو في ذمته، وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كُر (¬4) حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دَيْن وسقط له عنه دين غيره، وقد حُكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا، واختار جوازه (¬5)، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس (¬6) بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهيَّ عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لم يتعجل أحدُهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة، وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منهما غَرضٌ صحيح ومنفعة مطلوبة، وذلك ظاهر في مسألة التقاص، فإن ذمتهما تبرأ من أسرِها، وبراءةُ الذمة مطلوبٌ (¬7) لهما وللشارع، فأما في الصورتين الأخرتين (¬8) فأحدهما يُعجِّل براءة ذمته والآخر ينتفع (¬9) بما يربحه، وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح -وذلك في بيع العين بالدين- جاز أن يفرغَهَا من دَيْنٍ ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها به ابتداء (¬10) إما بقرض أو (¬11) بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دَيْن بدين فلم ينهَ الشَّرعُ (¬12) عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه؛ فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمةِ المُحيل إلى ذمة المُحال عليه، فقد عاوض ¬

_ = فيقول بِعْنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء، فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض، يقال: كلأ الدين كلوءًا فهو كاليء إذا تأخر" (و). قلت: ولنزيه حماد دراسة مفردة مطبوعة في هذه المسألة. (¬1) في المطبوع: "هو ممتنع". (¬2) القائل هو الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه-. (¬3) في المطبوع: "وهي". (¬4) "الكر: مكيال للعراق" (ط). (¬5) له في "تفسير آيات أشكلت" (2/ 635 وما بعد) مبحث مطول جدًا، تتطابق عباراته مع "الإعلام" أحيانًا، انظره فإنه مفيد، وقارن بـ"مجموع الفتاوى" (29/ 511 - 512). (¬6) في (ق) و (ك): "ولا هو". (¬7) في (ق): "مطلوبة". (¬8) في المطبوع: "الأخيرتين". (¬9) في (ق): "انتفع". (¬10) في (ق): "أبدأ". (¬11) في (ق): "وإما". (¬12) في (ك) و (ق): "الشارع".

المُحيلُ المحتالَ بدينه بدين آخر (¬1) في ذمة ثالث (¬2)، فإذا عاوضَهُ من دَيْنه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز وباللَّه التوفيق. رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام، قال (¬3): الوجه الثاني -يعني مما يبين أن الحوالة على وفق القياس- أنَّ الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المَدينِ (¬4) مالَه كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدَّيْن عن الدين الذي في ذمةِ المُحيل؛ ولهذا ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح: "مَطْلُ الغني ظلم، وإذا أُتْبعَ أحدكم على مليء فَلْيَتَّبع" (¬5) فأمر المَدِينَ بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء، وهذا كقوله [تعالى] (¬6): {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أمر المستحق أن يطالب بالمعروف، وأمر المؤدي (¬7) أنْ يؤدّي بإحسان، ووفاءُ الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شَوْب (¬8) المعاوضة، وقد ظنَّ بعضُ الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاءِ المَدين بسبب [أن] (¬9) الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمة المدين مثله (¬10)، ثم إنه يقاصُّ ما عليه بماله، وهذا تكلُّفٌ أنكره جمهور الفقهاء، وقالوا: بل نفس المال الذي قَبضهُ يحصلُ به الوفاء، ولا حاجَة أن يُقدِّر في ذمة المستوفي دَيْنًا، وأولئك قَصَدُوا أن يكون وفاء دين بدين مطلق، وهذا لا حاجة إليه، فإن الدَّينَ من جنس المطلق الكلي والمعيَّن من جنس المعين، فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة، وأي مُعين ¬

_ (¬1) في المطبوع: "من دينه بدين آخر". (¬2) في (ق) و (ك): "في ذمته ثابت". (¬3) من هنا يستأنف ابن القيم كلام شيخه -رحمهما اللَّه تعالى- فتابِعْه في "مجموع الفتاوى" (20/ 512 - فما بعدها)، وللشيخ صالح السلطان بحث مطبوع في (بيع الدين) (مهم). (¬4) في (ق): "الدين". (¬5) أخرجه البخاري (2287) (كتاب الحوالات): باب في الحوالة، وهل يرجع في الحوالة، و (2288) باب إذا أحال على مليء فليس له رد، ومسلم (1564) (كتاب المساقاة): باب تحريم مطل الغني، من حديث أبي هريرة. "أي إذا أحيل على قادر، فليحتل، قال الخطابي: أصحاب الحديث يروونه: أتبع -بتشديد التاء- وصوابه بسكون التاء بوزن أكرم" (و). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "المدين". (¬8) في (ك): "ثبوت". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) في (ق): "في ذمته للمدين مثله".

فصل [القرض على وفق القياس]

استوفاه حَصَل به المقصودُ من ذلك الدين المطلق. فصل [القرض على وفق القياس] وأما القرض فمن قال: "إنه على خلاف القياس" (¬1) فشُبْهته أنه بيع رِبَوي بجنسه مع تأخر القبض، وهذا غلط (¬2)، فإن القرض من جنِس التبرع بالمنافع كالعارية، ولهذا سَمَّاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[مَنِيحَةً] (¬3) فقال: "أو مَنيحة ذهب أو منيحةَ وَرِقٍ" (¬4) وهذا من باب الإرفاق، لا من باب المعاوضات، فإن باب المعاوضات يُعطي كلٌّ منهما أصلَ المال على وجه لا يعود إليه، وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر مما يُعطي فيه أصل المال لينتفعَ بما يستخلف منه ثم يُعيده إليه بعينه إن أمكن وإلا فنظيره ومثله (¬5)، فتارةً ينتفع بالمنافع كما في عارية العَقَار وتارة يمنحه ماشيةً ليشرب لبنها ثم يعيدها أو شجرة (¬6) ليأكل ثمرها ثم يعيدها، وتُسمَّي العريه، فإنهم يقولون: أعراه الشجرة (¬7)، وأعاره المتاع، ومَنَحه الشاة، وأفقره الظهر، وأقرضه الدراهم، واللبن والثمر لمَّا كان يستخلف شيئًا بعد شيء كان بمنزلة المنافع، ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع، وليس هذا من باب البيع في شيء بل هو من باب الإرفاق والتبرع والصدقة، وإن كان المُقْرضُ قد ينتفع أيضًا بالقَرْض كما في مسألة السفتجة (¬8)، [ولهذا كرهها من كرهها] (¬9)، والصحيح أنها لا تكره؛ لأن المنفعة لا تخص المقرض، بل ينتفعان بها جميعًا (¬10). ¬

_ (¬1) قاله الكاساني في "بدائع الصنائع" (7/ 396) وقارن بـ"الفروق" (4/ 2). (¬2) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 514). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) أخرج أحمد (4/ 272) عن النعمان بن بشير رفعه: "من منح منيحة وَرِقٍ أو ذهبٍ، أو سقى لبنًا، أو أهدى زُقاقًا، فهو كعدل رقبة"، وإسناده حسن. وفي الباب عن البراء بن عازب، عند أحمد (4/ 285، 286 - 287، 296، 300، 304)، والترمذي (1597): أبواب البر والصلة: باب ما جاء في المنحة، والخطابي في "غريب الحديث" (1/ 728)، وابن حبان (5096)، والبغوي (1663) وإسناده جيد. (¬5) في (ق) و (ك): "أو مثله". (¬6) في (ن): "أو شجرًا". (¬7) في (ق): "الشجر". (¬8) "أن يعطي مالًا لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي، فيوفيه إياه ثَمَّ، فيستفيد أمن الطريق" (و). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 152 - 153).

فصل [إزالة النجاسة على وفق القياس]

فصل [إزالة النجاسة على وفق القياس] وأما إزالة النجاسة فمن قال: "إنها على خلاف القياس" (¬1) فقوله مِنْ أبطل الأقوال وأفسدها (¬2)، وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة تنخس بها، ثم [لاقى] (¬3) الثاني والثالث كذلك، وهلمَّ جرًا، والنجس لا يزيل نجاسة، وهذا غلط، فإنه يقال: فلم (¬4) قلتم: إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسةً نَجُسَ؟ فإن قلتم: الحكم في بعض الصور كذلك، قيل: هذا ممنوع عند من يقول: [إن] (3) الماء لا يَنْجُس إلا بالتغير. فإن قيل: فيقاس ما لم يتغيّر على ما تغيّر. قيل: هذا من أبطل القياس حسًا وشرعًا، وليس جَعْلُ الإزالة مخالفةً للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفًا للقياس، بل يقال: إن القياس يقتضي أن الماء إذا [لاقى نجاسة لا ينجس، كما أنه إذا] (5) لاقاها حال الإزالة لا ينجس؛ فهذا القياسُ أصحُّ من ذلك القياس؛ لأن النجاسة تزول بالماء حسًا وشرعًا، وذلك معلوم بالضرورة من الدين [بالنص والإجماع] (¬5)؛ وأما تنجيسُ الماء بالملاقاة فموردُ نزاعٍ، فكيف يُجعل مَوردُ النزاعِ حجةً على مواقع الإجماع (¬6)؟ والقياسُ يقتضي رد موارد النزاع إلى مواقع الإجماع، وأيضًا فالذي تقتضيه العقولُ أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس، فإنه باق على [أصل] (5) خلقته، فهو (¬7) طيب، فيدخل في قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (¬8) [الأعراف: 157]. وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لونٌ ولا طعمٌ ولا ريحٌ. ¬

_ (¬1) ذهب جمع من الحنفية إلى هذا، انظر: "البناية" (1/ 711)، "بدائع الصنائع" (1/ 83). (¬2) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 515 - 516). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "لم". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وانظر حول الإجماع على أن الماء يزيل النجاسة: "تفسير القرطبي" (13/ 14) "المجموع" (1/ 81)، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 516). (¬6) في (ق): "القياس" وصحح في الهامش ما أثبتناه هنا. (¬7) في. (د): "وهو". (¬8) بعدها في (د): {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ}.

وقد تنازع الفقهاء: هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل (¬1)، أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذا لم يتغير؟ على قولين، والأول قول أهل العراق، والثاني قول أهل الحجاز، وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا (¬2). وقول أهل الحجاز هو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول (¬3)، فإن اللَّه سبحانه أباح الطَّيبات وحَرَّم الخبائث، والطيَّبُ والخبيثُ يثبت للمَحَلِّ (¬4) باعتبار صفات قائمة به، فما دامت تلك الصفة فالحكمُ تابعٌ لها، فإذا زالت وخَلَفتها الصفة الأخرى زال الحكم وخلله ضده، وهذا (¬5) هو مَحْضُ القياس والمعقول، فهذا الماء والطعام كان طيبًا لقيام الصفةِ الموجبةِ لِطِيبه، فإذا زالت تلك الصفة وخَلَفتها (¬6) صفة الخبث عاد خبيثًا، فإذا زالت صفة الخَبَث عاد [إلى ما كان] (¬7) عليه، وهذا كالعصير الطيب إذا تخَمَّر صار خبيثًا فإذا عاد إلى ما كان عليه عاد طيِّبًا، [والماء الكثير إذا تغير بالنجاسة صار خبيثًا فإذا زال التغير عاد طيبًا، والرجل المسلم إذا ارتدَّ صار خبيثًا فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيبًا] (¬8)، والدليل على أنه طيب الحس والشرع: أما الحس فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثرٌ بوجه ما لا في لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، ومحالٌ صِدْقُ المشتقِّ بدون المشتق منه، وأما الشرع فمن وجوه: أحدها: أنه كان طيبًا قبل ملاقاته لما يتأثر به، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه، وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة: استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربًا أو طبخًا أو عجنًا (¬9)، وملابسة واستصحاب (¬10) الحكم الثابت وهو الطهارة، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. ¬

_ (¬1) في (ق): "إلا ما استثنى في الدليل". (¬2) انظر: "إحكام الأحكام" (1/ 21 - 22) لابن دقيق العيد، "فتح الباري" (1/ 348)، "شرح النووي على صحيح مسلم" (1/ 187)، "البناية" (1/ 711). (¬3) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 56 - 74)، و"بدائع الفوائد" (3/ 130، 131، 257 - 258). (¬4) في (ق) و (ك): "في المحل". (¬5) في (د) و (ك): "فهذا". (¬6) في (ق): "وخلفها". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق): "خلا". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ق) و (ك): "وطبخًا وعجنًا". (¬10) في (د): "وملابسة استصحاب" وفي (ك): "أو استصحاب".

الثاني: أنه لو شرب هذا الماء الذي قُطِرت فيه قطرةٌ من خمر مثل رأس الذبابة (¬1) لم يُحدّ اتفاقًا، ولو شربه صبيٌّ وقد قطرت فيه قطرة من لبن لم ينشئ الحرمة، فلا وجه للحكم بنجاسته لا من كتاب ولا سنة (¬2) ولا قياس. والذين قالوا: "إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة" تناقضوا أظهر (¬3) تناقض، ولم يمكنهم طَرْدُ هذا الأصل: فمنهم من استثنى مقدار الُقلَّتين (¬4) على خلافهم فيها، ومنهم من استثنى ما لا يمكن نَزحُه، ومنهم من استثنى ما إذا حُرِّكَ أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر (¬5)، ومنهم من استثنى الجاري خاصة، وفرَّقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق: منها أنه وارد على النجاسة فهو فاعلٌ وإذا وردت عليه فهو مَوْرُود مُنْفعل وهو أضعف، ومنها أنه إذا كان واردًا فهو جارٍ (¬6) والجاري له قوة، ومنها أنه إذا كان واردًا فهو في محل التطهير وما دام في محل التطهير فله عمل وقوة، والصواب [أن مقتضى القياس] (¬7) أن الماء لا ينجس إلا بالتغير (¬8)، وأنه إذا تغيَّر في محل التطهير فهو نجس أيضًا، وهو في حال تغيره لم يزلها، وإنما خففها، ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير، وهذا هو القياس في المائعات كلها: أن يسيرَ النجاسةِ إذا استحالت في الماء ولم يظهر لها (¬9) فيه لونٌ ولا طعمٌ ولا رائحةٌ فهي من الطيبات لا من الخبائث، وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: " [إن] الماء لا ¬

_ (¬1) في (ق): "الذباب". (¬2) في (د): "ولا من سنة". (¬3) في (د): "أعظم". (¬4) كما جاء في حديث صحيح، أفرده العلائي في جزء مطبوع، وأسهبت في تخريجه في تعليقي على "الطهور" لأبي عبيد (167)، و"الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 41 رقم 965)، والمذكور مذهب أبي عبيد في "الطهور" (ص 235 - 237). (¬5) وهذا مذهب الحنفية، انظر: "شرح فتح القدير" (1/ 79 - 81)، و"البناية" (1/ 313 - 314، 330)، و"حاشية ابن عابدين" (1/ 128). (¬6) في (ق): "جاري". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) وهذا مذهب مالك والأوزاعي والليث وابن وهب وإسماعيل بن إسحاق ومحمد بن بكير، والحسن بن صالح، وبه قال أحمد في رواية، انظر: "الكافي" (1/ 155)، و"التمهيد" (1/ 326 - 327)، و"بداية المجتهد" (1/ 24)، و"تفسير القرطبي" (3/ 42)، و"المغني" (1/ 24)، و"أحكام القرآن" (3/ 419) للجصاص، "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (1/ 259 - 260)، و"فقه الأوزاعي" (1/ 9 - 10)، و"تهذيب الآثار" (2/ 219) لابن جرير. (¬9) في (ق): "له".

ينجس" (¬1) وصح عنه أنه قال: "إن الماءَ لا يجنُب" (¬2) وهما نصان صريحان في أن ¬

_ (¬1) ورد في حديث بئر بضاعة، وله طرق أحسنها ما أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 141 - 142)، وأحمد (3/ 31)، وأبو داود (66)، والترمذي (1/ 95)، والنسائي (1/ 174)، والدارقطني (1/ 30)، وابن الجارود (47)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 269)، والبغوي (283) عن أبي أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن كعب القرظي عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن رافع بن خديج عن أبي سعيد رفعه قال الترمذي: "حديث حسن، وقد جوّد أبو أسامة هذا الحديث، فلم يرو أحد حديث أبي سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي سعيد"، وقال البغوي: "هذا حديث حسن صحيح". قلت: وانظر سائر طرقه في تعليقي على "الطهور" لأبي عبيد (رقم 145، 146، 147، 148). والحديث صحيح لشواهده وطرقه، ومن أحسن شواهده حديث سهل بن سعد. أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 12)، والدارقطني (1/ 32)، والبيهقي (1/ 259)، وقاسم بن أصبغ في "مصنفه"، ومن طريقه ابن حزم (1/ 155)، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في "مستخرجه على سنن أبي داود. . كما في "التلخيص الحبير" (1/ 13). والحديث صححه أحمد بن حنبل، قال الخلال: قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، وصححه ابن معين، وابن حزم، وابن أصبغ، وحسنه ابن القطان. وانظر -غير مأمور-: "تحفة الطالب" (146)، و"البدر المنير" (2/ 51 - 61)، و"خلاصته" (1/ 7)، و"تحفة المحتاج" (1/ 137)، و"المجموع" (1/ 82)، و"المغني" (1/ 25)، و"تنقيح التحقيق" (1/ 205 - 207)، و"التلخيص الحبير" (1/ 12)، و"البناية في شرح الهداية" (1/ 320)، و"الإرواء" (1/ 45 - 46)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 330)، والطيالسي (115)، وأبو يعلى (7098)، وإسحاق بن راهويه (2016) في "مسانيدهم" وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 149، 150 - بتحقيقي)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (2424)، وابن ماجه (372)، والدارقطني (1/ 52)، وابن جرير في " تهذيب الآثار" (1/ 204، 205)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (58)، والخطيب في "الأسماء المبهمة" (ص 300) من طريق شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس عن ميمونة. وتوبع شريك، تابعه كل من: أولًا: أبو الأحوص، كما عند ابن أبي شيبة (1/ 143)، وأبي داود (68)، والترمذي (65)، وابن ماجه (370)، وابن حبان (1238)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ 202)، والبيهقي (1/ 267)، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". ثانيًا: سفيان الثوري، كما عند: عبد الرزاق (396)، والدارمي (1/ 187)، وإسحاق =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (2017، 2018)، وأحمد (1/ 235، 284، 358)، والنسائي (1/ 175)، وابن ماجه (371)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 26)، وابن حبان (2/ 271) رقم (1239 - مع الإحسان)، وابن الجارود في "المنتقى" رقم (48) و (49)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 267)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1/ 57 - 58) رقم (109)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 403) و"الأسماء المبهمة" رقم (148)، وأبو يعلى في "المسند" كما في "المجمع" (1/ 214)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ 202 و 203 و 205)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 159)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 268 و 296)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" رقم (57). ثالثًا: شعبة، كما عند: ابن خزيمة في "الصحيح" (1/ 48) رقم (91)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 159) والبزّار في "المسند" (1/ 132) رقم (250 - كشف الأستار)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ 206). رابعًا: حماد بن سلمة، كما عند: ابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ 206). خامسًا: يزيد بن عطاء، كما عند: الدارمي في "السنن" (1/ 187). سادسًا: إسرائيل، كما عند: ابن جرير في "تهذيب الآثار" (1/ 204) وعبد الرزاق في "المصنف" (1/ 109) رقم (397) وعنده: "عن إسرائيل عن عكرمة به"!! سابعًا: عنبسة، كما عند: ابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" رقم (55). قال الخطيب البغدادي في "الأسماء المبهمة" (ص 299): "هذا الحديث إنما يحفظ عن سماك عن عكرمة". وهذا الحديث صحيح. صححه ابن خزيمة والترمذي وقال الحاكم: "حديث صحيح في الطهارة ولم يخرجاه، ولا يحفظ له علة"!! قلت: وقد أعلّه بعضهم، كما سيأتي. وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 213): "رجاله ثقات". وقال الحازمي -كما في "التلخيص الحبير" (1/ 14) -: "لا يعرف مجوّدًا إلا من حديث سماك بن حرب عن عكرمة، وسماك مختلف فيه، وقد احتجّ به مسلم". قلت: وتوهين الحديث بسماك غير صحيح. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 300): "وقد أعله قوم بسماك بن حرب راويه عن عكرمة؛ لأنه كان يقبل التّلقين، لكن قد رواه عن شعبة، وهو لا يحمل عن مشايخه إلا صحيح حديثهم". =

الماء لا ينجس بالملاقاة، ولا يسلبه طَهُوريتُه استعمالَه في إزالة الحدث، ومَنْ نجَّسه بالملاقاة أو سَلبَ طَهُوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس ويجنب، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثبت عنه في "صحيح البخاري" أنه سئل عن فارة وقعت في سَمْن فقال: "ألقُوهَا وما حولها وكُلُوه" (¬1) ولم يفصل بين أن يكون جامدًا أو مائعًا قليلًا أو كثيرًا، فالماء من طريق الأولى يكون هذا حكمه، وحديث التفريق بين الجامد (¬2) والمائع حديثٌ معلول (¬3)، وهو غلط من معمر من عدِّة وجوهٍ بيَّنها البخاريُّ في "صحيحه" ¬

_ = ولكن البزار تكلَّم في طريق شعبة، فقال: "لا نعلم أسنده عن شعبة إلا محمد بن بكر، وأرسله غيره" قلت: وهو البرساني، وثقه جماعة، منهم: ابن معين وأبو داود والعجلي. ولم يتفرد بوصله عن شعبة فقد تابعه: محمد بن جعفر، كما عند ابن جرير. والوصل مقدم على الإرسال؛ لأنه من باب زيادة الثقة، بل زيادة أكثر من واحد منهم. وانظر: "تنقيح التحقيق" (1/ 220 - 222). (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ق): "بين المائع والجامد". (¬3) أخرجه أبو داود (3842) (كتاب الأطعمة): باب في الفأرة تقع في السمن، ومن طريقه البيهقي (9/ 353)، عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رفعه: "إذا وقعت الفأرة في السَّمن، فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه"، وكذا رواه معمر عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن ابن عباس عن ميمونة، عند النسائي (7/ 178): كتاب (الصيد والذبائح): باب الفأرة تقع في السمن، وورد التفريق بين (المائع)، و (الجامد): -عند الطيالسي (2716) عن ابن عيينة عن ابن شهاب عن عبيد اللَّه عن ابن عباس عن ميمونة. ورواه إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة به، وكذا عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن الزهري به، كذا في "الفتح" (1/ 344) ورواية ابن مهدي عند النسائي (7/ 178) (كتاب الصيد والذبائح): باب الفأرة تقع في السمن. وحكم الحفَّاظ بتوهيم (معمر) وأن المتابعات المذكورة لا تفيد! قال البخاري في "صحيحه": (عقب 5538) (كتاب الذبائح والصيد): باب إذا وقعت الفارة في السّمن الجامد أو الذائب، ورواه من طريق الحميدي ثنا سفيان حدثنا الزهري قال أخبرني عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة أنه سمع ابن عباس يحدثه عن ميمونة: إنَّ فأرةً وقعت في سمنٍ فماتت، فسُئل النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عنها فقال: "ألقوها، وما حولها وكلوه" قال: "وقيل لسفيان: فإنّ معمرًا يحدثه عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة؟ قال: ما سمعت الزهري يقول إلا عن عبيد اللَّه عن ابن عباس عن ميمونة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولقد سمعته منه مرارًا" ثم قال (رقم 5539): "حدثنا عبد ان أخبرنا عبد اللَّه عن يونس عن الزهري عن الدابة تموتُ في الزيت والسمن، وهو جامد أو غير جامد، الفارة أو غيرها، قال: بلغنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر =

والترمذيُّ في "جامعه" وغيرهما (¬1)، ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناسُ كُلُّهم خلَاف ما روى عنه معمر، وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تُلْقَى وما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والكثير والقليل، واستدلل بالحديث (¬2)، [فهذه فُتْيَاه] (¬3)، وهذا استدلاله، وهذه رواية الأئمة عنه، فقد اتفق على ذلك النص والقياس، ولا يصلح للناس سواه، وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن لصاحبه طرده كما تقدم، فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النص لا فيما جاء به النص. ¬

_ = بفأرة ماتت في سمن، فأمر بما قُرب منها فطُرح، ثم أكل". ثم أخرجه برقم (5440)، وكذا (235، 236) (كتاب الوضوء): باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء من طريق مالك -وهو في "الموطأ" (2/ 971) - عن ابن شهاب عن عبيد اللَّه عن ابن عباس عن ميمونة رفعته دون التفرقة، وأخرجه الترمذي (1798): (أبواب الأطعمة): باب ما جاء في الفارة تموت في السمن عن سفيان عن الزهري به، دون التفرقة، وقال عقبه: "وروى معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوه، وهو حديث غير محفوظ، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: وحديث معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وذكر فيه أنه سئل عنه، فقال: إذا كان جامدًا فالقوها وما حولها، وإن كانت مائعًا فلا تقربوه، هذا خطا أخطا فيه معمر، قال: "والصحيح حديث الزهري عن عبيد اللَّه عن ابن عباس عن ميمونة". ونحوه في "العلل الكبير" (2/ 758 - 759 رقم 319) للترمذي، وعنده عن البخاري قوله في هذا الحديث: "وهم فيه معمر، ليس له أصل". ووهَّم أبو حاتم الرازي معمرًا في هذه اللفظة، انظر: "العلل" (2/ 12 رقم 1507) لابنه. أما وجود هذه الزيادة في رواية ابن عيينة، فقال عنها ابن حجر في "الفتح": "وهذه الزيادة في رواية ابن عيينة غريبة، وانفرد إسحاق عنه بالتفصيل دون حفاظ أصحابه، مثل أحمد، والحميدي ومسدد، وغيرهم"، وقال: "ولم يذكر أحد منهم لفظة (جامد) إلا عبد الرحمن بن مهدي، وكذا ذكرها أبو داود الطيالسي في "مسنده" عن ابن عيينة عن ابن شهاب، ورواه الحميدي والحفاظ من أصحاب ابن عيينة بدونها، انظر: "الفتح" (1/ 344 و 9/ 668 - 669). (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 336 - 341)، و"بدائع الفوائد" (3/ 257 - 258 مهم)، و"التلخيص الحبير" (3/ 4). (¬2) كما في "صحيح البخاري" (رقم 5539)، ومضى قوله قريبًا ضمن تخريج الحديث. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [طهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس]

فصل [طهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس] وعلى هذا الأصل فطهارة الخَمر بالاستحالة على وَفْق القياس، فإنها نجسة لوصف الخَبَث، فإذا زال الموجِبُ زال الموجَبُ، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها [بل] (¬1) وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت (¬2)، وقد نَبَشَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبورَ المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب (¬3)، وقد أخبر اللَّه سبحانه عن اللَّبن أنه يخرج من بين فَرْث ودَمٍ، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا عُلِفَتْ بالنجاسة ثم حُبست وعُلِفت بالطاهرات حل لبنها ولحمها، وكذلك الزروع (¬4) والثمار إذا سقِيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلَّت (¬5) لاستحالة وصفِ الخبث وتبدله بالطيب. وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثًا صار نجسًا كالماء والطعام إذا استحال بَوْلًا وعذرةً، فكيف أثّرت الاستحالة في انقلاب الطَّيِّب خبيثًا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبًا؟ واللَّه تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه، ومن الممتنع بقاءُ حكم الخبيث وقد زال اسمه ووصفه، والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودًا وعدمًا، فالنصوص المتناولةُ لتحريمِ الميتةِ والدم ولحم الخنزير والخَمرِ لا تتناول الزروع (¬6) والثمار والرَّماد والملح والتراب والخَل لا لفظًا ولا معنى، لا نصًا ولا قياسًا. والمفرِّقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة، فيقال لهم: وهكذا الدم والبول (¬7) والعذرة إنما ¬

_ (¬1) بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 119 - 120)، و"القواعد" لابن رجب (1/ 172) وتعليقي عليه، وانظر مقالة الأستاذ محمد بن سليمان الأشقر: "المواد المحرمة والنجسة واستعمالها في الغذاء والدواء" في "مجلة المشكاة" المجلد الأول الجزء الأول (84) وما بعد، ثم رأيتها بتمامها في كتابه "أبحاث اجتهادية في الفقه الطبي" (91 - 125). (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الصلاة): باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد؟ (رقم 428)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب المساجد): باب ابتناء مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (رقم 524)، من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬4) في المطبوع و (ك): "الزرع". (¬5) في (ق): "أحالت الاستحالة" وفي (ك): "أحالت". (¬6) في (ق): "والزرع". (¬7) في (ق): "البول والدم".

فصل [الوضوء من لحوم الإبل على وفق القياس]

نجست بالاستحالة وطهرت (¬1) بالاستحالة، فظهر أن القياس مع النصوص وأن مخالفة القياس في الأقوال التي تخالف النصوص. فصل [الوضوء من لحوم الإبل على وفق القياس] وأما قولهم: "إن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس؛ لأنها لحم، واللحم لا يتوضأ منه" (¬2) فجوابه أن الشارع فَرَّق بين اللَّحمين، كما فرَّق بين المكانين، وكما فرَّق بين الراعيين: [رعاة الإبل ورعاة الغنم] (¬3) فأمر بالصلاة في مَرَابِض الغَنَمِ دون أعطان الإبل (¬4)، وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "فتطهر". (¬2) وقالوا: لأن أكله مما يدخل، والوضوء مما يخرج، راجع: "المجموع" (2/ 56 - 57) "بدائع الصنائع" (1/ 32) وتجد تصحيح المصنف للحديث في "تهذيب السنن" (1/ 136 - 138)، وانظر: "زاد المعاد" (3/ 186)، و"بدائع الفوائد" (4/ 125)، ونحوه من كلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 523)، و"مجموعة الرسائل الكبرى" (2/ 250 - 251)، و"حقيقة الصيام" (ص 48). وانظر "فتح المنان بجمع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن الجان" بقلمي (1/ 38 - 45). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) أخرج مسلم في "صحيحه" (رقم 360) عن جابر بن سمرة: "أن رجلًا سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا توضأ"، قال: "أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم، فتوضأ من لحوم الإبل". قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: "نعم". قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: "لا". و (مرابض): جمع مربض، موضع الربوض، وهو للغنم بمنزلة الاضطجاع للإنسان، والبروك للإبل، والجثوم للطير، وانظر: "مجمع بحار الأنوار" (3/ 619). ولم يحدد أحد من شراح "صحيح مسلم" اسم السائل للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانظر: "تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم" (ص 113 رقم 205 - بتحقيقي). وفي الباب عن البراء بن عازب: أخرجه أبو داود في "السنن" (رقم 184)، والترمذي في "الجامع" (رقم 81)، وابن ماجه في "السنن" (رقم 513)، وعبد الرزاق في "المصنف" (1/ 407 - 408/ رقم 1596)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 46)، وابن خزيمة في "الصحيح" (1/ 21 - 22)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 138/ رقم 29)، وأحمد في "المسند" (4/ 288/ 303)، والروياني في "المسند" (1/ 279 - 280/ رقم 415)، وابن حبان في "الصحيح" (ص 78 - موارد)، وابن الجارود في "المنتقى" (ص 19)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 159)، وابن عبد البر في "التمهيد" (22/ 333)، وهو صحيح. =

دون الغَنَم (¬1)، كما فرَّق بين الربا والبيع، والمُذَكَّى (¬2) والمَيْتة؛ فالقياس الذي يتضمن التسوية بين ما فرق اللَّه بينه مِنْ أبطل القياس وأفسده، ونحن لا ننكر أن في الشريعة ما يخالف القياس الباطل، هذا مع أن الفرق بينهما ثابت في نفس الأمر، كما فرَّق بين أصحابِ الإبلِ وأصحابِ الغنمِ فقال: "الفَخْرُ والخيَلَاءَ في الفَدَّادين (¬3) أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم" (¬4) وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطانًا (¬5)، وجاء أنها جنٌّ خُلقت من جن (¬6)، ففيها قوة شيطانية، ¬

_ = قال ابن عبد البر: "وقد روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا المعنى من حديث أبي هريرة"، والبراء، وجابر بن سمرة، وعبد اللَّه بن مغفل، وكلها أسانيد حسان، وأكثرها تواترًا وأحسنها حديث البراء". وقال ابن خزيمة: "لم نر خلافًا بين علماء الحديث أن هذا الحديث صحيح من جهة النقل، لعدالة ناقليه"، كذا في "الإصابة" (2/ 414)، وقد استوعبت أحاديث الباب في جمعي لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية على الجن، بدراسة مستقلة، مطبوعة في مجلدين، انظرها (1/ 41 وما بعد) والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات، وانظر ما سيأتي قريبًا. (¬1) سبق في الذي قبله. (¬2) في (ق) و (ن) و (ك): "والذكي". (¬3) "هم الذين تعلوا أصواتهم في حروثهم ومواشيهم، واحدهم: فداد، يقال: فد الرجل يفد فديدًا إذا اشتد صوته، وقيل: هم المكثرون من الإبل، وقيل: هم الجمالون والبقارون والحمارون والرعيان، وقيل: إنما هو الفدادين مخففًا، واحدها: فدان -بتشديد الدال-، وهي البقر التي يحرث بها" (و). (¬4) أخرجه البخاري (3301) (كتاب بدء الخلق): باب خير مال المسلم، و (3499) (كتاب المناقب): باب منه، و (4387، 4388) (كتاب المغازي): باب قدوم الأشعريين، ومسلم (52) (كناب الإيمان): باب تفاضل أهل الإيمان، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- ووقع في (ق): "الفدادين من أصحاب الإبل". (¬5) أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 117 - ط دار الفكر)، وأحمد (3/ 494)، والدارمي (2/ 285 - 286)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 1073 - الإحسان)، والطبراني في "الكبير" (رقم 3993)، و"الأوسط" (رقم 1945)، عن حمزة بن عمرو الأسلمي، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "على ظهر كل بعير شيطان فإذا ركبتموها، فسموا اللَّه ولا تقصروا عن حاجاتكم"، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 131): "رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، و"الأوسط"، ورجالهما رجال الصحيح، غير محمد بن حمزة، وهو ثقة". (¬6) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 384)، وعبد الرزاق في "المصنف" (رقم 1602)، وأحمد في "المسند" (5/ 54، 55، 56، 57)، والطيالسي في "المسند" (رقم 913)، وعبد بن حميد في "مسنده" (رقم 501 - المنتخب)، والشافعي في "الأم" (1/ 92)، و"مسنده" (رقم 199)، والنسائي في "المجتبى" (2/ 56)، و"الكبرى" (رقم 814)، وابن ماجه في "السنن" (رقم 769)، والمحاملي في "أماليه" (رقم 85)، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 384)، والروياني في "المسند" (رقم 898)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 1702 - "الإحسان")، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (رقم 3301)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 449)، و"معرفة السنن والآثار" (رقم 5111)، والبغوي في "شرح السنة" (رقم 504)، وابن عبد البر في "التمهيد" (22/ 334)، من طرق عن الحسن البصري عن عبد اللَّه بن مغفل، قال: "نهانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نصلي في أعطان الإبل ومبارك الإبل؛ لأنها خلقت من الشياطين، ونصلي في مرابض الغنم". وفي رواية لأحمد (5/ 55): "لا تصلوا في عطن الإبل، فإنها من الجن خلقت، ألا ترون عيونها وهبابها إذا نفرت، وصلوا في مراح الغنم، فإنها هي أقرب من الرحمة". قال ابن عبد البر في "التمهيد" (22/ 333): "وحديث عبد اللَّه بن مغفل رواه نحو خمسة عشر رجلًا عن الحسن، وسماع الحسن من عبد اللَّه بن مغفل صحيح"، وقال الهيثمي في "المجمع" (2/ 26): "رجال أحمد رجال الصحيح"، وصححه الشوكاني في "نيل الأوطار" (2/ 23). قلت: انظر تفصيل ذلك في: "المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس" (4/ 1712 - 1714، 1735 - 1737). قال ابن عبد البر في "التمهيد" (12/ 334) عقب الحديث: "وفي بعض هذه الآثار، فإنها جن خلقت من جن"، وقال قبل: "وجاء في الحديث الثابت: أنها جن خلقت من جن". فلعل هذا مستند ابن تيمية -رحمه اللَّه- (شيخ المصنف) في نقل هذا الحديث، وهو بالمعنى ساقه ابن عبد البر في معرض التفرقة بين مراح الغنم وعطن الإبل، واكتفى صاحب "الحاوي في تخريج أحاديث مجموع الفتاوى" (ص 112/ رقم 573) في التخريج بقوله: "أخرجه ابن ماجه وأحمد" ولم يشر إلى لفظيهما، فأوهم أنه عنده بلفظ: "إنها جن خلقت من جن" كما أورده ابن تيمية، وهو خلاف ذلك، وهذا قصور ظاهر في التخريج. قال ابن حبان في "صحيحه" (4/ 602 - "الإحسان") عقب الحديث: "قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنها خلقت من الشياطين" أراد به أن معها الشياطين، وهكذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فليدرأه ما استطاع، فإن أبي، فليقاتله، فإنه شيطان". ثم قال في خبر صدقه بن يسار عن ابن عمر: "فليقاتله؛ فإن معه القرين"". قلت: قد يتأيد هذا التأويل بما أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" من مرسل خالد بن معدان: "إن الإبل خلقت من الشياطين، وإن وراء كل بعير شيطان"، ونقل المناوي في "فيض القدير" (2/ 320) عن ابن جرير قوله: "معناه أنها خلقت من طباع الشياطين، وأن البعير إذا نفر كان نفاره من شيطان يعدو خلفه فينفره، ألا ترى إلى هيئتها وعينها إذا نفرت؟ " انتهى. =

والغاذِي شبيه بالمغتذي، ولهذا حَرَّمَ كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير (¬1)؛ لأنها دواب عادية، فالاغتذاء بها يجعل في طبيعة المغتذي من العُدْوان ما يضرُّه في دينه، فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشَّيْطانية والشيطان خُلِق من نار والنارُ تُطفأ بالماء، هكذا جاء الحديث، ونظيره الحديث الآخر: "إن الغَضَبَ من الشيطان، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" (¬2) فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يُطفيء تلك القوة الشيطانية فتزول تلك المفسدة، ولهذا ¬

_ = وقال الزمخشري عن الجاحظ: "زعم بعضهم أن الإبل فيها عرق من سفاد الجن بهذا الحديث وغلطوا، وإنما ذلك لأن للشيطان فيها متسعًا، حيث سبقت أولًا إلى إغراء المالكين على إخلالهم بشكر النعمة العظيمة فيها، فلما زواها عنهم لكفرانهم أغرتهم أيضًا على إغفال ما لهم من حق جميل الصبر على الرزية بها وسولت في الجانب الذي يستعملون فيه نعمتي الركوب والحلب أنه الآثام وهو بالحقيقة الأيمن". انتهى. (¬1) أخرج البخاري (5530) (كتاب الذبائح والصيد): باب أكل كل ذي ناب من السِّباع، ومسلم (1932) (كتاب الصيد والذبائح): باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير، عن أبي ثعلبة -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وأخرج مسلم (1934) عن ابن عباس: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كل ذي ناب من السباع، وعن كل ذي مخلب من الطير. (¬2) أخرجه أحمد (4/ 226)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 8)، وأبو داود في "السنن" (4784) (كتاب الأدب): باب ما يقال عند الغضب، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ 464/ رقم 1267، 1268)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 167، 169/ رقم 443، 447)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2215) رقم (5537)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 25)، والبغوي في "شرح السنة" (3583)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (40/ 464)، عن أبي وائل القصاص، قال: "دخل على عروة بن محمد السعدي، فكلّمه رجل، فأغضبه، فقام فتوضأ، ثم رجع وقد توضأ، فقال حدثني أبي عن جدي عطية قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ". وصحابي الحديث عطية بن عروة السعدي نزل الشام، وله ثلاثة أحاديث، ترجمته في "طبقات ابن سعد" (7/ 430)، و"الطبقات" للإمام مسلم (1/ 194/ رقم 432 - بتحقيقي)، و"الجرح والتعديل" (6/ 383)، و"الاستيعاب" (3/ 144)، و"أسد الغابة" (4/ 44)، و"الإصابة" (2/ 485)، وابنه محمد صدوق، ووهم من ذكره في الصحابة. وانظر: "الإصابة" (3/ 475)، و"الميزان" (3/ 648)، وعروة بن محمد مجهول، وقال عنه في "التقريب": "مقبول"، أي إذا توبع، ولم أظفر له بمتابعة، فإسناده ضعيف. وأعله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم 582) بجهالة كل من عروة وابنه محمد.

أُمِرنَا بالوضوء مما مَسَّت النار (¬1) إما إيجابًا منسوخًا، وإما استحبابًا غير منسوخ، وهذا الثاني أظهر لوجوه: منها (¬2) أن النسخ لا يُصَار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الحديثين، ومنها أن رُوَاة أحاديث الوضوء بعضهم متأخر الإسلام كأبي هريرة، ومنها أن المعنى الذي أُمرنا بالوضوء لأجله منها هو اكتسابُها من القوة النارية وهي مادة الشيطان التي خُلق منها والنارُ تُطفأ بالماء، وهذا المعنى موجود فيها، وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب (¬3)، ومنها أن أكثر ما مع [من] (¬4) ادّعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أكَلَ مما مسَّت النار ولم يتوضأ" (¬5) وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء، لا على عدم استحبابه، فلا تنافي بين أمره وفعله (¬6)، وبالجملة فالنسخ إنما يُصار إليه عند التنافي، وتحقق التاريخ، وكلاهما منتفٍ وقد يكون الوضوء من مَسّ الذَّكَر (¬7) ومس النساء (¬8) من هذا الباب، لما في ذلك من تحريك الشهوة، فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس، ولما كانت القوةُ الشيطانية في لحوم الإبل لازمةً كان الأمر بالوضوء منها لا مُعارض له من فعلٍ ولا قول، ولما كان في ممسوس النار عارضةً صح فيها (¬9) الأمر والترك، ويدل على هذا أنه فرق بينها وبين لحوم الغَنَم في الوضوء، وفرق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة، فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل وأذِنَ في الصلاة في مَرَابض الغنم (¬10)، وهذا يدل على أنه ليس ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (352): (كتاب الحيض): باب الوضوء مما مست النار بسنده إلى عبد اللَّه بن إبراهيم بن قارظ أنه وجد أبا هريرة يتوضأ على المسجد، فقال: إنما أتوضأ من أثوار أَقِط أكلتُها؛ لأني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "توضأوا مما مست النار". و"الأثوار" جمع ثور، وهو قطعة من (الأقط)، و (الأقط) يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصل. (¬2) في (ك): "أحدها". (¬3) في (ق): "نظيره بالأمر به من الغضب" وأشار إلى أن في نسخة "بالوضوء". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) أخرج البخاري (207) (كتاب الوضوء) باب من لم يتوضأ من لحم الشاة والسويق، ومسلم (354) (كتاب الطهارة): باب نسخ الوضوء مما مست النار عن ابن عباس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أكل كتف شاةٍ ثم صلّى ولم يتوضّأ. (¬6) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 137 - 138)، و"بدائع الفوائد" (4/ 125). (¬7) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 20)، وتعليقي عليها. (¬8) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (مسألة رقم 19) وتعليقي عليها. (¬9) في (ق): "فيه". (¬10) تقدم تخريجه قريبًا.

فصل [الفطر بالحجامة على وفق القياس]

لأجل الطهارة والنجاسة، كما أنه [لمَّا] (¬1) أمر بالوضوء من لحوم الإبل دون لحوم الغنم عُلم أنه ليس ذلك لكونها مما مَسَّتْه النار، ولما كانت أعطانُ الإبل مأوى للشيطان لم تكن مواضع للصلاة كالحُشُوشِ (¬2)، بخلاف مَبَاركها في السفر، فإن الصلاة فيها جائزة؛ لأن الشيطان هناك عارض، وطردُ هذا المنعُ من الصلاة في الحمَّام لأنه بيت الشيطان (¬3)، وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان، والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل، فإذا عُقِل المعنى لم يكن بُدٌّ (¬4) من تعديته، ما لم يمنع منه مانع، واللَّه أعلم. فصل [الفطر بالحجامة على وفق القياس] أما الفِطْر بالحِجَامة (¬5) فإنما اعتقد من قال: "إنه على خلاف القياس" (¬6) ذلك بناء على أن القياسَ الفِطْرُ بما دخل لا بما خرج، وليس كما ظنُّوه، بل الفطر بها محض القياس، وهذا إنما يتبين بذكر قاعدة، وهي: أن الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعَدْل، وأمَرَ فيه بغاية الاعتدال، حتى نَهى عن الوِصَال (¬7)، وأمر بتعجيل الفِطْر وتأخير السحور (¬8)، وجعل أعدلَ الصيامِ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) "أماكن قضاء الحاجة في الخلو" (ط). (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 253)، و"زاد المعاد" (2/ 147، 183). (¬4) في (ق): "بعد". (¬5) انظر كلام المؤلف -رحمه اللَّه تعالى- حول الفطر بالحجامة في "زاد المعاد" (1/ 163 و 3/ 82 - 83)، و"تهذيب السنن" (3/ 243 - 258 مهم جدًا) ووقع في (ق): "وأما الفطر بالحجامة". (¬6) هذا قول بعض الحنفية، انظر: "البناية" (3/ 318)، "بدائع الصنائع" (2/ 92) ووقع في (ق): "إنها على خلافه". (¬7) أخرجه البخاري (1964) (كتاب الصوم): باب الوصال، وابن راهويه في "المسند" (4/ ق 77/ ب)، ومن طريق البيهقي (4/ 282)، وأحمد (6/ 242، 258)، والفريابي في "الصيام" (29) من حديث عائشة، وانظر: "الموافقات" (2/ 239 - بتحقيقي) للشاطبي. (¬8) لو قال المصنف: "ندب" بدل "أمر" لكان أصوب. ويدل عليه، ما أخرجه البخاري (1957) (كتاب الصوم): باب تعجيل الإفطار، ومسلم (1098) (كتاب الصيام): باب فضل السحور، وتأكيد استحبابه واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر عن سهل بن سعد مرفوعًا: "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر". ويدل على استحباب تأخير السحور، ما عند أحمد (5/ 147) عن أبي ذر رفعه: "لا =

فصل [التيمم جار على وفق القياس]

وأفضلَه صيامَ داود (¬1)، فكان من تمام الاعتدال في الصوم أن [لا] (¬2) يُدخل الإنسان ما به قُوامُه كالطعام والشراب ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء، وفرق بين ما يمكن الاحترازُ منه من ذلك وما لا يمكن، فلم يُفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع كما لا يفطر بغبار الطَّحين وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل، وجعل الحيض منافيًا للصوم دون الجنابة، لطول زَمَانِه (¬3) وكثرةِ خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة، وفرقٌ بين دم الحِجَامة ودمِ الجرح فجعل الحجامةَ من جنسِ القيءِ والاستمناءِ والحيضِ وخروجَ الدَّمِ من الجرح والرُّعافِ من جنس الاستحاضةِ والاحتلامِ وذرعِ القيء، فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلًا وتفصيلًا، وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل، وللَّه الحمد (¬4). فصل (¬5) [التيمم جار على وفق القياس] ومما يُظن أنه على خلاف القياس باب التيمم، قالوا: إنه على خلاف ¬

_ = تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور"، وإسناده ضعيف، فيه سليمان بن أبي عثمان مجهول، وابن لهيعة. ويدل عليه ما أخرجه البخاري (1921) (كتاب الصوم): باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر عن زيد بن ثابت قال: تسحّرنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم قام إلى الصلاة، قلت: (القائل أنس بن مالك): كم بين الأذان والسحور؟ قال: قدر خمسين آية، وفعله -صلى اللَّه عليه وسلم- يدل على الاستحباب. (¬1) أخرج البخاري (1131) (كتاب التهجد): باب من نام عند السحر، ومسلم (1159) (كتاب الصيام) باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به، عن عبد اللَّه بن عمرو رفعه: "أحب الصلاة إلى اللَّه صلاة داود -عليه السلام-، وأحب الصيام إلى اللَّه صيام داود، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ويصوم يومًا، ويفطر يومًا". وأخرجه البخاري في مواطن عديدة، انظر: (الأرقام 1152، 1153، 1974، 1975، 1976، 1977، 1978، 1980، 3418، 3419، 3420، 5052، 5053، 5054، 5199، 6134، 6277). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ك) و (ق): "زمنه". (¬4) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 527 - 528). (¬5) هذا الفصل والذي يليه لم أجدهما في "مجموع الفتاوى"، وإنما وجدتهما في رسالة: "القياس في الشرع الإسلامي" (ص: 27 - 29) لشيخ الإسلام -رحمه اللَّه-.

فصل [الحكمة في كون التيمم على عضوين]

القياس من وجهين: أحدهما،: أن التراب مُلَوَّث لا يُزيلُ دَرَنًا ولا وَسَخًا ولا يطهِّر البدن كما لا يطهِّر الثوب، والثاني: أنه شُرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروجٌ عن القياس [الصحيح] (¬1). ولعمرُ اللَّهِ إنه خروج عن القياس الباطل المُضادِّ للدين، وهو على وفق القياس الصحيح؛ فإن اللَّه سبحانه جعل من الماء كل شيء حيّ، وخَلقَنا من التراب، فلنا مادتان: الماء، والتراب، فجعل منهما نَشْأَتَنا وأقواتنا، وبهما تطهَّرَتا وتعبَّدَنا، فالترابُ أصلُ ما خلق منه الناس، والماءُ حياةُ كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي ركَّب اللَّه عليها (¬2) هذا العالم وجعل قوامه بهما، وكان أصلُ ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماءُ في الأمر المعتاد، فلم يجز العدولُ عنه إلا في حالة العَدمِ أو العذر بمرض ونحوه (¬3)، وكان النقل عنه إلى أخيه وشقيقه التراب أولى من غيره، وإن لَوَّثَ ظاهرًا فإنه يُطهِّر باطنًا ويقوِّي (¬4) طهارة الباطن فيزيل دَنَسَ الظاهرِ أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه. فصل [الحكمة في كون التيمم على عضوين] وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة، فإن وضعَ الترابِ على الرؤوسِ مكروهٌ في العادات، وإنما يُفعل عند المصائب والنوائبِ، والرِّجْلَان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم للَّه والذل له والانكسار للَّه ما هو من أحبِّ العبادات إليه وأنفعها للعبد، ولذلك (¬5) يستحبُّ للساجد أن يترِّبَ وجهه للَّه، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وِقايةً فقال: "تَرِّبْ وجهك" (¬6) وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرِّجْلين. ¬

_ (¬1) انظر: "البناية شرح الهداية" (1/ 175)، و"بدائع الصنائع" (1/ 20)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (د) و (ك): "عليهما". (¬3) في (د) و (ك): ". . . العدم والعذر بمرض أو نحوه". (¬4) في (د): "ثم يقوى". (¬5) في (ن): "وكذلك". (¬6) أخرج أحمد (6/ 310، 323)، وإسحاق بن راهويه (90، 91، 92)، والترمذي (381، =

فصل [السلم جار على وفق القياس]

وأيضًا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر، وهو أن التَّيمم جُعل في العُضوين المغسولين، وسَقطَ عن العضوين الممسوحين، فإن الرِّجْليْنِ تُمسحان (¬1) في الخف، والرأس في العمامة، فلما خَفَّف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مُسِحَا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقالٌ من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدلُ الأمور وأكملها، وهو الميزان الصحيح. وأما كونُ تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سَقطَ مسحُ الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى، إذ في ذلك من المشقة والحرج والعُسر ما يُناقض رخصة التيمم، ويَدْخُل أكرمُ المخلوقات على اللَّه في شبه البهائم إذا تمرَّغ في التراب، فالذي جاءت به الشريعة لا مَزِيدَ في الحسن والحكمة والعدل عليه، وللَّه الحمد. فصل [السلم جار على وفق القياس] وأما السَّلَم فمن ظَنَّ أنه على خلاف القياس تَوَهَّم دخوله تحت قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تبع ما ليس عندك" (¬2) فإنه بيعُ معدومٍ، والقياسُ يمنعُ ¬

_ = 382): أبواب الصلاة: باب ما جاء في كراهية النفخ في الصلاة، والطبراني (23 رقم 742، 743، 744، 745)، وابن حبان (5/ 1913)، وأبو يعلى (12/ 6954)، والحاكم (1/ 271)، والبيهقي (2/ 252)، عن أم سلمة قالت: رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غلامًا لنا، يقال له: أفلح، إذا سجد نفخ، فقال: "يا أفلح! تَرِّب وجهك" لفظ الترمذي. وإسناده ضعيف، فيه أبو صالح مولى آل طلحة بن عبيد اللَّه، لم يوثقه غير ابن حبان، وأومأ ابن حجر في "الفتح" (3/ 85) إلى ضعفه. وفي جميع الأصول: "كما قال بعض"!! والقائل في المصادر هو الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-!! (¬1) في (ق): "يمسحان". (¬2) أخرجه أحمد (3/ 204، 403، و 434)، وعبد الرزاق (14214)، وابن أبي شيبة (6/ 129) والشافعي (2/ 143)، والطيالسي (1318)، وأبو داود (3503) (كتاب الإجارة): باب الرجل يبيع ما ليس عنده، والترمذي (1232) (كتاب البيوع): باب كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي (4613) (كتاب البيوع): باب ما ليس عند البائع، وابن ماجه (2187) (كتاب التجارات): باب النهي عن بيع ما ليس عندك وعن ربح ما لم يضمن، وابن الجارود (602)، والطبراني في "الكبير" (3097 - 3105)، و"الأوسط" (5139) و"الصغير" (770)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 41)، وابن حبان (4983)، =

منه (¬1)، والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مَضْمونٍ في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنها (¬2) على وفق القياس، وقياسُ السَّلَم على بيع العَيْن المعدومة التي لا يدري أيَقْدِرُ على تحصيلها أم لا، والبائع والمشتري منها على غرَر، من أفسد القياسَ صورةً ومعنى، وقد فطر اللَّه سبحانه العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له (¬3)، وبين السلم إليه في مُغَلٍّ مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكَّى (¬4) والربا والبيع. وأما قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لحكيم بن حزام: "لا تَبعْ ما ليس عندك" (¬5) فيحمل على معنيين (¬6): أحدهما: أن يبيعَ عينًا معيَّنة وهي ليست عنده، بل ملك للغير، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلِها وتسليمِها إلى المشتري. والثاني: أن يريد بيعٍ ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمَّة، [وهذا أشبه، فليس] (¬7) عنده حسًا ولا معنى، فيكون قد باعه شيئًا لا يدري هل يحصل [له] (8) أم لا، وهذا يتناول أمورًا: أحدها: بيعُ عينٍ معيَّنة ليست عنده. الثاني: السَّلَم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه. الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته [عادة] (¬8) فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دَيْن من الديون، وهو كالابتياع بثمنٍ مؤجلٍ، فأيُّ فرقٍ بين كون أحد العوضين مؤجَّلًا في الذمة وبين الآخر؟ فهذا محضُ القياس ¬

_ = والدارقطني (2/ 8 - 9)، والبيهقي (5/ 267، 313)، كلهم عن حكيم بن حزام -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا به. قال الترمذي: "حديث حسن". والحديث صحيح، له شاهد من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، خرجته في تعليقي على "الموافقات" (1/ 469) وللَّه الحمد. (¬1) انظر حول هذا: "البناية" (6/ 623)، "المنتقى" للباجي (4/ 297)، "إحكام الأحكام" (3/ 156). (¬2) في المطبوع: "أنه". (¬3) في (ن): "ولا يقدر عليه". (¬4) في (ق): "والذكي". (¬5) مضى تخريجه في الصفحة السابقة. (¬6) في (ك) و (ق): "فيحتمل معنيين". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وليس". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

والمصلحة، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، وهذا يعمَّ الثَّمنَ والمُثمَن، وهذا هو الذي فهمه تُرجمانُ القرآن [من القرآن] (¬1) عبد اللَّه بن عبَّاس فقال: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلالٌ في كتابِ اللَّه، وقرأ هذه الآية (¬2). فثبت أن إباحة السلَم على وفق القياس والمصلحة، وشُرع على أكمل الوجوه وأعدلها، فشَرطَ فيه قبضَ الثمن في الحال، إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين (¬3) بغير فائدة، ولهذا سُمِّي سلمًا لتسليم الثمن، فإذا أخَّر (¬4) الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه، وكثرت المُخاطرة، ودخلت المعاملة في حد الغرر، ولذلك منع الشارع أن يُشترطَ فيه كونه من حائط معين؛ لأنه قد يتخلَّف فيمتنع التسليم (¬5). والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم، لكن ضيَّقوا ما وَسَّع اللَّه، وشرطوا ما لم يشرطه، وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة: أما القياس فإنه أحد العوضين، فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن، وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس، إذ الحاجة التي لأجلها شرع اللَّه ورسوله السلم (¬6) الارتفاقُ من الجانبين، هذا يرتفقُ بتعجيل الثمن، وهذا يرتفقُ برخص المثمن، وهذا قد يكون في مُنقطعِ الجنس كما قد يكون في مُتَّصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (رقم 4064)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 554 رقم 2948)، والحاكم (2/ 286)، والبيهقي (6/ 18، 19) عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس عنه. وإسناده حسن، أبو حسان الأعرج صدوق. وأخرج ابن جرير (3/ 116)، وابن أبي حاتم (2/ 5540 رقم 2947) عن ابن أبي نجيح عن ابن عباس قال: "السلم في الحنطة كيل معلوم". وانظر: "تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير من كتب السنة" (1/ 159 - 160) للشيخ الدكتور عبد العزيز الحميدي. (¬3) في (ن): "الذمة". (¬4) في (ك) و (ق): "تأخّر". (¬5) في (ن): "السلم". (¬6) في (ن): "في السلم" وفي (ق): "شرع اللَّه ورسوله السلم لأجلها".

فصل [الكتابة تجري على وفق القياس]

فصل [الكتابة تجري على وفق القياس] وأما الكتابة فمن قال هي على خلاف القياس (¬1) قال: هي بيع السيد ماله بمالِه، وهذا غلطٌ (¬2)، وإنما باع العبد نفسَه بمالٍ في ذِمّته، والسيد لا حقَّ له في ذمةِ العبد وإنما حقُّه في بدنه، فإن السيد حقه في ماليَّة العبدِ لا في إنسانيّته، وإنما يُطالبُ العبد بما في ذِمَّته بعد عتقه، وحينئذٍ فلا ملك للسيد عليه، وإذا عرف هذا فالكتابةُ بيعُه نفسَه بمالٍ في ذمته، ثم إذا اشترى نَفْسَه كان كَسْبُه له ونفعه له، وهو حادثٌ على ملكه الذي استحقه بعقد (¬3) الكتابة، ومن تمام حكمة الشارع أنه أخَّرَ فيها العتق إلى حين الأداء؛ لأن السيد لم يَرْضَ بخروجه عن ملكه إلا بأن يُسلِّم له العوض، فمتى لم يسلم له العوَضُ وعجز العبد [عنه] (¬4) كان له الرجوع في البيع، فلو وقع العتق لم يمكن رفعه (¬5) بعد ذلك، فيحصل السيد على الحرمان، فراعى الشَّارع مصلحة السيد ومصلحة العبد، وشَرعَ الكتابةَ على أكمل الوجوه وأشدها مطابقة للقياس الصحيح، وهذا هو القياس في سائر المُعَاوضات، وبه جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي (¬6) لا معارض لها: أنَّ المشتري إذا عجز عن الثمن كان للبائع الرجوعُ في عينِ ماله، وسواء حكم الحاكم بفَلَسِه أم لا (¬7)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يشترط حُكْمَ الحاكم، ولا أشار إليه، ولا دل عليه بوجهٍ ما، فلا وجْه لاشتراطه، وإنما المعنى الموجب للرجوع هو الفَلَسُ الذي حال بين البائع وبين الثمن، وهذا المعنى موجودٌ بدون حكم الحاكم، فوجبَ ترتبُ (¬8) أثَرِه عليه، وهو ¬

_ (¬1) هذا رأي الكاساني في "بدائع الصنائع" (4/ 134)، وابن حجر في "فتح الباري" (5/ 184). (¬2) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 530 - 531). (¬3) في (ق): "استحقه له بعقد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ن): "لم يمكن دفعه". (¬6) في المطبوع: "الذي"! (¬7) يشير إلى ما أخرجه البخاري (2402) (كتاب الاستقراض): باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض والوديعة فهو أحق به، ومسلم (1559) (كتاب المساقاة): باب من أدرك ما باعه عند المشتري، عن أبي هريرة رفعه: "من أدرك ماله بعينه عند رجُلٍ، أو إنسانٍ، قد أفلس، فهو أحق به من غيره". وانظر: "قواعد ابن رجب" (1/ 410 - بتحقيقي). (¬8) في المطبوع و (ن): "فيجب ترتيب".

فصل [بيان أن الإجارة على وفق القياس]

محضُ العَدْلِ وموجب القياس، فإن المشتري لو اطلع على عَيْب في السِّلْعة كان له الفسخُ بدون حكم حاكم، ومعلومٌ أن الإعسار عيب في الذمة لو علم به البائع لم يرض بكون ماله في ذمة المُفْلِس، فهذا محض القياس الموافق للنص ومصالح العباد، وباللَّه التوفيق. وطَرْدُ هذا القياس عجزُ الزوج عن الصَّدَاق، أو عجزُه عن الوطء (¬1)، وعجزُه عن النفقة والكسوة (¬2)، وطرده عجزُ المرأة عن العوض في الخُلْع أن للزوج الرجعة، وهذا هو الصواب بلا ريب، فإنه لم يخرج البُضْعَ عن ملكه (¬3) إلا بشرط سلامة العوض، وطَرْدُه الصلح عن القصاص إذا لم يحصل له ما يصالح (¬4) عليه فله العَوْدُ إلى طلب القصاص، فهذا موجب العدل ومقتضى قواعد الشريعة وأصولها، وباللَّه التوفيق (¬5). فصل [بيان أن الإجارة على وفق القياس] وأما الإجارة فالذين قالوا: "هي على خلاف القياس" (¬6) قالوا: هي بيعُ ¬

_ (¬1) في (ن): "وإذا عجز عن الوطء"، وفي (ق) و (ك): "وعجزه عن الوطء". (¬2) في (ن): "وعجز عن النفقة والكسوة". (¬3) في (ق): "عن نفسه". (¬4) في (ل) و (ق): "صالحه". (¬5) هنا انتهى المجلد الأول، من طبعة (د)، وكتب في الهامش ما نصه: "قد تم -بحمد اللَّه تعالى وتوفيقه- الجزء الأول من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" وهو أشهر تصانيف الإمام الجليل شمس الدين أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر، المعروف بابن قيم الجوزية، ويليه -إن شاء واهب القُوَى والقُدَر- الجزء الثاني منه مفتتحًا بقوله: "فصل، وأما الإجارة فالذين قالوا هي على خلاف القياس- إلخ" نسأله -سبحانه- أن يعين على إتمامه، بمنه وفضله". وبه أيضًا تنتهي طبعة (ط)، وكتب في هامشه ما نصه: "قد تم بحمد اللَّه -الذي بنعمته تتم الصالحات- الجزء الأول من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" تأليف الإمام شمس الدين أبي عبد اللَّه محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية، ويليه إن شاء اللَّه الجزء الثاني وأوله: "فصل في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس". نسأل اللَّه جلت قدرته أن يعيننا بفيض منه، وأن يساعدنا على إتمامه إنه على ما يشاء قدير: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم". (¬6) هذا رأي جماهير الحنفية، انظر: "بدائع الصنائع" (4/ 173)، "البناية" (7/ 768 - 769). ووقع في (ق) و (ك): "إنها على خلاف القياس".

معدوم لأن المنافَع معدومةٌ حين العقد، ثم لما رأوا الكتاب قد دل على جواز إجارة الظِّئْر (¬1) للرِّضاع بقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، قالوا: إنها (¬2) على خلاف القياس من وجهين: أحدُهما: كونها إجارة. والثاني: أن الإجارة عقدٌ على المنافع، وهذه عقدٌ على الأعيان، ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه (¬3)، وقالوا: هي على خلاف القياس (¬4) والحُكم إنما يكون [على] (¬5) خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه (¬6) بنقيض ذلك الحكم، فيقال: هذا خلاف [قياس ذلك] (¬7) النص، وليس في القرآن ولا في السنة ذكرُ فساد إجارة شبه هذه الإجارة (¬8)، ومنشأُ وهمِهم ظنُّهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض (¬9) قائمة بغيرها، لا أعيان قائمة بنفسها، ثم افترق هؤلاء فرقتين: فقالت فرقة: إنما احتملناها على خلافِ القياسِ لورود النص، فلا نتعدَّى (¬10) محله، وقالت فرقة (¬11): بل نخرّجُها على ما يوافق القياس، وهو كون المعقود عليه [أمرًا] (¬12) غير اللبن، بل هو إلقامُ الصبيِّ الثدي ووضعه في حجر المرضعة، ونحو ذلك من [المنافع التي هي] (¬13) مقدمات الرضاع، واللبن يدخل تبعًا غير مقصود بالعقد، ثم طردوا ذلك في مثل ¬

_ (¬1) "الظئر" -بكسر فسكون-: المرأة ترضع ولد غيرها (د). قلت: ونحوه في (ط). (¬2) في (ن): "هي". (¬3) بل وردت مشروعية الإجارة في [سورة القصص آية: 26، 27]، و [سورة البقرة آية: 233]، انظر وجه الدلالة منها في "محاسن التأويل" (3/ 611)، و [الكهف آية: 77]، وترجم البخاري عليها (باب إذا استأجر أجيرًا على أن يقيم حائطًا يريد أن ينقض جاز)، (4/ 445) مع "الفتح"، وكذا وجهها الماوردي في "الحاوي الكبير" (9/ 202 - 203)، و [الزخرف: آية 33] على ما ذكر ابن كثير في "تفسيره" (4/ 127)، وانظر: "الإجارة الواردة على عمل الإنسان" (ص 35 - 37). (¬4) كما في "بدائع الصنائع" (4/ 175). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "متشابهة". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) ذهب العيني في "البناية" (7/ 950) إلى أن إجارة الظئر وفق القياس، وكذا شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 550). (¬9) في (ق) و (ك): "هي عارضة أعراض". (¬10) في (ق): "يتعدى". (¬11) في (ق) و (ك): "وقالت طائفة". (¬12) في (ن): "أعراض". (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[ليس للعقود ألفاظ محدودة]

ماء البئر والعيون التي في الأرض المستأجرة، وقالوا: يدخل (¬1) ضمنًا [وتبعًا] (¬2)، فإذا وقعت الإجارة على نفس العين والبئر لسقي الزرع والبستان قالوا: إنما وردت الإجارة على مجرد إدلاءِ الدَّلو في البئر وإخراجه، [و] (¬3) على مجرد إجراء العين في أرضه (¬4)، مما هو قلب الحقائق، وجعلُ المقصودِ وسيلةً والوسيلة مقصودةً، إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة، وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة، ولا معقودًا عليها، ولا قيمة لها أصلًا، وإنما هي كفتح الباب وكقَوْد الدابة لمن اكترى دارًا أو دابة. ونحن نتكلم على هذين الأصلين الباطلين: على أصل من جعل الإجارة على خلاف القياس، وعلى أصل من جعل إجارة الظِّئر ونحوها على خلاف القياس، فنقول وباللَّه التوفيق (¬5). أما الأصل الأول فقولهم: "إن الإجارة بيعُ معدومٍ، وبيعُ المعدوم باطل" دليلٌ مبني على مقدمتين مجملتين غير مُفَصَّلتين (¬6)، قد اختلط في كل منهما الخطأ بالصواب، فأما المقدمة الأولى -هي كون الإجارة بيعًا- إن أردتم [به] (¬7) البيع الخاصّ الذي يكون العقد فيه على الأَعيانِ لا على المنافعِ فهو باطلٌ، وإن أردتم به البيعَ العامَّ الذي هو مُعاوضةٌ إما على عينٍ وإما على منفعة فالمقدمة الثانية باطلة، فإن بيع المعدوم ينقسم إلى بيعِ الأعيانِ وبيع المنافع (¬8)، ومن سلّم بطلان بيع المعدوم فإنما يُسلِّمه في الأعْيان، ولما كان لفظُ البيع يحتمل هذا وهذا تنازَعَ الفقهاء في الإجارة: هل تنعقد بلفظ البيع؟ على وجهين. [ليس للعقود ألفاظ محدودة] والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت (¬9) بأي لفظ من الألفاظ عَرفَ به المُتعاقدانِ مقصودَهما، وهذا حكمٌ شاملٌ لجميع العقود، فإن الشارع لم ¬

_ (¬1) في (ن): "وأما كونه يدخل. .". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ن): "على أرضه". (¬5) قارن بما في: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 546). (¬6) في (ن): "منفصلتين". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) انظر كلام المصنف -رحمه اللَّه- حول بيع المعدوم في: "الزاد" (4/ 262 - 266)، و"تهذيب السنن" (5/ 158). (¬9) في (ق): "انعقد". وانظر: "الإنصاف" (6/ 4 - 5).

يَحُدَّ لألفاظ العقود حدًا، بل ذكرها مُطلقةً، فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأخرى، ولا فرق بين النكاح وغيره، وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد. قال شيخنا (¬1): بل نصوص أحمد لا تدل إلا على هذا القول، وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، فإنما هو قول ابن حامد والقاضي وأتباعه (¬2)، وأما قدماء أصحاب أحمد فلم يشترط أحدٌ منهم ذلك، وقد نص أحمد على أنه إذا قال: "أعْتَقت أمَتي وجعلتُ عتِقَها صداقها" أنه ينعقد (¬3) النكاح، قال ابن عقيل: وهذا يدلُّ على أنه لا يختص النكاح بلفظ (¬4)، وأما ابن حامد فطرد أصْله وقال: لا ينعقد حتى يقول مع ذلك: "تزوجتها" وأما القاضي فجعل هذا موضع استحسان خارجًا عن القياس، فجوَّز النكاحَ في هذه الصورة خاصة بدون لفظ الإنكاح والتزويج وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا؛ فإنَّ من أصوله أن العقودَ تنعقد بما يدل على مقصودها من قولٍ أو فعلٍ ولا يَرى اختصاصها بالصيغ. ومن أصوله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح كما قاله في الطلاق والقذْف وغيرهما، والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج قالوا: ما عداهما كناية فلا يثبت حكمها إلا بالنية وهي أمر باطن لا اطلاع للشاهد عليه، إذ الشهادة إنما تقع على المسموع، لا على المقاصد والنيات، وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعُرف الشرع وفي عرف المتعاقدين، والمقدمتان غير معلومتين، أما الأولى (¬5) فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح فقال: "ملكْتكها بما معك من القرآن" (¬6) وأعتق ¬

_ (¬1) يقول ابن تيمية: "وينعقد النكاح بما عدّه الناس نكاحًا بأي لغة وفعل كان، ومثله: كل عقد، والشرط بين الناس ما عدوه شرطًا" (4/ 29) من "الفتاوى الكبرى" (ط): "دار الكتب الحديثة" (و). قلت: وهذا ما قرره في "مجموع الفتاوى" (32/ 133)، و"الاختيارات الفقهية" (ص 438)، وقال عنه (32/ 15): "وهو الأشبه بالكتاب والسنة وآثار الصحابة" وانظر: "ترجيحات شيخ الإسلام ابن تيمية في النكاح" (ص 87 وما بعد)، و"الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 593). (¬2) انظر: "الإنصاف" (8/ 45 - 46)، "الفروع" (5/ 169)، "كشاف القناع" (5/ 38). (¬3) في المطبوع: "بعقد". (¬4) انظر: "القواعد الفقهية" (1/ 65 - بتحقيقي) لابن رجب. (¬5) في (ق): "الأول". (¬6) رواه البخاري (5030) في (فضائل القرآن): باب القراءة عن ظهر قلب، و (5087) في =

[عودة الى الرد على من زعم أن الإجارة بيع معدوم]

صفيَّة وجعل عتقها صداقها (¬1)، ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج، وأباح اللَّه ورسوله النكاحَ وردَّا فيه الأمَّةَ إلى ما تتعارفه نكاحًا بأي لفظ كان. [عودة الى الرد على من زعم أنَّ الإجارة بيع معدوم] ومعلوم أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيمٌ شرعي (¬2)، فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلًا، فما هو الضابط لذلك؟ وأما المقدمة الثانية فكون اللفظ صريحًا أو كناية أمر يختلف باختلاف عُرف المتكلم والمخاطب والزمان والمكان، فكَم من لفظ صريح عند قوم وليس بصريح عند آخرين، وفي مكان دون مكان وزمان دون زمان؟ فلا يلزم صريحًا (¬3) في خطاب الشارع أن يكون صريحًا عند كل متكلم، وهذا ظاهر. [جوز الشارع المعاوضة على المعدوم] والمقصود أن قوله "إن الإجارة نوع من البيع" إن أراد به البيع الخاص فباطل، وإن أراد به البيع العام فصحيح، لكن (¬4) قولُه: "إن هذا البيع لا يرد على معدوم" دعوى باطلة؛ فإن الشارع جَوَّز المعاوَضة العامة على المعدوم، فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان فهذا قياس في غاية الفساد فإن المنافع لا يمكن أن ¬

_ = (النكاح): باب تزويج المعسر، و (5121) نجاب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، و (5126) في (النظر إلى المرأة قبل التزويج)، و (5141) باب إذا قال الخاطب للولي: زوجني فلانة، و (5871) في (اللباس): باب خاتم الحديد، ومسلم (1425) في (النكاح): باب الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد. وله لفظ آخر: "زوجتكها بما معك من القرآن"، وآخر "أنكحتكها بما معك. . ."، وهو في "صحيح البخاري" بجميع ألفاظه أنظر أطراف الحديث في صحيح البخاري عند رقم (2310). (¬1) رواه البخاري (4200) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5086) في (النكاح): باب من جعل عتق الأمة صداقها، و (5169) باب الوليمة ولو بشاة، ومسلم (1365) (84 - 85) (ص 1043 و 1044 و 1045) في (النكاح): باب من جعل عتق الأمة صداقها، من حديث أنس مطولًا ومختصرًا. (¬2) بين كلمتي "تقسيم شرعي" في (ق) بياض يسع كلمة. (¬3) في (ق): "فلا يلزم من كونه صريحًا". (¬4) في (د): "ولكن".

يُعقد عليها في حال وجودها البتة، بخلاف الأعيان، وقد فرّق بينهما الحِسّ والشرع؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أن يُؤخر العقدُ (¬1) على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق (¬2) كما نهى عن بيع السِّنين (¬3) وحَبَلِ الحبلة والثمر قبل أن يبدو صلاحه والحبِّ حتى يشتد (¬4)، ونهى عن الملاقيح والمضامين (¬5) ونحو ذلك، وهذا يمتنع مثله في المنافع، فإنه لا يمكن أن تُباعَ إلا في حال عدمها، فهاهنا أمران: أحدهما: يمكن إيرادُ العقد عليه (¬6) في حال وجوده وحال عَدَمِه، فنهى الشارعُ عن ¬

_ (¬1) بين كلمتي "يؤخر العقد" في (ق) بياض قدر كلمتين وقال: "يؤجر" بدل "يؤخر". (¬2) هذا ليس بنص وإنما قاعدة أخذها من الأحاديث النبوية، ثم بدأ يذكر أمثلة بعدها. (¬3) بيع السنين: "هو أن يبع ثمرة نخله لأكثر من سنة؛ لأنه غرر، وبيع ما لم يخلق" (و). (¬4) أما النهي عن بيع السنين، فثابت في حديث رواه مسلم (1536) (101) في (البيوع): باب كراء الأرض من حديث جابر. أما النهي عن بيع حَبَل الحَبَلة: فرواه البخاري في "صحيحه" (2143) في (البيوع) باب بيع الغرر وحَبَل الحَبَلة، و (2256) في (السلم): باب السلم إلى أن تنتج الناقة، و (3843) في (مناقب الأنصار): باب أيام الجاهلية، ومسلم (1514) في (البيوع): باب تحريم حبل الحبلة. وأما النهي عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه، والحب حتى يشتد فمخرج في مواطن كئيرة ووقع في (ق) و (ك): "قبل بدو صلاحه". (¬5) أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (14138) عن معمر، وابن عيينة عن سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعًا، قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 12): إسناده قوي. وفي الباب عن أبي هريرة: رواه البزار في "مسنده" (1267) من طريق صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سعيد عنه، وقال: لا نعلم أحدًا رواه هكذا إلا صالح، ولم يكن بالحافظ، قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 104): فيه صالح بن أبي الأخضر، وهو ضعيف، وقال نحوه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 12). وفي الباب أيضًا عن ابن عباس: رواه البزار (1268)، والطبراني في "الكبير" (11581) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عنه، قال الهيثمي (4/ 104): وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، وثقه أحمد وضعفه جمهور الأئمة. أقول: بل ضعفوه شديدًا، ورواية داود عن عكرمة فيها ضعف أيضًا. وروى مالك في "الموطأ" (2/ 654) عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: وإنما نُهي من الحيوان عن ثلاثة: عن المضامين والملاقيح، ورواه عبد الرزاق (14137) عن معمر عن ابن شهاب به، ونقل ابن حجر في "التلخيص" عن الدارقطني في "علله" قوله: تابعه معمر (أي عن الزهري)، ووصله عمر بن قيس عن الزهري، والصحيح قول مالك. (¬6) في (ك): "عليهن".

بيعه حتى يوجدَ وجوَّز منه بيع ما لم يوجد تبعًا لما وُجِد إذا دعت الحاجة إليه، وبدون الحاجة لم يجوّزه. والثاني ما لا يمكن إيرادُ العقدِ عليه إلا في حال عَدَمِهِ [كالمنافع] (¬1)، فهذا جوَّزَ العقد عليه ولم يمنع منه. فإن قلت: أنا أقيس أحد النوعين على الآخر، وأجعل العلة [مجرد] (1) كونه معدومًا. قيل: هذا قياسٌ فاسد؛ لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين، وقولك: "إن العلة مجرد كونه معدومًا" دعوى بغير دليل، بل دعوى باطلة، [فلمَ لا] (¬2) يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدومًا يمكن تأخير بيعه إلى زمنِ وجوده؟ وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدمٍ خاص، وأنت لم تبيّن أنَّ العلةَ في الأصل مجرد كونه معدومًا، فقياسك فاسد، وهذا كافٍ في بيان فساده بالمطالبة، ونحن نبين بطلانه في نفسه، فنقول: ما ذكرناه علةٌ مطردةٌ، وما ذكرته علةً منتقضة، فإنك إذا عَلّلْت بمجرد العدم (¬3) وَردَ عليك النقضُ بالمنافع كُلِّها وبكثيرٍ (¬4) من الأعيان وما علّلنا به لا ينتقض، وأيضًا فالقياس المحْضُ وقواعد الشريعة وأصولها ومناسباتها (¬5) تشهد لهذه العلة، فإنه إذا كان له حال وجود وعدمٍ كان في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار، وبذلك علَّل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المنع حيث قال: "أرأيت إن منع اللَّه الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (¬6) وأما ما ليس له إلا حالٌ واحدٌ (¬7) والغالبُ فيه السلامة فليس العقد (¬8) عليه مُخاطرةً ولا قمارًا، وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه، ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما، والغَرَر إنما نُهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما (¬9)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) قال في هامش (ق): "لعله: فإنه" وسقطت "لا" منها. (¬3) في (ك): "المعدوم". (¬4) في (ق) و (ك): "والكثير". (¬5) في (ق) و (ك): "ومناسبتها". (¬6) رواه البخاري (2198) في (البيوع): باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، و (2208) باب بيع المخاضرة، ومسلم (1555) في (المساقاة): باب وضع الجوائح، من حديث أنس بن مالك. (¬7) في (ق): "واحدة". (¬8) في (ن): "فليس العدم". (¬9) أخرج مسلم في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب بطلان بيع الحصاة والذي فيه غرر، =

وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضَررٌ أعظم من ضرر المخاطرة، فلا يُزيل أدنى الضررين بأعلاهما، بل قاعدةُ الشريعة ضد ذلك، وهو دفعُ أعلى الضَّررين باحتمال أدناهما (¬1)، ولهذا لما نهاهم عن المُزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحَها لهم في العَرايا للحاجة (¬2)؛ لأن ضررَ المنعِ من ذلك أشدُّ من ضرر المُزابنة، ولما حرَّم عليهم الميتة لما فيها من خَبْث التغذية أباحها لهم عند الضرورة (¬3)، ولما حرَّم عليهم النظر إلى الأجنبية (¬4) أباح منه ما تدعو إليه الحاجة ¬

_ = (4/ 1153/ رقم 1513) عن أبي هريرة قال: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الحصاة، وعن بيع الغرر"، وبيع الحصاة فيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أن يقول: بعتك من هذه الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما انتهت إليه هذه الحصاة. والثاني: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي الحصاة. والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بالحصاة بيعًا، فبقول: إذا رميت هذا الثوب بالحصاة، فهو مبيع منك بكذا. وبيع الغرر: النهي عن بيع الغرر أصل عظيم من أصول كتاب البيوع، ويدخل فيه مسائل كثيرة غير منحصرة؛ كبيع الآبق والمعدوم والمجهول، وما لا يقدر على تسليمه، وما لم يتم ملك البائع عليه، وبيع السمك في الماء الكثير واللبن في الضرع، وبيع الحمل في البطن. . . ونظائر ذلك، وكل هذا بيعه باطل لأنه كرر من غير حاجة، ومعنى الغرر الخطر والغرور والخداع، وعلم أن بيع الملامسة وبيع المنابذة وبيع حبل الحبلة وبيع الحصاة وعسيب الفحل وأشباهها من البيوع التي جاء فيها نصوص خاصة هي داخلة في النهي عن الغرر، ولكن أفردت بالذكر ونهى عنها لكونها من بياعات الجاهلية المشهورة. (¬1) انظر كلام ابن القيم حول هذه القاعدة في "مفتاح دار السعادة" (ص 341)، فإنه مهم، و (ص: 348)، و"الداء والدواء" (ص 225 - 226، 309 - 310)، و"روضة المحبين" (ص 132). (¬2) انظر حول بيع العرايا وجوازه للحاجة: "زاد المعاد" (2/ 194)، (3/ 88). والحديث رواه البخاري (2173) في (البيوع): باب بيع الزبيب بالزبيب، والطعام بالطعام، و (2184 و 2188) باب بيع المزابنة، و (2192) في باب تفسير العرايا، و (2380) في (المساقاة): باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل، ومسلم (1539)، من حديث زيد بن ثابت. (¬3) في المطبوع و (ق) و (ك): "لهم للضرورة". (¬4) ورد ذلك في أحاديث كثيرة، خرجناها في رسالة أبي بكر بن حبيب العامري (ت 530 هـ): "أحكام النظر إلى المحرمات"، منها ما أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الأدب): باب نظر الفجأة (رقم 2159) عن جرير بن عبد اللَّه البجلي، قال: سألت رسول اللَّه عن نظر الفجأة، فقال لي: "اصرف بصرك". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ومنها حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، أنه قال: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أردف الفضل بن عباس خلفه في الحج، فجاءت جارية من خَثْعَم تستفتي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عنق الفضل لئلا ينظر إليها، فقال له عمه العباس: لويت عنق ابن عمك يا رسول اللَّه، فقال -عليه السلام-: "رأيت شابًا وشابةً، فلم آمن الشيطان عليهما". والحديث أخرجه أحمد في "المسند" (1/ 76، 157)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الحج): باب ما جاء أن عرفة كلها موقف (رقم 885)، وأبو داود مختصرًا في "السنن" (كتاب المناسك): باب الصلاة بجمع (رقم 1935)، وابن ماجه مختصرًا في "السنن" (كتاب المناسك): باب الوقف بعرفات (رقم 3010)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 72)، وابن خزيمة في "الصحيح" (4/ 262/ رقم 2837)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 471)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 122 و 7/ 89)، وأبو يعلى في "المسند" (1/ 264 - 265، 413 - 414/ رقم 312، 544) من طرق عن سفيان الثوري عن عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد اللَّه بن أبي رافع، عن علي به. وإسناده صحيح، وتابع الثوريَّ جماعة، منهم: المغيرة بن عبد الرحمن، ومسلم بن خالد الزنجي؛ كما عند عبد اللَّه في "زوائد المسند" (1/ 76، 81)، وإبراهيم بن إسماعيل -وهو ضعيف-، كما عند البزار في "البحر الزخار" (رقم 479)، وقد وهم فيه، فقال: "عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن علي". قال البزار عقبه: "وهذا الحديث قد رواه الثوري والمغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن أبيه عن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن علي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وخالفهما إبراهيم بن إسماعيل في هذا الإسناد؛ فقال: عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن أبيه عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، والصواب حديث الثوري والمغيرة". قلت: وذكره الدارقطني في "العلل" (رقم 411)، وقال: "هو حديث يرويه الثوري والدراوردي، ومحمد بن فليح والمغيرة بن عبد الرحمن عن عبد الرحمن بن الحارث، وخالفهم إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، فرواه عن. . . . زاد فيه أبا رافع، ووهم، والقول قول الثوري ومن تابعه، واللَّه أعلم. ورواه يحيى بن عبد اللَّه بن سالم عن عبد الرحمن بن الحارث عن زيد بن علي عن أبيه عن علي، ولم يذكر ابن أبي رافع، والصواب ما ذكره من قول الثوري ومن تابعه". قلت: وللحديث شواهد كثيرة؛ منها حديث الفضل بن العباس وابن عباس وجابر، وغيرهم رضوان اللَّه عليهم، وانظر: "التلخيص الحبير" (3/ 150). قال ابن بطال: "وفي الحديث الأمر بغض البصر خشية الفتنة"، وقال: "ويؤيده أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يحول وجه الفضل حتى أدمن النظر إليها لإعجابه بها، فخشي الفتنة عليه"، وقال: "وفيه مغالبة طباع البشر لابن آدم وضعفه عما رُكِّب فيه من الميل إلى النساء، والإعجاب بهن"، راجع: "فتح الباري" (11/ 10).

[أقيسة أبطلها القرآن]

للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب! (¬1). فإن قلت: فهذا كله على خلاف القياس. قيل: إن أردت أن الفَرْع اختصَّ بوصف أوجب (¬2) الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس [الفاسد] (¬3)، وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضي والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل [قطعًا] (¬4)، ليس في الشريعة منه مسألة واحدة، والشيءُ إذا شابه غيرَهُ في وصفٍ وفارَقَه في وصفٍ كان اختلافُهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفًا لاستوائهما باعتبار الجامع. [أقيسة أبطلها القرآن] وهذا هو القياس الصحيح طردًا وعكسًا، وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع دائمًا بإبطاله، كما أبطل قياس الربا على البيع، وقياس الميتة على المُذكَّى وقياس المسيح [عيسى عليه الصلاة والسلام] (3) على الأصنام، وبيّن الفارق بأنه عبدٌ أنعم عليه بعبوديته ورسالته، فكيف يعذِّبه بعبادةِ غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به؟ بخلاف الأصنام، فمن قال: "إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس" فقد أصاب، وهو من كمالِها واشتمالِها على العَدْل والمصلحة والحكمة، ومن سَوَّى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوّي بين كل موجودين لاشتراكهما في مُسمَّى الوجود. [القياس الفاسد أصل كل شر] وهذا من أَعظم الغلط والقياس الفاسد الذي ذمَّه السلف، وقالوا: "أوَّل من قاس إبليس" (¬5)، و"ما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس" (¬6)، وهو القياس الذي ¬

_ (¬1) انظر في هذا: "النظر في أحكام النظر بحاسة البصر" (379 - 386) لابن القطان الفاسي. (¬2) في (د): "يوجب". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) مضى تخريجه (1/ 467). (¬6) مضى تخريجه (1/ 467، 471).

فصل [بيع المعدوم لا يجوز]

اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]. وذم اللَّه أهله بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، أي يقيسونه على غيره وُيسوُّون بينه وبين [غيره في] (¬1) الإلهية والعبودية، وكل بِدْعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلُها من القياس الفاسد، فما أنكرت الجَهْمية صفاتَ الربِّ وأفعالَه وعُلوَّه على خلقه واستواءَه على عرشه وكَلامَه وتكليمه لعباده ورؤيتَهُ في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد، وما أنكرت، القَدَرِيَّة عمومَ قدرتِه ومشيئته وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد، وما ضلَّت الرافضةُ وعادوْا خيار الخلق وكفّروا أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وسَبُّوهم إلا بالقياس الفاسد، وما أنكرت الزنادقةُ والدُّهْريةُ معادَ الأجسام وانشقاقَ السماواتِ وطيَّ الدنيا وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد، وما فَسد ما فسد من أمر العالم وخرب [ما خرب منه] (¬2) إلا بالقياس الفاسد، [وأولُ ذنبٍ عُصِيَ به القياسُ الفاسد] (¬3)، وهو الذي جَرَّ على آدم وذريته مِنْ صاحب هذا القياس ما جر، فأصْلُ شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد، وهذه [حكمة لا يدْريها] (¬4) إلا من له اطلاع على الواجب والواقع وله فقه في الشرع والقدر. فصل [بيع المعدوم لا يجوز] وأما المقدمة الثانية -وهي أن بيع المعدوم (¬5) لا يجوز- فالكلام عليها من وجهين (¬6): أحدهما: مَنْعُ صحة هذه المقدمة؛ إذ ليس في كتاب اللَّه ولا في سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا في كلام أحدٍ من أصحابه أن بيعَ المعدومِ لا يجوز، لا بلفظٍ عام ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وحدها. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق)، "ومنه" ثابتة في (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك) "جمعة لا يدري بها". (¬5) في (ن): "المعدم". (¬6) سبق قريبًا كلام له حول بيع المعدوم -وانظر أيضًا - غير مأمور-: "الزاد" (4/ 262 - 266)، و"تهذيب السنن" (5/ 158).

ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهيُ عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة؛ فليست العلةُ في المنع لا العدم ولا الوجود، بل الذي وَرَدت به السنة النهي عن بيع الغَرَر (¬1)، وهو ما لا يُقْدَر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا كبيع العبد الآبقِ والبعير الشارد وإن كان موجودًا، إذ موجبُ البيع تسليم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسليمه فهو غَرَر ومُخاطرة وقمار فإنه لا يُباع إلا بوَكْس، فإن أمكن المشتري تسلُّمه كان قد قَمَر البائعَ، وإن لم يمكنه ذلك قمرَه البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غَرَر نُهِي (¬2) عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمَةُ أو هذه الشجرة (¬3)؛ فالمبيع لا يُعرف وجوده ولا قَدره ولا صفته؛ وهذا من الميْسِر الذي حرّمه اللَّه ورسوله، ونظير هذا في الإجارة أن يكريه دابة لا يقدر على تسليمها، سواء كانت موجودة أو معدومة، وكذلك في النكاح إذا زوَّجه أمة لا يملكها أو ابنةً لم تولد له، وكذلك سائر عقود المعاوضات، بخلاف الوصية فإنها تبرُّع محض فلا غرر في تعلُّقها (¬4) بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر، وطرده الهبة، إذ لا محذور فيها (¬5)، وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هِبة المُشاع المجهول (¬6) في قوله لصاحب كبة الشّعر حين أخذها من المغنم وسأله أن يَهبَها له فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" (¬7). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) في (ق): "ينهى". (¬3) في (ن): "وما تحمل هذه الشجرة" وفي (ق): "ما تحمل هذه الدابة أو هذه الشجرة". (¬4) في (ق): "تعليقها". (¬5) في (ن): "إذ ليس ذلك فيها"، وفي المطبوع: "إذ لا محذور في ذلك فيها". (¬6) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 209)، (4/ 23، 51)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 164، 167، 176، 177، 178) وكلاهما لابن القيم -رحمه اللَّه-. ووقع في (ق) و (ك): "المشاع المجهول لقوله". (¬7) رواه أحمد (2/ 184)، والنسائي (6/ 262 - 263) في (الهبة): باب هبة المشاع والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 336)، وفي "دلائل النبوة" (5/ 194)، وابن هشام في "السيرة النبوية" (4/ 189)، وأبو داود (2694)، وابن الجارود في "المنتقى" (1080) من طرق عن محمد بن إسحاق حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو جزء من حديث طويل، وهذا إسناد جيد وقد صَرّح فيه محمد بن إسحاق بالسماع. وانظر مفصلًا رسالة: "عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" (رقم 81) للأستاذ أحمد عبد اللَّه. وسقطت "أما" من (ك) و (ق).

[جوز الشرع بيع المعدوم في بعض المواضع]

[جَوَّز الشرع بيع المعدوم في بعض المواضع] الوجه الثاني: أن نقول: بل الشرع صحَّح بيع المعدوم في بعض المواضع؛ فإنه أجاز بيع الثمر بعد بُدُوِّ صلاحه والحبِّ بعد اشتداده (¬1)، ومعلومٌ أن العقدَ إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يُخلق (¬2) بعد، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيعه قبل بدوّ صلاحه، وأباحه بعد بدو الصلاح، ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصَّلاح بشرط القَطْع كالحصرم جاز، فإنما نُهي عن بيعه إذا كان قصدهُ التَّبْقِية إلى الصلاح (¬3)، ومن جوّز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقًا وجعل موجب العقد القطع، وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقًا؛ لم يكن عنده (¬4) لظهور الصلاح فائدة، ولم يكن فرق بين ما نُهي عنه من ذلك وما أُذن فيه؛ فإنه يقول: موجب العقد التسليم في الحال، فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحُه أو لم يُبد. [الصواب في المسألة] والصواب قول الجمهور الذي دلت عليه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والقياسُ الصحيح. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 221، 250)، وابن أبي شيبة (7/ 116)، وأبو داود (3371) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، والترمذي (1228) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وابن ماجه (2217) في (التجارات): باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، وأبو يعلى (3744)، وابن حبان (4993)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 24)، والدارقطني (3/ 47 - 48)، والحاكم (2/ 19)، والبيهقي (5/ 301) من طرق عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع العنب حتى يسوَدَّ، وعن بيع الحب حتى يشتدَّ. وقال الترمذي: حسن غريب. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وفي النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها دون قوله والحب حتى يشتد أحاديث في "الصحيحين" منها: حديث ابن عمر، رواه البخاري (1486 و 2194)، ومسلم (1534)، وحديث أنس رواه البخاري (1488 و 2189 و 2196 و 2381)، ومسلم (1555). وعن جابر رواه البخاري (1487، 2189، 2196، 2381)، ومسلم (1536). (¬2) في (ك) و (ق): "يوجد". (¬3) انظر: "تهذيب سنن أبي داود" (5/ 154 - 155)، و"زاد المعاد" (4/ 262) كلاهما لابن القيم -رحمه اللَّه-. (¬4) في (ن): "عقده".

وقوله: "إن موجب العقد التسليم في الحال" جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يَسوغُ لهما أن يوجباه، وكلاهما منتفٍ في هذه الدعوى؛ فلا الشارعُ أوجبَ أن يكونَ كلُّ مبيعٍ مستحق التسليم (¬1) عقيب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المُثمَنِ، وقد يكون للبائع غرضٌ صحيح [ومصلحة] (¬2) في تأخير التسليم [للمبيع، كما كان] (2) لجابر [-رضي اللَّه عنه- غرض صحيح] (2) في [تأخير تسليم] (2) بعيره إلى المدينة، فكيف يمنعه الشارعُ ما فيه مصلحة له ولا ضرر على الآخر فيها؟ إذ قد رضي بها كما رضي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[على جابر] (¬3) بتأخير تسليمِ البعير (¬4)، ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه، ويجوزُ لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيعِ ما له فيه غرضٌ صحيحٌ (¬5)، كما إذا باع عقارًا واستثثى سكناه مدة أو دابة واستثنى ظهرها، ولا يختص ذلك بالبيع، بل لو وهبه [شيئًا] (¬6) واستثنى نفْعَه مدة، أو أعتق عبدَه واستثنى خدمته مدة، أو وقف عينًا واستثنى غَلّتها لنفسه مدة حياته، أو كاتبَ أمَةً واستثنى وَطْئها مدة الكتابة، ونحوه، وهذا كله منصوص أحمد، وبعضُ أصحابه يقول: إذا استثنى منفعةَ المبيع فلا بد أن يُسلِّمَ العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة، بناءً على هذا الأصل الذي قد تبين فساده، وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد، وعن هذا الأصل قالوا: (¬7) لا تصح الإجارة إلا على مدة تَلِي العقد، وعلى هذا بَنَوْا ما إذا باع العين المؤجرة؛ فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل على (¬8) البيع فلا يحصل التسليم، ومنهم من قال: هذا مستثنى بالشرع، بخلاف المُستثنى بالشرط وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة وإن كانت منفعة البضع للزوج ولم تدخل في البيع واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة بل ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "كل بيع يستحق به التسليم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) انظر كلامًا قويًا لابن القيم حول الاستثناء في البيع في "بدائع الفوائد" (4/ 4). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) زاد هنا في (ك) و (ق): "إنه". (¬8) في (ق): "في".

[منع أن موجب العقد التسليم عقيبه]

قالوا: هذا مستثنى بالعرف، فيقال: وهذا من أقوى الحجج عليكم، فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعُرف، كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع؛ فإنه يثبت بالشرط ما لا يثبت بالشرع، كما أن الواجب بالنّذر أوسع من الواجب بالشرع. [منع أن موجب العقد التسليم عقيبه] وأيضًا فقولُكم: "إن موجب العقد استحقاق التسليم عقيبه" (¬1) أتعنون أن هذا مُوجَبُ العقد المطلق أو مطلق العقد؟ فإن أردتم الأول فصحيح، وإن أردتم الثاني فممنوع؛ فإن مطلق العقد ينقسم إلى المطلق والمقيد، وموجب العقد المقيد ما قُيِّد به، كما أن موجبَ العقد المقيد بتأجيل الثمن وثبوت خيار الشَّرط والرهن والضمين هو ما قُيِّد به، وإن كان موجبه عند إطلاقه خلاف ذلك؛ فموجبُ العقد المطلق شيءٌ وموجب العقد المقيد شيء، والقبض في الأعيان (¬2) والمنافع كالقبض في الدَّيْن، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جوَّز بيع الثمرة بعد بُدُوِّ الصلاح (¬3) مستحقة الإبقاء إلى كمال الصلاح، ولم يجعل موجَبَ العقد القبض في الحال، بل القبضُ المتعادِ عند انتهاء صلاحها، ودخل فيما أذن فيه بيع ما هو معدوم [و] (¬4) لم يُخلَق بعد، وقبض ذلك بمنزلة قبض العين المؤجرة، وهو قبض يبيح التصرف في أصح (¬5) القولين، وإن كان قبضًا لا يوجب انتقال الضمان، بل إذا تلفَ المبيعُ قبل قبضه المعتاد كان من ضمان البائع كما هو مذهب أهلِ المدينة وأهلِ الحديث؛ أهلِ بلدته وأهل سنته، وهو مذهب الشافعي قطعًا؛ فإنه علّق القول به على صحة الحديث (¬6)، وقد صح صحةً لا ريب فيها من غير الطريق التي توقّف الشافعي فيها فلا يسوغ أن يقال: مذهبه عدم وضع الجوائح، وقد قال (¬7): إن صح الحديث قلت به، رواه من طريق توقف في صحتها، ولم تبلغه الطريقُ الأخرى التي لا علة ¬

_ (¬1) في (ق): "عقبه". (¬2) في (ق): "وقبض الأعيان". (¬3) سبق تخريجه قريبًا. (¬4) ما بين المعقوفتين من (ن). (¬5) في (ق): "أحد". (¬6) انظر: "الأم" (3/ 57 - ط دار الفكر). والحديث الذي صح هو: ما أخرجه مسلم (1554): (كتاب المساقاة): باب وضع الجوائح عن جابر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بوضع الجوائح، وانظر: "الجوائح وأحكامها" (ص 181) وما سيأتي. (¬7) زاد هنا في (ك) و (ق): "فيها".

فصل [بيع المقاثي والمباطخ ونحوهما]

لها (¬1) ولا مطْعن فيها، وليس مع المنازع دليلٌ شرعي يدلُّ على أنّ كلّ قبض جوَّز التّصرف ينقل الضمان، وما لم يجوِّز التصرف لا ينقل الضمان، فقبضُ العين المؤجَّرة يُجوِّز التصرف ولا ينقل الضمان، وقبض العين المسْتامةِ والمستعارة والمغصوبة يوجب الضمان ولا يجوّز التصرف (¬2). فصل [بيع المقاثي والمباطخ ونحوهما] ومن هذا الباب [بيع] المقاثي والمباطخ (¬3) والباذجان؛ فمن منع بيعه إلا لقْطةً لقطة قال: لأنه [بيع] (¬4) معدوم (¬5)؛ فهو كبيع الثمرة قبل ظهورها، ومن جوّزه كأهل المدينة (¬6) وبعض أصحاب أحمد (¬7) فقولهم أصحُّ، فإنه لا يمكن بيعها إلا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "فيها"، وقارن بـ "مجموع الفتاوى" (30/ 270). (¬2) انظر كلام المصنف على وضع الجوائح، والرد على من تأوَّل الحديث فيها في "تهذيب السنن" (5/ 119 - 120)، و"زاد المعاد" (4/ 272)، وانظر -غير مأمور- "الجوائح وأحكامها" للدكتور سيمان الثنيان، دار عالم الكتب. (¬3) "المقاثي: جمع مقثأة، وهو موضع زراعة القثاء. والمباطخ: جمع مبطخة، وهو موضع زراعة البطيخ" (د). قلت: ونحوه في (ط)، وانطر: "زاد المعاد" (4/ 267)، و"بدائع الفوائد" (4/ 15، 74) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) قال القرافي في كتابه "الأمنيّة في إدراك النية" (74): "والعجب ممن يعتمد أن المعاوضة على المعدوم على خلاف الأصل، مع أن الشريعة طافحة به في مواردها ومصادرها، حتى لا يكاد يعرى عنه باب كما قد رأيت، بل الأوامر والنواهي والأدعية والشروط ومشروطاتها في التعليقات والوعود والوعيدات وأنواع الترجي والتمني والإباحات كلها لا تتعلق إلا بمعدوم فتأمل ذلك حق تأمله تجد فيه فقهًا كبيرًا ينتفع به في محاولة الفقه واتساع النظر ودفع الإشكالات عن القواعد والفروع. وإنما أكثرت من مثل التقدير لأني رأيت الفقهاء الفضلاء إذا قيل لهم ما مثال إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود؟ صعب عليهم تمثيل ذلك، وإن فعلوا فعساهم يجدون المثال أو المثالين فأردت أن يتسع الفقيه هذا الباب ويسهل عليه. اهـ. (¬6) انظر: "المنتقى" (4/ 222 - 223) للباجي، و"بداية المجتهد" (2/ 179)، و"القوانين الفقهية" (ص 225). (¬7) انظر: "المغني" (4/ 207)، و"المبدع" (4/ 166 - 167). وبهذا قالت طائفة من الشافعية، انظر: "مغني المحتاج" (2/ 92)، و"تكملة المجموع" (11/ 446). =

فصل [ضمان الحدائق والبساتين]

على هذا الوجه، ولا تتميز اللّقطة المبيعةُ من (¬1) غيرها، ولا تقوم المصلحة ببيعها كذلك، ولو كُلِّف الناس به لكان أشقّ شيءٍ عليهم وأعظمه ضررًا، والشريعة لا تأتي به، وقد تقدم أن ما لا يُباع (¬2) إلا على وجْه واحد لا يَنْهى الشارع عن بيعه، وإنَّما نَهى الشَّارعُ عن بج الثمار قبل بدو صلاحها (¬3) لإمكان تأخير بيعها إلى وقت بُدُوِّ الصلاح (¬4)، ونظير ما نَهى عنه وأَذن فيه سوى (¬5) بيع المقاثي إذا بدا فيها الصلاح ودخول الإجزاء والأعيان التي لم تخلق بعد كدخول أجزاء الثمار وما يتلاحق في الشجر منها، ولا فرق بينهما البتة (¬6). فصل [ضمان الحدائق والبساتين] وبنوا على هذا الأصل الذي لم يدل عليه دليل شرعي، بل دل على خلافه، وهو بيع المعدوم [بطلان] (¬7) ضمان الحدائق والبساتين، وقالوا: هو بيعٌ للثمرِ قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه؛ ثم منهم من حكى الإجماع على بطلانه (¬8)، ولَيس مع المانعين [حجةٌ على ما] (¬9) ظنّوه، فلا النص يتناوله ولا معناه، ولم تجمع (¬10) الأمة على بطلانه، فلا نص مع المانعين ولا قياس ولا إجماع (¬11)؛ ونحن نبين انتفاء هذه الأمور الثلاثة: ¬

_ = وقارن ما عند المصنف بـ "مجموع فتاوى ابن تيمية" (29/ 484، 485، 489). (¬1) في المطبوع: "عن". (¬2) في (ن): "أنها لا تباع". (¬3) سبق تخريجه قريبًا. (¬4) في (ق): "صلاحها". (¬5) قال (د) و (ح): "هكذا في النسختين، والكلام غير تام، فليتدبر". قلت: وعلق (و) و (ط) بنحو هذا التعليق. (¬6) انظر: "زاد المعاد" (4/ 267) فإنه مهم، و"بدائع الفوائد" (4/ 15، 74). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬8) هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، وهو منصوص عن أحمد في بعض الروايات انظر: "المبسوط" (16/ 32)، و"روضة الطالبين" (5/ 78)، و"الفروع" (4/ 416). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ط): "كما"، وأشار إليها في الحاشية، وقال: ". . . وربما كان صواب الجملة هكذا: "وليس مع المانعين دليل على ما ظنوه" أو نحو ذلك انظر: "إعلام الموقعين" - ط المطبعة المنيرية (1/ 361)، وطبعة فرج اللَّه الكردي (2/ 118) " ا. هـ. قلت: والجملة في (ق) و (ن) و (ك): "وليس كما ظنوه". (¬10) في (ن): "ولا تجمع". (¬11) انظر: حول تقدير ابن القيم جواز ضمان الحدائق والبساتين (القبالات) سواء مع الأرض =

أما الإجماع، فقد صح عن عمر [بن الخطاب] (¬1) -رضي اللَّه عنه- أنه ضَمَّن حديقة أُسيد بن حُضير ثلاث سنين وتسلَّف الضَّمان فقضى به دينًا كان على أُسيد (¬2)، وهذا بمشهد من الصحابة، ولم ينكره منهم رجل واحد، ومَنْ جعل مثل هذا إجماعًا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك، وأقلُّ درجاته أن يكون قول صحابي، بل قول الخليفة الراشد، ولم ينكره منهم مُنْكِر، وهذا حجة عند جمهور العلماء، وقد جوز بعض أصحاب أحمد ضمان البساتين مع الأرض المؤجرة؛ إذ لا يمكن إفراد إحداهما عن الأخرى (¬3)، [و] (1) اختاره ابنُ عقيل، وجوَّز بعضهم ضمان الأشجار مطلقًا مع الأرض وبدونها، [و] (1) اختاره شيخنا وأفرد فيه مصنفًا (¬4)؛ ففي مذهب أحمد ثلاثة أقوال، وجَوَّز مالك ذلك تبعًا للأرض في قدر الثلث (¬5). ¬

_ = أو بدونها: "أحكام أهل الذمة" (1/ 108، 112)، وقارن بما في "مجموع فتاوى ابن تيمية" (30/ 283). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) أخرجه حرب بن إسماعيل الكرماني، قال: حدثنا سعيد بن منصور حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن هشام بن عروة عن أبيه أن أسيد بن حُضير توفي وعليه ستة آلاف درهم دينًا، فدعى عمر بن الخطاب غرماءه، فقبلهم أرضه سنين، وفيها النخل والشجر. وهكذا ذكره ابن كثير في "مسند الفاروق" (1/ 358)، وبَوَّب عليه (أثر في ضمان البساتين) وقال: "هذا إسناد جيد، وإن كان فيه انقطاع، وقال: "ومعنى: قبلهم: أي ضمنهم. وقد ذهب إلى معناه بعض العلماء، ونصره ابن عقيل وغيره من متأخري أصحاب الإمام أحمد رحمه اللَّه". أقول: وسبب انقطاعه هو عدم سماع عروة من عمر. وأخرجه ابن سعد في "طبقاته" (3/ 606) بإسناد ضعيف، وانظر: "سير أعلام النبلاء" (1/ 342، 343)، و"أسد الغابة" (1/ 113). (¬3) في (ق): "أحدهما عن الآخر" وكذا في (ك) إلا أنه قال: "الأخرى". وانظر: "الفروع" (4/ 416) لابن مفلح. (¬4) ذكر ابن رشيق في رسالته: "أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" (ص 27): "قواعد في مسائل في النذور والضمان" وفي مكتبة الشيخ حماد الأنصاري -رحمه اللَّه- مجموع برقم (271) فيه (23 رسالة) لابن تيمية، منها برقم (14): (فصل في الضمان) وفي جامعة برنستون - جاريت (رقم 1521) من (ق 46 - 52): (مسائل في الإجارة ونقص بعض المنفعة والجوائح والفرق بين الجانحة في الزروع والثمار وغير ذلك" فلعل بعضها المرادة هنا، واللَّه أعلم. (¬5) انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (4/ 21)، و"القوانين الفقهية" (238)، وانظر لمذهب الحنفية "المبسوط" (16/ 32)، ومذهب الشافعية في "روضة الطالبين" (5/ 178).

قال شيخنا (¬1): والصواب ما فعله عمر -رضي اللَّه عنه-؛ فإن الفرق بين البيع والضمان (¬2) هو الفرق بين البيع والإجارة، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع الحب حتى يشتد (¬3) ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة مع ان المستأجر مقصودُه الحبّ بعمله فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها، وهو نظيرُ مستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه، والحبُّ نظيرُ الثمر، والشجر نظير الأرض (¬4)، والعملُ نظير العمل؛ فما الذي حرَّم هذا وأحلَّ هذا؟ [وهذا] (¬5) بخلاف المشتري؛ فإنه يشتري ثمرًا وعلى البائع [المؤنة: مؤنة] (¬6) الخدمة والسَّقي والقيام على الشجر؛ فهو (¬7) بمنزلةِ الذي يشتري الحبّ وعلى البائع مؤونة (¬8) الزرع والقيام عليه؛ فقد ظهر انتفاءُ القياس والنص، كما ظهر انتفاءُ الإجماع، بل القياس الصحيح مع المجوِّزين، كما معهم الإجماع القديم. فإن قيل: فالثمر أعيان، وعقد الإجارة إنما يكون على المنافع! قيل: الأعيان هنا حَصلَت بعمله في الأصل المستأجر، كما حصل الحبُّ بعمله في الأرض المستأجرة. فإن قيل: الفرق أن الحبَّ حصل من بَذْرِه، والثمر حصل من شجر المؤجِّر (¬9). قيل: لا أثر لهذا الفرق في الشرع، بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة فسوَّى بينهما؛ والمُساقي يستحقُّ جزءًا من الثمرة الناشئة من أصل [الملك؛ والمزارع يستحق جزءًا من الزرع النابت في أرض] (¬10) المالك، وإن كان البذرُ منه، كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة (¬11) وإجماع الصحابة، فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء فيها مشتركًا لم يؤثر في ¬

_ (¬1) في "مجموع الفتاوى" (30/ 283) نحوه، وانظر: "الجامع للإختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (3/ 1115 - 1119). (¬2) في (ق): "الضمان والبيع" وسقطت "البيع" من (ك). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) وقع في (ن): "والحب نظير الثمرة، والشجرة نظير الأرض". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في المطبوع و (ن) و (ك): "مؤونة" وسقطت "وعلى البائع" من (ق) واحتملها في الهامش. (¬7) في (ن): "وهو". (¬8) في (ق): "مؤنة". (¬9) في (ق): "الشجر المؤجر". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬11) سبق تخريجه.

فصل [إجارة الظئر على وفق القياس الصحيح]

الإجارة بطريق الأولى؛ لأن إجارة الأرض لم يُختلف فيها كالاختلاف في المُزارعة، فإذا كانت إجارتها عندكم أجْوز من المزارعة فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها، فهذا محْضُ القياس وعمل الصحابة ومصلحة الأمة، وباللَّه التوفيق. والذين منعوا ذلك وحَرَّمُوه توصلوا إلى جوازه بالحيلة الباطلة شرعًا وعقلًا، فإنهم يؤجِّرونه الأرض وليست مقصودة له البتة (¬1)، ويساقونه على الشجرة من ألف جزء على جزء مساقاة غير مقصودة [وإجارةً غير مقصودة] (¬2)، فجعلوا ما لم يُقصد مقصودًا، وما قُصد غير مقصود، وحابوا في المساقاة أعظم محاباة، وذلك حرامٌ باطل في الوقف وبستان المولّى عليه من يتيم أو سفيهٍ أو مجنون، ومحاباتهم إياه في إجارة الأرض لا تُسَوِّغ لهم محاباة المستأجر في المساقاة، ولا يسوِّغ اشتراط أحد العقدين في الآخر، بل كل عقد مستقل بحكمه، فأين هذا من فعل أمير المؤمنين وفقهه؟ وأين القياس من القياس والفقه من الفقه؟ فبينهما في الصحة بُعْدُ ما بين المشرقين (¬3)! فصل [إجارة الظئر على وفق القياس الصحيح] فهذا الكلام على المقام الأول، وهو كون الإجارة على خلاف القياس، وقد تبين بطلانه. وأما المقام الثاني -وهو أن الإجارة التي أذن اللَّه فيها في كتابه وهي إجارة الظِّئْر على خلاف القياس- فبناءٌ منهم على هذا الأصل الفاسد (¬4)، وهو أن المُستحَق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان، وهذا الأصل لم يدل عليه كتابٌ ولا سنة ولا إجماعٌ ولا قياسٌ صحيح، بل الذي دلّت عليه الأصول أن الأعيانَ التي تَحدُث شيئًا فشيئًا مع بقاء أصلها حكمُها حكم المنافع كالثمر في ¬

_ (¬1) في (ن): "وليست مقصودًا له". (¬2) ما بين المعقوفتين في (ق) قبل: "وحابوا في المساقاة" في السطر الذي بعده. (¬3) في (ق): "وبينها في الصحة أبعد ما بين المشرقين". (¬4) انظر إجارة الظئر ونحوه وبيان أنها على وفق القياس: "زاد المعاد" (2/ 15 - 16)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 550. 30/ 230)، و"الإنصاف" (6/ 3)، و"المعدول به عن القياس حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية منه" (ص 154 - 156).

الشجر واللَّبن في الحيوان والماء في البئر؛ ولهذا سوَّى بين النوعين في الوقف، فإن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الفائدة، فكما يجوز أن تكون فائدة الوقف منفعةً كالسكنى وأن تكون ثمرة وأن تكون لبنًا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها، وكذلك في باب التبرعات كالعارية لمن ينتفعُ بالمتاع ثم يردّه، والعريّة لمن يأكل ثمرَ (¬1) الشجرة ثم يردها، والمنيحة لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها، والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها القائم مقام عينها؛ فكذلك في الإجارة تارة يكريه العين للمنفعة التي ليست أعيانًا، وتارة للعين التي تحدث شيئًا من بعد شيءٍ مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونقع البئر؛ فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئًا بعد شيء [مع بقاء الأصل] (¬2) كانت المنفعة (¬3)، والمسوِّغ للإجارة هو ما بينهما من القدر المشترك، وهو حدوث المقصود بالعقد شيئًا فشيئًا، سواء كان الحادث عينًا أو منفعة، وكونه جسمًا أو معنًى قائمًا بالجسم لا أثر له في الجواز والمنع مع اشتراكهما في المُقتضي للجواز، بل هذا النوع من الأعيان الحادثة شيئًا فشيئًا أحقُّ بالجواز؛ فإن الأجسام أكْملُ من صفاتها، وطردُ هذا القياس جواز إجارة الحيوان غير الآدمي لرضاعه، [فإن الحاجة تدعو إليه كما تدعو إليه في] (¬4) الظئر من الآدميين بطعامها وكسوتها، ويجوز (¬5) استئجار الظئر من البهائِمِ بعلَفِها، والماشية إذا عاوض على لبنها فهو نوعان: أحدهما: أن يشتريَ اللَّبنَ مدة، ويكون العلف والخدمة على البائع، فهذا بيْع محضٌ. والثاني: أن يتسلَّمها (¬6) ويكون علفُها وخدمتُها عليه، ولبنها [له] (¬7) مدة الإجارة؛ فهذا إجارة وهو كضمان البساتين (¬8) سواء وكالظئر؛ فإن اللبن يُستوفى شيئًا فشيئًا مع بقاء الأصل؛ فهو كاستئجار العين ليسقيَ بها أرضَه، وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدةً للبنه ثم مِنْ أصحابه من جوَّز ذلك تبعًا لنصه، ¬

_ (¬1) في (ق): "ثمرة". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "كالمنفعة". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "وجواز إجارة". (¬5) في (ن): "وجواز"، وفي (ق) و (ك): "و". (¬6) في المطبوع: "ويسلمها". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق) وقال في هامش (ق): "لعله بلبنها". (¬8) في (د): "البستان".

فصل [حمل العاقلة الدية عن الجاني طبق القياس]

ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطًا ضيَّقوا بها مورد النص ولم يدل عليها نصه (¬1)، والصواب الجواز، وهو موجب القياس المحْض، فالمجوّزون أسْعد بالنص من المانعين، وباللَّه التوفيق. فصل [حمل العاقلة الدية عن الجاني طبق القياس] ومن هذا الباب قول القائل: "حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس" ولهذا لا تحمل [العاقلة] (¬2) العمدَ (¬3) ولا العبدَ (¬4) ولا الصُّلحَ (¬5) ولا الاعتراف ولا ما دون الثُّلث، ولا تحمل جنايةَ الأموال، ولو كانت على وِفْق القياس لحملت ذلك كُلَّه (¬6). والجواب أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونًا كان ضمانُه عليه، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ولا تُؤخذ نفس بجريرة غيرها؛ وبهذا جاء شرع اللَّه سبحانه ¬

_ (¬1) انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (4/ 20)، وانظر مذهب الحنفية في "المبسوط" (16/ 33)، ومذهب الشافعية في "روضة الطالبين" (5/ 178 - 179)، و"مغني المحتاج" (2/ 332 - 333). (¬2) ما بين المعقوفتين من نسخة (ك) و (و)، وقال (و): "العقل دية القتيل خطأ المستحقة بالشرع". (¬3) ولا شبه العمد، على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 553)، وهو مذهب مالك خلافًا لجماهير الفقهاء. (¬4) قال (ط): "لأن العبد عبارة عن سلعة من السلع" وقال (د): "كذا"، وفي (ق): "لا تحمل العبد ولا العهد". (¬5) يعني أن كل جناية عمد، فإنها من مال الجاني خاصة، ولا يلزم العاقلة منها شيء، وكذلك ما اصطلحوا عليه من الجنايات في الخطأ، وكذلك إذا أعترف الجاني بالجناية من غير بينة تقوم عليه، وإن ادعى أنها خطأ لا يقبل منه، فلا تلتزم بها العاقلة، وأما العبد فهو أن يجني على حر فليس على عاقلة مولاه شيء من جناية عبده، وإنما جنايته في رقبته، وهو مذهب أبي حنيفة، وقيل: هو أن يجني حر على عبده، وإنما جنايته في رقبته، وهو مذهب أبي حنيفة، وقيل: هو أن يجني حر على عبد، فليس على عاقلة الجاني شيء، إنما جنايته في ماله خاصة، وهو قول ابن أبي ليلى، وما بين هذين [] يستلزمه سياق الكلام فوضعته. وفي حديث: لا تعقل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا. والعاقلة العصبة والأقارب من قبل الأب الذين يعطون دية قتيل الخطأ (و). (¬6) انظر بيان أن حمل العاقلة الدية على وفق القياس: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 553)، و"المعدول به عن القياس" (163 - 165) وانظر في خلافه! "بدائع الصنائع" (7/ 255).

وجزاؤه، وحمل العاقلة الدية غير مناقضٍ لشيء من هذا (¬1) كما سنبينه، والناس متنازعون في العَقْل: هل تحمله العاقلة ابتداءً أو تحمُّلًا؟ على قولين (¬2)، كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب (¬3) أداؤها عن الغير كالزوجة [والولد] (¬4)، هل تجب ابتداءًا أو تحملًا؟ [على قولين] (4)، وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تُحمِّلت عنه عن نفسه بغير إذن المُتحمِّل لها؛ فمن قال: هي واجبة على الغير تحملًا قال: تجزئ في هذه الصورة، ومن قال: هي واجبة عليه ابتداءً قال: لا تجزيء، [بل] (¬5) هي كأداء الزكاة عن الغير، وكذلك القاتل إذا لم تكن (¬6) له عاقلةٌ، هل تجب الدية في ذمة القاتل [أولًا] (5)؛ على قولين، بناء على هذا الأصل، والعَقْلُ فارقَ غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم، وذلك أن دية المقتول مال كثير، والعاقلة إنما تحمل الخطأ، ولا تحمل العَمْد بالاتفاق، ولا شبهه على الصحيح، والخطأُ يُعْذَر فيه الإنسان، فإيجاب الدية في ماله فيه ضررٌ عظيم عليه من غير ذنب تعمَّده، وإهدارُ دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثَته، فلا بد من إيجاب بدلِه، فكان من محاسنِ الشَّريعة وقيامها بمصالح العباد أنْ أوجبَ بدله على مَنْ عليهم موالاة القاتل ونُصرته، فأوجب عليهم إعانته على ذلك. وهذا كإيجابِ النفقات على الأقاربِ وكسوتهم، وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاحِ، وكإيجابِ فَكاك الأسير من يد العدو (¬7)، [فإنه أسير] (¬8) بالدية التي لم يتعمَّد سبَبَ وجوبها ولا وجبت باختيار مستحقها كالقرض والبيع، وليست قليلة؛ فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها، وهذا بخلاف العمد، فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلًا أن يُحمل عنه بدل القتل (¬9)؛ وبخلاف شبه العمد؛ لأنه قاصد للجناية متعمد لها، فهو آثم معتدٍ، ¬

_ (¬1) في (ن): "غير مناقض لهذا". (¬2) انظر: "أحكام الجناية" (335 - 337) للشيخ بكر أبو زيد. (¬3) في (ق): "هل تجب"، وقال في الهامش: "إذا وجب". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). وانظر في المسألة "الإشراف" (2/ 192 مسألة 515) للقاضي عبد الوهاب، وتعليقي عليه. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "يكن". (¬7) في المطبوع: "من بلد العدو". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "فإن هذا أسيف" وفي (ق): "فإن هذا أسير"، وفي (ك): "فإن هذا أيسر". (¬9) في (ق) و (ك): "بدل القتيل".

بخلاف بدل المُتلف من الأموال؛ فإنه قليل في الغالب لا يكاد المُتْلِف يعجز عن حمله، وشأن النفوس غير شأن الأموال؛ ولهذا لم تحمل العاقلة ما دون الثلث عند أحمد ومالك (¬1) لقلّته واحتمال الجاني حمله (¬2)، وعند أبي حنيفة لا تَحْمِل ما دون أقل المقدّر كأرْشِ المُوضحة (¬3) وتحمل ما فوقه (¬4)، وعند الشافعي تحمل القليل والكثير طردًا للقياس (¬5)؛ وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد فإنه سلعة من السلع ومال من الأموال، فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع؛ وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنًى آخر، وهو أن المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسْري إقراره ولا صلحه، [فلا يجوز إقراره] (¬6) في حق العاقلة، ولا يقبل قوله فيما يجب عليه (¬7) من الغرامة، وهذا هو القياس الصحيح؛ فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودَعْواه على العاقلة بوجوب المال عليهم؛ فلا يقبل ذلك في حقهم، ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره، فتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كأبناء السبيل والفقراء والمساكين. وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم؛ فإن اللَّه سبحانه قسم خلقه إلى غني وفقير، ولا تتم مصالحهم إلا بسدِّ خَلّة الفقير، فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد [به] (¬8) خلّة الفقراء، وحرّم الربا الذي يضر بالمحتاج، فكان أمره بالصّدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقتين؛ ولهذا جمع اللَّه ¬

_ (¬1) في (ق): "الإمام أحمد ومالك"، وانظر مذهب أحمد في "الإنصاف" (10/ 126)، و"المغني" (9/ 506 - 507)، ومذهب مالك في "الأشراف" للقاضي عبد الوهاب (4/ 144 مسألة 1491) وتعليقي عليه، و"حاشية الخرشي" (8/ 45)، و"القوانين الفقهية" (298)، و"المنتقى" (7/ 102) وهذا اختيار ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 385). (¬2) في (ق): "لحمله". (¬3) "لموضحة: الشجة التي تبدي وضح العظم، أي: بياضه، والجمع: المواضح والتي فرض فيها خمس من الإبل هي ما كان منها في الرأس والوجه، فأما الموضحة في غيرها، ففيها الحكومة، والأرش: ما يأخذ المشتري من البائع إذا اطلع على عيب، وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها" (و). (¬4) انظر: "الهداية" (4/ 229). (¬5) انظر: "المهذب" (2/ 271). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬7) في (ق): "عليها". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

فصل [بيان أن المصراة على وفق القياس]

بينهما في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وذكر [اللَّه] (¬1) سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة، وهي ثلاثة: عدل، ظلم (¬2)، وفضل؛ فالعدل البيع، والظلم الربا، والفضل الصدقة؛ فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم، وذم المرابين وذكر عقابهم، وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى. والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على بعض كحق المملوك والزوجة والأقارب والضيف، ليست من باب عقوبة الإنسان بجناية غيره، فهذا لون، وذاك (¬3) لون، واللَّه الموفق. فصل [بيان أن المُصرَّاة على وفق القياس] وممّا قيل فيه: إنه على خلاف القياس حديث المُصرَّاة (¬4)، قالوا: وهو ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "وظلم". (¬3) في (ق): "وذلك". (¬4) رواه البخاري (2148 و 2159) في (البيوع): باب النهي للبائع أن لا يُحفِّل الإبل والبقر والغنم، و (2151) باب إن شاء رد المُصرَّاة وفي حلبتها صاع من تمر، ومسلم (1515) (11) في (البيوع): باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه وسومه على سومه. . .، وتحريم التصرية، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (2149) و (2164) من حديث ابن مسعود، وقال (و): "عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك، فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها، وصاعًا من تمر" متفق عليه، وفي رواية: "من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردها ومعها صاعًا من تمر لا سمراء" رواه الجماعة إلا البخاري. قال الشافعي: التصرية هي ربط أخلاف الشاة أو الناقة، وترك حلبها حتى يجتمع لبنها فيكثر، فيظن المشتري أن ذلك عادتها، فيزيد في ثمنها لما يرى من كثرة لبنها. وأصل التصرية: حبس الماء. وظن بعضهم أن المصراة من صررت. قال في "الفتح": إن الأصح هو أنها من صريت اللبن إذا جمعته، قال: لأنه لو كان من صررت لقيل: مصرورة أو مصررة لا مصراة، على أنه قد سمع الأمران في كلام العرب. ولا تصروا إن كان من الصر، فهو بفتح التاء، وضم الصاد وإن كان من الصرى فيكون بضم التاء، وفتح الصاد، وفي الحديث الثاني اضطراب، وهذا في قوله: "من تمر لا سمراء" ففي مسلم وأبي داود: من طعام لا سمراء، وفي البزار: صاع من بر لا سمراء، وفي مسند =

[الرد على ذلك]

يخالف القياس من وجوه (¬1): منها أنه تضمن (¬2) رَدَّ البيع (¬3) بلا عيبٍ ولا خلف في صفة، ومنها أن "الخراج بالضمان" (¬4)؛ فاللَّبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وقد ضمنه إياه، ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال وقد ضمنه إياه بغير مثله، ومنها أنه إذا انتقل من التضمين بالمثل فإنما ينتقل إلى القيمة والتمر لا قيمة ولا مثل، ومنها أن المال المضمون إنما يُضمن بقَدَره في القلة والكثرة، وقد قدر ههنا (¬5) الضمان بصاع. [الرد على ذلك] قال أنصار الحديث: كل ما ذكرتموه خطأ، والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها، ولو خالفها لكان أصلًا بنفسه، كما أن غيره أصلٌ بنفسه (¬6)، وأصول الشرع لا يُضرب بعضها ببعض، كما نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[عن] (¬7) أن يُضرب كتابُ اللَّه بعضه ببعض (¬8)، بل يجب اتباعها كلها، ويُقر كل منها على أصله وموضعه؛ فإنها كلها من عند اللَّه الذي أتقن شرعه وخلقه، وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح. ¬

_ = أحمد: صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر؛ وفي أبي داود: ردها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحًا. وقال الحافظ في الفتح: إن حديث الجماعة إسناده ضعيف، وإن ابن قدامة قال: إنه متروك الظاهر" اهـ. (¬1) ذكر العيني في "عمدة القاري" (11/ 270) ثمانية منها، وكذا التهانوي في "إعلاء السنن" (13/ 60)، وهو منقول عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن، انظر: "أصول السرخسي" (1/ 341)، و"المبسوط" (13/ 38)، و"التحرير مع شرحه التيسير" (3/ 52)، وأصول البزدوي" (2/ 380)، و"مرآة الأصول" (2/ 18)، و"رد المحتار" (4/ 47)، وانظر في مناقضتها: "فتح الباري" (4/ 364 - 365)، و"شرح النووي على صحيح مسلم" (10/ 162)، "وشرح السنة" (8/ 125). (¬2) في (ن): "يتضمن". (¬3) في (ك) و (ق): "المبيع". (¬4) سيأتي تخريجه قريبًا. (¬5) في (ق): "هنا". (¬6) انظر: "زاد المعاد" (4/ 242، 272) للمصنف -رحمه اللَّه- و"مجموع فتاوى ابن تيميه" (20/ 556 - 558)، و"المعدول به عن القياس" (ص 116 - 124). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) رواه أحمد (2/ 178 و 181 و 185 و 196)، وابن سعد في "الطبقات" (4/ 192)، وابن ماجه (85) في (المقدمة)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص 70)، والآجري في "الشريعة" (ص 68)، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 354 - 355) - كلهم من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وإسناده جيد.

فصل [الخراج بالضمان]

فاسمعوا الآن هدْم الأصول الفاسدة التي يُعترض بها على النصوص الصحيحة: أما قولكم: "إنه تضمّن الرد من غير عيب ولا فوات صفة" فأين في أصول الشريعة المُتلقّاة عن صاحب الشرع ما يدل على انحصار الرد بهذين الأمرين؟ وتكفينا هذه المطالبة، ولن تجدوا إلى إقامة الدليل على الحصر سبيلًا؛ ثم نقول: بل أصول الشريعة توجبُ الرد بغير ما ذكرتم، وهو الرد بالتدليس والغش، فإنه هو والخلف في الصفة من باب واحد، بل الرد بالتدليس أولى من الرد بالعيب، فإن البائع يُظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله، فإذا أظهر للمشتري أنه على صفة فبان بخلافها كان قد غشه ودلّس عليه، فكان له الخيار بين الإمساك والفسخ، ولو لم تأت الشريعة بذلك لكان هو محْض القياس وموجب العدل فإن المشتري إنما بَذل ماله [في المبيع] (¬1) بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، ولو علم أنه على خلافها لم يبذل له فيها ما بذل، فإلزامه للمبيع (¬2) مع التدليس والغش من أعظم الظلم الذي تتنزّه الشريعة عنه، وقد أثبت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الخيار للركبان إذا تُلُقُّوا واشتُرِيَ منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السِّعْر (¬3)، وليس ههنا عيبٌ ولا خلف في صفة، ولكن فيه نوع تدليس وغش. فصل [الخراج بالضمان] وأما قولكم: "الخراج بالضمان" (¬4) فهذا الحديث وإن كان قد رُوي فحديث ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ق): "بالمبيع". (¬3) رواه مسلم (كتاب البيوع): باب تحريم تلقي الجلب (1519) (17)، من حديث أبي هريرة. (¬4) رواه أحمد (6/ 80 و 116)، وأبو داود (3510) في (البيوع): باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا، والترمذي تعليقًا، بإثر حديث (1285) في (البيوع): باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبًا، وابن ماجه (2243) في (التجارات): باب الخراج بالضمان، والدارقطني (3/ 53)، والطحاوي (4/ 21 - 22)، وابن الجارود (626)، والحاكم (2/ 14 - 15) من طرق عن مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا، وقال أبو داود: إسناده ليس بذلك، وأما الحاكم فصححه ووافقه الذهبي. قلت: مسلم بن خالد ضعيف سيء الحفظ، ولكه توبع. فرواه: الترمذي (1286)، وابن عدي (5/ 1702)، والبيهقي (5/ 322) من طريق عمر بن علي المقدمي عن هشام به. =

المُصَرّاة (¬1) أصحُّ منه باتفاق أهل الحديث قاطبة، فكيف يُعارض به مع أنه لا تعارض بينهما بحمد اللَّه؟ فإن الخراج اسم للغلَّة مثل كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذلك، وأما الولد واللبن (¬2) فلا يُسمَّى خراجًا، وغايةُ ما في الباب قياسُه عليه بجامع كونهما من الفوائد، وهو من أفسد القياس؛ فإنّ الكسْب الحادث ¬

_ = وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب من حديث هشام بن عروة، واستغرب محمد بن إسماعيل هذا الحديث من حديث عمر بن علي. قلت: عمر بن علي ثقة لكنه مدلس فلا يبعد أن يكون أخذه من مسلم بن خالد؛ لذلك قال ابن عدي: وهذا يعرف بمسلم بن خالد. ورواه ابن عدي (7/ 2605)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 297) وابن الجوزي في "العلل" (482) من طريق خالد بن إبراهيم المكفوف عن هشام به. وزاد ابن عدي: ويعقوب بن الوليد، وقال: هذا حديث مسلم بن خالد عن هشام بن عروة سرقه منه يعقوب هذا، وخالد بن مهران وهو مجهول. وله طريق آخر عن عروة. رواه الشافعي (2/ 143 - 144)، والطيالسي (1464)، وأحمد (6/ 49 و 160 و 208 و 237)، وأبو داود (3508)، والترمذي (1285)، والنسائي (7/ 254 - 255) في (البيوع): باب الخراج بالضمان، وابن ماجه (2242)، والدارقطني (3/ 35)، وابن الجارود (627)، والعقيلي (4/ 231)، وأبو يعلى (4537 و 4575 و 4614)، والحاكم (2/ 15)، والبيهقي (5/ 321) من طرق عن ابن أبي ذئب عن مخلد بن خفاف عن عروة به وفيه قصة، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب. أقول: ومخلد بن خفاف هذا قال فيه أبو حاتم: لم يرو عنه غيره (أي ابن أبي ذئب) وليس هذا إسناد تقوم بمثله حجة. وقال ابن عدي: لا يعرف له غير هذا الحديث. وقال البخاري: فيه نظر. ووثقه ابن حبان وابن وضاح!!. أقول: ذكر الحافظ في "التهذيب" أنه روى عنه أيضًا يزيد بن عياض لكنه متروك. والحديث صححه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 494 رقم 2718) وأقره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 22)، وقواه شيخنا الألباني أيضًا في "إرواء الغليل" (1446، 1521). وفسره الترمذي بأن يشتري الرجل العبد يستغله ثم يظهر به عيب فيرده، فالغلة للمشتري لأن العبد لو هلك هلك في ضمانه، ونحو هذا يكون في الخراج بالضمان. اهـ. يعنى: وهو يقتضي أن اللبن للمشتري؛ فكيف يرد عنه الصاع من التمر؟ وقد أجيب عنه أولًا بأن حديث المصراة أقوى من حديث الخراج بالضمان، وثانيًا بأن اللبن المصَّرى كان حاصلًا قبل الشراء في ضرعها؛ فليس من الغلة التي إنما تحدث عند المشتري، فلا يستحقه المشتري بالضمان؛ فلا بد من قيمته، انظر: "نيل الأوطار" (5/ 245) للشوكاني، و"الموافقات" (3/ 204، 427، 430، 455 بتحقيقي)، و"تهذيب السنن" للمصنف (5/ 158 - 159). (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ق): "اللبن والولد".

[الحكمة في رد التمر بدل اللبن]

والغلة لم يكن موجودًا حالَ البيع، وإنما حدث بعد القبض، [وأما اللبن ههنا فإنه كان موجودًا حال العقد] (¬1)، فهو جزء من المعقود عليه، والشارع لم يجعل الصاع عوضًا عن اللبن الحادث، وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضّرع (¬2)، فضمانه هو محض العدل والقياس. وأما تضمينه بغيرِ جنسِه ففي غاية العدل؛ فإنه لا يمكن تضمينه بمثله البتة، فإن اللبن في الضّرع محفوظ غير مُعرّض للفساد، فإذا حلب صار عُرضة لحمضه وفساده، فلو ضمن اللبن الذي كان في الضوع بلبن محلوب في الإناء كان ظلمًا تتنزّه (¬3) الشريعة عنه. [الحكمة في رد التمر بدل اللبن] وأيضًا فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط (¬4) باللبن الموجود وقت العقد، فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، وقد يكون أقلّ منه [أو أكثر] (¬5) فيفضي إلى الربا؛ لأن أقل الأقسام أن تُجهل المساواة. وأيضًا فلو وكلناه إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لكثرُ النزاع والخصام بينهما، ففَصلَ الشارع (¬6) الحكيم -صلاة اللَّه وسلامه عليه [وعلى آله] (¬7) - النزاع وقَدَّره بحد لا يتعدّيانه قطعًا للخصومة وفصلًا للمنازعة، وكان تقديرُه بالتمر أقربَ الأشياء إلى اللبن، فإنه قوت أهل المدينة كما كان اللبن قوتًا لهم، وهو مكيل كما أن اللبن مكيل؛ فكلاهما مطعوم مقْتات [مَكِيل، وأيضًا فكلاهما يُقْتات] (¬8) به بلا صنعة ولا علاج، بخلاف الحنطة والشعير والأرز، فالتمر أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن. فإن قيل: فأنتم (¬9) توجبون صاع التمر في كل مكان، سواء كان قوتًا لهم أو لم يكن. ¬

_ (¬1) في (ن): "واللبن ههنا موجود حال البيع". (¬2) في (ق): "الموجود في الضرع وقت العقد". (¬3) في (ق): "تنزه". (¬4) في (ق): "بعد العقد قد اختلط". (¬5) في (ق): "وأكثر". (¬6) انظر حول إطلاق مصطلح (الشارع)، و (المشرع) على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمفتين: "الموافقات" (5/ 255 - 256) وتعليقى عليه. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وفي (ق): "فكلاهما مقتات به بلا صنعة". (¬9) في (ق): "أنتم".

فصل [أمر الذي صلى فذا بالإعادة]

قيل: هذا في مسائل النزاع وموارد الاجتهاد، فمن الناس منْ يوجب ذلك، ومنهم من يوجب في كل بلد صاعًا من قوتهم، ونظير هذا تعيينه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأصناف الخمسة في زكاة الفطر (¬1) وأن كل [أهل] (¬2) بلد يُخرجون من قوتِهم مقدار الصاع (¬3)، وهذا أرجح وأقرب إلى قواعد الشرع، [وإلا] (¬4) فكيف يُكلّفُ مَنْ قوتُهم السمك مثلًا أو الأرز الدّخن (¬5) إلى التمر، وليس هذا بأول تخصيص قام الدليل عليه، وباللَّه التوفيق. فصل [أمر الذي صلى فذًا بالإعادة] ومن ذلك ظنُّ بعض الناس (¬6) أن أمره -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن صلّى فذًّا خَلْف الصَّف بالإعادة على خلاف القياس (¬7)؛ فإن الإمام والمرأة فذّان وصلاتهما صحيحة. وهذا من أفسد القياس وأبطله؛ فإن الإمام يُسن في حقه التقدم، وأن يكون وحده، والمأمومون يُسن في حقهم الاصطفاف، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس، والفرقُ بينهما أن الإمام إنما جُعل ليُؤْتَمّ به وتُشاهد أفعالُه وانتقالاته، فإذا كان قُدَّامهم حصل مقصود الإمامة، وإذا كان في الصف لم يشاهده إلّا مَنْ يليه، ولهذا جاءت السنة بالتقدم (¬8)، [ولو كانوا ¬

_ (¬1) بعدها في (ق) بياض يسع كلمتين. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬3) رواه البخاري (1506) في (الزكاة): باب صدقة الفطر صاعًا من طعام، و (1508) باب: صاع من زبيب، و (1510) باب الصدقة قبل العيد، ومسلم (985) (18) في (الزكاة): باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "والدخن". (¬6) في المطبوع: "ظن بعضهم" وفي هامش (ق): "حكم صلاة الفذ". (¬7) وذلك بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استقبل صلاتك، فإنه لا صلاة لمنفرد خلف الصف"، ومضى تخريجه، ووجه القول بأنه خلاف القياس أن الاصطفاف ليس ركنًا للصلاة، ولا شرطًا لها حتى يلزم من فقدانه إعادتها، فلو حكم عليها بمثل ما حكم على نظائرها من صلاة الإمام أمام المصلين وحده، وصلاة المرأة خلف الرجال وحدها، لاقتضى القياس عدم إعادتها على خلاف القياس، انظر مع رده على نحو ما عند المصنف في "مجموع فتاوى ابن تيميه" (20/ 558 - 559). (¬8) في هذا أحاديث منها: حديث أنس: قال فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا، =

ثلاثة] (¬1)، محافظةً على المقصود بالائتمام، وأما المرأة فإن السنة وقوفها فذة إذا لم يكن هناك امرأة تقف معها؛ لأنها منهية عن مُصافة الرِّجال (¬2)، فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة، وموقف الرجل المشروع أن يكون في الصف، فقياسُ أحدهما على الآخر من أبطل القياس وأفسده، وهو قياس المشروع على غير المشروع. فإن قيل: فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها! قيل: هذا غير مُسلَّم، بل إذا كان صفُّ نساء (¬3) فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صفُّ الرجال، لكن موقف المرأة وحدها خلف الرجال (¬4) يدل على شيئين: أحدهما أن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذَّر عليه الدخول في الصف ووقف [معه] (¬5) فذًا صحت صلاته للحاجة، وهذا هو القياس المحض؛ فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها؛ الثاني -هو (¬6) طرد هذا القياس- إذا لم يمكنه أن يُصلِّي مع الجماعة إلا قُدّام الإمام فإنه يصلي قدامه وتصح صلاته، وكلاهما وجهٌ في مذهب أحمد، وهو اختيار شيخنا رحمه اللَّه (¬7). وبالجملة فليست المُصَافة أوْجب من غيرها، فإذا سقط ما هو أوجب منها ¬

_ = رواه البخاري (380) في (الصلاة): باب الصلاة على الحصير، و (727) في (الأذان): باب المرأة وحدها تكون صفًا، و (857): باب وضوء الصبيان. .، و (780 و 874) باب صلاة النساء خلف الرجال، ومسلم (658) في المساجد باب جواز الجماعة في النافلة. ومنها حديث جابر الطويل في صحيح مسلم (3010) في الزهد والرقائق: فأخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيدينا جميعًا فأقامنا خلفه. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ورد من فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- إقامة النساء خلفه كما في حديث أنس السابق، وفي حديث أبي هريرة موفوعًا: "خير صفوف الرجال أولها. . .، وخير صفوف النساء آخرها" رواه مسلم (440) وغيره. (¬3) في المطبوع: "صف النساء" وفي هامش (ق): "صلاة المرأة خلف صف نساء غير صحيحة". (¬4) في المطبوع و (ن) و (ك): "خلف صف الرجال". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وقال في الهامش: "إذا لم يجد الرجل موقفًا في الصف صحت صلاته فذًا". (¬6) في (ق): "وهو". (¬7) انظر: "الاختيارات الفقهية" (ص: 71) لشيخ الإسلام -رحمه اللَّه-. وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [الرهن مركوب ومحلوب وعلى من يركب ويحلب النفقة]

للعذر فهي أولى بالسقوط (¬1)، ومن قواعد الشرع الكلية أنه "لا واجبَ مع عجزٍ، ولا حرامَ مع ضرورة" (¬2). فصل [الرهن مركوب ومحلوب وعلى من يركب ويحلب النفقة] ومن ذلك قول بعضهم: إن الحديث الصحيح -وهو قوله: "الرَّهنُ مركوبٌ ومحلوب، وعلى الذي يركبُ ويحلبُ النفقة" (¬3) - على خلاف القياس، فإنه جوَّز لغير المالك أن يركب الدابة و [أن] (¬4) يحلبها، وضمَّنه (¬5) ذلك بالنفقة لا بالقيمة، فهو مخالف للقياس من وجهين (¬6). والصواب ما دل عليه الحديث، وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه؛ فإن الرهن إذا كان حيوانًا فهو محترمٌ في نفسه لحقِّ اللَّه سبحانه، وللمالكِ فيه حَقُّ الملك، وللمرتهن حق الوثيقة، وقد شرع اللَّه سبحانه الرَّهنَ مقبوضًا بيد المرتهن، فإذا كان بيده فلم يَرْكبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلًا (¬7)، وإن مَكَّن صاحبه من ركوبه خرج عن (¬8) يده وتوثيقه، وإن كَلَّف صاحبه كل وقت أن يأتي ليأخذ (¬9) لبنه ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 86 - 87) للمؤلف -رحمه اللَّه-. (¬2) انظر كلام ابن القيم على هذه القاعدة في "تهذيب السنن" (1/ 47 - 48). (¬3) اللفظ الوارد في الصحيح هو "الرهن يركب بنفقته ولبن الدر يُشرب إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب نفقته"، رواه البخاري (2511 و 2512) في (الرهن): باب الرهن مركوب ومحلوب، من حديث أبي هريرة. ولفظ الرهن مركوب ومحلوب: رواه الدارقطني (3/ 34)، وابن عدي (1/ 272)، والبيهقي (6/ 38)، والخطيب (6/ 184)، والحاكم (2/ 58) من طرق عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة، وقال الحاكم: "إسناده صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه لإجماع الثوري وشعبة على توقيفه عن الأعمش، وأنا على أصلي الذي أصلته في قبول الزيادة من الثقة". ورواه موقوفًا البيهقي (6/ 38)، ورجح الدارقطني في "العلل" (10/ 112 رقم 1903)، والخطيب الوقف، وكما ذكر الحافظ في "الفتح" (5/ 142) و"التلخيص الحبير" (3/ 36): وانظر: تعليقي على "الإشراف" (3/ 23). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "وضمن". (¬6) انظر تفصيل ذلك في: "البناية" (9/ 645) للعيني، و"سبل السلام" (3/ 769) للصنعاني. (¬7) في (ن): "ذهبت نفقته باطلًا". (¬8) في (ن): "من". (¬9) في (ق) و (ك): "أن يأخذ".

شق عليه غاية المشقّة، ولا سيما مع بعد المسافة، وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه؛ فكان مُقتضى العَدْل والقياس ومصلحة الراهن والمُرْتَهِن والحيوان أن يستوفيَ المُرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة (¬1)، ففي هذا جمع بين المصلحتين، وتوفير الحقَّين (¬2)، فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه، والمرتهن إذا أنفق عليه أدّى عنه واجبًا، وله فيه حق، فله أن يرجعَ ببدَلِه، ومنفعةُ الركوب والحلب تصلح أن تكون بدلًا، فأخْذُها خيرٌ من أن تُهدَر (¬3) على صاحبها باطلًا ويُلزم بعوض ما أنفق المُرتهن، وإن قيل للمُرتهن؛ "لا رجوع لك" كان في ذلك إضرارٌ (¬4) به، ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان، فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يُختار. فإن قيل: ففي هذا أن منْ أدّى عن غيره واجبًا فإنه يرجع ببدله، وهذا خلاف القياس؛ فإنه إلزام له بما لم يلتزمه، ومعاوضة لم يرض بها. وقيل (¬5): وهذا أيضًا محض القياس (¬6) والعدل والمصلحة، وموجب الكتاب، ومذهبُ أهلِ المدينة وفقهاءِ الحديث، أهلِ بلدته وأهلِ سنته، فلو أَدَّى عنه دينَه (¬7) أو أنفق على مَنْ تلزمه نفقته أو افْتَداه من الأسر ولم ينو التبرُّع فله الرجوع، وبعض أصحاب أحمد فرَّقَ بين قضاء الدين ونفقة القريب؛ فجوَّز الرجوع في الدين دون نفقة القريب، قال: لأنها لا تصير دينًا (¬8)؟ قال شيخنا (¬9): والصواب التسوية بين الجميع، والمحققون من أصحابه ساووا بينهما (¬10)، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبتُه بالفِداء، وليس ذلك دَيْنًا عليه، والقرآن يدل على هذا القول، فإن اللَّه تعالى قالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ ¬

_ (¬1) في (ن): "ويعوض ثمنها". (¬2) في (ق): "للحقين". (¬3) في (ق): "تذهب". (¬4) في (ق): "كان فيه إضرار". (¬5) في (ق): "قيل". (¬6) في (ن): "محض الكتاب". (¬7) في (ق) و (ك): "دينًا". (¬8) انظر المسألة بتفصيلها في "القواعد" لابن رجب (1/ 523 - بتحقيقي). (¬9) "هو شيخ الإسلام ابن تيمية" (و). قلت: الكلام بطوله مع تصرف يسير جدًا في "مجموع الفتاوى" (20/ 560 - 561)، وانظر: "المعدول به عن القياس" (ص 132 - 134). (¬10) انظر مبحث: "من أدى عن غيره واجبًا" لابن القيم في "الطرق الحكيمة" (ص 20).

فصل [الحكم في رجل وقع على جارية امرأته موافق للقياس]

أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فأمر بإيتاء الأجر (¬1) بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذن الأَب، وكذلك قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فأوجب ذلك عليه، ولم يشترط عقدًا ولا إذنًا، ونفقةُ الحيوان واجبةٌ على مالكه، والمستأجر والمرتهن له فيه حق، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على رَبِّه كان أحق بالرجوع بالإنفاق على ولده (¬2)، فإن قال الراهن: أنا لم آذن لك في النفقة، قال: هي واجبة عليك، وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمُستأجر، فإذا رضي المنفِقُ بأن يعتاض بمنفعة الرهن وكانت (¬3) نظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه، وذلك خيرٌ محضٌ، فلو لم يأت به النص لكان القياس يقتضيه، وطَرْدُ هذا القياس أن المُودعَ والشريك والوكيل إذا أنفق على الحيوان واعتاض عن النفقة بالركوب والحلْب جاز ذلك كالمرتهن. فصل [الحكم في رجل وقع على جارية امرأته موافق للقياس] ومما قيل: "إنه من أبعد الأحاديث عن القياس" حديثُ الحسن، عن قَبيصة بن حُرَيْث عن سلمة بن المُحبَّق أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "قضى في رجل وقع على جاريةِ امرأتِه إنْ كان استكرهَها فهي حرةٌ، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طاوَعتْهُ فهي له وعليه لسيِّدتها مثلها" وفي رواية أخرى: "وإن كانت طاوَعتْه فهي ومثلها من ماله لسيدتها" (¬4)، رواه أهل "السنن" وضعَّفه بعضهم من قبل إسناده، وهو ¬

_ (¬1) في (ق): "فأمر بمجرد إيتاء الأجر". (¬2) في المطبوع و (ق) و (ك): "كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده". (¬3) في (ق): "نظير". (¬4) هذا يرويه عمرو بن دينار عن الحسن به، واختلف عنه، فرواه أحمد في "مسنده" (5/ 6)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 72)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1066)، والطبراني في "الكبير" (6337)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 240) من طريق سفيان بن عيينة، وحماد بن زيد، ومحمد بن مسلم عن عمرو بن دينار عن الحسن عن سلمة. ووقع تصريح الحسن بالسماع من سلمة في "التاريخ الكبير"، لكن قال البخاري: لم يسمع الحسن من سلمة بينهما قبيصة بن حريث ولا يصح. وتابع عمرًا على هذا يونس بن عبيد: رواه من طريقه أحمد، والنسائي في "الكبرى" =

حديثٌ حسن يحتجون بما هو دونه في القوة، ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه مع لينٍ في سنده (¬1). ¬

_ = (7231)، ورواه عبد الرزاق (13418) (7/ 343) من طريق ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن عن قبيصة عن سلمة، فزاد قبيصة: وهو الذي ذكره البخاري، ولكنه قال: لا يصح، وقال في قبيصة: في حديثه نظر، نقله عنه ابن عدي والعقيلي، وليس هو في المطبوع في ترجمة قبيصة من "التاريخ الكبير"، وكأنه يريد الاضطراب الذي وقع في هذا الحديث أو لمخالفته. ورواه قتادة عن الحسن، واختلف عنه. فرواه أبو داود (4461) في (الحدود): باب في الرجل يزني بجارية امرأته، والنسائي في (الحدود) (6/ 125): باب إحلال الفرج، وفي "السنن الكبرى" (7232)، وأحمد في "مسنده" (5/ 6) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سلمة. ورواه عبد الرزاق (13417)، ومن طريقه أحمد (5/ 6)، وأبو داود (4460)، والنسائي (6/ 124)، وفي "الكبرى" (7233)، والطبراني في "الكبير" (6336)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 484)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 240) عن معمر عن قتادة عن الحسن عن قبيصة عن سلمة. ورواه شعبة عن قتادة، واختلف عنه، فرواه أحمد (5/ 6) من طريق محمد بن جعفر عنه عن قتادة عن الحسن عن سلمة، ورواه الطبراني في "الكبير" (6335)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1344 رقم 3395)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 240) من طريق بكر بن بكار عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن جون بن قتادة عن سلمة، ورواه أبو حاتم في "العلل" (1/ 447)، والطبراني في "الكبير" (6339)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 240) من طريق سلامة بن مسكين عن الحسن قال: حدثني قبيصة عن سلمة، ورواه ابن ماجه (2552) في (الحدود): باب من وقع على جاريته، وابن أبي عاصم في "الأحاد والمثاني" (1065)، والدارقطني (3/ 84) من طريق هشام عن الحسن عن سلمة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رُفع إليه رجل وقع على جارية امرأته فلم يحده. أقول: ويظهر أن أبا حاتم كان يرجح طريق الحسن عن قبيصة عن سلمة، ففي "علل ابن أبي حاتم" (1/ 447): "قلت لأبي: هما صحيحان؟ قال: نعم. . . قلت: الحسن عن سلمة متصل؟ قال: لا، (ثم ساق طريق الحسن عن قبيصة) فأدخل بينهما قبيصة بن حريث فاتصل الإسناد. فقلت: الحسن سمع من سلمة، وروى محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار عن الحسن؛ سمعت سلمة بن المحبق؟ قال: هذا عندي غلط غير محفوظ". وقال النسائي: ليس في هذا الباب شيء صحيح يحتج به، وقال البيهقي: حصول الإجماع من فقهاء الأمصار بعد التابعين على ترك القول به دليل على أنه إن ثبت صار منسوخًا بما ورد من الأخبار في الحدود. وانظر: "جزء أبي الجهم الباهلي" (رقم 58). (¬1) انظر: "زاد المعاد" (3/ 208 - 209)، وكلام المصنف هناك.

فصل [المتلفات تضمن بالجنس]

قال شيخ الإسلام (¬1): وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة أصول صحيحة، كلٌّ منها قول طائفة من الفقهاء: أحدهما: أن من غيَّر مال غيره بحيث فوّت مقصوده عليه فله أن يَضمنه بمثله، وهذا كما لو (¬2) تصرّف في المغصوب بما أزال اسمه ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد (¬3) وغيره: أحدها: أنه باقٍ على مُلكِ صاحبه، وعلى الغاصبِ ضمانُ النقص، ولا شيء عليه في الزيادة كقول الشافعي (¬4). والثاني: يملكُه الغاصبُ بذلك، ويضمنُه لصاحبه كقول أبي حنيفة (¬5). الثالث: يُخيَّر المالك بين أخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبَدَل، وهذا أعدل الأقوال وأقواها؛ فإن فوّت (¬6) صفاته المعنوية -[مثل أن] (¬7) ينسيه صناعته أو يضعف قوته، أو يُفسد عقله أو دينه- فهذا أيضًا يخيَّر المالك فيه بين تضمين النَّقص وبين المطالبة بالبدل، ولو قطع ذَنَبَ بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك في العادة؛ أو يُخيَّر المالك (¬8). فصل [المتلفات تضمن بالجنس] الأصل الثاني: أن جميع المُتْلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة، حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رُدّ مثله، كما اقترض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بَكْرًا وردَّ خيرًا منه (¬9)، وكذلك المغرُور يضمن ولده بمثله (¬10) كما قَضت به ¬

_ (¬1) الكلام بطوله بتصرف يسير في "مجموع الفتاوى" (20/ 562 - 566) لابن تيمية -رحمه اللَّه- انظر منه (20/ 162 - 167، 562 - 566)، وانظر: "المعدول به عن القياس وموقف ابن تيمية منه" (ص 166 - 169)، و"تيسير الفقة الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 1070 - 1074)، و (3/ 1145 - 1146). (¬2) في (ق): "إذا". (¬3) انظر: "المغني" (5/ 403 - 404). (¬4) انظر: "المهذب" (1/ 484 - 485). (¬5) انظر: "حاشية ابن عابدين" (6/ 190 - 191). (¬6) في (ق) و (ك): "فوات". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "بأن". (¬8) انظر: "الإشراف" (3/ 119 - 120)، و"الموافقات" (5/ 196) وتعليقي عليهما. (¬9) رواه مسلم (1600) في (المساقاة): باب من استسلف شيئًا فقضى خيرًا منه، من حديث أبي رافع. (¬10) في المطبوع و (ق): "بمثلهم".

الصَّحابة (¬1)، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقصة داود وسليمان -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) من هذا الباب؛ فإن الماشية كانت قد أتْلفت حرْث القوم فقضى داودُ بالغنم لأصحاب الحرْث كأنه ضمَّنهم ذلك بالقيمة (¬3)، ولم يكن لهم مال إلا الغَنَم فأعطاهم الغنم بالقيمة (¬4)، وأما سليمان فحكم (¬5) بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمّنهم إياه بالمِثْل، وأعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضًا عن المنفعة التي فاتت من غلّة الحرث إلى أن يعود، وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن أتلف له شجر، فقال الزهري: يغرسُه حتى يعود كما كان، وقال ربيعة وأبو الزناد: عليه القيمة، فغلَّظ الزهري القول فيهما، وقول الزهري: وحكم سُليمان هو موجب الأدلة (¬6)؛ فإن الواجب ضمان المُتْلف (¬7) بالمثل بحسب الإمكان كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وإن كان مثل [هذا] (8) الحيوان والآنية والثياب من كل وجه متعذرًا فقد دار الأمر بين شيئين: الضمان بالدراهم المخالفة للمثل في الجنس والصفة [والماهية] (¬8) والمقصود والانتفاع وإن ساوت ¬

_ (¬1) الذي وجدته في هذا: ما رواه مالك في "الموطأ" (1/ 741)، ومن طريقه البيهقي (7/ 219) أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أو عثمان بن عفان قضى أحدهما في امرأة غَرَّت رجلًا بنفسها، وذكرت أنها حُرَّة فتزوّجها فولدت له أولادًا، فقضى أن يفدي ولده بمثلهم ثم ذكر مالك كلامًا، وهو غير الذي نقله عنه البيهقي! ونقل نحو مذهب عمر، عن علي، وهو مشهور في كتب الفقه، انظر: "المحلى" (8/ 565) مسألة (1259)، و"المغني" (5/ 238 - 307)، و"المجموع" (13/ 292 - 329)، و"سبل السلام" (3/ 70)، و"نيل الأوطار" (5/ 362)، و"معجم فقه السلف" (5/ 47 - 49). وانظر بحث ابن القيم في: "تهذيب السنن" (6/ 340 - 341)؛ فإنه مهم، و"الداء والدواء" (ص 213 - 214) في مبحث التوبة من الظلامات المالية. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ن): "ضمنه إياه بالقيمة". (¬4) في المطبوع و (ق): "فأعطاهم القيمة". (¬5) في (ن): "وحكم سليمان". (¬6) انظر: "مفتاح دار السعادة" (ص 62)، و"تهذيب السنن" (6/ 341)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 563 - 564)، و"تيسير الفقة الجامع للإختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 1070 - 1074)، "التقريب لفقه ابن القيم" (1/ 170) للشيخ الفاضل بكر أبو زيد. (¬7) في (ن): "المتلفات". (¬8) ما بين المعقوفتين من (ق).

[المضمون] (¬1) في المالية، والضمان بالمثل بحسب الإمكان المساوي للمُتلف في الجنس والصفة والمالية والمقصود والانتفاع، ولا ريب أن هذا أقربُ إلى النص (¬2) والقياس والعدل، ونظير هذا ما ثبت بالسنة (¬3) واتفاقِ الصحابة من القصاص في اللّطْمة والضربة (¬4) وهو منصوصُ أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد تقدم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وفي (ق) و (ك): "ومن تساوت المضمونات" وفي (ق): "وأن" بدل "ومن". (¬2) في المطبوع: "النصوص". (¬3) في (ن): "بالنص". (¬4) أما السنة في القصاص من اللطمة فلم أجد حديثًا صريحًا إلا في "مصنف ابن أبي شيبة" (9/ 446) من طريق الحكم أن العباس بن عبد المطلب لطم رجلًا فأقاده النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من العباس فعفا عنه. والحكم هذا هو ابن عتيبة لم يدرك العباس، والحديث المشهور أن مسلمًا لطم يهوديًا فجاء اليهودي إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليس فيه أنه أقاده منه، وهو حديث ثابت في "صحيح البخاري" (3398 و 4638 و 6916 و 7427)، و"صحيح مسلم" (2374) من حديث أبي سعيد، وفي "صحيح البخاري" (2411)، ومسلم (2373) من حديث أبي هريرة. وترجم النسائي في "سننه" (7/ 33): باب القود من اللطمة ثم ذكر حديثًا لابن عباس فيه لطمة العباس لرجل، فجاء أهله إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس فيه ذكر القصاص. وروى أبو الفتح الأزدي في "ذكر اسم كل صحابي. . . " (رقم 349) من حديث ابن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقاد من خَدَش، وسنده مظلم. وأما القصاص من الضربة ففي ذلك أحاديث منها: حديث أبي سعيد الخدري، رواه أحمد (3/ 28)، وأبو داود (4536) في (الديات): باب القود من الضربة، والنسائي (8/ 32) في (القسامة): باب القود من الطعنة، والبيهقي (8/ 43)، وابن حبان (6434) من طريق بكير بن الأشج عن عبيد بن مسافع عنه قال: بينما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُقسم شيئًا أقبل رجل. . . فطعنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعرجون معه فجُرح بوجهه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تعال فاستقده"، ورجاله ثقات، غير عبيدة بن مسافع لم يوثقه إلا ابن حبان. وحديث سواد بن عمرو: رواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1404 رقم 3550)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (6/ 2193، 2194 رقم 637، 638)، والبيهقي (8/ 48)، والبغوي في "معجم الصحابة" (ق 144/ ب) -وكما في "الإصابة" (2/ 95) -، واختلف هل القصة مع سواد بن عمرو أو ابن غزية، فانظر: "الإصابة"، وانظر شواهده في "سنن البيهقي" (8/ 49). وأما ما ورد عن الصحابة في اللطمة، فقد ورد عن أبي بكر: رواه ابن أبي شيبة (9/ 446)، وعن ابن الزبير: رواه ابن أبى شيبة (9/ 446)، والبيهقي (8/ 65). وعن علي بن أبي طالب: رواه ابن أبى شيبة (9/ 446)، ومسدد في "مسنده" -كما في "تغليق التعليق" (5/ 253)، وعن المغيرة أيضًا: رواه ابن أبي شيبة (9/ 446)، وأما ما ورد عن الصحابة في الضربة. فقد ورد ذلك عن عمر أخرجه عبد الرزاق- كما قال =

[من مثل بعبده عتق عليه]

تقرير ذلك وإذا كانت المماثلة من كل وجه متعذرة حتى في المكيل والموزون فما كان أقرب إلى المماثلة فهو أولى بالصواب، ولا ريب أن الجنس إلى الجنس أقرب مماثلةً من الجنس إلى القيمة؛ فهذا هو القياس وموجب النص (¬1)، وباللَّه التوفيق. [مَنْ مثَّل بعبده عتق عليه] الأصل الثالث: أن من مثّل بعبده عتَقَ عليه (¬2)، وهذا مذهب فقهاء الحديث وقد جاءت بذلك آثار (¬3) مرفوعة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). . . . . ¬

_ = الحافظ في "التغليق" (5/ 253) - عن مالك عن عاصم بن عبيد اللَّه بن عامر بن ربيعة، وانظر "فتح الباري" (12/ 228 - 229) و"تغليق التعليق" (5/ 252 - 254) ففيه آثار عن التابعين أيضًا. وقد تقدم شيء من هذا أيضًا. (¬1) في المطبوع: "النصوص". (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 148) للمصنف. (¬3) في (ن): "أخبار". (¬4) في هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه قصة: رواه أحمد في "مسنده" (2/ 182)، و (2/ 225)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (17932)، وأبو داود (4519) في (الديات): باب من قتل عبده أو مثل به أيقاد منه؟ وابن ماجه (2680) في (الديات): باب من مثَّل بعبده فهو حر، والبيهقي (8/ 36)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص 137)، وابن سعد في "الطبقات (7/ 506)، وابن منده -كما في "الإصابة" (1/ 533) - والطبراني في "المعجم الكبير" (5301) من طرق عن عمرو به، وسنده جيد. وأخرج البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 2/ 182)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (3/ 182)، والطبراني في "الأوسط" (9/ 298 - 299، 8652)، وأبو بكر الإسماعيلي في "مسند عمر" -كما في "مسند الفاروق" (1/ 371 - 372) لابن كثير-، وابن عدي في "الكامل" (ق 596)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 215، 216)، والبيهقي في "الكبرى" (6/ 36) -من طريق عمر بن عيسى المدني الأسدي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس؛ قال: "جاءت جارية إلى عمر، وقالت: إن سيدي اتهمني فأقعدني على النار حتى أحرق فرجي. فقال: هل رأى ذلك عليك؟ قالت: لا. قال: أفاعترفت له بشيء؟ قالت: لا. قال: عليَّ به. فلما رأى الرجل قال: أتعذب بعذاب اللَّه؟ قال: يا أمير المؤمنين! اتهمتها في نفسها. قال: رأيت ذلك عليها؟ قال: لا. قال: فاعترفت؟ قال: لا. قال: والذي نفسي بيده؛ لو لم أسمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا يقاد مملوك من مالكه، ولا ولد من والده"؛ لأخذتها منك. فبرزه فضربه مئة سوط، ثم قال: اذهبي فأنت حرة، مولاة للَّه ورسوله، سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "من حُرِّق بالنار أو مثل به؛ فهو حر، وهو مولى اللَّه ورسوله". قال الليث: هذا أمرٌ معمول به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ =قال ابن كثير في "مسند الفاروق" (1/ 372): "هكذا رواه الحافظ أبو بكر الإسماعيلي في "مسند عمر"، وهو إسناد حسن؛ إلا أن البخاري قال في عمر بن عيسى هذا: هو منكر الحديث، فاللَّه أعلم". والحديث فيه دلالة ظاهرة توضح لمذهب مالك وغيره من السلف في أن من مثّل بعبده يعتق عليه حتى عداه بعضهم إلى مَنْ لاط بمملوكه، أو زنى بأمة غيره أنها تعتق عليه. وفيه أيضًا أنه لا ولاء له عليه والحالة هذه؛ لقوله: "وهو مولى اللَّه ورسوله"، وقد نص الإمام الليث بن سعد على قبول هذا الحديث، وأنه معمول به عندهم". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد"، وتعقبه الذهبي في "التلخيص" بقوله: "قلت: بل فيه عمر بن عيسى القرشي، وهو منكر الحديث". وقال الهيثمي في "المجمع" (6/ 388): "فيه عمر بن عيسى القرشي، ذكره الذهبي في "الميزان" وذكره له هذا الحديث، ولم يذكر فيه جرحًا، وبيض له، وبقية رجاله وثقوا". قلت: الموجود في مطبوع "الميزان " (3/ 316) الذي بين أيدينا: "قال البخاري: منكر الحديث، وقال العقيلي: مجهول بالنقل، وقال النسائي: ليس بثقة، منكر الحديث". وقال ابن حبان في "المجروحين" (2/ 87): "كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به فيما وافق الثقات؛ فكيف إذا انفرد على الأثبات بالطامات؟! ". فالحديث المذكور إسناده ضعيف جدًا. ومدار الحديث على عمر هذا، قال الطبراني: "لم يروه عن ابن جرير إلا عمر بن عيسى، تفرد به الليث". وانظر: "اللسان" (4/ 320 - 322). وأخرج مالك في "الموطأ" (2/ 776/ رقم 7): "أنه بلغه أن عمر بن الخطاب أتته وليدة قد ضربها سيدها بنار أو أصابها بها فأعتقها". وأخرجه موصولًا من طرق عنه عبد الرزاق في "المصنف" (9/ 438/ رقم 17929، 17930، 17931)، وصح نحوه في المرفوع. أخرج مسلم في "صحيحه" (كتاب الأيمان، باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده، 3/ 1278/ رقم 1657)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الأدب، باب حق المملوك، رقم 5168)، وأحمد في "المسند" (2/ 25، 45، 61)، وأبو يعلى في "المسند" (10/ 158 - 159/ رقم 5782)؛ عن زاذان أبي عمر؛ قال: أتيتُ ابن عمر وقد أعتق مملوكًا، قال: فأخذ من الأرض عودًا أو شيئًا، فقال: ما فيه من الأجر ما يَسْوَى هذا؛ إلا أني سمعتُ رسول اللَّه-صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "مَنْ لطم مملوكه أو ضربه؛ فكفارته أن يعتقه". وأخرجه ابن عدي (2/ 786)، والحاكم (4/ 268) عن ابن عمر رفعه: "من مثّل بعبده فهو حر"، وإسناده ضعيف جدًا، فيه حمزة النصيبي متروك، متهم بالوضع. قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (4/ 206): "قال العلماء: في هذا الحديث =

وأصحابه كعمر بن الخطاب (¬1) وغيره. فهذا الحديث موافق لهذه الأصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل؛ فإذا طاوعتهُ الجاريةُ فقد أفسدها على سيدتها (¬2) فإنها مع المطاوعة تنقصُ قيمتُها إذ تصير زانية، ولا تُمكَّن سيدتُها من استخدامها حق الخدمة، لغيرتها (¬3) منها وطمعِها في السيد، واستشراف السيد إليها، وتتشامخ على سيدتِها فلا تطيعها كما كانت تطيعها قبل ذلك، والجاني إذا تصرّف في المال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبة بالمثل، فقضى الشَّارعُ لسيدتها بالمثل، وملّكه الجارية؛ إذ لا يُجمع لها بين العِوَض والمعوَّض، وأيضًا فلو رضيت سيدتها أن تبقى الجارية على ملكها وتغرمه ما نقص من قيمتها كان لها ذلك، فإذا لم ترض وعَلِمت أن الأمةَ قد فَسَدت عليها ولم تنتفع بخدمتها كما كانت قبل ذلك من أحسن (¬4) القضاء أن يُغرَّم السيدُ مثلها ويملكها. فإن قيل: فاطردوا هذا القياس وقولوا: إن الأجنبيَّ إذا زنى بجارية قوم حتى أفسدها عليهم أن [لهم القيمة أو] (¬5) يطالبوه ببدلها. قيل: نعم هذا مُوجب القياس إن لم يكن بين الصورتين فَرْق مؤثرٌ، وإن كان بينهما فرق انقطع الإلحاق؛ فإن الإفساد الذي في وَطء الزوج بجارية امرأته بالنسبة إليها أعظم من الإفساد الذي في وطء الأجنبي (¬6)، وبالجملة فجواب هذا السؤال جواب مركب؛ إذ لا نص فيه ولا إجماع. ¬

_ = الرفق بالمماليك، وحسن صحبتهم وكف الأذى عنهم"، وقال: وأجمع المسلمون على أن عتقه بهذا ليس واجبًا، وإنما هو مندوب رجاء كفارة ذنبه؛ فبه إزالة إثم ظلمه". قلت: في نقله الإجماع نظر، وفي كلام العلماء ما يشوش على هذا الإجماع انظر: "الإشراف" (3/ 121)، "تقرير القواعد" (1/ 189) وتعليقي عليهما. (¬1) ما ورد عن عمر في ذلك رواه البيهقي في "سننه الكبرى" (8/ 36) وفيه عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف إلا في رواية الكبار عنه، كما قرر الحافظ في مقدمة "الفتح"، وانظر الهامش السابق. وثبت ذلك عن ابنه عبد اللَّه، أخرجه أبو الجهم العلاء بن موسى الباهلي في "جزئه" (رقم 59)، وإسناده صحيح. (¬2) في (ق): "فقد أفسد عليها جاريتها". (¬3) قال في هامش (ق): "لعله: لنفرتها". (¬4) في (ق): "كان من أحسن". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) ووقع في (ق): "حتى أفسدها عليهم لهم أن يطالبوه". (¬6) انظر: "زاد المعاد" (3/ 208 - 209)، "والحدود والتعزيرات" (137 - 146).

فصل [استكراه السيد لجاريته وعبده]

فصل [استكراه السيد لجاريته وعبده] وأما إذا استكرهها فإن هذا من باب المثلة، فإن الإكراه على الوطء مُثْلة؛ فإن الوطء يجري مجرى الجناية، ولهذا لا يخلو عن عُقر أو عقوبة، ولا يجري مجرى منفعة الخدمة، فهي لما صارت له بإفسادها على سيدتها أوجب عليه مثلها كما في المطاوعة، وأعتقها عليه لكونه مَثَّل بها. قال شيخنا (¬1): ولو اسْتَكره عبده على الفاحشة عَتق عليه، ولو استكره أمة الغير على الفاحشة عتقت عليه، وضمنها بمثلها، إلا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها، فإن كان بينهما فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية. وأما قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ [إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ] (¬2) غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] فهذا نهي عن إكراههن على كسب المال بالبغاء، كما قيل: إن عبد اللَّه بن أُبيّ رأس المنافقين كان له إماءٌ يُكرههن على البِغَاء (¬3)، وليس هذا استكراهًا للأمة (¬4) على أن يزني بها هو، فإن هذا بمنزلةِ التَمثيل بها، وذاك إلزامٌ لها لأن (¬5) تذهبَ هي فتزني، مع أنه يمكن أن يُقال: العتقُ بالمثلة لم يكن مشروعًا عند نزول الآية، ثم شُرع بعد ذلك. [ما من نص صحيح إلا وهو موافق للعقل] قال شيخنا (¬6): والكلام على هذا الحديث من أدقِّ الأمور، فإن كان ثابتًا فهذا الذي ظهر في (¬7) توجيهه، وإن لم يكن ثابتًا فلا يحتاج إلى الكلام عليه. ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (25/ 566 - 567). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬3) روى مسلم في "صحيحه" (3029) في (التفسير) من طريق جابر قال: كان عبد اللَّه بن أُبىّ يقول لجارية له: اذهبي فأبغينا شيئًا فأنزل اللَّه: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} إلى قوله: {غَفُورٌ رَحِيمٌ}. وله رواية أخرى: إن جارية لعبد اللَّه بن أُبّى بن سَلُول يقال لها: مُسَيكَة، وأخرى يقال لها: أميمة فكان يكرههما على الزنى. . . (¬4) في (ن): "للإمام". (¬5) في (ق): "بأن". (¬6) انظر: "مجموع الفتاوى" (20/ 567 - 568). (¬7) في (ن): "من".

قال: وما عرفت حديثًا صحيحًا إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة قال: وقد تدبَّرتُ ما أمكنني من أدلةِ الشَّرعِ فما رأيت (¬1) قياسًا صحيحًا يخالف حديثًا صحيحًا، كما أن المعقول الصحيح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياسًا يُخالف أثرًا فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده [مما] (¬2) يخفى كثيرٌ منه على أفاضل العلماء فضلًا عمن هو دونهم، فإن إدراك الصفةِ المؤثرةِ في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي عُلِّقت بها الأحكام من أشرف العلوم، فمنه الجليُّ (¬3) الذي يعرفه أكثر الناس، ومنه الدقيقُ الذي لا يعرفه إلا خواصُّهم، فلهذا صارت أقْيِسَةُ كثيرٍ من العلماء تجيءُ مخالفةً للنصوص لخفاء القياس الصحيح، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام، [انتهى] (¬4). فإن قيل: فهَبْ (¬5) أنكم خرّجتم ذلك على القياس، فما تصنعون بسقوط الحد عنه وقد وطئ فرجًا لا مِلْك له فيه ولا شُبهة مِلك؟ قيل: الحديث لم يتعرض [للحد] (¬6) بنفي ولا إثبات، وإنما دلّ على الضمان وكيفيته. فإن قيل: فكيف تخرِّجون حديث النعمان بن بشير في ذلك: "إنّها إن (¬7) كانت أحَلّتها له جُلِد مئة جلدة، وإن لم تكن أحلّتها له رُجم بالحجارة" (¬8) على القياس. ¬

_ (¬1) في (ن): "فما وجدت". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في هامش (ك): "صوابه: الجليل". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق) و (ك): "هب". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) في (ق): "إذا". (¬8) الحديث رواه أبو بشر، وقد اختلف عنه: رواه هشيم عنه عن حبيب بن سالم عن النعمان: أخرجه الطيالسي (796)، وأحمد (4/ 277 - 278)، والترمذي (1451) في (الحدود): باب الرجل يقع على جارية امرأته، والنسائي في "الكبرى" (7226) في (الرجم)، والبيهقي (8/ 239). ورواه شعبة عنه عن خالد بن عرفطة عن حبيب بن سالم عن النعمان، فزاد خالد بن عرفطة: أخرجه أحمد (4/ 277)، وأبو داود (4459) في (الحدود): باب في الرجل يزني بجارية امرأته، والنسائي في "الصغرى" (6/ 123 - 124) في (النكاح): باب إحلال الفرج، وفي "الكبرى" (7225)، والبيهقي (8/ 239). ويرويه قتادة وقد اختلف عنه. فرواه أبان عنه عن قتادة عن عرفطة عن حبيب عن النعمان: أخرجه أحمد (4/ 276)، وأبو داود (4458)، والنسائي في "الصغرى" =

[التعزير]

قيل: هو بحمدِ اللَّه موافقٌ للقياس، مطابقٌ لأصول الشريعة وقواعدها؛ فإن إحلالَها له شبهةٌ كافية في سقوط الحد عنه، ولكن لما لم يملكها بالإحلال كان الفرجُ محرَّمًا عليه، وكانت المئة تعزيرًا له وعقوبةً على ارتكاب فرج حرام عليه، وكان إحلالُ الزوجة له وطأها شبه دارئةٍ للحدِّ عنه. [التعزير] فإن قيل: فكيف تُخرِّجون التعزيز بالمئة على القياس. قيل: هذا من أسهل الأمور؛ فإن التعزير لا يقدَّر بقدرٍ [معلوم] (¬1)، بل هو بحسب (¬2) الجريمة في جنسِها وصفتِها وكِبَرِها وصِغَرِهَا (¬3)، وعمرُ بن الخطاب (¬4) قد تنوَّع تعزيرُه في الخمر؛ فتارة بحلْق الرأس، وتارة بالنفي، وتارة بزيادة أربعين ¬

_ = (6/ 124)، وفي "الكبرى" (7228)، والبيهقي (8/ 239). قال قتادة: كتبت إلى حبيب بن سالم فكتب إليَّ بهذا، فوافق رواية شعبة عن خالد، ورواه سعيد بن أبي عروبة عنه عن حبيب بن سالم عن النعمان: أخرجه الترمذي (1452)، والنسائي في "الصغرى" (6/ 124)، وفي "الكبرى" (7227)، وأحمد (4/ 277). وتابع سعيدًا أيوبُ بن مسكين: رواه الترمذي (11452)، ورواه ابن ماجه (2551) في (الحدود)، واختلف في اسم الراوي عن قتادة ففي المطبوع، وكذا المطبوع بتحقيق الأعظمي (2579) سعيد بن أبي عروبة، وفي "تحفة الأشراف" (9/ 16): شعبة، ويظهر أن الصواب: سعيد لأني لم أعثر في هذا الحديث على رواية لشعبة عن قتادة. ورواه همام عنه واختلف عنه: فرواه الحوضي عنه عن قتادة عن حبيب بن يساف عن حبيب بن سالم عن النعمان، أخرجه البيهقي (8/ 239). ورواه هدبة عنه عن قتادة عن حبيب بن سالم عن حبيب بن يساف عن النعمان، أخرجه النسائي في "الكبرى" (7229)، والبيهقي (8/ 239). ووقع في المطبوع من النسائي: حبيب بن سالم بن يساف وهو خطأ، قال الترمذي: حديث النعمان هذا في إسناده اضطراب، سمعت محمدًا يقول: لم يسمع قتادة من حبيب بن سالم هذا الحديث، إنما رواه عن خالد بن عرفطة، ونقل المزي قوله في "السنن الكبرى" بعد روايته (9/ 17): أحاديث النعمان هذه مضطربة. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وفي (د): "يتقدر بقدر معلوم". (¬2) في (ق): "بل هو على حسب الجريمة". (¬3) انظر مقدار التعزير: أقله وأكثره لابن القيم في "الطرق الحكمية" (106 - 109)، (396 - 308)، و"إغاثة اللهفان (1/ 331)، و"تهذيب السنن" (6/ 266)، و"الحدود والتعزيرات" (465 - 483) للشيخ بكر أبو زيد. (¬4) في (ق): "وعمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-"

سوْطًا على الحد الذي ضَرَبَه (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر، وتارة بتحريق حانوت الخَمَّار (¬2)، وكذلك تعزيرُ الغالِّ قد جاءت السنة بتحريق متاعه (¬3)، وتعزيرُ مانع ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ذكره"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "ضربه". (¬2) أما النفي وحلق الرأس وتحريق حانوت الخمار: فهذا مخرج عن عمر بالتفصيل في تعليقي على "الطرق الحكمية"، وللَّه الحمد، وأما الزيادة، فقد ثبت أنه زاد إلى الثمانين، كما في "صحيح البخاري" (6779) في (الحدود): باب الضرب بالجريد والنعال من حديث السائب بن يزيد، وفي "صحيح مسلم" (1706) (36) في (الحدود): باب حد الخمر، من حديث أنس بن مالك، وفيه أيضًا (1707) من حديث علي بن أبي طالب. (¬3) روى أحمد في "مسنده" (1/ 22)، وسعيد بن منصور في "سننه" (2729)، وابن أبي شيبة (10/ 52)، وأبو داود (2713) في (الجهاد): باب عقوبة الغال، والترمذي (1461) في (الحدود): باب ما جاء في الغال، والبزار (123)، وأبو يعلى (204)، وابن عدي (4/ 1377)، والحاكم (2/ 127)، والبيهقي (9/ 102 - 103)، والجورقاني في "الأباطيل" (588)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (959)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4240 - 4243) من طريق صالح بن محمد بن زائدة عن سالم عن أبيه عن عمر مرفوعًا: "من وجدتم في متاعه غلولًا فأحرقوه واضربوه" قال الترمذي: غريب، وقال الجورقاني: منكر، وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 291) عن صالح بن محمد: منكر الحديث يروي عن سالم عن ابن عمر عن عمر رفعه: من غلَّ فأحرقوا متاعه، وقال ابن عباس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الغلول: ولم يحرق، وذكره الدارقطني في "علله" (2/ 52 - 53) وقال: والمحفوظ أن سالمًا أمر بهذا، ولم يرفعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا ذكره عن أبيه ولا عن عمر. أما ابن الجوزي فقد نقل عنه قوله: أنكروا هذا الحديث على صالح، وهو حديث لم يتابع عليه، ولا أصل له من حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما الحاكم فصححه، ووافقه الذهبي. وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدَّه: رواه ابن الجارود (1082)، والحاكم (2/ 130)، والبيهقي (9/ 102) من طريق علي بن بحر عن الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب به أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر حَرَّقوا متاع الغال وضربوه. . . ". ورواه أبو داود (2715) من طريق موسى بن أيوب: حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا زهير به، ثم قال أبو داود: وحدثنا به الوليد بن عتبة وعبد الوهاب بن نجدة قال: حدثنا الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب قوله. فهذا إعلال للحديث بالإرسال، ويظهر هذا من زهير بن محمد فإن رواية أهل الشام عنه مضطربة قال أحمد: كأن زهيرًا الذي يروي عنه الشاميون آخر. أما البيهقي -رحمه اللَّه- فقد قال عن زهير الذي في الرواية المرسلة: ويقال: إن زهيرًا هذا مجهول وليس بالمكي. أقول: هذا لا يستقيم. =

الصَّدقةِ بأخذها وأخذِ شَطْرِ ماله معها (¬1)، وتعزيرُ كاتمِ الضَّالَّةِ الملتقطة بإضعاف الغُرْم عليه (¬2)، وكذلك عقوبة سارق ما لا قَطْع فيه يُضعَّف عليه الغُرْم (¬3)، وكذلك قاتل الذِّميِّ عمدًا أضْعف عليه عمر وعثمان ديته (¬4)، وذهب إليه أحمد وغيره. ¬

_ = ورجح الحافظ في "الفتح" (6/ 187) الرواية المرسلة. والحديث أشار إلى ضعفه البخاري حيث قال -رحمه اللَّه- في (كتاب الجهاد): باب القليل من الغلول، ولم يذكر عبد اللَّه بن عمرو عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه حَرَّق متاعه وهذا أصح. ثم روى بإسناده إلى عبد اللَّه بن عمرو (3074) قال: كان على ثُقل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل يُقال له: كِركرة فمات، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هو في النار" فذهبوا ينظرون إليه فوجدوا عباءةً قد غلها. قال الحافظ ابن حجر في "شرحه": "قوله: "وهذا أصح" إشارة إلى أن حديث الباب الذي لم يذكر فيه التحريق أصح من الرواية التي ذكرها بصيغة التمريض، وهي التي أشرت إليها من نسخة عمرو بن شعيب". واعلم أن الأحاديث الكثيرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لم يكن يصلِّ على من غل، وليس في واحدٍ منها أنه حرَّق متاعه إلا في هذين الحديثين وفيهما مقال كما رأيت. واللَّه أعلم. (¬1) رواه أحمد (5/ 2 و 4)، وأبو داود في (الزكاة) (1575) في زكاة السائمة، والنسائي (5/ 15) في (الزكاة): باب عقوبة مانع الزكاة، و (5/ 25) في باب سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلًا، والدارمي (1/ 396)، وابن الجارود (341)، وابن خزيمة (2266)، والطبراني (19/ 984 - 988) وعبد الرزاق (6824) وابن أبي شيبة (3/ 122) والحاكم (1/ 398)، والبيهقي (4/ 105 و 116) من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. أقول: حديث بهز حسن، كما هو مقرر في علم المصطلح. (¬2) هذا والذي بعده وردا في حديث واحد من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. رواه أبو داود في "سننه" (1710 و 1711 و 1712 و 1713) في (اللقطة)، و (4388) في (الحدود): باب ما لا قطع فيه، والترمذي (1289)، والنسائي (8/ 85) و (85 - 86) في (قطع يد السارق): باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، وأحمد في "مسنده" (10/ 161) رقم (6683) و (11/ 29) رقم (6746) و (11/ 118) رقم (6891) و (11/ 142) رقم (6936) و (12/ 45) رقم (7094) طبعة شاكر، وابن الجارود (827)، وأبو عبيد في "الأموال" (رقم 859)، وابن زنجويه في "الأموال" (2/ 738 و 739)، والدولابي في "الكنى" (2/ 107)، والدارقطني (3/ 194 - 195)، والطبراني في "الأوسط" (530) و (2004) و (2671)، وابن عساكر في "تاريخه" (8/ 473) من طرق كثيرة عن عمرو بن شعيب به، وإسناده جيد. (¬3) سبق تخريجه في الذي قبله. (¬4) أما عن عمر: فقد روى البيهقي (8/ 32) من طريق يحيى بن سعيد أن عمر أُتي برجل من أصحابه قد جرح رجلًا من أهل الذمة، فأراد أن يقيده فقال المسلمون: ما ينبغي هذا =

[الكلام على حديث: "لا يضرب فوق عشرة أسواط"]

فإن قيل: فما تصنعون بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُضربُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدودِ اللَّه" (¬1). [الكلام على حديث: "لا يضرب فوق عشرة أسواط"] قيل: نتلقَّاه بالقبول والسمع والطاعة، ولا منافاة بينه وبين شيءٍ مما ذكرنا (¬2)، فإن الحد في لسانِ الشارع (¬3) أعمّ منه في اصطلاح الفقهاء؛ فإنهم يريدون بالحدود عقوباتِ الجناياتِ المُقدّرة بالشرع خاصة، والحدُّ في لسان الشارع أعمّ من ذلك؛ فإنه يُراد به هذه العقوبة تارةً ويراد به نفس الجناية تارةً، كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] فالأولُ حدودُ الحرام، والثاني: حدودُ الحَلال (¬4)، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه حدَّ حُدودًا فلا تعْتدوها" (¬5) وفي حديث النوَّاس بن سمعان ¬

_ = فقال عمر -رضي اللَّه عنه-: إذًا نضعف عليه العقل فأضعفه. وهذا إسناد منقطع. ورواه من طريق آخر عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل بن أبي حكيم أنه سمع عمر بن عبد العزيز يحدث الناس. . . فقضى عليه عمر بألف دينار مغلظًا عليه، وهذا منقطع أيضًا. ورواه عبد الرزاق (18480)، والبيهقي (8/ 33) من طريق سفيان وابن جريج عن عمرو بن دينار عن رجل قال: كتب عمر في رجل مسلم قتل رجلًا من أهل الكتاب: إن كان لصًا أو حاربًا فأضرب عنقه وإن كان لِطَيرة منه في غضب فأغرمه أربعة ألاف درهم، وهذا إسناد ضعيف للراوي المبهم. وروى نحوه البيهقي (8/ 33) من طريق القاسم بن أبي بزة عن عمر؛ والقاسم هذا لم يدرك عمر. وأما الرواية عن عثمان: فقد روى عبد الرزاق (18492) عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر أن رجلًا قتل رجلًا من أهل الذمة عمدًا فرفع إلى عثمان فلم يقتله به وغلَظ عليه الدية مثل دية المسلم. وهذا إسناد في غاية الصحة كما قال ابن حزم. ووقع في (ق): "أضعف عمر وعثمان عليه ديته". (¬1) رواه البخاري (6848 و 6849 و 6850) في (الحدود): باب كم التعزير والأدب؟ ومسلم (1708) في (الحدود): باب قدر أسواط التعزير، من حديث أبي بردة بن نيار. وعند البخاري (6849) عمن سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) في (ن): "وبين ما ذكرناه". (¬3) في (ن): "في كلام الشارع". (¬4) انظر: "الحدود والتعزيرات" (ص 21 - 26) للشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬5) هو جزء من حديث أبي ثعلبة الخشني: "إن اللَّه فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها" رواه الطبراني في "الكبير" (22) رقم (589)، والدارقطني في "سننه" (4/ 183 - 184)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 17)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 9)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2012)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 12 - 13) =

فصل [المضي في الحج الفاسد لا يخالف القياس]

الذي تقدم في أول الكتاب (¬1): ". . . والسوران حدود اللَّه. . "، ويراد به تارة جنس العقوبة، وإن لم تكن مُقدَّرة، فقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود اللَّه" (¬2) يريد الجناية (¬3) التي هي حَقُّ اللَّه. فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المرادُ بالحدِّ الجنايةَ. قيل: في ضَرْب الرجل امرأتَه وعَبْدَه وولدَه، وأجيره للتأديب ونحوه، فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط؛ فهذا أحْسَن ما خُرِّج عليه الحديث، وباللَّه التوفيق. فصل [المضي في الحج الفاسد لا يخالف القياس] وأما المضي في الحج الفاسد فليس مخالفًا للقياس؛ فإن اللَّه سبحانه أمر بإتمام الحج والعمرة، فعلى مَنْ شرع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعًا بالدخول باتفاق الأئمة، وإن تنازعوا فيما سواه من التطوعات: هل تلزم بالشروع أم لا؟ فقد وَجَب عليه بالإحرام أن يمضيَ فيه إلى حين يتحلَّل، ووجب عليه الإمساك عن الوطء، فإذا وطئ فيه لم يسقط [وطؤه] (¬4) ما وجب عليه من إتمام النُّسك، فيكون ارتكابه ما حرَّمه اللَّه عليه سببًا لإسقاط الواجب عليه (¬5)، ونظير هذا الصائم إذا أفطر عمدًا لم يُسقِط عنه فِطرُه ما وجب عليه من إتمام الإمساك، ولا يُقال له: قد بطل صومُكَ فإن شئت أن تأكل فكُل، بل يجبُ عليه المضيُّ فيه ¬

_ = من طرق عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة. ورجاله ثقات، إلا أن مكحولًا كان كثير الإرسال والتدليس، بل قال أبو مسهر: ما صح عندي سماعه إلا من أنس بن مالك، وقد نفوا سماعه ممن مات بعد أبي ثعلبة. وله علة أخرى وهي الوقف. فقد رواه حفص بن غياث، ويزيد بن هارون عن داود به موقوفًا، أخرجه البيهقي (10/ 12). وقال الدارقطني في "علله" (6/ 324): وقال قحذم سمعت مكحولًا يقول لم يتجاوز به. قال: والأشبه بالصواب مرفوعًا وهو أشهر. أقول: وتبقى العلة الأولى وهي سماع مكحول وتدليسه. وللحديث شواهد، تقدمت. (¬1) مضى تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) في (ق): "يريد به الجناية". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ن): "فيكون ارتكابه ما حرم سببًا لإسقاط ما أوجب" وفي (ق): ". . . تسببًا لإسقاط الواجب عليه".

فصل [العذر بالنسيان]

وقضاؤه، لأن الصائم له حدٌ محدود وهو غروب الشمس (¬1). فإن قيل: فهلا طرَدْتُم ذلك في الصلاة إذا أفسدها، وقلتم: يمضي فيها ثم يعيدها؟ قيل: من ههنا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس (¬2)، والفرق بينهما أن الحج له وقتٌ محدودٌ وهو يوم عرفة كما للصيام (¬3) وقت محدود وهو الغروب، وللحج مكانٌ مخصوص لا يمكن إحلال المُحْرِم قبل وصوله إليه كما لا يمكن فطر الصائم قبل وصوله إلى وقت الفطر (¬4)، فلا يمكنه فعله، ولا فعل الحج ثانيًا في وقته، بخلاف الصلاة فإنه يمكنه فعلها ثانيًا في وقتها؛ وسرُّ الفرق أن وقت الصيام والحج بقدر فعله لا يَسَع غيره، ووقت الصلاة أوْسع منها فيسع غيرها، فيمكنه تدارك فعلها إذا فسدت في أثناء الوقت، ولا يمكن تدارك الصيام والحج إذا فسدا إلا في وقتٍ آخرَ نظير الوقت الذي أفسدهما فيه، واللَّه أعلم (¬5). فصل [العذر بالنسيان] وأما من أكل في صومه ناسيًا فمن قال: "عدم فطره ومضيه في صومه على خلاف القياس" ظن أنه من باب ترك المأمور ناسيًا، والقياس أنه يلزمه الإتيان بما تركه، كما لو أحدث ونَسي حتى صلَّى (¬6)، والذين قالوا: "بل [هو] (¬7) على وفْق القياس" حُجَّتُهم أقوى؛ لأن قاعدة الشريعة أَنَّ مَنْ فعل محظورًا ناسيًا فلا إثمَ عليه، كما دل عليه قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (3/ 275 - 276)، و"مدارج السالكين" (1/ 381) ووقع في (ق): "لأن الصيام له حد". (¬2) انظر في تفصيل ذلك: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 568 - 569)، و"المعدول به عن القياس" (114 - 115). (¬3) في (ك): "للصائم". (¬4) في (ن): "قبل وقته" وفي (ق): "كما لا يمكن فطر الصيام". (¬5) انظر هذا الفصل بتمامه وكماله بتصرف يسير جدًا في "مجموع الفتاوى" (20/ 568 - 569). (¬6) نحوه في "البناية شرح الهداية" (3/ 300 - 301)، و"المجموع" (6/ 325). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[طرد هذا القياس في أمور كثيرة]

286] وثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن اللَّه سبحانه استجاب هذا الدعاء، وقال: قد فعلت (¬1)؛ وإذا ثبت أنه غيرُ آثمٍ فلم يفعل في صومه محرَّمًا فلم يبطل صومه، وهذا محض القياس؛ فإن العبادة إنما تبْطلُ بفعل محظور أو ترك مأمور (¬2). وطردُ هذا القياس أن من تكلّم في صلاته ناسيًا لم تبطل (¬3) صلاته. وطرْدُه أيضًا أن من جامع في إحرامه أو صيامه ناسيًا لم يبطُل صِيامُه ولا إحرامه. وكذلك من تطيّب أو لبِس أو غطّى رأسه أو حلق رأسه أو قَلَّم ظفره ناسيًا فلا فِدْية عليه، بخلاف قَتْل الصيد، فإنه من باب ضمان المُتْلفات فهو كدِية القتِيل، وأما اللباس والطيب فمن باب الترفُّه، وكذلك الحلق والتقليم ليس من باب الإتلاف فإنه لا قيمةَ له في الشرع ولا في العُرف، وطرد هذا القياس أن من فعل المحلوف عليه ناسيًا لم يَحْنَث، سواء حلف باللَّه أو بالطلاق أو بالعتاق (¬4) أو غير ذلك؛ لأن القاعدة أن مَنْ فعل المنهيّ عنه ناسيًا لم يُعَدَّ عاصيًا، والحنثُ في الأيمان كالمعصية في الأيمان، فلا يعدُّ حانثًا مَنْ فعل المحلوف عليه ناسيًا. [طرد هذا القياس في أمور كثيرة] وطرد هذا أيضًا أن من باشر النَّجاسة في الصلاة ناسيًا لم تبطل صلاته، بخلاف من ترك شيئًا من فروض الصلاة ناسيًا أو تَركَ الغُسل من الجنابة أو الوضوء أو الزكاة أو شيئًا من فروض الحج ناسيًا فإنه يلزمه الإتيان به؛ لأنه لم يُؤَدِّ ما أُمر به، فهو في عهدة الأمر؛ وسِرُّ الفرق أن من فعل المحظور ناسيًا يُجعل وجوده كعدمه، ونسيان ترك المأمور لا يكون عذرًا في سقوطه، كما كان فعل ¬

_ (¬1) قطعة من حديث طويل: أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الإيمان): باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق (1/ 116/ رقم 126)، والترمذي في "الجامع" (أبواب تفسير القرآن): باب ومن سورة البقرة (5/ 221 - 222/ رقم 2992)، والنسائي في "الكبرى" (كتاب التفسير) (1/ 293 - 294/ رقم 79)، وأحمد في "المسند" (1/ 233)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 286)، وابن جرير في "التفسير" (3/ 95)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (210 - 211)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص 67 - 68)، وابن حبان في "الصحيح" (11/ 458/ رقم 5069)، من حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 569 - 570) -والمذكور منه-، و"المعدول به عن القياس وموقف ابن تيمية منه" (112 - 113). (¬3) في (ن): "لم تفسد". (¬4) في (ق): "العتاق".

المحظور نسيانًا (¬1) عذرًا في سقوط الإثم عن فاعله. فإن قيل: فهذا الفرق حجة عليكم؛ لأن ترك المفطرات في الصوم من باب المأمورات، ولهذا تُشترط (¬2) فيه النية، ولو كان فِعْلُ المُفطرات (¬3) من باب المحظور لم يحتج إلى نية كفعل سائر المحظورات (¬4). قيل: لا ريبَ أن النية في الصوم شرطٌ، ولولاها لما كان عبادة، [ولا أُثيب عليه؛ لأن الثواب لا يكون] (¬5) إلا بالنية؛ فكانت النيةُ شرطًا في كون هذا الترك عبادة، ولا يختص ذلك بالصوم، بل كل تركٍ لا يكون عبادة يُثاب عليه (¬6) إلا بالنية، ومع ذلك فلو فعله ناسيًا لم يأثم به، فإذا نوى تركها لته ثم فعلها ناسيًا لم يقْدَحْ نسيانه في أجره، بل يثاب على قصد تركها للَّه، ولا يأثم بفعلها ناسيًا، وكذلك الصوم. وأيضًا فإن فعل الناسي غير مضاف إليه، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أكلَ أو شَربَ ناسيًا فليتمَّ صوْمه؛ فإنما أطعمه اللَّه وسقاه" (¬7) فأضاف فعله ناسيًا إلى اللَّه لكونه لم يُردْه ولم يتعمده، وما يكون مضافًا إلى اللَّه تعالى لم يدخل تحت قدرة العبد فلم (¬8) يكلَّف به، فإنه إنما يُكلَّف بفعله، ولا بما يَفْعل فيه، ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير (¬9)، وكذلك لو احتلم الصائم في منامه أو ذَرَعَه القيءُ (¬10) في اليقظة لم يفطر، ولو استدعى ذلك أفطر (¬11) به؛ فلو كان ما يُوجد بغير قصده كما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا. ¬

_ (¬1) في (د) و (ك): "ناسيًا". (¬2) في (ق): "يشترط". (¬3) في (ق): "المفطر". (¬4) في (ن): "كفعل من يرى المحظورات"، وفي (ق) و (ك): "كترك سائر المحظورات". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "يثاب عليه". (¬6) في المطبوع و (ن): "ولا يثاب عليه". (¬7) رواه البخاري (1933) في (الصوم): باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، و (6669) (في الأيمان والنذور): باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1155) في (الصوم): باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، من حديث أبي هريرة. (¬8) في (ق): "ولم". (¬9) انظر: "زاد المعاد" (1/ 162)، و"تهذيب السنن" (3/ 237 - 239) مهم، و (3/ 276 - 277). (¬10) "ذرعه القيء: غلبه، والمراد: أنه وقع من غير اختيار له فيه، ولهذا قابله بقوله: "ولو استدعاه، أي: طلبه" (د). قلت: وبنحوه في (ط). (¬11) لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من ذرعه القيء، فليس عليه قضاء، ومن استقاء، فليقض". =

[هل هناك فرق بين الناسي والمخطئ]

[هل هناك فرق بين الناسي والمخطئ] فإن قيل: فأنتم تُفطِّرون المخطئ كمن أكل يظنه ليلًا فبَانَ نَهَارًا (¬1). قيل: هذا فيه نزاعٌ معروف بين السَّلف والخلف، والذين فرَّقوا بينهما قالوا: فعل المُخطئ يمكن الاحتراز منه، بخلاف الناسي. ونُقل عن بعض السلف أنه يفطر في مسألة الغروب دون مسألة الطلوع كما لو استمر الشك. قال شيخنا (¬2): وحجةُ مَنْ قال لا يُفطر في الجميع أقوى، ودلالة الكتاب والسنة على قولهم أظهر؛ فإن اللَّه سبحانه سوَّى بين الخطأ والنسيان في عدم المؤاخذة. ولأن فِعلَ محظوراتِ الحجِّ يستوي فيه المخطئ والناسي، ولأن كلَّ واحد منهما غيرُ قاصدٍ للمخالفة، وقد ثبت في الصحيح أنهم أفْطرُوا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم طلعت الشَّمْسُ (¬3)، ولم يثبت في الحديث أنهم أُمِرُوا بالقضاء، ولكن هشام بن عُروة سُئِل عن ذلك فقال: لا (¬4) بدَّ من قضاء، وأبوه عروة أعلم منه، وكان يقول: لا قضاء عليهم (¬5)، وثبت في "الصحيحين" أن بعض الصحابة أكلوا حتى ظهر الخيطُ الأسودُ من [الخيط] (¬6) الأبيض (¬7) ولم يُؤمر أحدٌ (¬8) منهم بقضاء وكانوا مخطئين، وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر ثم تبين النهار فقال: ¬

_ = رواه أحمد (2/ 498)، وأبو داود (2380)، والترمذي (1/ 139) وغيرهم، وصححه شيخنا الألباني في "الإرواء" (923). (¬1) بعدها في المطبوع زيادة كلمة "أفطر". (¬2) انظر هذا الفصل من بدايته إلى آخر قول شيخ الإسلام هذا في "مجموع الفتاوى" (20/ 569 - 573). (¬3) رواه البخاري (1959) في (الصوم): باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس، من حديث أسماء. (¬4) في (ق): "و". (¬5) هكذا قال -رحمه اللَّه- والذي وجدته عن عروة في "مصنف عبد الرزاق" (7390) عن معمر عن هشام عنه: "عليه القضاء". وانظر: "فتاوى ابن تيمية" (25/ 232)، و"بدائع الفوائد" (3/ 272)، و"تهذيب السنن" (3/ 236 - 239) مهم جدًا. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة (ك) و (ط) و (ق)، وفي الأخيرتين قبلهما: "الحبل" بدل "الخيط". (¬7) سبق تخريجه. (¬8) في المطبوع: "ولم يأمر أحدًا".

لا نقضي؛ لأنا لم نتجانفْ لإثم، وروي عنه أنه قال: نقضي (¬1)، وإسناد الأول أثْبتُ، وصحَّ عنه أنه قال: الخطْبُ يسيرٌ (¬2)؛ فتأوَّل ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء، واللفظ لا يدل على ذلك. قال شيخنا (¬3): وبالجملة فهذا القول أقوى أثرًا ونظرًا، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس. قلت له: فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مر على رجل يحتجم فقال: "أفطرَ الحاجمُ والمحجوم" (¬4) ولم يكونا عالمين بأن الحجامة تُفَطّر، ولم يبلغهما قبل ذلك قوله: ¬

_ (¬1) الذي وجدته في عدم القضاء عن عمر: ما رواه عبد الرزاق (7395) (4/ 179)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 217) من طرق عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: "أفطر الناس في زمان عمر. . . ثم طلعت الشمس من سحاب. . فقالوا نقضي هذا اليوم فقال عمر: ولم؟ فواللَّه ما تجنفنا لإثم. ورواه شيبان عن الأعمش عن المسيب بن رافع عن زيد بن وهب، روى ذلك البيهقي. أقول: لكن الروايات الصحيحة عن عمر هي وجوب القضاء. وهي في "مصنف عبد الرزاق" (7392 و 7393 و 7394)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 440)، و"السنن الكبرى" (4/ 217). لذلك نقل البيهقي عن يعقوب بن سفيان الفارسي أنه كان يحمل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات المتقدمة ويعدها مما خولف فيه. (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 303)، ومن طريقه البيهقى في "السنن الكبرى" (4/ 217) عن زيد بن أسلم عن أخيه خالد بن أسلم أن عمر. . . فقال: الخطب يسير وقد اجتهدنا، وخالد بن أسلم لم يدرك عمر. ورواه ابن أبي شيبة (2/ 441) من طريق سفيان بن عيينة لكن قال: عن زيد بن أسلم عن أخيه عن أبيه به. فصح الإسناد واتصل بذكر أسلم العدوي مولى عمر وهو ثقة مخضرم. قال مالك في تفسير (الخطب يسير): القضاء فيما نرى واللَّه أعلم وخفة مؤونته ويساره، يقول: أصوم يومًا مكانه. ورواه عبد الرزاق (7392) عن ابن جريج قال حدثني زيد بن أسلم عن أبيه. . . لكن فيه: فقال عمر: الخطب يسير وقد اجتهدنا نقضي يومًا! وانظر مفصلًا: "مصنف عبد الرزاق" (4/ 178 - 179)، و"سنن البيهقي" (4/ 217)، و"فتح الباري" (4/ 200). (¬3) المصدر السابق. (¬4) رواه أحمد (4/ 122، 123، 124، 125)، وعبد الرزاق (7519 و 7520)، وابن أبي شيبة (3/ 49)، وأبو داود في الصوم (2368) و (2369) باب في الصائم يحتجم، وابن =

فصل [الحكم في امرأة المفقود على وفق القياس]

"أَفطرَ الحاجمُ والمحجوم" ولعل الحكم إنما شرع ذلك اليوم. فأجابني بما مضمونه [أن الحديث] (¬1) اقتضى أنَّ ذلك الفعل مُفَطِّر، وهذا كما لو رأى إنسانًا يأكل أو يشرب فقال: أفطر الآكل والشارب؛ فهذا فيه بيانُ السبب المقتضي للفطر، ولا تعرُّضَ فيه للمانع. وقد علم أن النسيان مانع للفطر بدليل خارجٍ، فكذلك الخطأ والجهل، واللَّه أعلم. فصل (¬2) [الحكم في امرأة المفقود على وفق القياس] ومما ظُن (¬3) أَنه على خلاف القياس ما حكم به الخلفاء الراشدون في امرأة المفقود؛ فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه أجّل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج، فقدم المفقود بعد ذلك فخيَّره عمر بين امرأته وبين مهرها (¬4)؛ ¬

_ = ماجه (1681) في (الصوم): باب ما جاء في الحجامة للصائم، والدارمي (2/ 14)، والطيالسي (1118)، والطبراني في "الكبير" (7124 و 7127 و 7128 و 7129 و 7130 و 7131 و 7132 و 7147 و 7149 و 7150 و 7153 و 7154 و 7184 و 7188)، والبيهقي (4/ 265)، والحاكم (1/ 429)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 99) من حديث شداد بن أوس، وكذا جاء من حديث ثوبان، يرويه عنهما أبو أسماء الرحبي قال البخاري -كما نقله عنه الترمذي في "علله الكبير" (1/ 362 - 364) -: ليس في الباب أصح من حديث ثوبان وشداد بن أوس، فذكرت له الاضطراب، فقال: كلاهما عندي صحيح. وكذا ذكر الترمذي عن ابن المديني كذلك. وانظر مفصلًا "نصب الراية" (4/ 472)، و"إرواء الغليل" (4/ 65). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) هذا الفصل مأخوذ برُمَّته بتصرف يسير جدًا، وبدون ذكر مسألة أبي داود الآتية من "مجموع الفتاوى" (20/ 576 - 582) لشيخ الإسلام -رحمه اللَّه-. (¬3) في (ق): "وما يظن". (¬4) روى ذلك عبد الرزاق في "مصنفه" (12317) عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب عن عمر وعثمان، وإسناده صحيح. وله إسناد آخر وفيه قصة في "المصنف" أيضًا (12321)، ورواه أيضًا وفيه قصة عبد الرزاق (12322)، وفيه رجل مبهم، لكنه سُمّي عند البيهقي (7/ 446)، وسعيد بن منصور في "سننه" (رقم 1752)، ورجاله ثقات أيضًا. وفي "موطأ مالك" (2/ 576) قال: وأدركت الناس ينكرون الذي قال بعض الناس على عمر بن الخطاب أنه قال:. . . وانظر -لزامًا-: "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 238)، =

[من تصرف في حق غيره هل تصرفه مردود أو موقوف؟]

فذهب الإمام أحمد إلى ذلك، وقال: ما أدري مَنْ ذهب إلى (¬1) غير ذلك إلى أيِّ شيء يذهب، وقال أبو داود في "مسائله": سمعت أحمد (¬2) -وقيل له: في نفسك شيءٌ من المفقود؟ - فقال: ما في نفسي منه شيء، هذا خمسة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمروها أن تتربّص (¬3)، قال أحمد: [هذا] من ضيقِ علمِ الرجل أن لا يتكلم في امرأة المفقود (¬4). وقد قال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد: إن مذهب عمر في المفقود يخالف القياس (¬5)، والقياس أنها زوجة القادم بكل حال، إلا أن نقول: الفُرْقة تنفذ ظاهرًا وباطنًا؛ فتكون زوجة الثاني بكل حال، وغلا بعض المخالفين لعمر في ذلك فقالوا: لو حَكم حاكمٌ بقول عمر في ذلك لنُقضَ حكمُه لبعده عن القياس. وطائفة ثالثة اْخذت ببعض قول عمر، وتركوا بعضه، فقالوا: إذا تزوجت ودخل بها الثاني فهي زوجته، ولا تُردُّ إلى الأول، وإن لم يدخل بها رُدَّت إلى الأول. [مَنْ تَصَرَّف في حق غيره هل تصرفه مردود أو موقوف؟] قال شيخنا (¬6): من خالف عمر لم يهتدِ إلى ما اهتدى إليه عمر، ولم يكن له من الخبرة بالقياسِ الصحيحِ مثل خبرة عمر، وهذا إنما يتبين بأصْلٍ، وهو وقْفُ العقود إذا تَصَرَّفَ الرجل في حق الغير بغير إذنه، هل يقع تصرفه مردودًا أو موقوفًا على إجازته؟ على قولين [مشهورين] (¬7) هما روايتان عن أحمد: إحداهما أنها تقف ¬

_ = و"شرح السنة" (9/ 314)، و"سنن البيهقي" (7/ 446)، و"نصب الراية" (3/ 472)، و"التلخيص الحبير" (3/ 266)، و"قواعد ابن رجب" (1/ 524 و 3/ 126 - بتحقيقي)، و"الإرواء" (7/ 150). (¬1) في (ك) و (ق): "وإلى". (¬2) في (ك) و (ق): "أبا عبد اللَّه". (¬3) "تتربص: تنتظر" (د). (¬4) انظر: "مسائل أبي داود" (ص 177)، وما بين المعقوفتين منها، وفي بعض نسخها: "هذا عندي". (¬5) حكاه ابن قدامة في "المغني" (7/ 490)، وكذا المرغيناني في "الهداية" (2/ 181)، ووضحه العيني في شرحه "البناية" (6/ 66)، وكذا الشيرازي في "المهذب" (2/ 147). (¬6) في "مجموع الفتاوى" (20/ 576 - 577)، وانظر: "تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 844 - 847). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) وفي (ق): "قولين مشهورين وهما".

على الإجازة، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1) ومالك (¬2)، والثانية: أنها لا تقف، وهو أشهر قَوْلي الشافعي (¬3)، وهذا في النكاح والبيع والإجارة، وظاهر مذهب أحمد التفصيل (¬4)، وهو أن المتصرف إذا كان معذورًا لعدم تمكنه من الاستئذان وكان به حاجة إلى التصرف وقف العقد على الإجازة (¬5) بلا نزاعٍ عنده، وإن أمكنه الاستئذانُ أو لم تكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع؛ فالأول مثلُ منْ عنده أموالٌ لا يعرف أصحابها كالغُصُوب والعَوَاري ونحوها فإذا تعذّر عليه معرفة أصحاب الأموال (¬6) ويئس منهم فإن مذهب أبي حنيفة (¬7) ومالك (¬8) وأحمد (¬9) أنه يتصدّق بها عنهم؛ فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيَّرين بين الإمضاء وبين التضمين. وهذا مما جاءت به السنة في اللُّقطة (¬10)؛ فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم إن جاء صاحبها كان مخيَّرًا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها، فهو تصرف موقوف لمّا تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف، وكذلك ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر الطحاوي" (82 - 83)، "اللباب" (2/ 18)، "البدائع" (5/ 146، 147، 163، 235)، "فتح القدير" (5/ 138، أو 7/ 51 - ط دار الفكر)، "تحفة الفقهاء" (2/ 45)، "حاشية ابن عابدين" (5/ 106 - 107). (¬2) انظر: "المعونة" (2/ 1039)، "التلقين" (2/ 386)، "الإشراف" (2/ 505 مسألة رقم 825 - بتحقيقي) كلها للقاضي عبد الوهاب المالكي، "التفريع" (2/ 318)، "الكافي" (395 - 396) "الفواكه الدواني" (2/ 148)، "الخرشي" (5/ 18)، "حاشية الدسوقي" (3/ 12)، "قوانين الأحكام" (212). (¬3) انظر: "الأم" (3/ 15 - 16)، "الإمتاع" (91 - 92)، "المهذب" (1/ 269)، "المجموع" (9/ 259، 261)، "روضة الطالبين" (3/ 253)، "مغني المحتاج" (2/ 15)، "نهاية المحتاج" (3/ 402 - 403)، "حواشي الشرواني والعبادي" (4/ 246 - 247)، "حلية العلماء" (4/ 74 - 75)، "مختصر الخلافيات" (3/ 340 رقم 107)، "إخلاص الناوي" (2/ 18). (¬4) انظر: "فتاوى ابن تيمية" (20/ 579 - 580). (¬5) في نسخة (ط): "الإجارة"!. (¬6) في المطبوع: "أرباب الأموال". (¬7) "حاشية رد المحتار" (1/ 443). (¬8) "فتاوى ابن رشد" (1/ 632)، "المعيار المعرب" (9/ 551). (¬9) "قواعد ابن رجب" (2/ 383 - بتحقيقي)، "المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" (1/ 244/ 28)، "مسائل صالح" (1/ 288/ 232). (¬10) جاء هذا في حديث زيد بن خالد الجهني، رواه: البخاري (91) في (العلم): باب الغضب في الموعظة والتعليم -وأطرافه كثيرة هناك-، ومسلم (1722) في أول اللقطة. وحديث سويد بن غفلة أيضًا: رواه البخاري (2426 و 2437)، ومسلم (1723).

المُوصي بما زاد على الثلث [وصيّتُه موقوفةٌ] (¬1) على الإجازة عند الأكثرين، وإنما يخيَّرون بعد الموت (¬2)، فالمفقودُ المنقطعُ خبرهُ إن قيل: "إن امرأته تبقى إلى أن يُعلَم خبرُه" بقيت لا أيِّمًا ولا ذات زوج إلى أن تبقى من القواعد أو تموت، والشريعة لا تأتي بمثل هذا، فلما أُجِّلت أربع سنين ولم ينكشف خبرُه (¬3) حُكِم بموته ظاهرًا (¬4). فإن (¬5) قيل: يَسوغُ للإمام أن يفرق بينهما للحاجة، فإنما ذلك بعد اعتقاد موته، وإلا فلو عُلمت حياتُه لم يكن مفقودًا، وهذا كما ساغ التصرُّف في الأموال التي تعذَّر معرفةُ أصحابها، فإذا قدم الرجل تبيَّنَا (¬6) أنه كان حيًا، كما إذا ظهر صاحب المال، والإمام قد تصرف في زوجته بالتفريق؛ فيبقى هذا التفريق موقوفًا على إجازته؛ فإن شاء أجاز ما فعله الإمام وإن شاء ردّه، وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه، ولو أذن للإمام أن يفرِّق بينهما وقعتِ الفرقةُ (¬7) بلا ريب، وحينئذٍ فيكون نكاح الثاني صحيحًا، وإن لم يُجِزْ ما فَعَلَهُ الإمامُ كان التفريق باطلًا فكانت باقيةً على نكاحه فتكون زوجته، فكانَ القادم مخيَّرًا بين إجازةِ (¬8) ما فعله الإمام ورده، وإذا أجاز فقد أخرج (¬9) البُضْع عن ملكه، وخروج البُضع من (¬10) ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في أنصِّ الروايتين، والشافعي يقول: هو مضمونٌ بمهر المثل، والنزاع بينهم فيما إذا شهد شاهدان أنه طلَّق امرأته ثم رجعا عن الشهادة، فقيل: لا شيء عليهما، بناء على أن خروج ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "مرقوف" وسقطت "وصيته" من (ق). (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (1/ 4) للإمام ابن القيم -رحمه اللَّه- ووقع في (ق) و (ك): "وإنما يجيزونه بعد الموت". (¬3) في المطبوع: "ولم يكشف خبره". (¬4) انظر: "المغني" (9/ 133 - 134)، "المبدع" (8/ 130)، "تقرير القواعد" (3/ 176 - بتحقيقي)، وهذا مذهب المالكية: انظر "المدونة" (2/ 91 - 92) "التفريع" (2/ 107 - 108)، (الرسالة، (302)، "الإشراف" (4/ 41 مسألة 1393 - بتحقيقي)، "المعونة" (2/ 820)، "جامع الأمهات" (327) "المنتقى" (4/ 93)، "الخرشي" (4/ 150)، "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 269). (¬5) في هامش (ق): "لعله: فإذا". (¬6) في (ق) و (ك): "ثبت". (¬7) في (ن) و (ق): "فرق، ووقعت الفرقة". (¬8) في نسخة (د): "إجارة". (¬9) في (ق): "خرج". (¬10) في المطبوع و (ن): "عن"، وما أثبتناه من (ق) و"مجموع الفتاوى".

[القول بوقف العقود عند الحاجة]

البُضْع من ملك الزوج ليس بمتقوّم، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وقيل: عليهما مهرُ المثل، وهو قول الشافعي، وهو (¬1) وجهٌ في مذهب أحمد، وقيل: عليهما المُسمَّى، وهو مذهب مالك، وهو أشهرُ في نص أحمد، وقد نصَّ على ذلك فيما إذا أفسد نكاح زوجته (¬2) برضاع أنه يرجع المُسمَّى، والكتاب والسنة يدلان على هذا القول؛ فإن اللَّه تعالى قال: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10، 11] وهذا هو المُسمَّى دون مهر المثل؛ ولذلك (¬3) أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زوجَ المختلعة أن يأخذَ ما أعطاها دون مهر المثل (¬4)، وهو سبحانه إنما يأمر في المُعاوضات المُطْلَقة بالعدل. [القول بوقف العقود عند الحاجة] فحكم أمير المؤمنين في المفقود ينبني على هذا الأصل، والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة، ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة، ولم يُعلم أن أحدًا منهم أنكر ذلك، مثل قضية ابن مسعود في تصَدُّقه عن (¬5) سَيّد الجارية التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في الذِّمة لما تعذَّرت عليه معرفتُه (¬6) ¬

_ (¬1) في (ق): "و". (¬2) في (د): "امرأته". (¬3) في (ق) و (ك): "وكذلك". (¬4) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 564)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (2/ 50 - 51)، وأحمد (6/ 433 - 434)، وأبو داود (2227) في (الطلاق): باب في الخلع، والنسائي (6/ 169) في (الطلاق): باب ما جاء في الخلع، وابن الجارود (749)، والبيهقي (7/ 312 - 313)، وابن حبان (4280) عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن حبيبة. ورواه أيضًا الشافعي (2/ 50)، وابن سعد (8/ 445)، والبيهقي (7/ 313) من طرق عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته عن حبيبه بنت سهل الأنصارية أنها كانت تحت ثابت بن قيس بنحوه، وهذا إسناد صحيح رواته رواة الشيخين عدا صحابية الحديث. ورواه أبو داود (2228) من طريق عبد اللَّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة عن عائشة. وهو إسناد صحيح أيضًا، ولا يضر الاختلاف على صحابية الحديث. (¬5) في (ق): "على" وفي (ك): "تصرفه على". (¬6) كان عبد اللَّه بن مسعود قد اشترى جاريةً، فدخل بيته ليأتي بالثمن، فلم يجد البائع، =

وكتصدق الغالِّ بالمال المغلول من الغَنيمة لما تعذَّر قسمه بين الجيش، وإقرارُ معاوية له على ذلك وتصويبُه له (¬1)، وغير ذلك من القضايا، مع أن القول بوقف العقود [مطلقًا] (¬2) هو الأظهر في الحجة، وهو قول الجمهور، وليس في ذلك ضررٌ أصلًا، بل هو إصلاح بلا إفساد (¬3)؛ فإن الرجل قد يرى أن يشتريَ لغيره أو يبيعَ له أو يؤجِّرَ له أو يستأجِرَ له (¬4) ثم يشاوره، فإن رضي وإلا لم يحصل له ما يضره، وكذلك في تزويج وَليَّته ونحو ذلك، وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه، فمسألة المفقود هي مما يُوقف (¬5) فيها تفريق الإمام على إذن الزوج إذا جاء كما يقف تصرف المُلتَقط على إذن المالك إذا جاء (¬6)، والقول بردَّ المهر [إلى الزوج] (¬7) بخروجِ بُضْع امرأته عن ملكه، ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجعُ به: هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثاني، وفيه روايتان عن أحمد: إحداهما (¬8) يرجع بما مَهرَها الثاني؛ لأنها هي التي أخذته، والصواب أنه إنما يرجع بما مَهَرها هو؛ فإنه الذي يستحقه، وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حقّ له فيه، وإذا ضمن الثاني للأول المهر فهل يرجع به عليها؟ فيه روايتان [عن أحمد] (¬9): إحداهما يرجعُ؛ لأنها هي التي أخذته، والثاني قد أعطاها المهرَ الذي عليه، فلا يضمن مَهْرين، بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فِراقَ الزوج الأول ونكاح الثاني فعليها أن تردَّ المهر؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها، والثانية لا يَرجع؛ لأن المرأة ¬

_ = فجعل يطوف على المساكين، ويتصدق عليهم بالثمن، ويقول: اللهم عن ربّ الجارية، فإن قَبلها فذاك، وإن لم يقبل فهو لي، وعليَّ له مثله يوم القيامة، نقله هكذا شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته: "الحلال والحرام وبعض قواعدهما في المعاملات المالية" (ص 23 - ط مكتب المطبوعات الإسلامية بحلب)، وهي في "مجموع الفتاوى" (29/ 311 - 331)، وقد ذكرتها وتخريجها في كتابي: "أحكام المال الحرام" يسر اللَّه إتمامه ونشره. (¬1) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (2732) عن ابن المبارك عن صفوان بن عمرو عن حوشب بن سيف فذكر قصة طويلة، وحوشب بن سيف هذا ذكره البخاري، وابن أبي حاتم في "كتابيهما" ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في "الثقات" كعادته! (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) في (ق): "بل هو صلاح بلا فساد". (¬4) في (ق): "أو يستأجر له أو يؤجر له". (¬5) في (ق): "يقف". (¬6) في (ق): "جاء هو". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "إليه". (¬8) في (ق): "إحديهما". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[ابن تيمية يقول: الصحابة أفقه الأمة وأعلمها ودليل قوله]

تستحقُّ المهرَ بما استحل من فرجها، والأول يستحق المهر بخروج البُضْعِ عن ملكه، فكان على الثاني، وهذا المأثور عن عمر في مسألة المفقود (¬1)، وهو عند طائفة من الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس (¬2)، حتى قال بعض الأئمة: لو حكم به حاكم نُقض حكمه، وهو مع هذا أصح الأقوال وأحراها في القياس (¬3)، وكل قول قيل سواه فهو خطأ، فمن قال: "إنها تعاد (¬4) إلى الأول بكل حال"، أو "تكون مع الثاني بكل حال" فكلا القولين خطأ؛ إذ كيف تُعاد إلى الأول وهو لا يختارها ولا يريدها، وقد فُرِّق بينه وبينها تفريقًا سائغًا في الشرع، وأجاز هو ذلك التفريق؟ فإنه وإن تبيَّن للإمام أن الأمر بخلاف ما اعتقده فالحق في ذلك للزوج، فإذا أجاز ما فعله الإمام زال المحذور، وأما كونها زوجة الثاني بكل حال مع ظهور زَوْجها وتبين أنَّ الأمر بخلاف ما فعل الإمام فهو خطأ أيضًا؛ فإنه مسلمٌ لم يفارق امرأته، وإنما فُرِّق بينهما بسبب ظَهرَ أنه لم يكن كذلك، وهو يطلب امرأته، فكيف يُحال بينه وبينها؟ وهو لو طلب ماله أو بدله رُدَّ إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله أعز عليه من ماله؟ وإن قيل: "حق الثاني تعلق بها" قيل: حقه سابق على حق الثاني، وقد ظهر انتقاض السبب الذي به استحق الثاني أن تكون زوجةً له، وما المُوجِبُ لمراعاة حق الثاني دون الأول؟ فالصواب ما قضى به أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- (¬5)؛ ولهذا تعجَّب أحمد ممن خالفه، فإذا ظهر صحة ما قاله الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وصوابه في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي فلأن يكون الصواب [معهم] (¬6) فيما وافقهم هؤلاء بطريق الأولى. [ابن تيمية يقول: الصحابة أفقه الأمة وأعلمها ودليل قوله] قال شيخنا (¬7): وقد تأمَّلتُ من هذا الباب ما شاء اللَّه فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها، واعْتبر هذا بمسائلِ الأيمان والنذور والعتق وغير ذلك، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط؛ فالمنقول فيها عن الصحابة هو أصحُّ الأقوال، وعليه يدل ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) كما تراه في "البناية" (6/ 66) للعيني، و"المغني" (7/ 490)، و"المهذب" (2/ 147). (¬3) في (ن): "وأطردها في القياس". (¬4) في (ن): "إنها لا تعاد"!. (¬5) سبق قريبًا. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في "مجموع الفتاوى" (20/ 582 - 583).

فصل [مسألة الزبية]

الكتاب والسنة والقياس الجلي، وكل قول سوى ذلك فمخالف للنصوص مناقض للقياس، وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن المُلَاعِنَة ومسألة ميراث المرتد، وما شاء اللَّه من المسائل، لم أجد أجْود الأقوال إلا أقوال الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمت قولًا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه، لكن العلم بصحيحِ القياسِ وفاسدِه من أجَلِّ العلوم، وإنما يَعرف ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإِسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام، واللَّه أعلم، انتهى. فصل [مسألة الزُّبية] ومما أشكل على كثير من الفقهاء من قضايا الصحابة وجعلوه من أبعد الأشياء عن القياس مسألة التزاحم، وسقوط المتزاحمين في البئر، وتسمى مسألة الزُّبْيَة (¬1). وأصلُها أن قومًا من أهل اليمن حفروا زُبْية للأسد؛ فاجتمع الناس على رأسها، فهوى فيها واحد، فجذب ثانيًا، فجذب الثاني ثالثًا، فجذب الثالث رابعًا، فقتلهم الأسد، فرُفِع ذلك إلى أمير المؤمنين [علي] (2) كرَّم اللَّه وجهه [في الجنة] (¬2) وهو على اليمن، فقضى للأول بربع الدية، وللثاني بثلثها, وللثالث بنصفها, وللرابع بكاملها (¬3)، وقال: أجْعَلُ الدية على من حضر رأس البئر؛ فرفع ذلك إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "هُوَ كما قال". رواه سعيد بن منصور في "سننه": ثنا أبو عَوانة وأبو الأحْوَص، عن سِماك بن حرب، عن حَنَش الصَّنعانيِّ، [عن علي] (¬4). ¬

_ (¬1) انظر كلام المصنف -رحمه اللَّه- على مسألة الزبية، وبيان أنها على وفق القياس في: "زاد المعاد" (3/ 201 - 202). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة (ط). (¬3) في (ق): "بكمالها". (¬4) رواه أبو داود الطيالسي (114)، وابن أبي شيبة (9/ 400) و (10/ 175)، والشافعي في "الأم" (7/ 164)، وأحمد (77/ أو 28 أو 152)، وفي "فضائل الصحابة" (1239، 1240) وابن أبي عاصم في "الديات" (283) والبزار (732 أو رقم 1532 - كشف الأستار)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 95 - 97 و 97)، والطحاوي في "المشكل" =

[حكم علي في القارصة [والقامصة] والواقصة]

فقال أبو الخطاب وغيره: ذهب أحمدُ إلى هذا توقيفًا على خِلاف القياس. والصواب أنه مقتضى القياس والعَدْل، وهذا يتبين بأصل، وهو أن الجناية إذا حصلت من فعلٍ مضمونٍ ومُهْدر سقط ما يقابل المهدر واعتُبر ما يُقابل المضمون، كما لو قتل عبدًا مشتركًا بينه وبين غيره، أو أتلف مالًا مشتركًا أو حيوانًا سقط ما يُقابل حَقَّه ووجب عليه ما يقابل حقَّ شريكه، وكذلك لو اشترك اثنان في إتلاف مالِ أحدِهما أو قَتْلِ عبده أو حيوانه سقط عن المشارك (¬1) ما يقابل فعله، ووجب على الآخر من الضمان بقِسْطه (¬2)، وكذلك لو اشترك هو وأجنبي في قتل نفسه كان على الأجنبي نصفُ الضمان، وكذلك لو رمى ثلاثةً بالمنجنيق فأصاب الحجَرُ أحدَهم فقتله فالصحيح أن ما قابل فعل المقتول ساقط ويجب ثُلثا ديته على عاقلة الآخرين، هذا مذهب الشافعي واختيار صاحب "المغني" (¬3) والقاضي أبي (¬4) يعلى في "المجرَّد". [حكم علي في القارصة [والقامصة] والواقصة] وهو الذي قضى به علي (¬5) في مسألة القارِصة [والقامصة] والواقِصة (¬6)، قال الشعبي: وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فركبت إحداهُنَّ على عُنُق الأخرى فقرَصَت الثالثةُ المركوبةَ فقمصت فسقطت الرَّاكبة فوقصت [أي كسرت] (¬7) عنقها ¬

_ = (3/ 58 - 59 - ط الهندية)، وأبو الخير القزويني في "الأربعين المنتقى في مناقب المرتضى" (ق 104/ ب)، وابن حزم (9/ 368)، والبيهقي (8/ 111) من طريق سماك عن حنش عن علي، قال ابن أبي عاصم: "هذا الخبر حسن ولا أعرف معناه"، وقال البزار: "وهذا الحديث لا نعلمه يُروى إلا عن علي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا نعلم له طريقًا عن علي إلا هذا الطريق". وقلت: وحَنَش هذا ضعفه البخاري والنسائي وأبو حاتم وابن حبان والحاكم وغيرهم، وضعفه به البيهقي وابن حزم، وأورده الذهبي في "الميزان"، (1/ 619) ضمن مناكيره. وما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬1) في (ن) و (ك): "سقط حق المشارك" وفي (ق): "سقط من حق المشاركة". (¬2) في نسخة (ط): "بسقطه". (¬3) انظر: "المغني" (8/ 327 - 328/ 6866). (¬4) في نسخة (ط): "أبو"!. (¬5) في المطبوع: "عليُّ عليه السلام". (¬6) "القارصة: اسم فاعل من قرص بأصابعه، والقامصة: النافرة الضاربة برجليها، والواقصة بمعنى الموقوصة، وهي التي كسر عنقها" (و) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فماتت، فرُفع ذلك إلى عليّ (¬1) فقضى بالدية أثلاثًا على عواقلهنَّ، وألقى (¬2) الثلث الذي قابل فعل الواقصة؛ لأنها أعانت على قتل نفسها (¬3). وإذا ثبت هذا فلو ماتوا بسقوط بعضهم فوق بعض كان الأول قد هلك بسبب مركَّب من أربعة أشياء: سقوطه، وسقوط الثاني، والثالث، والرابع. وسقوط الثلاثة فوقه من فعله وجنايته على نفسه، فسقط ما يقابله وهو ثلاثة أرباع الدية، وبقي الربع الآخر لم يتولَّد من فعله، وإنما تولد من التزاحم فلم يُهدر؛ وأما الثاني فلأن هلَاكه كان من ثلاثة أشياء: جَذْب من قبله له، وجَذْبه هو لثالث ورابع (¬4)؛ فسقط ما يقابل جذبه وهو ثلثا الدية، واعتُبر ما لا صُنع له فيه، وهو الثُلُث الباقي؛ وأما الثالث فحصل تلفه بشيئين: جذب من قبله له، وجذبه هو للرابع، فسقط فعله دون السبب الآخر؛ فكان لورثته النصف، وأما الرابع فليس منه فعل البتة، وإنما هو مجذوب محْض، فكان لورثته كمال الدية، وقضى بها على عواقل الذين حضروا البئر لتدافعهم وتزاحمهم. فإن قيل: على هذا سؤالان: أحدهما: أنكم لم توجبوا على عاقلة الجاذب شيئًا مع أنه مباشر، وأوجبتم على عاقلة مَنْ حضر البئر ولم يُباشر؛ وهذا خلاف القياس. الثاني: [هب أن هذا] (¬5) يتأتَّى لكم فيما إذا ماتوا بسقوط بعضهم على بعض، فكيف يتأتى لكم في مسألة الزُّبية، وإنما ماتوا بقتل الأسد؟ فهو كما لو تجاذبوا فغرقوا في البئر. قيل: هذان سؤالان قويان، وجواب الأول أن الجاذب لم يُباشر الإهلاك وإنما تَسبَّب إليه، والحاضرون تسببوا بالتزاحم، وكان تسبُّبهم أقوى من تسبب الجاذب (¬6)؛ لأنه أُلجيء إلى الجذب؟ فهو كما لو ألقى إنسانٌ إنسانًا على آخر ¬

_ (¬1) في المطبوع: "علي عليه السلام". (¬2) في المطبوع: "وألغى". (¬3) رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" (1/ 96)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 112)، والشافعي في "الأم" (7/ 163) كلاهما عن ابن أبي زائدة عن مجالد بن سعيد عن الشعبي عن علي، ومجالد بن سعيد ليس بالقوي. وانظر: "المغني" (8/ 328/ 6866). (¬4) في (ق) و (ك): "الثالث والرابع". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع، و (ق) و (ك): "أن هذا هب أنه"!. (¬6) في (ق) و (ك): "وكان سببهم أقوى من سبب الجاذب".

فنفضه عنه لئلا يقتلَه فمات، فالقاتل هو المُلقي. وأما السؤال الثاني فجوابه أن المباشر للتَّلف كالأسد والماء والنار، لما لم يمكن الإحالة عليه أُلغي فعله، وصار الحكم للسبب؛ ففي مسألة الزّبية ليس للرابع فعل البتة، وإنما هو مفعولٌ به محض، فله كمال الدية، والثالث فاعل ومفعول به فأُلغي ما يقابل فعله واعتُبر فعل الغير به، فكان قسطه نصف الدية، والثاني كذلك لأنه (¬1) جاذبٌ لواحد والمجذوبُ جاذبٌ لاخر (¬2)؛ فكان الذي حصل عليه من تأثير الغير فيه ثلث السبب وهو جذب الأول له فله ثُلثُ الدية، وأما الأولُ فثلاثة أرباعِ السبب من فعله، وهو سقوط الثلاثة الذين سقطوا بجذبه مباشرةً وتسببًا، وربعه من وقوعه بتزاحم الحاضرين، فكان حظُّهُ ربع الدية، وهذا أولى من تحميل عاقلة القتيل ما يقابل فعله، ويكون لورثته، وهذا هو خلاف القياس؛ لأن الدية شرعت مُواساة وجبْرًا، فإذا كان الرجل هو القاتل لنفسه أو مشاركًا في قتله لم يكن فعله بنفسه مضمونًا كما لو قَطَعَ طَرفَ نفسه أو أتلف مال نفسه؛ فقضاء عليٍّ (¬3) أقرب إلى القياس من هذا بكثير، وهو أولى أيضًا من أن يُحمل فعل المقتول على عَواقل الآخرين كما قاله أبو الخَطَّاب في مسألة المنجنيق أنه يُلْغي فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكاملها على عاقلة الآخرين نصفين، وهذا أبعد عن القياس مما قبله، إذ كيف تتحمل (¬4) العاقلة والأجانب جناية الإنسان على نفسه، ولو تحملتها العاقلةُ لكانت عاقلتهُ أولى بتحمُّلها، وكلا القولين يخالف القياس؛ فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه -. وهو أيضًا أحسنُ (¬5) من تحميلِ ديةِ الرابع لعاقلة الثالث، وتحميلِ دية الثالث لعاقلة الثاني، وتحميلِ دية الثاني لعاقلة الأول، وإهدار دية الأول بالكلية؛ فإن هذا القول وإن كان له حظٌّ من القياس فإن الأول لم يَجْنِ عليه أحد، وهو الجاني على الثاني فديَّته على عاقلته، والثاني على الثالث، والثالث على الرابع، والرابع لم يَجْنِ على أحدٍ فلا شيءَ عليه؛ فهذا قد يُوهم (¬6) أنه في ظاهر القياس أصح من قضاء أمير المؤمنين ولهذا (¬7) ذهب إليه كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد ¬

_ (¬1) في المطبوع: "إلا أنه"!. (¬2) في (ق) و (ك): "جاذب الآخر" وسقطت "لواحد" من (ك). (¬3) في المطبوع: "علي عليه السلام". (¬4) في (ق): "تحمل العاقلة جناية الإنسان". (¬5) في (ق): "وهو أحسن أيضًا". (¬6) في المطبوع: "قد توهم". (¬7) في (ك) و (ق): "ولقد".

فصل [الحكم في بصير يقول أعمى فيخران معا وفق القياس]

وغيرهم، إلا أن ما قضى به عليٌّ أفقه؛ فإن الحاضرين ألجأوا الواقفين بمزاحمتِهم لهم فعواقلُهم أولى يحمل الدية من عواقل الهالكين، وأقرب إلى العدل من أن يُجمع عليهم بين هلاكِ أوليائهم وحمل ديَّاتهم، فتتضاعف عليهم المصيبة، ويُكسروا من حيث ينبغي جَبْرهم، ومحاسن الشريعة تأبى ذلك، وقد جعل اللَّه سبحانه لكل مصاب حظًا من الجبر، وهذا أصلُ شرع حملِ العاقلة الدية جبرًا للمصاب وإعانةً له. وأيضًا فالثاني والثالث كلاهما مجنيٌّ عليهما فهما جانيان على أنفسهما وعلى من جَذَباه، فحصل هلاكهم [كلهم] (¬1) بفعل بعضهم ببعض، فألغَى ما قابل فعل كل واحد بنفسه، واعْتَبر جنايةَ الغير عليه. وهو أيضًا أحسنُ من تحميلِ ديةِ الرابع لعواقل الثلاثة، وديةِ الثالث لعاقلة الثاني والأول، وديةِ الثاني لعاقلة الأول خاصة، وإنما (¬2) كان له أيضًا حظٌّ من قياس [تنزيلًا للسَّبب منزلة المُسيِّب، وقد اشترك في هَلاك الرابع] (¬3) الثلاثةُ الذين قبله، وفي هلاك الثالث الاثنان، وانفرد بهلاك الثاني الأول، ولكن قول عليّ [عليه السلام] (¬4) أدق وأفقه. فصل [الحكم في بصير يقول أعمى فيخرّان معًا وفق القياس] ومما يُظنَّ أنه يخالف (¬5) القياس ما رواه عليّ بن رباح اللَّخْميّ أنّ رجلًا كان يقول أعمى، فوَقَعا في بئرٍ، فخرَّ البَصيرُ، ووقع الأعمى فوقه فقتله، فقضى عمرُ بْنُ الخطاب -صلى اللَّه عليه وسلم- بعقْل (¬6) البصير على الأعمى، فكان الأعمى يدور في الموسم وينشد: يا أيها الناسُ لَقِيت مُنْكرا ... هل يَعْقِلُ الأعمى الصَّحِيحَ المُبْصِرا؟ خرّا معًا كلاهما تكسَّرا (¬7) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬2) في (ق): "وإن". (¬3) في (ق): "تنزيلا لسبب السببب منزلة السبب وقد اشترك في هذا الرابع". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق) و (ك): "بخلاف". (¬6) "العقل: الدية" (و). (¬7) رواه ابن أبي شيبة، ومن طريقة ابن حزم في "المحلى" (10/ 506)، والدارقطني في =

وقد اختلف الناس في هذه المسألة؛ فذهب إلى قضاء عمر هذا عبدُ اللَّه بْنُ الزبير وشُرَيحٌ وإبراهيم النَّخعيُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق (¬1)، وقال بعض الفقهاء: القياس أنه ليس على الأعمى ضمانُ البصير؛ لأنه الذي قَادَه إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سببَ وقوعه عليه، وكذلك (¬2) لو فعله قصدًا منه لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمانُ الأعمى، ولو لم يكن سببًا لم يلزمه ضمانُه بقصده، قال أبو محمد المقدسي في "المغني" (¬3): لو قيل هذا لكان له وجه، إلا أن يكون مُجْمعًا عليه فلا يجوز مخالفة الإجماع. والقياس حكم عمر -رضي اللَّه عنه-، لوجوه: أحدها: أن قوْده له مأذونٌ فيه من جهة الأعمى، وما تولَّد من مأْذونٍ فيه لم يُضمن كنظائره. الثاني: (¬4) قد يكون قوْدُه له مستحبًا أو واجبًا، ومن فعل ما وجب عليه أو نُدِب إليه لم يلزمه ضمان ما تولَّد منه. الثالث: أنه قد اجتمع على ذلك الإذْنان: إذن الشارع وإذن الأعمى، فهو مُحْسن بامتثاله أمر الشارع محسن إلى الأعمى بقوْدِه له، و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وأما الأعمى فإنه سقط على البصير فقتله، فوجب عليه ضمانُه، كما لو سقط إنسان من سطح [على آخر] (¬5) فقتله، فهذا هو القياس. وقولهم: "هو الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه" فهذا لا يوجب الضمان (¬6)؛ لأن قوْده ماذون فيه من جهته ومن جهة الشارع، وقولهم: "وكذلك (2) لو فعله قصدًا لم يضمنه" فصحيحٌ لأنه مسيءٌ وغيرُ مأذونٍ له في ذلك، لا من جهة الأعمى ولا من جهة الشارع، فالقياس المحْض قول عمر، وباللَّه التوفيق. ¬

_ = "سننه" (3/ 98 - 99)، ومن طريقه البيهقي (8/ 112) من طريق عُليّ بن رباح عن عمر. قال ابن حجر في "التخليص" (3/ 37): فيه انقطاع، وقال ابن حزم: الرواية عن عمر لا تصح في أمر الأعمى, لأنه عن علي بن رباح والليث، وكلاهما لم يدرك عمر أصلًا. وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3111). (¬1) انظر: "المغني" (8/ 328 - 329)، أو (7/ 819 مع "الشرح الكبير"). (¬2) في (ق): "ولذلك". (¬3) (8/ 328 - 329/ 6868). (¬4) زاد هنا في (ك) و (ق): "إنه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) كذا في (ق) واحتمل في الهامش "عدم" قبل "الضمان".

فصل [حكم علي في جماعة وقعوا على امرأة وفق القياس]

فصل [حكم عليٍّ في جماعة وقعوا على امرأة وفق القياس] ومما أشكل على جمهور الفقهاء وظنّوه في غاية البعد عن القياس الحكم الذي حكم به عليُّ بنُ أبي طالب [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬1) في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طُهْرٍ واحد، ثم تنازعوا الولد، فأقرع بينهم فيه. ونحن نذكر هذه الحكومة ونبيّن مطابقتها للقياس؛ فذكر أبو داود والنَّسائيُّ من حديث عبد اللَّه بن الخَليل (¬2) عن زيد بن أرقم قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء رجلٌ من أهل اليمن، فقال: إنّ ثلاثة من أهل اليمن أتوْا عليًا يختصمون إليه في ولد قد وَقعوا على امرأة في طُهر واحد، فقال لاثنين: طِيبا بالولد لهذا، ([فقالا: لا] (¬3)، ثم قال لاثنين: طِيبا بالولد لهذا (¬4)، [فقالا: لا] (3)، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، [فقالا: لا]) (3)، فقال: أنتم شُركاء مُتشاكسون، إني مُقرعٌ بينكم، فمن قُرِع فله الولدُ وعليه لصاحبيه ثُلثا الدية، فأقرع بينهم، فجعله لمن قُرع له، فضحِك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بدَت أَضراسُه أو نواجِذُه (¬5). وفي إسناده ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ق): "عبد اللَّه بن أبي الخليل". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فأبيا" وبدل ما بين الهلالين في (ك): "فأبيا" وسقطت العبارة الأخيرة (لاثنين. . . لا) من (ق). (¬4) في (ق): "طيبا لهذا بالولد". (¬5) الحديث فيه اختلاف واضطراب في سنده، بيّن ذلك وفصله ابن أبي حاتم في "علله" (1/ 402) رقم (1204) و (2/ 273) رقم (2137)، والدارقطني في "علله" (3/ 117 - 120)، والبيهقي في "سننه" (10/ 266 - 267)، ورجَّح أبو حاتم والبيهقي رواية الوقف، وكذا النسائي في "سننه" (6/ 184) قال أبو حاتم: اختلفوا في هذا الحديث فاضطربوا، والصحيح حديث سلمة بن كهيل. ونحوه قال البيهقي. وقال أبو حاتم في مكان آخر: وأتقنهم سلمة بن كهيل، والشيباني قوي. أقول: رواية سلمة بن كهيل، رواها أبو داود (2271) في (الطلاق): باب من قال بالقرعة، والنسائي في "سننه" (6/ 184) في (الطلاق): باب القرعة في الولد، والبيهقي في "سننه" (10/ 267) من طريق شعبة عنه عن الشعبي عن أبي الخليل أو ابن الخليل عن علي موقوفًا. ورواية الشيباني وهو سليمان بن أبي سليمان، أبو إسحاق رواها النسائي في "سننه" (6/ 183) من طريقه عن الشعبي عن رجل من حضرموت عن زيد بن أرقم به مرفوعًا، وأخرجه ابن أبي شيبة (7/ 352)، والحميدي (785 أو رقم 803 - ط حسين أسد)، وأحمد (4/ 374)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطلاق، باب القرعة في الولد إذا تنازعوا فيه، 6/ 182 - 183)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطلاق، باب من قال =

يحيى بن عبد اللَّه [الكنديَّ] الأَجْلح (¬1)، ولا يحتج بحديثه. لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير عن زيد بن أرقم، قال: أُتي علي بثلاثة وهو باليمن وَقعوا على امرأةٍ في طهرٍ واحد، فقال لاثنين: أتُقرَّانِ لهذا؟ قالا: لا، حتى سألهم جميعًا، فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا، فأقرَعَ بينهم، فألحق ¬

_ = بالقرعة إذا تنازعوا في الولد، رقم 2269)، والطيالسي في "المسند" (رقم 187)، والقطيعي في "زياداته على فضائل الصحابة" (رقم 1095)، والطبراني (4990) , والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (1/ 45)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 135 - 136)، والبيهقي في "الكبرى" (10/ 267) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 134)؛ عن الأجلح بن عبد اللَّه، عن الشعبي، عن عبد اللَّه بن الخليل، عن زيد بن أرقم؛ قال: "أتى علي باليمن. . . " (وذكره). وفي آخره: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أجد فيها إلا ما قال علي". وتابع الأجلح: محمَّد بن سالم -وهو متروك، قاله البيهقي في "الكبرى" (10/ 267) -، وأبو حاتم الرازي؛ كما في "العلل" لابنه (2/ رقم 2317). وتابعهما: جابر الجعفي، أفاده الدارقطني في "العلل" (3/ 313)، وقال أبو حاتم: "وخالفهما -أي: الأجلح ومحمد بن سالم- جابر الجعفي فيما روى عنه ورقاء؛ فقال: عن الشعبي، عن علي بن زربي، عن زيد بن أرقم، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". قلت: ظفرتُ به عن قيس عن جابر مثل رواية الأجلح؟ فالظاهر أن خلافًا وقع فيه على جابر! والخلاف في هذا الحديث على ضروبٍ وألوانٍ شديدة، ولذا قال أبو حاتم في "العلل" (1/ رقم 1204): "اختلفوا في هذا الحديث واضطربوا"، وقال: "والصحيح حديث سلمة بن كهيل"، وقال في موطن آخر (2/ رقم 3317): "وأتقنهم سلمة بن كهيل". ومضى تخريجه والأثر من طريقه. وانظر سائر الطرق في "علل الدارقطني" و"علل ابن أبي حاتم". ونقل ابن رجب في "تقرير القواعد" (3/ 232 - بتحقيقي) عن أحمد في رواية علي بن سعيد قوله عن هذا الحديث: "لا أعرفه صحيحًا"، وأوهنه"، بينما قال في رواية صالح (2/ 105 - 106/ 662): "مختلف فيه" وكذا سينقله المصنف عنه قريبًا. وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 430 - ط العسكري)، و"المحلى" (10/ 150). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وفي (د) و (ط): "الكندري"!، والمثبت من (و) وهو الصواب، وقال: "قال المنذري: لا يحتج بحديثه. وقال في "الخلاصة": وثقة يحيى بن معين والعجلي، وقال ابن عدي: يعد في الشيعة مستقيم الحديث، وضعفه النسائي. رواه الخمسة إلا الترمذي، ورواه أبو داود والنسائي موقوفًا على علي بإسناد أجود من إسناد المرفوع، وكذلك رواه الحميدي في "مسنده" وقال في: فأغرمه ثلثي قيمة الجارية لصاحبيه". انتهى. وانظر: "ميزان الاعتدال" (4/ 388) للذهبي، ووقع في (ن) يحيى بن عبد اللَّه بن الأجلح، هكذا.

[حكم الفقهاء في الحديث]

الولد بالذي صارت له القرعة، وجعل [لصاحبيه] (¬1) عليه ثُلثي الدِّية (¬2)، فذُكر ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فضحك حتى بدت نواجذُه (¬3). وقد أُعلَّ هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم فيكون مرسلًا، قال النسائي: وهذا أصوب (¬4)، قلت: وهذا ليس بعلة، ولا يوجب إرسالًا في الحديث؛ فإن عبد خير سمع من عليٍّ وهو صاحب القصة، فهب أن زيد بن أرقم لا ذِكْر له في المتن، فمن أين يجيءُ الإرسال؟ [حكم الفقهاء في الحديث] وبعد، فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث، فذهب إلى القول به (¬5) إسحاق بن راهويه، وقال: هو السنة في دعوى الولد. وكان الشافعي يقول به في القديم، وأما الإِمام أحمد فسُئل عنه فرجّح عليه حديث القَافَة (¬6) وقال: حديث القافة أحبُّ إليَّ (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "وجعل ثلثا الدية على الآخرين". وفي (ق): "الدية، قال فذكر". (¬3) أخرجه عبد الرزاق (2348)، والنسائي (6/ 182)، وأبو داود (2270)، وابن ماجه (2348)، والطبراني في "الكبير" (4987)، والبيهقي (10/ 266 - 267) من طريق سفيان الثوري عن صالح الهمداني عن الشعبي عن عبد خير به. قال البيهقي: "هذا الحديث مما يعد في أفراد عبد الرزاق عن الثوري" قال: "والمشهور في هذا الباب. . " وذكر طريق الأجلح. قلت: ويتأيد ذلك، بما أخرجه أحمد (4/ 373) عن عبد الرزاق عن الثوري عن الأجلح به، وكذا رواه أحمد بن الفرات أبو مسعود عن عبد الرزاق، عند الطبراني (4988). (¬4) في (ن) و (ق): "وهذا الصواب" وفي (ك): "وهذا صواب". وقال في "الكبرى" (3/ 380): "هذه الأحاديث كلها مضطربة الأسانيد". (¬5) في (ن): "فذهب إليه". (¬6) رواه البخاري (3555) في (المناقب): باب صفة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (3731) في "فضائل الصحابة): باب مناقب زيد بن حارثة، و (6770 و 6771) في (الفرائض): باب القائف. ومسلم (1459) في (الرضاع): باب العمل بإلحاق القافة بالولد، من حديث عائشة. وقال (ط) -تعريفًا للقافة-: "نسبة الولد إلى أبيه بعلامات تثبت بنوته له" اهـ. (¬7) قال أحمد -في رواية ابن منصور-: وحديث عمر في القافة أعجب إلى، نقله ابن رجب في "تقرير القواعد" (3/ 233) قلت: وكلام أحمد دقيق، فالذي قضى به عمر، إنما وقع له في حادثة كالمنقولة عن علي في الحالة السابقة. أخرج مالك في "الموطأ" (461 - رواية يحيى، ورقم 2889 - رواية أبي مصعب) - =

وههنا أمران: أولهما دخول الولد (¬1) في النسب. والثاني: تغريم من خَرَجت له القرعة ثُلثُي دية ولده لصاحبيه، وكُلٌّ منهما بعيدٌ عن القياس؛ فلذلك قالوا: هذا [من] (¬2) أبعد شيء عن القياس. فيُقال: القرعة قد تستعمل عند فقدان مُرَجِّح سواها من بيّنة أو إقرار أو قافة (¬3)، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذا (¬4) الحال؛ إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى (¬5)، ولهذا دخول في دعوى الأَمْلاك المرسلة التي لا تثبُتُ بمّرينة ولا أمارة (¬6)، فدخولها في النَّسب الذي يثبُتُ بمجرد ¬

_ = وعنه: الشافعي في "المسند" (330)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 263) - عن يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: "أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- كان يليط أولاد الجاهلية بمن ادعاهم في الإِسلام. قال سليمان: فأتى رجلان، كلاهما يدعي ولد امرأة، فدعا عمر قائفًا، فنظر إليهما، فقال القائف: لقد اشتركا فيه، فضربه عمر بالدرة، قال: ما يدريك؟! ثم دعا المرأة؛ فقال: أخبريني خبرك. فقالت: كان هذا لأحد الرجلين يأتيها وهي في الإبل لأهلها؛ فلا يفارقها حتى يظن وتظن أن قد استمر بها حمل، ثم انصرف عنها، فهرقت الدماء، ثم خلف هذا (تعني: الآخر)، ولا أدري من أيهما هو؟ قال: فكبر القائف؛ فقال عمر للغلام: والِ أيهما شئت". وأخرج ابن أبي شيبة في "المصنف"، وعنه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 263)؛ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، عن أبيه: "أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قضى في رجلين ادَّعيا رجلًا لا يدري أيهما أبوه؛ فقال عمر -رضي اللَّه عنه- للرجل: "أَتبع أيهما شئت". قال البيهقي: "هذا إسناد صحيح موصول"، وقال (10/ 264): "ورواية يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن عمر -رضي اللَّه عنه- موصولة، ورواية سليمان بن يسار لها شاهدة، وكلاهما يثبت قول عمر -رضي اللَّه عنه-: "والِ أيَّهما شئت". وللأثر طرق أخرى عند البيهقي وغيره. وانظر بعضًا منها عند عبد الرزاق في "المصنف" (7/ 360 - 361). (¬1) في المطبوع: "دخول القرعة". وفي (ق): "أحدهما دخول الولد". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) "القائف": الذي يتتبع الآثار ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع: القافة" (و). (¬4) في (ق): "هذه". (¬5) في (ن): "من الباب بترجيح الدعوى"، وفي (ق): "من الباب ترجيح الدعوى"، وقال في الهامش: "لعله: المقدور عليه في الباب من ترجيح الدعوى" وفي (ك): "وعليه من أسباب" وفي (ق): "ولها دخول". (¬6) انظر: "زاد المعاد" (4/ 121)، و"البدائع" (3/ 266)، و"الطرق الحكمية" (269، 351) للمصنف، و"قواعد ابن رجب" (3/ 231 - بتحقيقي).

الشَّبه الخفي المستند إلى قولِ القائفِ أوْلى وأحْرى. وأما أمر الدية فمشكلٌ جدًا؛ فإن هذا ليس بقتل يُوجب الدية، وإنما هو تفويتُ نسبه بخروج القُرعة له؛ فيمكن أن يُقال: وطءُ كل واحد صالحٌ لجعْل الولد له، فقد فوّته كل واحد [منهم] (¬1) على صاحبه بوطئه، ولكن لم يتحقق مَنْ كان له الولد منهم، فلما أخرجته القرعةُ لأحدهم صار مُفوِّتًا لنسبه على صاحبيه، فأجرى ذلك مجرى إتلاف الولد، ونزل الثلاثةُ منزلة أبٍ واحد، فحَصّةُ المُتْلف منه (¬2)، ثلثُ الدية؛ إذ قد عاد الولد له؛ فيغرَّم لكل [وَاحد] (¬3) من صاحبيه ما يخصُّه، وهو ثلثُ الدية (¬4). ووجه آخر أحسن من هذا: [وهو] (¬5) أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به وَجَب عليه ضمانُ قيمته، وقيمة الولد شرعًا [هي] (1) ديتُه، فلزمه (¬6) لهما ثُلُثا قيمته وهي ثلثا الدية، وصار هذا كمن أتلف عبدًا بينه وبين شريكين له فإنه يجب عليه ثُلُثا القيمة لشريكيه؛ فإتلاف الولدِ [الحُرِّ] (1) عليهما بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم، ونظير هذا تضمين الصحابة (¬7) المغرور بحرية الأمة لما فات رِقُّهم على السيد (¬8) بحريَّتهم، وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء له، وهذا من ألْطف ما يكون من القياس وأدقِّه، ولا يهتدي إليه إلا أفهام الراسخين في العلم؛ وقد ظن طائفةٌ -أيضًا- أن هذا على (¬9) خلاف القياس، وليس كما ظَنُّوا، بل هو محضُ الفقه، فإن الولد تابع للأم في الحرية والرق، ولهذا ولد الحر من أمةِ الغيرِ رقيقٌ، وولدُ العبد من الحرة حُرٌّ. قال الإِمام أحمد: إذا تزوج الحُرُّ بالأمة رقَّ نصفُه، وإذا تزوج العبد بالحرة عَتقَ نصفه؛ فولدُ الأمة المزوجة بهذا المغرور كانوا بصدد أن يكونوا أرقاء لسيدها, ولكنْ لما دخل الزوجُ على حرية المرأة دخل على أن يكونَ أولاده أحرارًا، والولدُ يتبع اعتقاد الواطئ فانعقد أولاده (¬10) أحرارًا، وقد فَوَّتهم على السيد، وليس مراعاة أحدهما بأولى من مراعاة الآخر، ولا تفويت حق أحدهما بأولى من حق صاحبه؛ فَحفِظَ الصحابةُ الحَقَّين وراعوا الجانبين، فحكموا بحرية ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) في (ك) و (ق): "منهم". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) انظر "زاد المعاد" (4/ 120 - 121). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك). (¬6) في (ق): "ولزمه". (¬7) انظر ما مضى (216). (¬8) في (ق): "سيدهم". (¬9) في (د): ". . . طائفة أن هذا أيضًا على". (¬10) في المطبوع و (ق): "ولده".

الأولاد وإن كانت أمّهم رقيقة؛ لأن الزوج إنما دخل على حرية أولاده، ولو توهَّم رقهم لم يدخل على ذلك، ولم يضيّعوا حق السيد بل حكموا على الواطيء بفداء أولاده، وأعطوا العَدْل حقه؛ فأوجبوا فدائهم بمثلهم تقريبًا لا بالقيمة، ثم وفوا العدل بأن مَكَّنوا المغرورَ من الرجوع بما غرمه على من غَرَّه؛ لأن غُرْمه كان بسبب غروره (¬1)، والقياس والعدل يقتضي أن من تسبب إلى إتلاف مال شخص أو تغريمه أنه يضمن ما غرمه، كما يضمن ما أتلفه؛ إذ غايته أنه إتلافٌ بسبب، وإتلاف المُسَبِّب (¬2) كإتلاف المباشر في أصل الضمان. فإن قيل: وبعد ذلك كله فهذا خلاف القياس أيضًا؛ فإن الولد كما هو بعضُ الأم وجزء منها فهو بعض الأب، وبعضيَّتُه للأب أعظم من بعضيته للأم، ولهذا إنما يذكرُ اللَّه سبحانه في كتابه تخليقَه من ماءِ الرجل كقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] , وقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37]، ونظائرها من الآيات التي إن لم تختص بماء الرجل فهي فيه أظهر، وإذا كان جزءًا من الواطئ وجزءًا من الأم فكيف كان مُلكًا لسيِّد الأم دون سيد الأب؟ ويخالف القياس من وجه آخر، وهو أن الماءَ بمنزلة البَذْر، ولو أن رجلًا أخذ بَذْر غيره فزرعه في أرضه كان الزَّرع لصاحب البذر وإن كان عليه أجرةُ الأرض. قيل: لا ريبَ أن الولد منعقدٌ من ماءِ الأب كما هو منعقد من ماء الأم، ولكن إنما تكوّن (¬3) وصار مالًا متقوَّمًا في بَطْن الأم؛ فالأجزاءُ التي صار بها كذلك من الأم أضعافُ أضعاف الجزء الذي من الأب، مع مساواتها له في ذلك الجزء؛ فهو إنما تكوَّن في أحشائها من لحمها ودمها, ولمَّا وَضَعَه الأب لم يكن له قيمة أصلًا، بل كان كما سَمَّاه اللَّه ماءً مهينًا لا قيمة له، ولهذا لو نزا فحلُ رجل على رمكة (¬4) آخر كان الولدُ لمالك الأم باتفاق المسلمين، وهذا بخلاف البذر فإنه مالٌ متقوَّم له قيمة قبل وضعه في الأرض يعاوض عليه بالأثمان، وعسب الفحل لا يعاوض عليه، فقياس أحدهما [على الآخر] (¬5) من أبطل القياس. ¬

_ (¬1) في (ن): "لأن غرته بسبب غروره". (¬2) في المطبوع و (ن): "المتسبب". (¬3) في (ق): "يكون". (¬4) "الرَّمَكَة -محركة-: الفرس والبرذونة تُتخذ للنسل، والجمع: رمك، وجمع الجمع: أرماك" (د)، ونفسه في (ح)، ونحوه في (و)، و (ط). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[لماذا جعل النسب للأب]

[لماذا جعل النسب للأب] فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في النسب، وجعلتموه للأم كما جعلتموه للأب؟ قيل؛ قد اتفق المسلمون على أن النَّسبَ للأب، كما اتفقوا على أنه يتبع الأم في الحُريَّة والرق (¬1)، وهذا هو الذي يقتضي حكم اللَّه (¬2) شرعًا وقدرًا؛ فإنَّ الأبَ هو المولودُ له، والأم وِعاءٌ يكون فيها (¬3)، واللَّه سبحانه جعل الولدَ خليفة أبيه وشَجْنَته (¬4) والقائم مقامه، ووضع الأنساب بين عباده؛ فيُقال: فلانٌ ابن فلان، ولا تتمُّ مصالحُهم وتعارفُهم ومعاملاتُهم إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] فلولا (¬5) ثبوتُ الأنساب من قبل الآباء لما حَصلَ التعارفُ، ولفسد نظام العباد؛ فإن النساءَ محتجباتٌ مستورات عن العيون؛ ولا يمكن في الغالب أن تعرف عين الأم فيشهد على نسب الولد منها، فلو جُعلت (¬6) الأنسابُ للأمَّهات لضاعت وفسدت، وكان ذلك مناقضًا للحكمة والرحمة والمصلحة، ولهذا إنما يُدْعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم. قال البخاريُّ في "صحيحه": (بابُ يُدْعَى الناس بآبائهم يوم القيامة)، ثم ذكر حديث: "لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة عند اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرته، يُقال: هذه غَدْرةُ فلانِ ابنِ فُلان" (¬7). ¬

_ (¬1) انظر أحكام النسب في "تهذيب السنن" (3/ 175، 177، 178 - 183). (¬2) في المطبوع: "الذي تقتضيه حكمة اللَّه". (¬3) في المطبوع و (ن): "وإن تكون فيها". (¬4) "الشجن -محركة- والشجنة -بسكون الجيم والشين مثلثة- يطلق على معان، فيطلق على الحاجة، وعلى الغصن المشتبك، وعلى الشعبة من كل شيء ووقع في بعض النسخ "ونتيجته" (د)، ونحوه في (ط)، و (و)، و (ح) ووقع في (ق) و (ك): "ونسخته". (¬5) في (ق): "ولولا". (¬6) في (ق): "جعل". (¬7) هو بهذا اللفظ مركب من أحاديث: حديث أبي سعيد الخدري: رواه مسلم في (الجهاد) (1738) باب تحريم الغدر. وحديث ابن مسعود: رواه البخاري (3186) في (الجهاد): باب إثم الغادر، ومسلم (1736). وحديث ابن عمر: رواه البخاري (3188) (كتاب بدء الخلق): باب إثم الغادر للبر والفاجر، و (6177 و 6178) (كتاب الأدب): باب ما يُدعى الناس بآبائهم، و (6966) (كتاب الحيل): باب إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت. . .، ومسلم (1735). وحديث أنس: رواه البخاري (3187)، ومسلم (1737).

[من أحكام الولاء]

فكان من تمام الحكمة أن جعل الحرية والرق تبعًا للأم، والنسب تبعًا للأب، والقياس الفاسدُ [إنما] (¬1) يَجمعُ ما فرَّق اللَّه بينه أو يُفرِّق (¬2) بين ما جمع اللَّه بينه. [من أحكام الولاء] فإن قيل: فهلَّا طردتم ذلك في الولاء، بل جعلتموه لموالي الأم (¬3)؟ والولاء لحمُهُ كلُحْمة النَّسب. قيل: لمَّا كان الولاء من آثار الرق وموجباته كان تابعًا له في حكمه، فكان لموالي الأم، ولما كان في شائبةِ النسب وهو لُحْمةٌ كلحمته رجع إلى موالي الأب عند انقطاعه عن موالي الأم، فروعيَ فيه الأمران، ورُتب عليه الأثران. فإن قيل: فهلَّا جعلتم الولد في الدِّين تابعًا لمن له النسب، بل ألحقتموه بأَبيه تارة وبأمه تارة؟. قيل: الطفل لا يستقل بنفسه، بل لا يكون إلا تابعًا لغيره؛ فجعله الشارع تابعًا (¬4) لخير أبويه في الدين تغليبًا لخير الدِّينين، فإنه إذا لم يكن له بد من التبعية لم يجز أن يَتبعَ من هو على دين الشيطان، وتنقطع تبعيته عمن هو على دين الرحمن؛ فهذا مح الذي حكمة اللَّه تعالى (¬5) وشرعه. فإن قيل: فاجعلوه تابعًا لسابيه في الإِسلام وإن كان معه أبواه أو أحدهما، فإن تبعيته لأبويه (¬6) قد انقطعت وصار السابي هو أحقُّ به. قيل: نعم، وهكذا نقول سواء، وهو قول إمام أهل الشام عبدُ الرحمن بن عمرو الأوزاعي (¬7)، ونص عليه أحمد (¬8)، واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬9). [المسبي تابع في الإِسلام لسابيه] وقد أجمع الناس على أنه يُحكم بإسلامه تبعًا لسابيه إذا سُبي وحده، قالوا: ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "دائمًا". (¬2) في (ك): "ويفرق" وفي (ق): "يجمع بين ما فرق اللَّه بينه ويفرق". (¬3) في (ن) و (ك): "لولي الأم". (¬4) في (ق): "تبعًا". (¬5) في (ق) و (ك): "في حكم اللَّه تعالى" وكلمة "تعالى" سقطت من (ق). (¬6) في (ن): "فإن تبعية الأبوين". (¬7) انظر: "فقه الإِمام الأوزاعي" (2/ 426). (¬8) انظر: "المغني" (10/ 473)، و"الجامع" للخلّال (2/ 418 - 419). (¬9) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (34/ 132).

لأن تبعيَّته قد إنقطعت عن أبويه صار تابعًا لسابيه، واختلفوا فيما إذا سُبي مع أحدهما على ثلاثة مذاهب: أحدهما: يُحكم بإسلامه، نَصَّ عليه أحمد (¬1) في إحدى الروايتين، وهي المشهورة من مذهبه، وهو قول الأوزاعي (¬2). والثاني: لا يُحكم بإسلامه؛ لأنه لم ينفرد عن أبويه. الثالث: أنه إنْ سُبي مع الأب تبعه في دينه، وإن سُبيَ مع الأم وحدها فهو مسلم، وهو قول مالك. وقول الأوزاعي وفقهاء [أهل] (¬3) الثغر أصحُّ وأسلم من التناقض؛ فإن السابي قد صار أحق به، وقد انقطعت تبعيته لأبويه، ولم يبق لهما عليه حكم (¬4)، فلا فَرْق بين كونهما في دار الحرب [وبين كونهما] (¬5) أسيرين في أيدي المسلمين، بل انقطاعُ تبعيته لهما في حال أسرهما [وقَهْرهما] (¬6) وإذلالهما واستحقاق قتلهما أولى من [انقطاعها حال قوةِ شوكتهما وخوف معرَّتِهما، فما الذي يُسوغ له الكفر باللَّه والشرك به وأبواه أسيران] (¬7) في أيدي المسلمين ومنعه من ذلك وأبواه في دارِ الحرب؟ وهل هذا إلا تناقضٌ محضٌ؟ وأيضًا فيُقال لهم: إذا سُبيَ الأبوان ثم قُتلا فهل يستمرُ الطفل على كفره عندكم أو تحكمون بإسلامه؟ فمن قولكم أنه يستمر على كفره كما لو ماتا، فيقال: وأي كتاب أو سنةٍ أو قياسٍ صحيح أو معنى معتبر أو فرق مؤثر بين أن يُقتلا في حال الحرب أو بعد الأسر والسبي؟ وهل يكونُ المعنى الذي حُكم بإسلامه لأجله إذا سُبي وحده زائلًا (¬8) بسبائهما ثم قَتْلِهما بعد ذلك؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلين؟ وأيضًا فهل تعتبرون وجود الطفل والأبوين في ملك سَابٍ واحدٍ أو يكون معهما في جُملة العسكر؟ فإن اعتبرتم الأول طُولبتم بالدليل على ذلك، وإن اعتبرتم الثاني فمن المعلوم انقطاع تبعيته ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" (10/ 473)، و"الجامع" للخلّال (2/ 418 - 419). (¬2) انظر: "فقه الإِمام الأوزاعي" (2/ 426). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ن) و (ك): "له عليهما حكم". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "أو" وفي (ق): "أو بين كونهما". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "انقطاعه عنهما والشرك به وأبواه أسيرين". (¬8) في (ق) و (ك): "وهل المعنى. . . زائل".

لهما واستيلائهما عليه، واختصاصه بسابيه، ووجودهما بحيث لا يُمكَّنان منه ومن تربيته وحضانته، واختصاصهما به لا أَثَرَ له، وهو كوجُودِهما في دار الحرب سواء، وأيضًا فإن الطفل لما لم يستقلّ بنفسه لم يكن (¬1) بُدٌّ من جعله تابعًا لغيره، وقد دار الأمر بين أن يُجعل تابعًا لمالكه وسَابيه ومَنْ هو أحقُّ الناس به وبين أَن يُجعل تابعًا لأبويه ولا حَقَّ لهما فيه بوجه، ولا ريبَ أن الأولَ أولى. وأيضًا فإن ولاية الأبوين قد زالت بالكليّة، وقد انقطع الميراث وولاية النكاح وسائر الولايات، فما بالُ ولاية الدِّين الباطل باقية وحدها؟ وقد نص الإِمام أحمد على منع أهل الذمة أن يشتروا رقيقًا من سَبي المسلمين، وكتب بذلك عمر بن الخطاب إلى الأمصار (¬2)، واشْتَهر ولم ينكره مُنْكر فهو إجماع من الصحابة، وإن نازع فيه بعض الأئمة، وما ذاك إلا أنَّ في تمليكه للكافر ونقله عن يدِ المسلمِ قطعٌ (¬3) لما كان بصدده من مشاهدةِ معالم الإِسلام وسماعه القرآن (¬4)، فربما دعاه ذلك إلى اختياره، فلو كان تابعًا لأبويه [على دينهما] (¬5) لم يُمنعا من شِراء، وباللَّه التوفيق. فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو مات الأبوان أن تحكموا بإسلام الطفل لانقطاع تبعيّته للأبوين ولا سيما وهو (¬6) مسلمٌ بأصل الفطرة، وقد زال مُعارِض الإِسلام، وهو تهويدُ الأبوين وتنصيرُهما. قيل: قد نص الإِمام أحمد (¬7) على ذلك في رواية جماعة من أصحابه، واحتج بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويمَجِّسانه" (¬8) فإذا لم يكن له أبوان فهو على أصل الفطرة فيكون مسلمًا. ¬

_ (¬1) في (ق): "ولم يكن". (¬2) أخرج ذلك عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 49 و 10/ 367)، وأوضح منه عند النحل الذي "الجامع" (1/ 176 - 177 ورقم 276 - 280)، وانظر "المغني" (9/ 126)، و"موسوعة فقه عمر بن الخطاب" (ص 135). (¬3) في (ق) و (ك): "مسلم قطعًا". (¬4) في (ق): "للقرآن". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) في (ق): "فهو". (¬7) نقل ذلك عنه -ضمن روايات- أبو يعلى في "الروايتين والوجهين" (2/ 370)، وأفاد ابن حجر في "الفتح" (3/ 348 - 349) أن هذه رواية الميموني عنه، وقال: "وذكره ابن بطة". ونقله ابن حجر عن ابن القيم خلافًا لما قرره هنا!! وانظر: "معالم السنن" (7/ 86 - 88 ط شاكر والفقي)، و"شرح النووي على صحيح مسلم" (16/ 208)، وفي (د): "قد نص على ذلك الإِمام أحمد". (¬8) رواه البخاري في (الجنائز): (1358 و 1359) باب إذا أسلم الصبي، و (1385) باب ما =

فإن قيل: فهلا طردتم (¬1) هذا فيما لو انقطع نسبُه عن الأب مثل كونه ولدَ زنا أو منفيًّا (¬2) بلعان؟ قيل: نعم؛ لوجودِ المُقتضي لإسلامه بالفطرة، وعدم المانع وهو وجود الأبوين، ولكن الراجح في الدليل قول الجمهور، وأنه لا يُحْكم بإسلامه بذلك، وهو الرواية الثانية عنه اختارها شيخ الإِسلام (¬3)، وعلى هذا فالفرق بين هذه المسألة ومسألة المَسْبي أن المسبيَّ قوإنقطعت تبعيته [لمن هو على دينه، وصار تابعًا لسابيه المسلم بخلاف من مات أبواه أو أحدُهما فإنه تابعٌ لأقاربه أَو وصيِّ أبيه؛ فإن انقطعت تبعيَّته] (¬4) لأبويه فلم تنقطع لمن يقوم مقامَهما من أقاربه أو أوصيائه، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر عن تهويدِ الأبوين وتنصيرِهما (¬5)، بناءً على الغالب (¬6)، وهذا لا مفهومَ له لوجهين: أحدهما أنه مفهومُ لقب، والثاني (¬7) أنه خرج مَخْرَج الغالب. ومما يدل على ذلك العملُ المستمرُ من عَهْد الصحابة وإلى اليوم بموت أهل الذِّمة وتركهم الأطفال، ولم يتعرض أحد من الأئمة و [لا] (¬8) ولاةَ الأمور لأطفالهم، ولم يقولوا: هؤلاء مسلمون، ومثل هذا لا يهمِلُه الصحابةُ والتابعون وأئمةُ المسلمين. فإن قيل: فهل تطردون هذا الأصل في جعله تبعًا للمالك، فتقولون: إذا اشترى المسلمُ طفلًا [كافرًا] (¬9) يكون مسلمًا تبعًا له، أو تتناقضون فتفرِّقون بينه وبين السَّابي؟ وصورة المسألة فيها (¬10) إذا زَوَّج الذمي عَبْدَه الكافر من أمته فجاءت بولد أو تزوج الحرُّ منهم أمةً فأولدها ثم باع السيد هذا الولد لمسلم؟ قيل: نعم نطرده ونحكمُ بإسلامه. قاله شيخنا قدَّس اللَّه روحه (¬11)، ولكن جادة المذهب أنه باقٍ على كفره كما لو سُبي مع أبويه وأولى. والصحيح قول ¬

_ = قيل في أولاد المشركين، و (4775) في (التفسير): باب لا تبديل لخلق اللَّه، و (6599) في (القدر): باب اللَّه أعلم بما كانوا عاملين، ومسلم (2658) في (القدر): باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، من حديث أبي هريرة. (¬1) في المطبوع: "فهل تطردون". (¬2) في (ك) و (ق): "منتفيًا". (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" (4/ 246). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) سبق تخريجه قريبًا. (¬6) في (ق): "بناء للغالب". (¬7) في (ق): "الثاني". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬10) في (ق): "فيما". (¬11) انظر: "مجموع الفتاوى" (4/ 246).

فصل [ليس في الشريعة ما يخالف العقل]

شيخِنا؛ لأن تبعيَّته للأبوين قد زالت، وانقطعت الموالاةُ والميراثُ والحضانةُ بين الطفل والأبوين، وصار المالكُ أحقَّ به، وهو تابعٌ له؛ فلا يُفرد عنه بحكم، فكيف يُفرد عنه في دِينه؛ وهذا طرد الحكم (¬1) بإسلامه في مسألة السباء، وباللَّه التوفيق. فصل [ليس في الشريعة ما يخالف العقل] فهذه نبذة يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيءٌ يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يُعلم لهم فيه مخالف، وأن القياسَ الصحيحَ دائرٌ مع أوامرها ونواهيها وجودًا وعدمًا، كما أن المعقولَ الصحيح (¬2) دائرٌ مع أخبارها وجودًا وعدمًا، فلم يخبر اللَّه و [لا] (¬3) رسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل. [شبهات لنفاة القياس وأمثلة لها] ولنفاة الحكم والتعليل والقياس هاهنا سؤالٌ مشهور، وهو أن الشريعة قد فَرَّقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين؛ فإن الشارع فرض الغُسل من المني وأَبطل الصوم بإنزاله عمدًا وهو طاهر، دون البَوْل والمذي وهو نجس, وأَوجبَ غسل الثوب من بول الصبيَّة والنَّضْحِ من بول الصبي مع تساويهما، ونقص الشطر من صلاة المسافر الرباعية وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما، وأوجبَ [قضاءَ] (¬4) الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها، وحرم النَّظر إلى العجوز الشَّوْهاء القبيحةِ المَنْظر إذا كانت حُرَّة وجوزه إلى الأمةِ الشَّابة البارعة الجمال، وقطع سارقَ ثلاثة دراهم دون مُختلسِ ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها، ثم جعل ديتها خمس مئةِ دينار؛ فقطعها في ربع دينار، وجعل ديتها هذا القدر الكثير (¬5)، وأوجبَ حدَّ الفرية على مَنْ قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شرٌّ منه (¬6)، واكتفى بالقتل بشاهدين دون الزنا والقتل أكبر من الزنا، وجلد ¬

_ (¬1) في (ق): "للحكم". (¬2) في (ن): "المعقول الصريح". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) في المطبوع: "الكبير". (¬6) انظر في ذلك كله: "بدائع الفوائد" (3/ 140 - 141)، و"الحدود والتعزيرات" (208 - 210) للشيخ بكر أبو زيد.

قاذفَ الحرِّ الفاسق دون العبد العفيف الصالح، وفرّق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما، وجعل عدة الحرة ثلاث حيض واستبراء الأمة بحيضة والمقصود العلم ببراءة الرحم، وحرم المطلقة بثلاث على الزوج المُطلِّق ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره وحالها في الموضعين واحدة, وأوجب غسل غير الموضع الذي خرجت منه الريح ولم يوجب غسله، ولم يعتبر توبة القاتل وندمه قبل القدرة عليه واعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه، وقبل شهادة العبد والمملوك عليه بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على آحاد الناس أنه قال كذا وكذا، وأوْجب الصدقة في السوائم وأسقطها عن العوامل، وجعل الحرة القبيحة الشّوْهاء تُحصِّن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه، ونَقضَ الوضوءَ بمس الذَّكر دون مس سائر الأعضاء ودون مس العَذْرة والدَّم (¬1)، وأوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر ولم يوجبه بالأرطال الكثيرة من الدم والبول، وقَصرَ عدد المنكوحات على أربع وأطلق ملكَ اليمين من غير حصرٍ، وأباح للرجل أن يتزوج أربعًا ولم يبح للمرأة إلا رجلًا واحدًا مع وجود الشهوة وقوة الداعي (¬2) من الجانبين، وجوَّز للرجل أن يستمتع من أمَتِهِ بالوطء وغيره ولم يجوّز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره، وفرَّق بين الطلقة الثانية والثالثة في تحريمها على المُطلِّق بالثالثة دون الثانية، وفرق بين لحم الإبل ولحم الغَنَم والبقر والجواميس وغيرها فأوْجب الوضوء من لحم الإبل وحده (¬3)، وفرق بين الكلب الأسود والأبيض في قطع الصلاة بمرور الأسود وحده، وفرق بين الريح الخارجة من الدُّبر فأوجب بها الوضوء وبين الجشوة الخارجة من الحلق فلم يوجب بها الوضوء، وأوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها (¬4) عن عدة آلاف من الخيل، وأوجب في الذهب والفضة والتجارة رُبع العُشْرِ وفي الزروع والثمار العشر أو نصفه وفي المعدن الخمس، وأوجب في أول نصاب من الإبل من غير جنسها وفي أول نصاب من البقر والغنم من جنسه، وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية فأذهب العضو الذي تعدّى به على الناس ولم يقطع اللسان الذي يقذف به ¬

_ (¬1) "ستأتي كلمة البول في الرد بدلًا من الدم" (و). (¬2) في (ك) و (ق): "الدواعي". (¬3) انظر تصحيحه في "تهذيب السنن" (1/ 136 - 138) وما مضى. (¬4) في (ن): "وقطعها"!.

المحصنات الغافلات ولا الفرْج الذي يرتكب به المُحرَّم (¬1)، وأوجب على الرقيق نصف حدِّ الحر مع أن حاجته إلى الزّجر عن المحارم كحاجة الحر، وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد أَلحق [بها] (¬2) العار، وجوَّز للمسافر المترفِّه في سفره رخصة القصر والفطر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة في سببه (¬3)، وأوجب على كل مَنْ نَذَر للَّه طاعة الوفاء بها، وجوَّز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر يمينه، وكلاهما قد التزم فعلها للَّه (¬4)، وحرَّم الذئبَ والقردَ وما له ناب من السباع وأباح الضبع [على قول] (¬5) ولها نابٌ تكسر به، وجعل شهادة خزيمة بن ثابت وحده بشهادتين (¬6) وغيره من الصحابة أفضل منه وشهادته بشهادة [شاهد] (¬7)، ورخص لأبي بُرْدة بن ¬

_ (¬1) انظر: كشف الشبه الواردة على العقوبة بالقطع في "بدائع الفوائد" (2/ 211 - 212)، و"الحدود والتعزيرات" (353 - 360) للشيخ بكر أبو زيد. وفي (ق): "الذي يرتكب به المحارم". (¬2) ما أثبته من (ك) وحدها، وفي جميع المصادر "به". (¬3) في هامش (ق): "تسببه". (¬4) في (ق): "التزم فعلًا للَّه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬6) وقع هذا في قصة حصلت: رواها البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 87)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" رقم (2084)، والطبراني في "الكبير" (3730)، والحاكم (2/ 18) من طريق زيد بن الحباب عن محمَّد بن زرارة بن ثابت حدثني عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- اشترى فرسًا وفيه: "من شهد له خزيمة أو شهد عليه. . . فحسبه". ومحمد هذا لم يذكره إلا ابن حبان في "الثقات" (7/ 414). ورواه أحمد (5/ 215 - 216)، وأبو داود (3607) في (الأقضية): باب إذا علم العالم صدق الشاهد الواحد. . .، والنسائي (7/ 301) في (الأقضية) باب التسهيل في ترك الإشهاد على البيع، وابن أبي عاصم (2085)، والذهلي في "الزهريات" -كما في "الفتح" (8/ 518) -، والحاكم (2/ 17) من طرق عن الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه،. . .، وفيه القول في خزيمة. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. قال الحاكم: هذا صحيح الإسناد ورجاله باتفاق الشيخين ثقات ولم يخرجاه. وفي "صحيح البخاري" في (التفسير): (4784) باب: "فمنهم من قضى نحبه. . . " قال زيد بن ثابت: لم أجدها عند أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شهادته شهادة رجلين. ووقع في (ق) و (ك): "بشاهدين". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ق).

نِيار في التضحية بالعناق وقال: لن تجزيء عن أحدٍ بعدك (¬1)، وفرق بين صلاة الليل والنَّهار في السر والجهر ثم شَرَعَ الجهرَ في بعض صلاة النهار كالجمعة والعيدين، وورَّث ابنَ [ابنِ] (¬2) العم وإن بعُدَت درجته دون الخالة التي هي شقيقة الأم، وحَرَّم أخذ مال الغير إلا بطيب نفسه (¬3) وسلَّطه على أخذ عقاره وأرضه بالشُّفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التَّخلصّ من ضرر الشركة بقسمته دون ما لا يمكن قسمته كالجَوْهَرة والحيوان وهو أولى بالشفعة، وحَرَّم صومَ أول يوم من شوال (¬4) وفرض صومَ آخر يوم من رمضان مع تساوي اليومين، وحرم على الإنسان نكاحَ بنت أخته وأخيه وأباح له نكاح بنتَ أخي أبيه وأخت أمه (¬5)، وحَمَّل العاقلة ضمان جناية الخطأ على النفوس دون الجناية على الأموال، وحرم وطء الحائض لأذى الدم وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى، ومنع بيع مُدِّ حنطة بمدٍّ وحفنة وجَوَّز بيع مد حنطة بصاع فأكثر من الشعير؛ فحرم ربا الفَضْل في الجنس الواحد دون الجنسين، ومنع المرأة من الإحدادِ على أبيها وابنها فوق ثلاثة أيام وأوجب [عليها] (¬6) أن تُحِد على الزوج وهو أجنبي أربعة أشهر وعشرًا، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب العيدين)، باب الأكل يوم النحر، (2/ 447 - 448/ رقم 955)، وباب الخطبة بعد العيد، (2/ 453/ رقم 965)، وباب التبكير إلى العيد، (2/ 456/ رقم 968)، وباب كلام الإِمام والناس في خطبة العيد، (2/ 471/ رقم 983)، و (كتاب الأضاحي): باب سنة الأضحية، (3/ 10 رقم 5545)، وباب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأبي بُرده: ضح بالجذع من المعز، ولن تجزئ عن أحد بعدك (10/ 12/ رقم 5556، 5557)، وباب الذبح بعد الصلاة (10/ 19/ رقم 5560)، وباب من ذبح قبل الصلاة أعاد (10/ 20/ رقم 5563)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الأضاحي): باب وقتها (3/ 1552/ رقم 1961)، والترمذي في "الجامع" أبواب الأضاحي، باب ما جاء في الذبح بعد الصلاة (4/ 93/ رقم 1508)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الأضاحي): باب ما يجوز من السنن من الضحايا (3/ 96/ رقم 2800)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الأضاحي): باب ذبح الضحية قبل الإِمام (7/ 222)، عن البراء بن عازب مرفوعًا. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع: "إلا بطيبة من نفسه". (¬4) في تحريم صوم يوم العيد أحاديث: منها حديث أبي هريرة: رواه البخاري (1993) في (الصوم): باب صوم يوم النحر، ومسلم (1138) في (الصيام): باب ما يُنهى عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى. وحديث ابن عمر: رواه البخاري (1994)، و (6705 و 6706)، ومسلم (1139). وحديث عمر وأبي سعيد الخدري وعائشة وكلها ثابتة في "الصحيح". (¬5) أي: بنت أخت أمه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات؟]

وسوّى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصوم والحج وفي العقوبات كالحدود ثم جعلها على النِّصف من الرجل في الدية والشهادة والميراث والعقيقة، وخَصَّ بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض بخصائص مع تساويها؛ فجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وجعل شهرَ رمضان سيد المشهور، ويوم الجمعة سيد الأيام، ويوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنًى أفضل الأيام، وجعل [مكان] (¬1) البيت أفضل بقاع الأرض (¬2). [كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات؟] قالوا: وإذا كانت الشريعةُ قد جاءت بالتفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات -كما جمعت بين الخطأ والعَمْد في ضمان الأموال، و [في] (¬3) قتلِ الصيدِ، وجَمَعت بين العاقلِ والمجنونِ والطفلِ والبالغِ في وجوب الزكاة، وجمعت بين الهرةِ والفأرةِ في طهارة كُلٍّ منهما، وجمعت بين الميتة وذبيحة المجوسي في التحريم، وبين ما مات من الصيد وذَبَحه المحرمُ في ذلك، وبين الماء والتراب في التطهير- بطل القياس، فإن مبناه (¬4) على هذين الحرفين، وهما أصل قياس الطرد وقياس العكس. [الجواب عن هذه الشبه] والجواب أن يقال: الآن حَمِي الوطيسُ، وحميت أنوف أنصار اللَّه ورسوله لنصرِ دينه (¬5) وما بعث به رسوله، وآن لحزب الحق (¬6) أن لا تأخذهم في اللَّه لومةُ لائم وأن لا يتحيزوا (¬7) إلى فئة معينة، وأن ينصروا اللَّه ورسوله بكل قولِ حَقٍّ قاله مَنْ قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قالته طائفتهم وفريقهم كائنًا ما كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا ما كان؛ فهذه طريقة أهل العصبية وحميَّة أهل الجاهلية، ولعمرُ اللَّه!! إن صاحب هذه الطريقة لمضمونٌ له الذمُّ إنْ أخطأ، وغير ممدوح إنْ أصاب، وهذا حالٌ لا يرضى بها من نصحَ نفسه وهُدي لرشده (¬8)، واللَّه الموفق. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬2) انظر في هذه المفاضلات: "زاد المعاد" (1/ 42 وما بعد - ط مؤسسة الرسالة). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) تحرف في المطبوع إلى: "مبدأه". (¬5) في (ق) و (ك): "دين اللَّه". (¬6) في المطبوع: "لحزب اللَّه". (¬7) في (ق): "يتحيز". (¬8) في (ق) و (ك): "رشده".

[الجواب المجمل]

وجواب هذا السؤال من طريقين مجمل ومفصل: [الجواب المجمل] أما المجمل فهو أن ما ذكرتم من الصور وأضعافِها وأضعافِ أضعافها فهو من أبين الأدلة على عظم هذه الشريعة وجلالتها، ومجيئها على وفق العقولِ السليمةِ والفطرِ المستقيمة، حيث فَرَّقت بين أحكام هذه الصور المذكورة لافتراقها (¬1) في الصفات التي اقتضت في الأحكام، ولو ساوت بينها في الأحكام لتوجَّه السؤال، وصعُبَ الانفصال، وقال القائل: قد ساوت بين المختلفات، وقرنت الشيءَ إلى غير شَبَهه (¬2) في الحُكم، وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنًى قام بها أوجب اختصاصها بذلك الحكم، ولا اشتركت صورتان في حكم إلا لاشتراكهما في المعنى المقتضي لذلك الحكم، ولا يضر افتراقُهما في غيره، كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب [الاشتراك في] (¬3) الحكم؛ فالاعتبارُ في الجمع والفرق إنما هو في المعاني (¬4) التي لأجلها شُرعت تلك الأحكام وجودًا وعدمًا. [جواب ابن الخطيب] وقد اختلفت أجوبة الأصوليين عن هذا السؤال بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة؛ فأجاب ابن الخطيب (¬5) عنه بأن قال: غالبُ أحكام الشريعة مُعلَّلة برعاية المصالح المعلومة، والخصم إنما بيَّن خلافَ ذلك في صُور قليلة جدًا، وورُود الصور النَّادرة (¬6) على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن، كما أن الغيْم الرطب إذا لم يمطر نادرًا لا يقدح في نزول المطر منه (¬7). وهذا الجواب لا يُسمنُ ولا يغني من جوع، وهو جواب أبي الحسين (¬8) ¬

_ (¬1) في (ن): "وافتراقها". (¬2) في المطبوع و (ك): "شبيهه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك). (¬4) في (د): "هو بالمعاني". (¬5) في "المحصول" (2/ 2/ 237 - 242 - 291)، وانظر: "نفائس الأصول" (9/ 3995). ومن الجدير بالذكر أن اضطرابًا شديدًا وقع في مذهب الرازي في هذه المسألة، وأخطأ عليه غير واحد، انظر -لزامًا- تعليقي على "الموافقات" (2/ 9 - 11). (¬6) في المطبوع: "الصورة النادرة". (¬7) انظر: "العدة" لأبي يعلى (4/ 1285). (¬8) في (ن): "أبي الحسن".

[جواب أبي بكر الرازي الحنفي]

البصري (¬1) بعينه. وأجاب عنه أبو الحسن الآمدي (¬2) بأن التفريق بين الصُّور المذكورة في الأحكام إما لعدم صلاحية ما وقع جامعًا، أو لمعَارضٍ له في الأصل أو في الفرع، وأما الجمع بين المختلفات فإما (¬3) لاشتراكِهما في معنى جامعٍ صالحٍ للتعليل، أو لاختصاص كل صورة بعلَّة صالحة للتعليل؛ فإنه لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتحد نوعُ الحكم أن تُعلَّل بعلل مختلفة. [جواب أبي بكر الرازي الحنفي] وأجاب عنه أبو بكر الرازي الحنفي (¬4) بأن قال: لا معنى لهذا السؤال؛ فإنا لم نقل بوجوب (¬5) القياس من حيثُ اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها وأسمائها, ولا (¬6) أوجبنا المخالفةَ بينها من حيث اختلفت في الصُّورِ والأعيانِ والأسماء، وإنما يجب القياس بالمعاني التي جُعلت أماراتٍ للحكم وبالأسباب الموجبة له، فنعتبرُها في مواضعها، ثم لا نبالي باختلافها ولا اتفاقها من وجوهٍ أُخرَ غيرها، مثال ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[لما] (¬7) حرَّم التفاضُلَ في البُرِّ بالبر من جهة الكيل [وفي الذهب بالذهب من جهةِ الوَزْن (¬8) اسْتَدْللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرةٌ من جهة الكيل] (¬9) أو الوزن مع الجنس؛ فحيث وُجدا أوجبا (¬10) تحريم التفاضل. وإن اختلف المبيعان من وجوهٍ أخر، كالجص -وهو مكيل- فحكمه حكم البر من حيث [شاركه في] كونه مكيلًا وإن خالفه من وجوه أخر، [و] (7) كالرصاص -وهو موزون- فحكمه كحكم الذهب في تحريم التفاضل وإن خالفه في أوصافٍ أُخر، فمتى عُقل المعنى الذي به تعلَّق الحكم وجُعل علامة له وجب اعتباره حيث وُجد، كما رجم ماعزًا لزناه (¬11)، وحكم بإلقاء الفأرة وما ¬

_ (¬1) في "المعتمد": (2/ 194). (¬2) نحوه في "إحكام الأحكام" (3/ 279). (¬3) في المطبوع و (ك) و (ق): "فإنما كان". (¬4) وهو الجصاص والمذكور في "أصوله" المسمى "الفصول" (4/ 86 - تحقيق د. عجيل النشمي) بنوع اختصار وتصرف. (¬5) في المطبوع و (ن): "بموجب"، وعند الجصاص: "نقبل بوجوب". (¬6) في (ن): "وإلا". (¬7) ما بين المعقوفتين من المطبوع و (ك) و (ق). (¬8) يشير إلى حديث: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة"، والحديث متفق عليه، ومضى تخريجه. (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬10) كذا عند الجصاص، وفي الأصول: "أوجبنا"!! (¬11) في (ن): "في زناه" وسيأتي تخريجه.

[جواب القاضي أبي يعلى]

حولها لما ماتت في السَّمن (¬1)؛ فعقَلْنا عموم المعنى لكل زانٍ وعموم المعنى لكل مائع جاور النَّجاسة، إلا أن المعنى تارة يكون جليًا ظاهرًا، وتارة يكون خفيًا غامضًا، فيستدل عليه بالدلائل التي نصبها اللَّه عليه. [جواب القاضي أبي يعلى] وأجاب عنه القاضي أبو يعلى (¬2) بأن قال: "العقل إنما يمنع أن يُجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفاتِ النفسية، كالسواد والبياض، وأن يفرِّق بين المتماثلين (¬3) فيما تماثلا فيه (¬4) من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجري مجرى ذلك وأما (¬5) ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يُجمعَ بين المختلفين في الحكم الواحد، ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة العمرة وما يجري مجراها من الألوان؛ فإن القُعودَ في الموضع الواحد قد يكون حسنًا إذا كان فيه نفعٌ لا ضررَ فيه، وقد يكون قبيحًا إذا كان فيه ضررٌ من غير نفع يُوفي (¬6) عليه وإن كان القعود [المقصود] (¬7) في ذلك الموضع متفقًا (¬8)، وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحُسْن بأن يكون في كُلٍّ منهما نفعٌ لا ضررَ فيه وإن كانا مختلفين، على أن ذلك (¬9) يؤكد صحة القياس وذلك أن المثلين في العقليات إنما وَجبَ تساوي حكمهما؛ لأنَّ كل واحد منهما قد سَاوى الآخر فيما لأجله [قد] (10) وَجبَ له الحكم إما لذاته كالسوادين أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين، وهكذا القول في المختلفين، وعلى هذه الطريقة بعينها يجري القياسُ؛ لأنا إنما نحكم للفرعِ بحكم الأصل إذا شاركه [في] (¬10) علة الحكم، كما أن اللَّه تعالى (¬11) إنما نص على حكم واحد في الشيئين (¬12) إذا اشتركا فيما أوْجب (¬13) الحكم فيهما، فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه". ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) في كتابه: "العُدَّة في أصول الفقه" (4/ 1288 - 1289). (¬3) في المطبوع: "المثلين". (¬4) في "العدة": ". . . بين المثلين فيما تقابلا فيه". (¬5) في "العدة": "فأما". (¬6) في "العدة": "يوفر"!!. (¬7) سقط من (ق) و (ك) ومن مطبوع "العدة". (¬8) كذا في (ق) و"العدة" وفي باقي النسخ "متيقنا". (¬9) في مطبوع "العدة": "على أن هذا". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من مطبوع "العدة". (¬11) في مطبوع "العدة": "لأن اللَّه". (¬12) في (ق) و (ك): "السنن". (¬13) في مطبوع "العدة": "فيما له وجب" وفي (ك): "في السنن إذا اشتركا. . . ".

[جواب القاضي عبد الوهاب]

[جواب القاضي عبد الوهاب] وأجاب عنه القاضي عبد الوهاب المالكي (¬1) بأن قال: دعواكم بأن هذه الصور (¬2) التي اختلفت أحكامُها متماثلة في نفسها دعوى، والأمثلة لا تشهد لها، ألا ترى أنه لا يمتنع أن يتفق الصوم والصلاة في امتناع أدائها من الحائض ويفترقان في وجوب القضاء، والتماثل في العقليات لا يُوجب التساوي في الأحكام الشرعيات. وأيضًا فهذا يُوجب منع القياس في العقليات. وأيضًا فإن القياس جائزٌ على العلة المنصوص عليها مع وجود المعنى الذي ذكره. فهذه أجوبة النُّظار، ونحن بعون اللَّه وتوفيقه نفرد كل مسألة منها بجواب مفصَّل، وهو المسلك الثاني الذي وعدنا به. [جواب مفصل] [لماذا وجب الغسل من المني دون البول؟] أما المسألة الأولى وهي إيجاب الشارع -صلى اللَّه عليه وسلم- الغسل من المني (¬3) دون البول فهذا من أعظم محاسنِ الشَّريعة وما اشتملت عليه من الرَّحمة والحكمة والمصلحة؛ فإن المنيَّ يخرجُ من جميع البدن، ولهذا سمَّاه اللَّه سبحانه وتعالى (سُلالة) , لأنه يَسيلُ من جميع البدن، وأما البول [فإنما هو] (¬4) فضْلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة؛ فتأثُّرُ البَدنِ بخروج المنيِّ أعظمُ من تأثره بخروج البول؛ وأيضًا فإن الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبَدنِ والقلب والروح، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن فإنّها تَقْوى بالاغتسال، والغسلُ يَخْلفُ عليه ما تحلَّل منه بخروج المني، وهذا أمر يعرف بالحس؛ وأيضًا فإن الجنابة ¬

_ (¬1) له مجموعة من كتب الأصول، مثل: "التلخيص" و"المفاخر" و"الإفادة" و"المقدمات"، أكثر العلماء من النقل منها وهي ليست مطبوعة، ولم أظفر لها بنسخ خطية، وبقيت بقية من بعض آثاره الأصولية جمعها الأستاذ محمَّد السليماني من كتبه الفقهية وبطون كتب الأصول، ووضعها في آخر "المقدمة في الأصول" لابن القصار (ص 229 - 308) وانظر تقديمي لكتاب "الإشراف". (¬2) في (ك): "الصورة". (¬3) وذلك بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الماء من الماء". (¬4) في (ق) و (ك): "فإنه".

فصل [الفرق بين الصبي والصبية]

توجب ثقلًا وكسلًا والغسل يحدث له نشاطًا وخفة، ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة: كأنما ألقيت عني جبلًا (¬1)، وبالجملة فهذا أمرٌ يُدركه كلُّ [ذي] حس سليم وفطرة صحيحة، ويعلمُ أنَّ الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب مع ما تحدثه الجنابة من بُعْدِ القلب والروح عن الأرواح الطيبة، فإذا اغتسل زال ذلك البُعدُ، ولهذا قال غير واحد من الصحابة: إن العبد إذا نام عَرَجت روحُه، فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كان جُنُبًا لم يُؤذن لها (¬2)، ولهذا أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجنب إذا نام أن يتوضأ (¬3). وقد صرَّح أفاضلُ الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يُعيدُ إلى البدن قوَّتَه، ويخلف عليه ما تحلَّل منه، وإنه من أنفع شيءٍ للبدن والروح، وتركه مضر، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه، وباللَّه التوفيق. على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حَرجٍ ومشقة على الأمة تمنعه حكمةُ اللَّه ورحمتُه وإحسانُه إلى خلقه. فصل [الفرق بين الصبي والصبية] وأما غسل الثوب من بول الصبية ونضْحه من بول الصبي إذا لم يَطْعَما فهذا للفقهاء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يُغسلان جميعًا. والثاني: يُنْضحان. ¬

_ (¬1) هو جزء من حديث أبي ذر في الاغتسال من الجنابة تقدم مطولًا مفصلًا فيما مضى. ووقع في المطبوع: "حملًا" بدل "جبلًا"، وما بين المعقوفتين بعدها سقط من (ك) , واستدركه (ق) في الهامش. (¬2) انظرها مفصلة في كتاب "الروح" (ص 437 - ط دار ابن كثير) للمصنف. (¬3) رواه البخاري في "صحيحه" (287) في (الغسل): باب نوم الجُنب، و (289) و (290) في الجنب يتوضأ ثم ينام، ومسلم (306) في الحيض: باب جواز نوم الجنب واستحباب الوضوء له، من حديث ابن عمر. وفي صحيح مسلم (306) (24) قال: هل ينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم ليتوضأ ثم لينم حتى يغتسل إذا شاء، وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 141).

فصل [الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها]

والثالث: التفرقة، وهو الذي جاءت به السُّنة (¬1)، وهذا من محاسن الشريعة وتمامِ حكمتِها ومصلحتها. والفرق بين الصبيِّ والصَّبيَّة من ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: كثرةُ حملِ الرجال والنساء للصبي (¬3) فتعم البلْوى ببوله، فيشق غسله (¬4). والثاني: أن بوله لا ينزل في مكان واحد، بل ينزل متفرقًا هاهنا وهاهنا، فيشق غسل ما أصابه كله، بخلاف بول الأنثى. الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذَّكَر، وسببُه حرارةُ الذَّكر ورطوبة الأنثى؛ فالحرارة تخفف من نتن البول وتذيبُ منها ما لا يحصل مع الرطوبة، وهذه معانٍ مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق. فصل [الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها] وأما نقْصُه الشَّطر من صلاة المسافر الرباعية دون الثلاثية والثنائية ففي غاية المناسبة؛ فإن الرباعية تحتمل الحَذْفَ لطولها، بخلاف الثنائية، فلو حذف شَطْرَها لأجْحف بها ولزالت حكمة الوتر الذي شُرع خاتمة العمل، وأما الثلاثية فلا يمكن [حذف] (¬5) شَطْرُها، وحذف ثلثيها مخلٌّ بها، وحذف ثلثها يخرجها عن حكمة شرعها وترًا، فإنها شرعت ثلاثًا لتكونَ وترَ النهار، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "المغربُ وترُ النهار؛ فأوْتِرُوا صلاة الليلِ" (¬6). ¬

_ (¬1) حديث الغسل من بول الصبية والنضح من بول الصبي، ورد في أماكن كثيرة جدًا ومضى تخريجه. (¬2) انظر: "تحفة المودود" (ص 213 - 217). (¬3) في المطبوع: "للذكر". (¬4) في المطبوع: "فيشق عليه غسله". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك). (¬6) رواه عبد الرزاق (4675 و 4676)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 183) (دار الفكر)، وأحمد في "مسنده" (2/ 30 و 4 أو 82 - 83 و 154)، والنسائي في "سننه الكبرى" (1382) في أول كتاب الوتر، والطبراني في "المعجم الصغير" (1081) من طرق عن ابن سيرين عن ابن عمر به مرفوعًا، بإسناده صحيح، وصححه العراقي في "تخريخه على الإحياء"، أما السيوطي في "الجامع الصغير" فاقتصر على حُسنه!! ورواه النسائي في "الكبرى" (1383)، وابن أبي شيبة (2/ 184) من طريق خالد بن الحارث =

فصل [لماذا وجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة؟]

فصل [لماذا وجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة؟] وأما إيجابُ قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة فمن تمامِ محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح المكلفين؛ فإن الحيضَ لما كان منافيًا للعبادة لم يُشرع فيه فعلها، وكان في صلاتها أيام الطُّهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض، فتحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطُّهْر؛ لتكررها كل يوم، بخلاف الصوم، فإنه لا يتكرر، وهو شهرٌ واحد في العام، فلو سقط عنها فعله بالحيض (¬1) لم يكن لها سبيلٌ إلى تدارك نظيره، وفاتت عليها مصلحتُه، فوجب عليها أن تصوم شهرًا في طهرها؛ لتحصل مصلحة الصوم التي هي من تمام رحمة اللَّه بعبده وإحسانه [إليه] (¬2) بشرعه، وباللَّه التوفيق. فصل [حكم النظر إلى الحرة وإلى الأمة] وأما تحريمُ النَّظرِ إلى العجوزِ الحُرَّة الشَّوهاء القبيحة وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع، فأين حَرَّم اللَّه هذا وأباح هذا؟ واللَّه سبحانه إنما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ولم يُطلق اللَّه و [لا] (¬3) رسوله للأعينِ النَّظرَ إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حَرم عليه بلا ريب، وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شَرع للحرائر أن يسترْنَ وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسرِّي اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين أباح اللَّه ورسوله لهن أن يكشفنَ وجوهَهنَّ في الأسواقِ والطُّرقاتِ ومجامعِ الناس وأذن للرجال في التمتع (¬4) بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة، ¬

_ = السلمي عن الأشعث (سقطت من المصنف) عن ابن سيرين مرسلًا دون ذكر ابن عمر. وهذا لا يضر لوصل الثقات له. ورواه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 348) من طريق مالك بن أنس عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر وقال: "غريب من حديث مالك تفرد به مالك بن سليمان". (¬1) في (ق): "فعله أيام الحيض". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬4) في (ن): "وأمر الرجال بالتمتع"، وفي (ك): "وأذن للرجال بالتمتع".

فصل [الفرق بين السارق والمنتهب]

وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولَهم: إن الحرةَ كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبًا كالبَطْن والظهر والساق؛ فظن أن ما يظهر غالبًا حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة لا في النَّظر، [فإن العورةَ عورتان: عورةَ النظر، وعورةَ الصلاة؛] (¬1) فالحرة لها أن تصلي مكشوفةَ الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك، واللَّه أعلم. فصل [الفرق بين السارق والمنتهب] وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترْك قَطْع المُختلس والمُنْتَهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضًا؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه يَنْقُبُ الدور ويهتك الحِرْز ويكسر القُفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز [منه] (¬2) بأكثر من ذلك، فلو لم يُشْرَع قطعه لسرق الناس بعضُهم بعضًا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسُّرَّاق، بخلاف المنتهب والمختلس؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يَديه، ويخلِّصوا حَقَّ المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ (¬3) المال على حين غفلة من صاحبه وغِرَّة (¬4)، فلا يخلو من نوع تفريط يُمكِّن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه؛ وأيضًا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حِرز مثله غالبًا، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخلِّيك عنه وغفلتكَ عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالبًا، فهو كالمنتهب؛ وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ (¬5) كفُّ عُدْوان هؤلاء بالضَّرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال كما سيأتي. فإن قيل: فقد وردتِ السنة بقطع جاحد العارية (¬6)، وغايته أنه خائن، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ن). (¬3) في المطبوع: "يأخذوا". (¬4) في المطبوع و (ك): "على حين غفلة من مالكه وغيره". (¬5) في (ق): "يشرع"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه من المطبوع و (ن). (¬6) انظر: "زاد المعاد" (3/ 211، 212)، و"تهذيب السنن" (6/ 209 - 212)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 73)، و"الحدود والتعزيرات" (404 - 417).

فصل [الفرق بين اليد في الدية وفي السرقة]

والمعير سَلَّطه على قبضِ ماله، والاحترازُ منه ممكنٌ بان لا يَدفعَ إليه المال؛ فبطل ما ذكرتم من الفرق. قيل: لَعَمْرُ اللَّه لقد صح الحديث بان امرأةً كانت تستعيرُ المتاع وتجْحده فأمر بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقُطِعت يدها (¬1)، فاختلف الفقهاء في سبب القطع: هل كان سرقتها وعرّفها الراوي بصفتها لأن (¬2) المذكورَ سببُ القطع كما يقوله الشافعي ومالك وأبو حنيفة (¬3)، أو كان السببُ المذكور هو سبب القطع كما يقوله أحمد (¬4) ومن وافقه؟ ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين ألبتة، فإن كان الصحيح قولَ الجمهور اندفع السؤال، وإن كان الصحيح [هو قول] (¬5) الآخر فموافقتُه للقياسِ والحكمةِ والمصلحةِ ظاهرٌ جدًا؛ فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بدَّ لهم منها, ولا غنى لهم عنها، وهي واجبةٌ عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأُجرة أو مجانًا، ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعًا وعادةً وعرفًا, ولا فرق في المعنى بين مَنْ توصَّل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها، وهذا بخلاف جاحد الوديعة؛ فإن صاحب المتاع فرّط حيث ائْتمنهُ. فصل [الفرق بين اليد في الدية وفي السرقة] وأما قَطعُ اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمس مئة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة؛ فإنه احتياطٌ (¬6) في الموضعين للأموال والأطراف، فقَطَعها في ربع دينار حفظًا للأموال، وجعل ديتها خمس مئة دينار حفظًا لها وصيانة، وقد ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1688) (10) في (الحدود): باب قطع السارق الشريف، من حديث عائشة. (¬2) في (ق): "لا أن". (¬3) انظر: "المدونة الكبرى" (4/ 417)، و"شرح معاني الآثار" (2/ 98)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 502)، و"بداية المجتهد" (2/ 244)، و"معالم السنن" (3/ 306)، و"شرح المنهاج" (4/ 194)، و"المحلى" (11/ 362)، و"أحكام السرقة في الشريعة الإِسلامية" (ص 78 - 83). (¬4) انظر: "المغني" (9/ 80، 94)، و"طرح التثريب" (8/ 29)، و"نيل الأوطار" (7/ 307)، و"سبل السلام" (4/ 65). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "هو القول", وفي (ك): "قول". (¬6) في المطبوع: "احتاط".

أورد بعض الزنادقة (¬1) هذا لسؤال وضمّنه بيتين، فقال: يدٌ بخمسِ مئين من عسْجدٍ وُدِيت (¬2) ... ما بالها قُطعت في رُبع دينار تناقضٌ مالنا إلا السكوت له ... ونسْتجير بمولانا من العارِ (¬3) فأجابه بعض الفقهاء (¬4) بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت، وضمنه الناظم قوله (¬5): يَدٌ بخمس مئين من عسجد (¬6) وُدِيت ... لكنها قطعت في ربع دينار حماية الدم أغلاها، وأرْخَصها ... صيانة (¬7) المال، فانظر (¬8) حكمة الباري [وروي أن الشافعي (¬9) رحمه اللَّه أجاب بقوله: ¬

_ (¬1) "ينسبان إلى أبي العلاء المعري، وحفظي: "يد بخمس مئين مسجد"" (د)، وبنحوه في (ط). وانظر ما سيأتي. قلت: قال الذهبي في "الميزان" (1/ 112) في ترجمة (أحمد بن عبد اللَّه بن سليمان أبو العلاء المعري): "له شعر يدل على الزندقة"! وانظر -لزامًا- في تحقيق ذلك: "إعلام النبلاء" (4/ 154 وما بعده) للطباخ، وانظر كتابي: "الإشارات" (رقم 125). (¬2) "كنت أسمعها: "يد بخمس مئين مسجد وديت"، وكذلك في الجواب الآتي عنها" (و). (¬3) في (ك): "النار". (¬4) هو ابن الجوزي، كما في "حاشية البيجوري على شرح ابن القاسم" (2/ 246). (¬5) هو القاضي عبد الوهاب المالكي، ويقال: إن هذا الجواب للشريف الرَّضي، أفاده المَقْبَليّ في "العلم الشامخ" (97 - 98)، ونسبه الصاوي في "حاشيته" (1/ 89، 283) للقاضي عبد الوهاب، وذكر الصفدي في "الغيث المسجم" (1/ 82) البيتين المنسوبين لأبي العلاء، وذكر نظمًا لعلم الدين السخاوي في الرد عليه. ونسبها لأبي العلاء جمع أيضًا، منهم: ابن حجر في "الفتح" (12/ 98)، وأورد رد القاضي عبد الوهاب، وفسره بقوله: "وشرح ذلك: أن الدية لو كانت ربع دينار لكثرت الجنابات على الأيدي، ولو كان نصاب القطع خمس مئة دينار لكثرت الجنايات على الأموال، فظهرت الحكمة في الجانبين، وكان في ذلك صيانة من الطرفين" وانظر: "المعلم" (2/ 254 - 255)، "حاشية البيجوري" (2/ 246)، "اللسان" (1/ 205 - 206)، كتابنا "شعر يخالف الشرع" (الباب الخامس) منه. (¬6) في (ك): "بخمس مئين عسجد"، وفي (ق): "بخمس مئة عسجد". (¬7) تحرفت في المطبوع إلى: "خيانة"!. (¬8) في (ن): "فافهم". (¬9) "لا يتفق ذلك مع أن قائل البيتين هو المعري" (د)، ونحوه في (ط). قلت: لأن المعري توفي (449 هـ) بعد الشافعي بمدة، ولذا لا تصح النسبة للشافعي، ولعل القائل فقيه شافعي من عصر أبي العلاء، أو القاضي عبد الوهاب (ت 433 هـ) أو =

فصل [حكمة جعل نصاب السرقة ربع دينار]

هناك مظلومةٌ غالت بقيمتها ... وههُنا ظَلَمت هانَت على الباري وأجاب شمس الدين الكردي بقوله: قل للمصرِّيِّ (¬1) عارٌ أيما عار ... جهْلُ الفتى وهو عن ثوب التُّقى عارِ لا تقدحن زناد الشِّعر عن حِكم ... شعائر الشَّرع لم تُقْدح بأشعارِ فقيمة اليد نصف الألف من ذهب ... فإن تعدّت فلا تسوى بدينارِ] (¬2) فصل (¬3) [حكمة جعل نصاب السرقة ربع دينار] وأما تخصيصُ القطع بهذا القدر فلأنه لا بد من مقدار يُجعل ضابطًا لوجوب القطع؛ إذ لا يمكن أن يقال: يُقْطع بسرقة فلْس أو حبَّة حنطةٍ أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا، وتُنزَّه حكمة اللَّه وإحسانه ورحمته عن ذلك، فلا بد من ضابط، وكانت [الثلاثة دراهم] (¬4) أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار، وقال إبراهيم النخعي وغيره (¬5) من التابعين: "كانوا لا يقطعون في الشيء التافه" (¬6)؛ فإن ¬

_ = الشريف الرضي (ت 436 هـ) كما قدمناه. ونسب للشافعي في "زهر الربيع" (1/ 348) و"ديوان الشافعي" (281 - جمع مجاهد بهجت)!!. (¬1) يعني أبا العلاء المعري، فهو الذي ينسب إليه البيتان المذكوران". (و). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "ثلاثة دراهم". (¬5) في (ق): "أو غيره". (¬6) أخرج ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 466 - ط دار الفكر) من طريق عبد الرحيم بن سليمان، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1509) من طريق عبد اللَّه بن قبيصة كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لم يكن يقطع على عهد النبي في الشيء التافه. وإسناده صحيح، وعبد اللَّه بن قبيصة في بعض حديثه نكرة، كما قال ابن عدي، ولم ينفرد به، فقد توبع عليه، خلافًا لما قال ابن عدي. وروي مرسلًا، فأخرجه ابن أبي شيبة (6/ 466)، وعبد الرزاق (10/ 235 رقم 18959) في "مصنفيهما"، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 255) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه؛ قال: "كان السارق على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقطع في ثمن المجنّ، وكان المجنّ يومئذ له ثمن، ولم يكن يقطع في الشيء التافه"، لفظ ابن أبي شيبة. ولفظ عبد الرزاق: "إن سارقًا لم يقطع في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أدنى من مجن، جحفة أو ترس. . . " بنحوه. قال البيهقي: "والذي عندي أن القدر الذي رواه من وصله من قول عائشة، وكل من =

عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم إذ (¬1) لا يلحقهم ضرر بفقده، وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة؛ فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبًا، وقوت اليوم للرجل وأهله له خطرٌ عند غالب الناس؛ وفي الأثر المعروف: "من أصبح آمنًا في سِرْبه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها" (¬2). ¬

_ = رواه موصولًا حفاظ أثبات، وهذا الكلام الأخير (أي: وإن يد السارق لم تقطع في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الشيء التافه، وهو لفظ البيهقي) من قول عروة، فقد رواه عبدة بن سليمان، وميّز كلام عروة من كلام عائشة -رضي اللَّه عنها-". وانظر: "نصب الراية" (3/ 360). وانظر في ترجيح اشتراط النصاب والرد على شبه المخالفين: "المبسوط" (9/ 36)، "الرسالة" للشافعي (ص 224)، "معالم السنن" (3/ 304)، "أحكام القرآن" لابن العربي (1/ 607)، "الإشراف" (4/ 452 بتحقيقي)، "طرح التثريب" (8/ 25 - 27)، "فتح الباري" (12/ 106 - 107)، "إحكام الأحكام" (4/ 127)، "زاد المعاد" (5/ 49)، "نيل الأوطار" (7/ 300)، "السرقة" للشهاوي (ص 34 - 36)، "أحكام السرقة" (151 - 157) للكبيسي، "النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود" (1/ 50)، "الحدود والتعزيرات" (369 وما بعدها). (¬1) في المطبوع: "إذا"! (¬2) رواه ابن حبان (671)، وفي "روضة العقلاء" (ص 277 - 278)، والطبراني في "مسند الشاميين" (22)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (539)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 249) من طريق عبد اللَّه بن هانئ بن عبد الرحمن بن أبي عبلة عن أبيه عن إبراهيم بن أبي عبلة عن أم الدرداء عن أبي الدرداء. وهذا إسناد ضعيف جدًا عبد اللَّه بن هانئ ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 194) فقال: روى عنه محمَّد بن عبد اللَّه بن محمَّد بن مخلد عن أبيه عن إبراهيم بن أبي عبلة أحاديث بواطيل. سمعت أبي يقول: قدمت الرحلة فذكر لي أن في بعض القرى هذا الشيخ وسألت عنه فقيل: هو شيخ يكذب، فلم أخرج إليه ولم أسمع منه. وقال الذهبي في "الميزان": متهم بالكذب. أما ابن حبان فذكره في "الثقات" (8/ 357)!! وأبوه هانئ ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: ربما أغرب. وأما الهيثمي فقال في "مجمع الزوائد" (10/ 289): ورجاله وثقوا على ضعف في بعضهم. وله شاهد من حديث عبيد اللَّه بن محصن. رواه البخاري في "الأدب المفرد" (رقم 301 و 303)، و"التاريح الكبير" (5/ 372)، والترمذي (2346) في "الزهد"، والحميدي (439)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 146)، والقضاعي (540)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 146 رقم 2126، 2127)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (10/ 3597 رقم 1158)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 1874 رقم 4716)، والبيهقي في "الشعب" (7/ 294، 295 رقم 10362، 10363، 10364)، والخطيب في "تاريخ =

فصل [حكمة حد القذف بالزنا دون الكفر]

فصل [حكمة حد القذف بالزنا دون الكفر] وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزِّنا دون الكفر ففي غاية المناسبة؛ فإن القاذف غيره (¬1) بالزنا لا سبيل (¬2) للناس إلى العلم بكذبه، فجُعل حد الفرية تكذيبًا له. وتبرئة لعرض المقذوف، وتعظيمًا لشأن هذه الفاحشة التي يُجلد من رمى بها مسلمًا. وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطِّلاع المسلمين عليه كافٍ في تكذيبه، ولا يلحقه من العار في كذبه عليه (¬3) في ذلك ما يلحقه عليه في الرمي بالفاحشة، ولا سيما إن كان المقذوف امرأة؛ فإن العار والمعرَّة التي تلحقها بقذفه بين أهلها وتَشَعُّب ظنون الناس وكوْنهم بين مصدق ومكذِّب لا يلحق مثله بالرمي بالكفر. فصل [حكمة الاكتفاء في القتل بشاهدين دون الزنا] وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة؛ فإن الشارع احْتاط للقِصاص والدماء واحْتاط لحد الزنا، فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدِّماء، وتواثب العادُون، وتجرؤوا على القَتْل؛ وأما الزنا فإنه بالغَ في سَتْرِه كما قَدَّر اللَّه ستره، فاجتمع على ستره شرع اللَّه وقدره، فلم يقبل فيه إلا ¬

_ = بغداد" (3/ 463) من طريق سلمة بن عبيد اللَّه عن أبيه. وسلمة هذا قال عنه أحمد: لا أعرفه وقال العقيلي: مجهول في النقل، ولا يتابع على حديثه ولا يعرف إلا به. أقول: وعبيد اللَّه بن محصن هذا قال ابن السكن: يقال له صحبة، وفي إسناده نظر. ويشهد له حديث ابن عمر: رواه الطبراني في "الأوسط" (1849)، والبيهقي في "الشعب" (7/ 294 رقم 10360)، وقال الهيثمي (10/ 289): فيه علي بن عباس وهو ضعيف. أقول: وفيه عطية العوفي وهو ضعيف أيضًا. وحديث ابن عمر أيضًا: رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه أبو بكر الداهري وهو ضعيف، كما ذكر الهيثمي أيضًا. فالحديث بمجموع طرقه يظهر أنه حسن؛ كما قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- ومن قبل السيوطي. (¬1) تصحفت "غيره" في (ق) إلى "عيّره". (¬2) في (ق): "ولا سبيل". (¬3) في (ن): "بكذبه عليه".

فصل [الحكمة في جلد قاذف الحر دون العبد]

أربعة يَصِفون الفعل وَصْف مشاهدةٍ ينتفي معها الاحتمال، وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقل من أربع مرات حِرْصًا على ستْر ما قدَّر (¬1) اللَّه ستره، وكره إظهاره، والتكلم به، وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. فصل [الحكمة في جلد قاذف الحر دون العبد] وأما حدُّ (¬2) قاذفِ الحُرِّ دون العبد فتفريقٌ بشَرْعه (¬3) بين ما فرق اللَّه بينهما بقدره، فما جعل اللَّه سبحانه العبد كالحر من كل وجه لا قدرًا ولا شرعًا، وقد ضرب اللَّه سبحانه لعباده الأمثال التي أخْبر فيها بالتفاوت بين الحر والعبد، وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدُهم في أرزاقهم، فاللَّه سبحانه وتعالى فضَّل بعض خلقه على بعض، وفضَّل الأحرار على العبيد في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف، وجعل العبدَ مملوكًا والحُرَّ مالكًا، ولا يستوي المالك والمملوك، وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب فذلك مُوجَب العدْل والإحسان؛ فإنه يوم [الجزاء] (¬4) لا يبقى هناك عبد وحر ولا مالك ومملوك (¬5). فصل [الحكمة في التفريق بين عدة الموت والطلاق] وأما تفريقه في العدّة بين الموت والطلاق، وعِدَّة الحرة وعدة الأمة، وبين الاستبراء والعِدة، مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله، فهذا إنما يتبين وجهه إذا عُرفَتِ الحكمة التي لأجلها شُرعت العدة وعُرفَ أجناس العدد وأنواعها. [الحكم في شرع العدة] فأما المقام الأول ففي شرع العدة عِدَّةُ حِكَم (¬6): منها: العلم ببراءة الرحم، وأن لا يجتمعَ ماءُ الواطئين فأكثر في رَحمٍ ¬

_ (¬1) في (ك): "قدّس". (¬2) في المطبوع: "وأما جلد". (¬3) في المطبوع: "لشرعه"، وفي (ك): "شرعه". (¬4) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬5) في المطبوع: "ولا مالك ولا ملوك". (¬6) انظر: كلام المصنف على الحكم الشرعية في "العدة" في "زاد المعاد" (4/ 189). وفي (ن) و (ق) زاد بعدها كلمة "السر".

[أجناس العدد]

واحد، فتختلط الأنسابُ وتفسد، وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعةُ والحكمة. ومنها: تعظيمُ خطر هذا العقد، ورفعُ قدره، وإظهارُ شرفه. ومنها: تطويل زمان الرَّجعة للمطلِّق؛ إذ لعله أن يندم ويفيء فيصادف زمنًا يتمكن فيه من الرجعة. ومنها: قضاءُ حق الزوج، وإظهارُ تأثير فقْده في المنع من التزيُّن والتجمل، ولذلك شُرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الولد والوالد. ومنها: الاحتياط لحق الزوج، ومصلحة الزوجة، وحق الولد، والقيام بحق اللَّه الذي أوجبه؛ ففي العدة أربعة حقوق، وقد أقام الشارع الموتَ مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه؛ فإن النكاح مدتُّه العمر، ولهذا أقيم مقام الدُّخول في تكميل الصداق، وفي تَحريم الربيبة عند جماعة من الصحابة ومَنْ بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت (¬1) وأحمد في إحدى الروايتين عنه؛ فليس المقصود من العِدَّة مجرد براءة الرحِمِ، بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها. [أجناس العِدد] المقام الثاني في أجناسها: وهي أربعةٌ في كتاب اللَّه، وخامس بسنةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2): الجنس الأول: أربابُ العِدَّة (¬3)، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. الثاني: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. الثالث: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]. ¬

_ (¬1) انظر: "مصنف عبد الرزاق" (6/ 276)، و"سنن سعيد بن منصور" (رقم 937 و 938)، والآخر (604 - ط الصميعي)، و"سنن البيهقي" (7/ 160) ولم أجد أثرًا واضحًا عن زيد بن ثابت، وانظر: "الدر المنثور" (2/ 474 - 475). (¬2) انظر: "زاد المعاد" (4/ 182 - 183). (¬3) في المطبوع: "أم باب العدة".

الخامس: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا توطأ حاملٌ حتى تَضعَ، ولا حائل (¬1) حتى تُستبرئ بحيضة" (¬2) ومُقدَّمُ هذه الأجناس [كلها] (¬3) الحاكم عليها كلها وَضْعُ العمل، فإذا وُجد فالحكمُ له، ولا التفات إلى غيره، وقد كان بين السلف نزاعٌ في المُتوفَّى عنها أنها تتربص أبْعد الأجلين، ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل (¬4)؛ وأما عدةُ الوفاة فتجبُ بالموت، سواء دخل بها أو لم يدخل، كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة (¬5). . . . ¬

_ (¬1) "أصل الحائل: التي حمل عليها، فلم تلقح، أو التي لم تلقح سنة أو سنتين أو سنوات، وكذلك كل حائل، وقوله سبحانه: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يتناول كل مطلقة بهذا الوصف" (و). (¬2) رواه أحمد (3/ 28 و 62 و 87)، والدارمي (2/ 171)، وأبو داود (2157) في (النكاح): باب في وطء السبايا، والحاكم (2/ 195)، والدارقطني (4/ 112)، والبيهقي (7/ 449 و 9/ 124) من طريق شريك عن قيس بن وهب عن أبي الودَّاك عن أبي سعيد. وشريك هو القاضي سيء الحفظ، ومع هذا قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 171 - 172): إسناده حسن! ولكنه قال في "الفتح" (4/ 424): وليس على شرط الصحيح. أما الحاكم فقال: صحيح على شرط مسلم، وأقره الذهبي!!. وإنما أخرج مسلم لشريك مقرونًا. وقد أعلّه بشريك ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 22 رقم 817)، وقال: وهو من ساء حفظه بالقضاء. ونقله عنه "الزيلعي" (3/ 234). نعم الحديث بشواهده حسن فانظرها مفصلة في "نصب الراية" (3/ 233 - 234 و 4/ 252 - 253)، و"التلخيص" (1/ 171 - 172)، و"تالي تلخيص المتشابه" (261 - بتحقيقي)، وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4115)، وتعليقي على "الإشراف" (2/ 497)، و"إرواء الغليل" (1/ 200 - 201). ووجدت شاهدين لم يذكروهما جميعًا وهما: شاهد من حديث معاوية: رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 353) وآخر من حديث أنس بن مالك: رواه ابن عدي (1/ 292) , ذكره فيما لم يتابع عليه إسماعيل بن عياش. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) انظر في هذا: "الإشراف" (4/ 281) لابن المنذر، و"التمهيد" (20/ 37)، و"المحلى" (10/ 263 - 265)، و"المغني" (11/ 227 - 228)، و"تهذيب السنن" (3/ 203)، و"زاد المعاد" (5/ 598 - 599 - ط موسسة الرسالة) كلاهما للمصنف، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (98/ 34). (¬5) في هذا حديث فُريعة بنت مالك: رواه مالك في "الموطأ" (2/ 591)، ومن طريقه: =

واتفاق الناس (¬1)؛ فإن الموتَ لما كان انتهاءَ العقد وانقضاءَه استقرَّت به الأحكام: من التوارث، واستحقاق المهر، وليس المقصود بالعدة هاهنا مجرد استبراء الرحم كما ظَنَّه بعضُ الفقهاء؛ لوجوبها قبل الدخول، ولحصول الاستبراء بحيْضَة واحدة، ولاستواء [الآيسة و] (¬2) الصغيرة والآيسة وذوات القُرُوء في مدتها، فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: هي تعبُّدٌ مَحْضٌ لا يُعقل معناه، وهذا باطلٌ لوجوهٍ. منها: أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يَعْقُلُ معناه مَنْ عَقَله ويخفى على مَنْ خفي عليه (¬3). ومنها: أن العدد ليست من باب العبادات المحضة؛ فإنها تجب في حق الصغيرةِ والكبيرةِ والعاقلةِ والمجنونةِ والمسلمة والذميَّة، ولا تفتقر إلى نية (¬4). ومنها: أن رعايةَ حق الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها؛ فالصواب (¬5) أن يُقال: هي حريم لانقضاء النكاح لما كمل، ولهذا تجد فيها رعاية ¬

_ = الشا فعي في "الرسالة" (1214)، وفي "المسند" (2/ 53 - 54)، وأحمد في "مسنده" (6/ 370 و 420 - 421)، والدارمي (2/ 168)، وابن أبي شيبة (5/ 184) وعبد الرزاق (12073، 12076)، وأبو داود (2300) في (الطلاق): باب في المتوفى عنها تنتقل، والترمذي (1204) في (الطلاق): باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، والنسائي (6/ 199 و 199 - 200 و 200) في (الطلاق): باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، والنسائي (3528 - 3530، 3532)، وابن ماجه (2031) في (الطلاق): باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، وابن سعد (8/ 368)، وابن الجارود (759)، والطحاوي (3/ 77) وابن حبان (1331، 1332)، والطبراني (24/ 439)، والبيهقي (7/ 434 و 435)، والحاكم (2/ 208)، والبغوي (2386) من طرق عن سعد بن إسحاق عن عمته عنها. قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال ابن عبد البر: "إنه حديث مشهور، فوجب اعتباره والعمل به"، وقال الذهبي: "هو حديث محفوظ"، وقال ابن القطان: "الحديث صحيح". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬1) في (ق) و (ك): "واتفاق أمر الناس". وحكي عن الحسن والشعبي أن غير المدخول بها لا تعتد، وهذا قول شاذ، انظر: "الإشراف" (4/ 294) لابن المنذر، "المحلى" (10/ 278)، "الأم" (7/ 332)، "فتح الباري (9/ 396) -وفيه نفي الاتفاق في المسألة- و"المغني" (11/ 284)، و"شرح فتح القدير" (4/ 160 - 161). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬3) انظر في تقرير هذا المعنى: "الموافقات" للشاطبي (1/ 395) مع تعليقي عليه. (¬4) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 178) للمصنف -رحمه اللَّه-. (¬5) في (ق) و (ك): "والصواب".

فصل [حكمة عدة الطلاق]

لحق الزوج وحرمة له، ألا ترى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان من احترامِه ورعايةِ حقوقه تحريمُ نسائِه بعده، ولما كانت نساؤُه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعًا، لم يحلَّ لأحد أن يتزوجَ بهنَّ بعده، بخلاف غيره؛ فإن هذا ليس معلومًا في حقه، فلو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضررًا (¬1) محققًا بغير نفع معلوم، ولكن لو (¬2) تأيَّمتْ على أولادها كانت محمودةً على ذلك. وقد كانوا في الجاهلية يُبالغون في احترام حق الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غاية المبالغة من تربُّص (¬3) سنة في شَرِّ ثيابها وحِفْشِ (¬4) بيتها (¬5)، فخفَّفَ اللَّه عنهم ذلك بشريعته التي جعلها رحْمَةً وحكمة ومصلحة ونعمة، بل هي من أجَلِّ نعمه عليهم على الإطلاق، فله الحمد كما هو أهله. وكانت أربعة أشهر وعشرًا على وفق الحكمة والمصلحة؛ إذ لا بُدَّ من مدة مضروبة، وأولى المُدد بذلك المدة التي يعلم فيها بوجود [حمل] (¬6) الولد وعدمه؛ فإنه يكون أربعين يومًا نُطفة، ثم أربعين علقة، ثم أربعين مُضْغة، فهذه أربعة أشهر، ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع، فقُدِّر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمْلٌ (¬7). فصل [حكمة عدة الطلاق] وأما عِدَّةُ الطَّلاقِ فلا يمكن تعليلها بذلك؛ لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق، ولا ببراءةِ الرَّحم؛ لأنه يحصل بحيْضة كالاستبراء، وإن كان براءةُ الرحم بعض مقاصدها, ولا يقال: "هي تعبد" لما تقدم، وإنما يتبين حكمها إذا عرف ما ¬

_ (¬1) في (ق): "تضررًا" وفي (ك): "تضررت تضررًا". (¬2) في (ك) و (ق): "إن". (¬3) "انظر: إلى قول لبيد بن ربيعة: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولًا كاملًا فقد اعتذر" (د). (¬4) "الحفش: البيت الصغير الذليل جدًا، أو ما كان من شعر". (و). (¬5) وثبت ذلك في "صحيح البخاري" (5336، 5337) (كتاب الطلاق): باب تُحِدُّ المتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، من حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) انظر الحكمة في عدة الوفاة وتقديرها بأربعة أشهر وعشرًا في "زاد المعاد" (4/ 209).

فيها من الحقوق؛ ففيها حَقٌّ للَّه (¬1)، وهو امتثالُ أمره وطلبُ مرضاته، وحق للزوج المُطلِّق وهو اتساع زمن الرجعة له، وحق للزوجة، وهو استحقاقها النفقة (¬2) والسكنى ما دامت في العدة، وحق للولد، وهو الاحتياط في ثبوت نَسبِه وأن لا يختلط بغيره، وحق للزوج الثاني، وهو أن لا يسْقِي ماءه زرع غيره (¬3). ¬

_ (¬1) في (د): "حق اللَّه". (¬2) في (د) و (ك): "للنفقة". (¬3) ورد ذلك في حديث: رواه أحمد (4/ 108)، وسعيد بن منصور (2722)، وابن أبي شيبة (12/ 222 - 223 و 14/ 465)، والدارمي (2/ 230)، والترمذي (1131) في (النكاح): باب ما جاء في الرجل يشتري الجارية وهي حامل، وابن سعد في "الطبقات" (2/ 114 - 115)، وأبو داود في "سننه" (2158 و 2159) في (النكاح): باب في وطء السبايا، و (2708) في (الجهاد): باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بشيء، وأبو إسحاق الفزاري في "السير" (ص 242 - 244)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 251)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 209 - 210 رقم 2193، 2194، 2195)، والطبراني في "الكبير" (4482 و 4483 و 4484 و 4489)، وابن حبان (4850)، والبيهقي (7/ 449 و 9/ 62) من طرق عن أبي مرزوق ربيعة بن سليم عن حَنَش عن رويفع به. وأبو مرزوق: ربيعة بن سليم، ذكره ابن حبان في "الثقات" وروى عنه جمع، أما الحافظ ابن حجر فقال في الأسماء: مقبول، وفي الكنى قال: ثقة!! وحسنه في "فتح الباري" (6/ 185). وربيعة هذا توبع، تابعه الحارث بن يزيد. أخرجه أحمد (4/ 108)، والطبراني (4488) من طريق ابن لهيعة عنه، وابن لهيعة ضعيف. ورواه الترمذي (1131) في (النكاح): باب ما جاء في الرجل يشتري الجارية وهي حامل من طريق ابن وهب عن يحيى بن أيوب عن ربيعة بن سليم عن بسر بن عبيد اللَّه عن رويفع. . . وقال الترمذي: "هذا حديث حسن" فخالف ربيعة هنا فقال: عن بُسر، وأخشى أن يكون هذا من اضطرابه. والحديث حسنه شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (13/ 267) ثم وجدت له شاهدًا من حديث ابن عباس: رواه الحاكم (2/ 56 و 137) وصححه ووافقه الذهبي. والأصح من هذا كله ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب النكاح، باب تحريم وطء الحامل المسبيّة، 2/ 1065)، وأبو داود في "السنن" (كتاب النكاح، باب في وطء السبايا، 2/ 247/ رقم 2156)، والدارمي في "السنن" (2/ 227)، وأحمد في "المسند" (5/ 195، 6/ 446)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 194)؛ عن أبي الدرداء، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنه أتى بامرأة مُجِحَّ على باب فُسطَاطٍ، فقال: لعله يريدُ أن يُلمَّ بها؟ فقالوا: نعم. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لقد هممتُ أن ألعنه لعنًا يدخل معه قبرَه، كيف يُورِّثُهُ وهو لا يحلُّ له؟! كيف يستخدمه وهو لا يحل له؟! ". لفظ مسلم. والمُجِح؛ بميم مضمومة، ثم جيم مكسورة، ثم حاء مهملة: وهي الحامل التي قربت =

[ما يترتب على حقوق العدة]

[ما يترتب على حقوق العدة] ورَتَّب الشارعُ على كل واحد من هذه الحقوق ما يناسبه من الأحكام؛ فرتب على رعاية حقه هو لزوم المنزل وأنها لا تَخْرُج ولا تُخْرَج، هذا موجب القرآن ومنصوص إمام أهل الحديث وإمام أهل الرأي، ورتب على حقِّ المُطلِّق تمكنه من الرجعة ما دامت في العدة، وعلى حقها استحقاق النفقة والسكنى، وعلى حقِّ الولد ثبوت نَسَبِه وإلحاقه بأبيه دون غيره، وعلى حق الزوج الثاني دخوله على بصيرةِ ورحم بريء غير مشغول بولد لغيره؛ فكان في جعلها ثلاثة قروء رعاية لهذه الحقوق، وتكميل لها، وقد دل القرآن على أن العدة حق للزوج عليها بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فهذا دليل على أن العدة للرجل على المرأة بعد المسيس، وقال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] فجعل الزوج أحق بردها في العدة؛ فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربُّص لينظر في أمرها هل يمسكها بمعروف أو يُسَرِّحُها بإحسان، كما جعل اللَّه سبحانه للمُولي تربُّص أربعة أشهر لينظر في أمره هل يفيءُ أو يطلق، وكما جعل مدة تسيير الكفار أربعة أشهر لينظُروا في أمرهم ويختاروا لأنفسهم (¬1). فإن قيل: هذه العلة باطلة؛ فإن المختلعة والمفسوخ نكاحها بسبب من الأسباب والمطلقة ثلاثًا والموطوءة بشبهة والمزني بها تعتدُّ بثلاثة أقراء، ولا رجْعة هناك، فقد وجب الحكم (¬2) بدون علته، وهذا يبطل كونها علة. [عدة المختلعة] قيل: شرط النقض أن يكون الحكم في صورةٍ ثابتًا بنص أو إجماع، وأما كونه قولًا لبعض العلماء فلا يكفي في النقض به، وقد اختلف الناس في عدة المختلعة، فذهب إسحاق (¬3) وأحمد (¬4) في أصح الروايتين عنه دليلًا أنها تعتد ¬

_ = ولادتها، كما في "شرح النووي" (10/ 14)، والفسطاط: بيت الشعر، ويُلِمُّ بها؛ بضم الياء، وكسر اللام ثم ميم؛ أي: يطأها. (¬1) انظر: "زاد المعاد" (4/ 209 - 210). (¬2) في المطبوع: "فقد وجد الحكم". (¬3) "معالم السنن" (3/ 143)، "نيل الأوطار" (8/ 34)، "المحلى" (10/ 239). وهو مذهب ابن المنذر وداود وأصحابه غير ابن حزم وأبي ثور. (¬4) انظر: "المغني" (7/ 449)، و"الإنصاف" (8/ 392 - 393)، و"منتهى الإرادات" (3/ 160) , =

بحيضة واحدة، وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد اللَّه بن عباس (¬1)، وقد حُكي إجماع الصحابة ولا يعلم لهما مُخالِف (¬2)، وقد دَلَّت عليه سُنَّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة دلالة صريحة (¬3)، وعُذر من خالفها أنها لم تبلغه، أو لم تصح عنده، أو ظن الإجماع على خلاف موجبها، وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر: أما رجحانه أثرًا فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض، بل قد رَوى أهل "السنن" عنه من حديث الرُّبيِّع بنت مُعوِّذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد اللَّه بن أُبيّ بن سَلول (¬4)، فأتى أخوها يشتكي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأرسلَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ثابت، فقال: "خُذِ الذي لك عليها (¬5) وخلِّ سبيلها" قال: نعم، فأمرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تتربَّص حيضةً واحدةً وتلحق بأهلها (¬6)؛ وذكر أبو داود والنَّسائي من حديث ابن عباس أن امرأةَ ثابت بن ¬

_ = و"تنقيح التحقيق" (3/ 216)، و"كشاف القناع" (5/ 216)، و"بداية المبتدي" (2/ 27)، و"نيل الأوطار" (7/ 38)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (32/ 110)، "المسائل الفقهية في اختيارات شيخ الإِسلام ابن تيمية" (ص 21 - 22) لإبراهيم ولد المصنف، "الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإِسلام ابن تيمية" (2/ 659/ 662). (¬1) أما قول عثمان: فقد رواه ابن أبي شيبة (4/ 87)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 450 - 451) من طريق عبيد اللَّه بن عمر، وحجاج عن نافع عن ابن عمر عنه، وهذا إسناد صحيح. ورواه عبد الرزاق (11859) عن معمر عن أيوب عن نافع أن معاذ بن عفراء. . . فذكر قول عثمان، وسقط من إسناده "عبد اللَّه بن عمر"؛ كما قال المحقق رحمه اللَّه. أما قول ابن عباس: فرواه ابن أبي شيبة (4/ 87) من طريق عبد الرحمن بن محمَّد المحاربي عن ليث عن طاوس عنه، وليث هذا هو ابن أبي سُليم، إذ إنه هو الذي يروي عن طاوس وهو ضعيف. وانظر: "فتح الباري" (9/ 307)، "التلخيص الحبير" (3/ 231)، وهو مذهب عمر وعلى وابن مسعود انظر: "السنن الكبرى" (7/ 316)، "مسند الشافعي" (2/ 291 - "بدائع المنن")، "المحلى" (10/ 238)، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (32/ 289، 290)، "التلخيص الحبير" (3/ 231)، "الإشراف" (3/ 376 - 377 مسألة رقم 1207 - بتحقيقي). (¬2) في (ق): "ولا يعرف لهما مخالف". (¬3) انظر كلام المصنف حول عدة المختلعة في: "زاد المعاد" (4/ 35 - 36)، وسيأتي النص في ذلك قريبًا من كلام المصنف. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) وبعدها في (ق): "يشتكيه" بدل "يشتكي". (¬5) في المطبوع: "خذ الذي لها عليك". (¬6) مضى تخريجه.

[أقسام النساء بالنسبة للعدة]

قيس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[أو أُمرتْ] أن تعتدَّ بحيضة (¬1)، قال الترمذي (¬2): الصحيح أنها أُمرت أن تعتد بحيضة، وهذه الأحاديث لها طرقٌ يصدق بعضها بعضًا، وأُعِلَّ الحديث بعلتين: أحداهما إرساله، والثانية أن الصحيح فيه: "أُمِرَتْ" (¬3)، بحذف الفاعل، والعلتان غير مؤثرتين؛ فإنه قد روي من وجوه متصلة، ولا تَعَارُضَ بين "أمرت" وأمَرَهَا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذ من المحال أن يكون الآمر لها بذلك غير رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته، وإذا كان الحديث قد رُوي بلفظٍ محتمل (¬4) ولفظٍ صريح يفسر المحتمل (4) ويبينه، فكيف يُجعل المحتمل (4) معارضًا للمفَسَّر بل مقدما عليه؟! ثم يكفي في ذلك فتاوى أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ قال أبو جعفر النَّحاس في كتاب "الناسخ والمنسوخ" (¬5): هو إجماعٌ من الصحابة. وأما اقتضاء النظر له فإن المختلعة لم يَبْقَ (¬6) لزوجها عليها عدة، وقد ملكت نفسَها وصارت أحق بِبُضعِها، فلها أن تتزوَّجَ بعد براءة رحمها، فصارت العدة في حقها بمجرد براءة الرحم، وقد رأينا الشريعةَ جاءت في هذا النوع بحيضة واحدة كما جاءت بذلك في المسْبِية والمملوكة بعقد معاوضة أو تبرُّع والمهاجرة من دار الحرب، ولا ريب أنها جاءت بثلاثة أقراء في الرجعية، والمختلعةُ فرعٌ متردد بين هذين الأصلين؛ فينبغي إلحاقها بأشبههما بها؛ فنظرنا فإذا هي بذواتِ (¬7) الحيضة أشبه. [أقسام النساء بالنسبة للعدة] ومما يبين حكمة الشريعة في ذلك أن الشارع قسم النساء إلى ثلاثة أقسام: أحدها: المفارقة قبل الدخول؛ فلا عدة عليها ولا رجعة لزوجها فيها. الثاني: المفارقة بعد الدخول إذا كان لزوجها عليها رجعة، فجعل عدتها ثلاثة قروء، ولم يذكر سبحانه العدة بثلاثة قروء إلا في هذا القسم، كما هو مصرح به في القرآن في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [وَلَا يَحِلُّ ¬

_ (¬1) مضى تخريجه وقوله: "أو أمرت" سقط من (ك) و (ق). (¬2) في "جامعه" (عقب رقم 1187) وفي (ك) و (ق): "وقال". (¬3) في (ك) و (ق): "أنها أمرت". (¬4) في (ق): "مجمل"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬5) (ص 83). (¬6) في المطبوع: "لم تبق". (¬7) في (ق) و (ك): "بذات".

[حكمة عدة المطلقة ثلاثا]

لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ] (¬1) إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، وكذا في سورة الطلاق لمّا ذكر الاعتداد بالأشهر الثلاثة في حق من إذا بلغت أجلها خُيِّر زوجها بين إمساك بمعروف أو مفارقتها بإحسان، وهي الرجعية قطعًا، فلم يذكر الأقراء أو بدلها (¬2) في حق بائنٍ البتَّة. القسم الثالث: من بانت عن زوجها وانقطع حقه عنها بسَبْيٍ (¬3) أو هجرة أو خُلع؛ فجعل عدتها حيضة للاستبراء، ولم يجعلها ثلاثًا؛ إذ لا رجعة للزوج، وهذا في غاية الظهور والمناسبة؛ وأما الزانية والموطوءة بشبهة فموجب الدليل أنها تستبرأ بحيضة فقط، ونص عليه أحمد في الزانية، واختاره شيخُنا في الموطوءة بشبهة (¬4) وهو الراجح، وقياسهما على المطلقة الرجعية من أبعد القياس وأفسده. فإن قيل: فهبْ أن هذا [قد] (¬5) سلم لكم فيما ذكرتم من الصور، [فإنه لا يُسلّم] (¬6) معكم في المطلقة ثلاثًا؛ فإن الإجماع منعقد على اعتدادها بثلاثة قروء مع انقطاع حق زوجها من الرجعة، والقصد مجرد استبراء رحمها. [حكمة عدة المطلقة ثلاثًا] قيل: نعم هذا سؤال وارد، وجوابه من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف في عدتها: هل هي بثلاثة قروء أو بقرْء واحد؟ فالجمهور -بل الذي لا يَعرفُ الناسُ سواه- أنها ثلاثة قروء، وعلى هذا فيكون وجهُه أن الطَّلقةَ الثالثة لما كانت من جنس الأُولتين (¬7) أُعطيت حكمهما؛ ليكون باب الطلاق كله بابًا واحدًا، فلا يختلف حكمه؛ والشارع إذا علَّق الحكمَ بوصفٍ لمصلحةٍ عامة لم يكن تخلف تلك المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعًا من ترتب الحكم، بل هذه قاعدةُ الشريعة وتصرفها في مصادرها ومواردها. الوجه الثاني: أن الشارع حرّمها عليه حتى تنكحَ زوجًا غيره، عقوبةً له، ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "إلى قوله". (¬2) في (ن): "أو بذلها". (¬3) في (ن) و (ق): "بسباء". (¬4) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/ 110، 111، 340)، و"تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لشبخ الإِسلام ابن تيمية" (2/ 847 - 850) للشيخ أحمد موافي. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ن): "فلم يسلم". (¬7) في المطبوع: "الأوليين".

[عدة المخيرة وحكمتها]

ولَعَن المحلِّل والمحلَّل له (¬1) لمناقضتهما ما قصده اللَّه سبحانه من عقوبته؛ وكان من تمام هذه العقوبة أن طوّل مدة تحريمها عليه؛ فكان ذلك أبلغ فيما قصده الشارع من العقوبة، فإنه إذا علم أنها لا تحلُّ له حتى تعتدَّ بثلاثة قروء، ثم يتزوجها آخر بنكاح رغبةٍ مقصودٍ لا تحليل [موجب للعنة] (¬2)، ويفارقها، وتعتد من فراقه ثلاثة قروء أُخر، طال عليه الانتظار، وعيل صبره، فأمسك عن الطلاق الثلاث، وهذا واقعٌ على وفق الحكمة والمصلحة والزَّجر؛ فكان التربُّص بثلاثة قروء في الرجعية نظرًا للزوج ومراعاةً لمصلحته لمَّا لم يُوقع الثالثَة المُحرَّمة لها (¬3) وهاهنا كان تربُّصُها عقوبةً له وزجرًا لما أوقعَ الطلاق المُحرِّم لما أحلَّ اللَّه له، وأكدت هذه العقوبة بتحريمها عليه إلا بعد زوج وإصابة وتربص [ثان] (¬4). وقيل: بل عدتها حيضة واحدة، وهي اختيار أبي الحُسين (¬5) بن اللَّبَّان؛ فإن كان مسبوقًا بالإجماع فالصواب اتباع الإجماع، وأن لا يلتفت إلى قوله، وإن لم يكن في المسألة إجماع فقوله قويٌّ ظاهر (¬6)، واللَّه أعلم. [عدة المخيرة وحكمتها] فإن قيل: فقد جاءت السنة بأن المُخيَّرة تعتد ثلاث حيض، كما رواه ابن ماجه من حديث عائشة قالت: أُمِرت بَرِيرةُ أنْ تعتدَّ ثلاث حيض (¬7). قيل: ما أصْرحه من حديث لو ثبت، ولكنه حديثٌ منكر بإسناد مشهور، وكيف يكون عند أم المؤمنين هذا الحديث وهي تقول: الأَقراءُ: الأطهار؟ فإن ¬

_ (¬1) الحديث صحيح عند أحمد وغيره، وسبق تخريجه. (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق) "يوجب اللعنة". (¬3) في (ن) و (ق): "المحرمة عليه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "أبو الحسن". (¬6) وهذا قول المصنف في "زاد المعاد" (5/ 673) ثم وجدته لابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (32/ 342) ونقله ولد المصنف برهان الدين إبراهيم في "المسائل الفقهية من اختيارات شيخ الإِسلام ابن تيمية" (ص 20 تحقيق أحمد موافي). (¬7) رواه ابن ماجه (2077) في (الطلاق): باب خيار الأمة إذا أعتقت، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (مسند عائشة) (2/ 247) رقم (206)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 451) من حديث عائشة وإسناده صحيح. ولكن فيه نكارة؛ كما سيبينه المصنف. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 357): هذا إسناد صحيح رجاله موثقون!! ووافقه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (2120).

[عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها]

صح الحديث وَجبَ القولُ به، ولم تَسُغْ (¬1) مخالفته، ويكون حكمه (¬2) حكم المطلقة ثلاثًا في اعتدادها بثلاثة قروء ولا رجعةَ لزوجها عليها؛ فإن الشارع يُخصِّص بَعْض الأعيانِ [والأفعالِ] (¬3) والأزمانِ والأماكن ببعض الأحكام، وإن لم يظهر لنا موجب التخصيص، فكيف وهو ظاهر في مسألة المُخيَّرة، فإنها لو جُعلت عدتها حيضة واحدة لبادرت إلى التزوج بعدها، وأَيس منها زوجها؟ فإذا جُعلت ثلاث حيض طال زَمنُ انتظارها وحبْسِها عن الأزواج، ولعلها تتذكر زوجها فيها وترغب في رجعته، ويزول ما عندها من الوحشة، ولو قيل: "إن اعتداد المختلعة بثلاث حيضٍ لهذا المعنى بعينه"؛ لكان حسنًا على وفق حكمة الشارع، ولكن هذا مفقود في المسبيّة والمهاجرة والزانية والموطوءة بشبهة. [عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها] فإن قيل: فهب أن هذا كله قد سلم لكم، فكيف يسلم لكم في الآيسة والصغيرة التي لا يوطأ مثلها؟ قيل هذا إنما يرد على مَنْ جعل علة العدة مجرد براءة الرحم فقط، ولهذا أجابوا عن هذا السؤال بأن العدة [ههنا] (¬4) شُرِعت تعبدًا محضًا غير معقول المعنى، وأما من جَعلَ هذا بعض مقاصد العِدَّة وأن لها مقاصد أُخر (¬5) من تكميل شأن هذا العقد واحترامه وإظهار خَطَرِه وشرفه فجعل لهم (¬6) حريم بعد انقطاعه بموت أو فُرقة، فلا فرق في ذلك بين الآيسة وغيرها, ولا بين الصغيرة والكبيرة، مع أن المعنى الذي طُوِّلت له العدة في الحائض في الرجعية والمطلقة ثلاثًا موجودٌ مصلحة الزوج في الطلاق الرجعي وعقوبته وزجره في الطلاق المحرَّم التسوية بين النساء في ذلك، هذا ظاهر جدًا، وباللَّه التوفيق. فصل [حكمة تحريم المرأة بعد الطلاق الثلاث] وأما تحريم المرأة على الزوج بعد الطلاق الثلاث وإباحتها [له] (¬7) بعد ¬

_ (¬1) تصحفت في المطبوع إلى: "تسع" بالعين المهملة. (¬2) في (ق) و (ك): "حكمها". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) في (ك): "أخرى". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "فجعل له". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك).

[حكمة جعل العدة ثلاثة قروء]

نكاحها للثاني فلا يَعْرف حكمَتَه إلا مَنْ له معرفة بأسرار الشريعة وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح الكلية؛ فنقول وباللَّه التوفيق: لما كان إباحةُ فرْج المرأة للرجل بعد تحريمه عليه ومَنْعه منه من أعظم نعم اللَّه عليه وإحسانه إليه كان جديرًا بشكر هذه النعمة، ومراعاتها، والقيام بحقوقها، وعدم تعريضها للزوال، وتنوعت الشرائع في ذلك بحسب المصالح التي علمها اللَّه في كل زمان ولكل أُمَّة، فجاءت شريعةُ التوراة بإباحتها له بعد الطلاق ما لم تتزوج، فإذا تزوجت حَرُمت عليه، ولم يبق له سبيل إليها؛ وفي ذلك من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى؛ فإن الزوج إذا علم أنه [إذا] (¬1) طلَّق المرأة وصار أمرها بيدها، وأن لها أن تَنْكحَ غيره، وأنها إذا نكحت غَيرَه حَرُمت عليه أبدًا، كان تمسُّكه بهذا أشد، وحذرُه من مفارقتها أعظم، وشريعةُ التوراة جاءت بحسب الأمة الموسويّة فيها من الشدة والإصر ما يناسب حالهم، ثم جاءت شريعةُ الإنجيلِ بالمنع من الطلاق بعد التزوج البتة، فإذا تزوج بامرأةٍ فليس له أن يُطلِّقها، ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمّدية التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلُّها وأفْضلها وأعلاها وأقْومُها بمصالح العباد في المعاش والمعاد بأحسن من ذلك كله وأكمله وأوفقه للعقل والمصلحة؛ فإنَّ اللَّه سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمَتَه، وأباح لها من الطَّيِّبات ما لم يُبحه لأمةٍ غيرها (¬2)، فأباح للرجل أن ينكح من أطايب النساء أربعًا، وأن يتسرَّى من الإماء بما شاء، وليس التسرِّي في شريعة [أخرى] (¬3) غيرها. [حكمة جعل العدة ثلاثة قروء] ثم أكمل لعبده شرْعه، وأتمَّ عليه نعمته، بأن ملَّكه أن يفارق امرأته ويأخذ غيرها؛ إذ لعل الأولى لا تصلح له ولا توافقه، فلم يجعلها غلَّا في عنقه، وقيْدًا في رجله، وإصرًا على ظهره، وشرع له فراقها على أكمل الوجوه [لها] (3) وله، بأن يفارقها واحدة ثم تتربَّص ثلاثة قروء، والغالب أنها في ثلاثة أشهر، فإن تاقتْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬2) انظر كلام ابن القيم حول شمولية الشريعة لأحكام المكلفين، وكمالها، وأنها محيطة بأحكام الحوادث في "مفتاح دار السعادة " (324 - 334)، و"مدارج السالكين" (2/ 458 - 459)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 5، 88، 90) و"اجتماع الجيوش الإِسلامية" (ص 3). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

نفسُه إليها، وكان له فيها رغبةً، وصرَّف مُقلِّبُ القلوب قلبه إلى محبتها (¬1)، وجد السبيل إلى ردها ممكنًا، والباب مفتوحًا، فراجع حبيبتَه، واستقبلَ أَمرَه، وعاد إلى يده ما أخرجته يدُ الغَضَبِ ونزغاتُ الشيطان [منها, ثم لا يُؤمِّن غلباتِ الطباع ونزغاتِ الشيطان] (¬2) من المعاودة، فمكّن من ذلك أيضًا مرة ثانية، ولعلها أن تذوقَ من مرارة الطلاق وخرابِ البيت ما يمنعُها من معاودة ما يغضبه، ويذوق هو من ألم فراقها ما يمنعه من التسرع إلى الطلاق، فإذا جاءت الثالثة جاء ما لا مردَّ له من أمر اللَّه سبحانه، وقيل له: قد اندفعت حاجتُك بالمرة الأولى والثانية، ولم يبق لك عليها بعد الثالثة سبيل، فإذا عَلمَ أن الثالثة فراق بينهِ وبينها وأنها القاضية أمسك عن إيقاعها؛ فإنه إذا علم أنها بعد الثالثة لا تحلُّ له إلا بعد تربُّصِ ثلاثة قروء وتزوَّج بزوجٍ راغب في نكاحها وإمساكها، وأن الأول لا سبيل له إليها حتى يدخل بها الثاني دخولًا كاملًا يذوقُ فيه كل واحد منهما عُسيلة صاحبه بحيث يمنعهما ذلك من تعجيل الفراق ثم يُفارقُها بموتٍ أو طلاقٍ أو خلعٍ ثم تعتدُّ من ذلك عدة كاملة تبين له حينئذ يأسه بهذا الطلاق الذي هو من أبغض الحلال إلى اللَّه، وعلم كل واحد منهما أنه لا سبيل له إلى العوْدِ بعد الثالثة (¬3)، لا باختياره ولا باختيارها، وأكد هذا المقصود بان لَعَنَ الزوج الثاني إذا لم ينكح نكاح رغبة يقصد فيه الإمساك، بل نكح نكاح تحليل، ولعن الزوج الأول إذا ردّها بهذا النكاح، بل ينكحها الثاني كما نكحها الأول، ويطلقها كما طلقها الأول، وحينئذٍ فتباح للأول كما تباح لغيره من الأزواج. وأنت إذا وازنت بين هذا (¬4) وبين الشريعتين المنسوختين، ووازنت بينه وبين الشريعة المبدلة المبيحة ما لعنَ اللَّه ورسولُهُ فاعلَه، تبين لك عظمة هذه الشريعة، وجلالتها، وهيمنتها على سائر الشرائع، وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها للخلق، وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدَّلة، فإن اللَّه سبحانه شرعها في وقت (¬5)، ولم يشرع المبدلة أصلًا. وهذه الدقائق ونحوها مما يختص اللَّه سبحانه بفهمه من يشاء؛ فمن وصل إليها فليحمد اللَّه، ومن لم يصل إليها فليسلِّم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "حبها". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ن): "لا سبيل له بالعود إلى هذه الثالثة". (¬4) في (ن): "إذا وزنت هذا". (¬5) في (ن): "في كل وقت"! وفي (ق): "شرعهما في وقت".

فصل [الحكمة في غسل أعضاء الوضوء]

وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء وفوق فِطَر الألِبّاء: وقيل للعيون الرُّمْد لا تتقدَّمي ... إلى الشَّمس، واستغشي ظلامَ اللَّياليا وسامحْ، ولا تُنكر عليها، وخَلِّها ... وإنْ أنكرت حقًا فقل خلِّ ذا ليا [غيره:] (¬1) عاب التفقُّه قومٌ لا عُقُول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضرَّ شمسُ الضُّحى والشَّمس طالعةٌ ... أن لا يرى ضَوءَها مَنْ ليس ذا بصرِ فصل [الحكمة في غسل أعضاء الوضوء] [وأما إيجابُه لغسل المواضع] (¬2) التي لم تخرج منها الريح، وإسقاطه غسْل الموضع الذي خرجت منه، فما أوفقه للحكمة، وما أشده مطابقة للفطرة (¬3)؛ فإن حاصل السؤال: لِمَ كان الوضوءُ في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة، مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين؟ وهذا سؤال معكوس، من قلبٍ منكوس؛ فإنَّ من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة، وكان أحقُّها به إمامَها ومُقدَّمَها في الذِّكر والفعل وهو الوجهُ الذي نظافتُه ووضاءتهُ عنوانٌ على نظافة القلب، وبعده اليدان (¬4)، وهما آلة البَطْش والتناول والأخذ، فهما أحقُّ الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه، ولمَّا كان الرأسُ مَجْمَعَ الحواس وأعلى البدن وأشرفه كان أحق بالنظافة، ولكن لو شُرع غسله في الوضوء لعظُمَت المشقة، واشتدت البلية، فشُرعَ مسحُ جميعه، وأقامه مقام غسله تخفيفًا ورحمة، كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين. ولعل قائلًا يقول: وما يجزئ مسحُ الرأس والرجلين من الغسل والنظافة؟ ولم يعلم هذا القائل أن إمساسَ العضوِ بالماء امتثالًا لأمر اللَّه وطاعة له وتعبدًا يؤثر في نظافته وطهارته ما لا يؤثر غسله بالماء والسِّدْر بدون هذه النية، والتحاكم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "وإما إيجاب الغسل في المواضع". (¬3) انظر كلام المصنف -رحمه اللَّه- في "بدائع الفوائد" (3/ 126). (¬4) في (ق) و (ك): "اليدين".

[ما يكفره الوضوء من الذنوب]

في هذا إلى الذوق السليم، والطبع المستقيم، كما أن مَعْك الوجه بالتراب امتثالًا للآمر وطاعةً وعبوديةً (¬1) تكسبه وضاءةً ونظافة وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين؛ ولما كانت الرِّجلان تَمسُّ الأرض غالبًا، وتباشر من الأدناس ما لا يباشره بقية الأعضاء كانت أحق بالغسل، ولم يُوفَق للفهم عن اللَّه ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل. فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس، وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله، وبها يُعصى اللَّه سبحانه ويُطاع؛ فاليد تبطش، والرجل تمشي، والعين تنظر، والأذن تسمع، واللسان يتكلم، فكان في غسل هذه الأعضاء -امتثالًا لأمر اللَّه، وإقامة لعبوديته- ما يقتضي إزالة ما لحقها (¬2) من دَرنِ المعصية ووسخِها. [ما يكفره الوضوء من الذنوب] وقد أشار صاحب الشرع -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هذا المعنى بعينه حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" عن عمرو بن عَبَسة قال: قلت: "يا رسول اللَّه! حَدثني عن الوُضوء، قال: "ما منكم من رجل يُقرِّبُ وضوءَه فيتمضمض ويستنشق فينثُر (¬3) إلا خرَّت (¬4) خطايا وَجْهه من أطرافِ لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المِرْفقين إلا خَرَّت (¬5) خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت (5) خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلَّى فحمد اللَّه وأثنى عليه ومجَّده بالذي هو أهلُه -أو هو له أهلٌ- وفرغ قلبه للَّه إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه" (¬6)، وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا توضأ العبدُ المسلمُ -أو المؤمن- فغسل وجْهَه خرج من ¬

_ (¬1) في (ن): "امتثالًا لأمره وطاعته وعبوديته". (¬2) في (ك) و (ق): "تحتها" وصححها في هامش (ق). (¬3) في (ك): "وينتثر" وسقطت من (ق). (¬4) في (ن) و (ق): "ويستنشق إلا خرجت". (¬5) في (ن): "إلا خرجت". (¬6) رواه مسلم (832) كتاب (صلاة المسافرين): باب إسلام عمرو بن عبسة، وانظر: "الطهور" لأبي عبيد (رقم 4، 13) فقد أسهبت في تخريج الحديث في تعليقي عليه.

وجهه كل خطيئة نَظَر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشَتْها رجلاه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيًا من الذنوب" (¬1)، وفي "مسند الإمام أحمد" عن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "رجُلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يُعالج نفسه إلى الطَّهور، وعليه عُقَد، فيتوضأ؛ فإذا توضأ يديه انحلت عقدةٌ، وإذا توَضَّأ وجهه انحلت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضَّأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يُعالج نَفسَه، ما سألني عبدي هذا فهو له" (¬2)، وفيه أيضًا عن أبي أمامة يرفعه: "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئته من كَفَّيه مع أول قطرةٍ، فإذا تمضمضَ واستنشق واستنثر نزلت خطيئتُه من لسانِه وشفَتَيْه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئتهُ من سَمْعِه وبصره مع أول قطرة، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سَلِم من كل ذنب هو له، ومن كل خطيئته كهيئتِه يومَ ولدتُه أمُّه، فإذا قام إلى الصلاة رفع اللَّه بها درجته، وإنْ قعد قعد سالمًا" (¬3) وفيه أن مقصود المضمضة كمقصود غسل الوجه واليدين سواء، وأن ¬

_ (¬1) رواه مسلم (244): كتاب (الطهارة): باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء. وانظر: "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام (رقم 12 - بتحقيقي) فقد أسهبت في تخريجه في تعليقي عليه، وللَّه الحمد. (¬2) رواه أحمد (4/ 201)، وابن حبان (1052 و 2555)، والروياني (237) من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن أبي عُشَانة عن عقبة بن عامر به. وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. ورواه أحمد (4/ 159)، والطبراني في "الكبير" (17/ 843) من طريق ابن لهيعة عن أبي عشانة به. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 224): "وله سندان، ورجال أحدهما رجال الصحيح"، وقال في (2/ 264): "وفيه ابن لهيعة وفيه كلام"!!. وانظر: "إتحاف المهرة" (11/ 188). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 263) بهذا اللفظ، من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة، وعزاه الهيثمي (1/ 222) للطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وقال: "وفي إسناد أحمد عبد الحميد بن بهرام عن شهر، واختُلف في الاحتجاج بهما، والصحيح أنهما ثقتان، ولا يقدح الكلام فيهما". ولم أجده في "المعجم الكبير" مطولًا هكذا بل هو فيه (7560 و 7562 - 7567 و 7569 - 7572) =

فصل [توبة المحارب]

حاجة اللسان والشفتين إلى الغسل كحاجة بقية الأعضاء؛ فَمَنْ أنكسُ قلبًا وأفسدُ فطرةً وأبطلُ قياسًا ممن يقول: إن غسل باطن المقعدة أولى من غسل هذه الأعضاء وإن الشارع فَرَّق بين المتماثلين؟ هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبد للَّه من انشراحِ القلبِ وقوَّته، واتساع الصدر، وفَرحِ النفس، ونشاطِ الأعضاء؛ فتميزت عن سائر الأعضاء بما أوجب غسلها دون غيرها، وباللَّه التوفيق. فصل [توبة المحارب] وأما اعتبار توبة المحارب قبل القُدرة عليه دون غيره فيقال: أين في نصوص الشارع هذا التفريق؟ بل نصه على اعتبارِ توبة المحارب قبل القدرة عليه إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريقِ الأَوْلى؛ فإنه إذا دُفعت توبته عند حد حِرابه مع شدةِ ضررها وتعديه فلأن تَدفع التوبةُ [ما دون حد] (¬1) الحِراب بطريق الأولى والأحرى (¬2)، وقد قال اللَّه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "التَّائب من الذَنْبِ كمن لا ذنبَ له" (¬3) ¬

_ = مختصرًا: "إذا توضأ الرجل المسلم خرجت خطاياه من سمعه وبصره ويديه ورجليه فإن قعد قعد مغفورًا له". ورواه هكذا مختصرًا: أحمد (5/ 252 و 256 و 264)، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 20، 21، 22)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (807)، والطبري (6/ 138). وكلها مدارها على شهر بن حوشب. وقد وجدت أحمد (5/ 255) يرويه من طريق أبي غالب، عن أبي أمامة موقوفًا مختصرًا، وأبو غالب الراسبي هذا ليس أحسن حالًا من شهر!. ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (1528) مطولًا لكن ليس بهذه السياقة من حديث أبي أمامة أيضًا. قال الهيثمي (1/ 222): "ورجاله رجال الصحيح". وتابع شهرًا: أبو الرصافة وأبو مسلم وأم هاشم؛ كما في "المسند" (5/ 254، 290، 263)، وعبد الرزاق (152)، فالحديث حسن. (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ن) بياض. (¬2) انظر: "مدارج السالكين" (1/ 365) وسيأتي بحث التوبة في عدة مواضع. (¬3) رواه ابن ماجه (4250) في (الزهد): باب ذكر التوبة، والطبراني في "الكبير" (10281)، والدارقطني في "علله" (5/ 297) (895)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 210)، والسهمي =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في "تاريخ جرجان" (674) (ص 399)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (108) (1/ 97)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 154)، والخطيب في "الموضح" (1/ 257) كلهم من طريق وهيب بن خالد عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة عن عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا. قال أبو نعيم: "غريب من حديث عبد الكريم لم يصله عن معمر إلا وهيب". وقال الدارقطني: "يرويه عن وهيب محمد بن عبد اللَّه الرقاشي، وغيره لا يرفعه". قلت: بل يرفعه معلى بن أسد: عند الطبراني، والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 200): وقال: ورجاله رجال الصحيح؛ إلا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. ولا أدري لماذا ذكره في "الزوائد" مع أنه في "سنن ابن ماجه" بلفظه! أقول: لكن رواه عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري عن زياد بن أبي مريم عن ابن مسعود موقوفًا، وفيه زيادة. رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 154) والخطيب في "الموضح" (1/ 257). وسأل ابن أبي حاتم في "العلل" عنه أباه (2/ 141) فقال: هذا خطأ إنما هو عبد الكريم عن زياد بن الجراح عن ابن معقل قال: دخلت مع أبي على ابن مسعود. ونحوه قال الدارقطني في "علله" (5/ 297) قال: وهو أصح من حديث أبي عبيدة، قاله ابن عيينة، والثوري وغيرهما عن عبد الكريم. أقول: والحديث المشار إليه هو حديث ابن مسعود: "الندم توبة" وقد اختلف في رفعه ووقفه؛ كما بيَّن الدارقطني في "علله"، ولا أدري لعل الخطأ من وهيب بن خالد فمع أنه من الثقات إلا أنه تغير قليلأ في آخر عمره، وقد خرَّجت حديث: "الندم توبة" في تعليقي على "تالي التلخيص" (1/ 97 - 98) للخطيب البغدادي، فانظره غير مأمور. وللحديث شواهد: أولًا: حديث أبي سعيد الأنصاري، رواه الطبراني في "الكبير" (22/ 775)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 398) من طريق يحيى بن أبي خالد عن ابن أبي سعيد عن أبيه مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 200): وفيه من لم أعرفهم. أقول: هكذا وقع عند الطبراني وأبي نعيم: أبو سعيد، وقد ترجمه ابن أبي حاتم: "أبو سعد"، وكذا ذكره الحافظ في "الإصابة": "أبو سعد". ثانيًا: حديث ابن عباس، رواه البيهقي في "الشعب" (7178)، وفي "الكبرى" (10/ 154) وابن عساكر في "التوبة" (رقم 9). قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (152): وسنده ضعيف، فيه من لا يعرف، وروي موقوفًا، قال المنذري: ولعله أشبه وهو الراجح. وقال الذهبي: إسناده مظلم، انظر: "تخريج أحاديث الإحياء" (5/ 2083). ثالثًا: حديث أنس بن مالك: رواه الديلمي (2251 - ط الريان)، والقشيري في =

واللَّه سبحانه جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم، ورفع العقوبة عن التائب شرعًا وقدرًا؛ فليس في [شرع اللَّه] (¬1) ولا في قَدَرِه عقوبةُ تائب ألبتَّة، وفي "الصحيحين" من حديث أنس قال: "كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء رجلٌ فقال: يا رسولَ اللَّه، إني أصبتُ حدًا فأقمه عليَّ. [قال] (¬2): ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلَّى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصلاةَ قام إليه الرجل فأعاد قوله، قال: أليس قد صَليتَ مَعَنَا؟ قال: نعم (¬3)، قال: "فإن اللَّه عز وجل قد غَفَرَ [لَكَ] (2) ذَنْبَكَ" (¬4) فهذا لما جاء تائبًا بنفسه من غير أن يُطلب غفر اللَّه له، ولم يُقم عليه الحد الذي اعترفَ به، وهو أحد القولين في المسألة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب (¬5). ¬

_ = "الرسالة" (ص 45). قال شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (2/ 82): هذا إسناد مظلم، من دون أنس لم أجد لأحد مهم ذكرًا في شيء من كتب التراجم. رابعًا: حديث أبي عتبة الخولاني: رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 154). وفيه عثمان بن عبد اللَّه الشامي، قال فيه ابن عدي: يروي الموضوعات عن الثقات. خامسًا: حديث عائشة، أخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 232) والبيهقي في "الشعب" (رقم 7040) -وقال: "تفرد به هذا النهرواني (أحمد بن عبد اللَّه) -وهو مجهول"- ضمن سياق طويل، وإسناده واه جدًا، فيه مجاهيل وعلي بن زيد بن جدعان. أقول: الحديث حَسَّنه بشواهده، ابن حجر؛ كما قال السخاوي في "المقاصد الحسنة"، وكذا شيخنا الألباني كما في "السلسلة الضعيفة". وإن كان في النفس من هذا شيء؛ فإن شواهد الحديث كلها واهية، والأوّل معلول، فلا يطمئن القلب لتحسينه، ويظهر أن هذا هو رأي البيهقي في "سننه"، وكانه أيضًا ما يميل إليه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 347) حيث يقول: وروي من أوجه ضعيفة بهذا اللفظ. واللَّه أعلم. وأصح ما ورد عن الشعبي قوله، أخرجه وكيع في "الزهد" (278)، وابن أبي الدنيا في "التوبة" (رقم 183) وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (رقم 1756)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 403 رقم 2123)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 318)، والبيهقي في "الشعب" (7196)، وعبد بن حميد -كما في "الدر المنثور" (1/ 261) -، وإسناده صحيح. (¬1) في (ك) و (ق): "شرعه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) "المشهور: أن يقول: بلى، ليثبت أنه صلى، أما نعم، فتنفي أنه صلى، وهو غير الواقع" (و). (¬4) رواه البخاري (6823) في (الحدود): باب إذا أقر بالحد ولم يبين، ومسلم في (التوبة) (2764) باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}. (¬5) انظر: "مدارج السالكين" (1/ 178 - 434، 3/ 435)، و"طريق الهجرتين" (417 - 451)،=

فإن قيل: فماعزٌ جاء تائبًا والغامدية جاءت تائبة، وأقام عليهما الحد. قيل: لا ريبَ أنهما جاءا تائبين، ولا ريب أن الحد أقيمَ عليهما، وبهذا (¬1) احتج أصحاب القول الآخر، وسألتُ شيخَنا (¬2) عن ذلك؛ فأجاب بما مضمونه بان الحد مُطهِّر، وإن التوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة (¬3)، وأبيا إلا أن يُطهرا بالحد، فأجابهما (¬4) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعزٍ: "هلَّا تركتموه يتوب فيتوب اللَّه عليه" (¬5) ولو تعيَّن الحدُّ بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مخيَّر بين ¬

_ = و"الداء والدواء" (ص: 11، 125، 214)، و"الوابل الصيب" (ص: 14، 16)، و"الحدود والتعزيرات" (ص: 71 - 85) للشيخ الفاضل بكر أبو زيد، و"سقوط العقوبات في الفقه الإسلامي" (2/ 141 - 157). (¬1) في المطبوع: "وبهما". (¬2) انظر: "الاختيارات الفقهية" (296). (¬3) في (ق) و (ك): "عن التطهير بالتوبة". (¬4) في (ق) و (ك): "فأجابه". (¬5) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 71)، و"المسند" (2/ 161 رقم 648)، وأحمد في "مسنده" (5/ 216 - 218)، وأبو داود (4419) في (الحدود): باب رجم ماعز، ومن طريقه ابن الأثير في "أسد الغابة" (573/ 4)، والنسائي في "سننه الكبرى" (7205) في (الحدود): باب: إذا اعترف بالزنا ثم رجع عنه، و (7274) في الستر على الزاني، والطحاوي في "مشكل الآثار" رقم 435)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (رقم 2393)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 363)، والبيهقي (8/ 330 - 331) كلهم من طريقي هشام بن سعد وزيد بن أسلم، كلاهما عن يزيد بن نعيم بن هَزَّال عن أبيه به. أقول: هذا إسناد رجاله روى لهم مسلم، غير نعيم بن هزال، وقد اختلف في صحبته، قال ابن حبان: له صحبة، وذكره ابن السكن في الصحابة، وظاهر صنيع أبي داود والحاكم إثبات الصحبة له، وذكره ابن أبي عاصم في الصحابة، أما ابن عبد البر فقال: إنه لا صحبة له، وإنما الصحبة لأبيه هَزَّال، وهو أولى بالصواب. ولم يرجح الحافظ ابن حجر شيًا، بشيء، وإنما قال: سيأتي حديثه في ترجمة هَزَّال. وقال في "التلخيص الحبير": إسناده حسن. ولم يجزم ابن عبد الهادي في "التنقيح" بشيء أيضًا -كما في "نصب الراية" (3/ 307)، وإنما قال: فإن لم يثبت صحبته؛ فالحديث مرسل. أقول: حديث هَزَّال الذي أشار إليه الحافظ هو في قصة ماعز، وليس فيه: "فهلا تركتموه" بل فيه: "يا هَزّال لو سترته بثوبك كان خيرًا لك"، وقد وقع في إسناده اختلاف ذكره النسائي في "سننه الكبرى" (3/ 306 - 307) ينظر فإنه هام. وقد روى أبو داود (4420)، والنسائي (7207) ما يدل على أن قوله في الحديث ". . . يتوب فيتوب اللَّه عليه" ليس من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما قال: "هلا تركتموه وجئتموني به" أي أراد أن يتثبت منه، وقال النسائي بعده: هذا الإسناد خير من الذي قبله. أي حديث نعيم بن هَزَّال. =

فصل [قبول رواية العبد دون شهادته]

أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به: "اذهب فقد غفر اللَّه لك" (¬1) وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لمَّا اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردَّهما النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مرارًا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما، وهذا المسلك وسط [بين] (¬2) مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة ألبتة، وبين مسلك من يقول: لا أَثَرَ للتوبة في إسقاطه ألبتة، وإذا تأملت السنة رأيتَها لا تدل إلا على هذا القول الوسط، واللَّه أعلم. فصل [قبول رواية العبد دون شهادته] وأما قوله: "وقبل شهادة العبد عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على واحد من الناس بأنه قال كذا وكذا"، فمضمون السؤال أن رواية العبد مقبولة دون شهادته. والجواب أنه لا يَلزم الشارع قول فقيه بعينه (¬3) ولا مذهب معين، وهذا المقام لا يَقضِ فيه إلا اللَّه ورسوله (¬4) فقط، وهذا السؤال كَذبٌ على الشارع؛ فإنه لم يأت عنه حرفٌ واحد أنه قال: لا تقبلوا شهادة العبد، بل ردوها، ولو كان عالمًا مفتيًا فقيهًا من أولياء اللَّه ومن أصدق الناس لهجة، بل الذي دل عليه كتابُ اللَّه وسنةُ رسوله وإجماع الصحابة والميزان العادل قبول شهادة العبد فيما تُقبل فيه شهادة الحر؛ فإنه من رجال المؤمنين فدخل في قوله تعالى: [{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] كما دخل في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وهو عدل بالنص والإجماع، فيدخل في قوله تعالى:] (¬5) {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] كما دخل في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَحملُ هذا العلمَ من كُلِّ خَلَفٍ عَدُوله" (¬6) ويدخل في قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وفي قوله: ¬

_ = ثم إن الحديث الثابت في رجم ماعز في "صحيح مسلم" (1695) من حديث بريدة، ليس فيه مثل هذا بل إنه رجمه، فالحديث في إسناده نظر، وفي متنه كذلك، واللَّه أعلم. (¬1) هو المتقدم قبل قليل. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "فقيه معين". (¬4) في المطبوع: "لا ينتصر فيه إلا اللَّه ورسوله"، وفي (ق) و (ك): "لا ينصر فيه إلا اللَّه ورسوله". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) ورد من حديث جماعة من الصحابة: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أولًا: عبد اللَّه بن عمر: رواه ابن عدي في "الكامل" (1/ 152) و (3/ 902)، وتمام في "فوائده" (80 - ترتيبه) من طريق خالد بن عمرو عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عنه. وخالد بن عمرو هذا اضطرب فيه. فرواه أيضًا عن الليث عن يزيد عن أبي قبيل عن عبد اللَّه بن عمرو وأبي هريرة. أخرجه البزار (143) "كشف الأستار"، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 9 - 10)، ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 59). قال البزار: "خالد بن عمرو منكر الحديث قد حَدّث بأحاديث لم يتابع عليها وهذا منها". وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي رواها خالد عن الليث عن يزيد بن أبي حبيب كلها باطلة، وعندي أن خالد بن عمرو وضعها على الليث. وخالد هذا كذبه غير واحد أيضًا. ثانيًا: أبو هريرة. رواه ابن عدي (1/ 153)، ومن طريقة الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (52) من طريق مسلمة بن علي عن عبد الرحمن بن يزيد السلمي عن علي بن مسلم البكري عن أبي صالح الأشعري عنه. وهذا إسناد ضعيف جدًا مسلمة متروك، وشيخه قريب منه. ورواه ابن عدي في "الكامل" (1/ 152) من طريق مروان الفزاري عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عنه. وأبو حازم لم يسمع فن أبي هريرة، وفي الرواة قبل مروان مَنْ لم أجد له ترجمة. ثالثًا: علي بن أبي طالب: رواه ابن عدي (1/ 152) عن شيخه محمد بن الأشعث عن موسى عن إسماعيل العلوي عن آبائه. ومحمد بن الأشعث هذا ترجمه ابن عدي نفسه في "الكامل" (6/ 2303 - 2304) وقال: "حمله شدة تشيعه إلى أن أخرج لنا نسخة قريبًا من ألف حديث عن موسى بن إسماعيل عن آبائه"، و"كان متهماَ في هذه النسخة ولم أجد له فيها أصلًا". رابعًا: أبو أمامة: رواه العقيلي (1/ 9)، وابن عدي (1/ 153) من طريق محمد بن عبد العزيز الرملي عن بقية عن زريق أبي عبد اللَّه الألهاني عن القاسم أبي عبد الرحمن عنه. وهذا إسناد ضعيف، محمد بن عبد العزيز هذا قال فيه أبو زرعة: ليس بالقوي، وقال أبو حاتم: عنده غرائب ولم يكن عندهم بالمحمود، وهو إلى الضعف ما هو، وبقية مشهور بالتدلبس عن الضعفاء والمتروكين وقد عنعن. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = خامسًا: عبد اللَّه بن مسعود. رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (54) من طريق أحمد بن يحيى بن زكير عن محمد بن ميمون بن كامل الحمراوي عن أبي صالح عن الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عنه. أحمد بن يحيى هذا قال فيه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف": "لم يكن أحمد هذا يُرضى في الحديث" وشيخه يظهر أن في اسمه قلب، حيث ذكرهُ العراقي في ذيله على "ميزان الاعتدال" في إسناد حديث في ترجمة ابن زُكير: محمد بن كامل بن ميمون، ثم نقل عن الدارقطني أنه قال فيه: ضعيف. وأبو صالح هو عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث في حفظه شيء. سادسًا: أسامة بن زيد: رواه الخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (53) من طريق محمد بن سليمان بن أبي كريمة عن معان بن رفاعة السلمي عن أبي عثمان النهدي عنه. وهذا إسناد ضعيف، محمد بن سليمان هذا ضعفه أبو حاتم، وقال العقيلي: روى عن هشام بواطيل، ومعان بن رفاعة هذا تكلم فيه غير واحد، وقد اضطرب فيه: فرواه من وجه آخر مرسلًا؛ كما يأتي. سابعًا: أبو الدرداء: روى حديثه الطحاوي في "مشكل الآثار" (3884) بنفس إسناد حديث أبي أمامة السابق، لكن جعله هنا من "مسند أبي الدرداء"، فلا أدري هل هناك وهم أم ماذا؟. ثامنًا: معاذ بن جبل: رواه الخطيب (14) من طريق زيد بن الحريش حدثنا عبد اللَّه بن خراش عن العوام بن حوشب عن شهب بن حوشب عنه. وعبد اللَّه بن خراش ضعيف، وأطلق عليه ابن عمار الكذب، وشهر ضعيف أيضًا. تاسعًا: جابر بن سمرة: رواه ابن الجوزي في "مقدمة الموضوعات" (1/ 31) من طريق سعيد بن سماك بن حرب عن أبيه عنه، وسعيد هذا قال فيه أبو حاتم: متروك الحديث. عاشرًا: مرسل إبراهيم بن عبد الرحمن العذري: أخرجه ابن أبي حاتم في "تقدمة الجرح والتعديل" (2/ 17)، وابن حبان في "الثقات" (4/ 10)، وابن عدي (1/ 153)، والخطيب (55)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 58 - 59 و 59)، والعقيلي (4/ 256)، من طرق عن مُعان بن رفاعة عنه. وهذا حديث مرسل، وقد رواه ابن عدي، والبيهقي من طريق الوليد بن مسلم حدثنا مُعان بن رفاعة حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن العذري حدثنا الثقة من أشياخنا قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . قال الإمام الذهبي: إبراهيم بن عبد الرحمن العذري: تابعي، مقل، ما علمته واهيًا، =

{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] وفي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} الآية [المائدة: 8]، كما دخل في جميع ما فيها من الأوامر، ويدخل في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنْ شَهِد ذَوا عَدْل فصوموا وأَفْطِرُوا" (¬1) وقال أنس بن مالك: ما علمت أحدًا رد شهادة العبد (¬2)، رواه الإمام أحمد عنه، وهذا أصح من غالب الإجماعات التي يدَّعيها المتأخرون؛ فالشهادة على الشارع بأنه أبطل شهادة العبد وردّها شهادةٌ بلا علم، ولم يأمر اللَّه برد شهادة صادق أبدًا، وإنما أمر بالتثبت في شهادة الفاسق (¬3). ¬

_ = أرسل حديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله"، رواه غير واحد عن معان بن رفاعة عنه، ومعان ليس بعمدة، ولا سيما أنه أتى بواحد لا يُدرى من هو. وقد روى الخطيب (56) عن مهنا بن يحيى أنه سأل الإمام أحمد عن هذا الحديث: كأنه موضوع. فقال الإمام: لا هو صحيح. وقد صححه الإمام أحمد لحسن ظنه بمعان بن رفاعة حيث قال: لا بأس به. وقد رد تصحيح أحمد للحديث غير واحد: منهم ابن القطان الفاسي حيث نقل عنه الحافظ العراقي في "التقييد والإيضاح" أنه قال: وقد رُوي هذا الحديث متصلًا من رواية جماعة من الصحابة، وكلها ضعيفة لا يثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوي المرسل المذكور. وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (1/ 346 - 347 و 3/ 37 - 41). وقال العقيلي: وقد رواه قوم مرفوعًا من جهة لا تثبت. وضعفه أيضًا الدارقطني وابن عبد البر. (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 321)، والنسائي في "سننه" (4/ 132 - 133)، والدارقطني (167/ 2 - 168) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 315 رقم 1258 - ط قلعجي) - وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ 3150 رقم 7252) من طرق عن الحسين بن الحارث عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وعند أحمد: فإن شهد شاهدان مسلمان. ورجاله ثقات، وعد الرحمن بن زيد هذا ولد في حياة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) لم أجد هذا في "المسند"، وفي "صحيح البخاري" في (الشهادات): باب شهادة الإماء والعبيد قبل حديث (2659)، وقال أنس: "شهادة العبد جائزة إذا كان عدلًا". وهذا وصله ابن أبي شيبة (6/ 77): حدثنا حفص بن غياث عن المختار بن فلفل قال: سألت أنسًا. . .، وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وانظر: "تغليق التعليق" (3/ 388 - 389). (¬3) مضى الكلام عليها، وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 181 - 187)، و"بدائع الفوائد" (1/ 5). و"الإشراف" (4/ 557 رقم 1821) وتعليقي عليه.

فصل [صدقة السائمة وإسقاطها عن العوامل]

فصل [صدقة السائمة وإسقاطها عن العوامل] وأما إيجاب الشارع الصَّدقة في السائمة وإسقاطها عن العوامل فقد اختلف في هذه المسألة؛ للاختلاف في الحديث الوارد فيها، وفي الباب حديثان: أحدهما: حديثَ عَمرو بنِ شُعيبٍ عن أبيه عن جده يرفعه: "ليس في الإبلِ العَواملِ صدقةٌ" (¬1)، رواه الدارقطني من حديث غالب بن عُبيد اللَّه عن عمرو. والثاني: حديث علي بن أبي طالب مرفوعًا: "ليس في البَقَرِ العواملِ شيءٌ" (¬2) رواه أبو داود: ثَنا النُّفَيْليُّ: ثَنَا زهيرٌ: ثنا أبو إسحاق، عن عاصم بن ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل" (6/ 2035)، والدارقطني (2/ 103)، والبيهقي (4/ 116) من طريق غالب القطان عن عمرو بن شعيب به. أما ابن عدي فقال: غالب القطان، وهو غالب بن خُطّاف. وأما الدارقطني فقال: هو غالب بن عبيد اللَّه، وهو الجزري. والصواب مع الدارقطني، ويظهر أن ابن عدي خلط بين الرجلين فلم يتميز له هذا من هذا فضعف الاثنين، مع أن غالب بن خطاف وثقه أحمد وابن معين والنسائي وابن سعد وابن حبان؛ لذلك قال الذهبي: لعل الذي ضعفه ابن عدي غالب آخر. وغالب بن عبيد اللَّه هذا ضعفه ابن المديني وابن سعد والعقيلي وابن معين والساجي والنسائي وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 1915). (¬2) هو جزء من حديث طويل: رواه أبو داود (1572) في (الزكاة): باب في زكاة السائمة، ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (4/ 93 - 94، 99، 106) من طريق النفيلي. قال البيهقي (4/ 116) رواه النفيلي عن زهير بالشك في وقفه أو رفعه، ورواه أبو بدر عن زهير مرفوعًا ورواه غير زهير عن أبي إسحاق مرقوفًا. أقول: رواية أبي بدر المرفوعة هذه، رواها الدارقطني (2/ 103)، والبيهقي في "سننه" (4/ 116). لكن أبو بدر عنده أوهام، ولذلك رجح الدارقطني في "علله" (4/ 75) الوقف، وأخرجه موقوفًا عن علي: ابن أبي شيبة (3/ 130)، وأبو عبيد (470)، وابن زنجويه (1473) كلاهما في "الأموال"، والدارقطني (2/ 103)، والبيهقي (4/ 116) ونقل ابن حجر في "التلخيص" (2/ 157) عن ابن القطان أنه صححه على قاعدته في توثيق عاصم بن ضمرة، وعدم التعليل بالوقف والرفع. وانظر: "بيان الوهم والايهام" (5/ 285 رقم 2473). وله شاهد من حديث ابن عباس: رواه ابن عدي (3/ 1293)، والدارقطني (2/ 103) ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 83 - 84 رقم 1124). وفيه سوار بن مصعب، وهو ضعيف جدًا، قال فيه البخاري: منكر الحديث. وفيه ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف أيضًا. وورد عن جابر موقوفًا: رواه ابن أبي شيبة (3/ 131)، وعبد الرزاق (4/ 19)، =

ضمرة وعن الحارث، عن علي قال زُهير: أَحْسبه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس على العواملِ شيءٌ" قال أبو داود: ورَوى حديثَ النُّفيليِّ شعبةُ وسفيانُ وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرة عن علي لم يرفعوه، ورواه نُعيم بن حَمَّاد: ثنا أبو بكر بن عَيَّاش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة، عن علي موقوفًا: "ليس في الإبلِ العواملِ، ولا في البقر العوامل صدقة" (¬1). ورواه الدارقطني من حديث صَقْر بن حَبيب: سمعت أبا رجاء، عن ابن عباس، عن علي مرفوعًا (¬2)، قال ابنُ حبَّان (¬3): "ليس هو من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما يُعرف بإسناد منقطع يقلبه (¬4) الصقر عن أبي رجاء، وهو يأتي بالمقلوبات"، وروي من حديث جابر وابن عباس مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أشبه (¬5). وبعد فللعلماء في المسألة قولان: فقال مالك في "الموطأ" (¬6): النَّواضِحُ والبقر السّواني (¬7) وبقر الحرث إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله الزكاة (¬8) إذا وجبت فيه (¬9) الصدقة، قال ابنُ عبد البر (¬10): "وهذا قول الليث بن سعد (¬11)، ولا أعلم أحدًا قال به من فقهاء الأمصار غيرهما. ¬

_ = والدارقطني (2/ 103)، وأبو عبيد (471)، وابن زنجويه (رقم 1476) كلاهما في "الأموال"، وابن خزيمة (4/ 20)، والبيهقي (4/ 116)، وإسناده صحيح. وقد روي مرفوعًا كما قال البيهقي، وفي إسناده ضعف. وانظر: "نصب الراية" (2/ 360) و"تهذيب السنن" (2/ 188) للمصنف. (¬1) مضى تخريجه فيما مضى قبله. (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 94)، وفي "المؤتلف والمختلف" (1182) -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 822) - من طريق صقر بن حبيب -وهو ضعيف- به، انظر: "التلخيص الحبير" (2/ 157). (¬3) نقله عنه ابن الجوزي أيضًا. (¬4) في المطبوع: "نقله". (¬5) مضى تخريج ذلك قريبًا. (¬6) (1/ 262)، (كتاب الزكاة): باب ما جاء في صدقة البقر. وانظر: "الإشراف" (2/ 124) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. وفي (ق): "في موطئه"، وفي (ك): "موطآته". (¬7) "النواضح جمع ناضح: الإبل التي يُستقى عليها، والسواني جمع سانية: الناقة التي يُستقى عليها" (و). (¬8) في (ن): "يؤخذ من المجموع الزكاة". (¬9) في (ك) و (ق): "فيها". (¬10) في "الا ستذكار" (9/ 170 - 171). (¬11) انظر: "الأموال" (ص 471) لأبي عبيد، و (2/ 848) لابن زنجويه، و"مختصر اختلاف =

وقال الثوري (¬1) وأبو حنيفةَ وأصحابه (¬2)، والشافعيُّ وأصحابُه (¬3)، والأوزاعي (¬4)، وأبو ثور (¬5)، وأحمد (¬6)، وأبو عبيد (¬7)، وإسحاق، وداود: لا زكاة في البقرِ العواملِ، ولا الإبلِ العوامل، وإنما الزكاة في السائمة منها، ورُوي قولهم ذلك عن طائفة من الصحابة منهم علي، وجابر، ومعاذ بن جبل (¬8). وكتب عمر بن عبد العزيز أنه ليس في البقر العوامل صدقة (¬9) ". وحُجَّة هؤلاء مع الأثر النظر؛ فإنَّ ما كان من المال معدٌّ (¬10) لنفع صاحبه به ¬

_ = العلماء" (1/ 441) للجصاص، وهذا مذهب مكحول أيضًا، قاله الشاشي في "حلية العلماء" (3/ 22). (¬1) المرجع السابق. (¬2) انظر: "الأصل" (2/ 11)، "تبيين الحقائق" (1/ 268)، "البحر الرائق" (2/ 234)، "رمز الحقائق" (1/ 71)، "خزانة الفقه" (1/ 130)، "العناية" (2/ 193)، "الخراج" لأبي يوسف (200). (¬3) انظر: "الأم" (2/ 5، 23)، "مختصر المزني" (ص 45)، "التنبيه" (38)، "تصحيح التنبيه" (1/ 191)، "تذكرة التنبيه" (رقم 248)، "المجموع" (5/ 303)، "روضة الطالبين" (2/ 191)، "شرح النووي" (5/ 360)، "الغاية القصوى" (1/ 375 - 376)، "فتح الوهاب" (1/ 105)، "مغني المحتاج" (1/ 379 - 380). (¬4) انظر: "مختصر اختلاف العلماء" (1/ 411). (¬5) انظر: "فقه الإمام أبي ثور" (ص 287) ونقل مذهبه العيني في "عمدة القاري" (7/ 273). (¬6) انظر: "المغني" (2/ 477)، "الإنصاف" (3/ 45). (¬7) انظر: "الأموال" له (ص 471 - 472). (¬8) قول علي: رواه عبد الرزاق (6829)، وابن أبي شيبة (3/ 23)، وأبو عبيد (470) وابن زنجويه (1473) كلاهما في "الأموال"، والدارقطني (2/ 103)، والبيهقي (4/ 116)، وعلقه أبو داود في "سننه" (1574) من طرق عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة به. وصححوا جميعًا وقفه. وقول جابر: رواه ابن أبي شيبة (3/ 131)، وعبد الرزاق (4/ 19)، والدارقطني (2/ 103)، وأبو عبيد (471)، وابن زنجويه (1476) كلاهما في "الأموال"، وابن خزيمة (4/ 20)، والبيهقي (4/ 116، 117) من طريقين عن أبي الزبير عن جابر. وصرح أبو الزبير بالسماع من جابر، وقال البيهقي: إسناده صحيح. وقول معاذ: رواه ابن أبي شيبة (3/ 23) من طريق ليث بن أبي سُليم عن طاوس عنه، وليث ضعيف. (¬9) أخرجه أبو عبيد (470)، وابن أبي شيبة (3/ 103، 131)، وابن زنجويه (1450، 1483)، وابن حزم في "المحلى" (6/ 46). (¬10) في (د): "معدًا".

فصل [حكمة الله في الفرق بين الحرة والأمة في تحصين الرجال]

كثياب بذلته وعَبيد خدمته وداره التي يسكنها ودابته التي يركبها وكتبه التي ينتفع بها وينفع [غيره] (¬1)؛ فليس فيها زكاة؛ ولهذا لم يكن في حلي المرأة التي تلبسه وتعيره زكاة (¬2)، فطَرْد هذا أنه لا زكاة في بقر حرْثه ولا إبلِه (¬3) التي يعمل فيها بالدولاب وغيره؛ فهذا محض القياس، كما أنه موجب النصوص؛ والفرق بينها وبين السائمة ظاهر؛ فإن هذه مصروفة عن جهة النماء إلى العمل؛ فهي كالثياب والعبيد والدار، واللَّه تعالى أعلم (¬4). فصل [حكمة اللَّه في الفرق بين الحرة والأمة في تحصين الرجال] وأما قوله: "وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصِّن الرجلَ، والأمة البارعة الجمال لا تحصنه" فتعبير سيء عن معنًى صحيح؛ فإن حكمة الشارع اقتضت وجوب حد الزنا على من كملت عليه نعمةُ اللَّه بالحَلَال، فتخطّاه إلى الحرام، ولهذا لم يوجب كمال الحد على من لم يحصن، واعتبر للإحصان أكمل أحواله، وهو أن يتزوج بالحرة التي يرغب الناس في مثلها، دون الأمة التي لم يبح اللَّه نكاحها إلا عند الضرورة، فالنعمة بها ليست كاملة، ودون التسرِّي الذي هو في الرتبة دون النكاح؛ فإن الأمة ولو كانت ما عسى أن تكون لا تبلغ رتبة الزوجة، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) قرار المصنف -رحمه اللَّه- أنه لا زكاة في الحلي، وأنه القول الراجح في "الطرق الحكمية" (ص 301)، و"البدائع" (3/ 143)، وانظر في المسألة: "المحلى" (6/ 80)، "الأموال" (ص 446) لأبي عبيد، و (2/ 975 - 978) لابن زنجويه، "المصنف" لعبد الرزاق (4/ 83 - 85)، و (3/ 154) لابن أبي شيبة، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (25/ 16، 17)، "اختلاف العلماء" (103) لابن نصر، "معالم السنن" (2/ 176)، "أضواء البيان" (2/ 448 - 450)، "الشرح الممتع" (6/ 129 - 138)، وتعليقي على "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 162 - 164). وانظر: "الترجيح في مسائل الصوم والزكاة" (124 - 131) لبازمول، "تمام المنة" (361 - 362). وألف غير واحدٍ من المعاصرين في المسألة، منهم: إبراهيم الصبيحي صنف "فقه زكاة الحلي"، وعبد اللَّه البسام ألف "القول الجلي في زكاة الحلي"، وحمد الحماد ألف "أقوى القولين في زكاة الحلي من النقدين"، وهي مطبوعة، وقرروا فيها عدم وجوب الزكاة في الحلي. (¬3) في (د): "وإبله". (¬4) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (25/ 35 - 48).

فصل [الحكمة في نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره من الأعضاء]

لا شرعًا ولا عرفاَ ولا عادةً، بل قد جعل اللَّه لكلٍ منهما رتبة، والأمة لا تُراد لما تُراد له الزوجة، ولهذا كان له أن يملكَ من لا يجوز له نكاحها (¬1)، ولا قسم عليه في ملك يمينه، فأمتُه تَجري في الابتذال والامتهان والاستخدام مَجْرى دابته وغلامه، بخلاف الحرائر، وكان من محاسن الشريعة أن اعتبرت في كمال النّعمة على مَنْ يجب عليه الحَدُّ أن يكون قد عقد على حرة ودخل بها (¬2)؛ إذ بذلك يَقضي كمال وطره، ويُعطي شهوته حقها، ويضعها مواضعها، هذا هو الأصل ومنشأ الحكمة، ولا يعتبر ذلك في كل فرد فردٍ من (¬3) أفراد المُحصنين، ولا يضر تخلفه في كثير من المواضع؛ إذ شأن الشرائع الكلية (¬4) أن تراعي الأمور العامة المنضبطة، ولا ينقُضها تخلُّف الحكمة في أفراد الصور، كما هذا شأن الخلق فهو موجب حكمة اللَّه في خلقه وأمره في قضائه وشرعه، وباللَّه التوفيق (¬5). فصل [الحكمة في نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره من الأعضاء] وأما قوله: "ونقضُ (¬6) الوُضوءِ بمس الذِّكَر دون سائر الأعضاء، ودون مس العَذْرة والبول" فلا ريب أنه قد صحَّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأمر بالوضوء من مس الذكر (¬7)، ورُوي عنه خلافُه، وأنه سُئل عنه فقال للسائل: "هل هو إلا بضعةٌ ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "نكاحه". (¬2) في اشتراط الدخول خلاف، ويبنى على المعنى الغالب على (الزواج): هل هو العقد أم الوطء؟ (¬3) في (ق) و (ك): "في كل فرد من". (¬4) في (ن) و (ق) و (ك): "الشرائع الجلية"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬5) انظر في المسألة: "الموطأ" (2/ 819)، "المعونة" (3/ 1373)، "مختصر اختلاف العلماء" (3/ 279)، "الإشراف" (4/ 196 رقم 1552 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب، "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 304)، "الحدود والتعزيرات" (ص 117 - 118)، "النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود" (2/ 32). (¬6) في (ك) و (ق): "نقض" دون واو. (¬7) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 42) في (الطهارة)، والشافعي في "مسنده" (1/ 34)، وأبو داود (181) في (الطهارة): باب الوضوء من مس الذكر -ومن طريقه ابن عبد البر (17/ 386) -، والترمذي (82) و (83) و (84) في (الطهارة): باب الوضوء من مس الذكر، والنسائي (1/ 100) في (الطهارة): باب الوضوء من مس الذكر، و (1/ 216) في (الغسل والتيمم)، و"الكبرى" (157)، وابن ماجه (479)، والحميدي (352)، والطيالسي =

منك" (¬1) وقد قيل: إن هذا الخبر لم يصح، وقيل: بل هو منسوخ، وقيل: بل هو محكم دال على عدم الوجوب، وحديث الأمر دال على الاستحباب؛ فهذه ثلاثة مسالك للناس في ذلك (¬2). ¬

_ = (1657)، وأحمد (6/ 406 و 407)، والدارمي (1/ 185)، وابن الجارود (16)، والطبراني (24/ 487 - 504) وغيرهم كثير من حديث بُسرة بنت صفوان. وصححه الترمذي ونقل عن البخاري أنه قال: أصح شيء في الباب، وصححه ابن معين وابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم وانظر -مفصلًا- "الخلافيات" (2/ 223 - 243) -فقد كاد أن يستوعب طرقه وخرجتها في التعليق عليه وللَّه الحمد-. (¬1) رواه أحمد (4/ 23)، والطيالسي (1596)، وأبو داود (182) في (الطهارة): باب الرخصة في ذلك، والترمذي (85) في (الطهارة): باب ما جاء في ترك الوضوء من مس الذكر، والنسائي (1/ 101) في (الطهارة): باب ترك الوضوء من ذلك، وابن ماجه (483) في (الطهارة): باب الرخصة في ذلك، وابن المنذر في "الأوسط" (101)، وعنه ابن حبان (1121)، والطبراني (8233) و (8234)، والطحاوي (1/ 75 - 76)، وابن عدي (1/ 344)، وابن شاهين (102)، والحازمي (68) كلاهما في "الناسخ"، والدارقطني (1/ 148 و 149)، والبيهقي (1/ 134) وفي "المعرفة" (207) و"الخلافيات" (562، 563، 564، 567، 568 - بتحقيقي) من حديث طلق بن علي. وصححه عمرو بن علي الفلاس، وابن المديني والطحاوي والطبراني وابن حبان وابن حزم، وانظر مفصلًا تعليقي على "الخلافيات" (2/ 285 وما بعد)، و"التلخيص الحبير" (1/ 125). (¬2) ترجيح وجوب الوضوء من مسِّ الذّكر، بناءً على تصحيح حديث بُسْرة، وتضعيف حديث طلق، وهذا مسلك البيهقي في "الخلافيات"، وهو على نقيض صنيع الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 71 - 79) ثم أخذ كلٌّ منهما يذكر الآثار التي تدعم قوله، ونحا ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 205) إلى عدم وجوب الوضوء، إلا أنه قال: "إذا لم يثبت حديث بُسْرَة، فالنَّظر يدلُّ على أن الوضوء من مسِّ الذَّكر غير واجب، ولو توضأَ من مسِّ الذَّكر احتياطًا؛ كان ذلك حسنًا، وإِنْ لم يفعل فلا شيء عليه". بينما ذهب ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 205) إلى تصحيح الحديثين، وأوجب الوضوء من مسِّ الذَّكر، إِنْ كان بقصد وعمد، فقال: "النَّظر -عندي- في هذا الباب: أَنَّ الوضوء لا يجب إلا على من مسَّ ذكره أو فرجه قاصدًا مفضيًا، وأما غير ذلك -منه أو من غيره- فلا يوجب في الظاهر، والأصل أَنَّ الوضوء المجمع عليه لا ينقض إلا بإجماع أو سُنَّةٍ ثابتةٍ غير محتملة التأويل، فلا عيب على القائل بقول الكوفيين؛ لأن إيجابه عن الصحابة لهم فيه ما تقدّم ذكره، وباللَّه التوفيق". وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- بين الأحاديث الواردة في هذا الباب بقوله في "مجموع الفتاوى" (21/ 241): "والأَظهر أيضًا أنَّ الوضوء من مسّ الذَّكر =

فصل [الحكمة في إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر]

وسؤالُ السائلِ ينبني على صحة حديث الأمر (¬1) بالوضوء منه وأنه للوجوب، ونحن نجيبه على هذا التقدير، فنقول: هذا من كمال الشريعة وتمام محاسنها، فإن مَسَّ الذكر مُذكِّرٌ بالوطء، وهو في مظنة الانتشار [غالبًا، والانتشار] (¬2) الصادر عن المس (¬3) في مظنة خروج المذيّ (¬4) ولا يشعر به؛ فأُقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائِها وكثرةِ وجودها، كما أقيم النوم مقامِ الحدث، وكما أقيم لمس المرأة [بشهوة] (¬5) مقام الحدث (¬6). وأيضًا فإن مس الذَّكر يوجب انتشار حرارة الشهوة وثورانها في البدن، والوضوء يُطفيء [تلك] (¬7) الحرارة، وهذا مشاهدٌ بالحس، ولم يكن الوضوء من مسه لكونه نجسًا، ولا لكونه مَجْرى النجاسة حتى يُورد السائلُ مس العذرة والبول، ودعواه مساواة (¬8) مس الذكر للأنف من أكذب الدعاوى وأبطل القياس، وباللَّه التوفيق (¬9). فصل [الحكمة في إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر] وأما قوله: "أوجب الحدَّ في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول" فهذا أيضًا من كمال [هذه] (¬10) الشريعة، ومطابقتها للعقول والفِطر، ¬

_ = مستحب لا واجب، وهكذا صرح به الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه، وبهذا تجتمع الأحاديث والآثار بحمل الأمر به على الاستحباب، ليس فيه نسخ قوله: "وهل هو إلا بضعة منك؟ " وحمل الأمر على الاستحباب أولى من النسخ". قال أبو عبيدة -عفى اللَّه عنه-: وبما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية أخذٌ بالأحاديث والآثار كلها، والعمل بها جميعًا خير من إهمال بعضها، ولعدم ورود رواية صحيحة تدل على النسخ، واللَّه أعلم. (¬1) في (ق): "الحديث بالأمر". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬3) في (ق) و (ك): "المني"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "المذي". (¬4) في (ك): "المني". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬6) انظر تفصيل المسألة وأدلتها في "الخلافيات" (2/ 223 - 310) مع تعليقي عليه. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬8) في (د) و (ك): "بمساواة". (¬9) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 133 - 135، 3/ 248) للمصنف -رحمه اللَّه-. (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (د).

فصل [الحكمة في قصر الزوجات على أربع دون السريات]

وقيامها بالمصالح؛ فإن ما جعل اللَّه سبحانه في طِباعِ الخلقِ النفرة عنه ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع (¬1) عنه بالحدِّ؛ لأنَّ الوازع الطبيعي كاف في المنع منه، وأما ما يشتد (¬2) تقاضي الطباع له فإنَّه غلّظ العقوبةَ عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له، وسد الذريعة إليه من قرب وبعد، وجعل ما حوله حمًى، ومنع من قربانه، ولهذا عاقب في الزنا بأشنع القتلات، وفي السّرقة بإبانة اليد، وفي الخمر بتوسيع الجلد ضربًا بالسوط، ومنع [من] (¬3) قليل الخمر وإن كان لا يُسكر إذ قليله داع إلى كثيره؛ ولهذا كان مَنْ أباح من نبيذِ التَّمر المُسْكر القدْر الذي لا يُسكر خارجًا عن محض القياس والحكمة وموجب النصوص، وأيضًا فالمفسدة التي في شرب الخمر والضرر المختص والمتعدي أضعاف الضرر والمفسدة التي في شرب البول وأكل القاذورات، فإن ضررها مختصٌ بمتناولها (¬4). فصل [الحكمة في قصر الزوجات على أربع دون السريات] وأما قوله: "وقصر عدد المنكوحات على أربع، وأباح ملك اليمين بغير حصر" فهذا من تمام نعمته وكمال شريعته، وموافقتها للحكمة والرحمة (¬5) والمصلحة، فإن النكاح يُراد للوطء وقضاء الوطر، ثم من الناس من يغلب عليه سلطان هذه الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة، فأطلق له ثانيةً وثالثةً ورابعة، وكان هذا العدد موافقًا لعدد طباعه وأركانه، وعدد فُصول سَنَته، ولرجوعه (¬6) إلى [الواحدة بعد] (¬7) صبرِ ثلاث عنها، والثلاثُ أوَّلُ مراتب الجمع وقد عَلَّق الشارع بها عدة أحكام، ورخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثًا (¬8)، وأباح ¬

_ (¬1) "وزعته كوضع كففته، فاتزع هو أي كف، والوازع: الكلب، والزاجر والوزعة جمع وازع، وهم الولاة المانعون من محارم اللَّه تعالى". اهـ القاموس (ح). (¬2) في (ن): "يستدعي". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (د) و (ك). (¬4) انظر كلام المصنف في "تهذيب السنن" (1/ 162، 361، 362، 376)، و"زاد المعاد" (3/ 30، 141)، و"بدائع الفوائد" (3/ 140)، وانظر: "الحدود والتعزيرات" (ص 272 - 291) للشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬5) في (ك): "وللرحمة". (¬6) في (ن) و (ق) و (ك): "والرجوع". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "الوحدة بغير". (¬8) رواه البخاري (3933) في (مناقب الأنصار)، ومسلم (1353) في (الحج)، من حديث العلاء الحضرمي، وسقطت "بمكة" من (ق).

للمسافر أن يمسَحَ على خُفَيْه ثلاثًا (¬1)، وجعل حد الضيافة المُستحبَّة أو الواجبة (¬2) ثلاثًا (¬3)، وأباح للمرأة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثًا (¬4)، فرَحِمَ الضّرّة بأن جعل غاية انقطاع زوجها عنها ثلاثًا ثم يعود؛ فهذا محض الرحمة والحكمة والمصلحة، وأما الإماء فلما كُنَّ بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرهما لم يكن لقصر المالك على أربعة منهن أو غيرها من العدد معنًى؛ فكما ليس في حكمة اللَّه ورحمته أن يقصرَ السَّيِّد على أربعة عبيدٍ أو أربع دواب وثياب ونحوها، فليس في حكمته أن يقصره على أربع إماء، وأيضًا فللزوجة حَقٌّ على الزوج اقتضاه عقد النكاحِ يجب على الزوج القيام به، فإن شاركها غيرها وجبَ عليه العدل بينهما؛ فقَصرَ الأزواج على عدد يكون العدل فيه أقرب مما زاد عليه، ومع هذا فلا ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في "السنن" كتاب الطهارة وسننها، باب ما جاء في التوقيت في المسح للمقيم والمسافر، 1/ 184 رقم (556)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 179)، والشافعي في "المسند" (ص 17 و 1/ 32 - مع "بدائع المنن")، وفي "الأم" (1/ 34)، ومن طريقه البيهقي في "المعرفة" (2/ 1994)، وفي "بيان خطأ من أخطأ على الشافعي" (ص 136، ط دعيس)، والأثرم في "سننه" -كما في "التعليق المغني" (1/ 204)، و"تنقيح التحقيق" (1/ 526) -، وابن خزيمة في "الصحيح" (1/ 96 رقم 192)، ومن طريقه الدارقطني في "السنن" (1/ 204)، والبيهقي في "الخلافيات (3/ 244 رقم 995 بتحقيقي)، وفي "السنن الكبرى" (1/ 281)، وفي "المعرفة" (2/ 109 رقم 1997)، وابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 211 رقم 242)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 87)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 82)، والدارقطني في "السنن" (1/ 194)، وابن حبان في "الصحيح" (4/ 153، 154/ رقم 1324، الإحسان)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 281)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 460 رقم 237)؛ من حديث أبي بكرة. وإسناده حسن من أجل المهاجر بن مخلد، قال ابن معين: "صالح"، وقال الساجي: "صدوق". وليَّنه أبو حاتم. انظر: "الجرح والتعديل" (4/ 1/ 262)، و"التهذيب" (10/ 323). وقال الترمذي في "العلل الكبير" (1/ 175 - 176): "وسألت محمدًا -أي: البخاري- فقلت: أي الحديث عندك أصحّ في التوقيت في المسح على الخفين؟ قال: صفوان بن عسال، وحديث أبي بَكْرَةَ حسن". وصححه الخطابي والشافعي، انظر: "التلخيص الحبير" (1/ 157)، و"نصب الراية" (1/ 168)، و"المنتقى" (1/ 111) للمجد ابن تيمية، و"تنقيح التحقيق" (1/ 525 - 526). (¬2) في المطبوع: "أو الموجبة". (¬3) رواه البخاري (6019) في (الأدب)، ومسلم (48) في (الإيمان). (¬4) رواه البخاري (1281) في (الجنائز).

فصل [الحكمة في إباحة التعدد للرجل دون المرأة]

يستطيعون العدل ولو حرصوا عليه، ولا حق لإمائه عليه في ذلك، ولهذا لا يجب لهن قسم، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، واللَّه أعلم. فصل [الحكمة في إباحة التعدد للرجل دون المرأة] وأما قوله: "وأنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات، ولم يبح للمرأة [قط] (¬1) أن تتزوج بأكثر من زوج واحد" فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعاية مصالحهم (¬2)، ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك، وينزّه شرعه أن يأتيَ بغير هذا، ولو أبيح للمرأة أن تكونَ عند زوجين فأكثر لفسد العالم، وضاعت الأَنسابُ، وقتل الأزواج بعضُهُم بعضًا، وعظمت البليَّة، واشتدت الفتنة، وقامت سوقُ الحرب على ساق، وكيف يستقيم حال امرأة فيها شُركاء متشاكسون؟ وكيف يستقيم حال الشركاء فيها؟ فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمةِ الشارعِ ورحمتهِ وعنايتهِ بخلقه. فإن قيل: فكيف رُوعي جانب الرجل، وأطلق له أن يُسيم طرفه (¬3) ويقضيَ وطَرَه، وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته، وداعي المرأة داعيه، وشهوتها شهوته؟ قيل: لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبأةً من وراء الخُدُرِ (¬4)، ومحجوبةً في كِنِّ بيتها (¬5)، وكان مزاجُها أبرد من مزاج الرجل، وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته، وكان الرجل قد أعطي القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثر مما أعطيته المرأة، وبُلي بما لم تُبْل به؛ أطلق له من عدد المنكوحات ما لم يُطلق للمرأة؛ وهذا مما خص اللَّه به الرجال (¬6)، وفضَّلهم به على النساء، كما فضلهم عليهنّ بالرسالةِ والنبوةِ والخلافةِ والمُلك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك، وجعل الرجال قوامين على النساء سَاعِين في مصالحهن، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط (ق) و (ك) والمطبوع. (¬2) في (ق) و (ك): "ورعايته لمصالحهم". (¬3) في (ق) و (ك): "يشيم طرفه". (¬4) في المطبوع: "الخدور". (¬5) في (ق) و (ك): "في كسر بيتها". (¬6) في (ق) و (ك): "وهذا مما حض به الرجال".

[شهوة الرجل أقوى من شهوة المرأة]

يدأبون في أسباب معيشتهنَّ، ويركبون الأخطار، ويجوبون القفار، ويعرضون أنفسهم لكل بلية ومحنة في مصالح الزوجات، والربُّ تعالى شكورٌ حليمٌ، فشكر لهم ذلك، وجبرهم (¬1) بأن مكَنهم مما لم يمكِّن منه الزوجات، وأنت إذا قايستَ بين تعب الرِّجال وشقائِهم وكدِّهم ونصبهم في مصالح النساء وبين ما ابتلي به النساء من الغَيْرة وجدتَ حظَّ الرجال من تحمل ذلك التعب والنصب والدأب أكثر من حظ النساء من تحمل الغيرة؛ فهذا من كمال عدل اللَّه وحكمته ورحمته؛ فله الحمد كما هو أهله. [شهوة الرجل أقوى من شهوة المرأة] وأما قول القائل: "إن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل "فليس كما قال، والشهوة منبعها الحرارة، وأين حرارة الأنثى من حرارة الذكر؟ ولكن المرأة -لفراغها وبطالتها وعدم معاناته لما يشغلها عن أمر شهوتها وقضاء وطرها- يغمرها سلطان الشهوة، ويستولي عليها، ولا (¬2) يجد عندها ما يعارضه، بل يصادف قلبًا فارغًا ونفسًا خالية فيتمكَّن منها كل التمكن؛ فيظن الظان أن شهوتها أضعاف شهوة الرجل، وليس كذلك، ومما يدل على هذا أن الرجل إذا جامع امرأته أمكنه أن يجامع غيرها في الحال، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يطوف على نسائه في الليلة الواحدة (¬3)، وطاف سليمان عليه السلام على تسعين امرأة في ليلة (¬4)، ومعلومٌ أن له عند كل امرأة شهوة وحرارة باعثة على الوطءِ، والمرأة إذا قضى ¬

_ (¬1) في (ق) و (ن) و (ك): "وخبرهم"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬2) في (ق) و (ك): "ولم". (¬3) رواه البخاري (268) في (الغسل): باب إذا جامع ثم عاد ومن دار على نسائه في غسل واحد، و (284) باب الجنب يخرج ويمشي في السوق وغيره، و (5068) في (النكاح): باب كثرة النساء، و (5215) باب من طاف على نسائه في غسل واحد، ومسلم (309) في (الحيض): باب جواز نوم الجنب، من حديث أنس. (¬4) رواه البخاري (2819) في (الجهاد): باب من طلب الولد للجهاد، و (3424) في (أحاديث الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30)}، و (5242) في (النكاح): باب قول الرجل: لأطوفن الليلة على نسائي، و (6639) في (الأيمان والنذور): باب كيف كانت يمين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (6720) في (كفارات الأيمان): باب الاستثناء في اليمين، و (7469) في (التوحيد): باب في المشيئة والإرادة، ومسلم (1654) في (الأيمان): باب الاستثناء، من حديث أبي هريرة، وقد اختلفت عدد الروايات في عدد النساء.

فصل [الحكمة في جواز استمتاع السيد بأمته دون العبد بسيدته]

الرجل وطَرَها (¬1) فتَرتْ (¬2) شهوتُها، وانكسرت نفسُها، ولم تطلب قضاءها من غيره في ذلك الحين، فتطابقت حكمه الشرع والقدر والخلق والأمر، وللَّه الحمد (¬3). فصل [الحكمة في جواز استمتاع السيد بأمته دون العبد بسيدته] وأما قوله: "أباح للرجل أن يستمتع من أمته بملك اليمين بالوطء وغيره، ولم يبح للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره" فهذا أيضًا من كمال هذه الشريعة وحكمتها، فإن السيدَ قاهرٌ لمملوكه، حاكمٌ عليه، مالك له، والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها، وهي تحت سُلطانِه وحُكمِه تُشبه الأسير؛ ولهذا مُنع العبد من نكاح سيدته للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها، وبين كونها سيدته وموطوءته، وهذا أمر مشهورٌ بالفطرة والعقول قُبْحُه، وشريعة أحكم الحاكمين منزَّهةٌ عن أن تأتي به. فصل [التفريق بين أحكام الطلقات] وأما قوله: "وفَرَّق بين الطلقات فجعل بعضها مُحرِّمًا للزوجة وبعضها غير محرم" فقد تقدم [من] (¬4) بيان حكمة ذلك ومصلحته ما فيه كفاية. فصل [التفريق بين لحم الإبل وغيرها في إيجاب الوضوء] وأما قوله: "وفرَّق بين لحم الإبل وغيره من اللحوم في الوضوء" فقد تقدم في الفصل الذي قبل هذا جواب هذا السؤال، وأنه على وفق الحكمة ورعاية المصلحة. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وطره". (¬2) في (ق) و (ك): "فقدت"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "فترت". (¬3) انظر كلام المصنف -رحمه اللَّه- حول هذا الموضوع في "بدائع الفوائد" (4/ 41)؛ فإنه مهم، وانظر أيضًا: "المبدع" (7/ 68). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

فصل [الحكمة في التفريق بين الكلب الأسود وغيره]

فصل [الحكمة في التفريق بين الكلب الأسود وغيره] وأما قوله: "وفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة" فهذا سؤال أورده عبد اللَّه بن الصَّامت على أبي ذر، وأورده (¬1) أبو ذر على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأجاب عنه بالفرق البيِّن فقال: "الكلب الأسود شيْطان" (¬2)، وهذا إن أُريد به أن الشَّيطانَ يظهر في صورة الكلب الأسود كثيرًا كما هو الواقع فظاهر (¬3)، وليس بمستنكر أن يكونَ مرورُ عدو اللَّه بين يدي المصلي قاطعًا لصلاته، ويكون مرورُه قد جعلَ تلك الصلاةَ بغيضةَ إلى اللَّه مكروهة له، فيُؤمر المصلي باستئنافها (¬4)، وإن كان المراد به أن الكلبَ الأسودَ شيطانُ الكلاب فإن كل جنس من أجناس الحيوانات فيها شياطين وهي ما عَتَا منها وتمرد، كما أن شياطين الإنس عُتاتهم ومتمردوهم، والإبلُ شياطينُ الأنعام، وعلى ذرْوة كل بعيرٍ شيطان (¬5)؛ فيكون مرورُ هذا النوع من الكلاب -وهو من أخبثها وشرها- مبغضًا لتلك الصلاة إلى اللَّه تعالى؛ فيجب على المصلي أن يستأنفها (¬6)، وكيف يُستبعدُ أن يقطعَ مرورُ العدو بين الإنسان ¬

_ (¬1) أشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "ورواه". (¬2) رواه مسلم (510) في الصلاة: باب قدر ما يستر المصلي، من حديث أبي ذر. (¬3) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية"، (19/ 52)، وكتابي: "فتح المنان" (1/ 58، 257 - 258). (¬4) في المطبوع: "بأن يستانفها". (¬5) رواه أحمد (3/ 494)، وابن أبي شيبة (7/ 117 ط - الفكر)، والدارمي (2/ 285 - 286)، وابن حبان (1703) و (2694)، والطبراني في "الكبير" (2993)، وفي "الأوسط" (1945) من طرق عن أسامة بن زيد الليثي عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن أبيه مرفوعًا وفيه زيادة. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 131): ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن حمزة وهو ثقة. أقول: أسامة بن زيد الليثي فيه كلام لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، ومحمد بن حمزة روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 357)، وله شاهد من حديث ابن عمر: رواه الطبراني في "الأوسط"، وفيه القاسم بن غصن وهو ضعيف؛ كما قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 113). ومن حديثِ عمر بن الخطاب: رواه ابن عدي في "الكامل" (5/ 1950) ووقع في سنده خطأ وسِقط، وفيه عَنْبسة بن عبد الرحمن وهو منكر الحديث. وانظر (3/ 185 - 186). (¬6) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (19/ 52).

فصل [الحكمة في التفرقة بين الريح والجشاء]

وبين وليه حُكم مناجاته له كما قطعها كلمةٌ من كلام الآدميين أو قهقهةٌ أو ريحٌ أو ألقى عليه الغير نجاسة أو نوّمه الشيطان فيها؟ وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إن شيطانًا تفلَّت عليَّ البارحة ليقْطع عليَّ صلاتي" (¬1). وبالجملة؛ فللشارع [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) في أحكام العبادات أسرارًا لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل وإن أدركتها جملة. فصل [الحكمة في التفرقة بين الريح والجُشاء] وأما قوله: "وفرق بين الريح الخارجة من الدُّبر وبين الجشوة؛ فأوجب الوضوء من هذه دون هذه "فهذا أيضًا من محاسن هذه الشريعة وكمالها، كما فرق بين البَلْغم الخارج من الفَم وبين العَذِرَة في ذلك، ومَنْ سوّى بين الريح والجشاء فهو كمن سوّى بين البلغم والعذرة، والجشاء من جنس العُطاس الذي هو ريحٌ تُحتبس في الدماغ ثم تطلب لها منفذًا فتخرج من الخياشيم فيحدث العُطاس، وكذلك الجُشاء ريحٌ تُحبس (¬3) فوق المعدة (¬4) فتطلب الصعود، بخلاف الريح التي تحبس تحت المعدة، ومن سوى بين الجشوة والضّرْطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحس. فصل [الحكمة في التفرقة بين الخيل والإبل في الزكاة] وأما قوله: "أوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن آلاف من ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (الصلاة): (461) باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد، و (1210) في (العمل في الصلاة): باب ما يجوز من العمل في الصلاة، و (3284) في (بدء الخلق): باب صفة إبليس وجنوده، و (3423) في (أحاديث الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} و (4808) في (التفسبر): باب {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، ومسلم (541) في (المساجد): باب جواز لعن الشيطان في أثناء الصلاة، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬2) ما بين المعقوتين من (ق). (¬3) في (د): "تحتبس". (¬4) في (ق) و (ن): "تحبس تحت المعدة"! ثم ضرب على "تحت" في (ق)، وقال في الهامش: "لعله: في".

الخيل" فلعمرُ اللَّه إنه أوجب الزكاة في هذا الجنس دون هذا كما في "سنن أبي داود" من حديث عاصم بن ضَمْرة عن علي (¬1) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: قد عفوتُ [لكم] (¬2) عن الخيلِ والرَّقِيقِ، فهاتوا صدقةَ الرقةِ (¬3) من كل أربعين درهمًا درهمًا (¬4)، وليس في تسعين ومئة شيء، فإذا بلغت مئتين ففيها خمسةُ دراهم" (¬5) ورواه سفيان عن أبى إسحاق عن الحارث عن علي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وقال بقية: حدثني ¬

_ (¬1) في المطبوع زيادة "كرم اللَّه وجهه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬3) الرقة -بكسر الراء وفتح القاف مخففة-: الفضة" (د). (¬4) في المطبوع: "درهم"! (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 121 - 122، 132، 146)، وابن أبي شيبة (3/ 152)، وابن ماجة (1790) في (الزكاة): باب زكاة الورق والذهب، و (1813) في باب صدقة الخيل والرقيق، وأبو يعلى (561)، والحميدي (54)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 28 - 29)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 141)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (4/ 118) من طرق عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي مرفوعًا. والحارث الأعور هذا ضعيف. ورواه أحمد في "مسنده" (1/ 92 و 113 - 114) وفي "التاريخ والعلل" (1/ 201، 3515 رقم 1089، 2217)، وابنه عبد اللَّه في "زوائده على المسند" (1/ 145 و 148)، والدارمي في "سننه" (1/ 383). وأبو عبيد في "الأموال" (1356)، وابن زنجويه في "الأموال" (391، 1604، 1871)، وأبو داود (1574) في (الزكاة): باب في السائمة، والترمذي (620) في (الزكاة): باب ما جاء في زكاة الذهب والورق، والنسائي في "سننه" (5/ 37) في (الزكاة): باب زكاة الورق، والطحاوي (2/ 28)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2284، 2297)، والدارقطني في "سننه" (2/ 126)، والبغوي (1582)، وأبو حامد الأزهري في "الفوائد المنتخبة" (ق 256/ م) والبزار (678، 679)، وأبو جهم الباهلي في "جزئه" (ق 63/ أو رقم 93، المطبوع)، والطبراني في "المعجم الصغير" (1/ 232)، وابن حزم (5/ 229 و 6/ 61)، وابن عبد البر (17/ 133)، والحاكم (1/ 400)، والبيهقي (4/ 117 - 118) من طرق عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي مرفوعًا. ورواه موقوفًا من طريق أبي إسحاق: عبد الرزاق (6881)، وأبو عبيد (1002، 1160، 1161)، وابن زنجويه (1473، 1475، 1663)، كلاهما في "الأموال"، والدارقطني (2/ 126)، والبيهقي (4/ 116)، وابن حزم (6/ 38). وقد رجح البخاري -فيما نقل عنه الترمذي- والدارقطني في "العلل" (3/ 156 - 159 رقم 326) كلا الطريقين، وقد نقل ابن حجر في "التلخيص" (2/ 173) عن الدارقطني أنه قال: الصواب وقفه على علي. ولم أر هذا القول في "العلل" ولا في "السنن". وانظر: "زاد المعاد" (1/ 149)، و"تهذيب السنن" (2/ 192). (¬6) طريق سفيان -وهو ابن عيينة- هذا: رواه ابن أبي شيبة (3/ 152 و 14/ 242)، والشافعي =

أبو معاذ الأنصاري، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة يرفعه، "عفوتُ لكم عن صدقةِ الجَبْهَةِ والكُسْعَة والنُّخَّة" (¬1) قال بقية: الجبهة الخيل، ¬

_ = في "السنن" (65)، وأحمد في "مسنده" (1/ 132)، (146)، والحميدي في "مسنده" (54)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (رقم 65)، وأبو عبيد (254، 1355)، وابن ماجه (1790، 1813)، وأبو يعلى (299، 580)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 28 - 29)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 118)، ورواه الطيالسي (124)، ومن طريقه أبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (2/ 61)، وأحمد (1/ 146)، والطحاوي (2/ 28) عن شريك، وابن أبي شيبة (3/ 152)، وأحمد (1/ 121) عن حجاج، وأبو داود (1573) عن جرير بن حازم وآخر، و (1572)، والطبراني في "الطوال" (57)، وابن زنجويه (1475)، والدارقطني (2/ 103)، والبيهقي (4/ 99) عن زهير، وأبو يعلى (561) عن عمر بن عامر، وابن زنجويه (1870) عن إسرائيل، والطحاوي (2/ 29) عن إبراهيم بن طهمان، والدارقطني (2/ 98)، والخطيب (7/ 141) عن السيد بن عيسى، والبيهقي (4/ 118) عن سفيان الثوري، وابن المظفر في "غرائب شعبة" (ق 21/ أ) عن شعبة، والخطيب (7/ 302) عن إدريس الأزدي، والذهبي في "السير" (12/ 473) عن خالد بن أبي خالد جميعهم عن أبي إسحاق به. وإسناده ضعيف جدًا؛ الحارث متروك. (¬1) رواه من هذا الطريق: البيهقي (4/ 118) من طريق محمد بن المتوكل عن بقية به، وقال: كذا رواه بقية بن الوليد عن أبي معاذ وهو سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث ولا يحتج به، وقد اختلف عليه في إسناده، فقيل هكذا وقيل عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة. أخرجه الطبراني في "الكبير" -كما في "المجمع" (2/ 69) - وابن عدي في "الكامل" (3/ 254)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ ق 45/ ب)، وفيه سليمان بن أرقم المذكور. ورواه أبو داود في "المراسيل" (114) من طريق كثير أبو سهل عن الحسن مرسلًا ورجاله ثقات لولا إرساله. وهو في "غريب الحديث" لأبي عبيد (1/ 7) من طريق حماد بن زياد عن كثير بن زياد يرفعه؛ كما قال ثم قال: وعن جويبر عن الضحاك يرفعه!! ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 118) من طريق أبي عبيد عن نُعيم بن حماد عن ابن الدراوردي عن أبي جزرة القاص يعقوب بن مجاهد عن سارية الخُلجي مرفوعًا به. وهذا إسناد ضعيف، نعيم بن حماد فيه كلام وسارية هذا ليس بصحابي؛ كما قال البخاري وابن حبان، وانظر: "الإصابة" (2/ 118) حيث ذكره في القسم الرابع. ثم قال البيهقي: "أسانيد هذا الحديث ضعيفة"، وقال ابن حجر في "الدراية" (1/ 254): "إسنادهُ ضعيف، وقد اضطرب فيه من رواية سليمان بن أرقم أبو معاذ". =

والكسعة: البغال والحمير، والنُّخة: المربيات في البيوت، وفي "كتاب عمرو بن حزم": "لا صدقة في الجبهة والكسعة، والكسعة: الحمير، والجبهة: الخيل" (¬1). وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، [عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-]: "ليس على المسلم في عبْدِه ولا فرسه صدقة" (¬2). والفرق بين الخيل والإبل أن الخيل تُراد لغير ما تُراد له الإبل؛ فإن الإبل تراد للدَّرِّ والنَّسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد، وأما الخيل فإنما خُلقت للكرِّ والفَرِّ والطلب والهرب، وإقامة الدين، وجهاد أعدائه، وللشارع قصدٌ أكيد في اقتنائها وحفظها والقيام عليها، وترغيب النفوس في ذلك بكل طريق، ولذلك عفا عن أخذ الصدقة منها؛ ليكون ذلك أرغب للنفوس (¬3) فيما يحبه اللَّه ورسوله من اقتنائها ورباطها، وقد قال [اللَّه] (¬4) تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فرباطُ الخيل من جنسِ آلاتِ السلاح والحرب، فلو كان عند الرجل منها ما عَسَاه أن يكون ولم يكن للتجارة لم يكن عليه فيه زكاة، بخلاف ما أُعدّ للنفقة؛ فإن الرجل إذا ملك منه نصابًا ففيه الزكاة، وقد أشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هذا بعينه في قوله: "قد عفوتُ لكم عن صدقةِ الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقة" (¬5) أفلا تراه كيف فرف بين ما أُعدَّ للإنفاق [وبين] (4) ما أعد لإعلاء كلمة اللَّه ونصر دينه وجهاد أعدائه؟ فهو من جنس السيوف والرماح والسهام، وإسقاط الزكاة في هذا الجنس من محاسن الشريعة وكمالها (¬6). ¬

_ = وانظر: "فيض القدير" (4/ 318). وفي "النهاية": هي الرقيق، وقيل: الحمير، وقيل: البقر، والعوامل وتفتح نونها وتضم، وقيل هي كل دابة استعملت، وقيل: البقر العوامل: بالضم، وغيرها بالفتح" (د). (¬1) كتاب عمرو بن حزم خرجته بإسهاب وتفصيل في تعليقي على "الخلافيات" (1/ 498 وما بعد) فانظره فإنه مفيد. (¬2) رواه البخاري (1463) في (الزكاة): باب ليس على المسلم في فرسه صدقة، و (1464) باب ليس على المسلم في عبده صدقة، ومسلم (982) في (الزكاة): باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) في (ك) و (ق): "إلى النفوس". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) سبق تخريجه قريبًا. (¬6) انظر: "زاد المعاد" (1/ 147).

فصل [الحكمة في التفريق بين بعض مقادير الزكاة]

فصل [الحكمة في التفريق بين بعض مقادير الزكاة] وأما قوله: "أوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر، وفي الزروع والثمار نصف العشر أو العشر، وفي المعدن الخُمس" فهذا أيضًا من كمال الشريعة ومراعاتها للمصالح (¬1)؛ فإن الشارع أوجب الزكاة مواساةً للفقراء، وطُهرةً للمال، وعبوديةً للرب، وتقربًا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته، ثم فرضها على أكمل الوجوه، وأنفعها للمساكين، وأرفقَها بأرباب الأموال؛ ولم يفرضها في كل مال، بل فَرضَها في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الربح والدَّرُّ والنسل، ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه، بل فرضها في أربعة أجناس من المال: المواشي، والزروع والثمار، والذهب والفضة، وعروض التجارة؛ فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم، وعامة تصرفهم فيها، وهي التي تحتمل المواساة، دون ما أَسقَطَ الزكاة فيه، ثم قسم كل جنس من هذه الأجناس بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة وإلى ما لا زكاة فيه، فقسم المواشي إلى قسمين: سائمة؛ ترعى بغير كلفة ولا مشقة ولا خسارة، فالنعمة فيها كاملةٌ والمنَّةُ فيها وافرةٌ والكلفة فيها يسيرة والنَّماء فيها كثير؛ فخص هذا النوع بالزكاة، وإلى معلوفة بالثمن أو عاملة في مصالح أربابها في زكاة دواليبِهم وحروثِهم (¬2) وحملِ أمتعتهم؛ فلم يجعل في ذلك زكاة، لكلفة العلوفة (¬3) وحاجة المالكين إلى العوامل فهي كثيابهم وإمائهم وعبيدهم وأمتعتهم. ثم قسّم الزروع والثمار إلى قسمين: قسمٌ يجري مجرى السائمة من بهيمة الأنعام في سقيه من [ماء] (4) السماء بغير كلفة ولا مشقة فأوجب فيه العشر، وقسم يُسقى بكلفة ومشقة ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة بكثير إذ تلك تحتاج إلى العلف كل يوم فكان مرتبة بين مرتبة السائمة والمعلوفة، فلم يوجب فيه زكاة ما شَرِب بنفسه، ولم يسقط زكاته جملة [واحدة] (¬4)، فأوجب فيه نصف العشر. ¬

_ (¬1) انظر: حكمة التشريع في الزكاة للمصنف -رحمة اللَّه عليه- في "زاد المعاد" (1/ 147 - 148)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 329)، و"الوابل الصيب" (ص 49 - 60). (¬2) في (ك) و (ق): "وحراثهم". (¬3) في المطبوع: "المعلوفة" ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

ثم قسم الذهب والفضة إلى قسمين: أحدهما ما هو معدٌّ لتنميته (¬1) والتجارة به والتكسب ففيه الزكاة كالنقدين والسبائك ونحوها، وإلى ما هو معد للانتفاع دون الربح والتجارة كحلي (¬2) المرأة وآلات السلاح التي يجوز استعمال مثلها فلا زكاة فيه (¬3). ثم قسم العروض إلى قسمين: قسم أعد للتجارة ففيه الزكاة، وقسم أعد للقِنْية والاستعمال فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه. ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشق الأشياء وأكثرها معاناة وعملًا خفَّفها بأن جعل فيها ربع العشر، ولما كان الربح والنماء بالزروع والثمار التي تُسقى بالكلفة (¬4) أقل كلفة والعمل أيسر ولا يكون في كل السنة جعله ضعفه وهو نصف العشر، ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل والمؤنة أيسر جعله ضعف ذلك وهو العشر، واكتفى فيه بزكاة عامة خاصة؛ فلو أقام عنده بعد ذلك عدة أحوال لغير التجارة لم تكن فيه زكاة لأنه قد انقطع نماؤه وزيادته، بخلاف الماشية، وبخلاف [ما لو أعِدَّ للتجارة] (¬5)؛ فإنه عُرْضة للنماء، ثم لما كان الرِّكازُ مالًا، مجموعًا محصلًا وكلفَة تحصيله أقل من غيره، ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس. فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهر (¬6) العقولَ حسنُها وكمالها، وشهدت الفِطر بحكمتها، وأنه لم يطرق العالم شريعة أكمل منها (¬7). ولو اجتمعت عقول العقلاء وفِطر الألِبَّاء واقترحت شيئًا يكون أحسنُ مُقترحًا (¬8) لم يصل اقتراحها إلى ما جاءت به. ولما لم يكن كل مال يحتمل المواساة قدَّر الشارع لما يحتمل المواساة نُصُبًا مقدرة لا تجب الزكاة في أقل منها، ثم لما كانت تلك النصب تنقسم إلى مالا يجحف المواساة ببعضه أوجب الزكاة منها، وإلى ما يجحف المواساة ببعضه ¬

_ (¬1) في المطبوع: "للثمنية". (¬2) في المطبوع: "كحلية". (¬3) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 301)، و"بدائع الفوائد" (3/ 143)، وما قدمناه. (¬4) في (ق) و (ك): "بكلفة". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "مال التجارة". (¬6) في (ق) و (ك): "يبهى". (¬7) في المطبوع: "أفضل منها". (¬8) في المطبوع و (ن) و (ك): "مقترح".

فصل [حكمة قطع يد السارق دون لسان القاذف مثلا]

فجعل الواجب من غيره كما دون الخمس والعشرين من الإبل، ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر إذ فيه إجحاف بأرباب الأموال جعلها كل عام مرة كما جل الصيام كذلك، ولما كانت الصلاة لا يشق فعلها كل يوم وضعها (¬1) كل يوم وليلة، ولما كان الحج يشق تكرر وجوبه كل عام جعله وظيفة العمر. وإذا تامل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده مما لا يضر المخرج فقده وينفع الفقير أخذه، ورآه قد راعى فيه حال صاحب المال وجانبه حق الرعاية، ونفع آخذيه (¬2)، وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه؛ فأوجب زكاة العين في الذهب والورق دون الحديد والرصاص والنحاس ونحوها، وأوجب زكاة السائمة في الإبل والبقر والغنم دون الخيل والبغال والحمير ودون ما يقل اقتناؤه كالصيود على اختلاف أنواعها ودون الطير كله، وأوجب زكاة الخارج من الأرض في أشرفه وهو الحبوب والثمار دون البقول والفواكه والمقاثي والمباطخ والأنوار (¬3). وغير خافٍ تميز ما أوجب فيه الزكاة عما لم يوجبها فيه في جنسه ووصفه ونفعه وشدة الحاجة إليه وكثرة وجوده، وأنه جارٍ مجرى الأموال (¬4) لما عداه من أجناس الأموال، بحيث لو فقد لأضر فقده بالناس، وتعطل عليهم كثير من مصالحهم، بخلاف ما لم يوجب فيه الزكاة فإنه جار مجرى الفضلات [والتتمات] (¬5) التي لو فقدت لم يعظم الضرر بفقدها، وكذلك راعى في المستحقين لها أمرين مهمين: أحدهما حاجة الآخذ، والثاني نفعه؛ فجعل المستحقين لها نوعين: نوعًا لحاجته، ونوعًا يأخذ لنفعه، وحرّمها على من عداهما (¬6). فصل [حكمة قطع يد السارق دون لسان القاذف مثلًا] وأما قوله: "وقطع يد السارق التي باشر بها الجناية (¬7)، ولم يقطع فرج ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وظفها". (¬2) في المطبوع و (ك): "الآخذ به". (¬3) "المقاثي: جمع مقثأة: موضع القثاء. والمباطخ: جمع مبطخة: موضع البطيخ. والأنوار: جمع نوار، أو نور، وهو الزهر" (و). (¬4) في (ن): "مجاري الأموال". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط في (ق)، وبدله في (ن) بياض. (¬6) انظر: "زاد المعاد" (1/ 148) للمصنف. (¬7) في (ن) و (ق) و (ك): "تباشر الجناية".

الزاني وقد باشر به الجناية، ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف" فجوابه أن هذا من أدلِّ الدلائل على أن هذه الشريعة منزلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين. ونحن نذكر فصلًا نافعًا في الحدود ومقاديرها، وكمال ترتيبها (¬1) على أسبابها، واقتضاء كل جناية لما رُتِّب عليها دون غيرها (¬2)، وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح، ونورد أسئلة لم يوردها هذا السائل، وننفصل عنها بحول اللَّه وقوته (¬3) أحسن انفصال، واللَّه المستعان وعليه التكلان. إن (¬4) اللَّه جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤُه لمَّا خلق العباد وخلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوَ عباده وليختبرهم أيهم أحسنُ عملًا لم يكن في حكمته بد من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجًا عنها، فجعلَ في أنفسهم العقولَ الصحيحةَ والأسماعَ والأبصارَ والإراداتِ (¬5) والشهواتِ والقوى والطبائعَ والحبَّ والبغضَ والميلَ والنُّفورَ والأخلاقَ المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسبِّبه والتي في الخارج الأسباب التي تطلب النفوس حصولها فتنافس فيه، وتكره حصولها (¬6) فتدفعه عنها، ثم أكَّد أسباب هذا الابتلاء بأن وكَّل بها قُرناءَ من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة وقرناء من الأرواح الخيّرة العادلة الطيبة، وجعل دواعي القلب وميوله مترددة بينهما؛ فهو إلى داعي الخير مرة وإلى داعي الشر أخرى (¬7)، ليتمَّ الابتلاء في دار الامتحان، وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء، وكلاهما من الحق الذي خلق اللَّه السماوات والأرض به ومن أجله، وهما مقتضى ملك الرب وحمده؛ فلا بد أن يَظهَر ملكُه وحمدُه فيهما كما ظهر في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله بحكم إيجابه على نفسه أن أرسل رُسُله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ليتم ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره، وأقام سوقَ الجهاد لما حصل من المُعاداة والمُنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات كما حصل بين من قامت به، فلم يكن بُد من حصول مقتضى الطبائع البشرية (¬8) وما قارنها من الأسباب من التنافس ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ترتبها". (¬2) في (ق) و (ك): "غيره". (¬3) في (ق) و (ك): "بحول اللَّه وعونه". (¬4) في (ق): "فإن". (¬5) تحرفت في (ق) و (ن): و"الأدوات". (¬6) في (د): "حصوله". (¬7) في المطبوع: "مرة". (¬8) في المطبوع و (ن): "مقتضى الطباع البشرية".

والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدّي ما حَدَّ له والتقصير عن كثير مما تعبد به، وسهّل ذلك عليها اغترارَها بموارد المعصية مع الإعراضِ عن مصادِرِها، وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجَّله من عظيم اللذة في أخراها، ونزولها على الحاضر المشاهد، وتجافيها عن الغائب الموعود، وذلك موجَبُ ما جُبلت عليه من جهلها وظلمها؛ فاقتضت أسماءُ الربِّ الحُسنى وصفاتُه العليا وحكمتُه البالغةُ ونعمتُه السابغةُ ورحمتُه الشاملةُ (¬1) وجودَه الواسع أن لا يضْرب عن عباده الذكر صفحًا، وأن لا يتركهم سُدى، ولا يُخفيهم ودواعي نفوسهم (¬2) وطبائعهم، بل ركَّب في فطرهم وعقولهم معرفةَ الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة (¬3) ومعرفة أسبابها، ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عَرَّفهم به مفصلًا على ألسنة رسله، وقطع معاذيرهم بأن أقام على صِدْقهم من الأدلة والبراهين ما لا يبقى معه لهم عليه حجة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] وصرّف لهم طُرقَ الوَعْد والوعيد والترغيب والترهيب، وضربَ لهم الأمثالَ وأزال عنهم كُلَّ إشكال، ومكَّنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين، وأعانهم عليه بكل سبب، وسَلَّطهم على قهر طباعهم بما يجرُّهم إلى إيثار العواقب على المبادئ ورفض اليسير الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها، وأرشدهم إلى التفكر والتدبُّر وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين، وأكمل لهم دينَهم، وأتمَّ عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة، وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون عَلمًا وأمارةً لتحقيق ما أَخَّره عنهم في دار الجزاء والمثوبة، ويكون العاجل مذكرًا بالآجل، والقليل المُنقطع بالكثير المُتّصل، والحاضر الفائت مُؤذنًا بالغائب الدائم، فتبارك [اللَّه] (¬4) رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وسبحانه وتعالى عما يظنه به من لم يقْدُرْه حقَّ قدره ممن أنكر أسماءَه وصفاتِه وأَمْرَه ونهيه ووَعْدَه ووعيده، وظن به ظن السوء فأرداهُ ظنُّه فأصبح من الخاسرين. ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "ورحمته الواسعة". (¬2) في (د): "أنفسهم". (¬3) في (ق) و (ك): "والكدر"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة (ط).

[من حكمة الله شرع الحدود]

[من حكمة اللَّه شرع الحدود] فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شَرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس [من] (¬1) بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقَتْل والجرح (¬2) والقذت والسرقة؛ فأحْكم سبحانه وجوهَ الزّجرِ الرادعةِ عن هذه الجنايات غايةَ الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الرح والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه (¬3) الجاني من الرح؛ فلم يشرع في الكذب قَطعَ اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السّرقةِ إعدام النفس. وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائِه وصفاتِه من حكمتِه ورحمتِه ولُطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقنع (¬4) كلُّ إنسان بما آتاه مالكُه وخالقه؛ فلا يطمع في استلاب غير (¬5) حقه. [تفاوتت الجنايات فتفاوتت العقوبات] ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك. ومن المعلوم أن النظرةَ المحرَّمةَ لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب؛ ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا ووصفًا وقدرًا لذهبت بهم الآراءُ كُلَّ مَذْهَب، وتشعبت بهم الطُّرق كل شعب (¬6)، ولعَظُمَ الخلاف (¬7) واشتد الخَطْب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنةَ ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديرَه نوعًا وقدرًا، ورتَب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (د) و (ك). (¬2) في (د): "والجراح". (¬3) في (ك) و (ق): "استحقه". (¬4) في المطبوع: "ويقتنع". (¬5) في (د): "وغيره". (¬6) في المطبوع و (ك): "مَشْعَب". (¬7) في المطبوع و (ن): "الاختلاف".

[القتل وموجبه]

من النّكال، ثم بلغ من سعة جوده ورحمته أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطُهْرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة؛ فرحمهم بهذه العقوبات أنواعًا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتْل، وقطْع، وجلْد، ونفْي، وتغريم مال، وتعزير (¬1). [القتل وموجبه] فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس؛ فكانت عقوبته من جنسه (¬2)، وكالجناية على الدِّين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجناية أولى بالقتل وكَفِّ عدوان الجاني [عليه] (¬3) من كل عقوبة؛ إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم، ولا خير يُرجى (¬4) في بقائِه ولا مصلحة؛ فإذا حَبسَ شَرَّه [وأمسكَ] (¬5) لسانَه وكفَّ أذاه والتزم الذُّلَّ والصغار وجريان أحكام اللَّه ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضررٌ عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين، وجعله أيضًا عقوبة الجناية، على الفروج المحرمة؛ لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام (¬6). [القطع وموجبه] وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلًا، وعقوبة السارق؛ فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل؛ فكانت (¬7) أليقَ العقوباتِ به إبانةُ العضو الذي جعله وسيلةً إلى أذى الناس، وأَخْذِ أموالهم، ولما كان ضررُ المُحاربِ أشدَّ من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضَمّ إلى قطع يده قطع رجله؛ ليكف عدوانه، وشر يده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى (¬8) بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يُفوِّت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن أبقى له يدًا من شق ورجلًا من شق (¬9). ¬

_ (¬1) بدل: "وتعزير" في (ن): "وتغريب". (¬2) انظر: "الفوائد" (ص 80). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق) و (ن): "ولا خيرة ترجى". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق) و (ك): "والفساد العظيم". (¬7) في (د): "فكان". (¬8) في (د) و (و): "بطش بها ورجله التي سعى". (¬9) انظر الحكمة في العقوبة بالقطع في السرقة والقصاص، لابن القيم -أيضًا- في "بدائع =

[الجلد وموجبه]

[الجلد وموجبه] وأما الجلد فجعله عقوبةَ الجنايةِ على الأَعراض، وعلى العقول، وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغًا يوجب القتل ولا إبانة الطرف (¬1)، إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتَها قد انتهضت سببًا لأشنع القتلات، ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم العوض (¬2)، فانتهض ذلك المعارض سببًا لإسقاط القتل، ولم يكن الجلد وحده كافيًا في الزجر فغُلِّظ بالنفي والتغريب؛ ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخُلطاء ما يزجره عن المعاودة؛ وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتُها لا تتعدّى السكران غالبًا، ولهذا لم يُحرَّم السُّكر في أول الإسلام كما (¬3) حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي، وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع، بل ضرب فيها بالأيدي والنِّعال وأطراف الثياب والجريد، وضرب فيها أربعين (¬4)، فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلَّظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- الذي أُمِرْنا بابتاع سنته، وسنته من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فجعلها ثمانين بالسوط (¬5)، ونَفَى فيها، وحَلَق الرَّأس (¬6)، وهذا كله من فقه السنة؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة (¬7)، ولم يَنْسَخ ¬

_ = الفوائد" (2/ 211)، وكتاب "الحدود والتعزيرات" (ص 351 - 352) للشيخ بكر أبو زيد. (¬1) في (د): "طرف". (¬2) في المطبوع و (ك): "وعدم المعوض". (¬3) في (ن): "حتى"، وفي (ق) و (ك): "وحتى". (¬4) مضى تخريجه. (¬5) جلد عمر ثمانين ثابت في "صحيح مسلم" (1706) في (الحدود): باب حد الخمر، من حديث أنس بن مالك. ومن حديث السائب بن يزيد، عند البخاري (6779) في (الحدود): باب ما جاء في ضرب شارب الخمر. والروايات عن عمر في هذا كثيرة انظر: "التلخيص الجير" (4/ 75 - 76). (¬6) مضى تخريجه. (¬7) أما حديث أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتل شارب الخمر في الرابعة: فرواه أحمد (2/ 280 و 291 و 504 و 519)، والطيالسي (2337)، وعبد الرزاق (17081)، وأبو داود (4484) في (الحدود): باب إذا تتابع في شرب الخمر، وابن ماجه (2572) في (الحدود): باب من شرب الخمر مرارًا، والنسائي (8/ 314) في (الأشربة): باب ذكر الروايات المغلظات في شرب الخمر، والطحاوي في "معاني الآثار" (3/ 159)، وابن حبان (4447)، والحاكم (4/ 371)، وابن الجارود (831)، والبيهقي (8/ 313) من حديث أبي هريرة، وهو حديث جيد. =

فصل [تغريم المال وموجبه]

ذلك، ولم يجعله حدًا لا بد منه؛ فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة، فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل (¬1). فصل [تغريم المال وموجبه] وأما تغريم المال -وهو العقوبة المالية- فشرعها في مواضع: منها تحريقُ متاعِ الغالِّ من الغنيمة (2)، ومنها حرمان سهمه (2)، ومنها إضعافُ الغرم على سارق الثمار المعلقة (2)، ومنها إضعافه على كاتم الضَّالةِ المُلْتَقطة (¬2)، ومنها أخذُ شَطْر مال مانع الزكاة (¬3)، ومنها عزمه -صلى اللَّه عليه وسلم- على تحريق دور من لا يُصلي في الجماعة (¬4) لولا ما منعه من إنفاذِ ما عَزمَ عليه من كَوْنِ الذرية والنساء فيها فتتعدى العقوبة إلى ¬

_ = وفي الباب أحاديث صحيحة أيضًا منها: حديث معاوية بن أبي سفيان، انظرها مفصلة في: "نصب الراية" (3/ 346 - 349)، و"فتح الباري" (12/ 80 - 82)، وقد نقل الترمذي وغيره كالنووي الإجماع على نسخ هذا الحديث والعمل على خلافه!! وقد كتب العلامة أحمد محمد شاكر بحثًا في هذه المسألة في تعليقه على "المسند" (9/ 49 وما بعد) يُنظر؛ فإنه هام جدًا. وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (34/ 217، 219). (¬1) انظر: "مدارج السالكين" (3/ 306)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 337)، و"زاد المعاد" (3/ 115)، وكتاب "الحدود والتعزيرات" (ص 266). (¬2) مضى تخريجها كلها. (¬3) مضى تخريجه. (¬4) ورد ذلك من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد هَمَمت أن آمر فتيَتي أن يجمعوا حُزم الحطب، ثم آمر بالصلاة، فتقام، ثم أحرِّق على أقوام لا يشهدون الصلاة". أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الأذان): باب وجوب صلاة الجماعة، (2/ 152، رقم 644)، وباب فضل العشاء في جماعة (2/ 141، رقم 657)، و (كتاب الخصومات): باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة، (5/ 74، رقم 2420)، وكتاب (الأحكام): باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة، (13/ 215، رقم 7224 - مع فتح الباري)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب المساجد ومواضع الصلاة): باب فضل الجماعة وبيان التشديد في التخلف عنها، (1/ 145، رقم 651)، ومالك في "الموطأ" في (صلاة الجماعة): باب فضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، (1/ 129 و 130)، وعبد الرزاق في "المصنف" (1/ 517 - 518)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الصلاة): باب التشديد في ترك الجماعة، (رقم 548 و 549)، والترمذي في (أبواب الصلاة): باب ما جاء فيمن يسمع النداء فلا يجيب، (رقم 217)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الإمامة): باب التشديد في التخلف عن الجماعة، (2/ 107)، وأبو عوانة في "المسند" (2/ 5)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 304).

[التغريم نوعان: مضبوط، وغير مضبوط]

غير الجاني، وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل، ومنها عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلب القتيل لمن قَتَله (¬1)، حيث شفع (¬2) فيه هذا المسيء، وأمر الأمير بإعطائه، فحرم المشفوع له عقوبة للشافع الآمر. [التغريم نوعان: مضبوط، وغير مضبوط] وهذا الجنس من العقوبات نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط؛ فالمضبوط ما قابل المتلَف إما لحق اللَّه سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق الآدمي كإتلاف ماله، وقد نَبَّه اللَّه سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان، كعقوبة القاتل لمورِّثه بحرمان ميراثه، وعقوبة المدبَّر (¬3) إذا قتل سيده ببطلان تدبيره، وعقوبة المُوصى له ببطلان وصيته، ومن هذا الباب عقوبة الزوجة الناشز (¬4) بسقوط نفقتها وكسوتها. وأما النوع الثاني غير المُقدَّر فهو الذي (¬5) يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح، ولذلك لم تأت الشريعة فيه بأمر عام، وقدر لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود، ولهذا اختلف الفقهاء فيه: هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح، ويُرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة؛ إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة (¬6). [التعزير ومواضعه] وأما التعزير ففي كل معصية لا حد فيها ولا كفارة (¬7)؛ فإن المعاصي ثلاثة ¬

_ (¬1) وجدت في هذا حديثًا رواه سعيد بن منصور (2699)، ومسلم (1753) في الجهاد: باب استحقاق القاتل سلب القتيل، وأبو داود (2719) في الجهاد: باب في الإمام يمنع القاتل السلب إن رأى، من حديث عوف بن مالك الأشجعي. (¬2) في (ك) و (ق): "شفعه". (¬3) يقال: أعتق فلان عبده عن دبر، أي: بعد موته، يقال: دبرت العبد، إذا علّقت عتقه بموتك" (و). (¬4) في المطبوع: "الناشزة". (¬5) في (د): "فهو الذي". (¬6) انظر: "تهذيب السنن" (2/ 193 - 194، 3/ 391)، و"زاد المعاد" (3/ 34، 212)، و"الطرق الحكمية" (ص 12، 307 - 324)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 332)، وانظر كتاب "الحدود والتعزيرات" (ص 493 - 500) للشيخ بكر أبو زيد. (¬7) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 106)، وكتاب "الحدود والتعزيرات" (ص 457 - 464).

أنواع: نوعٌ فيه الحد ولا كفارة فيه، ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه، ونوع لا حد فيه ولا كفارة؛ فالأول كالسرقة والشرب والزنا والقذف، والثاني كالوطء في نهار رمضان والوطء في الإحرام، والثالث كوطء الأمة المُشتركة بينه وبين غيره وقُبْلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك؛ فأما النوع الأول فالحدُّ فيه مغنٍ عن التعزير، وأما [النوع] (1) الثاني فهل يجبُ فيه مع الكفارة تعزيرٌ أم لا؟ على قولين، وهما في مذهب أحمد، وأما [النوع] (¬1) الئالث ففيه التعزير قولًا واحدًا، لكن هل هو كالحد فلا يجوز للإمام تركه، أو هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه كما يرجع إلى اجتهاده في قدره؟ على قولين للعلماء، والثاني (¬2) قول الشافعي، والأول قول الجمهور (¬3). وما كان من المعاصي مُحرَّمُ الجنس كالظلم والفواحش فإن الشارع لم يشرع له كفارة (¬4)، ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذْف المحصنات والسرقة، وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد (¬5) وأبو حنيفة (¬6) ومن وافقهما، وليس ذلك تخفيفًا عن مرتكبهما، بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي، وانما عملها [فيها] (¬7) فيما كان مباحًا في الأصل وحُرِّم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام، وطرد هذا وهو الصحيح وجوب الكفارة في وطء الحائض، وهو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به، فكيف وقد جاءت به مرفوعة وموقوفة (¬8)؟ وعكس هذا الوطء في الدبر ولا كفارة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ك) و (ق): "الثاني" دون واو. (¬3) انظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- عن تقدير التعزير وترجيحه لتنوعه بحسب الجريمة في جنسها، وصفتها، وكبرها، وصغرها،. . . في "إغاثة اللهفان" (371)، و"الطرق الحكمية" (ص 107). (¬4) في (ق): "لم يشرع في كفارة" وفي (ك): "لم يشرع مثل الكفارة". (¬5) انظر "الكافي" (3/ 144)، "الفروع" (6/ 44)، "المغني" (8/ 96)، "مطالب أولي النهي" (6/ 145). (¬6) انظر "أحكام القرآن" (3/ 221) للجصاص، وانظر "الإشراف" (4/ 163 رقم 1514 - بنحقيقي) للقاضي عبد الوهاب بن نصر المالكي. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) هو حديث ابن عباس وقد اختلف في رفعه ووقفه. فرواه أحمد (1/ 230، 286)، وأبو داود (264) في (الطهارة): باب إتيان الحائض، و (2168) في (النكاح)؛ باب كفارة من أتى حائضًا، وابن ماجه (640) في (الطهارة): =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = باب كفارة من أتى حائضًا، والنسائي (1/ 153) في (الطهارة)، و (1/ 188) في (الحيض والاستحاضة): باب ما يجب على من أتى حليلته في حالة حيضتها، وفي عشرة النساء (213)، والطبراني (12066)، والحاكم (1/ 171)، والبيهقي (1/ 314) من طرق عن شعبة عن الحكم عن عبد الحميد بن عبد الرحمن عن مقسم عنه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في الذي يأتي امرأته حائضًا: "فليتصدق بدينار أو بنصف دينار". وهذا إسناد ظاهره الصحة لكن اختلف فيه على شعبة، فقد رفعه كما رأيت، إلا أنه يشك في رفعه. فقد رواه ابن الجارود (109) من طريق سعيد بن عامر عن شعبة به نحوه. قال شعبة: وزعم فلان أنّ الحكم كان لا يرفعه، فقيل لشعبة: حدثنا بما سمعت ودع قول فلان، فقال ما يَسُرني أن أُعَمِّر في الدنيا عمر نوح، وإني تحدثت بهذا أو سكتُّ عن هذا. ثم ثبت عنه أنه وقفه. فقد روى ابن الجارود (110)، والبيهقي (1/ 315) من طريق ابن مهدي عن شعبة به موقوفًا. قال ابن مهدي: فقيل لشعبة: إنك كنت ترفعه؟ قال: إني كنت مجنونًا فصححت. وممن رواه من طريق شعبة موقوفًا: الدارمي (1/ 254)، والنسائي في "عشرة النساء" (214)، وابن الجارود (108)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (10/ 429)، والبيهقي (1/ 314 - 315). ورواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (4226) من طريق يزيد بن زُريع عن شعبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا، فأسقط عبد الحميد. وقد اختلفوا في سماع الحكم من مقسم فمنهم من أثبت أنه سمع منه خمسة أحاديث هذا منها، وعلى كل حال فهو مخالف للثابت عن شعبة بأنه موقوف، كما ذكرت. وقد رواه غير شعبة: قتادةُ، فرفعه. فقد رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (4229)، والطبراني (12565)، البيهقي (1/ 315) من طريق حماد بن الجعد عنه حدثني الحكم عن عبد الحميد أن مقسمًا حدثه عن ابن عباس فذكره. وحماد بن الجعد هذا ضعيف، وخالف أصحاب قتادة. فقد رواه أحمد في "مسنده" (1/ 237) و (312) و (339)، والنسائي في "عشرة النساء" (219)، والطحاوي (4227)، والبيهقي (1/ 315) من طرق عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا. قال البيهقي: لم يسمعه قتادة من مقسم؛ لأنه رواه بالواسطة. ورواه النسائي في "عشرة النساء" (218)، والطحاوي (4228)، والبيهقي (1/ 315) من طريق سعيد عن قتادة عن عبد الحميد عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال البيهقي: لم يسمعه قتادة عن عبد الحميد، لأنه يرويه عنه بالواسطة. ورواه عاصم بن هلال عن قتادة عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا. أخرجه النسائي في "عشرة النساء" (220). ونظرنا فيمن رواه عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا فوجدنا النسائي في "عشرة النساء" (215)، والطبراني في "الكبير" (12129) و (12130) و (12131) و (12132)، والبيهقي (1/ 315) رووه من طريق عَمرو بن قيس المُلائي، ومطر الوَرَّاق وسفيان بن حسين ورَقبة بن مَصْقلة عن الحكم به. وعمرو بن قيس ورقبة وسفيان بن حسين من "الثقات"، أما مطر ففي حفظه شيء. لكن رواه النسائي في "عشرة النساء" (216 و 217)، والدارمي (1/ 255)، والطحاوي (10/ 430)، والبيهقي (1/ 316) من طرق عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا، والذين أوقفوه جماعة من الثقات أيضًا. ونظرنا من رواه عن عبد الحميد بن عبد الرحمن، فوجدنا أن الدارمي (1/ 225)، والطحاوي في "المشكل" (4236)، وعلقه أبو داود (266) رووه عن الأوزاعي عن يزيد بن أبي مالك عنه معضلًا وقال: "خُمسي دينار". ونظرنا في الرواة عن مقسم، فرواه خُصيف عن مقسم عن ابن عباس، واختلف عنه. فقد رواه أحمد (1/ 272)، والدارمي (1/ 254)، وأبو داود (266)، والطحاوي (4230)، والبيهقي (1/ 316) من طريق شريك وسفيان عنه عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا. ورواه أحمد (1/ 325)، والطحاوي (10/ 433) من طريق حماد وسفيان عنه عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا، وخصيف هذا ضعيف. ورواه الدارقطني (3/ 287) من طريق عبد اللَّه بن محرر وعبد اللَّه بن يزيد بن الصلت عن عبد الكريم بن مالك وخصيف وعلي بن بَذيمة عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا. وعبد اللَّه بن محرر: متروك، وعبد اللَّه بن يزيد: ضعيف. ورواه عن مقسم أيضًا عبد الكريم أبو أمية، أخرجه الترمذي (137)، وعبد الرزاق (1364 و 1265)، وأحمد (1/ 367)، والدارمي (1/ 255)، وأبو يعلى (2432)، والطحاوي (4231 و 4232)، والنسائي في "عشرة النساء" (221 و 222)، والطبراني (12135 و 12136)، والدارقطني (1/ 287)، والبيهقي (1/ 317) من طرق عنه عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا. ورواه الدارمي (1/ 254) من طريق ابن جريج عنه عن رجل عن ابن عباس موقوفًا. ورواه البيهقي (1/ 317) من طريق هشام الدستوائي عنه عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا. وعبد الكريم هذا هو ابن أبي المخارق من الضعفاء ومما يدل على ضعفه أنه رواه مرة مرفوعًا ومرة موقوفًا أي اضطرب فيه. =

فيه، ولا يصح قياسه على الوطء في الحيض؛ لأن هذا الجنس لم يُبَح قط، ولا تعمل فيه الكفارة، ولو وجبت فيه [الكفارة لوجبت في] (¬1) الزِّنا واللواط بطريق الأَوْلى: قاعدة الشارع في الكفارات، وهي في غاية المطابقة للحكمة والمصلحة. ¬

_ = فرواه البيهقي (1/ 317) من طريق سعيد عنه عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا. ورواه يعقوب بن عطاء عن مقسم عن ابن عباس مرفوعًا. أخرجه الطحاوي في "المشكل" (4237)، والدارقطني (3/ 286)، والبيهقي (1/ 318). ويعقوب هذا ضعيف لا يحتج بحديثه. ورواه ابن أبي ليلى عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا. أخرجه الدارمي (1/ 255). وابن أبي ليلى ضعيف هو محمد بن عبد الرحمن. ورواه أبو الحسن الجزري عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا. أخرجه أبو داود (265 و 2169)، والحاكم (1/ 172)، والبيهقي (1/ 318). وأبو الحسن هذا مجهول. ورواه البيهقي (1/ 316)، وأبو داود (266) من طريق علي بن بذيمة عن مقسم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. ونظرنا فيمن رواه عن ابن عباس مرفوعًا: فرواه الطحاوي (4234 و 4235)، والبيهقي (1/ 318) من طريق يزيد بن زريع عن عطاء بن عجلان عن عكرمة عنه. وعطاء هذا متروك. ورواه الطحاوي (4233) من طريق عبد الرحمن بن يزيد بن تميم عن علي بن بذيمة عن سعيد بن جبير عنه، وعبد الرحمن هذا من الضعفاء. ونظرنا فيمن رواه عنه موقوفًا: فرواه الدارمي (1/ 255)، والبيهقى (1/ 319) من طريقين عن عطاء عنه. هذا ملخص ما وقفت عليه من حال هذا الحديث، قال الحافظ ابن حجر: وقد صححه الحاكم وابن القطان [في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 271 - 280)] وابن دقيق العيد، وقال الخلال عن أبي داود: ما أحسن حديث عبد الحميد، فقيل له: تذهب إليه؟ قال: نعم. وقوّاه الخطابي، وابن عبد البر. أما أبو حاتم فقال في "العلل" (1/ 50 - 51): اختلفت الرواية فمنهم من يَروي عن مقسم عن ابن عباس موقوفًا، ومنهم من يروي عن مقسم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. ثم بين الاختلاف على شعبة ولم يرجح. وقال الشافعي -كما في "سنن البيهقي" (1/ 319) -: وقد روي فيه شيء لو كان ثابتًا أخذنا به ولكنه لا يثبت. وقال الإمام النووي في "شرحه على مسلم": (3/ 205): وهو حديثٌ ضعيفٌ باتفاق الحفاظ!! (¬1) سقطت كلمة "الكفارة" من (ق) و (ك)، وبدل ما بين المعقوفتين في (ن): "لكان".

فصل [من حكمة الله اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة]

فصل [من حكمة اللَّه اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة] وكان من تمام حكمته ورحمته أن لم يأخذ الجُناة بغير حُجَّة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغُ وأصدقُ من إقرار اللسان، فإن من قامت عليه شواهدُ الحال بالجناية كرائحةِ الخمر وقيْئها وحَبَل مَنْ لا زوجَ لها ولا سيّد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممَّن قامت عليه شهادةُ إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة (¬1) وإن نازع فيه بعض الفقهاء، وإما أن تكون الحجة مِنْ خارج عنهم وهي البيِّنةُ، واشتُرط فيها العدالة وعدم التهمة؛ فلا أحسن في العقول والفطر في ذلك، ولو طُلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة (¬2). [السر في أن العقوبات لم يطرد جعلها من جنس الذنوب] فإن قيل: كيف تدَّعون أن هذه العقوبات لاصقةٌ بالعقول وموافقة للمصالح، وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر باللَّه أفظع، ولا أقبح من سفْك الدماء، فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه؟ وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة؟ ثم لو كان ذلك مستحسنًا لكان أولى أن يُحرَّق ثوب من حَرَق (¬3) ثوب غيره، وأن يُذبح حيوان من ذبح حيوان غيره، وأن يُخرَّب دار من خرب دار غيره، وأن يجوز لمن شَتمَ أن يشتم شاتمه، وما الفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه؟ وإذا كان إراقة الدم الأقل (¬4) مفسدة وقطع الطرف كذلك، فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقَطْع الطرف الثاني؟ وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها؟ ولو كانت المفسدةُ الأولى تزولُ بهذه المفسدة ¬

_ (¬1) مضى تخريج ذلك. (¬2) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 16 - 21)، و"عدة الصابرين" (ص 229 - 230)، و"بدائع الفوائد" (3/ 117 - 119، 152 - 156، 174 - 175)، و"زاد المعاد" (2/ 78، 79، 143) للمؤلف -رحمه اللَّه-. (¬3) في (ق): "أن يخرق ثوب من خرق". (¬4) في المطبوع: "الدم الأول".

[الثانية] لكان فيه ما فيه؛ إذ كيف تزال (¬1) مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه؟ فكيف والأولى لا سبيل إلى إزالتها؟ وتقرير (¬2) ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها، ثم كيف حَسُن أن يُعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة، ولم يحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا، ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به (¬3) القذف، ولا المزوِّر على الإمام والمسلمين بقطع أنامله التي اكتسب (¬4) بها التزوير، ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب (¬5) بها الحرام؟ فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسًا وقدرًا وسببًا ليس بقياس، وإنما هو محض المشيئة، وللَّه التصرف في خلقه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالجواب -وباللَّه التوفيق والتأييد- من طريقين: مُجْمَلٍ، ومفصل: أما المُجمل فهو أَنَّ مَنْ شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسًا وقدرًا فهو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، ومن أحاط بكل شيء علمًا، وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف [كان] (¬6) يكون، وأحاط علمُه بوجوه المصالحِ دقيقِها وجليلِها وخفيِّها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعًا عن كمال عِلْمه وحكمته ووضعه كلَّ شيء في مَوْضِعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إيَّاه، كما وَضعَ قوةَ البصر والنور للباصر في العين، وقوة السمع في الأذن، وقوة الشم في الأنف، وقوة النطق في اللسان والشفتين، وقوة البطش في اليد، وقوة المشي في الرجل، وخص كُلَّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يُعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره، فشَملَ إتقانُه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]. وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "إذ تزول"، وما بين المعقوفتين سقط منهما. (¬2) في (ق): "وتعريف"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة: "وتفريق" وهي (ك). (¬3) في (ن): "نطق به"، وفي (ق) و (ك): "ولا القاذف بقطع لسان". (¬4) في (ق): "كتب". (¬5) في (ن): "التبس"، وفي (ق): "التمس". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[ردع المفسدين مستحسن في العقول]

يكون أمره على غاية من الإتقان (¬1) والإحكام أولى وأحرى، ومن لم يعرف ذلك مفصلًا لم يسعه أن ينكره مجملًا، ولا يكون جهلُه بحكمة اللَّه في خَلْقه وأَمره وإتقانِه كذلك وصدوره عن مَحضِ الجلم والحكمة مسوِّغًا له إنكاره (¬2) في نفس الأمر. وسبحان اللَّه ما أعظم ظُلمَ الإنسان وجهله! فإنه لو اعترض على أيِّ صاحب صناعةٍ كانت مما (¬3) تقصرُ عنها معرفتُه وإدراكُه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعتُه من الأسبابِ والآلاتِ والأفعالِ والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك على الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يَسخر منه، ويهزأ به، وعَجبَ من سخف عقله وقلة معرفته. هذا مع تهيئته لمشاركته له (¬4) في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها، هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غيرُ مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل، بل ذلك عنده عتيدٌ حاضر، ثم لا يسعه إلا التسليم له، والاعتراف بحكمته، وإقراره بجهله، [وعجزه] (¬5) عما وصل إليه من ذلك، فهلَّا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كُلَّ شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة؟ وقد كان هذا الوجه وحده كافيًا في دفع كُلِّ شُبْهة وجواب كل سؤال، وهذا غير الطريق التي سلكها نُفاة الحِكَمِ والتعليل، ولكن مع هذا فنتصدَّى للجواب المفصّل، بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة، فنقول وباللَّه التوفيق: [ردع المفسدين مستحسن في العقول] أما قوله: "كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه و [إن] (¬6) ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة" سؤال في غاية الوهْن والفساد، وأول ما يقال لسائله: هل ترى ردْع المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكفِّ عُدوانهم مستحْسنًا في العقول موافقًا لمصالح العباد أو لا تراه كذلك؟ ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أمره في غاية الإتقان". (¬2) في (ن): "مسوغًا لإنكاره". (¬3) في المطبوع و (ق) و (ك): "ممن". (¬4) في المطبوع: "هذا ما نهيئه بمشاركته له"، وفي (ق): "مع تهيئه لمشاركته له"، وفي (ك): "مع تهيآته لمشاركته في". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[التسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة]

فإن قال: "لا أراه كذلك" كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفةِ جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم، ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضَهم بعضًا، وفسد نظامُ العَالَم، وصارت حال الدوابِّ والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم. وإن قال [قائل] (¬1): "بل لا تتم المصلحة إلا بذلك". قيل له: من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتمُّ إلا بمُؤلمٍ يردعُهم ويجعل الجاني نكالًا وعظةً لمن يريد أن يفعل مثل فعله، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة. [التسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة] ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن، بل منافٍ للحكمة والمصلحة؛ فإنه إن ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر، وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة؛ إذ لا يليق أن يُقتل بالنظرة والقُبْلة (¬2) ويُقطع بسرقة الحبة والدينار، وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيحٌ في الفِطرِ والعقول، وكلاهما تأباه حكمةُ الرب تعالى وعَدلُه وأحسانُه إلى خلقه، فأوقع العقوبةَ (¬3) تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدِّين أو الجناية التي ضَرَرها عام؛ فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة، والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. [حكمة القصاص] فلولا القصاص لفسد العَالَم، وأهلك (¬4) الناسُ بعضَهَم بعضًا ابتداءً واستيفاءً، فكأن في القصاص دفعًا لمفسدة التجرِّي على الدماء بالجناية وبالاستيفاء، وقد قالت العرب في جَاهليَّتِها: "القتلُ أَنْفى للقتل"، وسفك الدماء يحقِنُ الدماء (¬5)؛ فلم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬2) في (ق) و (ك): "والفعل". (¬3) في (ن): "العقوبات". (¬4) في (ن): "ولأهلك". (¬5) في المطبوع و (ق): "وبسفك الدماء تحقن الدماء".

تُغسل النجاسةُ بالنجاسة، بل الجناية نجاسة والقصاص طُهْرة، وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفعُ له في عاجلته وآجلته، والموتُ به أسرع الموتات، وأوحاها (¬1) وأقلها ألمًا، [فموته به مصلحة له] (¬2) ولأولياء القتيل ولعموم الناس، وجرى ذلك مَجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي، فإنه حَسَن، وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان؛ فالمصالحُ المترتبةُ على ذبحه أَضعافُ أضعافِ مفسدة إتلافه (¬3)، ثم هذا السؤال الفاسد يظهر فساده وبطلانه بالموت الذي [حتّمه] (¬4) اللَّه على عباده وساوى فيه بين جميعهم، ولولاه لما هنأ العيش، ولا وسعتهم الأرزاق، ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطُّرقات، وفي مفارقة البغيض من اللَّذة والرَّاحة ما في مواصلة الحبيب، والموت مُخلِّص للحي، والموت (¬5) مريح لكل منهما من صاحبه، ومخرج (6) من دار الابتلاء والامتحان وباب (¬6) للدخول في دار الحيوان (¬7). جزى اللَّه عنا الموت خيرًا فإنه ... أبرُّ بنا مِنْ كُلِّ بِرٍّ وألطفُ (¬8) يُعَجِّل تخليصَ النفوس من الأذى ... ويُدْني إلى الدَّارِ التي هي أشرفُ فكم للَّه سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمة لا تُحصى، فكيف إذا كان فيه طُهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني، وتشفٍّ للمظلوم (¬9)، وعدلٍ بين القاتل والمقتول؛ فسبحان من تنزهَت شريعتُه عن خِلَاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الظالمة (¬10) الجائرة. وأما قوله: "لو كان ذلك مستحسنًا في العقول لاستُحسنَ في تَحريقِ ثوبه وتخريبِ داره وذبحِ حيوانه بمقابلته (¬11) بمثله". ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "وأوجأها". (¬2) في (ق): "لموته به". (¬3) في (ق): "ايلامه". (¬4) في (د): "ختمه"، وفي (ن): "كتبه". (¬5) في (ق): "للميت" (¬6) في (ق) و (ك): "مخرج. . . باب" دون واو في أولهما. (¬7) قال (ط): "الحيوان المقصود بها هنا: الحياة، من قوله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت: 64]، قلت: وفي نسخة (د) قال: "الحيوان هنا: الحياة". (¬8) في المطبوع و (ق) و (ك): "وأعطف". (¬9) في (ق): "وتشفي المظلوم". (¬10) في المطبوع: "الضالة". (¬11) في (ن): "لمقابلته"، وفي (ق): "مقابلته"، وفيها "تخريق" بدل "تحريق".

[مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شريعة الظالمين]

[مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شريعة الظالمين] فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفعُ بتغريمه نظيرَ ما أتلفه عليه؛ فإن المِثْل يسدُّ مسدَّ المثل (¬1) من كل وجه؛ فتصير المقابلة مفسدة محضه (¬2)، كما ليس له أن يقتلَ ابنَه أو غلامَه [مقابلة لقتله هو ابنه او غلامه] (¬3)، فإن هذا شَرْعُ الظالمين المعتدين الذي تُنزَّه عنه شريعةُ أحكم الحاكمين، على أن للمقابلة في إتلاف المال [بمثل فعله] (¬4) مساغًا في الاجتهاد، وقد ذهب إليه بعضُ أهل العلم كما تقدم الإشارة إليه في عقوبة الكُفّارِ بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا، أو [كان] (3) يغِيظهم، وهذا بخلاف قَتْل عبدِه إذا قَتَلَ عَبدَه، [أو عَقْر فرسه إذا عُقر فرسه] (¬5)، فإن ذلك ظلم لغير مستحق، ولكن السنة اقتضت التضمين بالمثل، لا إتلاف النظير، كما غَرَّم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناءً بدله، وقال: "إناء بإناء" (¬6) ولا ريب أن هذا أقل فسادًا، [وأصلح للجهتين] (¬7)؛ لأن المُتْلَفَ مالُه إذا أَخذ نظيره صار كمن لم يفت عليه شيءٌ، وانتفع بما أَخذه عوض ماله، فإذا مكنَّاه من إتلافه كان زيادة في إضاعة المال، وما يُراد من التَّشفي، وإذاقة الجاني ألم الإتلاف فحاصل بالغرم غالبًا، ولا التفات إلى الصور النادرة التي لا يتضرر الجاني فيها بالغُرم، ولا شك أن هذا أليق بالعقل، وأبلغ في الصلاح، وأوفق للحكمة، وأيضًا فإنه لو شُرعَ القصاصُ في الأموال ردعًا للجاني لبقي جانب المجني عليه غير مراعى، بل يبقى متألمًا موتورًا غير مجبور، والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا. فإن قيل: فخيِّروا المجني عليه بين أن يُغرِّم الجاني أو يتلف عليه نظير ما أتلفه هو، كما خيَّرتموه في الجناية على طرفه، وخيرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية. ¬

_ (¬1) في (ن): "فإن المثل تشبيه المثل"! وفي (ق): "فإن المثل يساند المثل". (¬2) في (ك) و (ق): "تخصه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "بمثله". (¬5) بدل ما بين المعقوقن في المطبوع: "أو قتل فرسه أو عقر فرسه". (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) ما بين المعقوفتين تحرف في (ن) و (ك) و (ق) إلى: "وأصح للمجتهدين"! وقال في هامش (ق): "لعله: وأصلح للمجني عليه".

[حكمة تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض]

[حكمة تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض] قيل: لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس، وإنما هو زيادة فساد، لا مصلحة فيه بمجرد التشفي، ويكفي تغريمه (¬1) وتعزيره في التشفي، والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر؛ فإن الجنايةَ على النفوس والأعضاء تُدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه ما لا (¬2) تُدخله جناية المال ويدخل عليهم من الغضاضةِ والعار واحتمال الضيم والحمية والتحزق (¬3) لأخذ الثأر ما لا يَجْبره المال أبدًا، حتى إن أولادهم وأعقابهم ليعيَّرون بذلك، ولأولياء القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه (¬4) وأوليائه ما ليس لمن حرق (¬5) ثوبه أو عُقرت (¬6) فرسه، والمجني عليه موتور عليه (¬7) هو وأولياؤه، [فإن لم يُوتر الجاني وأولياؤه ويَجْرعوا] (¬8) من الألم والغَيْظ ما يجرعه الأول لم يكن عدلًا (¬9). وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درْك ثأره وشفاء غيظه، كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية [من الإبل] (¬10): وإنَّ الذي أصبحتُم تخلبونه ... دمًا غير أنَّ اللون ليس بأشقرا وقال جرير (¬11) يُعيِّر من أخذ الدية فاشترى بها نخلًا: ألا أبْلِغْ بني حُجر بن وهب ... بأنَّ التَّمرَ حلوٌ في الشِّتاءِ وقال آخر: إذا صُبَّ ما في الوطْب (¬12) فاعلمْ بأنَّه ... دمُ الشيخ فاشْرَب من دم الشَّيخ أو دَعِ ¬

_ (¬1) تصحفت في المطبوع إلى: "تغريبه"! وقبلها في (ق) و (ك): "لمجرد" بدل "بمجرد". (¬2) في (ك): "لم". (¬3) أشار في هامش (ق) إلى أنها تصحفت في نسخة إلى: "والتحرق" وهي (ك). (¬4) في (ن) و (ق): "المجني عليه". (¬5) تصحفت في (ق) و (ك): إلى "خرق". (¬6) في (ك) و (ق): "وعقر". (¬7) تحرفت في (ق) إلى: "مأثور عليه" وكذا في (ك) وصوبت في الهامش. (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "ويجرعون". (¬9) انظر: "زاد المعاد" (2/ 181، 3/ 202). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬11) قاله يهجو العباس بن يزيد الكندي، والبيت في "ديوان جرير" (2/ 2019 - ط نعمان طه)، و"الأغاني" (8/ 21). (¬12) هو سقاء اللبن.

فصل [ليس من الحكمة إتلاف كل عضو وقعت به معصية]

وقال آخر (¬1): خليلان مختلفٌ شكْلُنا (¬2) ... أريد العلاء ويَبغي السمن أريدُ دماءَ بني مالك ... ورأْيُ المعلَّى (¬3) بياضُ اللبن وهذا وإن كانت الشريعة قد أبطلته وجاءت بما هو خير منه وأصلح في المعاش والمعاد من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفِّي وبين أخذ الدية فإن القصد به أن العرب لم تكن تعيّر من أخذ بدل ماله، ولم تَعدّه ضَعْفًا ولا عجزًا ألبتة، بخلاف من أخذ بدل دم وليه، فما سوَّى اللَّه بين الأمرين في طَبْع ولا عَقْل ولا شَرْع، والإنسان قد يَخْرِقُ (¬4) ثوبه عند الغيظ، ويذبح ماشيته، ويتلف ماله، فلا يلحقه في ذلك من المشقة والغيظ والازدراء به (¬5) ما يلحق من قَتلَ نفسه أو جدع أنفه أو قلع عينه. فصل [ليس من الحكمة إتلاف كل عضو وقعت به معصية] وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة (¬6)، وليس في حكمة اللَّه ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يُتلفَ على كل جانٍ كل عضو عَصاهُ به، فيشرع قَلْعَ عين من نظر إلى مُحرَّم (¬7) وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عُدْوانًا، ولا خفاء بما في هذا من الإسرافِ والتَّجاوزِ في العقوبة وقلب مراتبها؛ وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك، وليس مقصود الحد (¬8) مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصودُ الزجرُ والنَّكالُ والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفِّ عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يُحدِثَ له ما يذوقه من الألم توبةً نصوحًا، وأن ¬

_ (¬1) البيت الأول في (ق) و (ك) هكذا: "خليلان مختلف شكلهما ... أريد العلا وتبغي السمن" (¬2) في (ق) و (ك): "شكلهما". (¬3) في (ن) كأنها "الولي"، وفي (ق): "العلاء". (¬4) في (ن): "يحرق" بالحاء المهملة. (¬5) في (ن): "والإزراء به". (¬6) انظر: "الداء والدواء" (ص 160). (¬7) في (د): "المحرم". (¬8) في المطبوع: "مقصود الشارع".

[الحكمة في حد السرقة]

يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح. [الحكمة في حد السرقة] ثم إن في حدِّ السرقة معنًى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرًا كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون: "فلان ينظرُ إلى فلانٍ مُسارقة" إذا كان ينظر إليه نظرًا خفيًا لا يريد أن يفطنَ له، والعازمُ على السرقة مختفٍ كاتمٌ خائفٌ أن يشعر بمكانه فيؤخذ [به] (¬1)، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء، واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران، ولهذا يقال: "وصلْتُ جَنَاحَ فلان" إذا رأيتَه يسير منفردًا فانضمصت إليه لتصحَبه، فعُوقب السارقُ بقطع اليد قصًا لجناحه، وتسهيلًا لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فُعل به هذا [في] (4) أول مرة بقي مقصوصَ أحدِ الجناحين [ضعيفًا في العَدْو] (¬2)، ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفًا في عَدْوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورِجْله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحمًا على وضَمٍ، فيستريح ويريح. [الحكمة في حد الزنا وتنويعه] وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتَّلذذ بقضاءِ شهوتِه يعمُّ البَدَن، والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب، فعوقب بما يعم بدنه من الجَلْدِ مرةً والقتل بالحجارة مرة؛ ولما كان الزنا من أُمَّهاتِ الجرائم وكبائر المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين، وفي هذا هلاكُ الحرث والنسل فشَاكلَ في معانيه أو في أكثرها القتلَ الذي فيه هلاك ذلك، فزُجرَ عنه بالقصاص ليرتدعَ [به] (¬3) عن مثل فعله من يهمُّ به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم المُوصل إلى إقامة العباداتِ الموصلةِ إلى نعيم الآخرة. ثم إن للزاني حالتين، إحداهما: أن يكون محصنًا قد تزوج، فعلم ما يقع به [من] (¬4) العفاف عن الفروج المُحرَّمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا (¬5)، فزال عذرُه من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ق) و (ك): "ضعيف العدو". (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "التعرض إلى الزنا".

[إتلاف النفس عقوبة أفظع أنواع الجرائم]

والثانية: أن يكون بِكْرًا، لم يعلم ما عَلِمه المُحْصَن ولا عمل ما عمله؛ فحَصلَ له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف؛ فحُقن دمه، وزُجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعًا [عن] (¬1) المعاودة للاستمتاع بالحرام، وبعثًا له على القنع (¬2) بما رزقه اللَّه من الحلال، وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه، وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعُدوان؟. ثم إن قطعَ فَرجَ الزاني فيه من تعطيل النسل [وقطعه] (¬3) عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم، وفيه من المفاسد أضعاف ما يُتوهم فيه من مصلحة الزجر، وفيه إخلاءُ جميع البدن من العقوبة، وقد حصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه؛ فكان من العدل أن تعمه العقوبة، ثم إنه غير [متصور في حق المرأة] (¬4)، وكلاهما زان؛ فلابد أن يستويا في العقوبة، فكان شرع اللَّه سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين (¬5). [إتلاف النفس عقوبة أفظع أنواع الجرائم] وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضررًا وأشدها فسادًا للعالم، وهي الكفرُ الأصلي والطارئُ، والقتل، وزنى المحصن، وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث، وهذه هي الثلاث التي أجاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن مسعود بها حيث قال له: "يا رسول اللَّه، أي الذنبِ أعظم؟ قال: أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك. قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتلَ ولدك خشية أن يَطْعمَ معك. قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك" فأنزل اللَّه -عز وجل- تصديقَ ذلك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآية (¬6). ¬

_ (¬1) في (ط): "على"! (¬2) في (ك): "التقنع". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "مقصوص في غير حق المرأة". (¬5) انظر: "الداء والدواء" (ص 160)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 97 - 100). (¬6) رواه البخاري (4477) في (التفسير): باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، و (4761) باب {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}، و (6001) في (الأدب): باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، و (6811) في (الحدود): باب إثم الزناة، و (7520) في (التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا}، و (7532) باب =

[ترتيب الحد تبعا لترتيب الجرائم]

[ترتيب الحد تبعًا لترتيب الجرائم] ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع الطرف، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفْسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد (¬1)، ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد [هذه] الجنايات كلها، ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتةً (¬2) غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة -وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة- جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمن سوّى بين الناسِ في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمةَ الشرع، واختلفَت عليه أقوال الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثير [من] (¬3) النصوص، ورأى عمر قد زاد في حد الخَمرِ على أربعين (¬4) والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما جلد أربعين (¬5)، وعزر بأمور لم يعزر بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وأَنفذَ على الناس أشياء عفا عنها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)، فيَظن ذلك تعارضًا وتناقضًا، وإنما أتي من قصور علمه وفهمه، وباللَّه التوفيق. فصل [سوّى اللَّه بين العبد والحر في أحكام وفرق بينهما في أخرى] وأما قوله: "وجعل حد الرقيق على النصف من حد الحر، وحاجتهما إلى الزجر واحدة" فلا ريب أن الشارع فَرَّق بين الحر والعبد في أحكام وسوى بينهما في أحكام؛ فسوى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات الثلاثة (¬8) كالطهارة والصلاة و [الصوم لاستوائهما في سببهما، وفرَّق بينهما في العبادات المالية] (¬9) كالحج والزكاة والتكفير بالمال؛ لافتراقهما في سببهما، وأما الحدود فلما كان وقوعُ المعصية من الحر أَقبحَ من وقوعها من العبد من جهة كمال ¬

_ = قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، ومسلم (86) في (الإيمان): باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده، من حديث ابن مسعود. (¬1) انظر: "زاد المعاد" (2/ 113 - 115، 3/ 210)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 224 - 244). (¬2) في (ق): "تفاوته"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه، وما بين المعقوفتين سقط منها. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) و (¬5) و (¬6) و (¬7) كل هذا سبق تخريجه. (¬8) في المطبوع: "البدنية". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

نعمة اللَّه تعالى عليه بالحرِّية، وأن جعله مالكًا لا مملوكًا، ولم يَجْعله تحت قَهْر غيره وتصرفه فيه، ومن جهة تمكنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عَوض اللَّه عنها من المباحات، فقابل النعمة التامة بضدها، واستعمل القدرة في المعصية، فاستحقَّ من العقوبة أكثر مما يستحقه من هو أخفضُ منه (¬1) رتبةً وأنقص منزلة؛ فإن الرجل كلما كانت نعمةُ اللَّه عليه أتم كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتم؛ ولهذا قال تعالى في حق من أتم نعمته عليهن من النساء: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ] (¬2) وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} [الأحزاب: 30، 31] وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها؛ فإن العبدَ كلما كمُلت نعمة اللَّه عليه ينبغي له أن تكونَ طاعتُه له أكمل، وشكره له أتم، ومعصيته له أقبح، وشدة العقوبة تابعة لقبح المعصية؛ ولهذا كان أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالمًا لم ينفعه اللَّه بعلمه (¬3)، فإن نعمة اللَّه عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل، وصدورُ المعصية منه أقبحُ من صدورها من الجاهل، ولا يستوي عند الملوك والرؤساء مَنْ عصاهم من خواصِّهم وحشمهم ومن هو قريبٌ منهم ومن عصاهم من الأطراف والبعداء؛ فجعل حد العبد أخف من حد الحر، جمعًا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه، ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعدة، إظهارًا لشرف الحرية وخطرها، وإعطاءَ كل (¬4) مرتبة حقها من [الأمر كما أعطاها حقها من] (¬5) القدر، ولا تنتقض هذه الحكمة بإعطاء العبد في الآخرة أجرين (¬6)، بل هذا محض الحكمة؛ فإن العبد كان عليه في الدنيا حَقَّان: حق للَّه وحق لسيده فأعطي بإزاء قيامه بكل حق أجرًا، فاتفقت حكمة الشرع والقَدَر والجَزاء، والحمد للَّه رب العالمين. ¬

_ (¬1) تحرفت في (ق) و (ن) و (ك) إلى: "أخص منه"!. (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "إلى قوله". (¬3) بهذا اللفظ ورد حديث مرفوع لكنه لا يصح كما فصله شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الضعيفة" (1634) وقد صح بمعناه أحاديث كثيرة بعضها في "الصحيحين". (¬4) في (د): "لكل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) روى البخاري في صحيحه (97) في العلم: باب تعليم الرجل أمته وأهله -وأطرافه هناك- ومسلم (154) في الإيمان: باب وجوب الإيمان برسالة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى جميع الناس من حديث أبي موسى مرفوعا: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين. . . وعبد مملوك أدى حَقَّ اللَّه تعالى وحق سيده، فله أجران. . ." وقد جمع السيوطي رسالة في الخصال التي يُعطى العبد بسببها في الآخرة أجرين سماها: "مطلع البدرين" وهي مطبوعة.

فصل [حكمة شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها]

فصل [حكمة شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها] وأما قوله: "وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق بها (¬1) العار" فهذا من أعظم محاسن الشريعة؛ فإن قاذف الأجنبية مستغنٍ عن قذفها، لا حاجة له إليه ألبتة؛ فإنَّ زناها لا يضره شيئًا، ولا يُفسد عليه فراشه، ولا يُعلق عليه أولادًا من غيره، فقذفُها (¬2) عدوانٌ محض، وأذًى لمحصنةٍ غافلةٍ مؤمنةٍ، فترتب عليه الحدّ؛ زجرًا له وعقوبةً، وأما الزوجة فإنه يلحقه بزناها من العارِ والمَسبَّة وإفساد الفراش وإلحاق ولد غيره به، وانصراف قلبها عنه إلى غيره؛ فهو محتاجٌ إلى قذفها، ونفي النسب الفاسد عنه، وتخلصه من المسبة والعار؛ لكونه زوج بغي فاجرة، فلا (¬3) يمكن إقامة البينة على زناها في الغالب، وهي لا تقرُّ به، وقول الزوج عليها غير مقبول؛ فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان، وتأكيدها بدعائه على نفسه باللعنة ودعائها على نفسها بالغضب إن كانا كاذِبَيْن، ثم ينفسخ (¬4) النكاح بينهما؛ إذ لا يمكن أحدهما أن يصفو للآخر أبدًا؛ فهذا أحسنُ حكم يُفصل به بينهما في الدنيا، وليس بعده أعدل منه، ولا أحكم، ولا أصلح، ولو جمعت عقول العالمين لم يهتدوا إليه، فتبارك من أبان (¬5) ربوبيتَه ووحدانيته وحكمته وعلمه في شرعه وخلقه. فصل [الحكمة في تخصيص المسافر بالرخص] وأما قوله: "وجَوز للمسافر المُترفِّه في سفره رخصة الفطر والقصْر، دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة"، فلا ريبَ أن الفِطْرَ والقصر يختص بالمسافر، ولا يُفطر المقيم إلا لمرض، وهذا من كمال حكمة الشارع؛ فإن السفر في نفسه قطعة من العَذَاب (¬6)، وهو في نفسه مشقةٌ وجهد، [ولو كان المسافر من ¬

_ (¬1) في (د): "بهما". (¬2) في (د): "وقذفها". (¬3) في (د): "ولا". (¬4) في (د): "يفسخ". (¬5) في (ك) و (ق): "آيات". (¬6) رواه البخاري (1804) في (العمرة): باب السفر قطعة من العذاب، و (3001) في (الجهاد): باب السرعة في السير، و (5429) في (الأطعمة): باب ذكر الأطعمة، ومسلم (1927) في (الإمارة): باب السفر قطعة من العذاب، من حديث أبي هريرة.

فصل [الفرق بين نذر الطاعة والحلف بها]

أرْفَه الناس فإنه في مشقة وجهد] (¬1) بحسبه، فكان من رحمة اللَّه بعباده وبِرِّه بهم أن خفَّف عنهم شطر الصلاة واكتفى منهم بالشَّطْر، وخفف عنهم أداء فرض الصوم في السفر، واكتفى منهم بأدائِه في الحَضَر، كما شرع مثل ذلك في حق المريض والحائض، فلم يُفوِّت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة، ولم يلزمهم بها في السفر كإلزامهم في الحضر. وأما الإقامة فلا موجب لإسقاط بعضِ الواجب فيها ولا تأخِيره، وما يعرضُ فيها من المشقة والشغل فأمرٌ لا ينضبط ولا يَنْحَصر؛ فلو جوَّز (¬2) لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخُّص ضاعَ الواجبُ واضمحل بالكلية، وإن جوز للبعض دون البعض لم ينضبط؛ فإنه لا وصف يضبط ما تجوز معه الرخصة وما لا تجوز، بخلاف السَّفر، على أن المشقة قد عُلِّق بها من التخفيف ما يناسبها، فإن كانت مشقةَ مرضٍ وألم يضر به جاز معها الفطر والصلاة قاعدًا أو على جنب، وذلك نظير قصر العدد (¬3)، وإن كانت مشقةَ تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحةَ لمن لا تعبَ له، بل على قدر التعب تكون الراحة، فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد اللَّه ومنه. فصل [الفرق بين نذر الطاعة والحلف بها] وأما قوله: "وأوجبَ على مَنْ نذر للَّه طاعة الوفاء بها، وَجوَّز لمن حلف عليها أن يتركها ويكفر يمينه، وكلاهما قد التزم فعلها [للَّه] (1) " فهذا السؤال يورد على وجهين: أحدهما: أن يحلف ليفعلنَّها نحو أن يقول: واللَّه لأصومنَّ الاثنين والخميس ولأَتصدقنَّ، كما يقول: للَّه عليَّ أن أفعل ذلك. والثاني: أن يحلف بها كما يقول: إن كَلَّمتُ فلانا فلله عليَّ صومُ سنة وصدقة ألف. [الالتزام بالطاعة أربعة أقسام] فإن ورد على الوجه الأول فجوابه أن الملتزمَ الطاعةِ للَّه لا يخرج التزامُه للَّه عن أربعة أقسام: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع: "فلو جاز". (¬3) "أي: عدد الركعات بجعل الأربع اثنتين" (د).

أحدها: التزامٌ بيمينٍ مجرَّدة. الثاني: التزامٌ بنذر مجرد. الثالث: التزام بيمين مؤكدة بنذر. الرابع: التزام بنذر مؤكد بيمين. فالأول نحو قوله: "واللَّهِ لأتصدقنَّ"، والثاني نحو: "للَّه علي أن أتصدقَ"، والثالث نحو: "واللَّه إن شَفَى اللَّه مريضي فعليَّ (¬1) صدقة كذا"، والرابع نحو: "إنْ شفى اللَّه مريضي فواللَّه لأتصدقن" وهذا كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] فهذا نذر مؤكد بيمين، ولئن لم يقل فيه: "فعليّ"؛ إذ ليس ذلك من شرط النذر، بل إذا قال: إن سلمني اللَّه تصدَّقتُ، أو لأَتصدقنَّ، فهو وعد وعده اللَّه فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] فوعدُ العبدِ رَبَّه نذرٌ يجب عليه أن يفيَ له به؛ فإنه جعله جزاءً وشكرًا له على نعمته عليه، فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات، وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداء: "للَّه علي كذا"؛ فإن هذا التزام منه لنفسه أن يفعلَ ذلك، والأول تعليقٌ بشرط وقد وُجِدَ، فيجب فعل المشروط عنده؛ لالتزامه له بوعده، فإن الالتزام تارةً يكون بصريح الإيجاب، وتارة يكون بالوعد، وتارة يكون بالشروع كشروعه في الجهاد والحج والعمرة، والالتزام بالوعد آكد من الالتزام بالشروع، وآكد من الالتزام بصريح الإيجاب؛ فإن اللَّه سبحانه ذَمَّ من خالف ما التزمه له بالوعد، وعاقبه بالنفاق في قلبه، ومدح من وَفَّى بما نذره له، وأمر بإتمام ما شَرعَ فيه له من الحج والعمرة، فجاء الالتزام بالوعد آكَدَ الأقسام الثلاثة، وإخلافه يُعْقِبُ النفاق في القلب، وأما إذا حلف يمينًا مجردةً ليفعلنَّ كذا فهذا حضٌّ منه لنفسه، وحثٌّ على فعله باليمين، وليس إيجابًا عليها، فإن اليمين لا تُوجب شيئًا (¬2) ولا تُحرمه، ولكن الحالف عَقدَ اليمين باللَّه ليفعلنَّه، فأباح اللَّه سبحانه له حَلَّ ما عقده بالكفارة، ولهذا سَمَّاها اللَّه تَحِلَّة؛ فإنها تَحلُّ عقد اليمين، وليست رافعة لإثم الحنث كما يتوهَمه بعضُ الفقهاء؛ فإنَّ الحنث قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب، وإن كان ¬

_ (¬1) "هذا النذر المشروط هو الذي لا يأتي بخير، وأكمل صورة للنذر: صورة نذر أم مريم" (و). (¬2) تصحفت في (ن) إلى: "سببًا"!.

[الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب]

مباحًا، فالشارع لم يُبح (¬1) سببَ الإثم، وإنما شرعها اللَّه حلا لعقد اليمين كما شرع [اللَّه] (¬2) الاستثناءَ مانعًا من عقدها؛ فظهر الفرق بين ما التزمه للَّه وبين ما التزم باللَّه؛ فالأول ليس فيه إلا الوفاء، والثاني يُخَيرُ فيه بين الوفاء وبين الكفارة حيث يسوغ ذلك، وسِرُّ هذا أن ما التزم له آكد مما التزم به، فإنّ الأوَل متعلق بإلاهيَّته، والثاني بربوبيته؛ فالأول من أحكام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] والثاني من أحكام: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وإياك نعبد قِسْمُ اللَّه من هاتين الكلمتين، وإياك نستعين قسم العبد كما في الحديث الصحيح الإلهي: "هذه بيني وبين عَبْدي نصفين" (¬3) وبهذا يخرجُ الجواب عن إيراد هذا السؤال على الوجه الثاني، وأن (¬4) ما نَذَره للَّه من هذه الطاعات يجبُ الوفاء به، وما أخرجه مخرج اليمين يُخيَّر بين الوفاء به وبين التكفير؛ لأن الأول متعلق بإلاهيَّته، والثاني بربوبيته، فوجب الوفاء بالقسم الأول، ويُخير الحالف في القسم الثاني، وهذا من أسرار الشريعة، وكمالها وعظمتها (¬5). ويزيد ذلك وضوحًا أن الحالف بالتزام هذه الواجبات قصدُه ألا تكون، ولكراهته للزومها له حلف بها (¬6)، فقصده ألا يكون الشرطُ فيها ولا الجزاءُ، ولذلك يُسمى نذر اللّجاجِ والغَضَب، فلم يُلزمه الشارع به إذا كان غير مريد له ولا مُتقرِّب به إلى اللَّه، فلم يعقده للَّه، وإنما عقده به، فهو يمينٌ محضة، فإلحاقُه بنذر القربة إلحاقٌ له بغير شَبَهِه، وقطع له عن الإلحاق بنظيره، وعُذر من ألحقه بنذر القربة شبهه به في اللفظ والصورة، ولكن المُلْحِقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني، وقد اتفق الناس على أنه لو قال: "إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني" فحنث أنه لا يَكْفُر بذلك [إن قصد اليمين] (¬7)؛ لأن قَصْد اليمين منع من الكفر (¬8). [الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب] وبهذا وغيره احتج شيخ الإسلام ابن تيمية (¬9) على أن الحلف بالطلاق ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "لا يبيح". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) رواه مسلم (395) في (الصلاة): باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، من حديث أبي هريرة. (¬4) في (ك) و (ق): "وهو أن". (¬5) في المطبوع: "وعظمها". (¬6) في (ق): "ولكراهته لزومها حلف بها". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬8) انظر "الإشراف" (4/ 272 - مسألة 1610 - بتحقيقي). (¬9) انظر: "مجموع الفتاوى" (33/ 47 - 50، 54، 56، 58 - 60، 65 - 66، 195 و 35/ =

فصل [الحكمة في التفرقة بين الضبع وغيره من ذي الناب]

والعتاق كنذر اللجاج والغضب، وكالحلف بقوله: "إنْ فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني" وحكاه إجماع الصحابة في العتق، وحكاه غيره إجماعًا لهم في الحلف بالطلاق على أنه لا يلزم. قال: لأنه قد صَحَّ عن علي بن أبي طالب (¬1) ولا يُعرف له في الصحابة مخالف، ذكره ابن بَزيزة في "شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي" (¬2)، فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن، وكان حاصل ما ردوا به [قوله] (3) أربعة أشياء: أحدها -وهو عمدة القوم- أنه خلاف مرسوم السلطان، [و] (¬3) الثاني: أنه خلاف الأئمة الأربعة، والثالث: أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: "إن أبرأتني فأنتِ طالق" ففعلَتْ (¬4)، والرابع: أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول، فلا يلتفت إليه، فنقَضَ حُجَجَهم وأقام نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول، وصنَّف في المسألة قريبًا من ألف ورقة، ثم مضى لسبيله راجيًا من اللَّه أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون. فصل [الحكمة في التفرقة بين الضبع وغيره من ذي الناب] [وأما قولهم] (¬5): "وحَرم كل ذي ناب من السباع وأباح الضبع (¬6) ولها ناب" فلا ريب أنه حرم كل ذي ناب من السباع، وإن كان بعض العلماء خفي عليه تحريمه فقال بمبلغ علمه، وأما الضبع فروي [عنه] (¬7) فيها حديث صححه كثير من ¬

_ = 253، 254، 257)، و"تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 738 و 3/ 1243). (¬1) مضى تخريجه. وفي المطبوع زيادة بعدها: "كرم اللَّه وجهه في الجنة". (¬2) مؤلفه أبو محمد عبد العزيز بن إبراهيم (ت بعد 660 هـ)، واسم شرحه "مصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام" كما تقدم. وانظر: "موارد ابن القيم" (رقم 496)، وكتابي "معجم المصنفات الواردة في فتح الباري" (رقم 667)، و"توضيح المشتبه" (1/ 482)، و"التبصير" (1/ 79). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬4) في (ن): "فعلت". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين سقط في (ك): "وقولهم"، وفي (ق): "وقوله". (¬6) "الضبع مؤنث، والمذكر: ضِبْعان بكسر الضاد وسكون الباء" (و). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

أهل العلم [بالحديث] (¬1) فذهبوا إليه وجعلوه مخصصًا لعموم أحاديث التحريم، كما خصت العرايا لأحاديث المزابنة (¬2) وطائفة لم تصححه وحرّموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب، وقالوا: وقد تواترت الآثار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، وصحت صحةً لا مطعن فيها من حديث علي، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخُشني (¬3). ¬

_ (¬1) سيذكره المؤلف قريبًا. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) "المزابنة: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر، وأصله من الزبن، وهو الدفع كأن كل واحد من المتبايعين يزبن صاحبه عن حقه بما يزداد منه، وإنما نُهي عنها لما يقع فيها من الغبن والجهالة، والعرايا جمع عرية فعيلة بمعنى مفعولة، من عراه يعروه إذا قصده، ويحتمل أن يكون فعيلة بمعنى فاعلة من عرى يعرى إذا خلع ثوبه كأنها عريت من جملة التحريم، فعريت، أي خرجت، وقد اختلفت في تفسيرها فقيل: إنه لما نهى عن المزابنة، رخص في جملة المزابنة في العرايا، وهو أن من لا نخل له من ذوي الحاجة يدرك الرطب، ولا نقد بيده يشتري به الرطب لعياله، ولا نخل له يطعمهم منه، ويكون قد فضل له من قوته تمر، فيجيء إلى صاحب النخل، فيقول له: بعني ثمر نخلة أو نخلتين بخرصها من التمر، فيعطيه ذلك الفاضل من التمر بتمر تلك النخلات ليصيب من رطبها مع الناس، فرخص فيه إذا كان دون خمسة أوسق، والوسق: ستون صاعًا، وهو ثلاث مئة وعشرون رطلا عند أهل الحجاز، وأربع مئة وثمانون رطلا عند أهل العراق على اختلافهم في مقدار الصاع والمد" (و) وانظر: "الموافقات" (4/ 445 - 446، 487، 491 و 5/ 119، 195، 197). (¬3) حديث ابن عباس: رواه مسلم في "صحيحه" (1934) في (الصيد): باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع. وحديث أبي هريرة: رواه مسلم (1933). وحديث أبي ثعلبة الخشني: رواه البخاري (5530) في (الصيد): باب أكل كل ذي ناب من السباع، و (5780 و 5781) في (الطب): باب ألباب الأتن، ومسلم (1932). وأما حديث علي: فقد رواه عبد الرزاق (218) -وتحرف عنده ابن جريج إلى خالد: فليصحح- والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/ 263، 373 ط الهندية) أو (3473)، وفي "معاني الآثار" (4/ 190) من طريق ابن جريج عن حبيب بن أبي ثابت عن عاصم بن ضمرة عنه. وابن جريج وحبيب كلاهما مدلس. وقد رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زيادات المسند" (1/ 147)، وأبو يعلى (357)، والعقيلي (1/ 224)، وابن عدي (5/ 1776)، والحاكم في "علوم الحديث" (ص 109) من طريق الحسن بن ذكوان عن حبيب بن أبي ثابت به. روى العقيلي عن الأثرم قال: قلت لأبي عبد اللَّه: ما تقول في الحسن بن ذكوان؟ قال: أحاديثه بواطيل يروي عن حبيب بن أبي ثابت. ثم قال: هو لم يسمع من حبيب إنما هذه أحاديث عمرو بن خالد الواسطي. =

[الرد على حديث إباحة أكل الضبع]

[الرد على حديث إباحة أكل الضبع] قالوا: وأما حديث الضبع (¬1) فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار (¬2)، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه. قالوا: ولفظ الحديث يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل (¬3) إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدًا فقط، ولا يلزم من كونها صيدًا جواز أكلها، فظن جابر أن كونها صيدًا يدل على أكلها، فأفتى به من قوله ورفع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما سمعه من كونها صيدًا. ونحن نذكر لفظ الحديث ليتبين ما ذكرناه، فروى الترمذي في "جامعه" من حديث [عبد اللَّه بن] (¬4) عُبيد بن عُمير الليثي، عن عبد الرحمن بن أبي عمار (2) قال: قلت لجابر بن عبد اللَّه: آكُلُ الضبع؟ قال: نعم، قلت: أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: أسمعت ذلك من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم (¬5). قال الترمذي: سألت ¬

_ = وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل" (ص 44): قُريء على العباس الدوري عن يحيى بن معين، قال: الحسن بن ذكوان لم يسمع من حبيب بن أبي ثابت شيئًا، إنما سمع من عمرو بن خالد عنه، وعمرو بن خالد لا يساوي حديثه شيئًا إنما هو كذاب. وقال الحافظ في "التلخيص" (4/ 151): "إسناد حسن إلا أنّ له علة. . . ."، ثم ذكر ما نقلناه عن أحمد وابن معين. أما الحافظ الهيثمي فقال في "المجمع" (4/ 87): رجاله ثقات!!. (¬1) سيأتي ذكره وتخريجه بعد أسطر. (¬2) في المطبوع و (ك) و (ق): "عمارة". (¬3) في (ق): "الكل"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من جميع النسخ، وأثبته من مصادر التخريج. (¬5) رواه الدارمي (2/ 74)، وابن أبي شيبة (4/ 77)، وأبو داود (3801) في (الأطعمة): باب في أكل الضبع، وابن ماجه (3085) في (الحج) باب جزاء الصيد يصيبه المحرم، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 164)، وفي "مشكل الآثار" (3467 و 3468 و 3469 و 3470)، وابن خزيمة (2646)، وابن حبان (3964)، وابن الغطريف في "جزئه" (رقم 78) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (17/ 232) - والدارقطني (2/ 246)، والحاكم (1/ 452)، والبيهقي (5/ 183 و 9/ 318) من طرق عن جرير بن حازم قال: سمعت عبد اللَّه بن عبيد بن عمير يقول: حدثني عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر به مرفوعًا. وإسناده صحيح على شرط مسلم وصححه ابن حبان وابن خزيمة والبيهقي وليس هو في الترمذي باللفظ الذي ذكره المصنف. وأما حديث الترمذي فلفظه: عن ابن أبي عمار قال: قلت لجابر: الضبع صيد هي؟ قال: نعم. قال: قلت: آكلها؟ قال: نعم. قال: قلت: أقاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم. رواه بهذا اللفظ أحمد في "مسنده" (3/ 318 و 332)، والدارمي (2/ 74)، والترمذي =

محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هو صحيح. فهذا (¬1) يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا، ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال: عن [عبد اللَّه بن] (¬2) عبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار (¬3)، عن جابر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سُئل عن الضبع فقال: "هي صيد، وفيها كَبْش" (¬4) قالوا: وكذلك حديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر يرفعه: "الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مُسِن ويؤكل" (¬5)، قال الحاكم: حديث صحيح، وقوله: "ويؤكل" يحتمل الوقف والرفع، وإذا احتمل ذلك لم تُعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم. قالوا: ولو كان حديث جابر صريحًا في الإباحة لكان فردًا، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادَّعى الطحاويُّ (¬6) وغيره (¬7) تواترها، فلا يقدم حديث جابر عليها. قالوا: والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه (¬8)، وهو مُغْرًى (¬9) بأكل لحوم الناس ونَبْش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم، وأكل الجيف، ويكسر بنابه (¬10). ¬

_ = (851) في (الحج): باب ما جاء في الضبع يصيبها المحرم، و (1791) في (الأطعمة): باب ما جاء في الضبع، وفي "علله الكبير" (318)، والنسائي (5/ 191) في (مناسك الحج): باب ما لا يقتله المحرم، و (7/ 200) في (الصيد والذبائح): باب الضبع، وابن ماجه (3236) مختصرًا في (الصيد): باب الضبع، وعبد الرزاق (8682)، وأحمد (3/ 297)، والدارقطني (2/ 246)، والطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 164)، وفي "المشكل" (3465)، وابن الجارود (438)، وابن خزيمة (2645)، وأبو يعلى (2127)، وابن حبان (3965)، والبيهقي (5/ 190)، وغيرهم كثير من طرق عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي عمار عن جابر باللفظ المذكور. ونقل الترمذي عن البخاري أنه قال: صحيح، وانظر "العلل الكبير" (318) للترمذي، و"التلخيص الحبير" (4/ 280). (¬1) في (د): "وهذا". (¬2) ما بين المعقوفتين من مصادر التخريج فقط. (¬3) في المطبوع و (ك) و (ق): "عمارة". (¬4) مضى تخريجه قريبًا. (¬5) أخرجه الطحاوي (4/ 372)، وابن خزيمة (2648)، وابن عدي (2/ 782 و 3/ 1002) والدارقطني (2/ 245)، والحاكم (1/ 452)، والبيهقي (5/ 183)، والخطيب (5/ 167 - 168) من طرق ثلاث عن حسان بن إبراهيم ثنا إبراهيم الصائغ به. وإسناده صحيح، وصححه الحاكم وشيخنا الألباني في "الإرواء" (4/ 243). (¬6) في شرح "معاني الآثار" (4/ 190). (¬7) انظر: "نظم المتناثر" (رقم 162). (¬8) في (ك) و (ق): "أشره الحيوان وأخمثه". (¬9) في (ن): "وهو يفري". (¬10) في (ق) و (ك): "ويكسر نابه"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة: "ويكشر نابه".

[رأي الذين صححوا الحديث]

قالوا: واللَّه سبحانه قد حرم علينا الخبائث، وحَرَّم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذوات الأنياب (¬1)، والضبع لا يخرج عن هذا وهذا (¬2). [وقالوا: وغاية حديث] (¬3) جابر يدل على أنها صيد يُفدَى في الإحرام، ولا يلزم من ذلك أكلها، وقد قال بكر بن محمد: سُئل أبو عبد اللَّه -يعني الإمام أحمد- عن محرم قتل ثعلبًا فقال: عليه الجزاء، هي صيد، ولكن لا يؤكل. وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد اللَّه سُئل عن الثعلب، فقال: الثعلب سبع. فقد نص على أنه سبع وأنه يُفْدى في الإحرام، ولمَّا جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الضبع كبشًا، ظن جابر أنه يُؤكل فأفتى به. [رأي الذين صححوا الحديث] والذين صَحَّحوا الحديث جعلوه مخصصًا لعموم تحريم [ذي الناب من غير فرق بينهما، حتى قالوا: ويحرم أكل] (¬4) كل ذي ناب من السباع [إلا الضبع] (4)، وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلًا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما. وبحمد اللَّه إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك، أعني شريعة التنزيل لا شريعة التأويل. ومن تأمل ألفاظه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال؛ فإنه إنما حَرَّم ما اشتمل على الوصفين: أن يكون له ناب، وأن يكون من السباع العادِيَة بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد. وأما الضبع فإنما فيه أحدُ الوصفين، وهو كونها ذات ناب، وليست من السباع العادية. ولا ريب أن السِّباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها؛ فإن الغَاذِي شبيهٌ بالمغتذي، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب (¬5) التسوية بينهما في ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) "وهناك من الأئمة من أفتى بجواز أكل كل ما لم يذكر في آية التحريم: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ} [الأنعام: 145]. فالآية محكمة، وبالحصر المحكم فيها جعلت المحرمات أربعة أنواع فقط كما ذكر في سورة البقرة" (و). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "قالوا وحديث". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "تجد"، وقال في الهامش: "لعله: تجب".

فصل [سر تخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده]

التحريم، ولا يعد الضبع من السباع لغة ولا عرفًا (¬1)، واللَّه أعلم. فصل [سر تخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده] وأما قوله "وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين (¬2) دون غيره ممن هو أفضل منه" فلا ريب أن هذا من خصائصه، ولو شهد عنده -صلى اللَّه عليه وسلم- أو عند غيره لكان بمنزلة شاهدين اثنين (¬3)، وهذا التخصيص إنما كان لمخصِّص اقتضاه، وهو مبادرته دون من حَضَر (¬4) من الصحابة إلى الشهادة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قد بايعَ الأعرابيّ، وكان فرْضٌ على كل من سمع هذه القصة أن يشهدَ أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازمِ الإيمان والشهادة بتصديقه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطَّن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه (¬5) في كل ما يُخبر به؛ فلا فرق بين ما يخبر به عن اللَّه وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا، ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا؛ فلما تفطّن خُزيمة دون من حضر لذلك استحق أن تُجعل شهادته بشهادتين. فصل [سر تخصيص أبي بردة بإجزاء تضحيته بعناق] وأما تخصيصه أبا بُردة بن نيَار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده (¬6) فلموجب أيضًا، وهو أنه ذبح قبل الصلاة متأولًا غير عالمٍ بعدم الإجزاء، فلما أخبره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تلك ليست تجزئ (¬7) وإنما هي شاة لحم أراد إعادة الأضحية، فلم (¬8) يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شاتَيْ لحم؛ فرخص له في التضحية بها (¬9)؛ لكونه معذورًا وقد تقدم منه ذبحٌ تأوَّلَ فيه، وكان معذورًا بتأويله، وذلك كله قبل [استقرار] (¬10) الحكم، فلما استقر الحكم لم يكن بعد ذلك يجزئ إلا ما وافق الشرع المستقر، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) في (ن): "لا لغة ولا عرفًا"، وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 335). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ق): "شاهدي الدين". (¬4) في (ك) و (ق): "حضره". (¬5) في (ك) و (ق): "بصدقه". (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في المطبوع: "ليست بأضحية". (¬8) في (ك) و (ق): "ولم". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

فصل [سر التفرقة في الوصف بين صلاة الليل وصلاة النهار]

فصل [سر التفرقة في الوصف بين صلاة الليل وصلاة النهار] وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار ففي غاية المناسبة والحكمة؛ فإن الليل مظنة هدوِّ الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع (¬1) الهمم المـ[ـشتتة بالنهار] (¬2)، فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن، والليل محل مواطأة القلب للسان ومُواطأة اللسان للأذن؛ ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات (¬3)، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ فيها بالستين إلى المائة (¬4). وكان الصِّدِّيقُ يقرأ فيها بالبقرة (¬5)، وعُمر بالنحلِ وهود وبني إسرائيل ويونس ¬

_ (¬1) في (ق): "واحتمال"، وقال في الهامش: "لعله: واجتماع". (¬2) في (ك) و (ق): "في النهار". (¬3) أحوال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في القراءة في صلاة الفجر كانت أطول من غيرها. فقد روى مسلم في "صحيحه" (455) في (الصلاة): باب القراءة في الصبح من حديث عبد اللَّه بن السائب أنه استفتح سورة (المؤمنون) حتى إذا وصل عند ذكر موسى وهارون أصابته سعلة فركع، وعلقه البخاري في "صحيحه" (2/ 255 - فتح) في (الأذان): باب الجمع بين السورتين في ركعة. وروى مسلم -أيضًا- (458) من حديث جابر بن سمرة: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقرأ في الفجر بسورة (ق). وفي "الصحيحين" -كما يأتي في الذي بعده- أنه كان يقرأ فيها من الستين إلى مئة آية. وفي "صحيح مسلم" -أيضًا- (459 و 460) من حديث جابر بن سمرة: أنه كان يقرأ فيها بأطول من الظهر والعصر. وروى أحمد (2/ 26)، والنسائي (2/ 95)، والطيالسي (1816)، والطبراني (13194)، وابن حبان (1817)، والبيهقي (3/ 118) من حديث ابن عمر: أنه كان يقرأ بالصَّافات. إلا أنه ورد عنه -أيضًا- أنه كان يخفف، ففي حديث جابر بن سمرة السابق في قراءته بسورة (ق) قال: وكانت صلاته بعد تخفيفًا. وفي صحيح مسلم (456) من حديث عمرو بن حريث أنه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ في الفجر (والليل إذا عسعس). وفي بعض الروايات أنه قرأ فيهم (المعوذتين). (¬4) رواه البخاري (541) في (المواقيت): باب وقت الظهر عند الزوال، و (547) باب وقت العصر، و (599) باب ما يكره من السمر بعد العشاء، و (771) في (الأذان): باب القراءة في الفجر، ومسلم (461) في (الصلاة): باب القراءة في الصبح، و (647) في (المساجد): باب استحباب التبكير بالصبح، من حديث أبي برزة. (¬5) رواه عبد الرزاق (2711)، وابن أبي شيبة (1/ 389)، والبيهقي في "السنن الكبرى" =

فصل [السر في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام وإن قربوا]

ونحوها من السور (¬1)؛ لأن القلب أفْرغُ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم، فإذا كان أول ما يقْرع سمعه كلام اللَّه الذي فيه الخير كله بحذافيره صادفه خاليًا من الشواغل فتمكَّن فيه من غير مزاحم؛ وأما النهار فلما كان بضد ذلك كانت قراءة صلاته سرًا (¬2) إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح منه؛ كالمجَامع العِظام في العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف؛ فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود، وأنفع للجمع، وفيه من قراءة كلام اللَّه [عليهم] (¬3) وتبليغه في المجامع العِظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة، واللَّه أعلم. فصل [السر في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام وإن قربوا] وأما قوله: "وورَّث ابنَ ابن العم وإن بعُدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة للأم" فنعم، وهذا من كمال الشريعة وجلالتها؛ فإنَّ ابنَ العم من عصبته القائمين بنصرته وموالاته والذَّبِّ عنه وحمل العقل عنه، فبنُو أبيه هم أولياؤه ¬

_ = (2/ 389) من طريق الزهري عن أنس قال: صليت خلف أبي بكر الفجر فاستفتح البقرة فقرأها في ركعتين وإسناده صحيح. ورواه عبد الرزاق (2712) من طريق قتادة عن أنس وإسناده صحيح. ورواه مالك في "الموطأ" (1/ 82)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (1/ 84)، والبيهقي (2/ 389)، وعبد الرزاق (2713) عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي بكر ورواته ثقات لكن عروة لم يدرك أبا بكر. (¬1) الذي وجدته عن عمر في قراءته في الفجر ما رواه ابن أبي شيبة (1/ 389) من طريق الزبير بن خِرِّيت عن عبد اللَّه بن شقيق عن الأحنف قال: صليت خلف عمر الغداة فقرأ (يونس وهود) ونحوهما. وإسناده صحيح. وروى مالك في "الموطأ" (1/ 82)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (1/ 84)، والبيهقي في "الكبرى" (2/ 389)، وعبد الرزاق (2715) عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة قال: ما حفظت سورة يوسف وسورة الحج إلا من عمر. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 389) مختصرًا وسقط منه (عروة)، واقتصر منه على سورة يوسف. وإسناده صحيح. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" "ومصنف عبد الرزاق" أنه قرأ -أيضًا- بالكهف وآل عمران. وأما سورة بني إسرائيل التي ذكرها ابن القيم، فقد وجدت ابن مسعود كان يقرأ بها في صلاة الفجر؛ كما رواه ابن أبي شيبة (1/ 389) بإسناد صحيح عنه. (¬2) في (د) و (ك): "سرية". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

فصل [الفرق بين الشفعة وأخذ مال الغير]

وعصبته والمحامون دونه، وأما (¬1) قرابة الأم فإنهم بمنزلة الأجانب، وإنما ينتسبون (¬2) إلى آبائهم، فهم بمنزلة أقارب البنات كما قال القائل (¬3): بنُونا بنُو أبنائِنا، وبناتُنا ... بنوهُنّ أبناءُ الرجال الأباعِدِ فمن كمال حكمة الشارع أن جعل الميراث لأقارب الأب، وقدَّمهم على أقارب الأم، وإنما ورث معهم من أقارب الأم مَنْ ركضَ الميت معهم في بطن الأم، وهم إخوته (¬4) أو من قربت قرابته جدًا وهن (¬5) جداته لقوة إيلادهن وقرب أولادهن (¬6) منه؛ فإذا عدمت قرابة الأب انتقل الميراث إلى قرابة الأم، وكانوا أولى من الأجانب فهذا الذي جاءت به الشريعة [أكملُ شيء] (¬7) وأعْدلُه وأحسنُه. فصل [الفرق بين الشفعة وأخذ مال الغير] وأما قوله: "وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه، ثم سَلَّطه على أَخْذِ عقاره وأرضه بالشُّفعة، ثم شرع الشفعة فيما يمكن التَّخلص من ضرر الشركة فيه بالقسمة دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان" فهذا السؤال قد أورده على وجهين: أحدهما: على أصل الشُّفعة وأن الاستحقاق بها منافٍ لتحريم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه. والثاني: أنه خَصَّ بعض المبيع بالشفعة دون بعض مع قيام السبب الموجب للشفعة، وهو ضرر الشركة. ونحن بحمد اللَّه وعونه نجيب عن الأمرين؛ فنقول: [ورود الشرع بالشفعة دليل على الحكمة] من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة (¬8)، ولا ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فأما". (¬2) في (ق) و (ك): "ينسبون". (¬3) هو الفرزدق، والبيت في "ديوانه" (217) وذكره المصنف في "جلاء الأفهام" (386، 406 - بتحقيقي). (¬4) في المطبوع: "وهم أخواته". (¬5) في (ك): "وهي". (¬6) في (ك): "أولاد أمه". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "وهو أكمل كل شيء". (¬8) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 368)، و"تهذيب السنن" (2/ 194، 5/ 165 - 167).

يليق بها غير ذلك؛ فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر (¬1) عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقّاه (¬2) على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخُلَطاءَ يكثر (¬3) فيهم بَغي بعضهم على بعض شرع اللَّه سبحانه رفع هذا الضرر: بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك؛ فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان؛ فكان الشريك أحقّ بدفع العوض من الأجنبي، فيزول (¬4) عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفِطر ومصالح العباد، ومن هنا يعلم أن التحيّل لإسقاط الشفعة مناقضٌ لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له. ثم اختلفت أفهام العلماء في الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة. فقالت طائفة: هو الضَّررُ اللاحق بالقسمة؛ لأن كل واحد من الشريكين إذا طالب شريكه بالقسمة كان عليه في ذلك من الكلفة والمؤنة والغرامة والضيق في مرافق المنزل ما هو معلوم؛ فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلها وبأي موضع شاء منها، فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار وقصر على موضع منها، وفي ذلك من الضرر عليه ما لا خفاء به، فمكَّنه الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرة عن نفسه؛ بأن يكون أحق بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه، وحرم الشارع على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يُؤذنَ شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وإن أذن في البيع وقال: لا غرض لي فيه لم يكن له الطلب بعد البيع؛ هذا مُقتضى حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به، وهذه طريقة من يرى أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة. وقالت طائفة أخرى: إنما شُرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة؛ فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان بإرثٍ أو هبةٍ أو وصيةٍ أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر؛ فإذا باع نصيبه كان شريكه ¬

_ (¬1) في (ن): "نفي الضرر". (¬2) في (ك): "بقاؤه". (¬3) في (ك) و (ق): "كثير". (¬4) في (د): "ويزول". (¬5) سيأتي قريبًا.

[فيم تكون الشفعة]

أحق به من الأجنبي؛ إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر صاحبه، فإنه يصل إليه حقه من ذلك الثمن (¬1)، ويصل هذا إلى استبداده بالبيع (¬2)، فيزول الضرر عنهما جميعًا، وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها، وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر، ونصَّ عليه الإمام أحمد في "رواية حنبل"، قال: قيل لأحمد: فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان (¬3) من نحو ذلك، قال: هذا كله أوْكدُ؛ لأن خليط الشريك أحق به بالثمن (¬4)، وهذا لا يمكن قسمته؛ فإذا عرضه على شريكه وإلا باعه بعد ذلك (¬5). [فيم تكون الشفعة] وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يَعرضُ على شريكه عقارًا بينه وبينه أو نخلًا، فقال الشريك: لا أريد، فباعه، ثم طلب الشفعة بعد، قال: له الشفعة في ذلك. واحتج لهذا القول بحديث جابر [الصحيح] (¬6): "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشُّفعة في كل ما لم يُقسم" (¬7) وهذا يتناول المنقول والعقار، وفي ¬

_ (¬1) في المطبوع: "فإنه يصل إلى حقه من الثمن"، وفي (ق): "فإنه يصل إلى حقه من ذلك الثمن". (¬2) في (ك) و (ق): "بالمبيع". (¬3) في (ق) و (ك): "فالحيوان دابة أو حمار بين الرجلين وما كان". (¬4) في المطبوع: "لأن خليطه الشريك أحق به بالثمن"، وفي (ق): "لأنه خليط الشريك أحق به بالثمن". (¬5) هو قول أحمد في رواية أبي الخطاب، انظر "المغني" (5/ 312). وقال به ابن حزم، انظر "المحلى" (9/ 82 - 83) ونسب لعطاء بن أبي رباح، كما في "الشرح الكبير" (5/ 472)، و"فتح الباري" (4/ 436) ونسب أيضًا لابن أبي ليلى، وهو رواية عن مالك، انظر: "المنتقى" (6/ 222)، "حلية العلماء" (5/ 263 - 264)، "شرح معاني الآثار" (2/ 269)، "إعلاء السنن" (17/ 3)، "الإشراف" (3/ 141 مسألة 995 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) هو الحديث الذي يرويه مسلم في "صحيحه" (1608) في (المساقاة): باب الشفعة، من حديث أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه قال: قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شركة لم تقسم. . . لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ وإن شاء ترك. فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به. وخرجته بإسهاب في تعليقي على "القواعد" لابن رجب (1/ 423) فانظره غير مأمور.

كتاب "الخراج" عن يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي الزُّبير، عن جابر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كان له شِرْكٌ في نخل أو ربْعة (¬1) فليس له أن يبيع حتى يؤْذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك" (¬2)، وهذا الإسناد على شرط مسلم؛ وفي الترمذي من حديث عبد العزيز بن رُفيع، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشريكُ شفيعٌ (¬3)، والشُّفعة في كُلِّ شيء" (¬4) تفرّد به أبو ¬

_ (¬1) "الربع: المنزل ودار الإقامة، والربعة: أخص منه" (و). (¬2) رواه مسلم (1608) في (المساقاة): باب الشفعة، من طريق أحمد بن يونس ويحيى بن يحيى عن زهير به، وهو في "الخراج" (رقم 253) ليحيى بن آدم. (¬3) وقع في (ن) و (ق): "الشفيع شريكٌ"!! (¬4) رواه إسحاق بن راهوية في "مسنده" -كما في "نصب الراية" (4/ 177) -، والترمذي (1371) في (الأحكام): باب ما جاء في أن الشريك شفيع، والدارقطني في "سننه" (4/ 222)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 125)، والطبراني في "الكبير" (رقم 11244)، وأبو الشيخ في "أخبار أصبهان" (2/ 260)، والبيهقي (6/ 109) من طريق أبي حمزة السكري عن عبد العزيز بن رفيع به. وقال الترمذي: "هذا حديث غريب، لا نعرف مثل هذا إلا من حديث أبي حمزة السكري. وقد روى هذا الحديث عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلا، وهذا أصح". ثم رواه ابن حزم في "المحلى" (9/ 102) من طريق ابن أبي مليكة مرسلًا، وقال الدارقطني: خالفه شعبة وإسرائيل (1) وعمرو بن أبي قيس وأبو بكر بن عياش، فرووه عن عبد العزيز بن رفيع بن أبي مليكة مرسلا، وهو الصواب، ووهم أبو حمزة في إسناده. ووَهَّم البيهقيُّ أبا حمزة، ونقل الخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 190) عن صالح بن محمد: "أخطأ فيه أبو حمزة" وقال عن الحديث: "باطل". وقال ابن حجر في "الفتح" (4/ 436): ورجاله ثقات إلا أنه أعل بالإرسال. أقول: أبو حمزة السكري على ثقته إلا أنه فقد بصره في آخر عمره. ورواه ابن عدي (6/ 2113)، والبيهقي (6/ 109) من طريق أبي حمزة عن محمد بن عبيد اللَّه العرزمي عن عبد العزيز بن رفيع به، فزاد محمد بن عبيد اللَّه وهو متروك. وقال ابن عدي: وقوله: والشفعة في كل شيء منكر. وله إسناد آخر عن ابن عباس: رواه أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (250)، ومن طريقه الخطيب في "تالي التلخيص" (رقم 81 بتحقيقي)، وابن عساكر (13/ 185)، والبيهقي (6/ 110)، وابن عدي (5/ 1689). وفيه عمر بن هارون وهو ضعيف لا يحتج به. وله شاهد يأتي بعد هذا. وانظر: "بيان = _______ (1) روايته في "مصنف عبد الرزاق" (8/ 87، 88 رقم 14425، 14430)، والبيهقي (6/ 109).

حمزة السكري عن عبد العزيز بهذا الإسناد، ورواه أبو الأحوص سَلَّام بن سُليم عن عبد العزيز ولم يذكر ابن عباس، ولفظه: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شيء: الأرض والدار والجارية والخادم"، وكذلك رواه أبو بكر بن عَيّاش وإسرائيل بن يونس عن عبد العزيز مرسلًا؛ فهذا علة هذا الحديث، على أن أبا حمزة السكري ثقة احتجّ به صاحبا "الصحيح" (¬1)، وإن قلنا: "الزيادة من الثقة مقبولة" (¬2) فرفع الحديث إذن صحيح، وإلا فغايته أن يكون مرسلًا قد عضدته الآثار المرفوعة والقياس الجلي. وقد روى أبو جعفر الطحاوي: عن محمد بن خُزيمة، عن يوسف (¬3) بن عديِّ، عن عبد اللَّه (¬4) بن إدريس، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن جابر قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شيء" (¬5) ورواة هذا الحديث ثقات، وهو غريب بهذا الإسناد. قالوا: ولأن الضررَ بالشركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضرر [بالعقار] (¬6) الذي يقبل القسمة؛ فإذا كان الشارع مُريدًا لرفع الضرر الأدنى فالأعلى أولى بالرفع، قالوا: ولو كانت الأحاديثُ مختصةً بالعقار والأرض (¬7) المنقسمة فإثباتُ الشفعة فيها تنبيه على ثبوتها فيما لا يقبل القسمة. ¬

_ = الوهم والإيهام" (2/ 495)، "السلسلة الضعيفة" (1009)، تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4434). (¬1) انظر ترجمته في "الجمع بين رجال الصحيحين" (2/ 620)، و"تهذيب الكمال" (26/ 544 رقم 5652)، وفي (ق): "صاحب الصحيح". (¬2) في (ك) و (ق): "وإن قبلنا الزيادة في الثقة، صح". (¬3) في (ك) و (ق): "يونس". (¬4) كذا في (ق) وهو الصحيح، وفي سائر النسخ "عُبيد اللَّه -بالتصغير-"!! (¬5) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 125) حدثنا محمد بن خزيمة بن راشد به. وقال الحافظ في "الفتح" (4/ 436): لا بأس برواته. أقول: لكن فيه عنعنة ابن جريج؛ فإنه مدلس مشهور التدليس عن الضعفاء والمتروكين. وله علة أخرى: فقد رواه جماعة من الثقات الأثبات عن عبد اللَّه بن إدريس عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شِرك ما لم يقسم" وهو في "صحيح مسلم" (1608) وغيره، ويثبت من هذا أن هذا الشاهد عن جابر لا يصلح شاهدًا لحديث ابن عباس السابق، لثبوت خطأ الراوي في قوله: "شيء" بدل "شريك" فهو شاذ، ومقابله هو المحفوظ. وانظر لمزيد بيان "السلسلة الضعيفة" (رقم 1009). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بالشركة في العقار". (¬7) في المطبوع: "والعروض".

وقال الآخرون: الأصل عدم انتزاع المال من غيره (¬1) إلا برضاه، ولكن تركنا ذلك في [الأرض و] (¬2) العقار لثبوت النص (¬3) فيه، وأما الآثار المتضمنة لثبوتها في المنقول فضعيفة معلولة؛ وقوله في الحديث الصحيح: "فإذا وقعتِ الحدودُ وصُرِفت الطُّرق فلا شفعة" (¬4) يدل على اختصاصها بذلك، وقول جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشفعةُ في كلِّ شِرْك (¬5) في أَرضٍ أو رَبْعٍ أو حائطٍ" (¬6) يقتضي انحصارها في ذلك، قالوا: وقد قال عثمان [بن عفان] (¬7) -رضي اللَّه عنه-: "لا شفعة في بئرٍ ولا فَحْلٍ، والأُرَفُ (¬8) يقطع كلَّ شفعة" (¬9)، والفَحْل: النخل، والأُرَف -بوزن الغُرف-: المعالم والحدود (¬10)، وقال أحمد: ما أصحه من حديث (¬11)! ¬

_ (¬1) في المطبوع: "عدم انتزاع الإنسان مال غيره". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وقبلها في (ق): "شركنا" بدل "تركنا". (¬3) في (د): "لثبوت هذا النص". (¬4) رواه البخاري (2213) في (البيوع): باب بيع الشريك من شريكه، و (2214) في (بيع الأرض والدور)، و (2257) في (الشفعة): باب الشفعة فيما لم يقسم، و (2495) في (الشركة): باب الشركة في الأرضين وغيرها، و (2496) باب إذا قسم الشركاء الدور أو غيرها فليس لهم رجوع ولا شفعة، و (6976) في (الحيل): باب في الهبة والشفعة، من حديث جابر. (¬5) في (ق): "شيء". (¬6) رواه مسلم (1608) (135). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ق): "ولا أرف". (¬9) رواه ابن أبي شيبة (5/ 328 أو 7/ 172 - ط الهندية) -ومن طريقة ابن حزم في "المحلى" (10/ 4)، وأبو عبيد في "الغريب" (3/ 417)، وأحمد في "مسائل صالح" (3/ 185 رقم 1612) وابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 479) رقم (1433)، والبيهقي في "السنن" (6/ 105) من طريق عبد اللَّه بن إدريس عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن حزم، -وفي "السنن الكبرى": أو عن عبد اللَّه بن أبي بكر- عن أبان بن عثمان عن عثمان به فذكره. ورواه أيضًا مالك في "الموطأ" (2/ 717) -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 105)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 99) - وعبد الرزاق (8/ 80 رقم 14393 و 8/ 87) (14426) عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عثمان. . . فذكره ولم يذكر (أبان). وله طريق أخرى عن عثمان عند الطحاوي (4/ 125) وفيه منظور بن ثعلبة وهو مجهول، وعنعنة هشيم وابن إسحاق. وقد روي مرفوعًا ولا يصح، قاله الدارقطي في "علله" (3/ 15) سؤال (257). (¬10) انظر: "غريب الحديث" للخطابي (2/ 355)، و"النهاية" (3/ 416 - 417)، و"لسان العرب" (14/ 31 - 32). (¬11) انظر: "مسائل الإمام أحمد" (3/ 958) لابنه عبد اللَّه، و"المغني" (5/ 233)، و"الإنصاف" (6/ 257)، و"العدة شرح العمدة" (1/ 276).

[رأي المثبتين للشفعة]

قالوا: والفرق بين المنقول وغيره أن الضرر في غير المنقول يتأبّدُ بتأبّده، وفي المنقول لا يتأبد؛ فهو ضرر عارض فهو كالمكيل والموزون. قالوا: والضرر في العقار يكثر جدًا؛ فإنه يحتاج الشريك إلى إحداث المرافق، وتغيير الأبنية، وتضييق الواسع، وتخريب العامر، وسوء الجوار، وغير ذلك مما يختص بالعقار، فأين ضرر الشركة في العبد والجوهرة والسيف من هذا الضرر؟ [رأي المثبتين للشفعة] قال المثبتون للشفعة: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه لما فيه من الظلم له والإضرار به، فأما ما لا يتضمن ظلمًا ولا إضرارًا بل مصلحة له بإعطائه الثمن فلشريكه دفع ضرر الشركة عنه؛ فليس الأصل عدمه، بل هو مقتضى أصول الشريعة، فإن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة، وإن لم يرض صاحب المال، وترْكُ معاوضته هاهنا لشريكه مع كونه قاصدًا للبيع ظلمٌ منه وإضرار بشريكه فلا يمكّنه الشارع منه، بل من تأمل [مصادر] (¬1) الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يُمكِّن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه وأن يلحق به من الضرر مثل ما كان عليه أو أزيد منه مع أنه لا مصلحة له في ذلك. وأما الآثار (¬2) فقد جاءت بهذا وهذا، ولو قدر عدم صحتها بالشفعة في المنقول فهي لم تنف ذلك، بل نَبهت عليه كما ذكرنا؛ وأما تأبيد (¬3) الضرر وعدمه ففرق فاسد، فإن من المنقول ما يكون تأبيده كتأبيد (¬4) العقار كالجوهرة والسيف والكتاب والبئر، وإن لم يتأبد ضرره مدى الدهر فقد يطول ضرره كالعبد والجارية، ولو بقي ضرره مدة فإن الشارع مريدٌ لدفع الضرر بكل طريق ولو قصرت مدته، وأما تفريقكم بكثرة الضرر في العقار وقلته في المنقول فلعمر اللَّه! إن الضرر في العقار يَكْثرُ من تلك الجهات، ولكن يمكن رفعه بالقسمة، وأما الضرر في المنقول فإنه لا يمكن رفعه بقسمته، على أن هذا مُنتَقِضٌ بالأرض الواسعة التي ليس فيها شيء مما ذكرتم. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) انظرها في "الموطأ" (2/ 714)، و"السنن الكبرى" (6/ 103، 109). (¬3) في المطبوع و (ك): "تأبد". (¬4) في المطبوع و (ك): "تأبيده كتأبد".

فصل [رأي القائلين بشفعة الجوار]

فصل [رأي القائلين بشفعة الجوار] وقالت طائفة ثالثة: بل الضرر الذي قصد الشارع رفعه هو ضرر سوء الجوار والشركة في العقار والأرض؛ فإن الجار قد يسيء الجوار غالبًا أو كثيرًا، فيُعلي الجدارَ، [ويتبع العثار] (¬1)، ويمنع الضوء، ويشرف على العورة، ويطلع على العثرة، ويؤذي جاره بأنواع الأذى، ولا يأمن [جارُهُ] (¬2) بوائقه، وهذا مما يشهد به الواقع. [حق الجار] وأيضًا فإن الجار (¬3) له من الحرمة والحق والذِّمَام ما جعله اللَّه له في كتابه، ووَصَّى به جبريل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غاية الوصية (¬4)، وعَلَّق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الإيمان باللَّه واليوم الآخر بإكرامه (¬5)، وقال الإمام أحمد: الجيرانُ ثلاثةٌ: جارٌ له حق، وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار، وجارٌ له حَقَّان، وهو المسلم الأجنبي له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة؛ ومثل هذا [ولو] (¬6) لم يَرِد في الشريك فأدنى المراتب مساواته به فيما يندفع به الضرر، لاسيما والحكم بالشفعة ثبت في الشركة ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك) بدلها: "ويتسع العقار"، وفي (ق): "ويسقي العقار" ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في المطبوع: "فالجار". (¬4) صح ذلك من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه". رواه البخاري (6014) في (الأدب)؛ باب الوصاة بالجار، ومسلم (2624) في (البر): باب الوصية بالجار والإحسان إليه، من حديث عائشة. ورواه البخاري (6015)، ومسلم (2625) من حديث ابن عمر. وفي الباب عن جمع من الصحابة، انظر: "إرواء الغليل" (3/ 400). (¬5) وذلك في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فليكرم جاره". رواه البخاري في "الأدب" (6019): باب من كان يؤمن باللَّه واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، و (6135) باب إكرام الضيف وخدمته، و (6476) في (الرقاق): باب حفظ اللسان، ومسلم (48) في (الإيمان): باب الحث على إكرام الجار والضيف، و (3/ 1352) في (اللقطة): باب الضيافة ونحوها، من حديث أبي شُريح العدوي. وفي الباب عن أبي هريرة: رواه البخاري (6018)، ومسلم (47). (¬6) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط.

[ثبوت الحكم بالشفعة في الشركة وللجار]

لإفضائها إلى ضرر المجاورة فإنهما إذا اقتسما تجاورا (¬1). [ثبوت الحكم بالشفعة في الشركة وللجار] قالوا: ولهذا [السبب] (¬2) اختصت بالعقار دون المنقولات؛ إذ المنقولات لا تتأتَّى فيها المجاورة، فإذا ثبتت في الشركة (¬3) في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها. قالوا: وهذا معقول النصوص لو لم يرد بالثبوت فيها، فكيف وقد صَرَّحت بالثبوت فيها أعظم من تصريحها بالثبوت للشريك؟ ففي "صحيح البخاري" من حديث عمرو بن الشريد قال: جاء المسْور بن مَخْرمة فوضع يده على منكبي، فانطلقت معه إلى سعد بن أبي وقاص، فقال أبو رافع: ألا تأمر هذا أن يشتري مني بيتي الذي في داره، فقال: لا أزيده على أربع مئة مُنَجَّمة، فقال: قد أُعطيت خمس مئة نقدًا فمنعته، ولولا أني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الجارُ أحقُّ بصقَبِه" (¬4) ما بعُتك (¬5). وروى عمرو بن الشَّريد أيضًا عن أبيه الشَّريد بن سُويد الثقفي قال: قلت: يا رسول اللَّه أرضٌ ليس لأحد فيها قسم ولا شِرْكٌ إلا الجوار قال: "الجار أحقُّ بسَقَبه" (¬6) أخرجه الترمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه، وإسناده صحيح. ¬

_ (¬1) انظر: "جزء حق الجار" (ص 46، 48) للذهبي. (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬3) في (ق) و (ك): "بالشركة". (¬4) "هي بالسين والصاد، وهي في الأصل: القرب" (و). (¬5) رواه البخاري (2258) في (الشفعة): باب عرض الشفعة على صاحبها قبل البيع، و (6977 و 6978) في (الحيل): باب في الهبة والشفعة، و (6980 و 6981): باب احتيال العامل ليهدى له. (¬6) حديث الشريد هذا علقه الترمذي في (الأحكام): في الشفعة بعد حديث (1368)، ووصله في "العلل الكبير" (1/ 568 - 569 رقم 228)، والنسائي (7/ 320) في (البيوع): باب الشفعة وأحكامها، وفي "الكبرى" (6302)، وابن ماجه (2496) في (الشفعة): باب الشفعة بالجوار، وأحمد (4/ 388، 389، 390)، وابن أبي شيبة في "المسند" (911)، و"المصنف" (7/ 168) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 102) -، وابن الجارود (645)، والطبراني في "الكبير" (7/ 319 رقم 7253 - 7256)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 124)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (7/ 2494 رقم 745، 746)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1484 رقم 3763)، والدارقطني (4/ 224)، والبيهقي (6/ 105) من طرق عن عمرو بن الشريد به. وصححه البخاري؛ كما نقله عنه الترمذي في "جامعه"، و"العلل الكبير".

وقال البخاري: "وهو أصح من رواية عمرو عن أبي رافع" (¬1) يعني المتقدم، وقال أيضًا: "كلا الحديثين عندي صحيح" (¬2). وعن الحسن عن سمرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جارُ الدار أولى (¬3) بالدار" (¬4) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، انتهى. وقد صح سماع الحسن من سمرة، وغاية هذا أنه كتاب (¬5)، ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديمًا وحديثًا، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب فإن لم يُعمل بما فيها ¬

_ (¬1) أورد الترمذي في "العلل الكبير" (1/ 568 - 569) حديثي أنس والشريد، ثم قال عن حديث الشريد: "أصح، وقد روى عمرو بن الشريد عن أبي رافع قصة غير قصة أبيه، وأرجو أن يكون حديث أبي رافع محفوظًا". (¬2) قاله في "الجامع" (1368) وأقره الذهبي في جزء "حق الجار" (ص 36). (¬3) قال في (ط): "في نسخة هنا "أحق بالدار"، انظر: "إعلام الموقعين ط: فرج اللَّه زكي الكردي (2/ 254) ". قلت: ونحو هذا القول في (د) والنسخة المشار إليها هي (ن) و (ك) و (ق). (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (7/ 165)، وأحمد (5/ 8 و 12 و 13 و 17 و 18 و 22)، وأبو داود (3517) في (البيوع): باب في الشفعة، والترمذي (1368) في (الأحكام): باب ما جاء في الشفعة، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" (4588) -، والطيالسي (904)، والطبراني في "الكبير" (6800 - 6807، 6920، 6923، 6941)، و"مسند الشاميين" (2651)، والروياني في "المسند" (786، 799، 823، 866)، وابن الجارود (644)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (1393 - 1397)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 123)، والقطيعي في "جزء الألف دينار" (135)، وأبو الطاهر الذهلي في "جزء حديثه" (51)، وابن عدي (2/ 316 و 3/ 9)، والبيهقي (6/ 106)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 101)، وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (2/ 326) عن الحسن عن سمرة. قال الترمذي: حديث سمرة حسن صحيح، وروى عيسى بن يونس عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مثله، وروي عن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والصحيح عند أهل العلم حديث الحسن عن سمرة ولا نعرف حديث قتادة عن أنس إلا من حديث عيسى بن يونس. أقول: ومثل هذا قال الدارقطني على ما نقله عنه الضياء ثم تعقبه الضياء في: "الأحاديث المختارة" (7/ 122 - 124) وانظر: "العلل الكبير" للترمذي (1/ 568)، و"العلل" لابن أبي حاتم (1436)، و"إرواء الغليل" (5/ 377) وما سيأتي قريبًا. (¬5) انظر تفصيل المسألة بإسهاب وتحقيق في "المرسل الخفي وعلاقته بالتدليس" (3/ 1174 - 1207).

تعطّلت الشريعة، وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه، ولا يقول: هذا كتاب، وكذلك خلفاؤه [من] (¬1) بعده، والناس إلى اليوم؛ فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل، والحفظ يخون (¬2)، والكتاب لا يخون، وروى قتادة عن أنس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "جار الدار أحق بالدار" (¬3) رواه ابن ماجه من طريق عيسى بن يونس عن سعيد عن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬2) "لابد أن يكون ما في الكتاب مستمدًا من القرآن الكريم، ومن السنة الصحيحة المشرقة البينة" (و). (¬3) رواه النسائي في "السنن الكبرى" -كما في (تحفة الإشراف 1/ 318) -، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 101)، والترمذي في "العلل الكبير" (1/ 568 رقم 228)، وابن حبان (5182)، والطبراني في "الأوسط" (8142 - ط الطحان)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 122)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (11/ 342)، والضياء في "المختارة" (2551 - 2553) من طرق عن عيسى بن يونس به. ورجاله ثقات إلا أن عيسى بن يونس روى عن سعيد بن أبي عروبة بعد الاختلاط. ورواه الضياء (2550) من طريق عبد الرحمن بن يونس عن عيسى بن يونس عن شعبة عن سعيد بن أبي عروبة به. فزاد شُعبةَ في الإسناد. وعبد الرحمن بن يونس هذا لا بأس به. وقد رواه أصحاب سعيد بن أبي عروبة، فجعلوه عنه عن قتادة عن الحسن عن سمرة. فقد رواه أحمد (5/ 12 و 13)، وابن أبي شيبة (7/ 165)، والطحاوي (4/ 123)، والترمذي (1368) في (الأحكام): باب ما جاء في الشفعة، والطبراني (6803 و 6804) من طرق عن سعيد به. ورواه أحمد (5/ 8 و 17 و 18 و 22)، والطيالسي (904)، وأبو داود (3517) في (البيوع): باب في الشفعة، والطبراني (6800 - 6802 و 6805 و 6807)، والطحاوي (4/ 123)، والبيهقي (6/ 106) من طرق عن قتادة عن الحسن عن سمرة. ورواه الطحاوي (4/ 123) من طريق يونس عن الحسن عن سمرة. قال الترمذي: "حديث سمرة حديث حسن صحيح، والصحيح عند أهل العلم حديث الحسن عن سمرة ولا نعرف حديث قتادة عن أنس إلا من حديث عيسى بن يونس" نقل الضياء عن الدارقطني ترجيح حديث سمرة كذلك. ثم تعقب الضياء الدارقطني بأن أحمد بن جناب وهو من شيوخ مسلم قد روى الحديث عن عيسى بن يونس على الوجهين أي: عن سعيد عن قتادة عن أنس، وعن سعيد عن قتادة عن الحسن عن سمرة، ورجح كلا الوجهين، وكلام الضياء هذا ليس في المطبوع من "المختارة" ومكانه فراغ لم يظهر للمحقق أو نقله شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (5/ 378) عن المخطوط. =

قتادة، وكلهم أئمة ثقات، ورَوى أهل "السنن الأربعة" من حديث ميزان الكوفة عبد الملك بن أبي سُليمان العَرْزمي، عن عطاء، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجارُ أحق بشفعة جاره، يُنتظرُ بها وإن كان غائبًا، إذا كان طريقُهما واحدًا" (¬1). وهذا حديث صحيح بلا تردد (¬2). ¬

_ = تنبيه: عزا المؤلف الحديث لابن ماجه، وليس هو فيه ولا في "تحفة الإشراف"، وهو في "السنن الكبرى" للنسائي -كما في "تحفة الإشراف"-، وليس هو في المطبوع منه. (¬1) رواه ابن أبي شيبة (5/ 325)، وأحمد (3/ 303)، وأبو داود (3518) في البيوع: باب في الشفعة، والترمذي (1369) في (الأحكام): باب ما جاء في الشفعة للغائب، و"العلل الكبير" (1/ 570 رقم: 299)، وابن ماجه (2494) في (الشفعة): باب الشفعة بالجوار، والدارمي (2/ 273)، والطيالسي (1677)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 120)، والطبراني في "الأوسط" (6/ 217 رقم 5456 و 9/ 182 - 183 رقم 8394)، والبيهقي (6/ 106)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 101) من طرق عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر. وقال الترمذي: "حديث حسن غريب، ولا نعلم أحدًا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث، وعبد الملك ثقة مأمون عند أهل الحديث. . . وقد روى وكيع عن شعبة عن عبد الملك هذا الحديث. . . والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم أن الرجل أحق بشفعته". ونقل البيهقي في "سننه" عن الشافعي قوله: نخاف أن لا يكون هذا الحديث محفوظًا، ونقل أيضًا عن يحيى القطان أنه قال: لو روى عبد الملك بن أبي سليمان حديثًا مثل حديث الشفعة لتركت حديثه. ونقل أيضًا عن أحمد أنه قال: حديث منكر. وكذا في "الميزان" (2/ 656). وقال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (5/ 172): "جعله بعضهم رأيا لعطاء، أدرجه عبد الملك في الحديث". وقال الترمذي في "العلل الكبير": "سألت محمدًا -أي البخاري- عن هذا الحديث: فقال: لا أعلم أحدا رواه عن عطاء غير عبد الملك من أبي سليمان، وهو حديثه الذي تفرد به، ويُروى عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف هذا"، قال الترمذي: "إنما ترك شعبة عبد الملك لهذا الحديث، لم يجد أحدا رواه غيره وعبد الملك ثقة عند أهل ويروى عن ابن المبارك عن سفيان الثوري أنه قال: "عبد الملك بن أبي سليمان ميزان في العلم". وقد تكلم صاحب "التنقيح" (3/ 58) -ونقله عنه الزيلعي (4/ 174) - على حديث جابر هذا وبين صحته ورد الطعن عنه. وكذلك فعل المصنف في "تهذيب السنن" (9/ 425) فانظره جيدًا، واللَّه الموفق. (¬2) في المطبوع: "فلا يُرَدّ".

[حديث العرزمي في الشفعة والكلام عليه]

[حديث العرزمي في الشفعة والكلام عليه] فإن قيل: قد قال الترمذي: "تكلَّم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث"، وقال وكيعٌ عنه: لو أن عبد الملك روى حديثًا آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه، وكذلك قال يحيى القطان (¬1). وقال أحمد: هو حديث منكر، وقال يحيى بن معين: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك، فأنكَر الناس عليه، ولكنه ثقة صدوق (¬2). [تصحيح الحديث] فالجواب أن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق، ولم يتعرض له أحد بجرح ألبتَّة، وأثنى عليه أئمة زمانه وَمنْ بعدهم، وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنًا منهم أنه مخالف لرواية الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شفعة (¬3) " ولا يحتمل مخالفة العرزمي (¬4) لمثل الزهري، وقد صح هذا عن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه (¬5)، ومن رواية ابن جُريج عن أبي الزبير عنه (¬6)، ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه، فخالفهم العرزمي (4)، ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه، ولم يُقدّموه على حديث هؤلاء، قال مُهنَّا بن يحيى الشاميّ: سألت أحمد بن حنبل عن حديث عبد الملك هذا، فقال: قد أنكره شعبة، فقلت: لأي شيء أنكره؟ فقال: حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف ما قال عبد الملك عن عطاء عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسنبين إن شاء اللَّه أن حديث عبد الملك [عن عطاء] (¬7) عن جابر لا يناقض حديث أبي سلمة عنه، بل مفهومه موافق (¬8) منطوقه، وسائر أحاديث جابر يصدق بعضها بعضًا. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "وقال يحيى القطان كذلك". (¬2) انظر ما قدمناه في التخريج. (¬3) تقدم تخريجه وهو في "صحيح البخاري" (2213، 2214، 2257، 2495، 2496، 6976). (¬4) تصحفت في (ق) إلى: "العزرمي". (¬5) و (¬6) ستأتي ولفظها في كلام المصنف قريبًا. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) والمطبوع. (¬8) في المطبوع: "يوافق".

[أحاديث أخرى]

[أحاديث أخرى] وروى جَرير بن عبد الحميد، عن مَنْصور، عن الحَكَم، عن علي وعبد اللَّه قالا: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة للجوار" (¬1) وهذا وإن كان منقطعًا فإن الثوري رواه عن منصور عن الحكم عَمَّن سمع عليًا وعبد اللَّه؛ فهو يصلح للاستشهاد وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد، وفي "سنن ابن ماجه" من حديث شَريك القاضي، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من كان له أرض وأراد بيعها فليَعْرضها على جاره" (¬2) ورجال هذا الإسناد محتجٌ بهم في الصحيح، وفي "سنن النسائي" من حديث أبي الزبير، عن جابر قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة للجوار" (¬3) رواه عن الفَضْل بن موسى السِّيناني (¬4)، عن الحُسين بن واقد، عن أبي الزبير، [عن جابر] (¬5)، وهو على شرط مسلم. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبى شيبة في "مصنفه" (5/ 325 - دار الفكر أو 7/ 163 و 10/ 155 - الهندية) من طريق جرير بن عبد الحميد؛ به كما ذكر المصنف. ورواه أيضًا (5/ 325 أو 7/ 164 - ط الهندية) من طريق سفيان عن منصور عن الحكم عن علي وعبد اللَّه قالا. ورواه أيضًا (5/ 325 أو 7/ 164 - ط الهندية)، وعبد الرزاق (8/ 78 رقم 14383) -وعنه أحمد (1/ 114) - والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 123)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 101) من طريق سفيان الثوري عن منصور عن الحكم عمن سمع عليًا وعبد اللَّه. وفي "مصنف عبد الرزاق": "قضى بالجوار"، وفيه عن "الحسن" بدل "الحكم"، وهو منقطع؛ كما قال ابن القيم -رحمه اللَّه-، لكن يشهد له حديث أبي رافع المتقدم: "الجار أحق بسقبه". (¬2) رواه ابن ماجه (2493) في (الشفعة): باب من باع رباعًا فليؤذن شريكه. قال البوصيري (2/ 61): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. قلت: عجبٌ من ابن القيم والبوصيري معا، كيف يصح هذا الإسناد وفيه شريك القاضي وضعفه مشهور، وقول ابن القيم: رواته ثقات، محتج بهم في الصحيح! مع أن مسلمًا لم يرو لشريك إلا في المتابعات، ورواية سماك عن عكرمة معروفة بالضعف والاضطراب!! (¬3) هو فيه (7/ 321) في (البيوع): باب ذكر الشفعة وأحكامها، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 101). وإسناده صحيح، كما قال المؤلف -رحمه اللَّه-، والفضل هو ابن موسى السِّيناني بالسين. (¬4) في المطبوع و (ك) و (ق): "الشيباني" وهو خطأ. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، وبعده في (ق) و (ك) زيادة: "قال: قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة للجوار. رواه عن الفضل بن موسى".

وقال شُعيب بن أيوب الصّريفيني (¬1): ثنا أبو أمامة، عن سعيد بن أبي عَروبة: ثنا قتادة، عن سُليمان اليشكري، عن جابر بن عبد اللَّه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من كان له جار في حائطٍ أو شريكٍ فلا يَبعْهُ حتى يعرضه عليه" (¬2) وهؤلاء ثقات كلهم، وعلة هذا الحديث ما ذكره الترمذي قال: سمعت محمدًا -يعني البخاري- يقول: سُليمان اليشكري يقال: إنه [مات] (¬3) في حياة جابر بن عبد اللَّه، قال: ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بِشْر، قال: ويقال: إنما يحدث قتادة عن (¬4) صحيفة سليمان اليَشْكُري، وكان له كتاب عن جابر بن عبد اللَّه. قلت: وغاية هذا أن يكون كتابًا، والأخذ من الكتب حجة. وقال محمد بن عمران بن أبي ليلى، عن أبيه: حدثني ابنُ أبي ليلى -يعني: محمد بن عبد الرحمن-، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الجار أحق بسقبِهِ ما كان" (¬5). وقال ابن أبي شيبة: ثنا وكيع، عن هشام بن المغيرة الثقفي قال: سمعت ¬

_ (¬1) في (ن): "الصيرفي "، وفي (ك): "الصرفني" وفي (ق): "الصرفيني". (¬2) رواه أحمد (3/ 357)، والترمذي (1312) في البيوع: باب ما جاء في أرض المشترك يريد بعضهم بيع نصيبه، والحاكم (2/ 65)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (230) من طريق عيسى بن يونس، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة به. وسكت عنه الحاكم لكن نقل عنه الذهبي في "التلخيص" أنه قال: صحيح، ووافقه، وأعله الترمذي بما ذكره المؤلف -رحمه اللَّه-، وممن نفى سماع قتادة من سليمان بن قيس اليشكري غير البخاري: أحمد بن حنبل -رحمه اللَّه-كما في "جامع التحصيل" (ص 255)، وأبو حاتم كما في "تهذيب التهذيب" (4/ 188)، وقد ذكره شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (5/ 373) وصحح إسناده وقال: وادّعى الترمذي أنه غير متصل! وأما الاحتجاج بالوجادة فهذا أمر طويل ليس هنا بحثه. وحديث جابر رواه مسلم (1608)، ولفظه: "من كان له شريك في ربعة أو حائط. . . فليس له أن يبيع حتى يؤذن شريكه" وهذا يغني. وفي (ق): "ثنا أبو أسامة" بدل "ثنا أبو أمامة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) وقبلها في (ق): "فقال" بدل "يقال". (¬4) في (ق): "ويقال: إن قتادة إنما يحدث عن صحيفة عن". (¬5) رواه الطبراني في "الأوسط" (5/ 398 رقم 4787 و 8/ 391 رقم 7792 - ط الطحان) من طريق محمد بن عمران به، وإسناده ضعيف جدًا، فيه عبيد بن كثير التمار، وهو متروك. وانظر: "مجمع الزوائد" (4/ 158 - 159).

[رد المبطلين لشفعة الجوار]

الشعبي يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "الشَّفيع أَولى من الجار، والجار أولى من الجَنْبِ" (¬2) وإسناده إلى الشعبي صحيح، قالوا: ولأن حق الأصيل وهو الجار أسْبق من حَقِّ الدَّخيل، وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار؛ فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتًا فاحشًا، ويتأذى بعضهم من بعض (¬3)، ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود [بينهم] (¬4) بذلك دائمًا متأبدًا، ولا يندفع ذلك إلا برضاء الجار؛ إن شاء أقرَّ الدخيل (¬5) على جواره [له]، وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مُؤنة المجاورة ومفسدتها. وإذا كان الجار يخاف التأذي بالمجاورة على وجه اللزوم، كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم. قالوا: ولا يَرِدُ علينا المستأجر مع المالك؛ فإن منفعة الإجارة لا تتأَبَّد عادة، وأيضًا فالملك بالإجارة ملك منفعة، ولا لزوم بين ملك الجار وبين منفعة دار جاره، بخلاف مسألتنا؛ فإن الضرر بسبب اتصال الملك بالملك كما أنه في الشركة حاصلٌ بسبب اتصال الملك بالملك؛ فوجب بحكم عناية (¬6) الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعًا على وجه لا يضر البائع، وقد أمكن هاهنا، فيبعد القول به، فهذا تقريرُ قولِ هؤلاء نصًا وقياسًا. [رد المبطلين لشفعة الجوار] قال المبطلون لشفعة الجوار (¬7): لا تُضرب سُنَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعضها ¬

_ (¬1) بعدها في (ق): "يقول"!! (¬2) رواه ابن أبي شيبة (5/ 326) عن وكيع به، ورواه عبد الرزاق (14390) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 102) - عن أبي سفيان عن هشام بن المغيرة به. وأبو سفيان هذا قال عنه محقق "المُصنف" الشيخ الأعظمي -رحمه اللَّه- "إن كان محفوظا فهو المعمري محمد بن حميد"، وضعفه ابن حزم بهشام بن المغيرة!! وعنده "عن سفيان" دون "أبي" وهشام وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه، انظر: "الجرح والتعديل" (4/ 2/ 68). وروى ابن أبي شيبة أيضًا من طريق عمر بن راشد عن الشعبي أنه قال: قضى -صلى اللَّه عليه وسلم- بالجوار، وعمر هذا ضعيف. (¬3) في المطبوع: "ببعض". (¬4) في (ن) و (ك):، "بينهما"، وفي المطبوع: "والضرر". (¬5) في (ن): "إن شاء اللَّه أتم للدخيل" وما بين المعقوفتين بعدها سقط من (ك) و (ق). (¬6) في (ن): "رعاية". (¬7) انظر: "تهذيب السنن" (2/ 194، 5/ 167).

ببعض؛ فقد ثبت في "صحيح البخاري" من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: "إنما جَعل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الشُّفعةَ في كل ما لم يُقْسم، فإذا وقَعتِ الحدودُ وصُرفِت الطُّرقُ فلا شفعة" (¬1)، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي الزبير عن جابر قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شركة لم تقسم رَبْعة أو حائطٍ، ولا يحل له أن يبيع حتى يُؤذنَ شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باع ولم يُؤْذنه فهو أحق [به] " (¬2)، قال الشافعي: ثنا سعيد بن سالم (¬3): ثنا ابن جُرَيْج، عن أبي الزُّبير، عن جابر، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الشفعة فيما لم يُقسم، فإذا وَقعتِ الحدودُ فلا شُفعةَ" (¬4)، [وفي "سنن أبي داود" بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا قسمت الأرض وحُدَّت فلا شفعة فيها"] (¬5) وفي "الموطأ" من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي ¬

_ = وهذا قول المالكية والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور. انظر: "الإشراف" (3/ 131 - مسألة 988 - بتحقيقي) وانظر تعليقي عليه، "المعونة" (2/ 1267) كلاهما للقاضي عبد الوهاب، "الرسالة" (227)، "الكافي" (436)، "المقدمات الممهدات" (3/ 61)، "الأم" (4/ 5)، "مغني المحتاج" (2/ 297)، "حلية العلماء" (5/ 266)، "مختصر الخلافيات" (3/ 431 رقم 141)، "المحلى" (9/ 100)، "المحرر" (1/ 365)، "الفروع" (4/ 529 - 530)، "شرح منتهى الإرادات" (2/ 434)، "فتح الباري" (4/ 438)، "نيل الأوطار" (5/ 355). (¬1) رواه البخاري: (2213) (كتاب البيوع): باب بيع الشريك من شريكه، و (2495) (كتاب الشركة): باب الشركة في الأراضي وغيرها، ومسلم (1608) (كتب المساقاة): باب الشفعة، وخرجته بتفصيل في تعليقي على "الحنائيات" (رقم 91) وذكرت الاختلاف فيه على الزهري. (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" (1608) (134) في (المساقاة): باب الشفعة. وخرجته في تعليقي على "تقرير القواعد" (1/ 423) لابن رجب. وما بين المعقوفتين سقط من (ك) والمطبوع. (¬3) في (ق): "شعبة بن سالم". (¬4) رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 165 - ترتيب السندي) -ومن طريقه البيهقي (6/ 104 - 105) -، ورواته ثقات، عدا سعيد بن سالم، صدوق يهم، وفيه عنعنة ابن جريج. (¬5) رواه أبو داود (3515) في (البيوع): باب في الشفعة، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 104) من طريق ابن جريج عن ابن شهاب عن أبي سلمة أو عن سعيد أو عنهما جميعا عن أبي هريرة. ورواه البيهقي (6/ 104) من طريق ابن إسحاق عن ابن شهاب عن أبي سلمة أو سعيد عن أبي هريرة. =

هريرة قال: "قَضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة فيما لم يُقسم، فإذا صُرِفَت الطرق ووَقَعتِ الحدودُ فلا شفعةَ" (¬1)، وقال سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن زكريا، ¬

_ = وابن جريج وابن إسحاق كلاهما مدلس. وانظر ما بعده. وما بين المعقوفتين مذكور في (ق) و (ك) بعد الحديث الآتي. (¬1) الذي في "الموطأ" (2/ 713 رواية يحيى و 2/ 269 - رواية أبي مصعب) عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: (فذكره) هكذا مرسلًا. ورواه هكذا من طريق مالك مرسلا: الشافعي (2/ 164 - 165)، وابن أبي شيبة (4/ 520)، والحنائي في "فوائده" (رقم 56 - بتحقيقنا)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 121)، والبيهقي (6/ 103)، وفي "معرفة السنن الآثار" (8/ 308 رقم 11986). ورواه النسائي (7/ 321) في (البيوع): باب ذكر الشفعة، وفي "الكبرى" (4/ 62 رقم 3/ 6303) من طريق معمر عن الزهري عن أبي سلمة مرسلا. وهكذا رواه محمد بن الحسن في "الموطأ" (ص 305 رقم 855) عن مالك عن الزهري به. وروي عن الزهري عن سعيد وحده مرسلا، أخرجه الطحاوي (4/ 121، 123) والبيهقي (6/ 103)، وعلقه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 112)، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 41، 42، 44). وروي الحديث عن ابن شهاب على ضروب وألوان أخرى، وجاء ذلك من طرق موصولة، يعنينا منها: طريق مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة عن أبي هريرة قال ابن حبان في "صحيحه" (7/ 310 - مع "الإحسان"): "رفع هذا الخبر عن مالك أربعة أنفس: الماجشون، وأبو عاصم، ويحيى بن أبي قتيلة، وأشهب بن عبد العزيز" قلت: ورواه موصولًا غيرهم، كما سيأتي، وقال: "وهذه كانت عادة لمالك، يرفع في الأحايين الأخبار، ويوقفها مرارًا، ويرسلها مرة، ويسندها أخرى على حسب نشاطه، والحكم أبدا لمن رفع عنه وأسند، بعد أن يكون ثقة متقنا". قلت: وهذا تخريج للطرق التي أشار إليها: الأولى: عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون، رواه من طرق عديدة عنه: الطحاوي (4/ 121)، والبزار (384 - رسالة اللحياني)، والدارقطني في "العلل" (9/ 342)، وابن حبان (5262)، والبيهقي (6/ 103)، وابن عبد البر (7/ 37). الثانية: أبو عاصم الضحاك بن مخلد النبيل، رواه من طرق عديدة عنه: ابن ماجه (2497)، والبزار (385)، والحنائي في "فوائده" (رقم 78 - بتحقيقي) -وعنه الخطيب في "الفصل للوصل" (2/ 912 - ط دار الهجرة) - والدارقطني في "العلل" (9/ 342)، والطحاوي (4/ 121)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (381)، والبيهقي (6/ 103، 104)، وابن عبد البر (7/ 40، 41). =

عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عون (¬1) بن عبد اللَّه، عن عبيد اللَّه [بن عبد اللَّه] عن (¬2) عمر بن الخطاب قال: "إذا صُرفت الحدود وعرف الناس حُدودَهم فلا شفعة بينهم" (¬3). ¬

_ = الثالثة: يحيى بن أبي قتيلة، رواه من طرق عنه: الطحاوي (4/ 121)، وتمّام في "فوائده" (1632) والدارقطني في "العلل" (2/ 342)، والبيهقي (6/ 103)، وابن عبد البر (7/ 43)، وابن حزم (9/ 104). ورواه موصولًا عن مالك أيضًا: أشهب بن عبد العزبز، وأبو يوسف القاضي ومطرف بن عبد اللَّه المدني، وسعيد بن أبي داود الزّنبري، ولم أظفر بروايتهم، أفاد ذلك الدارقطني. أما البيهقي فقد جعل الخلاف من الزهري حيث قال: "ما كان يشك في روايته عن أبي سلمة عن جابر كما رواه عنه معمر وصالح بن أبي الأخضر وعبد الرحمن بن إسحاق ولا في روايته عن سعيد بن المسيب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلا كما رواه عنه يونس بن يزيد الأيلي وكأنه كان يشك في روايتها عن أبي هريرة، فمرة أرسله عنهما ومرة وصله عنهما ومرة ذكره بالشك في ذلك واللَّه أعلم. ورواية عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر تؤكد رواية من رواه عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر وكذلك رواية أبي الزبير عن جابر ولابن عبد البر كلام رائع فلينظر (7/ 45) وانظر أيضًا تعليقي على "الحنائيات" (رقم 92). قلت: ورواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر في "صحيح البخاري" (2213) وأطرافه هناك. ورواية أبي الزبير عن جابر في "صحيح مسلم" (1608). وكأنه للخلاف الذي وقع في رواية مالك أعرض صاحبا "الصحيحين" عن إخراجه، واللَّه أعلم. (¬1) في المطبوع "عوف"! (¬2) كذا الصواب كما في (ن) وفي المطبوع و (ق) و (ك): "بن"، وقال في هامش (ق): "لعله: أن"، وما بين المعقوفتين سقط منها. وفي (ك) و (ق): "عبد اللَّه" بدل "عبيد اللَّه". (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 105) من طريق سعيد بن منصور به. وقد رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 328) من طريق يزيد بن هارون وعبد اللَّه بن إدريس فقالا: عن يحيى بن سعيد عن عون بن عبيد اللَّه بن أبي رافع عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه به. وهذا إسناد فيه انقطاع؛ عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر لم يدرك جده عمر، مات بعد المئة. ورواه عبد الرزاق (14392) -ومن طريقه ابن حزم (9/ 99) - عن الثوري وابن جريج عن يحيى بن سعيد أن عمر قال: إذا قسمت الأرض، وحُدِّدت الحدود، فلا شفعة فيها، وسنده منقطع.

[الفرق بين الشريك والجار]

وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عثمان بن عفان: "إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها" (¬1)، وهذا قول ابن العباس (¬2). قالوا: ولا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة ملكه عليه. [الفرق بين الشريك والجار] قالوا: وقد فَرَّق اللَّه بين الشريك والجار شرعًا وقدرًا؛ ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار؛ فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز، ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبةٌ شرعية ومنعٌ شرعي؛ أما المطالبة ففي القسمة، وأما المنع فمن التصرف؛ فلما كانت الشركة محلًا للطلب و [محلًا للمنع كانت] (¬3) محلًا للاستحقاق، بخلاف الجوار، فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف! والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤنة المقاسمة، وهي مؤنة كثيرة، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عَرَّضه لمؤنة (¬4) عظيمة، فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشِّقص (¬5) على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع؛ لأن شريكه مثله ومُساو له في الدرجة، فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه، فإذا باع ¬

_ (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 717) -ومن طريقه عبد الرزاق (14393، 14426)، والبيهقي (6/ 105) وابن حزم (9/ 99) - عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم به. وأبو بكر هذا لم يدرك عثمان مات سنة (120 هـ). ورواه ابن أبي شيبة (5/ 328) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 4) - وأبو عبيد في "الغريب" (3/ 417)، وأحمد في "مسائل صالح" (3/ 185 رقم 1612)، وابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 479 رقم 1433)، والبيهقي (6/ 105) من طريق عبد اللَّه بن إدريس عن محمد بن عمارة عن أبي بكر بن حزم عن أبان عن عثمان. ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 125) بإسناد آخر عن عثمان وفيه هشيم وابن إسحاق وكلاهما مدلس وقد عنعنا، وفيه منظور بن ثعلبة لم يرو عنه إلا ابن إسحاق ولا يعرف بجرح ولا تعديل فهو في عداد المجاهيل. (¬2) في (ك) و (ق): "ابن عباس". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) وفي (ق) و (ك): "مؤنة". (¬5) "القطعة من الأرض، والطائفة من الشيء" (و).

صار المشتري دخيلًا، والشريكُ أصيل، فرُجِّح جانبه وثبت له الاستحقاق. قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضًا يقصد رفع الضرر عن المشتري، ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري؛ فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله، فإذا سُلِّط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارًا بينًا، وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا، وتطلُّبه دارًا لا جار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر (¬1)؛ فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق؛ لئلا يضر الناس بعضهم بعضًا، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده، وهذا بخلاف الشريك، فإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها، والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه، فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به. قالوا: وحينئذ فتعين (¬2) حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة؛ فيكون لفظ [الجار فيها] (¬3) مرادًا به الشريك، ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال، أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه، فهما جاران حقيقة، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران، ولذا سميت الزوجة جارة كما قال الأعشى: أجارتنا بِيني فإنك طالقه (¬4) فتسمية الشريك جارًا أولى وأحرى، وقال حَمَل بن مالك: "كنت بين جارتين لي" (¬5) [ومثل] (¬6) هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة، [فأما إن] (¬7) كان ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "المتعسر". (¬2) في (ق): "يتعين". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ن) و (ك): "الجوار". (¬4) انظر: "ديوان الأعشى الكبير" (ص 313 ط: د. محمد محمد حسين). ولفظه فيه: يا جارتي بيني فإنك طالقه ... كذاك أمور الناس غادٍ وطارقه (¬5) قطعة من حديث طويل، أخرجه بهذا اللفظ الشافعي في "المسند" (2/ 103 - 104)، ومن طريقه البيهقي (8/ 114) -وتتمته: "يعني: ضرتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، فألقت جنينًا ميتا. . ." وفيه دية الجنين. وأخرجه الدارمي (2386)، وأحمد (1/ 364 و 4/ 79)، وأبو داود (4572)، والنسائي (8/ 21)، وابن ماجه (2641)، وابن الجارود (779)، وابن حبان (6021)، والدارقطني (3/ 117)، والبيهقي (8/ 114). وهو صحيح. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (د) وفي (ك): "مثل". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "وأما إذا"، وفي (ق): "وأما أن".

[القول الوسط في حق الشفعة]

المرادُ بالحق فيها حَقَّ الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة، وأيضًا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع، فأين [ثبوت] (¬1) حق الانتزاع من المشتري؟ ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة. [القول الوسط في حق الشفعة] والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا تحتمل سواه، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث، أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة، وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة -بل كان كُلُّ واحد منهما متميزا ملكه وحقوق ملكه- فلا شفعة (¬2)، وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، فإنه سأله عن الشفعة: لمن هي؟ فقال: إذا كان طريقهما واحدًا، فإذا صُرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة، وهو قول عمر بن عبد العزيز (¬3)، وقول القاضيين: سوَّار بن عبد اللَّه (¬4)، وعُبيد اللَّه بن الحسن العنبري (¬5)، وقال أحمد في رواية ابن مشيش: [رأي البصريين] أهل البصرة يقولون: إذا كان الطريق [واحدًا] كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه، على معنى حديث جابر الذي يُحدِّثُه عبد الملك (¬6)، انتهى. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) انظر بسط المسألة وأدلتها في "مصنف عبد الرزاق" (8/ 80)، "تنقيح التحقيق" (3/ 55)، "الإنصاف" (6/ 255)، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (30/ 383)، "الجامع للإختيارات الفقهية" (3/ 1160)، "الاختيارات الفقهية" (ص 167)، "فتح الباري" (4/ 437)، "سبل السلام" (3/ 98)، "نيل الأوطار" (5/ 373 - 377)، "دراسة فقهية لبعض الأحاديث في الشفعة" (15 - 16)، "أحكام الشفعة في الفقه الإسلامي" (ص 76 - 94)، "الإشراف" (3/ 132 مسألة 988) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة -ومن طريقه ابن حزم (9/ 100) - وعبد الرزاق (8/ 80 رقم 14394، 14395) من طرق بألفاظه عنه. (¬4) في المطبوع: "عبيد اللَّه" ونقل مذهبه ابن حزم في "المحلى" (9/ 99). (¬5) أسنده عنه عبد الرزاق (8/ 89 رقم 14436) ونقل مذهبه ابن حزم في "المحلى" (9/ 98). (¬6) ومثله في رواية الكوسج (ص 198 - 202)، وانظر نحوه في "مسائل أبي داود" (203)، و"مسائل عبد اللَّه" (298)، و"مسائل ابن هانئ" (2/ 26) و"مسائل صالح" (1/ 444 =

[رأي الكوفيين وأهل المدينة]

[رأي الكوفيين وأهل المدينة] فأهل الكوفة يثبتون شفعة الجوار مع تميز الطرق والحقوق، وأهل المدينة يسقطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق، وأهل البصرة يوافقون أهل المدينة إذا صُرفت الطرق ولم يكن هناك اشتراك في حق من حقوق الأملاك، ويوافقون أهل الكوفة إذا اشترك الجاران في حق من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها، وهذا هو الصواب، وهو أعدل الأقوال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). [رأي ابن القيم في حديث العرزمي] وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريحٌ [فيه] (¬2)، فإنه قال: "الجَارُ أحَقُّ بسقبه يُنتظر به وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا" (¬3) فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق، ونفاها به مع اختلاف الطرق بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شُفعةَ" (¬4) فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة، فأحدهما يُصدق الآخر ويوافقه، لا يعارضه ويناقضه، وجابر روى اللفظين؛ فالذي دَلَّ عليه حديث أبي سلمة عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دل عليه حديث عبد الملك عن عطاء عنه بمفهومه، والذي دل عليه حديث عبد الملك بمنطوقه هو الذي دَلَّت عليه سائر أحاديث جابر بمفهومها، فتوافقت السنن بحمد اللَّه وائتلفت، وزال عنها ما يُظن بها من التعارض، وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري (¬5) يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك؛ فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق، فإن البيتين كانا في نفس دار سعد، والطريق واحد بلا ريب. [القياس الصحيح يؤيد مفهوم حديث العرزمي] والقياس الصحيح يقتضي هذا القول؛ فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها [نظير الضرر] (¬6) الحاصل ¬

_ = و 415 - 417 و 2/ 287)، و"الإنصاف" (6/ 255)، وحديث جابر سبق تخريجه. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 381 - 384)، و"تهذيب السنن" (5/ 167) للمصنف. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) مضى تخريجه. (¬4) رواه البخاري، وقد تقدم قريبًا. (¬5) مضى تخريجه. (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "كالضرر".

[اعتراض]

بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري؛ فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه؛ فهذا المذهب أوسط المذاهب، وأجمعها للأدلة، وأقربها إلى العدل، وعليه يحمل الاختلاف عن عمر -رضي اللَّه عنه-؛ فحيث قال: "لا شُفعةَ" ففيما إذا وَقعتِ الحدود وصُرِفت الطرق، وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرف الطرق، فإنه قد روي عنه هذا وهذا (¬1)، وكذلك ما روي عن علي (¬2)، فإنه قال: "إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (¬3) وَمن تأمَّل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك، وتَبيَّن له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة، وباللَّه التوفيق. [اعتراض] فإن قيل: بقي عليكم أن في حديث جابر وأبي هريرة: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" (¬4) فأسقط الشُّفعةَ بمجرد وقوع الحدود، وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة، وإن وقعت الحدود، وهذا خلاف الحديث. [الجواب عن الاعتراض] فالجواب من وجهين؛ أحدهما: أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين، ومنهم من جَوَّد الحديث فذكرهما، ولا يكون إسقاط مَنْ أسقط أحد اللفظين مبطلًا لحكم اللفظ الآخر. الثاني: أن تَصريفَ الطرق داخل في وقوع الحدود؛ فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة، بل بعضها حاصل، وبعضها مُنتف، فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) سبق قول عمر في نفي الشفعة، وتخريجه مضى. وأما قوله -رضي اللَّه عنه- في إثبات الشفعة، فقد أخرج النسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" (8/ 29) - وابن حزم في "المحلى" (9/ 100) عن شريح القاضي، قال: "أمرني عمر أن أقضي للجار بالشفعة". وإسناده صحيح، قاله ابن كثير في "مسند الفاروق" (1/ 354). (¬2) في المطبوع: "عن علي كرم اللَّه وجهه". (¬3) أخرج نحوه أحمد بن عيسى في "أماليه" المسماة "رأب الصدع" (2/ 1297 - 1298 رقم 2227)، وانظر: "مسند زيد" (ص 249)، و"موسوعة فقه علي" (347 - 348). (¬4) سبق تخريجه.

فصل [الحكمة في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر]

فصل [الحكمة في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر] وأما قوله: "وحَرَّم صوم أول يوم من شوال، وفَرضَ صوم آخر يوم من رمضان مع تساويهما" فالمقدمة الأولى صحيحة، والثانية كاذبة؛ فليس اليومان مُتساويين وإن اشتركا في طلوع الشَّمسِ وغروبها؛ فهذا يومٌ من شهر رمضان الذي فرضه اللَّه على عباده، وهذا يومُ عيدِهم وسرورهم الذي جعله اللَّه تعالى شكران صومهم وإتمامه، فهم فيه أضيافه سبحانه، والجوادُ الكريم يُحب من ضيفه أن يقبل قِرَاه، ويكره أن يمتنعَ من قبول ضيافته بصومٍ أو غيره، ويُكره للضيف أن يصوم إلا بإذن صاحب المنزل؛ فمن أعظم محاسن الشريعة فرض صوم آخر يوم من رمضان فإنه إتمام لما أمر اللَّه به وخاتمة العمل، وتحريم صوم أول يوم من شوال فإنه يوم يكون فيه المسلمون أضياف ربهم تبارك وتعالى، وهم في شكران نعمته عليهم، فأيُّ شيء أبلغ وأحسن من هذا الإيجاب والتحريم؟. فصل [الحكمة في الفرق بين بنت الأخ وبنت العم ونحوها] وأما قوله: "وحَرَّم عليه نكاح بنت أخيه وأخته، وأباح له نكاح بنت أخي أبيه [وبنت] (¬1) أخت أمه، وهما سواء" فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية كاذبة؛ فليستا (¬2) سواء في نفس الأمر، ولا في العُرْفِ، ولا في العُقولِ، ولا في الشريعة، وقد فَرَّق اللَّه سبحانه بين القريب والبعيد شرعًا وقدرًا [وعقلًا] (¬3) وفطرةً، ولو تساوت القرابة لم يكن فرقٌ بين البنت وبنت الخالة (¬4) وبنت العمة، وهذا من أفسد الأمور، والقرابةُ البعيدةُ بمنزلة الأجانب؛ فليس من الحكمة والمصلحة أن تُعطى حكم القرابة القريبة، وهذا مما فطر اللَّه عليه العقلاء، وما خالف شرعه في ذلك فهو إما مجوسية تتضمن التسوية بين البنت والأم وبنات الأعمام والخالات في نكاح الجميع، وإما حرجٌ عظيم على العباد في تحريم نكاح بنات أعمامهم وعماتهم وأخوالهم وخالاتِهم؛ فإن الناس -ولاسيما العرب- أكثرهم بنو عَمٍّ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك) و (ق): "فليسوا". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬4) في (ط) و (و): "وبين بنت الخالة".

فصل [حمل العاقلة دية الخطأ]

بعضهم لبعض إما بنوّة عم دانية وإما قاصية، فلو مُنِعوا من ذلك لكان عليهم فيه حرج عظيم وضيق؛ فكان ما جاءت به الشريعة أحسن الأمور وألصقها بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، والحمد للَّه رب العالمين. فصل [حمل العاقلة دية الخطأ] وأما قوله: "وحمَّل العاقلة جناية الخطأ على النفوس دون الأموال" فقد تقدم أن هذا من محاسن الشريعة، وذكرنا من الفرق بين الأموال والنفوس ما أغنى عن إعادته. فصل [الحكمة في الفرق بين المستحاضة والحائض] وأما قوله: "وحرم وطء الحائض لأجل الأذى، وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى، وهما متساويان" فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية فيها إجمال، فإن أريدَ أن أذى الاستحاضة مساوٍ لأذى الحيض كَذبَت المقدمة، وإن أريد أنه نوع آخر من الأذى لم يكن التفريقُ بينهما تفريقًا بين المتساويين، فبطل سؤاله على كلا التقديرين. ومن حكمة الشارع تفريقه بينهما؛ فإنَّ أذى الحيضِ أعَظمُ وأدومُ وأضرُّ من أذى الاستحاضة، ودم الاستحاضة عِرق، وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف، وخروجه مضر، وانقطاعه دليل على الصحة، ودم الحيض عكس ذلك، ولا يستوي الدمان حقيقة ولا عرفًا ولا سببًا ولا حكمًا؛ فمن كمال الشريعة تفريقها بين الدمين في الحكم كما افترقا في الحقيقة، وباللَّه التوفيق. فصل [الحكمة في الفرق بين اتحاد الجنس واختلافه في تحريم الربا] وأما قوله: "وحرم بيع مدِّ حِنطة بمد وحفنة، وجوز بيعه بقفيز (¬1) شعير" فهذا من محاسن الشريعة التي لا يهتدي إليها إلا أولو العقول الوافرة، ونحن نشير إلى ¬

_ (¬1) "نوع من المكاييل" (و).

[الربا نوعان: جلي وخفي، والجلي النسيئة]

حكمة ذلك إشارة بحسب عقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة، وشرع الرب تعالى وحكمته فوق عقولنا وعباراتنا، فنقول (¬1): [الربا نوعان: جليّ وخفي، والجلي النسيئة] الربا نوعان: جَلي، وخفي، فالجلي حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي فتحريم الأول قصدًا، وتحريم الثاني وسيلة (¬2)، فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يُؤخِّر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال، حتى تصير المئة عنده [آلافًا] (¬3) مؤلفة؛ وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدمٌ محتاج؛ فإذا رأى أن المُستحق يُؤخِّر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلَّف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، [وتعظم مصيبته] (¬4)، ويعلوه الدَّيْن حتى يستغرقَ جميع مَوْجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حَرَّم الربا، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه (¬5)، وآذن من لم يَدَعْه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر (¬6). وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: [هو] أن يكون له دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل (¬7) وقد ¬

_ (¬1) المذكور من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "تفسير آيات أشكلت" (2/ 598 وما بعده) وبعضه من كلامه بالنص والحرف وكلمة فنقول سقطت من (ك). (¬2) في (ق): "فتحريم الأول قصد، والثاني وسيلة". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (د): "آفالًا"!. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) روى مسلم في (المساقاة): (1598) باب لعن آكل الربا وموكله، من حديث أبي الزبير عن جابر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لعن اللَّه آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهديه"، وفيه عنعنة أبي الزبير. وفي "صحيح البخاري" (2086) -وأطرافه هناك- من حديث أبي جُحيفة: "ولعن آكل الربا وموكله". وله شواهد -أيضًا- بطوله، انظرها في "إرواء الغليل" (5/ 183 - 185). (¬6) انظر حول وعيد المرابي بالمحاربة: "طريق الهجرتين" (ص 659 - 660)، و"الكبائر" (ص 49 - بتحقيقنا) للذهبي و"المجالسة" (2767 - بتحقيقي). (¬7) نقل المصنف عن شيخه ابن تيمية في "تفسير آيات أشكلت" (2/ 597) سؤال أحمد وجوابه وكذا الكلام اللاحق مع الآيات والأحاديث والآثار، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [ربا الفضل]

جعل اللَّه سبحانه الربا ضد الصدقة، فالمُرابي ضد المُتصدِّق، قال اللَّه تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130 - 131] ثم ذكر الجنة التي أُعدت [للمتقين الذين] (¬1) ينفقون في السَّراء والضَّرَّاء، [والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس] (¬2) وهؤلاء ضد المرابين، فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم للناس، وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليهم. وفي "الصحيحين" من حديث ابن عباس، عن أسامة بن زيد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنما الرِّبا في النَّسيئة" (¬3) ومثل هذا يراد به حصر الكمال وأن الربا الكامل إنما هو في النسيئة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] وكقول ابن مسعود: "إنما العالم الذي يخشى اللَّه" (¬4). فصل (¬5) [ربا الفضل] وأما [تحريم] (¬6) ربا الفَضْل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صَرَّح به ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "للذين". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق) فقط. (¬3) رواه البخاري في "الصحيح" (رقم 2178 و 2179) (كتاب البيوع): باب بيع الدينار بالدينار نساء، ومسلم في "الصحيح" (رقم 1596) (كتاب المساقاة): باب بيع الطعام مثلًا بمثل. (¬4) ذكره ابن عبد البر (1221) دون إسناد، وروى أحمد في "الزهد" (2/ 106)، وأبو داود في "الزهد" (182)، والطبراني في "الكبير" (9/ 105) رقم (8534)، وابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 21)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 486)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1400، 1401)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 131) عن عبد الرحمن حدثنا قرة عن عون بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن مسعود قال: ليس العلم بكثرة الرواية، ولكن العلم الخشية. وعون بن عبد اللَّه لم يدرك ابن مسعود، فهو منقطع، وانظر: "مجمع الزوائد" (10/ 235)، وعزاه في "الدر المنثور" (7/ 20) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد. (¬5) ما تحته في "تفسير آيات أشكلت" لابن تيمية (2/ 609 وما بعد). (¬6) ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك).

[الأجناس التي يحرم فيها ربا الفضل وآراء العلماء في ذلك]

[في] (¬1) حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تبيعوا الدِّرهم بالدرهمين؛ فإني أخاف عليكم الرِّمَاء، والرَّماء هو الربا" (¬2)، فمنعهم من ربا الفَضْل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين، ولا يُفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين -إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة، وغير ذلك- تذرعوا (¬3) بالربح المُعجَّل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جدًا؛ فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة؛ فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول، وهي تسد عليهم باب المفسدة. [الأجناس التي يحرم فيها ربا الفضل وآراء العلماء في ذلك] فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفَضْل في ستة أعيان، وهي: الذَّهب، والفضة، والبر والشعير، والتمر، والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها؛ فطائفة قَصَرَت التحريم عليها، وأقدم من يُروى عنه هذا قتادة (¬4)، وهو مذهب أهل الظاهر (¬5)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) أخرجه بهذا اللفظ من حديث ابن عمر: أحمد في "مسنده" (2/ 109) من طريق خلف بن خليفة عن أبي جناب الكلبي عن أبيه عن ابن عمر قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين، فإني أخاف عليكم الرما، والرما هو الربا". قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 113): ورواه الطبراني في "الكبير" بنحوه وفيه أبو جناب، وهو ثقة لكنه مدلس. قلت: أبو جناب هو يحيى بن أبي حَيَّة قال فيه ابن حجر: ضعفوه لكثرة تدليسه. وأخرجه أحمد (3/ 4) مرة ثانية، وزاد: فحدث رجل ابن عمر هذا الحديث عن أبي سعيد الخدري يحدثه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فما تم مقالته حتى دخل به على أبي سعيد وأنا معه، فقال: إن هذا حدثني عنك حديثًا. . ." وذكر نحوه. وروى مالك في "الموطأ" في (البيوع) (2/ 634، 635)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 279) من طريق ابن عمر عن عمر أنه قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب. . .؛ فإني أخاف عليكم الرماء، والرماء هو الربا". وأخرج مسلم (1585) عن عثمان رفعه: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين". (¬3) في المطبوع: "تدرجوا". (¬4) ذكره عنه ابن قدامة في "المغني" (4/ 124) وقبله ابن حزم في "المحلى" (8/ 468). (¬5) انظر: "المحلى" (8/ 468، 489)، و"بداية المجتهد" (2/ 29)، "فقه داود" (415 - 416)، =

واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته (¬1) مع قوله بالقياس، قال: لأن عللَ القياسيين في مسألة الربا عللٌ ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس. وطائفة حَرَّمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا مذهب عمار (¬2) وأحمد في ظاهر مذهبه (¬3) وأبي حنيفة (¬4)، وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلًا ولا موزونًا، وهو قول الشافعي (¬5) ورواية (¬6) عن أحمد (¬7)، [وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلًا أو موزونًا (¬8)، وهو قول سعيد بن المسيب (¬9) ورواية عن أحمد (¬10) وقول ¬

_ = "الإشراف" (2/ 447 مسألة 770 - بتحقيقي)، "الربا والمعاملات المصرفية" (ص 90 - وما بعد). وعزاه ابن قدامة والقاضي عبد الوهاب لداود ونفاة القياس، وهم أهل الظاهر. (¬1) عزاه المرداوي في "الإنصاف" (5/ 13) له في "عمدة الأدلة"، وانظر: "الفروع" (4/ 149). (¬2) أخرج ابن أبي شيبة (6/ 112)، وابن حزم (8/ 484) عن رباح بن الحارث أن عمار بن ياسر قال في المسجد الأكبر: العبد خير من العبدين، والأمة خير من الأمتين، والبعير خير من البعيرين، والثوب خير من الثوبين، فما كان يدا بيد فلا بأس به، إنما الربا في النساء إلا ما كيل أو وزن. وإسناده صحيح، وانظر: "الإرواء" (5/ 194). (¬3) نقل أبو يعلى في "الروايتين والوجهين" (1/ 316) عن الميموني عن أحمد أنه قال: أذهب إلى حديث عمار. وقال عنه المرداوي في "الإنصاف" (5/ 11): "هذا الصحيح من المذهب بلا ريب وعليه جماهير الأصحاب"، وانظر: "كشاف القناع" (3/ 251). (¬4) انظر: "مختصر الطحاوي" (75)، و"مختصر القدوري" (175)، و"عمدة القاري" (11/ 252)، "الاختيار" (2/ 30)، و"الهداية" (3/ 61)، و"أحكام القرآن" (1/ 465) للجصاص، و"اللباب شرح الكتاب" (2/ 37)، و"البناية" (6/ 531 - 532)، و"شرح فتح القدير" (7/ 3)، و"المبسوط" (12/ 113، 120)، و"تحفة الفقهاء" (2/ 31)، و"البدائع" (7/ 3106، 3111 - 3118)، و"رؤوس المسائل" (279)، و"البحر الرائق" (6/ 137)، و"تبيين الحقائق" (4/ 85 - 87)، و"رد المحتار" (5/ 171 - 172، 174). (¬5) انظر: "الأم" (3/ 15 - 18)، و"مختصر المزني" (77)، و"المهذب" (1/ 359)، و"المجموع" (9/ 502)، و"مغني المحتاج" (2/ 22)، و"الحاوي الكبير" (6/ 96)، و"روضة الطالبين" (3/ 294)، و"التنبيه" (64)، و"الوجيز" (1/ 136). (¬6) كما في "الروايتين والوجهين" (1/ 316)، و"العدة شرح العمدة" (221). (¬7) في المطبوع و (ن): "الإمام أحمد". (¬8) في (ن): "إذا لم يكن مكيلًا أو موزونًا". (¬9) أسنده عنه مالك (2/ 635)، والبيهقي في "المعرفة" (8/ رقم 11064)، وصححه عنه ابن حزم في "المحلى" (8/ 472)، وانظر: "فقه سعيد بن المسيب" (3/ 45). (¬10) انظر: "الروايتين والوجهين" (1/ 317)، و"المغني" (4/ 126)، و"العدة" (220).

[علة تحريم ربا الفضل في الدراهم والدنانير]

للشافعي] (¬1)، وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه، وهو قول مالك (¬2)، وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه. [علة تحريم ربا الفضل في الدراهم والدنانير] وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد (¬3) في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة (¬4)، وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي (¬5) ومالك (¬6) وأحمد (¬7) في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب، فإنهم أجمعوا على جواز إسلافهما (¬8) في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما؛ فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا؛ فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النَّسَاء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. [وأيضًا] (¬9) فالتعليلُ بالوزن ليس فيه مناسبة، فهو طَرْدٌ محض، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يُعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، ¬

_ (¬1) انظر: "مغني المحتاج" (2/ 22)، و"المحلى" (8/ 472)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) انظر: "حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (3/ 47)، و"جواهر الإكليل" (2/ 17). (¬3) انظر: "المغني" (4/ 126). (¬4) انظر "المبسوط" (12/ 113، و 14/ 25)، و"عمدة القاري" (11/ 253)، و"رؤوس المسائل" (279)، و"الاختيار" (2/ 30 - 31)، و"فتح القدير" (7/ 4)، و"البحر الرائق" (6/ 137)، و"تبيين الحقائق" (3/ 317 و 4/ 85)، و"بدائع الصنائع" (5/ 187)، و"حاشية ابن عابدين" (5/ 175، 180). (¬5) انظر: "المهذب" (1/ 359)، و"المجموع" (9/ 445)، و"روضة الطالبين" (3/ 378)، و"مغني المحتاج" (2/ 25)، و"الفتاوى الكبرى" (2/ 182) لابن حجر الهيتمي. (¬6) "بداية المجتهد" (2/ 130، 132)، و"الخرشي" (3/ 412)، و"الفواكه الدواني" (2/ 240)، و"المعونة" (2/ 960) وانظر: "الإشراف" (2/ 451 - بتحقيقي) للقاضي عياض. وتعليقي عليه. (¬7) انظر: "لمغني" (4/ 126). (¬8) في (ق) و (ك): "إسلامهما". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

فصل [حكمة تحريم ربا النساء في المطعوم]

وذلك لا يمكن إلا بسعر تُعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تُقوَّم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يُقوم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذوا (¬1) الفلوس سلعة تُعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جُعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد (¬2) ولا ينقص بل تقوَّم به الأشياء ولا يقوم هو بغيرها (¬3) لصلح أمر الناس، فلو أُبيح ربا الفَضْل في الدراهم والدنانير -مثل أن يَعطي صحاحا ويأخذ مكسَّرة أو خفافًا ويأخذ ثقالًا أكثر منها- لصارت متجرًا، وجر (¬4) ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولابد؛ فالأثمان لا تُقصد لأعيانها، بل يُقصد التوسل (¬5) بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا (¬6) تُقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا [قولٌ] (¬7) يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. فصل (¬8) [حكمة تحريم ربا النساء في المطعوم] وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقواتُ العَالَم، وما يصلحها؛ فمن رعاية مصالح العباد أن مُنعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل، سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعُوا من بيع بعضها ببعض حالًا متفاضلًا وإن اختلفت صفاتها؛ وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها. وسر ذلك -واللَّه أعلم- أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا رَبح، وحينئذ تشحُّ (¬9) نفسُه ببيعها حَالة لطمعه في الربح، فيعز الطعام على المحتاج، ويشتد ضرره. وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ¬

_ (¬1) في (د): "اتخذت". (¬2) في (ق) و (ك): "يزاد". (¬3) في هامش (ق): "لعله: بها". قلت: ولعله كذلك فعلًا، وفي المطبوع: "ولا تقوم هي بغيرها". (¬4) في المطبوع و (ك): "أوجر". (¬5) في المطبوع: "التوصل". (¬6) في (ق): "مبلغًا" وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬7) في (ك) و (ق): "معنى معقول". (¬8) ما تحته في "تفسير آيات أشكلت" لابن تيمية (2/ 616 وما بعده) بنحوه. (¬9) في المطبوع و (ق) و (ك): "تسمح".

لا (¬1) سيما أهل العمود والبوادي، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام؛ فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان؛ إذ لو جوَّز لهم النَّساء فيها لدخلها: "إما أن تَقْضي وإما أن تُرْبي" فيصير الصاع الواحد [لو أخذ] (¬2) قُفزانًا كثيرة، ففُطِموا عن النساء، ثم فُطموا عن بيعها متفاضلًا يدًا بيد؛ إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف الجنسين المتباينين؛ فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما (¬3) مختلفة؛ ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرارٌ بهم، ولا يفعلونه، وفي تجويز النساء بينها ذريعة إلى "إما أن تقضي وإما أن تُرْبي" فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدًا بيد كيف شاءوا، فحصلت لهم مصلحة المناقلة (¬4)، واندفعت عنهم مفسدة "إما أن تقضي وإما أن تُرْبي" وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك، فلو منعوا منه لأَضرَّ بهم، ولامتنع السَّلَم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيره، والشريعة لا تأتي بهذا، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة [ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبًا إلى مفسدة راجحة] (¬5). يوضح ذلك أن من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بع الجَمْع (¬6) بالدَّراهم ثم اشتر بالدراهم جَنيبًا" (¬7) أو يبيعه بذلك الصنف نفسه بما ¬

_ (¬1) في (ك): "ولا". (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬3) في (ق) و (ك): "في مقاصدها". (¬4) في المطبوع: "المبادلة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) "الجمع -فتح الجيم، وسكون الميم-: كل لون من النخيل لا يعرف اسمه، وقيل: هو تمر مختلط من أنواع متفرقة، وليس مرغوبا فيه، وما يخلط إلا لرداءته، والجنيب: نوع جيد من التمر" (و). قلت: قال ابن حجر في "الفتح" (4/ 400): "و. . . الجمع" -بفتح الجيم وسكون الميم-: التمر المختلط، و"الجنيب" -بجيم ونون وتحتانية وموحدة، وزن عظيم-، قال مالك: "هو الكبيس"، وقال الطحاوي: "هو الطيب"، وقيل: الصلب، وقيل: الذي أخرج منه حشفه ورديئه، وقال غيرهم: هو الذي لا يخلط بغيره بخلاف الجمع". (¬7) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب إذا أراد بيع تمر بتمرٍ خير منه =

يساوي (¬1)، وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالًا، بخلاف ما لو مُكِّن (¬2) من النساء، فإنه حينئذ يبيعه بفَضْل، ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل؛ لأن صاحب ذلك الصنف يُرْبي عليه كما أربى هو على غيره، فينشأ من النساء تضرر بكل واحد منهما، والنساء هاهنا في صنفين، وفي النوع الأول في صنف واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد. وإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفًا واحدًا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب، كالدراهم والدنانير؛ والبر والشعير، والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحديد والزيت. يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مُدّ حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة، فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته؛ فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماما لهذه الحكمة، ورعاية لهذه المصلحة؛ فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول، والعادة جارية بصَبْر أحدهما على الآخر، وكما يفعل أرباب الحيل: يُطلقون العقد وقد تواطئوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل، ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن؛ فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالًا وأخروا الطلب لأجل الربح، فيقعوا في نفس المحذور. وسر المسألة أنهم مُنعوا من التجارة في الأَثْمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يُفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة (¬3) يقصد لأجلها؛ فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: "تِبْرُها وعينُها سواء" (¬4) فظهرت حكمةُ تحريم ربا النساء في الجنس ¬

_ = (4/ 399 - 400/ رقم 2201، 2202)، وفي (كتاب الوكالة): باب الوكالة في الصرف والميزان (4/ 481/ رقم 2302، 2303)، وفي (كتاب المغازي): باب استعمال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على أهل خيبر (7/ 4244 - 4247)، وفي (كتاب الاعتصام): باب إذا اجتهد العامل أو الحاكم فأخطأ (13/ 7350، 7351)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساقاة): باب بيع الطعام مثلا بمثل (3/ 1215/ رقم 1593 بعد 95)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬1) كذا في الأصول ولعل الصواب: "يساويه". (¬2) في (د): "ما إذا مكن"، وفي (ك): "ما لو أمكن". (¬3) في (ق) و (ك): "صيغة". (¬4) رواه أبو داود (3349) في (البيوع): باب في الصرف، والنسائي في (البيوع): باب بيع =

فصل [حكمة إباحة العرايا ونحوها]

والجنسين، وربا الفَضْل في الجنس الواحد، وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يُبَحْ شيءٌ من ربا النسيئة. فصل (¬1) [حكمة إباحة العرايا ونحوها] وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعوا إليه الحاجة كالعرايا (¬2)؛ فإن ما حُرِّم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد. وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته (¬3) محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية (¬4)؛ فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي. وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحِلية النِّساء وما أُبيح من حلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها ¬

_ = الشعير بالشعير (7/ 277) وفي "الكبرى" (4/ 28 رقم 6156)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 66)، والشاشي في "مسنده" (1244، 1249)، والدارقطني (3/ 18)، والبيهقي (5/ 277، 282 - 283، 291) من طريق همام عن قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة مرفوعًا. ورواه أبو داود (3350) من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث الصنعاني عن عبادة مرفوعًا. وهذا حديث إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات. وحديث عبادة في "صحيح مسلم" (1587) (81) دون قوله: "تبرها وعينها". (¬1) ما تحته في "تفسير آيات أشكلت" (2/ 680 وما بعد). (¬2) انظر في هذا الموافقات (3/ 201 - 202 - بتحقيقي) بنوع تصرف. (¬3) في (ق) و (ن): "صناعته"، وفي (ك): "وإن كانت صاغة". (¬4) روى مسلم (1587) في (المساقاة): باب الصرف وبيع الذهب بالورق عن أبي قلابة قال: "كنت بالشام في حلقة فيها مسلم بن يسار، فجاء أبو الأشعث، قال: قالوا: أبو الأشعث، أبو الأشعث. فجلس فقلت له: حَدِّث أخانا حديث عبادة بن الصامت. قال: نعم. غزونا غزاة -وعلى الناس معاوية- فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة، فأمر معاوية رجلًا أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك، فبلغ عبادة بن الصامت فقام فقال: إني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح إلا سواء بسواء، عينا بعين، فمن زاد، أو ازداد فقد أربى. فرد الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبًا فقال: ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه. فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة. ثم قال: لنحدِّثن بما سمعنا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإن كره معاوية أو قال: وإن رَغِمَ -ما أبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء".

فإنه سَفَهٌ وإضاعة للصنعة (¬1). والشارع أحكم من أن يُلْزم الأُمَّة بذلك، فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إلى ذلك (¬2)؛ فلم يبق إلا أن يُقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتَّة، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا (¬3) من الحرج والعُسْر والمشقة ما تتقيه (¬4) الشريعة؛ فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائعُ لا يسمحُ ببيعه ببُر وشعير وثياب؛ وتكليف الاستنصاع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحِيَلُ باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب (¬5)، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؛ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تُباع السلع؛ فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ننكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية، ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: "الدرهم بالدرهم، والدينار بالدينار" (¬6) وفي الزكاة قوله: "وفي الرِّقَةِ رُبْع العشر" (¬7)، ¬

_ (¬1) انظر: "الصواعق المرسلة" (1/ 145)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 369) حديث القلادة وقارن بـ "الاعتصام" (2/ 601 - ط ابن عفان). (¬2) في المطبوع و (ك) و (ق): "لحاجة الناس إليه". (¬3) في (ق): "وهذا فيه". (¬4) في (ك) و (ق): "تنفيه". (¬5) يريد أحاديث جواز العرايا، وقد وردت عن جمع في الصحابة، منها: حديث سهل بن أبي حثمة: رواه البخاري (2191) في (الببوع): باب بيع الثمر على رؤوس النخل بالذهب والفضة، و (2383 و 2384) في (المساقاة): باب الرجل يكون له ممرٌّ أو شِربٌ في حائط أو نخل، ومسلم (1540) في (البيوع): باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع التمر بالتمر ورخص في العرية يبيعها أهلها بخرصها يأكلونها رُطبًا". وحديث زيد بن ثابت: رواه البخاري (2172 و 2184 و 2188 و 2192 و 2380)، ومسلم (1539). وحديث جابر رواه مسلم (1536) (85). (¬6) أخرجه مسلم (1588) (85) في (المساقاة): باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا، ولفظه: "الدينار بالدينار لا فضل بينهما، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. ووقع في المطبوع بلفظ الجمع: "الدراهم بالدراهم، والدنانير بالدنانير". (¬7) تقدم تخريجه.

والرِّقة: هي [الوَرِق وهي] (¬1) الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة؛ فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما، بل فيه تفصيل؛ فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها (¬2). يوضحه أن الحلية المُباحة صارت بالصّنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأُعدِّت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها "إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي" إلا كما يدخل في سائر السِلَع إذا بِيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها (¬3)، لكن لو سُدَّ على الناس ذلك لسُدَّ عليهم باب الدَّيْن، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن الناس على عهد نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- كانوا يتخذون الحلية، وكانت النساء تلبسها، وكُنَّ يتصدقن بها في الأعياد وغيرها (¬4)؛ ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها؛ ومعلوم قطعًا أنها لا تُباع بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة (¬5) لا تساوي دينارًا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى للَّه وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يُعلِّموها الناس (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ك): "مخالفة للدليل بشيء منها". (¬3) في (ن): "قد ارتفع فيها". (¬4) رواه البخاري (98) في (العلم): باب عظة الإمام النساء وتعليمهن -وأطرافه هناك وهي كثيرة جدًا-، ومسلم (884) في أول صلاة العيدين، من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (961) في (العيدين): باب المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة، و (978) في باب موعظة النساء يوم العيد، ومسلم (885)، من حديث جابر. (¬5) "بسكون التاء وفتحها، خاتم كبير يكون في اليد والرجل، أو حَلقة من فضة كالخاتم" (و). (¬6) قال في هامش (ق): "في"الموطأ" عن حميد بن قيس المكي عن مجاهد أنه قال: كنت [أطوف] مع عبد اللَّه بن عمر، فجاءه صائغ، فقال: يا أبا عبد الرحمن! إني أصوغ الذهب، ثم أبيع الشيء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي؟ فنهاه عبد اللَّه بن عمر عن ذلك، فجعل الصائغ يرد عليه المسألة، وعبد اللَّه ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد، أو إلى دابة يريد أن يركبها، ثم قال عبد اللَّه: الدينار بالدينار، =

يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نَهى أن يُباع الحلي إلا بغير جنسه [أو بوزنه] (¬1)، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف. يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدَّم بيانه، وما حُرِّم سدًا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة (¬2)، كما أُبيحت العَرَايا من ربا الفَضْل، وكما أُبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أُبيح النَّظرُ للخاطبِ والشاهدِ والطبيب والمعاملِ من جملة النَّظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجالَ حُرِّم [لسدِّ ذريعة التشبيه] (¬3) بالنساء الملعون فاعله، وأبيح [منه] (¬4) ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يُباح بيع الحلية المصوغةِ صياغةً مباحةً بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان (¬5) سدًا للذريعة؛ فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل (¬6)، والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة (¬7) المتقوَّمة بالأثمان في الغصوب وغيرها، هاذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خِرْقة تساوي فلسًا ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصياغة؟ (¬8) وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمةً ورحمةً وعَدلًا وجَلَالَةً بإباحة هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للمعقول (¬9) والفِطَر والمصلحة؟ والذي يقضى منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت، وحرموا بيع الكشك (¬10) بالسمسم، وبيع النشا ¬

_ = والدرهم بالدرهم، لا فضل بينهما، هذا عهد نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- إلينا، وعهدنا إليكم". اهـ. وما بين المعقوفتين من "الموطأ" (2/ 334/ رقم 2540). وإسناده جَيّد. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) انظر كلامًا طيبًا حول هذه القاعدة للمؤلف -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (3/ 88)، و"روضة المحبين" (ص 93). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "سدًا لذريعة التشبه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "حرم". (¬6) في هامش (ق): "يقال: بل لهم طريق سهل، وهو بيع الحلية بغير جنسها من أحد النقدين". (¬7) في (ن) و (ك): "وغاية ما في ذلك فعل الزيادة في مقابلة الصناعة المباحة". (¬8) في المطبوع و (ن): "الصناعة". (¬9) في (ق) و (ك): "عكس العقول". (¬10) في المطبوع و (ن): "بيع الكسب"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "بيع الكُشب" وكذا أثبتت في (د) و (ك).

[السر في أنه ليس للصفات في البيوع مقابل]

بالحنطة، وبيع الخل بالزبيب، ونحو ذلك، وحَرَّموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاءوا إلى ربا النسيئة (¬1) ففتحوا للتحيل (¬2) عليه كل باب، فتارة بالعِينَة (¬3)، وتارة بالمُحلِّل، وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم اللَّهُ والكرامُ الكاتبون والمتعاقدان ومَنْ حَضَر أنه عقد ربا (¬4) مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدًا ليس إلا! ودخول السلعة كخروجها (¬5) حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا فعلوا هاهنا كما فعلوا في مسألة مُدِّ عجوة ودرهم بمد ودرهم (¬6)، وقالوا: قد يُجعل (¬7) وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض المد في الجانب الآخر فيقع التفاضل؟ فياللَّه العجب! كيف حرمت هذه الذريعة إلى (¬8) ربا الفضل وأُبيحت تلك الذَّرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا؟ وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظِّها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية؟ وإذا حَصْحَص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء، وباللَّه التوفيق. [السر في أنه ليس للصفات في البيوع مقابل] فإن قيل: الصفات لا تُقابَل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولما أبطل الشارع ذلك عُلم أَنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة. قيل: الفرق بين الصَّنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتُقابل بالأثمان ويُستحقُّ عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة للَّه لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته، فالشارع بحكمته وعدله منع [من مقابلة] (¬9) هذه الصفة بزيادة؛ إذ ذلك ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ربا الفضل النسيئة". (¬2) في (ن): "للحيل"، وما بعدها سقطت من (ق) و (ك). (¬3) انظر تقرير ابن القيم -رحمه اللَّه- أن العينة هي عين الربا في: "إغاثة اللهفان" (1/ 340 - 353، 363)، و"تهذيب السنن" (5/ 99 - 109، 148 - 149)، و"بدائع الفوائد" (4/ 84)، و"الوابل الصيب" (ص 14)، و"الفروسية" (ص 102). (¬4) في (ك) و (ق): "زيادة" وصحت في (ق). (¬5) في (ق) و (ك): "وخروجها". (¬6) في (ق) و (ك): "بمدين ودرهم". (¬7) في (ق) و (ك): "قد جعل". (¬8) في (ك) و (ق): "في". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

يُفضي إلى نقضِ ما شرعه [اللَّه] (¬1) من المنع من التفاضل؛ فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهرٌ، والعاقل لا يبيع جنسًا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جَوَّز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفَضْل، وهذا بخلاف الصناعة (¬2) التي جَوَّز لهم المعاوضة عليها معه. يوضحه أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصناعة (2) مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها؛ إذ لا فرق بينهما في ذلك. يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصناعة (2): بعْ هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك (¬3)، ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها، ولا يقول له: تحيَّل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل، ولم يقل قط: لا تبعه إلا بغير جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه. فإن قيل: فهب أن هذا قد سَلِمَ لكم في المصوغ، فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بِيعت بالسَّبائك مفاضلةً (¬4) وتكون الزيادة في مقابلة [صناعة] (¬5) الضَّرْب؟ قيل: هذا سؤال قويٌّ وارد، وجوابه أن السكة لا تتقوَّم فيها (¬6) الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها؛ فإن السلطان يضربُها لمصلحة الناس العامة، وإن كان الضاربُ يضربها بأجرة فإن القصد بها أن تكون معيارًا للناس [لا] (¬7) يتَّجرون فيها كما تقدم، والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في الصرف (¬8)، ولو قوبلت بالزيادة [في الصرف] (¬9) فسدت المعاملة، وانتقضت المصلحة التي ضُربت لأجلها، واتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى التقويم بغيرها، ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، وإذا أخذ الرجل الدرهم رد نظيره (¬10)، وليس المصوغ كذلك، ألا ترى أن الرجل يأخذ مئةً خفافًا ويرد خمسين ثقالًا بوزنها ولا يأبى ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) في المطبوع: "الصياغة". (¬3) في (ق) و (ك): "واحظر صياغتك". (¬4) في (د) و (ك): "مفاضلًا"، وفي (ق): "متفاضلة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬6) في المطبوع: "فيه"! (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬8) في المطبوع: "في العرف". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬10) في المطبوع: "وإذا أخذ الرجل الدراهم رد نظيرها"، وفي (ك): "نظيرها".

[الخلاف في بيع اللحم بالحيوان]

ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئًا؟ وهذا بخلاف المصوغ، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفاؤه لم يضربوا درهمًا واحدًا، وأول من ضَربَها في الإسلام عبد الملك بن مروان وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. فإن قيل: فيلزمُكم على هذا أن تُجوِّزوا بيع فروع الأجناس بأصولها متفاضلًا؛ فجوزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلًا والزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضًا، وجوابه أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها، والثلاثةُ منتفيةٌ في فروع الأجناس مع أصولها، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة (¬1) لا يقوم مقامها ولا يساويها في إلحاقها بها، وأما الأصناف الأربعة ففرعُها إن خرجَ عن كونه (¬2) قوتًا لم يكن من الربويات، وإن كانت قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه، وحرم بيعه (¬3) بجنسه الذي هو مثله متفاضلًا كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز، ولم يحرم (¬4) بيعه بجنس آخر وإن كان جنسهما (¬5) واحدًا؛ فلا يَحرمُ السمسم بالشيرج ولا الهريسة بالخبز؛ فإن هذه الصناعة لها قيمة؛ فلا تضيع على صاحبها، ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا سنَّة ولا إجماع [ولا قياس] (¬6)، ولا حرام إلا ما حرمه اللَّه كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها اللَّه، وتحريم الحلال كتحليل الحرام. [الخلاف في بيع اللحم بالحيوان] فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم ببيع اللحم بالحيوان، فإنكم إنْ منعتموه نقضتم قولكم، وإنْ جَوَّزتموه خالفتم النص، وإذا كان النص قد منع من بيع اللحم بالحيوان فهو دليل على المنع من بيع الخبز بالبر والزيت بالزيتون وكُلِّ ربوي بأصله. قيل: الكلام في هذا الحديث في مقامين: أحدهما في صحته، والثاني في ¬

_ (¬1) الكلام المذكور هنا وكذا في مسألة بيع اللحم بالحيوان عند ابن تيمية في "تفسير آيات أشكلت" (2/ 633 وما بعد) مع زيادات وتصرفات من المصنف، رحمهما اللَّه رحمة واسعة. (¬2) في (ك): "كونها". (¬3) في (ن): "وحرم بنفسه". (¬4) في (ن): "ولم يجز"! (¬5) في (ق) و (ك): "أصلهما". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

معناه: أما الأول فهو حديثٌ لا يصح موصولًا، وإنما هو صحيح مرسلًا؛ فمن لم يحتج بالمرسل لم يَرِد عليه، ومن رأى قبول المرسل مطلقًا أو مراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده، قال أبو عمر (¬1): "لا أعلم حديث النَّهي عن بيع اللحم بالحيوان متصلًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب كما ذكره مالك في "موطئه" (¬2). وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه؛ فكان مالك يقول: معنى الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد [حيوانه بلحمه]، وهو عنده من باب المُزابَنة والغَرر [والقمار]؛ لأنه لا يَدْري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطي أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلًا" (¬3). ¬

_ (¬1) في "التمهيد" (4/ 322 - 324) وما بين المعقوفتين ليس في مطبوعه. (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 655) في (البيوع): باب بيع الحيوان باللحم، ومن طريقه رواه الشافعي في "الأم" (3/ 82)، وأبو داود في "المراسيل" (178)، والدارقطني (3/ 71)، والحاكم (2/ 35)، والبيهقي (5/ 296) و"المعرفة" (8/ 65 - 66)، وابن حزم في "المحلى" (8/ 517) عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب مرسلًا. وقال البيهقي: هذا هو الصحيح، ورواه يزيد بن مروان الخلال عن مالك عن الزهري عن سهل بن سعد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أقول: هذه الرواية الموصولة، وصلها الدارقطني (3/ 70 - 71)، وابن عبد البر في "النمهيد" (4/ 322 - 323)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 334) من طريق يزيد بن مروان به. ويزيد بن مروان هذا قال فيه ابن معين: كذاب، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وقال ابن عبد البر: "وهذا حديث إسناده موضوع، لا يصح عن مالك، ولا أصل له في حديثه". وله شاهد من حديث الحسن عن سمرة: رواه الحاكم (2/ 35) ومن طريقه البيهقي (5/ 296). وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح، ومن أثبت سماع الحسن البصري من سمرة عده موصولًا ومن لم يثبته فهو مرسل جيد يضم إلى مرسل سعيد بن المسيب، والقاسم بن أبي بزة وقول أبي بكر الصديق. وانظر مفصلًا: "التلخيص الحبير" (3/ 10)، و"إرواء الغليل" (5/ 196 - 199) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (3021، 3022). (¬3) "المدونة" (3/ 178 - ط دار الفكر)، و"التفريع" (2/ 126)، و"الرسالة" (215)، و"الكافي" (313)، و"الشرح الصغير" (3/ 103 - 104)، و"عقد الجواهر الثمينة" (2/ 417)، و"جامع الأمهات" (ص 346)، و"المعونة" (2/ 967)، و"الإشراف" (2/ 457 مسألة 776 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب.

فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المُغَيَّب في جلده بلحم إذا كانا من جنس واحد، قال (¬1): "وإذا اختلف الجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيع اللحم بالحيوان". وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه (¬2) فلا يأخذون بهذا الحديث، ويجوِّزون بيع اللحم بالحيوان مطلقًا. وأما أحمد فيمنع بيعه بحيوانٍ من جنسه، ولا يمنع بيعه بغير جنسه، وإن منعه بعضُ أصحابه (¬3). وأما الشافعي (¬4) فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه، وروى الشافعي عن ابن عباس أن جزورًا نُحرت على عهد (¬5) أبي بكر الصديق، فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني جزءًا منها بشاة، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا (¬6). قال الشافعي: "وليست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفًا من الصحابة" والصَّواب في هذا الحديث -إن ثبت- أن المراد به إذا كان الحيوان مقصودًا للحم كشاة يُقصد لحمها فتباع بلحم؛ فيكون قد باع لحمًا بلحم أكثر منه من جنس ¬

_ (¬1) أي: ابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 325). (¬2) انظر: "مختصر الطحاوي" (76 - 77)، و"البناية" (6/ 564)، و"شرح فتح القدير" (7/ 25 - 26)، و"الاختيار" (2/ 33)، و"اللباب في شرح الكتاب" (2/ 40)، و"الهداية" (3/ 64). (¬3) انظر: "المغني" (4/ 146 - 150)، و"الإنصاف" (5/ 23). (¬4) انظر: "الأم" (5/ 23 - 26)، و"الحاوي الكبير" (6/ 186)، و"حلية العلماء" (4/ 161، 184)، و"المهذب" (1/ 368)، و"مغني المحتاج" (2/ 29). (¬5) زاد هنا في (ك) و (ق): "رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو". (¬6) روى الشافعي في "الأم" (3/ 82)، و"مسنده" (2/ 92 "بدائع السنن")، ومن طريقه البيهقي (5/ 297) عن ابن أبي يحيى عن صالح مولى التوأمة، (وفي "مسند الشافعي" وقع عن ابن أبي نجيح عن أبي صالح، وهو خطأ) عن ابن عباس عن أبي بكر أنه كره بيع الحيوان باللحم هكذا مختصرًا. وباللفظ الذي ذكره المؤلف رواه عبد الرزاق (14165) أخبرنا الأسلمي عن صالح مولى التوأمة به. والأسلمي هو إبراهيم بن أبي يحيى شيخ الشافعي ضعفه الأئمة بل كذبه غير واحد، وممن تكلم فيه مالك والقطان وأحمد بن حنبل والبخاري وابن معين والنسائي وابن المديني والدارقطني، ما حَسَّن حاله إلا الشافعي -رحمه اللَّه- والقول ما قاله الأئمة. وصالح مولى التوأمة قد تكلم فيه غبر واحد، وأحسن أحاديثه ما رواه عنه ابن أبي ذئب.

فصل [الحكمة في وجوب إحداد المرأة على زوجها أكثر مما تحد على أبيها]

واحد، واللحم قوت موزون فيدخله ربا الفَضْل. وأما إذا كان الحيوانُ غيرَ مقصودٍ للحم (¬1) كما إذا كان غيرَ مأكولٍ أو مأكول لا يقصد لحمه كالفرس تباع بلحم إبل فهذا لا يحرم بيعه به، بقي إذا كان الحيوان مأكولًا لا يُقصد لحمه وهو من غير جنس اللحم، فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين كبيع صُبْرة تمرٍ بصبرة زبيب (¬2)، وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك (¬3)، إذ غايته التفاضل [بين الجنسين، والتفاضلُ المتحقق جائز بينهما فكيف بالمظنون؟ وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك، لا لأجل التفاضل،] (¬4) ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار، وعلى هذا فيمتنع بيع اللحم بحيوانٍ من غير جنسه، واللَّه أعلم. فصل [الحكمة في وجوب إحداد المرأة على زوجها أكثر مما تحد على أبيها] وأما قوله: "ومنع المرأة من الإحداد على أمها وأبيها وابنها (¬5) فوق ثلاث، وأوجبه على زوجها أربعة أشهر وعشرًا وهو أجنبي" فيقال (¬6): هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه؛ فإن الإحدادَ على الميت من تعظيمِ مُصيبةِ الموت التي كان أهلُ الجاهلية يبالغون فيها أعظمَ مبالغة، ويُضيفون إلى ذلك شق الجيوب، ولَطمِ الخدود، وحلق الشعور، والدعاء بالويل والثبور، وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تَمسُّ طيبًا ولا تَدَّهن ولا تغتسل إلى غير ذلك (¬7) مما هو سَخطٌ (¬8) على الرب تعالى وأَقْدَارِه، ¬

_ (¬1) في المطبوع: "غير مقصود به اللحم". (¬2) "الصبرة: الكومة من الطعام، ويقال: اشترى الطعام صبرة: جزافًا بلا كيل أو وزن" (و). (¬3) انظر بسط المسألة ومذاهب العلماء في "الإشراف" (2/ 465 مسألة 782 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب، كتاب "بيع الغرر في الفقه الإسلامي" لأستاذنا ياسين درادكة. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وأثبتها الناسخ في هامش (ق). (¬5) في المطبوع: "على أمها وأبيها"، وفي (ق): "على أبيها وابنها". (¬6) في (ك): "فصل". (¬7) كما هو ثابت في "صحيح البخاري" (5336) و (5337) في الطلاق: باب مراجعة الحائض، و (5338) باب الكحل للحادَّة، و (5706) في الطب: باب الأثمد والكحل من الرمد، ومسلم (1488) و (1489) في الطلاق: باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، من حديث أم سلمة. (¬8) في المطبوع: "تسخُّط"، وفي (ق) و (ك): "مسخطة".

فأبطل [اللَّه] سبحانه برحمتة ورأفته سنة (¬1) الجاهلية، وأبدلنا بها الصبر والحمد والاسترجاع الذي هو أنفعُ للمُصاب في عاجلته وآجلته؛ ولما كانت مصيبةُ الموت لا بد أن تُحدثَ للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك، وهو ثلاث أيام تجد بها نوع راحة وتقضي بها وطرًا من الحزن، كما رَخَّص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا (¬2)، وما زاد على الثلاث فمفسدتُه راجحة، فمنع منه، بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحةٌ مغمورة بمصلحتها؛ فإن فطامَ النفوس عن مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها، فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي، فإن النَّفسَ إذا أخذت بعض مرادها قنعت به، فإذا سألت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حُرِمَتَه (¬3) بالكلية. ومن تأمَّل أسرار الشريعة وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرًا على صفحات أوامرها ونواهيها، باديًا لمن نَظَرهُ نافذ (¬4)؛ فإذا حَرَّم عليهم شيئًا عَوَّضهم عنه بما هو خير لهم منه وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعوا حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه (¬5)، كما حرم عليهم بيع الرطب بالتمر، وأباح لهم منه العرايا (¬6)، وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية، وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب (¬7)، وحرم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرهما، وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال (¬8)، وحَرَّم عليهم لباس الحرير، وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه (¬9)، وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبه بالسلم (¬10)، وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم وعَوَّضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلًا؛ فسهل عليهم تركه بالنهار، وحرم عليهم الزنا وعوضهم ¬

_ (¬1) في (ك): "شبه" وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) ثبت هذا في حديث رواه البخاري (3933) في مناقب الأنصار، ومسلم (1353) في الحج، من حديث العلاء الحضرمي وسقطت "ثلاثًا" من (ك). (¬3) في المطبوع: "حرمت". (¬4) في (ق) و (ن): "لمن بصره باقية"، وقال في هامش (ق): "لعله: نافذة". (¬5) انظر كلامًا نفيسًا حول هذه القاعدة للمؤلف -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (3/ 107)، "إغاثة اللهفان" (2/ 69 - 70)، و"روضة المحبين" (ص 8 - 10). (¬6) مضى تخريجه، وفي (ك): "من العرايا". (¬7) انظر ما علقناه على (ص 203 - 204). (¬8) انظر "الفروسية" (ص 325 - بتحقيقي). (¬9) مضى تخريج ذلك. (¬10) مضى بيان ذلك.

بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاءوا، فسهل عليهم تركه غاية التسهيل (¬1)، وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعَوَّضهم عنه بالاستخارة ودعائها ويا بُعد ما بينهما، وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم والعمة والخال والخالة، وحَرَّم عليهم وطء الحائض وسمح لهم في مباشرتها وأَن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء فسهل عليهم تركه غاية السهولة، وحرم عليهم الكذب وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب معها ألبتة، وأشار إلى هذا -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "إن في المعاريض مندوحةً (¬2) عن الكذب" (¬3) وحرم عليهم الخيلاء ¬

_ (¬1) في (ق): "غاية السهولة". (¬2) "سعة وفسحة" (و)، وفي (ك) و (ق): "لمندوحة". (¬3) رواه أبو الشيخ في "الأمثال" (230)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 49) و (3/ 963)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 199)، وابن الأعرابي في "معجمه" (993)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1011) من طريق داود بن الزبرقان عن سعيد عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين مرفوعًا. قال ابن عدي: وهذا يرفعه عن سعيد بن أبي عروبة داود بن الزبرقان وغيره أوقفه. أقول: وداود هذا ضعيف جدًا. وقد رواه عبد الوهاب بن عطاء الخفاف عن سعيد بن أبى عروبة عن قتادة عن مطرف عن عمران موقوفًا، رواه البيهقي في "الكبرى" (10/ 199). ووقفه عبدة عن سعيد أيضًا لكن قال عن قتادة عن عمران: رواه هناد في "الزهد" (1378). ثم رفعه آخر. قال ابن السني (328):. . . حدثنا سعيد بن أوس حدثنا شعبة عن قتادة عن مطرف عن عمران بن حصين مرفوعًا. وسعيد بن أوس هذا، قال فيه أبو حاتم وابن معين: صدوق ولينه ابن حبان؛ لأنه وهم في سند حديث، وقد كذبه أحمد بن عبيد بن ناصح، ويظهر لأنه كان قدريًا، ومن أجل هذا السند حسن الحافظ العراقي هذا الحديث. أقول: وفي هذا نظر؛ فقد رواه ابن أبي شيبة (8/ 723)، والبخاري في "الأدب" (888)، والطبراني في "الكبير" (18/ 201)، والطبري في "تهذيب الآثار" -كما ذكر السخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 115) - من طرق عن شعبة عن قتادة به موقوفًا، وهو الصحيح واللَّه أعلم. وله شاهد من حديث علي مرفوعًا: رواه ابن عدي (1/ 49)، والديلمي في "الفردوس" (1/ ق 239) من طريق نصر بن طريف عن عطاء بن السائب عن عبد اللَّه بن الحارث عن علي به. ونصر هذا قال فيه أحمد: لا يكتب حديثه. وقال ابن معين: من المعروفين بالكذب وبوضع الحديث. وقال البخاري: سكتوا عنه. . . =

فصل [الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض]

بالقول والفعل وأباحها لهم في الحرب لما [لهم] (¬1) فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد، وحَرَّم عليهم كل ذي نابٍ من السباع ومخلب من الطير (¬2) وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها، وبالجملة فما حرم عليهم خبيثًا ولا ضارًا إلا وأباح (¬3) لهم طَيِّبًا بإزائه أنفع لهم منه، ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه فوسعتهم رحمته ووسعهم تكليفه (¬4). والمقصود أنه أباح للنساء -لضعف عقولهن وقلة صبرهن- الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام أما الإحداد على الأزواج (¬5) فإنه تابع للعدة وهو من مقتضياتها ومُكمِّلاتها، فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزيُّن والتَّجمُّل والتعطر، لتتحبب إلى زوجها وترد لها نفسَه (¬6)، ويحسن ما بينهما من العشرة، فإذا مات الزوج واعتدت منه وهي لم تصل إلى زوج آخر، فاقتضى تمام حق الأول [وتأكيد المنع من الثاني] (¬7) قبل بلوغ الكتاب أجله أن تُمنعَ مما تصنعه النساء لإزواجهن، مع ما في ذلك من سَدِّ الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة والخِضَاب والتطيُّب، فإذا بلغ الكتاب أجله صارت محتاجةً إلى ما يُرغِّب في نكاحها، فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج (¬8)، فلا شيء أبلغ في الحسن من هذا المنع والإباحة ولو اقترحت عقول العالمين لم تقترح شيئًا أحسن منه. فصل [الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض] وأما قوله: "وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود، وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة" (¬9) وهذا أيضًا من ¬

_ = وقد ورد موقوفًا عن عمر: أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (908)، وابن أبي شيبة (8/ 723)، وهناد في "الزهد" (1377)، والبيهقي في "سننه" (10/ 199)، وإسناده صحيح. (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) مضى تخريجه. (¬3) في (ق) و (ك) والمطبوع و (ك): "أباح". (¬4) في (ق): "تكليفهم". (¬5) في المطبوع: "على الزوج". (¬6) في المطبوع و (ق): "لتحبب إلى زوجها، وتردها نفسه". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "وتأكيدًا لمنع الثاني". (¬8) في (ق): "لذوات الأزواج". (¬9) للشيخ سعد الحربي "الأحكام التي تخالف فيها المرأة الرجل" ولمحمد بن عبد اللَّه الكيكي (ت 1185 هـ) في مطلع كتابه "مواهب ذي الجلال في نوازل البلاد السائبة =

كمال الشريعة (¬1) وحكمتها ولطفها؛ فإن مصلحةَ العباداتِ البدنية ومصلحة العقوبات النساءُ والرجال مشتركون فيها، وحاجة أحد الصنفين إليها كحاجة الصنف الآخر؛ فلا يليق التفريق بينهما، نعم فرقت بينهما، في أليق المواضع بالتفريق وهو الجمعة والجماعة، فخُصَّ وجوبهما بالرجال دون النساء لأنهن لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال (¬2)؛ وكذلك فرقت بينهما في عبادة الجهاد التي ليس الإناث من أهلها، وسوّت بينهما في وجوب الحج لاحتياج النوعين إلى مصلحته، وفي وجوب الزكاة والصيام والطهارة؛ وأما الشهادة فإنما (¬3) جُعلت المرأة فيها على النصف من الرجل؛ لحكمة أشار إليها العزيز الحكيم في كتابه، وهي أن المرأة ضَعيفةُ العقل قليلةُ الضبط لما تحفظه. وقد فضّل اللَّه الرجال على النساء في العقول والحفظ والفهم والتمييز؛ فلا تقوم المرأة في ذلك مقام الرجل، وفي منع قبول شهادتها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق وتعطيل لها، فكان من أحسن الأمور وألصقها بالعقول، أن ضمَّ إليها في قبول الشهادة نظيرها لتذكِّرها إذا نسيت، فتقوم شهادة المرأتين مقام شهادة الرجل، ويقع من العلم أو الظَنَّ الغالب بشهادتهما ما يقع بشهادة الرجل الواحد، وأما الدية فلما كانت المرأة أنْقص من الرجل، والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها والذب عن الدنيا والدين لم تكن قيمتها مع ذلك متساوية وهي الدية؛ فإن دِية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال، فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما. فإن قيل: لكنكم نقضتم هذا فجعلتم ديتهما سواء فيما دون الثلث. قيل: لا ريب أن السنة وردت بذلك، كما رواه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَقْل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغَ الثُّلثَ من ديتها" (¬4) وقال سعيدُ بن المُسيَّب: إن ذلك ¬

_ = والجبال" (ص 47 - 50) في (الباب الأول: في ذكر مسائل ونوازل تخالف المرأة فيها الرجل)، وعمل على سردها فقط. (¬1) في (د): "شريعته". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (4/ 136) وبعدها في (ق): "مذلك فرق". (¬3) في (ن) و (ق): "فإنها". (¬4) رواه النسائي (8/ 44 - 45) في (القسامة): باب عقل المرأة، وفي "الكبرى" (7008)، =

[من] (¬1) السنة، وإن خالف فيه أبو حَنيفةَ والشافعيّ والليث والثوري وجماعة، وقالوا: هي [على] (1) النَّصف في القليل والكثير، ولكن السنة أولى، والفَرْق بين [ما دون الثلث و] (¬2) ما زاد عليه أن ما دونه قليل، فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل، ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية لقلة ديته، وهي الغُرَّة (¬3)، فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين. وأما الميراث فحكمة التفضيل فيه ظاهرة؛ فإن الذكر أحْوجُ إلى المال من الأنثى؛ لأن الرجال قوَّامون على النساء، والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله بعد أن فرض الفرائض وفاوت بين مقاديرها: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] وإذا كان الذكر أنفع من الأنثى وأحوج كان أحقَّ بالتفضيل. فإن قيل: فهذا ينتقض بولد الأم. قيل: بل طرْد هذه التسوية بين ولد الأم ذكرهم وأنثاهم، فإنهم إنما يرثون ¬

_ = والدارقطني (3/ 91) من طريق عيسى بن يونس قال حدثنا ضمرة عن إسماعيل بن عياش عن ابن جُريج عن عمرو بن شعيب به. وهذا فيه علل: الأولى: عيسى بن يونس وضمرة بن ربيعة فيهما كلام. الثانية: إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن الحجازين وهذه منها، لذلك قال النسائي بعد إخراجه: "إسماعيل بن عياش ضعيف كثير الخطأ". الثالثة: ابن جريج مدلس وقد عنعن. الرابعة: خولف إسماعيل بن عياش، فأخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (17756) عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب مرسلًا، وهذا أصحّ. وعليه؛ فلا وجه لتصحيح ابن خزيمة إياه، كما في "الروضة الندية" (3/ 378 - مع "التعليقات الرضية"). وأخرج البيهقي (8/ 96) نحوه عن زيد بن ثابت قوله، وسنده صحيح، لولا أن الشعبي لم يسمع من زيد. وانظر: تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3088)، و"الإرواء" (رقم 2254). قال الشافعي رحمه اللَّه: "كان مالك يذكر أنه السنة، وكنتُ أتابعه عليه، وفي نفسي منه شيء، ثم علمت أنه يريد أهل المدينة فرجعت عنه". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬2) في المطبوع: "والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) "الغرة: العبد نفسه أو الأمة، والغرة عند الفقهاء: ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء، وإنما تجب الغرة في الجنين إذا سقط ميتًا، فإن سقط حيًا، ثم مات ففيه الدية كاملة" (و).

فصل [الحكمة في التفرقة بين زمان وزمان ومكان ومكان]

بالرحم المجرد؛ فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط، وهم فيها سواء؛ فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم، بخلاف قرابة الأب. وأما العقيقة فأمر التفضيل فيها تابعٌ لشَرَف الذكر، وما ميَّزه (¬1) اللَّه به على الأنثى، ولما كانت النعمة به على الوالد أتم، والسرور والفرْحة به أكمل (¬2)؛ كان الشكران عليه أكثر؛ فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر، واللَّه أعلم. فصل [الحكمة في التفرقة بين زمان وزمان ومكان ومكان] وأما قوله: "وخص بعض الأزمنة والأمكنة، وفضل بعضها على بعض، مع تساويها. . . إلى آخره" فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية كاذبة، وما فضّل بعضها على بعض إلا لخصائص قامت بها اقتضت التخصيص، وما خص سبحانه شيئًا إلا بمخصِّص (¬3)، ولكنه قد يكون ظاهرًا وقد يكون خفيًا، واشتراك الأزمنة والأمكنة في مُسمَّى الزمان والمكان كاشتراك الحيوان في مسمى الحيوانية والإنسان في مسمى الإنسانية، [بل] (¬4) وسائر الأجناس في المعنى الذي يَعمُّها، وذلك لا يوجب استواءها في أنفسها، والمختلفاتُ تشترك في أمور كثيرة، والمتَّفقاتُ تتباين في أمور كثيرة، واللَّه سبحانه أحكم وأعلم من أن يرجح (¬5) مثلًا على مِثْل من كل وجه بلا صفة تقتضي ترجيحه، هذا مستحيل في خلقه وأمره، كما أنه سبحانه لا يُفرِّق بين المتمائلين من كل وجه؛ فحكمتُه وعدلُه تأبى هذا وهذا؛ وقد نزّه سبحانه نفسه عَمَّن يظنُّ به ذلك، وأنكر عليه زعمه الباطل، وجعله حكمًا منكرًا، ولو جاز عليه ما يقول هؤلاء لبطَلَت حجَّتُه وأدلته؛ فإن مبناها على أن حُكمَ الشيء حكمُ مثله، وعلى ألا يسوَّى (¬6) بين المختلفين؛ فلا يجعل الأبرار كالفجار، ولا المؤمنين كالكفار، ولا من أطاعه كَمَن عصاه، ولا العالم كالجاهل وعلى هذا مَبْنى الجزاء؛ فهو حكمه الكوني والديني، وجزاؤه الذي هو ثوابه وعقابه وبذلك حصل الاعتبار، ولأجله ضُربت الأمثال، وقُصَّت علينا أخبار ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "يميزه". (¬2) في (ق): "والفرح به أكمل". (¬3) في (ق) و (ك): "لمخصص". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في المطبوع: "يفضل". (¬6) في (ن): "وعلى أنه لا يسوى"، وفي (ق) و (ك): "وعلى أنه لا يساوي".

فصل [الحكمة في الجمع بين المختلفات في الحكم متى اتفقت في موجبه]

الأنبياء وأممهم، ويكفي في بطلان هذا المذهب المتروك الذي هو من أفسد مذاهب العالم أنه يتضمن لمساواة ذات جبريل بذات إبليس (¬1)، وذات الأنبياء بذات أعدائهم، ومكان البيت العتيق بمكان الحُشوش (¬2) وبيوت الشياطين، وأنه لا فرق بين هذه الذوات في الحقيقة، وإنما خصت [هذه الذات عن هذه الذات بما خُصّت به] (¬3) لمحض المشيئة المرجِّحة مثلًا على مثل بلا موجب، بل قالوا ذلك في جميع الأجسام، وأنها متماثلة، فجسم المِسْك عندهم مساوٍ لجسم البول والعذرة، وإنما امتاز عنه بصفة عَرَضية، وجسم الثلج عندهم مساوٍ لجسم النار في الحقيقة، وهذا مما خرجوا به عن صريح المعقول، وكابروا فيه الحسّ، وخالفهم فيه جمهور العقلاء من أهل الملل والنَّحَلِ، وما سَوَّى اللَّه بين جسم السماء وجسم الأرض، ولا بين جسم النار وجسم الماء، ولا بين جسم الهواء وجسم الحجر، وليس مع المنازعين من ذلك إلا الاشتراك في أمر عام، وهو قبول الانقسام وقيام الأبعاد الثلاثة والإشارة الحسِّيَّة، ونحو ذلك مما لا يوجب التشابه فضلًا عن التماثل، وباللَّه التوفيق. فصل [الحكمة في الجمع بين المختلفات في الحكم متى اتفقت في موجبه] وأما قوله: "إن الشريعة جمعت بين المختلفات، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال" فغيرُ منكرٍ في العُقول والفِطر والشرائع والعادات اشتراكُ المختلفاتِ في حكم واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم؛ فإنه لا مانع من اشتراكِها في أمرِ يَكون علة لحكم من الأحكام، بل هذا هو الواقع (¬4)، وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان، وإن افترقا في علة الإثم، وربْطُ الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها، وهو مقتضى العدل (¬5) الذي لا تتمُّ المصلحةُ إلا به، كما أوجب على القاتل خطأ ديَّةَ ¬

_ (¬1) في (ن): "لمساواة جبريل وإبليس". (¬2) "الحشوش: مكان قضاء الحاجة في الخلوات" (ط). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "به هذه عن هذه". (¬4) انظر كلامًا للمؤلف -رحمه اللَّه- حول قاعدة التسوية بين المتماثلين، وأن حكم الشيء حكم مثله في: "زاد المعاد" (3/ 152)، و"شفاء العليل" (ص: 418 - 420). (¬5) في (ك): "العقول"، وفي (ق): "وهو من مقتضى العدل".

فصل [الحكمة في أن الفأرة كالهرة في الطهارة]

القتيل؛ ولذلك لا يُعتمدُ التكليف فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح [الأمة] (¬1) إلا بها؛ فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتْلفَ بعضُهم أموالَ بَعْض، وادَّعى الخطأ وعدم القصد. وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات؛ فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته؛ ففرَّقت الشريعة فيها بين العامد والمخطئ, وكذلك البِرُّ والحنث في الأيمان فإنه نظير الطاعة والعصيان في الأمر والنهي؛ فيفترق (¬2) الحال فيه بين العامد والمخطئ. وأما جمعها بين المكلَّف وغيره في الزكاة فهذه مسألة نزاع واجتهاد، وليس عن صاحب الشرع نصٌّ بالتسوية ولا بعدمها، والذين سوَّوْا بينهما رأوا ذلك من حقوق الأموال التي جعل اللَّه سبحانه الأموال سببًا في ثبوتها (¬3)، وهي حقٌّ للفقراء في نفس هذا المال، سواء كان مالكه مكلفًا أو غير مكلف، كما جَعل في ماله حَقَّ الإنفاق على بهائِمه ورقيقِه وأقاربه؛ فكذلك جعل في ماله حقًا للفقراءِ والمساكين (¬4). فصل [الحكمة في أن الفأرة كالهرة في الطهارة] وأما جمعها بين الهِرَّة والفأرة في الطهارة فهذا حق، وأي تفاوت في ذلك؟ وكأن السائل رأى أن العداوةَ التي بينهما تُوجبُ اختلافهما في الحكم كالعداوة التي بين الشاة والذئب، وهذا جهْل منه؛ فإن ذلك أمر لا تعلق له بطهارة ولا نجاسة ولا حِلّ ولا حرمة، والذي جاءت به الشريعة من ذلك في غاية الحكمة والمصلحة؛ فإنها لو جاءت بنجاستهما لكان فيه أعظم حرج ومشقة على الأمة؛ لكثرة طوفانهما على الناس ليلًا ونهارًا وعلى فُرُشهم وثيابهم وأطعمتهم، كما أشار إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله في الهرة: "إنها ليست بنجس؛ إنها من الطَّوافين عليكم والطوافات" (¬5). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "فتفرقت". (¬3) انظر كلامًا جيدًا حول مسألة: هل المغلب في الزكاة أنها حق للَّه أو للآدمي؟ في "الفنون" (1/ 89 - 90) لابن عقيل. (¬4) انظر: "أحكام أهل الذمة" (2/ 501 - 502). (¬5) الحديث صحيح، رواه أهل "السنن" وغيرهم، وقد تقدم تخريجه.

فصل [الحكمة في جعل ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة]

فصل [الحكمة في جعل ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة] وأما جَمْعها بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم، وبين ميتة الصيد وذبيحة المُحْرِم له، فأي تفاوت في ذلك؟ وكأن (¬1) السائل رأى أن الدَّمَ لما احْتَقنَ في الميتة كان سببًا لتحريمها، وما ذَبحهُ المُحرمُ أو الكافر غير الكتابي لم يحتقن دمه؛ فلا وجه لتحريمه، وهذا غلطٌ وجهل؛ فإن علة التحريم لو انحصرت في احتقانِ الدم لكان للسؤال وجه، فأما إذا تعدَّدت عللُ التحريم لم يلزم من انتفاء بعضها انتفاء الحكم إذا خَلِفَه علة أخرى، وهذا أمر مطرد في الأسباب والعلل العقلية؛ فما الذي يُنكر منه في الشرع؟ فإن قيل: قد سوّتِ (¬2) الشريعة بينهما في كونهما ميتة، وقد اختلفا في سبب الموت، فتضمَّنت جمعها بين مُخْتلفيْن وتفريقها بين متماثلين؛ فإن الذبح واحد صورةً وحسًا وحقيقة؛ فجَعلت بعض صورهِ مخرجًا للحيوان عن كونه ميتة وبعض صوره موجبًا لكونه ميتةً من غير فرق. قيل: الشريعة لم تُسَوِّ بينهما في اسم الميتة لغة، وإنما سوت بينهما في الاسم الشرعي؛ فصار اسم الميتة في الشرع أعم منه في اللغة، والشارع يتصرف في الأسماء اللغوية بالنقل تارة وبالتعميم تارة وبالتخصيص تارة، وهكذا يفعل أهل العُرف؛ فهذا ليس بمنكر شرعًا ولا عُرفًا (¬3)، وأما الجمع بينهما في التحريم فلأن اللَّه سبحانه حَرَّم علينا الخبائث، والخبث الموجب للتحريم قد يظهر لنا وقد يخفى، فما كان ظاهرًا لم يَنْصب عليه الشرع (¬4) علامة غير وصفه، وما كان خفيًا نصبَ عليه علامةً تدل على خبثه؛ فاحتقان الدم في الميتة سبب ظاهر، وأما ذبيحة المجوسي والمرتد وتارك التسمية ومن أهلّ بذبيحته (¬5) لغير اللَّه فنفسُ ذبيحة هؤلاء أكسبت (¬6) المذبوح خبثًا أوجب تحريمه، ولا يُنكر أن يكونَ ذكرُ اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها (¬7) خبثًا، وذكر اسم اللَّه وحده يكسبها طيبًا، إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوْقِ الشريعة، وقد جعل اللَّه ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "كأن" دون واو. (¬2) في المطبوع: "أليس قد سوت". (¬3) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (19/ 235 - 236). (¬4) في المطبوع: "الشارع". (¬5) في (ق) و (ك): "الذبيحة". (¬6) في (ك): "ألبست". (¬7) في (ك): "يلبسها".

سبحانه ما لم يُذكر اسمُ اللَّه عليه من الذبائح فسقًا وهو الخبيث (¬1)، ولا ريب أن ذكر [اسم] (¬2) اللَّه على الذبيحة يُطيّبها ويطرد الشيطانَ عن الذابح والمذبوح، فإذا أخلَّ بذكر اسمه لابَسَ الشيطانُ الذَّابحَ والمذبوح، فأثَّر ذلك خبثًا في الحيوان، والشيطان يجري في مجاري الدم من الحيوان والدم مَرْكَبُه وحامله، وهو أخبث الخبائث، فإذا ذكر الذابح اسم اللَّه خرج الشيطان مع الدم فطابت الذبيحة، فإذا لم يذكر اسم اللَّه لم يخرج الخبث، وأما إذا ذكر اسم عدوه من الشياطين والأوثان فإن ذلك يكسب الذبيحة خبثًا آخر (¬3). يوضحه أن الذبيحة تجري مجرى العبادة، ولهذا يقرن اللَّه سبحانه بينهما كقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] وقال تعالي: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا] (¬4) وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 36 - 37] فأخبر أنه إنما سَخَّرها لمن يذكر اسمَه عليها (¬5)، [وأنه إنما يناله التقوى -هو التقربُ إليه بها وذِكرُ اسمِه عليها- فإذا] (¬6) لم يذكر اسمه عليها كان ممنوعًا من أكلها، وكانت مكروهةً للَّه، فأكسبتها كراهيتُه لها (¬7) -حيث لم يذكر عليها اسمه أو ذكر عليها اسمَ غيره- وصْف الخبث (¬8) فكانت بمنزلة الميتة، وإذا كان هذا في متروك التسمية وما ذكر عليه اسمُ غيرِ اللَّه فما ذبحه عَدوُّه المشرك به الذي هو من أخبث البرية أولى بالتحريم؛ فإنَّ فِعلَ الذابح وقصدَه وخبثه لا ينكر أن يؤثِّر في المذبوح، كما أن خبث الناكح ووصفه وقصده يؤثر في المرأة المنكوحة (¬9)، وهذه أمور إنما يُصدِّق ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الخبث". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) قارن بـ "مجموع فتاوى ابن تيمية" (25/ 246)، و"التفسير الكبير" (7/ 277)، وكتابي "فتح المنان" (1/ 395 - 397 و 2/ 528). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "إلى قوله". (¬5) في (ن): "لمن يذكر اسم اللَّه عليها". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "وإذا". (¬7) في (ق) و (ك): "فأكسبت كراهته له". (¬8) في (ق): "يكسبها وصف الخبث" وفي (ك): "عليها وصف الخبث". (¬9) قال في هامش (ق): "ما الجواب عما ذبحه النصراني الذي يقول: إن عيسى ربه؟ على إباحة أهل الكتاب بأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير اللَّه" قلت: انظره في "أضواء البيان" واللَّه المستعان.

فصل [الحكمة في الجمع بين الماء والتراب في حكم التطهير]

بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة حكمها وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقّاها صافية من مشكاة النبوة، وأَحْكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نورَ حقائقها ظلمةُ التأويل والتحريف. فصل [الحكمة في الجمع بين الماء والتراب في حكم التطهير] وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع، وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة؛ وقد عقد اللَّه سبحانه الإخاء بين الماء والتراب قدرًا وشرعًا؛ فجمعهما اللَّه عز وجل وخلق منهما آدم وذريته، فكانا أبوين اثنين لأبوينا (¬1) وأولادهما؛ وجعل منهما حياة كل حيوان، وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام، وكانا أعمّ الأشياء وجودًا، وأسهلها تناولًا، وكان تعفير الوجه في التراب للَّه سبحانه من أحب الأشياء إليه، ولما كان عقد هذه الأخوة بينهما قدرًا أحكم عقدٍ وأقواه كان عقد الأخوة بينهما شرعًا أحسن عقد وأصحه، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36 - 37]. فصل [معرفة الأشباه] فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه-: "واعْرفِ الأشباه والنظائر" وفي لفظ: "واعْرف الأمثال، ثم اعمد (¬2) فيما ترى إلى أحبِّها إلى اللَّه وأشبهها بالحق" فلنرجع إلى شرح باقي كتابه (¬3). ثم قال: "وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذّي بالناس، والتنكُّر عند الخصومة، أو الخصوم -شك أبو عبيد- فإن القضاءَ في مواطن الحق مما يُوجب اللَّه به الأجر، ويُحسن به الذكر" (¬4). وهذا الكلام يتضمن أمرين: ¬

_ (¬1) في (ق): "لأبوتنا". (¬2) في (ق) و (ك): "ثم اعتمد". (¬3) مضى تخريجه. (¬4) في المطبوع و (ك): "ويحسن به الذخر".

[ذم الغضب]

[ذم الغضب] أحدهما: التحذير مما يحول بين الحاكم وبين كمال معرفته بالحق، وتجريد قصده له؛ فإنه لا يكون خبر الأقسام الثلاثة إلا باجتماع هذين الأمرين فيه، والغضب والقلق والضجر مضاد لهما؛ فإن الغضب غول العقل يغتاله كما تغتاله الخمر، ولهذا نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يقضيَ القاضي بين اثنين وهو غضبانٌ (¬1) والغضب نوع من الغلق والإغلاق الذي يغلق على صاحبه باب حسن التصور والقصد، وقد نص أحمد على ذلك في "رواية حنبل"، وترجم عليه أبو بكر في كتابَيْه: "الشافي" و"زاد المسافر"، وعقد له بابًا، فقال في كتاب "الزاد": باب النية في الطلاق و [ذكر] (¬2) الإغلاق، قال أبو عبد اللَّه في "رواية حنبل"، عن عائشة: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا طلاق ولا عَتاق في إغلاق" (¬3) فهذا الغضب، وأوصى ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الأحكام): باب هل يقضي الحاكم أو يفتي وهو غضبان؟ (13/ 136/ رقم 7158)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الأقضية): باب كراهة قضاء القاضي وهو غضبان (3/ 1342 - 1343/ رقم 1717)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب آداب القضاة): باب ذكر ما ينبغي للحاكم أن يجتنبه، (8/ 237 - 238)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الأحكام): باب لا يحكم الحاكم وهو غضبان، (2/ 776/ رقم 2316)، من حديث أبي بكر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) رواه أحمد (6/ 276)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 171)، وأبو داود (2193) في (الطلاق): باب في الطلاق على غلط، وابن ماجه (2046) في (الطلاق): باب طلاق المكره، والدارقطني (4/ 36)، والحاكم (2/ 198)، وأبو يعلى (4444 و 4570)، والبيهقي (7/ 357 و 10/ 61)، وفي "المعرفة" (5/ 495 رقم 4475) من طرق عن محمد بن إسحاق حدثني ثور بن يزيد عن محمد بن عبيد بن أبي صالح عن صفية بنت شيبة عن عائشة به مرفوعًا. ووقع في مطبوع "سنن ابن ماجه": عبيد اللَّه بن أبي صالح، وهو وهم. وهذا إسناد جيد لولا محمد بن عبيد بن أبي صالح، قال الذهبي تعقيبًا على قول الحاكم: صحيح على شرط مسلم: "كذا قال، محمد بن عبيد لم يحتج به مسلم، وقال أبو حاتم: ضعيف" وقد ذكره البخاري في "تاريخه" ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ووثقه ابن حبان!! وأعله به المنذري في "مختصر السنن" (3/ 118) وابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 337). وقد خولف ابن إسحاق، فرواه عطاف بن خالد قال: حدثني محمد بن عبيد عن عطاء عن عائشة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه البخاري في "التاريخ" (1/ 172) (ووقع فيه محمد بن سعيد وهو خطأ). قال أبو حاتم في "العلل" (1/ 430): وحديث صفية أشبه. =

[الصبر على الحق]

بعض العلماء لولي أمر فقال: "إياك والغلق (¬1) والضجر؛ فإن صاحب الغلق (1) لا يقدم عليه [صاحب] حق، وصاحب الضجر لا يصبر (¬2) على حق". [الصبر على الحق] والأمر الثاني: التحريض على تنفيذ الحق، والصبر عليه، وجعل الرضا بتنفيذه في مواضع (¬3) الغضب والصبر في مواطن القلق (¬4) والضجر، والتحلي به واحتساب ثوابه في مواضع (1) التأذي؛ فإن هذا دواء ذلك الداء الذي هو من لوازم الطبيعة البشرية وضعفها (¬5)؛ فما لم يصادفه هذا الدواء (¬6) فلا سبيل إلى زواله؛ هذا مع ما في التنكر للخصوم من إضعاف نفوسهم، وكسْر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم خشية معرة التنكر، ولا سيما أن يتنكر لأحد الخصمين دون الآخر؛ فإن ذلك الداء العُضال. [للَّه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته] وقوله: "فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب اللَّه به الأجر، ويحسن به الذكر (¬7) " هذه (¬8) عبودية الحكام ووُلاة الأمور (¬9) التي تراد منهم، وللَّه سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوّى بين عباده فيها؛ فعلى العَالِم من عبودية (¬10) نشر السُّنة والعلم الذي بعث اللَّه به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية (10) الصبر على ذلك ما ليس على غيره، وعلى الحاكم ¬

_ = ومحمد بن عبيد هذا توبع، تابعه زكريا بن إسحاق، ومحمد بن عثمان. أخرجه الدارقطني (4/ 36)، والبيهقي (7/ 357) من طريق قزعة بن سويد عنهما به، وقزعة هذا قال فيه البخاري: ليس بذاك القوي، وقال أحمد: مضطرب الحديث، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وضعفه النسائي. وفي الباب عن علي وابن عباس، والحديث بمجموع هذه الشواهد حسن، انظر: تعليقي على "الإشراف" (3/ 427) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3917، 3918)، و"بيان الوهم والإيهام" (4/ 251). (¬1) في (ق): "القلق". (¬2) في (ق): "لا يصح" وما بين المعقوفتين سقط منها ومن (ك). (¬3) في (د): "موضع". (¬4) في المطبوع: "مواضع"، وفي (ك): "مواطن الغلق". (¬5) في (ق): "أو ضعفها". (¬6) في (ن): "فمن لم يصادفه هذا الداء"!. (¬7) في المطبوع و (ق) و (ك): "الذخر". (¬8) في (د): "هذا". (¬9) في (د): " الأمر". (¬10) في (د) و (ك): "عبوديته".

[تعطيل العبودية الخاصة تجعل الإنسان من أقل الناس دينا]

من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت [له] (¬1) امرأة: هذا واجب قد وُضِع عنا، فقال: هَبِي أنه قد وضع عنكنَّ سلاح اليد واللسان، فلم يوضع عنكن سلاح القلب، فقالت: صدقتَ جزاك اللَّه خيرًا. [تعطيل العبودية الخاصة تجعل الإنسان من أقل الناس دينًا] وقد غرَّ إبليس أكثر الخلق بأنْ حسّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطَّلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينًا؛ فإن الدين هو القيام بما أمر اللَّه به (¬2)، فتارك حقوق اللَّه التي تجب عليه أسوأ حالًا عند اللَّه ورسوله من مرتكب المعاصي؛ فإن ترْك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهاَ ذكرها شيخنا (¬3) رحمه اللَّه في بعض تصانيفه. [أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا] ومن له خبرة بما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وبما كان هو عليه وأصحابه رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا، واللَّه المستعان، وأيّ دين وأيُّ خير فيمن يرى محارم اللَّه تُنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة [رسول اللَّه] (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذي إذا سَلِمت لهم مآكلُهم ورياساتُهم فلا مُبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ (¬5)، ولو ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في المطبوع: "القيام للَّه لما أمر به". (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" (11/ 28/ 129 - 130، 29/ 279) وذكر المصنِّفُ في كتابه "الفوائد" (ص 153 - 164) ثلاثًا وعشرين وجهًا منها. (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "رسوله". (¬5) "لمظ: تتبع بلسانه اللماظة، وهي بقية الطعام في الفم، وأخرج لسانه، فمسح بشفتيه، أو تتبع الطعم، وتذوق كتلمظ" (و) وفي (ق): "المتلحض".

نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتَبذَّل وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه (¬1). وهؤلاء -مع سقوطهم من عين اللَّه ومَقْتِ اللَّه لهم- قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن (¬2) القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه للَّه ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل. وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا أن اللَّه سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أنِ اخسِف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعّر (¬3) وجهه فيّ يومًا قط (¬4). ¬

_ (¬1) "لكأنما يصف ابن القيم بعض شيوخ الدين في عصرنا" (و). (¬2) في المطبوع: "فإنه". (¬3) "يتغير" (و). (¬4) رواه الطبراني في الأوسط (رقم 7661)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (7595) من طريق عبيد بن إسحاق العطار حدثنا عمار بن سيف عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به مرفوعًا. وهذا إسناد ضعيف، عبيد بن إسحاق، ضعفه يحيى بن معين وقال البخاري: عنده مناكير، وقال الدارقطني: ضعيف، وقال ابن عدي: عامة حديثه منكر، وقال الأزدي: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ما رأينا إلا خيرًا، وما كان بذاك الثبت، وفي حديثه بعض الإنكار. أما الذهبي فقال: وأما أبو حاتم فَرضيه!!!. وعمار بن سيف: أثنى عليه ابن المبارك، وقال العجلي: ثقة ثبت متعبد وكان صاحب سنة. . . وروى الدارمي عن ابن معين: ثقة. وفي أخرى عن ابن معين: ليس حديثه بشيء. وقال أبو حاتم: كان شيخًا صالحًا وكان ضعيف الحديث منكر الحديث. وجَرَحه أبو زرعة والبخاري والبزار وأبو نعيم، وقال ابن عدي: والضعف على حديثه بيّن، إذن فالرجل ضعيف ويحمل كلام من أحسن الكلام فيه على صلاحه وتقواه، أما في الحديث فلا. لذلك فقول الهيثمي في "المجمع" (7/ 270): وكلاهما ضعيف، ووثَّق عَمَّار بن سيف ابنُ المبارك وجماعة ورضي أبو حاتم عبيد بن إسحاق!! فيه نظر. أما شيخنا الألباني رحمه اللَّه فقال: ضعيف جدًا. ثم وجدت الحافظ البيهقي رحمه اللَّه قد روى الحديث (7594) من قول مالك بن دينار وقال: وهذا هو المحفوظ من قول مالك بن دينار ثم ذكره مرفوعًا. ونقل الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" قول البيهقي. والأثر أورده ابن وضاح في "البدع" (311)، وابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف" (69)، و"العقوبات" (رقم 14)، وعبد الغني المقدسي في "الأمر بالمعروف" (42) بإسناد حسن عن أبي هزان رافع بن أبي جميلة الشامي قوله. ورواه ابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف" (70) عن مسعر بن كدام قوله، وإسناده صحيح.

فصل [إخلاص النية لله تعالى]

وذكر أبو عمر في كتاب "التمهيد" أن اللَّه سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قُل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجّلْتَ به الراحةَ، وأما انقطاعك إليَّ فقد تكسَّبت (¬1) به العِزَّ، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب وأيّ شيء لك عليّ؟ قال: هل واليْت فيّ وليًا أو عاديت فيّ عدوًا؟ (¬2). فصل [إخلاص النية للَّه تعالى] قوله: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه اللَّه ما بينه وبين الناس، ومن تزيَّن بما ليس فيه شَانَه اللَّه" هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المُحَدَّث المُلهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع: فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله؛ فإن العبد إذا خلصت نيته للَّه تعالى وكان قصدُه وهمه وعمله لوجهه (¬3) سبحانه كان اللَّه معه؛ فإنه سبحانه {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، ورأس التقوى والإحسان خلوصُ النية للَّه في إقامة الحق، واللَّه سبحانه لا غالبَ له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله ¬

_ (¬1) في (د): "اكتسبت". (¬2) رواه أبو نعيم في "الحلية" (10/ 316)، والخطيب (3/ 202) من طريق محمد بن محمد بن أبي الوَرْد حدثني سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد اللَّه بن الحارث عن ابن مسعود مرفوعًا. وإسناده ضعيف جدًا، محمد هذا ذكره أبو نعيم والخطيب ولم يذكروا في ترجمته ما يدل على توثيقه وإنما كان زاهدًا ورعًا، وكم جاءنا عن الزهاد من بلايا وطامّات!!. وحميد الأعرج الكوفي القاضي الملائي متروك، وأعله المناوي في "الفيض" (3/ 71) بعلي بن عبد الحميد، قال: "قال الذهبي: مجهول"!! والذي جهله الذهبي جار لقبيصة بالكوفة، أما هذا فهو الغضائري، ترجمه الخطيب (12/ 29 - 30) وقال: "ثقة" وفاته الإعلال بحميد الأعرج. والصحيح في هذا الباب عن الفضيل بن عياض، أسنده عنه الدينوري في "المجالسة" (962 - بتحقيقي) وذكره ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (2/ 387 - ط دار الكتب العلمية)، وأسنده الدينوري أيضًا في "المجالسة" (3044 - بتحقيقي) ومن طريقه ابن قدامة في "المتحابين في اللَّه" (رقم 7) عن ابن المبارك قوله. وهذا أشبه. ووقع في (ك): "واليت لي". (¬3) في (ك) و (ق): "لوجه اللَّه".

بسوء؟ فإن كان اللَّه مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولًا، وكان قيامه باللَّه وللَّه لم يقم له أحد (¬1)، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه اللَّه مؤنتها، وجعل له فرجًا ومخرجًا؛ وإنما يُؤْتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منهما، أو في واحد؛ فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصرًا عارضًا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه للَّه وإنما قام لطلب المحْمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولًا، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النُّصرة؛ فإن اللَّه إنما ضمن النُّصرةَ لمن جَاهدَ في سبيله، وقاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه وهواه (¬2)، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نُصِر فبحسب ما معه من الحق؛ فإن اللَّه لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدًا؛ فإن كان صاحبه محقًا كان منصورًا له العاقبة، وإن كان مُبطلًا لم تكن له عاقبة، وإذا قام العبد في الحق للَّه ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم باللَّه مستعينًا به متوكلًا عليه مفوضًا إليه بريًّا من الحول والقوة إلا به فله من الخُذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك، ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد [ين] (¬3) في أمر اللَّه لا يقوم له شيء ألبتة، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زُمر الأعداء. قال الإمام أحمد: حدثنا [أبو] داود: ثنا شعبة، عن وَاقِد بن محمد بن زيد، عن ابن أبي مُلَيْكة، [عن القاسم بن محمد،] (¬4) عن عائشة قالت: مَنْ أسخطَ الناس برضاء اللَّه عز وجل كَفاهُ اللَّه الناس، ومن أرضى النَّاسَ بسخط اللَّه وكله إلى الناس (¬5). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لم يقم له شيء". (¬2) في (د): "ولهواه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وفي هامش (ق): "عن القاسم". (¬5) رواه أحمد في "الزهد" (2/ 145) بهذا الإسناد موقوفًا على عائشة، وإسناده صحيح رجاله رجال الشيخين. وأُفَصَّلُ هنا روايةَ الحديث بالوقف والرفع: فقد رواه أبو داود الطيالسي -كما سبق- عن شعبة به موقوفًا. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أما عثمان بن عمر فقد رواه عن شعبة به مرفوعًا: أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (277)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (501)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (885). قال البيهقي: ربما رفعه عثمان وربما لم يرفعه، ثم ذكر من رواه عنه موقوفًا، ومن رواه عن شعبة موقوفًا. قلت: عثمان بن عمر هذا من الثقات إلا أنه قد تُكلِّم فيه، فلعل هذا من أخطائه. ورواه هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. واختلف عنه: فرواه سفيان الثوري عنه موقوفًا. أخرجه الترمذي بعد (2414) في "الزهد": باب (64). ورواه قطبة بن العلاء عن أبيه عنه مرفوعًا. أخرجه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 38)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (رقم 231)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 343)، والقضاعي (498)، والبزار في "مسنده" (3568 - كشف الأستار)، وابن الأعرابي في "معجمه" (832)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (882)، قال البزار: "لا نعلم أحدًا أسنده إلا قطبة عن أبيه ورواه غيره عن هشام عن أبيه موقوفًا". وقال العقيلي: ولا يصح في الباب مسند وهو موقوف على عائشة. ولفظه عندهم: "من طلب محامد الناس بمعاصي اللَّه عاد حامده من الناس ذامًا". قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 225): فيه قطبة بن العلاء عن أبيه وكلاهما ضعيف. وأعل هذه الرواية أبو حاتم كما في "العلل" لابنه (2/ 111). . . قال: روى هذا الحديث ابن المبارك عن هشام بن عروة عن رجل عن عروة عن عائشة من قولها. . . وهو الصحيح. أقول: رواية ابن المبارك هذه لم أجدها، والذي رواه ابن المبارك في "الزهد" (199)، ومن طريقه إسحاق في "مسنده" (632) في (مسند عائشة)، والترمذي (2414)، والبغوي (4213) عن عبد الوهاب بن الورد عن رجل من أهل المدينة أن معاوية كتب إلى عائشة أوصيني ولا تطيلي، فكتبت إليه إني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . (فذكرته) مرفوعًا. وفيه ضعف لأن فيه راويًا لم يسم، ثم وجدت أبا نعيم يرويه في "الحلية" (7/ 188) من طريق سهل بن عبد ربه عن ابن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا. وسهل هذا لم أجده. ورواه ابن حبان في "صحيحه" (276)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (499 - 500) من طريق عثمان بن واقد العمري عن أبيه عن عروة عن عائشة مرفوعًا به. وعثمان بن واقد هذا صدوق ربما وهم، وخالف سفيان الثوري في روايته عن هشام عن عروة به موقوفًا. ولا شك أن رواية سفيان أولى فيظهر أن الصواب في الحديث الوقف، كما قال أبو حاتم والعقيلي واللَّه أعلم. =

[الواجب على من عزم على فعل أمر]

[الواجب على من عزم على فعل أمر] والعبد إذا عزم على فعل أمر، فعليه أن يعلم أولًا هل هو طاعة للَّه أم لا؟ فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحًا يستعين به على الطاعة، وحينئذ يصير طاعة، فإذا بان له أنه طاعة يُقدم عليه حتى ينظر هل هو مُعانٌ عليه أم لا؟ فإن لم يكن معانًا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه، وإن كان معانًا عليه بقي عليه نظر آخر، وهو أن يأتيه من بابه؛ فإن أتاه من غير بابه أضاعه أو فَرَّط فيه أو أفسد منه شيئًا؛ فهذه الأمور الثلاثة أصل سعادة العبد وفلاحه، وهي معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5 - 6] فأسعد الخلق أهل العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب، وأشقاهم من عدم الأمور الثلاثة. [أهل النصيب من إياك نعبد وإياك نستعين] ومنهِمِ من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ونصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] معدوم أو ضعيف؛ فهذا مخذول مهينٌ محزون، ومنهم من يكون نصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قويًا ونصيبه من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ضعيفًا أو مفقودًا؛ فهذا له نفوذ وتسلط وقوة، ولكن لا عاقبة له، بل عاقبته أسوأ عاقبة، ومنهم من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ولكن نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدًا، كحال كثير من العُبَّاد والزهاد الذين قل علمهم بحقائق ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- من الهدى ودين الحق. وقول عمر -رضي اللَّه عنه-: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه" (¬1) إشارة إلى ¬

_ = والحديث له شاهد مرفوع من حديث ابن عباس: رواه الطبراني في "الكبير" (1696). قال الهيثمي (10/ 224 - 225): ورجاله رجال الصحيح غير يحيى بن سليمان الحفري، وقد وثقه الذهبي في آخر ترجمة يحيى بن سليمان الجعفي. قلت: وشيخ الطبراني مجهول ترجمه ابن ماكولا فقط، كما ذكر الشيخ حماد الأنصاري -رحمه اللَّه- في كتابه في شيوخ الطبراني، وذكر في "إتحاف السادة المتقين" (8/ 291) له شاهدًا من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، لكن لم يذكره مرفوعًا أو موقوفًا وعزاه للخليلي، ولم أظفر به في "الإرشاد". (¬1) كلام عمر -رضي اللَّه عنه- في رسالته لأبي موسى الأشعري، ومضى تخريج الرسالة، وللَّه الحمد.

فصل [المتزين بما ليس فيه وعقوبته]

أنه لا يكفي قيامه في الحق للَّه إذا كان على غيره، حتى يكونَ أول قائمٍ به على نفسه، فحينئذ يُقبل قيامه به على غيره، وإلا فكيف يقبل الحق ممن أهمل القيام به على نفسه؟ وخطب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يومًا وعليه ثوبان، فقال: أيها الناس ألا تسمعون، فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لم يا أبا عبد اللَّه؟ قال: إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك ثوبان! فقال: لا تعْجلْ. يا عبد اللَّه! يا عبد اللَّه! فلم يجبه. أحد، فقال: يا عبد اللَّه بن عمر، فقال: لبَّيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك اللَّه الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: [نعم] (¬1)، اللهم نعم، فقال سلمان: أما الآن فَقُلْ نَسْمَع (¬2). فصل [المتزين بما ليس فيه وعقوبته] وأما قوله: "ومن تَزيَّن بما ليس فيه شانه اللَّه" لمّا كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص -فإنه يظهر للناس أمرًا وهو في الباطن بخلافه- عامله اللَّه بنقيض قصده؛ فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعًا وقدرًا، ولما كان المُخلصُ يُعجَّلُ له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عجَّل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شَانَه اللَّه بين الناس؛ لأنه شان باطنه عند اللَّه، وهذا موجَب أسماء الرب الحسنى وصفاته العُلى (¬3) وحكمته في قضائه وشرعه. هذا، ولما كان من تَزيَّن للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والتَّنَسُّك (¬4) والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تُطلب منه، فإذا لم توجد عنده افتُضِح، فيشينه ذلك من حيث ظَنَّ أنه يزيِّنه، وأيضًا فإنه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬2) رواه الزبير بن بكار في "الموفّقيات" (رقم 109) حدثني المدائني به، وعلقه ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (1/ 55) قال: "قال العتبي:. . . " وذكره، وهذان معضلان. ولم أظفر بهذه القصة موصولة مسندة على شهرتها، وفيها نكرة، فلا ينبغي أن يتهم الأمراء -فضلًا عن الخلفاء- بمجرد ظهورهم على هيئة حسنة، وتحسين الظن بالصالحين منهم أمر واجب، وكان عمر يخص بالعطايا أهل بدر وغيرهم، وهذا يخالف ما في هذه القصة. وانظر: "العدالة الاجتماعية" (ص 141) وقارن بـ "مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 49 - 50)، وكتابي "قصص لا تثبت" (الجزء السابع). (¬3) في المطبوع و (ق): "العليا". (¬4) في المطبوع و (ق) و (ك): "النسك".

[النفاق وخشوعه]

أخفى عن الناس ما أظهر للَّه خلافه، فأظهر اللَّه من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم، جزاءً له من جنس عمله. [النفاق وخشوعه] وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ باللَّه من خشوع النفاق، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب غير خاشع (¬1)؛ وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان؛ فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة، وهما من أنفع الكلام، وأشفاه للأسقام (¬2). فصل [أعمال العباد أربعة أنواع، المقبول منها نوع واحد] وقوله: "فإن اللَّه لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا" والأعمال أربعة: واحد مقبول، وثلاثة مردودة؛ فالمقبول ما كان للَّه خالصًا وللسنة موافقًا، والمردودُ ما فُقدَ منه الوصفان أو أحدهما، وذلك أن العمل المقبول هو ما أحَبَّه اللَّه ورضيه، وهو سبحانه إنما يحب ما أمر به وعُمل لوجهه، وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها، بل يمقتها ويمقت أهلها، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه (¬3)، فسئل عن معنى ذلك، فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا؛ فالخالص أن يكون للَّه، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬4) [الكهف: 110]. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (رقم 143)، وابن أبي شيبة (14/ 59)، والبيهقي في "الشعب" (12/ 286 - ط الهندية) عن أبي الدرداء، وإسناده حسن. وروي مرفوعًا عند البيهقي (12/ 286 رقم 6568)، وأبو محمد الضّراب في "ذم الرياء" (رقم 170) ولم يثبت. (¬2) في (د): "للسقام". (¬3) في المطبوع و (ق)؛ "هو أخلص العمل وأصوبه". (¬4) أخرجه ابن أبي الدنيا في "الإخلاص والنية" (22) وهو مشهور عنه.

فإن قيل: فقد بأن بهذا أن العمل لغير اللَّه مردودٌ غير مقبول، والعمل للَّه وحده مقبول؛ فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل للَّه ولغيره، فلا يكون للَّه محضًا ولا للناس محضًا، فما حكم هذا القسم؟ هل يُبطل العمل كله أم يُبطل ما كان لغير اللَّه ويصح ما كان للَّه؟ قيل: هذا القسم تحته أنواع ثلاثة: أحدها: أن يكون الباعثُ الأول على العمل هو الإخلاص، ثم يَعرضُ له الرِّياء وإرادة غير اللَّه في أثنائه، فهذا المُعوَّل فيه على الباعث الأول ما لم يفسخه (¬1) بإرادة جازمة لغير اللَّه فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها، أعني: قطع ترك استصحاب حكمها. الثاني: عكس هذا، وهو أن يكون الباعث الأول لغير اللَّه، ثم يَعرضُ له قلبُ النيّة للَّه، فهذا لا يُحتسب له بما مضى من العمل، ويحتسب له من حين قلب نيته؛ ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة، كالصلاة، وإلا لم تجب كمن أحرم لغير اللَّه ثم قلب نيَّته للَّه عند الوقوف و [عند] (¬2) الطواف. الثالث: أن يبتدئها مُريدًا [بها] (¬3) اللَّه والناس، فيريد أداء فرضه والجزاء والشكور من الناس، وهذا كمن يُصلي بالأجرة، فهو لو لم يأخذ الأجرة صلَّى، ولكنه يصلي للَّه وللأجرة. وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال: فلان حج، أو يعطي الزكاة كذلك؛ فهذا لا يقبل منه العمل، وإن كانت النيةُ شرطًا في سُقوط الفرض وجبت عليه الإعادة، فإن حقيقة الإخلاص [التي هي] (3) شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد، والحكمُ المُعلَّق بالشرط عَدمٌ عند عدمه، فإن الإخلاص هو تجريد القصدِ للَّه (¬4)، ولم يُؤمر إلا بهذا، وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عُهدة الأمر؛ وقد دلت السنة الصريحة على ذلك كما في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يقول اللَّه عز وجل يوم القيامة: أنا أغْنى الشركاء عن الشِّرك، فمن عمل عملًا أشْرك فيه [معي] (3) غيري فهو كله للذي أشرك به" (¬5) وهذا هو معنى ¬

_ (¬1) في (ن): "ما لم ينسخه". (¬2) ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) في المطبوع: "تجريد القصد طاعة للمعبود". (¬5) رواه مسلم في "صحيحه" (كتاب الزهد والرقائق): باب من أشرك في عمله غير اللَّه تعالى (رقم 2985)، من حديث أبي هريرة.

فصل [جزاء المخلص]

قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. فصل [جزاء المخلص] وقوله: "فما ظنك بثواب عند اللَّه في عاجل رزقه وخزائن رحمته" [يريد به تعظيم جزاء] (¬1) المخلص وأَنَه رزق عاجل إما للقلب أو للبدن أو لهما. ورحمته مدّخرة في خزائنه؛ فإن اللَّه سبحانه يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا ولا بد، ثم في الآخرة يوفيه أجره، كما قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] فما يحصل في الدنيا من الجزاء على الأعمال الصالحة ليس جزاء توفية، وإن كان نوعًا آخر كما قال تعالى عن إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] وهذا نظير قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] فأخبر سبحانه أنه آتى خليله أجره في الدنيا من النعم التي أنعم بها عليه في نفسه وقلبه وولده وماله وحياته الطيبة، ولكن ليس ذلك أجر توفية. [لكل من عمل خيرًا أجران] وقد دل القرآن في غير موضع على أنَّ لكلِّ من عمل خيرًا أجرين: عمله في الدنيا ويكمل له أجره في الآخرة، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]، وقال في هذه السورة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وقال فيها عن خليله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2) [النحل: 122] فقد تكرِّر هذا المعنى في هذه ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "يريد جزاءه تعظيم"، وصححها في (ق) فجاءت العبارة: "يريد تعليم جزاء". (¬2) في (ق): {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27].

السورة دون غيرها في أربعة مواضع لسرٍ بديع، فإنها سورة النِّعم التي عَدَّد اللَّه سبحانه فيها أصول النعم وفروعها، فعرَّف عباده أن لهم عنده في الآخرة من النعم أضعاف هذه بما لا يدرك تفاوته، وأن هذه من بعض نعمه العاجلة عليهم، وأنهم إن أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعمًا أخرى، ثم في الآخرة يوفيهم أجور أعمالهم تمام التوفية، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] فلهذا (¬1) قال أمير المؤمنين: "فما ظنك بثواب عند اللَّه في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام". فهذا بعضُ ما يتعلَّق بكتاب أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه- من الحكم والفوائد، والحمد للَّه رب العالمين (¬2) [وصلواته وسلامه على محمد وآله وصحبه أجمعين] (¬3). [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر وأيمن يا كريم وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه. قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية تغمده اللَّه برحمته وأسكنه بحبوح جنته آمين] (¬4): ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ولهذا". (¬2) هنا ينتهي المجلد الأول من نسخة (ك)، وجاء في آخره: "آخر المجلد الأول من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" يتلوه إن شاء اللَّه المجلد الثاني، وذلك تحريم الإفتاء في دين اللَّه بغير علم وذكر الإجماع على ذلك وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم". وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الجليل الذي ليس له في المؤلفات نظير ولا قيل بعد العصر من يوم الإثنين لسبع خلت من رجب من سنة 1305 على يد عبده وابن عبده سليمان بن سحمان غفر اللَّه له ولوالديه وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق)، وهنا ينتهي المجلد الأول من (ق) وفي آخره: "يتلوه في المجلد الثاني تحريم الإفتاء في دين اللَّه بغير علم وذكر الإجماع على ذلك" وكتب الناسخ تحتهما بيتين من الشعر هما: والنفس تعلم أني لا أصدقها ... وليست ترشد الأعين أعصبها والعين تعلم من عيني محدثها ... إن كان من حزبها أو من أعاديها (¬4) ما بين المعقوفتين في (ك) وبدلها في (ق): "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية رحمه اللَّه تعالى".

ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك

ذكر تحريم الإفتاء في دين اللَّه بغير علم وذكر الإجماع على ذلك [إثم القول على اللَّه بغير علم] قد تقدم (¬1) قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وأن ذلك يتناول القول على اللَّه بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه ودينه. وتقدم حديث أبي هريرة المرفوع: "من أُفتي بفُتْيا غير ثبت (¬2) فإنما إثمُه على مَنْ أفتاه" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم بحث ابن القيم -رحمه اللَّه- لمسألة تحريم الفتيا بغير علم في المجلد الأول (ص 73 وما بعدها)، وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 158)، و"الداء والدواء" (ص 209 - 210)، و"الفوائد" (ص 98 - 99)، و"مدارج السالكين" (1/ 372 - 374)، و"بدائع الفوائد" (3/ 275). (¬2) في (ك): "من أفتى فتيا بغير ثبت". (¬3) رواه أحمد (2/ 321، 365)، وأبو داود (3657) في (العلم): باب التوقي في الفتيا، والحاكم (1/ 102، 103)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (رقم 1625 و 1889 و 1890 و 1891)، والبيهقي في "السنن" (10/ 116)، والطحاوي في "المشكل" (410) من طريق بكر بن عمرو المعافري عن عمرو بن أبي نعيمة عن أبي عثمان الطنبذي رضيع عبد الملك قال سمعت أبا هريرة. وعند بعضهم زيادة: "ومن قال علي ما لم أقل. . . "، "ومن أشار إلى أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه". وعمرو بن أبي نعيمة: قال الحاكم: كان من الأئمة. وقال مرة: صدوق. وقال أحمد: يُروى له، وقال أبو حاتم: شيخ. وقال ابن يونس: كانت له عبادة وفضل. وقال الدارقطني: مصري مجهول يترك. وقال ابن القطان: مجهول الحال. وأبو عثمان الطنبذي: فقد ذكره ابن حبان في "الثقات" وقال الدارقطني: يعتبر به. وقال ابن حجر في "التقريب": مقبول!! وعمرو توبع، تابعة حميد بن هانئ الخولاني: أخرجه ابن ماجه (53) من طريق عبد اللَّه بن يزيد المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب عنه عن أبي عثمان به. وحميد بن هانئ صدوق لا بأس به. لكن رواه البخاري في "الأدب" (259)، وأبو داود (3657)، والدارمي في "سننه" (1/ 57)، والحاكم (1/ 126)، والخطيب في "الفقيه" (2/ 155)، والطحاوي في "المشكل" (411)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (334) من طريق عبد اللَّه بن يزيد حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن بكر بن عمرو عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة دون ذكر عمرو بن أبي نعيمة. وقال الحاكم: وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولا أعرف له علة.

وروى الزهريُّ، عن عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قومًا يتمارون في القرآن فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ اللَّه بعَضَه ببعض، وإنما نَزَل كتابُ اللَّه يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، ولا يكذب بعضه بعضًا، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم [منه] فكِلوهُ إلى عالمه" (¬1) فأمر من جهل شيئًا من كتاب اللَّه أن يكله إلى عالمه، ولَا يتكلف القول بما لا يعلمه. وروى مالك بن مِغْول، عن أبي حَصين (¬2)، عن مجاهد، عن عائشة أنه لما نزل عُذْرُها قبّل أبو بكر رأسها، قالت: فقلت: ألا عذرتني عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: أيُّ سماء تُظِلُّني وأي أرض تُقِلني إذا قلت ما لا أعلم؟ (¬3). وروى أيوب أن (¬4) ابن أبي مُليكة قال: سئل أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- عن آية، فقال: أيُّ أرض تُقلُّني وأي سماء تظلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب اللَّه بغير ما أراد اللَّه بها؟ (¬5). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) في (ق) و (ن) و (ك): "أبي حفص". (¬3) رواه البيهقي في "المدخل" (793) من طريق ابن المبارك عن مالك به. وإسناده صحيح. وأبو حصين هو عثمان بن عاصم الأسدي. (¬4) في المطبوع و (ك): "عن". (¬5) له طرق كثيرة عن أبي بكر بألفاظ متعددة، وهي لا تخلو من كلام أو انقطاع، ولكنه بمجموعها يصل إلى درجة الحسن إن شاء اللَّه تعالى، كما قال الحافظ ابن حجر وغيره، وهذا التفصيل: أخرجه مسدد في "مسنده" كما في "المطالب العالية" (ق 135/ ب) و (3/ 300/ رقم 3527 المطبوعة) من طريق عبد اللَّه بن مرة، والطبري في "تفسيره" (1/ 78/ رقم 78، 79) من طريق إبراهيم النخعي، وعبد اللَّه بن مرة، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (833 - 834/ رقم 1561 - ط الزهيري) من طريق إبراهيم النخعي عن أبي معمر عن أبي بكر به. وإسناده منقطع، أبو معمر هو عبد اللَّه بن سخبرة الأزدي، لم يسمع من أبي بكر، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 317)، وابن حجر في "الفتح" (13/ 271) لعبد بن حميد من طريق النخعي عن أبي بكر من غير ذكر أبي معمر. قال ابن حجر: "وهذا منقطع بين النخعي والصديق". قال ابن عبد البر عقبه: "وذكر مثل هذا عن أبي بكر الصديق: ميمون بن مهران، وعامر الشعبي، وابن أبي مليكة". قلت: أخرجه من طريق ابن أبي مليكة: سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 168 / رقم 39 - =

وذكر البيهقي من حديث مسلم البَطِين، عن عَزْرة التميمي (¬1) قال: قال علي بن أبي طالب (¬2): وأبَرَدُها على كبدي (ثلاث مرات)، قالوا: يا أمير المؤمنين وما ذاك؟ قال: أن يُسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: اللَّه أعلم (¬3). ¬

_ = ط سعد حميّد) -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" (رقم 792) - بإسنادٍ صحيح إلى ابن أبي مليكة، وهو لم يسمع من أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. وأخرجه من طريق الشعبي: ابنُ أبي شيبة في "المصنف" (10/ 512/ رقم 10152)، والخطيب في "الجامع" (2/ 193/ رقم 1585)، وروايته عن أبي بكر مرسلة. وأخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (رقم 824 وص 227 ط غاوجي)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (10/ 513/ رقم 10156)، وعبد بن حميد في "تفسيره" ومن طريقه الثعلبي في "تفسيره" -قاله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (4/ 158) - بإسناد صحيح إلى العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي به. والعوام ثقة ثبت، فإسناده صحيح إلا أنه منقطع بين التيمي وأبي بكر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مقدمة أصول التفسير" (ص 108)، و"مجموع الفتاوى" (13/ 372)، والزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (4/ 158)، وابن كثير في "تفسيره" (1/ 5 و 4/ 473)، وابن حجر في "الفتح" (13/ 271). وأخرجه البيهقي في "الشعب" (5/ 228/ رقم 2082) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن محمد أن أبا بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-. . . وذكر نحوه. وإسناده ضعيف، فيه ابن جدعان وهو ضعيف، والقاسم بن محمد روايته عن جده مرسلة، كما قال العلائي في "جامع التحصيل" (ص 310). والأثر بمجموع هذه الطرق لا ينزل عن مرتبة الحسن؛ فقد ساقه ابن حجر في "الفتح" من طريق التيمي والنخعي، وأعلهما بالانقطاع، وقال: "لكن أحدهما يقوي الآخر". ووقع في (ك) و (ق): "أو أين أذهب؟ أو كيف أصنع. . . ". (¬1) في (ق): "التيمي". (¬2) في المطبوع بعده زيادة: "كرم اللَّه وجهه في الجنة". (¬3) رواه البيهقي في "المدخل" (794) من هذا الطريق لكن وقع في المطبوع من "المدخل" "عروة التميمي" ونسبه المحقق في الحاشية "عروة الفقيمي" وهو صحابي! ومُسلم البطين لم يلق أحدًا في الصحابة فالصواب إنه عَزْرة وقد وجدتُ في كتب الرجال: عزرة بن تميم يروي عن أبي هريرة ويروي عنه قتادة وليس فيه جرح ولا تعديل وما أظنه هذا فينظر أمره. ثم وجدت في "المنفردات والوحدان" (ص 213) لمسلم، قال: "عزرة التميمي، عن علي لم يرو عنه إلا مسلم البطين". ورواه الدارمي (1/ 63)، من طريق مسلم البطين به. ورواه الدارمي (1/ 62)، والآجري في "أخلاق العلماء" (53)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 171) من طرق أخرى. وذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1569) دون إسناد.

[على من لا يعلم أن يقول: لا أدري]

[على من لا يعلم أن يقول: لا أدري] وَذكر أيضًا عن علي -رضي اللَّه عنه- قال: خمسٌ إذا (¬1) سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضًا عن (¬2) سفره: لا يخشى عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي مَنْ لا يعلم أن يتعلَّم، ولا يستحي منْ يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: اللَّه أعلم، والصَّبرُ من الدين بمنزلة الرأس من الجسد (¬3). وقال الزُّهري، عن خالد بن أسلم وهو أخو زيد بن أسلم: خرجنا مع ابن عمر نمشي، فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد اللَّه بن عمر؟ قال: نعم، قال: سألتُ عنك فدُلِلتُ عليك، فأخبرني أتَرث العمة؟ قال: لا أدري، قال: أنت لا تدري؟ قال: نعم، اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم؛ فلما أدبر قَبَّل يديه وقال: نِعِمّا، قال أبو عبد الرحمن؛ سُئل عما لا يدري فقال: لا أدري (¬4). وقال ابن مسعود: مَنْ كان عنده علمٌ فليقل به؛ ومن لم يكن عنده علم فليقل: "اللَّه أعلم" فإن اللَّه قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (¬5). ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "لو". (¬2) في (ق) و (ك): "من". (¬3) رواه البيهقي في "المدخل" (795)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (12/ ق 391) من طريق إبراهيم الكناني عن علي. ورواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (ص 382 رقم 547) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 76)، والكنجي في "كفاية الطالب" (389 - 390) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن علي، وإسناده حسن. وله إسناد آخر في "الجامع" أيضًا (رقم 548) لكن فيه راو متروك. ورواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 75 - 76) من طريق آخر عن علي. (¬4) رواه هكذا بطوله البيهقي في "المدخل" (796) من طريق أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس عن الزهري، به وإسناده حسن. ورواه الدارمي (1/ 63)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (4/ 144)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 493)، وأبو داود في "الناسخ والمنسوخ" والذهلي في "جزئه" وابن مردويه في "التفسير المسند" -كما في "فتح الباري" (3/ 273) و"موافقة الخبر الخُبر" (1/ 108) -، والآجري في "أخلاق العلماء" (ص 131 - 132)، وابن عبد البر (1563) و (1565، 1566)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 172)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (24 - بتحقيقي) من طرق أخرى وبلفظ آخر، وبعضها صحيح على شرط البخاري. (¬5) هو جزء من كلام طويل لابن مسعود: رواه البخاري (4774) في "التفسير" سورة الروم، و (4809) في (تفسير سورة ص): باب {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}، ومسلم (2798) في صفات المنافقين.

وصح عن ابن مسعود وابن عباس: مَنْ أفتى النَاسَ في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون (¬1). وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبي إذا سُئل عن مسألة شديدة قال: رُبّ ذاتِ وبَر لا تنقاد ولا تَنْساق؛ ولو سُئل عنها الصحابة لعضلت بهم (¬2). وقال أبو حَصين الأسدي: إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عُمر لَجمعَ لها أهل بدر (¬3). وقال ابنُ سيرين: لأن يموت الرجلُ جاهلًا خيرٌ له من أن يقولَ ما لا يعلم (¬4). وقال القاسم: من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه (¬5). وقال: يا أهل العراق واللَّه لا نعلم كثيرًا مما تسألوننا عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلًا إلا أن يعلمَ ما فرض اللَّه عليه خيرٌ له من أن يقول على اللَّه ورسوله ما لا يعلم (¬6). وقال مالك: من فقه العالم أن يقول: "لا أعلم"؛ فإنه عسى أن يتهيأ له الخير (¬7). وقال: سمعتُ ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يُورث جلساءه من بعده: "لا أدري"، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه (¬8). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 593 - 594)، والبيهقي في "المدخل" (802)، وأبو نعيم (4/ 319) وابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 65). (¬3) أخرجه البيهقي في "المدخل" (803) وابن بطة (62) وابن عساكر (38/ 410 - 411). (¬4) أخرجه البيهقي في "المدخل" (804) والفسوي في "التاريخ والمعرفة" (1/ 547)، ومن طريقه الخطيب في "المتفق والمفترق" (رقم 1115)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 57 - بتحقيقي)، وذكره ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1577). (¬5) أخرجه البيهقي في "المدخل" (805)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 173 - ط المصرية). (¬6) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 548)، وأبو خيثمة في "العلم" (90)، والدارمي (1/ 48)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 188)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 173)، والبيهقي في "المدخل" (806، 807)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 184)، وابن بطة في "إبطال الحيل" (64)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 66) وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (57). (¬7) أخرجه البيهقي في "المدخل" (407) وفيه: "من تقية العالم. . . "! وذكره ابن عبد البر (2/ 839 رقم 1574) عن أبي وهب في "المجالس" بنحوه. (¬8) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 655)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 173)، والبيهقي في "المدخل" (809)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 835 رقم 1564). =

[طريقة السلف الصالح]

وقال الشعبي: "لا أدري" نصف العلم (¬1). وقال ابنُ جُبير: ويلٌ لمن يقول لما لا يعلم: إني أعلم (¬2). وقال الشافعي: سمعت مالكًا يقول: سمعتُ ابنَ عجلان يقول: إذا أغفل العالم "لا أدري" أُصيبت مقاتله (¬3)، وذكره ابن عجلان عن ابن عباس (¬4). [طريقة السلف الصالح] وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك، فسأله عن شيء، [فمكث] (¬5) أيامًا ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد اللَّه إني أريد الخروج [وقد طال التردد إليك]، فأطرق طويلًا ورفع رأسه فقال: ما شاء اللَّه! يا هذا إني أتكلم فيما احتسب فيه الخير، ولست أُحسنُ مسألتك هذه (¬6). ¬

_ = وذكره القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 146)، والشاطبي في "الموافقات" (5/ 327). (¬1) أخرجه الدارمي (1/ 63)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 173)، والبيهقي في "المدخل" (810). (¬2) أخرجه البيهقي في "المدخل" (811)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 836 رقم 1568)، وإسناده حسن. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" (ص 107)، والآجري في "أخلاق العلماء" (ص 134)، والحازمي في "سلسلة الذهب" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/ 22 - 23) -، والبيهقي في "المدخل" (813)، والخطيب في "الفقيه" (2/ 173)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1582 و 1583)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 349) من طرق، وبعضها من طريق أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك عنه وهذا إسناد مسلسل بالأئمة رحمهم اللَّه. وهو صحيح غاية. (¬4) أخرجه الآجري في "أخلاق العلماء" (ص 133)، والبيهقي في "المدخل" (813) من طريق مالك عن ابن عجلان عنه كما ذكر المؤلف رحمه اللَّه. وله طرق أخرى عن ابن عباس انظرها في "جامع بيان العلم" (1580 و 1581)، وفي "الفقيه والمتفقه" (2/ 172). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) أخرجه ابن أبي حاتم في "تقدمة الجرح والتعديل" (ص 18)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 174)، والبيهقي في "المدخل" (816)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 838 رقم 1573)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 323)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 29) وفصلت الكلام عليه في تحقيقي له. وما بين المعقوفتين من مصادر التخريج.

وقال ابنُ وهب: سمعت مالكًا يقول: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخَرَف (¬1)، قال: وكان يقول: التأنّي من اللَّه والعجلة من الشيطان (¬2). وهذا الكلام قد رواه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حَبيب، عن سعد بن سِنان، عن أنس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "التأني من اللَّه والعجلة من الشيطان" (¬3)، وإسناده جيد. وقال ابن المنكدر: العالم بين اللَّه وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم (¬4). وقال ابن وهب: قال لي مالك وهو يُنكر كثرة الجواب في المسائل: [يا عبد اللَّه] (¬5) ما علمتَ فقل، وإياك أن تُقلِّد الناس قلادة سوء (¬6). ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ق) و (ك): "والخرق"، بالقاف. (¬2) أخرجه البيهقي في "المدخل" (817). (¬3) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 411)، وأبو يعلى (4256)، والبيهقي في "سننه" (10/ 104)، وفي "الشعب" (4367)، و"المدخل" (819)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (868 زوائد)، والخطيب في "الفقيه والمتففه" (2/ 187). وقال المنذري والهيثمي (8/ 19): "ورجاله رجاله الصحيح"، وعزاه الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (3/ 35 رقم 2812) لأبي بكر بن أبي شيبة، وأحمد بن منيع في "مسنده"، ونقل محققه عن البوصيري قوله في "الإتحاف": رواته ثقات. قلت: سعد بن سنان ويقال: سنان بن سعد ليس من رجال الصحيح، وسعد هذا أو سنان وثقه ابن معين، وقال ابن حبان: وقد اعتبرت حديثه فرأيت ما روي عن سنان بن سعد يشبه أحاديث الثقات، وما روي عن سعد بن سنان وسعيد بن سنان فيه المناكير كأنهما اثنان. وقال أحمد: تركت حديثه لأنه مضطرب غير محفوظ. وقال الجوزجاني: أحاديثه واهية. وقال ابن سعد والنسائي: منكر الحديث. أقول: فمثله لا يطمئن لحديثه والذي يظهر أن حديثه ضعيف. وله شاهد من حديث سهل بن سعد: رواه الترمذي في "سننه" (2012) في (البر والصلة): باب ما جاء في التأني والعجلة، والطبراني في "الكبير" (5703). قال الترمذي: حديث غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث في عبد المهيمن بن عَبَّاس بن سهل وضَعَّفه من قبل حفظه. فهو بشاهده هذا حسن. وانظر: "السلسلة الصحيحة" (1975). (¬4) أخرجه الدارمي (1/ 53)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (2/ 716 رقم 1767) والبيهقي في "المدخل" (821)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1088، 1089)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 153)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (52 - بتحقيقي)، وهو صحيح. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) أخرجه الدوري في "ما رواه الأكابر عن مالك" (رقم 39)، والبيهقي في "المدخل" =

[فوائد تكرير السؤال]

وقال مالك: حدثني ربيعة قال: قال لي ابن (¬1) خلدة وكان نعم القاضي: يا ربيعة، أراك (¬2) تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن هَمُّك أن [تخرجه مما وقع فيه ولتكن همتك أن] تتخلص مما سألك عنه (¬3). وكان ابنُ المسيب لا يكاد يفتي إلا قال: اللهم سلِّمني وسَلِّم مني (¬4). وقال مالك: ما أجبتُ في الفتوى حتى سألتُ مَنْ هو أعلم مني: هل تراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقيل له: يا أبا عبد اللَّه! فلو نهوْك؟ [قال] (¬5): كنت أنتهي (¬6). وقال ابنُ عباس لمولاه عكرمة: اذهب فأفْتِ الناس وأنا لك عوْن، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عَمَّا لا يعنيه فلا تُفتِهِ، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس (¬7). [فوائد تكرير السؤال] وكان أيوب إذا سأله السائل قال له: أعِدْ، فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولًا أجابه، وإلا لم يجبه (¬8). ¬

_ = (822)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 170)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 1071 رقم 2080). (¬1) في جميع النسخ: "أبو"!! والتصويب من مصادر التخريج، وكتب الرجال، وهو عمر بن عبد الرحمن بن خلدة الزرقي المدني، ترجمته في "طبقات ابن سعد" (5/ 206)، و"تهذيب الكمال" (21/ 328 - 329) وأورد في ترجمته هذا الأثر. (¬2) بدلها في مصادر التخريج: "أياك أن". (¬3) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 556)، وأبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/ 427) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 169)، وابن بطة في "إبطال الحيل" (63) والبيهقي في "المدخل" (823)، وأبو نعيم (3/ 260 - 261)، وابن الجوزي (56). (¬4) أخرجه ابن سعد في "الطبقات الكبرى" (5/ 136)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 2/ 468) وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 164)، وعلقه البيهقي في "المدخل" (824). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 154)، والبيهقي في "المدخل" (825)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 316)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (49، 50 - بتحقيقي). (¬7) رواه البيهقي في "المدخل" (826) من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة السكري عن يزيد النحوي عن عكرمة عنه به، ورجاله ثقات. وذكره الذهبي في "السير" (5/ 14). (¬8) أخرجه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 234)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 247)، والبيهقي في "المدخل" (827).

ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب

وهذا من فهمه وفطنته رحمه اللَّه، وفي ذلك فوائد عديدة: منها: أن المسألة تزداد وضوحًا وبيانًا بتفهم السؤال. ومنها: أن السائل لعله أهمل فيها أمرًا يتغتر به الحكم فإذا أعادها رُبَّما بيَّنه له. ومنها: أن المسؤول قد يكون ذاهلًا عند (¬1) السؤال أولًا، ثم يحضر ذهنه بعد ذلك. ومنها: ربما بَان له تعنُّت السائل وأنه وضع المسألة؛ فإذا غَيَّر السؤال وزاد فيه ونقص فربما ظهر له أن المسألة لا حقيقة لها، وأنها من الأغلوطاتِ أو غيرِ الواقعات التي لا يجب الجواب عنها؛ فإن الجوابَ بالظنِّ يجوز عند الضرورة، فإذا وقعت المسألة صارت حال ضرورة فيكون التوفيق إلى الصّواب أقرب، واللَّه أعلم. ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب [أنواع ما يحرم القول به] فأما النوع الأول فهو ثلاثة أنواع: أحدهما: الإعراضُ عمَّا أنزل اللَّه وعدم الالتفات إليه اكتفاءً بتقليد الآباء. الثاني: تقليدُ من لا يعلم المقلِّد أنه أهل [لأن] (¬2) يُؤخذ بقوله. الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلَّد، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قَلَّدَ قبل تمكّنه من العلم والحجة، وهذا قَلَّدَ بعد ظهور الحجة له؛ فهو أولى بالذم ومعصية اللَّه ورسوله. وقد ذم اللَّه سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "عن". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "أن".

عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23 - 24] [وقال تعالى] (¬1): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] وهذا في القرآن كثير يَذمُّ فيه من أعرض عما أنزله وقنع بتقليد الآباء. فإن قيل: إنّما ذم من قلَّد الكفّار وآباءه الذين لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، ولم يَذم من قَلَّد العُلماءَ المهتدين، بل قد أمر بسؤال أهل الذكر، وهم أهل العلم، وذلك تقليدٌ لهم، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وهذا أمرٌ لمن لا يعلم بتقليدِ من يَعْلم. فالجواب أنه سبحانه ذمَّ من أعرض عَمَّا أنزله إلى تقليد الآباء، وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذَمِّه وتحريمه، وأما تقليد من بذل جُهده في اتباع ما أنزل اللَّه وخفي عليه بعضُه فقلَّد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء اللَّه تعالى. وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم كما سيأتي، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] فأمر باتباع المُنزَّل خاصة، والمُقلِّد ليس له علم أن هذا هو المنزَّل وإن كان (¬2) قد تبيَّنت (¬3) له الدلالة في خلاف قول من قَلَّده فقد علم أن تقليده في خلافه اتباع لغير المنزل، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] فمنَعَنَا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله، وهذا يبطل التقليد. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا (¬4) وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] ولا وليجة (¬5) أعظم ممن جعل رجلًا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) وبدلها في (ك) و (ق): "قال". (¬2) في (ق): "كانت"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬3) في (ك) و (ق): "تبيّن". (¬4) تحرفت في المطبوع إلى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة. . . "!. (¬5) "الوليجة: البطانة" (و).

بعينه عيارًا (¬1) على كلام اللَّه وكلام رسوله وكلام سائر الأمة، يقدّمه على ذلك كله، ويَعْرض كتابَ اللَّه (¬2) وسنة رسوله وإِجماع الأمة على قوله فما وافقه منها قَبِلَه لموافقته لقوله وما خالفه منها تلطَّف في رده وطلب (¬3) له وجوه الحيل، فإن لم تكن هذه وليجة فلا ندري ما الوليجة! وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 66 - 67] وهذا نصٌّ في بطلان التقليد. فإن قيل: إنما فيه ذم من قلد من أضله السبيل، أما من هداه السبيل فأين ذم اللَّه تقليده؟ قيل: جواب [هذا] (¬4) السؤال في نفس السؤال، فإنه لا يكون العبد مهديًا (¬5) حتى يتبع ما أنزل اللَّه على رسوله؛ فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل اللَّه على رسوله فهو مهتد، وليس بمقلد، وإن لم يعرف (¬6) ما أنزل اللَّه على رسوله فهو جاهلٌ ضالٌ بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هدًى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم إنما يقلدون (¬7) أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى. فإن قيل: فأنتم تُقِرُّون (¬8) أن الأئمة المقلدين في الدِّين على هدى، فمقلِّدوهم على هدى قطعًا؛ لأنهم سالكون خلفهم. قيل: سلوكُهُم خلفهم مبطلٌ لتقليدهم لهم قطعًا؛ فإن طريقتَهم كانت اتباع الحجة والنهي عن تقليدهم كما سنذكره عنهم إن شاء اللَّه تعالى، فمن ترك الحجة وارتكب ما نَهوا عنه ونهى اللَّه ورسوله عنه قبْلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتَّبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلًا بعينه سوى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يجعله مختارًا على الكتاب والسنة يعرضها (¬9) ¬

_ (¬1) كذا في (ق) و"الإحكام" (6/ 124) لابن حزم -ومنه ينقل المصنف- وفي جميع النسخ المطبوعة: "مختارًا"!! وفي هامش (ق): "معيارًا". (¬2) في (ن) و (ك): "كلام اللَّه" وبعدها في (ك) و (ق): "وكلام رسوله". (¬3) في المطبوع: "تطلب"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة هكذا. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في المطبوع: "مهتديا". (¬6) في المطبوع: "وإن كان لم يعرف". (¬7) في المطبوع: "وأنهم إن كانوا إنما يقلدون". (¬8) في (ك): "مقرّون". (¬9) في (ن): "يعرفها"، وفي (ك) و (ق): "يعرضهما".

[الفرق بين الاتباع والتقليد]

على قوله. وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتِّباعًا، وإيهامه وتلبيسه، بل هو مخالف للاتّباع، وقد فَرَّق اللَّه ورسوله وأهل العلم بينهما كما فرّقت الحقائق بينهما، فإن الاتباع سلوك طريق المُتَّبَع والإتيان بمثل ما أتى به. [الفرق بين الاتباع والتقليد] قال أبو عمر في "الجامع" (¬1): (باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بينه وبين الاتباع). قال أبو عمر: قد ذمَّ اللَّه تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، روي عن حذيفة وغيره قال: لم يعبدوهم من دون اللَّه، ولكنهم أحلُّوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم (¬2). وقال عَديُّ بنُ حاتم: أتيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي عُنُقي صليب، فقال: ¬

_ (¬1) (9/ 202 - ط القديمة و 2/ 975 ط دار ابن الجوزي). (¬2) بهذا اللفظ ذكره ابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1861)، وبنحوه رواه سفيان الثوري في "تفسيره" (ص 124 رقم 333)، وعنه عبد الرزاق (2/ 272)، والطبري (10/ 815)، وابن أبي حاتم (6/ 1784 رقم 10058) في "تفاسيرهم"، وابن عبد البر (رقم 1864)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 67)، والبيهقي في "سننه" (10/ 116)، وفي "المدخل" (258 و 259)، وابن عبد البر في "الجامع" (1864) من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري عن حذيفة. وتابع الأعمش: العَوَّامُ بن حوشب، أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (5/ 245 رقم 1012)، وابن جرير (14/ 211 رقم 16636 - ط شاكر) وعطاءُ بن السائب، أخرجه ابن جرير (14/ 213 رقم 16643)، والبيهقي في "الشعب" (7/ 45 رقم 9394 - ط دار الكتب العلمية) من طريق سفيان عن عطاء به. ورجاله ثقات لكنه منقطع، أبو البَخْتَري سعيد بن فيروز الطائي لم يسمع من حذيفة قال ابن سعد في "طبقاته" (6/ 292 - 293): "وكان أبو البختري، كثير الحديث، يرسل حديثه، ويروي عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يسمع من كبير أحد، فما كان من حديثه سماعًا فهو حسن، وما كان عن فهو ضعيف" قلت: وأرسل عن حذيفة كما في "تهذيب الكمال" (11/ 32 - 35)، وعزاه في "الدر" (3/ 231) أيضًا للفريابي، وابن المنذر وأبي الشيخ. ورواه جماعة عن عطاء عن أبي البختري قوله، كما سيأتي عند المصنف قريبًا وهو في "تفسير مجاهد" (ص 276) عن آدم بن أبي إياس عن ورقاء قوله. وفي (ك) و (ق): "لكنهم" دون واو.

يا عدي ألق هذا الوثَنَ من عنقك، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا (¬1) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] فقلت (¬2): يا رسول اللَّه إنا لم نتخذهم (¬3) أربابًا، قال: بلى، أليس يُحِلُّون لكم ما حُرِّم عليكم فتحلُّونه ويحرِّمون عليكم ما أُحلَّ لكم فتحرمونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم (¬4). قلت: الحديث في "المُسند" والترمذي مطولًا. وقال أبو البَخْتَري في قوله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قال: أما إنهم لو أَمروهم أَن يعبدوهم من دون اللَّه ما ¬

_ (¬1) "هذه الآية تؤكد شركهم في الربوبية" (و). (¬2) في المطبوع: "قال: فقلت". (¬3) في (ق): "إنا لم نكن نعبدهم"، وفي (ن) و (ك): "إنا لسنا نعبدهم"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة كما أثبتناه. وكل هذه روايات للقصة. (¬4) رواه الترمذي في "الجامع" (أبواب التفسير): باب سورة التوبة (5/ 278/ رقم 3095)، وابن جرير في "التفسير" (10/ 81)، والطبراني في "الكبير" (17/ 92/ رقم 218، 219)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (6/ 1784 رقم 10057)، والواحدي في "الوسيط" (2/ 490 - 491)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 116)، و"المدخل" (رقم 261)، وابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" (2/ 230) -، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 132 - 133)، والمزي في "تهذيب الكمال" (ق 1090) من حديث عدي بن حاتم. قال الترمذي عقبه: "وهذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغطيف بن أعين ليس بمعروفٍ في الحديث"، وقال المناوي في "الفتح السماوي" (1/ 365) في تخريجه: "أخرجه الترمذي وحَسَّنه"، ولم يحسنه الترمذي. وانظر: "تحفة الأشراف" (7/ 284)، و"العارضة" (11/ 246). قلت: غطيف ويقال: غضيف ضعيف، ضعفه الدارقطني. انظر: "الضعفاء والمتروكين" (رقم 430)، و"اللسان" (4/ 240). وللحديث شاهد عن حذيفة موقوفًا -وهو السابق ذكره- وله حكم الرفع، كما هو مقرر في علم المصطلح، وله شاهد آخر جيد من حديث أبي العالية عند ابن جرير في "التفسير" (10/ 81). فالحديث حسن بطرقه المتعددة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: "الإيمان" (64)، وعزاه المصنف وابن كثير في "التفسير" (2/ 348) للإمام أحمد من حديث عدي، ولم أظفر به في "مسنده" (4/ 256، 377) مسند عدي، ولا في "أطراف المسند" (4/ 326 - 332) ثم وجدتُ الشيخ أحمد شاكر يقول في تعليقه على "الإحكام": "وهذا الحديث لم يروه أحمد في "مسنده" على سعته".

أطاعوهم، ولكنَّهم أمروهم فجعلوا حَلالَ اللَّه حَرَامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية (¬1). وقال وكيع: ثنا سفيان والأعمش جميعًا، عن حَبيب بن أبي ثَابت (¬2) عن أبي البَخْتَري قال: قيل لحذيفة في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]: أكانوا يعبدونهم؟ فقال: لا، ولكن كانوا يُحِلّون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه (¬3). وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23 - 24] فمنعهم الاقتداءُ بآبائهم من قبول الاهتداء، فقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] وفي هؤلاء ومثلهم قال اللَّه عز وجل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 166 - 167] وَقَالَ تَعَالَى معاتبًا (¬4) لأهل الكفر وذامًّا لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 52 - 53] وقال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] ومثل هذا في القرآن كثير من ذمِّ تقليد الآباء والرؤساء وقد احتجَّ العلماءُ بهذه الآية في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفرُ أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهةِ كفرِ أحدِهما وإيمانِ الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المُقَلِّدين (¬5) بغير حجة للمُقلِّد، كما لو قلَّد رجلًا (¬6) فكفر وقلَّد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة [دنياه] فأخطأ وَجْهَها كان كل واحد ملومًا على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 976 رقم 1863)، وابن جرير (14/ 211 - 212 رقم 16637)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 179 - 180) بإسناد حسن. (¬2) بعدها في النسخ المطبوعة: "عن أبي ثابت" والصواب حذفها. (¬3) سبق تخريجه قريبًا. ومضى أن سفيان رواه عن عطاء بن السائب عن أبي البختري به. ثم وجدت أن ابن حزم أخرجه في "الإحكام" (6/ 144) من طريق عبد بن حميد قال: ثنا أبو نعيم عن سفيان الثوري عن حبيب به. وفيه (6/ 180) قال: "قال ابن وضاح: حدثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع به". (¬4) "يقص اللَّه في الآية قول إبراهيم لقومه" (و). وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة "عاتبًا"، وفي مطبوع "الجامع": "عائبًا". (¬5) في مطبوع "الجامع": "التقليديين". (¬6) في مطبوع "الجامع": "رجل".

[مضار زلة العالم]

تقليد يُشبه بعضه بعضًا وإن اختلفت الآثام فيه، وقال اللَّه عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. قال: فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي "الكتاب والسنة" وما كان (¬1) في معناهما بدليلٍ جامع (¬2)، ثم ساق من طريق كَثير بن عبد اللَّه بن عَمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إني لا أخاف على أُمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة، قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: أخاف عليهم زلّة العَالِم (¬3)، ومن حكم جائر، ومن هوًى مُتَّبع" (¬4) وبهذا الإسناد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتابَ اللَّه، وسُنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬5). [مضار زلة العالم] قلت: والمُصنِّفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبين زلة العالم ليبيِّنوا بذلك فساد التقليد وأن العَالِم قد يزل ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، ويُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم؛ فهذا الذي ذَمَّه كلُّ عالم على وجه الأرض، وحَرَّموه، وذمُّوا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلِّدون العالم فيما زَلَّ فيه وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد فيحلون ما حرم [اللَّه] (6) ويحرمون ما أحل [اللَّه] (¬6) ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منفية (¬7) عَمَّن قلدوه، فالخطأ ¬

_ (¬1) في مطبوع "الجامع": "أو ما كان". (¬2) ما مض في "جامع بيان العلم" (2/ 975 - 978) وما بين المعقوفتين منه. (¬3) في النسخ الخطية: "عالم". (¬4) أخرجه المعافى بن عمران في "الزهد" (رقم 219)، والطبراني في "الكبير" (17/ 17/ رقم 14)، والبزار في "مسنده" (رقم 182 - زوائده)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 830)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 10)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1865) من هذا الطريق، وإسناده ضعيف جدًا، فيه كثير بن عبد اللَّه، وهو متروك، وبه أعله الهيثمي في المجمع" (1/ 187 و 5/ 239). (¬5) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1865) بإسناد سابقه، وفيه كثير وسبق حاله، لكن له شواهد بمعناه فانظر "السلسلة الصحيحة" (1761). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في المطبوع: "منتفية".

واقع منه ولا بد. وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "اتقوا زَلَّة العالم، وانتظروا فيئته" (¬1). وذكر من حديث [مسعود] (¬2) بن سعد، عن يزيد بن أبي زِياد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أشَدُّ ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم" (¬3). ومن المعلوم أنَّ المُخوفَ في زلَّة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره. فإذا عَرَف أنها زَلَّة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين، فإنه اتباعٌ للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه، وكلاهما مُفرِّط فيما أمر به، وقال الشعبي: قال عمر: يُفسد الزمان ثلاثة: أئمة مُضلون، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وزلة العالم (¬4). وقد تقدم أن معاذًا كان لا يجلس مجلسًا ¬

_ (¬1) رواه البيهقي في "المدخل" (831)، وفي "السنن الكبرى" (10/ 211)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2081)، من طرق عن كثير به. وكثير سبق حاله، وروى نحوه أبو داود في "المراسيل" (533) بلفظ: "وانتظروا بالعالم فيئته ولا تلقفوا عليه عثرة" من حديث محمد بن كعب القرظي مرفوعًا، وهو مرسل وفيه إبراهيم بن طريف مجهول، وقال شيخنا في "ضعيف الجامع الصغير" (1/ 86/ 125): (ضعيف جدًا). ووقع في (ك) و (ق): "وانتظروا فيئة". (¬2) ما بين المعقوفتين مضروب عليه في (ق). (¬3) رواه البيهقي في "المدخل" (832)، وفي "شعب الإيمان" (10311)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 13) من طريق أبي غسان النهدي عن مسعود بن سعد به. وإسناده ضعيف، فيه يزيد بن أبي زياد قال الحافظ في "التقريب": ضعيف، وروى نحوه أبو داود في "المراسيل" (533) من حديث محمد بن كعب القرظي: حدثني من لا أتهم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: فذكر نحوه وفيه زيادة. وفي الباب عن معاذ مرفوعًا، وإسناده ضعيف جدًا، وروي عنه موقوفًا، وهو حسن، وسيأتي ذلك كله مع تخريجه قريبًا. (¬4) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1569 و 1870)، والبيهقي في "المدخل" (833) من طريق الشعبي به، وهو منقطع الشعبي لم يدرك عمر، ورواه الدارمي (1/ 71) -ومن طريقه أبو شامة في "الباعث" (69 - بتحقيقي) -، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 234)، وابن المبارك في "الزهد" (2/ م 520 رقم 1475)، والفريابي في "صفة المنافق" (رقم 31)، وابن بطة في "الإبانة" (2/ 528 رقم 643)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 196)، وابن عبد البر في "الجامع" (1867) من طرق عن الشعبي عن زياد بن حُدير عن عمر وإسناده صحيح. =

للذِّكر إلا قال حين يجلس: اللَّه حَكَم قسط، هلك المرتابون. . . الحديث، وفيه: "وأحذركم زلة الحكيم (¬1)؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، قلت لمعاذ: ما يُدريني رَحِمك اللَّه أنَّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال لي: اجْتنِبْ من كلام الحكيمِ المُشتبهات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يُراجع، وتَلقَّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورًا (¬2). وذكر البيهقي من حديث حَمَّاد بن زيد، عن المثنى بن سعيد، عن أبي العالية قال: قال ابن عباس: ويْلٌ للأتباعِ من عَثراتِ العالم، قيل: وكيف ذلك يا ابن عَبَّاس (¬3)؟ قال: يقول العالمُ من قبل رأيه، ثم يسمعُ الحديثَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيدع ما كان عليه، وفي لفظ: من هو أعلم برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منه فيخبره فيرجع ويقضي الأَتباعُ بما حَكَم (¬4). ¬

_ = وأخرجه الآجري في "تحريم النرد والشطرنج" (رقم 48)، والفريابي في "صفة المنافق" (71)، واللالكائي في "السنة" (641، 643)، وآدم بن أبي إياس في "العلم"، والعسكري في "المواعظ"، والبغوي والإسماعيلي ونصر المقدسي في "الحجة"؛ -كما في "كنز العمال" (10/ رقم 29405، 29412) و"مسند الفاروق" (2/ 660 - 661) - من طرق عن عمر بنحوه. قال ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 662) بعد أن ساق طرقه: "فهذه طرق يشد القوي منها الضعيف، فهي صحيحة من قول عمر -رضي اللَّه عنه-، وفي رفع الحديث نظر، واللَّه أعلم". (¬1) في المطبوع و (ن): "زيغة الحكم". (¬2) رواه أبو داود في "السنة": باب لزوم السنة (4611)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 222)، والبيهقي في "المدخل" (834)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 233) من طريق الليث بن سعد عن عقيل عن أبي شهاب أن أبا إدريس الخولاني عائذ اللَّه أخبره أن يزيد بن عميرة، وكان من أصحاب معاذ قال: كان معاذ لا يجلس مجلسًا. . .، وسنده صحيح. ورواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 232) من طريق ابن عجلان عن الزهري به دون ذكر يزيد بن عميرة. ورواه ابن عبد البر في "الجامع" (1871) من طريق الليث عن ابن عجلان عن ابن شهاب أن معاذًا. . .، وابنُ شهاب لم يدرك معاذ بن جبل. وانظر (1/ 112، 194 - 195) و"الاعنصام" (1/ 49 - 50) بتحقيقي. (¬3) في المطبوع: "يا أبا العباس"، وفي (ق): "يا أبا عباس". (¬4) رواه البيهقي في "المدخل" (835 و 836)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 14)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 99)، وابن عبد البر في "الجامع" (1877) وإسناده صحيح، وانظر "الموافقات" (4/ 90 و 5/ 134 - بتحقيقي).

وقال تميم الداري: اتقوا زلة العالم، فسأل عمر: ما زلة العالم؟ قال: يزل بالناس فيُؤخذُ به، فعسى أن يتوبَ العالِمُ والناس يأخذون بقوله (¬1). وقال شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد اللَّه بن سلمة قال: قال معاذ بن جبل: يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، فسكتوا، فقال: أما العالم فإن اهْتدى فلا تقلِّدوه دِينَكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه أياسكم (¬2)؛ فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فله منار كمنار الطريق فلا يخفى على أحد، فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه، وما شككتم فكِلوه إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل اللَّه الغنى في قلبه فقد أفلح، ومن لا فليس بنافعته دنياه (¬3). وذكر أبو عمر من حديث حُسَيْنُ الجُعْفي، عن زائدة، عن عطاء بن السائب، عن أبي البَخْتَري قال: قال سلمان: كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوهُ دينكم، وأما مجادلة المنافق بالقرآن فإن للقرآن منارًا كمنار الطريق [فلا يخفى على أحد] (¬4)، فما عرفتم منه فخذوه، وما لم تعرفوه فكِلوه إلى اللَّه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى مَنْ هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم (¬5). ¬

_ (¬1) روى ذلك الخطيب في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (رقم 389) (1/ 211 - 212) من طريق ابن المبارك عن عبد العزيز بن أبي روَّاد عن نافع أن تميمًا الداري. . . فذكر قصة، ونافع لم يدرك تميمًا قطعًا، وذكره البيهقي في "المدخل" دون إسناد. ووقع في (ك): "نزل بالناس". (¬2) في (ن) و (ك): "إياسكم منه". (¬3) رواه وكيع (رقم 71)، وأبو داود (رقم 193) كلاهما في "الزهد" وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 97)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 72 - 73، 180)، وابن عبد البر في "الجامع" (1872) من طريق شعبة به، وسنده حسن، ورواه اللالكائي في "السنة" (1/ 122) من طريق آخر عن معاذ بنحوه مختصرًا. وروي مرفوعًا، ولا يصح، قاله الدارقطني في "العلل" (6/ 81/ رقم: 992) ثم وجدت للمرفوع طريقًا آخر: رواه الطبراني في "الكبير" (20/ 282)، وفي "الصغير" (1001)، وفي "الأوسط" (رقم 6575)، وتمام في "الفوائد" (10 - ترتيبه)، والديلمي في "الفردوس" (1/ 93)، وإسناده ضعيف جدًا، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 186): فيه عبد الحكم بن منصور وهو متروك الحديث، ثم فيه انقطاع أيضًا. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق) ومطبوع "الجامع" أيضًا. (¬5) رواه ابن عبد البر في "الجامع" رقم (1873)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 180 - 181) من الطريق المذكور. =

قال أبو عمر (¬1): وتشبه زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلْق كثير. قال [أبو عمر] (1): وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين يقول لا يعرف وجهه. وقال غيرُ أبي عمر (¬2): كما أن القضاةَ ثلاثة قاضيان في النار وواحد في الجنة فالمفتون ثلاثة، ولا فرق بينهما إلا في كون القاضي يُلزِمُ بما أفتى به، والمفتي لا يلزم به. وقال ابنُ وهب: سمعتُ سفيان بن عيينة يُحدِّث عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرِّ بن حُبيش، عن ابن مسعود أنه كان يقول: اغْدُ عالمًا أو متعلمًا ولا تغدُ إمَّعة فيما بين ذلك، قال ابن وهب: فسألت سفيان عن الإمَّعة، فحدثني عن أبي الزناد، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: كنا ندعو الإمَّعة في الجاهلية الذي يُدعى إلى الطعام فيأتي معه بغيره، وهو فيكم المُحَقِّب (¬3) دينه الرجال (¬4). ¬

_ = وعطاء اختلط، وزائدة يظهر أنه سمع منه في حال الاختلاط، وتوبع، تابعه حماد بن سلمة، رواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 149)، وحماد سمع من عطاء قبل الاختلاط وبعده، وما لم يتميز السماع فلا يصح، وقال شعبة: "ما حدثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري فلا تكتبه". (¬1) هو ابن عبد البر -رحمه اللَّه- وانظر "الجامع" (2/ 111 - ط القديمة و 2/ 982 - ط دار ابن الجوزي)، وما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬2) يريد ابن حزم، انظر: "الإحكام" له (6/ 44). (¬3) "يجعل دينه تبعًا لدين غيره بلا حجة ولا برهان" (و). وانظر: "غريب الحديث" (4/ 49 - 50) لأبي عبيد، و"الفائق" (1/ 43)، وكتابي "المروءة وخوارمها" (ص 111 - 112/ ط الثانية). (¬4) رواه من طريق سفيان: الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 399)، وسعدان بن نصر في "جزئه" (رقم 140)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 188)، والخطيب في "التطفيل" (ص 64 - 65)، والحنائي في "فوائده " (رقم 106 - بتحقيقي)، وابن عبد البر في "الجامع" (145) و (1874 - 1876)، والبيهقي في "المدخل" (378)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 68، 147). ورواه عن ابن مسعود جماعة، وهم: أولًا: أبو عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود: رواه أبو بكر بن أبي شيبة (8/ 541)، ووكيع في "الزهد" (3/ 829)، وأبو خيثمة في "العلم" (1)، وابن عبد البر في "الجامع" (139 و 147). =

وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عَمرو النَّصري (¬1): ثنا أبو مُسْهِر: ثنا سعيدُ بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عُبيد اللَّه، عن السائب بن يزيد بن أخت نَمر أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يقول: إنَّ حَديثَكم شَرُّ الحديث، إن كلامكم شر الكلام؛ فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان، وقال فلان، ويُترك كتاب اللَّه، من كان منكم قائمًا فليقم بكتاب اللَّه، وإلّا فليجلس (¬2). فهذا قول عمر ¬

_ = وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه. ثانيًا: عبد الملك بن عمير: رواه الطبراني في "الكبير" (8752). قال الهيثمي (1/ 122): "رجاله رجال الصحيح إلا أن عبد الملك بن عمير لم يدرك ابن مسعود". ثالثًا: سهل الفزاري، ولفظه: "اغد عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا ولا تكونن الرابع فتهلك"، رواه أبو خيثمة في "العلم" (116). وسهل هذا مجهول كما قاله الذهبي. رابعًا: هارون بن رئاب: رواه الدارمي (1/ 97)، والفسوي (3/ 399)، وابن عبد البر (146). وهارون لم يسمع من ابن مسعود. خامسًا: الحسن البصري: رواه وكيع في "زهده" (513)، والدارمي (1/ 79)، والبيهقي في "المدخل" (380)، وقال: وهو منقطع؛ لأن الحسن لم يسمع من ابن مسعود. وهذه الطرق تؤكد أن له أصلًا عن ابن مسعود، واللَّه أعلم. سادسًا: الضحاك بن مزاحم: رواه الدارمي -ومن طريقه الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (2/ 463) -، والضحاك لم يسمع من ابن مسعود. وهو كثير الإرسال. سابعًا: يحيى بن عبد الرحمن: رواه الخرائطي في "اعتلال القلوب" (1/ 184) عنه بلفظ: "لا يكونن أحدكم إمعة، قالو: وما الإمعة؟ قال: "يجري مع كل ريح". ثامنًا: طرفة المسلي: رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 367)، وأبو داود في "الزهد" (رقم 141). تاسعًا: عبد الرحمن بن يزيد: رواه الطبراني في "الكبير" (9/ 166 - 167 رقم 8765) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 136 - 137)، وابن الجوزي في "صفة الصفوة" (1/ 124). (¬1) قال (د): "في نسخة: "أبو زرعة عبد الرحمن بن عمر البصري" تحريف في ثلاثة مواضع". قلت: وهو المثبت في (ن) و (ق) و (ك)، ونحو ما في (د) في (ط)، وقال: "انظر: "إعلام الموقعين" (2/ 297) ط: فرج اللَّه زكي الكردي" اهـ. (¬2) أخرجه أبو زرعة الدمشقي في "تاريخه" (1/ 543 رقم 1470)، -ومن طريقه ابن حزم في =

[كلام علي لكميل بن زياد]

لأفضل قرْن على وجه الأرض، فكيف لو أدرك ما أصْبحنا فيه من ترك كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان [وفلان] (¬1)؟ فاللَّه المستعان! [كلام علي لكُميل بن زياد] قال أبو عمر (¬2): "وقال علي بن أبي طالب (¬3) لكُمَيْل بن زياد النخعي -وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يَستغني عن الإسناد لشهرته عندهم-: يا كميل، إن هذه القلوب أوْعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالمٌ رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. ثم قال: آه (¬4) إن هاهنا علمًا -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبْتُ له حملة، بلى (¬5) قد أصبت لَقِنًا (¬6) غير مأمون، يستعمل [آلة] (¬7) الدين للدنيا، ويستظهر بحجج اللَّه على كتابه وبنعمه على معاصيه، أو حامل (¬8) حق لا بصيرة له [في إحيائه] (7)، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرَّفه اللَّه دينه، وكفى بالمرء جهلًا أن لا يعرف دينه (¬9). ¬

_ = "الإحكام" (6/ 97 - 98) - حدثنا أبو مسهر به، وإسناده صحيح. وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 625)، للحافظ أبي بكر الإسماعيلي من حديث سعيد بن عبد العزيز به. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 112 - 113 - ط القديمة و 2/ 984 - 985 - ط دار ابن الجوزي). (¬3) في المطبوع بعده: "كرم اللَّه وجهه في الجنة". (¬4) أشار في هامش (ق): إلى أنه في نسخة: "هاه". (¬5) في المطبوع: "بل". (¬6) "تقول: لقن الرجل يلقن لقنًا -بوزن فرح يفرح فرحًا- فهو لقن، وذلك إذا كان سريع الفهم" (د). قلت: ونحوه في (ط) و (و) و (ح)، وانظر: "لسان العرب" (5/ 4064). (¬7) سقطت من مطبوع "الجامع". (¬8) في مطبوع "الجامع": "أف لحامل حق. . ". (¬9) رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 79 - 80)، ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 49 - 50) والشجري في "الأمالي" (1/ 66)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" =

[نهي الصحابة عن الاستنان بالرجال]

[نهي الصحابة عن الاستنان بالرجال] وذكر أبو عمر (¬1) عن أبي البَختري عن علي قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم اللَّه فيه فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم اللَّه فيه فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بُدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء (¬2). ¬

_ = (4/ ق 648 و 14/ ق 606)، والرافعي في "التدوين" (ق 90/ أ)، والذهبي في "تذكرة الحفاظ" (1/ 11)، والمزي في "تهذيب الكمال" (ق 1150 - نشر دار المأمون و 24/ 220 - ط مؤسسة الرسالة) من طريق عاصم بن حميد الحنّاط عن أبي حمزة الثمالي عن عبد الرحمن بن جندب الفزاري عن كميل بن زياد النخعي، قال أخذ علي. . . قلت: أبو حمزة الثمالي اسمه ثابت بن أبي صفية، ضعيف رافضي، وعبد الرحمن بن جندب الفزاري مجهول؛ كما قال الحافظ في "لسان الميزان" (3/ 408). والأثر ذكره ابن عبد البر في "الجامع" (149) و (284) و (1878) عن علي دون إسناد. وله طرق تراها عند النهرواني في "الجليس الصالح" (3/ 331 - 332)، والخطيب في "تاريخه" (6/ 679)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (14/ ق 607 و 14/ ق 605)، والدينوري في "المجالسة" (رقم 1824 - بتحقيفي). ولذا قال المزي: "وروي من وجوه أخر عن كميل بن زياد". وقال ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 112): "وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يستغني عن الإسناد؛ لشهرته عندهم". وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (9/ 47): "وله الأثر المشهور عن علي بن أبي طالب الذي أوّله: "القلوب أوعية؟ فخيرُها أوعاها"، وهو طويل، وقد رواه جماعة من الحفاظ الثقات، وفيه مواعظ وكلام حسن، رضي اللَّه عن قائله". وقال الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 50): "هذا الحديث من أحسن الحديث معنى، وأشرفها لفظًا". وقال المصنف في "مفتاح دار السعادة" (1/ 144 - ط القديمة، و 1/ 403 - ط ابن عفان): "والحديث مشهور عن علي" -وشرح فيه الوصية شرحًا وافيًا-. وقال الذهبي في "تذكرة الحفاظ" (1/ 12): "ففيه تنبيهات على صفات العالم المتقن، والعالِم الذي دونه، والهمج المخلط في دينه أو علمه". والوصية بتمامها في: "عيون الأخبار" (2/ 283 - ط دار الكتب العلمية)، و"العقد الفريد" (2/ 212)، و"شرح نهج البلاغة" (4/ 311)، و"الاعتصام" (3/ 466 - بتحقيقي)، و"الاتباع" (ص 85 - 86) لابن أبي العز الحنفي. (¬1) في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 114 ط القديمة). (¬2) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1881)، وخشيش في "الاستقامة"؛ -كما في "كنز =

وقال ابن مسعود: لا يقلدنّ أحدكم دينه رجلًا إنْ آمن آمن، وإنْ كفر كفر فإنه لا أُسوةَ في الشر (¬1). قال أبو عمر (¬2): و [قد] ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "يذْهبُ العلماء، ثم يتخذ الناس رءوسًا جُهّالًا، يُسألون فيفتون بغير علم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون" (¬3) قال أبو عمر: وهذا كله نفي قلت للتقليد، وإبطال له لمن فهمه وهُدِيَ لرشده. ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى: ثنا سفيان بن عُيينة قال: اضطجع ربيعة مقنعًا رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياءٌ ظاهر، وشهوة خَفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم (¬4): ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم (¬5) به ائتمروا (¬6). ¬

_ = العمال" (1/ 360/ رقم 1594) - وابن حزم في "الإحكام" (6/ 181) من طريق بكر بن حماد ثنا بشر بن حجر أنا خالد بن عبد اللَّه الواسطي عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن علي -رضي اللَّه عنه-. وعطاء اختلط، وخالد بن عبد اللَّه سمع منه بعد اختلاطه، انظر "الكواكب النيرات" (ص 322، 327، 330)، وعطاء في روايته عن أبي البختري نظر؛ فقد قال شعبة: "ما حدثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري، فلا تكتبه" اهـ. وقد جاء نحو هذا الأثر عن ابن مسعود وابن عمر: وانظر الأثر وكلامًا جيدًا عليه عند الشاطبي -رحمه اللَّه- في "الاعتصام" (3/ 152، 467 - بتحقيقي)، و"الموافقات" (4/ 460) و (5/ 36 - بتحقيقي). (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" (8764)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 97) وفيه زيادة، وليس فيه: "فإنه لا أسوة في الشر" قال في "المجمع": (1/ 180)، "ورجاله رجال الصحيح". قلت: لكنه منقطع، كما قال ابن حزم. وذكره ابن عبد البر في "الجامع" (1882) دون إسناده ثم وجدتُ ابن حزم أسنده في "الإحكام" (6/ 147) عن هبيرة وأبي الأحوص عن ابن مسعود قال: "إذا وقع الناس في الشر، قل: لا أسوة لي في الشر". (¬2) في "الجامع" (2/ 988 - 989 - ط دار ابن الجوزي)، وما بين المعقوفتين بعدها سقط من (ق) و (ك). (¬3) أخرجه البخاري (100) (كتاب العلم): باب كيف يقبض العلم، و (7307) (كتاب الاعتصام): باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، ومسلم (2673) (كتاب العلم): باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص -رضي اللَّه عنهما-. (¬4) في مطبوع: "الجامع": "كالصبيان في حجور أمهاتهم! وبعدها في (ك): "ما نهوا". (¬5) في المطبوع: "وما أمروا"، وما أثبتناه من "الجامع" والنسخ الخطية. (¬6) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (1885) بإسناد صحيح.

[الاحتجاج على من أجاز التقليد بحجج نظرية]

وقال عبد اللَّه بن المعتز (¬1): لا فرق بين بهيمةٍ تنقادُ وإنسان يقلِّد (¬2). ثم ساق من "جامع (¬3) ابن وهب": أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بكر بن عمرو (¬4)، عن عَمرو بن أبي نَعيمة (¬5)، عن مسلم بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مَقْعده من النار، ومَنْ استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه، ومن أُفتي بفُتيا بغير ثبت فإنما إثمه (¬6) على من أفتاه" (¬7) وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود (¬8). وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه إفتاء بغير ثبت؛ فإن الثبتَ الحجةُ التي يثبتُ بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر (¬9): [الاحتجاج على من أجاز التقليد بحجج نظرية] " وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم، فأحْسن ما رأيت من ذلك قول المزني (¬10)، وأنا أورده، قال: يُقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حَكمتَ به؟ فإن قال: "نعم" بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: "حكمت به (¬11) بغير حجة" قيل له: فلم أرَقْت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حَرَّم اللَّه ذلك إلا بحجة؟ قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "ابن المعتمر"!، والتصويب من "الجامع" لابن عبد البر. (¬2) ذكره ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 989). (¬3) في المطبوع: "من حديث جامع". (¬4) في (ك) و (ق): "عمر". (¬5) في (ك) و (ق): "نعمة". (¬6) في المطبوع: "إثمها" وكذا في "الجامع". (¬7) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1889) من طريق ابن وهب به. ورواه ابن أبي شيبة (8/ 762)، وأحمد (2/ 321)، والطحاوي في "المشكل" (411)، والطبراني في "طرق حديث من كذب علي. . . " (82)، وابن الجوزي في "مقدمة الموضوعات" (1/ 74)، من طريق سعيد بن أبي أيوب قال: حدثني بكر بن عمرو عن أبي عثمان مسلم بن يسار عن أبي هريرة به وإسناده حسن. وقد مضى تخريجه بأطول مما هنا. (¬8) في (ن) و (ك): "ابن داود"! وانظر ما مضى (ص 439). (¬9) في "لجامع" (2/ 992 - 993 - ط دار ابن الجوزي). (¬10) في (ق) و (ك): "قول المبرك"، وأسند الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 69 - 70) قول المزني عنه. (¬11) في مطبوع "الجامع": "فيه".

أي: من حجة بهذا فإن قال: "أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قَلَّدتُ كبيرًا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خَفِيت عليّ" قيل له: إذا جاز تقليد مُعلِّمك لأنه لا يقول إلا بحجة خَفِيت عليك فتقليدُ معلِّم مُعلِّمك أولى؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلِّمك كما لم يقل إلا بحجة خفيت عليك، فإن قال: "نعم" ترك تقليد [معلمه إلى تقليد] (¬1) معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي [الأمر] (1) إلى أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن أبي ذلك نَقَضَ قَوْلَه، وقيل له: كيف تُجوِّز تقليدَ مَنْ هو أصغر وأقل علمًا ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علمًا وهذا تناقض؟ فإن قال: "لأن معلمي -وإن كان أصغر- فقد جَمَعَ عِلْم مَنْ هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك" قيل له: وكذلك من تَعَلمَ من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى عِلْمك، فإن قلّد قوله (¬2) جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابعٍ من دونه في قياس قوله، والأعلى للأدنى أبدًا، وكفى يقول يؤول إلى هذا تناقضًا وفسادًا" (¬3). قال أبو عمر: قال أهل العلم والنظر: حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به (¬4)، فمن بأن له الشيء فقد علمه، قالوا: والمُقلِّد لا علم له، ولم يختلفوا [في ذلك] (¬5)، ومن هاهنا واللَّه [أعلم] (5) قال البحتري (¬6): ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من مطبوع "الجامع"، والصواب إثباته. (¬2) في مطبوع "الجامع": "فإن فاد قوله"، وأشار (ق) أنه في نسخة: "فإن قلت قوله". (¬3) في مطبوع "الجامع": "قبحًا وفسادًا". (¬4) انظر: حد العلم في "الحدود" (14) للباجي، و"رسائل ابن حزم" (4/ 413)، و"الكليات" للكفوي (3/ 205 - 213)، و"المحصول" (1/ 83 - 86)، و"محصل أفكار المتقدمين للمتأخرين" (144)، و"التفسير الكبير" (2/ 201 - 203) جميعها للرازي، و"التعريفات" للجرجاني (199)، و"المواقف" (9 - 11) للإيجي، و"التوقيف على مهمات التعريف" (ص 523 - 524)، و"البحر المحيط" (1/ 52 - 55)، و"الإرشاد" (33) للجويني، و"إرشاد الفحول" (3 - 4) للشوكاني. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) نسبهما له ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 993) وأفاد أنه قالهما في محمد بن عبد الملك الزيات.

[التقليد والاتباع]

عرف العالمون فَضْلَكَ ... بالعلم وقال الجهَّالُ بالتَّقليدِ وأرى الناس مجمعين على ... فضلك من بين سيدٍ ومَسُودِ [التقليد والاتباع] وقال أبو عبد اللَّه بن خواز منداد (¬1) البصري المالكي: "التقليدُ معناه في الشرع الرجوع إلى قولٍ لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوعٌ منه في الشريعة، والاتِّباع: ما ثبت عليه حجة". وقال في موضع آخر من كتابه: "كُلُّ مَنْ اتبعتَ قَوْلَه من غير أن يجب عليك قبوله بدليل (¬2) يوجب ذلك فأنت مقلِّده، والتقليد في دين اللَّه غير صحيح، وكل مَنْ أوجبَ الدليلُ عليك اتِّباعَ قَوْلِه فأنت متبعه، والاتِّباع في الدين مَسوغ، والتقليد ممنوع". قال (¬3): "وذكر محمد بن حارث في "أخبار سحنون بن سعيد" عنه قال: "كان مالك وعبد العزيز بن أبي سَلَمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هُرمز، فكان إذا سألة مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذَوُوه لا يجيبهم، فتعرض له ابنُ دينار يومًا فقال له: يا أبا بكر لم تَستحلُّ مني ما لا يَحلُّ لك؟ فقال له: يا ابن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي (¬4) فلا تجيبنا؟ فقال: أوقع ذلك في قلبك يا ابن أخي؟ قال: نعم، قال: إني [قد] (¬5) كَبِرَتْ سنِّي ورق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقًا قبِلاه، وإن سمعا مني خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به (¬6) قبلتموه". قال ابن حارث: هذا واللَّه الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي ¬

_ (¬1) في (ق): "خويز منذاد"، والنقل ما زال عن ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 993) حيث أورد قول ابن خويز منداد هذا. (¬2) في مطبوع "الجامع": الدليل". (¬3) أي: ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 994) وفي المطبوع: "وقال" بزيادة واو. (¬4) في المطبوع: "وذووي". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وفي (ق): "لأني قد". (¬6) في (ق) و (ك): "ما جئتكم به".

بالهَذَيان (¬1)، ويريد أن ينزل [قوله] (¬2) من القلوب بمنزلة القرآن!. قال أبو عمر (¬3): يقال لمن قال بالتقليد: لِم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلدتُ لأن كتاب اللَّه لا علم لي بتأويله، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم أُحْصِها، والذي قَلدتُه قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني. قيل له: أمَّا العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أو اجتمع (¬4) رأيهم على شيء فهو الحَقُّ لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قَلَّدت فيه بَعْضَهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكُلُّهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه، [فإن] (¬5) قال: "قلدته لأني أعلم أنه على صواب" (¬6) قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب (¬7) أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: "نعم" أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال: "قَلَّدته لأنه أعلم مني" قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خَلْقًا كثيرًا، ولا تخص من قَلَّدتَه إذ علتك فيه أنه أعلم منك (¬8)، فإن قال: "قلدته لأنه أعلم الناس" قيل له: فهو (¬9) إذن أعلم من الصحابة!! وكفى يقول مثل هذا قبحًا! فإن قال: "أنا أقلد بعض الصحابة" قيل له: فما حُجتك في ترك من لم تقلِّد منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين، عن عيسى بن دينار، قال عن ابن القاسم (¬10): عن مالك قال: ليس كما قال رجلٌ قولًا وإن كان له فَضلٌ يتَبع عليه (¬11)؛ لقول اللَّه عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. فإن قال: قِصَري ¬

_ (¬1) في (ن): "الهذيان". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في "جامع بيان العلم" (2/ 994). (¬4) في (ق): "واجتمع". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في مطبوع "الجامع": "لأني علمت أنه صواب". (¬7) في المطبوع: "كتاب اللَّه". (¬8) بعدها في مطبوع "الجامع": "وتجدهم في أكثر ما ينزل بهم من السؤال مختلفين، فلم قلدت أحدهم". (¬9) في المطبوع: "فإنه". (¬10) في جميع النسخ الخطية والمطبوعة: "القاسم" دون (ابن) وقال في هامش (ق): "لعله: قال ابن القاسم"، وكذا في "الجامع" لابن عبد البر (2/ 995). (¬11) أخرجه البيهقي في "المدخل" (238) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 324) بنحوه.

وقلَّة علمي يحملني على التقليد؛ قيل له: أما من قلَّد فيما يَنزلُ به من أحكام شريعته عالمًا يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يُخبرُ به (¬1) فمعذور؛ لأنه قد أتى (¬2) ما عليه، وأدَّى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم (¬3) فيما جهله؛ لإجماع المسلمين أن المكفوف يُقلِّد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك، ولكن مَنْ كانت هذه حاله هل تجوزُ له الفُتْيا في شرائع دين اللَّه فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويُصيِّرها (¬4) إلى غير مَنْ كانت في يديه (¬5) بقولٍ لا يعرفُ صحته ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؟ فإن أجاز الفتوى لمن جَهِلَ الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يُجيزَه للعامة، وكفى بهذا جهلًا وردًا للقرآن، قال (¬6) اللَّه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68] وقد أجمع العلماء على أن ما لم يُتبيَّن ولم يُستيقَن (¬7) فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. ثم ذكر حديث ابن عباس: "من أفتى بفُتيا وهو يَعمى عنها كان إثمها عليه" موقوفًا ومرفوعًا (¬8)، قال: وثبت (¬9) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إيّاكم والظن فإن الظن أكذبُ الحديث" (¬10). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "يخبره". (¬2) وفي المطبوع: "قد أدى"!. (¬3) في (ن): "عالمه"، وكذا في مطبوع "الجامع". (¬4) في مطبوع "الجامع": "وتصييرها". (¬5) في مطبوع "الجامع": "يده". (¬6) في المطبوع: "وقال". (¬7) في المطبوع: "ولم يتيقن". (¬8) مضى تخريج المرفوع من حديث أبي هريرة لا ابن عباس (ص 439، 462). وأما الموقوف: فرواه الدارمي (1/ 58)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (مسند أبي هريرة) (335)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 155)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 186) وابن حزم في "الإحكام" (6/ 45)، وابن بطة في "إبطال الحيل" (66)، وابن عبد البر في "الجامع" (1626 و 1627 و 1892) من طرق عن أبي سنان الشيباني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وأبو سنان هو ضرار بن مرة، وإسناده صحيح. وعبارة ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 996) بعد قوله: "والظن لا يغني من الحق شيئًا" هكذا، وقد مضى هذا في الباب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- فيمن أفتى بفتيا وهو يعمى عنها أن إثمها عليه". (¬9) تحرفت في الأصول إلى: "وهب" والتصويب من "الجامع" لابن عبد البر (2/ رقم 1899). (¬10) رواه البخاري (5143) في (النكاح): باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح =

قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد (¬1)، ثم ذكر من طريق ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو عثمان بن سنَّة (¬2) أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن العلم بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (¬3)، ومن طريق كثير بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الإِسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" قيل له: يا رسول اللَّه، وما الغرباء؟ قال: "الذين يُحيون سنتي ويعلِّمونها عبادَ اللَّه" (¬4) وكان ¬

_ = أو يدع، و (6064) في (الأدب): باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، و (6066) باب {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ}، و (6724) في (الفرائض): باب تعليم الفرائض، ومسلم (2563) (28) في (البر والصلة): باب تحريم الظن والتجسس والتنافس. . .، من حديث أبي هريرة وفيه زيادة. (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "إفساد التقليد". (¬2) في (ق) و (ك): "عثمان بن مسند". (¬3) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1900)، ورواه أبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (2/ 82 - 83) من طريق آخر عن يونس بن يزيد به. وهو مرسل أبو عثمان بن سَنَّة قال فيه الحافظ: "مقبول، ووهم من زعم أن له صحبة، فإن حديثه مرسل"، وذكره في "الإصابة" في القسم الرابع (4/ 149) وهم الذين لا صحبة لهم. وروي بلفظ: "إن الإِسلام بدأ غريبًا. . . "، ويرويه عبد الرحمن بن سنة. أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائده على المسند" (4/ 73 - 74)، وعنه ابن قانع في معجم الصحابة رقم (651)، والطبراني كما في "المجمع" (7/ 278)، وابن عدي (4/ 1615)، وابن وضاح في "البدع" (ص 6)، والخطابي في "غريب الحديث" (10/ 176)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 1854 رقم 4671)، والهروي في "ذم الكلام" (5/ 166 رقم 1478) وابن الأثير في "أسد الغابة" (3/ 457). وفيه إسحاق بن أبي فروة، وهو متروك. وذكره الحافظ في "الإصابة" (2/ 394)، والحديث ذكره أيضًا: البخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 252)، وقال: "وحديثه ليس بالقائم" في ترجمة عبد الرحمن بن سنة. وذكره أيضًا ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2820) دون إسناد. وقال ابن عدي: ولا أعرف لعبد الرحمن بن سنة غير هذا الحديث ولا يعرف إلا من هذه الرواية التي ذكرتها. وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 238) في ترجمة (ابن سنة): "روى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا ليس إسناده بالقائم؛ لأن راويه إسحاق بن أبي فروة"، وقال ابن السكن -كما في "الإصابة" (2/ 394) -: "مخرج حديثه عن إسحاق وهو لا يعتمد عليه" وضعفه جدًا "أي إسحاق" في "الإصابة"، وفي "تعجيل المنفعة" (ص 251)، وضعفه أيضًا ابن عبد البر في "الاستيعاب". (¬4) رواه ابن عدي في "الكامل" (6/ 2080)، والبزار (3287 - زوائده)، والبيهقي في =

يقال: "العلماءُ غرباءُ لكثرة الجهال"، ثم ذكر عن مالك عن زيد بن أسلم في قوله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] قال: بالعلم (¬1)، وقال ابن عباس في قول اللَّه تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] قال: يرفع اللَّه الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يوتَوُا العلم درجات (¬2). ¬

_ = "الزهد" (207)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1052، 1053)، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (23)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 5/ 167 - 168 رقم 1479)، والقاضي عياض في "الإلماع" (18 - 19)، وابن عبد البر في "الجامع" (1902)، وفيه زيادة ومغايرة في اللفظ. وكثير هذا تقدم حاله، وهو ضعيف جدًا. والحديث دون ذكر "من هم الغرباء": أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الإيمان): باب رفع الأمانة والإيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب (1/ 130/ رقم 415) من حديث أبي هريرة وابن عمر -رضي اللَّه عنهم-. وأخرجه مع تفسيرهم بـ "النزاع من القبائل": الترمذي في "العلل الكبير" (2/ 854)، وابن ماجه في "السنن" (2/ 1320/ رقم 3988)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 236) -ومن طريقه أحمد، وابنه عبد اللَّه في "المسند" (1/ 398)، وأبو يعلى في "المسند" (رقم 4975)، والآجري في "الغرباء" (رقم 2)، وابن وضاح في "البدع" (ص 65)، والخطابي في "غريب الحديث" (1/ 174 - 175)، والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص 23)، والبغوي في "شرح السنة" (رقم 64)، وابن حزم في "الإحكام" (8/ 37)، والطحاوي في "المشكل" (1/ 298)، والبيهقي في "الزهد" (رقم 208). وقال البخاري -كما نقل عنه الترمذي في "العلل"-: "وهو حديث حسن"، وصححه البغوي. وأخرجه مع تفسيرهم بـ "الذين يصلحون عند فساد الناس": أبو عمرو الداني في "السنن الواردة في الفتن" (ق 25/ أو رقم 288 - المطبوع)، والآجري (رقم 1) من حديث ابن مسعود بإسناد صحيح. وأخرجه أحمد وابنه عبد اللَّه في "المسند" (1/ 184)، وأبو يعلى في "المسند" (2/ 99/ رقم 756)، والبزار في "لمسند" (رقم 56 - مسند سعد) -دون زيادة- والدورقي في "مسند سعد" (رقم 87)، وابن منده في "الإيمان" (رقم 424) بإسناد صحيح. وانظر: "السلسلة الصحيحة" (رقم 1273) لشيخنا الألباني رحمه اللَّه تعالى. (¬1) أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (4/ 1335 رقم 7550). (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ 3344 رقم 18847)، وعزاه في "الدر المنثور" (83/ 8) لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم في "تفاسيرهم".

فصل [نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم]

وروى هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] قال: بالعلم (¬1)، وإذا كان المقلِّد ليس من العلماء باتفاق العلماء لم يدخل في شيء من هذه النصوص، وباللَّه التوفيق. فصل [نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم] وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذَمّوا من أخذ أقوالهم بغير حجة؛ فقال الشافعي: مَثَلُ الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري، ذكره البيهقي (¬2). وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول "مختصره" (¬3): اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعْلامِيَّة نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه. وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فخذ به، ثم التابعين (¬4) بعدُ الرجلُ فيه مخيَّر (¬5). وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع فقال أبو داود: سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن أصحابه، ثم هو بَعدُ في التابعين مخيَّر (¬6). وقال أيضًا: لا تقلِّدني ولا تقلد مالكًا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا (¬7). ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ 483 رقم 2552)، وابن عبد البر في "الجامع" (234) من طريق عفيف بن سالم عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. (¬2) أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي" (2/ 143)، و"المدخل" (263). وأخرجه بنحوه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبه" (ص 100)، ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 125). (¬3) (1/ 4 - مع "الحاوي الكبير" ط دار الفكر). (¬4) في المطبوع و (ق): "التابعي". (¬5) انظر: "مسائل أبي داود" (ص 277)، و"إيقاظ همم أولي الأبصار" (ص 113) للفُلَّاني. (¬6) بالنص: كما في المخطوطة الظاهرية، وانظر: "مسائل أبي داود" (ص 276)، و"إيقاظ همم أولي الأبصار" (ص 113). (¬7) انظر: "إيقاظ همم أولي الأبصار" (ص 113)، و"الإنصاف" (ص 105) للدهلوي، و"مختصر =

فصل [مناظرة بين مقلد وصاحب حجة]

وقال: مِن قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال (¬1). وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحلُّ لأحدٍ أن يقولَ مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا (¬2). وقد صرَّح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النَّخَعي أنه يُستتاب، فكيف من (¬3) ترك قول اللَّه ورسوله لقول مَنْ هو دون إبراهيم أو مثله (¬4)؟ وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقيُّ: حدثني الهيثم بن جميل، قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد اللَّه إن عندنا قومًا وضعوا كتبًا يقول أحدهم: ثنا فُلان، عن فلان، عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بكذا وكذا، و [حدثنا] فلان عن إبراهيم بكذا، ونأخذ (¬5) يقول إبراهيم. قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يُستتابون (¬6)، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. فصل [مناظرة بين مقلِّد وصاحب حُجَّة] في عقد مجلس مناظرة بين مقلد (¬7) وصاحب حجة منقاد للحق حيث كان. قال المقلد: نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول اللَّه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فأمر اللَّه سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نص قولنا؛ وقد أرشد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشَّجَّة: "ألا سألوا [إذ] (¬8) لم يعلموا، إنما شفاءُ ¬

_ = المؤمَّل في الرد إلى الأمر الأوَّل" (ص 61) لأبي شامة المقدسي. (¬1) انظر: "إيقاظ همم أولي الأبصار" (ص 113). (¬2) أخرجه البيهقي في "المدخل" (262). (¬3) في المطبوع: "بمن". (¬4) انظر: القصة الآتية. و"النخعي" سقطت من (ك). (¬5) في جميع الأصول: "يأخذ". (¬6) رواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 120 - 121) بسنده إلى الفريابي. ووقع في (ك): "العرماني" به، وما بين المعقوفتين منه، وسقط من جميع الأصول. (¬7) في (ن): "مجلس بين مناظرة وبين مقلد". (¬8) في نسخة (ط) و (ك) و (ق): "إذا".

العِيِّ السؤال" (¬1) وقال أبو العَسيف الذي زنى بامرأة مستأجِرِه: "وإني سألت أهل ¬

_ (¬1) رواه الأوزاعي، وقد اختلف عنه: فرواه ابن ماجه (572) في (الطهارة): باب المجروح تصيبه الجنابة، والدارقطني (1/ 190 - 191)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 317 - 318)، وأبو يعلى (2420)، والحاكم (1/ 178)، والبيهقي في "الخلافيات" (2/ 493 رقم 836) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 68) من طرق عنه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه قصة. ورواه الدارمي (1/ 192)، وأحمد (1/ 330)، والبخاري في "التاريخ" (8/ 288)، وأبو داود (337) في (الطهارة): باب في الجروح، والدارقطني (1/ 191 - 192)، والبيهقي (1/ 227)، وفي "الخلافيات" (2/ 493 رقم 837) من طرق عنه بلغني أن عطاء بن أبي رباح قال: أنه سمع ابن عباس به. ووقع تصريح عطاء بسماعه من ابن عباس من رواية الوليد بن عبيد اللَّه بن أبي رباح -وهو ضعيف- عنه، رواه: ابن خزيمة (273) وابن حبان (1314)، وابن الجارود (128)، والحاكم (1/ 165)، والبيهقي (1/ 226)، وفي "الخلافيات" (2/ 506 رقم 847)، وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 147 - 148). ورواه عبد الرزاق (867)، ومن طريقه الدارقطني (1/ 191) والبيهقي في "الخلافيات" (2/ 495 رقم 838) عن رجل عن عطاء به. لكن رواه الطبراني في "الكبير" (11472) من طريق عبد الرزاق فقال: عن الأوزاعي سمعتُه مِنْ أو أُخْبِرتُه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس، على الشك، ولعل هذا من عبد الرزاق. وقال أبو حاتم وأبو زرعة -كما رواه عنهما ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 37) -: روى هذا الحديث ابن أبي العشرين عن الأوزاعي عن إسماعيل بن مسلم عن عطاء عن ابن عباس، وأفسد الحديث. أقول: إذا كان إسماعيل هو المجهول في السند السابق، فهو ضعيف. ورواه الحاكم (1/ 178) من طريق بشر بن بكر حدثني الأوزاعي حدثنا عطاء بن أبي رباح أنه سمع عبد اللَّه بن عباس (فذكره) هكذا موصولًا. وقال الحاكم: وقد رواه الهِقْل -وهو من أثبت أصحاب الأوزاعي-، ولم يذكر سماع الأوزاعي من عطاء. أقول: وبشر هذا قال عنه مسلمة بن قاسم: يروي عن الأوزاعي أشياء انفرد بها، وقال الحافظ في "التقريب": "ثقة يغرب". ورواية هِقْل عند: الحاكم (1/ 178)، والدارقطني (1/ 190، 191)، وأبو يعلى (2420) وتابعه، ابن أبي العشرين: رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (526) من طريق هشام بن عمار عنه عن الأوزاعي حدثنا عطاء به. وعبد الحميد هذا روايته المتقدمة عند ابن ماجه (572)، وليس فيها تصريح!! وهو عنده أخطاء، والراوي عنه هشام له أخطاء أيضًا. =

العلم فأخبروني أنما على ابني جلدُ مئة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم" (¬1) فلم يُنكر عليه تقليد من هو أعلم منه، وهذا عالم الأرض عمر قد قلَّد أبا بكر؟ فروى شعبةُ، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، أن أبا بكر قال في الكَلَالة: أقضي فيها، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان واللَّه منه برئ، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب: إني لأستحيي من اللَّه أن أخالف أبا بكر (¬2). وصحَّ عنه أنه قال له: رأيُنا لرأيك تبعٌ (¬3). ¬

_ = والحديث رواه أبو داود (336)، والدارقطني (1/ 190)، والبيهقي (1/ 227 - 228) وفي "الخلافيات" (2/ 489 - 490 رقم 834، 835 - بتحقيقي)، و"المعرفة" (1/ 301 - 302 رقم 347)، والبغوي (313)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/ 191 رقم 1163) من طريق الزبير بن خُريق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر به. ورجح الدارقطني والبيهقي رواية الأوزاعي وقال الدارقطني: "لم يروه عن عطاء عن جابر غير الزبير بن خُربق وليس بالقوي" وضعفه أبو داود والبيهقي والذهبي بابن خريق في "المهذب" (1/ 138 رقم 841) وقبله ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 22). فرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو منقطع، ولذلك ضعفه ابن حجر في "بلوغ المرام" (رقم 134)، والغساني في "تخريج الأحاديث الضعاف من "سنن الدارقطني"" (رقم 114)، وشيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (1/ 142) وهو الظاهر. وانظر: "تحفة المحتاج" (1/ 226) لابن الملقن، و"التلخيص الحبير" (1/ 147). وفي الباب عن أبي سعيد. رواه: ابن عدي (5/ 1780)، والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 848 - بتحقيقي)، وإسناده ضعيف جدًا، فيه عمرو بن شمر، وهو متروك. وله علل أخرى، وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 148). (¬1) أخرجه البخاري (6827، 6828) (الحدود): باب الاعتراف بالزنا، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) رواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 127) من طريق شعبة به. ورواه عبد الرزاق (10/ 304 رقم 19191)، وابن أبي شيبة (11/ 415 - 416)، وسعيد بن منصور (3/ 1185 رقم 591)، والدارمي (2/ 365)، وابن جرير (6/ 283 - 284)، والبيهقي (6/ 224) من طرق عن عاصم الأحول به. وتابع عاصمًا: جابر الجعفي. رواه عبد الرزاق (19190)، وابن جرير (6/ 284). وإسناده منقطع، الشعبي لم يدرك أبا بكر. وأورده ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 911/ رقم 1712) عن ابن مسعود ولم بسنده. (¬3) ذكر المؤلف رحمه اللَّه (ص 533) أن هذا القول لعمر في بعض طرق الحديث الذي رواه طارق بن شهاب عن أبي بكر. وحديث طارق هذا رواه البخاري في "صحيحه" (7221) مختصرًا وذكر الحافظ في =

وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ يقول عمر (¬1). وقال الشعبي، عن مسروق: كان ستة من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، وأبو موسى، وكان ثلاثة منهم يَدَعون قَوْلَهم لقول ثلاثة: كان عبد اللَّه يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي، وكان زيد يدع قوله لقول أُبيّ بن كَعْب (¬2). وقال جُنْدب: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس (¬3). وقد ¬

_ = "الفتح" (13/ 210) أن الحافظ البرقاني في "مستخرجه" ساقها ثم نقلها عن الحميدي في "الجمع بين الصحيحين". ثم وجدت القصة في "سنن البيهقي" (8/ 335) و"جامع بيان العلم" (1829) فلم أجد هذه العبارة عندهما واللَّه أعلم. (¬1) كان ابن مسعود مجلًا لعلم عمر بن الخطاب وقد أثنى عليه كثيرًا، سبق وأن ذكر طائفة من أقواله المؤلفُ في بداية كتابه هذا، وقد عقد الطبراني فصلًا في "معجمه الكبير" في ترجمة ابن مسعود في ثنائه على عمر بن الخطاب (9/ 176 وما بعدها) فلينظر فإنه هام. وأما أن ابن مسعود كان يأخذ يقول عمر فقد روى الطبراني في "معجمه" (8802) و (8806)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 61) بأسانيد صحيحة عن زيد بن وهب (وهو ثقة مخضرم) قال: تمارى رجلان في آية من القرآن فأتيا عبد اللَّه بن مسعود، فقال أحدهما: أقرأنيها أبو عمرة وقال الآخر: أقرأنيها عمر. فلما ذكر عمر بكى عبد اللَّه وهو قائم ومسح عينيه ونفض يده في الحصا، ثم قال: اقرأها كما أقرأكها عمر. . .، عمر كان أتقانا وأقرأنا لكتاب اللَّه. وروى الطبراني (8834) من طريق معاوية بن عمرو عن زائدة عن الأعمش عن شقيق عن ابن مسعود قال: إن عمر كره الصلاة بعد العصر وأنا أكره ما كره عمر. بإسناده على شرط الصحيح. وانظر -لزامًا- "الإحكام" (6/ 62) فقد ذكر أشياء اختلف فيها ابن مسعود مع عمر، ثم قال: "والعجب كله ممن يحتج بالكذب من أن ابن مسعود كان يقلد عمر، وهم لا يرون تقليد عمر ولا ابن مسعود في كل أقوالهما". (¬2) رواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 67) من طريق جابر الجعفي عن الشعبي به. وروى نحوه الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/ 444 - 445)، وابن سعد (2/ 351)، والبيهقي في المدخل (145) و (146) و (147) و (148) من طرق عن الشعبي عن مسروق. ورواه الطبراني في "الكبير" (8513) من طريق القاسم عن مسروق. قال الهيثمي (9/ 160): ورجاله رجال الصحيح غير القاسم وهو ثقة. وروى ابن سعد (2/ 351)، وأبو خيثمة في "العلم" (رقم 94)، والبيهقي (149) نحوه من قول الشعبي. ووقع في (ك): "يدعون قولهم لثلاثة". (¬3) روى ابن حزم في "الإحكام" (6/ 67) عن جابر الجعفي -وهو ضعيف- عن الشعبي: أن جندبًا ذكر له قول في مسألة في الصلاة لابن مسعود. فقال جندب:. . . وذكره.

قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن معاذًا قد سن لكم سنة، فكذلك فافعلوا" (¬1) في شأن الصلاة حيث تأخَّر فصلى ما فاته [من الصلاة] (¬2) مع الإِمام بعد الفراغ، وكانوا يصلون ما فاتهم أولًا ثم يدخلون مع الإِمام. قال المقلد: وقد أمر اللَّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر -وهم العلماء، أو العلماء والأمراء (¬3) - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم. وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وتقليدهم اتباع لهم، ففاعله ممن رضي اللَّه عنهم، ويكفي في ذلك الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم بأيِّهِمُ اقتديتم اهتديتم" (¬4). ¬

_ (¬1) هو جزء من حديث طويل رواه أحمد (5/ 246)، وأبو داود (507) في الصلاة: باب كيف الأذان، والحاكم (2/ 274)، والبيهقي (2/ 296)، و (3/ 93) من طريق المسعودي عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل به مرفوعًا. وهذا إسناد منقطع؛ عبد الرحمن لم يسمع من معاذ؛ كما قال الحافظ في "التلخيص" (2/ 42). ورواه أبو داود (506)، والبيهقي من طريقه (3/ 93)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 70 - 71) من طريق شعبة عن عمرو بن مرة: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أحيلت الصلاة، ثم قال: حدثنا أصحابنا. . . وفيه: "فقال معاذ". وقال البيهقي (2/ 296): وهذا أصح لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذًا. ففيه جهالة الأصحاب، وضعفه ابن حزم، خلافًا لما نقله ابن التركماني عنه!! (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع و (ك) و (ق). (¬3) انظر ما تقدم عند المصنف، وهناك التفصيل والتخريج. (¬4) ورد بألفاظ متقاربة عن جماعة من الصحابة رضوان اللَّه عليهم، هم: • ابن عباس، أخرجه أبو العباس الأصم في "حديثه" (رقم 142) -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" (رقم 152) - والخطيب في "الكفاية" (48)، والديلمي في "الفردوس" (4/ 75) من طريق سليمان بن أبي كريمة عن جويبر عن الضحاك به. وإسناده ضعيف جدًا، آفته ابن أبي كريمة ضعيف، وجويبر متروك، والضحاك لم يلق ابن عباس، ولذا قال الزركشي في "المعتبر" (ص: 83): "وهذا الإسناد فيه ضعفاء". وأخرجه البيهقي من حديث أبي زرعة ثنا إبراهيم بن موسى ثنا يزيد بن هارون عن جويبر عن جواب بن عبيد اللَّه رفعه. ثم قال البيهقي: "هذا حديث مشهور، وأسانيده كلها ضعيفة، لم يثبت منها شيء". وأخرجه أبو ذر الهروي في كتاب "السنة" من حديث مندل عن جويبر عن الضحاك بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = مزاحم منقطعًا، وهو في غاية الضعف، قاله ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 191). ورواه ابن بطة في "الإبانة" (رقم 702) من طريق آخر عن ابن عباس، وفيه حمزة بن أبي حمزة، وهو كذاب. • جابر، أخرجه الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (4/ 1778)، -ومن طريقه ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 925/ رقم 1760) -، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 82) من طريق سلام بن سليم عن الحارث بن غصين عن الأعمش عن أبي سفيان به. قال ابن عبد البر عقبه: "هذا إسناد لا تقوم به حجة؛ لأن الحارث بن غصين مجهول". وقال ابن حزم: "هذه رواية ساقطة، أبو سفيان ضعيف، والحارث بن غصين هذا هو أبو وهب الثقفي، وسلام بن سليمان يروي الأحاديث الموضوعة، وهذا منها بلا شك". قلت: أبو سفيان أخرج له مسلم في "صحيحه"، وهو صدوق. وقال ابن طاهر: "هذه الرواية معلولة بسلام المدائني، فإنه ضعيف"، نقله عنه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 230)، وبه أعله شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم 58). وأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" من طريق آخر عن جابر، ثم قال: "هذا لا يثبت عن مالك، ورواته عن مالك مجهولون"، أفاده الزيلعي وابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 190). • أبو هريرة، أخرجه القضاعي في "مسند الشهاب" (2/ 275/ رقم 1346)، وهو معلول بجعفر بن عبد الواحد، وقد كذبوه. • حديث ابن عمر، أخرجه عبد بن حميد في "المنتخب" رقم (783)، والدارقطني في "فضائل الصحابة" -كما قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 231)، وابن الملقن في "تذكرة المحتاج" (ص: 68)، وليس له وجود في القطعة المطبوعة من "فضائل الصحابة"- وابن بطة في "الإبانة" (رقم 701)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 785، 785 - 786)، وأبو ذر في "السنة" -كما في "المعتبر" (ص 81) - من طريق حمزة الجزري عن نافع به، لكنه قال بدل "اقتديتم": "بأيهم أخذتم بقوله اهتديتم"، وهو هو. وذكره ابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1759) عن ابن عمر معلقًا من طريق حمزة، وقال: "هذا إسناد لا يصح، ولا يرويه عن نافع من يحتج به لا، وعنه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 83) وقال: "فقد ظهر أن هذه الرواية لا تثبت أصلًا، بل لا شك أنها مكذوبة، وأسهب في بيان بطلان هذا الحديث دراية بكلام متين حسن، وكان قد بيَّن قبل (5/ 64) تحت باب (ذم الاختلاف) بطلان هذا الحديث، وقال عنه: "وهذا الحديث باطل مكذوب، من توليد أهل الفسق لوجوه ضرورية" وساق ثلاثة منها. وقال ابن عدي في ترجمة (حمزة) وساق له أحاديث: "وكل ما يرويه أو عامته مناكير موضوعة، والبلاء منه"، وقال ابن حجر في "المطالب العالية" (4/ 146)، وعزاه لعبد: =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = "فيه ضعيف جدًا"، وقال ابن طاهر: "حمزة النصيبي كذاب"، قال: "ورواه بشر بن الحسين الأصبهاني عن الزبير بن عدي عن أنس، وبشر هذا يروي عن الزبير الموضوعات"، أفاده الزيلعي. • حديث أنس، وعزاه ابن حجر في "المطالب العالية" (4/ 146/ رقم 4193) لابن أبي عمر في "مسنده" عن أنس، وقال: "إسناده ضعيف" وأسنده -أي: ابن حجر- في "موافقة الخبر الخبر" (1/ 147) من طريق ابن أبي عمر، وقال: "وفي إسناده ثلاثة ضعفاء في نسق سلام وزيد ويزيد، وأشدهم ضعفًا سلام" وكان قد ذكر أن سلامًا خالف عبد الرحيم بن زيد، فقال: "عن أنس"، وقال عبد الرحيم: "عن عمر"، وروايته هي الآتية. • حديث عمر بن الخطاب (1)، أخرجه ابن بطة في "الإبانة" (رقم 700)، والخطيب في "الكفاية" (48) و"الفقيه والمتفقه" (1/ 177)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 151)، ونظام الملك في "الأمالي" (رقم 21 - بتحقيقي)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 1057)، والديلمي في "مسنده" (2/ 190)، والضياء في "المنتقى من مسموعاته بمرو" (2/ 116)، وكذا ابن عساكر (6/ 303/ 1)، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/ 146 - 147) من طريق نعيم بن حماد ثنا عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب به. وإسناده هالك، قال ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 700 - 701): "هذا حديث ضعيف من هذا الوجه؛ فإن عبد الرحيم بن زيد هذا كذبه ابن معين، وضعفه غير واحد من الأئمة". ثم قال: "إلا أن هذا الحديث مشهور في ألسنة الأصوليين وغيرهم من الفقهاء، يلهجون به كثيرًا محتجين به وليس بحجة، واللَّه أعلم". وأعله الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 232)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 294) بالعمي، وقال الأول: "وفيه أيضًا شائبة الانقطاع بين سعيد وعمر"، وقال الثاني: "والكلام أيضًا منكر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وعزاه الزركشي في "المعتبر" (ص 80) للدارمي في "مسنده"، ولم أظفر به في "سننه" المطبوعة، وضعفه بالعمي والانقطاع، ورده بقوله: "لكن ذكرت في باب الوتر من "الذهب الابريز" ما يصحح سماعه منه" وحكم عليه شيخنا في "الضعيفة" (رقم 60) بالوضع، وعلى كل حال الحديث ليس بصحيح، ومتنه منكر، ولا يجوز الاحتجاج به. ولا التفات إلى تصحيح الشعراني له في "الميزان الكبرى" (1/ 30) بالكشف، فهي دعوى فارغة أدخلت شرورا وآفات وبلايا ورزايا لا تحصى. وبهذا حكم عليه الحفاظ، وهذا بعض منهم: • قال البزار -وقد سئل عن هذا الحديث-: "منكر، ولا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، نقله ابن عبد البر وابن الملقن في " تذكرة المحتاج" (ص 68)، وابن حجر في "موافقة = _______ (1) ووود من حديث معاذ عند النسفي "القند" (ص 537) وإسناده واهٍ جدًا.

وقال عبد اللَّه بن مسعود: من كان منكم مُستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم (¬1). ¬

_ = الخبر الخبر" (1/ 147)، والزركشي في "المعتبر" (83)، والمصنف فيما يأتي. • قال ابن الجوزي في "العلل المنناهية" (1/ 283): "هذا لا يصح". • قال ابن حزم في رسالته الكبرى "في الكلام على إبطال القياس والتقليد وغيرهما": "هذا حديث مكذوب موضوع باطل، لم يصح قط"، وبنحوه قال في "الإحكام" (5/ 64). • وأشار ابن الملقن في "تحفة المحتاج" (ص 67 - 68) إلى بعض طرقه، وقال: "وكلها معلولة". • وقال البيهقي في "الاعتقاد" (ص 319) بعد أن ذكر حديث أبي موسى المرفوع: "النجوم أمنة السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهب أصحابي أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون": "رواه مسلم [في "صحيحه"، رقم (2531)] بمعناه، وروي عنه في حديث بإسناد غير قوي، وفي حديث منقطع، أنه قال: "مثل أصحابي كمثل النجوم في السماء، من أخذ بنجم منهم اهتدى"، قال: "والذي روينا هاهنا من الحديث الصحيح يؤدي بعض معناه". وتعقبه الزركشي في "المعتبر" (ص 84) بقوله: "ولا يخلو عن نظر"، وبين ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 191) وجهه؛ فقال: "هو -أي: حديث أبي موسى- يؤدي صحة التشبيه للصحابة بالنجوم خاصة، أما في الإقتداء، فلا يظهر من حديث أبي موسى". • وقال العلائي في "إجمال الإصابة" (ص 58): "روي من طرق في كلها مقال". بقي بيان وجه من قال بنكارته، وهو أنه لو كان صحيحًا ما خطأ بعضهم بعضًا ولا أنكر بعضهم على بعض، ولا رجع أحد إلى قول صاحبه، وإنما لقال كل لصاحبه: بأينا اقتدى الآخر في قوله؛ فقد اهتدى، ولكن كل منهم طلب البينة والبرهان على قوله: فثبت نكارته، أفاده المزني. ونقله عنه ابن عبد البر في "الجامع" (2/ 110 - ط القديمة) وغيره وسيأتي تضعيف المصنف له. (¬1) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (1810)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 188) ورزين -كما في "المشكاة" (1/ 67 - 68) - عن قتادة به، فهو منقطع وعزاه المصنف فيما يأتي لأحمد. وفي "الحلية" (1/ 305 - 306): من طريق عمر بن نبهان عن الحسن عن ابن عمر قاله: "من كان مستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك. . . ". وهذا إسناد ضعيف، لضعف عمر بن نبهان.

وقد صحَّ (¬1) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (¬2) وقال: "اقتدوا باللّذيْنِ من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وقد روي".!! (¬2) أخرجه أحمد في "المسند" (4/ 126، 127)، وأبو داود في "السنن" (كتاب السنة، باب في لزوم السنة، 4/ 200 - 201/ رقم 4607)، والترمذي في "الجامع" (أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع، 5/ 44/ رقم 2676)، وابن ماجه في "السنن" (المقدمة، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، 1/ 15 - 16، 16، 17/ رقم 42 - 44)، وابن جرير في "جامع البيان" (10/ 212)، والدارمي في "السنن" (1/ 44)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 205/ رقم 102)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1/ 17، 18، 19، 20، 29، 30)، ومحمد بن نصر في "السنة" (ص 21، 22)، والحارث بن أبي أسامة في "المسند" (ق 19 - مع بغية الباحث)، والآجري في "الشريعة" (ص 46، 47)، وابن حبان في "الصحيح" (1/ 104/ رقم 45 - مع الإحسان)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 245، 246، 247، 248، 249، 257)، و"المعجم"الأوسط" (رقم 66)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 222 - 224)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 95 - 96، 96، 97)، و"المدخل إلى الصحيح" (1/ 1)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (2/ 423)، و"الفقيه والمتفقه" (1/ 176 - 177)، والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 10 - 11)، و"الاعتقاد" (ص 113)، و"دلائل النبوة" (6/ 541، 541 - 542)، و"المدخل إلى السنن الكبرى" (ص 115، 155 - 116/ رقم 50 و 51)، و"السنن الكبرى" (10/ 114)، وابن وضاح في "البدع" (ص 23، 24)، وأبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 220، 221 و 10/ 114، 115)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 69)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/ 74، 75)، والهروي في "ذم الكلام" (69/ 1 - 2)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (11/ 265/ 1)، وأحمد بن منيع في "المسند" -كما في "المطالب العالية" (89/ 3) - من طرق كثيرة عن العرباض بن سارية -رضي اللَّه عنه-. وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وقال الهروي: "وهذا من أجود حديث في أهل الشام"، وقال البزار: "حديث ثابت صحيح"، وقال البغوي: "حديث حسن"، وقال ابن عبد البر: "حديث ثابت"، وقال الحاكم: "صحيح ليس له علة"، ووافقه الذهبي، وقال أبو نعيم: "هذا حديث جيد من صحيح حديث الشاميين"، وصححه الضياء المقدسي في "جزء في اتباع السنن واجتناب البدع" (رقم 2)، وقال ابن كثير في "تحفة الطالب لمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب" (رقم 36): "صححه الحاكم وقال: ولا أعلم له علة، وصححه أيضًا الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والدغولي، وقال شيخ الإِسلام الأنصاري: هو أجود حديث في أهل الشام وأحسنه". قلت: وقد احتج بهذا الحديث الإِمام أحمد لما سئل عن فعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي -رضي الله عنهم- أكان سنة؟. "قال: نعم"، قال أبو داود؛ "وقال مرة: لحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين"، فسماها سنة،. . . " انظر: "مسائل أبي داود" (ص 277). =

بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبْد" (¬1) وقد كتب عمر إلى شريح: أن أقْضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاقْضِ بما قضى به الصالحون (¬2). وقد منع عمر من بيع أمهات الأولاد (¬3) وتبعه الصحابة، وألزم بالطلاق الثلاث (¬4) فتبعوه أيضًا، واحتلم [أيضًا] مرة فقال له عمرو بن العاص: خُذ ثوبًا غير ثوبك، فقال: لو فعلتها لصارت سنة (¬5)، وقال أبيُّ بن كعب وغيره من ¬

_ = وانظر: "إرواء الغليل" (8/ 107/ رقم 2455)، و"جامع العلوم والحكم" (ص 187) و"المعتبر" للزركشي (1/ 187) مخطوط. (¬1) الحديث صحيح بشواهده وقد خرجته مطولًا في تعليقي على "المجالسة" (رقم 3528) من حديث ابن مسعود، وفي تعليقي على "الاعتصام" (3/ 285 - 286) من حديث حذيفة، فراجعهما، واللَّه الموفق. (¬2) أخرجه النسائي في "المجتبى" (كتاب آداب القضاة، باب الحكم باتفاق أهل العلم، 8/ 231)، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (رقم 133)، والدارمي في "سننه" (1/ 60)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 241 - ط دار الفكر) ومن طريقه ابن أبي عاصم -كما في "مسند الفاروق" (2/ 548) -، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (رقم 134)، وسعيد بن منصور -ومن طريقه البيهقي في "الكبرى" (10/ 110) -، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 99)، وابن عبد البر -المذكور لفظه- في "الجامع" (2/ 846/ رقم 1595)، وابن حزم في "الإحكام"، (6/ 29 - 30)، والبيهقي (10/ 115) من طرق عن الشعبي عن شريح أنه كتب إلى عمر -رضي الله عنه-، يسأله: فكتب إليه، وذكروه بألفاظه، منها المذكور هنا، وإسناده صحيح، وصححه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/ 120)، وعزاه ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 548) لأبي يعلى، وفي آخره قصة رؤيا عامل عمر على حمص اقتتال الشمس والقمر، وإسنادها ضعيف. (¬3) رواه أبو داود (3954) (كتاب العتق): باب بيع أمهات الأولاد، وابن حبان (4324)، والحاكم (2/ 18 - 19)، والبيهقي (10/ 347) من طرق عن حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء بن أبي رباح عن جابر. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. ووقع في المطبوع: "عن بيع أمهات الأولاد". (¬4) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الطلاق: باب طلاق الثلاث/ رقم: 1472)، من حديث ابن عباس. (¬5) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 50 - رواية يحيى و 1/ 56/ رقم: 137 - رواية أبي مصعب) عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أنه اعتمر مع عمر بن الخطاب في رَكْب فيهم عمرو بن العاص وذكر القصة وظاهر الإسناد أن يحيى هذا لقي عمر ولكن الثابت في ترجمته أنه مات بعد المئة فهو لم يدرك عمر قطعًا وأظنه =

الصحابة: ما استبان لك فأعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه (¬1). وقد كان الصحابة يُفتون ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيٌّ بين أظهرهم، وهذا تقليدٌ لهم قطعًا؛ إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و [قد] (¬2) قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فأوْجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا تقليدٌ منهم للعلماء. وصح عن ابن الزبير أنه سئل عن الجد والإخوة، فقال: أما الذي قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذته خليلًا" (¬3) فإنه أنزله أبًا، وهذا ظاهرٌ في تقليده له، وقد أمر اللَّه سبحانه بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليد له، وجاءت الشريعة بقبول قول القائف والخَارِص (¬4) والقاسم والمُقَوِّم ¬

_ = سقط من السند -عن أبيه- إذا أن أباه عبد الرحمن له رؤية. وأخرج القصة البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 170)، وفي "المعرفة" (1/ 265)، والخطيب في "التالي" (رقم: 203 - بتحقيقي) من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن زبيد بن الصلت قال: صلى عمر. . فذكره لكن ليس فيها موطن الاحتجاج: لو فعلتها لصارت سنة. وانظر "الاستذكار" (3/ 116). ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬1) رواه ابن أبي شيبة (10/ 489)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 39 - 40) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 93) - من طريق أسلم المنقري عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن أبي بن كعب به. أقول: رجاله ثقات، أما عبد اللَّه بن عبد الرحمن، فقد قال الأثرم: قلت لأحمد: سعيد وعبد اللَّه أخوان؟ قال: نعم، قلت؟ فأيهما أحب إليك؟ قال: كلاهما عندي حسن الحديث. وذكره ابن حبان وابن خلفون في "الثقات" وقال الحافظ في "التقريب": صدوق. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 4 و 5) والبخاري (3658) في "فضائل "الصحابة" باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا". وقريبًا منه رواه البخاري (6738) في الفرائض: باب ميراث الأب والإخوة من حديث ابن عباس ومتن الحديث ثابت عن عدد من الصحابة في "الصحيحين" وغيرهما. وقال الفيروزآبادي في "البصائر" (2/ 558) عقبه وعقب حديث آخر نصه: "إن اللَّه تعالى اتخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلا". قال: "والحديثان في "الصحيحين"، وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإبراهيم خليله ومحمد حبيبه". (¬4) "خرص النخلة والكرمة: حرز ما عليها من الرطب تمرًا، ومن العنب زبيبا، وفاعل ذلك: الخارص. والقائف: الذي يتتبع الآثار، ويعرفها، ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه" (و).

للمتلفات وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض. وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرِّف والمعدِّل وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد، وذلك تقليد محض لهؤلاء (¬1). وأجمعوا على جواز شراء اللُّحمان والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها وتحريمها اكتفاءً بتقليد أربابها, ولو كُلِّف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء [فضلاء] (¬2) لضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وكان الناس كلهم علماء مجتهدين، وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا، والقدر قد منع من وقوعه. وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يُهْدين إليه زوجته وجواز وطئها تقليدًا لهن في كونها هي زوجته. وأجمعوا على أن الأعمى يُقلَّد في القبلة (¬3)، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وما يصح به الاقتداء، وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيُباح للزوج وطؤها بالتقليد، ويباح للولي تزويجها بالتقليد لهادي انقضاء عدتها، وعلى جواز تقليد الناس للمؤذِّنين في دخول أوقات الصلوات، ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل. وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث: أرضعتُكَ وأرضعتُ امرأتك، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بفراقها وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك (¬4). وقد صرَّح الأئمة بجواز التقليد، فقال حفصُ بن غِياث: سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه. ¬

_ (¬1) انظر تفصيل المسألة في "الإشراف" (5/ 22 - 23 مسألة 1695 بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) انظر: "إجماعات ابن عبد البر" (1/ 484)، "جامع بيان العلم وفضله" (446، 451). (¬4) رواه البخاري (88) في (العلم): باب الرحلة في المسألة النازلة وتعليم أهله، و (2052) في البيوع: باب تفسير المشبهات، و (2640) في الشهادات: باب إذا شهد شاهد أو شهود، و (2659) باب شهادة الإماء والعبيد، و (2660) باب شهادة المرضعة، و (5104) في النكاح: باب شهادة المرضعة، من حديث عقبة بن الحارث.

وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد من هو مثله (¬1). وقد صرح الشافعي بالتقليد فقال: في الضلع (¬2) بعير، قلته تقليدًا لعمر. وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: قلته تقليدًا لعثمان. وقال في مسألة الجد مع الإخوة: إنه يقاسمهم، ثم قال: وإنما قلت يقول زيد، وعنه قبلنا أكثر الفرائض. وقد قال في موضع آخر من كتابه الجديد: قلته تقليدًا لعطاء. وهذا أبو حنيفة رحمه اللَّه في (¬3) مسائل الآبار (¬4) ليس معه فيها إلا تقليد من تقدَّمه من التابعين فيها. وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، ويصرِّح في "موطئه" بأنه أدرك العمل على هذا، وهذا (¬5) الذي عليه أهل العلم ببلدنا. ويقول في غير موضع: ما رأيت أحدًا أَقتدي به يفعله. ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال. وقد قال الشافعي في الصحابة: رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا [ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا] (¬6). وقد جعل اللَّه سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا، وهذا (¬7) عام في كل علم وصناعة، وقد فاوت اللَّه سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوت (¬8) بين قوى الأبدان، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها؛ ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالمًا، وهذا متعلمًا، وهذا متبعًا للعالم مؤتمًا به، بمنزلة المأموم مع الإِمام والتابع مع المتبوع، وأين حَرَّم اللَّه تعالى على الجاهل أن يكون متبعًا للعالم مؤتمًا به مقلدًا له يسير بسيره وينزل بنزوله؟ وقد علم اللَّه سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق، فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟ وهل ذلك في إمكان [أحد] (¬9) فضلًا عن كونه مشروعًا؟ وهؤلاء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحوا البلاد، وكان الحديث العهد بالإِسلام يسألهم ¬

_ (¬1) نقل مذهبه أبو يعلى في "العدة" (4/ 1231) وصاحب "مسلم الثبوت" (2/ 293). (¬2) في المطبوع: "الضبع"!. (¬3) في المطبوع: "قال في ". (¬4) في (ق) و (ك): "الآثار". (¬5) في المطبوع: "وهو". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "وذلك". (¬8) في (ك): "فارق". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

[الرد على حجج القائلين بالتقليد]

فيفتونه، ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يُعرف ذلك عن أحد منهم ألبتة، وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود! فهو من لوازم الشرع والقدر. والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد، وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها. ونقول لمن احتج على إبطاله: كل حجة أَثريّة ذكرتها فأنت مقلد لحملَتِهَا ورُواتها؛ إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم، فليس في يدك (¬1) إلا تقليد الراوي، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم، فما الذي سَوَّغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم، وهذا سمع بأذُنه ما رواه، وهذا عقل بقلبه ما سمعه، فأدَّى هذا مسموعه، و [أدى] (¬2) هذا معقوله، وفرض على هذا تأدية ما سمعه، وعلى هذا تأدية ما عقله، وعلى من لم يبلُغ منزلتهما القبول منهما؟ ثم يقال للمانعين من التقليد: أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئًا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدل الذي طلب الحق، ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه، وهذا كمن أراد شراء سِلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء. [الرد على حجج القائلين بالتقليد] قال أصحاب الحجة: عجبًا لكم معشر (¬3) المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله (¬4)، كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم؟ فما للمقلِّد وما للاستدلال؟ وأين منصب المقلد من منصب المُسْتدل؟ وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس؟ وكنتم في ذلك متشبِّعين بما لم تعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه (¬5)؟ وذلك ثوبُ زورٍ لبستموه، ومنصبٌ لستم من أهله غصبتموه، فأخبرونا: هل صريح إلى التقليد لدليل قادكم ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بيدك". (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬3) في المطبوع: "معاشر". (¬4) في (ن) و (ق): "في زمره". (¬5) في (ك): "توفوه".

إليه، وبرهان دلَّكم عليه، فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أو سلكتم سبيله اتفاقًا وبحثًا عن غير دليل (¬1)؟ وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين [سبيل] (¬2)، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكمٌ، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم، ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم: لسنا من أهل هذه السبيل، وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل. والعجب أن كُلَّ طائفةٍ من الطوائف، وكل أمة من الأمم تدَّعي أنها على حق، حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك، ولو ادعوه لكانوا مُبطلين، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهانٍ دلَّهم عليه (¬3)، وإنما سبيلهم محض التقليد، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل. وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم، وقالوا: نحن على مذاهبهم، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوْا عليه، فإنهم بنوا على الحجة، ونهوا عن التقليد، وأوْصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله، وقالوا: نحن من أتباعهم، تلك أمانيهم، وما أَتْباعهم إلا من سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم. وأعجب من هذا أنهم مصرِّحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه، وأنه لا يحل القول به في دين اللَّه، ولو اشترط الإِمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته، ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط، وكذلك المفتي يحرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودَةٌ عليه، ثم كلٌّ منهم يعرف من نفسه أنه مقلدٌ لمتبوعه لا يفارق قوله، ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره، وهذا من أعجب العجب. وأيضًا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلًا منهم يقلّده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وتخمينا من غير دليل". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض، وسقط من (ك)، وقال في هامش (ق): "لعله: سبيل". (¬3) في (ك): "عليهم".

يأخذ منها شيئًا. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على [لسان رسول اللَّه] (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال، ويحرمونها, ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم، ولهم بين يدي اللَّه موقف شديد يعلم فيه من قال على اللَّه ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء. وأيضًا فنقول لكل من قلَّد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؛ فإن قال: "لأنه أعلم أهل عصره" وربما فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجيء بعده أعلم منه؛ قيل [له] (¬2): وما يدريك ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك أنه أعلم الأمة في وقته؟ فإن هذا إنما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها وراجحها من مرجوحها فما للأعمى ونقد الدراهم؟! وهذا أيضًا باب آخر من القول على اللَّه بلا علم، ويقال له: ثانيًا: فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس [وابن عمر] (¬3) -رضي اللَّه عنهم- أعلم من صاحبك بلا شك، فهلا قلدتهم وتركته؟ بل سعيد بن المسيب والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك، فلم تركت تقليد الأعلم الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه؟ فإن قال: "لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني، فتقليدي له أوجبُ على مخالفةِ قولهِ لقول مَنْ قلَّدتُه؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه (¬4) من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء" قيل له: ومن أين علمت أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه مَنْ هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره؟ وقولان معًا متناقضان لا يكونان صوابًا، بل أحدهما هو الصواب، ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه. فإن قلت: "علمت ذلك بالدليل" ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين سقط في (ك) و (ق): "لسانه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬4) في (ن) و (ك): "منعه".

فهاهنا إذن قد انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال، وأبطلت التقليد. ثم يقال لك: ثالثًا: هذا لا ينفعك شيئًا ألبتة فيما اختُلف فيه، فإن من قلَّدته ومن قلده غيرك قد اختلفا، وصار من قلده غيرك إلى موافقة أبي بكر أو عمر أو علي أو ابن عباس (¬1) أو عائشة وغيرهم دون من قلدته، فهلا نصحت نفسك وهُدِيت لرشدك وقلت: هذان عالمان كبيران، ومع أحدهما مَنْ ذَكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه. ويقال [له]: (¬2) رابعًا: إمامٌ بإمام، ويسلم قول الصحابي، فيكون أولى بالتقليد. ويقال: خامسًا: إذا جاز أن يظفر من قلَّدته بعلم خفي على عمر بن الخطاب وعلى علي بن أبي طالب وعبد اللَّه بن مسعود وذويهم (¬3) فـ[أحق وأحق و] (¬4) أجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومن بعده بعلم خَفِيَ عليه هو؛ فإن النسبة (¬5) بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده أقرب بكثير من النسبة (¬6) بين من قلدته وبين الصحابة، والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة. ويقال: سادسًا: إذا سوّغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلَّا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه؟ وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت؟ ويقال: سابعًا: هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر اللَّه أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة؟ فإن قال: "نعم"؛ قال ما يعلم اللَّه ورسوله وجميع العلماء بطلانه! وإن قال: "لا"؛ فقد كفانا مؤنته، وشهد على نفسه بشهادة اللَّه ورسوله وأهل العلم عليه. ويقال: ثامنًا: تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده؛ فإنه نهاك عن ذلك، وقال: لا ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "وعمر أو علي [أ] وابن عباس"، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬3) في (ك): "ودونهم" وفي (ق): "ومن دونهم". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "التشبه" وفي (ك): "التشبيه". (¬6) في (ق) و (ك): "الشبه".

يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله، ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فإن كنت مقلدًا له في جميع مذهبه فهذا [من] (¬1) مذهبه، فهلا اتبعته فيه؟ ويقال: تاسعًا: هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أوْلى بالصواب من سائر من رغبتَ عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال: "أنا على بصيرة" قال ما يعلم بطلانه، وإن قال: "لست على بصيرة" وهو الحق قيل له: فما عُذْرُكَ غدًا بين يدي اللَّه حين لا ينفعك مَنْ قلدته بحسنة واحدة، ولا يحمل عنك سيئة واحدة، إذا حكمت وأفتيت بين خَلْقه بما لست على بصيرة منه: هل هو صواب أم خطأ؟ ويقال: عاشرًا: هل تدّعي عصمة متبوعك أو تجوّز عليه الخطأ؟ والأوّل لا سبيل إليه، بل تقرّ ببطلانه؛ فتعين الثاني، وإذا جوزت عليه الخطأ فكيف (¬2) تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الفروج (¬3)، وتنقل الأملاك (¬4) وتضرب الأبْشَار يقول من أنت مُقِر بجواز كونه مخطئًا. ويقال: حادي عشر: هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته: إن هذا هو دين اللَّه الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشَرَعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين اللَّه الذي شَرَعَه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بُدَّ لك من قولٍ من هذه الأقوال، ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا؛ فإن دين اللَّه الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته، وأقل درجات مخالِفِهِ أن يكون من الآثمين، والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث، فياللَّه العجب! كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمرٍ أحْسَنُ أحواله وأفضلها لا أدري؟ فإن كنْتَ لا تَدْرِي فتلك مصيبةٌ ... وإن كنتَ تَدْرِي فالمصيبةُ أعْظم ويقال: ثاني عشر: على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالَهم بمنزلة نصوص الشارع؟ وليتكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أوْلى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ن) و (ك): "وإذا جوز عليه، فكيف"، والثمانية أفعال الآتية فيها بالياء لا التاء. (¬3) في المطبوع: "وتريق الدماء، وتبيح الدماء، وتبيح الفروج". (¬4) في المطبوع: "الأموال".

[نقول عن الأئمة في النهي عن تقليدهم]

هَدًى أو على ضلالة؟ فلا بد من أن تُقِرُّوا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن (¬1) والسنن والآثار، وتقديم قول اللَّه ورسوله وآثار أصحابه (¬2) على ما يخالفها، والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان، وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين، وكذلك يقولون: [صاحبنا] (¬3) هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف، واقتفى منهاجهم (¬4)، وسلك سبيلهم، قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد صاحبكم بالاتباع وحُرِمَهُ مَنْ عَدَاه؟ فلا بد من واحد من الأمرين، فإن قالوا بالثاني فهم أضَلُّ سبيلًا من الأنعام، وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف وفقتم (¬5) لقبول قول صاحبكم كله، ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله، فلا يردُّ لهذا قول، ولا يقبل لهذا قول، حتى كأن الصواب وَقْفٌ على صاحبكم والخطأ وَقْفٌ على من خالفه، ولهذا أنتم موكلون بنُصْرَته في كل ما قاله، وبالرد على مَنْ خالفه في كل ما قاله. وهذه حال الفرقة الأخرى معكم، ويقال: [نقول عن الأئمة في النهي عن تقليدهم] ثالث عشر: فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم فأنتم أول مخالف لهم. قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حُجَّة كمثل حاطب ليل، يحمل حُزْمَة حَطَب، وفيه أفعى تَلْدغه، وهو لا يدري (¬6). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه (¬7). وقال أحمد: لا تقلد دينك أحدًا (¬8). [عودة إلى محاجة دعاة التقليد] ويقال: رابع عشر: هل أنتم مُوقِنُونَ بأنكم غَدًا موقوفون بين يدي اللَّه، وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبْشَارهم وأموالهم، وعما أفتيتم ¬

_ (¬1) تحرف في المطبوع إلى "الران"! (¬2) في المطبوع: "وآثار الصحابة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "مناهجهم". (¬5) تصحفت في المطبوع إلى: "وقفتم". (¬6) مضى تخريجه. (¬7) مضى تخريجه. (¬8) مضى تخريجه.

به في دينه محرمين ومحللين وموجبين؟ فمن قولهم: "نحن مُوقِنُونَ بذلك" فيقال لهم: فإذا سألَكم: "من أين قلتم ذلك" فماذا جوابكم؟ فإن قلتم: "جوابُنَا إنا حللنا وحَرَّمنا وَقَضَيْنا بما في كتاب "الأصل" لمحمد بن الحسن بما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من رأي واختيار، وبما في "المُدَوَّنة" من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأي واختيار، وبما في "الأم" من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سَمَتْ هممكم (¬1) نحوه، بل نزلتم عن ذلك طبقات، فإذا سُئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي؟ فماذا يكون جوابكم إذًا؟ فإن أمكنكم حينئذٍ أن تقولوا: "فعلنا ما أمرتنا به وأمرَنا به رسولك" فُزتْمُ وتخلصتم، وإن لم يمكنكم ذلك فلا بد أن تقولوا: لم تأمرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين، وكأن قد. ويقال خامس عشر: إذا نَزَلَ عيسى ابن مريم إمامًا عَدْلًا وحكمًا مقسطًا، فبمذهب من يحكم؟ وبرأي من يقضي؟ ومعلوم أنه لا يحكم و [لا] (¬2) يقضي إلا بشريعة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- التي شَرَعها [اللَّه] (2) لعباده؟ فذلك الذي يقضي به أحق، وأولى الناس به عيسى ابن مريم هو الذي أوجب عليكم أن تَقْضُوا وتفتوا به (¬3)، ولا يحل لأحد أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه البتة. فإن قلتم: نحن وأنتم في هذا السؤال سواء، قيل: أجل، ولكن نفترق في الجواب فنقول: يا ربنا إنك لتعلم أنا لم نجعل أحدًا من الناس عيارًا على كلامك وكلام رسولك (¬4)، ونرد ما تنازعنا فيه إليه ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك، وكان الخلق عندنا أهون أن نُقَدِّم كلامهم وآراءهم على وَحْيِك، بل أفتينا بما وَجَدْناه في كتابك، وبما وَصَل إلينا من سنة رسولك وبما أفتى به أصحاب نبيك، وإن عَدَلْنا عن ذلك فخطأ منا لا عمد، ولم نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وَليجَةً، ولم نفرق ديننا ونكون شِيَعًا، ولم نقطِّع (¬5) أمرنا بيننا زُبَرًا، وجعلنا أئمتنا قدوة لنا، ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلَّغوه إلينا عن رسولك فاتبعناهم في ذلك، وقلدناهم فيه، إذ أمرتنا أنت وأمَرَنَا رسولك بأن ¬

_ (¬1) في (ك): "همتكم". (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع و (ك). (¬3) في المطبوع: "تقضوا به وتفتوا". (¬4) بعدها في المطبوع: "وكلام أصحاب رسولك". (¬5) في (ق): "نتقطع".

نسمع منهم، ونقبل ما بلغوه عنك وعن رسولك، فسمعًا لك ولرسولك وطاعة، ولم نتخذهم أربابًا نتحاكم إلى أقوالهم، ونخاصم بها، ونوالي ونعادِي عليها، بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك، فما وافقهما قبلناه، وما خالَفَهما أعرضنا عنه وتركناه، وإن كانوا أعلم منا بك وبرسولك، فمن وافق قوله قولَ رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة، فهذا جوابنا، ونحن نناشدكم اللَّه: هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي مَنْ لا يبدَّلُ القول لديه، ولا يروج الباطل عليه؟ ويقال سادس عشر: كل طائفة منكم معاشر طوائف المقلدين، قد أنزلت [جميعَ] الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا مَنْ قلدتموه (¬1) في مكان مَنْ لا يعتد بقوله، ولا ينظر في فتاواه، ولا يشتغل بها, ولا يعتد بها, ولا وجه للنظر فيها إلا للتمحل (¬2) وإعمال الفكر (¬3) وكدّه في الرد عليهم إذا خالَفَ قولُهم قولَ متبوعهم، وهذا هو المسوغ للرد عندهم (¬4)، فإذا خالف قول متبوعهم نصًا عن اللَّه ورسوله فالواجب التمحُّلُ والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحيل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم، فياللَّه لدينه وكتابه وسنة رسوله لبدعة كادت تثل عرش الإيمان (¬5) وتهدُّ ركنه لولا أن اللَّه ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بأعلامه ويذب عنه، فمَنْ أسوأ ثناء على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين، وأشد استخفافًا بحقوقهم، وأقل رعاية لواجبهم (¬6)، وأعظم استهانة بهم، ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم، ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وَليجة من دون اللَّه ورسوله؟ ويقال سابع عشر: من عجيب (¬7) أمركم أيها المقلدون أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام اللَّه وكلام رسوله، مع سهولته وقرب مأخذه، واستيلائه على أقصى غايات البيان، واستحالة الاختلاف والتناقض ¬

_ (¬1) في (ن): "قلد" وفي (ك): "قلدوه"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) قال في هامش (ق): "يقال: تمحل، أي: احتال، والمحل: المكر، والكيد". (¬3) في (ن) و (ك): "وإعمال الفكرة". (¬4) في المطبوع: اللرد عليهم عندهم"، وقبلها في (ك) و (ق): "متبوعه" بدل "متبوعهم". (¬5) في هامش (ق): "يقال ثلهم ثلًا أهلكهم". (¬6) في (ت) و (ق) و (ك): "لواجبها". (¬7) في المطبوع: "من أعجب".

[موقف المقلدين من الحديث وأمثلة عليه]

عليه؟ فهو (¬1) نَقْل مصدق عن قائل معصوم، وقد نصب اللَّه سبحانه الأدِلة الظاهرة على الحق وبين لعباده ما يتقون، فادعيتم العَجْزَ عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتوّلى (¬2) بيانه، ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه وهلم جرا، وغُلَاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم، فعجبًا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب اللَّه عليه الأدلة من الحق، ولم يهتد إليها، واهتدى إلى أن متبوعه أحَقُّ وأولى بالصواب ممن عداه، ولم ينصب اللَّه على ذلك دليلًا واحدًا. ويقال ثامن عشر: أعجب من هذا كله من شأنكم معاشر المقلدين أنكم إذا وجدتم آية من كتاب اللَّه توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها، والعمدة في نفس الأمر على ما قاله، لا على الآية، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها، وتطلبتم لها وجوه التأويل وإخراجَهَا عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه، وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء إذا (¬3) وجدتم حديثًا صحيحًا يوافق قوله أخذتم به، وقلتم: "لنا قول النبي (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- كيت وكيت"، وإذا وجدتم مئة حديث صحيح بل أكثر (¬5) تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها, ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولون: لنا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا وكذا، [وإذا وجدتم مرسلًا قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك] (¬6)، وإذا وجدتم مئة مرسل تخالف رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها، وقلتم: لا نأخذ بالمرسل. [موقف المقلدين من الحديث وأمثلة عليه] ويقال تاسع عشر: أعجب من هذا كله أنكم إذا أخذتم بالحديث مُرْسَلًا كان أو مسندًا لموافقته رأيَ صاحبكم ثم وجدتم فيه حكمًا يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك الحكم، وهو حديث واحد، وكأنَّ الحديث حجة فيما وافق رأي من قلدتموه، وليس بحجة فيما خالف رأيه. ولنذكر من هذا طرفًا فإنه من أعجب أمرهم (¬7). ¬

_ (¬1) في (ك): "واستحالة التناقض والإختلاف عليه، فهل" وفي الهامش: "لعله: ذلك"، وفي (ن) و (ق): "فهل" وفي هامش (ق): "لعله: فهو" وهو الصواب. (¬2) في (ك): " وتوالى". (¬3) في المطبوع: "لماذا". (¬4) في المطبوع: "لنا قوله". (¬5) في المطبوع: "بل وأكثر". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬7) في المطبوع: "عجيب أمرهم".

[طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها الآخر]

[طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها الآخر] فاحتج طائفة منهم على (¬1) سَلْب طَهُورِية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نهى أن يتوضأ الرجل بفَضْل وَضُوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل" (¬2) وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائهما هو فضل وضوئهما. وخالفوا نفس الحديث؛ فجوّزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر، وهو المقصود بالحديث، فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفَضْل وَضُوء المرأة إذا خَلَتْ بالماء، وليس عندهم للخلوة أثر، ولا لكون الفضلة فضلة امرأة (¬3) أثر، فخالفوا نفس الحديث الذي احتجوا به، وحملوا الحديث على غير محملِهِ؛ إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فَضَلَ منه، ليس هو الماء المتوضأ به، فإن ذاك لا يقال له فضل الوضوء، فاحتجوا به فيما لم يُرَدْ به، وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به (¬4). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "في". (¬2) رواه أبو داود الطيالسي (1252)، ومن طريقه أحمد (5/ 66) وأبو داود (82) في الطهارة: باب النهي عن ذلك، والترمذي (64) في الطهارة: باب ما جاء في كراهية فضل وضوء المرأة، وابن ماجه (373) في الطهارة: باب النهي عن ذلك، وابن حبان (1260)، والطبراني (3156)، والدارقطني (1/ 53) والبيهقي (1/ 191) من حديث الحكم بن عمرو الغفاري ولفظه: "إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة". ولتمام تخريجه، انظر: "الطهور" (193 - بتحقيقي) لأبي عبيد. أما نهي المرأة عن الوضوء بفضل الرجل، فيدل عليه ما رواه أحمد (4/ 111، 5/ 369)، وأبو داود (81): في الطهارة: باب النهي عن ذلك، والنسائي (1/ 130) في الطهارة: باب ذكر النهي عن الاغتسال بفضل الجنب، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 24)، وعبد الرزاق (1/ 106)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (51)، والبيهقي (1/ 190) عن حميد الحميري قال: لقيتُ رجلًا صحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما صحب أبو هريرة، قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تغتسل المرأة بفضل الرجل: ويغتسل الرجل بفضل المرأة" وهذا الرجل هو عبد اللَّه بن سرجس، كما بينته في تعليقي على "الطهور" (ص 259) لأبي عبيد. وقد وقع التصريح بأنه هو في رواية فيه (رقم 194). وحديث حميد هذا، رجاله ثقات، قاله ابن حجر في "الفتح" (1/ 300) وزاد: "ولم أقف لمن أعله على حجّة قوية" قلت: وقد صححه جماعة من المحدثين، منهم ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 997)، وانظر تفصيل ذلك في التعليق على "الطهور" (ص 258 - 259) واللَّه الموفق. (¬3) في (ق): "الفضلة لامرأة". (¬4) انظر: "تهذيب السنن" (80 - 82) فإنه مهم، و"بدائع الفوائد" (5714).

ومن ذلك احتجاجُهم على نجاسة الماء بالمُلَاقاة وإن لم يتغير بنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُبَال في الماء الدائم (¬1)، ثم قالوا: لو (¬2) بال في الماء الدائم لم ينجس حتى ينقص عن قلتين. واحتجوا على نجاسته أيضًا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا استيقظ أحَدُكم من نومه فلا يغمس يَدَه في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا" (¬3) ثم قالوا: لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء، ولا يجب عليه غسلها، وإن شاء أن يغمسها قبل الغسل فعل (¬4). واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بحَفْر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها (¬5)، ثم قالوا: لا يجب حَفْرُها، بل لو تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (238) في الوضوء: باب البول في الماء الدائم، ومسلم (282) من حديث أبي هريرة ولفظه: "لا يبولنّ أحدكم في الماء الدائم". وروى مسلم (281) في الطهارة: باب النهي عن البول في الماء الراكد من حديث جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: نهى أن يُبال في الماء الراكد. (¬2) في (ك): "إن". (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الوضوء، باب الاستجمار وترًا، 1/ 263/ رقم 162)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الطهارة، باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثًا، 1/ 233/ رقم 278)، والمذكور لفظه عن أبي هريرة، وقد أسهبتُ في تخريجه في تعليقي على كتاب "الطهور" (رقم 279). (¬4) انظر: ذِكْرَ ابن القيم -رحمه اللَّه- لعلة النهي في "تهذيب السنن" (1/ 69 - 70)، و"بدائع الفوائد" (4/ 87). (¬5) ورد من حديث ابن مسعود رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 132) من طريق أبي بكر بن عياش حدثنا سمعان بن مالك عن أبي وائل عنه، وقال: سمعان مجهول. وقال أبو زرعة -كما في "العلل" (1/ 24): ليس بقوي. ونقل الزيلعي عبارة أبي زرعة هذه: منكر ليس بالقوي. ومن حديث أنس، علقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (545) -وعزاه الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 212) وابن حجر في "التلخيص" (1/ 37) للدارقطني، ولم أجده فيه- من طريق عبد الجبار بن العلاء عن ابن عيينة عن يحيى بن سعيد عن أنس، وقال الدارقطني: ووهم عبد الجبار على ابن عيينة لأن أصحاب ابن عيينة الحفاظ رووه عنه عن يحيى بن سعيد، فلم يذكر أحد منهم الحفر، وإنما روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: "احفروا مكانه" مرسلًا. ورُوي مرسلًا، أحدها هذا الذي أشار إليه الدارقطني وهو مرسل طاوس، رواه عبد الرزاق (1/ 424) وله مرسل آخر رواه أبو داود في "المراسيل" (11)، وفي "السنن" (381)، والدارقطني (1/ 132) والبيهقي (2/ 428) من طريق عبد الملك بن عمير عن عبد اللَّه بن معقل بن مُقَرِّن قال. . . قال أبو داود: هو مرسل، ابن معقل لم يدرك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورجاله ثقات. =

واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا بني عبد المطلب إن اللَّه كره لكم غُسَالة أيدي الناس" (¬1) يعني الزكاة. ثم قالوا: لا تحرم الزكاة علي بني [عبد] (¬2) المطلب. واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه ينجس الماء بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬3) ثم ¬

_ = وحاول ابن حجر في التلخيص تقويته، مرسلًا وموصولا والذي يظهر عدمه لمخالفته لما صح في الأحاديث المشهورة. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" (كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء، 1/ 22/ رقم 12) -ومن طريقه الشافعي في "الأم" (1/ 16)، و"المسند" (8/ 335 - مع الأم)، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 231)، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" (رقم 46) -، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 131) و"المسند" كما في "نصب الراية" (1/ 96)، وأحمد في "المسند" (2/ 237 و 361 و 393)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 176، وكتاب الصيد والذبائح، باب ميتة البحر، 7/ 207)، و"السنن الكبرى" (رقم 67)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الطهارة، باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور، 1/ 100 - 101/ رقم 69)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 64/ رقم 83)، والدارمي في "السنن" (كتاب الطهارة، باب الوضوء من ماء البحر، 1/ 186، وكتاب الصيد، باب في صيد البحر، 2/ 91)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الطهارة، باب الوضوء بماء البحر، 1/ 136 رقم 386)، وكتاب الصيد، باب الطافي من صيد البحر، 2/ 1081/ رقم 3246)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 478، ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 119 - موارد الظمآن)، وابن خزيمة في "الصحيح" (1/ 59/ رقم 111)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 43)، والدارقطني في "السنن" (1/ 36)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 140 - 141)، "معرفة علوم الحديث" (ص 87)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 3) و"السنن الصغرى" (1/ 63/ رقم 155)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 247)، والبغوي في "شرح السنة" (2/ 55 - 56/ رقم 281)، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" (1/ 346)، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، ونقل عن البخاري تصحيحه لهذا الحديث. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن وابن المنذر والخطّابي والطحاوي وابن منده وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وابن الأثير وابن الملقن والزّيلعي وابن حجر والنووي والشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني. انظر: "نصب الراية" (1/ 95)، و"التلخيص الحبير" (1/ 9)، و"المجموع" (1/ 82)، و"خلاصة البدر المنير" (رقم 1)، و"تحفة المحتاج" (رقم 3)، و"البناية شرح الهداية" (1/ 297)، وتعليق شاكر على "جامع الترمذي" (1/ 101)، و"نيل الأوطار" (1/ 17)، =

خالفوا هذا الخبر نفسه (¬1) وقالوا: لا يحل ما مات في البحر من السمك، ولا يحل شيء مما فيه أصلًا غير السمك. واحتجَّ أهلُ الرأي على نجاسة الكلب وولوغه يقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-:- "إذا وَلَغَ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات" (¬2) ثم قالوا: لا يجب غَسْله سبعًا، بل يغسل مرة، ومنهم من قال ثلاثًا (¬3). واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديث لا يصح من طريق غطَيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه: "تُعَاد الصلاة من قدر الدرهم" (¬4). . . . . ¬

_ = و"سبل السلام" (1/ 15)، و"إرواء الغليل" (1/ 42)، و"البدر المنير" (2 - 5). وقال الإِمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا الحديث نصف علم الطهارة". انظر "المجموع" (1/ 84)، وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد (رقم 231 - 240) مع تعليقي عليه. (¬1) في المطبوع: "الخبر بعينه". (¬2) رواه البخاري في (كتاب الوضوء: باب الماء الذي يُغسل به شعر الإنسان 1/ 274/ رقم: 172)، ومسلم في (كتاب الطهارة: باب حكم ولوغ الكلب 1/ 234/ رقم: 279) من حديث أبي هريرة، ورواه مسلم -أيضًا- (في كتاب الطهارة - باب حكم ولوغ الكلب، 1/ 234/ رقم 280) من حديث عبد اللَّه بن مغفل وانظر: "كتاب الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام (رقم: 201 - 204 - بتحقيقي). (¬3) انظر: "بدائع القوائد" (4/ 52) -ولزامًا- "الخلافيات" (3/ 25 مسألة رقم 38) وتعليقي عليه. (¬4) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 308 و 309) وفي "الصغير" (1/ 302)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 57)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 998)، والدارقطني في "سننه" (1/ 401)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 298)، والبيهقي (2/ 404) وفي "الخلافيات" (رقم 381، 382 - بتحقيقي)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 76) من طرق عن روح بن غطيف عن الزهري به قال البخاري: هذا حديث باطل وروح منكر الحديث وقال ابن حبان: موضوع لا شك فيه لم يقله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن اخترعه أهل الكوفة، وكان روح بن غطيف يروي الموضوعات عن الثقات. وقد خالف أسد بن عمرو في الحديث عند الدارقطني (1/ 401) -ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 76) - فقال: عن غطيف الثقفي -كذا سماه عن الزهري وهو وهم [وصوابه روح] كما قال الدارقطني وله لفظ آخر: "إذا كان في الثوب قدر الدرهم من الدم غسل الثوب وأعيدت الصلاة". رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 330) وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 75) من طريق نوح بن أبي مريم عن يزيد الهاشمي عن الزهري به. =

ثم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم (¬1). واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب (¬2) في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومئة أنها تُردُّ إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة (¬3)، وخالفوه في اثني عشر موضعًا منه، ثم احتجوا بحديث عمرو بن حزم: "أن ما زاد على مئتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم" (¬4) وخالفوا الحديث ¬

_ = ونوح قال الدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما ليس من حديث الإثبات لا يجوز الاحتجاج به بحال وأقر السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 3) وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/ 369) الحكم على الحديث بالوضع. وكذا الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 212). وانظر تفصيلًا مستطابًا ونقولاتٍ عديدةً عن العلماء في وضح هذا الحديث "الخلافيات" للبيهقي (2/ 107 - 109) وتعليقي عليه. (¬1) انظر: مبحث العفو عن يسير النجاسة في "إغاثة اللهفان" (1/ 63، 144 - 147، 150 - 159). وانظر: مبحث الحنفية في "الأصل" (68/ 1) لمحمد بن الحسن، و"المبسوط" (1/ 86) و"بدائع الصنائع" (1/ 18)، و"فتح القدير" (1/ 202، 208)، و"البحر الرائق"، (1/ 239)، و"الاختيار" (1/ 31)، و"فتح باب العناية" (1/ 259)، و"حاشية ابن عابدين" (1/ 213). (¬2) بعده في المطبوع: "كرم اللَّه وجهه في الجنة". (¬3) رواه ابن أبي شيبة (3/ 125)، وأبو عبيد في "الأموال" (ص 452) رقم (945)، ومن طريقه ابن زنجويه في "الأموال" (ص 809) رقم (1402)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 92) من طريقي ابن المبارك وسفيان عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: إذا زادت الإبل على عشرين ومئة يستقبل بها الفريضة، وقد أعل هذا الحازمي في "الاعتبار" في (الوجه الثامن عشر من أوجه الاختلاف) ص 23 فقال: أن يكون أحد الحديثين قد اختلفت الرواية فيه، والثاني لم تختلف فيقدم الحديث الذي لم تختلف الرواية فيه نحو حديث أنس بن مالك في صدقة الإبل إذا زادت على عشرين ومئة ففي كل أربعين ابنة لبون وفي كل خمسين حقة، رواه البخاري (1448) وأطرافه هناك. ثم ذكر حديث علي هذا والاختلاف فيه حيث رواه شريك عن أبي إسحاق نحو حديث أنس ثم قال: "وحديث أنس لم تختلف الرواية فيه كما ترى فالمصير إلى حديث أنس أولى على أن كثيرًا من الحفاظ أحالوا في حديث علي بالغلط على عاصم" وانظر لزامًا ما كتبه البيهقي فقد أعله بنحو هذا وذكر عن ابن معين والشافعي كلامًا في إعلاله. أما ابن حجر فقال في "الدراية" (1/ 251): إسناده حسن إلا أنه اختلف فيه على أبي إسحاق!! وانظر ما علقناه على (ص 316 - 317). (¬4) كتاب عمرو بن حزم في الصدقات رووه مطولًا ومختصرًا وأنا أذكر من روى هذا الطرف الذي ذكره ابن القيم: رواه ابن حبان (6559)، والحاكم (1/ 395 - 397)، والبيهقي =

نفسه (¬1) في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعًا. واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المُصَرَّاة (¬2)، وهذا من إحدى العجائب، فإنهم من أشد الناس إنكارًا له، ولا يقولون به، فإن كان حقًا وجَبَ اتباعه، وإن لم يكن صحيحًا لم يجز الاحتجاح [به] (¬3) في تقدير الثلاث، مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط؛ فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه، والذي احتجوا عليه به لم يدل عليه. واحتجوا لهذه المسألة أيضًا بخبر حبان بن منقذ الذي كان يُغْبَنُ في البيع، فجعل له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الخيار ثلاثة أيام (¬4). وخالفوا الخبر كله، فلم يثبتوا الخيار ¬

_ = (4/ 89 - 90) من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدِّه وقد اختلف في وصله وارساله ورجح الإرسال أبو داود والنسائي. وأما الحاكم فقال: إسناده صحيح وهو من قواعد الإِسلام. وانظر للأهمية "نصب الراية" (2/ 341 - 342) وتعليقي على "الخلافيات" للبيهقي (1/ 501 رقم 297). (¬1) في المطبوع و (ن): "بعينه". (¬2) أخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب البيوع، باب النهي للبائع أن لا يحفّل الإبل والبقر والغنم (3/ 361/ رقم 2148)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب البيوع، باب حكم بيع المصرَّاة، 3/ 1158/ رقم 1524) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع، فمن ابتاعها بعد ذلك؛ فهو بخير النَظَرَين من بعد أن يحلبها؛ إنْ رضيَ أمسكها، وإنْ سخطها ردَّها وصاعًا من تمر"، وفي رواية لمسلم: "من اشترى مصراة؛ فهو بالخيار ثلاثة أيام، فإن رَدها؛ ردَّ معها صاعًا من تمرٍ لا سمراء". وهي في البخاري معلقة، دون "لا سمراء". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) رواه الشافعي (1255 - بدائع المنن)، ومن طريقه البيهقي في "المعرفة" (3326)، وابن الجارود في "المنتقى" (567)، والدارقطني (3/ 54 - 55)، والحاكم (2/ 22) والبيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 273) من طريق سفيان عن محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر، وسكت عليه الحاكم وقال الذهبي: صحيح. وأظن أن هناك في المطبوع سِقْطًا. قال الشافعي: وأصل البيع على الخيار لولا الخبر كان ينبغي أن يكون فاسدًا. أقول: وابن إسحاق مدلس وقد عنعن في جميع المصادر إلا أني وجدته عند أحمد في "المسند" (2/ 129) قد صَرّح بالسماع ولكن ليس فيه تعيين الخيار بثلاثة أيام. والحديث بمعناه له طريق آخر رواه "الدارقطني" (3/ 54)، والطبراني في "الأوسط" وفيه ابن لهيعة. واعلم أنه قد اختلف في اسم القائل الذي حدثت معه القصة فوقع هنا حبان بن منقذ. وروى البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 273)، والدارقطني (3/ 55) من طرق عن ابن إسحاق حدثني نافع عن ابن عمر أن رجلًا. قال ابن إسحاق: فحدثت بهذا الحديث =

بالغَبْنِ ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه، وسواء قال المشتري: "لا خِلَابَةَ" أو لم يقل، وسواء غُبِنَ قليلًا أو كثيرًا، لا خيار له في ذلك كله. واحتجوا في إيجاب الكفارة على مَنْ أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلًا أفطر فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يكفّر (¬1)، ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا: إن اسْتَفَّ دقيقًا أو بَلَعَ عجينًا أو أهليلجًا أو طيبًا أفطر، ولا كفارة عليه. واحتجوا على وجوب القضاء على مَنْ تعمد القيء بحديث أبي هريرة (¬2)، ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيأ أقَلَّ من ملء فيه فلا قَضَاء عليه. واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقَصْر بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَحِلُّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي محرم" (¬3) وهذا ¬

_ = محمد بن يحيى بن حبان قال: كان جدي منقذ بن عمرو. وروى ابن ماجه (2355) في الأحكام أيضًا من طريق ابن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمرو وكذا رواه أيضًا البخاري في "التاريخ "الكبير" (8/ 17) وابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 406 ط دار الفكر). واصل حديث الباب رواه البخاري (2117) و (2407) و (2414) و (4964)، ومسلم (1533) من حديث عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر وليس فيه أن له الخيار ثلاثة أيام وأخشى أن تكون هذه الزيادة من أوهام ابن إسحاق ثم وجدت الحافظ في "التلخيص" (3/ 21) نقل عن ابن الصلاح قوله: وأما رواية الاشتراط منكرة لا أصل لها .. ورواه أحمد (3/ 217)، وأبو داود (3501)، والترمذي (1250)، والنسائي (7/ 252) وابن ماجه (2354) وغيرهم من حديث أنس وليس فيه أيضًا ذكر الخيار بثلاثة أيام. (¬1) هذا الحديث بهذا اللفظ في "صحيح مسلم" (1111 بعد 84) في الصوم: باب تغليظ تحريم الجماع. . . من حديث أبي هريرة. وهو في "صحيح" البخاري في المجامع في رمضان (1937). (¬2) رواه أحمد (2/ 498) والدارمي (2/ 14) وأبو داود (2380) في الصوم: باب الصائم يستقيء عامدًا، والترمذي (720) في الصوم: باب ما جاء فيمن استقاء عمدًا، والنسائي في "الكبرى" (3130) في الصيام باب ذكر الاختلاف على هشام في هذا الحديث، وابن ماجه (1676) في الصيام: باب ما جاء في الصائم يقيء، وابن خزيمة (1960) و (1961)، والدارقطني (18412) والحاكم (1/ 426 - 427)، والبيهقي (4/ 219) من طريق هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة. وإسناده صحيح. وقد أعله بعضهم بعلة ذكرها وأجاب عنها شيخنا في "إرواء الغليل" (4/ 51 - 52). (¬3) رواه البخاري (1086) و (1087) في تقصير الصلاة: باب في كم يقصر الصلاة، ومسلم =

مع أنه لا دليل فيه ألبتة على ما ادعوه (¬1) فقد خالفو نفسه فقالوا: يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم. واحتجوا على منع المُحْرِم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وقَصَتْه ناقته وهو محرم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تخمّروا رأسَه ولا وَجْهَه فإنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبيًا" (¬2) وهذا من العجب فإنهم يقولون: إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه. واحتجوا على إيجاب الجزاء على من قتل ضَبُعًا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكْلها وبالجزاء على قاتلها، وأسند ذلك إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، ثم خالفوا الحديث نفسه (¬4) فقالوا: لا يحل أكلها. واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مَخَاضٍ فأعطى [ثلثي] (¬5) ابنة لبون تساوي ابنة مخاض أو حمارًا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه: "مَنْ وجبت عليه ابنة مخاض وليست عنده، وعنده ابنة لبون؛ فإنها تؤخذ منه، ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهمًا" (¬6). وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك، ويستدلون به على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به. واحتجوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث: "لَا تُقْطَع الأيدي في الغزو" وفي لفظ: "في السفر" (¬7) ولم يقولوا ¬

_ = (1338) (414) في الحج: باب سفر المرأة مع محرم إلى الحج وغيره من حديث ابن عمر. ورواه مسلم (1339) (422) من حديث أبي هريرة. (¬1) انظر: "زاد المعاد" (1/ 162) و"تهذيب السنن" (3/ 292 - 294). (¬2) تقدم تخريجه. وانظر: "زاد المعاد" (1/ 225). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) في المطبوع: "بعينه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من "المطبوع". (¬6) هو جزء من حديث أبي بكر الذي يرويه أنس عنه وقد ذكره أصحاب "المسانيد" في مسند أبي بكر كأحمد وأبي يعلى وهو في "صحيح البخاري" (1448) في الزكاة: باب العرض في الزكاة. وانظر أطرافه في "صحيح البخاري" هناك. والجزء الذي أورده ابن القيم في الطرف المذكور. (¬7) رواه أبو داود (4408) في الحدود: باب السارق يسرق في الغزو، والترمذي (1474) في الحدود باب ما جاء أن لا تقطع الأيدي في السفر، والنسائي (8/ 91) في قطع =

بالحديث؛ فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك. واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمر بالأضحية، وأن يُطْعَم منها الجار والسائل" (¬1) فقالوا: لا يجب أن يطعم منها جار ولا سائل. واحتجوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دُعِيَ إلى طعام (¬2) مع رَهْط من أصحابه، فلما أخذ لقمة قال: إني أجد لحم شاة أخذت بغير حق" فقالت المرأة: يا رسول اللَّه، إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها، فأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تطعم الأسارى (¬3). وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا: ذبيحة الغاصب حلال، ولا تحرم على المسلمين. ¬

_ = السارق باب القطع في السفر، وأحمد في "مسنده" (4/ 181) والدارمي في "سننه" (2/ 231)، والطبراني في "الكبير" رقم (1195)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 439)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (860)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (9/ 104) من طريق عياش بن عباس عن شييم بن بيتان ويزيد بن صبيح الأصبحي عن جنادة قال: سمعت بسر بن أبي أرطاة. . . فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي بعضها: لا تقطع الأيدي في السفر، وأخرى في الغزو، أقول: وهذا إسناد قوي كما قال الحافظ في الإصابة، على خلاف في صحبة بُسْر هذا. أما ابن معين فكان لا يرى ذلك ولذلك قال فيه: رجل سوء وذلك لما اشتهر منه في قتال أهل الحرة كما قال البيهقي وبعضهم قال: أدركه صغيرًا، وممن أثبت صحبته الدارقطني وابن يونس. أقول: وترجمه أيضًا البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 123) وذكر له حديثًا آخر فيه سماعه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواه أيضًا ابن حبان في "صحيحه" وذكر له ابن عدي هذين الحديثين ثم قال: ولا أرى بإسناد هذين بأسًا. أقول: في كلا الحديثين سماع بُسْر من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهذه طريقة من طرق إثبات الصحبة كما هو في كتب الصحابة. (¬1) عزاه في "الدر المنثور" (4/ 362) لابن أبي شيبة عن معاذ، وزاد: "والمتعفف". (¬2) في المطبوع: "الطعام". (¬3) رواه أبو داود (3332): في البيوع: باب في اجتناب الشبهات، وأحمد (5/ 92 - 93)، والدارقطني (4/ 285 - 286)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 335 و 6/ 97)، وفي "دلائل النبوة" (6/ 310) من طريق عاصم بن كليب عن أبيه عن رجل من الأنصار وفيه قصة وطول، قال الزيلعي (4/ 168): إسناده صحيح وصححه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (2/ 127)، وشيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (3/ 196)، و"السلسلة الصحيحة" (754). وله شاهد من حديث أبي موسى رواه الطبراني في معجميه "الكبير والأوسط" -كما في نصب الراية-.

واحتجوا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جَرْحُ العَجْمَاء جُبَار" (¬1) في إسقاط الضمان بجناية المواشي، ثم خالفوه فيما دل عليه وأريد به، فقالوا: مَنْ ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لمن (¬2) عَضَّتْ بفمها, ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها. واحتجوا على تأخير القَوَد إلى حين البرء بالحديث المشهور: "أن رجلًا طعن آخر في ركبته بقَرْنِ، فطلب القَوَد، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يبرأ، فأبى، فأقاده قبل أن يبرأ" الحديث (¬3)، وخالفوه في القصاص من الطعنة فقالوا: لا يقتص منها. واحتجوا على إسقاط الحدِّ عن الزاني بأمة ابنه أو أم ولده بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت ومالُكَ لأبيك" (¬4) وخالفوه فيما دل عليه فقالوا: ليس للأب من مال ابنه شيء ألبتة، ولم يبيحوا له من مال ابنه عُودَ أراكٍ فما فوقه، وأوجبوا حبسه في دَيْنه وضمان ما أتلفه عليه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1499) في الزكاة: باب في الركاز الخمس، و (2355) في الشرب: من حفر بئرًا في ملكه لم يضمن، و (6912) في الديات: باب المعدن جبار، و (6913) باب العجماء جبار، ومسلم (1710) في الحدود: باب جرح العجماء، من حديث هريرة وفيه زيادة. و"العجماء: الدابة، والجبار: الهدر" (و). (¬2) في (ك) و (ق): "لما". (¬3) رواه أحمد 2/ 216 من طريق محمد بن إسحاق وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن به قال الهيثمي (6/ 295 - 296): ورجاله ثقات. أقول: ظاهر الإسناد منقطع، ومحمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن كما ذكر ابن عبد الهادي في "التنقيح" لكنه توبع، تابعه ابن جريج، أخرجه الدارقطني (3/ 88) , والبيهقي (8/ 67)، والحازمي في "الاعتبار" (ص 194) من طريق محمد بن حمران ابن جريج عن عمرو بن شعيب به. ومحمد بن حمران: صدوق فيه لين. وأخرجوه من طريق مسلم بن خالد أيضًا عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب به. ومسلم هذا ضعيف قال الحازمي: فإن صح سماع ابن جريج من عمرو بن شعيب فهو حديث حسن يقوى الاحتجاج به. أقول: ابن جريج لم يصرّح بالسماع في كل طرقه: وله شاهد من حديث جابر رواه الدارقطني (3/ 89) والبيهقي (8/ 66) وقد أعل بالإرسال. وشاهد آخر عن ابن عباس. قال ابن التركماني: فهذا أمر قد روي من طرق عدة يشد بعضها بعضًا. (¬4) سبق تخريجه.

واحتجوا على أن الإِمام يكبِّر إذا قال المقيم: "قد قامت الصلاة" بحديث بلال أنه قال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "لا تسبقني بآمين" (¬2) وبقول أبي هريرة [لمروان] (¬3): "لا تسبقني بآمين" (¬4) ثم خالفوا الخبر جهارا فقالوا: لا يؤمّن الإمامُ ولا المأموم. واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "مَسَحَ بناصيته وعمامته" (¬5) ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا: لا يجوز ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬2) رواه عبد الرزاق (2/ 96 رقم 2636)، وأحمد (6/ 15) وأبو داود (937) في الصلاة: باب التأمين وراء الإِمام والهيثم بن كليب في "مسنده" (976)، والطبراني في "الكبير" (1124) و (1125)، والحاكم (1/ 219)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 22 - 23) من طرق عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن بلال وكلهم اتفقوا على أن القائل هو بلال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورواه محمد بن فضيل عن عاصم به، لكن القائل هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لبلال، أخرجه من طريقه أحمد (6/ 12)، والبيهقي (2/ 23 و 56). ورواه شعبة واختلف عنه. فرواه عنه محمد بن جعفر والقائل هو بلال، أخرجه أحمد (6/ 15) ورواه آدم بن أبي إياس، والقائل هو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أخرجه البيهقي (2/ 56) قال البيهقي: فكأن بلالا كان يؤمن قبل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: لا تسبقني بآمين. . قال الحافظ في "الفتح" (2/ 263)، ورجاله ثقات، لكن قيل إن أبا عثمان لم يلق بلالا، وقد روي عنه بلفظ "أن بلالًا قال" وهو ظاهر الإرسال، ورجحه الدارقطني وغيره على الموصول. أقول: لم أجد ترجيح الدارقطني، لا في "العلل" ولا في "السنن". وأما الحاكم فصححه على شرط الشيخين وقال: أبو عثمان النهدي أدرك الطائفة الأولى من الصحابة، ووافقه الذهبي!!. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬4) رواه البيهقي (2/ 59) وإسناده صحيح، وعلق البخاري في "صحيحه" (2/ 262): وكان أبو هريرة ينادي الإِمام: لا تفتني بآمين، وانظر: "مصنف عبد الرزاق" (2/ 96). (¬5) أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب الطهارة، باب المسح على الناصية والعمامة، 1/ 230/ رقم 274 بعد 81) عن المغيرة ضمن حديث فيه: "ومسح بناصيته، وعلى العمامة، وعلى خفيه". وفي لفظ برقم (274 بعد 82): "يمسح على الخفّين، ومقدم رأسه، وعلى عمامته". وقد وردت أحاديث كثيرة وآثار عن أبي بكر وعمر في المسح على العمامة؛ حتى قال الإِمام أحمد: "المسح على العمامة من خمسة وجوه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". وانظر: بسط المسألة في: "المغني" (1/ 300)، و"المجموع" (1/ 406)، و"الأوسط" (1/ 466 - 472)، و"مسائل أحمد" (ص 8) لأبي داود، و"الحجة على أهل المدينة" (1/ 16)، و"الموطأ" (1/ 43)، و"الأم" (1/ 26).

المسح على العمامة، ولا أثر للمسح عليها ألبتة؛ فإن الفرض يسقط بالناصية، والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم. واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة (¬1) الإِمام بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما جُعِل الإِمام ليؤتم به" (¬2) قالوا: والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء. ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه، فإن فيه: "فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" (¬3). واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته حيث قال له: "أقْرَأ ما تيسر معك من القرآن" (¬4) وخالفوه فيما دل عليه صريحًا في قوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تطمئن (¬5) قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" (6)، وقوله: "ارجع فَصَلِّ فإنك لم تصل" (¬6)، فقالوا: من ترك الطمأنينة فقد صلى، وليس الأمر بها فرضًا لازمًا، مع أن الأمر بها و [الأمر] (¬7) بالقراءة سواء في الحديث. واحتجوا على إسقاط جَلْسَة الاستراحة بحديث أبي حميد (¬8) حيث لم ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "مسابقة"! وقال في هامش (ق): "لعله: موافقة أو مساوقة". (¬2) رواه البخاري (734) في الأذان: باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، ومسلم (414) في الصلاة: باب ائتمام الإِمام بالمأموم و (415) و (417) باب النهي عن مبادرة الإِمام بالتكبير وغيره من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (378) و (689) و (732) و (733) و (805) و (1114) و (1911) و (2469) و (5201) و (5289) و (6684)، ومسلم (411) من حديث أنس بن مالك. (¬3) هو قطعة من الحديث السابق. (¬4) رواه البخاري (757) في الأذان: باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها، و (793) باب أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، و (6251) في الاستئذان: باب من رد فقال: عليك السلام، و (6252) و (6667) في الأيمان والنذور: باب إذا حنث ناسيًا في الإيمان. ومسلم (397) في الصلاة: باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، من حديث أبي هريرة. (¬5) في المطبوع: "تعتدل". (¬6) قطعة من الحديث السابق. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬8) حديث أبي حميد في وصف صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه أحمد (5/ 424)، والبخاري في "جزء رفع اليدين في الصلاة" (ص)، وأبو داود (730) و (733) و (734) في الصلاة: باب افتتاح الصلاة (963) و (966) و (967) باب من ذكر التورك في الرابعة، والترمذي =

يذكرها فيه (¬1)، وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والسلام في الصلاة، بحديث ابن مسعود: "فإذا قُلْتَ ذلك فقد تمت صلاتك" (¬2) ثم خالفوه في نفس ما ¬

_ = (304) و (305) في الصلاة: باب ما جاء في وصف الصلاة، والنسائي (3/ 34) في السهو: باب صفة الجلوس في الركعة التي يقضي فيها الصلاة، وابن ماجه (1061) في الإقامة: باب إتمام الصلاة، وابن الجارود (192) و (193)، وابن خزيمة (587) و (588) و (589) و (608) و (685) و (689) و (700)، وابن حبان (1865) و (1867) و (1869) و (1870) و (1871) و (1876)، والبيهقي (2/ 26) و (72) و (73) و (101) و (116) و (118) و (123) و (129). وقال الترمذي: حسن صحيح. وجمع طرقه وألفاظه الشيخ محمد عمر بازمول في جزء مفرد، وهو مطبوع. (¬1) صرَّح المؤلف -رحمه اللَّه- بأن جلسة الاستراحة ليست من سنن الصلاة في "كتاب الصلاة" (ص: 125 - 126)، وانظر: "زاد المعاد" (1/ 61). وانظر في تعقبه: "تمام المنة" (126) وأفرد بعض المعاصرين الأحاديث الواردة في جلسة الاستراحة بجزء مفرد، وتعقب فيه المصنف أيضًا. (¬2) اختلف في هذه اللفظة هل هي من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو من كلام ابن مسعود. فقد رواه الحسن بن حُر عن القاسم بن مُخَيْمرة عن علقمة عن ابن مسعود، واختلف عنه فرواه عنه زهير بن معاوية واختلف عنه فرواه أحمد (1/ 422)، وأبو داود في الصلاة (970) باب التشهد، والدارمي (1/ 309)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 275)، والطبراني في "الكبير" (9925)، والطيالسي (275)، وابن حبان (1968)، الدارقطني (1/ 353)، والبيهقي (2/ 174) من طرق عنه به، وجعلها من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواه الدارقطني (1/ 353) والبيهقي (2/ 174) من طريق شبابة عن زهير به وجعله من قول ابن مسعود، قال الدارقطني: وشبابة ثقة، وقد فصل آخر الحديث فجعله من قول ابن مسعود، وهو أصح من رواية من أدرج آخره في كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواه محمد بن عجلان والحسين بن علي الجعفي وعبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن الحسن بن الحر به وجعلوها من قول ابن مسعود. أما رواية ابن عجلان فأخرجها الدارقطني في "سننه" (1/ 352)، والطبراني (9923)، وإسنادها جَيّد وأما رواية حسين بن علي الجعفي فأخرجها ابن أبي شيبة (/ 291)، وأحمد (1/ 450)، والدارقطني (1/ 352)، والطبراني (9926)، وابن حبان (1963)، وإسنادها صحيح، وأما رواية عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان فأخرجها ابن حبان (1962)، والطبراني في "الكبير" (9924)، وفي "مسند الشاميين" (164)، والدارقطني (1/ 354)، والبيهقي (2/ 175) من طريق غسان بن الربيع عنه. أقول: وعبد الرحمن هذا: قال فيه ابن حجر: صدوق يخطئ وتغير بأخرة، وتلميذه =

دل عليه، فقالوا: صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله. واحتجوا على جواز الكلام والإمام [يخطب] (¬1) على المنبر يوم الجمعة بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للداخل: "أصَليْتَ يا فلان قبل أن تجلس؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين" (¬2) وخالفوه في نفس ما دل عليه، فقالوا: من دخل والإمام يخطب جلس ولم يُصلِّ. واحتجوا على كراهة (¬3) رفع اليدين في الصلاة بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بالهم رافعي أَيديهم كأنَّها أذنابُ خيل شُمس" (4) ثم خالفوه في نفس ما دل عليه؛ فإنّ فيه: "إنما يكفي أحدكُم أَنْ يُسلِّم على أخيه من عن يمينه وشماله: السلامُ عليكم ورحمةُ اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬4) فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل مُنافٍ للصلاة. واحتجوا في استخلاف الإِمام إذا أحْدث بالخبر الصحيح أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرجَ وأبو بكر يُصلّي بالناس فتأخَر أبو بكر، وتقدَّم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلَّى بالناس (¬5)، ¬

_ = غسان قال فيه الدارقطني: ضعيف، وقال مرة: صالح، وقال الذهبي: ليس بحجة في الحديث. إذن نخلص أن ثلاثة من الرواة جعلوا هذه اللفظة موقوفة، واثنان منهم من الثقات، والثالث يعتبر بحديثه، وواحد قد اختلف عليه فيها وهو زهير بن معاوية، فرواها جماعة من الثقات عنه مرفوعة ووقفها شبابة وهو ثقة. وأعل الحديث مرفوعًا الدارقطني في "سننه" وفي "علله" (5/ 128) وتبعه البيهقي. وممن رواها مرفوعة أيضًا محمد بن أبيان أشار إلى ذلك ابن حبان وقال: ومحمد بن أبان ضعيف قد برأنا من عهدته في كتاب "المجروحين". وانظر بسط المبحث في "الفصل للوصل" (1/ 161) للخطيب و"جلاء الأفهام" (ص 116) وتعليقي عليه، وأما وجوب الصلاة على النبي والسلام فتؤخذ من أحاديث أخرى ذكر المصنف قسمًا منها في "جلاء الأفهام" (ص 463) وخرجُتها في التعليق عليه، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه البخاري (930) في الجمعة: باب إذا رأى الإِمام رجلًا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين و (931) باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين، ومسلم (875) في الجمعة: باب التحية والأمام يخطب، من حديث جابر. (¬3) في المطبوع: "كراهية". (¬4) رواه مسلم (431) في (الصلاة): باب الأمر بالسكون في الصلاة، من حديث جابر بن سمرة. (¬5) رواه البخاري (684) في (الأذان): باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإِمام الأول، و (1201) في (العمل في الصلاة): باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة =

ثم خالفوه في نفس ما دلَّ عليه، فقالوا: مَنْ فعل مثل ذلك بطلت صلاته، وأبطلوا صلاة من فعل مثل فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر ومَنْ حضَر من الصحابة، فاحتجوا بالحديث فيما لم يدل عليه، وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه. واحتجوا لقولهم: إنَّ الإمام إذا صلَّى جالسًا لمرضٍ صلَّى المأمومون خلفه قيامًا بالخبر الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنه خرج فوجد أبا بكر يُصلِّي بالناس قائمًا، فتقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجلس وصلَّى بالناس؛ وتأخر أبو بكر" (¬1)، ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه، وقالوا: إنَّ تأخر الإمام لغير حدث، وتقدَّم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جميع (¬2) المأمومين. واحتجوا على بطلان صوم من أكل بظنه ليلًا فبان نهارًا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابنُ أمِّ مكتوم" (¬3) ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل، لا في رمضان ولا في ¬

_ = للرجال، و (1218) في (رفع الأيدي في الصلاة)، و (2690) في (الصلح): باب ما جاء في الإصلاح بين الناس، و (7190) في (الأحكام): باب الإمام يأتي قومًا فيصلح بينهم، ومسلم (421) في (الصلاة): باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، من حديث سهل بن سعد. وبعدها في (ك) و (ق): "فخالفوه" بدل (ثم خالفوه). (¬1) رواه البخاري (664) في (الأذان): باب حد المريض أن يشهد الجماعة، و (683) في باب من قام إلى جنب الإمام لعلة، و (687) في باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، و (712) في باب من أسمع الناس تكبير الإمام، و (713) في الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم، ومسلم (713) في الرجل يأتم بالإمام، ويأتم الناس بالمأموم، ومسلم (418) في (الصلاة): باب استخلاف الإمام إذا عرض له عذر، من حديث عائشة. ولفظه: قالت: فلمّا دخل المسجد سمع أبو بكر حسَّه، ذهب يتأخر فأومأ إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قم مكانك" فجاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى جلس إلى يسار أبي بكر. قالت: فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي جالسًا، وأبو بكر قائمًا يقتدي أبو بكر بصلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. (¬2) في (ن): "جمع". (¬3) رواه البخاري (617) في (الأذان): باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، و (620) باب الأذان بعد الفجر، و (623): باب الأذان قبل الفجر، و (1918) في (الصيام): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا يمنعنكم من سحوركم أذان بلال، و (2656) في (الشهادات): باب شهادة الأعمى، و (7248) في (أخبار الآحاد): باب ما جاء في إجازة خبر الواحد، ومسلم (1092) في (الصيام): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، من حديث ابن عمر.

غيره. ثم خالفوه من وجه آخر (¬1)، فإن في نفس الحديث: "وكان ابنُ [أمِّ] (¬2) مكتوم رجلًا أعمى لا يُؤذِّن حتى يُقال له: أصبحتَ أصبحتَ" (¬3)، وعندهم مَنْ أكل في ذلك الوقت بطل صومه. واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تستقبلوا القبلةَ بغائطٍ ولا بول ولا تستدبروها" (¬4) وخالفوا الحديث نفسه وجوَّزوا استقبالها واستدبارها بالبول (¬5). واحتجوا على [عدم] (¬6) شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يوفي بنذره (¬7)، وهم لا يقولون بالحديث؛ فإنَّ عندهم أن نَذْر الكافر لا ينعقد، ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام. واحتجوا على الردِّ بحديث: "تحوزُ المرأةُ ثلاثَ مواريث: عَتيقَهَا، ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ثم خالفوا من جهة أخرى". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬3) رواه البخاري (617) في (الأذان): باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، و (620) باب الأذان بعد الفجر، و (623): باب الأذان قبل الفجر، و (1918) في (الصيام): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال، و (2656) في (الشهادات): باب شهادة الأعمى، و (7248) في (أخبار الآحاد): باب ما جاء في إجازة خبر الواحد. ومسلم (1092) في (الصيام): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، من حديث ابن عمر. (¬4) رواه البخاري (144) في (الوضوء): باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء، و (394) في (الصلاة): باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق، ومسلم (264) في (الطهارة): باب الاستطابة، من حديث أبي أيوب الأنصاري. (¬5) رجح ابن القيم -رحمه اللَّه- عدم جواز استقبال واستدبار القبلة عند قضاء الحاجة مطلقًا بلا فرق بين الفضاء والبنيان، وذكر على ذلك أدلة كثيرة، انظرها في "زاد المعاد" (1/ 8، 2/ 8) فإنه مهم، و"تهذيب السنن" (1/ 22 - 23)، و"مدارج السالكين" (2/ 386). ورجح هذا القول -أيضًا- شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في غير موضع من كتبه، فانظر "السلسلة الصحيحة" (1/ 439 - 440 - ط: دار المعارف). وانظر بسط المسألة في "الخلافيات" (2/ 74 - بتحقيقي). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬7) رواه البخاري (2032) في (الاعتكاف): باب الاعتكاف ليلة، و (2042) باب من لم ير عليه -إذا اعتكف- صومًا، و (2043) باب إذا نذر في الجاهلية أن يعتكف ثم أسلم، =

ولقيطَها، وولدَهَا الذي لَاعَنَتْ عليه" (¬1) ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها، وقد قال به عمر بن الخطاب (¬2) وإسحاق بن راهويه (¬3)، وهو الصواب. واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه "الْتمسوا له وارثًا أو ذَا رحم" فلم يجدوا، فقال: "أعطوه الكُبْرَ (¬4) من خُزاعة" (¬5) ولم يقولوا به في أن من ¬

_ = و (3144) في فرض الخمس: باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم، و (4320) في (المغازي): باب قول اللَّه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. . .}، و (6697) في (الإيمان والنذور): باب إذا نذر أو حلف أن لا يكلم إنسانًا في الجاهلية ثم أسلم. ومسلم (1656) في (الإيمان): باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، من حديث ابن عمر عن عمر. وانظر: "زاد المعاد" (1/ 171)، و"تهذيب السنن" (3/ 339 - 340، 344 - 349) فإنه مهم. (¬1) رواه أحمد (3/ 490)، و (4/ 106 - 107)، وأبو داود (2906) في (الفرائض): باب ميراث ابن الملاعنة، والترمذي (2115) في (الفرائض): باب ما جاء ما يرث النساء من الولاء، والنسائي في "الكبرى" (6360)، و (6361) في "الفرائض": باب ميراث ولد الملاعنة، و (6420) في ميراث اللقيط، وابن ماجه (2742) في (الفرائض): باب تحرز المرأة ثلاثة مواريث، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2870 و 5136 و 5137)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1707)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ 181، 182)، والدارقطني (4/ 89، 90) والحاكم في "المستدرك" (4/ 340 - 341)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (6/ 240 و 259) والمزي في "تهذيب الكمال" (21/ 346) من طرق عن عمر بن رؤبة عن عبد الواحد النصري عن واثلة بن الأسقع به. وقال الترمذي: حسن غريب!! أقول: عمر بن رؤبة هذا: قال البخاري: فيه نظر، وقال أبو حاتم: صالح الحديث لا تقوم به الحجة، وذكره العقيلي في "الضعفاء"، وقال ابن عدي: أنكروا أحاديثه عن عبد الواحد النصري، وقال الذهبي: ليس بذاك. أما ابن حبان فقد ذكره في "الثقات"!! وقال دحيم: لا أعلمه إلا ثقة. أي يريد -واللَّه أعلم- ثقة في دينه، ثم إن دحيمًا وجدته في مواضع يميل إلى التساهل في التوثيق، فمثل عمر هذا حديثه ضعيف واللَّه أعلم. وانظر: "الإرواء" (رقم 1576) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4049، 4050، 4051). (¬2) مضى تخريجه. (¬3) مضى توثيق ذلك عنه. (¬4) "أكبر ذرية الرجل" (و)، وفي (ك): "الأكبر". (¬5) رواه أبو داود الطيالسي (1443 - منحة)، وأحمد (5/ 347)، وأبو داود (2903، 2904) في (الفرائض): باب ميراث ذوي الأرحام، والنسائي في "الكبرى" (6394 و 6395 و 6396) في (الفرائض): باب توريث ذوي الأرحام دون الموالي، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 243) من طريقين عن جبريل بن أحمر عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه. =

لا وارثَ له يُعطى ماله الكُبْر (¬1) من قبيلته. واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده: "لا يَرثْ قاتلٌ، ولا يُقْتل مؤمنٌ بكافر" (¬2) فقالوا بأول الحديث دون آخره (¬3). ¬

_ = ورواه النسائي في "الكبرى" (6397) من طريق جبريل بن أحمر عن ابن بريدة مرسلًا. وقال النسائي: جبريل بن أحمر ليس بالقوي والحديث منكر. وهذه العبارة في "تحفة الأشراف" (2/ 531)، وليست في "السنن الكبرى". أقول: جبريل هذا قال فيه ابن معين: ثقة، وقال أبو زرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حزم: لا تقوم به حجة. (¬1) في (ك): "الأكبر". (¬2) رواه أبو داود (4564) في (الديات): باب ديات الأعضاء، والبيهقي (6/ 220) من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن بيه عن جده. وإسناده حسن؛ محمد بن راشد، وسليمان بن موسى فيهما كلام لا ينزل حديثهما عن درجة الحسن. ورواه ابن عدي (1/ 293) من طريق إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد وابن جُريج عن عمرو بن شعيب به. ورواه ابن عدي (1/ 293)، والطبراني في "الأوسط" (884)، والدارقطني (4/ 96)، والبيهقي (6/ 220) من طريق إسماعيل بن عياش عن ابن جريج وحده عن عمرو بن شعيب به. قال البيهقي: وقيل عن يحيى بن سعيد، وابن جريج، والمثنى عن عمرو. أقول: إسماعيل بن عياش ضعيف الحديث عن غير الشاميين، ويحيى بن سعيد، وابن جريج والمثنى مدنيون. وورد عن عمرو بن شعيب عن عمر: رواه النسائي في "الكبرى" (6368) في قصة، ورواه كذلك مالك (2/ 867)، والشافعي (2/ 108 - 109)، وعبد الرزاق (17782)، والبيهقي (6/ 219)، وهو منقطع. وفي الباب عن ابن عباس وأبي هريرة، انظر: "التلخيص الحبير" (3/ 184، 185)، و"إرواء الغليل" (6/ 17 - 18). وأما قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر"، فقد رواه أحمد في "مسنده" (2/ 178 و 180 و 191 و 194 و 205 و 211 و 216)، والبخاري في "الأدب المفرد" (570)، والترمذي (1413) في (الديات): باب ما جاء في دية الكفار، وابن ماجه (2659) في (الديات): باب لا يقتل مسلم بكافر، وابن خزيمة (2280)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 2649) من طرق عن عمرو بن شعيب به. وإسناده جيد. وفي الباب عن علي: رواه البخاري (111)، وانظر أطرافه هناك. (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 373).

واحتجوا على جواز التَّيمم في الحَضَر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جَهْم (¬1) بن الحارث في تيمم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لرد السَّلام (¬2)، ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين: أحدهما: أنه يتيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه. والثاني: أنهم لم يكرهوا رد السلام للمُحْدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام. واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حَجَرين بحديث ابن مسعود: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذهب لحاجته وقال له: ائتني بأحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذه رِكْسٌ" (¬3) ثم خالفوه فيما هو نص فيه، فأجازوا الاستجمار بالروث، واستدلوا به على ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين. واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حاملًا أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها (¬4)، ثم قالوا: مَنْ صلى كذلك بطلت صلاته وصلاة من ائتم به، قال بعض أهل العلم: ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] بالفارسية ثم يركع قدر نَفَس، ثم يرفع قدر حد السيف، أو لا يرفع بل يخر كما هو ساجدًا، ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه، وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح ذلك، ولا جبهته، بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نَفَس واحد، ثم يجلس مقدار التشهد، ثم يفعل فعلًا ينافي الصلاة من فساء أو ضُراط أو ضحك أو نحو ذلك (¬5). واحتجوا على تحريم وطء المسْبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أبي جهيم"، وانظر: "الطبقات" لمسلم (1/ 60)، وتعليقي عليه. (¬2) رواه البخاري في (337) (التيمم): باب التيمم في الحَضَر، وعلَّقه مسلم (369) في (الطهارة): باب التيمم. (¬3) رواه البخاري (156) في (الوضوء): باب لا يستنجى بروث ووقع في (ك): "هذا رِكْس". (¬4) الحديث متفق عليه، وسبق تخريجه. (¬5) انظر: "كتاب الصلاة" (81 - 86) للمصنف، و"المطالب المنيفة في الذب عن الإمام أبي حنيفة" بتحقيقي.

"لا تُوطأ حاملٌ حتى تَضعْ، ولا حائلٌ (¬1) حتى تُستبرأ (¬2) بحيضة" (¬3) ثم خالفوا صريحه فقالوا: إن أعتقها وزوَّجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة (¬4). واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قضى بها لخالتِهَا" (¬5) [ثم خالفوه] (¬6) فقالوا: لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتُها (¬7). واحتجوا على المَنْع من التفريق بين الأَخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما (¬8)،. . . . ¬

_ (¬1) "التي لم تلقح سنة أو سنتين أو سنوات" (و). (¬2) في نسخة (و): "تستبرئ". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) انظر: "زاد المعاد" (4/ 189، 213، 214، 227، 232، 238، 239). (¬5) رواه البخاري (2699) في (الصلح): باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان، و (4251) في (المغازي): باب عمرة القضاء، من حديث البراء بن عازب. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) انظر: "زاد المعاد" (2/ 153). (¬8) هو حديث يرويه الحكم بن عُتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي مرفوعًا: "أدركهما فارتجعهما، ولا تبعهما إلا جميعًا". واختلف على الحكم بن عتيبة فيه: فرواه سعيد بن أبي عروبة عنه به. أخرجه أحمد (1/ 97 - 98)، والبزار (624) في "مسنديهما"، والبيهقي (9/ 127) قال البزار والدارقطني في "العلل" (3/ 273): سعيد لم يسمع من الحكم شيئًا. ونقله ابن عبد الهادي في "التنقيح" (2/ 583 رقم 1558 - ط دار الكتب العلمية)، عن أحمد والنسائي كذلك، ومما يدل على عدم سماع سعيد منه ما رواه أحمد (1/ 126 - 127)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" -كما في "نصب الراية" (4 - 26) -، والبيهقي (9/ 127) من طريقين عن سعيد عن رجل عن الحكم به. وتابع سعيدًا على روايته عن الحكم، زيدُ بن أبي أنيسة عند ابن الجارود في "المنتقى" (575)، وفيه سليمان بن عبيد اللَّه الرقي، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال أبو حاتم: صدوق ما رأيت إلا خيرًا، وقد أعل حديثه هذا أبو حاتم -كما في "علل ابنه" (1/ 386) - حيث قال: "إنما هو الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن علي". وتابعه أيضًا محمد بن عُبيد اللَّه العرزمي، أخرجه البزار (623)، ومحمد هذا متروك. ورواه شعبة عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي: أخرجه الدارقطني في "سننه" (3/ 65 - 66)، وفي "علله" (3/ 275)، والحاكم (2/ 54)، والبيهقي (9/ 127) من طرق عنه به. قال الحاكم: هذا حديث غريب صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. =

ثم خالفوه فقالوا: لا يرد المبيع (¬1) إذا وقع كذلك، وفي الحديث الأمر برده. واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقاد يهوديًا من مسلم لطمه (¬2). ثم خالفوه فقالوا: لا قَود في اللَّطمة والضربة لا بين مُسلمَيْن ولا بين مسلم وكافر. ¬

_ = وقال ابن القطان -كما في "نصب الراية"-: ورواية شعبة لا عيب فيها، وهي أوْلى ما اعتمد في هذا الباب. أقول: لكن قال الدارقطني في "العلل" (3/ 275): غيرهم يرويه عن عبد الوهاب عن سعيد وهو المحفوظ، وقال البيهقي: سائر أصحاب شعبة لم يذكروه عن شعبة وسائر أصحاب سعيد قد ذكروه عن سعيد. . . وهذا أشبه. ورواه الحجاج عن الحكم فقال: عن ميمون بن أبي شبيب عن علي: رواه الطيالسي (185)، وأحمد (1/ 102)، والترمذي (1284) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية الفرق بين الأخوين في البيع، وابن ماجه (2249) في (التجارات): باب النهي عن التفريق بين السبي، والدارقطني (3/ 66)، والبيهقي (9/ 127) من طرق حماد بن سلمة عنه به. وهذا إسناد ضعيف، ميمون لم يدرك عليًا، وهو في حديثه ضعف كذلك، والحجاج يخطئ ويخالف، وأخشى أن يكون هذا من أخطاء الحجاج بن أرطاة، أما الدارقطني فقال: ولا يمتنع أن يكون الحكم سمعه منهما جميعًا، فرواه مرة عن هذا ومرة عن هذا. ورواه أبو داود (2696)، والدارقطني (3/ 66)، والحاكم (2/ 55)، والبيهقي (9/ 126) من طريق يزيد بن عبد الرحمن أبي خالد الدالاني عن الحكم عن ميمون عن علي لكن قال: إنه فرق بين جارية وولدها. . . وليس بين أخوين. وقال أبو داود: ميمون لم يدرك عليًا قتل بالجماجم، والجماجم سنة ثلاث وثمانين. وله شاهد من حديث أبي موسى الأشعري: رواه ابن ماجه (2250)، والدارقطني (3/ 67)، ولفظه: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من فرق بين المرأة وولدها وبين الأخ وأخيه"، وإسناده ضعيف، فيه إبراهيم بن إسماعيل، وقد بين علته الدارقطني. وقال ابن القطان -كما في "نصب الراية" (4/ 25) -: وبالجملة فالحديث لا يصح لأن طليقًا لا يعرف حاله. وفي الباب عن أبي أيوب في التفريق بين الأم وولدها في البيع: رواه أحمد (5/ 413)، والترمذي (1283)، والحاكم (2/ 55)، والدارمي (2/ 228)، والدارقطني (3/ 67)، والطبراني (4/ 217)، والبيهقي (9/ 126)، وإسناده حسن، وحسنه الترمذي وصححه الحاكم. وانظر "مجمع الزوائد" (4/ 102)، و"الموافقات" (3/ 471 - 472 - بتحقيقي). (¬1) في (ك) و (ق): "البيع". (¬2) الحديث في "صحيح البخاري" (2412 و 3398 و 4638 و 6916 و 6917 و 7427)، ومسلم (2373) أن مسلمًا لطم يهوديًا، فشكاه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولكن ليس فيه أن النبي أقاده منه!! وليس هو فيه عند جميع من أخرجه.

واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ لَطمَ عبده فهو حرٌّ" (¬1) ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك، واحتجوا أيضًا بالحديث الذي فيه: "مَنْ مثّل بعبده عتق عليه" (¬2) فقالوا: لم يُوجب عليه القَوَد، ثم قالوا: لا يعتق عليه. واحتجوا بحديث عمرو بن شُعيب [عن أبيه عن جده] (¬3): "في العينِ نصفُ الدِّية" (¬4) ثم خالفوه في عدة مواضع: منها قوله: "وفي العين القائمة السادة لموضعها ثُلثُ الدِّية" (¬5)، ومنها قوله: "في السنِّ السوداء ثلث الدية" (5). واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النُّعمان بن بَشير وفيه: "أشهِدْ على هذا غيري" (¬6) ثم خالفوه صريحًا (¬7) فإن في الحديث نفسه: "إن هذا لا يصلُح" (¬8) وفي لفظ: "إني لا أشهدُ على جَوْر" (8) فقالوا: بل ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1657) في (الأيمان): باب صحبة المماليك، وكفارة من لطم عبده، من حديث ابن عمر، ولفظه: "من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 216) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أببه عن جده، فذكر حديثًا طويلًا، وابن إسحاق مدلس وقد عنعن. وتابعه سليمان بن موسى، أخرجه أحمد (2/ 224) من طريق محمد بن راشد عنه، وهذا إسناد حسن؛ لأن سليمان بن موسى وابن راشد فيهما كلام لا ينزلهما عن درجة الحسن. (¬5) رواه كاملًا النسائي (8/ 55) في (القسامة): باب العين العوراء السادة لمكانها إذا طمست، وفي "الكبرى" (7044) من طريق الهيثم بن حُميد عن العلاء بن الحارث عن عمرو بن شعيب به، وإسناده جيد. ورواه أبو داود (4567) في "الديات": باب ديَّات الأعضاء من نفس الطريق مقتصرًا على دية العين. ورواه الدارقطني (3/ 128 - 129) دون دية السن. أقول: لفظ النسائي: قضى في العين العوراء. . . بثلث الدية. ولا تعارض بين هذا والذي قبله، حيث إن نصف الدية إذا كانت العين سالمة والثلث في العين العوراء القائمة. (¬6) رواه البخاري (2586) في (الهبة): باب الهبة للولد، و (2587) باب الإشهاد في الهبة، و (2650) في (الشهادات): باب لا يشهد على شهادة جور إذا شهد، ومسلم (1623) في (الهبات): باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬7) "قالوا: إن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أشهد على هذا غيري" يدل على أن مثل هذا العقد يجوز الإشهاد عليه، وإلا لما أمره بإشهاد غيره. ولا يطمئن القلب إلى مثل هذا الاستنباط". (د). (¬8) مضى في الذي قبله.

هذا يصلح وليس بجور، ولكل أحد أن يشهد عليه (¬1). واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث: "إذا وطئ أحدُكُم الأذى بنعليهِ فإنَّ التُّرابَ لهما طهور" (¬2) ثم خالفوه فقالوا: لو وطئ العذرة ¬

_ (¬1) انظر كلام ابن القيم حول هذا الحديث في "تهذيب السنن" (5/ 191 - 193) مهم، و"إغاثة اللهفان" (1/ 365)، و"بدائع الفوائد" (3/ 101 - 102)، و (151 - 152) (4/ 128). (¬2) رواه أبو داود (385) في (الطهارة): باب في الأذى يصيب النعل، والحاكم في "المستدرك" (1/ 166)، والبغوي (300)، وابن المنذر في "الأوسط" و (1/ 168 رقم 734)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 430) من طرق عن الأوزاعي قال: أُنبئت أن سعيد بن أبي سعيد المقبري حدث عن أبيه عن أبي هريرة. ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة بإسقاط الراوي المجهول. أخرجه ابن حبان (1403). والوليد بن مسلم هذا يدلس تدليس التسوية، وهنا لم يصرّح بالسماع. وقد خفي هذا على المعلق على "صحيح ابن حبان" فسماه الوليد بن مزيد، وليس هو، فإن الراوي عنه هنا هو دحيم، وهذا يروي عن الوليد بن مسلم، وقد ذكر ذلك أيضًا الدارقطني في "علله" (8/ 159)، ورواية الوليد بن مزيد عند الحاكم والبيهقي عن الأوزاعي قال: أنبئتُ، وهذا كله يؤيد أن الوليد عند ابن حبان هو ابن مسلم، ورواية الوليد لا تسمن شيئًا؛ لأنه يدلس التسوية كما قلت. ورواه أبو داود (386)، وابن خزيمة (292)، والحاكم (1/ 166)، وابن حبان (1404)، والعقيلي (2/ 257)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 430)، و"المعرفة" (2/ 252 - 253)، و"الخلافيات" (9 - بتحقيقي)، وابن حزم (1/ 93) من طريق محمد بن كثير عن الأوزاعي عن ابن عجلان عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعًا. فسمى الرجل المجهول، ولكن محمد بن كثير هذا قال فيه يحيى بن معين: صدوق، وقال أحمد: يروي أشياء منكرة، وقال: حدَّث بمناكير ليس لها أصل، وقال أبو حاتم: في حديثه بعض الإنكار، وقال البخاري: ليِّن جدًا. . فمثله لا يمكن قبول روايته، كيف وقد خالف الثقات أيضًا!! قال الدارقطني في "علله" (8/ 160): وقد رواه عبد اللَّه بن زياد بن سمعان عن المقبري عن القعقاع بن حكيم عن أبيه عن عائشة -رضي اللَّه عنها- أنها سألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو أشبههما بالصواب وإن كان ابن سمعان متروكًا. أقول: وعائشة قد وقع الاختلاف عليها في الحديث، وقد رجح أيضًا الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 208 - 209) الطريق الذي ذكره الدارقطني، وقد سبقه إلى نحو هذا العقيلي (2/ 257)، وانظر: "الخلافيات" (مسألة رقم 1) فقد فصلت الكلام على طرقه. وأقرب ما يشهد له حديث أبي سعيد الخدري: الذي رواه الطيالسي (2154)، وأحمد (3/ 20 و 92)، وأبو داود (650) والدارمي (1/ 320)، وأبو يعلى (1194)، وابن =

بخفيه لم يطهرهما التراب (¬1). واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشّجّة (¬2)، ثم خالفوه صريحًا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب، بل إما أن يقتصر على غسْل الصحيح إن كان أكثر، ولا يتيمم، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر، ولا يغسل الصحيح. واحتجوا على جواز تولية أُمراء أو حُكَّام أو متولين مرتبين (¬3) واحدًا بعد واحد بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أميرُكُم زيد، فإن قُتلَ زيدٌ فجعفر، فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة" (¬4) ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية بالشرط، ونحن نشهد باللَّه أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض، وأنها أصح من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها. واحتجوا على تضمين المُتْلِفِ ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين، فردّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على صاحبة القصعة نظيرتها (¬5)، ثم خالفوه جهارًا فقالوا: إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل. واحتجوا على ذلك أيضًا بخبر الشاة التي ذُبحت بغير إذن صاحبها، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَرُدَّها على صاحبها (¬6)، ثم خالفوه صريحًا، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يملِّكها الذابح، بل أمر بإطعامها الأسارى. واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يُسْرع إليه الفساد بخبر: "لا قَطْعَ في ثَمَرٍ ولا كَثَر" (¬7) ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع: أحدها: أن ¬

_ = خزيمة (1017)، وابن حبان (2185)، وفيه: "فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه فإن كان فيهما أذى فليمسحه"، وهو على شرط مسلم. (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 146 - 148)، و"تحفة المودود" (ص 219). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في المطبوع: "مرتين". (¬4) رواه البخاري (4261) في (المغازي): باب غزوة مؤتة في أرض الشام، من حديث ابن عمر، ووقع نص الحديث في المطبوع و (ن): "أميركم زيد، فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة، فإن قتل فجعفر"!!. (¬5) تقدم تخريجه. وفي (د) بدل قوله: "القصعة نظيرتها": "القطعة نظيرتها"!، وفي (ك): "نظيرها". (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) هذا حديث يرويه يحيى بن سعيد واختلف عنه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = فرواه مالك (2/ 839)، والدارمي (2/ 174)، وأبو داود (4388)، و (4389) في (الحدود): باب ما لا قطع فيه، والنسائي (8/ 87) في (قطع السارق): باب ما لا قطع فيه، وفي "الكبرى" (رقم 7449 و 7450 و 7451 و 7452 و 7453 و 7454 و 7455)، والطحاوي (3/ 172)، والطبراني في "الكبير" (4339 - 4351)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 262 و 263)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 391)، والبغوي في "شرح السنة" (2600)، وابن عبد البر (23/ 305) من طرق عنه عن محمد بن يحيى بن حبان عن رافع بن خديج مرفوعًا به. ومن هؤلاء الجماعة: "يحيى بن سعيد القطان، وشعبة، وأبو معاوية، وزائدة، والدراوردي وابن جريج. . . "، وغيرهم وهذا إسناد منقطع، محمد بن يحيى بن حبان لم يسمع من رافع بن خديج. وقد روي موصولًا: فقد رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 84)، والحميدي (407)، والدارمي (2/ 174)، والنسائي (8/ 87)، والطحاوي (3/ 172)، وابن حبان (4466)، وابن ماجه (2593) في (الحدود): باب لا يقطع في ثمر ولا كثر، وابن الجارود (826)، والبيهقي (8/ 263)، وابن عبد البر (23/ 305) من طريق سفيان بن عيينة. ورواه الترمذي (1449) في (الحدود): باب ما جاء لا قطع في ثمر ولا كثر، والنسائي (8/ 87 - 88)، وفي "الكبرى" (7457) من طريق الليث بن سعد. ورواه الطيالسي (958) من طريق زهير بن معاوية، ورواه النسائي (8/ 88)، وفي "الكبرى" (7455) من طريق سفيان الثوري أربعتهم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان عن عمه واسع بن حبان عن رافع بن خديج به، وهذا إسناد موصول صحيح. وسفيان الثوري قد اختلف عليه فيه، فرواه عنه أبو نعيم الفضل بن دكين مرسلًا، ورواه عنه وكيع موصولًا. ووكيع أوثق في سفيان كما قال ابن معين، وقال حماد بن زيد: وكيع راويةُ سفيان. ورواه النسائي (8/ 88)، وفي "الكبرى" (7460) من طريق بشر بن المفضل، والطبراني (4352) من طريق الليث كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن رجل من قومه عن عمة له عن رافع بن خديج!!. وأما شعبة فقد رواه عن قتادة مرسلًا. ورواه عنه حماد بن دليل موصولًا بذكر واسع بن حبان؛ كما أشار إلى هذا ابن عبد البر وغيره. ورواه عبد الرزاق (18916) عن ابن جريج، والدارمي (2/ 174)، والنسائي (8/ 88)، وفي "الكبرى" (7459)، وابن عبد البر (23/ 307) من طريق أبي أسامة كلاهما عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان عن رجل من قومه عن رافع. ورواه الطبراني (4351) من طريق عبد الرزاق؛ لكنه لم يذكر عن رجل من قومه!!. =

فيه: "فإذا آواه إلى الجَرِين ففيه القطع" (¬1) وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو لم يؤوه، الثاني: أنه قال: "إذا بلغ ثمن المِجَنِّ" (¬2) وفي "الصحيح" أن ثمن المجن ¬

_ = ورواه الدارمي (2/ 174 - 175)، والنسائي في "الصغرى" (8/ 88)، وفي "الكبرى" (7458) من طريق سعيد بن منصور عن الدراوردي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى عن أبي ميمون عن رافع. قال النسائي: هذا خطأ أبو ميمون لا أعرفه. ورواه النسائي (8/ 86 - 87)، وفي "الكبرى" (7448)، والطبراني في "الكبير" (4277) من طريق الحسن بن صالح عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عن رافع. وهذه رواية مخالفة لجميع الروايات. وعلى كل حال فرواية من وصل الحديث وهم أربعة من الثقات هي الصحيحة المقبولة. وله شاهد من حديث أبي هريرة: يرويه ابن ماجه (2594) يرويه سَعْد بن سعيد المقبري، وهو ضعيف، عن أخيه عبد اللَّه بن سعيد وهو ضعيف جدًا. و"الكثر: جمار النخل، وقيل: طلعها" (ط)، ونحوه في (و). (¬1) أخرجه الحميدي (597)، وأحمد (2/ 180، 186، 203، 206، 224) في "مسنديهما"، وأبو داود (1708، 1710 - 1713، 4390)، والنسائي (5/ 44 و 8/ 84، 85)، والترمذي (1289)، وابن ماجه (2596)، والدارقطني (4/ 236)، والبيهقي (8/ 278) في "سننهم"، وابن الجارود في المنتقى (827)، وابن خزيمة في "الصحيح" (2327، 2328)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 381) من حديث عبد اللَّه بن عمرو، بألفاظ مطولة ومختصرة، ولفظ النسائي: "من سرق منه -أي الثمر المعلق- شيئًا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع"، وإسناده حسن، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن". ويشهد له مرسل عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا قطع في ثمر معلق، ولا في حريس جبل، فإذا آواه الجَرِينُ، فالقطع فيما يبلغ ثمن المِجَنّ". أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 831)، وعنه الشافعي في "المسند" (335)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 263)، وانظر: "التمهيد" (19/ 210)، "نيل الأوطار" (7/ 300)، "الإرواء" (8/ 69 - 72 رقم 2413). وكتب (و): "الجرين؛ موضع تجفيف التمر". (¬2) أخرجه البخاري (6792، 6793، 6794) في (الحدود): باب قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، ومسلم (1684) في (الحدود): باب حد السرقة ونصابها، عن عائشة قالت: لم تقطع يدُ سارقٍ على عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في أدنى من ثمن المجن: تُرس أو حَجَفة، وكان كل واحد منهما ذا ثمن "وكتب (و): المجن: المترس، لأنه يواري صاحبه".

كان ثلاثة دراهم (¬1)، وعندهم لا يُقطع في هذا القدر، الثالث: أنهم قالوا: ليس الجرين حِرزًا؛ فلو سرق منه تمرًا (¬2) يابسًا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع (¬3). واحتجوا في مسألة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهمًا بخبرٍ فيه: "أن من جاء بآبقٍ من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينارًا" (¬4)، وخالفوه جهرة فأوجبُوا أربعين (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6795) - (6798) في الحدود: باب قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، ومسلم (1686) في الحدود: باب حد السرقة ونصابها، من حديث ابن عمر. (¬2) في المطبوع: "ثمرًا". (¬3) انظر: "زاد المعاد" (3/ 211، 212) حيث بين هناك المؤلف -رحمه اللَّه- بعض شروط القطع. (¬4) روى البيهقي في "سننه الكبرى" (6/ 200) من طريق خصيف عن معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال: قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في العبد الآبق يوجد في الحرم بعشرة دراهم. ثم قال: هذا ضعيف، والمحفوظ حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار قالا: جعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الآبق يوجد خارجًا من الحرم عشرة دراهم وذلك منقطع. أقول: أما الموصول ففيه خصيف بن عبد الرحمن الجزري، وهو ضعيف، وأما المرسل: فقد رواه ابن أبي شيبة (5/ 227) من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار قالا: جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العبد الآبق إذا جيء به من خارج الحرم دينارًا. ورواه أيضًا (5/ 226) من طريق حفص عن ابن جريج لكن قال: عن عطاء أو (كذا في المطبوع، وأظنها "عن") ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار به. لكن قال: دينار أو عشرة دراهم أما عبد الرزاق فرواه (14907) عن معمر عن عمرو بن دينار به. إلا أنه قال: يوجد في الحرم. وهذه أسانيد مرسلة. وانظر: "معرفة السنن والآثار" (9/ 89)، و"مختصر الخلافيات" (3/ 471)، و"الإرواء" (6/ 14)، وتعليقي على "الإشراف" (3/ 273) للقاضي عبد الوهاب. (¬5) هذا مذهب الإمام أبي حنيفة في مسافة ثلاثة أيام وأكثر وفيما قلَّ بحسابه. انظر: "مختصر الطحاوي" (141)، و"المبسوط" (11/ 11)، و"تحفة الفقهاء" (3/ 613)، و"مختصر اختلاف العلماء" (4/ 351 رقم 2049)، و"شرح العيني على الكنز" (1/ 268)، و"بدائع الصنائع" (6/ 53)، و"مجمع الضمانات" (210)، و"حاشية ابن عابدين" (4/ 288). وهذا قضاء ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-، أخرجه عبد الرزاق (8/ 208 رقم 14911)، وابن أبي شيبة (5/ 226)، وأبو يوسف في "الأثار" (رقم 761، 762). =

واحتجوا أنَّ (¬1) خيار لشفعة على الفور بحديث ابن البَيْلمانيّ: "الشُّفعةُ كحلِّ العِقَال، ولا شُفعَة لصغيرٍ ولا لغائبٍ" (¬2)، و"مَنْ مثَّل بعبده فهو حُرٌّ" (¬3) فخالفوا جميع ذلك إلا قوله: "الشفعة كحل العقال". واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث: "لا يُقاد والدٌ بولده ولا سَيِّدٌ بعبده" (¬4). . . . ¬

_ = وإسناده ضعيف، ورواه من طريق عبد الرزاق: الطبراني في "الكبير" (9/ 249 رقم 9066)، والبيهقي (6/ 200) وفي "المعرفة" (9/ 89 رقم 12460) و"الخلافيات" (3/ 472 - مختصره). وقال: "وهو أمثل ما في الباب". وانظر: "مجمع الزوائد" (4/ 171)، و"نصب الراية" (3/ 470) و"الجوهر النقي" (6/ 200) وانظر: بسط الخلاف في "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (رقم 1115) مع تعليقي عليه. (¬1) في المطبوع: "على". (¬2) رواه ابن ماجه (2500 و 2501) في (الشفعة): باب طلب الشفعة، وابن عدي (6/ 2185)، و (2188)، ومن طريقه البيهقي (6/ 108)، والخطيب في "تاريخه" (6/ 57) من طريق محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر مرفوعًا وعند بعضهم زيادة. وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ قال ابن عدي: "وكل ما روي عن ابن البيلماني فالبلاء فيه منه، وإذا روى عن ابن البيلماني محمد بن الحارث هذا فجميعًا ضعيفان، والضعف على حديثهما بيِّن". وقال ابن حبان عن ابن البيلماني: حدَّث عن أبيه بنسخة موضوعة، لا يجوز الاحتجاج به ولا ذكره إلا على وجه التعجب. وقال أبو زرعة عن هذا الحديث -كما في "علل ابن أبي حاتم" (1/ 479) -: "هذا حديث منكر، لا أعلم أحدًا قال بهذا، الغائب له شفعته، والصبي حتى يكبر". وقال الحافظ في "التلخيص" (3/ 56): "وإسناده ضعيف جدًا، وقال ابن حبان: لا أصل له، وقال البيهقي: ليس بثابت". وانظر: "الإرواء" (5/ 379)، و"نيل الأوطار" (5/ 378). ووقع في (ك): "ابن السليماني". (¬3) مضى تخريجه. (¬4) الذي وجدته بهذا اللفظ هو حديث: "لا يقاد مملوك من مالكه ولا ولد من والده. . . وفي آخره: "من حُرق بالنار أو مُثل به فهو حر"، وهو جزء من حديث طويل. رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 2/ 182)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 181 - 182)، وابن عدي (5/ 1713)، والطبراني في "الأوسط" (8906)، وأبو بكر الإسماعيلي في "مسند عمر" -كما في "مسند الفاروق" (1/ 371 - 372) لابن كثير-، والحاكم (2/ 216)، و (4/ 368)، والبيهقي (8/ 36) من طريق عمر بن عيسى القرشي =

وخالفوا الحديث نفسه فإن فيه (¬1): "ومَن مَثَّل بعبده فهو حر" (¬2). واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة (¬3) وفيه: "الولد للفِرَاش" (¬4) ثم خالفوا الحديث نفسه صريحًا فقالوا: الأمة لا تكون فراشًا (¬5)، وإنما كان هذا القضاء في أمة، ومن العجب أنهم قالوا: إذا عقد على أُمِّه وابنته وأخته ووطئها لم يُحد للشُبهة، وصارت فراشًا بهذا العقد الباطل المحرم، وأم ولده وسُرِّيته التي يطؤها ليلًا ونهارًا ليست فراشًا [له] (¬6)!. ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية يُنشؤها من النهار قبل الزوال بحديث عائشة "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يدخل عليها فيقول: هل من غَدَاء؟ فتقول: لا، فيقول: فإني صائم" (¬7) ثم قالوا: لو فعل ذلك في صوم تطوع (¬8) لم يصح صومه، والحديث إنما هو في التطوع نفسه (¬9). ¬

_ = عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس عن عمر، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي بقوله: عمر بن عيسى منكر الحديث. قلت: قوله عمر بن عيسى منكر الحديث هو قول الإمام البخاري فيه، وانظر: "المجروحين" (2/ 87)، و"المجمع" (6/ 288) وقارن بـ"الميزان" (3/ 316). إلا أن لفقرتيه ما يشهد له. فقوله: "لا يقتل والد بولده" له طريق جيد عن عمر أيضًا، فقد أخرجه أحمد (1/ 22 و 49)، وابن أبي شيبة (9/ 410)، وعبد بن حميد (41)، وابن ماجه (2662)، والترمذي (1400)، وابن أبي عاصم في "الديات": (65 و 66)، والدارقطني (3/ 140)، والبيهقي (8/ 38 و 72) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر به. وله شواهد أيضًا، انظر: "علل الدارقطني" (2/ 108) و"بيان الوهم والإيهام" (3/ 167)، و"نصب الراية" (4/ 339)، و"إرواء الغليل" (7/ 269)، وتعليقي على "سنن الدارقطني" (الأرقام 3224 - 3226) وتعليقي على "الإشراف" (3/ 121 - 123). وأما قوله: "ولا يقتل سيد بعبد" له شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو ضعيف، انظر: "رسالة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" رقم (102). ووقع في (ك): "بعبد له". (¬1) في المطبوع: "فإن تمامه". (¬2) مضى تخريجه. (¬3) في (ن): "ابن الوليد الزمعة" وفي (ك): "ابن وليدة لزمعة". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في (ك) و (ق): "لا تكون الأمة فراشًا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) رواه مسلم (1154) في (الصيام): باب جواز صوم النافلة بنية من النهار قبل الزوال. (¬8) في المطبوع: "التطوع". (¬9) انظر: "تهذيب السنن" (3/ 327 - 328، 331 - 333)، و"زاد المعاد" (1/ 218).

واحتجوا على المنع من بيْع المُدبَّر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية، وفي بيعه إبطال لذلك، وأجابوا عن بيع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدبر (¬1) بأنه قد باع خدمته. ثم قالوا: لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضًا. واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله: "قضى رسولُ اللَّه بالشفعة في كل شرك في ربعةٍ أو حائط" (¬2) ثم خالفوا نص الحديث نفسه، فإن فِيه: "ولا يحلُّ له أن يَبيعَ حتى يُؤذِن شريكه، فإن باع ولم يؤْذِنه فهو أحقُّ به" فقالوا: يحل له أن يبيع قبل إذنه، ويحل له أن يتحيَّل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضًا بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه. واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان (¬3)، ثم خالفوه نفسه، فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه. واحتجوا على أن عطية المريض المنَجَّزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث بحديث عِمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مالَ له سواهم، فجزأهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة (¬4). ثم خالفوه في موضعين؛ فقالوا: لا يُقرع بينهم ألبتَّة، ويُعتق من كل واحد سدسه (¬5). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2141) في (البيوع): باب بيع المزايدة، و (2230) باب بيع المدبر، و (2403) في (الاستقراض): باب من باع مال المفلس، و (2411) في (الخصومات): باب من باع على الضعيف ونحوه، و (2534) في (العتق): باب بيع المدبر، و (6716) في كفارات الأيمان: باب عتق المدبر، و (6947) في (الإكراه): باب إذا أكره حتى وهب عبدًا أو باعه لم يجز، و (7186) في (الأحكام): باب بيع الإمام على الناس أموالهم وضياعهم، ومسلم (997) (ص 1289 - 1290) في (الأيمان): باب جواز بيع المدبر، من حديث جابر. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) رواه مسلم (1668) في (الأيمان): باب من أعتق شركًا له في عبد. (¬5) "كذا في بعض النسخ المطبوعة، ولعله: ثلثه" (ط)، ونحوه في (د). قلت: والصواب سدسه، وهو مذهب أبي حنيفة انظر: "مختصر الطحاوي" (374) "اللباب" (3/ 116 - 117)، "الاختيار" (4/ 28)، "المبسوط" (29/ 71)، "البناية" (10/ 10/ 487)، "رؤوس المسائل" (541)، وانظر بسط المسألة في "الإشراف" (4/ 611 مسألة رقم 1862) وتعليقي عليه.

[خالف المقلدون أمر الله ورسوله وأئمتهم]

وهذا كثير جدًا، والمقصود أن التقليد حَكَم عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرًا، ولو حكَّمتم الدليلَ على التقليد لم تقعوا في مثل هذا؛ فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا وجب الانقياد لها، والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحةً لم يؤخذ بشيء مما فيها، فأما أن تُصحح ويُؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضعف أو ترد إذا خالفت قوله، أو تؤول؛ فهذا من أعظم الخطأ والتناقض. فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه، ولم يُعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه وإطراحه. قيل: لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة، فإن كانت منسوخة لم يُحتج بمنسوخٍ ألبتة، وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها ألبتة. فإن قيل: هي منسوخة فيما خالفناها فيه، ومحكمة فيما وافقناها فيه. قيل: هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن ما (¬1) لا علم لمدَّعيه به، قائل ما لا دليل عليه (¬2)، فأقَلُّ ما فيه أن مُعارضًا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم يكن بينهما فرق، [ولا فرق] (¬3)، وكلاهما مدع ما لا يمكنه إثباته؛ فالواجب اتِّباع سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسْخ المنسوخ منها، أو تُجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها، وهذا الثاني محال قطعًا؛ فإن الأمة وللَّه الحمد لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة، إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها، وحينئذ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ، وأما أن تُترك السنن لقول أحدٍ من الناس فلا، كائنًا من كان، وباللَّه التوفيق. [خالف المقلدون أمر اللَّه ورسوله وأئمتهم] الوجه العشرون: أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر اللَّه وأمر رسوله وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أَمرُ اللَّه فإنه أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى ¬

_ (¬1) في (ك): "لما". (¬2) في المطبوع: "فمدعيه قائل ما لا دليل له عليه"، وفي (ط): "فهو قائل ما لا دليل له عليه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[الخلف قلبوا أوضاع الدين]

من قلَّدناه؛ وأما أمر رسوله فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يُتمسكَ بها، ويُعَضَّ عليها بالنَواجِذ (¬1)، وقال المقلِّدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلَّدناه، ونقدمه على كل ما عداه، وأما هدْي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلًا واحدًا في جميع أقواله، ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يردُّ من أقواله شيئًا، ولا يقبل من أقوالهم شيئًا، وهذا من أعظم البِدع وأقبح الحوادث؛ وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوْا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم. وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك [منها] (¬2) قبلوه، ودانوا اللَّه به، وقضوا به، وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه، وردُّوه، وما لم يتبيَّن لهم كان [عندهم] (¬3) من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدًا، ولا يقولوا: إنها الحق دون ما خالفها، هذه طريقة أهل العلم سلفًا وخلفًا. [الخلف قلبوا أوضاع الدين] وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق، وقلبوا أوضاع الدين، فزيَّفُوا كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال خلفائه و [جميع] (¬4) أصحابه، فعرضوها على أقوال من قلدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا، وانقادوا له مُذْعنين، وما خالف أقوال متبوعيهم (¬5) منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا، ولم يقبلوه، ولم يدينوا به. واحتالَ فُضَلاؤهم في ردِّها بكل ممكن، وتطلَّبوا لها وجه الحِيل التي تردها، حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنَّعوا على منازعهم، وأنكروا عليه ردَّها بتلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا تُرد النصوص بمثل هذا، ومن له همةٌ تسمو إلى اللَّه ومرضاته ونصرِ (¬6) الحق الذي ¬

_ (¬1) الحديث سبق تخريجه مطولًا، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك)، وفي باقي الأصول: "منهم". (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع و (ك) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) في المطبوع: "متبوعهم". (¬6) في (ك): "وتنصر"

[ذم الله الذين فرقوا دينهم]

بعث [اللَّه] (¬1) به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخُلُق الذميم. [ذم اللَّه الذين فرقوا دينهم] الوجه الحادي والعشرون: أن اللَّه سبحانه ذمَّ الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيعًا: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬2) [الروم: 32] وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم، بخلاف أهل العلم؛ فإنهم وإن اختلفوا لم يُفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعًا، بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق، وإيثاره عند ظهوره، وتقديمه على كل ما سواه، فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدُهُم وطريقهم؛ فالطريق واحد، والقصد واحد، والمقلدون بالعكس: مقاصدُهم شَتَّى، وطُرُقهم مختلفة، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق. [ذم اللَّه الذين تقطعوا أمرهم زبرًا] الوجه الثاني والعشرون: أن اللَّه سبحانه ذم الذين تقطَّعوا أَمرَهم بينهم زبرًا: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]، والزُّبُر: الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب اللَّه وما بعث اللَّه به رسوله، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 51 - 53] فأمر سبحانه الرسل بما أمر به أممهم: أن يأكلوا من الطيبات، وأن يعملوا صالحًا، وأن يعبدوه وحده، وأن يطيعوا أمره وحده، وأن لا يتفرقوا في الدين؛ فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك، ممتثلين لأمر اللَّه، قابلين لرحمته، حتى نشأت خُلوف قطَّعوا أمرهم [بينهم] (¬3) زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، فمن تدبَّر هذه الآيات ونزَّلها على الواقع تبين له حقيقة الحال، وعلم من أي الحزبين هو، واللَّه المستعان. الوجه الثالث والعشرون: أن اللَّه سبحانه قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فخصَّ هؤلاء بالفلاح دون من عداهم، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من المطبوع و (ك). (¬2) الآية مضروب عليها في (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).

[ذم الله من أعرض عن التحاكم إليه]

[ذم اللَّه من أعرض عن التحاكم إليه] الوجه الرابع والعشرون: أن اللَّه سبحانه ذم من إذا دُعي إلى اللَّه و [إلى] (¬1) رسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره، وهذا شأن أهل التقليد، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] فكلُّ من أعرض عن الداعي له إلى ما أَنزلَ اللَّه ورسوله إلى غيره فله نصيبٌ من هذا الذم؛ فمستقل ومستكثر (¬2). [الحق في واحد من الأقوال] الوجه الخامس (¬3) والعشرون: أن يقال لفرقة التقليد: "دينُ اللَّه عندكم واحد وهو (¬4) في القول وضده، فدينه هو الأقوال المختلفة المتضادة التي يُناقض بعضها بعضًا، ويُبطل بعضها بعضًا، كلها دين اللَّه"؟ فإن قالوا: "بل (¬5)، هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضًا كلها دين اللَّه" خرجوا عن نصوص أئمتهم؛ فإن جميعهم على أن الحق واحد من الأقوال، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول والصريح، وجعلوا دين اللَّه تابعًا لآراء الرجال. فإن قالوا: "الصواب الذي لا صواب غيره أن دين اللَّه واحد، وهو ما أنزل اللَّه به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده، كما أن نبيَّه واحدٌ وقبلته واحدة، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه". قيل [لهم] (¬6): فالواجب إذن طلب الحق، وبذْلُ الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان؛ لأن اللَّه سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة. وتقواه: فِعل ما أمر به وترك ما نهى عنه؛ فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهي عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه. ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلبٍ وتحرٍّ للحق، فإذا لم يأت بذلك فهو في عُهْدة الأمر، ويلقى اللَّه ولمّا يقْضِ ما أمره. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) في (د) و (ك): "فمستكثر ومستقل". (¬3) في (ق) و (ك): "الرابع"، واستمر الترقيم فيها بعده هكذا. (¬4) في (ك) و (ق): "أو هو". (¬5) في المطبوع "بلى". (¬6) ما بين المعقوفتين من المطبوع و (ك) و (ق).

[دعوة رسول الله عامة]

[دعوة رسول اللَّه عامة] الوجه السادس والعشرون: أن دعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على مَنْ بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنوعت صفاتُه وكيفيّاتُه باختلاف الأحوال. ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعْرضون ما يسمعون منه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قولٌ غير قوله، ولم يكن أحدٌ منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلًا، وكان هذا هو الواجب الذي لا يتمُّ الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة. ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسخ بعد موته، ولا هو مختص بالصحابة؛ فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه اللَّه ورسوله. [الأقوال لا تنحصر وقائلوها غير معصومين] الوجه السابع والعشرون: أن أقوال العلماء وآراءهم لا تَنضبط ولا تنحصر، ولم تُضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا؛ فلا يكون اتفاقهم إلا حقًا، ومن المحال أن يُحيل (¬1) اللَّه ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر، ولم يَضمن لنا عصمته من الخطأ، ولم يُقم لنا دليلًا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر، بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله، هذا محال أن يَشرعَه اللَّه أو يَرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولًا والآخر كاذبًا على اللَّه فالفرض حينئذ ما يعتمدهُ هؤلاء المقلدون مع متبوعيهم (¬2) ومخالفيهم. [العِلْمُ يَقِلُّ] الوجه الثامن والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ" (¬3) وأخبر أن العلم يقل، فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق، ومعلوم أن كُتَب المقلِّدين قد طَبَّقت شرق الأرض وغربها، ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت، ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة، والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه، وشهرتها في الناس خلاف الغربة، بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره؛ فلو كانت هي العلم الذي بعث اللَّه به رسوله ¬

_ (¬1) في المطبوع: "يحيلنا". (¬2) في المطبوع و (ك): "متبوعهم". (¬3) سبق تخريجه.

لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم (¬1) في شهرة وظهور، وهو خلاف ما أخبر به الصادق. الوجه التاسع والعشرون: أن الاختلافَ كثيرٌ في كتب المقلدين وأقوالهم، وما كان من عند اللَّه فلا اختلافَ فيه، بل هو حق يُصدِّق بعضُه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. الوجه الثلاثون: أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدًا دون عمرو، بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد [هذا] (¬2) الآخر عند المقلدين، فإن كان قول من قلّده أولًا هو الحق لا سواه فقد جوّزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه، وهذا محال، وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق. وإن قلتم: "القولانِ المتضادانِ المتناقضانِ حقٌّ" فهو أشدُّ إحالةً، ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة. الوجه الحادي والثلاثون: أن يُقال للمقلِّد: بأي شيء عرفت أنّ الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده؟ فإن قال: "عرفته بالدليل" فليس بمقلد، وإن قال: "عرفته تقليدًا له؛ فإنه أفتى بهذا القول ودَانَ به وعِلْمُه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقولَ غير الحق" قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ؟ فإن قال بعصمته أبْطل، وإن جَوَّز عليه الخطأ قيل له: فما يؤمِّنُك أن يكونَ قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره؟ فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور، قيل: أجل هو مأجور لاجتهاده، وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجَب الأجر، بل قد فَرَّطت في الإتِّباع الواجب فأنت إذن مأزور. فإن قال: كيف يأجُرُه اللَّه على ما أفتى به ويمدحُه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه؟ وهل يُعقل هذا؟ قيل له: المستفتي إن هو قصّر وفرّط في معرفته الحق مع قدرته عليه لَحِقَه الذم والوعيد، وإن بَذَلَ جُهده ولم يقصِّر فيما أُمِر به واتقى اللَّه ما استطاع فهو مأجور أيضًا. وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنُها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده، فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والثواب (¬3)؛ وإن قيل وهو الواقع: اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو ¬

_ (¬1) في (ق): "وزيادة العلم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "والصواب".

[ما علة إيثار قول على قول؟]

أم لا، فالعهدة على القائل، وأنا حاكٍ لأقواله، قيل له: فهل تتخلص بهذا من اللَّه عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد اللَّه وأفتيتهم به، فواللَّه إن للحُكَّام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وأفتى به (¬1) وأما مَنْ عَدَاهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء. [ما علة إيثار قول على قول؟] الوجه الثاني والثلاثون: أن نقول: أخذتم بقول فلان لأن فلانًا قاله أو لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاله؟ فإن قلتم: لأن فلانًا قاله؛ جعلتم قول فلان حجة، وهذا عين الباطل، وإن قلتم: لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاله؛ كان هذا أعظم وأقبح؛ فإنه مع تضمُّنه للكذب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقويلِكم عليه ما لم يقله، وهو أيضًا كذب على المتبوع فإنه لم يَقُل: هذا قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما: إما جعلُ قولِ غير المعصوم حجة، وإما تقويلُ المعصوم ما لم يقله، ولا بد من واحد من الأمرين. فإن قلتم: "بل منهما بد، وبقي قسم ثالث، وهو أَنَّا قُلنا كذا لأنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرنا أن نتبع من هو أعلم منا، ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم، ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم؛ فنحن في ذلك مُتبعون ما أَمَرنا به نبيُّنا" قيل: وهل نُدندن إلا حول اتباع أمره -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحيْهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتُّم الإيمان والإسلام إلا به، فنناشِدُكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول مَنْ قلَّدتموه هل تتركون قوله لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- وتضربون به الحائط وتحرِّمون الأخذ به والحالة هذه حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم، أو تأخذون بقوله وتُفوِّضون أمر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى اللَّه، وتقولون: هو أعلم برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَّا، ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو مُعارض بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده؟ فتجعلون قول المتبوع مُحْكمًا وقول الرسول متشابهًا؛ فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم [بالأخذ بقوله لقدّمتم قول الرسول أين كان. ثم نقول في الوجه الثالث والثلاثين (¬2): وأين أَمرَكم الرسول] (¬3) بأخذ قول ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): ". . . به وعرّفه وأفتى به". (¬2) في (ق): "والثلاثون"! وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه، وهو الصواب. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

واحد من الأُمَّة بعينه، وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول؟ وهل هذا إلا نسبة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أنه أَمَر بما لم يأمر به قط؟!. يوضحه الوجه الرابع والثلاثون: أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم، فإن اللَّه سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر اللَّه نساء نبيه أن يذكرنه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] فهذا هو الذكر الذي أمرنا اللَّه باتِّباعه، وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به، فإذا أخبروه به لم يسعه غيرَ أتباعه، وهذا كان شأنُ أئمةِ أهل العلم لم يكن لهم مُقلَّد معين يتبعونه في كل ما قال؛ فكان عبد اللَّه بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فَعَله أو سَنَّة، لا يسألهم عن غير ذلك (¬1)، وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة (¬2) عن فعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته، وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط، وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد اللَّه، أنت أعلم بالحديث مني؛ فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميًا كان أو كوفيًا أو بصريًا (¬3)، ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف ما سواه (¬4). الوجه الخامس والثلاثون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما أرشد المستفتين (¬5) لصاحب الشّجَّة بالسؤال عن حكمه وسنته، فقال: "قَتَلوه قَتلَهم اللَّه" (¬6) فدعا عليهم لما أفْتَوا بغير علم، وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه ليس عِلْمًا باتفاق الناس فإن ما دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فاعِلِه فهو حرامٌ، وذلك أحد أدلة التحريم؛ فما احتجَّ به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم واللَّه الموفق، وكذلك سؤال أبي العسيف (¬7) الذي زَنَى بامرأةِ مستأجرِه لأهل العلم؛ فإنهم لمَّا أخبروه بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في البكر الزاني أقرَّه على ذلك ولم ينكره؛ فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) أخرجه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبه" (94 - 95)، والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 479)، و"المدخل" (173، 174)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 106، 170)، وابن عبد البر في "الانتقاء" (ص 75). (¬4) في المطبوع: "ويخالف له ما سواه". (¬5) في (ن) و (ك): "المفتين". (¬6) سبق تخريجه. (¬7) مضى تخريجه.

[حديث الكلالة بين الصديق والفاروق]

[حديث الكلالة بين الصدِّيق والفاروق] الوجه السادس والثلاثون: قولهم: إن عمر قال في الكَلالة: إني لأستحيي من اللَّه أن أُخالفَ أبا بكر (¬1). [لم يكن عمر يقلد أبا بكر] وهذا تقليد منه له، فجوابه من خمسة أوجه (¬2): أحدها: أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم [به] (¬3)، ونحن نذكره بتمامه، قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة: "أقضي فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمنِّي ومن الشيطان، واللَّه منه بريء، هو ما دون الولد والوالد" فقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: "إني لأستحي من اللَّه أن أخالف أبا بكر" (1) فاستحيا عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه، وأنه ليس كلامه كله صوابًا مأمونًا عليه الخطأ، ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أَقرَّ عند موته أنه لم يقْضِ في الكلالة بشيء، وقد اعترف أنه لم يفهمها (¬4). [ما خالف فيه عمر أبا بكر] الوجه الثاني: أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يُذكر كما خالفه في سبْي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغ خلافه إلى ردِّهِنّ حرائر إلى ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) قارن بـ"الإحكام" (6/ 65 - 67) لابن حزم فإنه قد أورد الوجوه الخمسة. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) أخرج عبد الرزاق (10/ 305، رقم 19194، 19195)، وسعيد بن منصور في "سننه" (رقم 587 - ط الشيخ سعد حميد) عن عمرو عن طاوس قال: وذكر الكلالة، وأمر عمر حفصة بسؤال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عنها، وقول عمر في آخره: "اللهم من فهمها فإني لم أفهمها"، ورجاله ثقات، وطاوس لم يشهد هذه الحادثة. وللأثر طرق يصل بها إلى الحسن لغيره. فأخرجه إسحاق في "مسنده" -كما في "المطالب العالية" (رقم 1551 - المسندة، ورقم 1474 - ط الأعظمي) -ومن طريقه ابن جرير (9/ 431 رقم 10866) - وابن حزم في "الإحكام" (6/ 128)، عن سعيد بن المسيب، وذكر قصة نحوها، وفي آخره الشاهد. قال ابن حجر في "المطالب": "صحيح إن كان ابن المسيب سمعه من حفصة -رضي اللَّه عنها-".

أهلهن إلا مَنْ ولدت لسيِّدها منهن، ونَقَضَ حكمه (¬1)، ومن جملتهن خولة الحنفيِّة، أم محمد بن علي (¬2)، فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم؟ وخالفه في أرض العنْوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر (¬3)، وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية ورأى عمر المفاضلة (¬4)، ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصَرَّح بذلك، فقال: إن أسْتخلِف فقد استخلفَ أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يستخلف، قال ابن عمر: [فواللَّه] (¬5) ما هو إلا أن ذَكَر رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلمت أنه لا يعدل برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدًا، وأنه غير مستخلف (¬6)؛ فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقول غيره، لا يعدلون بالسنة شيئًا سواها، لا كما يصرح به المقلِّدون صراحًا، وخلافه له في الجد والإخوة (¬7) معلوم أيضًا. ¬

_ (¬1) هذا أمر مشهور عن عمر، انظر "معالم السنن" (2/ 202)، و"إكمال المعلم" للقاضي عياض (1/ 197، 199 - 200) (كتاب الإيمان)، و"المفهم" (1/ 185 - 187) لأبي العباس القرطبي، و"المجموع" (5/ 334) للنووي، و"فتح الباري" (12/ 280)، وانظر ذلك مسندًا في "الأموال" (2/ 133) لأبي عبيد، و"الأموال" (1/ 349) لابن زنجويه، و"السنن الكبرى" (9/ 73، 74) للبيهقي، و"السير" (5/ 2237) لمحمد بن الحسن. (¬2) هي خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة، وكانت أمة سوداء من سبي بني حنيفة، ولم تكن منهم، انظر: "طبقات ابن سعد" (5/ 66). (¬3) انظر الروايات في ذلك عند أبي عبيد في "الأموال" (رقم 58، 59)، وأبي يوسف في "الخراج" (26، 48)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 134)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 341، 344)، وانظر: "صحيح البخاري" (2334)، و"مسند أحمد" (1/ 31)، وتوجيه قول عمر في المسألة في "المغني" (2/ 716)، و (8/ 379)، و"الرخصة العميمة في قسمة الغنيمة" لابن الفركاح، ورد النووي عليه "وجوب قسمة الغنيمة" كلاهما بتحقيقي -يسر اللَّه نشرهما- و"موسوعة فقه عمر" (62 - 64). (¬4) أما عمر: فقد روى البخاري في "صحيحه" (4022) في (المغازي): من طريق إسماعيل بن قيس قال: كان عطاء البدريين خمسة آلاف، وقال عمر: لأفضلنهم، ومضى هذا مفصلًا. (¬5) في (ط): "واللَّه". (¬6) رواه مسلم في "صحيحه" (1823). في الإمارة: باب الاستخلاف وتركه. (¬7) سبق تخريجه، وخرجناه أيضًا في التعليق على "الموافقات" (5/ 161) للشاطبي، وجميع الأمثلة السابقة عند ابن حزم في "الإحكام" (6/ 66) وقال: "وفي غير ذلك كثيرًا بالأسانيد الصحاح، المبطل لقول من قال: إنه كان لا يخالفه، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات".

[عودة إلى الرد على المقلدة بعمل عمر]

[عودة إلى الرد على المقلدة بعمل عمر] الثالث: أنه لو قُدِّر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يُداني الصحابة ولا يقاربهم، فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلِّدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره، واللَّه ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر. الرابع: أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مما استحيا منه عمر؛ لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه -ولا يستحيون من ذلك- لقول مَنْ قلَّدوه من الأئمة، بل قد صرَّح بعد غُلاتهم في بعض كتبة الأصولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر، ويجب تقليد الشافعي، فياللَّه العجب الذي أَوجبَ تقليد الشافعي وحَرَّم عليكم تقليد أبي بكر وعمر؟! ونحن نُشهد اللَّه علينا شهادة نُسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صحَّ عن الخليفتين الراشدين اللَّذين أَمرنا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باتباعهما والاقتداء بهما (¬1) قَولٌ وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم، ونحمد اللَّه [على] (¬2) أن عَافَانا مما ابتلى به مَنْ حَرَّم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة. وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر اللَّه و [لا] (¬3) رسوله بتقليده، ولا جعله عيارًا على كتابه وسنة رسوله (¬4)، ولا هو جعل نفسه كذلك. الخامس: أن غاية هذا أن يكون عمر قد قَلَّد أبا بكر في مسألة واحدة، فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع [لا يُلتفت إلى قول [من] (¬5) سواه بل ولا إلى نصوص الشارع] (¬6) إلا إذا وافقت قوله (¬7)؟ فهذا واللَّه هو الذي أجمعت الأمة على أنه مُحرَّم في دين اللَّه، ولم يظهر في الأُمّة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة. ¬

_ (¬1) حديث: "اقتدوا باللذين من بعدي. . ." سبق تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) في (د): "نبيه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في المطبوع: "وافقت نصوص قوله".

[حجج إبطال التقليد]

[حجج إبطال التقليد] الوجه السابع والثلاثون: قولهم إن عمر قال لأَبي بكر: رأُينا لرأيك تَبَعٌ؛ فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة، واكتفى بها، والحديث من أعظم الأشياء إبطالًا لقوله: ففي "صحيح البخاري" عن طارق بن شهاب قال: جاء وفْدُ بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح، فخيَّرهم بين الحرب المُجْلية (¬1) والسِّلم المخزية (¬2)، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: ننزع منكم الحلقة والكُراع (¬3)، ونغنم ما أصبنا لكم، وتردّون علينا (¬4) ما أصبتم منا، وتدون لنا قتْلانا، وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يُرِيَ اللَّه خليفة رسوله والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به، فَعَرَضَ أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا سنشير عليك: أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وما ذكرت من أن نَغنَم ما أصبنا منكم وتردُّون ما أصبتم مِنَّا فنعمَ ما ذكرت، وأما ما ذكرت من [أن] (¬5) تدُون قتلانا وتكون قتلاكم في النار؛ فإن قَتْلانا قَاتَلت فقُتلت على ما أمر اللَّه أجورها على اللَّه ليس لها دِيَّات، فتتابع القوم على ما قال عمر، فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: "قد رأيت رأيًا ورأينا لرأيك تبع" (¬6) فأي مستراحٍ في هذا لفرقة التقليد؟ ¬

_ (¬1) وهي التي تجلي الناس عن أوطانهم. (¬2) وهي التي تخزيهم، أي توقعهم في الخزي، وهو الهوان. (¬3) "الحلقة: السلاح عامة أو الدروع خاصة، والكراع: اسم لجميع الخيل" (و). (¬4) في المطبوع: "لنا". (¬5) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬6) رواه البخاري في "صحيحه" (7221) في (الأحكام): باب الاستخلاف وهو عنده مختصر جدًا. وهو بهذه السياقة التي ذكرها المؤلف: رواه البرقاني في "مستخرجه" كما ذكر الحافظ في "الفتح" (13/ 210) بالإسناد الذي رواه البخاري نفسه. وذكره الحميدي في "الجمع بين الصحيحين" (1/ 96 رقم 17) وعزاه له ابن الأثير في "جامع الأصول" (11/ 793). وانظر أيضًا "عمدة القاري" (24/ 281) حيث قال: وقال يعقوب بن محمد الزهري. . . فذكره بإسناده مطولًا كما هو عند ابن القيم هنا ورواه سعيد بن منصور في "السنن" (2/ 361)، وأبو عبيد (254) وعنه ابن زنجويه (2/ 460، 461 رقم 742) كلاهما في "الأموال"، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 335)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1830)، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.

[لم يكن ابن مسعود يقلد عمر]

[لم يكن ابن مسعود يقلد عمر] الوجه الثامن والثلاثون: قولهم إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر، فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يُتكلَّف إيراده (¬1)، وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم، وحتى لو أخذ بقوله تقليدًا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدُّها، وكان من عُمَّاله وكان عمر أمير المؤمنين، وأما مخالفته له ففي نحو مئة مسألة: منها أن ابن مسعود صَحَّ عنه أن أم الولد تُعتق من نصيب ولدها (¬2)، ومنها أنه كان يُطبِّق في الصلاة إلى أن مات (¬3) وعمر كان يضع يديه على ركبتيه (¬4)، ومنها أن ابن مسعود كان يقول في الحَرَام: هي يمينٌ (¬5) وعمر ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 92) و"الإحكام" (6/ 68) لابن حزم. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 438)، وعبد الرزاق في "المصنف" (7/ 289 رقم 13214، 13215)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (ق 1/ 3/ 270)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 248) وابن حزم في "الإحكام" (6/ 16)، وإسناده صحيح. (¬3) الذي وجدته أن ابن مسعود رحمه اللَّه كان يطبق، وقد روى في هذا حديثًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه مسلم في "صحيحه" (534) في (المساجد ومواضع الصلاة): وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 277)، و"مصنف عبد الرزاق" (2/ 152)، وغيرها من كتب السنة أنه رحمه اللَّه كان يطبق، ولم أجد نصًا صريحًا أنه فعل ذلك إلى الممات -وهذه عبارة ابن حزم في "الإحكام" (6/ 62) - وإن كان هذا هو الظاهر. (¬4) ورد عنه أنه قال: "سُنَّت لكم الركب فأمسكوا بالركب"، رواه الترمذي (258) في (الصلاة): باب ما جاء في وضع اليدين على الركبتين في الركوع، والنسائي (2/ 185) في (التطبيق): باب الإمساك بالركب في الركوع، وعبد الرزاق (2863)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 299)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 84) من طرق عن أبي حصين عثمان بن عاصم عن أبي عبد الرحمن السلمي عنه. قال الترمذي: حديث عمر حسن صحيح. ورواه النسائي (2/ 185) من طريق الطيالسي عن شعبة عن الأعمش عن إبراهيم عن أبي عبد الرحمن به. قال الدارقطني في "العلل" (2/ 244): ولم يتابع عليه (أي الطيالسي)، والمحفوظ حديث أبي حصين. وروى ابن أبي شيبة (1/ 275)، وعبد الرزاق (2/ 152) بأسانيد صحيحة عن عمر أنه كان يضع يديه على ركبتيه في الركوع. (¬5) روى عبد الرزاق (11366)، وسعيد بن منصور (1693) عن ابن عيينة عن عبد اللَّه بن أبي نجيح عن مجاهد عنه أنه قال: هي يمين. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. =

يقول: طلقة واحدة (¬1)، ومنها أن ابن مسعود كان يُحرِّم نكاح الزانية على الزاني أبدًا (¬2). ¬

_ = ورواه كذلك ابن أبي شيبة (4/ 57) من طريق جويبر عن الضحاك، أن أبا بكر وعمر وابن مسعود. وهذا إسناد ضعيف جدًا؛ لحال جويبر. لكن روى سعيد بن منصور في "سننه" (1698)، وابن أبي شيبة (4/ 56)، والبيهقي (7/ 351)، وذكره عبد الرزاق (11366) عن الثوري عن أشعث بن سَوَّار عن الحكم عن ابن مسعود قال: إن كان نوى طلاقًا فطلاق، وإن نوى يمينًا فيمين. وأشعث بن سوار ضعّفه أحمد وأبو زرعة وأبو داود وبُندار وابن عدي وغيرهم. ونحو هذا ورد عنه من طريق آخر، فقد رواه ابن أبي شيبة (4/ 56) من طريق شريك عن مخول بن راشد عن عامر عنه، وشريك هو القاضي ضعيف، وعامر لعله الشعبي لكن لم يذكروا لمخول رواية عنه! ورواه ابن أبي شيبة أيضًا من طريق يزيد بن هارون عن مخول عن أبي جعفر مثله. لا أدري هل يريد باقي الإسناد أم إلى عبد اللَّه بن مسعود؟ وأبو جعفر هذا هو محمد بن علي بن الحسين وهو من الثقات لكنه لم يدرك ابن مسعود. (¬1) اختلفت الرواية عن عمر: فقد روى عبد الرزاق (11391)، والبيهقي (7/ 351) عن الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم، قال: رُفع إلى عمر رجل فارق امرأته بتطليقتين ثم قال: أنت عليَّ حرام، قال: ما كنت لأردها عليه أبدًا. وهذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، إبراهيم هذا هو ابن سعد بن أبي وقاص لأنه هو الذي ذكروا أنه يروي عنه حبيب وهو لم يدرك عمر وفي هذه الطبقة إبراهيم النخعي وهو لم يدرك عمر أيضًا. وروى ابن أبي شيبة (4/ 56)، وسعيد بن منصور (1701) من طريق (أيوب وخالد الحذاء) كلاهما عن عكرمة عن عمر أنه قال: الحرام يمين. وعكرمة لم يدرك عمر أيضًا. وروى البيهقي (7/ 351) من طريق الثوري عن جابر عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر أنه كان يجعل الحرام يمينًا، وجابر هو الجعفي ضعيف. (¬2) روى سعيد بن منصور في "سننه" (896)، والبيهقي في "سننه" (7/ 156) من طريق عبد الوهاب وأبو عوانة عن سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عنه أنه قال: هما زانيان ما اجتمعا. وإسناده صحيح رجاله ثقات، وهو في "مصنف ابن أبي شيبة" (3/ 362) لكن في الإسناد تخليط. ثم رواه البيهقي بإسناد آخر عنه. لكن ورد عنه غير ذلك فقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" (12798) عن معمر عن =

وعمر كان يُتوِّبهما ويُنكح أحدهما الآخر (¬1)، ومنها أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها (¬2)،. . . . ¬

_ = قتادة عن أيوب عن ابن سيرين قال: سئل ابن مسعود عن الرجل يزني بالمرأة ثم ينكحها قال: هما زانيان ما اجتمعا. قال: فقيل لابن مسعود: أرأيت إن تابا قال: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات" قال: فلم يزل ابن مسعود يرددها حتى ظننا أنه لا يرى به بأسًا. ورجاله ثقات لكنه منقطع ابن سيرين لم يدرك ابن مسعود. وروى قريبًا من هذا المعنى عنه أيضًا سعيد بن منصور (902)، والبيهقي (7/ 156) من طريق أبي جناب الكلبي عن بُكير بن الأخنس عن أبيه عن ابن مسعود، وأبو جناب الكلبي هذا ضعفوه لكثرة تدليسه. وروى سعيد بن منصور (903)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 156) عن خلف بن خليفة عن أبي جناب به فقال ابن مسعود: ليتزوجها. وعلق البيهقي من طريق إبراهيم بن مهاجر عن النخعي عن همام بن الحارث عن ابن مسعود في الرجل يفجر بالمرأة ثم يريد أن يتزوجها قال: لا بأس بذلك. وإبراهيم بن مهاجر هذا له أوهام. (¬1) روى سعيد بن منصور في "سننه" (885)، والشافعي في "مسنده" (2/ 15)، ومن طريقه البيهقي (7/ 155)، عن سفيان بن عيينة حدثني عبيد اللَّه بن أبي يزيد عن أبيه أن رجلًا تزوج امرأة ولها ابنة من غيره وله ابن من غيرها ففجر الغلام بالجارية فظهر بها حَبَل فلما قدم عمر. . فجلدهما عمر الحد وحرص أن يجمع بينهما فأبى الغلام. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وأبو يزيد والد عبيد اللَّه يقال إن له صحبة. ورواه ابن أبي شيبة (3/ 360) من طريق سفيان بن عيينة به، وسَمَّى الرجل الذي تزوج المرأة سباع ابن ثابت. لكن رواه عبد الرزاق (12793) أخبرنا ابن جريج قال: أخبرني عبيد اللَّه بن أبي يزيد أنه سمع سباع بن ثابت يقول: إن وهب بن رباح. . . فذكره، فسمى الرجل وهبًا (وفي الصحابة موهب بن رباح)، وعلى كل حال لا يهم من وقعت معه القصة، وقد اتفقت الروايات على المعنى وهو أن عمر أراد أن يجمع بينهما بعدما زنيا وأُقيم عليهما الحد. فإما أن تكون رواية سفيان بن عيينة هي الأرجح أو أن الروايتين كلتيهما صحيحة واللَّه أعلم. ووقع في (ك): "وكان عمر". (¬2) رواه سعيد بن منصور (1942) من طريق مغيرة، وعبد الرزاق (13169) من طريق حماد كلاهما عن إبراهيم عنه قال: بيع الأمة طلاقها. ورواه ابن أبي شيبة (4/ 64) من طريق الأعمش عنه. ورواه سعيد بن منصور من طريق الشعبي عنه. وثلاثتهم أي (إبراهيم النخعي والأعمش والشعبي)، لم يسمع من ابن مسعود وحكم ابن حجر في "الفتح" (9/ 404) بانقطاعه.

[مكانة ابن مسعود بين الصحابة في علمه]

وعمر يقول: لا تَطْلُق بذلك (¬1)، إلى قضايا كثيرة (¬2). [مكانة ابن مسعود بين الصحابة في علمه] والعجب أن المحتجين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر، وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحبُّ إليهم وآثر عندهم، ثم كيف يُنسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أني أعلمهم بكتاب اللَّه، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلتُ إليه. قال شقيق: فجلستُ في حلقةٍ من أصحاب رسول اللَّه فما سمعتُ أحدًا يرد ذلك عليه (¬3)، وكان يقول: والذي لا إله إلا هو ما من كتاب اللَّه سورة إلا وأنا أعلم حيث نَزَلت، وما من آية إلا وأنا أعلمُ فيما نَزَلت، ولوَ أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب اللَّه منِّي تبلغه الإبل لركبتُ إليه (¬4)، وقال أبو موسى الأشعري: كُنَّا حينًا وما نَرى ابنَ مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من كثرة دخولهم ولزومهم له (¬5)، وقال أبو مسعود البَدْريّ، ¬

_ (¬1) روى سعيد بن منصور (1951) عن هشيم أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق عن أبيه قال: كتب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- إلى يسار بن نمير أن يبتاع له جارية ففعل ثم بعث بها إليه فاخبرته أن لها زوجًا في أهلها فكف عنها، وكتب إليه أن يشتري بُضْعها من زوجها ففعل. وعبد الرحمن هذا هو أبو شيبة الواسطي ضعفه الأئمة. وروى ابن أبي شيبة (4/ 65) عن شريك عن عبيد اللَّه بن سعد عن ابن يسار عن عمر قال: اشترِ بُضْعها. وشريك هو القاضي ضعيف. (¬2) ذكر ابن حزم في "الإحكام" (6/ 61 - 62)، جميع الأمثلة السابقة، ثم قال: "ويخالفه في قضايا كثيرة جدًا" وله نحو الكلام الآتي، واللَّه الهادي. (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب فضائل القرآن): باب القراء من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (9/ 46 - 47/ 5000)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب فضائل الصحابة): باب من فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه -رضي اللَّه عنهما- (4/ 1912/ 4262) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 62) - وغيرهما. (¬4) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب فضائل القرآن): باب القراء من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (9/ 47/ 5002)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب فضائل الصحابة): باب من فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه -رضي اللَّه عنهما- (4/ 1913/ 2463) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 63) وغيرهما. (¬5) رواه البخاري (3763) في (فضائل الصحابة): باب مناقب عبد اللَّه بن مسعود، و (4384) في (المغازي): باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، ومسلم (2460) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه.

[لم يكن الصحابة يقلد بعضهم بعضا]

وقد قام عبد اللَّه بن مسعود: ما أعلمُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ترك بعده أعلم بما أنزل اللَّه من هذا القائم، فقال أبو موسى: لقد كان يَشْهد إذا غبنا (¬1)، ويُؤْذن له إذا حُجبنا (¬2)، وكتب عمر -رضي اللَّه عنه- إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليكم عَمَّارًا أميرًا وعبد اللَّه معلمًا ووزيرًا، وهما من النُّجباء من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل بدر، فخذوا عنهما، واقتدوا بهما؛ فإني آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي (¬3)، وقد صح عن عمر أنه استفتى ابن مسعود في "ألبتَّة" وأخذ بقوله (¬4)، ولم يكن ذلك تقليدًا له، بل لمّا سمع قوله فيما تبيَّن له أنه الصواب؛ فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضًا، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: اغْدُ عالمًا أو متعلمًا، ولا تكونن إمّعة (¬5)، فأخرج الإمّعة -وهو المقلد- من زُمرة العلماء والمتعلمين، وهو كما قال -رضي اللَّه عنه-؛ فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعِلْم والحجة، كما هو معروف ظاهر لمن تأمله. [لم يكن الصحابة يقلد بعضهم بعضًا] الوجه التاسع والثلاثون: قولهم: إن عبد اللَّه كان يدع قوله لقول عمر، وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي، وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب (¬6)، فجوابه أنهم لم يكونوا يدَعون ما يعرفون من السنة تقليدًا لهؤلاء الثلاثة كما تفعله فرقةُ التقليد، بل من تأمَّل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ما غبنا"!! (¬2) رواه مسلم (2461) في فضائل الصحابة: باب فضائل عبد اللَّه بن مسعود وأمه -ومن طريقه ابن حزم (6/ 63) -. وفي (د): ما حُجبنا"، والصواب حذف "ما". (¬3) رواه ابن سعد (3/ 255)، والطبراني في "الكبير" (8478)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 533)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 388)، والبيهقي في "المدخل" (101) من طريق أبي نعيم ووكيع وسفيان، وابن حزم في "الإحكام" (4/ 211) من طريق شعبة كلهم عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب به. وأبو إسحاق السبيعي اختلط إلا أن سفيان الثوري روى عنه قبل الاختلاط. قال الهيثمي (9/ 291): رجال الطبراني رجال "الصحيح" غير حارثة وهو ثقة. (¬4) ذكره ابن حزم في "الإحكام" (4/ 214) بحرفه، وفي النسخ المطبوعة "صح عن ابن عمر"!! والصواب حذف (ابن) كما في (ق). (¬5) مضى تخريجه مسهبًا. (¬6) مضى تخريجه من قول مسروق، وفيه جابر الجعفي.

[معنى أمر رسول الله باتباع معاذ]

يدَعونها لقول أحد كائنًا من كان، وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة، وابن عباس يُنكر على من يُعارض ما بلغه من السنة بقوله: قال أبو بكر وعمر، ويقول: يوشك أن تنزلَ عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقولون: قال أبو بكر وعمر (¬1)!! فرحم اللَّه ابن عباس ورضي عنه، فواللَّه لو شاهد خَلَفَنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ قالوا: قال فلانٌ وفلان، لمن لا يُداني الصحابةَ ولا قريبًا من قريب، وإنما كانوا يدَعون أقوالهم لأقوال هؤلاء لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء؛ فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم، كما يفعل أهل العلم الذين هو أحبُّ إليهم مما سواه، وهذا عكس طريقة فرقة أهل التقليد من كل وجه، وهذا هو الجواب عن قول مسروق: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس (¬2). [معنى أمر رسول اللَّه باتباع معاذ] الوجه الأربعون: قولهم: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "قد سَنَّ لكم معاذٌ فاتبعوه" (¬3) فعجبًا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين اللَّه، وهل صار ما سَنَّه معاذ سنة إلا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فاتبعوه" كما صار الأذان سنة بقوله وإقراره وشرعه (¬4)، لا بمجرد المنام. ¬

_ (¬1) روى أحمد في "مسنده" (1/ 337)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" رقم (2378 و 2381) من طريق شريك عن الأعمش عن فضيل بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال. . . ثم جاء فيه: أراهم سيهلكون، أقول قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ويقولون قال أبو بكر وعمر؟! وهذا إسناد ضعيف، شريك هو ابن عبد اللَّه القاضي ضعفوه، لسوء حفظه. وروى الطبراني في "معجمه الأوسط" (رقم 21) من طريق إبراهيم بن أبي عبلة عن ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير أنه أتى ابن عباس فقال: فقد كان أبو بكر وعمر ينهيان عن ذلك، فقال: أهما -ويحك- آثر عندك أم ما في كتاب اللَّه وما سن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أصحابه، وفي أمته! قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 334): وإسناده حسن. ونسب ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" رقم (2377) لعبد الرزاق عن معمر عن أيوب قال: قال عروة لابن عباس. . . فقال ابن عباس: واللَّه ما أراكم منتهين حتى يعذبكم اللَّه؛ نحدثكم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتحدثونا عن أبي بكر وعمر. . . وهذا إسناد صحيح. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) مضى تخريجه. (¬4) حديث رؤية الأذان في المنام هو حديث عبد اللَّه بن زيد وله طرق عن عبد اللَّه أحدها: =

فإن قيل: فما معنى الحديث؟ قيل: معناه أن معاذًا فعل فعلًا جعله اللَّه لكم سنة، وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لا لأن معاذًا فعله فقط، وقد صح عن معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطعُ أعناقَكُم، وزلَّةِ عالم، وجدالِ منافق بالقرآن؛ فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلِّدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن (¬1) ثم يتوب، وأما القرآن فإن له منارًا كمنار الطريق لا يخفى على أحد؛ فما عَلِمتم منه فلا تسألوا عنه أحدًا، وما لم تعلموه فكِلوه إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل اللَّه غِناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه (¬2)، فصدع -رضي اللَّه عنه- بالحق، ونهى عن التقليد في كل شيء، وأمر باتباع ظاهر القرآن، وأن لا يُبالي بمن خالف فيه، وأمر بالتوقف فيما أشكل، وهذا كله خلاف طريقة المقلدين، وباللَّه التوفيق. ¬

_ = طريق محمد بن إسحاق حدثني محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه عن أبيه عبد اللَّه بن زيد. رواه من هذا الطريق: أحمد (4/ 43)، والدارمي (1/ 268 و 269)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (180 و 181)، وأبو داود (499) في (الصلاة): باب كيف الأذان، والترمذي (189) مختصرًا، وابن ماجه (706) في (الأذان): باب بدء الأذان، وابن الجارود (158)، وابن حبان (1679)، وابن خزيمة (371)، والدارقطني (1/ 341)، والبيهقي (1/ 390 - 391 و 415). قال الترمذي: حسن صحيح، وقال ابن خزيمة: سمعت محمد بن يحيى (الذهلي) يقول: ليس في أخبار عبد اللَّه بن زيد في قصة الأذان خبرٌ أصح من هذا لأن محمد بن عبد اللَّه بن زيد سمعه من أبيه. وقال ابن خزيمة: وخبر عبد اللَّه بن زيد ثابت صحيح من جهة النقل. وقد صححه أيضًا البخاري فيما نقله عنه الترمذي في "العلل الكبير"، وانظر: "تنقيح التحقيق" (1/ 706، 707)، "التلخيص الحبير" (1/ 209)، "نصب الراية" (1/ 279 - 280)، "الإشراف" (1/ 233) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. أقول: ونحن إنما نخشى من تدليس ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع، وقد جاء في هذا الحديث: "فلما خَبَّرتُها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: إنها لرؤيا حق إن شاء اللَّه فقم مع بلال فالقها عليه؛ فإنه أندى صوتًا. فلما أذّن بها بلال سمع بها عمر بن الخطاب فخرج إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجر رداءه وهو يقول: يا نبي اللَّه والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثلما رأى! فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فللَّه الحمد. فذاك أثبت، وهذا يتوافق مع توجيه المصنف له. (¬1) في (ك) و (ق): "يفتن". (¬2) مضى تخريجه.

[طاعة أولي الأمر]

[طاعة أولي الأمر] الوجه الحادي والأربعون: قولكم: إن اللَّه سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به؛ فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء (¬1)، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول، لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يُطاعون في طاعة اللَّه إذا أَمروا بأمر اللَّه ورسوله؛ فكان العلماءُ مبلِّغين لأمر الرسول، والأمراء منفِّذين له، فحينئذ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة اللَّه ورسوله، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإيثار التقليد عليها؟! الوجه الثاني والأربعون: أن هذه الآية من أكبر الحجج عليكم (¬2)، وأعظمها إبطالًا للتقليد، وذلك من وجوه: أحدها: الأمر بطاعة اللَّه التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه. الثاني: طاعة رسوله، ولا يكون العبد مطيعًا للَّه ورسوله حتى يكون عالمًا بأمر اللَّه ورسوله، ومن أقرَّ على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر اللَّه ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة اللَّه ورسوله ألبتة. الثالث: أن أولي الأمر قد نهوْا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عباس وغيرهم من الصحابة (¬3)، وذكرناه نصًا عن الأئمة الأربعة وغيرهم (3)، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد، وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال. الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] وهذا صريحٌ في إبطال التقليد، والمنعُ من ردِّ المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد. فإن قيل: فما هي طاعتُهُم المختصة بهم؛ إذ لو كانوا إنما يُطاعون فيما يخبرون به عن اللَّه ورسوله كانت الطاعة للَّه ورسوله لا لهم؟ قيل: وهذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال، ولهذا قَرَنَها بطاعة الرسول ولم يُعد العامل، وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه ¬

_ (¬1) مضى بيان ذلك بالتفصيل. (¬2) في المطبوع: "عليهم". (¬3) تقدم تخريج كل هذه الآثار في مواضع عدة.

[الثناء على التابعين ومعنى كونهم تابعين]

إنما يطاع تبعًا كما يُطاع أولو الأمر تبعًا، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالًا سواء كان ما أمر أو نهى عنه (¬1) في القرآن أو لم يكن. [الثناء على التابعين ومعنى كونهم تابعين] الوجه الثالث والأربعون: قولهم: إن اللَّه سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان؛ فما أصْدق المقدمة الأولى، وما أكذب الثانية، بل الآية من أعظم الأدلة ردًا على فرقة التقليد؛ فإن اتِّباعهم هو سلوك سبِيلِهم ومنهاجهم، وقد نهوْا عن التقليد وكون الرجل إمّعة، وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة، ولم يكن فيهم -وللَّه الحمد- رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين، وقد أعاذهم اللَّه وعافاهم مما ابتلى به مَن يردُّ النصوص لآراء الرجال وتقليدها؛ فهذا ضد متابعتهم، وهو نفس مخالفتهم؛ فالتابعون لهم بإحسان حقًا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب اللَّه وسنة رسوله رأيًا ولا قياسًا ولا معقولًا ولا قول أحد من العالمين، ولا يجعلون مذهب رجل (¬2) عيارًا على القرآن والسنن؛ فهؤلاء أتباعهم حقًا، جَعَلنا اللَّه منهم بفضله ورحمته. [من هم أتباع الأئمة] يوضحه الوجه الرابع والأربعون: أن أتْباعَهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مُقرِّون على أنفسهم وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان (¬3) سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم، والجهال أسعد باتِّباعهم منهم، وهذا عين المحال، بل من خالف واحدًا منهم للحجة فهو المُتَّبع له، دون من أخذ قوله بغير حجة، وهكذا القول في أتباع الأئمة -رضي اللَّه عنهم-، معاذ اللَّه أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين يُنزلون آراءهم منزلة النصوص، بل يتركون لها النصوص؛ فهؤلاء ليسوا من أتباعهم، وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى مناهجهم. ولقد أنكر بعض المقلِّدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة، والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له، ومن المحال أن ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ونهى عنه". (¬2) في المطبوع: "مذهب أحد". (¬3) في (ك): "لكانوا".

[الكلام على حديث أصحابي كالنجوم]

يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم، فأَتْبع الناس لمالك ابن وهبٍ وطبقته ممن يحكِّم الحجة وينقاد للدليل أين كان، وكذلك أبو يوسف ومحمد أتْبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له، وكذلك البخاري ومسلم (¬1) وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتْبع له من المقلدين المحضْ المنتسبين إليه، وعلى هذا فالوقف على أتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر. [الكلام على حديث أصحابي كالنجوم] الوجه الخامس والأربعون: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: "أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتُم اهتديتُم" (¬2) جوابه من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن عمر (¬3)، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها (¬4)، قال ابنُ عبد البرِّ (¬5): حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد اللَّه بن مفرح حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت قال: قال لنا البَزَّار: وأما ما يروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فهذا الكلام لا يصح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين: فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي ¬

_ (¬1) انظر تحرير مذهبه والمذكورين في كتابي "الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح" (1/ 37 - 47). (¬2) مضى تخريجه. (¬3) في المطبوع "ابن عمر" و (ك)، والصواب ما أثبتاه كما في مصادر التخريج. (¬4) وقد تقدم تخريجها مع زيادة عليها والحمد للَّه وحده. (¬5) في "الجامع" (2/ 923 - 924)، ونقل قول البزار هذا: ابن الملقن في "تذكرة المحتاج" (ص 68)، والزركشي في "المعتبر" (83)، وابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (1/ 147). (ملاحظة): إسناد ابن عبد البر في "الجامع" غبر المسوق هنا، ثم وجدت الإسناد المذكور إلى البزار في "الإحكام" (6/ 83) وأوله: "وكتب إليَّ النمري. . . " وهو ابن عبد البر، وعنده: "أن أبا عبد بن مفرج". (¬6) في هامش (ق): "قال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد بن حنبل عمن احتج بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم" قال: "لا يصح هذا الحديث"".

يُهتدى بها وقلَّدتم من هو دونهم بمراتب كثيرة؛ فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحًا، واستدللتم به على تقليد من لم يتعرَّض له بوجه. الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورّث الجد مع الإخوة منهم (¬1) ومن أسقط الإخوة به معًا (¬2)، وتقليد من قال: الحرام يمين (¬3)، ومن قال: هو طلاق (¬4)، وتقليد من حَرَّم الجمع بين الأختين بملك اليمين (¬5)، ومن أباحه (¬6)، وتقليد من جَوَّز للصائم أكل البَرد (¬7). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) هو عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- وقد مضى تخريج هذا الأثر قريبًا. (¬4) هو عمر -رضي اللَّه عنه- وقد مضى أيضًا. (¬5) ورد عن عمّار: رواه ابن أبي شيبة (3/ 306)، والبيهقي (7/ 163) من طريق مطرف عن أبي الجهم عن أبي الأخضر عنه، أنه كره من الإماء ما كره من الحرائر إلا العدد. ورجاله ثقات مشهورون، وأبو الأخضر وجدت أنه صاحب عمّار بن ياسر. وعن ابن مسعود رواه البيهقي (7/ 163) من طريق جعفر بن عون عن ابن سَوّار عن ابن سيرين عن عبد اللَّه بن عتبة عنه. ورجاله ثقات غير ابن سَوّار هو أشعث وهو ضعيف. وعن ابن عمر: رواه ابن أبي شيبة (3/ 106) عن أبي معاوية الضرير عن حجاج عن ميمون عنه. وحجاج هو ابن تميم؛ لأنه هو الذي يروي عن ميمون بن مهران، وهو ضعيف؛ قال ابن عدي: ليس له كثير رواية، ورواياته ليست بالمستقيمة، وقال العقيلي: روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها، وميمون من الثقات. وعن علي بن أبي طالب: رواه ابن أبي شيبة (3/ 306) من طريق موسى بن أيوب عن عمّه عنه. وموسى بن أيوب هذا هو الغافقي، روى إسحاق بن منصور وعباس الدوري عن ابن معين وأبي داود أنه ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات" أما العقيلي فنقل عن ابن معين أنه قال فيه: منكر الحديث، وعمه هو إياس بن عامر وهو صدوق، لكن ورد عنه في رواية أخرى من طريق شعبة عن أبي عون عن أبي صالح الحنفي أن ابن الكواء سأل عليًا عن الجمع بين الأختين فقال: حرمتهما آية وأحلتهما أخرى ولست أفعل أنا ولا أهلي. وأبو عون هو محمد بن عبيد اللَّه بن سعيد، وأبو صالح الحنفي هو عبد الرحمن بن قيس، وهما من الثقات، فالإسناد صحيح. (¬6) ورد هذا عن عثمان -رضي اللَّه عنه-، وقد خرجته مفصلًا. (¬7) رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائد المسند" (3/ 279)، والبزار (1022) والطحاوي (5/ 115) من طريقين عن قتادة، وعند أحمد عن قتادة وحميد والطحاوي (5/ 116) عن =

ومن منع منه (¬1)، وتقليد من قال: تعتدُّ المُتوفى عنها بأقصى الأجلين (¬2) ومن قال: بوضع الحمل (¬3)، وتقليد من قال: يحرم على المُحرم استدامة الطيب (¬4)، وتقليد من أباحه (¬5)، وتقليد من جَوَّز بيع الدِّرهم بالدرهمين (¬6)، وتقليد من ¬

_ = ثابت جميعهم عن أنس قال: مطرنا بردًا، وأبو طلحة صائم فجعل يأكل منه. قيل له: أتأكل وأنت صائم؟ قال: إنما هذا بركة. وهذا إسناد صحيح، موقوف على أبي طلحة، وقال البزار: لا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة. ورواه أبو يعلى (1424) و (3999)، والبزار (1021) والطحاوي في "المشكل" (1864) من طريق علي بن زيد بن جدعان عن أنس مرفوعًا بجواز أكل البرد للصائم!! قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 171 - 172): "رواه أبو يعلى، وفيه علي بن زيد وفيه كلام، وقد وثق، وبقية رجاله رجال الصحيح". قلت: علي بن زيد ضعيف، ولا يقبل منه مثل هذه المنكرات!! (¬1) ذكرت قول البزار من قبل: "ولا نعلم هذا الفعل إلا عن أبي طلحة". (¬2) ممن قال: "تعتد أبعد الأجلين" ابن عباس: رواه البخاري (4909) في "التفسير" باب: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ومسلم (1485) في (الطلاق): باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل. (¬3) منهم ابن مسعود: رواه البخاري (4910) في (التفسير): باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ. . .}. (¬4) ورد النهي عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: رواه مالك في "الموطأ" (1/ 329)، ومن طريقه البيهقي (5/ 35)، عن نافع عن أسلم مولى عمر عنه. ورواه ابن أبي شيبة (4/ 286) من طريق أيوب عن نافع به وإسناده صحيح. وعن ابن عمر بمعناه: رواه مسلم (1192) في (الحج). (¬5) ورد الإذن عن جمع من الصحابة: منهم: الحسين بن علي بن أبي طالب، رواه ابن أبي شيبة (3/ 284) وفي إسناده شريك القاضي وهو ضعيف. ومنهم: سعد بن أبي وقاص، رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 300)، ومن طريقه البيهقي (5/ 235)، وابن أبي شيبة (4/ 284) من طريقين عن عائشة بنت سعد أنها قالت: طيبت أبي. . . وسنده صحيح. ومنهم عبد اللَّه بن الزبير: رواه ابن أبي شيبة (3/ 285، 286)، بإسنادين، وكلاهما صحيح. ومنهم ابن عباس: رواه الشافعي (1/ 300)، ومن طريقه البيهقي (5/ 35)، وإسناده لا بأس به. وله طريق آخر عند ابن أبي شيبة (3/ 285)، والبيهقي (5/ 35) وإسناده جيّد كذلك. ومنهم أم المؤمنين عائشة: رواه ابن أبي شية (3/ 285). (¬6) وهذا ورد عن ابن عباس كان يقول: لا ربًا إلا في النسيئة. =

حَرَّمه (¬1)، وتقليد من أوجب الغُسل من الإكسال (¬2). . . . ¬

_ = رواه البخاري (2178) و (2179) في (البيوع): باب بيع الدينار بالدينار نساء، ومسلم (1596) في المساقاة: بيع الطعام مثلًا بمثل، من حديث أبي سعيد الخدري، وفيه كلام ابن عباس وروايات مسلم مفصلة. وقد ورد عنه أنه رجع عن ذلك: فقد روى الحاكم (2/ 42 - 43) من طريق روح بن عبادة عن حيان بن عبيد اللَّه العدوي قال: سألت أبا مجلز عن الصرف فقال: كان ابن عباس لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره ما كان فكان يقول: إنما الربا في النسيئة فلقيه أبو سعيد الخدري فقال له: يا ابن عباس ألا تتقي اللَّه إلى متى تُؤكل الناس الربا. . . ثم ذكر له الحديث. . . فقال ابن عباس: جزاك اللَّه يا أبا سعيد الجنة فإنك ذكرتني أمرًا كنت نسيته أستغفر اللَّه وأتوب إليه، فكان ينهى عنه بعد ذلك أشد النهي. وصححه ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 382) ساكتًا عنه، وذكر الحافظ أن ابن عمر كان يقول به ثم رجع، قال: "وابن عباس وقد اختلف في رجوعه" وانظر في تحقيق رجوعه "التاريخ الكبير" (1/ 2/ 487)، "مصنف عبد الرزاق" (8/ 118 - 119)، "شرح معاني الآثار" (4/ 64 - 65)، و"ذكر أخبار أصبهان" (1/ 230)، "الكفاية"، (ص 28)، "تاريخ واسط" (ص 93)، "المعرفة والتاريخ" (3/ 27)، "الاعتبار" للحازمي (ص 248، 250)، "المعجم الأوسط" (رقم 1561 - ط الطحان)، "التمهيد" (4/ 74)، "المطالب العالية" (1/ 388 - 389 - ط الأعظمي)، "الفقيه والمتفقه" (1/ 140، 141، 142 - 143 - ط القديمة)، "المغني" (4/ 1 - 3)، "تحفة الأحوذي" (4/ 442)، وتعليقي على أوهام الحاكم في "المدخل" لعبد الغني بن سعيد الأزدي (ص 104)، وللآجرِّي جزء "رجوع ابن عباس عن الصرف" ذكره ابن خير في "فهرسة ما رواه عن شيوخه" (ص 285). وفي (ق): "أجاز" بدل "جوز". (¬1) ذكرنا من جوّزه من الصحابة والباقي على تحريمه وسبق نقل إنكار أبي سعيد الخدري على ابن عباس، وكذا في المراجع المذكورة عن رجوع ابن عباس، واللَّه الموفق. (¬2) الذين أوجبوا الغسل من الجنابة جماعة كثر من الصحابة، منهم عائشة: رواه مالك (1/ 46)، والشافعي (1/ 38)، وابن أبي شيبة (1/ 108 و 109)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (1/ 245، 247)، والبيهقي في "الكبرى" (1/ 264) من طرق وأسانيد عنها. ومنهم عمر بن الخطاب: روى ذلك مالك في "الموطأ" (1/ 45)، وعبد الرزاق (936)، وابن أبي شيبة (1/ 108، 109)، والبيهقي، (1/ 166). ومنهم ابن عمر: رواه مالك (1/ 147)، وعبد الرزاق (946)، وابن أبي شيبة (1/ 111)، والبيهقي (1/ 166). ومنهم أبو هريرة: رواه عبد الرزاق (940)، وابن أبي شيبة (1/ 109). ومنهم ابن مسعود: رواه عبد الرزاق (947)، وابن أبي شيبة (1/ 109)، والبيهقي (1/ 166). ومنهم علي بن أبي طالب: رواه عبد الرزاق (942) و (943)، وابن أبي شيبة (1/ 108). =

وتقليد من أسقطه (¬1)، وتقليد من ورّث ذوي الأرحام (¬2). . . . ¬

_ = ومنهم أبو بكر الصديق: رواه عبد الرزاق (942)، وابن أبي شيبة (1/ 109). ومنهم ابن عباس: رواه عبد الرزاق (949) و (950)، وابن أبي شيبة (1/ 111). ومنهم سهل بن سعد: رواه عبد الرزاق (951)، وابن أبي شيبة (1/ 111)، والنعمان بن بشير: رواه ابن أبي شيبة (1/ 111)، وغيرهم. قال (ط): أكسل الرجل: جامع ولم ينزل. (¬1) وأما الذين أوجبوا الغسل من الماء: فقد روى البخاري في "صحيحه" (292) في (الغسل): باب غسل ما يصيب من فرج المرأة أن زيد بن خالد الجهني سأل عثمان فقال: أرأيت إذا جامع الرجل امرأته فلم يُمنِ؟ قال عثمان: يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره. قال عثمان: سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد اللَّه وأبي بن كعب -رضي اللَّه عنهم- فأمروه بذلك. والحديث في "صحيح مسلم" مختصرًا. وقد نقل الحافظ في "الفتح" (1/ 397) عن أحمد أنه ثبت عن هؤلاء العمل بخلاف هذا. فقد روى أحمد (5/ 115 و 116)، وأبو داود (214)، والترمذي (110)، وابن ماجه (609)، وابن خزيمة (225)، والبيهقي (1/ 165)، وغيرهم من طريق سهل بن سعد عن أبيّ بن كعب أنه قال: إن كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها، وانظر المصادر التي ذكرت من قبل و"الفتح". (¬2) منهم عمر بن الخطاب: فقد رواه عبد الرزاق (19112 و 19113 و 19114)، والدارمي (2/ 366 و 367)، وسعيد بن منصور (رقم 153، 154، 165، 167) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 399، 400)، وابن أبي شيبة (7/ 336، 337)، والدارقطني (4/ 99 - 100)، والبيهقي (6/ 216 - 217)، من طرق عن عمر أنه جعل للعمة الثلثين وللخالة الثلث، وكلها مرسلة عن عمر. لكن روى ابن أبي شيبة (6/ 336) عن أبي بكر بن عياش عن عاصم عن زر عن عمر أنه قسم المال بين عمة وخالة، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم بن أبي النجود، وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (6/ 217): "وهذا سند صحيح متصل". وروى ابن أبي شيبة (6/ 336)، وسعيد بن منصور (رقم 165) من طريق الأعمش عن إبراهيم قال: كان عمر وعبد اللَّه يورثان الخالة والعمة. . . وإسناده منقطع: إبراهيم لم يدرك ابن مسعود ولا عمر. وروى ابن أبي شيبة (6/ 337) من طريق عبد اللَّه بن عبيد بن عمير أن عمر ورث خالًا. وهو منقطع أيضًا. ومنهم عائشة أم المؤمنين: رواه عبد الرزاق (19124)، والدارمي (2/ 366)، والنسائي في "الكبرى" في (الفرائض) (6353) والدارقطني (4/ 85) من طريق طاوس عنها، وهو منقطع أيضًا. =

ومن أسقطهم (¬1)، وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير (¬2) ومَنْ لم يَرَه (¬3)، وتقليد ¬

_ = ومنهم ابن مسعود: رواه سفيان الثوري في "الفرائض" (رقم 36، 37، 38، 39)، وعبد الرزاق (19115)، والدارمي (2/ 367)، وسعيد بن منصور (رقم 155)، والبيهقي (6/ 217) من طريق محمد بن سالم عن الشعبي عن مسروق عنه (وسقط مسروق من إسناد عبد الرزاق). ومحمد بن سالم هذا ضعفه الأئمة، قال ابن عدي: له كتاب في الفرائض ينسب إليه من تصنيفه، والضعف على رواياته بيّن. وتوبع تابعه أبو هانئ عمر بن بشير، رواه الدارمي (2/ 381) بإسقاط مسروق. وصحح سنده الحافظ في "الفتح" (12/ 30). وروى ابن أبي شيبة (6/ 337) من طريق الشعبي عن ابن مسعود أنه كان يورث العمة والخالة. والشعبي لم يدرك ابن مسعود. ومنهم علي أيضًا: روى ذلك ابن أبي شيبة (7/ 336)، والبيهقي (6/ 217) بإسنادين فيهما رجل مجهول. وانظر لنصرة هذا الرأي: "تهذيب السنن" (4/ 171 - 174) للمصنف، و"تنقيح التحقيق" (3/ 119 - 120)، "الفوائد الشنشورية" (221)، "العذب الفائض" (2/ 15 - 16)، "التحقيقات المرضية" (ص 264)، تعليقي على "الإشراف" (4/ 681 - 683)، للقاضي عبد الوهاب. (¬1) ورد عن عمر بن الخطاب. فقد روى مالك في "الموطأ" (2/ 516)، ومن طريقه البيهقي (6/ 213)، عن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الرحمن بن حنظلة عن مولى من قريش يقال له: ابن مرسى عن عمر أنه قال عن العمة: لو رضيك اللَّه لأقرَّك. وعبد الرحمن وابن مرسى لم أجد لهما ترجمة في "تعجيل المنفعة"!! وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي": لم أعرف لهما حالًا، وقال الطحاوي: ابن مرساء غير معروف. وروى مالك في "الموطأ" (6/ 213)، ومن طريقه البيهقي (6/ 213)، وابن أبي شيبة (6/ 337) عن محمد بن أبي بكر بن حزم عن أبيه عن عمر: عجبًا للعمة تُورث ولا تَرثُ. وسقط من سند ابن أبي شيبة: "عن أبيه"، وهو سند منقطع، أبو بكر بن حزم لم يدرك عمر. والعجب أن البيهقي ذكر هذين الطريقين ثم قال: وقد روي عن عمر، (وهو المذكور في الحاشية السابقة)، ورواية المدنيين أولى بالصحة. فتعقبه ابن التركماني، قلت: الذي روي عنه بخلاف ذلك إسناده صحيح متصل ورواية المدنيين من طريقين أحدهما فيه مجهول والآخر منقطع فكيف تكون أولى بالصحة! وقد رد عن زيد بن ثابت، رواه البيهقي (6/ 213)، وإسناده جيد. (¬2) ورد هذا عن عائشة: كما رواه مسلم (1453) و (1454) في (الرضاع): باب رضاع الكبير، وهو في "صحيح البخاري" (4000) و (5088)، ولكن لم يسق القصة. (¬3) ورد هذا عن أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كما في الحديث السابق وورد أيضًا عن عمر بن =

من مَنَع تيمم الجنب (¬1) ومن أوجبه (¬2)، وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدة (¬3) ومن رآه ثلاثًا (¬4)،. . . . ¬

_ = الخطاب: رواه عبد الرزاق (13889) عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا عن عمر، وهذا إسناد صحيح. وعن ابن عمر: رواه مالك في "الموطأ" (2/ 606)، ومن طريقه الشافعي، والبيهقي (7/ 461) عن عبد اللَّه بن دينار عنه. ورواه عبد الرزاق (13890) عن معمر عن الزهري عن سالم عنه، وهذه أسانيد في غاية الصحة. (¬1) ورد عن عمر بن الخطاب وابن مسعود: وقد ثبت هذا في "صحيح البخاري" (338) في (التيمم): باب المتيمم هل ينفخ فيهما و (339) - (343)، باب التيمم للوجه والكفين، و (345)، (346) باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت أو خاف العطش تيمم، و (347) باب التيمم، ضربة، ومسلم (368) (110 - 113) في (الحيض): باب التيمم، وسياق مسلم أوضح. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 443): وقيل إن ابن مسعود رجع عن ذلك. أقول: روى ابن أبي شيبة (1/ 183) من طريق الضحاك قال: رجع عبد اللَّه عن قوله في التيمم، قال الحافظ في "الفتح" (1/ 457): إسناده منقطع. (¬2) منهم علي بن أبي طالب: رواه عنه ابن أبي شيبة (1/ 183)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 14)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ 959 رقم 5359)، وابن جرير في "التفسير" (5/ 62)، ومطين في "حديثه" (ق 29/ ب)، والبيهقي (1/ 216) من طريق المنهال بن عمرو عن زر بن حبيش عنه. وإسناده جيد، وعمار وأبو موسى كما هو في الحاشية المذكورة قبل. (¬3) ورد في الحديث الذي رواه مسلم (1472) في (الطلاق): باب طلاق الثلاث من حديث ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم. فأمضاه عليهم، ووقع في (ك): "الثلاث واحدة". (¬4) منهم عمر بن الخطاب، وحديثه في "صحيح مسلم" (1472)، وروى عبد الرزاق (11340)، والبيهقي (7/ 334) من طريق سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن زيد بن وهب عنه مثل ذلك، وإسناده صحيح. وأبو هريرة وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص: رواه أبو داود (2198) في "الطلاق": باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث. وإسناده صحيح. وابن عباس: رواه أبو داود (2197)، وعبد الرزاق (11347) - (11353)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 337) من طرق كثيرة عنه. وابن عمر: رواه مسلم (1471) في (الطلاق): أوله، ورواه عبد الرزاق (11344) من طريق معمر عن الزهري عن سالم عنه. =

وتقليد من أوجب فسْخ الحج إلى العمرة (¬1) وَمَنْ مَنَعَ منه (¬2)، وتقليد من أباح لحوم الحُمُر الأهلية (¬3) ومن منع منها (¬4)، وتقليد من رأى النّقض بمس الذَّكَر (¬5) ومن ¬

_ = وابن مسعود: رواه عبد الرزاق (11343)، من طريق معمر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عنه وإسناده صحيح. ورواه عبد الرزاق (11342)، والبيهقي (7/ 335) من طريق ابن سيرين عن علقمة عنه، وإسناده صحيح كذلك. وعلي بن أبي طالب: رواه البيهقي (7/ 334 و 335) عنه بإسنادين، ورواه عبد الرزاق (11341) من طريق آخر عن علي وعن عثمان، وهو منقطع. (¬1) منهم: علي بن أبي طالب: رواه مسلم في "صحيحه" (1223) في (الحج): باب جواز التمتع، قال عبد اللَّه بن شقيق: كان عُثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها. ومنهم: ابن عباس: رواه مسلم في "صحيحه" (1217) في المتعة بالحج والعمرة، و (1405 بعد 17) في (النكاح): باب نكاح المتعة، عن أبي نضرة قال: كان ابن عباس يأمر بالمتعة، وكان ابن الزبير ينهى عنها. (¬2) منهم: عثمان؛ كما هو في "صحيح مسلم" (1223). وابن الزبير؛ كما هو في "صحيح مسلم" (1214). وعمر بن الخطاب: رواه البخاري (1559) في (الحج): باب من أهل في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كإهلال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (1724) باب الذبح قبل الحلق، و (1795) في (العمرة): باب متى يحل المعتمر، و (4346) في (المغازي): باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم (1221) في (الحج): باب نسخ التحلل من الإحرام والأمر بالتمام، من حديث أبي موسى الأشعري. ورواه مسلم (1217) و (1405 بعد 17) من حديث ابن عباس. ووقع في (ق): "ومن منعه". (¬3) ورد عن ابن عباس، رواه البخاري (5529) في (الذبائح): باب لحوم الحمر الإنسية، من طريق عمرو بن دينار، قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن حمر الأهلية فقال: قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس. وقد روى البخاري (4227) في (المغازي) عنه -رضي اللَّه عنه-، قال: لا أدري أنهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أجل أنه كان حمولة الناس، فكره أن تذهب حمولتهم، أو حَرَّمه في يوم خيبر لحم الحمر الأهلية. قال النووي رحمه اللَّه: ولم نجد عن أحد من الصحابة في ذلك خلافًا لهم إلا عن ابن عباس. (¬4) اتفق الصحابة على تحريمها، وقد رووا في هذا أحاديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانظر ما قبله. (¬5) ورد عن سعد بن أبي وقاص: رواه مالك (1/ 42 - رواية يحيى و 1/ 47 رقم 12 - رواية أبي مصعب)، وعبد الرزاق (414) و (415)، وابن أبي شيبة (1/ 189 - 190)، وابن =

لم يَرَه (¬1)،. . . . . ¬

_ = أبي داود في "المصاحف" (211)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 131)، و"المعرفة" (1/ 224)، و"الخلافيات" (1/ 516 رقم 309 و 2/ 277 رقم 555) من طرق عن مصعب بن سعد عن أبيه. وعن ابن عمر: رواه عبد الرزاق (417) و (418) و (419)، ومالك (1/ 42)، وسفيان بن عيينة في "حديثه" (رقم 10 - رواية زكريا المروزي)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 76)، والبيهقي في "الخلافيات" (557، 596)، و"السنن الكبرى" (1/ 131) وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 194 رقم 84) من طريق ابن شهاب عن سالم عنه، ورواه ابن أبي شيبة (1/ 190)، وعبد الرزاق (421)، ومالك (1/ 42)، والبيهقي (1/ 131) من طرق عن نافع عنه. ورواه مالك (1/ 42 - رواية يحيى و 1/ 48 رقم 113 رواية أبي مصعب وص 35 - رواية محمد بن الحسن)، ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 194 رقم 85)، والبيهقي (1/ 131)، وفي "الخلافيات" (رقم 529 و 556 و 595)، عن نافع عنه. وهذه الأسانيد في غاية الصحة. بعضها من قوله وبعضها من فعله. وعن ابن عباس، رواه ابن أبي شيبة (1/ 190)، والطحاوي (1/ 76)، والبيهقي (1/ 131) من طريق شعبة عن قتادة عن عطاء عنه، ومعه ابن عمر كذلك. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وعن مجاهد عن ابن عمر عند الطحاوي (1/ 177). وعن عائشة: رواه البيهقي (1/ 133) من طريق محرز بن سلمة عن عبد العزيز الدراوردي عن عبيد اللَّه بن عمر عن القاسم عنها. وإسناده حسن. ورواه الشافعي في "مسنده" (1/ 35)، و"الأم" (1/ 35)، والحاكم (1/ 138)، والبيهقي في "السنن" (1/ 133)، و"المعرفة" (1/ 224 - 225 رقم 195)، و"الخلافيات" (رقم 559، 560)، عن القاسم بن عبد اللَّه أظنه عبيد اللَّه بن عمر -على الشك- به. لكن جزم البيهقي أنه رواه عبيد اللَّه بن عمر -وهو ثقة- وأخوه عبد اللَّه بن عمر -وهو من الضعفاء-. وعن عمر بن الخطاب، وذكره البيهقي من طريق الشافعي في كتابه "القديم" عن مسلم وسعيد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عنه. وهذا إسناد منقطع؛ ابن أبي مليكة لم يدرك عمر، توفي بعد المئة. ورواه عبد الرزاق (416) عن ابن جريج سمعت عبد اللَّه بن أبي مليكة يحدث عمن لا يتهم عن عمر. وهذا ضعيف لإبهامه. وانظر: "الخلافيات" (2/ 243، 276 - بتحقيقي). (¬1) ورد عن حذيفة بن اليمان: رواه عبد الرزاق (429، 430)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 117)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 78)، ومحمد بن الحسن في "الحجة" (1/ 62، 63)، و"الموطأ" (37)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 201 رقم 96)، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والبيهقي في "الخلافيات" (586) من طريق البراء بن قيس عنه قال: ما أبالي مسسته أو مسست أنفي. والبراء ترجمه البخاري، وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وبعضهم زاد معه (المخارق بن أحمر) والمخارق ترجمة ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا كذلك. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 190)، والدارقطني (1/ 150)، والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 589 - بتحقيقي) من طريق سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن عنه. وأبو عبد الرحمن هو السلمي، وإسناده صحيح على شرط الشيخين. وله طريق ثالث عن حذيفة: رواه الدارقطني (1/ 150) والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 588). وعن ابن مسعود: رواه ابن أبي شيبة (1/ 190)، وعبد الرزاق (430)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9214) وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 200 رقم 92)، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" (37)، و"الحجة على أهل المدينة" (1/ 62)، والطحاوي (1/ 78) والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 579) من طريق أرقم بن شرحبيل عنه. قال الهيثمي: (1/ 244): رجاله موثقون. أقول: بل كلهم ثقات. ورواه عبد الرزاق (431)، ومن طريقه الطبراني (9216) عن معمر عن قتادة عن سعيد بن جبير عنه. قال الهيثمي: وسعيد لم يسمع من قتادة. وله في "مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 191 و 192)، و"معجم الطبراني" (9215)، و"شرح معاني الآثار" (1/ 78) و"الحجة" (1/ 61)، و"الموطأ" (36) كلاهما لمحمد بن الحسن، و"الخلافيات" (2/ 297، 302) وانظر: "العلل" (5/ 166 - 167 ورقم 798) للدارقطني طرق أخرى عنه. وروى عبد الرزاق في "مصنفه" (427) عن هشام بن حسان عن الحسن البصري قال: اجتمع رهط من أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، منهم من يقول: ما أبالي مسسته أم أذني. ورواه الطبراني (9218) من طريق هشام عن الحسن إلا أنه قال: عن خمسة من أصحاب محمد. قال الهيثمي (1/ 244): ورجاله ثقات رجال الصحيح؛ إلا أن الحسن مدلس، ولم يصرح بالسماع. وعن سعد بن مالك، رواه عبد الرزاق (434)، وابن أبي شيبة (1/ 190)، ومحمد بن الحسن في "الحجة" (1/ 63، 64)، و"الموطأ" (38)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 201 رقم 94)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 77)، والبيهقي في "الخلافيات" (2/ 97 رقم 583) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه وإسناده على شرط الشيخين. =

وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها (¬1) ومن لم يره (¬2)، وتقليد من وقف المؤلي عند الأجل (¬3) ¬

_ = وعن عمران بن الحصين: رواه عبد الرزاق (433)، وابن أبي شيبة (1/ 191) من طريق الحسن عنه، والحسن مدلس، وقد عنعن. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 191) من طريق مِسْعَر عن عمير بن سعد (كذا وصوابه سعيد) عنه، وهذا إسناد صحيح. وعن علي: رواه عبد الرزاق (428)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 200 رقم 90)، والبيهقي في "الخلافيات" (2/ 294 رقم 578) من طريق الحارث عنه، والحارث ضعيف. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 191)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 200 رقم 91)، ومحمد بن الحسن في "الحجة" (1/ 63)، و"الموطأ" (37)، والطحاوي (1/ 78) من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عنه، وقابوس فيه لين. وله طرق أخرى عن علي تدل على أن له أصلًا عنه، عند محمد بن الحسن في "الموطأ" (36)، وابن أبي شيبة (1/ 191)، وصححه عنه ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 201 - 202). ورواه عبد الرزاق (436) من طريق الأعمش عن المنهال بن عمرو عن قيس بن السكن أن عليًا وابن مسعود وحذيفة وأبا هريرة لا يرون من مس الذكر وضوءًا، وقالوا: لا بأس به. وإسناده جيد. وروي هذا عن عمار، انظر: "الخلافيات" (2/ 294، 305 - 308) مع تعليقي عليه. (¬1) هو مذهب ابن مسعود، كما تقدم قريبًا، وهناك تخريجه وروي هذا عن ابن عباس وأُبيّ بن كعب. ومن التابعين عن سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد، أفاده ابن بطال في "شرح صحيح البخاري" (7/ 427) ونقله عنه ابن حجر في "الفتح" (9/ 404)، ثم تعقبه بقوله: "وما نقله عن الصحابة، أخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد فيها انقطاع، قال: "وفيه عن جابر وأنس أيضًا، وما نقله عن التابعين فيه بأسانيد صحيحة" وفيه: "عن عكرمة والشعبي نحوه، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عباس بسند صحيح" وانظر: "الإشراف" (3/ 348 رقم 1183) وتعليقي عليه. (¬2) هذا مذهب عمر، كما تقدم قريبًا، وهناك تخريجه. (¬3) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 381): "وهذا هو المأثور عن بضعة عشر من الصحابة، وقد دل عليه القرآن والأصول من غير وجه". وقال أيضًا: "وقول الكوفيين أن عزم الطلاق انقضاء المدة، فإذا انقضت ولم يفِ طُلِّقتْ، فغاية ما يروى ذلك عن ابن مسعود إن صح عنه". ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: 227]، فلو وقع بمضي المدة لم يحتج إلى عزم عليه، كما أن قوله: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي أن الطلاق مسموع، ولا يكون المسموع إلا كلامًا، لا أنها تطلق عليه بمضي المدة. أفاده ابن مفلح في "الفروع" (8/ 21). ويدل على صحة هذا الفهم ما كان عليه جمهور الصحابة. انظر: "مصنف عبد الرزاق" (6/ 353 - 354)، و"سنن سعيد بن منصور" (رقم 1884 - 1887) و"سنن البيهقي" (7/ 378) وما سيأتي.

[الصحابة هم الذين أمرنا بالاستنان بهم]

ومن لم يقفه (¬1) وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)؛ فإن سَوَّغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قولٍ ومذهب على مذهب، بل اجعلوا الرجل مخيرًا في الأخذ بأي قولٍ شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذهبكم (¬3) واتبع قول أحدهم، وإن لم تسوِّغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث، ومخالف له، وقائل بضد مقتضاه، وهذا مما لا انفكاكَ لكم منه. الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباعُ القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما؛ فإن الاقتداء بهم يُحرِّم عليكم التقليد، ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل، كما كان عليه القومُ -رضي اللَّه عنهم-، وحينئذ فالحديث من أقوى الحجج عليكم، وباللَّه التوفيق. [الصحابة هم الذين أمرنا بالاستنان بهم] الوجه السادس والأربعون: قولكم: قال عبد اللَّه بن مسعود: من كان منكم مُستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد (¬4). فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه؛ فإنه نَهى عن الاستنان بالأحياء، وأنتم تقلِّدون الأحياء ¬

_ (¬1) يروى هذا عن ابن مسعود وغيره، رواه عبد الرزاق (11640، 11641، 11645)، وسعيد بن منصور (1884)، وانظر: "الجوهر النقي" (7/ 378). وأخرج عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 447 / رقم 11608)، وسعيد بن منصور في "السنن" (3/ 2/ 26/ رقم 1880)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 380)، وابن حزم في "المحلى" (10/ 43) عنه قوله: "الإيلاء هو أن يحلف على أن لا يأتي امرأته أبدًا". وحكاه عنه الشاشي في "حلية العلماء" (7/ 140)، وابن قدامة في "المغني" (7/ 298، 310)، والقرطبي في "تفسيره" (3/ 104)، وعبد الوهاب في "الإشراف" (3/ 463 بتحقيقي). والمروي الثابت عنه ما أخرجه سعيد بن منصور في "السنن" (3/ 27/2/ رقم 1884)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 380، 381)، وأبو يوسف في "الآثار" (رقم 686) عنه؛ قال: "كان إيلاء أهل الجاهلية السنة والسنتين وأكثر من ذلك، فوقَّت اللَّه عز وجل لهم أربعة أشهر، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر؛ فليس إيلاء". ونحوه عند عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 446، 509). وانظر: "أحكام القرآن" (1/ 355، 357)، للجصاص، "المحلى" (10/ 43)، "موسوعة فقه ابن عباس" (1/ 216 - 217). (¬2) قارن بـ"الإحكام" لابن حزم (6/ 62، 83 - 84). (¬3) في (ك) و (ق): "مذاهبكم". (¬4) هو بهذا اللفظ: رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 305 - 306) من طريق عمر بن نبهان عن الحسن البصري عن ابن عمر. =

[الخلف لا يأخذون بسنة ولا يقتدون بصحابي]

والأموات، الثاني: أنه عَيَّن المستنَّ بهم بأنهم خير الخلق وأبر الأمة وأعلمهم، وهم الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وأنتم معاشِرَ المقلدين- لا ترون تقليدَهم ولا الاستنانَ بهم، وإنما ترون تقليدَ فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير، الثالث: أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوْا به، ويفعل كما فعلوا، وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- عليه. الرابع: أن ابن مسعود قد صحَّ عنه النهي عن التقليد وأن يكون الرجل إمعة لا بصيرة له (¬1)؛ فعُلمَ أن الاستنان عنده غير التقليد. الوجه السابع والأربعون: قولكم قد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (¬2) وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" (¬3) فهذا من أكبر حُججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد؛ فإنه خلاف سُنتهم، ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا منهم لم يكن يدع السُّنة إذا ظهرت لقول غيره كائنًا من كان، ولم يكن له معها قول ألبتَّة، وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك. يوضحه الوجه الثامن والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرَنَ سُنتهم بسنته في وجوب الاتباع، والأخذ بسنتهم ليس تقليدًا لهم، بل اتباعٌ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدًا لمن رآه في المنام، والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدًا لمعاذ، بل اتباعًا لمن (¬4) أَمرَنا بالأخذ بذلك، فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟ [الخلف لا يأخذون بسنة ولا يقتدون بصحابي] يوضحه الوجه التاسع والأربعون: أنكم أول مخالف لهذين الحديثين؛ فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم ولا الاقتداء بهم واجبًا، وليس قولهم عندكم حجة، وقد ¬

_ = وإسناده ضعيف؛ عمر بن نبهان ضعيف، والحسن مدلس، وقد عنعن. وأما ابن مسعود فقد ورد عنه أنه قال: "من كان منكم متأسيًا فليتأس بأصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنهم كانوا أبر هذه الأمة" رواه ابن عبد البر (1810)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 188) ورَزين -كما في "مشكاة المصابيح" (1/ 67 - 68) - وسيعزوه المصف -فيما يأتي- لأحمد، وفيه سنيد، وقد ضعف على إمامته، وهو منقطع. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه، وسقطت "أبي بكر وعمر" من (ك). (¬4) في المطبوع: "لما".

[أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه سيحدث اختلاف كثير]

صرح بعض غُلاتكم بأنه لا يجوز تقليدهم، ويجب تقليد الشافعي، فمن العجائب احتجاجُكُم بشيء أنتم أشدُّ الناس خلافًا له، وباللَّه التوفيق. يوضحه الوجه الخمسون: أن الحديث [بجملته] (¬1) حجة عليكم من كل وجه، فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسَّنته وسنَّة خلفائه، وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان. الثاني: أنه حَذَّر من محدثات الأمور، وأخبر أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (¬2)، ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي تُرك له كتابُ اللَّه وسنة رسوله ويُعرض القرآن والسنة عليه ويجعل معيارًا عليهما من أعظم المحدثات والبدع التي برّأ اللَّه سبحانه [منها] (3) القرون [الثلاثة] (¬3) التي فضَّلها وخَيَّرها على غيرها. وبالجملة فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها، فأين هذا من قول فرقة التقليد: ليست سنتهم حجة، ولا يجوز تقليدهم فيها؟ [أخبر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سيحدث اختلاف كثير] يوضحه الوجه الحادي والخمسون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في نفس هذا الحديث: "فإنه مَنْ يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا" (2) وهذا ذم للمختلفين، وتحذير من سلوك سبيلهم. وإنما كثير الاختلاف وتفاقم أمرُه بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرَّقوا الدين وصيَّروا أهله شيعًا، كل فرقة تنصر متبوعها، وتدعو إليه، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنَّهم ملة أخرى سواهم، يدْأبون ويكدحون في الرد عليهم، ولقولون: كتُبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبيُّ واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد؛ فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم، وأن لا يطيعوا إلا الرسول، ولا يجعلوا معه مَنْ تكون أقواله كنصوصه، ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون اللَّه؛ فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى اللَّه ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يُعدم من الأرض؛ ولهذا تجد أقل الناس اختلافًا [هم] (¬4) أهل السنة والحديث؛ فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقًا وأقل اختلافًا منهم لما بنوا على هذا الأصل، وكلما كانت الفرقة عن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ورد ذلك في حديث العرباض بن سارية المتقدم تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

[أمر عمر شريحا بتقديم الكتاب ثم السنة]

الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر، فإن من ردَّ الحق مَرجَ عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]. [أمر عمر شريحًا بتقديم الكتاب ثم السنة] الوجه الثاني والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شُريح: "أنِ أقضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فبما في سنة رسول اللَّه، فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه فبما قضى به الصالحون" (¬1) فهذا من أظهر الحجج [عليكم] (¬2) على بطلان التقليد؛ فإنه أَمَره أن يُقدِّم الحكم بالكتاب على كل ما سواه، فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها، فإن لم يجده في السنة قضى [بمثل ما] (¬3) قضى به الصحابة، ونحن نناشد اللَّه فرقة التقليد: هل هم كذلك أو قريبًا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدّث أحدٌ منهم نَفْسَه أن يأخذ حكمها من كتاب اللَّه ثم ينفذه، فإن لم يجدها في كتاب اللَّه أخذها من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة؟ واللَّه يشهدُ عليهم وملائكتُه وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلَّدوه، وإن استبانَ لهم في الكتاب أو السنة أو عن الصحابة (¬4) خلافُ ذلك لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه؛ فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم، وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم. [طريق المتأخرين في أخذ الأحكام] فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا (¬5) عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولًا: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا [في] (¬6) سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع (¬7)، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به (3) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "بما". (¬4) في المطبوع: "أو أقوال الصحابة". (¬5) في (ق): "سارعوا". (¬6) ما بين المعقوفتين زيادة من المطبوع. (¬7) انظر بحث ابن القيم -رحمه اللَّه- حول الإجماع في "كتاب الصلاة" (ص 51 - 52)، و"حادي الأرواح" (ص 288)؛ فإنه مهم.

وحكم به، وهذا خلاف ما دَلَّ عليه حديث معاذ وكتاب عمر (¬1) وأقوال الصحابة. والذي دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدورٌ مأمور، فإن عِلْمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهلُ عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحُكْم؛ وهذا إن لم يكن متعذرًا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يُحيلنا اللَّه ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللَّذين هدانا بهما، ويسَّرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب؟ ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدِّم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغُ له ترك الحق المعلوم إلى أمر (¬2) لا علم له به وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه شكًا متساويًا أو راجحًا؟ ثم كيف يستقيم على هذا (¬3) رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع (¬4) فما لم ينقرض عصرهم فلِمَن نشأ في زمنهم أن يخالِفَهم، فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإِجماع حتى يعلَم أن العصرَ انقرض ولم ينشأ فيه مخالفٌ لأهله؟ وهل أحالَ اللَّه الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطّلاع لأفرادهم عليه؟ وترك إحالَتَهم على ما هو بين أظهرهم حجة [عليهم] (¬5) باقية إلى آخر الدهر مُتَمكِّنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه، وهذا من أمحل المحال، وحين نشأت هذه الطريقة توَّلد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتَح بابُ دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلافُ الإجماع. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية على مَنْ ارتكبه، وكذَّبوا من ادّعاه؛ فقال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- في رواية ابنه عبد اللَّه: من ¬

_ (¬1) سبق تخريجهما مطولًا. (¬2) في (ك): "مراد". (¬3) في المطبوع: "كيف يستقيم هذا على". (¬4) انظر هذا المبحث في: "التمهيد" (3/ 346)، و"شرح الكوكب المنير" (2/ 246)، و"المسودة" (320)، و"العدة" (4/ 1905)، و"البرهان" (1/ 693)، و"البحر المحيط" (4/ 514)، و"أصول السرخسي" (1/ 315)، و"الإحكام" (1/ 231) للآمدي، و"المستصفى" (1/ 192). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[أئمة الإسلام يقدمون الكتاب والسنة]

ادَّعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بِشْرٍ المرِيسيِّ (¬1) والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغنَا (¬2). وقال في رواية المروزي (¬3): كيف يجوز للرجل أن يقول: "أجمعوا"؟ إذا سمعتهم يقولون: "أجمعوا" فاتهمهم، لو قال: "إني لم أعلم مخالفًا" كان. وقال في رواية أبي طالب (¬4): هذا كذب، ما عِلْمُه أن الناس مجمعون؟ ولكن [يقول] (¬5): "ما أعلم فيه اختلافًا" فهو أحسن من قوله إجماع الناس. وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدَّعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا (¬6). [أئمة الإسلام يقدمون الكتاب والسنة] ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي رحمه اللَّه (¬7): "الحجَّة كتاب اللَّه وسنة ¬

_ (¬1) نسبة إلى مريسة -بفتح الميم وتشديد الراء مع كسرها-، قرية بمصر، وولاية من ناحية الصعيد (و). (¬2) انظر: "مسائل عبد اللَّه" (438 - 439). وفي (ق) و (ك): "أو لم يبلغه". (¬3) نقلها أبو يعلى في "العدة" (4/ 1060)، وابن تيمية في "المسودة" (ص 315)، ووقع في (ك): "إذا سمعهم يقولون". (¬4) نقلها أبو يعلى في "العدة" (4/ 1060)، وابن تيمية في "المسودة" (ص 316). (¬5) في نسخة (ط): "يقال". (¬6) نقل جميع هذه الروايات بالترتيب المذكور: أبو يعلى في "العدة" (4/ 1060)، وانظر: "مجموع الفتاوى" (19/ 267 - 272)، و"المسودة" (ص 317 - 318)، و"الإحكام" (1/ 288) للآمدي. (¬7) ذهب غير واحد من المعاصرين إلى إنكار الشافعي حجيّة الإجماع!! إلا ما عرف من الدين بالضرورة، انظر -على سبيل المثال-: "موقف الإمام الشافعي من مدرسة العراق الفقهية" (ص 35، 191) في الدين البلتاجي، و"الشافعي في مذهبه القديم والجديد" (ص 244)، و"الشافعي حياته وعصره، آراؤه وفقهه" (ص 264 - 266) لمحمد أبو زهرة، وانظر مناقشتهم وبيان استدلال الشافعي بالإجماع في "حجية الإجماع" (ص 311 وما بعد) لمحمد فرغلي، و"الإمام الشافعي وأثره في أصول الفقه" (ص 626 وما بعد) للدكتور حسن أبو عيد، وتعليقي على "تعظيم الفتيا" (رقم 1) لابن الجوزي، وانظر تنصيص الشافعي على حجية الإجماع في "الرسالة" (ص 534)، و"اختلاف الحديث" (7/ 27) - بهامش الأم، و"إحكام القرآن" (1/ 39 - 40) للبيهقي.

[طريقة أهل العلم وأئمة الدين]

رسوله واتفاق الأئمة"، وقال في كتاب: "اختلافه مع مالك" (¬1): "والعلمُ طبقاتٌ، الأولى: الكتاب والسنة الثابتة (¬2)، ثم الإجماعُ فيما ليس كتابًا ولا سنة (¬3)، الثالثة: أن يقولَ الصحابي فلا يُعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلافُ الصحابة، والخامسة: القياس"، فقدَّم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع، [ثم أخبر أنه إنما يُصار (¬4) إلى الإجماع] (¬5) فيما لم يُعلم فيه كتاب ولا سنة (¬6)، وهذا هو الحق. [طريقة أهل العلم وأئمة الدين] وقال أبو حاتم الرازي: "العلم عندنا ما كان عن اللَّه تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحت به الأخبار عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مما لا مُعارض له، وما جاء عن الألِبّاء من الصحابة ما اتفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يُفهم فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل أيوب السَّختياني وحَمَّاد بن زيد وحماد بن سلمة وسُفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح، ثم ما لم يُوجد عن أمثالهم فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي وعبد اللَّه بن المبارك وعبد اللَّه بن إدريس، ويحيى بن آدم وابن عُيينة ووكيع بن الجراح، ومَنْ بَعْدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون والحميديُّ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي وأبي عُبيد القاسم ابن سَلَّام" انتهى. فهذا طريقُ أهل العلم وأئمة الدين، جعل أقوال هؤلاء بدلًا عن الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم إنما يُصارُ إليه عند عدم الماء؛ فعَدَل هؤلاء المتأخرون المقلدون (¬7) إلى التَّيمم والماء بين أظهرهم أسهل [من التيمم] (¬8) بكثير. [طريق الخلف المقلدين] ثم حدثت (¬9) بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله فقالوا: إذا نزلت ¬

_ (¬1) انظره (7/ 246 - بهامش "الأم"). (¬2) تصحفت في (ن) و (ق) إلى: "الثانية". (¬3) في المطبوع: "فيما ليس فيه كتاب ولا سنة". (¬4) في (ق): "يصير". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) واستدركها (ق) في الهامش. (¬6) في المطبوع: "كتابًا ولا سنة". (¬7) في نسخة (د): "المقلدين"! (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ك) و (ق): "حدث".

[هل قلد الصحابة عمر؟]

بالمفتي أو الحاكم نازلةٌ لم يجز أن ينظر فيها في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة بل إلى ما قال (¬1) مقلَّدُه ومتبوعه ومَنْ جعله عيارًا على القرآن والسنة؛ فما وافق قوله أفتى به وحَكَم به، وما خالفه لم يجز له أن يفتي به ولا يقضي به، وإن فعل ذلك تعرَّض لعزله عن منصب الفتوى والحُكم، واستفتى عليه (¬2): ما تقول السادة والفقهاء (¬3) فيمن ينتسب إلى مذهب إمام معين يقلده دون غيره، ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه، هل يجوز له ذلك أم لا؟ وهل يقدح ذلك فيه أم لا؟ فيُنغض المقلدون رءوسهم، ويقولون: لا يجوز له ذلك (¬4)، ويقدح فيه. ولعل القول الذي عَدَل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم؛ فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن اللَّه ورسوله بأنه لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم باللَّه ورسوله منه، وإن كان مع أقوالهم كتاب اللَّه وسنة رسوله، وهذا من أعظم جنايات فِرْقةِ التقليد على الدين، ولو أنهم لزموا حَدَّهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارًا مُجرَّدًا عما وجدوه من السواد في البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها لكان لهم (¬5) عذرٌ ما عند اللَّه، ولكن هذا مبْلَغهم من العلم، وهذه معاداتهم لأهله وللقائمين بحججه (¬6)، وباللَّه التوفيق. [هل قَلَّد الصحابة عمر؟] الوجه الثالث والخمسون: قولكم: "منع عمر من بَيْع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق (¬7) الثلاث وتبعوه أيضًا" (¬8) جوابه من وجوه؛ أحدهما: أنهم لم يتبعوه تقليدًا له، بل أذَاهم اجتهادُهم في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده، ولم يقل أحد منهم قط: إني رأيت ذلك تقليدًا لعمر. الثاني: أنهم لم يتبعوه كلهم فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد (¬9)، وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام ¬

_ (¬1) في (د): "قاله". (¬2) في المطبوع: "واستفتى له". (¬3) في (ق) و (ك): "الفقهاء" دون واو. (¬4) في المطبوع: "ويقولون له: لا يجوز ذلك". (¬5) في (ك) و (ق): "له". (¬6) في المطبوع و (ك): "وللقائمين للَّه بحججه". (¬7) في (ك) و (ق): "بطلاق". (¬8) سبق تخريجه. (¬9) سبق تخريجه، وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 14 - 15).

[قول عمر: لو فعلت صارت سنة]

بالطلاق الثلاث (¬1)، وإذا اختلف الصحابة وغيرهم فالحاكم هو الحجة. الثالث: أنه ليس في اتباع قول عمر [بن الخطاب] (¬2) -رضي اللَّه عنه- في هاتين المسألتين وتقليد الصحابة -لو فُرض- له في ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه (¬3) بكثير في كل ما يقوله وتَرْك [قول من هو [مثله ومن هو] (¬4) فوقه] (¬5) وأعلم منه، فهذا من أبطل الاستدلال، وهو تعلُّق ببيت العنكبوت فقلَّدوا عمر واتركوا تقليد فلان وفلان، فأما وأنتم تصرحون بأن عمر لا يُقلَّد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يُقلَّدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له، فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟ [قول عمر: لو فعلتُ صارتْ سنةً] الوجه الرابع والخمسون: قولكم: "إن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم: خذ ثوبًا غير ثوبك، فقال: لو فعلت صارت سنة" (¬6) فأين في هذا من الإذن من عمر في تقليده والإعراض عن كتاب اللَّه وسنة رسوله؟ وغاية هذا أنه تركه لئلا يقتدِيَ به من يراه، ويفعل ذلك؛ ويقول: لولا أن هذا سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما فعله عمر؛ فهذا هو الذي خشيه عمر -رضي اللَّه عنه-، والناس مقتدون بعلمائهم شاءوا أم أبوا فهذا هو الواقع وإن كان الواجب فيه تفصيل. [ما استبان فاعمل به وما اشتبه فكله لعالمه] الوجه الخامس والخمسون: قولكم: "قد قال أبيّ: ما اشتبه عليك فَكِلْهُ إلى ¬

_ (¬1) روى مسلم في "صحيحه" (1472) عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم. وله لفظ آخر في "صحيح مسلم" أيضًا. لكن جاء بأسانيد صحيحة عن ابن عباس أنه جعل الثلاث ثلاثًا! فانظر الروايات في "سنن البيهقي" (7/ 337)، وانظر "إرواء الغليل" (7/ 121)، وانظر: "زاد المعاد" للمؤلف (5/ 241 - 272). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬3) في (ق) و (ك): "دونهم". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "من هو فوقه". (¬6) سبق تخريجه.

[فتوى الصحابة والرسول حي تبليغ عنه]

عالِمِهِ" (¬1) فهذا حق، وهو الواجب على من سِوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبَه عليه بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكِله إلى من هو أعلم منه، فإن تبيَّن له صار عالمًا مثله، وإلا وَكَلُه إليه، ولم يتكلف ما لا علم [له] (¬2) به؛ فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا وسنةِ نبينا وأقوال أصحابه، وقد جعل اللَّه سبحانه فوق كل ذي علم عليم؛ فمن خفي عليه بعض الحق فوَكَله إلى مَنْ هو أعلم منه فقد أصاب، فأي شيء في هذا الإعراض عن القرآن والسنن وآثار الصحابة واتخاذ رجل بعينه معيارًا على ذلك وترك النصوص لقوله، وعرضها عليه وقبول كل ما أفتى به ورد كل ما خالفه؟ وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد، فإن أوله: "ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه" (¬3) ونحن نناشدكم اللَّه إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قَلَّدتموه لها وتعملون بها وتفتون أو تقضون (¬4) بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله وتقولون: هو أعلمُ بها منَّا؟ فأُبيٌّ -رضي اللَّه عنه- مع سائر الصحابة على هذه الوصية، وهي مُبطلةٌ للتقليد قطعًا، وباللَّه التوفيق. ثم نقول: هل وكلتم (¬5) ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالِمها من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذ هم أعلم الأمة وأفضلها أم تركتم (5) أقوالهم وعدلتم عنها؟ فإن كان من قلَّدتموه ممن يوكل ذلك إليه فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم. [فتوى الصحابة والرسول حي تبليغ عنه] الوجه السادس والخمسون: قولكم: "كان الصحابة يفتون ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيٌّ بين أظهرهم، وهذا تقليد [من المستفتين] (¬6) لهم" وجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغًا عن اللَّه ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط، لم تكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص؛ فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يُفتون بغير النصوص، ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ك): "وتعملوا بها وتفتوا وتقضوا". (¬5) قال (د): "في الأصول: "هلا وكلتم. . . ثم تركتم"، وأكبر الظن أنه تحريف ما أثبتناه". قلت: وفي (ق) وإن) و (ك): "هلا وكلتم. . . بل تركتم". (¬6) في (ك): "للمستفتين"، وبعدها في (ك) و (ق): "فجوابه" بدل "وجوابه".

[المراد من إيجاب الله قبول إنذار من نفر للفقه في الدين]

عن نبيهم فيقولون: أَمَر بكذا، [وفَعلَ كذا] (¬1)، ونَهى عن كذا هكذا كانت فتواهم؛ فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم، ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها، واللَّه ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يعملوا (¬2) إلا بما عَلِموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه، هؤلاء بواسطة وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حَلَّله ويحرِّم ما حَرَّمه ويستبيح ما أباحه، وقد أنكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل [وكَذَّبه] (¬3)، وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر (¬4) وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات (¬5)، وأنكر على من أفتى بغير علم؛ كمن يُفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم المستفتي عليه (¬6)، فإفتاء الصحابة في حياته نوعان؛ أحدهما: كان يبلغُه ويُقرِّهم عليه، فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم، الثاني: ما كانوا [يفتون] (¬7) به مُبلغين له عن نبيهم، فهم فيه رُواة لا مقلِّدون ولا مقلَّدون. [المراد من إيجاب اللَّه قبول إنذار من نفر للفقه في الدين] الوجه السابع والخمسون: قولكم: "وقد قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع: "لم يعلموا"! (¬3) هو في حديث رواه البخاري (5319)، و (5320) في (الطلاق): باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ومسلم (1484) في (الطلاق): باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل من حديث، سبيعة الأسلمية. وقد جاء -أيضًا- في حديث رواه أبو السنابل نفسه، رواه أحمد (4/ 304 - 305)، والترمذي (1193)، والنسائي (6/ 190 - 191)، وابن ماجه (2027)، والطبراني (22/ رقم 896 - 900)، إلا أن فيه انقطاعًا كما قال الترمذي وغيره، وانظر "الإصابة" (4/ 96) ترجمة أبي السنابل. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) يريد حديث العسيف الذي رواه البخاري (2314) في (الوكالة): باب الوكالة في الحدود -وأطرافه كثيرة- ومسلم (1697) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا من حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد الجهني، وفيه: وأني أُخبرت أن على ابني الرجم. . . فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: والذي نفسي بيده لأقصن بينكما بكتاب اللَّه. . . وعلى ابنك جَلْد مئة وتغريب عام. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) سيأتي لفظه وتخريجه. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم" جوابه من وجوه؛ أحدها: أن اللَّه سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجهاد، فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي؟. الثاني: أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوَّع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين: أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين، وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم؛ فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهنا للناس في الآية قولان: أحدهما: أن المعنى فهلَّا نَفَر من كل فرقة طائفة تتفقه وتُنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي (¬1) وجماعة من المفسرين، واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن تكون عدد التواتر. والثاني: أن المعنى فلولا نفر من كل [فرقة] (¬2) طائفة تجاهد لتتفقه (¬3) القاعدةُ وتنذر النافرةَ للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإذا استُنْفِرتم فانفِروا" (¬4) وأيضًا فإن المؤمنين عامٌ في المقيمين مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والغائبين عنه، والمقيمون مرادون ولا بد فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؟ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصًا بالغائبين عنه فقط، والمعنى وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم، فلولا نفر إليه [من] (¬5) كل [فرقة] (2) منهم طائفة، وهذا خلافُ ظاهر لفظ المؤمنين، وإخراجٌ للفظ النفير عن مفهومه في القرآن والسنة، وعلى كلا القولين فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد (¬6) ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" للبيهقي (ص 35)، و"الرسالة" (ص 365 - 369) للشافعي. (¬2) في (ط): "قرية"!! (¬3) في (ك): "التفقه". (¬4) رواه البخاري (1834) في (جزاء الصيد): باب لا يحل القتال بمكة، و (2783) في (الجهاد): باب فضل الجهاد، و (2825) باب وجوب النفير، و (3077) باب لا هجرة بعد الفتح، ومسلم (1353) في (الحج): باب تحريم مكة وصيدها. . . وفي (الإمارة): باب المبايعة بعد فتح مكة، من حديث ابن عباس. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬6) انظر في هذا المعنى المستنبط من الآيات: "بدائع الفوائد" (4/ 189 - 190).

[أخذ ابن الزبير بقول الصديق في الجد]

المذموم، بل هي حجة على فساده وبطلانه؛ فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة، فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر، كما أن النَّذير من أقام الحجة، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير، فإن سمَّيتم ذلك تقليدًا فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى، فسمّوه ما شئتم، وإنما ننكر نصْب رجل معين يُجعل قوله عيارًا على القرآن والسنن؛ فما وافق قوله منها قُبل وما خالفه لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه، فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يُعلن إنكارَه (¬1) وذَمَّه وذم أهله. [أخذ ابن الزبير بقول الصديق في الجد] الوجه الثامن والخمسون: قولكم: "إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذته خليلًا -يريد: أبا بكر -رضي اللَّه عنه- فإنه أنزله أبًا" (¬2) فأيُّ شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه؟ وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطْمع في دفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصحُّ الأقوال على الإطلاق، وابنُ الزبير لم يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلاله قائله، وأنه ممن لا يُقاس غيره به، لا ليُقبل قوله بغير حجة وتُترك الحجة من القرآن والسنة لقوله؛ فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى للَّه، وحُجج اللَّه وبيِّناته أحبُّ إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال ولقول أحد كائنًا من كان، وقول ابن الزبير: "إن الصديق -رضي اللَّه عنه- أنزله أبًا" متضمِّن للحكم والدليل [معًا] (¬3). [ليس قبول شهادة الشاهد تقليدًا له] الوجه التاسع والخمسون: قولكم: "وقد أمر اللَّه بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليدٌ له" فلو لم يكن في آفات التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع الأمة على قبول قوله؛ فإن اللَّه سبحانه نَصَبه حُجةً يحكم الحاكم بها كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقر أيضًا حجة شرعية، وقبوله تقليد له، كما سمَّيتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا، فسمّوه ما شئتم فاللَّه (¬4) سبحانه أمرنا بالحكم بذلك، وجَعَله دليلًا على الأحكام؛ ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "بإنكاره". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (د): "فإن اللَّه".

[ليس من التقليد قبول قول القائف ونحوه]

فالحاكم بالشهادة والإقرار منفِّذ لأمر اللَّه ورسوله، ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكم، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقضي بالشاهد (¬1) وبالإقرار (¬2)، وذلك حُكمٌ بنفس ما أنزل اللَّه لا بالتقليد؛ فالاستدلال (¬3) بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على مَنْ هو أعلم منه واطِّراح قول من عداه جملة، من باب قلب الحقائق وانتكاس العقول والأفهام، وبالجملة فنحن إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به، بل لأن اللَّه سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معاشر المقلدين إذا قبلتم قول من قَلَّدتموه قبلتموه لمجرد كونه قاله أو لأنَّ اللَّه أمركم بقبول قوله وطرح ما سواه (¬4). [ليس من التقليد قبول قول القائف ونحوه] الوجه الستون: قولكم: "وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمُقوِّم والحاكِمَيْن بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض" أتعنون به أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليد لهم فيما يُخبرون به؟ فإن عنيتم الأول فهو باطل، وإن عَنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بُطلانه، وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المُخبر والشاهد، لا من باب قبول الفُتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الأخبار والشهادات ¬

_ (¬1) مضى تخريجه، ومما يدل على هذا أخذه -صلى اللَّه عليه وسلم- بشهادة خزيمة بن ثابت في قصة حصلت معه، وقد جعل -صلى اللَّه عليه وسلم- شهادته بسبب ذلك شهادة رجلين، وقد تقدم ذلك مخرجًا. (¬2) ورد أخذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالإقرار في قصة ماعز في الزنى، وقد ورد هذا من رواية جمع من الصحابة منهم: أبو سعيد الخدري: رواه مسلم (1694) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا. وأبو هريرة: رواه مسلم (1691) (16). وجابر بن سمرة: رواه مسلم (1692). وبريدة في "صحيح مسلم" أيضًا (1695)، وفيه اعتراف الغامدية، وفيه قصة المرأة التي اعترفت بالزنا، وورد من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: رواه البخاري (2314)، وأطرافه كثيرة انظرها هناك، ومسلم (1696)، والمرأة التي من جهينة التي اعترفت بالزنا: رواه مسلم (1696). (¬3) في (د): "فالاستدلال"! (¬4) في المطبوع: "وطرح قول من سواه".

[شراء الأطعمة من غير سؤال عن أسباب حلها]

والأقارير إلى التقليد في الفتوى؟ والمُخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر اللَّه سبحانه بقبول خبر المُخبر به إذا كان ظاهرَ الصِّدق والعدالة. وطرد هذا ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر (¬1) عمَّن أخبر عنه بذلك، وهلم جرًا؛ فهذا حق لا ينازع فيه أحد. وأما تقليد الرجل فيما يُخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده؛ فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يُخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يُوجب علينا أو يُسوِّغ لنا أن نفتي بذلك أو نحكَم به وندين اللَّه به، ونقول: هذا هو الحق وما خالفه باطل، ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة وأقوال من عَدَاه من جميع أهل العلم؟!! ومن هذا الباب تقليد الأعمى في القبلة ودخول الوقت لغيره. وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يُقلِّد غيره في طلوع الفجر، ويُقال له: أصبحتَ أصبحت (¬2)، وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد مَنْ في المطمورة (¬3) لمن يُعْلِمه بأَوقات الصلاة والفطر والصوم ونحو ذلك (¬4)، ومن ذلك التقليد في قبول الترجمة والرسالة (¬5) والتعريف والتعديل والجرح، كُلُّ هذا من باب الأخبار التي أمر اللَّه بقبول المُخبر بها إذا كان عدلًا صادقًا، وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد في الهديَّة وإدخال الزوجة على زوجها، وقبول خبر المرأة ذمِّية كانت أو مسلمة في انقطاع دم حيضها لوقته وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا في الفتيا والحكم، وإن (¬6) كان تقليدًا لها فإن اللَّه سبحانه شَرَع لنا أن نقبل قولها ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله فضلًا عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة. [شراء الأطعمة من غير سؤال عن أسباب حِلِّها] الوجه الحادي والستون: قولكم: "وأجمعوا على جواز شراء اللُّحمان ¬

_ (¬1) في (ق): "وقبول قول المخبر". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) "الحفيرة تحت الأرض" (و). (¬4) في المطبوع: "وأمثال ذلك". (¬5) في المطبوع و (ن): "الترجمة في الرسالة". (¬6) في المطبوع: "وإذا".

[هل كلف الناس كلهم الاجتهاد؟]

والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال عن أسباب حِلِّها اكتفاء بتقليد أربابها" جوابه أن هذا ليس تقليدًا في حكم من أحكام اللَّه ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو اقتداءٌ واتباع لأمر اللَّه ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًا أو نصرانيًا أو فاجرًا اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي اللَّه عنها: يا رسول اللَّه إن ناسًا يأتوننا باللُّحْمان لا ندري أذكروا اسم اللَّه عليها أم لا، فقال: "سمُّوا أنتم وكُلوا" (¬1) فهل يَسوغُ لكم تقليدُ الكفار والفساق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ فدعوا (¬2) هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح اللازم على تحكيم كتاب اللَّه وسنة رسوله والتحاكم إليهما وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا نتحيَّز إلى شخص معين غير الرسول، نقبل قولَه كُلَّه، ونردُّ قول (¬3) مَنْ خالفه كلَّه، وإلا فاشهدوا بأنَّا أولُ منكرٍ لهذه الطريقة وراغبٍ عنها داعٍ إلى خلافها، واللَّه المستعان. [هل كُلِّف الناس كلهم الاجتهاد؟] الوجه الثاني والستون: قولكم: "لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد وتعطَّلت الصنائع والمتاجر وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا" فجوابه من وجوه؛ أحدهما: أن من رحمة اللَّه سبحانه بنا ورأفته [أنه] (¬4) لم يكلْفنا بالتقليد، فلو كلفنا به لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا، لأنَّا لم نكن ندري من نقلد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئتين، ولا يَدري عددهم في الحقيقة إلا اللَّه، فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، وانتشر الإسلام بحمد اللَّه وفضله وبلغ ما بلغ الليل، فلو كُلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العبث (¬5) والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا إن كلفنا بتقليد كل عالم، وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2075) في (البيوع): باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات، و (5507) في (الذبائح): باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، و (7398) في (التوحيد): باب السؤال بأسماء اللَّه تعالى والاستعاذة، من حديث عائشة. (¬2) في (ق) و (ك): "فتدعوا". (¬3) مكررة في (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع: "العنت".

فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير (¬1) من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلًا عن المقلد الذي هو كالأعمى، وإن كلفنا بتقليد البعض وكان جعل ذلك إلى تشهِّينا واختيارنا صار دين اللَّه تبعًا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال؛ فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى من أمر اللَّه باتباع قوله وتلقِّي الدين من بين شفتيه، وذلك محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب رسول اللَّه وأمينه على وحيه وحجته على خلقه، ولم يجعل اللَّه هذا المنصب لسواه (¬2) بعده أبدًا. الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد مَنْ يُخطئ ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به. والثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يُصدِّق الرسول فيما أخبَر به ويطيعه فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفةِ أمره وخَبَرَه، ولم يُوجب اللَّه سبحانه من ذلك على الأُمَّة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تضيع مصالحها وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم. وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل اللَّه له نورًا. قال الإمام أحمد: ولولا العلم كان الناس كالبهائم، وقال: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه كل وقت (¬3). الرابع: أن الواجب على العبد (¬4) أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- قائمين بمصالحهم ومعايشهم (¬5) وعمارة حروثهم والقيام على مواشيهم والضَّرْب في الأرض لمتاجرهم والصفق بالأسواق (¬6)، وهم أهدى العلماء الذي لا يُشقُّ في العلم ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "بكثير كثير". (¬2) في (د): "سواه". (¬3) قاله أحمد في رواية حرب، كما في "الآداب الشرعية" (2/ 46 - ط القديمة). (¬4) في المطبوع و (ن): "على كل عبد". (¬5) في المطبوع: "ومعاشهم". (¬6) في (ق) و (ك): "في الأسواق". يشهد لهذا نصوص عديدة وكثيرة منها: ما أخرجه عباس الدُّوري في "تاريخ ابن معين" (2/ 207) بسنده الصحيح إلى سعيد بن المسيب؛ قال: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يتَّجرون في البحر، منهم سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد اللَّه". =

[عدد الأحاديث التي تدور عليها أصول الأحكام وتفاصيلها]

غُبارهم. الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدَّرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد اللَّه تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه، فإنه كتابُ اللَّه الذي يسَّره للذكر كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] قال البخاري في "صحيحه" (¬1): "قال مَطَر الوَرَّاق: هل من طالب علم فيُعان عليه؟ "، ولم يقل فتضيع عليه مصالحه وتتعطل عليه معايشه (¬2) وسنة رسوله وهي بحمد اللَّه تعالى مضبوطة محفوظة، وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمس مئة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدَّرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول التي ما أنزل اللَّه بها من سُلطان التي كل مالها في نمو وزيادة وتوليد (¬3)، والدين كل ماله في غربة ونقصان، واللَّه المستعان. [عدد الأحاديث التي تدور عليها أصول الأحكام وتفاصيلها] الوجه الثالث والستون: قولكم: "قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول، وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وتقليد المؤذنين، وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها". فجوابه ما تقدم: أن استدلالكم بهذا من باب المغَاليط، وليس هذا من ¬

_ = ما أخرجه مسلم في "صحيحه" (رقم 847) عن عائشة؛ قالت: "كان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاة". وما أخرجه البخاري في "صحيحه" (رقم 2071) عنها بلفظ: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمال أنفسهم"، وانظر: "الرسالة" (رقم 846) للشافعي. وفي الحديث المتفق عليه حديث تطويل معاذ في الصلاة: "ونحن نعمل بأيدينا". وما ثبت عن أبي هريرة: "وكان المهاجرون يشغلهم الصفق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم". وانظر: "المجالسة" (رقم 754) وتعليقي عليه، و"الإحكام" (6/ 92) لابن حزم. (¬1) (ص 1586) قبل رقم (7551): كتاب التوحيد، باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ}. (¬2) في المطبوع: "معايشه عليه" كذا بتقديم وتأخير. (¬3) أَحسن من قال: "العلم نُقطة كثَّرها الجاهلون".

[مسألة عقبة بن الحارث ليست دليلا للمقلدة]

التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل لأَنَّ اللَّه ورسوله أمر بقبول قولهم وجعله دليلًا على ترتُّب (¬1) الأحكام؛ فإخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار، فأين في هذا (¬2) ما يسوغ التقليد في أحكام الدين والإعراض عن القرآن والسنن ونصب رجل بعينه ميزانًا على كتاب اللَّه وسنة رسوله؟ [مسألة عقبة بن الحارث ليست دليلًا للمقلدة] الوجه الرابع والستون: قولكم: "أَمَر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن الحارث أن يقلد المرأة التي أخبرته بانها أَرْضعته وزوجَتَه" (¬3) فياللَّه العجب فأنتم لا تقلِّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين، ولا تأخذون بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلَّدتموه دينكم، وأي شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين اللَّه؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المُخبر عن أمر حسي يخبر به، وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقةُ عقبة لها تقليدًا لتلك الأمَةِ أو اتّباعًا لرسول اللَّه حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرَونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطؤها، وأما نحن فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر به رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعقبة بن الحارث سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا لأحد. [الرد على دعوى أن الأئمة قالوا بجواز التقليد] الوجه الخامس والستون: قولكم: "قد صَرَّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تنهه، وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد مثله، وقال الشافعي في غير موضع: قلته تقليدًا لعمر، وقلته تقليدًا لعثمان، وقلته تقليدًا لعطاء" (¬4). جوابه من وجوه: أحدها: أنَّكم إن ادَّعيتم أن جميع العلماء صرَّحوا بجواز التقليد فدعوى ¬

_ (¬1) في (ك): "ترتيب". (¬2) في (ك) و (ق): "ذلك". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) مضى ذلك عن سفيان ومحمد بن الحسن والشافعي.

[بم لقب الأئمة المقلد؟]

باطلة، فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله والنهي عنه ما فيه كفاية. [بم لقب الأئمة المقلد؟] وكانوا يسمون المقلد الإمّعة ومحقب دينه كما قال ابن مسعود: الإمعة الذي يحقِّب (¬1) دينه الرجال (¬2)، وكانوا يسمُّونه الأعمى الذي لا بصيرة له، ويسمون المقلدين أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يركنوا إلى ركن وثيق، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (¬3)، وكما سَمَّاه الشافعي حاطب ليل (¬4)، ونهى عن تقليده وتقليد غيره؛ فجزاه اللَّه عن الإسلام خيرًا، لقد نصح للَّه ورسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله، وأمر (¬5) بأن نعْرِض أقوالَه عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما؛ فنحن نناشد المقلدين [اللَّه] (¬6): هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عَصَوْه وخالفوه؟ وإن ادَّعيتم أن من العلماء من جَوَّز التقليد فكان [ما رأى] (¬7). الثاني: أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جَوَّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم هم من أعظم الناس رغبةً عن التقليد واتباعًا للحجة ومخالفة لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرّون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا (¬8). الثالث (¬9): أنكم منكرون أن يكون من قلَّدتموه من الأئمة مقلدًا لغيره أشد الإنكار، وقمتم وقعدتم في قول الشافعي: قلته تقليدًا لعمر، وقلته تقليدًا لعثمان، وقلته تقليدًا لعطاء، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشدَّ ¬

_ (¬1) "يجعله تابعًا لهم" (و). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ضمن وصيته لكميل بن زياد ومضى تخريجها، وفي المطبوع زيادة: "كرم اللَّه وجهه في الجنة"، وفي (ك): "رضي اللَّه عنه". (¬4) مضى تخريج ذلك عنه. (¬5) في المطبوع: "وأمرنا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ماذا". (¬8) مضى توثيقه. (¬9) أخطأ ناسخ (ق) و (ك) فجعل هذا الوجه الوجه الثاني، ومن ثم جعلها أربعة وجوه.

الاضطراب، وادعيتم أنه لم يقلد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاده، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة (¬1) حتى في الأكدرية، وجاء الاجتهاد حذو القذة بالقذة (¬2)، فكيف نصبتموه مقلِّدًا هاهنا؟ ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجةَ إمامًا لما تناقضتم هذا التناقض وأعطيتم كلَّ ذي حق حقه. والرابع: أن هذا من أكبر الحجج عليكم؛ فإن الشافعي قد صرح بتقليد عمر وعثمان وعطاء مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم -مع إقراركم بأنكم من المقلدين- لا ترون تقليد واحد من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي وقال عمر وعثمان وابن مسعود -فضلًا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن- تركتم تقليدَ هؤلاء وقلَّدتم الشافعي، وهذا عين التناقض؛ فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلَّدتموه، فإنْ قلَّدتم الشافعي فقلّدوا من قلده الشافعي، فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي، قيل: لم يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحد منهم. الخامس: أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سَوَّغوه ألبتّة، بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنصٍّ عن اللَّه ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلَّدوه، وهذا فعل أهل العلم، وهو الواجب؛ فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عَدَل إلى الميتة مع قدرته على المذكَّى؛ فإن الأصل أن لا يُقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم. ¬

_ (¬1) في (ك): "العادة". (¬2) "القذة: واحدة ريش السهم، ومعنى التركيب: كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها، وتقطع بضرب مثلًا للشيئين يستويان ولا يتفاوتان" (و).

سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الرابع] دار ابن الجوزي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [4]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339

[الفرق بين حال الأئمة وحال المقلدين]

[الفرق بين حال الأئمة وحال المقلدين] الوجه السادس والستون: قولكم: "قال الشافعي -رضي اللَّه عنه-: رأيُ الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا (¬1) [ونحن نقول ونَصْدق: رأي الشافعي والأئمة لنا خير من رأينا لأنفسنا] (¬2) جوابه من وجوه. أحدها: أنكم أول مخالف لقوله، ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا، فإذا جاءت الفُتيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة وجاءت الفُتيا عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة وأخذتم بما أفتى به الأئمة، فهلَّا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم. [فضل الصحابة وعلمهم] الثاني: أن هذا لا يُوجب [صحة] (¬3) تقليد مَنْ سِوى الصحابة؛ لما خصَّهم اللَّه به من العلم والفهم والفضل والفقه عن اللَّه ورسوله وشاهدوا الوحي والتلقي عن الرسول بلا واسطة ونزول الوحي بلغتهم وهي غضة محضة لم تُشَبْ، ومراجعتهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة حتى يُجَلِّيه لهم؛ فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلَّد كما يقلَّدون فضلًا عن وجوب تقليده وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صَرَّح به غلاتُهم؟ (¬4) وتاللَّه إن بَيْن علم الصحابة وعلم من قلَّدتموه من الفضل كما بينهم وبينهم في ذلك. قال الشافعي في "الرسالة القديمة" بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهادٍ وورعٍ وعقلٍ وأمر استدرك به عليهم (¬5)، وآراؤهم لنا أحمد وأولى [بنا] (¬6) من رأينا، قال الشافعي: وقد أثنى اللَّه على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبقَ لهم من الفَضْل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم"، وفي "الصحيحين" من حديث عبد اللَّه بن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) صرح الشافعي بحجيَّة أقوال الصحابة في "الأم" (7/ 246)، و"الرسالة" (ص 597 - 598) ونقله عنه البيهقي في "المعرفة" (1/ 106) ط سيد صقر، وسينقل المصنف ذلك عنه فيما يأتي. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "غلاتكم". (¬5) في (ق) و (ن) و (ك): "استدرك به علم"!! (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق).

قال: "خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبقُ شهادةُ أحدهم يمينه ويمينه شهادته" (¬1)، وفي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تسُبُّوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه" (¬2) وقال ابنُ مسعود: "إن اللَّه نَظَر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر (¬3) في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رأوه (¬4) قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح" (¬5) وقد أمرنا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) رواه البخاري (3673) في "فضائل الصحابة": باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا"، ومسلم (2541) في (فضائل الصحابة): باب تحريم سب الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، ووقع عند الإمام مسلم (2540) من حديث أبي هريرة، وهو وهم كما ذكره الحافظ في "الفتح" (7/ 35)، وسبقه المزيُّ في "تحفة الأشراف" (3/ 343 - 344)، وانظر: "جزء في طرق حديث لا تسبوا أصحابي" (ص 65) لابن حجر، بتحقيقي. (¬3) في (ق): "رأى". (¬4) في (ك): "رآه المؤمنون" وقد وردت هكذا في كثير من مصادر الحديث التي أخرجته. (¬5) رواه الطيالسي (246) -ومن طريقه البيهقي في "المدخل" (49)، وأبو نعيم (1/ 375 - 376)، والطبراني في "الكبير" (8583)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 166 - 167)، والبغوي في "شرح السنة" (105) من طرق عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود به. ورواه أحمد في "مسنده" (1/ 379)، والبزار (130 - كشف الأستار)، والقطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (541)، والطبراني في "الكبير" (8582)، والحاكم في "المستدرك" (78/ 3) من طريق عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود به. وأظن أن هذا الاختلاف من عاصم -وهو ابن بَهدلة- فإن في حفظه شيئًا، وقد قال الدارقطني في "علله" (5/ 67): رواه نصير بن أبي الأشعث عن عاصم عن المسيب بن رافع ومسلم بن صبيح عن عبد اللَّه. ورواه الطبراني في "الكبير" (8593) من طريق الأعمش عن أبي وائل عن عبد اللَّه، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 178 و 8/ 252): رجاله موثقون، وحسنه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "السلسلة الضعيفة" (2/ 17). وقد ورد هذا مرفوعًا من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (4/ 165)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (452) من حديث أنس بن مالك. وقال ابن الجوزي: تفرد به سليمان بن عمرو النخعي، قال أحمد: كان يضع الحديث. وقال المصنف في "لفروسية" (ص 298 - 299 - بتحقيقي): "إن هذا ليس من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما يضيفه إلى كلامه من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن =

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باتباع سنة خلفائه الراشدين (¬1) وبالاقتداء بالخليفتين (¬2). وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، وشهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن مسعود بالعلم (¬4)، ودعا لابن عباس بأن يفقهه اللَّه في الدين ويعلمه التأويل (¬5)، وضَمَّه إليه مرة وقال: "اللَّهم علمه الحكمة" (¬6) وناول (¬7) عمر في المنام القَدَح الذي شرب منه ¬

_ = مسعود من قوله، ذكره الإمام أحمد وغيره موقوفًا عليه". (¬1) ورد ذلك في حديث العرباض بن سارية، وسبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) رواه البخاري (466) في (الصلاة): باب الخوخة والممر في المسجد، و (3654) في (فضائل الصحابة): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سدوا الأبواب إلا باب أبي بكر" و (3904) في "مناقب الأنصار": باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، ومسلم (2382) في "فضائل الصحابة": باب فضائل أبي بكر الصديق، وهو جزء من حديث طويل. (¬4) هو في حديث طويل: رواه أحمد في "مسنده" (1/ 379 و 457 و 462)، والحسن بن عرفة في "جزئه" (46)، ومن طريقه البيهقي في "الاعتقاد" (284 - 285)، وأبو القاسم الحنائي في "الفوائد" (1/ ق 5/ ب أو رقم 4 - بتحقيقي)، والتيمي في "الدلائل" (2/ 502)، والذهبي في "السير" (1/ 465) - وأبو داود الطيالسي (2456 - منحة) -ومن طريقه أبو نعيم في "دلائل النبوة" (رقم 233)، وفي "الحلية" (1/ 125) - وابن سعد في "الطبقات" (3/ 150)، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (631)، ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ق 88 - ابن مسعود)، و"المجلس الثمانين بعد المئتين في فضل ابن مسعود" (9)، وأبو يعلى في "مسنده" (4985) و (5096) و (3511)، والطبراني في "معجمه الكبير" (8455 و 8456 و 8457)، وفي "الصغير" (513)، وابن أبي شيبة (7/ 51 و 11/ 510)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 84 - 85)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 537)، وابن حبان (6504) و (7061)، وأبو نعيم في "الدلائل" (113)، و"الحلية" (1/ 125)، واللالكائي في "السنة" (2/ 773 - 774) من طرق عن عاصم بن بَهْدلة عن زر بن حبيش عن ابن مسعود، وفيه قوله لابن مسعود: "إنك غلام مُعلَّم". قال الذهبي: هذا حديث صحيح الإسناد. قلت: إسناده حسن فحسب من أجل عاصم. وقال الهيثمي في "المجمع" (6/ 17): "ورجاله رجال الصحيح". أقول: رواية البخاري ومسلم لعاصم مقرونة. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) رواه البخاري (3756) في (فضائل الصحابة): باب ذكر ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- من حديث ابن عباس بهذا اللفظ. وروى البخاري (75) في (العلم): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اللهم علمه الكتاب، وفي حديث (3756) في (الفضائل): من حديثه أيضًا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم علمه الكتاب" وقد فَصَّلت من قبل حديث: "اللهم فقهه في الدين". (¬7) في المطبوع: "وتأول".

حتى رأى الريَّ يخرج من تحت أظفاره، وأَوَّله بالعلم (¬1)، وأخبر أَنَّ القوم إنْ أطاعوأ أبا بكر وعمر يَرْشدوا (¬2)، وأخبر أنه لو كان بعده نبيّ لكان عمر (¬3)، وأخبر أن اللَّه جَعل الحقَّ على لسانه وقلبه (¬4)، وقال: رضيتُ لكم ما رضي لكم ابنُ أمِّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري في (العلم) (82) باب فضل العلم، و (3681) في (فضائل الصحابة): باب مناقب عمر، و (7006) في (التعبير): باب اللَّبن، و (7007): باب إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافيره، و (7027): باب إذا أعطى فضله غيره في النوم، و (7032): باب القدح في النوم، ومسلم (2391) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل عمر، من حديث ابن عمر. (¬2) رواه مسلم (681) في (المساجد): باب قضاء الصلاة الفائتة، واستحباب تعجيل قضائها، من حديث أبي قتادة. (¬3) رواه أحمد (4/ 154)، والترمذي (3695)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ رقم 822)، والقطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (رقم 199، 519، 694)، والفسوي في "تاريخه" (2/ 500)، والحاكم (3/ 85)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (228)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (100، 101 - ترجمة عمر)، والروياني في "مسنده" (214، 223)، والدينوري في "المجالسة" (217 - بتحقيقي)، وأبو نعيم في "فضائل الخلفاء" (85)، والتيمي في "الحجة" (341)، والبيهقي في "المدخل" (65)، والخطيب في "الموضح" (2/ 414)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 100، 101 - ترجمة عمر) واللالكائي (491)، من طريق حيوة بن شُريح عن بكر بن عمرو عن مِشْرح بن هاعان عن عقبة بن عامر رفعه. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات إلا أن مشرح بن هاعان فيه كلام، ووثقه الفسوي (2/ 500)، وهو مما فات ابن حجر في "التهذيب"، فلا ينزل حديثه عن الحسن. والحديث رواه عن مشرح ابن لهيعة أيضًا إلا أنه اضطرب فيه. فرواه تارة عن مشرح: أخرجه القطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (498)، وابن عدي (3/ 1014). وتارة عن أبي عشانة (حي بن يؤمن): رواه الطبراني في "الكبير" (17/ 857) مع أن إسنادي القطيعي والطبراني واحد!! على كل حال هذا تخليط من ابن لهيعة لا يضر فالعمدة على ما سبق. والحديث عزاه ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 51) لابن حبان ولم أجده في "الإحسان". وفي الباب عن عصمة رواه الطبراني في الكبير (7/ 475) قال في "المجمع" (9/ 68) وفيه الفضل بن المختار وهو ضعيف. ورواه جمعٌ، منهم: بلال وأبو هريرة وابن عمر وأبو سعيد خَرَّجت حديثهم في تعليقي على "المجالسة" (2/ 86 - 90 رقم 217) وأسانيد الكل ضعيفة، فيتقوّى بعضها ببعض، واللَّه أعلم، قاله ابن عرَّاق في "تنزيه الشريعة" (1/ 373) وانظر: "السلسلة الصحيحة" (رقم 327). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 165 و 177)، وفي "فضائل الصحابة" (316)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1249)، وابن سعد (2/ 335)، وأبو داود (2962) في (الخراج): =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = باب في تدوين العطاء، وابن ماجه (108) في (المقدمة): باب فضل عمر، وابن أبي شيبة (12/ 21 أو 7/ 478 - ط الفكر)، والقطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (521، 687، 867)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 461)، والبغوي (3876)، وابن شاهين في "جزء في حديثه" (7)، والبلاذري في أنساب الأشراف (ص 149 - 150 - أخبار الشيخين)، وابن عساكر (85 - 86 - ترجمة عمر) جميعهم من طرق عن ابن إسحاق عن مكحول عن غضيف عن أبي ذر. وصرح ابن إسحاق بالتحديث عند الفسوي فقط. وهذا إسناد حسن لحال محمد بن إسحاق، وغضيف بن الحارث هذا ذكره بعضهم في "الصحابة"، وهو الظاهر. ورواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 86 - 87)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 191)، والدارقطني في "الأفراد" (2/ 269 - الأطراف)، والطبراني في "مسند الشاميين" (1543)، والبيهقي في "المدخل" (66)، واللالكائي (2490)، وابن عساكر (ص 85 - ترجمة عمر) من طريق أبي خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق ومحمد بن عجلان وهشام بن الغاز عن مكحول عن غضيف عن أبي ذر. وأبو خالد الأحمر هذا صدوق يخطئ؛ كما قال الحافظ ابن حجر، وانظر: "العلل" (6/ 259) للدارقطني. ورواه أحمد في "مسنده" (5/ 145) وفي "فضائل الصحابة" (317)، وابن عساكر (ص 87 - 88) من طريق برد بن سنان عن عبادة بن نسي عن غضيف عن أبي ذر مرفوعًا. وإسناده جيد أيضًا وهذه متابعة قوية لابن إسحاق. وفي الباب عن أبي هريرة: رواه أحمد في "مسنده" (2/ 410)، وابنه عبد اللَّه في "زوائده على فضائل الصحابة" (315)، والقطيعي (524) و (684)، وابن أبي شيبة (7/ 480)، وابن أبي عاصم في "السنة" (1250)، والبزار (2501)، وابن حبان (6889)، وتمام في "فوائده" (4/ 272 رقم 1461 - ترتيبه) وابن الأعرابي في "معجمه" (رقم 2271 - ط الكوثر) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 42) و"تثبيت الإمامة" (رقم 101، 110)، والطبراني في "الأوسط" -ولم أظفر به في طبعتيه، وسنده في "مجمع البحرين" (6/ 245 رقم 3661) وعزاه له في "مجمع الزوائد" (9/ 66) - والدينوري في "المجالسة" (رقم 198 - بتحقيقي) والآجري في "الشريعة" (3/ 95 رقم 1417) وابن شاهين في "السنة" (رقم 77). والسِّلفي "معجم السفر" (ص 254 - الباكستانية وص 267 رقم 886 - ط دار الفكر) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 88، 89 - ترجمة عمر)، بإسناده لين. وعن ابن عمر: رواه أحمد في "مسنده" (2/ 53 و 95) وفي "فضائل الصحابة" (313)، وابنه في "زياداته" (395)، والقطيعي (525)، والترمذي (3682) في (المناقب): باب مناقب عمر، وابن سعد (2/ 335)، والطبراني في "الأوسط" (249، 291، 3354) وفي "مسند الشاميين" (رقم 52)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (رقم 758) وابن الأعرابي في "معجمه" (ق 228/ أ) وابن عدي (3/ 51، 4/ 407)، وابن حبان (6895)، والفسوي =

عبد (¬1)، يعني: عبد اللَّه بن مسعود (¬2)، وفضائلهم ومناقبهم وما خَصَّهم اللَّه به من والفضل، أكثر من أن يذكر، فهل يستوي تقليد هؤلاء وتقليد من بعدهم ممن لا يُدانيهم ولا يُقاربهم؟ ¬

_ = (1/ 467)، وأبو نعيم في "تثبيت الإمامة" (رقم 109)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (ص 150 - ترجمة الشيخين)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (2/ 861 رقم 961) وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (1/ 382) والخليلي في "الإرشاد" (1/ 414) وتمام في "فوائده" (1460 - ترتيبه) واللالكائي في "السنة" (2489) وابن عساكر (89 - 92 ترجمة عمر) والبغوي (14/ 85). وفي الباب عن بلال، وأبي بكر، وأبي سعيد، ومعاوية، وعائشة. والخلاصة: أن بعض طرق حديث ابن عمر حسنة، وحديث أبي ذر يشهد له، فالحديث محتج به، وهو صحيح؛ كما أفضتُ -وللَّه الحمد- في بيان ذلك في تعليقي على "المجالسة" للدينوري (2/ 56 - 68 رقم 198). (¬1) رواه موصولًا هكذا: الحاكم في "المستدرك" (3/ 317 - 318)، والبيهقي في "المدخل" (96) من طريق يحيى بن يعلى المحاربي عن زائدة عن منصور عن زيد بن وهب عن عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا به. وقال الحاكم: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، وله علة"، ثم ذكر علته، وهي رواية سفيان وإسرائيل عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن مرسلًا. أقول: يحيى بن يعلى الراوي عن زائدة من الثقات، وقد رواه عنه آخر، وهو معاوية بن عمرو فجعله عنه عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن قال: حُدِّثت، مرسلًا، ومعاوية هذا من الثقات أيضًا. أخرجه الطبراني في "الكبير" (8458)، والحديث رواه مرسلًا: أحمد في "فضائل الصحابة" (رقم 1536)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 521)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 318) من طريق سفيان، وإسرائيل عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن مرسلًا، وقد رَجَّح الإرسال الإمام الدارقطني في "علله" (5/ 201)، وهو الظاهر. ورواه أحمد في "الفضائل" (1539) من طريق وكيع عن مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن وهب قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. ورواه ابن أبي عمر في "مسنده"؛ كما في "المطالب العالية" (4/ 113) من طريق القاسم عن ابن مسعود، وهو منقطع. وله شاهد من حديث أبي الدرداء: رواه الطبراني في "الكبير" إلا أن فيه انقطاعًا؛ كما ذكر الهيثمي في "المجمع" (9/ 920). وشاهد آخر من حديث عمرو بن حُريث: رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 319)، والبيهقي في "المدخل" (99)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حديث طويل آخره: "رضيت لكم ما رضي ابن أم عبد". (¬2) في (ك) و (ق): "يعني ابن مسعود".

[قول الصحابة حجة]

[قول الصحابة حجة] الثالث: أنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قَلَّدتموه حجة، وأكثر العلماء بل الذي نص عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة حجة يجب اتباعها، ويحرم الخروج عنها كما سيأتي (¬1) حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغهم فيه الشافعي، ونبين أنه لم يختلف مذهبه أن قول الصحابي حُجَّة، ونذكر نصوصه في الجديد على ذلك إن شاء اللَّه، وأن من حَكى عنه قولين في ذلك فإنما حكى ذلك بلازم قوله، لا بصريحه، وإذا (¬2) كان قول الصحابي حجة فقبول قوله واجبٌ متعيّن، وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياسُ أحد القائلين على الآخر من أفْسد القياس وأبطله. [ما ركزه اللَّه في فطر عباده من تقليد الأستاذين لا يستلزم جواز التقليد في الدين] الوجه السابع (¬3) والستون: قولكم: "وقد جعل اللَّه سبحانه في فِطَرِ العباد تقليد المتعلمين للمعلمين والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره" فجوابه أن هذا حق لا ينكره عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين اللَّه، وقبول قول المتبوع بغير حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه، وترك الحجة لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله؟ فهل جعل اللَّه ذلك في فطرة أحد من العالمين؟ ثم يُقال: بل الذي فطر اللَّه عليه عباده طلبُ الحجة والدليل المثبت لقول المدعي، فركز [اللَّه] (¬4) سبحانه في فطر الناس أنهم لا يقبلون قول من لم يقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام اللَّه سبحانه البراهين القاطعة والحجج الساطعة والأدلة الظاهرة والآيات الباهرة على صدق رسله إقامةً للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدقُ خلقه وأعلمُهم وأبرُّهم وأكملهم، فأَتوا بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف يُقبل قول من عداهم بغير حجة تُوجب قبول قوله؟ واللَّه سبحانه إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة وظهور الآيات المستلزمة لصحة دعواهم؛ لما جعل اللَّه في فطر عباده من الانقياد للحجة، وقبول قول صاحبها، وهذا أمر مشتركٌ بين جميع أهل الأرض مؤمنُهم وكافرهم وبرُّهم وفاجرهم الانقياد للحجة وتعظيم صاحبها، وإن ¬

_ (¬1) انظر (3/ 45 و 4/ 550). (¬2) في المطبوع: "وإن". (¬3) في (ك) و (ق): "السادس". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) وحدها.

[تفاوت الاستعداد لا يستلزم التقليد في كل حكم]

خالفوه عِنادًا وبغْيًا فلفوات (¬1) أغراضهم بالانقياد؛ ولقد أحسن القائل: أَبْن (¬2) وجهَ قولِ الحقِّ في قلبٍ سامعٍ ... ودَعْه فنورُ الحقِّ يَسري ويُشرقُ سيؤنسه رفقًا (¬3) وينسى نِفَارَه ... كما نسي التَّوثيق من هو مُطْلَقُ ففطرةُ اللَّه وشرعته (¬4) من أكبر الحجج على فرقة التقليد. [تفاوت الاستعداد لا يستلزم التقليد في كل حكم] الوجه الثامن (¬5) والستون: قولكم: " (إن اللَّه) (¬6) سبحانه فاوت بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان، فلا يليق بحكمته وعدله أن يفرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة، إلى آخره" فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندَّعي أن اللَّه فَرَضَ على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دِقِّه وجِلِّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومَنْ تقدَّمهم من الصحابة والتابعين وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من نَصْبِ رجلٍ واحد وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل تقديمها (عليها) (¬7) وتقديم قولَه على أقوال مَنْ بَعْد رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من جميع علماء أمته، والاكتفاء بتقليده عن تلقِّي الأحكام من كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة، وأن يضم إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما في كتاب اللَّه وسنة رسوله، وهذا مع تضمُّنه للشهادة بما (¬8) لا يعلم الشاهد، والقول على اللَّه بلا علم، والإخبار عَمَّن خالفه وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة ومتبوعي هو المصيبُ، أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالُهما، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضةً متناقضةً، واللَّه ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء الرجال، وليس له في نَفْس الأمر حكم معين، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو يُخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد عليه. إذا عرفت (¬9) هذا فنحن إنما قلنا ونقول: إن اللَّه تعالى أوْجب على العباد أن ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ولفوات". (¬2) في (ق): "أين"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬3) في المطبوع: "رشدًا". (¬4) في المطبوع و (ق): "وشرعه". (¬5) في (ق) و (ك): "السابع". (¬6) في (ق) و (ك): "أنه". (¬7) ما أثبته من (ك)، وفي باقي الأصول: "عليه". (¬8) في (ن) و (ك): "مما". (¬9) في (ق) و (ك): "عرف".

[فرق عظيم بين المقلد والمأموم]

يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يُتَّقى ثم العمل به؛ فالواجب على كل عبد أن يبذل جَهده في معرفة ما يتقيه مما أمره اللَّه به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة اللَّه ورسوله، وما خفي عليه فهو (¬1) فيه أسوة أمثاله ممن عدا الرسول؛ فكل (¬2) أحد سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به، ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم، ولم يكلفه اللَّه ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه. قال أبو عمر (¬3): وليس أحدٌ بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا وقد خفي عليه بعض أمره، فإذا أوجبَ اللَّه [سبحانه] (¬4) على كل أحد ما استطاعه وبلغته قواه من معرفة الحق وعَذَرَه فيما خفي عليه منه فأخطأ أو قَلَّد فيه غيره كان ذلك هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته، بخلاف ما لو فوّض إلى العباد (¬5) تقليد من شاءوا من العلماء، وأن يختارَ كلٌّ منهم [له] (¬6) رجلًا ينصبه معيارًا على وحيه، ويُعرض عن أخذ الأحكام واقتباسها من مِشكاة الوحي؛ فإن هذا ينافي حكمته ورحمته وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه وهجْر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع، وباللَّه التوفيق. [فرق عظيم بين المقلد والمأموم] الوجه التاسع (¬7) والستون: قولكم: "إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام والمتبوع مع التابع فالركب (¬8) خلف الدليل" جوابه إنا واللَّه حولها نُدنْدِن، ولكن الشأن في الإمام والدليل والمتبوع الذي فَرضَ اللَّه على الخلائق أن تأتم به وتتبعه وتسير خلفه، وأقسم سبحانه بعزَّته أن العباد لو أتوْه من كل طريق أو استفتحوا من كل باب لم يُفتح لهم حتى يدخلوا خلفه؛ فهذا لعمر اللَّه هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقًا، ولم يجعل اللَّه منصب الإمامة بعده إلا لمن دعا إليه، ودَلَّ عليه، وأمر الناس أن يقتدوا به، ويأتموا به، وبسيروا خلفه، وأن لا ينصبوا لأنفسهم (¬9) متبوعًا ولا إمامًا ولا دليلًا غيره، بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة (¬10) الصلاة مع المصلين، كل واحدٍ يصلي طاعة للَّه وامتثالًا لأمره، وهم في الجماعة متعاونون متساعدون وبمنزلة (¬11) الوفد مع الدليل، كلهم يَحجُّ ¬

_ (¬1) كذا في الأصول ولعل الصواب: "فله". (¬2) في (ك): "إذ كل". (¬3) لم أظفر به في: "جامع بيان العلم". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع: "فرض على العباد". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬7) في (ق) و (ك): "الثامن". (¬8) في (ق) و (ك): "والركب". (¬9) في المطبوع: "لنفوسهم". (¬10) ساقطة من (ك). (¬11) في كذا في (ق)، وفي باقي النسح: "بمنزلة".

طاعةً للَّه وامتثالًا لأمره، لا أن المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي (¬1)، بل هو يصلي صَلَّى إمامه أو لا بخلاف المقلد؛ فإنه إنما ذهب إلى قول متبوعه لأنه قاله، لا لأن الرسول قاله، ولو كان كذلك لدار مع قول الرسول أين كان ولم يكن مقلدًا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج (¬2) عليهم. يوضحه الوجه السبعون: (¬3) أن المأموم قد علم أن هذه الصلاة التي فَرضَها اللَّه سبحانه على عباده، وأنه وإمامَه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض اللَّه حجَّه على كل من استطاع إليه سبيلًا، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء، فهو لم يحج تقليدًا للدليل، ولم يصل تقليدًا للإمام. وقد استأجر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دليلًا يدلُّه (¬4) على طريق المدينة لما هاجر الهِجْرَة التي فرضها اللَّه عليه (¬5)، وصلَّى خلف عبد الرحمن بن عوْف مأمومًا (¬6)، والعالم يُصلِّي خلف مثله ومن هو دونه، بل خلف من ليس بعالم، وليس من تقليده في شيء. يوضحه الوجه الحادي والسبعون: (¬7) أن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركب يأتون بمثل ما يأتي به الدليل، ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا متَّبعًا، فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت؛ فهذا يكون مُتَّبعًا لهم، وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم، ويسلك غير سبيلهم ثم يدَّعي أنه مؤتمٌ بهم فتلك أمانيُّهم، ويقال لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النحل: 64]. ¬

_ (¬1) في (ك): "لأن المأموم يصلي لا لأجل الإمام يصلي". (¬2) في (ق) و (ك): "الأدلة". (¬3) في (ق) و (ك): "الوجه التاسع والتسعون". (¬4) "رواية البخاري: واستأجر رسول اللَّه وأبو بكر رجلًا من بني الديل، وهو من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا"، والخريت -بكسر الخاء وتشديد الدال-: الماهر بالهداية. وهناك في اسمه خلاف، فهو عبد اللَّه بن أرقد، أو أريقد، أو أريقط، أو رقيط" (و). (¬5) رواه البخاري (2263) في الإجارة: باب استئجار المشركين عند الضرورة و (2264) باب إذا استاجر أجيرًا ليعمل له بعد ثلاثة أيام أو بعد شهر أو بعد سنة جاز و (3905) في مناقب الأنصار: باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه إلى المدينة، من حديث عائشة أم المؤمنين. (¬6) رواه مسلم (421) في الصلاة: باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام ولم يخافوا مفسدة بالتقديم، من حديث المغيرة بن شعبة. (¬7) في (ق) و (ك): "الوجه السبعون".

[الصحابة كانوا يبلغون الناس حكم الله ورسوله]

[الصحابة كانوا يبلغون الناس حكم اللَّه ورسوله] الوجه الثاني (¬1) والسبعون: قولكم: "إن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحوا البلاد، وكان الناسُ حديثي عهد بالإسلام، وكانوا يفتونهم، ولم يقولوا لأحد منهم: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل" جوابه أنهم لم يفْتُوهم (¬2) بآرائهم، وإنما بلَّغوهم ما قاله نبيهم وفعله وأمر به؛ فكان ما أفْتوهم (¬3) به هو الحكم والحجة (¬4)، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحُكم؛ فإن كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو (¬5) الحكم وهو دليل الحكم، وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفَعَله وأمر به، وإنما تُبلِّغهم الصحابة ذلك؛ فأين هذا من زمان إنما يحرصُ أشباهُ الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر، وكلَّما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه، حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرًا لكلامهم، وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدم هجرًا ورغبة عنه، حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئًا بحسب تقدم زمانه، ولكن أين قال أصحابُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للتابعين: لينصبْ كلٌّ منكم لنفسه رجلًا يختاره فيقلده (¬6) دينه ولا يلتفت إلى غيره، ولا يتلقى (¬7) الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال، فإذا جاءكم عن اللَّه ورسوله شيء وعَمَّن نصَّبتموه إمامًا تقلدونه فخذوا بقوله، ودعوا ما بلغكم عن اللَّه ورسوله؛ فواللَّه لو كُشف الغِطاءُ لكم وحقت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول: نزلوا بمكَة في قبائل هاشم ... ونزلْت بالبيداء أبْعدَ منزلِ وكما قال الثاني (¬8): سارت مُشرِّقةً وسرتُ مُغَرِّبًا ... شتانَ بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "الحادي". (¬2) في (ك) و (ق): "يفتوا". (¬3) في (ك): "أفتوا". (¬4) في (د) و (ك): "وهو الحجة". (¬5) في (ط): "وهو" بزيادة واو. (¬6) في المطبوع: "ويقلده". (¬7) كذا في (ق) و (ك) وفي باقي النسح: "يتلق". (¬8) ذكره في "تاج العروس" (25/ 501) مادة (شرق) بلا نسبة، وهو في "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" (1/ 416).

[ليس التقليد من لوازم الشرع]

وكما قال الثالث: أيها المنكِحُ الثريّا سهيلًا ... عَمْرَكَ اللَّه كيف يلتقيانِ هي شاميَّةٌ إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقل يماني (¬1) [ليس التقليد من لوازم الشرع] الوجه الثالث (¬2) والسبعون: قولكم: "إن التقليد من لوازم الشَّرع والقَدَر، والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد كما تقدم بيانه من الأحكام" جوابه أنَّ التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع، وإن كان من لوازم القَدَر، بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع، كما عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة، وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدًا، وإنما هي متابعة وامتثال للأمر، فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدًا فالتقليد بهذا الاعتبار حَقٌّ، وهو من الشرع، ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع، ولا من لوازمه، وإنما بطلانه من لوازمه. يوضحه الوجه الرابع (¬3) والسبعون: أن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع؛ فلو كان التقليد الذي وقع فيه النزاع من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع؛ فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر، وصحة أحد الضدين يوجب بطلان الآخر، ونحرِّره دليلًا فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يَجُز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه. فإن قيل: كلاهما من الدِّين: وأحدهما (¬4) أكمل من الآخر: فيجوزُ العدول عن المفضول إلى الفاضل. قيل: إذا كان قد انسدَّ بابُ الاجتهاد عندكم وقطعتم طريقه وصار الفَرْض هو التقليد فالعدول عنه إلى ما قد سُدَّ بابه وقُطعت طريقه يكون عندكم معصية ¬

_ (¬1) في نسخة (ك) و (و) "يمان"، وقال (و): "الشعر لعمر بن أبي ربيعة". قلت: وهو في "ديوان عمر بن أبي ربيعة" (ص 503) -القسم المنسوب إليه- وعزاه له: المبرَّد في "الكامل" (2/ 780 - ط الدَّالى) وأبو الفرج في "الأغاني" (2/ 359) والبغدادي في "الخزانة" (1/ 239). (¬2) في (ق) و (ك): "الثاني". (¬3) في (ق) و (ك): "الثالث". (¬4) في المطبوع: "أو أحدهما".

[الرواية غير التقليد]

وفاعله آثمًا، وفي هذا من قطع طريق العلم وإبطال حجج اللَّه وبيّناته وخلو الأرض من قائم للَّه بحججه (¬1) ما يبطل هذا القول ويدحضه، وقد ضَمِن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خَذَلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة (¬2)، وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث اللَّه به رسوله؛ فإنهم على بصيرة وبينة، بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر. والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع المتابعةُ (¬3) والاقتداءُ، وتقديم النصوص على آراء الرجال، وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تَنَازع فيه العلماء، وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها والإنكار على مَنْ جعل كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة نُصْب عينيه وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون اللَّه ولا رسوله وليجةً (¬4) فبطلانه من لوازم الشرع، ولا يتم الدين إلا بإنكارِه وإبطالِه، فهذا لونٌ والاتباع لونٌ، واللَّه الموفق. [الرواية غير التقليد] الوجه الخامس (¬5) والسبعون: قولكم: "كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلِّدون لحملتِها ورُواتها، وليس بيدِ العالمِ إلا تقليد الراوي، ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا بيد العامي إلا تقليد العالم، إلى آخره". جوابه ما تقدم مرارًا من أن هذا الذي سمَّيتموه تقليدًا هو اتباع أمر اللَّه ورسوله ولو كان هذا تقليدًا لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة مقلدًا، بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين، ومثلُ هذا الاستدلال لا يصْدرُ إلا عن مُشاغبٍ (¬6) أو ملبِّس يقصد لبس الحق بالباطل، والمقلِّد لجهله أخذ نوعًا صحيحًا من أنواع التقليد واستدلَّ به على النوع الباطل منه لوجود القدْر المشترك، وغفل عن القَدر الفارق، وهذا هو القياس الباطل المتفق على ذَمِّه، وهو أخو هذا التقليد الباطل، كلاهما في البُطلان سواء. وإذا (¬7) جَعَل اللَّه سبحانه خَبرَ الصَّادق حجةً وشهادةَ العدل حجة لم يكن ¬

_ (¬1) في (ق): "بحجة". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ق) و (ك): "فالمتابعة". (¬4) في المطبوع: "من دون اللَّه ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة". (¬5) في (ق) و (ك): "الرابع". (¬6) في هامش (ق): "المشاغب: مهيج الشر". (¬7) في (ق): "إذا".

[الجواب على ادعاء أن التقليد أسلم من طلب الحجة]

متبع الحجة مقلدًا، وإذا (¬1) قيل إنه مقلد للحجة؛ فحيهلًا (¬2) بهذا التقليد وأهله، وهل نُدندن إلا حوله؟ واللَّه المستعان. [الجواب على ادعاء أن التقليد أسلم من طلب الحجة] الوجه السادس (¬3) والسبعون: قولكم: "أنتم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قَلَّده مخطئًا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق، ولا رَيبَ أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه، كمن أراد شراءَ سلعةً لا خِبْرة له بها فإنه إذا قلَّد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غَرَضِه أقرب من اجتهاده لنفسه". جوابه من وجوه: أحدها: أنا مَنَعنا التقليدَ طاعةً للَّه ورسوله، واللَّهُ ورسوله منع منه، وذمَّ أهله في كتابه، وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله وردّ ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله، وأخبر أن الحُكمَ له وحده، ونهى أن يُتخذ من دونه ودون رسوله وليجةً، وأمر أن يُعتصم بكتابه، ونَهى أن يُتخذ من دونه أولياء وأربابًا يُحل من اتخذهم ما أحلَّوه ويحرم ما حَرَّموه، وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام، وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره مُخبرين به، وأقسم بنفسه سبحانه أنَّا لا نؤمن حتى نُحكِّم الرسول خاصة فيما شجر بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجًا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول مَنْ قلدوه، وأن نسلِّم لحكمه تسليمًا (¬4)، كما يسلم المقلدون لأقوال من قلدوه، بل تسليمًا أعظم من تسليمهم وأكمل واللَّه المستعان، وذمَّ من حاكم إلى غير الرسول، وهذا كما أنه ثابت في حياته فهو ثابت بعد مماته، فلو كان حيًا بين أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنَّا من أهل الذم والوعيد؛ فسنَّته وما جاء به من الهدى ودين الحق، لم يمت، وإن فُقد من بين الأمة شخصُه الكريم فلم يفقد من بيننا (¬5) سنته ودعوته وهدْيه، والعلم والإيمان بحمد اللَّه مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، وقد ضَمِن اللَّه سبحانه حفظ الذكر ¬

_ (¬1) في (ق): "وإن". (¬2) في هامش (ق): "حيهلا: أي هلم. قيل: معنى (حي): أقبل. ومعنى (هلا): أسرع". (¬3) في (ك): "الخامس". (¬4) ساقطة من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "بينها".

[مثل مما خفي على كبار الصحابة]

الذي أنزله على رسوله؛ فلا يزال محفوظًا بحفظ اللَّه محميًا بحمايته لتقوم حجة اللَّه على عباده قرنًا بعد قَرْن؛ إذ كان نبيُّهم آخر الأنبياء ولا نبيَ بعده؛ فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مُغنيًا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل، والذي أوجبه اللَّه سبحانه وفَرَضه على الصحابة من تلقِّي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجبٌ على مَنْ بعدهم، وهو مُحكم لم يُنسخ ولا يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ اللَّه العَالَم أو يطوي الدنيا، وقد ذم اللَّه تعالى من إذا دُعي إلى ما أنزل اللَّه وإلى رسوله صدَّ وأعرض، وحذَّره أن تُصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه، وحَذَّر من خالف عن أمره واتبع غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم؛ فالفتنة في قلبه، والعذاب الأليم في بدنه وروحه (¬1)، وهما (¬2) متلازمان؛ فمن فُتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد، وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرًا على لسان رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ما قضاه، فلا خيرة بعد قضائه لمؤمن (¬3) ألبتَّة، ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يَخفى قضاء اللَّه ورسوله على من قلَّدتموه دينكم في كثير من المواضع أم لا؟ فإن قالوا: "لا يمكن أن يخفى عليه ذلك" أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم. [مثل مما خفي على كبار الصحابة] فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى اللَّه ورسوله به. [مسائل خفيت على أبي بكر] فهذا الصِّديق [رضي اللَّه عنه] (¬4) أعلم الأمة به خَفي عليه ميراث الجَدَّة حتى أعلمه به محمد بن مَسْلمة والمُغيرة بن شعبة (¬5)، وخفي عليه أن الشَّهيد لا دِية له ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق) و (ك): "في قلبه وروحه". (¬2) في (ك): "وكلاهما" وأشار فوق (كلا) إلى أنها هكذا في نسخة. (¬3) ساقطة من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬5) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 513) في (الفرائض): باب ميراث الجدة، ومن طريقه رواه أبو داود (2894) في (الفرائض): باب ميراث الجدة، والترمذي (2101) في (الفرائض): باب ما جاء في ميراث الجدة، والنسائي في "السنن الكبرى" (4/ 75 رقم 6346)، وابن ماجه (2724) في (الفرائض): باب ميراث الجدة، وابن الجارود (959)، وأبو يعلى (119)، وابن حبان (6031)، والبغوي (2221) والبيهقي في "السنن =

حتى أعلمه به عمر فرجع إلى قوله (¬1). ¬

_ = الكبرى" (6/ 234)، وأحمد في "مسنده" (4/ 225 - 226) عن ابن شهاب عن عثمان بن إسحاق بن خَرَشة عن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر. . . والحديث رجاله ثقات، لكن عثمان بن إسحاق هذا ليس له إلا هذا الحديث، قال الدوري عن ابن معين: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، أما ابن عبد البر فقال: فهو معروت النسب، إلا أنه غير مشهور بالرواية، وفي سماع قبيصة من أبي بكر نظر، فقد قال الحافظ في "التخليص الحبير" (3/ 82): إسناده صحيح؛ لثقة رجاله إلا أنه صورته الإرسال، فإن قبيصة لا يصح له سماع من الصديق، ولا يمكن شهوده القصة. قاله ابن عبد البر بمعناه، وقد اختلف في مولده، والصحيح أنه ولد عام الفتح، فيبعد شهوده القصة، وقد أعلَّه عبد الحق تبعًا لابن حزم بالانقطاع. وقال الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (4/ 282): روي عن أبي بكر -إن صح-. ورواه الترمذي (2100)، والنسائي في "الكبرى" (6345)، وابن أبي شيبة (11/ 320 - 321) وسعيد بن منصور (رقم 80)، عن سفيان، حدثنا الزهري، قال مرة: قال قبيصة، وقال مرة: عن رجل عن قبيصة بن ذؤيب به. ورواه عبد الرزاق (10/ 274 - 275 رقم 19083)، وأحمد (4/ 225)، وأبو يعلى (120)، وابن ماجه (2724)، والنسائي في "الكبرى" (6339 - 6344)، والحاكم (4/ 338)، وآخرون، أشار إلى روايتهم الدارقطني في "العلل" (1/ 249) من طرق عن الزهري عن قبيصة به، بإسقاط الواسطة. ورجَّح الدارقطني في "العلل" إثبات الواسطة: عثمان بن إسحاق. قال النسائي: الزهري لم يسمعه من قبيصة. ورواه الدارمي (1/ 359) من طريق الأشعث عن الزهري قال: جاءت الجدة. . . معضلًا. (¬1) وقع ذلك في قصة طويلة: أخرجها البيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 335) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع وأبو عبيد (254) وعنه ابن زنجويه (2/ 465 - 461 رقم 742) كلاهما في "الأموال"، عن عبد الرحمن بن مهدي والأشجعي ثلاثتهم عن سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: جاء وفد بزاخة أسد وغطفان إلى أبي بكر -رضي اللَّه عنه- يسألونه الصلح فخيرهم أبو بكر -رضي اللَّه عنه- بين الحرب المجلية أو السلم المخزية قال: فقالوا: هذا الحرب المجلية قد عرفنا فما السلم المخزية قال أبو بكر -رضي اللَّه عنه-: تؤدون الحلقة والكراع وتتركون أقوامًا تتبعون أذناب الإبل حتى يرى اللَّه خليفة نبيه والمسلمين أمرًا يعذرونكم به وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم وقتلانا في الجنة وقتلاكم في النار وتردون ما أصبتم منا ونغنم ما أصبنا منكم قال: فقال عمر -رضي اللَّه عنه-: قد رأيت رأيًا وسنشير عليك إما أن يؤدوا الحلقة والكراع فنعما رأيت، وأما أن يتركوا قومًا يتبعون أذناب الإبل حتى يرى اللَّه خليفة نبيه والمسلمين أمرًا يعذرونهم به فنعما رأيت، وأما أن نغنم ما أصبنا منهم ويردون ما أصابوا منا فنعما رأيت، وأما أن قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة فنعما =

[مسائل خفيت على عمر]

[مسائل خفيت على عمر] وخفي على عمر تيمُّم الجنب فقال: لو بقي شهرًا لم يصلِّ حتى يغتسل (¬1)، وخفي عليه دية الأصابع فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن في كتاب آل عمرو بن حَزْم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى فيها بعشر (¬2)؛ فترك قوله ورجع إليه (¬3)، وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد ¬

_ = رأيت، وأما أن يدوا قتلانا فلا، قتلانا قتلوا على أمر اللَّه فلا ديات لهم فتتابع الناس على ذلك، وفيها كلام أبي بكر ثم كلام عمر. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. ورواها ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1830) من طريق ابن مهدي عن سفيان به. ورواها سعيد بن منصور في "السنن" (2/ 361) وابن عبد البر (1829) من طريق ابن عيينة عن أيوب الطائي عن قيس به. وإسناده على شرط الشيخين كذلك. وأصل القصة في "صحيح البخاري" (7221) مثل إسناد البيهقي، وهي مختصرة جدًا، فيها بعض كلام أبي بكر فقط، وعزاها ابن حجر في "الفتح" مطولة لأبي بكر البُرقاني في "مستخرجه". (¬1) رواه البخاري (338) في (التيمم): باب المتيمم هل ينفخ فيها؟ و (339 و 340 و 341 و 342 و 343) باب التيمم للوجه والكفين، و (345 و 346) باب إذا خاف الجنب على نفسه المرض أو الموت، و (347) باب التيمم ضربة، ومسلم (368) في (الحيض): باب التيمم، من حديث عمار بن ياسر. (¬2) "نص ما في الكتاب، وفي كل إصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل" (و) وبعدها في سائر النسح: "عشر" والصواب حذفها كما في (ك). (¬3) روى عبد الرزاق في "مصنفه" (17698) من طريق الثوري والشافعي في "الرسالة" (ص 422 رقم 1160) أخبرنا سفيان وعبد الوهاب عن يحيى عن سعيد بن المسيب أن عمر جعل في الإبهام خمس عشرة، وفي السبابة عشرًا. . . حتى وجدنا كتابًا عند آل حزم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الأصابع كلها سواء فأخذ به. ورواه ابن أبي شيبة (6/ 306) من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد به مختصرًا، ورواه ابن حزم في "الإحكام" (6/ 86) من طريق البخاري ثنا أبو النعمان ثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد به بلفظه، ومنه ينقل المصنف. لكن رواه البيهقي (8/ 93) من طريق جعفر بن عون عن يحيى بن سعيد به فقال: قضى عمر في الأصابع في الإبهام بثلاثة عشر والتي تليها باثني عشر. . .، وظاهر هذه الروايات أن الذي وجد الكتاب ليس عمر. لكن وجدت رواية صريحة عند عبد الرزاق (17706) عن معمر عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري عن ابن المسيب قال: قضى عمر بن الخطاب بقضاء في الأصابع =

الخدري (¬1)، وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضَّحاك بن سُفيان الكلابي -وهو أعرابي من أهل البادية- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَره أن يُورِّث امرأة أَشْيَم الضِّبابي من دية زوجها (¬2)، وخفي عليه حكم إمْلَاص (¬3) المرأة حتى سأَل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة (¬4)، وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذها من مجوس هَجَر (¬5)، وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردُّهن حتى يطهرن ثم يطفن ¬

_ = ثم أُخبر بكتاب كتبه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لآل حزم: في كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل فأخذ به وترك أمره الأول. وابن المسيب لم يدرك عمر، كان صغيرًا لم يبلغ الحلم في أيامه. وكتاب عمرو بن حزم فيه أنصبة الزكاة والديات تكلمنا عليه مرارًا. وقوله: "في دية الأصابع عشر". ورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، رواه أبو داود (4562)، والنسائي (8/ 57)، وابن ماجه (2653)، وأحمد (2/ 207)، وإسناده جيد، وفي الباب عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري، وانظر: "الزاد" (3/ 204)، و"أحكام الجناية" للشيخ بكر أبو زيد (296 - 297). (¬1) رواه البخاري (2062) في (البيوع): باب الخروج في التجارة، و (7353) في (الاعتصام): باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ظاهرة، ومسلم (2153) (36) في (الآداب): باب الاستئذان من حديث أبي موسى الأشعري. ورواه مسلم (2154) من حديث أبي موسى إلا أن الذي شهد أبو موسى وأبي بن كعب. ورواه البخاري (6245) في (الأدب): باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، ومسلم (2153) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) مضى تخريجه. وانظر: "الرسالة" للشافعي (ص 426 - 427). (¬3) "الإملاص: هو أن تزلق الجنين قبل وقت الولادة" (و). (¬4) رواه البخاري (6905 - 6908) (في الديات): باب جنين المرأة، و (7317 و 7318) في (الاعتصام): باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل اللَّه، من حديث المغيرة بن شعبة، ومحمد بن مسلمة. ورواه مسلم (1689) في (القسامة): باب دية الجنين، من حديث المسور بن مخرمة. والحديث عندهما جاء من طريق هشام بن عروة عن أبيه. فقال في رواية البخاري: عن المغيرة ثم شهد محمد بن مسلمة. وقال في رواية مسلم: عن المسور، وشهد المغيرة ومحمد بن مسلمة. (¬5) رواه البخاري (3156) و (3157) في الجزية والموادعة: باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب. وانظر: "الرسالة" (ص 430 - 431) للشافعي.

حتى بلغه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف ذلك فرَجعَ إلى قوله (¬1)، وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة في التسوية فرجع إليها (¬2)، وخفي عليه شأن متعة الحج وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بها فترك قوله وأمر بها (¬3)، وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره ¬

_ (¬1) رواه ابن المنذر؛ كما في "الفتح" (3/ 587) بإسناد صحيح إلى نافع عن ابن عمر قال: طافت امرأة بالبيت يوم النحر ثم حاضت فأمر عمر بحبسها بمكة بعد أن ينفر الناس حتى تطهر، وتطوف بالبيت. وروى ابن أبي شيبة -كما في "الفتح" (3/ 587) - من طريق القاسم بن محمد: كان الصحابة يقولون: إذا أفاضت المرأة قبل أن تحيض فقد فرغت. إلا عمر؛ فإنه كان يقول: "يكون آخر عهدها بالبيت". وأما السنة الواردة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك: فقد أخرج البخاري (1757، 4401) ومسلم (1211) عن عائشة قالت: حاضت صفية بنت حُيَيّ بعد ما أفاضت، قالت عائشة: فذكرتُ حيضتها لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحابستنا هي؟ " قال: فقلت: يا رسول اللَّه إنها قد كانت أفاضت، وطافت بالبيت، ثم حاضت بعد الإفاضة، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فَلْتَنْفِر". وروى البخاري (1755) ومسلم (1328) عن ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض. وخفي هذا الأمر على زيد بن ثابت حتى أخبره به ابن عباس، كما سيأتي عند المصنف (3/ 44). ورجوع عمر سوف يأتي في (ص 39)، وهناك تخريجه، وقارن لزامًا بـ: "فتح الباري" (3/ 587). ووجدت ابنه عبد اللَّه كان يقول به ثم رجع عنه، روى ذلك البخاري (330) و (1761). ووقع في المطبوع: "فرجع عن قوله". (¬2) مضى تخريجه قريبًا. (¬3) رواه البخاري (1559) في (الحج): باب من أهل في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كإهلال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- و (1724) باب الذبح قبل الحلق، و (1795) في (العمرة): باب متى يحل المعتمر، و (4346) في (المغازي): باب بعث أبي موسى، ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم (1221) في (الحج): باب نسخ التحلل في الإحرام، والأمر بالتمام من حديث أبي موسى الأشعري، وفيه قول عمر. ورواه مسلم (1217) و (1405) (17) من حديث ابن عباس، وفيه نهي عمر عن المتعة. وقد روى مسلم في "صحيحه" (1222) سبب نهي عمر عن المتعة حيث قال: قد علمت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤُوسهم.

[به] (¬1) طلحة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كَنَّاه أبا محمد فأمسك ولم يتماد (¬2) على النهي (¬3)، هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة، ولكن لم يمرّ بباله -رضي اللَّه عنه- أمر هو بَيْنَ يديه حتى نهى عنه، وكما خفي عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] حتى قال: واللَّه كأني ما سمعتُها قط قبل وقتي هذا (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ق) و (ك): "يتمادى". (¬3) روى أحمد في "مسنده" (4/ 216)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (670)، والطبراني في "الكبير" (19) (544) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 166 - 167 رقم 636 - ط دار الوطن) من طريق أبي عوانة عن هلال بن أبي حميد الوَزَّان عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: نظر عمر إلى ابن عبد الحميد، وكان اسمه محمدًا ورجل يقول له: فعل اللَّه بك يا محمد. . . فدعاه عمر فقال: يا ابن زيد لا أرى محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسب بك. . . فأرسل إلى بني طلحة، وهم سبعة، وسيدهم وكبيرهم محمد بن طلحة ليغير أسماءهم فقال محمد: أذكرك اللَّه يا أمير المؤمنين فواللَّه لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم- سماني محمدًا، فقال: قوموا لا سبيل إلى شيء سماه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وأخرجه -مختصرًا- ابن قانع "معجم الصحابة" (13/ 4567 رقم 1708) وابن السكن وابن شاهين كما في "الإصابة" (6/ 7775). قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 49): "ورجال أحمد رجال الصحيح". وذكره الحافظ في "الفتح" (10/ 573) ساكتًا عليه. وانظر: "زاد المعاد" (4/ 28، 29)، و"تهذيب السنن" (3/ 49 - 50). (¬4) أخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب الجنائز): باب الدخول على الميت إذا أدرج في أكفانه رقم (1242) بسنده إلى عمر بن الخطاب، قال: واللَّه ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها -أي: قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. . .} [آل عمران: 44]؛ فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد مات. وأخرجه عن أبي سعيد الخدري بإسناد صحيح ابنُ عبد البر في "الجامع" (رقم 2387)، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" (6/ 89)، وتتمته: وكيف لا ننكر أنفسنا واللَّه تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7]. وروى البيهقي في "دلائل النبوة" (7/ 217) عن عروة قال: لما توفي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . ثم تلا: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)} فقال عمر: هذه الآية في القرآن؟. . . وقال: قال اللَّه لمحمد -صلى اللَّه عليه وسلم-: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)}، وانظر: "الدر المنثور" (4/ 336 - 338).

وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهور (¬1) أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبناته حتى ذكَّرته تلك المرأة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال: كلُّ أحد أفقه من عمر حتى النِّساء (¬2). وكما خفي عليه أمر الجد والكلالة و [بعض] (¬3) أبواب [من] (¬4) الربا فتمنَّى أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان عهد إليهم فيها عهدًا (¬5)، وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وَعْد اللَّه لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذلك العام حتى بينه له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحَّت السنة بذلك (¬7)، وكما خفي عليه أمر القدوم على محل ¬

_ (¬1) في المطبوع: "مهر". (¬2) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (598)، وأبو يعلى في "مسنده الكبير" (757 - زوائده)، والبيهقي (7/ 233) من طريق مجالد عن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال: ركب عمر بن الخطاب المنبر، وفيه خطبة عمر في تحديد المهور، ومحاجة المرأة له وقوله: "كل الناس أفقه من عمر". قال الهيثمي (4/ 283 - 284): "رواه أبو يعلى في "الكبير"، وفيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف وقد وثق". أقول: مجالد بن سعيد ضَعّفوه، وهو إلى الضعف أقرب. وأخرجه عبد الرزاق (6/ 180) -ومن طريقه ابن المنذر؛ كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 467) - عن قيس بن الربيع عن أبي الحصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قال عمر. . . وذكر نحوه، وإسناده ضعيف، أبو عبد الرحمن السلمي واسمه عبد اللَّه بن حبيب بن ربيعة -لم يسمع من عمر، وقيس بن الربيع صدوق في نفسه، سيء الحفظ. وفي القصة نكارة ظاهرة، وتخالف الثابت عن عمر في النهي عن المغالاة في المهور. وانظر في تضعيفها: "الإرواء" (6/ 348)، و"القول المعتبر في تحقيق رواية كل أحد أفقه من عمر"، و"قصص لا تثبت" (1/ 27 - 31). وانظر -غير مأمور-: "منهاج السنة النبوية" (6/ 76 ما بعد). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) وحدها. (¬5) رواه البخاري (5588) في (الأشربة): باب في أن الخمر ما خامر العقل من الشرب، ومسلم (3032) في (التفسير): باب في نزول تحريم الخمر، وفيه زيادة. (¬6) رواه البخاري في "صحيحه" (2731 و 2732) في (الشروط): باب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط. (¬7) أما خفاء جواز الطيب للمحرم بعد رمي الجمرة على عمر بن الخطاب: فقد رواه البيهقي (5/ 135) من طريق أبي اليمان عن شعيب عن نافع عن ابن عمر عنه. ويظهر أن في الإسناد سقطًا؛ لأن شعيب بن أبي حمزة لم يدرك نافعًا. =

الطاعون والفرار منه حتى أُخبر بأنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها، وإذا (¬1) وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه" (¬2) هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق، وهو كما قال ابن مسعود: "لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر" (3) قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: واللَّه إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم (¬3). ¬

_ = ورواه كذلك من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عنه، وهذا إسناده غاية في الصحة. ورواه الشافعي في "مسنده" (1/ 299) عن سفيان عن عمرو بن دينار عن سالم، ربما قال عن أبيه وربما لم يقله، عن عمر. ورواه أيضًا (1/ 299) عن سفيان عن عمرو بن دينار عن سالم عن عمر دون تردد. وسالم لم يدرك جده عمر؛ لكن الرواية السابقة تظهر أن هذا تصرف من سالم، فمرة يذكر عن أبيه، ومرة يختصر فيرويه عن جده مباشرة. وأما السنة في هذا: فقد روى البخاري (1539) في (الحج): باب الطيب عند الإحرام، و (1457): باب الطيب بعد رمي الجمار، و (5922) في (اللباس): باب تطييب المرأة زوجها، و (5930) باب الذريرة، ومسلم (1189) في (الحج): باب الطيب للمحرم عند الإحرام عن عائشة قالت: كنت أطيب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت. (¬1) كذا في (ق) وفي باقي النسح: "فإذا". (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الطب): باب ما يذكر في الطاعون، (10/ 178 - 179/ رقم 5728)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب السلام): باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها، (3/ 1737/ رقم 2218) من حديث أسامة بن زيد -رضي اللَّه عنه-، وهو أشهر ما ورد في الباب، وفيه عن سعد بن أبي وقاص، وخزيمة بن ثابت، وزيد بن ثابت، وشرحبيل بن حسنة، وجد عكرمة بن خالد، وأم أيمن -رضي اللَّه عنهم-، وأخرج ذلك بتفصيل حسن شيخ المحدثين ابن حجر العسقلاني في كتابه "بذل الماعون في فضل الطاعون" (ص 250 وما بعدها). وهذا الحجر الصحي الذي يتبجح باختراعه خدمة للإنسانية أهل هذا العصر فيه في كلتا جهتيه قصد إلى المانع لكونه مانعًا؛ فقدومهم على أرضه رفع للمانع من إصابتهم عادة؛ فنهوا عنه، وخرجوهم من أرضه تحصيل للمانع من إصابتهم، وهو بعدهم عنه، وحكمة الأول ظاهرة، وحكمة الثاني من الوجهة الدينية الصرفة الفرار من قدر اللَّه الركون إلى محض الأسباب، وإن كان عمر قال في مثله: نعم؛ نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه، ومن الوجهة الشرعية الصحية: خشية تلويث الجهات الأخرى بالجراثيم التي ربما تكون علقت بهم أو بأمتعتهم. (¬3) مضى تخريجه.

[مسائل خفيت على عثمان وأبي موسى وابن عباس وابن مسعود]

[مسائل خفيت على عثمان وأبي موسى وابن عباس وابن مسعود] وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكَّره ابنُ عباس بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فرجع إلى ذلك (¬1)، وخفي على أبي موسى الأشعري ميراثُ بنت الابن مع البنت السدسُ حتى ذُكر له أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورَّثها ذلك (¬2)، وخفي على ابن عباس (¬3) تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذُكر له أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حرّمها يوم خيبر (¬4)، وخفي على ابن مسعود حكم المُفوِّضة وترددوا ¬

_ (¬1) يشير المصنِّفُ إلى ما أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 825 - رواية يحيى)، ومن طريقه إسماعيل بن إسحاق القاضي في "إحكام القرآن"، كما في "المعتبر" (رقم 208)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 442 - 443) أنه بلغه أن عثمان بن عفان أتى بامرأةٍ قد ولدت في ستَّة أشهر، فأمر بها أن ترجم، فقال له علي بن أبي طالب: ليس ذلك عليها، وقد قال اللَّه تعالى في كتابه: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا}، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}؛ قال: فالرضاعة أربعة وعشرون شهرًا، والحمل ستة أشهر. ووصله ابن أبي ذئب في "موطئه" -كما في "الاستذكار" (24/ 73) -، ومن طريقه ابن جرير في "التفسير" (5/ 102)، وابن شبَّة في "تاريخ المدينة" (3/ 979)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" -ومن طريقه ابن حجر في "موافقة الخبر الخبر" (2/ 214) - من طريق يزيد بن عبد اللَّه بن قسيط عن بعجة بن عبد اللَّه الجهني به مطوَّلًا، قال ابن حجر: "هذا موقوف صحيح" وقال: وأظن مالكًا سمعه من ابن قسيط؛ فإنه من شيوخه". ثم قال: "وقد أخرج إسماعيل القاضي في كتاب "أحكام القرآن" بسندٍ له فيه رجل مبهم عن ابن عباس أنه جرى له مع عثمان في نحو هذه القصَّة الذي جرى لعلي، فاحتمل أنه كان محفوظًا أن يكون توافق معه، وأما احتمال التعدد؛ فبعيد جدًا". قلت: وأخرج ما جرى وابن عباس مع عثمان -كما قال المصنف-: ابن شبَّة في "تاريخ المدينة" (3/ 977، 987)، وابن جرير في "التفسير" (5/ 34 - ط شاكر)، وسعيد بن منصور في "سننه" (3/ 2/ 69)، وعبد الرزاق في "المصنف" (7/ 351، 352)، وهذه رواية ثقات أهل مكة، والرواية الأولى رواية أهل المدينة، وأهل البصرة يرونها لعمر مع علي؛ كما عند ابن شبة في "تاريخ المدينة" (3/ 979)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 442). وانظر: "الاستذكار" (24/ 74 - 75)، و"المعتبر" (ص 194) للزركشى، و"تفسير ابن كثير" (4/ 134، 157). (¬2) رواه البخاري (6736) في (الفرائض): باب ميراث ابنة ابن مع ابنة. (¬3) كذا في (ق) وفي باقي النسح: "ابن العباس". (¬4) الذي وجدته عن ابن عباس في لحوم الحمر الأهلية: ما رواه البخاري (4227) في=

[ما خفي على غير الصحابة أكثر مما يخفى على الصحابة]

إليه شهرًا فأفتاهم برأيه ثم بَلَغه النص بمثل ما أفتى به (¬1). [ما خفي على غير الصحابة أكثر مما يخفى على الصحابة] وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سِفرًا كبيرًا، فنسأل حينئذ فرقة التقليد: هل يجوز أن يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما خفي ذلك على سادات الأمة أولًا؟ فإن قالوا: "لا يخفى عليه" وقد خفي على الصحابة مع قرب عهدهم؛ بلغوا في الغلو مبلغ مُدّعِي العصمة في الأئمة، وإن قالوا: "بل يجوز أن يخفى عليهم" وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة، [قلنا] (¬2): فنحن نناشدكم اللَّه الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه، وإذا قضى اللَّه ورسوله أمرًا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه اللَّه ورسوله عينًا لا يجوز سواه؟ فأعدوا لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا؛ فإن السؤال واقع؛ والجواب لازم. والمقصود أن هذا هو الذي مَنَعنا من التقليد، فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد؟ [بطلان دعوى المقلدة] الوجه الثاني: أن قولكم: "صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده" دعوى باطلة؛ فإنه إذا قلد من قد خالَفه غيرُه ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدر على صوابٍ هو من تقليدِه أم على خطأ، بل هو -كما ¬

_ = (المغازي): باب غزوة خيبر، ومسلم (1939) في (الصيد والذبائح): باب تحريم أكل لحم الحمر الأنسية من حديثه قال: لا أدري إنما نهى عنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أجل أنه كان حمولة الناس؛ فكره أن تذهب حمولتهم، أو حرمه في يوم خيبر لحم الحمر الأهلية. وروى البخاري (5529) في (الذبائح والصيد): باب لحوم الحمر الإنسية، قال جابر بن زيد: يزعمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الحمر الأهلية، فقال: قد كان يقول ذلك: الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أَبى ذلك البحر ابن عباس وقرأ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا}، وانظر: "فتح الباري" (9/ 655) في شرح الحديث الثاني عن ابن عباس. . (¬1) مضى تخريجه وقارن الأمثلة السابقة بما في "الإحكام" (6/ 85 وما بعد) و"الرسالة" للشافعي (ص 422 وما بعد). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

قال الشافعي (¬1) - حاطب ليل إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه، وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر (¬2)، فهو مصيبٌ للأجر ولا بد، بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يُؤجر، وإن أخطأ لم يَسلمْ من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟. الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقفدًا له، بل متبعًا للحجة، وأما إذا لم يعرف ذلك ألبتَّة فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذلِ جهده ومستفرغ وُسعه في طلب الحق؟ الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء مَنْ امتثل أمر اللَّه فردّ ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب. الوجه الخامس: أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم؛ فإن من أراد شراءَ سلعةٍ أو سلوكِ طريقٍ حين اختلف عليه اثنان أو أكثر، وكلٌّ منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، فإنه لا يقدم على تقليد واحدٍ منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا للصواب من أقوالهم؛ فلو أقْدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عُدَّ مخاطرًا مذمومًا ولم يُمدح إن أصاب، وقد جعل اللَّه في فِطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقَف أحدُهم ويطلب ترجيح قول المُخْتَلفين عليه من خارج حتى يستبينَ (¬3) له الصواب، ولم يجعل في فِطرهم الهجْمَ على قبول قول واحد واطِّراح قول من عداه. الوجه السابع (¬4) والسبعون: أن نقول لطائفة المقلِّدين: هل تسوِّغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوَّغتم تقليد الجميع ¬

_ (¬1) سبق تخريج ذلك عنه. (¬2) لما أخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب الاعتصام): باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، أو أخطأ (13/ 318/ رقم 7352)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (13/ 1342/ رقم 1716) عن أبي هريرة مرفوعًا: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب؛ فله أجران، فإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ؛ فله أجر. (¬3) في (ك): "يتبين". (¬4) في (ق) و (ك): "السادس".

[مجيء روايتين عن أحد الأئمة كمجيء قولين لإمامين]

كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء، فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبًا لكم تُفتون وتقضون بها وقد سوَّغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر؟ فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردُّوا أقوال هذا وتقبلوا أقوال هذا وكلاهما عالم يسوغ اتباعه؟ فإن كانت أقوالُه من الدين فكيف سَاغَ لكم دفع الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده؟ وهذا لا جواب لكم عنه. [مجيء روايتين عن أحد الأئمة كمجيء قولين لإمامين] يوضحه الوجه الثامن (¬1) والسبعون: أن مَنْ قلَّدتموه إذا رُوي عنه قولان أو (¬2) روايتان سوَّغتم العمل بهما، وقلتم: مجتهدٌ له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا، وكان القولان جميعًا مذهبًا لكم، فهلَّا جعلتم قول (¬3) نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعًا مذهبًا لكم، وربما كان قول نظيره ومن هو أعلمُ منه أرْجح من قوله الآخر وأقرب إلى الكتاب والسنة؟! يوضحه الوجه التاسع (¬4) والسبعون: أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولًا خلافَ قولِ المتبوع أو خرَّجه على قوله جعلتموه وجهًا وقضيتم وأفتيتم به وألزمتم بمقتضاه، فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولًا يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدُّوه شيئًا ومعلوم أن واحدًا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أجلُّ من جميع أصحابه من أوَّلهم إلى آخرهم، فقدِّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم. فياللَّه العجب! صار من أفتى أو حَكَم بقول واحد من مشايخ المذهب أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل (¬5)، وهذا من بركة التقليد عليكم. وتمام ذلك الوجه الثمانون (¬6): أنكم إن رُمتم التخلص من هذه الخطة، وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض، وقالت (¬7) كلُّ فرقة منكم: يسوغ أو ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "السابع". (¬2) ما أثبته من (ك) وفي بقية الأصول: "و". (¬3) في (ك): ". . . لكم، فهلا جعلتم قول. . . ". (¬4) في (ق) و (ك): "الثامن". (¬5) "كأنما يعيش ابن القيم بيننا، ويصف ما يرى ويسمع من الشيوخ" (و). (¬6) في (ق) و (ك): "الوجه التاسع والسبعون". (¬7) في المطبوع: "وقال".

[إيجاب المقلدين تقليد أئمتهم وتحريم تقليد غيرهم]

يجب تقليد من قلّدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه، كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض، ثم يقال: ما الذي جَعل متبوعَكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة [الأخرى]؟ (¬1) بأي كتاب أم بأية (¬2) سنة؛ وهل تقطعت (¬3) الأمة أمرها بينها زُبُرًا وصار {كُلُّ [حِزْبٍ] (¬4) بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] إلا بهذا السبب؟ فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنْأى عن غيره وتنهى عنه، وذلك مُفْضٍ إلى التفريق بين الأمة، وجعل دين اللَّه تابعًا للتشهي والأغراض وعُرضة للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند اللَّه للاختلاف الكثير الذي فيه، ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض، ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرَّحوا به في كتبهم. [إيجاب المقلدين تقليد أئمتهم وتحريم تقليد غيرهم] الوجه الحادي والثمانون (¬5): أن المقلِّدين حَكَموا على اللَّه قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين للَّه بحجة (¬6)، وقالوا: لم يبقَ في الأرض عالمٌ منذ الأعصار المتقدمة؛ فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزُفَر بن الهُذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي وهذا قول كثير من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القُشيري المالكي (¬7): ليس لأحد أن يختار بعد المئتين من الهجرة، وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجرَّاح وعبد اللَّه بن المبارك، وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي، واختلف المُقلِّدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يُفتي ويحكم به ومَنْ (¬8) ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث مراتب: طائفةٌ أصحابُ وجوه كابن سُريج (¬9) والقَفَّال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "بأي". (¬3) المثبت من (ق) وفي باقي النسح: "قطعت". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق) و (ك): "الثمانون". (¬6) في المطبوع: "بحججه". (¬7) له ترجمة في "ترتيب المدارك" (2/ 290 - ط مكتبة الحياة). (¬8) المثبت من (ق) وفي باقي النسح: "من". (¬9) في (ن): "كابن شريح".

وأبي حامد [الاسفرائيني] (¬1)، وطائفة أصحابُ احتمالاتٍ لا أصحاب وجوه كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد [الغزالي] (1) وغيره، واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد (¬2) على أقوال كثيرة ما أنزل اللَّه بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم للَّه بحجة، ولم يبق فيها من يتكلَّم بالعلم، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما، ولا يقضي ويُفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلِّده ومتبوعه، فإن وَافَقَه حَكَم به وأفتى به، وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى- قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض (¬3)، والقول على اللَّه بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما، مبلغها، ويأبى اللَّه إلا أن يتم نوره ويُصدِّق قولَ رسوله: "إنه لن تخلو (¬4) الأرض من قائم للَّه بحجة" (¬5)، ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به (¬6)، وأنه لا يزال يُبعث على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها (¬7)، ويكفي في فساد هذه الأقوال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) لا يوجد باب للاجتهاد! بل له شروط. فمن توفرت فيه جاز له، واللَّه الموفق والهادي. (¬3) في (ق): "البطلان والفساد والتناقض". (¬4) في المطبوع: "لا تخلو". (¬5) قطعة من وصية علي لكميل بن زياد، سيأتي تخريجها، وفي المطبوع: "بحججه". (¬6) حديث: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق. . . " سبق تخريجه. (¬7) الحديث رواه: أبو داود (4291) في (الملاحم): باب ما يذكر في قرن المئة، وابن عدي في "مقدمة الكامل" في ترجمة الشافعي (1/ 123)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 524)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 61)، والبيهقي في "معرفة السنت والآثار" في (المقدمة): في مولد الشافعي (1/ 124) وفي "مناقب الشافعي" (1/ 137)، من طريق ابن وهب عن سعيد بن أبي أيوب عن شراحيل بن يزيد المعافري عن أبي علقمة عن أبي هريرة مرفوعًا به. وسكت عليه الحاكم والذهبي والحافظ ابن حجر في "الفتح" (13/ 295)، ورجال إسناده ثقات من رجال مسلم. أما أبو داود فقال: رواه عبد الرحمن بن شُريح الإسكندراني لم يجز به شراحيل. أقول: عبد الرحمن بن شريح هذا ثقة فاضل؛ كما قال ابن حجر، وكذلك سعيد بن أبي أيوب الذي رفع الحديث من الثقات الإثبات، فلا تُعل روايته، واللَّه أعلم. وأفرد هذا الحديث بالتصنيف جمعٌ منهم: السيوطي، واسم جزئه "التنبئة بمن يبعثه اللَّه على رأس كل مئة" وهو مطبوع عن دار الثقة بتحقيق عبد الحميد شانوحة، ولخصه ابن طولون كما في "الفلك المشحون" (ص 92)، ولعلي القاري رسالة "في تأويل حديث =

أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد مَنْ ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حرَّمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب اللَّه وسنة رسوله، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلَّدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرمتم تقليد من سواه، [ورجحتموه على تقليد من سواه] (¬1)؟ فما الذي سوَّغَ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، وحرم اختيار ما [دل] (¬2) عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المئتين عندك ولا عند غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المئتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو مَنْ هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده؟ وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومُطرِّف بن عبد اللَّه وأصبغ بن الفَرَج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعذَّل (¬3) ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مئتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومئتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقًا لهم من الاختيار؟ ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين اللَّه بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم، ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفَّاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحرِّيهم (¬4) في معرفة أقوال الصحابة والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل ومن قال منهم بالقياس فقياسه ¬

_ = التجديد"، ولمحمد الجرجاوي: "وسيلة المجدّين في شرح حديث التجديد وتراجم المجددين" وكما في "الأعلام" (7/ 81)، وطبع في الرباط سنة 1927: "واسطة العقد النضيد في شرح حديث التجديد" لمحمد بن علي الرباطي (ت 1358 هـ). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ط) و (ن) و (ق) و (ك). (¬3) كذا في (ن) -وهو الصواب-، وفي سائر النسخ: "المعدل" بالدال المهملة والصواب ما أثبتناه، انظر "السير" (11/ 519)، "العبر" (1/ 434)، "الوافي بالوفيات" (8/ 184، 185) و"شذرات الذهب" (2/ 95، 96)، "المشتبه" (600)،" تبصير المنتبه" (1299). (¬4) في هامش (ق): "لعله: وتبحرهم".

[فضل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين]

من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص، مع شدة ورعهم وما منحهم اللَّه من محبة المؤمنين لهم وتعظيمِ المسلمين علمائِهم وعامَّتِهم لهم، فإن احتجَّ كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح من (¬1) تقدم زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم مَنْ بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا لغيره أَمكنَ الفريق الآخر أن يُبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه، وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعًا: نفوذ قولكم هذا إن لم تأنفوا من التناقض يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر أتباعًا وأجل، فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة؟ [فضل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين] وهذا أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- قال البخاري (¬2): "حَملَ العلم عنه ثمان مئة رجل ما بين صاحب وتابع"، وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحابه عبد اللَّه بن عباس، وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وعُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السَّعيدين والشعبى ومسروق وعلقمة والأسود وشُريح؟ وأين في أتباعهم مثل نافع وسالم والقاسم وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي جَعلَ الأئمةَ بأتباعِهم أَسعدَ من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم فعظمُهم وجلالتُهم وكبرُهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم، وقالوا بلسان قالهم وحالهم: هؤلاء كبارٌ علينا لسنا من زبونهم، كما صَرَّحوا وشهدوا على أنفسهم بأن (¬3) أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة، وقالوا: لسنا أهلًا لذلك، لا لقصور الكتاب والسنة، ولكن لعجزنا نحن وقصورنا، فاكتفينا بمن هو أعلم بهما مِنَّا، فيقال لهم: فَلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما وحَكَّمهما وتحاكم إليهما وعَرضَ أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبِله وما خالفهما رَدَّه؟ فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود فلم تنكرون على من وصل إليه وذاق حَلاوتَه؟ وكيف ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "في". (¬2) نقلها عن البخاري ابن الملقن في "الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (1/ 214). (¬3) في المطبوع: "فإن".

تحجّزتم الواسع من فضل اللَّه الذي ليس على قياسه عقول العالمين ولا اقتراحاتهم، وهم كان كانوا في عصركم ونشأوا معكم وبينكم وبينهم نسب قريب فالئه يَمنُّ على من يشاء من عباده، وقد أنكر اللَّه سبحانه على من رد النبوة بأن اللَّه صَرَفها عن عُظماء القرى ورؤسائها (¬1) وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل أمتي كالمطر، لا يُدرى أوَّله خيرٌ أم آخره" (¬2) وقد أخبر اللَّه سبحانه عن السابقين بأنهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14]، وأخبر سبحانه أنه: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثم أخبر أَنَّ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. ¬

_ (¬1) في (د): "ومن رؤسائها". (¬2) ورد الحديث عن جمع من الصحابة منهم: أولًا: عمار بن ياسر، وله عنه طرق: فقد أخرجه الطيالسي (647) عن عمران عن قتادة عن صاحب لنا عن عمار. ورواه البزار في "مسنده" (1412)، وابن حبان (7226)، والرَّامَهُرْمُزِيُّ في "الأمثال" (ص 109)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (399)، والطبراني في "الكبير"؛ كما في "المجمع" (10/ 68) من طريق الفضيل بن سُليمان عن موسى بن عقبة عن عبيد بن سلمان الأغر عن أبيه عن عمار. ورجاله ثقات، غير عبيد بن سلمان الأغر، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: لا أعلم فيه إنكارًا، وروى عنه جمع، وفضيل بن سليمان، قال ابن معين: ليس بثقة، وقال أبو زرعة: ليس الحديث، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وليس بالقوي. قال البزار: وهذا الإسناد أحسن من الأسانيد الأخرى التي تروى عن عمار. ورواه أحمد (4/ 319) من طريق أبي عمر عن الحسن عن عمار. ثانيًا: حديث أنس: رواه أحمد (3/ 130 و 143)، والطيالسي (2023)، والترمذي (2869)، وأبو الشيخ في "الأمثال" (330 و 331)، والخطيب (11/ 114)، وابن عدي (3/ 918 و 4/ 1638 و 7/ 2623) والرامهرمزي في "الأمثال" (ص 108 - 109)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1351 و 1352)، والبيهقي في "الزهد الكبير" (400)، وحسنه الترمذي، وفي الباب أيضًا عن ابن عمر، وابن عمرو. قال الحافظ في "الفتح" (6/ 7): "وهو حديث حسن، له طرق يرتقي بها إلى الصحة".

فصل

وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لَهُم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا، وذلك بحول اللَّه وقوته ومعونته وفتحه؛ فله الحمد والمنة، وما كان فيه من صواب فمن اللَّه، هو (¬1) المانُّ به، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، وليس اللَّه ورسوله ودينه في شيء منه، وباللَّه التوفيق. فصل في تحريم الإفتاء والحكم في دين اللَّه بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر إجماع العلماء على ذلك. [الدلائل على أن النص لا اجتهاد معه] قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام: 153]، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقال تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فأكد هذا التأكيد وكرَّر هذا التكرار (¬2) في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله، وعموم مضرَّته، وبلية الأمة به، وقال تعالى: ¬

_ (¬1) في (ك): "وهو". (¬2) في المطبوع: "التقرير"، وفي (ق): "التكرير".

[الدليل من السنة على تحريم الإفتاء بغير النص]

{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وأنكر تعالى على مَنْ حاج في دينه بما ليس له به علم فقال: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66] ونَهى أن يقولَ أحدٌ هذا حلال، وهذا حرام لما لم يحرمه اللَّه ورسوله نصًا، وأخبر أن فاعل ذلك مُفْترٍ عليه الكذبَ (¬1)، فقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116] والآيات في هذا المعنى كثيرة. [الدليل من السنة على تحريم الإفتاء بغير النص] وأما السنة ففي: "الصحيحين" من حديث ابن عَبَّاس أن هلال بن أمية قذف امرأته بشَريك بن سخماء عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر حديث اللعان وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبصِروها (¬2)؛ فإن جاءت به أكْحل العينين سابغ الألْيتين خَدَلَّج الساقين (¬3) فهو لشَريك بن سَحماء، كان جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية" (¬4) فجاءت به على النعت المكروه فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه لكان لي ولها شأن" (¬5) يريد- واللَّه ورسوله أعلم- بكتاب اللَّه قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] ويريد بالشان واللَّه أعلم أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رُميت به، ولكن كتاب اللَّه فصل الحكومة، وأسقط كل قول وراءه، ولم يبق للاجتهاد بعده موقع. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "مفتر على اللَّه الكذب". (¬2) في (ق): "أبصرها". (¬3) "خدلج الساقين: عظيمهما" (و). (¬4) رواه البخاري (2671) في (الشهادات): باب إذا ادعى أو قذف فله أن يلتمسِ البيَّنة، و (4747) في (التفسير): سورة النور، باب {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8)}، و (5307) في (الطلاق): باب يبدأ الرجل بالتلاعن، من حديث ابن عباس. ولم يخرجه مسلم من حديثه وانما أخرجه مسلم (1496) في (اللعان): من حديث أنس. ثم وجدت لابن عباس حديثًا في "الصحيحين"؛ لكن ليس فيه تصريح بقذف هلال لشريك بل ظاهره في قذف عويمر العجلاني لامرأته، انظره في "صحيح البخاري" (5310 و 5316 و 6855 و 6856 و 7238)، ومسلم (1497). (¬5) قطعة من الحديث السابق، وانظر "الموافقات" (2/ 470 - بتحقيقي).

[من أقوال العلماء في ذلك المعنى]

[من أقوال العلماء في ذلك المعنى] وقال الشافعي: أخبرنا سُفيان بن عُيينة، عن عُبيد اللَّه (¬1) بن أبي يزيد، عن أبيه قال: أرسل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا، فذهبتُ معه إلى عمر، فسأله عن وِلادٍ من ولادِ الجاهلية، فقال: أما الفراش فلفلان، وأما النطفة فلفلان؛ فقال عمر: صدقت، ولكن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بالفراش (¬2). قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مَخْلَد بن خُفاف قال: ابتعت غلامًا، فاستغللته، ثم ظهرتُ منه على عيبٍ، فخاصمتُ فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي [بردّه، وقضى عليَّ] (¬3) برد غَلَّته، فأتيت عُروة فأخبرته، فقال: أرُوحُ إليه العشيةَ فأخبره أن عائشة -رضي اللَّه عنهما- أخبرتني أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قضى في مثل هذا أن الخَراجَ بالضمان، فعجلتُ إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال عمر: فما أيسرَ [هذا] (¬4) عليَّ من [رد] (¬5) قضاءٍ قضيتُه، اللهم إنك تعلم أني لم أُرِدْ فيه إلا الحقَّ؛ فبَلَغَتْني فيه سنَةٌ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فراح إليه عروة؛ فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليَّ له (¬6). قال الشافعي: وأخبرني مَنْ لا أتهم من أهل المدينة، عن ابن أبي ذئب ¬

_ (¬1) في (ق) و (د): "عبد اللَّه". (¬2) هو في "مسند الشافعي" (2/ 30)، ورواه من طريقه البيهقي (7/ 402)، وفي "المعرفة" (7/ 238 رقم 2290). ورواه بنحوه ابن ماجه (2005) في (النكاح): باب الولد للفراش، والحميدي (24)، ومسدد، والأزرقي في "أخبار مكة" (1/ 158) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 104) وأبو يعلى (199 - مختصرًا)، وابن أبي عمر في "مسنده"؛ كما في "مصباح الزجاجة" (1/ 349) من طريق ابن عيينة به، وقال البوصيري: "إسناد صحيح، رجاله ثقات"، وهو كما قال. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين من هامش (ق) فقط. (¬6) هو في "مسند الشافعي" (2/ 144) و"الرسالة" (ص 448 رقم 1232) ومن طريقه رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 321) وفيه شيخ الشافعي وهو مبهم وأخرجه مختصرًا الطيالسي (1464) ومضى تخريج حديث "الخراج بالضمان" والحمد للَّه، وانظر تعليق الشيخ العلامة أحمد شاكر على "الرسالة".

قال: قَضَى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية، برأي ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن، فأخبرتُه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلاف ما قضى به، فقال سعد (¬1) لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة يُخبرني عن النبي (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلاف ما قضيتُ به، فقال له ربيعة: قد اجتهدتَ ومضى حُكُمك، فقال سعد؛ واعجبًا! أُنفذُ قضاءَ سعد بن أمِّ سعد وأردُّ قضاءَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل (¬3) أردُّ قضاءَ سعد بن أم سعد وأُنفذ قضاءَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدعا سعدٌ بكتابِ القضيةِ فشقَّه وقضى للمقضيِّ عليه (¬4). فليوحشنا المقلدون، ثم أوحشَ اللَّه منهم. وقال أبو النضر (¬5) هاشم بن القاسم: حدثنا محمد بن راشد، عن عَبْدة بن أبي لُبابة، عن هشام بن يحيى المخزومي أن رجلًا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر، ألها أن تنفر [قبل أن تطهر] (¬6)؟ فقال عمر: لا، فقال له الثقفيُّ: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيتَ به، فقام إليه عمر يضربُه بالدِّرة ويقول له: لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)؟ ورواه أبو داود بنحوه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة (¬8): ثنا صالح بن عبد اللَّه: ثنا سُفيان بن عامر، ¬

_ (¬1) في (ق): "فقال ابن سعد". (¬2) في (ق): "رسول اللَّه". (¬3) في (ن)، و (ق): "بلى". (¬4) أخرجه الشافعي في "الرسالة" (ص 450 رقم 1233). (¬5) في (ق): "النظر". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) أخرجه الببهقي في "المدخل" (25)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 207، 208) من طريق أبي النضر به، وهشام بن يحيى مستور. وروى أبو داود (2004) في (المناسك): باب الحائض تخرج بعد الإفاضة، ومن طريقه البيهقي في "المدخل" (27) والترمذي (946) في (الحج): باب ما جاء في من حج أو اعتمر فليكن آخر عهده بالبيت وأحمد في "المسند" (3/ 416 - 417). وابن قانع في "معجم الصحابة" (4/ 1382 رقم 356) والطبراني في "الكبير" (3/ 298 رقم 3354، 3355) والبغوي في "معجم الصحابة" (ق 101) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 232) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 786 - 787 رقم 2085، 2086)، من طريق الحارث بن عبد اللَّه بن أوس عن عمر بنحوه مختصرًا. قال المنذري في "مختصر أبي داود" (2/ هـ 43): إسناده حسن. . .، وفيه قال عمر: سألتني عن شيء سألت عنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لكيما أخالف وانظر: "الإحكام" (6/ 79) لابن حزم. (¬8) أخرجه ابن عبد البر في "الجامع" (1456) وابن حزم في "الإحكام" (6/ 53) بإسناد =

عن عتَّاب بن منصور قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا رأيَ لأحد مع سنة سَنَّها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال الشافعي: "أجمع الناس على أن مَنْ استبانت له سنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن له أن يَدعَها لقول أحد [من الناس] " (¬1). وتواتر عنه أنه قال: "إذا صَحَّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط" (¬2)، وصح عنه أنه قال: "إذا رويتُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب" (¬3)، وصح عنه أنه قال: "لا قولَ لأحدٍ مع سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬4). وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعد بن إياس، عن ابن مسعود أَنَّ رجلًا سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته، فطلَّق امرأته ليتزوج أمها، فقال: لا بأس، فتزوجها الرجل، وكان عبد اللَّه على بيت المال؛ فكان يبيع نُفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل، حتى قَدمَ المدينةَ فسأل أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: لا تحلُّ لهذا الرجل هذه المرأة، ولا تصلح الفضة إلا وزنًا بوزن، فلما قدم عبد اللَّه انطلق إلى الرجل فلم يجده، ووجد قومه فقال: إن الذي أفتيتُ به صاحبَكم لا يحل، وأتى الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة إن الذي كنتُ أبايعكم لا يحل، لا تحل الفضة إلا وزنًا بوزن (¬5). ¬

_ = حسن، وأخرجه بإضافات في أوله: الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 575)، والدارمي (1/ 58)، والبيهقي في "المدخل" (33). (¬1) انظر: "الرسالة" (ص 425) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) بنحوه في "آداب الشافعي" (67 - 68، 93) لابن أبي حاتم، و"الحلية" (9/ 106 - 107)، و"مناقب الشافعي" (1/ 473)، و"المدخل" (رقم 249) كلاهما للبيهقي، و"مختصر المؤمّل في الرد إلى الأمر الأول" (58 - 59)، وأفرد السبكي هذه المقولة بتصنيف مفرد بعنوان "معنى قول الإمام المطلبي إذا صح الحديث فهو مذهبي"، وهو مطبوع. (¬3) بنحوه في "آداب الشافعي" (67، 93)، و"الحلية" (9/ 106)، و"مناقب الشافعي" (1/ 474)، و"المدخل" (250)، و"الفقيه والمتفقه" (1/ 155)، و"صفوة الصفوة" (2/ 256)، و"معجم الأدباء" (17/ 310)، و"معنى قول الإمام" (ص 72 - ط البشائر) (2/ 98 - ضمن "الرسائل المنيرية")، و"مختصر المؤمّل" (57)، و"مفتاح الجنة" (83، 130)، و"الإيقاظ" (103). (¬4) بنحوه في "المدخل" (24)، و"مناقب الشافعي" (1/ 473)، و"الحلية" (9/ 170)، والمصادر المتقدمة. (¬5) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 282) من طريق يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 440) حدثنا عبيد اللَّه بن موسى عن إسرائيل به كاملًا. =

وفي "صحيح مسلم" من حديث اللَّيث، عن يحيى بن سعيد، عن سُليمان بن يسار أَن أبا هريرة وابن عبَّاس وأبا سلمة [بن عبد الرحمن] (¬1) تذاكروا في المتوفى عنها الحامل تضعُ عند وفاة زوجها، فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين، فقال أبو سلمة: تحل حين تضع، فقال أبو هريرة: وأنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة فقالت: قد وضعت سبيعةُ بعد وفاة زوجها بيسير، فأمرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تتزوج (¬2). وقد تقدَّم من ذكر رجوع عمر -رضي اللَّه عنه-، وأبي موسى وابن عباس (¬3) عن اجتهادهم إلى السنة ما فيه كفاية. وقال شدَّاد بن حكيم، عن زُفر بن الهُذيل: إنما نأخذ بالرأي ما لم يجئ الأثر (¬4)، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي، وأخذنا بالأثر (¬5). وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قولَ لأحدٍ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صح الخبر عنه (¬6)، وقد كان إمام الأئمة ابنُ خزيمة رحمه اللَّه تعالى له أصحاب ينتحلون مذهبه، ولم يكن مقلدًا، بل إمامًا مستقلًا كما ذكر البيهقي في "مدخله" (¬7) عن يحيى بن محمد العنبري، قال: طبقات أصحاب الحديث خمسةٌ: المالكية، والشافعية، والحنبلية، والراهوية (¬8)، والخزيمية أصحابُ ابن خزيمة. وقال الشافعي: إذا حدَّث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والجزء الأول منه رواه عبد الرزاق (10811)، ومن طريقه البيهقي (7/ 159)، وابن أبي شيبة (3/ 308) من طريق الثوري عن أبي فروة الهمداني عن سعد بن إياس أبي عمرو الشيباني عنه، وأبو فروة هذا هو عروة بن الحارث ثقة، وباقي رجاله ثقات من رجال الشيخين، وفيه رجوع ابن مسعود عن فتواه بحل أم الزوجة. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬2) رواه مسلم (1485) في (الطلاق): باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل. (¬3) مضى تخريجه (3/ 21، 27). (¬4) في المطبوع: "ما لم نجد الأثر"، وفي (ق): "ما لم يجد الأثر". (¬5) نقله الموفق الكردري في "مناقب أبي حنيفة" (ص 457)، وانظر: "لمحات النظر في سيرة الإمام زفر" (ص 14). (¬6) أخرجه البيهقي في "المدخل" (29). (¬7) في القسم المفقود منه. (¬8) في (ق) و (ن) و (ك): "والزاهرية" بدل "والراهوية".

فهو ثابت، ولا يترك لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث أبدًا، إلا حديث وُجِد عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر يخالفه (¬1). وقال في كتاب: "اختلافه مع مالك": ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذُر على من سمعهما مقطوعٌ إلا بإتيانهما (¬2). [وقال] (¬3) الشافعي: قال لي قائل: دُلَني على أن عمر عمل شيئًا ثم صار إلى غيره لخبر (¬4) نبوي، قلت له: حدثنا سُفيان، عن الزُّهريِّ، عن ابن المسيب أن عمر كان يقول: الدية للعاقلة، ولا تَرثُ المرأة من دية زوجها، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كتب إليه أن يُورِّث امرأة الضِّبابي من ديته فرجع إليه عمر (¬5)، وأخبرنا ابن عُيينة، عن عمرو وابن طاوس (¬6) [عن طاوس] أن عمر قال: أذكِّرُ اللَّه امرأً سمع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنين شيئًا، فقام حَمَل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهُما الأخرى بمسطح (¬7)، فألقت جنينًا ميِّتًا، فقضى فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بغُرَّة (¬8)، فقال عمر: لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا، أو قال: إن كِدنا لنقضي فيه برأينا (¬9). فترك اجتهاده -صلى اللَّه عليه وسلم- للنّص. ¬

_ (¬1) نقله البيهقي في "المدخل" (24) بإسناد صحيح إليه. (¬2) اختلاف الشافعي مع مالك (7/ 201) آخر "الأم"، ونقله بسنده الصحيح إليه: البيهقي في "المدخل" (35). (¬3) في (ق): "قال". (¬4) في (ق): "بخبر". (¬5) رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 170) في (الديات)، ورواه أبو داود (3927) في (الفرائض): باب في المرأة ترث من دية زوجها، والترمذي (1415) في (الديات)، باب ما جاء في المرأة هل ترث من دية زوجها، و (2110) في (الفرائض): والنسائي في "السنن الكبرى" (6363 - 6366) في (الفرائض): وابن ماجه (2642) في (الديات): باب الميراث من الدية، وقال الترمذي حسن صحيح. ونص الشافعي في "الرسالة" (ص 425 - 426 - ط: شاكر) فيه زيادة حيث قال: فإن قال قائل. . . قلت: فإن أوجدتكه؟ قال: ففي إيجادك إياي ذلك دليل على أمرين: أحدهما: أنه قد يقول من جهة الرأي. إذا لم توجد سنة، والآخر: أن السنة إذا وجدت وجب عليه ترك عمل نفسه، ووجب على الناس ترك كل عمل وجدت السنة بخلافه، وإبطال أن السنة لا تثبت إلا بخبر بعدها، وعلم أنه لا يوهنها شيء إن خالفها، قلت: أخبرنا سفيان. إلخ. (¬6) في (ق): "عن عمرو بن طاوس"، وفي هامشها: "لعله: عمرو عن طاوس". (¬7) "عمود للخباء والصفاة يحاط عليها بالحجارة" (و). (¬8) "العبد والأمة" (و). (¬9) هو في "مسند الشافعي" (2/ 103) من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، وابن طاوس عن طاوس أن عمر (فسقط من السند الذي ذكره ابن القيم: طاوس)، وهو من هذا الطريق أيضًا في "رسالة الشافعي" (1174)، و"سنن البيهقي" (8/ 114). =

[يصار إلى الاجتهاد وإلى القياس عند الضرورة]

[يصار إلى الاجتهاد وإلى القياس عند الضرورة] وهذا هو الواجب على كل مسلم؛ إذ اجتهادُ الرأي إنما يُباح للمضطر كما تباح [له] (¬1) الميتة والدم عند الضرورة، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. وكذلك القياس إنما يُصار إليه عند الضرورة، قال الإمام أحمد رحمه اللَّه: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورة، ذكره البيهقي في: "مدخله" (¬2). ¬

_ = ورواه عبد الرزاق (18339)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 117)، والبيهقي (8/ 115) عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه أن عمر. ورواه عبد الرزاق (18342) من طريق ابن جريج عن ابن طاوس به. ورواه الشافعي أيضًا في "مسنده" (2/ 103) من طريق سفيان عن عمرو بن دينار وحده عن طاوس أن عمر، وهو من هذه الطريق في "سنن أبي داود" (4573). ورواه النسائي (8/ 47) من طريق حماد عن عمرو عن طاوس أن عمر. . . وهذه كلها أسانيد مرسلة؛ طاوس لم يدرك عمر، وإنما ذكرتها لأن ابن القيم -رحمه اللَّه- ذكرها من هذه الطريق. وقد وجدته موصولًا: فقد رواه عبد الرزاق (18343)، ومن طريقه الطبراني (3482)، والدارقطني (3/ 117)، والحاكم (3/ 575) عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن عمر. . . وهذا إسناد صحيح، لكن وقعت عبارة عمر عند (الطبراني والحاكم): اللَّه أكبر لو لم نسمع بهذا ما قضينا بغيره!! وكلهم رووه عن طريق إسحاق بن إبراهيم الدبري عن عبد الرزاق. وإسحاق هذا استصغر في عبد الرزاق، قال الذهبي: روى عن عبد الرزاق أحاديث منكرة، فوقع التردد هل هي منه فانفرد بها أو هي معروفة مما تفرد به عبد الرزاق. وفي مرويات الحافظ أبي بكر الإشبيلي كتاب: "الحروف التي أخطأ فيها الدبري وصحفها من مصنف عبد الرزاق" للقاضي محمد بن مفرح القرطبي. أقول: ولفظه في "سنن الدارقطني" مع أنه من رواية إسحاق بن إبراهيم هذا: اللَّه أكبر لو لم نسمع هذه القضية لقضينا بغيره، وهي كذلك في "مصنف عبد الرزاق"، وهو "الصحيح" واللَّه أعلم. وفي "صحيح مسلم" (1683) عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة، قال: استشار عمر بن الخطاب الناس في إملاص المرأة: فقال المغيرة بن شعبة: شهدت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، وذكره. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) (رقم 248).

وكان زيد بن ثابت لا يرى للحائض أن تنفَر حتى تطوف طواف الوداع، وتَناظَر في ذلك هو وعبد اللَّه بن عباس، فقال له ابن عباس: إمّالًا (¬1) فسَلْ فلانةً الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرجع زيد يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقتَ ذكره البخاري في "صحيحه" بنحوه (¬2). وقال ابن عمر: كنا نُخابِر (¬3) ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافعٌ أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك (¬4). وقال عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد اللَّه: إنَّ عمر بن الخطاب نهى عن الطِّيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة، فقالت عائشة: طَيَّبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيدي لإحرامه قبل أن يحرم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت، وسنَّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحق (¬5). ¬

_ (¬1) "إمَّالًا أي: إن كنت لا تأخذ بما أقول، فسل. . . إلخ" (د). (¬2) رواه البخاري (1758) و (1759) في (الحج): باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت عن عكرمة أن أهل المدينة سألوا ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- عن امرأة طافت ثم حاضت، فقال لهم: تنفر، قالوا: لا نأخذ بقولك، وندع قول زيد، والمذكور لفظ مسلم (1328) والشافعي في "الرسالة" (رقم 1216)، وانظر: "سنن البيهقي" (5/ 164)، و"فتح الباري" (3/ 588) ففيه رجوع زيد إلى قول ابن عباس. (¬3) "قيل: هي المزارعة على نصيب معين كالثلث والربع وغيرهما، وعن ابن عمر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع، رواه الجماعة" (و). (¬4) رواه مسلم (1547) في (البيوع): باب كراء الأرض، وأخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب المساقاة): باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل (5/ 50/ رقم 2381)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب النهي عن المحاقلة والمزابنة (3/ 1174/ رقم 1536) عن جابر -رضي اللَّه عنه-؛ قال: "نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المخابرة والمحاقلة وعن المزابنة، وعن بيع الثمر حتى يبدو صلاحُه، وأن لا تُباع إلا بالدينار والدرهم؛ إلا العرايا" لفظ البخاري. وفي لفظ لمسلم في آخره: "ورخص في العرايا"، والمذكور لفظ الشافعي في "الرسالة" (رقم 1225). والعرايا جمع (عريَّة)، سميت بذلك لأنها عريت عن حكم باقي البستان، يعريها صاحبها غيره ليأكل ثمرتها، انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" (180) للنووي. وانظر: حديث النهي عن المخابرة وبيان وجهه في "تهذيب السنن" (5/ 65 - 66). (¬5) هو بهذا في الجمع بين قول عمر واعتراض عائشة عليه، رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 299)، ورواه من طريقه البيهقي (5/ 135) لكن لم يذكر قول عمر. وأصل حديث عائشة في تطييب المحرم قبل الإحرام، وقبل الطواف ثابت في "الصحيحين"، رواه البخاري (1539 و 1754 و 5922، و 5928 و 5930)، ومسلم (1189)، وانظر ما مضى.

[نقول عن الشافعي في المسألة]

قال الشافعي: فترك سالم قول جَدِّه لروايتها، قلتُ: لا كما تصنع فرقة التقليد. وقال الأصم: أخبرنا الرَّبيعُ بن سُليمان: [سمعتُ الشافعي يقول] لنعطينَّك جملة تغنيك إن شاء اللَّه: لا تدع لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا أبدًا إلا أن يأتي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلافه فتعمل بما قلتُ لك في الأحاديث إذا اختلفت (¬1). [نقول عن الشافعي في المسألة] قال الأصم: وسمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقولوا بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودعوا ما قلت (¬2). وقال أبو محمد الجارودي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم سنة [من] (¬3) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي، فإني أقول بها (¬4). وقال أحمد بن علي بن عيسى بن ماهان [الرازي] (¬5): سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة تكلَّمتُ فيها صح الخبر فيها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي (¬6). وقال حرملة بن يحيى: قال الشافعي: [كلُّ] ما قلت وكان (¬7) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 472)، وذكره أبو شامة في "مختصر المؤمل" (57)، والسبكي في "معنى قول الإمام المطلبي" (3/ 99 - الرسائل المنيرية أو ص 121 - ط البشائر)، وابن حجر في "التأنيس" (63). ما بين المعقوفتين من مصادر التخريج. (¬2) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمنفقه" (1/ 150)، والبيهقي في "المدخل" (249)، و"المناقب" (1/ 472 - 473)، وأبو نعيم (9/ 107)، ونحوه في "آداب الشافعي ومناقبه" (1/ 67 - 68)، و"معنى قول الإمام المطلبي" (72، 76)، و"اصفة الصفوة" (2/ 257) و"مقدمة المجموع" (1/ 108)، و"السير" (10/ 34، 78)، و"مختصر المؤمل" (57)، و"الإيقاظ" (100). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) أخرجه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 473)، وذكره أبو شامة في "مختصر المؤمل" (57)، والسبكي في "معنى قول الإمام المطلبي" (ص 72). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "يقول". (¬6) المقولة في "الأم" (7/ 183)، وأخرجها البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 473)، وهي في "مختصر المؤمل" (74)، و"معنى قول الإمام المطلبي" (2/ 98 - الرسائل المنيرية)، و"مفتاح الجنة" (83، 130)، و"الإيقاظ" (14). (¬7) في المطبوع: "وقد كان".

قال بخلاف قولي مما يصح فحديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى، ولا (¬1) تقلِّدوني (¬2). وقال الحاكم: سمعتُ الأصم يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول، وروى حديثًا، فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد اللَّه؟ فقال: متى رويتُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا صحيحًا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب، وأشار بيده على رؤوسهم (¬3). وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: رأيت في وسطي زُنَّارًا (¬4)؟! أتراني خرجتُ من الكنيسة؟! أقول قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقول لي: أتقول بهذا؟ أروي (¬5) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا أقول به (¬6)؟! وقال الحاكم: أنبأني أبو عمرو بن السماك مشافهة أن أبا سعيد الجَصَّاص حَدَّثهم قال: سمعتُ الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول -وسأله رجل عن مسألة فقال: رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد اللَّه أتقول بهذا؟ فارتعَد الشافعيُّ واصفرَّ وحَالَ لونه، وقال: -ويحك! أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا فلم أقل به؟ نعم على الرأس والعينين، نعم على الرأس والعينين (¬7)، وقال: وسمعتُ الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنةٌ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتعزب عنه (¬8)، فمهما قلت من قول أو أَصَّلتُ من أصل فيه عن ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لا". (¬2) أخرجه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي" (67، 68، 93)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 106 - 107)، والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 473)، وهو في "مختصر المؤمل" (58)، و"الإيقاظ" (50، 104)، وما بين المعقوفتين من مصادر التخريج. (¬3) في المطبوع و (ن) و (ك): "إلى رؤوسهم"، ومضى تخريج هذا القول قريبًا. (¬4) الزُّنار: ما على وسط المجوسي والنصراني: وفي "التهذيب": ما يلبسه الذمي، بشده على وسطه. قاله ابن منظور في "اللسان" (4/ 330 - مادة زنر). (¬5) في المطبوع: "روى". (¬6) أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 106)، و"ذِكر أخبار أصبهان" (1/ 183)، والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 474)، وإسناده صحيح وهو في "الإحكام" (6/ 885) لابن حزم و"مختصر المؤمل" (58)، و"معنى قول الإمام المطلبي" (2/ 98) أو ص (72 - 73 - ط دار البشائر)، و"مفتاح الجنة" (12، 129، 130)، و"الإيقاظ" (104). (¬7) أخرجه أبو نعيم (9/ 106)، والبيهقي في "المناقب" (1/ 475)، وهو في "معجم الأدباء" (17/ 310)، و"معنى قول الإمام المطلبي" (73 - ط دار البشائر)، و"الإيقاظ" (100). (¬8) في (ن): "وتغرب عنه".

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو قولي، [وجعل] (¬1) يردد هذا الكلام (¬2)، وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحدًا نَسبتْهُ عامةٌ أو نسَبَ نفسه إلى علم يخالف في أن فَرضَ اللَّه اتباع أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتسليم لحكمه فإن اللَّه لم يجعل لأحدٍ بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول [بكل حال] (¬3) إلا بكتاب اللَّه أو سنة رسوله، وأن ما سواهما تَبعٌ لهما، وأن فَرْضَ اللَّه علينا وعلى مَنْ بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واحدٌ لا يختلف فيه [أنه] الفرض، وواجبٌ قبول الخبر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا فرقة سأصف قولها إن شاء اللَّه تعالى. وقال الشافعي: ثم تفرَّق أهل الكلام في تثبيت خبر الواحد عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تفرقًا متباينًا، وتفرق عنهم ممن نَسبتهُ العامة إلى الفقه تفرقًا أتى بعضُهم فيه أكثر من التقليد أو التحقيق من النظر والغفلة والاستعجال بالرياسة (¬4). وقال عبد اللَّه بن أحمد: قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح عندكم (¬5) الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقولوا لي حتى أذهب إليه (¬6). وقال الإمام أحمد: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وتَركَ قوله (¬7)، وقال الربيع: قال الشافعي: لا نترك الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن لا يدخله القياس ولا موضع للقياس لموقع السنة (¬8)، قال الربيع [عن الشافعي]: وقد روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأبي هو وأمي أنه قضى في بَرْوَع ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) أخرجه البيهقي في "المناقب" (1/ 475)، وهو في "معجم الأدباء" (17/ 311)، و"مختصر المؤمل" (58)، و"معنى قول الإمام المطلبي" (76 - 77 - ط البشائر)، و"الإيقاظ" (63 - 100). (¬3) بدلها في سائر النسخ "رجل قال"، وهو خطأ، والتصويب من مصادر التخريج. (¬4) انظر "مناقب الشافعي" (1/ 475 - 476)، للبيهقي و"جامع بيان العلم" (1/ 562 - فما بعد). (¬5) في المطبوع: "لكم". (¬6) رواه الطبراني عن عبد اللَّه به؛ كما في "معنى قول الإمام المطلبي" (74)، وبنحوه عند ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي" (95)، وأبي نعيم في "الحلية" (9/ 170)، وابن عبد البر في "الانتقاء" (75)، والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 476). (¬7) أخرجه البيهقي في "المدخل" (251)، و"المناقب" (1/ 476)، وذكره ابن حجر في "التأنيس" (63). (¬8) أخرجه البيهقي في "المناقب" (1/ 478)، وهو في "معنى قول الإمام المطلبي" (ص 77)، ونحوه في "الرسالة" للشافعي (ص 599 رقم 1817).

بنت وَاشِق أنكحت (¬1) بغير مهر، فمات زوجها، فقضى لها بمهر نسائها، وقضى لها بالميراث (¬2)، فإن كان ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "ونكحت". (¬2) رواه معقل بن سنان، وقد وقع فيه اختلاف، وقد وقع في حادثة استفتي فيها ابن مسعود فقام معقل وأيَّده أن هذا هو حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك؛ فرواه ابن أبي شيبة (4/ 300)، وأبو داود في (النكاح): (2114) باب فيمن تزوج ولم يُسمِّ صداقًا حتى مات، وابن ماجه (1891) في (النكاح): باب الرجل يتزوج، ولا يفرض لها فيموت، والنسائي (6/ 122) في (النكاح): باب إباحة التزويج بغير صداق، وفي "الكبرى" (5517)، والحاكم (2/ 180 - 181)، والبيهقي (7/ 245)، وابن حبان (4098) من طريق عبد الرحمن بن مهدي، ورواه الطبراني في "الكبير" (20/ 545) من طريق أبي حذيفة، ورواه (20/ 546) من طريق يزيد الدالاني ثلائتهم عن سفيان عن فراس عن الشعبي عن مسروق عن ابن مسعود، فقال معقل بن سنان. . فذكره. وقد اختلف فيه على الشعبي؛ كما بينه النسائي في "سننه الكبرى"؛ فانظره هناك. وقد ذكرنا طريق ابن مهدي أنه يرويه عن سفيان عن فراس، ورواه ابن أبي شيبة (4/ 300)، وأبو داود (2115)، والنسائي (6/ 122)، وفي "الكبرى" (5519)، وابن ماجه (1891)، وابن الجارود (718)، وابن حبان (4099)، والبيهقي من طريقه عن سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود. . . فشهد معقل بن سنان فخالف في إسناده. وتابعه أيضًا على هذا الطريق يزيد بن هارون، وعبد الرزاق: أخرجه عبد الرزاق (10898 و 11745)، والترمذي (1145)، وابن الجارود (718)، والطبراني في "الكبير" (20/ 543)، والبيهقي (7/ 245)، وأحمد (3/ 480)، وأبو داود (2115)، والنسائي (6/ 121) وفي "الكبرى" (5516)، بعضهم عن عبد الرزاق ويزيد معًا، وبعضهم عن يزيد وحده. وتابعه أيضًا زيد بن الحباب: رواه الترمذي (1145)، والنسائي (6/ 198)، ورواه النسائي (6/ 121)، وفي "الكبرى" (5515)، وابن حبان (4100) من طريق زائدة عن منصور عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن عبد اللَّه. . فقام فلان الأشجعي. ورواه الطبراني (20/ 544) من طريق الأعمش عن إبراهيم به. ورواه ابن أبي شيبة (4/ 301 - 302)، والنسائي (6/ 122 - 123)، وفى "الكبرى" (5518)، وابن حبان (4101)، والحاكم (2/ 180)، والبيهقي (7/ 245)، والطبراني (20/ 542) من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود. . فقام رجل يقال له: معقل بن سنان. وقد ذكرت من قبل أنه اختلف على الشعبي فيه، ورواه أبو داود (2116)، والبيهقي (7/ 246) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حسان، وخلاس بن عمرو عن عبد اللَّه بن عتبة أن ابن مسعود. . . فقام ناس من أشجع فيهم الجَرَّاح، وأبو سنان =

قول أحد دون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا في قياس ولا في شيء إلا طاعة اللَّه بالتسليم له، وإن كان لا يثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لم يثبت، ولم أحفظه من وجه يثبت مثله، هو مرة عن معقل بن يسار ومرة عن معقل بن سنان ومرة عن بعض أشجع لا يُسمَّى (¬1). وقال الربيع: سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة، فقال: يَرفُع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يَفعل ذلك في السجود. قلت له: فما الحجة في ذلك؟ فقال: أنبأنا ابن عُيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل قولنا (¬2). قال الربيع: فقلت له: فإنا نقول: يَرفعُ في الابتداء ثم لا يعود. قال الشافعي: أنا مالك، عن نافع أن ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك (¬3)، قال الشافعي: ¬

_ = (معقل بن سنان)، والحديث قال فيه الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم على شرط الشيخين وقال: سمعت أبا عبد اللَّه محمد بن يعقوب الحافظ قال: لو حضرت الشافعي لقمت على رؤوس أصحابه، وقلت: فقد صح الحديث فقل به. وقال البيهقي: وهذا الاختلاف لا يؤثر في الحديث فإن جميع هذه الروايات إسنادها صحيح، وقال ابن حزم: لا مغمز فيه، لصحة إسناده. وقال النووي في "روضة الطالبين" (7/ 282): الحديث صحيح، ولا اعتبار بما قيل في إسناده. ونقل الترمذي في "الجامع" (كتاب النكاح): باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة، فيموت عنها قبل أن يفرض لها (3/ 451) رجوع الشافعي إليه، فقال: "وروي عن الشافعي أنه رجع بمصر عن هذا القول، وقال بحديث بَرْوَع بنت واشق". وقد جاء الحديث من روايتها هي -كما قال الحافظ في "الإصابة"، أخرجه ابن أبي عاصم- وليس هو في المطبوع من "الآحاد والمثاني" -من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عنها فذكرته، والمثنى ضعيف. (¬1) "الأم": كتاب الصداق: باب التفويض: (5/ 61)، وعنه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 478 - 479). (¬2) هو في "مسنده" (1/ 72 - ترتيب السندي)، ورواه البخاري (735) في (الأذان): باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، و (736) باب رفع اليدين إذا كبر، وإذا ركع، وإذا رفع، و (738) باب إلى أين يرفع، ومسلم (390) في (الصلاة): باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين. (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 77)، ومن طريقه الشافعي (1/ 72 - 73)، وأبو داود =

وهو -يعني مالكًا- يروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع (¬1) يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك (¬2)، ثم خالفتم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وابن عمر، فقلتم (¬3): لا يرفع يديه إلا في ابتداء الصلاة، وقد رويتم عنهما أنهما رفعاهما في الابتداء وعند الرفع من الركوع، أفيجوز لعالم أن يتركَ فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) [وفعل] (¬5) ابن عمر لرأي نفسه؟ أو فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6) لرأي ابن عمر؟ ثم القياس على قول ابن عمر، ثم يأتي موضع آخر يصيب فيه، فيترك على ابن عمر ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فكيف لم ينهه بعضُ هذا عن بعض؟ أرأيت إذا جاز له أن يروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه رفع (¬7) يديه في [الصلاة] مرتين أو ثلاث وعن ابن عمر فيه اثنتين، أنأخذ بواحدة ونترك واحدة؟ أيجوِّز لغيره تَزك الذي أخذ به وأَخْذ الذي ترك؟ أو يجوز لغيره [تركه عليه. قال الشافعي: لا يجوز له ولا لغيره] (¬8) ترك ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقلت له: فإن صاحبنا قال: فما معنى الرفع؟ قال [الشافعي: هذه الحجة غاية في الجهالة] معناه تعظيم للَّه واتباع لسنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعنى الرفع في الأولى معنى الرفع الذي خالفتم فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وابن عمر معًا، [لغير قول واحد روى عنه رفع الأيدي في الصلاة، تثبت روايته] ويَروي ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة عشر رجلًا أو أربعة عشر رجلًا (¬9) ورُوي عن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير وجه، ومن ¬

_ = (742) في (الصلاة): باب افتتاح الصلاة، وقال أبو داود: لم يذكر "رفعها دون ذلك" أحد غير مالك فيما أعلم. (¬1) في مطبوع "المناقب" (1/ 382) -ومنه ينقل المصنف-: "إذا ابتدأ الصلاة يرفع". (¬2) سيأتي تخريجه. (¬3) في (ق): "وقلتم". (¬4) في مطبوع "المناقب": "يترك على النبي"!! (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في مطبوع "المناقب": "أو على النبي". (¬7) كذا في "المناقب"، وفي سائر النسخ "أن يرفع". (¬8) ما بين المعقوفتين من "الأم"، وسقط من مطبوع "المناقب"، ونسخ "الإعلام". (¬9) جمعها البخاري في جزء مفرد مطبوع أكثر من مرة، أحسنها مع "جلاء العينين" للسندي رحمه اللَّه تعالى. وقال الذهبي في "السير" (5/ 293) عن هذه السنة: "متواترة"، وانظر -غير مأمور- كتابي "القول المبين" (ص 104 - 109 ط الأولى).

تركه فقد ترك السنة (¬1). قلت: وهذا تصريح من الشافعي بأن تارك رفع اليدين عند الركوع و [عند] (¬2) الرفع منه تارك للسنة، ونص أحمد على ذلك أيضًا في إحدى الروايتين عنه. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام وبعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الإفاضة؟ فقال: جائز، وأحبُّه، ولا كراهة؛ لثبوت السنة فيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) والأخبار عن غير واحد من الصحابة. فقلت: وما حجتك فيه؟ فذكر الأخبار فيه والآثار ثم قال: أنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم قال: قال عمر -رضي اللَّه عنه-: مَنْ رمى الجمرة فقد حَلَّ له ما حرمُ عليه إلا النساء والطيب (¬4). قال سالم: وقالت عائشة: طيَّبتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيدي (¬5)، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحق أن تتبع. قال الشافعي: وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم، فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها لترك (¬6) ذلك [الغير] (¬7) لرأي أنفسكم فالعلم إذن إليكم تأتون منه ما شئتم وتدعون ما شئتم (¬8). وقال في "الكتاب القديم"، (رواية الزعفراني) في مسألة بيع المُدبَّر في جواب من قال له: إن بعض أصحابك قد قال خلاف هذا، قال الشافعي: فقلت له: من تَبعَ سنَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وافقْتُه، ومن غَلط فتركها خالفْتُه، صاحبي (¬9) الذي لا أفارقه اللازم الثابت عن (¬10) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإنْ بَعُد، والذي أفارق من لم يقبل ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" (7/ 233)، و"اختلاف الحديث" (7/ 413 - 414 بهامش الأم)، و"مناقب الشافعي" (1/ 482 - 484)، وما بين المعقوفتين منه، و"طبقات الشافعية الكبرى" (2/ 100) ترجمة (أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬3) مضى تخريجه. (¬4) هو في "الأم" (7/ 200)، و"مسند الشافعي" (1/ 299)، وانظر ما تقدم. (¬5) سبق تخريجه قريبًا. (¬6) في النسخ "وترك"، والتصويب من المصادر التي نقلت هذا الكلام!! (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "لغير شيء بل". (¬8) الخبر بطوله في "الأم": (7/ 199 - 200)، وعنه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 484). (¬9) في المطبوع: "حتى صاحبي" والمثبت من (ق). (¬10) في المطبوع: "لا أفارق الملازم الثابت مع"! وفي (ق) و (ك): "اللازم"، وفيها وسائر النسخ "مع"، والتصويب من مصادر التخريج.

بسنة (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإن قرب (¬2). وقال في خطبة كتابه: "إبطال الاستحسان" (¬3): الحمد للَّه على جميع نعمه بما هو أهله وكما ينبغي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، بعثه بكتاب عزيز: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] فهدى بكتابه، وعلى (¬4) لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم أنعم عليه وأقامَ الحجَّةَ على خلقه لئلا يكون للناس على اللَّه حجة بعد الرسل، وقال [تعالى] (¬5): {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم، وسَنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم، فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] فأَعلَم أن معصيته في ترك [أمره و] (¬6) أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يجعل لهم إلا اتباعه، وكذلك قال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53] مع ما عَفَم اللَّه نبيَّه، ثم فرض اتباع كتابه فقال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف: 43]، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وأعلمهم أنه أكمل لهم دينهم فقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] إلى أن قال: ثم مَنَّ عليهم بما آتاهم من العلم فأمرهم بالاقتصار عليه، وأن لا يقولوا غيره إلا ما علَّمهم، فقال لنبيِّه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، وقال لنبيه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، وقال لنبيّه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] ثم أنزل على نبيه أنْ غَفَر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، يعني -واللَّه أعلم- ما تقدم من ذنبه قبل الوحي وما تأخَّر [قبل] (¬7) أن ¬

_ (¬1) في سائر النسخ "يقل بحديث"!. (¬2) نقله البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 485)، وقال عقبه: "وللشافعي في هذا الجنس كلام كثير تركته لكثرته وهو منقول في "المبسوط المردود إلى ترتيب المختصر"، وبعضه في كتاب "المعرفة"، واللَّه يغفر لنا وله برحمته". (¬3) انظر: "الأم" (كتاب الاستحسان): (7/ 294 - 295). (¬4) في المطبوع: "ثم على". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

يعصمه فلا يذنب، فعلم ما يفعل به مِن رضاه عنه، وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة، وسيّد الخلائق، وقال لنبيه: {ولَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل في امرأة رجل رماها بالزنا، فقال له يَرْجع، فأوحى اللَّه إليه آية اللعان فلاعن بينهما (¬1)، وقال: {[قُلْ] (¬2) لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ] (2)} [لقمان: 34] الآية، وقال لنبيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42 - 43] فحَجَب عن نبيه علم الساعة، وكان مَنْ عدا ملائكة اللَّه المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد اللَّه أقصر علمًا من ملائكته وأنبيائه، واللَّه عز وجل فَرضَ على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم من الأمر شيئًا. وقد صنَّف الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- كتابًا في طاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) ردَّ فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك الاحتجاج بها، فقال في أثناء خطبته: إن اللَّه جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسولَه الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصِّه وعامِّه وناسخه ومنسوخه وما قصد له الكتاب؛ فكان رسول اللَّه هو المعبِّر عن كتاب اللَّه الدال على معانيه، شَاهَدَه في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم اللَّه لنبيه واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا هم أعلم الناس برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبما أراد اللَّه من كتابه بمشاهدتهم ما قصد له الكتاب، فكانوا هم المُعبِّرين عن ذلك بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال جابر: ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو ¬

_ (¬1) هو حديث سهل بن سعد في قصة عويمر العجلاني: رواه البخاري (423) في (الصلاة): باب القضاء واللعان في المسجد، و (4745) في (التفسير): باب {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ. . .}، و (4746) باب {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7)} و (5659) في (الطلاق): باب من جوز الطلاق الثلاث، و (5308) في (اللعان): و (5309) في (التلاعن في المسجد)، و (7165 و 7166) في (الأحكام): باب من قضى ولاعن في المسجد، و (7304) في (الاعتصام): باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين، ومسلم (1492) في أول اللعان. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ذكره له في "مختصر الصواعق المرسلة" (2/ 530) أيضًا، وقال: "رواه عنه ابنه صالح"، ونقل خطبته؛ كما فعل هنا، وانظر: "موارد ابن القيم في كتبه" (رقم 287). وأكثر أبو يعلى الفراء في "العدة في أصول الفقه" من النقل عنه، انظر: "فهرسته" (5/ 1790).

يعرف تأويله وما عَمِلَ به من شيء عملنا به، ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول، فقال جل ثناؤه في أول آل عمران: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131 - 132]، وقال [تعالى] (¬1): {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]، وقال في النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقال: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 79 - 80]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 13 - 14]، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا] (¬2)} [النساء: 105]، وقال في المائدة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: 1]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (¬3)} [الأنفال: 46]، وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51، 52]، وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (¬1)} [النور: 62]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وكان الحسن يقول: لا تذبحوا قبل ذبحه (¬2) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] (¬3) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 2 - 5]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17]، وقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 1 - 5]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية". (¬2) روى الطبري في "تفسيره" (11/ 378) عند هذه الآية عن الحسن قال: هم قوم نحروا قبل أن يصلي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمرهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يعيدوا الذبح. (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "إلى قوله".

شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا] (¬1)} [الفتح: 9]، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] قال ابن عباس: هو جبريل، وقاله مجاهد (¬2): {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [هود: 17]، قال سعيد بن جبير: الأحزاب المِلل (¬3)، ثم ذكر حديث يعلى بن أمية: طُفْت مع عمر، فلما بلغنا الركن الغربيَ الذي يلي الأسود جررْتُ بيده ليستلم، فقال: ما شأنك؟ فقلت: ألا تستلم؟ فقال: ألم تطُف مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقلت: بلى، قال: أفرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين؟ قال: لا، قال: أليس لك فيه أسوة حسنة؟ قلت: بلى، قال: فانفذ عنك (¬4). قال: وجعل معاوية يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يستلمُهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه الطبري في "تفسيره" (12/ 16) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (4/ 410) لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه من طرق عن ابن عباس. وقول مجاهد في "تفسيره" (1/ 301 - 352) ورواه الطبري أيضًا في "تفسيره" عنه. (¬3) في (ق) و (ك) أدخل قول سعيد في الآية بعد قوله: "ومن يكفر به من الأحزاب"، وقول سعيد رواه الطبري (7/ 20 و 21). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 37)، وأبو يعلى (182) من طريق يحيى بن سعبد عن ابن جريج حدثني سليمان بن عتيق عن عبد اللَّه بن بابَيْه عن يعلى بن أمية به. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم، لكن رواه عبد الرزاق (8945)، وأحمد (1/ 45) عن روح، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة" (2/ 205)، ومن طريقه البيهقي (5/ 77) عن ابن أبي عاصم النبيل (ثلاثتهم: عبد الرزاق، وروح، وأبو عاصم)، عن سليمان بن عتيق عن عبد اللَّه بن بابيه عن بعض بني يعلى عن يعلى بن أمية به. أقول: عبد اللَّه بن بابيه، ولقال: باباه توفي بعد المئة؛ كما ذكر الحافظ في "التقريب"، ويعلى بن أمية توفي في الأربعين فهل الصحيح إثبات الواسطة -وعندئذ يكون في الإسناد جهالة- أم يكون أدركه في وى الحديث على الوجهين؟! وقال الحافظ في "التعجيل" (ص 542): عبد اللَّه بن بابيه عن بعض بني يعلى بن أمية: لعله صفوان. قلت: أولاد يعلى الذين رووا عنه: صفوان، ومحمد وعثمان، وعبد الرحمن، وصفوان هو أشهرهم، وهو من الثقات، والآخرون ليس لهم في الكتب الستة شيء، وأنا أستبعد أن يكون صفوان، وإلا لسمّاه. =

عباس: {ولقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فقال معاوية: صدقت (¬1). ¬

_ = ثم وجدت الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 47) ينقل عن صاحب "التنقيح" -وهو فيه 2/ 455 رقم 1358) - أنه قال في هذا الحديث: في صحة هذا الحديث نظر. وقال أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (1/ 256): ولكن يعل هذا الحديث بأن الأحاديث الصحاح ثبتت فيها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. استلم الحجر، وأن عمر رآه وروى عنه ذلك. والحديث رواه أحمد (1/ 71) من طريق محمد بن بكر عن ابن جريج أخبرني سليمان عن عبد اللَّه عن بعض بني يعلى عن يعلى قال: طفت مع عثمان. . . وعزاه الحافظ الهيثمي (3/ 240) لأبي يعلى، وقال: "وله عند أبي يعلى إسنادان، رجال أحدهما رجال الصحيح، وفي إسناد أحمد راو لم يُسمَّ". فهل هناك وهم؟ أم هما قصتان حصلتا مع عمر وعثمان؟ أغلب ظني أن هناك وهمًا لاتحاد مَخْرَج القصة، واللَّه أعلم. وفي (ق): "فانذ عنك" وفوقها "كذا". (¬1) رواه أحمد (1/ 217)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 184) من طريق خصيف عن مجاهد عن ابن عباس. وخصيف هذا ضعيف؛ لكن رواه عبد الرزاق (8944)، وأحمد (1/ 246 و 333 و 372)، والترمذي (858) في (الحج): باب ما جاء في استلام الحجر والركن اليماني، والطبراني في "الكبير" (10631 و 10632) من طريق عبد اللَّه بن عثمان بن خُثيم عن أبي الطفيل قال: كنت مع ابن عباس ومعاوية، فذكره نحوه دون ذكر الآية. وسنده صحيح على شرط مسلم. ورواه أحمد (1/ 372)، والطبراني في "الكبير" (10636)، والبيهقي (5/ 76 - 77) من طرق عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي الطفيل به. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. ورواه الطبراني (10634) و (10635)، والبيهقي (5/ 76) من طريقي (شعبة، وعمرو بن الحارث) عن قتادة به، وانظر: "صحيح مسلم" (1269). وروى أحمد في "مسنده" (4/ 98) من طريق محمد بن جعفر وحجاج عن شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أبي الطفيل. . بالحديث مقلوبًا، أي عنده أن القائل: ليس من أركانه شيء مهجور. . . ابن عباس وليس معاوية. ثم قال بعد روايته: قال شعبة: الناس يختلفون في هذا الحديث يقولون: معاوية هو الذي قال: ليس من البيت شيء مهجور؛ ولكنه حفظه من قتادة هكذا. والصحيح الرواية الأولى؛ كما قال الدارقطني في "علله" (7/ 55)، وانظر: "الفتح (3/ 473 - 474)، و"صحيح البخاري" (رقم 1608). وانظر كلام المؤلف -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (1/ 219).

[طريقان لأرباب الأخذ بالمتشابه في رد السنن]

ثم ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن وردَّها بذلك، وهذا فعل الذين يستمسكون (¬1) بالمتشابه في رَدِّ المحكم، فإن لم يجدوا لفظًا متشابهًا غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفًا متشابهًا وردوه به، فلهم طريقان في رد السنن. [طريقان لأرباب الأخذ بالمتشابه في رد السنن] أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن (¬2)، الثاني: جعلهم المحكم متشابهًا ليعطلوا دلالته. [رد المتشابه إلى المحكم طريقة الصحابة] وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق، وهي أنهم يردُّون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يُفسِّر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضُها بعضًا، ويصدُّق بعضُها بعضًا، فإنَّها كلها من عند اللَّه، [وما كان من عند اللَّه] (¬3) فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره. [أمثلة لمن أبطل السنن بظاهر من القرآن] ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب. المثال الأول: رد الجهمية النصوص المحكمة غاية الإحكام المبينة بأقصى غاية البيان أن اللَّه موصوفٌ بصفاتِ الكمال من العِلْم والقُدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغَضَب والرِّضى والفَرح والضَّحك والرحمة والحكمة، وبالأفعال كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، والعلم بمجيء الرسول بذلك وإخباره به عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش والكذب فليس يقصرُ عنه، فالعلم الضروريُّ حاصل بأن الرسول أخبر عن اللَّه بذلك، وفَرضَ على ¬

_ (¬1) في (ك): "يتمسكون". (¬2) في (ق): "السنة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[رد الجهمية المحكم من آيات العلو والاستواء]

الأمة تصديقه فيه، فرضًا لا يتم أصل الإيمان إلا به، فرد الجهمية ذلك بالمتشابه من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومن قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ومن قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثم استخرجوا من هذه النصوص المجملة (¬1) المبينة احتمالات وتحريفات جعلوها به من قسم المتشابه. [رد الجهمية المحكم من آيات العلو والاستواء] المثال الثاني: ردهم المحكم المعلوم بالضرورة أن الرسل جاءوا به من إثبات علو اللَّه على خلقه واستوائه على عرشه بمتشابه قول اللَّه تعالى (¬2): {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] ونحو ذلك، ثم تحيَّلوا وتمحَّلوا حتى ردّوا نصوص (¬3) العلو والفوقية بمتشابهه. [رد القدرية النصوص المحكمة] المثال الثالث: رد القدرية النصوص (¬4) الصريحة المحكمة في قدرة اللَّه على خلقه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن بالمتشابه من قوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} [فصلت: 46]، و {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5) [الطور: 16] و [التحريم: 7] ثم استخرجوا لتلك النصوص المحكمة وجوهًا [أخر] (¬6) أخرجوها به من قسم المحكم وأدخلوها في المتشابه. [رد الجبرية النصوص المحكمة] المثال الرابع: رد الجبرية النصوص المحكمة في إثبات كون العبد قادرًا مختارًا فاعلًا [بمشيئته] (6) بمتشابه قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬7) ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "المحكمة". (¬2) في (ق) و (ك): "قوله". (¬3) جمعها ابن قدامة في "إثبات العلو للَّه"، والذهبي في "العلو للعلي العظيم"، وغيرهما. (¬4) جمعها الفريابي وعبد اللَّه بن وهب في أجزاء مفردة بعنوان "القدر"، وهما مطبوعان. (¬5) "ليس فيها شيء بمتشابه، إنما هي محكمة أعظم الإحكام، وقد ذكرت {إنمَا تجزَونَ. . .} الآية في سورة التحريم -أيضًا- رقم: 7" (و). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) "ذكرت مرة أخرى في سورة التكوير: 29" (و).

[رد الخوارج والمعتزلة]

[الإنسان: 30]، [{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}] (¬1) [المدثر: 56]، وقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ [وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (¬2)} [الأنعام: 39] وأمثال ذلك، ثم استخرجوا لتلك النصوص من الاحتمالات التي يقطع السامع أن المتكلم لم يُرِدها ما صيَّروها (¬3) به متشابهة. [رد الخوارج والمعتزلة] المثال الخامس: رد الخوارج والمعتزلة النصوص الصريحة المحكمة غاية الإحكام في ثبوت الشفاعة (¬4) للعصاة وخروجهم من النار بالمتشابه من قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وقوله: {ربَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] ونحو ذلك، وفعلوا فيها كفعل (¬5) من ذكرنا سواء. [رد الجهمية نصوص الرؤية] المثال السادس: رد الجهمية النصوص المحكمة التي قد بلغت في صراحتها وصحتها إلى أعلى الدرجات في رؤية المؤمنين ربهم (¬6) تبارك وتعالى في عرصات القيامة وفي الجنة بالمتشابه من قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ] (¬7)} [الأنعام: 103]، وقوله لموسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ونحوها] (¬8)، ثم أحالوا المحكم متشابهًا وردوا الجميع. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق): "يصّيروها". (¬4) ألف الذهبي في الشفاعة جزءًا بعنوان "إثبات الشفاعة"، قال فيه (ص 20): (فشفاعته لأهل الكبائر من أمته، وشفاعته نائلة من مات يشهد أن لا إله إلا اللَّه، فمن رد شفاعته وردّ أحاديثها جهلًا منه، فهو ضال جاهل قد ظن أنها أخبار آحاد، وليس الأمر كذلك، بل هي من المتواتر القطعي، مع ما في القرآن من ذلك" وجمع الشيخ مقبل بن هادي أحاديث الشفاعة، والآثار الواردة فيها في جزء مفرد مطبوع، وكذلك فعل الدكتور ناصر الجديع في كتابه "الشفاعة عند أهل السنة والرد على المخالفين فيها" وهو مطبوع أيضًا. (¬5) في المطبوع: "فعل". (¬6) جمعها الدارقطني وابن النحاس والآجري وغيرهم في أجزاء مفردة، وكتب المذكورين مطبوعة. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية".

[رد نصوص الأفعال الاختيارية]

[رد نصوص الأفعال الاختيارية] المثال السابع: رد النصوص الصريحة الصحيحة التي تفوت العد (¬1) على ثبوت الأفعال الاختيارية للرب سبحانه وقيامها به كقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وقوله: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} [النمل: 8]، وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ] (¬2)} [المجادلة: 1]، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، [وقول: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" (¬4)، [وقول اللَّه تعالى] (¬5): {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقوله: "إن ربي قد غَضِبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضبَ بعده مثله" (¬6)، وقوله: "إذا قال العبد: الحمدُ للَّه رب العالمين قال اللَّه: حَمَدني عبدي" (¬7) الحديث، وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص التي تزيد على الألف، فردوا هذا كله مع إحكامه بمتشابه قوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "العدد". (¬2) زيادة من (ك) و (ق). (¬3) المثبت من (ق)، وفي باقي النسخ: "وقوله". (¬4) أخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب التهجد): باب الدعاء والصلاة من آخر الليل (3/ 29/ رقم 1145)، و (كتاب الدعوات): باب الدعاء نصف الليل (11/ 128 - 129/ رقم 6321)، و (كتاب التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} (31/ 464/ رقم 7494)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب صلاة المسافرين وقصرها)، باب الترغبب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه (1/ 521/ رقم 758) عن أبي هريرة مرفوعًا: ينزل ربنا تبارك ونعالى: كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فاعطيه، ومن يستغفرني فاغفر له. (¬5) المثبت من (ق)، وفي باقي النسخ: "وقوله". (¬6) رواه البخاري (3340) في (الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}، و (3361): باب قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، و (4712) في تفسير سورة بني إسرائيل باب {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)}، ومسلم (194) في (الإيمان): باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، من حديث أبي هريرة. (¬7) رواه مسلم (395) في (الصلاة): باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، من حديث أبي هريرة.

[رد المحكم من نصوص إثبات الحكمة والغاية]

[رد المحكم من نصوص إثبات الحكمة والغاية] المثال الثامن: رد النصوص المحكمة الصريحة التي في غاية الصحة والكثرة على أن الرب سبحانه إنما يفعل ما يفعله لحكمة وغاية محمودة، وجودها خير من عدمها، ودخول لام التعليل في شرعه وقدره أكثر من أن تعد، فردوها بالمتشابه من قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ثم جعلوها كلها متشابهة. [رد نصوص إثبات الأسباب] المثال التاسع: رد النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعًا وقدرًا كقوله: {بِمَا كنُتُم تعْمَلُونَ} (¬1) [المائدة: 105]، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39 ويونس: 52]، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]، {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [النحل: 107]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقوله: {فَأَنْشَأْنَا (¬2) لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [المؤمنون: 19] وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، وقوله في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، و [قوله] (¬3) في القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] إلى أضعاف [أضعاف] (¬4) ذلك من النصوص المثبتة للسبب (¬5) فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ¬

_ (¬1) "هناك غيرها بباء السببية -أيضًا- {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32]، {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ} [السجدة: 14] وغيرها" (و). (¬2) في المطبوع و (ق) و (ك): "فأنبتنا"، والصواب ما أثبتناه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع و (ك): "للسببية".

وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أنا حملتكم ولكن اللَّه حملكم" (¬1) ونحو ذلك، وقوله: "إني لا أعطي أحدًا ولا أمنعه" (¬2)، وقوله للذي سأله عن العَزْل عن أمته: "اعزل عنها فسيأتيها ما قُدِّر لها" (¬3)، وقوله: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ" (¬4)، وقوله: "فمن أعدى الأول" (¬5)، وقوله: "أرأيت إنْ منعَ اللَّه الثمرة" (¬6)، ولم يقل منعها البرد أو (¬7) الآفة التي تصيب الثمار، ونحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالكَ السَّببِ وخالقه يتصرف فيه؛ بأن يُسلبه سببيَّته إن شاء، ويُبقيها عليه إن شاء، كما سَلَبَ النار قوَّةَ الإحراق عن الخليل، ويا للَّه العجب! أترى من أثبت الأسباب، وقال: إن اللَّه خالقها أثبتَ خالقًا غير اللَّه؟! وأما قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فغاب عنهم فقه الآية وفهمها، والآية من أكبر معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والخطاب بها خاص لأهل بدر. وكذلك القبضة التي رمى بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأوصلها اللَّه سبحانه إلى جميع وجوه المشركين (¬8)، وذلك خارج عن قدرته -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3133) في (فرض الخمس): باب ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين -وأطرافه هناك وهي كثيرة جدًا- ومسلم (1649) في (الأيمان): باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، من حديث أبي موسى الأشعري. (¬2) لم أعثر عليه بهذا اللفظ، وإنما وجدت في "صحيح البخاري" (3117) في (فرض الخمس): باب قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "ما أعطيكم وما أمنعكم، إنما أنا قاسم أضع حيث أمرت"، وبنحوه في "مسند أحمد" (2/ 248). (¬3) رواه مسلم (1439) في (النكاح): باب حكم العزل، من حديث جابر. (¬4) قطعة من حديث أخرجه البخاري (كتاب الطب): باب لا هامة (10/ 241/ رقم 577)، وباب لا صفر (10/ 171/ رقم 5717)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب السلام): باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر (4/ 1742 - 1743/ رقم 2220)، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- ولفظه: "لا عدوى ولا صفر ولا هامة" فقال أعرابي: يا رسول اللَّه! فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظِّباء، فيأتي البعير الأجرب؛ فيدخل بينها فيجربها؟ قال: "فمن أعدى الأول؟. وقال (و): "والطيرة: هي التشاؤم بالشيء، ولم يجيء غيرها هي وخيرة -كذا- من المصادر هكذا". (¬5) قطعة من آخر الحديث السابق. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في المطبوع: "و". (¬8) رواه الطبري في "تفسيره" (9/ 205) مختصرًا، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (ص 469 رقم 400)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (3/ 78 - 79) من طريق عبد اللَّه بن صالح قال: =

وهو الرمي الذي نفاه عنه، وأثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته وهو الخذْف (¬1)، وكذلك القَتْل الذي نفاه عنهم هو قتل لم تباشره أيديهم، وإنما باشرته أيدي الملائكة، فكان أحدهم يشتدُّ في أَثَر الفارس وإذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك، ولو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص لم يكن فرق بين ذلك وبين كل قتل وكل فعل من شرب أو زنى أو سرقة أو ظلم فإن اللَّه خالق الجميع، وكلام اللَّه يُنزَّه عن هذا (¬2). وكذلك قوله: "ما أنا حملتكم ولكن اللَّه حملكم" (3) لم يُرد أنَّ اللَّه حَمَلهم بالقدر، وإنما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متصرفًا بأمر اللَّه منفّذًا له، فاللَّه سبحانه أمره بحملهم فنفَّذ أوامره، فكأن اللَّه هو الذي حملهم، وهذا معنى قوله: "واللَّه إني لا أعطي أحدًا شيئًا ولا أمنعه" (¬3)، ولهذا قال: "وإنما أنا قاسم" (¬4) فاللَّه سبحانه هو المعطي على لسانه وهو يقسم ما يقسمه (¬5) بأمره، وكذلك قوله في العَزْل: "فسيأتيها ما قُدّر لها" (¬6) ليس فيه إسقاط الأسباب؛ فإن اللَّه سبحانه إذا قَدَّر خلق الولد سبق من الماء ما يخلق منه الولد ولو كان أقل شيء فليس من كل الماء يكون الولد، ولكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد ألبتة وليس سببًا له، وأن الزوج أو ¬

_ = حدثني معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. أقول: عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث فيه كلام، وعلي بن أبي طلحة روايته عن ابن عباس مرسلة، لكن هناك شواهد مرفوعة وموقوفة تجعل للحادثة أصلًا أصيلًا؛ فانظر: "فتح الباري" (7/ 236) و"السيرة النبوية" (2/ 239) لابن كثير، و"الدر المنثور" (4/ 39 - 42) وتعليقي على "الموافقات" (3/ 69 - 70). (¬1) "رمي الحصا بالأصابع" (و). (¬2) انظر مبحث ابن القيم في التعليل والأسباب في: "شفاء العليل" (396 - 418)، و"مفتاح دار السعادة" (6، 8، 36 - 38، 350 - 351، 427، 373 مهم)، و"بدائع الفوائد" (1/ 44 - 60 و 2/ 205، 210، 211 و 3/ 179 و 4/ 127 - 130)، و"الداء والدواء" (20 - 22) مهم، و"حادي الأرواح" (ص 81 - 82)، و"مدارج السالكين" (1/ 94 و 2/ 116، 118، 133، 134 و 3/ 395 - 410، 495) مهم. (¬3) سبق تخريجه قريبًا. (¬4) جزء من حديث، رواه البخاري في (العلم) (71): باب من يرد اللَّه به خيرًا يفقهه في الدين، و (3116) في (فرض الخمس): باب قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} و (7312) في (الاعتصام): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق"، وهم أهل العلم، ومسلم (1037) (100)، من حديث معاوية بن أبي سفيان. (¬5) في (د): "قسمه". (¬6) سبق تخريجه.

[المقصود من لا عدوى ولا طيرة]

السيد إنْ وطئ أو لم يطأ فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد وعدمه على حد سواء كما يقوله منكرو الأسباب؟ [المقصود من لا عدوى ولا طيرة] وكذلك قوله: "لا عَدْوى ولا طِيرَة" (¬1) لو (¬2) كان المراد به نفي السبب كما زعمتم لم يدل على نفي كل سبب، وإنما غايته أن هذين الأمرين ليسا من أسباب الشر، كيف والحديث لا يدل على ذلك؟ وإنما ينفي ما كان المشركون يُثبتونه من سببيّة مستمرة على طريقة واحدة لا يمكن إبطالها ولا صرفها عن محلها ولا معارضتها بما هو أقوى منها، لا كما يقوله من قصر علمُه: إنهم كانوا يرون ذلك فاعلًا مستقلًا بنفسه. [مذاهب الناس في الأسباب] فالناس في الأسباب لهم ثلاث طرق (¬3): • إبطالها بالكلية. • وإثباتها على وجه لا يتغير ولا يقبل سلب سببيتها ولا معارضتها بمثلها أو أقوى منها كما يقوله الطبائعية والمنجمون والدهرية. • والثالث: ما جاءت به الرسل ودل عليه الحس والعقل والفطرة: إثباتها أسبابًا، وجواز وقوع (¬4) سلب سببيتها عنها إذا شاء اللَّه ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو أقوى منها، مع بقاء مقتضى السببية فيها، كما تُصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق والصّلة، وتُصرف كثير من أسباب الخير بعد انعقادها بضد ذلك، فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد؟ وكم من شرٍ انعقد سببهُ ثم صُرفَ عن العبد باسباب أحدثها منعت حصولَه؟ ومن لا فقهَ له في هذه المسألة فلا انتفاع له بنفسه ولا بعلمه، واللَّه المستعان وعليه التكلان. [رد الجهمية نصوص الكلام الإلهي] المثال العاشر: رد الجهمية النصوص المحكمة الصريحة التي تفوت العد ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في المطبوع: "ولو". (¬3) انظر رسالة: "السببية ودورها في حياة المسلم". (¬4) المثبت من (ق) وفي باقي النسخ: "وجواز بل وقوع".

[رد النصوص المحكمة بأنه خالق كل شيء والمتكلم بنفسه]

على أن اللَّه سبحانه تكلَّم ويتكلم، وكلَّم ويُكلِّم، وقال ويقول، وأخبر و [يخبر] (¬1)، ونبَّأ وأَمر ويأمر، ونهى وينهى، ورضي ويرضى ويعطي ويبشّر ويُنذر ويُحذّر، ويوصل لعباده القول ويبين لهم ما يتقون، ونادى وينادي، وناجى ويناجي، ووَعد وأَوْعد، ويسأل عباده يوم القيامة ويخاطبهم ويكلم كلًا منهم ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب ويراجعه عبده مراجعة، وهذه كلها أنواع للكلام والتكليم، وثبوتها بدون ثبوت صفة التكلم له ممتنع، فردها الجهمية مع إحكامها وصراحتها وتعينها للمراد منها بحيث لا تحتمل غيره بالمتشابه من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. [رد النصوص المحكمة بأنه خالق كل شيء والمتكلم بنفسه] المثال الحادي عشر: ردوا محكم قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} [النحل: 102]، وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] وغيرها من النصوص المحكمة بالمتشابه من قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40 والتكوير: 19] والآيتان حجة عليهم؛ فإن صفات اللَّه جل جلاله داخلة في مُسمَّى اسمه؛ فليس {اللَّه} اسمًا لذات لا سَمعَ لها ولا بَصَر [لها] (¬2) ولا حياة [لها] (2) ولا كلام [لها] (2) ولا علم، وليس هذا رب العالمين، وكلامه تعالى وعلمه وحياته وقدرته ومشيئته ورحمته داخلة في مُسمَّى اسمه؛ فهو سبحانه بصفاته وكلامه الخالق، و [كل] (¬3) ما سواه مخلوف، وأما إضافة القرآن إلى الرسول فإضافة تبليغ محض، لا إنشاء، والرسالة تستلزمُ تبليغَ كلام المُرسل، ولو لم يكن للمرسل كلام يبلغه الرسول لم يكن رسولًا؛ ولهذا قال غير واحد من السلف: "من أنكر أن يكون اللَّه متكلمًا فقد أنكر رسالة رسله"؛ فإن حقيقة رسالتهم تبليغ كلام من أرسلهم؛ فالجهمية وإخوانهم ردوا تلك النصوص المحكمة بالمتشابه، ثم صيَّروا الكل متشابهًا ثم ردوا الجميع، فلم يثبتوا للَّه فعلًا يقوم به يكون به فاعلًا كما لم يثبتوا له كلامًا يقوم به يكون به متكلمًا؛ فلا كلام له عندهم ولا فعال (¬4)، بل كلامه وفعله عندهم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ضبطها في (ن): "ولا فَعّال"، وفي المطبوع و (ك): "ولا أفعال".

[رد الجهمية نصوص العلو بالتفصيل]

مخلوق منفصل عنه، وذلك لا يكون صفة له؛ لأنه سبحانه إنما يوصف بما قام به لا بما لم يقم به. [رد الجهمية نصوص العلو بالتفصيل] المثال الثاني عشر: وقد تقدم ذكره مجملًاونذكره هاهنا مفصلًا: رد الجهمية النصوص المتنوعة المحكمة على علو اللَّه على خلقه وكونه فوق عباده من ثمانية عشر نوعًا (¬1): أحدها: التصريح بالفوقية مقرونة بأداة مِنْ المعيِّنة (¬2) لفوقية الذات نحو: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18، 61]. الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "فيعرجُ الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم" (¬3). الرابع: التصريح بالصعود إليه كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتًا وقدرًا وشرفًا، كقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: ¬

_ (¬1) فانظرها في "اجتماع الجيوش الإسلامية" (98 - فما بعدها)، و"الصواعق المرسلة" (4/ 1277 - فما بعدها). (¬2) في (ن): "المعنية". (¬3) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب مواقيت الصلاة): باب فضل صلاة العصر، (2/ 33/ رقم 55)، و (كتاب بدء الخلق): باب ذكر الملائكة، (6/ 306/ رقم 3223)، و (كتاب التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} (13/ 415/ رقم 7429)، وباب كلام الرب مع جبريل ونداء اللَّه الملائكة (13/ 461/ رقم 7486)، ومسلم في "الصحيح": (كتاب المساجد ومواضع الصلاة: باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما (1/ 439/ رقم 632) عن أبي هريرة مرفوعًا: يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون.

23]، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬1) [الشورى: 51]. السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ [الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] (¬2)} [الجاثية: 2]، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وهذا يدل على شيئين: • على أن القرآن ظهر منه لا من غيره، وأنه الذي تكلَّم به لا غيره. • الثاني: على علوه على خلقه وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده من أعلا مكان إلى رسوله. الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عندهُ، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] ففرَّق بين مَنْ له عمومًا ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصًا، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: "إنه عنده على العرش" (¬3). التاسع: التصريح بأنه سبحانه في السماء، وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين: • إما أن تكون في بمعنى على. • وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حمل النص على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقرونًا بأداة على مختصًا بالعرش الذي هو أعلا المخلوقات مصاحبًا في الأكثر لأداة "ثم" الدالة على الترتيب والمهلة، وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون [غيره] (¬4) من العلو والارتفاع، ولا يحتمل غيره ألبتة. ¬

_ (¬1) في المطبوع والمخطوط: "كبير"، والصواب ما أثبتناه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه البخاري (3149) في (بدء الخلق): باب ما جاء في قول اللَّه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}، و (7404) في (التوحيد): باب قول اللَّه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ}، و (7422) باب: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} و (7453) باب قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)}، و (7553 و 7554) باب قول اللَّه تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}، ومسلم (2751) في (التوبة): باب في سعة رحمة اللَّه، من حديث أبي هريرة. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وقال في الهامش أنه في نسخه: "لعله: المخاطبون منه إلا العلو".

الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى اللَّه سبحانه كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه يستحيي من عبده إذا رَفعَ إليه يديه أن يردَّهما صِفْرًا" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1488) في (الصلاة): باب الدعاء، والترمذي (3556) في (الدعوات)، وابن ماجه (3865) في (الدعاء): باب رفع اليدين في الدعاء، وابن حبان (876)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6148)، وفي "الدعاء" (203)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 497)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 235 - 236)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 562)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1111)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 211)، وفي "الأسماء والصفات" (رقم 155 و 1014)، وفي "الدعوات الكبير" (رقم 180) كلهم من طرق عن جعفر بن ميمون عن أبي عثمان النهدي عن سلمان مرفوعًا به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم ولم يرفعه. أقول: وجعفر بن ميمون هذا في حديثه ضعف. وتابعه على رفع الحديث أبو المعلَّى يحيى بن ميمون العطار: رواه من طريقه المحاملي في "أماليه" (رقم 433 - رواية ابن البيّع) والبغوي في "شرح السنة" (1385)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 317 و 10/ 307). ويحيى هذا ثقة، وحَسَّن البغوي الحديث. ورواه سليمان التيمي عن أبي عثمان به، واختلف عنه. فرواه يزيد بن هارون عنه موقوفًا، رواه من طريقه أحمد (5/ 438)، والحاكم (1/ 497)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (1013)، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ورواه محمد بن الزبرقان عنه مرفوعًا. رواه من طريقه ابن حبان (880)، والطبراني في "الكبير" (6130)، وفي "الدعاء" (202)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 535)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (111)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (181) كلهم من طرق عنه به مرفوعًا. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ومحمد بن الزبرقان هذا قال فيه الحافظ: صدوق ربما وهم ويزيد بن هارون الذي وقف الحديث على سلمان، هو من الثقات الحفاظ. وقد وقفه أيضًا معاذ بن معاذ، رواه عن سليمان التيمي به. رواه من طريقه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (10/ 340)، ومعاذ بن معاذ من الثقات الأثبات. إذن الراجح في رواية سليمان التيمي الوقف؛ لأن رواتها أوثق. وقد رواه موقوفًا عن أبي عثمان النهدي عن سلمان، ثابت وحميد وسعيد الجريري، رواه من طريقه البيهقي في "الأسماء والصفات" (156) من طريق حماد بن سلمة عنهم به. وهؤلاء ثقات مشهورون، لكن حماد إذا جمع بين الشيوخ ربما وهم. =

الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا (¬1) والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل (¬2). الثالث عشر: الإشارة إليه حسًا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وبما (¬3) يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزلة والفلاسفة في أعظم مَجْمع على وجه الأرض يرفع أصبعه إلى السماء، ويقول: "اللهم اشهد" (¬4)، ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه. الرابع عشر: التصريح بلفظ الأين الذي هو عند الجهمية بمنزلة متى في الاستحالة، ولا فرق عندهم بين اللفظين ألبتَّة، فالقائل: "أين اللَّه" و: "متى كان اللَّه" عندهم سواء، كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأعظمهم بيانًا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلًا [بوجه] (¬5): "أين اللَّه" (¬6) في غير موضع. ¬

_ = ورواه أبو حبيب السلمي -وترجمه البخاري في "الكنى" (ص 24) وابن أبي حاتم (4/ 2/ 359) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا- عن أبي عثمان به، ووقفه، أخرجه عبد الغني المقدسي في "الترغيب في الدعاء" (رقم 18). إذن: طرق الحديث المرفوعة فيها مقال، ما عدا طريق يحيى بن ميمون العطار أبي المعلى، ولعل الموقوف أصح، أما الحافظ في "الفتح" فجوَّد إسناده (11/ 143). وفي الباب عن أنس، رواه الحاكم (1/ 497 - 498) من طريق ابن أبي الدنيا، ذكره الحاكم بعد حديث سلمان قائلًا: له شاهد بإسناد صحيح من حديث أنس، وتعقبه الذهبي قائلًا: عامر بن يساف ذو مناكير. أقول: عامر هذا هو ابن عبد اللَّه بن يساف قال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه. وله طرق أخرى عن أنس كلها واهية. وفي الباب عن عدد من الصحابة ذكرهم الهيثمي في "مجمع الزوائد" (10/ 149) وفي حديثهم مقال لكن هذا يجعل للحديث أصلًا، واللَّه أعلم. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في المطبوع: "أسفل". (¬3) في (د): "وما". (¬4) هو في "صحيح مسلم" (1218) في (الحج): باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) الحديث رواه عن معاوية بن الحكم السلمي اثنان، ضمن حديث طويل جليل في باب الصفات وفيه إجابة الجارية: "في السماء" وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اعتقها فإنها مؤمنة" على النحو التالي: أولًا: عطاء بن يسار. وعنه هلال بن أبي ميمونة، ورواه عنه ثلاثة: 1 - يحيى بن أبي كثير. قال الذهبي في: "العلو للعلي العظيم" (16): رواه جماعة من الثقات عن يحيى بن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء بن معاوية السلمي. قلت: وقفت على ثمانية منهم، هم: الأول: حجاج الصَّوَّاف؛ كما عند ابن أبي شيبة في "الإيمان" مختصرًا (رقم 84)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساجد ومواضع الصلاة): (باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة، 1/ 381 - 382/ رقم 537 بعد 33)، وكتاب السلام، (باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان) (4/ 1749)، وأحمد في "المسند" (5/ 447، 448)، والنسائي في "السنن الكبرى"؛ كما في "تحفة الأشراف" (8/ 427)، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (رقم: 61)، وأبي داود في "السنن" (كتاب الصلاة): باب تشميت العاطس في الصلاة، (1/ 244/ رقم 930)، و (كتاب الأيمان والنذور): باب في الرقبة المؤمنة، (3/ 230/ رقم 3282)، و (كتاب الطب): باب في الخط وزجر الطير (4/ 16/ رقم 3909)، وابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 490)، والدارمي في "السنن" (1/ 354 - ولم يسق لفظه-)، وأبي عوانة في "المسند" (2/ 142 - 143)، وابن خزيمة في "الصحيح" (2/ 35 - 36/ رقم 859)، "التوحيد" (ص 122)، وابن حبان في "الصحيح"، (1/ 383 / رقم 165 مختصرًا، 6/ 124/ رقم 2248 - الإحسان)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 398 - 399، الأرقام: 938، 943، 947)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 212)، والبغوي في "شرح السنة" (3/ 237/ رقم 726)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 360 مختصرًا)، ولفظه: ". .، ومنا رجال يخطون. قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه؛ فذاك. الثاني: الأوزاعي؛ كما عند مسلم في "الصحيح" (1/ 383) -ولم يسق لفظه-، وأشار إليه في (4/ 1749)، وأبي عوانة في "المسند" (2/ 141)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الصلاة، باب الكلام في الصلاة، 3/ 14 - 18)، وابن حبان في "الصحيح" (6/ 22/ رقم 2247 - الإحسان)، وابن خزيمة في "الصحيح" (2/ 35 - 36/ رقم: 859)، و"التوحيد" (ص 121)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 398/ رقم 937 و 941 و 945)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 249)، و"الأسماء والصفات" (421). وأخرجه من طريقه مختصرًا دونه البخاري في "خلق أفعال العباد" (رقم 193)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 446)، والدارمي في "المسند" (1/ 353)، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (84). الثالث والرابع: حرب بن شداد وأبان بن يزيد العطار؛ كما عند الطيالسي في "المسند" (رقم 1105). ومن طريقه: البيهقي مختصرًا في "السنن الكبرى" (2/ 250)، و"الأسماء والصفات" (422)، وابن قدامة مختصرًا في "إثبات صفة العلو" (رقم 16). وأخرجه أبو عوانة في "المسند" (2/ 141 - 142) بسنده إلى أبان والأوزاعي، جميعًا عن يحيى به، وفيه اللفظ المذكور. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه مختصرًا دونه عن أبان وحده به: أحمد في "المسند" (5/ 448)، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (رقم 60)، و"الرد على بشر المريسي" (ص 95)، وابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 489)، ومن طريقه الحافظ أبو العلاء ابن العطار في "فتيا وجوابها في ذكر الاعتقاد وذم الاختلاف" (رقم 20)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 399/ رقم 939 و 942 و 946)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (رقم 653)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 63). الخامس: هشام الدستوائي؛ كما عند الحربي في "غريب الحديث" (2/ 720)؛ قال: حدثنا مسدد حدثنا يحيى (هو ابن سعيد القطان) عن هشام به مختصرًا. السادس: حسين المعلم؛ كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 401/ رقم 944)، وفيه اللفظ المذكور. السابع: همام بن يحيى؛ كما عند أحمد في "المسند" (5/ 448)، وفيه اللفظ المذكور. رواه عن يحيى، لكن بلفظ: ". . . فمن وافق علمه علم". الثامن: معمر، وعنه عبد الرزاق في "المصنف" (10/ 403/ رقم 19501)، وبإسناده إليه الطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 399/ رقم 940)، والبغوي في "شرح السنة" (12/ 181/ رقم 2359). ورواه آخر عن يحيى وهو من أقرانه، وهو: التاسع: أيوب السختياني، ولكن عن يحيى عن هلال عن معاوية به، ولم يذكر فيه عطاء بن يسار؛ كما عند الطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 402 - 403/ رقم 948) مختصرًا. وهذا حديث سمعه يحيى من هلال؛ إذ صرح بالتحديث عند أحمد، وابن خزيمة؛ فانتفت شبهة تدليسه، كما صرح كل من هلال بن أبي ميمونة وعطاء بالتحديث عند ابن خزيمة. 2 - فليح بن سليمان: رواه مختصرًا ولم يرد فيه السؤال المذكور، ولا جواب الجارية: البخاري في "خلق أفعال العباد" (رقم 530)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الصلاة): باب تشميت العاطس في الصلاة (1/ 245/ 931)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 446)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 249). 3 - مالك بن أنس -وذكر فيه السؤال وجواب الجارية- في "الموطأ" (2/ 776 - 777)، وعنه الشافعي في "الرسالة" فقرة: (242)، و"الأم" (5/ 280)، والنسائي في "التفسير" (2/ 255 - 256/ رقم 485)، و"السنن الكبرى" في (السير) و (النعوت)؛ كما في "تحفة الأشراف" (رقم 11378)، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 122)، والخطيب في "الموضح" (1/ 195)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 387). =

الخامس عشر: شهادته التي هي أصدق شهادة عند اللَّه وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال: "إن ربه في السماء" بالإيمان، وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر، وصَرح الشافعي -رضي اللَّه عنه- بأن هذا الذي وَصَفَته من أن ربها في السماء إيمان فقال في كتابه في (باب عتق الرقبة المؤمنة) وذَكَر حديث الأمة السوداء التي سوَّدت وجوه الجهمية وبيَّضت وجوه المحمدية: "فلمَّا وَصَفَت الإيمان قال: "اعتقها فإنها مؤمنة" (¬1) وهي إنما وصفت كون ربها في السماء، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ ¬

_ = ولكن قال مالك في روايته في اسم الصحابي: (عمر بن الحكم)؛ فتعقبه الشافعي؛ فقال في "الرسالة" (ص 76): "وهو معاوية بن الحكم، وكذلك رواه غير مالك، وأظن مالكًا لم يحفظ اسمه". قلت: رواه عن مالك على الصواب يحيى بن يحيى التميمي؛ وعنه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (رقم 62)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 387)، وقال: "ورواه يحيى بن يحيى عن مالك مجودًا". وانظر -غير مأمور-: "الجوهر النقي"، وشروح "الموطأ"، و"تحفة الأشراف" (رقم 11378)، وترجمة (معاوية بن الحكم) من "تهذيب الكمال" ومختصراته؛ ففيها كلام تفصيلي بخصوص هذا الشأن. ثانيًا: أبو سلمة بن عبد الرحمن: وعنه الزهري، وعنه جماعة؛ كما عند مسلم في "الصحيح" (كتاب السلام): باب تحريم الكهانة (4/ 1748 - 1749/ رقم 537 بعد 121)، وعبد الرزاق في "المصنف" (10/ 402/ رقم 19500)، وأحمد في "المسند" (3/ 443 و 5/ 447، 447 - 448، 449)، والطيالسي في "المسند" (رقم 1104)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 396 - 397/ رقم 933 - 936). والحديث صحيح، وقد شكك بعضهم في سؤال النبي - صلى اللَّه عليه وسلم الجارية، وجوابها، وإقراره -صلى اللَّه عليه وسلم- لها، بقولهم تارة: إن الحديث مضطرب، وبقولهم أخرى: إنها زيدت فيما بعد في "صحيح مسلم"! ومن زعم الاختلاف في متنه؛ فلم يصب لأنه احتج لما ذهب إليه بروايات أحسن مراتبها الضعف على أنها عند التحقيق لا تعد اختلافًا، وإنما أراد بعض أهل البدع التعلق بهذا لإبطال دلالة هذا الحديث على اعتقاد أهل السنة من أن اللَّه فوق خلقه، وكذلك تشكيك بعض أهل الزيغ في ثبوت هذا الحديث في "صحيح مسلم" هو أوهى من بيت العنكبوت، لمن علم وَفَهِمَ وأنصف، وشبهات أهل البدع لم تسلم منها آيات الكتاب، فكيف تسلم منها السنن؟! ومن الجدير بالذكر أن الذهبي محمد هذا الحديث في "العلو للعلي العظيم" (16) من الأحاديث المتواترة الواردة في العلو، وذكر طرفًا منه، وقال: "هذا حديث صحيح". (¬1) قطعة من الحديث السابق، وكلام الشافعي في "الأم" (5/ 266 - 267)، وعنه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 394 - 395).

فقَرَنَت بينهما في الذكر؛ فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان. السادس عشر: إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطَّلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبر به من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] فكذَب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء، وعند الجهمية لا فَرق بين الإخبار بذلك وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب؛ وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به وكذب موسى في إخباره بذلك؛ إذ من (¬1) قال عندهم: إن ربه فوق السماوات فهو كاذب؛ فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء، ولذلك سمَّاهم أئمة السنة: "فرعونية" قالوا: وهم شرٌّ من الجهمية؛ فإن الجهمية تقول (¬2): إن اللَّه في كل مكان بذاته، وهؤلاء عطلوه بالكلية، وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض، فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه؛ كان قولهم (¬3) خيرًا من قولهم. السابع عشر: إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه تردَّد بين موسى وبين اللَّه تعالى ويقول له موسى: ارجع إلى ربك فسله [التخفيف] (¬4)، فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى فيأمره بالرجوع إليه سبحانه، فيصعد إليه سبحانه ثم ينزل من عنده إلى موسى، عدة مرار (¬5). الثامن عشر: إخباره تعالى عن نفسه وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانًا جهرةً كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البَدْر (¬6) والذي تفهمه الأمم على ¬

_ (¬1) في (ق): "ومن". (¬2) في المطبوع: "يقولون". (¬3) في (ق): "قوله". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) رواه البخاري (3207) في (بدء الخلق): باب ذكر الملائكة، و (3887) في "مناقب الأنصار": باب المعراج، ومسلم (164) في (الإيمان): باب الإسراء برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى السماوات، من حديث أنس بن مالك عن صعصعة بن مالك. ورواه البخاري (349)، و (1636)، و (3342)، ومسلم (163)، من حديث أنس عن أبي ذر. ورواه البخاري (7517) في (التوحيد)، ومسلم (162) من حديث أنس نفسه. (¬6) رواه البخاري (806): (كتاب الأذان) باب فضل السجود، و (3437) (كتاب التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22)}، ومسلم (182) (كتاب الإيمان): باب معرفة طريق الرؤية، من حديث أبي هريرة.

اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المُقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة (¬1) محدودة غير مُفرطة في البعد فتمتنع الرؤية ولا (¬2) في القرب فلا تمكن الرؤية، لا تعقل الأمة (¬3) غير هذا، فإما أن يروه سبحانه من تحتهم -تعالى اللَّه-، أو مِنْ خَلفهم أو من أمامهم أو عن أيْمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم، ولا بد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقًا، وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث جابر الذي في "المسند" وغيره: "بينا أهل الجنة في نَعيمهم إذ سَطَع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبَّار قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلامٌ عليكم" ثم قرأ قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمتُه وبركتُه عليهم في ديارهم" (¬4) ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية أصلهم وصَرَّحوا بذلك، ورَكِبوا النَّفيين معًا، وصدَّق أهل السنة بالأمرين معًا وأقرّوا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذبًا بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة إذا بُسطت أفرادُها كانت ألفَ دليلٍ على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه؛ فترك الجهمية ذلك كله وردوه بالمتشابه من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ورده زعيمهم المتأخر بقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وبقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. ¬

_ (¬1) في (ك): "مشافهة". (¬2) في (ق): "من لا" وفوق من: "كذا". (¬3) في المطبوع: "الأمم". (¬4) رواه ابْنِ ماجه (184) في (المقدمة): باب فيما أنكرت الجهمية، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 208 - 209)، وفي "صفة الجنة" (رقم 91)، والبيهقي في "البعث والنشور" (رقم 448)، والآجري في "الشريعة" (ص 267 - ط القديمة و 2/ 1027 - 1028 رقم 615 - ط دار الوطن) و"الفوائد المنتخبة عن أبي شعيب" (ق 4) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 97) وأبو بكر الدينوري في "المجالسة" (5/ 362 - 363 رقم 2223)، والدارقطني في "الرؤية" (51)، وابن عدي (6/ 2039)، والعقيلي (2/ 274 - 275)، وابن أبي حاتم؛ كما في "تفسير ابن كثير" (3/ 583)، والبزار (2253) والبيهقي في "البعث والنشور" (رقم 448) وابن بلبان في "المقاصد السنية" (ص 374 - 375) واللالكائي في "السنة" (رقم 836)، كلهم من طرق عن أبي عاصم العَبَّاداني عبد اللَّه بن عبيد اللَّه عن الفضل الرقاشي عن محمد بن المنكدر عن جابر مرفوعًا به. =

ثم ردّوا تلك الأنواع كلها متشابهة، فسلَّطوا المتشابه على المحكم وردوه به، ثم ردوا المحكم متشابهًا؛ فتارة يحتجون به على الباطل وتارة يدفعون به الحق، ومن له أدنى بصيرة يعلم أنه لا شيء في النصوص أظهر ولا أبين مرادًا (¬1) من مضمون هذه النصوص فإذا كانت متشابهة فالشريعة كلها متشابهة، وليس فيها شيء محكم ألبتَّة، ولازم هذا القول لزومًا لا محيدَ عنه أن ترك الناس بدونها خير له من إنزالها إليهم، فإنها أَوْهمتهم وأفهمتهم غيرَ المراد، وأوقعتهم في اعتقاد الباطل ولم يتبين (¬2) لهم ما هو الحق في نفسه، بل أُحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولِهِم وأفكارهم ومقاييسهم؛ فنسأل [للَّه] (¬3) مثبِّت القلوب تبارك وتعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ إنه قريبٌ مجيب. ¬

_ = قال ابن الجوزي: هذا حديث موضوع على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ومدار طرقه كلها على الفضل بن عيسى الرقاشي، قال يحيى: كان رجل سوء، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 68): هذا إسناد ضعيف لضعف الفضل بن عيسى. ونحوه قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 98) بعد أن عزاه للبزار!! مع أنه في "سنن ابن ماجه" بلفظه. وضعفه الذهبي في "العلو" (رقم 99)، ونسبه ابن كثير للضياء المقدسي. قلت: الحديث له علتان: الأولى: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه أبو عاصم، قال فيه العقيلي: لا يتابع عليه، ولا يعرف إلا به. وقال الذهبي في "الميزان": واهٍ، واعظ زاهد إلا أنه قدري. الثانية: الفضل الرقاشي، قال فيه ابن عيينة: ليس أهلًا أن يروى عنه وقال سلام بن أبي مطيع: لو أن فضلًا ولد أخرس كان خيرًا له. وكان شعبة يشبهه بأبان بن أبي عياش، وقال ابن عدي: والضعف بَيّن على حديثه. أقول: فمثله ضعيفٌ جدًا على أقل حال، ولم أظفر بالحديث في "مسند أحمد" ولا في "أطرافه" ولا في "إتحاف المهرة" ولا عزاه له الهيثمي في "المجمع" وأخشى أن يكون عزو المصنف له وهمًا!! وقد استدرك السيوطي على ابن الجوزي، فساق له في "اللآلئ المصنوعة" (2/ 461) شاهدًا من حديث أبي هريرة عزاه لابن النجار في "تاريخه". أقول: وفيه سليمان بن أبي كريمة قال فيه ابن عدي (3/ 1112): وعامة أحاديثه مناكير، ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا. وانظر -غير مأمور-: "التعقبات على الموضوعات" (برقم 281 - بتحقيقي). (¬1) في المطبوع: "دلالة". (¬2) في (ق) و (ك): "ولم يبين". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[رد النصوص في مدح الصحابة، ورد الخوارج النصوص في موالاة المؤمنين]

[رد النصوص في مدح الصحابة، ورد الخوارج النصوص في موالاة المؤمنين] المثال الثالث عشر: ردَّ الرافضة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة المعلومة عند خاص الأمة وعامتها بالضرورة في مدح الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والثناء عليهم ورضاء اللَّه عنهم ومغفرته لهم وتجاوزه عن سيئاتهم ووجوب محبة الأمة واتباعهم لهم واستغفارهم لهم واقتدائهم بهم بالمتشابه من قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض" (¬1) ونحوه. كما ردوا المحكم الصريح من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم، كفعل إخوانهم من الخوارج حين ردّوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين ومحبتهم وإن ارتكبوا بعضَ الذُّنوب التي تقع مكفَّرة بالتوبة النصوح، والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المُكفِّرة، ودعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم، وبالامتحان في البَرْزخ وفي موقف القيامة، وبشفاعة من يأذن اللَّه [له بالشفاعة] (¬2)، وبصدق التوحيد، وبرحمة أرحم الراحمين؛ فهذه عشرة أسباب (¬3) تمحقُ (¬4) أَثَر الذنوب، فإن عَجِزت هذه الأسباب عنها فلا بد من دخول النار، ثم يخرجون منها؛ فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد، ورد المحكم من (¬5) أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم التي (¬6) يحتمل أن يكونوا قصدوا بها طاعة اللَّه فاجتهدوا فأدَّاهم اجتهادهم إلى ذلك فحصلوا فيه على الأجر المفرد، وكان حظ أعدائهم منه تكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4403) في (المغازي): باب حجة الوداع، و (6166) في (الأدب): باب قول الرجل: ويلك، و (6785) في (الحدود): باب ظهر المؤمن حمى، و (6868) في (الديات): باب قول اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا. . .} و (7077) في (الفتن): باب "لا ترجعوا بعدي كفارًا"، ومسلم (66) في "الإيمان": باب معنى قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ترجعوا بعدي كفارًا"، من حديث ابن عمر. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. (¬2) في (ق) و (ك): "في الشفاعة له". (¬3) ذكرها مفصّلةَ مدللّةً شيخ الإسلام ابن تيمية في "منهاج السنة النبوية" (6/ 205 - 239) و"مجموع الفناوى" (7/ 487 - 501) وأجملها في "مجموع الفتاوى" (4/ 432). (¬4) في (ق) و (ك): "تمحوا". (¬5) في (ق)، و (ن) و (ك): "إلى"، وقال في هامش (ق): "لعله: وردوا المحكم من أفعالهم". (¬6) في (ق) و (ك): "الذي".

[رد نصوص وجوب الطمأنينة في الصلاة]

وإن لم يكونوا قصدوا ذلك كان غايتهم أن يكونوا قد أذنبوا، ولهم من الحسنات والتوبة وغيرها ما يرفع موجب الذنب، فاشتركوا هم والرَّافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها؛ فكفَّروهم وخَرَجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المُحكم، وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى، وباللَّه التوفيق. [رد نصوص وجوب الطمأنينة في الصلاة] المثال الرابع عشر: رد المحكم الصريح الذي لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا من وجوب الطمأنينة وتوقف إجزاء الصلاة وصحتها عليه، كقوله: "لا تُجزئ صلاة لا يقيمُ الرجل فيها صُلْبَه من ركوعه وسجوده" (¬1)، وقوله لمن تركها: "صلِّ فإنك لم تصلِّ" (¬2)، وقوله: "ثم اركع حتى تطمئنّ راكعًا" (¬3) فنفى إجزاءها بدون الطمأنينة ونفى مُسمَّاها الشرعي بدونها وأمر بالإتيان بها، فرد هذا المحكم الصريح بالمتشابه من قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬4) [الحج: 77]. [رد نصوص تعيين التكبير في الصلاة] المثال الخامس عشر: رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول (¬5) في الصلاة بقوله: "إذا قصت إلى الصلاة فكَبِّر" (3)، وقوله: "تحريمها التكبير" (¬6)، ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 119 و 122)، وأبو داود (855) في (الصلاة): باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والترمذي (265) في (الصلاة): باب ما جاء فيمن لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والنسائي (2/ 183) في (الافتتاح): باب إقامة الصلب في الركوع، و (2/ 214) باب إقامة الصلب في السجود، وابن ماجه (870) في (الإقامة): باب الركوع في الصلاة، والحميدي (454)، وعبد الرزاق (2856)، والطيالسي (613)، والدارمي (1/ 304)، وابن خزيمة (591 و 592 و 666)، وابن الجارود (195)، والطبراني في "الكبير" (17/ 578 - 585)، والدارقطني (1/ 348)، والبيهقي (2/ 88)، من حديث أبي مسعود البدري وهو حديث صحيح. (¬2) هذا في حديث المسيء صلاته رواه البخاري (757) و (793) و (6251) و (6252) و (6667) ومسلم (397) من حديث أبي هريرة. (¬3) هو في حديث المسيء صلاته الذي مضى تخريجه قبل حديث. (¬4) انظر: "كتاب الصلاة" (ص: 87) وما بعدها، و"مدارج السالكين" (3/ 512 - 520). (¬5) في (ك): "بالدخول". (¬6) ورد من حديث علي وأبي سعيد وعبد اللَّه بن زيد وابن عباس: =

وقوله: "لا يقبل اللَّهُ صلاةَ أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلَة ويقول: اللَّه أكبر" (¬1) وهي نصوص في غاية الصحة فردَّت بالمتشابه من قوله: ¬

_ = أما حديث علي: فرواه أحمد في "مسنده" (1/ 123 و 179)، والشافعي (1/ 70)، وعبد الرزاق في "المصنف" (2539)، والدارمي (1/ 175)، وأبو داود (61) في (الطهارة): باب فرض الوضوء، و (618) في (الصلاة): باب الإمام يحدث بعدما يرفع رأسه من آخر الركعة، والترمذي (3) في (الطهارة): باب مفتاح الصلاة الطهور، وابن ماجه (275) في (الطهارة): باب مفتاح الصلاة الطهور، والبزار (633)، وأبو يعلى (616)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1448 و 6/ 2405)، والدارقطني (1/ 360 و 379)، والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 273)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 197)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 372)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (2/ 15 و 173 و 253 - 254 و 379) من طرق عن سفيان الثوري عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي مرفوعًا به وأوله: "مفتاح الصلاة الطهور". وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في الباب وأحسن. قال ابن حجر في "الفتح" (2/ 322): إسناده صحيح. أقول: عبد اللَّه بن محمد بن عقيل لا يرتقي حديثه عن درجة الحسن، إلا أن الحديث روي مرسلًا، فقد عزاه ابن دقيق العيد في "الإمام"؛ كما في " نصب الراية" (1/ 307) للطبراني والبيهقي من طريق أبي نعيم عن سفيان عن ابن عقيل عن ابن الحنفية عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. أقول: وهذا لا يُعل رواية الثقات عن سفيان. حديث أبي سعيد: رواه الترمذي (238) في (الصلاة): باب تحريم الصلاة وتحليلبها، وابن ماجه (276)، وابن أبي شيبة (1/ 229)، والدارقطني (1/ 366)، والعقيلي (2/ 229)، والبيهقي (2/ 85 و 380)، والحاكم (1/ 132) من طريق طريق بن شهاب عن أبى سفيان السعدي عن أبي نضرة عنه مرفوعًا عنه. وقال الترمذي: حديث علي أجود إسنادًا، أو أصح من حديث أبي سعيد. وصححه الحاكم على شرط مسلم!! وضعفه العقيلي بأبي سفيان السعدي، ونقل تضعيفه عن أحمد وابن معين، وضعفه ابن حجر في "التلخيص" (1/ 216). وانظر باقي الطرق في "نصب الراية" (1/ 308)، و"التلخيص" (1/ 216). (¬1) أقرب لفظ لهذا الحديث: رواه الطبراني في "معجمه الكبير": (4526) حدثنا علي بن عبد العزيز حدثنا حجاج حدثنا حماد (بن سلمة) حدثنا إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي طلحة عن علي بن يحيى بن خلاد عن عمِّه (رفاعة بن رافع). . . فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنه لا تتم صلاة لأحد من الناس حتى يتوضأ فيضع الوضوء مواضعه ثم يقول: اللَّه أكبر"، ورواه الحاكم (1/ 242) من طريق عفان عن حماد ولم يسق لفظه، وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن أخشى أن يكون علي بن يحيى لم يسمع من عَمِّ أبيه رفاعة، فإن عليًا مات سنة =

[رد نصوص تعيين فاتحة الكتاب]

{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬1) [الأعلى: 15]. [رد نصوص تعيين فاتحة الكتاب] المثال السادس عشر: رد النصوص المحكمة الصحيحة الصريحة في تعيين قراءة فاتحة الكتاب فَرْضًا (¬2) بالمتشابه من قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، ¬

_ = (129) ورفاعة مات في أول خلافة معاولة، بل أكاد أجزم أنه لم يسمع منه، ونقل الحاكم عن البخاري في "التاريخ الكبير" أن حماد بن سلمة لم يُقمه. وقال أبو حاتم في "العلل" (1/ 82): "وهم حماد بن سلمة". واعلم أن حديث رفاعة هذا هو في المسيء صلاته، وقد وردت العبارة هذه بنحوها في بعض طرقه، وقد اختلفت الروايات فبعضها تقول: عن علي عن رفاعة، وبعضها: عن علي بن يحيى عن أبيه عن عَمِّه. فقد رواه أبو داود (858 و 859 و 860) في (الصلاة): باب صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، والنسائي (2/ 193) في (الافتتاح): باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع و (3/ 225) باب الرخصة في ترك الذكر السجود، وابن الجارود (194)، والدارقطني (1/ 96)، والحاكم (2/ 242)، والطبراني في "الكبير" (4520 و 4521 و 4522 و 4523 و 4524 و 4525 و 4528). من طرق عن علي بن يحيى بن خلاد بن رافع عن أبيه عن عمّه رفاعة. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. ورواه أبو داود (861)، وابن خزيمة (545)، والطبراني (4527)، والحاكم (1/ 243)، والبيهقي (2/ 380)، والترمذي (302) من طريق إسماعيل بن جعفر، وسعيد بن أبي هلال عن يحيى بن علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن جده عن رفاعة. هذا نفس الطريق السابق. والمقصود بجده عم أبيه المذكور هناك. ورواه أبو داود (857) من طريق إسحاق، وأحمد (4/ 340)، والطبراني (4529) من طريق محمد بن عمرو، والطبراني (4530) من طريق عبد اللَّه بن عون ثلاثتهم عن علي عن رفاعة، وهذا منقطع بلا شك. قال أبو حاتم في "العلل" (1/ 82): والصحيح عن أبيه عن عمّه عن رفاعة. قال البيهقي (2/ 373): والصحيح رواية من تقدم (أي عن أبيه عن عمّه عن رفاعة) وافقهم إسماعيل بن جعفر عن يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن جده رفاعة، وقصر بعض الرواة عن إسماعيل بنسب يحيى، وبعضهم بإسناده فالقول قول من حفظ. (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (2/ 195 - 196)، و"زاد المعاد" (1/ 51)، و"تهذيب السنن" (1/ 49 - 50) مهم. (¬2) أخرج البخاري في "صحيحه" (كتاب الأذان): باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها (2/ 236 - 237/ رقم 756)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصلاة): باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة (1/ 295/ رقم 394) عن عبادة بن الصامت مرفوعًا، ولفظه: "لا صلاة لمن لم يقم بفاتحة الكتاب".

[رد نصوص وجوب التسليم]

وليس ذلك في الصلاة، وإنما هو بدل عن قيام الليل (¬1)، وبقوله [للأعرابي] (¬2): "ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن" (¬3) وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة وأن يكون الأعرابي لا يحسنها، وأن يكون لم يسئ في قراءتها، فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها؛ فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه فلا يترك له المحكم الصريح (¬4). [رد نصوص وجوب التسليم] المثال السابع عشر: رد المحكم الصريح من توقف الخروج من الصلاة على التسليم كما في قوله: "تحليلها التسليم" (¬5)، وقوله: "إنما يكفي أحدكم أن يُسلِّم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله: السلامُ عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬6) فأخبر أنه لا يكفي غير ذلك فرد بالمتشابه من قول ابن مسعود: "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" (¬7) وبالمتشابه من عدم أمره للأعرابي بالسلام. [رد نصوص وجوب النية] المثال الثامن عشر: رد المحكم الصريح في اشتراط النية لعبادة الوضوء والغسل كما في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [حُنَفَاءَ] (¬8)} [البينة: ¬

_ (¬1) قال في هامش (ق): "لعله: وإنما هو في قيام الليل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬3) هو في حديث المسيء صلاته الذي مضى تخريجه. (¬4) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 94). (¬5) سبق تخريجه قريبًا. (¬6) رواه مسلم (431) في (الصلاة)؛ باب الأمر بالسكون في الصلاة، من حديث جابر بن سمرة لكن عنده: "إنما يكفي أحدكم. . . ثم يسلم على أخيه من على يمينه وشماله" هكذا مختصرًا. ورواه الشافعي في "مسنده" (1/ 98)، وعبد الرزاق (3135)، والحميدي (896)، وأحمد (5/ 86 و 88 و 102 و 107)، وأبو داود في (الصلاة) (998 و 999): باب في السلام، والنسائي (3/ 4 - 5) في (السهو): باب السلام بالأيدي في الصلاة، وابن خزيمة (733)، وابن حبان (1880 و 1881)، والطبراني في "الكبير" (1837)، والبغوي (699) من طرق عن مِسْعر عن عبيد اللَّه بن القبطية عن جابر مرفوعًا مطولًا باللفظ الذي ذكره ابن القيم، ومختصرًا كلفظ مسلم وإسناده صحيح على شرط مسلم. وما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬7) سبق تخريجه. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

5]، وقوله: "وإنما لامرئ ما نوى" (¬1) وهذا لم ينو رفع الحَدَث فلا يكون له بالنص؛ فردوا هذا بالمتشابه من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ولم يأمر بالنية، قالوا: فلو أوجبناها بالسنة لكان زيادة على نص القرآن فيكون نسخًا، والسنة لا تنسخ القرآن؛ فهذه ثلاث مقدمات: إحداها: أن القرآن لم يوجب النية. الثانية: أن إيجاب السنة لها نسخ للقرآن. الثالثة: أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز. وبنوا على هذه المقدمات إسقاط كثير مما صَرَّحت السنة بإيجابه كقراءة الفاتحة والطمأنينة وتعيين التكبير للدخول في الصلاة والتسليم للخروج منها. ولا يُتصوَّر صِدْق المقدِّمات الثلاث (¬2) في موضع واحد أصلًا، بل إما أن تكون كلها كاذبة أو بعضه؛ فأما آية الوضوء فالقرآن قد نبَّه على أنه لم يكتف من طاعات عباده إلا بما أخلصوا له فيه الدين، فمن لم ينو التقرب إليه جملة لم يكن ما أتى به طاعة ألبتة؛ فلا يكون معتدًا به (2)، مع أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إنما يَفهم المخاطب منه غسل الوجه وما بعده لأجل الصلاة كما يفهم من قوله: "إذا واجهت الأمير فترجل، وإذا دخل الشتاء فاشتر الفرو" (¬3) ونحو (¬4) ذلك؛ فإن لم يكن القرآن قد دل على النية ودلت عليها السنة لم يكن وجوبها ناسخًا للقرآن وإن كان زائدًا عليه، ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخًا له لبطلت أكثر سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودفع في صدورها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثيرة، منها: (كتاب بدء الوحي) باب كيف كان بدء الوحي (1/ 9/ رقم 1)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الإمارة): باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات" (3/ 1515/ رقم 1907)، والترمذي في "الجامع" (أبواب فضائل الجهاد): باب ما جاء فيمن يقاتل رياء (4/ 179/ رقم 1647)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطلاق): باب فيمن عني به الطلاق والنيات (2/ 651/ رقم 2201)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطهارة): باب النية في الوضوء (1/ 58)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الزهد): باب النية (2/ 1413/ رقم 4227)، وأحمد في "المسند" (1/ 25، 43) من حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، ولم يصح إلا من حديثه. ووقع في (ن): "وإنما لكل امرئ ما نوى". (¬2) سقطت من (ك) و (ق). (¬3) في (ن) و (ق): "فاشتروا الفرو"!. (¬4) في (ك): "أو نحو".

وإعجازها، وقال القائل: هذه زيادة على ما في كتاب اللَّه فلا تُقبل ولا يعمل بها، وهذا بعينه هو الذي أخبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سيقع وحَذَّر منه كما في "السنن" من حديث المِقدام بن مَعْديكرب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ألا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعانَ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما (¬1) وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه وما وجدتم فيه من حَرَام فحرِّموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة مال المعاهد" وفي لفظ: "يوشك أن يقعد الرجل (¬2) على أريكته فَيُحَدَّثُ بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب اللَّه، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حَرَّمناه، وإن ما حَرَّم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما حرم اللَّه" (¬3). ¬

_ (¬1) في (ق): "ما". (¬2) زاد هنا في (ك) و (ق): "منكم". (¬3) اللفظ الأول: أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب السنة): باب في لزوم السنة (4/ 200/ رقم 4604)، وأحمد في "المسند" (4/ 130 - 131)، والآجري في "الشريعة" (ص 51)، وابن نصر المروزي في "السنة" ص (116) والطبراني في "الكبير" (20/ رقم 670)، والبيهقي في "الدلائل" (6/ 549)، والخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (1/ 89)، وفي "الكفاية" (ص 9)، والحازمي في "الاعتبار" (ص 7)، وابن عبد البر في "التمهيد" (1/ 149 - 150)، والهروي في "ذم الكلام" (73) من طريق حريز بن عثمان عن عبد اللَّه بن أبي أوفى الجُرَشي عن المقدام بن معديكرب مرفوعًا، وإسناده صحيح. وتابع حريزًا مروان بن رؤبة التغلبي؛ كما عند أبي داود في "السنن" (كتاب الأطعمة): باب النهي عن أكل السباع (3/ 355/ رقم 3804 - مختصرًا)، والدارقطني في "السنن" (4/ 287)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 97 - موارد)، وابن نصر المروزي في "السنة" (ص 116)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 89)، ابن رؤبة مقبول، وقد توبع. أما اللفظ الثاني: فقد أخرجه الترمذي في "الجامع" (أبواب العلم): باب ما نُهي عنه أن يقال عند حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (5/ 38/ رقم 2664)، وابن ماجه في "السنن" (المقدمة): باب تعظيم حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتغليظ على من عارضه (1/ 6/ رقم 12)، وأحمد في "المسند" (4/ 130 - 131)، والدارمي في "السنن" (1/ 144)، والدارقطني في "السنن" (4/ 286)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 76)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 88)، و"الكفاية" (8 - 9)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 2343)، والحازمي في "الاعتبار" (ص 245)، والسمعاني في "أدب الإملاء والاستملاء" (ص 3)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 72) من طريق معاوية بن صالح عن الحسن بن جابر عن المقدام بن معديكرب، وذكره. والحسن بن جابر وثقه ابن حبان، وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول"، وفي الباب عن جماعة آخرين منها: =

[السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه]

قال الترمذي: حديث حسن، وقال البيهقي: إسناده صحيح، وقال صالح بن موسى، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني قد خَلَّفتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب اللَّه وسنتي، ولن يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوْض" (¬1) فلا يجوز التفريق بين ما جَمع اللَّه بينهما ويُرد أحدهما بالآخر، بل سكوته (¬2) عما نطق به ولا يمكن أحدًا يطرد ذلك ولا الذين أصَّلوا هذا الأصْلَ، بل قد نقضوه في أكثر من ثلاث مئة موضع منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه. [السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه] والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه؛ فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها. الثاني: أن تكون بيانًا لما أريد بالقرآن وتفسيرًا له. الثالث: أن تكون مُوجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو مُحرِّمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تُعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها (¬3) زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تجبُ طاعتُه فيه، ولا تحلُّ ¬

_ = ما أخرجه الحميدي في "المسند" (551)، ومن طريقه الحاكم في "المستدرك" (1/ 108 - 109)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 71)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 2341)، عن ابن المنكدر مرسلًا. وانظر سائر ما ورد في الباب في مجلتنا "الأصالة" (عدد 13 ص 102 - 116). (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل" (4/ 1386 - 1387)، والدارقطني في "سننه" (4/ 245)، والحاكم (1/ 93)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 250 - 251)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 94)، والبيهقي في "سننه" (10/ 114)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (رقم 89 و 90)، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (رقم 601) كلهم من طرق عن صالح بن موسى به. وهذا إسناد ضعيف جدًا، صالح بن موسى الطلحي هذا قال ابن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك، وقال أبو حاتم: منكر الحديث جدًا عن الثقات، وقال ابن عدي! عامّة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد. وصح نحوه كما تقدم. (¬2) في (ق) و (ك): "بين مسكوتة". (¬3) في (ن): "فكان منها"!.

معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب اللَّه، بل امتثال لما أمر اللَّه به من طاعة رسوله، ولو كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق (¬1) القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة [خاصة] (¬2) تختص به، وقد قال اللَّه تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وكيف يمكن أحدًا من أهل العلم أن لا يقبل حديثًا زائدًا على كتاب اللَّه؛ فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عَمَّتها ولا على خالتها (¬3)، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يَحرُم من النَّسب (¬4)، ولا حديث خِيار الشَّرط (¬5)، ولا أحاديث الشفعة (¬6)، ولا حديث الرهن في الحضر (¬7) مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجَدَّة (¬8)، ولا حديث تخيير ¬

_ (¬1) في (ك): "يوافق". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه البخاري (5109 و 5110) في (النكاح): باب لا تنكح المرأة على عمتها، ومسلم (1408) في (النكاح): باب تحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها في النكاح، من حديث أبي هريرة، ورواه البخاري (5108) من حديث جابر. (¬4) رواه البخاري (2645) في (الشهادات): باب الشهادة على الأنساب، و (5100) في (النكاح): باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، ومسلم (1447) في (الرضاع): باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، من حديث ابن عباس. ورواه البخاري (2646) في (الشهادات)، و (3105) في (فرض الخمس): باب ما جاء في بيوت أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (5099)، ومسلم (1444) في (الرضاع): باب يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة، من حديث عائشة. (¬5) رواه البخاري (2107) في (البيوع): باب كم يجوز الخيار، و (2109) باب إذا لم يوقت الخيار هل يجوز البيع، و (2111) باب "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، و (2112) باب إذا خير أحدهما صاحبه بعد البيع فقد وجب البيع، و (2113) باب إذا كان البائع بالخيار هل يجوز البيع، ومسلم (1531) في (الببوع): باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، من حديث ابن عمر. (¬6) أحاديث الشفعة تقدم عدد كبير منها، واللَّه الموفق. (¬7) أحاديث الرهن في الحضر كثيرة منها: حديث أنس بن مالك: رواه البخاري (2069) في (البيوع): باب شراء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسيئة، و (2508) في (الرهن): باب الرهن في الحضر، ولفظه: "ولقد رهن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- درعًا له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه شعيرًا لأهله". وحديث عائشة: رواه البخاري (2068)، وأطرافه كثيرة هناك، ومسلم (1603) في (المساقاة): باب الرهن وجوازه في الحضر والسفر. (¬8) سبق تخريجه.

الأمة إذا أعتقت تحت زوجها (¬1)، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة (¬2)، ولا حديث وجوب الكفارة على مَنْ جامع في نهار رمضان (¬3)، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها (¬4) مع زيادتها على ما في القرآن من العدة، فهلَّا قلتم: إنها نَسْخٌ للقرآن وهو لا يُنسخ بالسنة، وكيف أوجبتم الوتر مع أنه زيادة محضة على القرآن بخبر مختلفٍ فيه؟ وكيف زدتم على كتاب اللَّه فجوزتم الوضوء بنبيذ التَّمر بخبرٍ ضعيف؟ (¬5) وكيف زدتم على كتاب اللَّه فشرطتم في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم بخبر لا يصح ألبتَّة (¬6) وهو زيادة محضة على القرآن؟ وقد أخذ الناس بحديث: "لا يرث المسلمُ الكافِرَ ولا الكافر المسلم" (¬7) ¬

_ (¬1) هو في حديث بريدة: رواه البخاري (456) في (الصلاة: باب ذكر البيع والشراء على المنبر في المسجد، وأطرافه كثيرة جدًا تنظر هناك، ومسلم (1504 بعد 9) و (10)، و (11) في (العتق): باب إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة. (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (304) في (الحيض): باب ترك الحائض الصوم، و (1951) في (الصوم): باب الحائض تترك الصوم والصلاة، من حديث أبي سعيد الخدري وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ ". ورواه مسلم (335) في (الحيض): باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، من حديث عائشة قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. (¬3) رواه البخاري (1936) في (الصوم): باب إذا جامع في رمضان، وأطرافه كثيرة تنظر هناك، ومسلم (1111) في (الصيام): باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، من حديث أبي هريرة. (¬4) منها حديث أم حبيبة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: رواه البخاري (1280 و 1281) في (الجنائز): باب إحداد المرأة على غير زوجها، و (5334) في (الطلاق): باب مراجعة الحائض، و (5339) باب الكحل للحادة، و (5345) باب {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا. . .}، ومسلم (1486) في (الطلاق): باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة. وحديث أم سلمة: رواه البخاري (5336 و 5338 و 5706)، ومسلم (1488). وحديث زينب بنت جحش: رواه البخاري (1282 و 5335)، ومسلم (1487). وحديث عائشة وحفصة: رواه مسلم (1490)، واختلف فيه؛ فمرة قيل: حفصة وعائشة ومرة قيل: عن حفصة ومرة: عن بعض أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وحديث أم عطية: رواه البخاري (1278 و 1279 و 5340 و 5343)، ومسلم (2/ 1127) في (الطلاق). (¬5) مضى تخريجه. وانظر تضعيف المؤلف -رحمه اللَّه- لهذا الحديث في "تهذيب السنن" (3/ 248). (¬6) سيأتي تخريجه. (¬7) أخرجه البخارى في "الصحيح" (كتاب الفرائض): باب لا يرث المسلم الكافر (12/ 50/ =

وهو زائد على القرآن، وأخذوا كلهم بحديث توريثه -صلى اللَّه عليه وسلم- بنت الابن السدس مع البنت (¬1) وهو زائد على ما في القرآن (¬2)، وأخذ الناس كلهم بحديث استبراء المسبية بحيضة (¬3)، وهو زائد على ما في كتاب اللَّه، وأخذوا بحديث: "مَنْ قَتَلَ قتيلًا فله سَلَبُه" (¬4) وهو زائد على ما في القرآن من قسمة الغنائم، وأخذوا كلهم بقضائه -صلى اللَّه عليه وسلم- الزائد على ما في القرآن من أنّ أَعيان بني الأبوين يتوارثون دون بني العِلَّات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه (¬5)، ولو تتبعنا هذا لطال ¬

_ = رقم 6764)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الفرائض): باب منه (3/ 1233/ رقم 1614)، أبو داود في "السنن" (كتاب الفرائض): باب هل يرث المسلم الكافر (3/ 326/ رقم 2909)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الفرائض): باب إبطال الميراث بين المسلم والكافر (4/ 423/ رقم 2107)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الفرائض): باب ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك (2/ 911/ رقم 2729)، وأحمد في "المسند" (5/ 200)، ومالك في "الموطأ" (2/ 519)، وغيرهم من حديث أسامة بن زيد -رضي اللَّه عنه-. وانظر في أن اختلاف الدين من موانع الإرث: "الصواعق المرسلة" (1/ 145)، و"أحكام أهل الذمة" (2/ 417، 442)، وفي "فهرسه" (2/ 379) جملة من مسائل التوريث بين المسلم والكافر، والإشراف (4/ 683 مسألة رقم 1944 - بتحقيقي). (¬1) رواه البخاري (6736) في (الفرائض): باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، و (6742) في باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة، من حديث ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. (¬2) في (ق): "على ما في كتاب اللَّه". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) رواه البخاري (3142) في (فرض الخمس): باب من لم يُخمِّس الأسلاب، و (4321 و 4322) في (المغازي): باب قول اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ. . .}، و (7170) في (الأحكام): باب الشهادة تكون عند الحاكم في ولاية القضاء أو قبل ذلك للخصم، ومسلم (1751) في (الجهاد والسير): باب استحقاق القاتل سلب القتيل، من حديث أبي قتادة. وفي الباب عن سلمة بن الأكوع وغيره. وانظر: "زاد المعاد" (2/ 194 - 195، 196 و 3/ 216، 217 - 218). (¬5) رواه الحميدي (55)، وأحمد في "مسنده" (1/ 79 و 131 و 144)، والترمذي (2094 و 2095) في (الفرائض): باب ميراث الإخوة من الأب والأم، وابن ماجه (2739) في (الفرائض): باب ميراث العصبة، والطيالسي (179)، وأبو يعلى (361 و 625)، وابن أبي شيبة (10/ 160 و 11/ 402 - 403)، وعبد الرزاق (19003)، والدارقطني في "سننه" (4/ 86 - 87)، وفي "علله" (4/ 70)، وابن الجارود (950)، والحاكم (4/ 336 و 342)، والبيهقي (6/ 232 و 267)، والبزار في "مسنده" (رقم 839) كلهم من طرق عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي. والحارث هو الأعور، ضعيف الحديث. =

جدًا؛ فسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجلُّ في صدورنا وأعظم وأفرضُ علينا أن لا نقبلها إذا كانت زائدة على ما في القرآن، بل على الرأس والعينين، [ثم على الرأس والعينين] (¬1) وكذلك فَرْضٌ على الأمة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد واليمين (¬2) وإن كان زائدًا على ما في القرآن، وقد أخذ به أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجمهور التابعين والأئمة (¬3)، والعجب ممن يرده لأنه زائد على ما في كتاب اللَّه، ثم يقضي بالنكول ومعاقد القُمُط ووجوه الآجُرِّ في الحائط وليست في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله، وأخذتم أنتم وجمهور الأمة بحديث: "لا يُقاد الوالد بالولد" (¬4) مع ضعفه وهو زائد على ما في القرآن، وأخذتم أنتم والناس بحديث أخذ الجزية من المجوس (¬5) وهو زائد على ما في القرآن، وأخذتم مع سائر الناس بقطع رجل السارق في المرة الثانية (¬6) مع زيادته على ما في ¬

_ = قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث أبي إسحاق عن الحارث عن علي، وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث، والعمل على هذا عند أهل العلم. أقول: والحارث هذا على ضعفه؛ كان عالمًا بالفرائض. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) روي هذا الحكم عن نيف وعشرين صحابيًا -منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والمغيرة- وسعد بن عبادة وزيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص وأبو سعيد الخدري وبلال بن الحارث وأبيّ وأم سلمة وأنس، وأبو هريرة وجابر وسُرَّق وعمارة بن حزم. . . وغيرهم من الصحابة والتابعين. انظر: "سنن الدارقطني" (رقم 4394 - 4398، 4402 - 4406) وتعليقي عليه، "شرح السنة" (10/ 103) للبغوي، "سنن البيهقي" (10/ 171) "نيل الأوطار" (8/ 237)، "تنقيح التحقيق" (3/ 552) "التلخيص الحبير" (4/ 206)، "تهذيب سنن أبي داود" (4/ 192)، "الفتح الرباني" (15/ 216) للساعاتي، "النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود" (1/ 138 وما بعدها) "وسائل الإثبات" (1/ 186)، "الإشراف" (4/ 540 - 542) للقاضي عبد الوهاب المالكي وتعليقي عليه. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) ورد من حديث جابر بن عبد اللَّه وعصمة بن مالك، وأبي هريرة، والحارث بن حاطب اللخمي، وعبد اللَّه بن زيد الجهني. * أما حديث جابر: فرواه أبو داود (4410) في (الحدود): باب في السارق يسرق مرارًا، والنسائي (2/ 90) في (قطع يد السارق): باب قطع اليدين والرجلين من السارق، والبيهقي (8/ 272) من طريق مصعب بن ثابت عن محمد بن المنكدر عنه. قال النسائي: هذا حديث منكر، ومصعب بن ثابت ليس بالقوي في الحديث. وقد تابعه هشام بن عروة، وله عنه ثلاثة طرق أخرجها الدارقطني (3/ 181)، والثلاثة فيها ضعفاء؛ كما بينه الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 372). =

القرآن، وأخذتم أنتم والناس بحديث النهي عن الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال (¬1) وهو زائد على ما في القرآن، وأَخذت الأُمّةُ بأحاديث الحضانة (¬2) ¬

_ = * وأما حديث عصمة بن مالك: فرواه الدارقطني (3/ 137)، والطبراني في "الكبير" (17/ 483) من طريق الفضل بن المختار عن عبيد اللَّه بن موهب عنه. وضعفه الزيلعي (3/ 373)، والحافظ في "التلخيص الحبير" (4/ 68)، والهيثمي في "المجمع" (6/ 275)، وعبد الحق الإشبيلي قال: هذا لا يصح للإرسال، وضعف الإسناد -كما في "نصب الراية"-. وقال الذهبي: يشبه أن يكون موضوعًا، "الميزان" (3/ 359). وانظر: تعليقي على "سنن الدارقطني" (3219). * وأما حديث أبي هريرة: فرواه الدارقطني (3/ 181) من طريق الواقدي، وهو متروك. ورواه الشافعي كما في "التلخيص الحبير" (4/ 68) عن بعض أصحابه. وانظر: "معرفة السنن والآثار" (12/ 142)، و"تنقيح التحقيق" (15/ 112 - ط قلعجي) للذهبي، تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3340). * وأما حديث الحارث بن حاطب اللخمي: فرواه النسائي في "سننه" (2/ 89)، والطبراني في "معجمه" (3408)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (784)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 382)، والبيهقي (8/ 272) من طريق حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد به. وقال الحاكم: صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي فقال: بل منكر. ورواه الطبراني في "الكبير" (3409)، وابن أبي عاصم (785) من طريق خالد الحذاء عن يوسف بن يعقوب عن محمد بن حاطب، أن الحارث بن حاطب (هكذا عند الطبراني)، وعند ابن أبي عاصم: محمد بن حاطب أو الحارث، وعزاه هكذا الهيثمي في "المجمع" (6/ 277) لأبي يعلى، ولم أجده في المطبوع، وقال: ورجاله ثقات إلا أني لم أجد ليوسف بن يعقوب سماعًا من أحد من الصحابة. * وأما حديث عبد اللَّه بن زيد الجهني: فرواه أبو نعيم في "الحلية" (2/ 6)، وقال: تفرد به حرام بن عثمان، وهو من الضعف بالمحل العظيم، بل اتهم بالكذب. * وفي الباب مرسل، رواه أبو داود في "المراسيل" (247)، وعبد الرزاق (18773)، وابن أبي شيبة (9/ 511)، والبيهقي (8/ 273) من طريق عبد ربه بن أبي أمية عنه، وعزاه الزيلعي لمسدد، وهذا إسناد ضعيف لإرساله وجهالة عبد ربه. (¬1) تقدم تخريجه وانظر: "تهذيب السنن" (6/ 379 - 380)، و"زاد المعاد" (3/ 203 - 204)، وانظر: "أحكام الجناية" (231 - 235) للشيخ بكر أبو زيد. (¬2) منها حديث: "أنت أحق به ما لم تنكحي"، وسيأتي تخريجه. ومنها حديث البراء بن عازب: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بابنة زيد لخالتها وقال: "الخالة بمنزلة الأم"، رواه البخاري (2699) في (الصلح): باب كيف يكتب: هذا ما صالح فلان بن فلان، و (4251) في (المغازي): باب عمرة القضاء. =

وليست في القرآن، وأخذتم أنتم والجمهور باعتداد المتوفى عنها في منزلها (¬1)؛ وهو ¬

_ = ونحوًا منه ورد من حديث علي بن أبي طالب: رواه أحمد (1/ 98، 115)، وأبو داود في (الطلاق): (2278) والنسائي في "خصائص علي" (رقم 188)، وأبو يعلى (405)، والطحاوي في "المشكل" (4/ 173 - ط الهندية) والحاكم (3/ 120) وابن حزم (10/ 326) والخطيب (4/ 140) وأبو الخير القزويني في "الأربعين المنتقى في مناقب المرتضى" (ق 99/ أ)، والبيهقي (8/ 6). ومنها حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيّر غلامًا بين أبيه وأمه. رواه أبو داود (2277) في (الطلاق): باب من أحق بالولد، والترمذي (1357) في (الأحكام): باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه؛ و"العلل" (369)، والنسائي (6/ 185 و 186) في (الطلاق): باب إسلام أحد الزوجين، وتخيير الولد، وابن ماجه (2351) في (الأحكام): باب تخيير الصبي بين أبويه، وعبد الرزاق (12611) وسعيد بن منصور (2275)، والحميدي (1083) وأحمد (2/ 447) والدارمي (2298) والطحاوي في "المشكل" (3085) وأبو يعلى (6131) والحاكم (4/ 97)، والشافعي في "الأم" (5/ 92) و"السنن" (2/ 63)، والبيهقي (8/ 3) والبغوي (2399) من طريق هلال بن أبي ميمونة عن أبي ميمونة عنه ورجاله ثقات. وفي "سنن النسائي" (6/ 185) من حديث عبد الحميد بن سلمة الأنصاري عن أبيه عن جده أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خيّر غلامًا بين أبيه وأمه وقال: "اللهم اهده" فذهب إلى أبيه وهو إسناد مسلسل بالمجاهيل. (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 591)، ومن طريقه الشافعي في "المسند" (2/ 53 - 54)، و"الرسالة" (1214)، والدارمي (2/ 168)، وأبو داود (2300) في (الطلاق): باب في المتوفى عنها تنتقل، والترمذي (1204) في (الطلاق): باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، والنسائي (6/ 199 - 200 و 200) في (الطلاق): باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، وابن ماجه (2031) في (الطلاق) باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، وابن سعد (8/ 368)، وا بن الجارود (759)، وأحمد (6/ 370 و 420 - 421) وسعيد بن منصور (1365) والدارمي (2292) وابن حبان (4292)، والحاكم (2/ 208)، والطيالسي (1664)، وابن أبي شيبة (5/ 185)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3328 - 3331)، والطبراني في "المعجم الكبير" (1074 - 1092)، وعبد الرزاق (12073) وعنه إسحاق بن راهويه في "المسند" (رقم 2188، 2189)، -والبيهقي (7/ 434 - 435) والبغوي (2386) - من طرق عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن عمته زينب بنت كعب عن فريعة بنت مالك بن سنان. . . فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" وفي بعض الطرق عن إسحاق بن سعد بن كعب بن عجرة عن زينب به. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال محمد بن يحيى الذهلي: =

زائد على [ما في] (¬1) القرآن، وأخذتم مع الناس بأحاديث البلوغ بالسنّ والإنبات (¬2). ¬

_ = وهو حديث صحيح محفوظ، وهما اثنان: سعد بن إسحاق وهو أشهرهما، وإسحاق بن سعد بن كعب، وقد روى عنهما جميعًا يحيى بن سعيد الأنصاري فقد ارتفعت عنهما الجهالة. وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 394): "وقول علي بن أحمد بن حزم: زينب بنت كعب مجهولة لم يرو حديثها غير سعد بن إسحاق وهو غير مشهور بالعدالة، قال: وعندي أنه ليس كما ذهب إليه بل الحديث صحيح، فإن سعد بن إسحاق ثقة، وممن وثقه النسائي، وزينب كذلك ثقة، وفي تصحيح الترمذي إياه توثيقها، وتوثيق سعد بن إسحاق ولا يضر الثقة أن لا يروي عنه إلا واحد". وقال ابن عبد البر: إنه حديث مشهور. قلت: يظهر أن صواب الرواية عن سعد بن إسحاق بن كعب لأن الذين رووا عنه أشهر وأكثر، وهو ما رجحه البيهقي، وسعد ثقة، لكن البحث في زينب، وقد اعتمدوا في تقوية حالها على تصحيح الترمذي لحديثها مع أن الترمذي رحمه اللَّه عنده بعض تساهل أحيانًا، ثم إنهم في كثير من الرواة لم يعتمدوا على هذا، وقد قواها بعضهم بإخراج مالك لها. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 240): ذكرها ابن فتحون، وابن الأمين (كذا) في الصحابة. فلعل هذه الأمور مما يقوي حالها. أما شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- فلم يرتض هذا ووقف عند قول الحافظ في "التقريب" فيها: مقبولة، أي: عند المتابعة! ولم يجد لها متابعًا، فضعَّفه، انظر: "إرواء الغليل" (7/ 207)، وقد قوّى الشيخ في كتبه مثل هذه أكثر من واحد!! ومشَّى رواية المستور من التابعين، وقرر أن هذا مذهب ابن رجب وابن كثير. (¬1) ما بين المعقوفتين مضروب عليه في (ق). (¬2) أما البلوغ بالسن: فقد روى البخاري (2664) في (الشهادات): باب بلوغ الصبيان وشهاداتهم، و (4097) في (المغازي): باب غزوة الخندق، ومسلم (1868) في (الإمارة): باب بيان سن البلوغ من حديث ابن عمر قال: عَرَضني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم أحد في القتال، وأنا ابن أربع عشرة سنة فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني. قال نافع (الراوي عن ابن عمر): فَقدِمتُ على عمر بن عبد العزيز وهو يومئذ خليفة فحدَّثته هذا الحديث فقال: إن هذا لَحدٌّ بينَ الصغير والكبير، هذا لفظ مسلم. ولفظ الحديث عند ابن حبان (4728): فلم يُجْزني ولم يَرَني بلغتُ، وهذه الزيادة من رواية ابن جريج، قال ابن حجر في "الفتح" (5/ 279): وهي زيادة صحيحة لا مطعن فيها لجلالة ابن جريج وتقدمه على غيره في حديث نافع، وقد صرّح فيها بالتحديث فانتفى ما يخشى من تدليسه. =

وهي زائدة على ما في القرآن؛ إذ ليس فيه إلا الاحتلام (¬1) وأخذتم مع الناس بحديث: "الخَراجُ بالضمان" (¬2) مع ضعفه، وهو زائد على [ما في] (3) القرآن، وبحديث [النهي عن] (¬3) بيع الكالئ بالكالئ (¬4) وهو زائد على ما في ¬

_ = وأما البلوغ بالإنبات: فقد روى أحمد في "مسنده" (4/ 310 و 383 و 5/ 312 و 313 - 314)، وأبو داود (4404 و 4405) في (الحدود): باب الغلام يصيب الحد، والترمذي (1584) في (السير): باب ما جاء في النزول على الحكم، والنسائي (6/ 155) في (الطلاق): باب متى يقع طلاق الصبي و (8/ 92) في (قطع يد السارق): باب حد البلوغ، وابن ماجه (2541 و 2542) في (الحدود): باب من لا يجب عليه الحد، والحميدي (888 و 889)، وعبد الرزاق (18742 و 18743)، وابن أبي شيبة (12/ 539 - 540)، وابن سعد في "الطبقات" (2/ 76 - 77)، والطيالسي (1284)، وابن حبان (4780 و 4783 و 4788)، والطبراني في "الكبير" (17/ 428 - 438)، والحاكم (2/ 123 و 35/ 3 و 389/ 4 و 390)، وابن الجارود (1045)، والبيهقي (6/ 58 و 9/ 63)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2189) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2213 رقم 5533) من طرق كثيرة عن عبد الملك بن عُمير عن عطية القرظي قال: عُرضنا على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم قريظة، وكان مَنْ أنبت قتل، ومن لم ينبت خُلِّي سبيله، فكنت ممن لم ينبت فَخُلِّيَ سبيلي. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وابن حجر في "التلخيص" (3/ 42)، وقال: إلا أنهما لم يخرجا لعطية، وما له إلا هذا الحديث الواحد. (¬1) انظر: "تحفة المودود" (ص 291 - 300). (¬2) مضى تخريجه مفصلًا. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) تقدم بإيجاز، وإليك التفصيل: رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 21) من طريق موسى بن عبيدة الربذي عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر به. وموسى هذا ضعيف خاصة في عبد اللَّه بن دينار. ورواه الدارقطني في "سننه" من طريق آخر (3/ 71)، قال: حدثنا علي بن محمد المصري: حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني: حدثنا الخصيب بن ناصح: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر به. ورواه البيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 290) من هذا الطريق ثم قال: "موسى هذا هو ابن عبيدة الرَّبذي، وشيخنا أبو عبد اللَّه قال في روايته: عن موسى بن عقبة، وهو خطأ، والعجب من أبي الحسن الدارقطني شيخ عصره روى هذا الحديث في كتاب "السنن" عن أبي الحسن علي بن محمد المصري هذا فقال: عن موسى بن عقبة، وشيخنا أبو الحسين رواه لنا عن أبي الحسن المصري في الجزء الثالث من سنن المصري فقال: عن موسى غير منسوب، ثم أردفه المصري. . . فرواه بذكر موسى بن عبيدة، ثم رواه من طريق ابن =

[أنواع دلالة السنة الزائدة عن القرآن]

القرآن، وأضعاف أضعاف ما ذكرنا، بل أحكام السُّنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثرَ منها لم تنقص عنها؛ فلو ساغ لنا ردُّ كل سنة كانت زائدة (¬1) على نص القرآن لبطلت سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها إلا سنة دل عليها القرآن، وهذا هو الذي أخبرَ [به] (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه سيقع ولا بُدّ من وقوع خبره. [أنواع دلالة السنة الزائدة عن القرآن] فإن قيل: السنن الزائدة على ما دل عليه القرآن تارة تكون بيانًا له، وتارة تكون مُنْشَئةً لحكم لم يتعرض [القرآن] (¬3) له، وتارة تكون مغيّرة لحكمه، وليس نزاعنا في القسمين الأولين فإنهما حجة باتفاق، ولكن النِّزاعُ في القسم الثالث وهو الذي تَرْجمته بمسألة الزيادة على النص، وقد ذهب الشيخ أبو الحسن الكرْخيُّ وجماعة كثيرة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنها نسخ (¬4)، ومن هاهنا جعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخًا كما لو زاد عشرين سوطًا (¬5) على الثمانين في حد القَذْف. وذهب أبو بكر الرازي (¬6) إلى أن الزيادة إن وَردَت بعد استقرار حكم النص منفردة عنه كانت ناسخة، وإن وردت متصلة بالنص قبل استقرار حكمه لم تكن ناسخة (¬7)، وإن وردت ولا يُعلم تاريخها فإن ورَدَت من جهةِ يثبت النَّصُّ بمثلها ¬

_ = عدي، وهو عنده في "الكامل" (6/ 2335) ثم ذكر له طرقًا كلها مدارها على موسى بن عبيدة ثم قال: والحديث مشهور بموسى بن عبيدة مرة عن نافع، ومرة عن عبد اللَّه بن دينار عن ابن عمر، وهو الصواب. ورواه العقيلي أيضًا (4/ 162) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 601) من طريق موسى بن عبيدة عن عبد اللَّه بن دينار به. وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 364). (¬1) في المطبوع: "زائدة كانت"! بتقديم وتأخير. (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر: "كشف الأسرار" (3/ 109)، و"فواتح الرحموت" (2/ 91)، و"تيسير التحرير" (3/ 218)، و"شرح المنار" (ص 691)، و"أصول السرخسي" (2/ 82 - 83)، و"ميزان الأصول" (727)، و"المغني" (260) للخبازي، و"كاشف معاني البديع" (2/ 263)، و"الزيادة على النص" (52) لعمر بن عبد العزيز، و (ص 32 - 33) لسالم الثقفي. (¬5) في المطبوع: "صوتًا"!. (¬6) في "الفصول" (2/ 315). (¬7) في (ن) و (ك): "نسخًا"، وانظر: "الإحكام" (3/ 156) للآمدي و"شرح العضد على المختصر" (2/ 202)، و"الزيادة على النص" (61).

[الكلام على الزيادة المغيرة لحكم شرعي]

فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معًا أثبتناهما، وإن شهدت بالنص منفردًا عنها أثبتناه دونها، وإن لم يكن في الأصول دلالة على أحدهما فالواجب أن يُحكم بورودهما معًا، ويكونان بمنزلة الخاص والعام إذا لم يُعلم تاريخهما ولم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما (¬1) على الآخر فإنهما يُستعملان معًا، وإن كان ورود (¬2) النص من جهةٍ تُوجب العلم كالكتاب والخبر المستفيض وورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجُز إلحاقها بالنص ولا العملِ بها، وذهب بعض أصحابنا إلى أن الزيادة إن غَيَّرت حكم المزيد عليه تغييرًا شرعيًا بحيث إنه لو فُعل على حد ما كان يُفعل قبلها لم يكن معتدًا به، بل يجب استئنافُه، كان نسخًا (¬3)، نحو ضَمِّ ركعة إلى ركعتي الفجر، وإن لم تغيّر (¬4) حكم المزيد عليه بحيث لو فُعل على حد ما كان يُفعل قبلها كان معتدًا به ولا يجب استئنافه لم يكن نسخًا، ولم يجعلوا إيجابَ التغريب مع الجلد نسخًا، وإيجابَ عشرين جلدة مع الثمانين نسخًا، وكذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة (¬5) لا يكون نسخًا كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة، ولم يختلفوا أن إيجابَ زيادة عبادة على عبادة كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخًا، ولم يختلفوا أيضًا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخًا. [الكلام على الزيادة المغيرة لحكم شرعي] فالكلام معكم في الزيادة المغيِّرة في ثلاثة مواضع: في المعنى، والاسم، والحكم، أما المعنى فإنها تُفيد معنى [النسخ؛ لأنه الإزالة، والزيادة] (¬6) تُزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه وتُوجب استئنافه بدونها، وتُخرجه عن كونه جميعَ ¬

_ (¬1) في (ق): "على وجوب أحدهما بالقضاء". (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "ورد". (¬3) انظر: "المسودة" (208)، و"المستصفى" (1/ 117)، و"العدة في أصول الفقه" (3/ 814 - 820)، و"شرح الإسنوي على المنهاج" (2/ 191)، و"إحكام الأحكام" (3/ 156) للآمدي، و"فواتح الرحموت" (2/ 192)، و"حاشية البناني" (2/ 92)، و"الزيادة على النص" (36) للثقفي. (¬4) في المطبوع: "يغير". (¬5) انظر: "الإحكام" (3/ 56)، و"العدة" (3/ 814) و"الإسنوي على المنهاج" (2/ 191). (¬6) في (ق): "النسخ والإزالة؛ لأنه زيادة".

الواجب، وتجعله بعضَه، وتوجب التأثيم على المُقتصر عليه بعد أن لم يكن آثمًا (¬1)، وهذا معنى النسخ، وعليه [ترتَّب] (¬2) الاسم، فإنه تابعٌ للمعنى؛ فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليلٍ شرعي متراخٍ عن المزيد عليه، فإن اختل وصْفٌ من هذه الأوصاف لم تكن نسخًا، فإن لم تغيّر حكمًا شرعيًا بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخًا كإيجاب عبادة بعد أخرى، والزيادة إن كانت مقارِنة (¬3) للمزيد عليه لم تكن نسخًا وإن غيَّرته (¬4)، بل تكون تقييدًا أو تخصيصًا. وأما الحكم فإن كان النصُّ المزيدُ عليه ثابتًا بالكتاب أو السنة المتواترة لم يُقبل خبرُ الواحد بالزيادة عليه، وإن كان ثابتًا بخبر الواحد قُبلت الزيادة، فإن اتفقت الأمة غلى قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنًا للمزيد عليه فيكون تخصيصًا لا نسخًا، قالوا: وإنما لم نَقبل خبرَ الواحد بالزيادة على النص لأن الزيادة لو كانت موجودةً معه لنقلها إلينا من نقل النص؛ إذ غيرُ جائزٍ أن يكون المراد إثباتَ النص معقودًا بالزيادة فيقتصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على إبلاع النص منفردًا عنها؛ فواجبٌ إذن أن يذكرها معه، ولو ذكرها لنقلها إلينا مَنْ نقلَ النص. فإن كان النص مذكورًا في القرآن والزيادة واردة من جهة السنة فغيرُ جائزٍ أن يقتصرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على تلاوة الحكم المنزل في القرآن دون أن يعقبها بذكر الزيادة؛ لأن حصولَ الفراغِ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه، كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن كان الحدُّ هو الجلد والتغريب فغير جائز أن يتلو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها؛ لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها وأن الجلد هو كمال الحد؛ فلو كان معه تغريب لكان بعضَ الحد لا كماله، فإذا أخلى التلاوة من ذكر النفي عقيبها فقد أراد منا اعتقاد أن الجلد المذكور في الآية هو تمامُ الحد وكماله؛ فغير جائزٍ إلحاق الزيادة معه إلا على وجه النسخ، ولهذا كان قوله: "واغْدُ يا أُنيس على امرأةِ هذا فإن اعترفت فارجُمها" (¬5) ناسخًا لحديث ¬

_ (¬1) في المطبوع: "إثمًا". (¬2) في نسخة (ط): "يرتب". (¬3) في المطبوع: "وإن كانت الزيادة مقارنة". (¬4) انظر بحث ابن القيم -رحمه اللَّه- النسخ في: "مفتاح دار السعادة" (361 - 364، 370)، و"زاد المعاد" (2/ 183)، و"شفاء العليل" (405 - 406). (¬5) رواه البخاري (2314) و (2315) في (الوكالة): باب الوكالة في الحدود.-وانظر أطرافه =

عُبادة بن الصامت: "الثَّيب بالثيب جَلْدُ مئة والرَّجمُ" (¬1) وكذلك لما رَجمَ ماعزًا ولم يجلده (¬2)، كذلك يجب أن يكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ناسخًا لحكم التغريبِ في قوله: "البِكرُ بالبكرِ جلُد مئة وتغريبُ عام" (¬3). والمقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عقيب التلاوة، ولنقلها إلينا من نقل المزيدَ عليه؛ إذ غيرُ جائزٍ عليهم أن يعلموا أن الحدَّ مجموعُ الأمرين وينقلوا (¬4) بعضه دون بعض، وقد سمعوا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر الأمرين، فامتنع حينئذٍ العملُ بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل، فإذا وردت من جهة الآحاد فإن كانت قبل النصّ فقد نَسَخها النص المطلق عاريًا من ذكرها، وإن كانت بعده فهذا يُوجب نسخ الآية بخبر الواحد وهو ممتنع، فإن كان المزيدُ عليه ثابتًا بخبر الواحد جاز إلحاقُ الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به، فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخًا وكانت بيانًا. فالجواب من وجوه: أحدها: إنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصَّلتموه فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر (¬5) وهو زائد على ما في كتاب اللَّه مغيّر لحكمه؛ فإن اللَّه سبحانه جعلَ حُكمَ عادم الماء التَّيممَ، والخبرُ يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ؛ فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكمٍ شرعي غير مقارنة ولا مقاومة له بوجه (¬6)، وقبلتم خبرَ الأَمَر بالوتر (¬7) مع رفعه لحكم شرعي، وهو اعتقاد ¬

_ = هناك فهي كثيرة- ومسلم (1697) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني. (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" (1690) في (الحدود): باب حد الزنى. (¬2) رواه مسلم (1695) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، من حديث بُريدة -رضي اللَّه عنه-. (¬3) هو جزء من حديث عبادة السابق، وانظر: "زاد المعاد" (3/ 207). (¬4) في (ق) و (ك): "وينقلون". (¬5) خرجته مفصلًا في كتاب "الخلافيات" (1/ 157 - 179) (رقم 19)، وينظر "نصب الراية" (1/ 137 - 148). (¬6) في (د): "مقارنة له ولا مقاومة بوجه". (¬7) يشير إلى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه زادكم صلاةً إلى صلاتكم". وورد من حديث جمع من الصحابة وهو حديث صحيح، انظره مفصلًا في "نصب الراية" (2/ 109)، و"التلخيص الحبير" (2/ 16) و"إرواء الغليل" (2/ 156).

كون الصلوات الخمس هي جميع الواجب ورفع التأثيم بالاقتصار عليها وإجزاء الإتيان في التَّعبدِ بفريضة الصلاة، والذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن، والذي نَقَلَها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه أو أوثق منه أو نظيره، والذي فرض علينا طاعة رسوله وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته وقبول قوله في هذه، والذي قال لنا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه، واللَّه سبحانه وَلَّاه منصبَ التشريع عنه ابتداء، كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه، [بل كلامه] (¬1) كله بيان عن اللَّه، والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجهٍ من الوجوه، بل كان السلفُ الصالحُ الطيبُ إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدًا: إن هذا زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به، ورسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجلُّ في صدورهم وسنتُه أعظمُ عندهم من ذلك وأكبر. ولا فرق أصلًا بين مجيء السنة بعددِ الطَّوافِ وعدد ركعات الصلاة ومجيئها بفرض الطمأنينة وتعيين الفاتحة والنية؟ فإن الجميعَ بيانٌ لمراد اللَّه أنه أوجب هذه العبادات على عباده على هذا الوجه، فهذا الوجه هو المراد، فجاءت السنة بيانًا للمُراد في جميع وجوهها، حتى في التشريع المبتدأ، فإنها بيان لمراد اللَّه من عموم الأمر بطاعته وطاعة رسوله، فلا فَرْق بين بيان هذا المراد وبين بيان المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها، بل هذا بيانُ المراد من شيء وذاك بيانُ المراد من أعمّ منه؛ فالتغريبُ بيانٌ محض للمراد من قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وقد صرَّح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن التغريب (¬2) بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن، فكيف يجوز رده بأنه مخالفٌ للقرآن معارضٌ له؟ ويقال: لو قبلناه لأبطلنا به حكم القرآن؟ وهل هذا إلا قلبٌ للحقائق؟ فإن حكم القرآن العام والخاص يوجب علينا قبوله فرضًا لا يسعنا مخالفته؛ فلو خَالفْناه لخالفنا القرآن ولخرجنا عن حكمه ولا بد، ولكان في ذلك مخالفة للقرآن والحديث معًا. يوضحه الوجه الثاني: أن اللَّه سبحانه نصب رسوله (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- منصب المُبلِّغ المبين عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن اللَّه أنَّ هذا شرْعه ودينه، ولا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، و (ق) و (ك). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) كذا في (ق)، وفي باقي النسخ: "رسول اللَّه".

[بيان الرسول على أنواع]

فرق بين ما يبلّغه عنه من كلامه المتلو ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا. يوضحه الوجه الثالث: أن اللَّه سبحانه أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، وجاء البيان عن رسوله (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- بمقادير ذلك وصفاته وشروطه؛ فوجب على الأمة قبوله، إذ هو تفصيل لِما أمر اللَّه به، كما يجب عليها (¬2) قبولُ الأصل المفصَّل، وهكذا أَمرَ اللَّه سبحانه بطاعته وطاعة رسوله؛ فإذا أمر الرسول بأمرٍ كان تفصيلًا وبيانًا للطاعة المأمور بها، وكان فَرْضُ قبوله كفرض قبول الأصل المفصل، ولا فرق بينهما. [بيان الرسول على أنواع] يوضحه الوجه الرابع: أن البيان من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقسام (¬3): أحدها: بيانُ نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أَنْ كان خفيًا. الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك كما بيَّن أن الظلم المذكور في قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] هو الشركُ (¬4)، وأَنَّ الحسابَ اليسير هو العَرضُ (¬5)، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياضُ النَّهار وسواد الليل (¬6)، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هو جبريل (¬7)، كما فَسَّر ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "رسول اللَّه". (¬2) في المطبوع: "علينا". (¬3) انظر -غير مأمور- "الموافقات" (4/ 392 وما بعد). (¬4) الحديث في "الصحيحين"، وقد تقدم تخريجه، وفي (ق): "أنه الشرك". (¬5) رواه البخاري (103) في (العلم): باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه و (4939) في تفسير {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، و (6536) و (6537) في (الرقاق): باب من نوقش الحساب عذب، ومسلم (2876) في الجنة: باب إثبات الحساب، من حديث عائشة. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 407)، والطبري (27/ 49)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10423)، وأبو الشيخ في "العظمة" (356) من طريق عاصم عن شقيق عن ابن مسعود مرفوعًا: "رأيت جبريل على سدرة المنتهى له ست مئة جناح"، وإسناده حسن. ورواه أحمد في "مسنده" (1/ 412 و 460)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (2/ 372) من طريق حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن ابن مسعود مرفوعًا به، وهذا اختلاف من عاصم، ففي حفظه شيء لكنه اختلاف بين ثقتين. وأصل الحديث في "صحيح البخاري" (3232 و 4856 و 4857)، ومسلم (174) من حديث ابن مسعود أيضًا ولفظه: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى جبريل له ست مئة جناح".

قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] أنَّه طلوعُ الشمس من مغربها (¬1) وكما فسر قوله: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] بأنها النَّخلة (¬2)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4635) في (تفسير الأنعام): باب {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ}، و (4636) باب لا ينفع نفسًا إيمانها، و (6506) في (الرقاق): باب رقم (40)، و (7121) في (الفتن): باب رقم (25)، ومسلم (157) في (الإيمان): باب بيان الزمن الذي يقبل فيه الإيمان، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه الترمذي (3119) في (التفسير): باب ومن سورة إبراهيم عليه السلام، والنسائي في (تفسيره) (282)، وأبو يعلى (4165)، ومن طريقه ابن حبان (475)، والطبري (20678 و 20679)، والحاكم (2/ 352)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (7/ رقم 12252)؛ وكما في "تفسير ابن كثير" (2/ 550)، من طريق حماد بن سلمة عن شعيب بن الحبحاب عن أنس مرفوعًا: "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة. . . " هي النخلة. وصححه الحاكم ووافقه والذهبي!! لكن رواه الترمذي بعد (3119)، وعبد الرزاق في "تفسيره" (2/ 342)، والطبري (20677 - 20681) من طرق عن شعيب بن الحبحاب عن أنس موقوفًا. قال الترمذي "وهذا أصح -أي الوقف- من حديث حماد بن سلمة، ولا يعلم أحد رفعه غير حماد بن سلمة، ورواه حماد بن زيد، ومعمر وغير واحد ولم يرفعوه". ومما يدل على وهم حماد بن سلمة، وأن الصواب الوقف: أنَّ الطبري رواه من طريقه موقوفًا (20680). وحماد بن سلمة له من مثل هذه الأخطاء، وكان رفّاعًا. ورواه البزار في "مسنده" -كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 550) - من طريق سعيد بن الربيع عن شعبة عن معاوية بن قرة عن أنس أحسبه رفعه، وإسناده جَيّد. لكن رواه الطبري (20674 - 20676) من طرق عن معاوية بن قرة عن أنس موقوفًا. وله شاهد من حديث ابن عمر: رواه أحمد (2/ 91)، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" (5/ 22) من طريق شريك عن سلمة عن مجاهد عنه مرفوعًا. قال السيوطي في "الدر": إسناده جيّد. أقول: كيف وفيه شريك القاضي، وهو ضعيف!! ورواه الطبري (20697) من طريق رجل عن ابن عمر مرفوعًا، وهذا يجعل للحديث أصلًا واللَّه أعلم. وفي "صحيح البخاري" (61 و 62 و 72 و 131 و 2209 و 4698 و 5444 و 5448 و 6122 و 6144)، ومسلم (2811) من حديث ابن عمر مرفوعًا: "إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم. . . فقال: هي النخلة". وفي بعض ألفاظ الحديث: من يخبرني عن شجرة مثلها مثل المؤمن أصلها ثابت، وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهذا لفظ ابن حبان (243)، وإسناده إلى ابن عمر صحيح.

وكما فسَّر قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] أنَّ ذلك في القبر حين يُسأل مَنْ ربك وما دينك (¬1)، وكما فسَّر الرعد بأنه ملك من الملائكة موكَّل بالسحاب (¬2)، وكما فسَّر اتخاذ أهل ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 274)، والترمذي (3117)، والنسائي في "سننه الكبرى" (9072)، وابن أبي الدنيا في "المطر" (108)، وأبو الشيخ في "العظمة" (4/ 1279)، والحربي في "غريب الحديث" (2/ 688)، والطبراني في "المعجم الكبير" (12429)، و"الدعاء" (2/ 1261)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 304 - 305)، والضياء في "المختارة" من طريق عبد اللَّه بن الوليد عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت يهود إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: "يا أبا القاسم، إنا نسألك عن خمسة أشياء. . . قالوا: أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال: ملَك من ملائكة اللَّه عز وجل مُوَكَّلٌ بالسحاب بيده أو في يده مخراق من نار، يَزْجر به السحاب يسوقه حيث أمر اللَّه. . . ". قال الترمذي: حسن صحيح غريب. وقال أبو نعيم: غريب من حديث سعيد تفرد به بكير. وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 242): "رواه الترمذي -باختصار- ورواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات". أقول: نعم، رجاله ثقات، غير بكير بن شهاب فقد روى عنه اثنان هما: عبد اللَّه بن الوليد، ومبارك بن سعيد الثوري، وقال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات". أقول: ابن حبان توثيقه معروف، وعبارة أبي حاتم هذه فيها تليين، لذلك قال فيه ابن حجر في "التقريب": مقبول. أما الحافظ الذهبي فقال: عراقي صدوق!! فأنَّى له أن يكون صدوقًا. وروى الطبراني في "الأوسط" (7/ 360 رقم 7731) من طريق أبي عمران عن ابن جريج عن عطاء عن جابر أن خزيمة بن ثابت -وليس بالأنصاري- سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرعد فقال: فذكر نحوه. . . وهو جزء من حديث طويل. قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 132): وفيه يوسف بن يعقوب أبو عمران ذكر الذهبي هذا الحديث في ترجمته، ولم ينقل تضعيفه عن أحد! قلت: ذكره الذهبي في "الميزان"، وقال أبو عمران عن ابن جُريج بخبر باطل طويل، وعنه إنسان مجهول، واسمه محمد بن عبد الرحمن السلمي. أقول: وقد خولف أبو عمران هذا، فقد ذكر أبو موسى في "الطوالات"، أن أبا معشر، وعبيد بن حكيم، روياه عن ابن جريج عن الزهري مرسلًا، ذكره الحافظ في "الإصابة" في ترجمة خزيمة بن حكيم السلمي ويقال: ابن ثابت ثم قال الحافظ: "وفيه غريب كثير، وإسناده ضعيف جدًا". فهو شاهد ساقط لا يصلح، وقد ذكر هذا الشاهد شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (4/ 492 - 493)، وخفي عليه حاله، فالحمد للَّه على توفيقه. =

الكتاب أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون اللَّه بأنَّ (¬1) ذلك باستحلال (¬2) ما أحلوه لهم من الحَرَام وتحريم ما حَرَّموه [عليهم] (¬3) من الحَلَال (¬4)، وكما فسر القوة التي أمر اللَّه أن نعدها لأعدائه بالرّمي (¬5)، وكما فسر قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بأنه ما يُجزى به العَبدُ في الدنيا من الهَمِّ والنَّصبِ والخوف واللأواء (¬6)، وكما فسر الزيادة بأنها النَّظر إلى وجهِ اللَّه الكريم (¬7)، وكما فسَّر الدعاء في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] بأنه العبادة (¬8)، ¬

_ = والحديث له طرق موقوفة ومقطوعة، ذكرها صالح بن الأمام أحمد في "مسائل أبيه" (الأرقام 583 - 591، 611)، وابن أبي الدنيا في "المطر" (رقم 103، 106، 107، 109، 110)، وأبو الشيخ في "العظمة" (4/ 1279 - فما بعد) والسيوطي في "الدر المنثور"، وأنا أظن صوابه الوقف، واللَّه أعلم. قال (و): "ثبت ثبوتًا علميًا قطعيًا تفسيره بغير ذلك، ولا يمكن أن نفهم في الرسول إلا أنه يقول الحق والصدق، فلينظر سند الحديث"!!. (¬1) في (ق): "أن" وفي (ك): "و". (¬2) في (ق): "استحلال". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) رواه مسلم (1917) في (الإمارة): باب فضل الرمي والحث عليه، من حديث عقبة بن عامر. وانظر طرقه ومظانه في تعليقي على "فضائل الرمي" للقرَّاب (رقم 11). (¬6) مضى تخريجه. (¬7) قال (و): "يعني التي وردت في قوله سبحانه تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. وقد ذكر تفسيرها بذلك في حديث رواه أحمد، ومسلم، وابن جرير، وابن أبي حاتم" اهـ، ونحوه باختصار في نسخة (ط). ولفظة "الكريم" سقطت من (ق). والحديث رواه مسلم (181) (298) في (الإيمان): باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى، من حديث صهيب الرومي، وانظر: "تفسير ابن كثير" (2/ 429). (¬8) رواه الطيالسي (801)، وأحمد (4/ 267 و 271 و 276)، وابن أبي شيبة (10/ 200)، وابن المبارك في "الزهد" (1298 - 1299) و"المسند" (رقم 74) والترمذي (3247) في (التفسير): باب ومن سورة غافر، و (3372) في "الدعوات": باب ما جاء في فضل الدعاء، والنسائي في "الكبرى" (11464)، وابن ماجه (3828) في (الدعاء): باب فضل الدعاء، وأبو داود (1479) في (الصلاة): باب الدعاء، والبخاري في "الأدب المفرد" (714)، والطبري في "تفسيره" (24/ 78)، والطبراني في "الصغير" (رقم 1041) و"الدعاء" (رقم 1 - 7) وابن منده في "التوحيد" (رقم 325) والقضاعي في "مسند الشهاب" (رقم 29 - 30)، وابن حبان (895)، والحاكم (1/ 490 و 491)، وأبو نعيم =

وكما فسر إدبار النجوم بأنه الركعتان قبل الفجر، وأدبار السجود بالركعتين بعد المغرب (¬1)، ونظائر ذلك. الثالث: بيانه بالفعل (¬2) كما بيَّن أوقات الصلاة للسائل بفعله (¬3). الرابع: بيان ما سُئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فينزل (¬4) القرآن ببيانها، كما سئل عن قَذْف الزوجة (¬5) فجاء القرآن باللِّعان ونظائره. الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا، كما سئل عن رجل أحرم في جُبِّة بعدما تضمّخ بالخَلُوق، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبَّة ¬

_ = في "حلية الأولياء" (8/ 120)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1105) و"الدعوات الكبير" (رقم 4) والبغوي في "التفسير" (4/ 103) و"شرح السنة" (رقم 1384) وعبد الغني المقدسي في "الترغيب في الدعاء" (رقم 8) والمزي في "تهذيب الكمال" (3/ 1548)، من طرق عن ذر بن عبد اللَّه عن يُسَيْع الحضرمي عن النعمان بن بشير مرفوعًا: "الدعاء هو العبادة"، ثم قرأ هذه الآية: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وانظر: "الموافقات" (4/ 398 - بتحقيقي). (¬1) رواه الترمذي (3275) في (التفسير): باب ومن سورة الطور، وابن جرير (26/ 181)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (10/ رقم 18646) -، وكما في "تفسير ابن كثير" (4/ 246) تفسير سورة "ق"-، وابنُ عدي في "الكامل" (3/ 1008) من طريق محمد بن فُضيل عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس مرفوعًا. قال الترمذي: "هذا الحديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب". وقال الحافظ ابن كثير -رحمه اللَّه-: "فأما هذه الزيادة -أي تفسير أدبار السجود وإدبار النجوم- لا تعرف إلا من هذا الوجه، ورشدين بن كريب ضعيف، ولعله من كلام ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- موقوفًا عليه" وضَعَّفه الحافظ في "الفتح" (8/ 598). أقول: رشدين هذا ضعّفه ابن معين، والنسائي والبخاري وغير واحد. وله شاهد مرفوع من حديث علي بن أبي طالب: رواه مسدد، وابن المنذر، وابن مردويه؛ كما في "الدر المنثور" (7/ 610). وشاهد أيضًا من حديث أبي هريرة: رواه ابن مردويه، ولا ندري حال أسانيد هذين الشاهدين. وقد وردت آثار موقوفة بهذا التفسير، فانظر "فتح الباري" (8/ 598)، و"الدر المنثور" (7/ 638)، و"تفسير الطبري" (27/ 39). (¬2) انظر: "الموافقات" (4/ 439 وما بعد) بتحقيقي. (¬3) رواه مسلم (613) في (المساجد): باب أوقات الصلوات الخمس، من حديث بريدة. (¬4) في المطبوع و (ن): "فنزل". (¬5) مضى تخريجه.

ويغسل أثر الخلوق (¬1). السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداءً من غير سؤال، كما حرَّم عليهم لحومُ الحمر (¬2)، والمُتعة (¬3)، وصَيْدَ المدينة (¬4)، ونكاح المرأة على عَمّتها وخالتها (¬5)، وأمثال ذلك. السابع: بيانُه للأمّة جواز الشيء بفعله هو له وعدم نهيهم عن التأسِّي به. الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده (¬6) أو يعْلمهم يفعلونه. التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوًا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقًا. العاشر: أن يحكَم القرآنُ بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف، فيحيل الربُّ ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1536) في (الحج): باب غسل الخَلُوق ثلاث مرات من الثياب -تعليقًا-، و (1789) في (العمرة): باب ما يفعل بالحج، (1847) في (جزاء الصيد): باب إذا أحرم جاهلًا، وعليه قميص، و (4985) في (فضائل القرآن): باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب -موصولًا ومعلقًا- ومسلم (1180) في (الحج): باب ما يُباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، من حديث يعلى بن أمية. وقال (و) عن الخلوق: "نوع من الطيب". (¬2) ورد من حديث أنس: رواه البخاري (2991 و 4199 و 5528)، ومسلم (1940). ومن حديث جابر: رواه البخاري (4219 و 5525 و 5524)، ومسلم (1941). ومن حديث ابن عمر: رواه البخاري (4217 و 5521 و 5522)، ومسلم (24) (561). ومن حديث البراء بن عازب: رواه البخاري (4221 و 4223 و 4225 و 4226)، ومسلم (1938). (¬3) ورد من حديث علي بن أبي طالب: رواه البخاري (4216 و 5115 و 5523 و 6961)، ومسلم (1407). ومن حديث سَبْرَة بن معبد: رواه مسلم (1406). (¬4) رواه مسلم (1362) في (الحج): باب فضل المدينة، من حديث جابر، ورواه (1363) من حديث سعد بن أبي وقاص، وروى البخاري (1873) ومسلم (1372) عن أبي هريرة أنه قال: لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذَعَرتها قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بين لابتيها حرام". (¬5) سبق تخريجه. (¬6) في (ق): "يشاهدهم".

سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها كقوله [تعالى] (¬1): {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فالحِلُّ موقوفٌ على شروط النكاح وانتفاء موانعه (¬2) وحضور وقته وأهليَّةِ المحل، فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كُلِّه لم يكن شيء (¬3) منه زائدًا على النص فيكون نسخًا له، وإن كان رفعًا لظاهر إطلاقه. فهكذا كل حكم منه -صلى اللَّه عليه وسلم- زائد على القرآن، هذا سبيلُه سواءٌ بسواء، وقد قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ثم جاءت السنة بأنَّ القاتلَ والكافرَ والرقيقَ لا يرث (¬4)، ولم يكن نسخًا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعًا، أعني في مُوجبات الميراث؛ فإن القرآن أوجبه بالولادةِ وحْدَها، فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدَّين وعدم الرق والقتل، فهلَّا قلتم: إن هذه زيادة على النص فيكون نسخًا والقرآن لا يُنسخ بالسنة؟ كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث لأنه زائد على القرآن. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ن)، و (ق) و (ك): "مانعه". (¬3) في المطبوع: "الشيء". (¬4) أما القاتل فتقدم حديثه. وأما الكافر: فيريد حديث: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"، وهو في "الصحيحين" وقد سبق تخريجه قريبًا. وأما ميراث الرقيق؛ فلم أجد حديثًا صريحًا مرفوعًا في عدم ميراث الرقيق، وقد استدل الشافعي على عدم ميراث الرقيق بحديث: "من باع عبدًا له مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع". أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب المساقاة): باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل (5/ 49/ رقم 2379)، و (كتاب الشروط): باب إذا باع نخلًا قد أُبِّرت (5/ 313 / رقم 2716)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الببوع، باب من باع نخلًا عليها ثمر، 3/ 1172/ 1543) عن ابن عمر مرفوعًا. قال الشافعي: "فلما كان بيِّنًا في سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن العبد لا يملك مالًا وأن ما يملك العبد فإنما يملكه سيده، ولم يكن السيد بأبي الميت ولا وارث سميت له فريضة فكنا لو أعطينا العبد بأنه أب إنما أعطينا السيد الذي لا فريضة له، فورثنا غير من ورث اللَّه فلم نورث عبدًا لما وصفت". نقلت هذا من "سنن البيهقي" (9/ 216)، ونحوه في "الأم" (3/ 72). وقد ثبت عن علي أن المملوك لا يرث: رواه ابن أبي شيبة (11/ 270)، وعبد الرزاق (10/ 2790)، وسعيد بن منصور (1/ 45)، و"السنن الكبرى" (6/ 223)، وقد ورد أيضًا عن عدد من الصحابة، انظر المصادر السابقة و"الإشراف" (4/ 685) للقاضي عبد الوهاب، وتعليقي عليه.

[المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن]

الوجه الخامس: أنَّ تسميتَكم للزيادة المذكورة نسخًا لا توجب [بل لا] (¬1) تجوز مخالفتها، فإن تسمية ذلك نسخًا اصطلاحٌ منكم، والأسماءُ المتواضع عليها التابعة للاصطلاح لا توجب رفع أحكام النصوص، فأَين سَمَّى اللَّه ورسوله ذلك نسخًا؟ وأين قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا جاءكم حديثي زائدًا على ما في كتاب اللَّه فردُّوه ولا تقبلوه فإنه يكون نسخًا لكتاب اللَّه؟ وأين قال اللَّه: إذا قال رسولي قولًا زائدًا على القرآن فلا تقبلوه ولا تعملوا به وردّوه؟ وكيف يسوغ ردُّ سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقواعد قعَّدتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان؟!! [المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن] الوجه السادس: أن يقال ما تَعْنُون بالنسخ الذي تضمَّنته الزيادة بزعمكم؟ أتعنون أن حكمَ المزيد عليه من الإيجاب والتَّحريم والإباحة بطل بالكلية، أم تعنون به تغيُّر وصفه بزيادة شيء عليه من شَرْط أو قيدٍ أو حالٍ أو مانع أو ما هو أعم من ذلك؟ فإن عنيتم الأول فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك (¬2) فلا تكون ناسخة، وإن عنيتم الثاني فهو حق، ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه ولا رفعه ولا مُعارضته، بل غايتها مع المزيدِ عليه كالشروط والموانع والقيود والمخصِّصات، وشيء من ذلك لا يكون نسخًا يوجب إبطال الأول ورفعه رأسًا، وإن كان نسخًا بالمعنى العام الذي يسميه السلف نسخًا وهو رفع الظاهر بتخصيصٍ أو تقييدٍ أو شرطٍ أو مانع؛ فهذا كثير من السلف يُسمّيه نسخًا (¬3)؛ حتى سَمَّى الاستثناء نسخًا، فإن أردتم هذا المعنى فلا مُشاحة (¬4) في الاسم، ولكن ذلك لا يسوغ رد السنن (¬5) الناسخة للقرآن بهذا المعنى، ولا يُنكر أحدٌ نسخ القرآن بالسنة ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "تأويلًا". (¬2) في (ن): "في الزيادة لم تتضمن ذلك". (¬3) انظر: "الموافقات" (3/ 344 - بتحقيقي)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (13/ 29 - 30، 272 - 273)، و"الإحكام" (4/ 67) لابن حزم، و"فهم القرآن" (398) للمحاسبي و"تفسير القرطبي" (2/ 288)، و"الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه" (ص 88 - 90) لمكي بن أبي طالب، و"أحكام القرآن" (1/ 197)، ومقدمة "الناسخ والمنسوخ" (1/ 197) كلاهما لابن العربي، و"الفوز الكبير في أصول التفسير" (112 - 113) للدهلوي، و"محاسن التأويل" (1/ 13)، و"النسخ في دراسات الأصوليين" (521)، و"معالم أصول الفقه عند أهل السنة" (ص 253). (¬4) "لا مجادلة" (و). (¬5) في (ق): "السنة".

بهذا المعنى بل هو متفقٌ عليه بين الناس، وإنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النَّسخُ الخاص الذي هو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بمنزلة ما لم يُشرع ألبتَّة (¬1)، وإن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين -وهو رفع الحكم بجملته تارة وتقييد مطلقه وتخصيص عامّه وزيادة شرط أو مانع تارة- كنتم قد أدرجتم في كلامكم قِسْمين: مقبولًا ومردودًا كما تبيَّن؛ فليس الشأن في الألفاظ فسمّوا الزيادة ما شئتم، فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيلَ إليه. يوضحه الوجه السابع: أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز (¬2) اقترانها بالمزيد؛ لأن الناسخ لا يُقارن المنسوخ، وقد جوَّزتم اقترانها به، وقلتم: تكون بيانًا أو تخصيصًا، فهلَّا كان حكمها مع التأخُّر كذلك، والبيان لا يجب اقترانُه بالمبين، بل يجوز تأخيره إلى وقت حضور العمل، وما ذكرتموه من إيهام اعتقادِ خلافِ الحق فهو مُنتَقضٌ بجواز بل وجوب تأخير الناسخ وعدم الإشعار بأنه سينسخه، ولا محذور في اعتقاد موجب النص ما لم يأت ما يرفعه أو يرفع ظاهره؛ فحينئذ يعتقد موجبه كذلك، فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به إذ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. يوضحه الوجه الثامن: أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدًا بعدم ورود [ما يرفع ظاهره، كما يعتقد المنسوخ مؤبدًا اعتقادًا مقيدًا بعدم ورود] (¬3) ما يبطله، وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه. الوجه التاسع: أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخًا وإن تضمَّن رفع الأجزاء بدونه، كما صرَّح بذلك بعض أصحابكم (¬4) وهو الحق؛ فكذلك إيجاب كل زيادة، بل أولى أن لا تكون نسخًا؛ فإن إيجاب الشرط يرفع ¬

_ (¬1) انظر المسألة في: "الرسالة" (156) للشافعي، و"التبصرة" (264)، و"المنخول" (292)، و"المستصفى" (1/ 80)، و"أصول السرخسي" (2/ 67)، و"المحصول" (3/ 519)، و"الإحكام" (4/ 617) لابن حزم و (3/ 217) للآمدي، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (17/ 195 - 197)، و"الموافقات" (3/ 339)، و"البحر المحيط" (4/ 97 - 98)، و"المسودة" (251 - 214)، و"تيسير التحرير" (3/ 203)، و"كشف الأسرار" (3/ 175)، و"إرشاد الفحول" (191)، و"مذكرة في أصول الفقه" (84) للشنقيطي. (¬2) في (ن): "لما جاء". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) انظر: "المستصفى" (1/ 117)، و"شرح العضد على المختصر" (2/ 202)، و"فواتح الرحموت" (2/ 92)، و"الزيادة على النص" (37 - 38) لسالم الثقفي، و"الزيادة على النص" (31 وما بعد) لعمر بن عبد العزيز.

[تخصيص القرآن بالسنة جائز]

إجزاء المشروط عن نفسه وعن غيره، وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة. الوجه العاشر: أن الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخًا، وذلك أن الأحكام لم تُشرع جملةً واحدة، وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئًا بعد شيء، وكل منها زائد على ما قبله، وكان ما قبله جميع الواجب، والإثم محطوط عمَّن اقتصر عليه، وبالزيادة تغير هذان الحكمان؛ فلم يَبْقَ الأولُ جميعَ الواجب، ولم يحط الإثم عمن اقتصر عليه، ومع ذلك فليس الزائد ناسخًا للمزيد عليه؛ إذ حكمُه من الوجوب [وغيره] (¬1) باقٍ؛ فهكذا (¬2) الزيادة المتعلِّقة بالمزيد لا تكون نسخًا له (¬3)، حيث لم تَرفعْ حكمه، بل هو باقٍ على حكمه وقد ضم إليه غيره. يوضحه الوجه الحادي عشر: أن الزيادة وإنْ (¬4) رفعت حكمًا خطابيًا كانت نسخًا، وزيادة التغريب وشروط الحكم وموانعه (¬5) لا ترفع حكمَ الخِطاب، وإن رفع حكم الاستصحاب. يوضحه الوجه الثاني عشر: أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب وكونه مُجْزئًا وحده وكون الإثم محطوطًا عن المقتصر عليه (¬6) إنما هو من أحكام البراءة الأصلية؛ فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول، ولا أُريد به؛ فإنَّ معنى كون العبادة مُجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها، وحط الذم عن فاعلها معناه أنه قد خرج من عُهدة الأمر فلا يلحقه ذم، والزيادة وإن رفعت هذه الأحكام لم ترفع حكمًا دلَّ عليه لفظ المزيد. [تخصيص القرآن بالسنة جائز] يوضحه الوجه الثالث عشر: أن تخصيص القرآن بالسنة جائز؛ كما أجمعت ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع و (ن): "فهذه". (¬3) في المطبوع: "ناسخًا له". (¬4) في المطبوع: "إن". (¬5) بعدها في المطبوع "وحراحق" هكذا، قال (د): "كذا بالأصول، وربما كانت هذه الكلمة مصحفة عن "وجزائه" أو نحو ذلك". وقال (و): "هكذا بكل نسخه"، ونحوه في (ط)، قلت: وهي ساقطة من (ق) ورسمها في (ك) غير واضح!! (¬6) في المطبوع: "عمن اقنصر عليه".

[الزيادة لا توجب نسخا]

الأمة على تخصيص قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" (¬1) وعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يرث المسلمُ الكافر" (¬2) وعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا قطع في ثَمرٍ ولا كَثَر" (¬3) ونظائر ذلك كثيرة؛ فإذا جاز التخصيص -وهو رفع بعض ما تناوله اللفظ؛ وهو نقصانٌ من معناه- فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله ولا نقصانه بطريق الأوْلى والأحْرى. [الزيادة لا توجب نسخًا] الوجه الرابع عشر: أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة ولا شرعًا ولا عرفًا ولا عقلًا، ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره أو ماله أو جاهه أو علمه أو ولده: إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس، بل تقول في: الوجه الخامس عشر: إن الزيادة قرَّرت حكم المزيد وزادته بيانًا وتأكيدًا؛ فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقال: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، وقال: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما تزيده قوةً وتأكيدًا وثبوتًا، فإن كانت متصلة به اتِّصال الجزاء والشرط كان ذلك أقوى له وأثبت وآكد، ولا ريبَ أن هذا ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) سبق -أيضًا- تخريجه قريبًا. وقال (و): "بقيته: "ولا الكافر المسلم" رواه الجماعة، ويقول الشوكاني عن أحاديث الباب: إنها قاضية بأنه لا يرث المسلم من الكافر من غير فرق بين أن يكون حربيًا، أو ذميًا أو مرتدًا، فلا يقبل التخصيص إلا بدليل. أقول: ونلمح من القرآن الكريم هذا المعنى؛ لأن الخطاب في آيات الميراث موجه للمؤمنين، (ولكم)، و (يوصيكم)، وهكذا" اهـ. (¬3) سبق تخريجه مفصلًا. وقال (د): قوله: "ولا كثر" هو بالفتح أو بالفتحتين: جمار النخل، وهو شحمهُ الذي في وسط النخلة، وهو شيء أبيض وسط النخلة يؤكل، وقيل: الكثر: الطعام أول ما يؤكل". قلت: وهو بنصه في نسخة (ح) عدا قوله: "بالفتح"، ونحوه في (و)، و (ط).

أقرب إلى المعقولِ والمنقولِ والفطرةِ من جعل الزيادة مُبْطِلة للمزيد عليه ناسخة له. الوجه السادس عشر: أن الزيادة لم تتضمن النَّهي عن المزيد ولا المنع منه، وذلك حقيقةُ النسخ، وإذا انتفت حقيقةُ النسخ استحال ثبوته. الوجه السابع عشر: أنه لا بد في النَّسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ، وامتناع اجتماعهما، والزيادة غير منافيةٍ للمزيد عليه ولا اجتماعهما ممتنعٌ. الوجه الثامن عشر: أن الزيادة لو كانت نسخًا لكانت إما نسخًا (¬1) بانفرادها عن المزيد أو بانضمامها إليه، والقِسمان مُحال؛ فلا يكون نسخًا؛ أمَّا الأول فظاهر لأنها لا حكم لها بمفردها ألبتَّة؛ فإنها تابعة للمزيد في حكمه (¬2)، وأما الثاني فكذلك أيضًا؛ لأنها إذا كانت ناسخةً بانضمامها إلى المزيد كان الشيء ناسخًا لنفسه ومبطلًا لحقيقته، وهذا غير معقول، وأجاب بعضهم عن هذا بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته، وهذا الجواب لا يُجدي عليهم شيئًا، والإلزام قائم بعينه؛ فإنه يُوجب أن يكون المزيد عليه قد نَسَخ حُكَم نفسه وجعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزئ بعد أن كان مجزئًا. الوجه التاسع عشر: أن النُّقصانَ من العبادة لا يكون نسخًا لما بقي منها فكذلك الزيادة عليها لا تكونُ نسخًا لها، بل أولى؛ لما تقدم. الوجه العشرون: أن نسخَ الزيادة للمزيد عليه؛ إما أن يكون نسخًا لوجوبه أو لإجْزائِه، أو لعدمِ وجوب غيره، أو لأمرٍ رابعٍ، وهذا كزيادة التغريب مثلًا على المئة جلدة، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها فإن الوجوب بحاله، ولا لإجزائها لأنها مجزئة عن نفسها، ولا لعدمِ وجوب الزائد لأنه رفع لحكم عقلي، وهو البراءة الأصلية؛ فلو كان رفعها نسخًا كان كُلَّما أوجب اللَّه شيئًا بعد الشهادتين قد نُسخ به ما قبله، والأمر الرابع غير متصور ولا معقول فلا يُحكم عليه. فإن قيل: بل هاهنا أمر رابع معقول، وهو الاقتصار على الأول؛ فإنه نسخ بالزيادة، وهذا غير الأقسام الثلاثة. فالجواب أنه لا معنى للاقتصار [على] (¬3) غير عدم وجوب غيره، وكونه ¬

_ (¬1) في (ك): "ناسخًا". (¬2) في المطبوع: "تابعة للمزيد عليه في حكمه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.

جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه غيَّرتم التعبير عنه وكسوتموه عبارة أخرى. الوجه الحادي والعشرون: أن الناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على مَحلٍّ واحد يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه، أو بالعكس، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص. الوجه الثاني والعشرون: أن كُلَّ واحد من الزائد والمزيد عليه دليلٌ قائمٌ بنفسه مستقل بإفادة حكمه، وقد أمكن العملُ بالدليلين؛ فلا يجوز إلغاء أحدهما وإبطاله وإلقاء الحرب بينه وبين شقيقه وصاحبه؛ فإنَّ كل ما جاء (من عند) (¬1) اللَّه فهو حق يجب اتباعه والعمل به، ولا يجوز إلغاؤه وإبطاله إلا حيث أبطله اللَّه ورسولُه بنصٍ آخر ناسخ له لا يمكن الجمعُ بينه وبين المنسوخ، وهذا بحمدِ اللَّه منتفٍ في مسألتنا؛ فإن العمل بالدليلين ممكن، ولا تعارض بينهما ولا تناقض بوجه؛ فلا يسوغ لنا إلغاءُ ما اعتبره اللَّه ورسوله، كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه، وباللَّه التوفيق. الوجه الثالث والعشرون: أنه إن كان القضاءُ بالشاهد واليمين ناسخًا للقرآن وإثباتُ التغريب ناسخ للقرآن فالوضوء بالنبيذ أيضًا ناسخٌ للقرآن، ولا فرق بينهما ألبتَّة، بل القضاءُ بالنُّكول (¬2) ومعاقد القُمُط يكون ناسخًا للقرآن، وحينئذ فنسخ كتاب اللَّه بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا مَطْعن فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس والحديث الذي لا يثبت (¬3)، وإن لم يكن نسخًا (¬4) للقرآن لم يكن هذا نسخًا له، وأما أن يكون هذا نسخًا وذاك ليس بنسخ فتحكُّم باطل وتفريقٌ بين المتماثلين (¬5). الوجه الرابع والعشرون: أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن إن كانت تستلزم نسخه فقطعُ رِجْل السارق في المرة الثانية (¬6) نسخ لأنه زيادة على القرآن، وإن لم يكن هذا نسخًا فليس ذلك نسخًا. ¬

_ (¬1) في (ك): "عن". (¬2) في (ق): "والقضاء بالنكول". (¬3) جميع الأحاديث المشار إليها سبق تخريجها، وقال (و): "لا ينسخ شيء من كتاب اللَّه بهذا، ولا بذاك، فهو المهيمن على كل كتاب وكل كلام". (¬4) في المطبوع: "ناسخًا". (¬5) في (د): "متماثلين". (¬6) مضى تخريجه.

الوجه الخامس والعشرون: أنكم قلتم: لا يكون المهرُ أقل من عشرة دراهم (¬1)، وذلك زيادة على [ما في] (¬2) القرآن؛ فإنَّ اللَّه سبحانه أباح [اسْتحِلال] (2) البُضْع بكل ما يُسمَّى مالًا، وذلك يتناولُ القليل والكثير (¬3)، فزدتم على القرآن بقياسٍ في غايةِ الضَّعْف، وبخبرٍ في غاية البطلان؛ فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلِمَ لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة؟ وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخًا. الوجه السادس والعشرون: أنَّكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله: "الطَّوافُ بالبيت صلاةٌ" (¬4)، وذلك زيادة على القرآن؛ فإن اللَّه إنما أمر بالطواف ولم يأمر ¬

_ (¬1) قال (و): "أخرج مسلم [رقم (1405) (16)] عن أبي الزبير قال: سمعت جابرًا يقول: كنا نستمتع بالقُبْضَة من التمر والدقيق الأيام على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال البيهقي: وهذا وإن كان في نكاح المنعة، ونكاح المتعة صار منسوخًا فإنما فسخ منه شرط الأجل، فأما ما يجعلونه صداقًا، فإنه لم ير فيه نسخ. وفي حديث رواه الجماعة: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة، فقال: ما هذا؟ قال: تزوجت أمرأة على وزن نواة من ذهب، قال: بارك اللَّه لك، أولم ولو بشاة" وجزم الخطابي أنها كانت تساوي خمسة دراهم، واختاره الأزهري، ونقله عياض عن أكثر العلماء" اهـ. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) انظر: "زاد المعاد" (4/ 28 - 29)، "تهذيب السنن" (3/ 49 - 50). (¬4) أخرجه الدارمي (1854، 1855)، والترمذي (960)، والبيهقي (5/ 85، 87) في "سننهم"، وابن خزيمة (2739)، وابن حبان (3836 - الإحسان) والحاكم (1/ 459 و 2/ 267) في "صحاحهم"، وابن الجارود في "المنتقى" (461)، وأبو يعلى في "المسند" (2599)، والطحاوي في "المشكل" (5973)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 2001)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 128) من طريق جرير عن عطاء بن السائب عن طاوس عن ابن عباس رفعه، بلفظ: "الطواف حول البيت مثل الصلاة، إلا أنّكم تتكلَّمون فيه، فمن تكلَّم فيه فلا يتكلَّمن إلا بخير". قال الترمذي: "وقد روي هذا الحديثُ عن ابن طاوس وغيره عن طاوس عن ابن عباس موقوفًا، ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن السائب". قلت: هنا أمور: الأول: رواية جرير عن عطاء بعد الاختلاط. الثاني: اضطرب عطاء في رفعه ووقفه، كما تراه في "المشكل" للطحاوي (9573)، و"نصب الراية" (3/ 58)، و"التلخيص الحبير" (2/ 138)، و"الإرواء" (121). الثالث: أخرجه ابن سمويه في "فوائده" من طريق سفيان الثوري عن عطاء به، وسفيان روى عن عطاء قبل اختلاطه، ولذا حسن ابن حجر في "الأربعين العاليات" (رقم 42) هذا الحديث، بهذا الطريق. =

بالطهارة، فكيف لم تجعلوا ذلك نسخًا للقرآن وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين والتغريب في حَدِّ الزنا نسخًا للقرآن؟ الوجه السابع والعشرون: إنَّكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المسبية بحديث ورد (1) زائدٌ على كتاب اللَّه، ولم تجعلوا ذلك نسخًا له، وهو الصواب بلا شك، فهلَّا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن. الوجه الثامن والعشرون: إنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بخبر الواحد (¬1)، وهو زائدٌ على كتاب اللَّه تعالى قطعًا (¬2)، ولم يكن ذلك نسخًا، فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين (1) والتغريب (1) ولم تعدُّوه نسخًا؟ وكل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفًا بحرف. الوجه التاسع والعشرون: إنكم قلتم: لا يفطر المسافر ولا يقصر في أقل من ثلاثة أيام واللَّه تعالى قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وهذا يتناول الثلاثة وما دونها (¬3)، فأخذتم بقياس ضعيف أو أثرٍ لا يثبت في التحديد بالثلاث، وهو زيادة على القرآن، ولم تجعلوا ذلك نسخًا، فكذلك الباقي. الوجه الثلاثون: أنكم منعتم قَطْع من سَرقَ ما يُسرع إليه الفساد من الأموال ¬

_ = الرابع: وقع خلاف فيه على سفيان، فبعضهم رفعه، وبعضه أوقفه، وأخرج رواية الموقوف عنه عن عبيد اللَّه بن طاوس عن ابن عباس به: عبد الرزاق (9789)، والبيهقي (5/ 85). الخامس: أخرج عبد الرزاق (9790)، والنسائي في "الكبرى" (3944)، والبيهقي (5/ 87) الموقوف من طريق إبراهيم بن ميسرة عن طاوس به. السادس: الوقف له حكم الرفع، في حالة عدم صحته، وانظر: "تحفة المحتاج" (1/ 154). السابع: اختلف في وقفه ورفعه اختلافًا شديدًا، وصححه مرفوعًا ابن السكن، وابن خزيمة وابن حبان، وصحح الوقف النسائي والبيهقي، وابن الصلاح، والنووي والمنذري، وقد فصَّل القول فيه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 225)، وكأنه يميل إلى أن الوقف أولى، فإنه بعد أن رجح أحد طرق الحديث قال: إلا أني أظن أنَّ فيه إدراجًا. وانظر: "نصب الراية" (3/ 57 - 58)، و"إرواء الغليل" (1/ 154)، وجزم بصحته مرفوعًا. (¬1) كل هذه الأحاديث سبق تخريجها. (¬2) في (ن)، و (ق): "على الكتاب قطعًا". (¬3) انظر: "زاد المعاد" (1/ 133).

مع أنه سارق حقيقةً ولغةً وشرعًا؛ لقوله: "لا قَطْع في ثَمَر ولا كَثَر" (¬1)، ولم تجعلوا ذلك نسخًا للقرآن، وهو زائد عليه. الوجه الحادي والثلاثون: إنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المسح على العَمَامة (¬2)، وقلتم: إنها زائدة على نص الكتاب فتكون ناسخة له فلا تُقبل (¬3)، ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخُفَّين (¬4) وهي زائدة على القرآن، ولا فَرْق بينهما، واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة، وهو اعتذارٌ فاسد، فإن مَنْ له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كُلٍّ منهما وتعدد طرقهما (¬5) واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قولًا وفعلًا. الوجه الثاني والثلاثون: إنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرَّضاع والولادة وعُيوب النِّساء (¬6)، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا يصح الحديثُ به صِحَّته بالشاهد واليمين، ورددتم (¬7) هذا ونحوه بأنه زائد على القرآن. ¬

_ (¬1) هذا الحديث سبق تخريجه. (¬2) فيه حديث عمرو بن أمية الضَّمري: رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب الوضوء): باب المسح على الخفين (1/ 308/ رقم 204، 205)، وفبه المسح على العمامة دون الناصية. وقد ورد هذا أيضًا من حديث المغيرة بن شعبة لكن فيه المسح على الناصية والعمامة، وقد سبق تخريجه وفي الباب -أيضًا- عن سلمان الفارسي. (¬3) انظر: "زاد المعاد" (1/ 49، 50)، و"تهذيب السنن" (1/ 112)، وكلامه في المطبوع مبتور. (¬4) ورد من حديث جرير بن عبد اللَّه البجلي: رواه البخاري (387) في (الصلاة): باب الصلاة في الخفاف، ومسلم (272) في (الطهارة): باب المسح على الخفين. ومن حديث المغيرة بن شعبة: رواه البخاري (182 و 203 و 206 و 363 و 388 و 2918 و 4421 و 5798 و 5799)، ومسلم (274). ومن حديث حذيفة بن اليمان: رواه مسلم (273). ومن حديث بلال: رواه مسلم (275). ومن حديث علي بن أبي طالب: رواه مسلم (276). هذه أحاديث الصحابة في المسح على الخفين، في "الصحيحين"، وقد ذكر الزيلعي رحمه اللَّه في "نصب الراية" (1/ 162 - 174) أحاديث جماعة من الصحابة، وخرَّجها وبين عللها؛ فلينظر فإنه هام. (¬5) في المطبوع: "كل منها وتعدد طرقها"!. (¬6) انظر: "الطرق الحكمية" (134 - ط المكتبة الأثرية) و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (4/ 549 مسألة 1816) وتعليقي عليه. (¬7) في (ق) و (ك): "ورد".

الوجه الثالث والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أنه لا يحرم أقل من خَمْس رَضْعات، ولا تُحرِّم الرَّضعة والرَّضعتان (¬1)، وقلتم: هي زائدة على القرآن، ثم أخذتم بخبرٍ لا يصح بوجه ما، في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو ما يساويها (2)، ولم تَرَوه زيادة على القرآن، وقلتم: هذا بيان للفظ السارق؛ فإنه مجملٌ والرسول بيَّنه بقوله: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم" (¬2)، فياللَّه العجب! كيف كان هذا بيانًا ولم يكن حديث التحريم بخمس ¬

_ (¬1) التحريم بخمس رضعات: رواه مسلم (1452) في (الرضاع): باب التحريم بخمس رضعات، من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها-. وحديث الرضعة والرضعتان: رواه مسلم (1450) في (الرضاع): باب في المصة والمصتان، من حديث عائشة. وفي الباب عن ابن الزبير، وقيل: عن الزبير. (¬2) ورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن حديث ابن مسعود، ومن حديث أم أيمن. أما حديث عمرو بن شعيب: فرواه أحمد في "مسنده" (2/ 204)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 288)، والدارقطني في "سننه" (3/ 192، 193)، وابن شاهين في "الناسخ والمنسوخ" (ص 455 رقم 609)، وإسحاق في "مسنده" -كما في "نصب الراية" (3/ 359) -، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 792 - 793) من طريق الحجاج عن عمرو بن شعيب به. والحجاج بن أرطاة مدلس، وقالوا: أحاديثه عن عمرو دَلَّسها عن العرزمي إلا أربعة أحاديث. ومما يؤيد هذا أني وجدت ابن حبان في "المجروحين" (2/ 247) يروي الحديث من طريق علي بن مُسْهِر عن العرزمي عن عمرو به، والعرزمي هذا متروك. وقد خالف المثنى؛ فرواه عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن رجل من مزينة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمثنى ضعيف. وأما حديث ابن مسعود؛ فرواه الطبراني في "الأوسط" (7142)، وأبو نعيم في "مسند أبي حنيفة" (ص 214 - 215) من طريق أبي مطيع الحكم بن عبد اللَّه عن أبي حنيفة عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عنه مرفوعًا، وقال: لم يروه إلا الحكم. وأبو مطيع هذا ضعيفٌ جدًا، قال أحمد: لا ينبغي أن يروى عنه، وهو متابع. تابعه محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة به. رواه الدارقطني (3/ 193)؛ لكنه أُعل بالوقف. فقد رواه الطبراني في "الكبير" (9742 و 9743) من طريقين عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود به موقوفًا. وهو منقطع: القاسم بن عبد الرحمن لم يسمع من ابن مسعود. =

رضعات بيانًا لمُجملِ قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ولا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله أو أولى منه في آية الرضاع سواءً بسواء. الوجه الرابع والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمسح على الجَوْربين (¬1). وقلتم: هي زائدة على القرآن (¬2)، وجَوَّزتم الوضوء بالخَمْر المحرَّمة من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت (¬3)، وهو خلاف القرآن. ¬

_ = وله طريق آخر عن ابن مسعود؛ رواه الطبراني أيضًا (7276)، وضعفه الهيثمي (6/ 274) بسليمان بن داود الشاذكوني. والشاذكوني متروك، وفي إسناده أيضًا من لا يُعرف. وأما حديث أم أيمن؛ فرواه الطبراني في "الكبير" (25/ 228)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 163)، وفيه يحيى الحماني، وهو ضعيفٌ جدًا، وقد اختلف في إسناده كثيرًا، كما بَيَّن الحافظ الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 355 - 356)، فهذه طرق واهية لا يشد بعضها بعضًا، ثم هو مخالف للأحاديث الصحيحة في أن القطع يكون في ثلاثة دراهم. (¬1) في هذا عن المغيرة بن شعبة، رواه ابن أبي شيبة (1/ 188)، وأحمد (4/ 252)، وأبو داود (159) في (الطهارة): باب المسح على الجوربين، والترمذي (99)، وابن ماجه (559) في (الطهارة): باب ما جاء في المسح على الجوربين، والنسائي في "الكبرى" (130)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 97)، والطبراني في "الكبير" (20/ 996)، وابن حبان (1338)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 283) من طرق عن سفيان عن أبي قيس الأودي عن الهذيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- توضأ ومسح على الجَوْربين والنعلين. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال أبو داود: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث بهذا الحديث؛ لأن المعروف عن المغيرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مسح على الخفين، وقال النسائي: لا نعلم أحدًا تابع أبا قيس على هذه الرواية، والصحيح عن المغيرة، أنه عليه السلام مسح على الخفين، ونقل البيهقي تضعيف هذه الرواية عن سفيان الثوري وابن مهدي وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، ومسلم بن الحجاج. أقول: أبو قيس الأودي هذا من الثقات؛ لكنه خالف في هذا الحديث. وفي الباب عن أبي موسى وبلال وعن جمع من الصحابة، انظر: "سنن البيهقي"، و"نصب الراية" (1/ 184 - 185)، وانظر: "الخلافيات" (3/ 236 وما بعد - بتحقيقي)، و"رسالة القاسمي" بتحقيق شيخنا الألباني، وتعليق المحدث أحمد شاكر. (¬2) انظر رد المؤلف -رحمه اللَّه- على المخالفين في "تهذيب السنن" (1/ 121 - 123)، و"زاد المعاد" (1/ 50). (¬3) تقدم تخريجه.

الوجه الخامس والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصوم عن المَيْت (¬1) والحجِّ عنه (¬2)، وقلتم: هو زائد على قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] ثم جَوَّزتم أن تُعمل أعمال الحج كلها عن المُغمى عليه، ولم تروه زائدًا على قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وأخذتم بالسنة الصحيحة وأصبتم في حَمْل العاقلة الدية عن القاتل خطأ (¬3) ولم تقولوا هو زائد على قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬4) [الأنعام: 164] {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] واعتذاركُم بأنَّ الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا يفيد؛ لأن عثمان البتّي -وهو من فقهاء التابعين- يَرى أن الدية على القاتل (¬5)، وليس على العاقلة منها شيء، ثم هذا حجة عليكم أن تُجمع الأمة على الأخذ بالخبر وإن كان زائدًا على القرآن. ¬

_ (¬1) ورد من حديث عائشة، رواه البخاري (1952) في (الصوم): باب من مات وعليه صوم، ومسلم (1147) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت. ومن حديث ابن عباس، رواه البخاري (1953)، ومسلم (1148). وقرر المصنف أن الصحيح أنه يجزئ عنه صيام النذر دون صيام الفرض، وبَيّن سر الفرق في "تهذيب السنن" (3/ 278 - 282)، وانظر كتاب "الروح" (ص 120)، و"الموافقات" (3/ 198، 276 - بتحقيقي). (¬2) ورد من حديث ابن عباس، رواه البخاري (1852) في (جزاء الصيد): باب الحج والنذور عن الميت، و (6699) في (الأيمان والنذور): باب من مات وعليه نذر، و (7315) في (الاعتصام): باب من شبه أصلًا معلومًا بأصل مبين. وله ألفاظ أخرى عن ابن عباس فيها جواز الحج مطلقًا دون النذر بالحج، رواه النسائي (5/ 116) في (مناسك الحج): باب الحج عن الميت الذي لم يحج، و (5/ 118) باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين، وابن الجارود (498)، وابن خزيمة (3035)، والدارقطني (2/ 260). وله في "سنن ابن ماجه" (2904) لفظ آخر من حديث ابن عباس أيضًا. وروى مسلم (1149) في (الصيام): من حديث بُريدة قال: بينا أنا جالس عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أتته امرأة. . . قالت؟ إني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت. . . ثم قالت: إنها لم تحج قط، أفأحج عنها؟ قال: حُجّي عنها، وانظر: "بدائع الفوائد" (4/ 121). (¬3) مضى تخريجه. (¬4) في "الأنعام: 164، والإسراء: 15، وفاطر: 18، والزمر: 7، أما في النجم: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)} " (و). (¬5) ذكر الجصاص في "مختصر اختلاف العلماء" (5/ 114) أن مذهبه كمذهب الشافعي: تحمل العاقلة قليل وكثير من قتل، وانظر: "الإشراف" (4/ 144 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب.

الوجه السادس والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في اشتراط المحرم أن يَحلَّ حيث حُبس (¬1) وقلتم: هو زائد على القرآن، فإن اللَّه أمر بإتمام الحج والعمرة، والإحلالُ خلاف الإتمام، ثم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم لَبنِ الفَحْل (¬2)، وهو زائد على ما في القرآن قطعًا. الوجه السابع (¬3) والثلاثون: ردُّكم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالوضوء من مَسِّ الفرج (¬4)، وأكل لحوم الإبل (¬5) وقلتم: ذلك زيادة على القرآن؛ لأن اللَّه تعالى، إنما ذَكَرَ الغَائط، ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة (¬6)، وخبرٍ ضعيف في إيجابه من القيء (¬7)، ولم يكن إذا ذاك زائدًا على [ما ¬

_ (¬1) في هذا حديث عائشة، رواه البخاري (5089) في (النكاح): باب الأكفاء في الدين، ومسلم (1207) في (الحج): باب جواز اشتراط المحرم التحلل بعذر المرض ونحوه. . . قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لضباعة بنت الزبير: "حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني". ورواه مسلم (1208) من حديث ابن عباس. (¬2) رواه البخاري في مواطن منها (2644) في الشهادات باب الشهادة على الأنساب و (5103) في النكاح: باب لبن الفحل، ومسلم (1445) في الرضاع: باب تحريم الرضاعة من ماء الفحل، من حديث عائشة أم المؤمنين. (¬3) في (ك): "السادس" ثم تابع الترقيم على هذا حتى آخر الوجوه. (¬4) حديث: "من مس ذكره؛ فليتوضأ" صحيح، وقد سبق تخريجه مطولًا، وانظر "الخلافيات" (مسألة رقم 20 - بتحقيقي). (¬5) رواه مسلم (360) في (الطهارة): باب الوضوء من لحوم الإبل، من حديث جابر بن سمرة. وفي الباب عن البراء، رواه أحمد (4/ 288)، وأبو داود (184)، والترمذي (81)، وابن ماجه (494). (¬6) أحاديث إيجاب الوضوء من القهقهة قد رُوِيَتْ عن جماعة من الصحابة، وكلها واهية لا تقوم بها حجة، انظرها مفصلة في "الخلافيات" (2/ 361) وتعليقي عليها، و"نصب الراية" (1/ 47 - 54). وفي (ق) و (ك): "الوضوء بالقهقهة". (¬7) إيجاب الوضوء من القيء فيه أحاديث قال عنها البيهقي في "الخلافيات" (2/ 324): "سقيمة، رويت بأسانيد واهية": منها: حديث عائشة: رواه ابن ماجه (1221) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في البناء على الصلاة، وابن عدي (1/ 292 - 293 و 5/ 1928)، ومحمد بن الحسن في "الحجة على أهل المدينة" (1/ 69)، والدارقطني (1/ 153 و 154) والبيهقي (1/ 142)، و"المعرفة" (215)، و"الخلافيات" (619)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (608)، من طريق إسماعيل بن عياش تارة يرويه عن ابن جريج عن أبيه عن عائشة، وتارة عن ابن =

في] (¬1) القرآن إذ هو قول متبعوكم؛ فمن العجب إذا قال من قلَّدتموه قولًا زائدًا على ما في القرآن قَبلتموه وقُلتم: ما قاله إلا بدليل، وسهل عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذ، وإذا قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قولًا زائدًا على ما في القرآن قلتم: هذا زيادةٌ على النص، وهو نسخ، والقرآن لا يُنسخ بالسنة، فلم تأخذوا به، واستصعبتم خلافَ ظاهرِ القرآن، فهان خلافه إذا وَافَقَ قولَ من قلَّدتموه، وصعب خلافه إذا وافق قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬

_ = جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة، وتارة عن ابن جريج عن أبيه مرسلًا. وتارة عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس، وهذه الرواية الأخيرة في "كامل ابن عدي" (1/ 293 و 5/ 1928)، وقد أعله ابن عدي والدارقطني والبيهقي بإسماعيل بن عياش حيث إنه ضعيف الرواية عن العراقيين والحجازيين، ورجحوا جميعًا الإرسال، أي: عن ابن جريج عن أبيه مرسلًا، كما خرجته في التعليق على "الخلافيات" (2/ 327، 333 - 334). وممن رجح الإرسال الذهلي -كما نقله الدارقطني (1/ 155) -، وأبو حاتم؛ كما نقله عنه ابنه في "العلل" (1/ 31)، وأبو زرعة أيضًا (1/ 179)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (2/ 255)، وفي "الخلافيات" (2/ 326 - 327) وغيرهم. ورواه الدارقطني (1/ 154)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (620) من طريق إسماعيل بن عياش عن عباد بن كثير، وعطاء بن عجلان عن ابن أبي مليكة عن عائشة به. وقال: عباد بن كثير، وعطاء بن عجلان ضعيفان. أقول: بل ضعفهما شديد؛ كما بينته في تعليقي على "الخلافيات" (2/ 333). ورواه الدارقطني (1/ 155)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (621) من طريق سليمان بن أرقم عن ابن جريج عن أبيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسليمان هذا متروك، انظر له: "الخلافيات" (2/ 330 - 331)، وتعليقي عليه. ومنها: حديث أبي سعيد الخدري: رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 157) من طريق أبي بكر الداهري عن حجاج عن الزهري عن عطاء بن يزيد عنه. وقال: أبو بكر الداهري عبد اللَّه بن حكيم متروك الحديث. أقول: وقال ابن حبان: يضع الحديث. ومنها: حديث أبي الدرداء: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قاءَ فتوضأ. . . وهذا قد وقع فيه اضطراب، انظره في "الخلافيات" (659، 660)، وتعليقي عليه، و"نصب الراية" (1/ 40 - 41)، و"إرواء الغليل" (1/ 147 - 148)، وهذا ليس صريحًا في إيجاب الوضوء إذ إنه من فعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد يكون فعله للاستحباب. وفي الباب عن ثوبان وأبي هريرة وعلي، انظر: "الخلافيات" (658، 661، 663، 665، 667)، وانظر كلام ابن القيم عن القيء والعفو عن يسيره في "إغاثة اللهفان" (1/ 151). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

الوجه الثامن والثلاثون: إنكم أخذتم بخبر ضعيفٍ لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة (¬1)، ولم تروه زائدًا على القرآن، ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضئ بالاستنشاق (¬2)، وقلتم: هو زائد على القرآن، فهاتوا لنا الفَرْق بين ما يقبل من السنن الصحيحة، وما يرد منها فإمَّا أن تقبلوها كلها، وإن زادت على القرآن وإما أن تردوها كلها إذا كانت زائدة على القرآن وأما التحكّم في قبول ما شئتم منها ورد ما شئتم، [مما لم] (¬3) يأذن به اللَّه ولا رسوله، ونحن نشهد اللَّه شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نردُّ ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل" (1/ 479)، والدارقطني في "سننه" (1/ 115)، والبيهقي في "المعرفة" (رقم 277)، و"الخلافيات" (783، 784)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 81)، وعزاه الزيلعي (1/ 78) للبيهقي في "سننه" ولم أجده. كلهم من طريق بركة بن محمد الحلبي حدثنا يوسف بن أسباط عن الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا. وقال ابن عدي: "لم يروه موصولًا بهذا الإسناد غير بركة". وقال الدارقطني: هذا باطل ولم يحدث به إلا بركة، وبركة هذا يضع الحديث، والصواب حديث وكيع الذي كتبناه قبل هذا مرسلًا عن ابن سيرين أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سن الاستنشاق ثلاثًا. وتابع وكيعًا: عبيد اللَّه بن موسى وغيره. ونحوه في "العلل" (8/ 105) له، وكذا عنه ابن عدي والبيهقي، ولا سيما في "الخلافيات" (2/ 438 - 441)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 97). والرواية المرسلة عن وكيع عند ابن أبي شيبة (1/ 67)، والدارقطني (1/ 115)، والبيهقي في "الخلافيات" (2/ 788)، ورواية عبيد اللَّه بن موسى، عند الدارقطني (1/ 115). وله طريق آخر: رواه ابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 81) من طريق سليمان بن الربيع حدثنا همام بن مسلم عن الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة. وقال: فيه همام بن مسلم ولعله سرقه. وقال ابن حبان: كان يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم، ويسرق الحديث فبطل الاحتجاج به. وفيه سليمان بن الربيع، قال الدارقطني: ضعيفٌ غيَّر أسماء مشايخ وروى عنهم مناكير. (¬2) رواه البخاري (161) في (الوضوء): باب الاستنثار في الوضوء، و (162) في الاستجمار وِترًا، ومسلم (237) في (الطهارة): باب الإيتار في الاستنثار والاستجمار من حديث أبي هريرة، ولفظ بعض طرقه: "فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "منها فما لم".

لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة واحدة صحيحة أبدًا إلا بسنة صحيحة مثلها نعلم أنها ناسخة لها. الوجه التاسع والثلاثون: إنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في القَسْم للبكر سبعًا يُفضّلها بها على مَنْ عنده من النساء وللثيّب ثلاثًا إذا أَعرس بهما (¬1) وقلتم: هذا زائد على العَدْل المأمور به في القرآن ومخالف له، فلو قبلناه كنا قد نسخنا به القرآن (¬2)، ثم أخذتم بقياس فاسد واهٍ لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطَّوْل غير خائف العَنَت إذا لم تكن تحته حُرَّة، وهو خلاف ظاهر القرآن وزائد عليه قطعًا. الوجه الأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإسقاط نَفقةِ المبتوتة وسُكناها (¬3)، وقلتم: هو مخالف للقرآن، فلو قبلناه كان نسخًا للقرآن به، ثم أخذتم بخبر ضعيفٍ لا يصح "أن عِدَّة الأمة قرءان وطلاقها طلقتان" (¬4) مع كونه زائدًا على ما في القرآن قطعًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5214) في (النكاح): باب إذا تزوج البكر على الثيب، و (5214) باب إذا تزوج الثيب على البكر، ومسلم (1461) في (الرضاع): باب قدر ما تستحقه البكر والثيب من إقامة الزوج عندها عقب الزفاف، من حديث أنس قال: السنة إذا تزوج البكر أقام عدها سبعًا، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا. قال أحد الرواة: ولو قلت: إنه رفعه؛ لصدقت. وفي حديث أم سلمة في "صحيح مسلم" أيضًا (1460) قال لها -صلى اللَّه عليه وسلم-: ليس بك هوان على أهلك إن شئت سبعت عندك، وإن شئت ثلثت ثم رددتُ، قالت: ثلث. (¬2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 147 و 4/ 18 - 20). (¬3) رواه مسلم (1480) في (الطلاق): باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، من حديث فاطمة بنت قيس، وقد تقدم. (¬4) ورد من حديث عائشة وابن عمر وابن عباس. أما حديث عائشة: فرواه الدارمي (2299) وأبو داود (2189) في (الطلاق): باب في سنة طلاق العبد، والترمذي (1182) في (الطلاق): باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان، وابن ماجه (2080) في (الطلاق): باب في طلاق الأمة وعدتها، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2441 - 2442)، والطبراني في "الأوسط" (6749)، والدارقطني (4/ 392)، والحاكم (2/ 205)، وابن الجوزي في "العلل" (107)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 370، 426)، وعزاه الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 226) للعقيلي في "الضعفاء" -ولم أجده في طبعَتيْه- كلهم من طرق عن مُظَاهِر بن أسْلَم عن القاسم عن عائشة مرفوعًا: "طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان". وقال الحاكم في "المستدرك": "مظاهر بن أسلم شيخ من أهل البصرة، لم يذكره أحد =

الوجه الحادي والأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في تخيير ولي الدم [بين] (¬1) الدية أو القود أو العفو (¬2). . . . . ¬

_ = من متقدمي مشايخنا بجرح، فإذن الحديث صحيح"، ووافقه الذهبي!! مع أنه قد ذكر مظاهرًا هذا في "ميزانه"، ونقل تضعيفه عن جمع. ومظاهر هذا ليس له إلا حديثين، ذكرهما ابن عدي في "الكامل"، وقال: يعرف مظاهر بحديث الأمة. وقال أبو داود: هذا حديث مجهول. وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث مظاهر ولا نعرف له غير هذا الحديث. ونقل الدارقطني عن أبي بكر النيسابوري قال: "الصحيح عن القاسم خلاف هذا" ثم روى بإسنادين عن القاسم أنه لا يعلم في كتاب اللَّه ولا في سنة رسوله عن عدة الأمة شيئًا، مما يدل على وهم مظاهر هذا، ولهذا قال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 396): ومظاهر هذا ضعيف بالكلية. وأما حديث ابن عمر: فرواه ابن ماجه (2079)، وابن عدي (5/ 1691)، والدارقطني (4/ 38)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 369) والمزي في "تهذيب الكمال" (21/ 394) من طريق عمر بن شبيب عن عبد اللَّه بن عيسى عن عطية العوفي عنه مرفوعًا: "طلاق الأمة اثنتان، وعدّتها حيضتان". وهذا إسناد ضعيفٌ، عمر بن شبيب، وعطية ضعيفان. قال الدارقطني: تفرد به عمر بن شبيب، وكان ضعيفًا، والصحيح عن ابن عمر ما رواه سالم ونافع عنه من قوله. وموقوف ابن عمر: رواه مالك في "الموطأ" (2/ 574)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 425)، والدارقطني (4/ 38)، وقال بعد روايته: وكذلك رواه الليث، وابن سعد، وابن جريج، وغيرهما عن نافع عن ابن عمر موقوفًا، وهذا هو المطلوب. وحديث عبد اللَّه بن عيسى عن عطية ضعيف، وسالم ونافع أثبت منه وأصح رواية. والوجه الآخر أن عمر بن شبيب ضعيف الحديث لا يحتج بروايته، واللَّه أعلم. وأما حديث ابن عباس: فرواه الحاكم في "المستدرك" (2/ 205) بعد أن روى حديث عائشة المتقدم، قال أبو عاصم: فذكرته لمظاهر بن أسلم فقلت: حدثني كما حدثت ابن جريج، فحدثني مظاهر عن القاسم عن ابن عباس، فذكره. أقول: وهذا أيضًا من تخاليط مظاهر كما تقدم. وانظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (4/ 194/ 202). (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "في". (¬2) ورد هذا من حديث أبي هريرة، وأبي شريح الخُزاعي. أما حديث أبي هريرة: فرواه البخاري في (العلم): (112) باب كتابة العلم، و (2434) في (اللقطة): باب كيف تعرف لقطة أهل مكة و (6880) في (الديات): باب =

بقولكم: "إنها زائدة (¬1) على ما في القرآن، ثم أخذتم بقياسٍ من أفسد القياس"، إنه لو ضربه بأعظم دَبّوس يوجد حتى يَنْثَر دماغه على الأرض فلا قَوَد عليه، ولم تَرَوْا دْلك مخالفًا لظاهر القرآن، واللَّه تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ويقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. الوجه الثاني والأربعون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬2)، وقوله: "المؤمنون (¬3) تتكافأ دماؤُهم" (¬4)، وقلتم: هذا ¬

_ = من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ومسلم (1355) في (الحج) باب تحريم مكة وصيدها، وأبو داود (4505) في (الديات)، والترمذي (1405) في (الديات): باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، والنسائي (8/ 38) في (القسامة): باب هل يؤخذ من قاتل العمد الدية إذا عفا ولي المقتول عن القود، وابن ماجه (2624) في (الديات): باب من قتل له قتيل فهو بالخيار، والحديث طويل في تحريم مكة، وفيه: "ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين"، وقد اختلفت الروايات في تعيين الأمرين، ففي الكتب الخمسة، التخيير بين الدية والقصاص، وعند الترمذي: إما العفو أو القتل. قال ابن حجر في "الفتح": (12/ 207): وعند الترمذي: فإما أن يعفو وإما أن يقتل، والمراد العفو على الدية جمعًا بين الروايتين. قلت: وفي حديث أبي شريح الذي رواه أبو داود (4496) في أول الديات، وابن ماجه (2623) من طريق ابن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عنه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من أصيب بقتل أو خبْل فإنه يختار إحدى ثلاث: إما أن يقتص، وإما أن يعفو، وإما أن يأخذ الدية". أقول: وابن إسحاق مدلس، وسفيان ضعيف، وله طريق آخر رواه أبو داود (4504)، والترمذي (1406) من طريق يحيى بن سعيد، حدثنا ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فمن قتل له قتيل فأهله بين خيرتين: أن يأخذوا العقل أو يقتلوا" قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي الباب أيضًا عن عمرو بن شعيب عن أبيه جَدِّه، وإسناده جَيِّد؛ انظره في "رسالة عمرو بن شعيب عن أبيه جده" (42)، وهو في التخيير بين القود والدية. فرجع الأمر إذن إلى التخيير بين الدية والقتل، وانظر: "نصب الراية" (3/ 351). (¬1) في (ق): "زيادة". (¬2) قوله: لا يقتل مسلم بكافر: رواه البخاري (6915) في (الديات): باب لا يقتل المسلم بكافر، من حديث علي. (¬3) أشار في هامش (ق): إلى أنه في نسخة: "المسلمون". (¬4) رواه أبو داود (3751) في (الجهاد): باب في السرية ترد على أهل العسكر، و (4531) في (الديات): باب أيقاد المسلم بالكافر؟، وأحمد في "مسنده" (2/ 211 و 215)، وابن الجارود في "المنتقى" (1073)، والخطابي في "غريب الحديث" (1/ 553) من طرق عن =

خلاف ظاهر القرآن؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وأخذتم بخبر لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه: "لا قَوَد إلا بالسَّيف" (¬1)، وهو (¬2) مخالف لظاهر القرآن؛ فإنه سبحانه قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬3) [البقرة: 194]. الوجه الثالث والأربعون: إنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أنه: "لا جمعة إلا في مِصْرٍ جامع" (¬4)، وهو مخالف لظاهر القرآن قطعًا وزائد عليه، ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحدٍ من أهل العلم في أن كل بيَّعين فلا بيَع بينهما حتى يتفرقا (¬5)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد. الوجه الرابع والأربعون: إنكم أخذتم بخبر ضعيف: "لا تُقطع الأيدي في الغَزْو" (¬6)، وهو زائد على القرآن، وعدّيتموه إلى سقوط الحدود على مَنْ فَعَل أسبابها في دار الحرب، وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريبَ في صحته في المُصرَّاة (¬7)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه. ¬

_ = عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا إسناد جَيّد. وله شاهد أيضًا من حديث علي بن أبي طالب، رواه أبو داود (4530)، والنسائي (8/ 19 - 20، 24) في (القسامة) وإبراهيم بن طهمان في "مشيخته" (رقم 51) وابن أبي عاصم في "الديات" (رقم 122) والدارقطني (3/ 98). (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ق): "فإنه". (¬3) انظر: "تهذيب السنن" (6/ 330)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 146)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 435). (¬4) أخرجه عبد الرزاق (8/ 168 رقم 5177) وابن أبي شيبة (2/ 101) وأبو بكر المروزي في "الجمعة وفضلها" (رقم 71) وابن المنذر في "الأوسط" (4/ 27) والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 53) وابن عدي (1/ 287) والبيهقي (3/ 179) عن علي قوله. قال البيهقي: "وهذا إنما يروى عن علي موقوفًا، فأما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنه لا يروى عنه في ذلك شيء". وقال الزيلعي في "نصب الراية": (2/ 195): "غريب مرفوعًا، وإنما وجدناه موقوفًا على علي". ومصطلح الزيلعي (غريب)، فيما لم يظفر به، كما صرح هو بذلك. (¬5) هو حديث: "البيعان بالخيار حتى يتفرقا. . . "، وتقدم تخريجه. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) حديث المصراة: أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب النهي للبائع أن لا =

الوجه الخامس والأربعون: إنكم أخذتم بخبر ضعيفٍ -بل باطل- في أنه لا يُؤكل الطافي من السَّمك (¬1)، وهو خلاف ظاهر القرآن؛ إذ يقول تعالى: {أُحِلَّ ¬

_ = يحفِّل الإبل والبقر (4/ 361/ رقم 2150)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب البيوع): باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه (3/ 1155/ رقم 1515)، وباب حكم بيع المصراة (3/ 1158 - 1159/ رقم 1524). (¬1) هو حديث: "ما ألقاه البحر أو جزَر عنه فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه". وهو حديث يرويه أبو الزبير عن جابر، واختلف في رفعه ووقفه. فرواه أبو داود (3815) في (الأطعمة): باب في أكل الطافي من السمك، ومن طريقه الدارقطني (4/ 268) أو (رقم 4620)، والبيهقي (9/ 255 - 256)، وابن ماجه (3247) في (الذبائح): باب الطافي من صيد البحر، وابن عدي في "الكامل" (7/ 2676) والطبراني في "الأوسط" (3/ رقم 2880) والطحاوي في "المشكل" (10/ رقم 4028) وابن الجوزي في "التحقيق" (2/ رقم 1945) من طريق يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا به. قال أبو داود: روى هذا الحديث سفيان الثوري، وأيوب وحماد عن أبي الزبير عن جابر موقوفًا، أوقفوه على جابر. وقال الدارقطني: "رواه غيره -أي غير يحيى بن سليم-، موقوفًا". وقال البيهقي: يحيى بن سُليم الطائفي كثير الوهم سيء الحفظ. أقول: يحيى وإن روى له الشيخان، إلا أنه فيه كلام، وقد اضطرب فيه أيضًا، فرواه عن إسماعيل عن نافع عن ابن عمر، ذكره المزي في "تحفة الأشراف" (2/ 287). وقد خولف أيضًا؛ إذ رواه إسماعيل بن عياش عن إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير به موقوفًا، أخرجه الدارقطني (4/ 268)، أو (رقم 4620 - بتحقيقي)، وقال: وهو الصحيح. ورواه الدارقطني (4/ 268) (أو رقم 4619 - بتحقيقي)، ومن طريقه البيهقي (9/ 255) من طريق أبي أحمد الزبيري عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا، وقال الدارقطني: لم يسنده عن الثوري غبر أبي أحمد، وخالفه وكيع، والعَدَنِيَّان، وعبد الرزاق ومؤمل، وأبو عاصم وغيرهم عن الثوري رووه موقوفًا، وهو الصواب، وكذلك رواه أيوب السختياني وعبيد اللَّه بن عمر، وابن جريج وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفًا. وانظر: "إتحاف المهرة" (3/ 405). قلت: وأبو أحمد هذا ثقة ثبت؛ إلا أنه يخطئ في حديث الثوري كما قال الإمام أحمد وغيره، كما في "التهذيب" (9/ 227). ورواه الترمذي في "العلل الكبير" (2/ 636 رقم 260) والخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 148) من طريق ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا. قال الترمذي: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: ليس بمحفوظ، ويُروى عن جابر خلاف هذا، ولا أعرف لابن أبي ذئب عن أبي الزبير شيئًا، ذكر هذا الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 203). =

لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] فصيدُه ما صِيدَ منه حيًا، وطعامُه قال أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: هو ما مات فيه، صح ذلك عن الصِّدِّيق (¬1)، وابن عَبَّاس (¬2) وغيرهما، ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن مَيْتته حلال (¬3) مع موافقته لظاهر القرآن. ¬

_ = ورواه عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا كذلك يحيى بن أبي أنيسة وهو متروك. ورواه بقية بن الوليد عن الأوزاعي عن أبي الزبير به، ولا يحتج بما ينفرد به بقية فكيف بما خالف فيه؟ ذكر هذا البيهقي في "سننه"، وأسنده من طريق بقية الدينوري في "المجالسة" (رقم 3498). وله طريق آخر عن جابر: رواه ابن عدي (5/ 1923)، والدارقطني (4/ 267) أو (رقم 4618 - بتحققي) والطحاوي في "المشكل"، (4026، 4027) و"أحكام القرآن" -كما في "الجوهر النقي" (9/ 256) - وابن الجوزي في "التحقيق" (رقم 1943) و"العلل المتناهية" (2/ 664) وفيه عبد العزيز بن عبيد اللَّه، وهو واهي الحديث؛ كما قال أبو حاتم في "العلل" لابنه (2/ 46)، وانظر -غير مأمور- تعليقي على "المجالسة" (8/ 201 - 205). (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 380 - 381)، وعبد الرزاق (رقم 8654)، والدارقطني في "سننه" (4/ 269) أو (رقم 4626 - بتحقيقي)، ومن طريقه البيهقي في "سننه الكبرى" (9/ 253) من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن أبي بشير عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال: أشهد على أبي بكر أنه قال: السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها، وفي رواية: أنه أكل السمك الطافي على الماء. وهذا إسناد صحيح. وله طرق أخرى في "سنن الدارقطني" (4/ 270) أو (الأرقام 4627 - 4632 - بتحقيقي). وعلقه البخاري في "صحيحه" قبل حديث (5493). وفي (ق): "أبي بكر الصديق". (¬2) رواه ابن أبي شيبة (5/ 383)، وسعيد بن منصور (رقم 833) (أجزاء التفسير)، والطبري في "تفسيره" (11/ 64 - 65)، والدارقطني في "سننه" (4/ 270) أو (رقم 4628 - بتحقيقي)، والبيهقي (5/ 208 و 9/ 255) من طرق وألفاظ عنه. (¬3) رواه أبو عبيد في "الطهور" (236 - بتحقيقي)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2418)، والدارقطني في "سننه" (1/ 35)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 143) من طريق الهقل بن زياد عن المثنى بن الصَّبَّاح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جَدِّه به، وزاد؛ وماؤه طهور. وهذا إسناد ضعيفٌ جدًا، المثنى بن الصباح قال أبو حاتم وأبو زرعة: ليّن الحديث، وقال النسائي: متروك. ووقع في إسناد الحاكم: "الأوزاعي" بدل المثنى، قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 12): "وهو غير محفوظ". =

الوجه السادس والأربعون: إنكم أَخذتم وأصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السِّباع ومَخْلب من الطَّير (¬1)، وهو زائد على ما في القرآن، ولم تروه ناسخًا، ثم تركتم حديث حل لحوم الخَيْل الصحيح الصريح (¬2)، وقلتم: هو مخالف لما في القرآن (¬3) زائد عليه، وليس كذلك. الوجه السابع والأربعون: إنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل (¬4) مع أنه زائد على القرآن، وحديث عدم القَوَد على قاتل وَلَده (¬5)، وهو زائد على ما في القرآن، مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك، وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لصفية وجَعَل عِتْقَها صدَاقَها (¬6) فصارت بذلك زوجة، وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن، والحديثُ في غاية الصحة. الوجه الثامن والأربعون: إنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في ¬

_ = ورواه الدارقطني (1/ 37) من طريق إسماعيل بن عيَّاش عن المثنى عن عمرو بن شعيب به. وإسماعيل حديثه صحيح عن الشاميين، والمثنى من أهل الحجاز فروايته ضعيفة بالإضافة إلى ضعف المثنى. وفي الباب عن أبي هريرة، وهو صحيح، كما سيأتي في التعليق على (3/ 405)، وتخريجه مطولًا هناك، مع سرد من صَحَّحه من أئمة الحديث، واللَّه الموفق. (¬1) رواه مسلم (1934) في (الصيد): باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع من حديث ابن عباس. (¬2) في هذا أكثر من حديث، منها حديث جابر. . وأذن في لحوم الخيل: رواه البخاري (4219) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5520) في (الذبائح): باب لحوم الخيل، و (5524) باب لحوم الحمر الإنسية، ومسلم (1941) في (الصيد): باب أكل لحوم الخيل. ومنها حديث فاطمة بنت المنذر: رواه البخاري (5519) في (الصيد): باب النحر والذبح، ومسلم (1942)، وجمع ابن فطلوبغا أحاديث الباب في رسالة مفردة وهي مطبوعة بعنوان: "حكم الإسلام في لحوم الخيل". (¬3) في (ق): "كتاب اللَّه". (¬4) مضى تخريجه قريبًا. (¬5) مضى تخريجه. (¬6) رواه البخاري (371) في (الصلاة): باب ما يذكر في الفخذ، و (947) في (صلاة الخوف): باب التكبير والغلس بالصبح، و (4200 و 4201) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5086) في (النكاح): باب من جعل عتق الأمة صداقها، و (5169) في باب الوليمة ولو بشاة، ومسلم (1365) (ص 1043)، و (1365) (85) (ص 1045) في (النكاح): باب فضيلة إعتاق أمة ثم يتزوجها، من حديث أنس مطولًا ومختصرًا.

القرآن، وهو: "كلُّ طلاقٍ جائز إلا طلاق المعتوه" (¬1)، فقلتم (¬2): هذا يدل على وقوع طلاق المكره والسَّكران، وتركتم السنةَ الصحيحة التي لا ريبَ في صحتها فيمن وَجَد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقُّ به (¬3)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] والعجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان؛ فإنَّ منعَ البائع من الوصول إلى الثمن وإلى عَيْن ماله إطعام له (¬4) بالباطل الغرماء؛ فخالفتم ظاهر القرآن مع السنة الصحيحة الصريحة. الوجه التاسع والأربعون: إنكم أخذتم بالحديث الضعيف، وهو: "مَنْ كان له إمامٌ فقراءة الإمام له قراءة" (¬5)، ولم تقولوا هو زائد على القرآن في قوله: {وَأَنْ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1191) في (الطلاق): باب ما جاء في طلاق المعتوه، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1069)، من طريق مروان بن معاوية الفزاري عن عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد عن أبي هريرة مرفوعًا به، وزاد: "المغلوب على عقله". وقال: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث عطاء بن عجلان، وعطاء بن عجلان ضعيفٌ ذاهب الحديث. ورواه ابن عدي في "الكامل" (5/ 2003) من طريق إسماعيل بن عياش عن عطاء بن عجلان به، لكنه قال: عن ابن عباس، فلا أدري هل هذا من تخاليط عطاء بن عجلان أم أن هنالك خطأ مطبعيًا؟! وعطاء هذا قال فيه البخاري: منكر الحديث، وكذَّبه بعضهم، وقال الحافظ في "الفتح" (9/ 345): حديث ضعيفٌ جدًا. والصحيح أنه موقوف على علي، فقد علقه البخاري في "صحيحه" قبل حديث (5269)، ووصله عبد الرزاق (11415)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1113، 1114، 1115، 1116) والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 187) وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (رقم 764، 765، 766، 2549)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 395) وابن حجر في "تغليق التعليق" (4/ 458، 459)، وإسناده صحيح. (¬2) في (ق): "فقالوا". (¬3) رواه البخاري (2402) في (الاستقراض): باب إذا وجد ماله عند مفلس في البيع والقرض، ومسلم (1559) في (المساقاة): باب من أدرك ما باعه عند المشتري وقد أفلس، من حديث أبي هريرة. (¬4) في (ق): "إطعام لماله". (¬5) هذا الحديث له طرق كثيرة كلها ضعيفة، لا أطيل بذكرها، ارجع إليها مفصلة في "نصب الراية" (2/ 7 - 12)، وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 420): "مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة". =

لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطعُ به (¬1)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في قوله: {هَلْ (¬2) تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وخلاف ظاهر قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا مات ابنُ آدم انقطعَ عنه عملُه إلا من ثلاث" (¬3). الوجه الخمسون: رد السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في وجوب الموالاة، حيث أمر الذي ترك لمعة (¬4) من قدمه بأن يعيد الوضوء والصلاة (¬5)، وقالوا: هو ¬

_ = وقال في "الفتح" (2/ 242): "حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره". وانظر: التفصيل في "القراءة خلف الإمام" (147 - فما بعد) للبيهقي، و"الخلافيات" (مسألة رقم 102 - مختصره) للبيهقي أيضًا، و"إمام الكلام" (74) للكنوي و"تحقيق الكلام" (394) للمباركفوري. (¬1) هو حديث المحرم الذي قتلته ناقته. رواه البخاري (1265) في (الجنائز): باب الكفن في ثوبين، و (1266) في (الحنوط)، و (1267 و 1268) في كبف يكفَّن المحرم، و (1839) في (جزاء الصيد): باب ما يُنهى من الطيب للمحرم والمحرمة، و (1849 و 1850) في المحرم يموت بعرفة، و (1851) في سنة المحرم إذا مات، ومسلم (1206) في (الحج): باب ما يفعل بالمحرم إذا مات، من حديث ابن عباس. (¬2) في (ق): "ولا". (¬3) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الوصية): باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (3/ 1255/ رقم 1631)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الوصايا): باب فضل الصدقة عن الميت (6/ 251)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الأحكام): باب في الوقف (3/ 660/ رقم 1376)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وأبو داود في "السنن" (كتاب الوصايا): باب ما جاء في الصدقة عن الميت (3/ 117/ رقم 2880)، وأحمد في "المسند" (2/ 372)، والبخاري في "الأدب المفرد" (رقم 38) عن أبي هريرة مرفوعًا، ولفظ مسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علمٍ يُنتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له". (¬4) "بقعة يسيرة من جسده لم ينلها الماء" (و). وفي (ق): "أمر من ترك لمعة". (¬5) في "صحيح مسلم" (243) في (الطهارة): باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة، من حديث عمر بن الخطاب أن رجلًا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصرهُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: ارجع فأحسن وُضوءَك، ثم صلى، وفي "سنن ابن ماجه" (666) نفس الحديث لكن من طريق ابن لهيعة؛ فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة!! وانظر: "الخلافيات" للبيهقي (مسألة رقم 10 - بتحقيقي) وتعليقي عليه، و"علل =

زائد على كتاب اللَّه (¬1)، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كتاب اللَّه في أنَّ: "أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة" (¬2). ¬

_ = الأحاديث في كتاب الصحيح لمسلم بن الحجاج" (رقم 5) لأبي الفضل الشهيد و"النكت الظراف" (8/ 16 - 17) و"التلخيص الحبير" (1/ 95). (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (1/ 69 - 70)، و"زاد المعاد" (2/ 9). (¬2) ورد من حديث أبي أمامة وواثلة ومعاذ وأبي سعيد وأنس وعائشة. أما حديث أبي أمامة: فرواه الطبراني في "الكبير" (7586)، و"الأوسط" (603) و"مسند الشاميين" (1515، 3420)، والدارقطني في "سننه" (1/ 218) -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 326) و"الخلافيات" (3/ 374 - 375 رقم 1041 - بتحقيقي) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (642)، و"التحقيق" (1/ 260 رقم 303) - والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 326) وفي "المعرفة" (2/ 170 رقم 2266) وفي "الخلافيات" (1040) وابن حبان في "المجروحين" (2/ 182) وابن عدي في "الكامل" (2/ 782) من طريق عبد الملك عن العلاء بن كثير قال: سمعت مكحولًا يحدث عن أبي أمامة مرفوعًا: "أقل الحيض ثلاثة أيام. . . ". قال الدارقطني: عبد الملك هذا رجل مجهول، والعلاء بن كثير ضعيف الحديث، ومكحول لم يسمع من أبي أمامة شيئًا. أقول: العلاء بن كثير وقع في "المعجم الكبير": العلاء بن الحارث، وهو خطأ لأن المصادر وقع فيها: "العلاء بن كثير"، والهيثمي لما ذكره في "المجمع" (1/ 280) ذكر أنه العلاء بن كثير، ووقع (ابن الحارث) في "فيض القدير" (2/ 72) وانظر -لزامًا- بخصوصه "الجوهر النقي" (1/ 326). والعلاء هذا شديد الضعف، قال أحمد: ليس بشيء، وقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. وعبد الملك وقع في "المجروحين": "ابن عمير"!! وقال الدارقطني في "تعليقاته على المجروحين" (ص 206 رقم 263): "قوله في هذا الإسناد: "عبد الملك بن عمير" وهم، حسان بن إبراهيم لم يسمع من عبد الملك بن عمير. وعبد الملك بن عمير لا يحدّث عن العلاء بن كثير، وإنما هو عبد الملك رجل مجهول غير منسوب ولا معروف، وهو بليّة الحديث". ورواه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 333)، وابن عدي (2/ 1098) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 1043 - بتحقيقي) - من طريق سليمان بن عمرو النخعي عن يزيد بن جابر عن مكحول عن أبي أمامة مرفوعًا به. وسليمان بن عمرو هذا هو أبو داود النخعي الكذاب، قال ابن عدي: أجمعوا على أنه يضع الحديث. وأما حديث واثلة: فرواه الدارقطني في "سننه" (1/ 219)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 1046 - بتحقيقي)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (643) =

الوجه الحادي والخمسون: رد الحديث الثابت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أنه: "لا نِكاحَ إلا بوليّ" (¬1)،. . . . . . ¬

_ = و"التحقيق" (1/ 260 - 261 رقم 304) من طريق محمد بن أنس وحماد بن منهال عن محمد بن راشد عن مكحول عنه مرفوعًا، وقال الدارقطني: ابن منهال مجهول، ومحمد بن أحمد بن أنس ضعيف. أقول: ومحمد بن راشد قال فيه ابن حبان: كثرت المناكير في روايته فاستحق الترك. حديث معاذ: رواه العقيلي (4/ 51) -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 639) و"التحقيق" (1/ 261 رقم 306) وابن حزم في "المحلى" (2/ 195 - 196) - من طريق محمد بن الحسن الصدفي عن عبادة عن عبد الرحمن بن غنم عنه مرفوعًا. وقال العقيلي: محمد بن الحسن مجهول في النقل، وحديثه غير محفوظ. ورواه ابن عدي (6/ 2152) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (3/ 419 رقم 1061 - بتحقيقي) - من طريق محمد بن سعيد الشامي عن عبد الرحمن بن غنم به. ومحمد هذا هو المصلوب بالزندقة والصّدفي في الطريق السابق هو هو، كما تراه في "السلسلة الضعيفة" (3/ 604) وتعليقي على "الخلافيات" (3/ 390 - 391). حديث أبي سعيد: رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 57) ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 1044 - بتحقيقي) والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 20)، ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 640) و"التحقيق" (1/ 262) من طريق أبي داود النخعي السابق الذكر الكذاب المشهور، وانظر: "نصب الراية" (1/ 192)، و"تنقيح التحقيق" (1/ 612). حديث أنس: رواه ابن عدي (2/ 715)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 1039) وابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 641) و"التحقيق" (1/ 261 رقم 305) من طريق الحسن بن شبيب عن الحسن بن دينار عن معاوية بن قرة عنه. وفيه الحسن بن دينار، وابن شبيب وهما ضعيفان جدًا. ورواه ابن عدي (2/ 598) من طريق الجلد بن أيوب عن معاوية بن قرة عن أنس. وقال: وهذا الحديث معروف بالجلد بن أيوب. أقول: والجلد هذا قال ابن المبارك: أهل البصرة يُضعفونه، وكان ابن عيينة يقول: جَلْد، ومن جَلْد، ومن كان جَلْد!، وقال أحمد: ضعيف ليس يساوي حديثه شيئًا، وقال الدارقطني: متروك. وحديث عائشة: أشار إليه ابن حبان في ترجمة حسين بن علوان من كتابه "المجروحين" (1/ 245)، وقال: كان يضع الحديث لا يحل كتب حديثه، كذبه أحمد وابن معين. وعزاه الزيلعي لابن الجوزي في "العلل المتناهية"، وفي "التحقيق" (1/ 261)، وليس هو في "العلل" في باب الحيض، ولكنه أورده في الباب الذي يليه في (النفاس، 1/ 385 رقم 465). وانظر: "تهذيب السنن" (3/ 248). (¬1) ورد من حديث جمع من الصحابة أصحها حديث عائشة الآتي بَعْد بلفظ: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل". =

وأنَّ مَنْ أنكحت نفسها فنكاحها باطل (¬1)، وقالوا: هو زائد على كتاب اللَّه؛ فإن اللَّه تعالى يقول: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، وقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعًا في اشتراط الشَّهادة في صحة النكاح. والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله: "لا نكاح إلا بولي مُرْشد وشَاهِدي عدل" (¬2)، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين. ¬

_ = ومنها حديث أبي موسى الأشعري، وجابر، وابن عباس، وأبي هريرة، ومضى تخريج بعضها، وانظرها مفصلة في "نصب الراية" (3/ 185)، و"التخليص الحبير" (3/ 324 - 325)، و"إرواء الغليل" (6/ 243)، و"التحقيق الجلي لحديت لا نكاح إلا بولي" للشيخ مفلح الرشيدي، وما سيأتي. (¬1) ورد من حديث عائشة، رواه عبد الرزاق (6/ 195 رقم 10472)، وابن أبي شيبة (4/ 128)، والطيالسي (1463)، والحميدي (228)، والشافعي (2/ 11)، وأحمد (6/ 47 و 66 و 165 - 166)، وأو داود (2083) في (النكاح): باب في الولي، والترمذي (1102) في (النكاح): باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، وابن ماجه (1879) في (النكاح): باب لا نكاح إلا بولي، والدارمي (2/ 137)، وابن الجارود (700). والطحاوي (3/ 7 و 8)، والدارقطني (3/ 221، 225 - 226)، والحاكم (2/ 168)، وابن عدي (3/ 1115 - 1116)، وابن حبان (4074)، والبيهقي (7/ 105 و 113 و 124 - 125 و 125 و 138)، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (155، 156)، والنسائي في "الكبرى" (5394)، وسعيد بن منصور في "سننه" (528 و 529)، والبغوي (9/ 39 رقم 2262)، والخطيب في "الكفاية" (ص 380)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (1/ 8)، وأبو نعيم (6/ 188) من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة مرفوعًا: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل. . . ". وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. وقد ذكر الإمام أحمد (6/ 47) عقب الحديث: قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن هذا الحديث فلم يعرفه، وقد رد هذه العلة الإمام الترمذي، وابن حبان، وابن عدي، والحاكم وغيرهم، انظر مفصلًا: "نصب الراية" (3/ 185)، و"التلخيص" (3/ 324 - 325)، و"إرواء الغليل" (6/ 243)، وتعليقي على "الموافقات" (3/ 49 - 50). وقد رواه أيضًا غير سليمان بن موسى، تابعه جعفر بن ربيعة، رواه أحمد (6/ 66)، وأبو داود (2084)، والطحاوي (3/ 7)، والبيهقي (7/ 106)، وحجاج بن أرطاة، رواه ابن ماجه (1880)، وأحمد (1/ 250 و 6/ 260)، وابن أبي شيبة (4/ 130)، وعبيد اللَّه بن أبي جعفر، رواه الطحاوي (3/ 7). وفي الباب عن جمع من الصحابة، انظر المصادر المذكورة في الهامش السابق. (¬2) ورد عن جمع من الصحابة، وأصحها حديث عائشة بالإسناد السابق: ابن جريج عن =

فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن فتكون ناسخة فلا تقبل. الوجه الثاني والخمسون: إنكم تجوزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان: أحدهما: أنه باطلٌ مُنافٍ للدّين، والثاني: أنه صحيح مُؤخَّر عن الكتاب والسنة؛ فهو في المرتبة الأخيرة، ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به، فهلَّا قلتم: إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس. فإن قيل: قد دل القرآن على صحة القياس واعتباره وإثبات الأحكام به، فما خرجنا عن مُوجب القرآن، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دَلَّنا عليه القرآن. قيل: فهلَّا قلتم مثل هذا سواء في السُّنة الزائدة على القرآن، وكان قولكم ذلك في السنة أسعد وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين وعرضة للخطأ، بخلاف [قول] (¬1) من ضُمنت لنا العصمة في أقواله، وفَرضَ اللَّه علينا اتّباعه وطاعته. فإن قيل: القياس بيانٌ لمراد اللَّه ورسوله من النصوص، وأنه أريد به (¬2) إثباتُ الحُكم في المذكور في نظيره، وليس ذلك زائدًا على القرآن، بل تفسيرٌ له وتبيين (¬3). قيل: فهلَّا قلتم: إن السُّنة بيانٌ لمراد اللَّه من القرآن، تفصيلًا لما أجمله، وتبيينًا لما سَكتَ عنه، وتفسيرًا لما أبهمه، فإن اللَّه سبحانه أمر بالعدل والإحسان ¬

_ = سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة. حيث زاد جماعة من الرواة فيه عن ابن جريج هذه الزيادة. منهم جعفر بن غياث: رواه ابن حبان (4075). وعيسى بن يونس: رواه الدارقطني (3/ 225 - 226) -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 125) و"معرفة السنن والآثار" (10/ 55 رقم 13635) و"الخلافيات" (3/ ق 66) - وابن حزم في "المحلى" (9/ 465). ويحيى بن سعيد: رواه البيهقي (7/ 125). قال ابن حبان: ولا يصح في ذكر الشاهدين غير هذا الخبر، ونحوه عند ابن حزم، وانظر: "نصب الراية" (3/ 167)، و"مجمع الزوائد" (286 - 287) و"إرواء الغليل" (6/ 258 - 260) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3474). (¬1) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬2) في (ق): "بها". (¬3) في (ق): "بل تفسيرًا له وتبيينًا".

والبر والتقوى، ونهى عن الظُلم والفَواحِش والعدوان والإثم، وأباح لنا الطيِّبات، وحَرَّم علينا الخبائث؛ فكل ما جاءت به السنة فإنها (¬1) تفصيلٌ لهذا المأمور به والمنهي عنه، والذي أُحلّ لنا و [الذي] (¬2) حُرِّم علينا (¬3). وهذا يتبين بالمثال التاسع عشر: وهو أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر في حديث النُّعمان بن بَشير أن نَعْدل بين الأولاد في العطيّة فقال: "اتقوا اللَّه واعْدِلوا بين أوْلَادِكم" (¬4). وفي الحديث: "إني لا أَشهدُ على جَوْر" (¬5)، فسمَّاه جورًا، وقال: "إن هذا لا يصلُح" (¬6)، وقال: "شْهِد على هذا غَيْري" (¬7) تهديدًا له وإلّا فمن الذي يطيب قلبه من المسلمين أن يَشْهَد على ما حكم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه جور، وأنه لا يصلح وأنه خلاف (¬8) تقوى اللَّه وأنه خلاف العدل؟ وهذا الحديث من تفاصيل العدل الذي أمر اللَّه به في كتابه، وقامت به السمواتُ والأرضُ، وأسّست (¬9) عليه الشريعة؛ فهو أشدُّ موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام، فردّ بالمتشابه من قوله: "كلُّ أحدٍ أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" (¬10)، فكونه أحقّ به يقتضي جواز تصرُّفه فيه كما يشاء وبقياسٍ متشابه على إعطاء الأجانب، ومن المعلوم بالضرورة أنَّ هذا المتشابه من العموم والقياس لا يُقاوم هذا المحكم المبيَّن غاية البيان. ¬

_ (¬1) في (ق): "فإنه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع: "والذي أحل لنا هو الذي حرم علينا"، وفي (ن): "والذي أحل والذي حرم علينا"، وفي (ق): "والذي أحل لنا والذي حرم علينا". (¬4) رواه البخاري (2587) في (الهبة): باب الإشهاد في الهبة، ومسلم (1623) (13) في (الهبات): باب كراهية تفضيل بعض الأولاد في الهبة. (¬5) هو مذكور في في بعض طرق الحديث السابق عند البخاري (2650)، ومسلم (1623) (14) و (15) و (16). (¬6) هو في قصة بشير والد النعمان السابقة، لكن وردت في حديث جابر عند مسلم (1624). (¬7) هو مذكور في حديث النعمان أيضًا عند مسلم فقط (1623) (17). (¬8) في (د): "على خلاف". (¬9) في (ن): "وأنبتت"!. (¬10) رواه سعيد بن منصور (رقم 2293) والدارقطني في "سننه" (4/ 235 - 236)، ومن طريقه البيهقي (10/ 319) من طريق هشيم عن عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة مرفوعًا به. وقال البيهقي: هذا مرسل، حبان بن أبي جبلة القرشي من التابعين. =

[رد حكم المصراة بالمتشابه من القياس]

[رد حكم المُصرَّاة بالمتشابه من القياس] المثال العشرون: رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصرّاة (¬1) بالمتشابه من القياس، وزعمهم أن هذا الحديث يُخالف الأصول فلا يُقبل؛ فيقال: الأصولُ كتابُ اللَّه وسنةُ رسوله وإجماعُ أمّته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنّة؛ فالحديثُ الصحيحُ أصلٌ بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟ هذا من أبطل الباطل والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلامُ اللَّه، وكلامُ رسوله، وما عداهما فمردود إليهما؛ فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ قال الإمام أحمد (¬2): إنما القياس أن تقيس على أصل، فأما أن تجيء إلى الأصل فتهدمه ثم تقيس، فعلى أيِّ شيء تقيس؟ وقد تقدّم بيان موافقة حديث المُصرَّاة (1) للقياس، وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس، وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح، وأمّا القياس الباطل فالشريعةُ كلّها مخالفةٌ له، فياللَّه العجب! كيف وافق الوضوء بالنبيذ (¬3) المشتدّ للأصول حتى قُبل وخالف خبرُ المصراة للأصول حتى رُدَّ؟. ¬

_ = أقول: وحبان هذا ثقة، وثقه أبو العرب الصقلي، وذكره ابن حبان في "الثقات". أما السيوطي فقد ذكر الحديث في "جامعه الصغير"، ورمز لصحته فاستدرك عليه المناوي في "الفيض" (5/ 9)، وقال: وهو ذهول أو قصور فقد استدرك عليه الذهبي في "المهذب"، فقال: قلت: لم يصح مع انقطاعه. أقول: وهثيم مدلس وقد عنعن. وعبد الرحمن بن يحيى هذا قال عنه الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" (359): لم أعرفه. أمّا محقق "سنن الدارقطني" فقال: هو عبد الرحمن بن يحيى الصدفي أخو معاوية ليَّنه أحمد!! وهي عبارة الذهبي في "الميزان" وهذا ما اعتمده الشيخ مقبل في "تراجم رجال الدارقطني"! لكن عبد الرحمن الصدفي يروي عن هثيم، وليس العكس، فليس هو إذن. وروى البيهقي في "سننه" (6/ 178) الحديث أوّله، من طريق سعيد بن أبي أيوب عن بشير بن أبي سعيد عن عمر بن المنكدر مرفوعًا، وهذا مرسل أيضًا، وانظر كلام شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1/ 362)، وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4477). (¬1) مضى تخريجه. (¬2) في رواية أحمد بن الحسين بن حسان كما في "العدة" (4/ 1336) لأبي يعلى. (¬3) مضى تخريجه.

[رد نصوص من العرايا المحكمة بنص متشابه]

[رد نصوص من العرايا المحكمة بنص متشابه] المثال الحادي والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في العرايا بالمتشابه من قوله: "التمر بالتمر مثلًا بمثل سواء بسواء" (¬1)، فإن هذا لا يتناول الرُّطب بالتمر. فإن قيل: فأنتم رددتم خبَر النَّهي عن بيع الرطب بالتمر (¬2) مع أنه محكمٌ صريح صحيح بحديث العَرَايا (¬3)، وهو متشابه. قيل: فإذا كان عندكم محكمًا صحيحًا فكيف رددتموه بالمتشابه من اشتراطِ المساواةِ بين التَّمر والتَّمر؟ فلا بحديث النهي أخذتم ولا بحديث العَرَايا، بل خالفتم الحديثين معًا، وأمّا نحن فأخذنا بالسنن الثلاثة، [ونزَّلنا] (¬4) كل سنة على وجهها ومقتضاها، ولم نضربْ بعضَها ببعض، ولم نخالف شيئًا منها؛ فأخذنا بحديث النَّهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلًا، [وأخذنا بحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر مطلقًا] (¬5)، وأخذنا بحديث العَرَايا وخصَّصنا به عموم [حديث] (¬6) النهي عن بيع الرطب بالتمر؛ اتباعًا لسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلّها، وإعمالًا لأدلة الشرع جميعها (¬7) فإنها كلها حق، ولا يجوز ضرب الحق بعضه ببعض وإبطال بعضه ببعض، واللَّه الموفق. [رد حديث القسامة] المثال الثاني والعشرون: رد حديث القسامة (¬8) الصحيح الصريح المحكم (¬9) بالمتشابه من قوله: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ رجالٍ وأموالِهم، ولكن اليمينُ على المُدَّعى عليه" (¬10)، والذي شرع الحكم بالقسامة هو الذي شرع ¬

_ (¬1) و (¬2) و (¬3) مضى تخريجها. (¬4) في المطبوع: "وتركنا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 32 - 33). (¬8) "القسامة كالقسم، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرًا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلًا بين قوم، ولم يعرف قاتله، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينًا، ولا يكون فيهم صبي ولا امرأة، ولا مجنون ولا عبد، أو يقسم بها المتهمون على نفي القتل عنهم، فإن حلف المدعون استحقوا الدية، وإن حلف المتهمون لم تلزمهم الدية. "النهاية" لابن الأثير (4/ 62) (و). (¬9) سبق تخريجه. (¬10) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الرهن): باب إذا اختلف الراهن والمرتهن ونحوه =

أن لا يُعطى أحد بدعواه المجرّدة، وكلا الأمرين حق من عند اللَّه، لا اختلافَ فيه (¬1)، ولم يُعط في القسامة بمجرد الدعوى، وكيف يليق بمن بهرت حكمةُ شَرْعه (¬2) العقول أن لا يعطي المدَّعي بمجرد دعواه عودًا من أراك ثم يعطيه بدعوى مجرّدة دم أخيه المسلم؟ وإنما أعطاه ذلك بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقُه فوق تغليب الشاهدين، وهو اللَّوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولًا في بيت عدوّه، فقوَّى الشارع الحكيم هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء القتيل الذين يَبْعُد أو يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه بسبيل ولا يكون فيهم رجل رشيد يراقب اللَّه؟ ولو عرض على جميع العقلاء هذا الحكم، [والحكم] (¬3) بتحليف العدوّ الذي وجد القتيل في داره (¬4) بأنه ما قتله لرأوا أن ما بينهما من العدل كما بين السماء والأرض! ولو سئل كُلُّ سليمِ الحاسة عن قاتل هذا لقَالَ مَنْ وُجد في داره، والذي يقضى (¬5) منه العجب أن يُرى قتيل يتشحَّط في دمه وعدوُّه هارب بسكين ملطخة بالدم ويُقال: القول قوله؛ فيستحلفه (¬6) باللَّه ما قتله ويخلّي سبيله، ويقدم ذلك على أحسن الأحكام وأعدلها وألصقها بالعقول والفِطَر، الذي لو اتّفقت الحقلاء لم يهتدوا لأحسن منه بل ولا لمثله (¬7). وأين ما تضمنه (¬8) الحكم بالقسامة من حفظ الدماء إلى ما تضمنه (8) تحليف مَن لا يُشك مع القرائن التي تفيد القطع أنه الجاني؟. ونظير هذا إذا رأينا رجلًا من أشراف الناس حاسر الرأس بغير عمامة وآخر ¬

_ = فالبينة. . .، رقم (2514)، و (كتاب الشهادات): باب اليمين على المدّعى عليه في الأموال والحدود رقم (2668)، و (كتاب التفسير): باب {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} رقم (4552)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب اليمين على المدّعى عليه رقم (1711). (¬1) انظر: "زاد المعاد" (3/ 201)، و"تهذيب السنن" (6/ 325)، و"أحكام الجناية" (ص 363 - 376). (¬2) في (ق): "حكمته وشرعه". (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬4) في (ق) و (ك): "بداره". (¬5) في (ك): "يقتضي". (¬6) في (ق): "ويقال: القول فيه: يحلفه". (¬7) انظر: "زاد المعاد" (3/ 100 - 101)، و"تهذيب السنن" (6/ 321 - 322)، و"الطرق الحكمية" (155، 127)، و"كتاب الروح" (ص 16)، و"أحكام الجناية" (ص 388 - 395). (¬8) في (ق) و (ك): "يتضمنه".

[رد السنة في النهي عن بيع الرطب]

أمامه يشتدّ عدوًا وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى؛ فإنّا ندفع العمامة التي بيده إلى حاسر الرأس ونقبل قوله، ولا نقول لصاحب اليد: القولُ قولُك مع يمينك، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو يُعطى الناس بدعواهم" (¬1)، لا يعارض القسامة بوجه؛ فإنه إنما نفى الإعطاء بدعوى مجرَّدة، وقوله: "ولكن اليمين ضلى المُدَّعى عليه" (1) وهو في مثل هذه الصورة حيث لا تكون مع المدعى إلّا مجرد الدعوى، وقد دلّ القرآن على رجم المرأة بلعان الزوج إذا نكَلَتْ، وليس ذلك إقامة للحد بمجرد أيمان الزوج بل بها وبنكولها، وهكذا في القسامة إنما يُقتل (¬2) فيها باللَّوث الظاهر والأيمان المتعدّدة المغلَّظة، وهاتان بيِّنتا هذين الموضعين، والبيّنات تختلف بحسب حال (¬3) المشهود به كما تقدَّم، بأربعة شهود، وثلاثة بالنَّص (¬4) وإن خَالَفه من خَالَفه في بيّنة الإعسار، واثنان، وواحد ويمين، ورجل وامرأتان، ورجل واحد وامرأة واحدة، وأربعة أَيْمان، وخمسون يمينًا، ونكول وشهادة الحال، ووصف المالك اللقطة، وقيام القرائن، والشَّبَه الذي يخبر به القَائِف، ومعاقد القُمُط، ووجوه الآجر في الحائط، وكونه معقودًا ببناء أحدهما عند من يقول بذلك (¬5)؛ فالقسامة مع اللوث [من] (¬6) أقوى البيّنات. [رد السنة في النهي عن بيع الرطب] المثال الثالث والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة في النهي عن بيع الرُّطب بالتمر (¬7) بالمتشابه من قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وبالمتشابه من قياس في غاية الفساد، وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين وإما أن يكونا جنسًا واحدًا، وعلى التقديرين فلا يُمنع بيع أحدهما بالآخر، وأنت إذا نظرت إلى هذا القياس رأيته مصادمًا للسنة أعظم مصادمة، ومع أنه فاسد في نفسه، بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعًا بليِنَته فهو أزيدُ أجزاء من الآخر بزيادة ¬

_ (¬1) مضى تخريجه قريبًا. (¬2) في المطبوع: "يقبل"!. (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "أحوال". (¬4) يشير إلى ما أخرجه مسلم (1044) من حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحمَّلتُ حَمَالة فأتيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وفيه: "يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة. . . ورجل أصابته فاقة، حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه. . . ". (¬5) انظر: "الطرق الحكمية" (24 - ط دار الكتب العلمية)، و"بدائع الفوائد" (3/ 117، 152)، و"كتاب الحدود والتعزيرات" (ص 70 - 71). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) مضى تخريجه.

[رد الإقراع بين الأعبد الستة]

لا يمكن فصلها وتمييزها، ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال؛ إذ هو ظنٌّ وحسبان، فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محضُ القياس ولو (¬1) لم تأت به سُنَّة، وحتى لو لم يكن ربًا ولا القياس يقتضيه لكان أصلًا قائمًا بنفسه يجب التسليم والانقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة، ومن العجب رد هذه السنة بدعوى أنها مخالفة للقياس والأصول وتحريم بيع الكسب بالسِّمسم ودعوى أن ذلك موافق للأصول، فكلُّ أحد يعلم أن جريان الربا بين التمر والرطب أقرب إلى الربا نصًا وقياسًا ومعقولًا من جريانه بين الكسب والسمسم. [رد الإقراع بين الأعبد الستة] المثال الرابع والعشرون: رد المحكم الصريح الصحيح من السنة بالإقراع بين الأَعْبُد الستة المُوصى بعتقهم (¬2)، وقالوا: هذا خلافُ الأصول، بالمتشابه من رأي فاسد وقياس باطل (¬3)، بأنهم إمّا أن يكونَ كلُّ واحد منهم قد استحقّ العِتْقَ فلا يجوز نقله عنه إلى غيره أو لم يستحقه فلا يجوز أن يعتق منهم أحد، وهذا الرأي الباطل كما أنه في مصادمة السنة فهو فاسد في نفسه؛ فإن العتق إنما استحق في ثلث ماله ليس إلّا، والقياس والأصول تقتضي جمع الثلث في محل واحد، كما إذا أوصى بثلاثة دراهم وهي كل ماله، فلم يُجز الورثة، فإنّا ندفع إلى المُوصى له درهمًا ولا نجعله شريكًا بثلث كل درهم، ونظائر ذلك؛ فهذا المُعتق لعبيده كأنه أوصى بعتق ثلثهم؛ إذ هذا هو الذي يملكه، وفيه صحة الوصية؛ فالحكم بجمع (¬4) الثلث في اثنين منهم أحسن عقلًا وشرعًا وفطرة مِنْ جَعْل الثلث شائعًا في كل واحد منهم، فحكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه المسألة خيرٌ من حكم غيره بالرأي المحض. [رد تحريم الرجوع في الهبة] المثال الخامس والعشرون: رد السنة الصريحة المحكمة في تحريم الرجوع ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لو". (¬2) مضى تخريجه. (¬3) انظر كلام ابن القيم على الحديث، وتوجيه قول الإمام أحمد: حديث الحسن عن عمران لا يصح في "الطرق الحكمية" (ص 323، 340 - 343، 367 - 368). (¬4) في (ك): "بجميع".

في الهبة [لكل أحد] إلا للوالد (¬1) برأي متشابه فاسد اقتضى عكس السنة وأنه يجوز الرجوع في الهبة لكل أحدٍ إلا لوالدٍ أو لذي رَحم محرم أو لزوج أو زوجة أو يكون الواهب قد أُثيب منها، ففي هذه المواضع الأربعة يمتنع الرجوع وفرَّقوا بين الأجنبي والرحم بأن هبةَ القريب صلةٌ، ولا يجوز قطعها، وهبة الأجنبي تبرّع، وله أن يمضيه وأن لا يمضيه، وهذا مع كونه مصادمًا للسنة مصادمة محضة فهو فاسد؛ لأن الموهوبَ له حين قَبضَ العَينَ الموهوبة دَخَلت في مُلكه، وجاز له التصرّف فيها؛ فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه منه بغير رضاه، وهذا باطل شرعًا وعقلًا، وأما الوالد فولده جزء منه، وهو وماله لأبيه (¬2)، وبينهما من البعضية ما يوجب شدة الاتصال، بخلاف الأجنبي. فإن قيل: لم نخالفه إلا بنصٍّ صريح صحيح، وهو حديث سالم عن أبيه عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ وَهَبَ هبةً فهو أحقُّ بها ما لم يَثُبْ منها" (¬3)، قال البيهقي: قال لنا أبو ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 27 و 78)، وأبو داود (3539) في "البيوع والإجارات": باب الرجوع في الهبة، والترمذي (1299) في (البيوع): باب ما جاء في الرجوع في الهبة، والنسائي (6/ 265) في (الهبة): باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده، و (6/ 267 و 268) في باب ذكر الاختلاف على طاوس في الراجع في هبته، وابن ماجه (2377) في (الهبات): باب من أعطى ولده ثم رجع فيه، وابن الجارود (994)، وأبو يعلى (2717)، وابن حبان (5123)، والدارقطني (3/ 42 - 43)، والحاكم (2/ 46)، والبيهقي (6/ 179) من حديث حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عباس وابن عمر. وسنده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عمرو بن شعيب، فقد روى له أصحاب السنن وهو ثقة. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) كما ورد في الحديث الصحيح، وتقدم تخريجه. (¬3) رواه الدارقطني (3/ 43)، وفي "العلل" (2/ 58)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 52)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (6/ 180 - 181)، وابن الجوزي في "التحقيق" (8/ 160 رقم 1864 - ط قلعجي) من طريق عبيد اللَّه بن موسى: أنبانا حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعت سالم بن عبد اللَّه عن ابن عمر مرفوعًا به. قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، إلا أن نكل الحمل فيه على شيخنا"، ولم يتعقبه الذهبي بشيء في المطبوع، أما المناوي فقال في "فيض القدير": "وقفت على نسخة من تلخيص "المستدرك" للذهبي بخطه، فرأيته كتب على الهامش بخطه ما صورته: موضوع"، ولم ينقل ذلك ابن الملقن. قلت: شيخ الحاكم هذا متابع، وإنما الخطأ فيه من عبيد اللَّه بن موسى. =

عبد اللَّه -يعني الحاكم-: هذا حديث صحيح، إلّا أن يكون الحمل فيه على شيخنا، يُريد: أحمد بن إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي، ورواه الحاكم من حديث عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الواهب أحق بهبته ما لم يُثَبْ" (¬1)، وفي كتاب الدارقطني من حديث حَمَّاد بن سلمة، عن قَتَادة، عن الحَسَن، عن سَمُرة، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا كانت الهبة لذي رَحمٍ محرم لم يَرجع فيها" (¬2)، ¬

_ = قال الدارقطني: والصواب عن ابن عمر عن عمر موقوفًا، وكذا في "العلل" (2/ 57 - 58) له. وقال البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (9/ 68 - 69): وغَلِط فيه عبيد اللَّه بن موسى، والصحيح رواية عبد اللَّه بن وهب عن حنظلة عن سالم عن أبيه عن عمر موقوفًا، ثم رواه من هذا الطريق في "السنن الكبرى" (6/ 181)، وتابع ابن وهب عليه مكي بن إبراهيم، رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 81). وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 271): وروى ابن عيينة عن عمرو عن سالم عن ابن عمر عن عمر قوله، وهذا أصح. وله طرق أخرى عن عمر قوله عند الطحاوي (4/ 81، 82). أقول: وعبيد اللَّه بن موسى هذا ثقة؛ إلّا أنّه وَهم كما قالوا، ورواه إبراهيم بن إسماعيل بن جارية فقال: عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة مرفوعًا. رواه ابن ماجه (2387) في (الأحكام): باب من وهب هبة رجاء ثوابها، وابن أبي شيبة (6/ 474)، والدارقطني (3/ 43)، والبيهقي في "الكبرى" (6/ 181)، وابن الجوزي في "التحقيق" (8/ 160 رقم 1865). قال البيهقي: وهذا المتن بهذا الإسناد أليق، وإبراهيم بن إسماعيل ضعيف عند أهل العلم بالحديث، وعمرو بن دينار عن أبي هريرة منقطع، والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن سالم عن ابن عمر عن عمر، قال البخاري: هذا أصح، وهذا ذكره البخاري في "التاريخ" (1/ 271) ونحوه قال البوصيري، وعبد الحق الإشبيلي في "أحكامه" (5/ 441)، وابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 441) ثم احتمل الوجهين فيه (5/ 456). وفي الباب عن ابن عباس: رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 44)، وفيه زيادة، وسيورد المصنف سنده ولفظه قريبًا. ورواه الطبراني في "الكبير" (11317) من طريق ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس. وابن أبي ليلى ضعيف سيء الحفظ، وهو مخالف لحديث: "لا يحل للرجل أن يعطي الحطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده". (¬1) مضى تخريجه في الذي قبله. (¬2) رواه الدارقطني (3/ 44)، والحاكم (2/ 52)، والبيهقي (6/ 181)، وابن الجوزي في "التحقيق" (8/ 161 رقم 1866 - ط قلعجي) من طريق عبد اللَّه بن جعفر عن ابن المبارك =

وفي "الغيلانيات": ثنا إبراهيم بن [أبي] (¬1) يحيى، عن محمد بن عبيد اللَّه (¬2)، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ وَهب [هبة] (¬3) فارتجع بها فهو أحقُّ بها ما لم يثب منها، ولكنّه كالكلب يعود في قيئه" (¬4). فالجواب أن هذه الأحاديث لا تثبت، ولو ثبتت لم تحل مخالفتها ووجب ¬

_ = عن حماد بن سلمة به، وقال الدارقطني: تفرد به عبد اللَّه بن جعفر. أقول: وهو الرقي، ثقة، أما الحاكم فصححه على شرط البخاري! وقال البيهقي: ليس إسناده بالقوي. وقال ابن عبد الهادي في "التنقيح" -كما في "نصب الراية" (4/ 127): وليس هو في المطبوع من "التنقيح" (3/ 100 - ط دار الكتب العلمية): "رواة هذا كلهم ثقات، ولكنه حديث منكر، وهو من أنكر ما رُوي عن الحسن عن سمرة"، ثم وجدتُ الذهبي في "التنقيح" (8/ 161) يقول عنه أيضًا: "الحديث منكر". أقول: والحسن البصري في سماعه من سمرة كلام طويل. والنكارة فيه أنه يخالف الحديث الصحيح: "لا يحل للرجل أن يعطي العطية فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده"، كما سيلمح إليه المصنف قريبًا، خلافًا لما ذهب إليه الشيخ النابه النبيل الشريف حاتم العوني في "المرسل الخفي" (3/ 1447 - 1448)، فانظر كلامه إن شئت الاستزادة، واللَّه الموفق والهادي. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) كذا في (ن) و (ك) وهو الصواب وفي سائر الأصول: "عبد اللَّه". (¬3) في (ق) و (ك): "منه"، وقال في هامش (ق): "لعله: هبة". (¬4) أخرجه الدارقطني (3/ 44) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (8/ 162 رقم 1867) - من طريق يحيى بن غيلان: حدثنا إبراهيم بن أبي يحيى به. وإسناده ضعيف جدًا؛ إبراهيم ومحمد الحرزمي متروكان، قاله الذهبي في "التنقيح" (8/ 161 - 162)، وأعلّه عبد الحق في "أحكامه" (3/ 313) بمحمد بن عبيد اللَّه العرزمي، قال: "وهو ضعيفٌ"، وتعقبه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 135) بقوله: "وبقي عليه أن يبيّن أنه لا يصل إلى العرزمي إلا على لسان كَذَّاب، لعل الجناية منه، وهو إبراهيم بن أبي يحيى، وهو بنفسه قد نَسب إليه الكذب في مواضع". وانظر: "أطراف الغرائب والأفراد" (3/ 198 رقم 2418 - ط. دار الكتب العلمية). (تنبيه): ظن المصنف أن الحديث في "الغيلانيات"، لوجود (يحيى بن غيلان)!! -وهو ثقة- في إسناده، فأراد أن يعلو في عزوه، فالحديث ليس فيه بطبعاته الثلاث، ولم يعزه غيره له إلّا من قلَّده. و"الغيلانيَّات" نسبة إلى ما رواه أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز عن صاحبها أبي بكر محمد بن عبد اللَّه الشافعي، ولا صلة لها بـ (يحيى بن غيلان)، فتنبه لذاك، تولَّى اللَّه هداك.

العمل بها وبحديث: "لا يحلُّ لواهب أن يرجعَ في هبته" (¬1)، ولا يبطل أحدهما بالآخر، ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع من وهب تبرُّعًا محضًا لا لأجل العِوَض، والواهبُ الذي له الرجوعُ مَنْ وَهبَ ليتعوَّض من هبته ويثاب منها، فلم يفعل المُتَّهب، وتستعمل (¬2) سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها، ولا يُضرب بعضها ببعض، أما حديث ابن عمر فقال الدارقطني (¬3): "لا يثبت مرفوعًا، والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله"، وقال البيهقي (¬4): "ورواه علي بن سَهْل بن المغيرة، عن عُبيد اللَّه بن موسى، ثنا حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعتُ سالم بن عبد اللَّه، فذكره، وهو غير محفوظ بهذا الإسناد، وإنما يُروى عن إبراهيم بن إسماعيل بن مُجمِّع، وإبراهيم ضعيف"، انتهى. وقال الدارقطني: "غَلِط فيه علي بن سهل"، انتهى. وإبراهيم بن إسماعيل (¬5) هذا قال أبو نعيم (¬6): لا يُساوي حديثه فلسين، وقال أبو حاتم الرازي (¬7): لا يُحتج به، وقال يحيى بن معين (¬8): إبراهيم بن إسماعيل المكي ليس بشيء، وقال البيهقي (¬9): والمحفوظ عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، عن عمر: "مَنْ وهب هبة فلم يُثَب منها فهو أحق بها إلا لذي رحم محرم" (¬10) قال البخاري (¬11): هذا أصح. وأما حديث عُبيد اللَّه بن موسى عن حنظلة فلا أراه إلا وَهْمًا، وأما حديث حماد بن سلمة فمن رواية عبد اللَّه بن جعفر الرَّقي عن ابن المبارك، وعبد اللَّه هذا ضعيف (¬12) عندهم. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه قريبًا. (¬2) الكلمتان في (ق) و (ك): بالنون بدل الياء. (¬3) في "سننه" (3/ 44)، و"علله" (2/ 57 - 58). (¬4) في "سننه الكبرى" (6/ 181)، و"المعرفة" (9/ 68 - 69). (¬5) قال في هامش (ق): "إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع ضعيف". (¬6) ذكره عنه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (2/ 84)، وأبو نعيم هو الفضل بن دكين. (¬7) في "الجرح والتعديل" (2/ 84) وعبارته كما هي هناك: "يكتب حديثه ولا يحتج به وهو قريب من ابن أبي حبيبة كثير الوهم ليس بالقوي". (¬8) في "تاريخ الدوري" (2/ 6). (¬9) في "السنن الكبرى" (6/ 181). (¬10) مضى تخريجه قريبًا. (¬11) في "التاريخ الكبير" (1/ 271). (¬12) بل هو ثقة، لكنه تغير بأَخرة فلم يفحش اختلاطه، وانظر له: "المختلطين" (ص 61 رقم 24) للعلائي، و"الكواكب النيرات" (ص 299 - 304)، و"الاغتباط" (ص 186)، و"تهذيب الكمال" (14/ 376 رقم 3204)، و"التقريب" (3253).

[رد القضاء بالقافة]

وأما حديث ابن عباس فمحمد بن عبيد اللَّه فيه هو العرزمي، ولا تقوم به حُجَّة، قال الفَلَّاس (¬1) والنَّسائي (¬2): هو متروك الحديث. وفيه إبراهيم بن [أبي] يحيى، قال مالك (¬3) ويحيى بن سعيد (3) وابن معين (¬4): هو كَذَّاب، وقال الدارقطني (¬5): متروك [الحديث] (¬6)، فإن لم تصح هذه الأحاديث لم يُلتفت إليها، وإن صحت وجب حملها على من وهب للعِوَض، وباللَّه التوفيق. [رد القضاء بالقافة] المثال السادس والعشرون: رد السنة المحكمة في القضاء بالقَافَة (¬7)، وقالوا: هو خلاف الأصول، ثم قالوا: لو ادّعاه اثنان ألحقناه بهما، وكان هذا مقتضى الأصول (¬8). ونظير هذا: [رد جعل الأمة فراشًا] المثال السابع والعشرون: رد السنة المحكمة الثابتة (¬9) في جعل الأمة فراشًا وإلحاق الولد بالسيد وإنْ لم يدّعه، وقالوا: هو خلاف الأصول، والأمة لا تكون فراشًا، ثم قالوا: لو تزوَّجها وهو بأقصى بقعة من المشرق وهي بأقصى بقعة من المغرب وأتت بولد لستة أشهر لَحِقه، صمان علمنا بأنهما لم يتلاقيا قط (¬10)، وهي فراشٌ بالعقد، فأمته التي يطؤها ليلًا ونهارًا ليست بفراش، وهذه فراش، وهذا مقتضى الأصول، وحكمُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف الأصول على لازم قولهم! ¬

_ (¬1) كما في "الجرح والتعديل" (8/ 2). (¬2) في "ضعفائه" رقم (521) (ص 203). (¬3) انظر "التاريخ الكبير" (1/ 323 و 324)، و"الجرح والتعديل" (1/ 125). (¬4) "سؤالات ابن الجنيد" (ص 71 رقم 26). (¬5) في "ضعفاء الدارقطني" رقم (14) لم يذكر فيه شيئًا، ونقل الذهبي عنه في "الميزان"، وابن حجر في "التهذيب" أنه قال: متروك. وقال في "سننه" (رقم 171، 465 - بتحقيقي): "ضعيف". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) سبق تخريجه. (¬8) انظر الأدلة على الحكم بالقافة لابن القيم في "الطرق الحكمية" (ص 8 - 9) في الرد على من أنكرها، و (ص 246 - 271)، و"زاد المعاد" (2/ 78 و 4/ 111، 113، 116 - 119)، و"تحفة المودود" (ص 281 - 283). (¬9) في (ق) و (ك): "الثابتة المحكمة". (¬10) انظر كلام ابن القيم حول قاعدة: (عدم لحوق الولد بمجرد العقد مع عدم الاجتماع) في "زاد المعاد" (4/ 115)، و"الطرق الحكمية" (ص 8، 253).

[متناقضان من دون السنة]

[متناقضان من دون السنة] ونظير هذا: قياسُ الحَدث على السَّلام في الخروج من الصلاة بكل واحد منهما، ودعوى أن ذلك موجب الأصول، مع بُعد ما بين الحَدَث والسلام، وترك قياس نبيذ التمر المسكر على عصير العِنَب المُسكر في تحريم قليل كُلٍّ منهما مع شدّة الأخوة بينهما، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول. ونظيره أن الذمي لو مَنَع دينارًا واحدًا من الجزية انتقَضَ عهده، وحلَّ دمه وماله، ولو حَرقَ الكعبة البيت الحرام ومسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجاهر بسبِّ اللَّه ورسوله أقبح سمت على رؤوس المسلمين فعهدُه باقٍ ودمُه معصوم، وعدم النقض (¬1) [بذلك مقتضى الأصول، والنقض] (¬2) بمنع الدينار مقتضى الأصول. ونظيره أيضًا إباحة قراءة القرآن بالعجمية، وأنه مقتضى الأصول، ومنع رواية الحديث بالمعنى، وهو خلاف الأصول. ونظيره: إسقاط الحد عمَّن استأجر امرأة (¬3) ليزنيَ بها أو تغسل ثيابه فزنى بها، وأن هذا مقتضى الأصول، وإيجاب الحد على الأعمى إذا وَجَد على فراشه امرأة فظنها زوجته فبانت أجنبية. ونظيره أيضًا: منع المصلي من الصلاة بالوضوء من ماء يبلغ قناطير مقنطرة وقعت فيه قطرةُ دم أو بول، وإباحتهم له أن يصلي في ثوبٍ ربعه متلطِّخ بالبول وإن كان عَذِرَة فقَدْرَ راحة الكف (¬4). ونظيره: دعواهم أن الإيمان واحد، والناس فيه سواء، وهو مجرد التصديق، وليست الأعمال داخلة في ماهيته (¬5)، وأن من مات ولم يُصلِّ صلاةً قط في عمره مع قدرته وصحة جسمه وفراغه فهو مؤمن، وتكفيرهم من يقول: مُسَيجد أو فُقيّه، بالتصغير (¬6)، أو يقول للخَمْر أو للسَّماع المُحرَّم: ما أطيبه وألذّه (¬7)! ¬

_ (¬1) في (ق): "النقض" وفي هامشة: "لعله: والنقض". (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬3) في (ك): "أمة". (¬4) انظر "بدائع الفوائد" (3/ 130 - 131). (¬5) هذا مذهب المرجئة، نسأل اللَّه السلامة. انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (7/ 195 - 204)، و"منهاج السنة" (5/ 204). (¬6) نص على هذا علي القاري في "شرح ألفاظ كفرية" (رقم 15 - بتحقيقي). (¬7) نص على هذا علي القاري في "شرح ألفاظ كفرية" (رقم 92 - بتحقيقي).

ونظير ذلك: أنه لو شهد عليه أربعة بالزنا فقال: "صَدَقوا"، سقط عنه الحد بتصديقهم، ولو قال: "كَذبوا علي"، حُدَّ (¬1). ونظيره: أنه لا يصح استئجار دار تجعل مسجدًا يُصلِّي فيه المسلمون، وتصح إجارتها كنيسة يعبد فيها الصليب والنار. ونظيره: أنه لو قهقه في صلاته بطل وضوءه، ولو غَنَّى في صلاته أو قذف المحصنات أو شهد بالزور فوضوءه بحاله. ونظيره: أنه لو وقع في البئر فارة تنجَّست البئرُ؛ فإذا نُزع منها دلوٌ فالدلو والماء نجسان، ثم هكذا إلى (¬2) تمام كذا وكذا دلوًا، فإذا نُزع الدَّلو الذي قبل الأخير فرشرش على حيطان البئر نجَّسها كلها فإذا جاءت النَّوْبة إلى الدلو الأخير قشقش النجاسةَ كُلَّها من البئر وحيطانها وطينها (¬3)، بعد أن كانت نجسة. ونظيره: إنكار كون القرعة التي ثبت فيها ستة أحاديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، وفيها آيتان من كتاب اللَّه (¬5) طريقًا للأحكام الشرعية (¬6)، وإثبات حل (¬7) الوطء بشهادة الزور التي يعلم المقدوح أنها شهادة زور، وبها فرَّق الشاهدان بين الرجل وامرأته (¬8). ونظير هذا: إيجاب الاستيراء على السَّيد إذا ملك امرأة بكرًا لا يوطأ مثلها، مع العلم القطعي (¬9) ببراءة رحمها، وإسقاطه عمَّن أراد وطء الأمة التي وطئها سيّدُها البارحة ثم اشتراها هو فملَّكها لغيره وكلَّمه (¬10) في تزويجها منه، فقالوا: ¬

_ (¬1) "تصديقه الشهود هنا، فكأن الزنا قد ثبت عليه بإقراره، وله الرجوع عن هذا الإقرار، فيسقط عنه الحد، ولا يخفى ما في هذه الحيلة من السخف" (ط). (¬2) في (ق) و (ك): "في". (¬3) تصحفت في (ن) إلى: "وطيبها"، وفي (ق): "وطئها". (¬4) تقدم تخريج بعضها، وذكرها جميعًا في "الطرق الحكمية" (269 - ط المكتبة الأثرية). (¬5) الأولى: قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)} [آل عمران: 44]. والثانية: قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: 141]. (¬6) انظر: "الطرق الحكمية" (245، 256، 268، 332 - 384)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 166)، و"زاد المعاد" (2/ 78 و 4/ 120 - 121)، و"تهذيب السنن" (3/ 177)، و"بدائع الفوائد" (ص 262 - 271). (¬7) في (ق) و (ك): "حد". (¬8) في المطبوع: "والمرأة". (¬9) في المطبوع: "مع القطع". (¬10) في المطبوع: "ثم وكله".

يحلّ له وطؤها، وليس بين وطء بائعها ووطئه هو إلّا ساعة من نهار. ونظير هذا: في التناقض إباحة نكاح المخلوقة من ماء الزاني مع كونها بعضه، مع تحريم المرضعة من لبن امرأته لكون اللّبن ثَابَ بوطئه فقد صار فيه جزء منه. فياللَّه العجب! كيف انتهض هذا الجزء اليسير سببًا للتحريم ثم يباح له وطؤها وهي جزؤه الحقيقي وسُلالته؟ وأين تشنيعُكم وإنكاركم لاستمناء الرجل بيده عند الحاجة خوفًا من العَنَت ثم تجوِّزون له وطء بنته المخلوقة من مائه حقيقة (¬1)!! ونظير هذا: لو ادّعى على ذمّي حقًا وأقام به شاهدين عبدين عالمين صالحين مقبولة شهادتهما على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم تُقبل شهادتهما عليه، فإن أقام به شاهدين كافرين حُرَّيْن قبلت شهادتهما عليه مع كَوْنهما من أكذب الخلق على اللَّه وأنبيائه ودينه. ونظير هذا: لو تداعيا حائطًا لأحدهما عليه خشبتان، وللآخر [عليه] (¬2) ثلاث خشبات ولا بيّنة فهو كلّه لصاحب الخشبات الثلاث؛ فلو كان لأحدهما ثلاث خشبات وللآخر مئة خشبة فهو بينهما نِصْفين. ونظير هذا: لو اغتصب نصراني رجلًا على ابنته أو امرأته أو حُرمته وزنى بها ثم شَدَخ رأسها بحجر أو رمى بها من أعلى شاهق فماتت (¬3) فلا حَدَّ عليه ولا قصاص؛ فلو قتله المسلم صاحب الحرمة بقصبة محددة (¬4) قُتلْ به. ونظير هذا: أنه لو أُكره على قتل ألف مسلم أو أكثر بسَجن شهرٍ وأخذ شيء من ماله فقتلهم فلا قَوَد عليه ولا ديّة، حتى إذا أكره بالقتل على عتق أمته أو طلاق زوجته لزمه حكم الطلاق والعتق، ولم يكن الإكراه مانعًا من نفوذ حكمنا عليه، مع أن اللَّه سبحانه أباح التكلّم بكلمة الكفر مع الإكراه، ولم يُبح قتل المسلم بالإكراه أبدًا. ونظير هذا: إبطال الصلاة بتسبيح مَنْ نابه شيء في صلاته، وقد أمر به النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، وتصحيح صلاة مَنْ ركع ثم خرَّ ساجدًا من غير أن يقيم صلبه، وقد ¬

_ (¬1) سبق بيان مستفيض حول هذه المسألة، وانظر لزمًا لها "مثارات الغلط في الأدلة" (ص 29 - 30) للشريف التلمساني. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع و (ن): "حتى ماتت". (¬4) في (ن) و (ق) و (ك): "محدودة". (¬5) رواه البخاري (684) في (الأذان): باب من دخل ليؤمّ الناس فجاء الإمام الأول، =

أبطلها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "لا تُجزئ صلاة لا يقيمُ الرجل فيها صُلبه في ركوعه وسجوده" (¬1)، ودعوى أن ذلك مقتضى الأصول. ونظيره [أيضًا] (¬2): إبطال الصلاة بالإشارة لردِّ السلام أو غيره، وقد أشار النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاته بردِّ السلام (¬3)، وأشار الصحابة برؤوسهم تارة وبأكفّهم تارة (¬4)، وتصحيحها مع ترك الطمأنينة، وقد أمر بها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ونفى الصلاة بدونها (¬5)، وأخبر أن صلاة النقر صلاة المُنافقين (¬6)، وأخبر حذيفة أنَّ مَنْ صلَّى ¬

_ = و (1201) في (العمل في الصلاة): باب ما يجوز من التسبيح والحمد في الصلاة للرجال، و (1204) في (التصفيق للنساء)، و (1218) في رفع الأيدي في الصلاة للرجال لأمر ينزل به، و (1234) في (السهو): باب الإشارة في الصلاة، و (2690) في (الصلح): باب ما جاء في الإصلاح بين الناس، و (2693) في باب قول الإمام لأصحابه: اذهبوا بنا نصلح، و (7190) في (الأحكام): باب الإمام يأتي قومًا يصلح بينهم، ومسلم (421) في (الصلاة): باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام، من حديث سهل بن سعد. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه ابن أبي شيبة (2/ 74)، وعبد الرزاق (3597)، والحميدي (148)، والدارمي (1/ 316)، وأبو داود (927) في (الصلاة): باب رد السلام في الصلاة، والترمذي (368) في (الصلاة): باب ما جاء في الإشارة في الصلاة، والنسائي (3/ 5) في (السهو): باب رد السلام، وابن ماجه (1017) في (إقامة الصلاة): باب المصلي يُسلَّم عليه كيف يرد، وابن الجارود (215)، وابن خزيمة (888)، وابن حبان (2258)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 454)، والطبراني في "الكبير" (7291 و 7292)، والبيهقي (2/ 259) من حديث ابن عمر. . . قال: فسألت صهيبًا -وكان معه- كيف كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يفعل إذا كان يُسلَّم عليه وهو يصلي؟ فقال: كان يشير بيده. وفي بعضها: فسألت بلالًا، وفي بعضها: فسألت بلالًا أو صهيبًا. قال الترمذي: وكلا الحديثين عندي صحيح؛ لأن قصة حديث صهيب غير قصة حديث بلال، وإن كان ابن عمر روى عنهما، فاحتمل أن يكون سمع منهما جميعًا. وفي الباب عن صهيب. (¬4) انظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 144 - ط. دار الفكر)، و"الأدب المفرد" (رقم 1004، 1047)، و"فتح الباري" (11/ 14)، "بدائع الفوائد" (4/ 47)، و"جلباب المرأة المسلمة" (194). (¬5) تقدم في مثل حديث المسيء صلاته. (¬6) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب المساجد ومواضع الصلاة): باب استحباب التبكير بالعصر (1/ 434/ رقم 622)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الصلاة): باب وقت صلاة العصر (1/ 112 - 113/ رقم 413)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الصلاة): باب ما =

كذلك لقي اللَّه على غير الفطرة التي فطر اللَّه عليها رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، وأخبر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ مَنْ لا يُتم ركوعه ولا سجوده أسوأ الناس سرقةً (¬2)، وهذا يدلّ على أنه أسوأ حالًا عند اللَّه من سُرَّاق الأموال. ¬

_ = جاء في تعجبل العصر (1/ 301/ رقم 160)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب المواقيت): باب التشديد في تأخير العصر (1/ 254)، وأحمد في "المسند" (3/ 102 - 103، 247) عن أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-، ولفظه: "تلك صلاة المنافق، يجلس يرقُبُ الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقرها أربعًا، لا يذكر اللَّه فيها إلا قليلًا". (¬1) رواه البخاري في "صحيحه" (791) في (الأذان): باب إذا لم يتم الركوع من طريق زيد بن وهب قال: رأى حذيفة رجلًا لا يُتم الركوع والسجود قال. . . لو مُتَّ مُتَّ على غير الفطرة. وفي رواية عبد الرزاق (3733): ". . . صلّى صلاة جعل يَنْفُر فيها ولا يتم. . . ". وانظر: "فتح الباري" (2/ 275). (¬2) ورد من حديث أبي هريرة، وأبي قتادة، وأبي سعيد، والنعمان بن مرة. أما حديث أبي هريرة: فرواه ابن حبان (1888)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 229)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 386)، وأبو حاتم؛ كما في "العلل" لابنه (1/ 170)، والطبراني في "الكبير" -كما في "المجمع" (2/ 120) - و"الأوسط" (رقم 8179) من طريق هشام بن عمار عن عبد الحميد بن أبي العشرين عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه به، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي! قلت: وهذا إسناد فيه مقال، عبد الحميد هذا وان وثقه أحمد وابن معين؛ إلّا أنه يخطئ، قال البخاري: ربما يخالف في حديثه، وقال ابن حبان: ربما أخطأ، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالمتين عندهم، وقال أبو حاتم عن حديثه هذا: لم يروه أحد سواه، أي من هذا الطريق إذ جعله من مسند أبي هريرة، حيث خالفه الوليد بن مسلم فقال: عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن عبد اللَّه بن أبي قتادة عن أبيه به. رواه أحمد في "مسنده" (5/ 310)، والدارمي (1/ 304 - 305)، والطبراني (3283)، والحاكم (1/ 299)، والبيهقي (2/ 385 - 386)، والخطيب (8/ 227)، وأبو حاتم -كما في علل ابنه (1/ 170) - وأبو زرعة أيضًا، من طريق الحكم بن موسى، وأبو جعفر السويدي عنه به. وقد وقع تصريح الوليد بن مسلم بالسماع عند الخطيب، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال أبو حاتم: ولا أعلم أحدًا رواه عن الوليد بن مسلم غير الحكم بن موسى، مع أنه رواه أبو جعفر السويدي أيضًا، ثم قال أبو حاتم عن هذا الطريق، وطريق أبي هريرة السابق: وجميعًا عندي مُنكرين ليس لواحد منهما معنى. قلت (القائل ابنه): لِمَ؟ قال: لأن حدبث ابن أبي العشرين لم يرو أحد سواه، وكان الوليد صنّف كتاب الصلاة، وليس فيه هذا الحديث. وأما حديث أبي سعيد: فرواه أحمد (3/ 56)، والبزار (536)، وابن أبي شيبة (1/ =

ونظير هذا قولهم: لو أن رجلًا مسلمًا طاهر البدن عليه جنابة غَمَسَ يده في بئر بنيّة رفع الحدث صارت البئر كلها نجسة، يحرم شرب مائها والوضوء منه والطبخ به؛ فلو اغتسل فيها مئة نصراني قُلُف (¬1) عابدو الصَّليب أو مئة يهودي فماؤها باقٍ على حاله طاهر مطهِّر يجوز الوضوء به (¬2) وشربه والطبخ به. ونظيره: لو ماتت فارة في ماء فصُبَّ ذلك الماء في بئر لم يُنزح منها إلّا عشرون دلوًا فقط، وتطهُر بذلك، ولو توضأ رجل مسلم طاهر الأعضاء بماء فسقط ذلك الماء في البئر فلا بدّ من أن تُنزحَ [البئر] (¬3) كلها. ونظير هذا قولهم: لو عقد على أُمِّه أو أخته أو بنته ووطئها، وهو يعلم أن اللَّه حرَّم ذلك فلا حَدَّ عليه لأن صورة العقد شُبهة، ولو رأى امرأةً في الظلمة ظنّها امرأته فوطئها فعليه الحد ولم يكن ذلك شبهة. ونظيره قولهم: لو أنه رَشَا شاهدين فشهدا بالزور المَحْض أن فلانًا طلَّق امرأته ففرَّق الحاكم بينهما جاز له أن يتزوّجها ويطاها حلالًا، [بل] (¬4) ويجوز لأحد الشاهدين ذلك؛ فلو حكم حاكم بصحة هذا العقد لم يجز نقضُ حكمه، ولو حكم حاكمٌ بالشاهد واليمين لنقض حكمه، وقد حكم به النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-! (¬5). ونظير ذلك قولهم: لو تزوج امرأة فخرجت مجنونة بَرْصاء من قرنها إلى قدمها مجذومة (¬6) عمياء مقطوعة الأطراف فلا خَيارَ له، وكذلك إذا وجدت هي الزوج كذلك فلا خيار لها، وإن خرج [الزوج] (¬7) من خيار عباد اللَّه وأغناهم ¬

_ = 322)، وأبو داود الطيالسي (428 منحة)، وابن عدي (5/ 1843)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 302) كلّهم من طريق علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عنه. قال الهيثمي (2/ 120): وفيه علي بن زيد، وهو مختلف في الاحتجاج به، وبقية رجاله رجال الصحيح. وأما حديث النعمان بن مرة: فرواه مالك في "الموطأ" (1/ 167)، والنعمان هذا: الصحيح أنه تابعي كما ذكره الحافظ في "الإصابة" (3/ 559). وله شاهد أيضًا من حديث عبد اللَّه بن مُغفَّل: رواه الطبراني في "الصغير" (335)، و"الأوسط" (رقم 3392). قال الهيثمي (2/ 120): ورجاله ثقات، وعزاه لـ "الكبير". فهذه شواهد يتقوّى بها الحديث، واللَّه أعلم. (¬1) "جمع أقلف: وهو من لم يختتن" (و). (¬2) في المطبوع: "منه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن). (¬4) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) في (ك) و (ق): "مجذمة". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

وأجملهم وأعلمهم وليس له أبوان في الإسلام وللزوجة أبوان في الإسلام فلها الفسخ بذلك (¬1). ونظيره قولهم: يصح نكاح الشِّغَار (¬2)، ويجب فيه مهر المثل، وقد صح نهيُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه وتحريمه إياه (¬3)، ولا يصح نكاح من أعتق أمةً وجعَلَ عِتقَها صداقها، وقد فعله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ونظيره قولهم: يصحُّ نكاحُ التحليل، وقد صح لعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن فعله من رواية عبد اللَّه بن مسعود وأبي هريرة وعليّ بن أبي طالب (¬5)، ولا يصح نكاح الأمة لمضطرٍ خائف العَنَت عادم الطَّوْل إذا كانت تحته حُرَّة ولو كانت عجوزًا شوهاء لا تعفّه. ونظيره قولهم: يجوز بيع الكلب، وقد منع منه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وتحريم بيع المدَبَّر، وقد باعه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7). ¬

_ (¬1) انظر في فسخ النكاح بالعيب: "زاد المعاد" (4/ 29 - 32). (¬2) "نكاح معروف في الجاهلية كان يقول الرجل للرجل: شاغرني، أي: زوّجني أختك أو ابنتك، أو مَنْ تلي أمرَها، حتى أزوّجك أختي أو ابنتي أو مَنْ أَلِيَ أمرَها، ولا يكون بينهما مهر، ويكون بضع كل واحدة منهما في مقابلة بضع الأخرى، وقيل له: شغار؛ لارتفاع المهر بينهما من شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه ليبول، وقيل: الثغر: البعد، وقيل: الاتّساع" (و). (¬3) رواه البخاري (5112) في (النكاح): باب الشغار، و (6960) في (الحيل): باب الحيلة في النكاح، ومسلم (1415) في (النكاح): باب تحريم نكاح الشغار، من حديث ابن عمر، وفي الباب عن جابر: رواه مسلم (1417). وانظر: "زاد المعاد" (4/ 5)، و"تهذيب السنن" (3/ 21). (¬4) يشير إلى عتقه -صلى اللَّه عليه وسلم- صفيّة، وجعل ذلك مهرها، وقد سبق تخريجه، وهو صحيح. (¬5) ساق المؤلف طرقه في (3/ 420) عن عدّة من الصحابة، وخرجتها هناك. وانظر: "زاد المعاد" (4/ 5 - 6، 66، 212)، و"تهذيب السنن" (3/ 22 - 23)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 97). ووقع في المطبوع بعد "علي بن أبي طالب": "كرّم اللَّه وجهه في الجنّة". (¬6) رواه البخاري (2237) في (البيوع): باب ثمن الكلب، و (2282) في "الإجارة": باب كسب البغي والإماء، و (5346) في (الطلاق): باب مهر البغي والنكاح الفاسد، و (5761) في (الطب): باب الكهانة، ومسلم (1567) في (المساقاة) باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن، من حديث أبي مسعود البدري قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ثمن الكلب ومَهْر البغي. . . وفي (ق): "رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". وانظر كلام المؤلف -رحمه اللَّه- في تحريم بيع الكلب في "زاد المعاد" (4/ 247). (¬7) سبق تخريجه.

ونظيره قولهم: للجار أن يمنع جاره أن يَغْرزَ خشبةَ هو محتاجٌ إلى غرزها في حائطه، وقد نهاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مَنْعه (¬1)، وتسليطهم إياه على انتزاع داره كلها منه بالشُّفعة بعد وقوع الحدود وتصريف الطُّرق، وقد أبطلها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ونظيره قولهم: لا يحكم بالقَسَامة لأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: يحلف الذين وُجد (¬3) القتيل في محلتهم ودارهم خمسين يمينًا ثم يُقْضَى عليهم بالديّة، فياللَّه العجب! كيف كان هذا وفق الأصول وحكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف الأصول؟!! ونظيره قولهم: لو تزوّج امرأة فقالت له امرأة أخرى: أنا أرضعتُك وزوْجَتَكَ، أو قال له رجل: هذه أختك من الرضاعة، جاز له تكذيبها ووطء الزوجة، مع أن هذه هي الواقعة التي أَمَر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن الحارث بفراق امرأته لأجل قول الأمَةِ السوداء أنها أرضعتهما (¬4). ولو اشترى طعامًا أو ماءً فقال له رجل: هذا ذبيحة مجوسي أو نجس لم يسعه أن يتناوله، مع أن الأصل في الطعام والماء الحل، والأصل في الأبضاع التحريم، ثم قالوا: لو (¬5) قال المُخبر: "هذا الطعام والشراب لفلان سَرَقه أو غصبه منه فلان"، وَسِعَهُ أن يتناوله. ونظيره قولهم (¬6): لو أسلم وتحته أختان وخيَّرناه فطلَّق إحداهما كانت هي المختارة، والتي أمسكها هي المفارقة، قالوا: لأن الطلاق لا يكون إلّا في زوجة، وأصحاب أبي حنيفة (¬7) تخلَّصوا من هذا بأنَّه إنْ عَقَد على الأختين في عقد واحد فسد نكاحهما واستأنف نكاحَ مَنْ شاء منهما، وإن تزوج واحدة بعد واحدة فنكاح الأُولى هو الصحيح، ونكاح الثانية فاسد. ولكن لزمهم نظيره في مسألة العبد: إذا تزوَّج بدون إذن سيده كان موقوفًا ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2463) في (المظالم): باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، و (5627) في (الأشربة): باب الشرب من فم السقاء، ومسلم (1609) في (المساقاة) باب غرز الخشبة في الجدار، من حيث أبي هريرة. (¬2) سبق تخريجه، وفي (ق) و (ك): "رسول اللَّه". (¬3) في المطبوع: "وجدوا". (¬4) سبق تخريجه، وفي (ن) و (ك): "أنا أرضعتكما" بدل: "إنها أرضعتهما". (¬5) في (ق) و (ك): "فلو". (¬6) في المطبوع: "ونظر هذا قولهم". (¬7) انظر المسألة في "مختصر اختلاف العلماء" (2/ 369 رقم 874).

[من أدرك ركعة من الصبح]

على إجازته (¬1)، فلو قال له: "طلِّقها طلاقًا رجعيًا"، كان ذلك إجازة منه للنكاح، فلو قال له: "طلِّقها"، ولم يقل: "رجعيًا"، لم يكن إجازة للنكاح مع أن الطلاق في هذا النكاح لا يكون [إلا] (¬2) رجعيًا إلا بعد الإجازة (¬3)، وقبل الدخول، وأمّا قبل الإجازة والدخول فلا ينقسم إلى بائنٍ ورجعي. [من أدرك ركعة من الصبح] المثال الثامن والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلعَ الشمس فقد أدرك الصبح (¬4)، بكونها خلاف الأصول وبالمتشابه من نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة وقت طلوع الشمس (¬5)، قالوا: والعامُّ عندنا يُعارض الخاص فقد تَعارضَ حاظرٌ ومُبيح، فقدَّمنا الحاظر احتياطًا؛ فإنه يُوجب عليه إعادة الصلاة، وحديث الإتمام يُجوِّز له المضي فيها، وإذا تعارضا صِرْنا إلى النص الذي يوجب الإعادة لنتيقَّن براءة الذمة، فيقال: لا ريب أن ¬

_ (¬1) وهذا قول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وشريح والشعبي، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو رواية عن أحمد. انظر: "الإشراف" (4/ 129) لابن المنذر، و"الجامع لأحكام القرآن" (5/ 141)، و"فتح القدير" (3/ 390)، و"مختصر اختلاف العلماء" (2/ 281 رقم 763)، و"الجامع الصغير" (154)، و"مختصر الطحاوي" (175)، و"المدونة" (2/ 199)، و"الدر المختار" (3/ 97، 163)، و"شرح الزرقاني" (3/ 194)، و"جواهر الإكليل" (9/ 436)، و"المغني" (1/ 285)، وبسط المسألة مع أدلتها في "أحكام الإذن في الفقه الإسلامي" (2/ 473 - 476). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) في (ق): "إجازة". (¬4) الحديث متفق عليه، وقد مضى تخريجه. (¬5) ورد ذلك في عدّة أحاديث: منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب مواقيت الصلاة): باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس (2/ 58/ رقم 582)، وباب لا يتحرَّى الصلاة قبل غروب الشمس (2/ 60/ رقم 585)، و (كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة): باب مسجد قباء (3/ 68/ رقم 1192)، و (كتاب الحج): باب الطواف بعد الصبح والعصر (3/ 488/ رقم 1629)، و (كتاب بدء الخلق): باب صفة إبليس وجنوده (6/ 335/ رقم 3273)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب صلاة المسافرين وقصرها): باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، (2/ 567 رقم 828) عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تحروا بصلاتكم طُلوع الشمس ولا غروبها؛ فإنها تطلع بقَرْني شيطان" لفظ مسلم، ولفظ البخاري في آخر موطن مذكور: "ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها: فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان".

قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتمّ صلاته، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" (¬1)، حديث واحد، قاله -صلى اللَّه عليه وسلم- في وقت واحد، وقد وجبت طاعته في شطره؛ فتجب طاعته في الشطر الآخر، وهو محكم خاص لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، لا يحتمل غيره ألبتَّة، وحديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي (¬2) عامٌّ مجمل قد خُص منه عصر يومه بالإجماع، وخُصّ منه قضاء الفائتة والمنسية بالنَّص (¬3)، وخص منه ذوات الأسباب بالسنة كما قضى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة الظهر بعد العصر (¬4)، وأقرَّ مَنْ قضى سنة الفجر بعد صلاة الفجر، [وقد أعلمه أنها سنة الفجر] (¬5)، وأمر من صلَّى في رَحْله ثم ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) فيها أحاديث: منها حديث عقبة بن عامر: ثلاث ساعات كان ينهانا عنهنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نصلي فيهن. . . رواه مسلم (831) في (صلاة المسافرين): باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها. وحديث أبي هريرة: "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب مواقيت الصلاة): باب لا يتحرّى الصلاة قبل غروب الشمس (2/ 61/ رقم 588)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب صلاة المسافرين): باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها (1/ 566/ رقم 825). ومثله حديث أبي سعيد الخدري: رواه البخاري (586 و 1188 و 1197 و 1864 و 1992 و 1995)، ومسلم (827). وحديث عمرو بن عَبسة رواه مسلم (832). وحديث عمر بن الخطاب: رواه مسلم (826). وحديث ابنه عبد اللَّه السابق، وغيرهما. (¬3) في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها"، رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب المواقيت) باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، ولا يعيد إلا تلك الصلاة. . . إلخ (2/ 84/ 579)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب المساجد): باب: قضاء الفائتة واستحباب تعجيله (5/ 193/ 684)، وغيرهما من حديث أنس بن مالك. (¬4) رواه البخاري (1233) في (السهو): باب إذا كُلِّمَ وهو يصلي فأشار بيده واستمع، و (4370) في (المغازي) باب وفد عبد القيس، ومسلم (834) في (صلاة المسافرين): باب معرفة الركعتين اللتين كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يصليهما بعد العصر، من حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-. وفي الباب عن عائشة: رواه مسلم (835). (¬5) رواه ابن خزيمة (1116)، وابن حبان (2471)، والدارقطني (1/ 383 - 384)، وتمام في "فوائده" (378 - ترتيبه)، والحاكم (1/ 274 - 275)، ومن طريقه البيهقي (2/ 483) =

جاء مسجد جماعة أن يُصلّى معهم وتكون له نافلة، قاله (¬1) في صلاة الفجر، وهي ¬

_ = من طريق أسد بن موسى عن الليث بن سعد قال: حدّثني يحيى بن سعيد عن أبيه عن جَدّه قيس بن قَهْد (ويقال: عمرو). ورواه ابن منده أيضًا -كما ذكره الحافظ في "الإصابة" في ترجمة قيس، وقال: غريب تفرّد به أسد بن موسى موصولًا، وقال غيره: "عن الليث عن يحيى: إن حديثه مرسل". أقول: أسد بن موسى هو الملقب بـ "أسد السنة". قال البخاري: مشهور الحديث. ووثقه النسائي وغيره. وقال الذهبي في "الميزان": "ما علمت به بأسًا إلا أن ابن حزم ذكره في كتاب الصيد، فقال: منكر الحديث". قلت: كذا قال ابن حزم في موطنين من "المحلى" (2/ 90 و 7/ 472) وقال عنه ضعيف في مواطن، هي: (8/ 211 و 9/ 61، 405، 10/ 377). وتهويلات ابن حزم في هذا معروفة. قلت: وفوق إعلال الحديث بالإرسال الذي ذكره ابن حجر؛ فإن سعيد بن قيس والد يحيى ترجمه البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، ولم يوثقه غير ابن حبان! ومع هذا كله قال الحاكم: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال ابن خزيمة: "خبر غريب غريب". وللحديث طريق آخر. رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 57)، وأحمد (5/ 447)، والحميدي (868)، وابن أبي شيبة (2/ 254 و 14/ 239)، وأبو داود (1267)، والترمذي (422)، وابن ماجه (1154)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2156 و 2157)، وابن خزيمة (1116)، والطبراني في "الكبير" (18/ 937)، والدارقطني (1/ 384 - 385)، والحاكم (1/ 275)، والبيهقي (2/ 483)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 166/ أ) من طريق سعد بن سعيد عن محمد بن إبراهيم التيمي عن قيس بن عمرو به. قال الترمذي: "غريب لا نعرفه إلّا من حديث سعد بن سعيد. . . وإسناد هذا الحديث ليس بمتّصل، محمد بن إبراهيم لم يسمع من قيس". وقال أبو داود: روى عبد ربه، ويحيى ابنا سعيد هذا الحديث مرسلًا: أن جدهم صلّى مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذه القصة. قلت: رواية يحيى تقدمت، وأما رواية عبد ربه فهي في "مصنف عبد الرزاق" (2/ 442/ رقم 4016) عن ابن جريج عنه عن جده مرسلًا. والحديث ضعفه النووي في "المجموع" (4/ 169)، وفي "تهذيب الأسماء واللغات" (1/ 2/ 64)؛ ولكنه لعله يتقوّى بطريقيه، واللَّه أعلم. وانظر: "إعلام أهل العصر في أحكام ركعتي الفجر" (ص 221 - 229). وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬1) في المطبوع: "وقاله".

[فرق بين الابتداء والدوام]

سبب الحديث (¬1)، وأمر الداخلَ والإمامَ يخطب أن يصلي تحية المسجد قبل أن يجلس (¬2)، وأيضًا فإن الأمر بإتمام الصلاة، وقد طلعت الشمس فيها أمر بإتمام لا ابتداء (¬3)، والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت نهيٌ عن ابتدائها لا عن استدامتها؛ فإنه لم يقل: لا تتمّوا الصلاة في هذا (¬4) الوقت، وإنما قال: لا تصلّوا. [فرق بين الابتداء والدوام] وأين أحكام الابتداء من الدوام، وقد فرَّق النص والإجماع والقياس بينهما؟ فلا تؤخذ أحكامُ الدَّوام من أحكام الابتداء ولا أحكام الابتداء من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة؛ فالإحرام يُنافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتهما، والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتهما، والحدث يُنافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته، وزوال خوف العنت ينافي ابتداء النكاح على الأمة ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 160 - 161)، والطيالسي (1247)، والدارمي (1374)، وعبد الرزاق (3934)، وابن أبي شيبة (2/ 474 - 275)، وأبو داود (575) و (576) في (الصلاة): باب فيمن صلّى في منزله ثم أدرك الجماعة، يصلي معهم، والترمذي (219) في (الصلاة): باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة، والنسائي (2/ 112 - 113) في (الإمامة): باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن يصلّي وحده، وابن خزيمة (1279، 1638، 1713)، ولوين في "جزئه" (رقم 102)، وابن الغطريف في "جزئه" (رقم 87)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 363)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (3/ 222)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/ 134 رقم 2462)، وابن حبان (1564 و 1565)، والطبراني في "الكبير" (22/ 608 - 617)، والدارقطني (1/ 413 - 414 و 414)، والحاكم (1/ 244 - 245)، والبيهقي (2/ 300، 301) من طرق عن يعلى بن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه. قال الترمذي: حسن صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقد أُعِلَّ، وَرَدَّ ذلك ابن حجر في "التلخيص" (2/ 29 - 30). (¬2) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب الصلاة): باب إذا دخل المسجد فليركع (1/ 640/ 444)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب صلاة المسافرين): باب استحباب تحية المسجد (5/ 2/ 225) عن أبي قتادة. وقد بيَّن المؤلف -رحمه اللَّه- أن حديث النهي عام مجمل وقد خُصَّ، في عدة مواضع من كتبه؛ منها: ما هو هنا، وفي "روضة المحبين" (ص 93)، و"زاد المعاد" (2/ 194). (¬3) في (ق) و (ك): "لا بابتداء". (¬4) في المطبوع: "في ذلك".

دون استدامته عند الجمهور، والزنا من المرأة ينافي [ابتداء] (¬1) عقد النكاح دون استدامته عند الإمام أحمد ومن وافقه (¬2)، والذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها، وفقد الكفاءة ينافي لزوم النكاح في الابتداء دون الدوام، وحصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء [ولا ينافيه] (¬3) [دون] (¬4) دوامه، وحصول الحجر بالسفه والجنون ينافي ابتداء العقد من المحجور عليه ولا ينافي دوامه، وطرءان ما يمنع الشهادة من الفسق والكفر والعداوة بعد الحكم بها لا يمنع العمل بها على (¬5) الدوام ويمنعه في الابتداء، والقدرة على التكفير بالمال تمنع التكفير بالصوم ابتداء لا دوامًا، والقدرة على هدي التمتع تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء لا دوامًا (¬6)، والقدرة على الماء تمنع ابتداء التيمّم اتفاقًا، وفي منعه لاستدامة الصلاة بالتيمّم خلاف بين أهل العلم (¬7)، ولا تجوز إجارة العين المغصوبة ممن لا يقدر على تخليصها، ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة وخُيّر المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه، ويمنع أهل الذمة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) هذا مذهب جماهير أهل العلم، وذهب الحسن وإبراهيم النخعي إلى أنه إذا زنت المرأة انفسخ النكاح. حكاه عنهما ابن بنت نعيم في "نوادر الفقهاء" (ص 80 - 81)، ونسب هذا القول إلى علي، أسنده عنهم ابن أبي شيبة (4/ 263 - 265)، ولعلي محمد بن الحسن في "الآثار" (2/ 89 - "جامع المسانيد") وحكاه ابن حزم (9/ 478) للحسن وطاوس والنخعي وحماد بن أبي سليمان، وحكاه العيني في "البناية" (4/ 97) عن جابر بن عبد اللَّه وعلي والحسن. وانظر: "الحاوي الكبير" (11/ 259)، و"حلية العلماء" (6/ 377)، و"الإفصاح" لابن هبيرة (2/ 124)، و"اختلاف العلماء" (ص 168)، و"المغني" (6/ 603)، و"الإشراف" (3/ 316 رقم 1152 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب، و"تكملة المجموع" (16/ 223)، و"المعونة" (2/ 795). (¬3) سقطت من (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) في (ق): "في". (¬6) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 28). (¬7) اختلف في هذه المسألة كما ذكر المصنف، فقال الشافعية والمالكية والحنابلة بعدم البطلان، وأما الحنفية فقالوا بالبطلان، وانظر: "الأم" (1/ 64)، "المهذب" (1/ 44)، "المجموع" (2/ 342)، "الخلافيات" (2/ 449 مسألة 26) وتعليقي عليه، "المدونة" (1/ 46)، "الاستذكار" (3/ 169)، "الإشراف" (1/ 137 مسألة رقم 77) وتعليقي عليه "مسائل أحمد وإسحاق" (1/ 19)، "الإنصاف" (1/ 298)، "الأصل" (1/ 120)، "المبسوط" (1/ 124 - 125).

[عدم تعارض شيئين في هذه المسألة]

من ابتداء إحداث كنيسة في دار الإسلام ولا يمنعون من استدامتها، ولو حلف لا يتزوج أو لا يتطيّب أو لا يتطهّر فاستدام ذلك لم يحنث وإن ابتدأه حنث، وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يُفرَّق فيها بين الابتداء والدوام؛ فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها، وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه، وأيضًا فهو مستصحب بالأصل، وأيضًا فالدفع أسهل من الرفع (¬1)، وأيضًا فأحكام التَّبَع يثبت فيها ما لا يثبت في المتبوعات، والمُستدام تابع لأصله الثابت؛ فلو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي صحة ما ورد به النص، فكيف وقد توارد عليه النص والقياس؟. [عدم تعارض شيئين في هذه المسألة] فقد تبيَّن أنه لم يتعارض في هذه المسألة عام وخاص ولا نص وقياس، بل النص فيها والقياس متفقان، والنص العام لا يتناول مورد الخاص ولا هو داخل تحت لفظه، ولو قُدّر صلاحية لفظه له فالخاص بيان لعدم إرادته، فلا يجوز تعطيل حكمه وإبطاله، بل يتعين إعماله واعتباره، ولا تضرب (¬2) أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعضها ببعض، وهذه القاعدة أولى من القاعدة التي تتضمن إبطال إحدى السُّنتين وإلغاء أحد الدليلين (¬3)، واللَّه الموفق. [موازنة بين صورتين بطلت فيهما الصلاة] ثم نقول: الصورة التي أبطلتم فيها الصلاة -وهي حالة طلوع الشمس- وخالفتم السنة أولى بالصحة من الصورة التي وافقتم فيها السنة؛ فإنه إذا ابتدأ العصر قبل الغروب فقد ابتدأها في وقت نهي، وهو وقت ناقص، بل هو أولى الأوقات بالنقصان، كما جعل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقت صلاة المنافقين حين تصير الشمس بين قرنَيْ شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار (¬4)، وإنما كان النهي عن الصلاة قبل ¬

_ (¬1) في المطبوع: "فالدافع أمهل من الرافع". (¬2) في (ك): "نضرب". (¬3) انظر "الأوسط" (2/ 308) لابن المنذر، و"الخلافيات" للبيهقي (1/ 329)، و (فهارسه) (1/ 569). (¬4) أما صلاة المنافقين حين تصير الشمس بين قرني شيطان، فقد تقدم في حديث رواه مسلم (622). وأما سجود الكفار لها، ففي حديث آخر، رواه مسلم -أيضًا- في "الصحيح" (كتاب صلاة المسافرين): باب إسلام عمرو بن عبسة (رقم 832)، من حديث عمرو بن عبسة.

[القياس الصحيح]

ذلك الوقت تحريمًا له وسدًا للذريعة (¬1)، وهذا بخلاف من ابتدأ الصلاة قبل طلوع الشمس؛ فإن الكفار حينئذ لا يسجدون لها، بل ينتظرون بسجودهم طلوعها فكيف يُقال: تبطل صلاة من ابتدأها في وقت تام لا يسجد فيه الكفار للشمس وتصح صلاة من ابتدأها وقت سجود الكفار للشمس سواء، وهو الوقت الذي تكون فيه بين قرني الشيطان فإنه حينئذ يقارنها ليقع السجود له كما يقارنها وقت الطلوع ليقع السجود له؟ فإذا كان ابتداؤها وقت مقارنة الشيطان لها غير مانع من صحتها فلأن تكون استدامتها وقت مقارنة الشيطان غير مانع من الصحة بطريق الأولى والأحرى، فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا من أصحّه؛ فقد تبيّن أنَّ الصورة التي خالفتم فيها النص أولى بالجواز قياسًا من الصورة التي وافقتموه فيها. [القياس الصحيح] وهذا مما حصّلته عن شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه- وقت القراءة عليه، وهذه كانت طريقته، وإنما يقرّر أن القياس الصحيح هو ما دلّ عليه النص، وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معًا (¬2)، وباللَّه التوفيق. ومن العجب أنهم قالوا: لو صلَّى ركعة من العصر ثم غربت الشمس صحت صلاته وكان مدركًا لها؛ لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (3)، وهذا شطر الحديث، وشطره الثاني: "ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر" (¬3). [دفع اللقطة إلى الذي يصفها] المثال التاسع والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في دفع اللقطة إلى من وَصف عِفاصَها (¬4)، ووِعَاءها ووِكَاءَها (¬5)، وقالوا: هو مخالف للأصول، ¬

_ (¬1) انظر: "قاعدة سدّ الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي" (ص 284 - 288). (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" (23/ 200 - 205). (¬3) سبق تخريجه قريبًا. (¬4) في هامش (ق): "العفاص: هو الوعاء". (¬5) رواه البخاري (5/ 96) (2427) (كتاب اللقطة): باب ضالة الإبل، ومسلم (1722) (كتاب اللقطة): من حديث زيد بن خالد. قال (و): "العفاص: الوعاء فيه النفقة جلدًا، أو خرقة وغلاف القارورة والجلد يغطّى به رأسها، والوكاء: الخيط تشد به الصرة، والكيس وغيرهما".

[صلاة من تكلم في الصلاة ناسيا]

فكيف يُعطى المُدَّعي بدعواه من غير بيّنة؟ ثم لم ينشبوا [إلى] (¬1) أن قالوا: من ادّعى لقيطًا عند غيره ثم وصف علامات في بدنه فإنه يُقضى له [به] (¬2) بغير بيّنة، ولم يروا ذلك خلاف الأصول، وقالوا: من ادعى خُصًّا (¬3) ومعاقد قُمطه من جهته قُضي له به ولم يكن ذلك خلاف الأصول، ومن ادعى حائطًا ووجوه الآجر من جهته قُضي له به، ولم يكن ذلك خلاف الأصول، ومن ادّعى مالًا على غيره فأنكر ونكل عن اليمين قُضي له بدعواه ولم يكن ذلك خلاف الأصول، وإذا ادّعى الزوجان ما في البيت قُضِيَ لكل واحد منهما بما يناسبه، ولم يكن ذلك خلاف الأصول. ونحن نقول: ليس في الأصول ما يُبطل الحكم بدفع اللقطة إلى واصفها ألبتّة، بل هو مقتضى الأصول (¬4)؛ فإن الظنّ المستفاد بوصفه أعظم من الظن المستفاد بمجرد النكول، بل وبالشاهدين، فوصفه بيّنة ظاهرة على صحة دعواه، لا سيما ولم يعارضه معارض؛ فلا يجوز إلغاء دليل صدقه مع عدم معارض أقوى منه؛ فهذا خلاف الأصول حقًا لا موجب السنة. [صلاة من تكلم في الصلاة ناسيًا] المثال الثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في صحة صلاة من تكلَّم فيها جاهلًا أو ناسيًا (¬5)، بأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: من أكل في رمضان أو شرب ناسيًا صح صومه، مع اعترافهم بأن ذلك على خلاف الأصول والقياس، ولكن تبعنا فيه السُّنة (¬6)، فما الذي منعكم من تقديم السّنة الأخرى على القياس والأصول كما قدَّمتم خبر القَهْقهة في الصلاة والوضوء بنبيذ التمر وآثار الآبار (¬7) على القياس والأصول؟!. [اشتراط البائع منفعة المبيع مدة] المثال الحادي والثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة في اشتراط البائع منفعة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ن). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) كذا ضبطها في (ن)، و (ق)، وفي المطبوع: "خصيًا"، وفي (ك): "جُصًّا". (¬4) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 7، 244). (¬5) مضى تخريجه. (¬6) مضى تخريجه. (¬7) تقدمت كل هذه الأخبار، وهي ضعيفة، ووقع في (ق): "وإيثار الآثار".

[تخيير الولد بين أبويه]

المبيع مدة معلومة (¬1) بأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: يجوز بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها بشرط القطع في الحال مع العلم بأنها لو قُطعت لم تكن مالًا ينتفع به ولا يساوي شيئًا ألبتّة، ثم لهما أن يتّفقا على بقائها إلى حين الكمال، ودعوى أن ذلك موافق للأصول، وهو عين ما نَهى عنه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). [تخيير الولد بين أبويه] المثال الثاني والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تخيير النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الولد بين أبويه (¬3)، وقالوا: هو خلاف الأصول، ثم قالوا: إذا زَوَّج الولي غير الأب الصغيرة صحَّ وكان النكاح لازمًا، فإذا بلغت انقلب جائزًا وثبَتَ لها الخيار بين الفسخ والإمضاء، وهذا وفق الأصول. [فياللَّه العجب] (¬4)! أين في الأصول -التي هي كتاب اللَّه وسنّة رسوله وإجماع الأمة المُستند إلى الكتاب والسنّة- موافقة هذا الحكم للأصول ومخالفة حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتخيير بين الأبوين للأصول (¬5)؟. [رجم الكتابيين] المثال الثالث والثلاثون: رد السنَّة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في ¬

_ (¬1) هو في حديث جابر في شرائه الناقة من النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومضى تخريجه. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) رواه أحمد (2/ 246)، والشافعي في "المسند" (2/ 62 - 63)، و"الأم" (5/ 92)، وأبو داود (2277) في (الطلاق): باب من أحق بالولد، والترمذي (1357) في (الأحكام): باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، وفي "علله الكبير" (369)، والنسائي (6/ 185، 186) في الطلاق: باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد، وابن ماجه (2351) في (الأحكام): باب تخيير الصبي بين أبويه، وعبد الرزاق (12611)، وسعيد بن منصور (2275)، والحميدي (1083)، والدارمي (2298)، والطحاوي في "المشكل" (3085)، وأبو يعلى (6131)، والحاكم (4/ 97)، والبيهقي (8/ 3)، والبغوي (2399) من طريق هلال بن أبي ميمونة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خيّر غلامًا بين أبيه وأمّه. قال الترمذي: حسن صحيح، ورجاله كلهم ثقات. وفي الباب عن رافع بن سنان، انظره في "الحنائيات" (رقم 228 - بتحقيقنا) وعن غيره، ومضى ذلك. وانظر: "نصب الراية" (3/ 268 - 270). (¬4) ما بين المعقوفتين في المطبوع: "فيا للعجب". (¬5) انظر هذا المبحث بتوسع في "زاد المعاد" (4/ 34 - 139) للمؤلف رحمه اللَّه.

رجم الزانيين الكتابيين (¬1)، بأنها خلاف الأصول، وسقوط الحد عَمَّن عقد على أُمّه ووطئها، وأن هذا هو مقتضى الأصول. فيا عجبًا لهذه الأصول التي مَنَعت إقامة الحد على من أقامه [عليه] (¬2) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأسقطته عمن لم يُسقطه عنه! فإنه ثبت عنه أنه أرسل البراء بن عازب إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن يضرب عُنقَه ويأخذ ماله (¬3)، فواللَّه ما رضي له بحدّ الزاني حتى حَكَم عليه بضرب العنق وأخذ المال، وهذا هو الحق المحض؛ فإن جريمته أعظمُ من جريمة من زنى بامرأة أبيه من غير عقد، فإن هذا ارتكب محظورًا [واحدًا] (¬4)، والعاقد ¬

_ (¬1) سيأتي تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه عبد الرزاق (10804)، وابن أبي شيبة (10/ 104 - ط الهندية أو 6/ 566 - ط دار الفكر)، وسعيد بن منصور (942)، والترمذي (1362) في (الأحكام): باب فيمن تزوج امرأة أبيه، وابن ماجه (2607) في (الحدود): باب من تزوج امرأة أبيه من بعده، والنسائي (6/ 109) في (النكاح): باب ما نكح الآباء، وفي الكبرى (5488)، وأحمد في "مسنده" (4/ 290 و 297)، وأبو يعلى (1666 و 1667)، وابن حبان (4112)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 148)، والدارقطني (3/ 196)، والحاكم (2/ 191)، والبغوي (10/ 304 - 305 رقم 2592) من طريق السدي (إسماعيل بن عبد الرحمن)، وأشعث بن سوار، كلاهما عن عدي بن ثابت عن البراء بن عازب قال: لقيت عمي، وفي رواية: خالي. . . فقال: أرسلني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فالمُرسل ليس البراء. . . وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. لكن رواه أحمد (4/ 295)، وأبو داود (4457) في (الحدود): باب الرجل يزني بحريمه، والنسائي (6/ 110)، وفي "الكبرى" (5489)، والدارمي (2/ 153)، والحاكم (4/ 357)، والبيهقي (7/ 162) من طريق عبد الغفار بن القاسم، وزيد بن أبي أنيسة، كلاهما عن عدي بن ثابت عن يزيد بن البراء عن أبيه البراء. أقول: عدي بن ثابت من الثقات، ولم يؤخذ عليه شيء إلّا تشيّعه، وهذا هنا لا يضر، فلا مانع أن يروي الحديث على الوجهين. ورواه سعيد بن منصور (943)، وأحمد (4/ 295)، وأبو داود (4456)، والطحاوي (3/ 149)، والدارقطني (3/ 196)، والبيهقي (8/ 237) من طريق مطرف عن أبي الجهم عن البراء. واعلم أنه قد اختلف في هذا الحديث في الرجل الذي بعثه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقال البراء: مرّ بي خالي أبو بردة بن نيار. وفي رواية: عن عمِّه. وفي رواية: مرّ بنا أناس ينطلقون، وفي رواية: رهط. . . وكل هذا لا يضر إن شاء اللَّه ما دام أنها اتّفقت على شيء واحد، وهو ضرب عنق ذلك الرجل، وما دام أن الإسناد صحيح ثابت. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[الوفاء بالشروط في النكاح وفي البيع]

عليها ضَمَّ إلى جريمة الوطء جريمة العقد الذي حرَّمه اللَّه، فانتهك حرمة شرعه بالعقد، وحُرمةَ أُمّه بالوطء، ثم يقال: الأصول تقتضي سقوط الحد عنه، وكذلك حكم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- برجم اليهوديين (¬1) هو من أعظم الأصول، فكيف رُدَّ هذا الأصل العظيم بالرأي الفاسد ويقال: إنه مقتضى الأصول (¬2)؟. فإن قيل: إنما حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرجم بما في التوراة إلزامًا لهما بما اعتقدا صحته. قيل: هب أن الأمر كذلك، أفحكمٌ بحق يجب اتباعه وموافقته وتحرم مخالفته أم بغير ذلك؟ فاختاروا أحد الجوابين ثم اذهبوا إلى ما شئتم. [الوفاء بالشروط في النكاح وفي البيع] المثال الرابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الوفاء بالشروط (¬3) في النكاح، [و] (¬4) أنها أحقُّ الشروط بالوفاء على الإطلاق (¬5)، بأنها خلاف الأصول، والأخذ بحديث النهي عن بيع وشرط (¬6) الذي لا يُعلم له إسناد يصح، مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس ولانعقاد الإجماع على خلافه، ودعوى أنه موافق للأصول؛ أما مخالفته للسنة الصحيحة فإن جابرًا باع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة (¬7)، والنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ باع عبدًا وله مال فمالُه للبائع ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 207). (¬3) سيأتي تخريجه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) انظر مبحث الشروط لابن القيم في "بدائع الفوائد" (1/ 43 - 60، 3/ 345)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 180). (¬6) رواه الطبراني في "الأوسط" (4361) ومن طريقه أبو نعيم الأصبهاني في "مسند أبي حنيفة" (ص 160 - 161) حدثنا عبد اللَّه بن أيوب القِربي قال: حدثنا محمد بن سليمان الذُّهلي قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال: قدمتُ مكة فوجدتُ بها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرُمة. . . ثم ذكر قصةً، فقال أبو حنيفة: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع وشرط. . . قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 85): في طريق عبد اللَّه بن عمرو مقال. أقول: وهذا إسناد ضعيفٌ جدًا، عبد اللَّه بن أيوب، قال الدارقطني: متروك، انظر: "تاريخ بغداد" (9/ 413)، و"لسان الميزان" (3/ 315)، ومحمد بن سليمان الذهلي لم أجد من ترجمه. وصح من حديث عمرو بن العاص رفعه: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع" انظر تخريجه في تعليقي على "الموافقات" (1/ 469). (¬7) الحديث متفق عليه، وتقدم تخريجه.

[المزارعة]

إلّا أن يشترطه المبتاع" (¬1)، فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع، وقال: "مَن باع نخلًا قد أُبِّرت فثمرها للذي باعها إلّا أن يشترَطها المبتاع" (¬2)، فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، وأمّا مخالفته للإجماع فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرَّهن والكَفيل والضَّمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد فهذا بيع وشرط متفق عليه، فكيف يُجعل النهي عن بيع وشرط موافقًا للأصول وشروط النكاح التي هي أحق الشروط بالوفاء مخالفة للأصول (¬3)؟. [المزارعة] المثال الخامس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في دفع الأرض بالثُّلث والربع مزارعة (¬4)، بأنها خلاف الأصول (¬5)، والأخذ بالحديث الذي لا يثبت بوجه أنه: "نهى عن قَفيز الطَّحَّان" (¬6)، وهو أن يدفع ¬

_ (¬1) رواه الشيخان، وتقدم تخريجه. (¬2) هو جزء من الحديث السابق. وفي (د) و (ك): "باع ثمرة قد أُبِّرت فهي للبائع إلا. . . ". (¬3) انظر: "زاد المعاد" (4/ 4). (¬4) الذي وجدته في المزارعة على الثلث والربع: ما رواه البخاري (2339) في الحرث والمزارعة: باب ما كان من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يواسي بعضهم بعضًا في الزراعة والثمر، و (2346) باب كراء الأرض بالذهب والفضة، و (4012) في المغازي، ومسلم (1548) في (البيوع): باب كراء الأرض بالطعام من حديث ظهير بن رافع قال: نهانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أمرٍ كان لنا موافقًا فقلت: ما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو حق. فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما تصنعون بمحاقلكم؟ قلنا: نؤاجرها على الثلث والربع. . . قال: فلا تفعلوا ازْرَعوها أو أَزْرِعُوها". ففيه نهي عن ذلك، وانظر "الفتح" لزامًا. وقد ثبت في "الصحيح" إعطاء النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أرض خيبر لأصحابها على النصف. (¬5) انظر تقرير ابن القيم مشروعية المزارعة والمساقاة، وأنها على وفق القياس في "زاد المعاد" (2/ 77، 143)، و"الطرق الحكمية" (ص 286 - 290)، و"تهذيب السنن" (5/ 56 - 62، 64، 65، 66). (¬6) رواه الدارقطني في "سننه" (3/ 47) أو (رقم 2951 - بتحقيقي)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 339) من طريق وكيع وعبيد اللَّه بن موسى، قالا: حدثنا سفيان عن هشام أبي كليب عن ابن أبي نُعيم البجلي عن أبي سعيد الخدري قال: نهى عن عَسْب الفحل، زاد عبيد اللَّه: وعن قفيز الطحان. أقول: عبيد اللَّه بن موسى هذا من الثقات، روى له الستة. ورواه عبد اللَّه بن المبارك أيضًا عن سفيان وذكرها. =

حِنْطة (¬1) إلى مَنْ يطحَنُها بقفيزٍ منها أو غزله إلى مَنْ ينسجه ثوبًا بجزء منه أو زيتونه إلى من يعصره بجزءٍ منه ونحو ذلك مما لا غَرَر فيه ولا خَطَر ولا قِمَارَ ولا جهالة ولا أكل مال بالباطل، بل هو نظير دفع ماله إلى من يتجر فيه بجزءٍ من الربح، بل أولى؛ فإنه قد لا يربح [المال] (2) فيذهب عمله مجانًا، وهذا لا يذهب عمله مجانًا؛ فإنه يطحن الحب ويعصر الزيتون ويحصل على جزء منه يكون [به] (¬2) شريكًا لمالكه، فهو أولى [بالجواز] (2) من المضاربة، فكيف يكون المنع منه موافقًا للأصول والمزارعة التي فعلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون خلاف الأصول؟. ¬

_ = أخرجه أبو يعلى في "مسنده" (1024)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (رقم 711)، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. والعجب أن الذهبي ذكر هذا الحديث في ترجمة هشام أبي كليب، وقال: هذا منكر، وراويه لا يُعْرف، وكذا ذكره الحافظ في "اللسان"، ونقل كلام الذهبي، وزاد: ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال في "التلخيص الحبير" (3/ 60): هشام أبو كليب راويه عن ابن أبي نُعيم لا يعرف. أقول: هشام هذا هو هشام بن عائذ بن نصيب الأسدي، أبو كليب، ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/ 64 - 65)، وذكر أنه روى عن ابن أبي نعيم، وروى عنه الثوري ثم نقل عن أحمد بن حنبل وابن معين أنهما قالا: ثقة، وقال أبو حاتم: شيخ. ثم ترجمه في هشام أبي كليب (9/ 68)، ونقل عن عبد اللَّه بن أحمد قال: سألت أبي عن هشام بن كليب الذي يروي عنه الثوري فقال: ثقة. إذن فثبت أن هشامًا هذا ثقة، وباقي رجاله ثقات، واعلم أن ألفاظ الحديث كلها جاءت بلفظ: "نُهي" المبني للمجهول، وليس فيها ذكر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، أفاده ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 271 - 272). أما شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- فنقل عن "مشكل الآثار" -الطبعة الهندية- لفظ الحديث: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالبناء للمعلوم، وبناء عليه تعقب ابن القطان، ولكن في طبعة مؤسسة الرسالة ورد الحديث: نُهي بالبناء للمجهول، فاللَّه أعلم. نعم، ورد الحديث من طريق آخر بصيغة المبني للمعلوم: رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (709) من طريق عطاء بن السائب عن ابن أبي نُعيم عن بعض أصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه نهى عن عَن عَسْب التيس. . .، وقفيز الطحان، وعطاء اختلط. ورواه (710) من طربق عطاء بن السائب عن بعض أصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- به. وعلى كل حال فالصحيح أن مثل هذه الألفاظ لها حكم الرفع لأن الآمر الناهي في ذلك الوقت هو رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنهي عن عَسْب الفجل ثابت في "صحيح البخاري" وغيره، وانظر: "الأحكام الوسطى" (6/ 255) لعبد الحق الإشبيلي. وفي هامش (ق): "حديث النهي عن قفيز الطحان غير ثابت"!!. (¬1) في المطبوع: "حنطته". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[صيد المدينة]

[صيد المدينة] المثال السادس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيًا في أن المدينة حرم يحرمُ صيدها (¬1)، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول، ومعارضتها بالمتشابه من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير" (¬2)، ويا للَّه العجب! أيّ الأصول التي خالفتها هذه السنن، وهي من أعظم الأصول؟ فهلّا رُدّ حديث أبي عُمير لمخالفته لهذه الأصول؟ ونحن نقول: معاذ اللَّه أن نرد لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدًا! وحديث أبي عمير يَحتمل أربعة أوجه قد ذَهَبَ إلى كلٍّ منها طائفة. أحدها: أن يكون متقدمًا على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخًا. الثاني: أن يكون متأخرًا عنها معارضًا لها فيكون ناسخًا. الثالث: أن يكون النغير مما صِيدَ خارج المدينة ثم أُدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود. الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره، كما رخص لأبي بُردة في التَّضحية بالعَنَاق دون غيره (¬3)؛ فهو متشابه كما تَرَى، فكيف يُجعل أصلًا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلّا وجهًا واحدا؟. [نصاب المعشرات] المثال السابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعَشَّرات بخمسة أوسق (¬4) بالمتشابه من قوله: "فيما سَقَت السماءُ العشر، ¬

_ (¬1) في هذا أحاديث، منها ما: رواه مسلم عن جابر قال: قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن إبراهيم حرّم مكة، وإني حرَّمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عِضَاهُها ولا يُصاد صيدها" أخرجه مسلم (1362) في الحج: باب فضل المدينة. وانظر الأحاديث الي أشار إليها المصنف في الدراسة الحديثية الماتعة للشيخ الفاضل صالح الرفاعي بعنوان "الأحاديث الواردة في فضائل المدينة" (ص 47 - 116). (¬2) رواه البخاري (6129) في (الأدب): باب الانبساط إلى الناس، و (6203) في الكنية للصبي وقبل أن يُولد للرّجل، ومسلم (2150) في (الأدب): باب استحباب تحنيك المولود عند ولادته، من حديث أنس بن مالك. ولابن القاص جزء مفرد في هذا الحديث، وهو مطبوع. قال (و) -في معنى الغير-: "تصغير النغر: فرخ العصفور والبلبل". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) رواه البخاري (1404) في (الزكاة): باب ما أدي زكاته فليس بكنز، و (1447) باب زكاة =

وما سُقي بنَضْحٍ أو غَرْب فنصف العُشر" (¬1)، قالوا: وهذا يعم القليل والكثير (¬2)، وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدّم الأحوط، وهو الوجوب؛ فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرضٌ في هذا وفي هذا، ولا ¬

_ = الورق، و (1459) باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، و (1484) باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ومسلم (979) في (الزكاة): في أوله، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. قال (و): ". . . والوسق بفتح الواو وكسرها، ستون صاعًا، أو وثلاث مئة وعشرون رطلًا عند أهل الحجاز، أو أربع مئة وثمانون رطلًا عند أهل العراق" اهـ. (¬1) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الزكاة): باب العشر فيما يُسقى من ماء السماء وبالماء الجاري (3/ 347/ رقم 1483)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الزكاة): باب صدقة الزرع (2/ 252/ رقم 1596)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الزكاة): باب ما جاء في الصدقة فيما يُسقى بالأنهار وغيرها (2/ 75/ رقم 635)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الزكاة): باب ما يوجب العشر، وما يوجب نصف العشر (5/ 41)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الزكاة): باب صدقة الزروع والثمار (1/ 581/ رقم 1817)، من حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. وفي الباب عن جابر، رواه مسلم (981) في (الزكاة): باب ما فيه العشر، أو نصف العشر. وليس في الحديث لفظ (أو غرب)، وقد وجدت هذا اللفظ: أي: "وما سقي بالغَرْب ففيه نصف العشر" في حديث يرويه علي مرفوعًا عند أبي داود (1572)، وابن زنجويه في "الأموال" (رقم 1965)، من طريق الحارث الأعور، وفي زيادات أحمد على المسند (1/ 145)، وفي "العلل" (رقم 1250)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (4/ 76)، وابن مخلد العطار في "حديثه" (ق 86/ ب، 104/ أ) من طريق آخر ضعيف. وقال في "العلل": "قال أبي: هذا حديث أراه موضوعًا، أنكره من حديث محمد بن سالم"، وقد أعله الدارقطني في علله بالوقف (4/ 72)، ونقله عنه الحافظ في "التلخيص" (2/ 170)، ورواه عنه قوله: عبد الرزاق (7233)، ويحيى بن آدم في "الخراج" (رقم 373، 375، 379)، وابن زنجويه في "الأموال" (رقم 1965، 1968)، والبيهقي (4/ 131). قال (و): "في حديث: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا العشر، وفيما سقي بالنضح العشر" رواه الجماعة إلا مسلمًا، لكن لفظ النسائي، وأبي داود، وابن ماجه "بعلًا" بدل "عثريًا"، والعثري: هو الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة، والغرب: الدلو العظيمة التي تتخذ من جلد ثور، فإذا فتحت الراء؛ فهو الماء السائل بين البئر والحوض، وبنضح: أي ما سقي بالدوالي والاستقاء، والنواضح: الإبل التي يستقى عليها، واحدها: ناضح، وقيل: النضح: السانية من الإبل والبقر وغيرها من الرحال" اهـ. (¬2) هذا عند أبي حنيفة (و).

تعارض بينهما بحمد اللَّه بوجه من الوجوه؛ فإن قوله: "فيما سقت السماء العشر"، إنما أُريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدارُ النِّصاب فسكَتَ عنه في هذا الحديث، وبيَّنه نصًا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النَّص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه ألبتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلَّق فيه بعمومٍ لم يُقصد، وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصُّها من النصوص؟ وياللَّه العجب! كيف يخصّون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مُختلَفًا في الاحتجاج به، وهو محل اشتباه واضطراب؟ إذ ما من قياسٍ إلّا ويمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه، بخلاف السنة الصحيحة الصريحة فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة، ثم يُقال: إذا خصَّصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" (¬1)، بالقَصَب والحَشيش ولا ذِكرَ لهما في النص فهلَّا خصصتموه بقوله: "لا زَكَاة في حبٍّ ولا ثمرٍ حتى يبلغَ خمسة أوسق" (¬2)؟، وإذا كنتم تخصّون العموم بالقياس فهلا خصَّصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلى القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة؟ فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها اللَّه (¬3) في مال إلا وجعل له نصابًا كالمواشي والذهب والفضة؟ ويقال أيضًا: هلَّا أوجبتم الزكاة في قليل كُلِّ مالٍ وكثيره عملًا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من صاحب إبلٍ ولا بقر لا يُؤدي زكاتها إلا بُطح (¬4) لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقر" (¬5)، وبقوله: "ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدي زكاتها إلّا صُفِّحت له يوم القيامة صفائحَ من نار" (¬6)، وهلَّا كان العموم (¬7) عندكم مقدمًا على أحاديث النُّصُب الخاصة؟ وهلا قلتم: هناك تعارض مسقط وموجب فقدَّمنا الموجب احتياطًا؟ وهذا في غاية الوضوح، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) رواه مسلم (979 بعده) من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) في المطبوع: "لم يشرعها اللَّه ورسوله". (¬4) "أي: ألقي صاحبها على وجهه لتطأه، والقرقر: المكان المستوي" (و). (¬5) و (¬6) رواه مسلم في (الزكاة): باب إثم مانع الزكاة (987) من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- عنه، و (988) من حديث جابر -رضي اللَّه عنه-. (¬7) في المطبوع: "هذا العموم".

[أقل المهر]

[أقل المهر] المثال الثامن والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النِّكاح بما قلَّ من المهر ولو خاتمًا من حديد (¬1) مع موافقتها لعموم القرآن في قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24]، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير، بأَثرٍ لا يثبت وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق، وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به من قطع (¬2) اليد في السرقة (¬3)؟ وقد تقدم مرارًا أن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلّما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد. [من أسلم وتحته أختان] المثال التاسع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان أنه يختر في إمساك مَنْ شاء منهما وتَرْك الأخرى (¬4)، بأنه خلاف الأصول، وقالوا: قياس الأصول يقتضي أنه إن نكح واحدةً بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود، ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير، وإن نكحهما معًا فنكاحهما باطل، ولا تخيير، وكذلك حديث مَنْ أسلَم على عشرة نسوة، وربما أوَّلوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات، ولفظ الحديث يأبى هذا التأويل أشد الإباء؛ فإنه قال: "أَمْسِك أربعًا وفارق سائِرَهنّ" (¬5)، رواه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5029) في (فضائل القرآن): باب خيركم من تعلم القرآن وعلّمه، و (5087) في (النكاح): باب تزويج المُعْسر، و (5121) في عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، و (5126) باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، و (5132) باب إذا كان الولي هو الخاطب، و (5135) باب السلطان وليّ، و (5141) باب إذا قال الخاطب للولي: زوّجني فلانة:. . . و (5149) باب التزويج على القرآن وبغير صداق، و (5150) باب المهر بالعُروض وخاتم من حديد، و (5871) في (اللباس) باب خاتم الحديد، ومسلم (1425) في (النكاح): باب الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد. (¬2) في (ق) و (ن) و (ك): "وأين استباحة الفرج إلى قطع". (¬3) انظر كلام ابن القيم في "زاد المعاد" (4/ 28 - 29)، و"تهذيب السنن" (3/ 49 - 55). (¬4) سيأتي لفظه وتخريجه بعد الحديث الآتي. (¬5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 317)، والشافعي (2/ 16)، وأحمد (2/ 14، 44 و 83)، والترمذي (1128) في (النكاح): باب ما جاء في الرجل يسلم وعنده عشرة نسوة، وابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ماجه (1953) في (النكاح): باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، والدارقطني (3/ 270)، أو (رقم 3624 بتحقيقي)، والحاكم (2/ 192 - 193)، وأبو يعلى (5437)، وابن حبان (4156 و 4157 و 4158)، وأبو الفضل الزهري في "حديث الزهري" (رقم 572)، والبيهقي (7/ 149 و 181 و 182)، والبغوي (2288) من طرق عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن أبيه أن غيلان أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اختر منهنّ أربعًا". وهذا إسناد ظاهره الصحة!! وصححه ابن العربي في "أحكام القرآن" (1/ 313)، وابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 495 - 500)، إلا أن الحفاظ أعلّوه. قال الترمذي: "هكذا رواه معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: هذا حديث غير محفوظ، والصحيح ما روى شعيب بن أبي حمزة وغيره عن الزهري قال: حُدِّثت عن محمد بن سويد الثقفي أن غيلان بن سلمة أسلم وعنده عشر نسوة، قال محمد:. . . وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه أن رجلًا من ثقيف طلَّق نساءه، فقال له عمر: لتراجعن نساءك. . . ". ونقل الحافظ في "التلخيص" (3/ 168) كلامًا حاصله اتفاق أئمة الحديث: ابن المديني والبخاري وأبو حاتم ومسلم ويعقوب بن أبي شيبة وأحمد وابن عبد البر وأبو زرعة على أن معمرًا وَهِمَ في هذا الحديث حيث إنه في غير بلده كان يحدث من حفظه فيهم في أشياء، وهذا منها، وقد أخذ ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الإسناد فأخرجوه، وهذا خطأ. قلت: ورواه موصولًا مروان بن معاوية الفزاري عن الزهري عن سالم عن أبيه، قال:. . . فذكره. رواه الدارقطني (3/ 269) أو (رقم 3623 - بتحقيقي) هكذا عن الزهري مباشرة، والذي ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 401) أنه يَروي عن معمر عن الزهري، ثم نقل عن أبيه: وهو وهم إنما هو عن الزهري عن ابن سويد. . . وخالف عبد الرزاق، فرواه عن معمر عن الزهري مرسلًا: رواه في "مصنفه" (12621)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 270)، أو (رقم 3628 - بتحقيقي) والبيهقي (7/ 182). وممن رواه مرسلًا مالك في "الموطأ" (2/ 582)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 270)، أو (رقم 3627 - بتحقيقي)، والبيهقي (7/ 182) عن ابن شهاب أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . ورواه الدارقطني (3/ 270)، أو (رقم 3626 - بتحقيقي)، والبيهقي من طريق يونس عن الزهري عن عثمان بن محمد بن أبي سويد (وقع عند البيهقي محمد بن أبي سويد) أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، مرسلًا. ورواه الدارقطني والبيهقي من طريق الليث عن يونس عن ابن شهاب، قال: بلغني عن عثمان بن أبي سويد أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .، مرسلًا. =

مَعْمر، عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه أن غيلان أَسْلَم فذكره، قال مسلم: هكذا روى معمر هذا الحديث بالبصرة، فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة -أو قال: صار الحديث [صحيحًا] (¬1) - وإلا فالإرسالُ أولى، قال البيهقي: فوجدنا سُفيان بن سعيد الثوريّ، وعبد الرحمن بن محمد المُحَاربيّ، وعيسى بن يونس -وثلاثتهم كوفيون- حَدّثوا به عن معمر متصلًا، وهكذا رُوي عن يحيى بن أبي كثير، وهو يَمامَي (¬2)، وعن الفضل بن موسى، وهو خُراساني، ¬

_ = قلت: للحديث طريق آخر موصول من غير طريق الزهري. رواه النسائي، -كما قال الحافظ في "التلخيص" ولم أجده-، والدارقطني (3/ 271 - 272)، (أو رقم (3633 - بتحقيقي)، وأبو الشيخ في "جزئه" (رقم 124)، والبيهقي (7/ 183) من طريق سيف بن عبيد اللَّه الجرمي: حدثنا سَرَّار بن مُجَشَّر أبو عبيدة عن أيوب عن نافع وسالم عن ابن عمر أن غيلان. . . قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 169): رجاله ثقات. فهذا متابع قوي لمعمر. وهناك متابع آخر: رواه الطبراني في "الكبير" (13221) من طريق النعمان بن المنذر عن سالم عن أبيه به. لكن في السند واهٍ ومجهول. أقول: والحديث له شواهد. منها: حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس: رواه سعيد بن منصور (1863 و 1864)، وابن أبي شيبة (4/ 318)، وأبو داود (2241 و 2242)، وابن ماجه (1952)، والدارقطني (3/ 271) أو (رقم 3629 - 3632 - بتحقيقي)، وأبو يعلى (6872)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (رقم 1054، 2737)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 40)، والعقيلي (1/ 299)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 262)، والطبراني في "الكبير" (18/ 922)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 183)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2314 رقم 2429)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (4/ 416)، وابن عبد البر في "التمهيد" (12/ 56، 58)، قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة. . . وفي سنده ضعف واضطراب، وضغفه البخاري وابن عبد البر وغيرهما. وحديث عروة بن مسعود الثقفي: أسلمت وتحتي عشر نسوة. . . رواه البيهقي (7/ 184): ونقل الألباني عن الضياء في "المختارة" -كما في "إرواء الغليل" (6/ 295) -: "رجاله ثقات. .، ومحمد بن عبيد اللَّه لم يدركه". وحديث ابن عباس: "أسلم غيلان بن سلمة وتحته عشر نسوة فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . ". رواه البيهقي (7/ 183)، وفيه الواقدي وهو متروك. (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "حديثًا"!! (¬2) في المطبوع: "يماني".

عن معمر متصلًا عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصحَّ الحديث بذلك (¬1)، وقد رُوي عن أيوب السّختياني، عن نافع وسالم، عن ابن عمر متصلًا، قال أبو علي الحافظ: تفرّد به سوَّار (¬2) بن مُجَشِّر عن أيوب، وسوار بصري ثقة، قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات تقوم الحجة بروايتهم. وقد روى أبو داود عن فَيْروز الدَّيْلميّ قال: قلتُ: يا رسول اللَّه إني أسلمت وتحتي أختان، قال: "طلِّق أيتهما شئت" (¬3)، فهذان الحديثان هما الأصول التي ¬

_ (¬1) انظر: "التلخيص الحبير" (3/ 168) فقد نقل كلام مسلم، ولعلّه في القطعة المفقودة من "التمييز". (¬2) تحرف في المطبوع إلى "سوار بن محيشر"!!، وقال (و): "بضم السين وفتحها"!! (¬3) رواه أحمد (4/ 232)، وابن أبي شيبة (4/ 317)، وأبو داود (2243) في (الطلاق): باب فيمن أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان، والترمذي (1129 و 1130) في (النكاح): باب ما جاء في الرجل يسلم، وعنده أختان، وابن ماجه (1951) في (النكاح): باب الرجل يسلم وعنده أختان، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2847)، وابن حبان (4155)، والدارقطني (3/ 273 و 274)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 44)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18/ 843 و 845)، والبيهقي (7/ 184)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2297 رقم 5673) من طريقين "يزيد بن أبي حبيب، وابن لهيعة" عن أبي وهب الجَيْشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال:. . . قال الترمذي: حديث حسن، وأبو وهب اسمه الديلم بن هوشع. وهذا فيه علّتان: الأولى: أبو وهب الجيشاني، واسمه دَيْلَم بن هوشع، وقيل: عبيد بن شرحبيل، ذكره البخاري في "التاريخ" (3/ 249)، ونقله عنه العقيلي (2/ 44)، وقال: في إسناده نظر، وقال العقيلي: لا يحفظ إلا عنه، وقال ابن القطان: مجهول الحال، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول، وأما ابن حبان فذكره في "الثقات" (6/ 291). الثانية: الضحاك بن فيروز: روى عنه جمع، ولم يوثقه إلّا ابن حبان، وقد نقل الحافظ في "التلخيص" (3/ 176): أن البيهقي صححه! وذكر البيهقي اختلافًا في طريق الحديث، ثم قال: وحديث يزيد بن أبي حبيب أصح!. والعجيب أن الحافظ في "الإصابة" (3/ 205) ذكر هذا الحديث، وعزاه لأبي داود والترمذي، ثم قال: وفي سنده مقال لأنه من رواية ابن لهيعة. مع أنه في "سنن أبي داود" وفي أحد طريقي الترمذي ليس من رواية ابن لهيعة!! ثم وجدتُ البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 333) يقول: "الضحاك بن فيروز عن أبيه، وعنه ابن وهب الجيشاني، لا نعرف سماع بعضهم من بعض". ورواه ابن أبي شيبة (4/ 317)، وعبد الرزاق (12627)، وابن ماجه (1950)، =

[التفريق بين الذي يسلم وبين امرأته]

نَردُّ ما خالفها من القياس (¬1)، أمَّا أن نقعِّد قاعدة ونقول (¬2): هذا هو الأصل ثم نرد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة فلعمرُ اللَّه لهدم ألف قاعدة لم يؤصِّلها اللَّه ورسوله أفرضُ علينا من رد حديث واحد! وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين؛ فإن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كيف وقعت وهل صَادَفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح أم لم تُصادفها فتبطل (¬3)، وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج؛ فإن كان ممن يجوزُ له المقام مع امرأته أقرَّهما، ولو كان في الجاهلية قد وَقَع على غير شرطه من الوَلي والشهود وغير ذلك، وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم أو أختان أو أكثر من أربع؛ فهذا هو الأصل الذي أصَّلته سنةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما خالفه فلا يُلتفت إليه، واللَّه الموفق. [التفريق بين الذي يسلم وبين امرأته] المثال الأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لم يكن يُفرِّق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه، بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج" (¬4)، هذه سنته المعلومة. قال الشافعيُّ: أسلم أبو سُفيان بن حرب بمرّ الظَّهران (¬5)، وهي دار خزاعة، وخزاعة مسلمون قبل الفتح في (¬6) دار الإسلام، ورجع إلى مكة، وهند بنت عتبة ¬

_ = والدارقطني (3/ 273) أو (رقم 3637 - بتحقيقي)، والطبراني في "الكبير" (18/ 844)، والشافعي (2/ 16)، والبيهقي (7/ 184 - 185) من طرق عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي فروة عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرعيني عن فيروز به. وإسحاق هذا متروك، وأبو خراش مجهول كما في "التقريب". (¬1) انظر: "زاد المعاد" (4/ 7). (¬2) في (ق): "أما أن يقعد قاعدة ويقول". (¬3) انظر في تقرير هذا بتأصيل وتفصيل: رسالة القاسمي "الاستئناس لتصحيح أنكحة الناس". (¬4) ستأتي أمثلة على هذا، وتخريجها هناك. (¬5) "أسفل مكة بعد مرحلة منها" (و). قلت: وهي من توابع مكة، ومكة لم تكن في ذلك الوقت فتحت، فلم تصر مرّ الظهران دار إسلام بعد، فلم يختلف بها الدار، وإذا نزل العسكر بموضع لم تصر دار إسلام حتى تجري فيها أحكام المسلمين، ويكون بحيث لو أرادوا أن يقيموا فيه ويستوطنوا أمكنهم، ولم تكن مرّ الظهران بهذه الصفة، قاله ابن التركماني في "الجوهر النقي". (¬6) في المطبوع و (ن): "وفي"!!.

مقيمة على غير الإسلام، فأخذت بلحيته، وقالت: اقتلوا الشيخ الضَّال، ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام، وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت قبل انقضاء العدة واستقرا على النكاح؛ لأن عدّتها لم تنقض حتى أسلمت، وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب، ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام وشهد حُنَيْنًا، وهو كافر ثم أسلم فاستقرت امرأته عنده بالنكاح الأول، وذلك أنه لم تنقض عدتها (¬1)، وقد حَفظَ أهلُ العلم بالمغازي أن امرأةً من الأنصار كانت عند رجلٍ بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة، فقدم زوجها وهي في العدة، فاستقرّا على النكاح (¬2). قال الزُّهريُّ: لم يبلغني أن امرأةً هاجرت إلى اللَّه ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر (¬3) إلّا فرّقت هجرتُها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأةً فُرِّق بينها وبين زوجها إذا قَدِمَ وهي في عدّتها (¬4). وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه؛ فكان إذا هاجرت امرأةٌ من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيضَ وتطهر، فإذا طهرت حلَّ لها النكاح، فإن هاجر (¬5) قبل أن تنكح رُدَّت إليه (¬6). وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس قال: ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق) و (ك): "لم تنقض يعني عدّتها". والكلام السابق في "الأم" (5/ 44) ونقله عنه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 186)، وفي "المعرفة" (10/ 140 - 141 رقم 13978 - 13980) ومنه ينقل المصنف. (¬2) في "موطأ مالك" (2/ 543)، و"سنن سعيد بن منصور" (2/ 73 - 74 - ط. الأعظمي)، و"سنن البيهقي" (7/ 186)، و"معرفة السنن والآثار" (10/ 141 - 142) طائفة من الأحاديث في رد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- للكافرين بعد إسلامها بالنكاح الأول، وهي مُرْسَلة، والعبارة المذكورة في "معرفة السنن والآثار" (10/ 141 رقم 13982). (¬3) في (ق): "الحرب". (¬4) أسنده عن ابن شهاب الزهري: مالك في "الموطأ" (2/ 544)، وعنه البيهقي في "المعرفة" (10/ 142 رقم 13987)، وفي "السنن الكبرى" (7/ 187). (¬5) كذا في (ق) و"صحيح البخاري" وفي باقي النسخ: "هاجرت". (¬6) هو في "صحيحه" (5286) في (الطلاق): باب نكاح من أسلم من المشركات وعدّتهن، =

"ردَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زينب ابنته على أبي العَاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يُحدث شيئًا بعد ست سنين" (¬1). وفي لفظ لأحمد: "ولم يُحدث شهادة ولا صداقًا"، وعند الترمذي: "ولم يُحدث نكاحًا"، قال الترمذي: هذا حديث ليس (¬2) بإسناده بأس. وقد رُوي بإسناد ضعيفٍ عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَّها على أبي العاص بنكاح جديد" (¬3). ¬

_ = وانظر: "الروض الأنف" (5/ 200) للسهيلي، و"شرح معاني الآثار" (3/ 256)، و"نصب الراية" (3/ 210). (¬1) رواه أبو داود (2240) في (الطلاق): باب إلى متى ترد عليه امرأته إذا أسلم بعدها، والترمذي (1143) في (النكاح): باب ما جاء في الزوجين المشركين يسلم أحدهما، وفي "العلل الكبير" (289)، وابن ماجه (2009) في (النكاح): باب في الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، وأحمد (1/ 217 و 261 و 315)، وابن سعد (8/ 33)، وابن أبي شيبة (14/ 176)، وعبد الرزاق (12644)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/ 256)، والحاكم (2/ 200 و 3/ 237 و 638 - 639)، والدارقطني (4/ 254)، والبيهقي (7/ 187)، وفي "المعرفة" (10/ 143 رقم 13991) من طرق عن ابن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. وهذا إسناد ظاهره الصِّحة إلّا أن رواية داود عن عكرمة فيها اضطراب، قال ابن المديني: ما رواه عن عكرمة فمنكر، وقال أبو داود: أحاديثه عن عكرمة مناكير. ولذلك قال الترمذي بعد إخراج الحديث: "هذا حديث ليس بإسناده بأس، ولكن لا يعرف وجه هذا الحديث، ولعلّه قد جاء هذا من قبل داود بن حصين من قبل حفظه" ثم نقل عن يزيد بن هارون قوله: "حديث ابن عباس أجود إسنادًا والعمل على حديث عمرو بن شعيب"، وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (4/ 220 - 221). وحديث عمرو بن شعيب هو الآتي عند المصنف. (¬2) في المطبوع: "حديث حسن ليس. . . "، والصواب حذف "حسن". (¬3) رواه أحمد (11/ 143 - رقم 6938)، وأبو يوسف في "الرد على سير الأوزاعي" (ص 100)، وعبد الرزاق (12648)، وسعيد بن منصور (2109)، والترمذي (1142)، وابن ماجه (2015)، والدولابي في "الذرية الطاهرة" (ص 50)، وابن سعد (8/ 32)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 256)، والدارقطني (3/ 253)، والبيهقي (7/ 188)، وفي "المعرفة" (10/ 143 رقم 13990)، و"الخلافيات" (3/ ق 78) من طرق عن الحجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ونقل عبد اللَّه بن أحمد في "العلل" (1/ 199) عن أبيه قوله: "قرأت في بعض الكتب عن حجاج قال: حدّثني محمد بن عبيد اللَّه العرزمي عن عمرو بن شعيب. . ومحمد بن عبيد اللَّه ترك الناس حديثه"، وبنحوه قال يحيى بن سعيد القطان فيما نقل عنه البيهقي، وقال عبد اللَّه بن أحمد: "وقال أبي: هذا حديث ضعيف، أو قال: واهٍ، لم يسمعه =

قال الترمذي (¬1): في إسناده مقال، وقال الإمام أحمد (¬2): "هذا حديث ضعيف، والصحيح أنه أقرّهما على النكاح الأول"، وقال الدارقطني (¬3): "هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَّها بالنكاح الأول"، وقال الترمذي في كتاب "العلل" (¬4) له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب. فكيف يجعل هذا الحديث الضعيف أصلًا ترد به السنة الصحيحة المعلومة ويجعل خلاف الأصول (¬5)؟. فإن قيل: إنما جعلناها خلاف الأصول لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ] (¬6)} [البقرة: 221]، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، ولأن اختلاف الدين مانعٌ من ابتداء النكاح؛ فكان مانعًا من دوامه كالرضاع. قيل: لا تخالف السنة شيئًا من هذه الأصول، إلّا هذا القياس الفاسد؛ فإن هذه الأصول إنما دلَّت على تحريم نكاح الكافر ابتداء والكافرة غير الكتابيين، ¬

_ = الحجاج من عمرو بن شعيب، إنما سمعه من محمد بن عبيد اللَّه العرزمي، والعرزمي لا يساوي حديثه شيئًا، والحديث الصحيح الذي يُروى عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقرّهما على النكاح الأول". وقال الترمذي: "هذا حديث في إسناده مقال"، وقال في "العلل الكبير" (1/ 450 - 451): "سألت محمدًا عن هذين الحديثين -أي هذا الحديث، وحديث ابن عباس الذي قبله- فقال: "حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده". وقال الدارقطني: "هذا لا يثبت، وحجاج لا يحتجّ به، والصواب حديث ابن عباس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ردّهما بالنكاح الأول". وقال البيهقي في "المعرفة": "لو صح الحديثان، لقلنا بحديث عمرو بن شعيب؛ لأن فيه زيادة ولم يثبته الحفاظ فتركناه، وأخذنا بحديث ابن عباس". وانظر: "معالم السنن" (2/ 676) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3564). (¬1) في "جامعه" (1142). (¬2) في "المسند" (11/ 431 رقم 6938)، ونحوه في "العلل" لابنه عبد اللَّه (1/ 119). (¬3) في "السنن" (3/ 352). (¬4) (1/ 450 - 451). (¬5) انظر كلام المؤلف حول هذا الحديث في "تهذيب السنن" (3/ 150 - 155). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[ذكاة الجنين]

وهذا حق لا خلاف فيه بين الأمة، ولكن أين في هذه الأصول ما يوجب تعجيل الفرقة بالإسلام وأن لا تتوقف على انقضاء العدة؟ ومعلوم أن افترَاقَهما في الدين سببٌ لافتراقهما في النكاح، ولكن توقف السببِ على وجود شرطه وانتفاء مانعه لا يُخرجه عن السببية، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع عَملَ عمله واقتضى (¬1) أثره، والقرآن إنما دلَّ على السببية، والسنة دلَّت على شرط السبب ومانعه كسائر الأسباب التي فصَّلت السنة شروطَها وموانعها؛ كقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] (¬2)} [المائدة: 38] ونظائر ذلك؛ فلا يجوز أن يُجعل بيان الشروط والموانع معارضة لبيان الأسباب والموجبات فتعود السنة كلها أو أكثرها معارضة للقرآن، وهذا محال. [ذكاة الجنين] المثال الحادي والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاةَ الجنين ذكاةُ أُمِّه (¬3)، بأنها خلاف الأصول. ¬

_ (¬1) في (ق): "واقتص". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط في (ق) و (ك). (¬3) أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب الأضاحي): باب ما جاء في ذكاة الجنين (3/ 103/ رقم 2827)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الأطعمة): باب ما جاء في ذكاة الجنين (4/ 72/ رقم 1476)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الذبائح): باب ذكاة الجنين ذكاة أمّه (2/ 1067/ رقم 3199)، وأحمد في "المسند" (3/ 31، 53)، وعبد الرزاق في "المصنف" (4/ 502/ رقم 8650)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 900)، وأبو يعلى في "المسند" (2/ 278/ رقم 992)، وابن حبان (5889)، والدارقطني في "السنن" (4/ 272 - 273، 274)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 335)، والبغوي في "شرح السنة" (11/ 228 رقم 2789)، جميعهم من طريق مجالد بن سعيد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رفعه. وإسناده ضعيف لضعف مجالد، ولكنه توبع، تابعه يونس بن أبي إسحاق، وهو متفق على ثقته، وأبو الودَّاك ثقة، احتجَّ به مسلم. وقد ضعّفه ابن حزم في "المحلى" (7/ 419) بقوله: "مجالد ضعيف، وأبو الوداك ضعيف". قلت: أبو الوداك وثقه ابن معين وابن حبان، وقال النسائي: "صالح". ولذا قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 157): "أمّا أبو الودَّاك فلم أرَ من ضعّفه". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه متابعة يونس عن أبي الوداك أحمد في "المسند" (3/ 39)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 1077 - موارد)، والدارقطني في "السنن" (4/ 274)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 335)، والخطيب في "الموضح" (2/ 249). قال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 157): "فهذه متابعة قوية لمجالد". وقال المنذري في "مختصر السنن" (4/ 120): "وهذا إسناد حسن، ويونس -وإن تكلم فيه- فقد احتجّ به مسلم في "صحيحه""، وقال الذهبي في "الميزان" (4/ 483) -وساق كلام الأئمة فيه وعنه-: "قلت: بل هو صدوق، ما به بأس، ما هو في قوة مِسعر ولا شعبة"، وترجمه في "من تكلم فيه وهو موثق" (رقم 389). وأخرجه أحمد في "المسند" (3/ 45)، وأبو يعلى في "المسند" (2/ رقم 1206)، والطبراني في "الصغير" (1/ 88، 168 أو رقم 242، 467)، والخطيب في "التاريخ" (8/ 412)، وأبو نعيم في "مسانيد فراس بن يحيى المكتب" (رقم 39) من طريق عطية العوفي -وهو ضعيف مدلس، ولم يصرح بالسماع- عن أبي سعيد به. وله شاهد من حديث جابر أخرجه الدارمي في "السنن" (2/ 84)، وأبو داود في "السنن" (رقم 2828)، وأبو يعلى في "المسند" (3/ 343/ رقم 1808)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 660، 733 و 6/ 2403)، والدارقطني في "السنن" (4/ 273)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 114)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 92 و 9/ 236)، و"أخبار أصبهان" (1/ 92 و 2/ 82)، وأبو الشيخ في "طبقات المحدثين بأصبهان" (رقم 288)، وابن الأعرابي في "المعجم" (رقم 200)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (265) -موقوفًا-، والخليلي في "الإرشاد" (1/ 438)، والبيهقي في "الكبرى" (9/ 334 - 335) من طرق عن أبي الزبير عن جابر، وليس من بينها طريق الليث بن سعد، ولم يصرح أبو الزبير في أيّ منها بالتحديث؛ فهو معلول من هذه الجهة، وبنحوه أعلّه ابن حزم في "المحلى" (7/ 419). وورد حديث ابن عمر وأبي هريرة وكعب بن مالك وأبي ليلى وأبي أيوب الأنصاري وابن مسعود وابن عباس وعلي وأبي أمامة وأبي الدرداء وعمار بن ياسر والبراء بن عازب، ولا تخلو طرقه هذه من ضعف، وليس هذا موطن سردها؛ إلّا أن الحديث صحيح ثابت من هذه الطرق، قال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 156): "قال عبد الحق: لا يحتج بأسانيده كلها، وخالف الغزالي في "الإحياء" فقال: هو حديث صحيح، وتبع في ذلك إمامه". قلت: يريد إمام الحرمين الجويني، كما صرّح به العراقي في "تخريج الإحياء" (2/ 116). قال ابن حجر: "فإنه -أي: إمام الحرمين- قال في "الأساليب": هو حديث صحيح، لا يتطرق احتمالٌ إلى متنه، ولا ضعف إلى سنده، وفي هذا نظر، والحق أن فيها ما تنتهض به الحجة، وهي مجموع طرق حديث أبي سعيد وطرق حديث جابر". ولا داعي للإطالة بأكثر من هذا، واللَّه الموفق. وانظر: حديث جابر هذا والكلام عليه رواية ودراية مبسوطًا عند ابن القيم في "تهذيب السنن" (4/ 19، 123)، و"بدائع الفوائد" (3/ 112).

[إشعار الهدي]

وهي (¬1) تحريم الميتة، فيُقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة هو الذي أباح الأجنّة المذكورة، فلو قدر أنها ميتة لكان استثناؤها بمنزلة استثناء السمك والجَرَاد من الميتة، فكيف وليست بميتة؟ فإنها جزء من أجزاء الأم والذَّكاة قد أتت على جميع أجزائها، فلا يحتاج أن يُفرد كل جزء منها بذكاة، والجنين تابع للأم جزء منها، فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة، ولو لم ترد السنة بالإباحة، فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟ فإن قيل: فالحديث حجةٌ عليكم، فإنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" (¬2)، والمراد التشبيه، أي ذكاته كذكاة أمّه، وهذا يدلّ على أنه لا يُباح إلّا بذكاة تشبه ذكاة الأم. قيل: هذا السؤال شقيق قول القائل: "كلمة تكفي العاقل"، فلو تأمَّلتم الحديث لم تستحسنوا إيراد هذا السؤال، فإن لفظ الحديث هكذا: عن أبي سعيد قال: قُلنا: يا رسول اللَّه، ننحرُ الناقةَ ونَذبحُ البقرةَ والشاةَ وفي بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: "كُلُوه إن شئتم، فإن ذكاتَه ذكاةُ أمه" (2)، فأباح لهم أكله معلّلًا بأن ذكاة الأم ذكاة له، فقد اتفق النص والأصل والقياس، وللَّه الحمد. [إشعار (¬3) الهدي] المثال الثاني والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في إشْعار ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وهو". (¬2) مضى تخريجه قريبًا. (¬3) الإشعار في الشرع: هو أن يشق أحد سنامي البدن، ويطعن فيه حتى يسيل دمها؛ ليعرف أنها هدي وتتميز إن خلطت، وتعرف إنْ ضلَّت، ويرتدع عنها السراق، ويأكلها الفقراء إذا ذبحت في الطريق لخوف الهلاك، وقال به جمهور الفقهاء، وهو مذهب المالكية، انظر: "الموطأ" (1/ 379)، "المدونة" (1/ 449، 451)، "المنتقى" (2/ 225)، "الزرقاني على موطأ مالك" (2/ 325)، "أسهل المدارك" (1/ 500)، "المعونة" (1/ 597)، "التفريع" (1/ 332 - 333)، "الذخيرة" (3/ 355)، "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 450)، "تفسير القرطبي" (6/ 36 - 37، 40، 326)، "الكافي" (162)، "بداية المجتهد" (1/ 377)، "المقدمات" (2/ 7)، "شرح الزرقاني" (2/ 329)، "الخرشي" (2/ 382)، "جامع الأمهات" (ص 214)، "الفقه المالكي وأدلّته" (2/ 265). وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد. انظر: "الأصل" (2/ 492)، "مختصر اختلاف العلماء" (2/ 73). وهو مذهب الشافعية. انظر: "الأم" (2/ 216)، "المهذب" (1/ 242)، "المجموع" (8/ 321)، "روضة الطالبين" =

الهدي (¬1)، بأنها خلاف الأصول، إذ الإشعار مُثْلة (¬2)، ولعمرُ اللَّه إن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة، وما ضرَّها ذلك شيئًا، والمثلة المحرمة هي العدوان الذي لا يكون عقوبة ولا تعظيمًا لشعائر اللَّه، فأما شَقُّ صفحة سَنَام البعير المستحب أو الواجب ذبحه ليسيل دمه قليلًا فيظهر شعار الإسلام وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى اللَّه فعلى وِفْق الأصول، وأي كتاب أو سنة حَرَّم ذلك حتى يكون خلافًا للأصول؟ وقياس الإشعار على المثلة المحرمة من أفسد قياسٍ على وجه الأرض، فإنه قياس ما يحبُّه اللَّه ويرضاه على ما يُبغضه ويسخطه ويَنهى عنه، ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلّا تعظيم شعائر اللَّه وإظهارها وعلم الناس أن (¬3) هذه قرابين اللَّه عز وجل تُساق إلى بيته تُذبح له ويُتقرّب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلّون لها، فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم للَّه وحده، وأن يظهروا شعائرَ توحيده غاية الإظهار ليُعلوا دينه على كل دين، فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها (¬4)، وللَّه الحمد. ¬

_ = (3/ 189)، "مختصر الخلافيات" (3/ 264/ رقم 78)، "حلية العلماء" (3/ 364). وهو مذهب الحنابلة. انظر: "المغني" (5/ 454)، "الإنصاف" (4/ 101)، "منتهى الإرادات" (1/ 610)، "تنقيح التحقيق" (2/ 491)، "الإفصاح" (1/ 302) لابن هبيرة. (¬1) ورد من حديث عائشة: رواه البخاري (1696) في (الحج): باب من أشعر وقلّد بذي الحليفة ثم أحرم، و (1699): باب إشعار البدن، ومسلم (1321 بعد 362) في (الحج): باب استحباب بعث الهدي إلى الحرم لمن لا يريد الذهاب بنفسه. ومن حديث ابن عباس: رواه مسلم (1243) في (الحج): باب تقليد الهدي وإشعاره عند الإحرام. (¬2) قيل: إنّ كراهة أبي حنيفة الإشعار، إنما كان من أهل زمانه، فإنهم كانوا يبالغون فيه، بحيث يخاف سراية الجراحة، وفساد العضو، كذا في "اللمعات"، من "مرعاة المفاتيح" (7/ 17)، ومذهب أبي يوسف ومحمد جوازه. وانظر: "الأصل" (2/ 492 - 493)، "مختصر اختلاف العلماء" (2/ 72)، "شرح معاني الآثار" (2/ 264)، "مختصر الطحاوي" (73)، "الاختيار" (1/ 175)، "المبسوط" (4/ 138)، "تحفة الفقهاء" (1/ 400)، "شرح فتح القدير" (2/ 517 و 3/ 8)، "البناية" (3/ 640). (¬3) في المطبوع: "بأن". (¬4) يدلّ الحديث على أن الإشعار سنة، وبه قال الجمهور، ومنهم الأئمة الثلاثة، كما =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قدمناه، ودليل الحنفية أن الإشعار مثلة وتعذيب الحيوان، فهو حرام، وقولهم هذا مخالف للأحاديث الصحيحة الواردة بالإشعار، وليس هو مثلة، بل هو كالفصد والحجامة والختان والكيّ للمصلحة، وبمشروعيته قال الجمهور من السلف والخلف. قال الجوهري في "نوادر الفقهاء" (ص 69 - 70): "وأجمعوا أن الإشعار للبُدْنِ حَسَن، لا، بل جعله بعضهم من النسك، إلّا أبا حنيفة -رضي اللَّه عنه- فإنه كرهه". قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 543): "وأبعد من منع الإشعار واعتلّ باحتمال أنه كان مشروعًا قبل النهي عن المثلة، فإن النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، بل وقع الإشعار في حجّة الوداع وذلك بعد النهي عن المثلة بزمان. وقال الخطابي وغيره: اعتلال من كره الإشعار بأنه من المثلة مردود بل هو آخر كالكي وشق أذن الحيوان ليصير علامة وغير ذلك من الوسم، وكالختان والحجامة. وشفقة الإنسان على المال عادة فلا يخشى ما توهموه من سريان الجرح حتى يفضي إلى الهلاك، ولو كان ذلك هو الملحوظ لقيّده الذي كرهه به كأن يقول: الإشعار الذي يفضي بالجرح إلى السراية حتى تهلك البدنة مكروه فكان قريبًا، قال الحافظ: وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة في إطلاقه كراهة الإشعار وانتصر له الطحاوي في "المعاني" فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار وإنما كره ما يفعل على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح لا سيما مع الطعن بالشفرة فأراد سد الباب على العامة؛ لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأمّا من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا. وروي عن إبراهيم النخعي أيضًا أنه كره الإشعار، ذكر ذلك الترمذي، قال: سمعت أبا السائب يقول: كنّا عند وكيع فقال لرجل ممن ينظر في الرأي: أشعر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقول أبو حنيفة: هو مثلة. قال الرجل: فإنه قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقول قال إبراهيم، ما أحقك أن تحبس ثم لا تخرج حتى تنزع عن قولك هذا. انتهى. قال الحافظ: "وفي هذا تعقب على الخطابي حين قال: لا أعلم أحدًا من أهل العلم أنكر الإشعار غير أبي حنيفة وخالفه صاحباه، وقالا في ذلك بقول عامة أهل العلم، وفيه أيضًا تعقب على ابن حزم في زعمه أنه ليس لأبي حنيفة في ذلك سلف، وقد بالغ ابن حزم في "المحلى" (7/ 110 - 112) في هذا الموضع، ويتعين الرجوع إلى ما قال الطحاوي فإنه أعلم من غيره بأقوال أصحابه"، انتهى كلام الحافظ. وقال ابن عابدين: "جرى صاحب "الدر المختار" على ما قاله الطحاوي والشيخ أبو منصور الماتريدي من أن أبا حنيفة لم يكره أصل الإشعار وكيف يكرهه مع ما اشتهر فيه من الأخبار، وانما كره إشعار أهل زمانه الذي يخاف منه الهلاك خصوصًا في حرّ الحجاز، فرأى الصواب حينئذ سدّ هذا الباب على العامة، فأمّا من وقف على الحد بأن قطع دون اللحم فلا بأس بذلك". قال الكرماني في "المناسك": "وهذا هو الأصح وهو اختيار قوام الدين وابن الهمام، فهو مستحب لمن أحسنه. قال في "النهر": وبه يستغنى عن كون العمل على قولهما بأنه حسن"، انتهى. وقال صاحب "المرعاة" (7/ 18 - 19) بعد هذا كله: "قلت: ما روي عن أبي حنيفة من القول بكراهة الإشعار، لا شك أنه مخالف للأحاديث الصحيحة ومنابذ للسنة". وانظر: "اللباب في الجمع بين السنة والكتاب" (1/ 444).

[لا دية لمن اطلع على قوم فأتلفوا عينه]

[لا دية لمن اطلع على قوم فأتلفوا عينه] المثال الثالث والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لو أنَّ امرأً اطَّلع عليك بغير إذنٍ فخَذَفْتُهْ بحصاةٍ ففقأتَ عَيْنه ما كان عليك جُنَاح" (¬1) متفق عليه، وفي أفراد مسلم: "مَنْ اطَّلع في بيت قومٍ بغيرِ إذْنِهم فقد حَلَّ لهم أن يفقأوا عينه" (¬2)، وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد: "اطَّلع رجلٌ من جحر في حُجرةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعه مِدْرَى (¬3) يحكُّ بها رأسه، فقال: لو أعلم أنك تنظرُ لطعنتُ به في عينك، إنما جُعل الاستئذانُ من أجل النَّظر" (¬4)، وفي "صحيح مسلم" عن أنس: "أن رجلًا اطَّلع من بعض حُجَرِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقام إليه بمِشْقَص، أو بمشاقص (¬5)، قال: وكأني أنظر إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْتِلُه ليطعنَه" (¬6)، وفي "سنن البيهقي" بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من اطلع على قوم بغير إذنهم فرموه فأصابوا عينه فلا دية له ولا قصاص" (¬7)، فردَّت هذه السنن بأنها خلاف الأصول، فإن اللَّه إنما أباح قلع العين ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6888) في (الديات): باب من أخذ حقه أو اقتصّ دون السلطان، و (6902) باب من اطلع في بيت قوم ففقؤوا عينه فلا دية له، ومسلم (2158) في (الآداب): باب تحريم النظر في بيت غيره، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الآداب): باب تحريم النظر في بيت غيره (3/ 1699/ 2158) من حديث أبي هريرة. (¬3) "المشط والقرن" (و). (¬4) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب الاستئذان): باب الاستئذان من أجل البصر (11/ 24/ 6241)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الآداب): باب تحريم النظر في بيت غيره (3/ 1698/ 2156) من حديث سهل بن سعد الساعدي. (¬5) "جمع مشقص: نصل السهم إذا كان طويلًا غير عريض، فإذا كان عريضًا؛ فهو المِعبَلة -بكسر الميم، وفتح الباء-" (و). (¬6) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الآداب): باب تحريم النظر في بيت غيره (3/ 1699/ 2157) من حديث أنس بن مالك. وهو عند البخاري في "الصحيح" -أيضًا- (كتاب الاستئذان): باب الاستئذان من أجل البصر (11/ 24/ 6242). (¬7) هو في "سنن البيهقي" (8/ 338). ورواه أيضًا أحمد (2/ 385)، وإسحاق بن راهويه (رقم 112)، والنسائي (8/ 61) في (القسامة): باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، وابن الجارود (790)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (939 و 940)، وابن حبان (6004) من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن النضر بن أنس عن بَشير بن نَهِيك عنه، وإسناده على شرط مسلم.

[الكلام عن وضع الجوائح]

بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جَنَى عليه بلسانه لم يُقطع، ولو استمع عليه بأذُنه لم يجز [له] (¬1) أن يقطع أذنه، فيقال: بل هذه السنن من أعظم الأصول، فما خالفها فهو خلاف الأصول (¬2)، وقولكم: "إنما شرع اللَّه سبحانه أخذ العين بالعين"، فهذا حقٌّ في القصاص، وأما العضو الجاني المعتدي الذي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلّا برميه، فإن الآية لا تتناوله نفيًا ولا إثباتًا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانًا ابتدائيًا لِما سَكتَ عنه القرآن، لا مخالفًا لما حكم به القرآن، وهذا قسم (¬3) آخر غير فقء العين قصاصًا، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالأسهل فالأسهل، إذ المقصود دفعُ ضَررِ صياله، فإذا اندفع بالعصا لم يُدفع بالسيف، وأما هذا المعتدي بالنظر المحرَّم الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل، فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانُه، ولا يقع هذا غالبًا إلّا على وجه الاختفاء وعدم مشاهدة غير الناظر إليه (¬4)، فلو كُلِّف المنظور إليه إقامة البيّنة على جنايته لتعذَّرت عليه، ولو أُمر بدفعه بالأسهل فالأسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى حَريمه هدرًا، والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا، فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لنا وللجاني ما جاءت به السنة التي لا مُعارض لها ولا دافع لصحتها من خذف (5) ما هنالك، وإن لم يكن هناك بصرٌ عادٍ لم يضر خذف (¬5) الحصاة، وإن كان هنالك بصر عادٍ فلا يلومنَّ (¬6) إلا نفسه، فهو الذي عَرَّضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك، والخاذف (5) ليس بظالم له، والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجلّ من أن تضيع حق هذا الذي قد هُتكت حرمته وتُحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البتنة، فحَكَم اللَّه فيه بما شَرَعه على لسان رسوله، ومَنْ أحسن من اللَّه حكمًا لقوم يوقنون؟ [الكلام عن وضع الجوائح] المثال الرابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 204 و 4/ 113 - 114، 380)، و"تهذيب السنن" (6/ 380)، و"الطرق الحكمية" (ص 76 - 47)، و"أحكام الجناية" (ص 301 - 312)؛ فإنه مهم. (¬3) في المطبوع: "اسم". (¬4) في (ق) و (ك): "الناظر له". (¬5) في (ق) و (ن) بالحاء المهملة. (¬6) في المطبوع: "لا يلومن".

الجوائح، بأنها خلاف الأصول كما في "صحيح مسلم" عن جابر يرفعه: "لو بعتَ من أخيك ثمرًا فأصابته جائحةٌ فلا يحلُّ لك أن تأخذَ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " (¬1)، وروى سفيان بن عُيينة، عن حُميد، عن سُليمان، عن جابر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَهى عن بيع السّنين، وأمر بوضع الجوائح" (¬2)، فقالوا: هذه خلاف الأصول، فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرّف فيها، وتمَّ نقل المُلك إليه، ولو ربح فيها كان الربح له، فكيف تكون من ضمان البائع؟ وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد قال: أُصيب رجل في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ثمارٍ ابتاعها، فكثر دَيْنُه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تصدَّقوا عليه"، فتصدَّقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك" (¬3)، وروى مالك عن أبي الرِّجَال، عن أُمّه عمرة أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثَمَر حائطٍ في زَمنِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فعالجه، وأقام عليه حتى تبيَّن له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه، فحلف لا يفعل، فذهبت أُمُّ المشتري إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرت له ذلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تألَّى أنْ لا يفعل خيرًا"، فسمع بذلك رب المال، فأتى إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه هو له (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1554) في (المساقاة): باب وضع الجوائح. (¬2) رواه مسلم (1536 بعد 101) في (البيوع): باب النهي عن المحاقلة والمزابنة. . . أوّله، وهو: نهى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع السِّنين، وقال: وفي رواية ابن أبي شيبة: عن بيع الثمر سنين. وروى (1554) في (المساقاة): باب وضع الجوائح، الجزء الثاني منه، وهو بالسند نفسه. وقال (و): "بيع السنين: بيع النخلة لأكثر من سنة في عقد واحد، وذكر الرافعي له تفسيرًا آخر: وهو أن يقول: بعتك هذا سنة على أنه إذا انقضت السنة؛ فلا بيع بيننا، وأردّ أنا الثمن، وترد أنت المبيع، والجوائح: جمع جائحة، وهي الآفة التي تصيب الثمار، فتهلكها" اهـ. (¬3) رواه مسلم (1556) في (المساقاة): باب استحباب الوضع من الدَّين. (¬4) هو في "الموطأ" (2/ 621)، ومن طريقه: رواه البيهقي (5/ 305)، وهذا مرسل، عمرة تابعية. وقد وصله البخاري (2755) في (الصلح): باب هل يشير الإمام بالصلح، ومسلم (1557) في (المساقاة): باب استحباب الوضع من الدين من طريق يحيى بن سعيد عن أبي الرجال (محمد بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن حارثة) عن عمرة عن عائشة؛ فذكر نحوه مع اختلاف في القصة. ووصله من طريق ابن أبي الرجال عن أبيه عن عمرة به: أحمد (6/ 69 و 105)، وابن حبان (5032).

[الجواب عن شبهات القياسيين في المسألة]

[الجواب عن شبهات القياسيين في المسألة] والجواب أن وضع الجوائح لا يخالف شيئًا من الأصول الصحيحة، بل هو مقتضى أصول الشريعة، ونحن بحمد اللَّه نبيِّن (¬1) هذا بمقامين: أمّا الأول: فحديث وَضْع الجوائح (¬2) لا يخالف كتابًا ولا سنةً ولا إجماعًا، وهو أصل بنفسه، فيجب قبوله، وأمّا ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النص له بالإهدار، كيف وهو فاسدٌ في نفسه؟ وهذا يتبين بالمقام الثاني: وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة فهو مقتضى القياس الصحيح، فإن المشتري لم يتسلَّم الثمرة ولم يقبضها القبض التام الذي يوجب نقل الضمان إليه، فإنَّ قبضَ كُلِّ شيء بحسبه (¬3)، وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئًا فشيئًا، فهو كقبض المنافع في الإجارة، وتسليم الشجرة إليه كتسليم العين المؤجَّرة من الأرض والعقار والحيوان، وعُلَق البائع لم تنقطع عن المبيع، فإن له سقي الأصل وتعاهده، كما لم تنقطع عُلَق المؤجِّر عن العين المستأجرة، والمشتري لم يتسلم التسليم التام كما لم يتسلم المستأجر التسليم التام، فإذا جاء أمرٌ غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري لم يحل للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه اللَّه سبحانه منها قبل تمكّنه من قبضها القبض المعتاد، وهذا معنى قول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرأيت إنْ منعَ اللَّه الثّمرة؟ فبمَ يأخذ أحدكُم مالَ أخيه بغير حق؟ " (¬4)، فذكر الحُكم، وهو قوله: "فلا يحل له أن يأخذ منه شيئًا"، وعلّة الحكم، وهو قوله: "أرأيت إن منع اللَّه الثمرة؟ "، إلى آخره، وهذا الحكم نص لا يحتمل التأويل، والتعليل وصف مناسبٌ لا يقبل الإلغاء ولا المعارضة. وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك، ولهذا لو تمكَّن من القبض المعتاد في وقته ثم أخَّره لتفريط منه أو لانتظار غلاء السعر كان التلف من ضمانه ولم توضع عنه الجائحة. وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أُصيب في ثمار ابتاعها فمن باب رَدِّ المحكم بالمتشابه، فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة (¬5)، بل لعله أصيب فيها ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ونحن نبين بحمد اللَّه". (¬2) تقدم تخريجه قريبًا. (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 250 - 251). (¬4) تقدم تخريجه قريبًا. (¬5) بعدها في المطبوع زيادة: "فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة"، وهي مثبتة في (ك) بعدها بسطر كما أثبتناه. وانظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (30/ 273، 275 - 276).

[صلاة من صلى خلف الصف وحده]

بانحطاط سِعْرها، وإن قدر أن المصيبة كانت جائحة عامة، [فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة] (¬1) بل لعلها جائحة خاصة كسرقة اللصوص التي يمكن الاحتراز منها، ومثل هذا لا يكون جائحة تُسقط الثمن عن المشتري، بخلاف نهب (¬2) الجيوش والتلف بآفة سماوية، وإن قدر أن الجائحة عامة فليس في الحديث ما يبيِّن أن التَّلف لم يكن بتفريطه في التأخير، ولو قدر أن التلف لم يكن بتفريطه فليس فيه أنه طلب الفسخ وأن توضع عنه الجائحة (¬3)، بل لعله رضي بالمبيع ولم يطلب الوضع، والحق في ذلك له؛ إن شاء طلبه، وإن شاء تركه، فأين في الحديث أنه طلب ذلك، وأن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- منع (¬4) منه؟ ولا يتم الدليل إلّا بثبوت المقدمتين، فكيف يعارض نص قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير معنى واحد وهو نصٌّ فيه بهذا الحديث المتشابه؟! ثم قوله فيه: "ليس لكم فيه إلّا ذلك"، دليل على أنه لم يبق لبائع الثمار في ذمة المشتري غير ما أخذه، وعندكم المال كله في ذمّته، فالحديث حجة عليكم. وأما المعارضة بحديث (¬5) مالك فمن أبطل المعارضات وأفسدها، فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجه ما؟ وإنما فيه أنه عالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصان، ومثل هذا لا يكون سببًا لوضع الثمن، وباللَّه التوفيق. [صلاة من صلى خلف الصف وحده] المثال الخامس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الإعادة على مَنْ صلَّى خلف الصف وحده (¬6) كما في "المسند" بإسناد صحيح، وصحيحي: "ابن حبان" "وابن خزيمة"، عن علي بن شَيْبان: "أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا يُصلّي خَلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال له: استقبل صلاتَك فلا صلاةَ لفردٍ خلف الصَّفِّ" (¬7)، وفي "السنن"، و"صحيحي ابن حبان ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬2) في (ك): "نهبة". (¬3) في المطبوع: "عند الجائحة". (¬4) في (ق) و (ك): "منعه". (¬5) في المطبوع: "بخبر". (¬6) حول ترجيح ابن القيم لبطلان الفذ خلف الصف، انظر: "تهذيب السنن" (1/ 336 - 339)، وفيه رد على من أعلَّ حديث وابصة الآتي. (¬7) رواه ابن سعد (5/ 551)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 275 - 276)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1678)، وابن أبي شيبة (2/ 193 و 14/ 156)، وأحمد (4/ 23)، وابن ماجه (1003) في (إقامة الصلاة): باب صلاة الرجل خلف الصف =

وابن خزيمة"، عن وابصة بن معبد: "أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيدَ صلاته" (¬1)، وفي "مسند الإمام أحمد"، سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل صلَّى وحده خلف الصف قال: "يُعيد صلاته" (¬2)، فردّت ¬

_ = وحده، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 394)، وابن خزيمة (1569)، وابن حبان (2203) و (2204)، والبيهقي (3/ 105)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 1971 رقم 4951) من طرق عن ملازم بن عمرو: حدثنا عبد اللَّه بن بدر: حدثني عبد الرحمن بن علي بن شيبان: حدثنا أبي علي بن شيبان به. قال البوصيري (1/ 195): هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وقد حَسَّنه الإمام أحمد كما نقله الحافظ في "التلخيص" (2/ 37). وعزاه الزيلعي للبزار في "مسنده" (2/ 39)، ونقل عنه قوله: "عبد اللَّه بن بدر ليس بالمعروف، إنما حدّث عنه ملازم بن عمرو، ومحمد بن جابر، فأما ملازم فقد احتمل حديثه وإن لم أحتج به، وأما محمد بن جابر، فقد سكت الناس عن حديثه، وعلي بن شيبان لم يحدث عنه إلا ابنه، وابنه هذه صفته، وإنما ترتفع جهالة المجهول إذا روى عنه ثقتان مشهوران، فأمّا إذا روى عنه من لا يحتج بحديثه لم يكن ذلك الحديث حجة، ولا ارتفعت جهالته". أقول: هذا كلام عجيب، أما عبد اللَّه بن بدر فقد روى عنه جماعة، ووثقه ابن معين وأبو زرعة والعجلي، وابن حبان كما في "التهذيب" (5/ 135). وانظر كلام أحمد شاكر في تعليقه على "سنن الترمذي" (1/ 445). وعلي بن شيبان ثابت الصحبة، فلا ترد صحبته بمثل هذا!! (¬1) رواه الطيالسي (1201)، وابن أبي شيبة (2/ 192، 193)، وأحمد (4/ 228)، وأبو داود (682) في الصلاة: باب الرجل يصلي وحده خلف الصف، والترمذي (230 و 231) في (الصلاة): باب ما جاء في الصلاة خلف الصف وحده، وابن ماجه (1004) في (الإقامة): باب صلاة الرجل خلف الصف وحده، والحميدي (884)، وعبد الرزاق (2482)، والدارمي (1/ 294)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 393)، وابن حجان (2198) و (2199) و (2200) و (2201)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (15/ 5241 رقم 211)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2725 رقم 6505)، والطبراني في "الكبير" (22/ 371 - 388)، والبيهقي في "سننه" (3/ 104، 105)، وابن الجارود (319)، وقد اختلف في إسناده بَيَّن ذلك ابن حبان والبزار -كما نقله عنه الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 38) - والبيهقي في "سننه" (3/ 104)، وفي "المعرفة" (2/ 382 - 383)، وقد ردّ ابن حبان هذا الاختلاف ولذلك ذكره في "صحيحه"، وحَسَّنه الترمذي، وردّ عن الاختلاف الواقع في سنده ردًا قويًا رائعًا شيخنا العلامة الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (2/ 323 - 329) ولذلك صحح الحديث. (¬2) هو في بعض طرق حديث وابصة السابق، انظر "المسند" (4/ 228) لأحمد، و"المعجم الكبير" (22/ رقم 383) للطبراني.

هذه السنن المحكمة بأنها خلاف الأصول، ولعمرُ اللَّه إنها هي محضُ الأصول، وما خالفها فهو خلاف الأصول، وردت بالمتشابه من حديث ابن عباس حيث أحرم عن يسار النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأداره إلى يمينه، ولم يأمره باستقبال الصلاة (¬1)، وهذا من أفسد الرد، فإنه لا يشترط أن تكون تكبيرة الإحرام من المأمومين في حالٍ واحد، بل لو كبَّر أحدهم وحده ثم كبَّر الآخر بعده صحت القدوة ولم يكن السابق فذًّا، وإن أحرم وحده فالاعتبار بالمصافّة فيما تُدرك به الركعة، وهو الركوع، وأفسد من هذا الرد رَدُّ الحديث بأن الإمام يقف فَذًّا، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجلّ وأعظم في صدور أهلها أن تُعارض بهذا وأمثاله. وأقبح من هذه المعارضة معارضتها بأن المرأة تقف خلف الصف وحدها، فإن هذا هو موقفها المشروع بل الواجب، كما أن موقفَ الإمام المشروع أن يكونَ وحده أمام الصف. وأمّا موقف الفذ خلف الصف فلم يشرعه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ألبتَّة، بل شرع الأمر بإعادة الصلاة لمن وقف فيه، وأخبر أنه لا صلاةً له. فإن قيل: فهب أن هذه المعارضات لم يسلم منها شيء، فما تصنعون بحديث أبي بكرة حين ركع دون الصف ثم مشى راكعًا حتى دخل في الصف، فقال له النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زادَك اللَّه حرصًا ولا تَعُد" (¬2)، ولم يأمره بإعادة الصلاة، وقد وقعت منه تلك الركعة فذًّا؟. قيل: نقبله على الرأس والعينين، ونمسك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تعد"، فلو فعل أحد ذلك غير عالم بالنهي لقلنا له كما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سواء، فإن عاد بعد علمه بالنهي فإما أن يجتمع مع الإمام في الركوع، وهو في الصف أولًا، فإن جَامَعه في الركوع، وهو في الصف صَحَّت صلاته؛ لأنه أدرك الركعة، وهو غير فذ كما لو أدركها قائمًا (¬3)، وإن رفع الإمام رأسه [من الركوع] (¬4) قبل أن يدخل في الصف فقد قيل: تصح صلاته، [وقد] (¬5) قيل: لا تصح له تلك الركعة، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (117) في (العلم): باب السَّمر في العلم، وأطرافه كثيرة جدًا، انظرها هناك. ومسلم (763) في (صلاة المسافرين): باب الدعاء في صلاة الليل، وقيامه من حديث ابن عباس نفسه. (¬2) رواه البخاري (783) في (الأذان): باب إذا ركع دون الصف. (¬3) في (ق): "كما لو أدركه قائمًا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[الأذان للفجر قبل دخول وقتها]

ويكون فذًا فيها، والطائفتان احتجّوا بحديث أبي بكرة، والتحقيق أنه قضيةُ عين: يحتملُ دخوله في الصف قبل رفع الإمام، ويحتمل أنه لم يدخل فيه حتى رفع الإمام، وحكاية الفعل لا عمومَ لها، فلا يمكن أن يحتجّ بها على الصورتين، فهي إذًا مجملة متشابهة، فلا يُترك لها النَّص المحكم الصريح، فهذا مقتضى الأصول نصًا وقياسًا (¬1)، وباللَّه التوفيق. [الأذان للفجر قبل دخول وقتها] المثال السادس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الأذان للفجر قبل دخول وقتها كما في "الصحيحين" من حديث سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابنِ أُمِّ مكتوم" (¬2)، وفي "صحيح مسلم"، عن سَمُرة عنْ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يغرَّنكم نداء بلال، ولا هذا البَيَاض حتى يَنفجرَ الفَجرُ" (¬3)، وهو في "الصحيحين" من حديث ابن مسعود، ولفظه: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره (¬4)، فإنه يؤذن -أو قال: ينادي- بليل ليرجعَ قائِمَكُم وينتبه نائمُكم" (¬5)، قال مالك (¬6): لم تَزلْ الصبح يُنادى لها قبل الفجر، فردَّت هذه السنة لمخالفتها ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 85 - 86). (¬2) رواه البخاري (617) في (الأذان): باب أذان الأعمى إذا كان له من يخبره، و (620) في الأذان بعد الفجر، و (623) في الأذان قبل الفجر، و (1918) في (الصوم): باب قول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يمنعكم من سحوركم أذان بلال"، و (2656) في (الشهادات): باب شهادة الأعمى، و (7248) في (أخبار الآحاد): باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ومسلم (1092) في (الصيام): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر. (¬3) رواه مسلم برقم (1094) في (الصيام): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر. (¬4) "بفتح السين: اسم ما يتسحر به من الطعام والشراب، وبالضم: المصدر، والفعل نفسه أكثر ما يروى بالفتح، وقيل: إن الصواب بالضم؛ لأنه يالفتح: الطعام والبركة والأجر والثواب في الفعل، لا في الطعام" (و). (¬5) رواه البخاري (621) في (الأذان): باب الأذان قبل الفجر، و (5298) في (الطلاق): باب الإشارة في الطلاق والأمور، ومسلم (1093) في (الصوم): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر. (¬6) في "الموطأ" (1/ 72)، ونقله البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 147/ ب)، والزيلعي في "نصب الراية" (1/ 285)، ومحمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 694).

الأصول والقياس على سائر الصلوات، وبحديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يرجع فينادي: ألا إن العبدَ نام، ألا إن العبدَ نام"، فرجع فنادى: "ألا إن العبد نام" (¬1)، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (532) في (الأذان): باب في الأذان قبل دخول الوقت، والدارقطني في "سننه" (1/ 244)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 139)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 383)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 147/ ب)، وابن حزم في "المحلى" (3/ 120)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (رقم 661). وعلّقه الترمذي في "سننه" بعد (203): من طرق عن حماد بن سلمة به. قال أبو داود: وهذا الحديث لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة، ورواه الدراوردي عن عبيد اللَّه عن نافع عن ابن عمر قال: كان لعمر مؤذن. . . وذكره نحوه وهذا أصح من ذلك. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 59 - 60): ". . . وهذا حديث انفرد به حماد بن سلمة دون أصحاب أيوب، وأنكروه عليه، وخظؤوه فيه؛ لأن سائر أصحاب أيوب يروونه عن أيوب، قال: أذن بلال مرة بليل،. . . فذكره مقطوعًا". وقال الترمذي في "سننه": قال علي بن المدينى: وهو غير محفوظ، وأخطأ فيه حماد بن سلمة. وزاد البيهقي عنه: والصحيح حديث عبيد اللَّه -يعني عن نافع- وحديث الزهري عن سالم. وممن أعلّ الحديث أيضًا -كما ذكره الحافظ في "الفتح" (2/ 103) -: أحمد بن حنبل، والبخاري، والذهلي، وأبو حاتم، والأثرم، وانظر: "سنن البيهقي" (1/ 382، 384). وقال الترمذي أيضًا: لو كان حديث حماد صحيحًا لم يكن لهذا الحديث معنى -أي: حديث "إن بلالًا يؤذن بليل"-. وحماد توبع، تابعه سعيد بن زربي، أشار إلى هذه المتابعة الدارقطني والبيهقي، وأخرجها البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 147/ ب) وضعّفا سعيدًا هذا. ورواه عامر بن مدرك عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع عن ابن عمر به. أخرجه الدارقطني (1/ 244) ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 148/ أ)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 95 رقم 414)، وأشار إليه البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 384)، وعامر هذا ضعيف. ورواه أيضًا إبراهيم بن عبد العزيز بن أبي محذورة عن ابن أبي رَوّاد به. أخرجه ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 114)، والبيهقي (1/ 383)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 148/ أ)، وقال: لا يصح. أقول: لضعف إبراهيم هذا. قال الدارقطني والبيهقي: وخالفهما شعيب بن حرب، فرواه عن عبد العزيز عن نافع =

ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك، فإنها أصل بنفسها، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات: لو لم يكن فيه إلا مصادمته للسنة لكفى في رَدّه، فكيف والفرق ¬

_ = عن مؤذن عمر عن عمر قوله، وهذا أصح، مع أنه منقطع، قاله ابن عبد البر (10/ 60)، وانظر: "العلل" (1/ 114 رقم 308) لابن أبي حاتم، و"المحلى" (3/ 118) لابن حزم. ورواه الدارقطني (1/ 244) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 148/ أ) - من طريق عبد الرزاق -وهو في "مصنفه" (رقم 1888) - عن معمر عن أيوب به معضلًا. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 221 - 222)، والدارقطني (1/ 244)، والبيهقي (1/ 384)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 148/ ب) من طريقين عن حميد بن هلال به مرسلًا، وهو مرسل جيد، ليس في رجاله مطعون فيه، قاله ابن دقيق العيد في "الإمام"، انظر: "نصب الراية" (1/ 284). وله شاهد من حديث أنس: رواه البزار في "مسنده" (364 - كشف الأستار)، والدارقطني (1/ 245) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 148/ ب)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 96 رقم 416) من طريق محمد بن القاسم عن الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال: فذكره. قال الدارقطني: محمد بن القاسم ضعيف جدًا. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 5): فيه محمد بن القاسم ضعّفه أحمد، وأبو داود، ووثقه ابن معين. قلت: محمد بن القاسم أمره أشدّ، قال أحمد بن حنبل في "العلل ومعرفة الرجال" (1/ 281): أحاديثه موضوعة، ليس بشيء، رمينا حديثه، وقال النسائي: متروك، وقال الدارقطني: يكذب. وفي سنده أيضًا: الربيع بن صبيح، ضعيف الحديث. وانظر: "تنقيح التحقيق" (1/ 697 - 698، ط عامر صبري). وله طريق آخر: رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 245) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 148/ ب)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 95 رقم 415) - من طريق أبي يوسف القاضي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس به. وقال: تفرّد به أبو يوسف القاضي عن سعيد، وغيره يرسله عن قتادة. ثم رواه من طريق عبد الوهاب مرسلًا، وقال: والمرسل أصح. وفي الباب مرسل الحسن، ورواه سعيد بن منصور -كما في "نصب الراية" (1/ 286) -، وابن أبي شيبة (1/ 221)، ومرسل إبراهيم النخعي، رواه محمد بن الحسن في "الحجة" (1/ 75). إذن فهذه طرق ضعيفة بل وفيها الواهي، وهي معلولة، فأقول كما قال الذهلي، ونقله عنه البيهقي (1/ 383): "شاذ غير واقع على القلب، وهو خلاف ما رواه الناس عن ابن عمر". أمّا ابن حجر؛ فقد مال إلى تقويته في "الفتح" (2/ 103)، وسيأتي إعلال المصنف له، وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 942 - 949).

[لا يحتج بحديث يخالف أحاديث الثقات]

قد أشار إليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر؟ وإذا اختصّ وقتها بأمر لا يكونُ في سائر الصلوات امتنعَ الإلحاق. وأما حديث حماد عن أيوب، فحديث معلول عند أئمة الحديث، لا تقوم به حجة، قال أبو داود: لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة، وقال إسحاق بن إبراهيم بن حبيب (¬1): سألت عليًا -وهو ابن المديني- عن حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن بلالًا أذّن بليل فقال [له] (¬2) النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارجع فناد: إنّ العبد نام"، فقال: هو عندي خطأ، لم يتابَع حماد بن سلمة على هذا، إنما روي أن بلالًا كان يُنادي بليل (¬3). قال البيهقي: قد تابعه سعيد بن زَرَبي (¬4)، وهو ضعيف (¬5). وأما حماد بن سلمة فإنه أحد أئمّة المسلمين حتى قال الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه، فإنه كان شديدًا على أهل البدع (¬6). قال البيهقي (¬7): "إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه فلذلك ترك البخاري الاحتجاج بحديثه، وأما مسلم فاجتهد في أمره وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيّره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ أكثر من اثني عشر حديثًا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج به. [لا يحتج بحديث يخالف أحاديث الثقات] وإذا كان الأمر كذلك فالاحتياط لمن راقَبَ اللَّه عزّ وجلّ أن لا يحتجّ بما يجد من حديثه مخالفًا لأحاديث الثقات الأثبات، وهذا الحديث من جملتها". ثم ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق) و (ك): "بن حلبه"!. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) نقله الترمذي في "الجامع" (203)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 383). (¬4) كذا في (ق): وهو الطويل، وفي (ن) و (ك): "بن زرين". وفي المطبوع: "رزين"! بتقديم الراء على الزاي، وكلاهما خطأ والصواب ما أثبتناه. (¬5) "سنن البيهقي" (1/ 383)، و"الخلافيات" (1/ ق 147/ ب). (¬6) نقله البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 147/ ب- 1/ 148)، وأبو إسماعيل الأنصاري في كتابه "الفاروق"، ونقله عنه الذهبي في "السير" (7/ 450)، وانظره (7/ 447، 452)، و"نصب الراية" (1/ 286). (¬7) في "الخلافيات" (1/ ق 148/ أ)، وانظر: "السير" (7/ 446، 448)، و"التهذيب" (3/ 14)، و"علل ابن أبي حاتم" (2/ 12)، و"نصب الراية" (1/ 286).

ذكر من طريق الدارقطني عن معمر عن أيوب قال: أذَّن بلال مرة بليل. قال الدارقطني: هذا مرسل (¬1)، ثم ذكر (¬2) من طريق إبراهيم بن عبد العزيز (¬3) بن عبد الملك بن أبي مَحْذُورة، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد، [عن نافع]، عن ابن عمر أن بلالًا قال له النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما حَمَلك على ذلك؟ قال: استيقظتُ وأنا وَسْنَان، فظننتُ أن الفجر قد طلع، فأمره النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ينادي في المدينة: ألا إن العبد قد نام، وأقعده إلى جانبه حتى طلع الفجر"، ثم قال: هكذا رواه إبراهيم بن عبد العزيز (¬4)، وخالفه شُعيب بن حرب، فقال عن عبد العزيز، عن نافع، عن مُؤذّن لعمر يُقال له: مَسْرُوح أنَّه أذَّن قبل الصبح، فأمره عمر أن ينادي: ألا إن العبد [قد] (¬5) نام، قال أبو داود: ورواه حماد بن زيد، عن عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع [أو غيره أنّ مؤذنًا لعمر يقال له: مسروح أو غيره، ورواه الدراوردي، عن عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع] (¬6)، عن ابن عمر: كان لعمر مُؤذّن يقال له: مسعود، فذكر نحوه (¬7)، قال أبو داود (¬8): وهذا أصح من ذلك، يعني: حديث عمر أصح. قال البيهقي (¬9): وروي من وجه آخر عن عبد العزيز موصولًا، ولا يصح، رواه عامر بن مدرك عنه، عن نافع، عن ابن عمر: أن بلالًا أذّن قبل الفجر، فغضب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمره أن يُنادي: إن العبد نام، فوجد بلال وجدًا شديدًا. ¬

_ (¬1) انظر: "سنن الدارقطني" (1/ 244 - 245)، و"سنن البيهقي" (1/ 383). (¬2) أي: البيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 383)، ورواه ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 114). (¬3) في المطبوع و (ك): "إبراهيم وعبد العزيز"، وفي هامش (ق): "لعله: ابن عبد العزيز". قلت: وهو الصحيح. (¬4) في المطبوع: "إبراهيم عن عبد العزيز"!. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬7) رواه أبو داود (533) في (الصلاة): باب الأذان قبل دخول الوقت، ومن طريقه الدارقطني (1/ 244)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 384)، و"الخلافيات" (1/ ق 148/ أ) من طريق عبد العزيز بن أبي رواد أخبرنا نافع عن مؤذن لعمر يقال له: مسروح، أذن قبل الفجر، فأمره عمر. . . ومسروح المؤذن، ويقال مسعود مولى عمر ومؤذنه. قال ابن حجر في "التهذيب" (10/ 99 - 100): "قرأت بخط الذهبي: فيه جهالة". (¬8) انظر: "سننه" (533)، و"سنن البيهقي" (1/ 384). (¬9) في "السنن الكبرى" (1/ 384)، ومضى تخريجه.

قال الدارقطني (¬1): وهم فيه عامر بن مدرك، والصواب عن شعيب بن حرب، عن عبد العزيز، عن نافع، عن مُؤذن عمر، عن عمر من قوله. وروي عن أنس بن مالك، ولا يصح، وروي عن أبي يوسف القاضي، عن [ابن] (¬2) أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن بلالًا أذَّن قبل الفجر، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يصعد فينادي: ألا إن العبد نام، ففعل، وقال: ليت بلالًا لم تلده أمه، وابتلَّ من نَضْح جبينه (¬3). قال الدارقطني: تفرَّد به أبو يوسف عن سعيد -يعني موصولًا- وغيره يُرسله عن سعيد، عن قتادة، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمرسل أصح. ورواه الدارقطني (¬4) من طريق محمد بن القاسم الأسدي: ثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنس، ثم قال: محمد بن القاسم الأسدي ضعيف جدًا، وقال البخاري: كذَّبه الإمام أحمد (¬5)، وروي (¬6) عن حُميد بن هلال أن بلالًا أذن ليلةً بسواد، فأمره النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يرجعَ إلى مقامه فينادي: إن العبد نام، ورواه إسماعيل بن مسلم، عن حُميد، عن أبي قتادة، وحُميد لم يلق أبا قتادة، فهو مرسل بكل حال. وروي عن شَدَّاد مولى عياض (¬7)، قال: جاء بلال إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو يتسحّر فقال: لا تؤذّن حتى يطلع الفجر، وهذا مرسل، قال أبو داود: شَدّاد مولى عياض لم يدرك بلالًا. وروى الحسن بن عُمارة، عن طلحة بن مُصرِّف، عن سويد بن غفلة، عن ¬

_ (¬1) ذكره -أيضًا- البيهقي في "الكبرى" (1/ 384)، وانظر: "سنن الدارقطني" (1/ 244/ 49). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬3) مضى تخريجه قريبًا. (¬4) في "السنن" (1/ 245/ 55)، ومضى تخريجه. (¬5) في (ن) و (ق): "كذبه أحمد بن حنبل". قلت: قال أحمد في "العلل" (1899) رواية عبد اللَّه: "كان يكذب، أحاديثه موضوعة، ليس بشيء"، وقال في رواية المروذي (رقم 230): "ما يستأهل أن يحدَّث عنه بشيء، روى أحاديث مناكير"، وانظر: "بحر الدم" (رقم 927). (¬6) انظره هناك في "السنن" (1/ 244/ 51)، ومضى تخريجه قريبًا. (¬7) في "سنن أبي داود" (534)، و"السنن الكبرى" (1/ 384) للبيهقي، و"الخلافيات" (1/ ق 149/ أ).

بلال قال: أمرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ألا أؤذِّن حتى يطلع الفجر (¬1)، وعن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال مثله (¬2)، ولم يروه هكذا غير الحسن بن عمارة، وهو متروك، و [رواه] (¬3) الحجاج بن أرطاة، عن طلحة وزبيد عن سويد بن غفلة أن بلالًا لم يؤذن حتى ينشق الفجر (¬4)، هكذا رواه، لم يذكر فيه أمر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلاهما ضعيفان. وروي عن سفيان، عن سليمان التَّيمي، عن أبي عثمان أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لبلال: لا تؤذن -وجمع سفيان أصابعه الثلاث- لا تُؤذّن حتى يقول الفجر هكذا -وصفَّ سفيان بين السبابتين ثم فرَّق بينهما (¬5) - قال: وروينا عن سُليمان التّيمي، عن أبي عثمان النَّهدي، عن ابن مسعود ما دلَّ على أذان بلال بليل (¬6)، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر معاني تأذينه بالليل، وذلك أولى بالقبول لأنه موصول وهذا مرسل. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال: قالت لي عائشة: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أوتر (¬7) من الليل رَجَع إلى فراشه، فإذا أذَّن بلال قام، وكان (¬8) بلال يُؤذّن إذا طَلَع الفجر، فإن كان جنبًا اغتسل، وإن لم يَكن توضأ ثم صلَّى ركعتين (¬9)، وروى الثوري، عن أبي إسحاق في هذا الحديث ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "الأفراد" (2/ 277 رقم 1362 - أطرافه) -وقال: "غريب من حديث سويد عن بلال، تفرّد به طلحة، ونفرد به الحسن عن طلحة"-، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 149/ أ) أو مسألة (55 - بتحقيقي)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 22) من طريق الحسن بن عمارة به، وإسناده ضعيف جدًا، الحسن بن عمارة متروك. وانظر: "نصب الراية" (1/ 277). (¬2) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 133 - 134) والدارقطني في "الأفراد" (2/ 280 رقم 1369 - أطرافه) والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 149/ أ)، أو مسألة (55 - بتحقيقي). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) رواه ابن أبي شيبة (1/ 214)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 149/ أ). (¬5) رواه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 149/ أ). (¬6) رواه من هذا الطريق: مسلم في "صحيحه" (1093)، وأبو داود (2347). (¬7) في (ق): "إذا أُوتي، وقال في الهامش: "لعله: أوتر". (¬8) في المطبوع: "فكان". (¬9) رواه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 150/ أ) من طريق يوسف بن يعقوب القاضي ثنا محمد بن أبي بكر عن إسماعيل بن أبي خالد به. وهو في "مسند" أحمد (6/ 146، 171) عن هشيم عن إسماعيل به مختصرًا جدًا.

قال: ما كان المؤذن يؤذن حتى يطلع الفجر (¬1)، وروى شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود: سألتُ عائشة عن صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالليل، قالت: كان ينام أول الليل، فإذا كان السحر أوى (¬2)، ثم يأتي فراشه فإن كانت له حاجة إلى أهله ألمَّ بهم، ثم ينام، فإذا سمع النداء -وربما قالت الأذان- وثَبَ، [وربما] (3) قالت: قام، فإذا كان جُنبًا أفاض عليه الماء، [وربما] (¬3) قالت: اغتسل، وإن لم يكن جنبًا توضأ ثم خرج للصلاة (¬4). وقال زهير بن مُعاوية عن أبي إسحاق في هذا الحديث: فإذا كان عند النّداء الأول وثب (¬5)، قال البيهقي (¬6): وفي روايته ورواية شعبة كالدليل على أن هذا النداء كان قبل طلوع الفجر، وهي موافقة لرواية القاسم عن عائشة، وذلك أولى من رواية من خالفها (¬7)، وروي عن عبد الكريم، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة قالت: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أذن المؤذن صلّى ركعتين (¬8)، ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام، وكان لا يؤذن إلّا بعد الفجر (¬9)، قال البيهقي: هكذا في ¬

_ (¬1) علّقه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 150/ أ) عن الثوري به. ووصله ابن أبي شيبة (1/ 214)، وأحمد (6/ 106 - 107، 63)، وابن حزم في "المحلى" (3/ 119)، وأبو الشيخ -كما في "نصب الراية" (1/ 285) - وقال ابن حجر في "الدراية" (1/ 120): "إسناده جيد، إلّا أن أحمد ضعّفه". (¬2) قال في هامش (ق): "لعله: أوتر". قلت: ولفظه في "صحيح البخاري": "كان ينام أوّله، ويقوم آخره، فيصلي. . . "، فالأقرب ما ظنّه في هامش (ق). (¬3) في (ك) و (ق): "وما" وأشار (ق) في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬4) رواه البخاري (1146) في (التهجد): باب من نام أوَّل الليل وأحيى آخره. وأخرجه من طريق شعبة بألفاظه: الطيالسي (رقم 1386) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 150/ أ) - وأحمد (6/ 176). (¬5) هو في "صحيح مسلم" (739) في صلاة المسافرين: باب صلاة الليل. ورواه أيضًا من طريق زهير به: النسائي (3/ 218)، وأحمد (6/ 102)، ورواه عن أبي إسحاق بألفاظ جماعة، انظر: "مسند إسحاق" (1491)، و"أطراف مسند الإمام أحمد" (9/ 24 رقم 11453). (¬6) في "الخلافيات" (1/ ق 150 - 151). (¬7) في (ق) و (ك): "خالفهما". (¬8) في المطبوع: "الركعتين". (¬9) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 284)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 140)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 150/ أ) من هذا الطريق، وعبد الكريم هو ابن مالك الجَزري، وانظر ما بعده، و"نصب الراية" (1/ 284)، و"الجوهر النقي" (1/ 384).

[شبهة وردها]

هذه الرواية، وهو محمول إن صح على الأذان الثاني، والصحيح عن نافع بغير هذا اللفظ، ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة زوج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنها أخبرته أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح صلّى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة، والحديث في "الصحيحين" (¬1). [شبهة وردها] فإن قيل: عمدتكم في هذا إنما هو على حديث بلال، ولا يمكن الاحتجاج به، فإنه قد اضطرب الرواة فيه: هل كان المؤذن بلالًا أو ابن أم مكتوم، وليست إحدى الروايتين أولى من الأخرى، فتتساقطان، فروى شُعبة عن خبيب بن عبد الرحمن قال: سمعتُ عمَّتي أُنيسة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن ابن [أم] (¬2) مكتوم يُنادي بليل، فكلوا واشربوا حتى يُنادي بلال" (¬3)، رواه البيهقي وابن حِبَّان في "صحيحه". ¬

_ (¬1) رواه البخاري (618) في (الأذان بعد الفجر)، و (1173) في (التهجد): باب التطوّع بعد المكتوبة، و (1180): باب في الركعتين قبل الظهر، ومسلم (723) في (صلاة المسافرين): باب استحباب ركعتي سنة الفجر. (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 433)، والنسائي في "سننه" (2/ 10 - 11) في (الأذان): باب هل يؤذنان جميعًا أو فرادى، وابن سعد (8/ 364)، وابن خزيمة (404)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (رقم 3490)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 138)، وابن حبان (3474)، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 482) من طرق عن هشيم عن منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة مرفوعًا به. وهذا إسناد رواته ثقات. لكن رواه شعبة، واختلف عنه في لفظه، فرواه أبو داود الطيالسي (1661)، ومن طريقه: البيهقي (1/ 382) عنه عن خبيب عن عمّته قالت: كان بلال وابن أم مكتوم يؤذنان للنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا. . . قال البيهقي: وهكذا رواه عمرو بن مرزوق وجماعة عن شعبة. ورواه محمد بن جعفر عنه عن خبيب عن عمّته عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: إن ابن أم مكتوم، أو بلالًا يؤذن بليل. . . على الشك. أخرجه أحمد (6/ 433)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (24/ 481)، وابن خزيمة (405). وممن رواه عن شعبة على الشك أيضًا سليمان بن حرب: رواه من طريقه الطبراني (24/ 480)، والبيهقي (1/ 382). =

فالجواب أن هذا الحديث قد رواه ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وسمرة بن جندب عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن بلالًا يؤذن بليل" (¬1)، وهذا الذي رواه صاحبا (¬2) "الصحيح"، ولم يختلف عليهم في ذلك، وأما حديث أنيسة (¬3) فاختلف عليها على (¬4) ثلاثة أوجه: ¬

_ = ورواه على الشك أيضًا يزيد بن زريع، أخرجه ابن خزيمة (405)، ورواه عن شعبة باللفظ المذكور هنا: إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل. . . دون الشك: أبو الوليد الطيالسي، وأبو عمرو. أخرجه البيهقي (1/ 382) من طريق محمد بن أيوب عنهما به. ثم قال: ورواه محمد بن يونس الكديمي عن أبي الوليد؛ كما رواه الطيالسي وعمرو ابن مرزوق، أي بلفظ: إن بلالًا ينادي بليل. . . وهذا اختلاف على شعبة لا أدري ممن هو. وله شاهد من حديث عائشة: رواه أبو يعلى (4385) مختصرًا، وابن خزيمة في "صحيحه" (406)، ومن طريقه ابن حبان (3473)، والبيهقي (1/ 382) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عنها مرفوعًا: "إن ابن أم مكتوم رجل أعمى فإذا أذن. . . ". أقول: وهذا إسناد رواته ثقات، لكن الدراوردي على إمامته كان يخطئ، قال أحمد بن حنبل: إذا حدث من كتابه فهو صحيح، وإذا حدَّث من كتب الناس وَهِم، وقال أبو زرعة: سيّء الحفظ، فربما حدث من حفظه الشيء فيخطئ. وقد رواه من هو أحفظ منه، وهو عبيد اللَّه بن عمر عن القاسم عن عائشة مرفوعًا: "إن بلالًا يؤذن. . . "، على اللفظ المشهور الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" (623 و 1919)، ومسلم (1092) (38) بعده. لذلك قال البيهقي: وهذا أصح، أي حديث القاسم بن محمد. وله شاهد أيضًا من حديث زيد بن ثابت: رواه البيهقي (1/ 382)، وفيه الواقدي: وهو متروك. وللجمع بين الأحاديث قالوا: إن الأمر كان نوبًا بين بلال وابن أم مكتوم، هذا قاله ابن خزيمة، وابن حبان. قلت: أنت ترى أن حديثًا ابن أم مكتوم ينادي بليل. . . " لا تخلو طرقه من مقال. والذي رواه أهل الصحيح عن ابن عمر، وابن مسعود، وسمرة، وأم المؤمنين عائشة هو: "إن بلالًا يؤذن بليل"، فالقلب إلى حديثهم أمْيَل، وهذا الذي رجّحه المؤلف -رحمه اللَّه- كما ترى، واللَّه أعلم. (¬1) تقدمت أحاديثهم كلّها قريبًا. (¬2) في (ق) و (ك): "أصحاب". (¬3) تقدم تخريجه قريبًا، على الخلاف الذي فيه. (¬4) في المطبوع: "في".

[الصلاة على القبر]

أحدها: كذلك، رواه محمد بن أيوب، عن أبي الوليد وابن عمر، عن شعبة. الثاني: كحديث عائشة وابن عمر: "إن بلالًا يؤذن بليل"، هكذا رواه محمد بن يونس الكُديمي، عن أبي الوليد، عن شعبة، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة. الثالث: روي على الشك: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يُؤذِّن ابن أم مكتوم"، أو قال: " [إن] (¬1) ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال"، كذلك رواه سُليمان بن حرب وجماعة، والصواب رواية أبي داود الطيالسي وعَمرو بن مرزوق لموافقتها لحديث ابن عمر وعائشة، وأما رواية أبي الوليد وابن عمر فممّا انقلب فيها لفظ الحديث، وقد عارضها رواية الشك ورواية الجزم بأن المؤذن بليل هو بلال، وهو الصواب بلا شك، فإنَّ ابنَ أم مكتوم كان ضرير البصر، ولم يكن له علم بالفجر، فكان إذا قيل له: "طَلَع الفَجْرُ"، أذَّنَ، وأمّا ما ادّعاه بعضُ الناس (¬2) أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الأذان نُوَبًا بين بلال و [بين] (¬3) ابن أم مكتوم، وكان كلٌّ منهما في نوبته يؤذّن بليل، فأمر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الناس أن يأكلوا ويشربوا حتى يؤذن الآخر، فهذا كلامٌ باطلٌ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يجئ في ذلك أثر قط، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متّصل، ولكن هذه طريقة من يجعل غلط الرواة شريعة ويحملها على السنة، وخَبرُ ابنِ مسعود، وابنِ عمر، وعائشة، وسَمُرة الذي لم يختلف عليهم فيه أَوْلى بالصحة، واللَّه أعلم. [الصلاة على القبر] المثال السابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المستفيضة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصلاة على القَبْر، كما في "الصحيحين" من حديث ابن عباس: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلّى على قَبرٍ منبوذٍ، فصفَّهم وتقدَّم فكبَّر [عليه] (¬4) أربعًا" (¬5)، وفيهما من ¬

_ (¬1) سقطت من المطبوع. (¬2) كابن حبان وابن خزيمة، فيما تقدم في التعليق. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) رواه البخاري (857) في (الأذان): باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، و (1247) في (الجنائز): باب الإذن بالجنازة، و (1319): باب الصفوف على الجنائز، و (1321) باب صفوف الصبيان مع الرجال في (الجنائز)، و (1322): باب سنة =

حديث أبي هريرة: "أنَّه صَلَّى على قبرِ امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد" (¬1)، وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلَّى على قبر امرأة بعدما دفنت" (¬2)، وفي "سنن" البيهقي والدارقطني عن ابن عباس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى على قَبْر بعد شهرٍ (¬3)، وفيهما [عنه] (¬4): "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلّى على ميت بعد ثلاث" (¬5)، ¬

_ = الصلاة على الجنائز، و (1326): باب صلاة الصبيان مع الناس على الجنائز، و (1336): باب الصلاة على القبر بعدما يُدفن، ومسلم (954) في (الجنائز): باب الصلاة على القبر. (¬1) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب الجنائز): باب الصلاة على القبر بعدما يدفن (1337)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الجنائز): باب الصلاة على القبر (9/ 652/ 956). وقال (و): "تقم: تجمع القمامة، وهي الكناسة، وسمَّى البيهقي المرأة: أم محجن، وذكره ابن منده في "الصحابة" خرقاء اسم امرأة سوداء كانت تقم المسجد، فيمكن أن يكون اسمها خرقاء، وكنيتها: أم محجن، وقد وقع في رواية متفق عليها: أن امرأة كانت تقم المسجد، أو شابًا! " اهـ. قلت: والمرأة السوداء هذه هي أم محجن، كما في "تنبيه المعلم" (181/ 380 - بتحقيقي)، وانظر: "المستفاد" (30)، و"إيضاح الإشكال" (187)، وسمّاها البيهقي كذلك في "سننه" (4/ 48) من حديث بريدة الأسلمي. وهي غير واقعة الشاب، انظر: "الفتح" (3/ 117 - 118/ 1247). (¬2) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الجنائز): باب الصلاة على القبر (2/ 659/ 955). (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 45)، والدارقطني في "سننه" (2/ 78) أو (رقم 1823 - بتحقيقي) من طريق بشر بن آدم عن أبي عاصم عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس، ولفظة: "بعد شهر" شاذة، انظر الحديث الآتي. (¬4) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط، وفي (ق) و (ك): "عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه". (¬5) رواه الدارقطني (2/ 78 أو رقم 1822 - بتحقيقي) -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 45 - 46) - والخطيب في " تاريخ بغداد" (7/ 455) من طريق هُريم بن سفيان البجلي عن أبي إسحاق الشيباني عن الشعبي عن ابن عباس به. ولفظة "بعد ثلاث" شاذّة. قال البيهقي: إنَّ هُرَيْم بن سفيان، خالف الثَّوْري وعبد الواحد بن زياد وزَائِدة بن قُدَامة وهُشَيْم بن بَشِير وأبو معاوية الضرير وغيرهم، في روايتهم عن أبي إسحاق الشَّيْبَاني، حيث إنَهم لم يذكروا أنَّ صلاته عليه كانت بعد موته بثلاث. وقال الحافظ ابن حَجَر في "فتح الباري" (3/ 205) -في الجنائز، باب الصلاة على القبر بعد ما يدفن-: "ووقع في "الأوسط" للطبراني من طريق محمد بن الصبَّاح الدُّولابي، عن إسماعيل بن زكريا، عن الشَّيْبَاني: "أنَّه صلَّى عليه بعد دَفْنِهِ بليلتين".=

وفي "جامع الترمذي": "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى على أُمّ سعد بعد شهر" (¬1). فردّت هذه السنة (¬2) المحكمة بالمتشابه من قوله: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها" (¬3)، وهذا حديث صحيح والذي قاله [هو النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬4) الذي صَلَّى على القبر، فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الآخر، فإنَّ الصَّلاةَ المنهيَّ عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختصُّ بمكان، بل فِعْلُها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه (¬5)، فالصَّلاةُ عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه، فإنه المقصودُ بالصلاة في الموضعين، ولا فَرقَ بين كونه على النعش وعلى الأرض وبين كونه في بطنها، بخلاف سائر الصلوات، فإنها لم تُشرع في القبور ولا إليها؛ لأنها ذريعة إلى ¬

_ = وقال: إنَّ إسماعيل تفرَّد بذلك. ورواه الدَّارَقُطْنِيُّ من طريق هُرَيْم بن سفيان، عن الشَّيْبَانِي فقال: "بعد موته بثلاث". ومن طريق بشر بن آدم، عن أبي عاصم، عن سفيان الثوري، عن الشَّيْبَاني فقال: "بعد شهر". وهذه روايات شاذّة، وسياق الطرق الصحيحة يدلُّ على أنَه صلَّى عليه في صَبِيحَةِ دَفْنِهِ". (¬1) رواه الترمذي (1038) في (الجنائز): باب ما جاء في الصلاة على القبر، وابن أبي شيبة (3/ 239)، والبيهقي (4/ 48) من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب أن أم سعد ماتت، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غائب فلما قدم صلّى عليها، وقد مضى لذلك شهر، وليس في "مصنف ابن أبي شيبة" تحديد للمدّة. قال البيهقي: "وهو مرسل صحيح". ثم قال: "ورواه سويد بن سعيد عن يزيد بن زريع عن شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس موصولًا، وحكى أبو داود عن أحمد أنّه قال: لا تحدّث بهذا". وسويد بن سعيد هذا ضعيف، فكيف وقد خالف! (¬2) في المطبوع: "هذه السنن". (¬3) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الجنائز): باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه (2/ 668/ رقم 972) من حديث أبي مَرْثَد الغنوي. (¬4) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط، وفي (ق) و (ك): "والذي قاله هو الذي". (¬5) ثبت أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلّي على الجنازة في المصلّى، وقد ورد هذا من حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري (1245) في (الجنائز): باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه، و (1333) في باب التكبير على الجنازة أربعًا، و (3881) في (مناقب الأنصار): باب موت النجاشي، ومسلم (951) (62) في (الجنائز): باب في التكبير على الجنازة، وانظر: "فتح الباري" (3/ 199). وانظر: "زاد المعاد" (1/ 140/ 146 و 3/ 47)، و"تهذيب السنن" (4/ 325، 331 - 332، 340).

اتخاذها مساجد، وقد لَعَنَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْ فعل ذلك (¬1)، فأين ما لعن فاعله وحذّر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال: "إنَّ من شِرارِ الخلق من تدركهم الساعةُ وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد" (¬2)، إلى ما فعله [رسول اللَّه] (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- مرارًا متكرّرة؟ وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) في هذا أحاديث: منها حديث أبي هريرة مرفوعًا: "قاتل اللَّه اليهود اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" رواه البخاري (437) في (الصلاة): باب (55)، ومسلم (530) في (المساجد): باب النهي عن بناء المساجد على القبور. وحديث ابن عباس وعائشة: رواه البخاري (435، 436)، وأطرافه كثيرة هناك، ومسلم (531)، ولفظه: "لعنةُ اللَّه على اليهود والنصارى اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 405 و 435)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/ 345)، وعلّقه البخاري في "صحيحه" (7067) في (الفتن): باب ظهور الفتن، وأبو يعلى في "مسنده" (5316)، وابن خزيمة في "صحيحه" (789)، وابن حبان (2325 و 6847)، والهيثم بن كليب في "مسنده" (528)، والبزار في "مسنده" (1725 - البحر الزخار)، والطبراني في "الكبير" (10413)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 143) من طرق عن زائدة عن عاصم عن أبي وائل شقيق بن سلمة عن ابن مسعود مرفوعًا به. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 27): "ورواه الطبراني في "الكبير" وإسناده حسن"، وذكره (8/ 13)، وقال: "رواه البزار بإسنادين في أحدهما عاصم بن بهدلة، وهو ثقة، وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح". أقول: عاصم بن بهدلة حسن الحديث. (¬3) ما بين المعقوفتين في (ق) فقط. وأما الطريق الثاني الذي ذكره الهيثمي، فرواه أحمد (1/ 454)، والبزار (1718) من طريق قيس عن الأعمش عن إبراهيم عن عبدة عن عبد اللَّه مرفوعًا. وقيس صدوق؛ لكنه تغير لما كبر، كما في "التقريب". وفي "صحيح مسلم" (2949) من حديث ابن مسعود أيضًا: "لا تقوم الساعة إلّا على شرار الناس". وانظر: "تغليق التعليق" (5/ 278)، و"فتح الباري" (13/ 14). وقال (و): "ترى هل يعتبر عبدة القبور؟ وهل يصدقون هذه المحكمات، فلا يتخذوا القبور مساجد، ولا يجعلوا من موتى القبور أربابًا وآلهة؟ ويطيب لي أن أذكر هذه الصيحة المؤمنة التي أرسلها الشوكاني، وهي قوله: "ومن رَفع القبور الداخل تحت الحديث دخولًا أوّليًا القبب والمشاهد المعمورة على القبور، وأيضًا هو من اتخاذ القبور مساجد، وقد لعن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعل ذلك، وكم قد سرى عن تشييد أبنية القبور وتحسينها من مفاسد يبكي لها الإسلام، منها: اعتقاد الجهلة لها كاعتقاد الكفار للأصنام، وعظم ذلك، فظنّوا أنها قادرة على جلب النفع، ودفع الضر، فجعلوها مقصدًا لطلب قضاء الحوائج، وملجأ لنجاح المطالب، وسألوا منها ما يسأل =

[الجلوس على فراش الحرير]

[الجلوس على فراش الحرير] المثال الثامن والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في النهي عن الجلوس على فراش الحرير، كما في "صحيح البخاري"، من حديث حذيفة: "نَهانَا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نشربَ في آنية الذهب والفضة، وأن نأكلَ فيها (¬1)، وعن الحرير والدِّيباج، وأن نجلس عليه، وقال: هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" (¬2)، ولو لم يأت هذا النص لكان النهي عن لبسه متناولًا لافتراشه (¬3) كما هو متناول للالتحاف به، وذلك لبس لغةً وشرعًا كما قال أنس: "فقمتُ (¬4) إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِسَ" (¬5)، ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي لكان القياس المحض موجبًا لتحريمه، إما قياس المثل أو قياس الأَوْلَى، فقد دلّ على تحريم الافتراش النص الخاص واللفظ العام والقياس الصحيح، ولا يجوز رد ذلك [كله] (¬6) بالمتشابه من قوله: {[هُوَ الَّذِي] (¬7) خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ومن القياس على ما إذا كان الحرير بطانة الفراش دون ¬

_ = العباد من ربهم، وشدّوا إليها الرحال، وتمسّحوا بها، واستغاثوا، وبالجملة أنهم لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله بالأصنام إلا فعلوه، فإنّا للَّه وإنا إليه راجعون، ومع هذا المنكر الشنيع، والكفر الفظيع لا تجد من يغضب للَّه ويغار حمية للدين الحنيف، لا عالمًا، ولا متعلّما، ولا أميرًا، ولا وزيرًا، ولا ملكًا. فيا علماء الدين، ويا ملوك المسلمين، أي رزء للإسلام أشدّ من الكفر، وأيّ بلاء لهذا الدين أضرّ عليه من عبادة غير اللَّه؟ وأيّ مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه المصيبة، وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البيِّن واجبًا! لقد أسمعت لو ناديت حيًا ... ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نارًا نفخت بها أضاءت ... ولكن أنت تنفخ في رمادِ" (ص 84 ج 3 "نيل الأوطار"- ط عثمان خليفة) " اهـ. (¬1) في (ق): "منها". (¬2) رواه البخاري (5426) في (الأطعمة): باب الأكل في إناء مفضض، و (5632) في (الأشربة): باب الشرب في آنية الذهب، و (5633) باب آنية الفضة، و (5831) في (اللباس): باب لبس الحرير للرجال، و (5837) باب افتراش الحرير، ومسلم (2067) في (اللباس والزينة): باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة. (¬3) في (ق): "متناولًا افتراشه"، وفي (ك): "متناولًا لفرشه". (¬4) في المطبوع: "قمت". (¬5) رواه البخاري (380) في (الصلاة): باب الصلاة على الحصير، و (860) في (الأذان): باب وضوء الصبيان، ومسلم (658) في (المساجد): باب جواز الجماعة في النافلة. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[خرص الثمار في الزكاة والعرايا]

ظهارته، فإن الحكمَ في ذلك التحريمُ على أصح القولين، والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها كحشو الفراش به، فإن صح الفرق بطل القياس، وإن بطل الفرق مُنع الحكم، وقد تمسك بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء فحرَّموه على الرجال والنساء، وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي، وقابلهم من أباحه للنَّوعين، والصواب التفصيل وأن من أبيح له لبسه أبيح له افتراشه ومن حرم عليه حرم عليه، وهذا قول الأكثرين، وهي طريقة العراقيين من الشافعية (¬1). [خرص الثمار في الزكاة والعرايا] المثال التاسع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعَرَايا وغيرها إذا بدا صلاحها كما رواه الشافعي عن عبد اللَّه بن نافع، عن محمد بن صالح التَّمَّار، عن الزهري، عن سعيد بن المُسيّب، عن عَتَاب بن أَسِيد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في زكاة الكَرْم: "يُخرص كما يخرص النَّخل، ثم تُؤدَّى زكاتُه زبيبًا كما تُؤدَّى زكاةُ النخل تمرًا" (¬2)، وبهذا الإسناد بعينه ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 204 و 4/ 42)، و"زاد المعاد" (3/ 87). (¬2) رواه الشافعي (1/ 243/ 661)، كما ذكره ابن القيم، ورواه ابن أبي شيبة (3/ 195)، وأبو داود (1604) في (الزكاة): باب في خرص العنب، والترمذي (644) في (الزكاة)، وابن ماجه (1819) في (الزكاة)، والنسائي (5/ 109) في (الزكاة): باب شراء الصدقة، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1/ 404 رقم 562، 563)، والطبراني (27/ 162 رقم 424)، وابن خزيمة (2317 و 2318)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 270 رقم 792)، وابن الجارود (351)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 39)، وابن حبان (3278 و 3279)، والدارقطني (2/ 132 - 133)، والحاكم (3/ 595)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2224 رقم 5535)، والبيهقي (4/ 121، 122) من طرق عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد، باللفظين اللذين أوردهما المصنف. قال أبو داود وابن قانع: سعيد لم يسمع من عَتَّاب شيئًا. قلت: عتاب -رحمه اللَّه- متقدم الوفاة حيث توفي سنة (13)، وكانت ولادة سعيد لسننين خلتا من خلافة عمر -أي: لعله ولد بعد وفاة عتاب-. ولذلك قال الحافظ في "التهذيب": "وأما حديثه -أي ابن المسيب- عن بلال وعتاب فظاهر الانقطاع بالنسبة إلى وفاتيهما ومولده". ورواه الدارقطني (رقم 2019 - بتحقيقي) من طريق الواقدي -وانفرد بوصله- عن عبد الرحمن بن عبد العزيز عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن المِسْوَر بن مخرمة عن عتاب به، والواقدي متروك. =

"أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم" (¬1)، وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن قال: سمعتُ عبد الرحمن بن مسعود بن نِيَار يقول: أتانا سهل بن أبي حَثْمَة إلى مجلسنا فحدَّثنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا خرصتم فدعُوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" (¬2)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ورواه أبو داود في "السنن"، ورَوَى فيها أيضًا عن عائشة: "كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعثُ عبدَ اللَّه بن رواحة إلى يهود فيخرصُ النَّخلَ حين يطيب قبل أن يُؤكل منه، ثم يُخيّر يهود فيأخذونه بذلك الخرص أم (¬3) يدفعونه إليهم بذلك الخرص، لكي تُحصى الزكاة قبل أن تُؤكل الثمار وتفرَّق" (¬4)، وروى الشافعي، عن مالك، عن ابن شِهَاب، عن ¬

_ = ورواه ابن أبي شيبة (3/ 195)، ومالك (2/ 703)، وابن خزيمة (4/ 14)، وابن زنجويه في "الأموال" (1987)، والبيهقي (4/ 122) عن سعيد بن المسيب مرسلًا، وهو أصح. ومع هذا فقد قال الترمذي عن الموصول: حديث حسن غريب. ولعله لشواهده، حيث يشهد للخرص أحاديث ذكرتها في حديث عائشة الآتي. قال (و): "وعن الشافعي فيه أقوال: وجوب الخرص، وجوازه، وندبه، وأبو حنيفة لا يجوز؛ لأنه رجم بالغيب". (¬1) مضى في الذي قبله. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 194)، وأحمد (3/ 448 و 4/ 2 - 3 و 3)، وأبو داود (1605) في (الزكاة): باب في الخرص، والترمذي (643) في (الزكاة): باب ما جاء في الخرص، والنسائي (5/ 42) في (الزكاة): باب كم يترك الخارص، وابن خزيمة (2319 و 2320)، والطحاوي (2/ 39)، وابن الجارود (352)، وابن حبان (3280)، والدارمي (2/ 272)، وأبو عبيد (585)، وابن زنجويه (1992، 1993) كلاهما في "الأموال"، والحاكم (1/ 402)، والبيهقي (4/ 123) من طرق عن شعبة به، كما ذكره المصنف. ورجاله ثقات؛ إلا عبد الرحمن بن مسعود بن نيار لم يرو عنه غير خبيب بن عبد الرحمن فقط، وذكره ابن حبان في "الثقات"! وقال ابن القطان: لا يُعرف حاله. وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (5/ 548 - 550 رقم 2776). (¬3) كذا في جميع الأصول، وفي "سنن أبي داود": "أو". (¬4) رواه أبو داود (1606) في (الزكاة): باب متى يخرص الثمر، و (3413) في (البيوع والإجارات): باب في الخرص، وإسحاق بن راهويه في "مسنده" (رقم 904)، وعلقه الترمذي بعد (644)، ووصله عبد الرزاق (7219)، وأبو عبيد (582 - 583)، وأحمد (6/ 163)، والدارقطني (2/ 134)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (4/ 123)، و"معرفة السنن والآثار" (6/ 111 رقم 8179) من طريق ابن جريج قال: أُخْبرت عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة به. =

سعيد بن المسيب أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ليهود خيبر: "أُقرّكم على ما أقركم اللَّه، على أن الثمر بيننا وبينكم"، قال: "وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث عبد اللَّه بن رواحة فيخرص عليهم ثم يقول: إن شئتم فلكُم، وإن شئتم فلي، وكانوا يأخذونه" (¬1). وفي "الصحيحين" أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرصَ حديقةَ المرأة، وهو ذاهبٌ إلى تبوك، وقال لأصحابه: "اخرصوها"، فخرصوها بعشرة أوسق، فلما قفل ¬

_ = ورجاله ثقات؛ لكنه منقطع بين ابن جريج وابن شهاب. ووقع عند الدارقطني من رواية محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن عبد الرزاق، ثنا ابن جريج عن الزهري، وهذا خطأ، فإن أحمد رواه عن عبد الرزاق فقال: ثنا ابن جريج قال: أخبرت، كما قال حجاج بن محمد وغيره عن ابن جريج، وكذا في "مصنف عبد الرزاق". وقال الترمذي: "سألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: حديث ابن جريج غير محفوظ". وانظر: تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 2027، 2028). وفي الباب عن جابر: رواه أبو داود (3414 و 3415)، وأحمد (3/ 296 و 367)، والطحاوي (1/ 317، 2/ 38)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (4/ 49) من طريق أبي الزبير عن جابر، وورد تصريح أبي الزبير بالسماع عند أحمد وأبي داود وعند بعضهم مختصرًا. وفي الباب أيضًا عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: رواه ابن زنجويه في "الأموال" (رقم 1978) من حديث ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عنه، وابن لهيعة ضعيف. وللحديث شواهد أيضًا في "مصنف عبد الرزاق" (4/ 122، 132)، و"الأموال" (1979 - 1982) لابن زنجويه، و"التمهيد" لابن عبد البر (6/ 444) وما بعدها، و"إرواء الغليل" (3/ 281). (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 703)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (1/ 242)، وابن زنجويه في "الأموال" (رقم 1981)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 122) هكذا مرسلًا. وقال الحافظ ابن عبد البر: "هكذا روى هذا الحديث بهذا الإسناد عن مالك عن ابن شهاب عن سعيد -جماعة رواة الموطأ- وكذلك رواه أكثر أصحاب الزهري، وقد وصله منهم صالح بن أبي الأخضر عن ابن شهاب عن سعيد عن أبي هريرة". وقال الدارقطني (2/ 134): "وأرسله مالك ومعمر وعقيل عن الزهري عن سعيد عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، مرسلًا". أقول: وهذا الطريق رواه البزار (1286 - كشف الأستار)، وصالح هذا ضعيف.

[رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1) سأل (¬2) المرأة عن [تمر] (¬3) الحديقة، فقالت: بلغ عشرة أوْسُق (¬4). وفي "الصحيحين" من حديث زيد بن ثابت: "رَخَّص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لصاحب العَرِيَّة أن يبيعها بخرصها تمرًا" (¬5)، وصحّ عن عمر بن الخطاب [رضي اللَّه عنه] (¬6) أنه بعث سهل بن أبي حَثْمَة على خَرْص التمر، وقال: "إذا أتيت أرضًا فاخرصها ودع لهم قَدْر ما يأكلون" (¬7)، فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، قالوا: والخرص من باب القمار والميسر، فيكون تحريمه ناسخًا لهذه الآثار، وهذا من أبطل الباطل، فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والربا، والميتة والمُذَكَّى، وقد نَزه اللَّه رسوله وأصحابه عن تعاطي القمار وعن شرعه وعن إدخاله في الدين. وياللَّه العجب! أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر، ثم استمرّوا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار ولا يعرفون أن الخرصَ قمارٌ حتى بيَّنه بعض فقهاء الكوفة؟ وهذا -واللَّه- الباطل حقًا، واللَّه الموفق. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) كذا في (ك) ومصادر التخريج، وفي سائر الأصول: "سألوا"! (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬4) رواه البخاري (1481) في (الزكاة): باب خرص التمر، ومسلم (4/ 1785) (1392) في (الفضائل): باب في معجزات النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أبي حُميد الساعدي. (¬5) رواه البخاري (2173) في (البيوع): باب بيع الزبيب بالزبيب، و (2184 و 2188): باب المزابنة، و (2192): باب تفسير العرايا، و (2380) في (المساقاة): باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو نخل، ومسلم (1539) في (البيوع): باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا. (¬6) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬7) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (3/ 194)، والبيهقي (4/ 124) من طريق يحيى بن سعيد عن بُشير بن يسار أن عمر كان يبعث أبا حثمة (وفي المصنف: أبا خيثمة، وهو خطأ). وهذا إسناد منقطع؛ بُشير لم يدرك عمر. ورواه حماد بن زيد فوصله. أخرجه الحاكم (1/ 402 - 403) والبيهقي (4/ 124) من طريقه عن يحيى بن سعيد عن بُشير عن سهل بن أبي حثمة أن عمر بن الخطاب بعث. . . وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (5/ 548 - 550).

[صفة صلاة الكسوف]

[صفة صلاة الكسوف] المثال الخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صفة صلاة الكسوف وتكرار الركوع في كل ركعة كحديث عائشة، وابن عباس، وجابر، وأبيّ بن كعب، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، كلهم رَوَى عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تكرار الركوع في الركعة الواحدة (¬1)، فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من حديث عبد الرحمن بن سَمُرة قال: "كنت يومًا أرمي بأسهم وأنا بالمدينة، فانكسفت الشمس، فجمعتُ أسهُمي وقلت: لأنظُرنَّ ماذا أحدث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كسوف الشمس، فكنت خلف ظهره فجعل يُسبّح ويُكبِّر ويدعو حتى حُسِرَ عنها فصلَّى ركعتين وقرأ بسورتين"، رواه مسلم في "صحيحه" (¬2)، وفي "صحيح البخاري" عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلّى ركعتين (¬3)، وهذا لا يناقض رواية مَنْ رَوى أنه ركع في كل ركعة ركوعين فهي ركعتان وتعدّد (¬4) ركوعهما كما يُسمَّيان سجدتين مع تعدد سجودهما كما قال ابن عمر: حفظت عن رسول اللَّه سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها (¬5)، وكثيرًا ما يجيء في السنن إطلاق السجدتين على الركعتين، فسنّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصدق بعضها بعضًا، لا سيما والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددًا وأجل وأخصّ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الذين لم يذكروه (¬6). فإن قيل: ففي حديث أبي بكرة: "فصلَّى ركعتين نحوًا مما تصلون"، وهذا صريح في إفراد الركوع. قيل: هذا الحديث رواه شُعبة، عن يونس بن عُبيد، عن الحَسَن، عن أبي بكرة دون الزيادة المذكورة، وهو الذي رواه البخاري في "صحيحه" (¬7)، وزاد ¬

_ (¬1) ذكر منها عدة أحاديث ستأتي. (¬2) (كتاب الكسوف): باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: "الصلاة جامعة" (2/ 913/629). (¬3) رواه البخاري في "الصحيح" (1040) في (الكسوف): باب الصلاة في كسوف الشمس، و (1062 و 1063) في باب الصلاة في كسوف القمر، و (5785) في (اللباس): باب من جرّ إزاره من غير خيلاء. (¬4) في (ك): "تعدد". (¬5) رواه البخاري (1172) في (التهجد): باب التطؤع بعد المكتوبة، ومسلم (729) في (صلاة المسافرين): باب فضل السنن الراتبة، وقبل الفرائض وبعدهن. . . (¬6) انظر: "إحكام الأحكام" (2/ 136) لابن دقيق العيد. (¬7) مضى قريبًا.

إسماعيل ابن عُليَّة (¬1) هذه الزيادة، فإن رجحنا بالحفظ والإتقان فشعبة شعبة، وإن قبلنا الزيادة فرواية من زاد في كل ركعة ركوعًا آخر زائدة على رواية من روى ركوعًا واحدًا فتكون أولى. فإن قيل: فما تصنعون بالسنة المحكمة الصريحة من رواية سَمُرة بن جندب (¬2) والنُّعمان بن بَشير (¬3) وعبد اللَّه بن عمرو (¬4) أنه صلاها ركعتين كل ركعة بركوع واحد، ¬

_ (¬1) كما عند ابن حِبَّان في "صحيحه" (2835) وتابع إسماعيل على هذا يزيدُ بن زريع أخرجه من طريقه ابن خزيمة (1374)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 330)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (3/ 332). وانظر توجيه ابن حبان لها في "صحيحه" (7/ 77). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 16)، وأبو داود (1184) في (الصلاة): باب من قال: أربع ركعات، والنسائي (3/ 140) في (الكسوف)، وفي "الكبرى" (1869)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 329)، والطبراني في "الكبير" (6797 و 6798 و 6799)، وابن حبان (2852 و 2856)، والحاكم (1/ 329 - 331)، وابن خزيمة (1397)، والبيهقي (3/ 339) من طريق الأسود بن قيس عن ثعلبة بن عَبَّاد عن سمرة به. وهذا إسناد ضعيف؛ ثعلبة بن عباد ذكره في المجاهيل: ابنُ المديني، وابن حزم، وابن القطان، والذهبي، ومع هذا صحح حديثه الترمذي!! وذكره ابن حبان في "الثقات"! وانظر: "الميزان" (1/ 371)، و"المحلى" (5/ 94). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 269 و 271 و 277)، وأبو داود (1193) في (الصلاة): باب من قال: يركع ركعتين، والنسائي (3/ 141)، وفي "الكبرى" (1873 و 1874)، والبزار في "البحر الزخار" (8/ 235 رقم 3294، 3295)، والحاكم (1/ 333)، وابن خزيمة (1403 و 1404)، وفي "التوحيد" (ص 379)، والطحاوي (1/ 330) من طرق عن أبي قلابة عن النعمان به، مطولًا ومختصرًا. ورواه الطحاوي (1/ 330) من طريق أيوب عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير أو غيره، ورواه أحمد (4/ 267) من طريق عفان عن عبد الوارث عن أيوب عن أبي قلابة عن رجل عن النعمان. قال الحاكم: على شرطهما، وتكلّموا في سماع أبي قلابة من النعمان. وفي "جامع التحصيل" قال ابنُ معين: أبو قلابة لم يسمع من النعمان بن بشير، مرسل، وقال أبو حاتم: قد أدرك النعمان، ولا أعلم سمع منه أو لا. ورواه عن النعمان: الحسن البصري، وخرجته في تعليقي على "الحنائيات" (رقم 250). وأفاد ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 353، 459) أن هذا حديث قد اختلف في إسناده، فروي عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير، وروي عنه عن قبيصة بن المخارق الهلالي، وروي عنه عن هلال بن عامر عن قبيصة بن المخارق. وانظر الحديث الآتي، و"نصب الراية" (2/ 228). (¬4) رواه أحمد (2/ 159)، والنسائي (3/ 137 - 139) في (الكسوف)، وفي "الكبرى" =

[الجواب عن حديث صلاتها بركعتين في كل ركعة]

وبحديث قبيصة الهلاليّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإذا (¬1) رأيتم ذلك فصلّوها كأحدث (¬2) صلاة صلَّيتموها من المكتوبة" (¬3)؟ وهذه الأحاديث في "المسند" و"سنن النسائي" وغيرهما. [الجواب عن حديث صلاتها بركعتين في كل ركعة] قيل: الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ أحاديث تكرار الركوع أصحّ إسنادًا وأسلم من العلّة والاضطراب، لا (¬4) سيما حديث عبد اللَّه بن عمرو، فإن الذي في "الصحيحين" عنه أنه قال: "كسفت الشَّمسُ على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنودي أن الصلاة جامعة، فركع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة، ثم جَلَس حتى جُلِّي عن الشمس" (¬5)، فهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع، فلم يبق إلا حديث سمرة بن جندب والنعمان بن بشير، وليس منهما شيء في الصحيح. ¬

_ = (1867 و 1883)، وأبو داود (1194)، وابن خزيمة (1389 و 1392 و 1393)، وابن حبان (2838)، والطحاوي (9/ 321) من طرق عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد اللَّه بن عمرو. وهذا إسناد صحيح، عطاء اختلط إلّا أنه روى عنه سفيان الثوري، وحماد، وهما ممن سمع منه قبل الاختلاط. ورواه ابن خزيمة (1393)، والحاكم (1/ 329)، والطحاوي (1/ 329) من طريق سفيان الثوري عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن ابن عمرو. وقال الحاكم: غريب صحيح، ووافقه الذهبي. (¬1) في (ق) و (ك): "إذا". (¬2) في المطبوع و (ك): "كإحدى". (¬3) رواه أحمد (5/ 60، 61)، وأبو داود (1185، 1186) في (الصلاة): باب من قال أربع أربع، والنسائي (3/ 144 - 145) في صلاة الكسوف، والطبراني (18/ 375/ رقم 957، 958)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3/ 122 رقم 1444)، وابن خزيمة (1402)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 342)، والطحاوي (1/ 331)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2334 رقم 5739)، والبيهقي (3/ 334)، من طرق عن أبي قلابة عن قبيصة بن مُخارق الهلالي. قال ابن خزيمة: "إنْ صحَّ الخبر"، وعلق شيخنا الألباني عليه بقوله: "قلت: إسناده ضعيف، رجاله ثقات، لكنه معلول بعدم تصريح أبي قلابة بسماعه إياه من قبيصة أو النعمان، وفي سنده اضطراب، كما أشار إليه المصنف في الباب، وقد فصّلتُ ذلك في جزء عندي في صلاة الكسوف". (¬4) في (ق) و (ك): "ولا". (¬5) رواه البخاري (1051) في (الكسوف): باب طول السجود في الكسوف، ومسلم (910) في (الكسوف): باب ذكر النداء بصلاة الكسوف: "الصلاة جامعة".

[الجهر في صلاة الكسوف]

الثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر وأحفظ وأجلّ من سَمُرة والنعمان بن بشير، فلا ترد روايتهم بها. الثالث: أنها متضمنة لزيادة يجب الأخذ بها، وباللَّه التوفيق. [الجهر في صلاة الكسوف] المثال الحادي والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الجهر في صلاة الكسوف، كما في "صحيح البخاري" من حديث الأوزاعيّ، عن الزهري، أخبرني عُروة بن الزبير، عن عائشة: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف" (¬1)، قال البخاري: تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين عن الزهري -قلت: أما حديث سليمان بن كثير ففي "مسند أبي داود الطيالسي": حدثنا سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن ¬

_ (¬1) الذي في "صحيح البخاري" (1065) من طريق ابن نَمِر عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة -رضي اللَّه عنها-: "جَهَر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الخسوف بقراءته. . . "، ورواه مسلم أيضًا (901) (5) ثم قال البخاري (1066): وقال الأوزاعي وغيره: سمعتُ الزهري عن عروة عن عائشة: "إن الشمس خسفت. . . "، وليس فيه الجهر بالقراءة من رواية الأوزاعي، كما قال المصنّف -رحمه اللَّه-. والحديث وصله مسلم (901) (4) من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي به، وليس فيه الجهر بالقراءة أيضًا. وعبد الرحمن بن نمر هذا الذي ذكر الجَهْر، فيه كلام فقد ضَعَّفه ابنُ معين وغيره. أقول: وممن رواه عن الزهري بالجهر: سُليمان بن كثير، أخرجه أبو داود الطيالسي (1466)، وأحمد (6/ 76)، والبيهقي (3/ 336). وسفيان بن حسين: أخرجه الترمذي (563)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 333)، وقال الترمذي: حسن صحيح. قلت: وفي رواية سفيان عن الزهري مقال، وقد أسهب المصنف في بيان ذلك في "الفروسية" (ص 241 - بتحقيقي). وعقيل: أخرجه الطحاوي (3/ 333) من طريق ابن لهيعة عنه، وابن لهيعة ضعيف. وإسحاق بن راشد: أخرجه الدارقطني (2/ 64)، والبيهقي (3/ 336)، وفيه راوٍ مجهول. والأوزاعي: أخرجه أبو داود (1188)، والدارقطني (2/ 63 - 64)، والحاكم (1/ 334)، والبيهقي (3/ 336)، قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 550): هذه طرق يعضد بعضها بعضًا يفيد مجموعها الجزم بذلك. وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (2/ 306).

النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جهر بالقراءة في صلاة الكسوف (¬1) -، وقد تابعه عبد الرحمن بن نَمِر، عن الزهري، وهو في "الصحيحين"، أنه سمع ابن شهاب، يُحدِّث عن عروة، عن عائشة: "كسفت الشمس على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مناديًا أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فتقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكبّر وافتتح القرآن وقرأ قراءة طويلة يجهر بها" (¬2)، فذكر الحديث. قال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة -قلت: يريد قول سمرة: "صلى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كسوف لم نسمع له صوتًا" (¬3) - وهو أصرح منه بلا شك، وقد تضمن زيادة الجهر، فهذه ثلاث ترجيحات. ¬

_ (¬1) رواه الطيالسي (رقم 714 - منحة المعبود)، ورواه أيضًا من نفس الطرق أحمد في "مسنده" (6/ 76)، والبيهقي (3/ 336)، وانظر ما كتبناه لزامًا في التعليق السابق. (¬2) رواه البخاري (1065) في (الكسوف): باب الجهر بالقراءة في الكسوف، ومسلم (901) (5) في (الكسوف): باب صلاة الكسوف، وانظر أيضًا ما قدمناه قريبًا. (¬3) رواه هكذا مختصرًا: أحمد في "مسنده" (5/ 14 و 19 و 23)، والترمذي (562): باب ما جاء في القراءة في الكسوف، والنسائي (3/ 148 - 149) في (الكسوف): باب ترك الجهر فيها بالقراءة، وفي "الكبرى" (1882)، وابن ماجه (1264) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في صلاة الكسوف، والطبراني (6796)، وابن حبان (2851)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 333) من طريق ثعلبة بن عباد عنه به. وهذا إسناد ضعيف، وقد تقدم قبل قليل مطولًا عن سمرة. وقد جمع ابن خزيمة، وابن حبان بين أحاديث الجهر، وهذا الحديث بأن سمرة كان في أخريات الناس بحيث لا يَسْمع صوت النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ويشهد لحديث سمرة هذا حديث ابن عباس: رواه أحمد (1/ 293 و 355)، وأبو يعلى (2745)، والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 332)، والبيهقي (3/ 335) من طريق ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن عكرمة عن ابن عباس. وقد رواه عن ابن لهيعة: ابنُ المبارك عند أحمد، وابن المبارك روايته عن ابن لهيعة قبل احتراق كتبه، فهذا إسناد حسن، وشاهد جيد لحديث سمرة، وفيه: صلّيت خلف النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولعلّه يعكر على جمع ابن حبان، وابن خزيمة السابق؛ لأنه يبعد أن يكون كذلك بعيدًا. بل رواه الطبراني في "الأوسط" (2700 و 9345) من طريق حفص بن عمر العَدَني عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وقال: فكنت إلى جانب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم أسمع القراءة. لكن حفص ضعيف، والحكم فيه مقال كذلك. * (تنبيه): ذكر الحافظ ابن حجر في "التلخيص" أن الطبراني رواه من طريق موسى بن عبد العزيز عن الحكم، ولم أجده هكذا لا في "المعجم" ولا في "مجمع البحرين". وانظر: "شرح معاني الآثار" و"شرح السنة" (4/ 382).

[الرد على تخريجهم لحديث ابن عباس]

[الرد على تخريجهم لحديث ابن عباس] والذي ردت به هذه السنة المحكمة هو المتشابه من قول ابن عباس: "إنه صلّى الكسوف فقرأ نحوًا من سورة البقرة" (¬1)، قالوا: فلو سمع ما قرأ لم يُقَدِّره بسورة البقرة. وهذا يحتمل وجوهًا (¬2): أحدها: أنه لم يجهر. الثاني: أنه جهر، ولم يسمعه ابن عباس. الثالث: انه سمع ولم يحفظ ما قرأ به فقدَّره بسورة البقرة، فإن ابن عباس لم يجمع القرآن في حياة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما جمعه بعده. الرابع: أن يكون نسي ما قرأ به وحفظ قدر قراءته، فقدرها بـ[سورة] (¬3) البقرة، ونحن نرى الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه، فكيف يقدّم هذا اللفظ المجمل على الصريح المحكم الذي لا يحتمل إلّا وجهًا واحدًا؟ [رواية ترك الجهر بالبسملة عن أنس] ومن العجب أن أنسًا روى ترك جهر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬4)، ولم يصح عن صحابي خلافه، فقلتم: كان صغيرًا يصلّي خلف الصفوف فلم يسمع البسملة، وابن عباس أصغر سنًا منه بلا شك، وقدّمتم عدم سماعه للجهر على من سمعه صريحًا، فهلا قلتم: كان صغيرًا فلعله صلّى خلف الصف فلم يسمعه جهر؟ وأعجب من هذا قولكم: إن أنسًا كان صغيرًا لم يسمع (¬5) تلبية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1052) في (الكسوف): باب صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (907) في (الكسوف): باب ما عرض على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الكسوف من أمر الجنّة والنار. (¬2) انظرها أيضًا في: "معالم السنن" (1/ 702)، و"فتح الباري" (2/ 550)، و"عارضة الأحوذي" (3/ 42)، و"تحفة الأحوذي" (3/ 146)، و"المحلى" (5/ 102)، و"نصب الراية" (2/ 233)، و"السيل الجرار" (2/ 324)، وتعليقي على "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 51 مسألة رقم 378). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ن) و (ك). (¬4) رواه البخاري (743) في (الأذان): باب ما يقول بعد التكبير، ومسلم (399) في (الصلاة): باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة، وانظر "الفتح" (فإنه هام)، و"مسألة التسمية" لابن طاهر القيسراني، و"الجهر بالتسمية" للخطيب، وطبع اختصاره للذهبي ضمن "ست رسائل" بتحقيق الشيخ جاسم الدوسري. (¬5) في (ن) و (ق): "لم يحفظ".

[الاكتفاء بالنضح في بول الغلام]

"لبّيك حجًا وعمرة" (¬1)، وقدَّمتم قول ابن عمر عليه أنه أفرد الحجّ (¬2)، وأنس إذ ذاك له عشرون سنة، وابن عمر لم يستكملها وهو (¬3) بسن أنس، وقوله: "أفرد الحج"، مجمل، وقول أنس: "سمعته يقول لبيك عمرةً وحجًا"، محكم مبيّن صريح لا يحتمل غير ما يدل عليه، وقد قال ابن عمر: تمتع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج (¬4)، وبدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فقدَّمتم على حديث أنس الصحيح الصريح المحكم الذي لم يُختلف عليه فيه حديثًا ليس مثله في الصراحة [والبيان] (¬5)، ولم يذكر رواية لفظ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد اختُلف عليه فيه. [الاكتفاء بالنضح في بول الغلام] المثال الثاني والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الاكتفاء في بول الغلام الذي لم يَطعم بالنضح دون الغسل، كما في "الصحيحين" [من حديث] (¬6) أم قيس: "أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حِجره، فبال عليه، فدعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بماء فنضحه ولم يغسله" (¬7). وفي "الصحيحين" أيضًا عن عائشة [رضى اللَّه عنها] (¬8) "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنكهم (¬9)، فأُتي بصبي فبال عليه، فدعاء بماء فاتبعه ولم يغسله" (¬10). وفي "سنن أبي داود" عن لبابة (¬11) بنت الحارث قالت: ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1251) في (الحج) باب إهلال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) رواه مسلم (1231) في (الحج): باب الإفراد والقران بالحج والعمرة. (¬3) في هامش (ق): "لعله: أو هو". (¬4) رواه البخاري (1691) في (الحج): باب من ساق البدن معه، ومسلم (1227) في (الحج): باب وجوب الدم على المتمتع. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) بدله في المطبوع: "عن". (¬7) رواه البخاري (223) في (الوضوء): باب بول الصبيان، و (5693) في (الطب): باب السعوط بالقسط الهندي والبحري، ومسلم (287) في (الطهارة): باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله. (¬8) ما بين المعقوفتين زيادة من (ك) و (ق). (¬9) "يدلك له حنكه" (و). (¬10) رواه البخاري (222) في (الوضوء)، و (5468) في (العقيقة): باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يعقّ عنه وتحنيكه، و (6002) في (الأدب): باب وضع الصبي في الحجر، و (6355) في (الدعوات): باب الدعاء للصبيان بالبركة، ومسح رؤوسهم، ومسلم (286) في (الطهارة). (¬11) في جميع النسخ: "أمامة"، وصوابه ما أثبتناه كما في مصادر التخريج.

كان الحسين بن علي (¬1) في حجر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبال عليه، فقالت: الْبَس ثوبًا وأعطني إزارك حتى أغسله، فقال: "إنما يُغسل من بول الأنثى، ويُنضح من بول الذكر" (¬2)، وفي "المسند" وغيره عن عليّ -رضي اللَّه عنه- (¬3) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغسل"، قال قتادة: هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غسلا جميعًا (¬4)، قال الحاكم أبو عبد اللَّه: هذا حديث صحيح الإسناد؛ ¬

_ (¬1) في المطبوع بعده: "عليهما السلام". (¬2) رواه أحمد (6/ 339)، وابن أبي شيبة (1/ 120)، وإسحاق بن راهويه في "المسند" (2274)، وأبو داود (375) في (الطهارة): باب بول الصبي يصيب الثوب -ومن طريقه البغوي (295)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 119/ ب) -، وابن ماجه (522) في (الطهارة): باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، وابن خزيمة (282)، والطبراني في "الكبير" (25/ رقم 40)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 92)، والحاكم (1/ 166)، والبيهقي (2/ 414) من طريق أبي الأحوص عن سماك عن قابوس بن المخارق عن لبابة بنت الحارث أم الفضل به مرفوعًا. وهكذا رواه أيضًا عن سماك: إسرائيل، رواه إسحاق بن راهويه (2773)، وأبو يعلى (7074)، وأحمد (6/ 339). ورواه عن سماك أيضًا هكذا: شريك، رواه الطحاوي (1/ 94). ورواه الطبراني في "الكبير" (25/ رقم 38)، والبيهقي (4/ 414)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 1807 رقم 4570) من طريق علي بن صالح بن حي عن سماك عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه عن لبابة. فزاد رجلًا في إسناده، وعلي هذا من الثقات، وتابعه عبد الملك بن حسين أبو مالك، رواه الطبراني في "الكبير" (25/ 38)، لكن عبد الملك هذا متروك. قلت: هذا الاختلاف لا يبعد أن يكون من سماك بن حرب لأن في حديثه مقال، وهل أدرك قابوس لبابة هذه؟ نقل الحافظ في ترجمته أنه قدم مع محمد بن أبي بكر مصر في خلافة علي، ثم قال: فهو على هذا قديم لا يمتنع إدراكه لأم الفضل وحديثه عنها في "صحيح ابن خزيمة". وللحديث طريقان آخران عن لبابة الأول: طريق حماد بن سلمة عن عطاء الخراساني عنها. رواه أحمد في "مسنده" (6/ 339)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 119/ ب)، ثم روى أحمد عن حماد قوله: قال حميد: كان عطاء يرويه عن أبى عياض عن لبابة، وعطاء صدوق يهم كثيرًا، ويرسل ويدلس كما قال ابن حجر. الثاني: صالح أبو خليل عن عبد اللَّه بن الحارث عنها. رواه أحمد أيضًا (6/ 340)، وإسناده صحيح. (¬3) سقط من (ك) وفي المطبوع: "عليه السلام". (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 76، 97 و 137)، وابنه في "زوائده على المسند" (1/=

فإن أبا الأسود الدؤلي صَحَّ سماعه من عليّ -رضي اللَّه عنه- (¬1)، وقال الترمذي: حديث حسن. وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي السَّمح خادم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام" (¬2). ¬

_ = 137)، وأبو داود (378) في (الطهارة): باب بول الصبي يصيب الثوب، والترمذي (610) في (الصلاة): باب ما ذكر في نضح بول الغلام الرضيع، وابن ماجه (525) في (الطهارة): باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 144) رقم (702)، والبزار (717)، وأبو يعلى (307)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 92)، وابن خزيمة (284)، وابن حبان (1375)، والدارقطني (1/ 129)، أو (رقم 461، 462 - بتحقيقي)، والحاكم (1/ 165 - 166)، والبيهقي (2/ 415)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 120/ أ)، والبغوي في "شرح السنة" (296)، والذهبي في "السير" (13/ 115) من طريق معاذ وعبد الصمد عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي حرب بن الأسود عن أبيه عنه. هكذا رواه معاذ وعبد الصمد عن قتادة به مرفوعًا. قال الدارقطني في "العلل" (4/ 185): ووقفه غيرهما عن هشام. ولم أجده من غير رواية هذين الاثنين ممن روياه عن هشام. ورواه أبو داود (377)، ومن طريقه البيهقي (2/ 415)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 120/ أ)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 143 رقم 699) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به موقوفًا على عليّ. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 145)، وعبد الرزاق (1488) من طريق سعيد عن قتادة عن أبي حرب عن علي موقوفًا، فأسقط والد أبي حرب. وذكلر الدارقطني في "علله" أن همامًا رواه أيضًا عن قتادة به موقوفًا. ورواه البيهقي (2/ 415) من طريق مسلم بن إبراهيم عن هشام عن قتادة عن ابن أبي الأسود عن أبيه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، مرسل. والحديث قال عنه الترمذي: هذا حديث حسن، رفع هشام الدستوائي هذا الحديث عن قتادة، ووقفه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، ولم يرفعه. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 38): إسناده صحيح إلا أنه اختلف في رفعه ووقفه، وفي وصله وإرساله وقد رجح البخاري صحته، وكذا الدارقطني. وقال في "الفتح" (1/ 326): وإسناده صحيح، ورواه سعيد فوقفه، وليس ذلك بعلّة قادحة. قلت: لم أجد تصريحًا للدارقطني بترجيح صحة الحديث لا في "السنن"، ولا في "العلل". (¬1) في المطبوع: "عليه السلام". (¬2) رواه أبو داود (376)، وابن ماجه (526)، والنسائي (1/ 158) في (الطهارة): باب بول =

وفي "المسند" من حديث أم كُرْز الخزاعية، قالت: أُتي النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بغلام فبال عليه فأمر به فنُضح، وأُتيَ بجارية فبالت عليه، فأمر به فغُسل (¬1)، وعند ابن ماجه: عن أم كُرْز الخزاعيّة أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل" (¬2). وصح الإفتاء بذلك عن علي بن أبي طالب (¬3) وأم سلمة (¬4)، ولم يأت عن ¬

_ = الجارية، وفي "الكبرى" (287)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (469)، وابن خزيمة (283)، والدولابي في "الكنى" (1/ 37)، والطبراني في "الكبير" (22/ 958)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 166)، والدارقطني (1/ 130) أو (رقم 463 - بتحقيقي)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 120/ أ)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2920 رقم 6840)، والمزي في "تهذيب الكمال" (33/ 384)، وصححه الحاكم. قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 38): قال البخاري: حديث حسن، وقال البزار وأبو زرعة: ليس لأبي السمح غيره، ولا أعرف اسمه، وقال غيره: يقال: اسمه إياد، وانظر "الفخر المتوالي" (رقم 162) للسخاوي، وتعليقي عليه. (¬1) و (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 422، 440، 464)، وابن ماجه (527) من طريق أبي بكر الحنفي عن أسامة بن زيد عن عمرو بن شعيب عن أمِّ كُرْزٍ به. والحديث عند أحمد من فعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعند ابن ماجه من قوله، بالإسناد نفسه. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 132): "هذا إسناد منقطع، عمرو بن شعيب لم يسمع من أم كُرْز". لكن رواه عبد اللَّه بن موسى التيمي عن أسامة بن زيد فوصله وجعله من (مسند عبد اللَّه بن عمرو)، فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" (824) من طريقه عن أسامة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من فعل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 285) "إسناده حسن". أقول: عبد اللَّه بن موسى هذا كثير الأوهام، فأخشى أن يكون هذا من أوهامه، إذ سلك في حديث عمرو بن شعيب الجادة!! لأن الإسناد المشهور له عن أبيه عن جده وأبو بكر الحنفي أوثق من عبد اللَّه بن موسى بدرجات. (¬3) مضى تخريجه ضمن حديثه المرفوع السابق عند المصنف، ووقع في المطبوع: "عن علي بن أبي طالب كرّم اللَّه وجهه في الجنّة". (¬4) رواه أبو داود (379) -ومن طريقه البيهقي (2/ 416) - وفي "الخلافيات" (1/ ق 120/ أ)، وابن أبي شيبة (1/ 145)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 143 رقم 700) من طريقين عن الحسن البصري عن أمّه عنها، وصححه البيهقي، وقال الحافظ في "التلخيص" (1/ 38): "وسنده صحيح". ثم قال الحافظ: "ورواه البيهقي من وجه آخر عنها مرفوعًا، وصححه". أقول: هو عنده من وجه آخر مرفوعًا، لكن البيهقي في "السنن الكبرى" لم يصححه =

صحابي خلافهما، فردَّت هذه السنن بقياس متشابه على بول الشيخ، وبعموم لم يرد به هذا الخاص، وهو قوله: "إنما يُغسل الثوب من أربع: من البول والغائط والمني والدم والقيء" (¬1)، والحديث لا يثبت، فإنه من رواية علي بن زيد بن ¬

_ = وإنما قال: "وهذا الحديث صحيح عن أم سلمة من فعلها"، ثم وجدته يقول في "الخلافيات" (1/ ق 120/ أ): "قد صح ذلك عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم عن عليّ بن أبي طالب وأم سلمة -رضي اللَّه عنهما-، ولا نعرف لهما من الصحابة مخالف". (¬1) أخرجه أبو يعلى في "المسند" (3/ 185 - 186) (رقم 1611)، وعنه ابن عدي في "الكامل" (2/ 524 - 525) -ومن طريق ابن عدي البيهقي في "المعرفة" (2/ 245) (رقم 1263)، وابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 542) - ثنا محمد بن أبي بكر ثنا ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عمّار به. قال ابن عدي عقبه: "ولا أعلم روى هذا الحديث عن عليّ بن زيد غير ثابت بن حماد هذا!! "، وقال عن ثابت: "له أحاديث مناكير يخالف فيها الثقات، وهي مناكير ومقلوبات". وتابع أبا يعلى: أحمد بن محمد بن عاصم. أخرجه العقيلي في "الضعفاء الكبير" (1/ 176): ثنا أحمد بن محمد بن عاصم ثنا محمد بن أبي بكر به، وقال عن ثابت: "حديثه غير محفوظ، مجهول بالنقل". وتابعه أيضًا: محمد بن حيان المازني، أخرجه من طريقه الطبراني في "الأوسط" (6/ 113 رقم 5963)، وداود بن محمد بن صالح المروزي، أخرجه من طريقه الطبراني وعنه أبو نعيم في "المعرفة" (4/ 2073 رقم 5214). وتابع محمد بن أبي بكر المقدَّمي: إبراهيم بن زكريا أبو إسحاق الضرير. أخرجه الدارقطني في "السنن" (1/ 127): ثنا أحمد بن علي بن العلاء ثنا محمد بن شوكر بن رافع الطوسي نا أبو إسحاق الضرير إبراهيم بن زكريا نا ثابت بن حماد به. وقال عقبه: "لم يروه غير ثابت بن حماد؛ وهو ضعيف جدًا، وإبراهبم وثابت ضعيفان". قلت: ومن أجلهما أورده الغساني في "تخريج الأحاديث الضعاف من سنن الدارقطني" (رقم 73). وأخرجه البزار في "المسند" (رقم 248 - زوائده): ثنا يوسف بن موسى ثنا إبراهيم بن زكريا ثنا ثابت بن حماد -وكان ثقة!! - به. وليس فيه (المني)، وإنما قال: "إنما يغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم". وكذا وقع في نسختين صحيحتين منه؛ كما قال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 211)، وتعقب البيهقي في إيراده هذا الحديث فقال: "وكان البيهقي -رحمه اللَّه- توهم أن تشبيه النخامة في الحديث بالماء بالطهورية، وليس كذلك، إنما التشبيه في الطهارة، أي: النخامة طاهرة لا يغسل الثوب منها، وإنما يغسل من كذا وكذا، ولفظ الحديث يدلّ =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ =عليه، إذ لا يلزم من نشبيه شيء بشيء استواؤهما من كل الوجوه، فصحَّ أنَّ ما قاله غير طاهرًا"، ونحوه عند شيخه ابن التركماني في "الجوهر النقي" (1/ 15). قلت: قال البزار عقبه: "تفرّد به إبراهيم بن زكريا ولم يتابع عليه! وثابت بن حماد لا نعلم روى إلّا هذا". قلت: أما القول عن ثابت: "وكان ثقة"، فنقله البزار عن شيخ شيخه إبراهيم بن زكريا وهو ضعيف؛ فلا يلتفت إلى قوله. وقد تابع المقدَّمي وأبا إسحاق الضرير: إبراهيم بن عرعرة، كما عند ابن عدي في "الكامل" (2/ 524). وقد تابع ثابتًا في روايته عن علي بن زيد: حماد بن سلمة!! أخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا الحسين بن إسحاق التستري ثنا علي بن بحر ثنا إبراهيم بن زكريا العجلي ثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد به سندًا ومتنًا، كذا في "نصب الراية" (1/ 211). وعزاه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 23) من هذا الطريق للبزار أيضًا، وهو وهم!! إلا أنه قال عقبها: "لكن إبراهيم ضعيف، وقد غلط فيه، إنما يرويه ثابت بن حماد". قلت: ولذا قال الطبراني -فيما نقله ابن حجر نفسه-: "تفرد به ثابت بن حماد ولا يُروى عن عمار إلّا بهذا الإسناد". وعزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 283) لـ"الأوسط" للطبراني، وقال: "ومدار طرقه عند الجميع على ثابت بن حماد، وهو ضعيف جدًا". ورواه أبو نعيم في "المعرفة"، (4/ 2073 رقم 5214) وضعَّفه بثابت، أفاده ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 33) والتضعيف غير موجود في مطبوع "المعرفة". قلت: وهو عنده في "تاريخ أصبهان" (2/ 309)، وقال ابن حجر في "اللسان" (2/ 76): إن ثابتًا ترجمه الطوسي في "رجال الشيعة". وأخرجه البيهقي في "الخلافيات" (1/ 147/ 16 - بتحقيقي)، وقال: "باطل، لا أصل له، إنما رواه ثابت بن حماد عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن عمار، وعلي بن زيد غير محتجّ به، وثابت متهم بالوضع". وأعله أيضًا في "الكبرى" (1/ 14) بابن جدعان وثابت، واقتصر في "المعرفة" (2/ 245) على تضعيفه بثابت، وهو إعلال بالأعلى. وقد تعقب ابن التركماني في "الجوهر النقي" (1/ 15) البيهقي بقوله عن ثابت: "متهم بالوضع" فقال: "وثابت هذا قال عنه الدارقطني: ضعيف جدًا، وقال ابن عدي: أحاديثه مناكير ومقلوبات، وأمّا كونه متهمًا بالوضع فما رأيت أحدًا بعد الكشف التام ذكره غير البيهقي، وقد ذكر أيضًا هو هذا الحديث في كتاب "المعرفة" وقد ضعف ثابتًا هذا، ولم ينسبه إلى التهمة بالوضع". =

جدعان [عنه] (¬1) ثابت بن حماد، [قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن علي بن زيد غير ثابت بن حماد] (¬2)، وأحاديثه مناكير ومعلولات (¬3)، ولو صح وجب العمل بالحديثين، ولا يُضرب أحدهما بالآخر، ويكون البول فيه مخصوصًا ببول الصبي، كما خصّ منه بول ما يؤكل لحمه بأحاديث دون هذه في الصحة والشهرة. ¬

_ = قلت: ومن أجل مقولة البيهقي أودعه برهان الحلبي في "الكشف الحثيث عمَّن رمي بوضع الحديث" (رقم 181). ونقل ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 315): أن أبا الخطاب -وهو الكلوذاني (ت 510) - قال في "الانتصار" (1/ 550) لما احتجّ عليه بهذا الحديث: "قلنا: هذا الخبر ذكر هبة اللَّه الطبري -وهو اللالكائي- أنه يرويه ثابت بن حماد، وأن أهل النقل اجمعوا على ترك حديثه". وقال قبل ذلك: "وذكر شيخنا العلامة أبو العباس أن هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث". قلت: قال أبو العباس ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (21/ 594): "أما حديث عمار بن ياسر فلا أصل له"!! قلت: وعلي بن زيد غير محتج به -كما قال البيهقي-؛ فقد قال ابن معين في "تاريخه" (رقم 4699 - رواية الدوري): "ليس بحجة". وقال علي بن المديني في "سؤالات محمد بن عثمان بن أبي شيبة" (رقم 21): "هو ضعيف عندنا". وترجمه البخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 2/ 275)، و"التاريخ الصغير" (1/ 318)، وقال أبو حاتم: "ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به"، وقال أبو زرعة: "ليس بقوي"، كذا في "الجرح والتعديل" (3/ 1/ 186) وفيه أيضًا تضعيفه عن أحمد، وأنه قال فيه: "ليس هو بالقوي"، وكان ابن عيينة يضعفه، وكان يحيى القطان يتقي الحديث عنه، وقال ابن خزيمة: "لا أحتجّ به لسوء حفظه"، وقال الجوزجاني في "أحوال الرجال" (رقم 185): "واهي الحديث، ضعيف، وفيه ميل عن القصد، لا يحتجّ بحديثه"، وقال ابن حبان في "المجروحين" (3/ 103): "كان يهم في الأخبار، ويخطئ في الآثار، حتى كثر ذلك في أخباره، وتبين فيها المناكير التي يرويها عن المشاهير، فاستحق ترك الاحتجاج به". وقال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 211) كأنه متعقب البيهقي!!: "وعلي بن زيد روى له مسلم مقرونًا بغيره، وقال العجلي: لا بأس به، وفي موضع آخر قال: يكتب حديثه، وروى له الحاكم في "المستدرك"، وقال الترمذي: صدوق"، ولخّص الحافظ حاله في "التقريب"، فقال: "ضعيف". (¬1) في (ق) و (ك) و (د) و (ح) و (ط): "عن"! وهو خطأ؛ لأن ثابتًا يروي عن علي بن زيد، وليس شيخًا له؛ كما مرّ معك في تخريج الحديث. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في مطبوع "الكامل": "ومقلوبات"، ومضت عبارة ابن عدي ضمن تخريج الحديث.

[جواز إفراد ركعة الوتر]

[جواز إفراد ركعة الوتر] المثال الثالث والخمسون: رد السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بواحدة مفصولة، كما في "الصحيحين" عن ابن عمر أنه سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صلاة الليل فقال: "مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلَّى ركعة واحدة توتر له ما قد صلّى" (¬1)، وفي "الصحيحين" أيضًا من حديث عائشة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلّي فيما بين أن يفرُغَ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلِّم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة" (¬2)، وفي "صحيح مسلم" عن أبي مِجْلَز قال: سألت ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ركعة من آخر الليل" (¬3)، وقد قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" (¬4)، فإذا صلَّى القاعد ركعتين وجب بهذا النص أن تعدل صلاة القائم ركعة، فلو لم تصح لكانت صلاة القاعد أتمّ من صلاة القائم، والاعتماد على الأحاديث المتقدمة، وصح الوتر بواحدة مفصولة عن عثمان بن عفان (¬5)، وسعد بن أبي وقاص (¬6)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (472 و 473) في (الصلاة): باب الحلق والجلوس في المسجد، و (995 و 993) في (الوتر): باب ما جاء في الوتر، و (995) باب ساعات الوتر، و (1137) في (التهجد): باب كيف كانت صلاة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (749) في (صلاة المسافرين): باب صلاة الليل مثنى مثنى. (¬2) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب التهجد): باب طول السجود في قيام الليل (2/ 61 - 62/ 474)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب صلاة المسافرين): باب صلاة الليل، وعدد ركعات النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الليل، (1/ 508/ 736) من حديث عائشة. (¬3) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب صلاة المسافرين): باب صلاة الليل مثنى مثنى (1/ 571/ 753) عن ابن عباس. (¬4) رواه البخاري (1115) في (تقصير الصلاة): باب صلاة القاعد، و (1116) باب صلاة القاعد بالإيماء، من حديث عمران بن حصين. ورواه مسلم (735) في صلاة المسافرين: باب جواز النافلة قائمًا وقاعدًا، من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. (¬5) رواه عبد الرزاق (4653 و 4654) من طريق يزيد بن خصيفة عن السائب بن يزيد عنه، قال الحافظ في "الفتح" (2/ 482): "إسناده صحيح"، وله طريق آخر عن عثمان في "سنن البيهقي، (3/ 25)، و"الخلافيات" له (1/ ق 171/ أ)، وقد خرجته في تعليقي على "الموافقات" (2/ 242). (¬6) رواه البخاري (6356) في (الدعوات): باب الدعاء للصبيان بالبركة ومسح رؤوسهم من حديث عبد اللَّه بن ثعلبة بن صُعير. =

وعبد اللَّه بن عُمر (¬1)، وعبد اللَّه بن عباس (¬2)، وأبي أيوب (¬3)، ومعاوية بن أبي سفيان (¬4)، وقال الحاكم أبو عبد اللَّه: ثنا عبد اللَّه بن سُليمان، ثنا أحمد بن صالح: ثنا عبد اللَّه بن وهب، عن سُليمان بن بلال، عن صالح بن كَيْسان، عن عبد اللَّه بن الفضل، عن الأعرج، وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا توتروا بثلاث تشبَّهوا بالمغرب، أوتروا بخمس أو سبع" (¬5)، رواه ابنُ حِبَّان والحاكم في "صحيحيهما"، وقال الحاكم: رواته كلهم ثقات، وله شاهد آخر بإسناد صحيح: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا طاهر بن عَمرو بن الرَّبيع بن طارق، ثنا أبي، ثنا الليث (¬6): ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عِرَاك بن مالك، عن أبي هريرة، فذكر ¬

_ = وله عنه طرق أيضًا في "مصنف عبد الرزاق" (3/ 22 و 23)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 192)، و"سنن الدارقطني" (2/ 27)، و"سنن البيهقي" (3/ 25)، و"الخلافيات" (1/ ق 171/ ب - 172/ أ). (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 125)، ومن طريقه البخاري (991) في (الوتر): باب ما جاء في الوتر. وانظر أيضًا: "الموطأ"، و"مصنف ابن أبي شيبة" (1/ 192)، و"سنن البيهقي" (3/ 26)، و"الخلافيات" (1/ ق 172/ أ - ب)، و"شرح معاني الآثار" (1/ 277، 279)، و"فوائد أبي علي الصواف" (رقم 9). (¬2) روى البخاري (3764 و 3765) في (فضائل الصحابة): باب ذكر معاوية -رضي اللَّه عنه- عنه من طريق ابن أبي مليكة، قيل لابن عباس: هل لك في أمير المؤمنين معاوية، فإنه ما أوتر إلا بواحدة، قال: إنه فقيه. وله سياق آخر في المصادر المذكورة من قبل، وانظر: "شرح معاني الآثار" (1/ 289)، و"الخلافيات" (1/ ق 172/ ب). (¬3) رواه عبد الرزاق (4633)، والبيهقي (3/ 24) من طريق معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عنه، وإسناده صحيح. وتابع معمرًا: عبد اللَّه بن هذيل الخزاعي، رواه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 172/ ب). (¬4) مضى التعليق عليه في خبر ابن عباس. (¬5) رواه الدارقطني (2/ 24 و 24 - 25 و 26 - 27) -من طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (3/ 175 رقم 764 - ط. قلعجي) - ومحمد بن نصر في "الوتر" (ص 129)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 292)، وابن حبان (2429)، والحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 31)، و"المعرفة" (4/ 72 رقم 5509) من طريق سليمان بن بلال به. وعبارة الحاكم في "المستدرك": "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". قلت: إنما هو على شرط مسلم فقط، وقال الدارقطني: "رواته ثقات". (¬6) في المطبوع: "ثنا ابن أبي الليث"!!.

مثله سواء، وزاد: "أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو بإحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك" (¬1)، فردَّت هذه السنن بحديثين باطلين وقياس فاسد: أحدهما: "نَهى عن البتيراء" (¬2)، وهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف، وليس في شيء من كتب الحديث المعتمد عليها، ولو صح فالبتيراء (¬3) صفة للصلاة [التي] (¬4) قد بُتر ركوعها وسجودها فلم يطمئن فيها. الثاني: حديث يُروى عن ابن مسعود مرفوعًا: "وتر الليل ثلاث، كوتر النهار ¬

_ (¬1) رواه الحاكم (1/ 304)، والبيهقي (3/ 31 و 32)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 174/ أ). وقول المؤلف: "إسناده صحيح" فيه نظر، فإن طاهرًا هذا لم أجده وأظنه في عداد المجاهيل! وذكره ابن يونس في "تاريخه"، كما في "توضيح المشتبه" (3/ 68) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، واقتصر على هذا الشيخ مقبل بن هادي في كتابه "رجال الحاكم في المستدرك" (1/ 428 - 429)، ورواه البيهقي (3/ 31 - 32) من طريق يحيى بن بكير عن الليث به، وجعله عن أبي هريرة قوله، وهذا أشبه، ويؤكده ما رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 292) من طريق بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن عراك عن أبي هريرة ولم يرفعه. دون قوله: "أو أكثر من ذلك"، وهذا أصح من الذي قبله. (¬2) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (13/ 452) عن عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "نهى عن البتيراء -أن يصلي الرجل ركعة واحدة يوتر بها-". قال ابن عبد البر: "عثمان بن محمد بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال العقيلي: الغالب على حديثه الوهم"، وبه أعلّه عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (2/ 57)، وزاد ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 154) قوله: "والحديث من شاذ الحديث الذي لا يعرج على رواته ما لم تعرف عدالتهم، وعثمان واحد من جماعة فيه". قلت: نعم، عثمان آفته، واضطرب فيه، فأخرجه الدارقطني في "غرائب مالك" -كما في "اللسان" (4/ 251 - 253) - عنه قال: حدثنا مالك عن نافع عن ابن عمر رفعه، وتعقب ابن حجر ابن القطان، فانظر كلامه، وقال الذهبي في "تنقيح التحقيق" (3/ 172): "وذكروا في كتبهم. . . وذكره، فأين إسناده؟ ثم المروي عن ابن عمر أنه فسَّر البتيراء أن يصلي الرجل بركوع ناقص، وسجود ناقص". وانظر: "الاستذكار" (5/ 385)، و"نصب الراية" (2/ 120)، و"الدراية" (1/ 192)، وما تقدم يخالف قول المصنف الآتي عن هذا الحديث: "لا يعرف له إسناد لا صحيح، ولا ضعيف". ووقع في المطبوع: "البتراء". (¬3) في المطبوع: "فالبتراء". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

[الفرق بين وتر الليل ووتر النهار]

صلاة المغرب" (¬1). وهذا الحديث وإن كان أصلح (¬2) من الأول فإنه في "سنن الدارقطني"، فهو من رواية يحيى بن زكريا، قال الدارقطني: "يُقال له ابن أبي الحواجب، ضعيف، ولم يروه عن الأعمش مرفوعًا غيره"، ورواه الثوري في "الجامع" وغيره عن الأعمش موقوفًا على ابن مسعود (¬3)، وهو الصواب. وأما القياس الفاسد فهو أن قالوا: رَأَيْنا المغرب وتر النهار، وصلاة الوتر وتر الليل، وقد شرع اللَّه سبحانه وتر النهار موصولًا فهكذا وتر الليل. [الفرق بين وتر الليل ووتر النهار] وقد صحت السنة بالفرق بين الوترين من وجوه كثيرة: أحدها: الجمع بين الجهر والسر في وتر النهار دون وتر الليل. الثاني: وجوب الجماعة أو مشروعيّتها فيه دون وتر الليل. الثالث: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعل وتر الليل على الراحلة (¬4) دون وتر النهار. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني في "سننه" (2/ 28) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 174/ ب)، وابن الجوزي في "التحقيق" (3/ 171 رقم 761)، و"العلل المتناهية" رقم (773) - من طريق يحيى بن زكريا الكوفي ثنا الاعمش عن مالك بن الحارث عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي عن ابن مسعود به. وأعله الدارقطني كما ذكر ابن القيم، وقال البيهقي في "سننه" (3/ 31): وقد رفعه يحيى بن زكريا وهو ضعيف، وروايته تخالف رواية الجماعة عن الأعمش. قلت: ممن رواه عن الأعمش موقوفًا: سفيان الثوري، أخرجه عبد الرزاق (4635)، -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9419) - والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 294)، قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 242): ورجاله رجال الصحيح. ورواه أيضًا: شجاع بن الوليد، أخرجه الطحاوي (1/ 294). ورواه أيضًا: ابن نمير، أخرجه البيهقي (3/ 30 - 31)، وانظر الطبراني (9420) و (9421)، والحديث المرفوع له شاهد من حديث عائشة: رواه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 121)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (رقم 772)، و"التحقيق" (3/ 171 - 172 رقم 762)، وقال ابن الجوزي: "هذا حديث لا يصح؛ قال يحيى: إسماعيل المكي ليس حديثه بشيء". وإسماعيل هذا هو ابن مسلم. (¬2) في المطبوع: "أصح". (¬3) انظر التخريج السابق. (¬4) مضى تخريجه.

[الرابع: أنه قال في وتر الليل: إنه ركعة واحدة (¬1) دون وتر النهار.] (¬2) الخامس: أنه أوتر بتسع وسبع وخمس موصولة دون وتر النهار (¬3). السادس: أنه نهى عن تشبيه وتر الليل بوتر النهار كما تقدم. السابع: أن وتر الليل اسم للركعة وحدها، ووتر النهار اسم لمجموع صلاة المغرب كما في "صحيح مسلم"، من حديث ابن عمر وابن عباس أنهما سمعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الوتر ركعة من آخر الليل" (¬4). الثامن: أن وتر النهار فرض ووتر الليل ليس بفرض باتفاق الناس. التاسع: أن وتر النهار يُقضى بالاتفاق، وأما وتر الليل فلم يقم على قضائه دليل، فإن المقصود منه قد فات [فهو] (¬5) كتحية المسجد ورفع اليدين في محل الرفع والقنوت إذا فات، وقد توقف الإمام أحمد في قضاء الوتر، وقال شيخنا (¬6): لا يُقضى، لفوات المقصود منه بفوات وقته، قال: وقد ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة (¬7)، ولم يذكر الوتر (¬8). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه قريبًا. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) أوتر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بتسع وسبع وخمس، موصولة، أما وتره بتسع ركعات: فرواه مسلم (746) من حديث عائشة، وقد ورد عنه صلاته سبع ركعات في حديث آخر لعائشة: رواه أحمد (6/ 53 - 54، 322)، وابن أبي شيبة (2/ 293)، والترمذي (457)، والنسائي (3/ 237، 243)، وفي "الكبرى" (رقم 1256)، وأبو عوانة (2/ 323 - 324)، وابن خزيمة (1078)، والحاكم (1/ 306)، والبغوي (962)، وهو صحيح، وأما وتره بخمس فثبت في "صحيح مسلم" (737) من حديث عائشة أيضًا. وانظر: "زاد المعاد" (1/ 86)، و"بدائع الفوائد" (4/ 112). (¬4) حديث ابن عمر في "صحيح مسلم" (752) في (صلاة المسافرين): باب صلاة الليل مثنى مثنى، والوتر ركعة من آخر الليل. وحديث ابن عباس فيه رقم (753). (¬5) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬6) انظر: "مجموع الفتاوى" (23/ 90 - 91) لشيخ الإسلام -رحمه اللَّه-. (¬7) رواه مسلم (746) في (صلاة المسافرين): باب جامع صلاة الليل، ومن نام عنه أو مرض، من حديث عائشة. (¬8) ورد ما قد يؤذن بالقول بجواز القضاء، وهو مذهب أهل الكوفة، وبه يقول سفيان الثوري انظر "مشكل الآثار" (11/ 353)، وذهب صاحب "بغية المتطوع" (ص 73 - 74) إلى التخيير بين هذا وما عند المصنف، واعتمد على حديث أبي سعيد: "من نام عن وتره أو =

[التنفل بعد الإقامة للصلاة المكتوبة]

العاشر: أن المقصود من وتر الليل جعل (¬1) ما تقدَّمه من الأشفاع كلها وترًا، وليس المقصود منه إيتار الشفع الذي يليه خاصة، وكان الأَقْيَس ما جاءت به السنّة أن يكون ركعة مفردة توتر جميع ما قبلها (¬2)، وباللَّه التوفيق. [التنفل بعد الإقامة للصلاة المكتوبة] المثال الرابع والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة أنه لا يجوز التنفل إذا أقيمت صلاة الفرض كما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلّا المكتوبة" (¬3)، وقال الإمام أحمد في روايته: "إلّا التي أُقيمت" (¬4)، وفي "الصحيحين" عن عبد اللَّه بن مالك بن بُحَيْنَة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا، وقد أقيمت الصلاة يُصلي ركعتين، فلما انصرف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَاثَ به الناس، وقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصبح أربعًا؟ الصبح أربعًا؟ " (¬5)، وفي "صحيح مسلم" عن عبد اللَّه بن سَرْجِس قال: دخل رجل المسجد ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الصبح، فصلّى ركعتين قبل أنْ يصل إلى الصف، فلمَّا انصرف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "يا فلان بأي صلاتَيْك اعتددت؟ بالتي صَلَّيت وحدك أو بالتي صلّيت معنا؟ " (¬6)، وفي "الصحيحين" أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّ برجل، فكلّمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرف أحطنا به نقول: ماذا قال لك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: قال لي: "يُوشك أن يصلِّي أحدكم الصبح أربعًا" (¬7)، ¬

_ = نسيه، فليصله إذا ذكره"، وهو محفوظ بلفظ: "فليصل إذا أصبح"، وهذه الصلاة هي عين الصلاة الواردة في حديث عائشة السابق، وانظر -بتأمل-: "جامع الترمذي" (465، 466)، و"العلل الكبير" (134) له. (¬1) في (ك) و (ق): "فعل"، وقال في هامش (ق): "لعله: جعل". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (1/ 84). (¬3) هو في "صحيح مسلم" رقم (710) في (صلاة المسافرين): باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن. (¬4) رواية أحمد المشار إليها في "مسنده" (2/ 352). (¬5) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب الأذان): باب إذا أقيمت الصلاة (1/ 166/ 663)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب صلاة المسافرين): باب كراهية الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن (1/ 493 - 494/ 711) من حديث عبد اللَّه بن مالك بن بُحَيْنة. (¬6) رواه مسلم (712) في (كتاب صلاة المسافرين): باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن. (¬7) هو بهذا اللفظ ليس في "الصحيحين"، بل هو في "صحيح مسلم" فقط (711 بعد 65)، وهو حديث عبد اللَّه بن مالك بن بُحَيْنَة.

وعند مسلم: أقيمت صلاة الصبح، فرأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا يصلّي والمؤذن يقيم الصلاة، فقال: "أتصلّي الصبح أربعًا؟ " (¬1)، وقال أبو داود الطيالسي في "مسنده": ثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس قال: كنت أصلّي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني (¬2) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أتصلِّي الصبح أربعًا" (¬3)، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلًا يصلي وهو يسمع الإقامة ضربه (¬4)، وقال حَمَّاد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه أبصر رجلًا يصلي الركعتين والمؤذن يقيم، فحَصَبَه، وقال: أتصلّي الصبح أربعًا؟ (¬5) فردت هذه السنن ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "الصحيح" كتاب (صلاة المسافرين): باب كراهية الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن (1/ 494/ 711). (¬2) في (ك): "فحدثني". (¬3) هو في "مسند الطيالسي" (2736)، ورواه أيضًا ابن أبي شيبة (2/ 155)، وأحمد (1/ 238 و 355)، وأبو يعلى (2575)، وابن خزيمة (1124)، وابن حبان (2469)، والطبراني (11227)، والحاكم (1/ 307)، والبيهقي (2/ 482) من طرق عن أبي عامر الخَزَّاز به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وأبو عامر هذا هو صالح بن رستم، قال أبو حاتم: يكتب حديثه، ولا يحتجّ به، وضعفه ابن معين، والدارقطني، ووثقه أبو داود والبزار وذكره ابن حبان في "الثقات"، قال ابن عدي: روى عنه يحيى القطان مع شدّة استقصائه، وهو عندي لا بأس به، ولم أرَ له حديثًا منكرًا جدًا. وقد أخرج له مسلم، فمثله حسن الحديث. ورواه البزار (518) من طريق يحيى القطان عن أبي عامر الخزاز عن أبي يزيد عن عكرمة عن ابن عباس به، وقال: "وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مُلَيْكة عن ابن عباس، ولا نعلم رواه بهذا الإسناد إلّا يحيى عن أبي عامر". وأظن أن هذا من أوهام أبي عامر هذا. (¬4) رواه عبد الرزاق (3988) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (3/ 110) - عن الثوري عن جابر عن الحسن بن مسافر عن سويد بن غَفَلة قال: كان عمر يضرب على الصلاة بعد الإقامة، وجابر هو الجعفي: ضعيف، والحسن بن مسافر قال الشيخ أحمد شاكر: "لم أجد ذكره في شيء من الكتب". وروى ابن أبي شيبة (2/ 77) انتهار عمر لمن يصلي والمؤذن يقيم، وفيه إسحاق بن عبد اللَّه بن أبي فروة وهو متروك. (¬5) رواه البيهقي في "سننه" (2/ 483)، و"الخلافيات" (1/ ق 181/ أ) من طريق هدبة عن حماد به. وصححه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 150)، وانظر كلامه هناك.

كلها بما رواه الحب ج بن نصير المتروك (¬1)، عن عباد بن كثير، الهالك (¬2)، عن ليث، عن عطاء، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلّا المكتوبة"، وزاد: "إلا ركعتي الصبح" (¬3)، فهذه الزيادة كاسمها زيادة في الحديث لا أصل لها. فإن قيل: فقد كان أبو الدرداء يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر فيصلّي الركعتين في ناحية المسجد، ثم يدخل مع القوم في الصلاة (¬4)، وكان ابن مسعود يخرج من داره لصلاة الفجر ثم يأتي الصلاة فيصلّي ركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل معهم في الصلاة (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "ميزان الاعتدال" (1/ 465). (¬2) قال في "التقريب" (رقم 3139): "متروك، قال أحمد: روى أحاديث كذب". (¬3) رواه البيهقي في "سننه الكبرى" (2/ 483)، و"الخلافيات" (1/ ق 181/ أ) من طريق حجاج به، وقال البيهقي: "لا أصل لها، وحجاج بن نصير، وعباد بن كثير ضعيفان"، وزاد في "الخلافيات": "وقد قيل عن الحجاج بإسناده عن مجاهد بدل عطاء، وليس بشيء"، وانظر تفصيل المسألة في "الخلافيات" (مسألة رقم 144 - بتحقيقي)، و"إعلام أهل العصر بأحكام ركعتي الفجر" (ص 131، وما بعد). وفي (ك): "إلا ركعتي الفجر". (¬4) روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (2/ 154) عن وكيع عن مِسْعَر عن الوليد بن أبي مالك (في "المصنف" أبي الوليد بن أبي مالك، وهو خطأ) عن أبي عبيد اللَّه عن أبي الدرداء قال: "إني لاجئ إلى القوم، وهم صفوف في صلاة الفجر، فأصلي الركعتين ثم أنضم إليهم". وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات، أبو عبيد اللَّه هذا هو مُسْلم بن مِشْكَم كاتب أبي الدرداء. ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 375)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 181/ أ) من طريق أبي معاوية عن مسعر عن عبيد بن الحسن عن أبي عبيد اللَّه بنحوه. وروى عبد الرزاق (4020) نحوه عن أبي الدرداء، لكن فيه راوٍ مبهم. (¬5) روى عبد الرزاق (4021 و 4022)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 374) من طريق أبي إسحاق عن عبد اللَّه بن أبي موسى قال: جاءنا ابن مسعود والإمام يصلي الفجر فصلّى ركعتين إلى سارية، ولم يكن صلّى ركعتي الفجر. وقد روى عبد الرزاق الحديث في السند الأول عن أبي إسحاق مباشرة، وفي السند الثاني عن معمر عن أبي إسحاق، وهو الصواب؛ لأن أبا إسحاق هذا هو السبيعي لم يدركه عبد الرزاق. وعبد اللَّه هذا هو أبو قيس، ويقال: ابن قيس، ويقال: ابن أبي موسى ثقة مخضرم، وأما محقق "المصنف" -رحمه اللَّه- فقال: لم أجده وأظنه أحد أولاد أبي موسى!! =

[صلاة النساء جماعة]

قيل: عمر بن الخطاب وابنه [عبد اللَّه] (¬1) في مقابلة أبي الدرداء وابن مسعود، والسنة سالمة لا معارض لها، ومعها أصح قياس يكون، فإن وقتها يضيق بالإقامة فلم يقبل غيرها بحيث لا يجوز لمن حضر أن يؤخرها ويصلّيها بعد ذلك، واللَّه الموفق (¬2). [صلاة النساء جماعة] المثال الخامس والخمسون: رد السنة الصحيحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات، كما في "المسند"، و"السنن" من حديث عبد الرحمن بن خَلَّاد عن أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنًا كان يؤذن لها، وأمرها أن تؤمَّ أهل دارها"، قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخًا كبيرًا (¬3)، وقال الوليد بن ¬

_ = وعلى كل حال فهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، وأبو إسحاق السبيعي اختلط، ولم يذكروا أن معمرًا روى عنه بعد الاختلاط، وتابع معمرًا عليه: سفيان وزهير بن معاوية، عند الطحاوي. وروى معناه ابن أبي شيبة (2/ 153) من طريق مطرف عن أبي إسحاق عن حارثة بن مُضَرِّب عن ابن مسعود. وهذا إسناد صحيح أيضًا رجاله ثقات. ورواه الطحاوي (1/ 375)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 181/ أ) من طريق أبي عبيدة عن عبد اللَّه، وهو منقطع. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 79). (¬3) رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 457)، وأحمد في "مسنده" (6/ 405)، والطبراني في "المعجم الكبير" (25/ 326)، والدارقطني (1/ 403 رقم 1490 - بتحقيقي)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 130)، وفي "دلائل النبوة" (6/ 381) من طريق الوليد بن عبد اللَّه بن جميع: حدثتني جدتي عن أم ورقة بنت نوفل به. ورواه أبو داود (592) في (الصلاة): باب إمامة النساء من طريق الوليد عن عبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة. ورواه أبو داود (591)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3366 و 3367)، والطبراني في "الكبير" (25/ 327)، والحاكم (1/ 253)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 333)، والبيهقي في "السنن" (3/ 130)، وفي "دلائل النبوة" (6/ 382) من طريق وكيع عن الوليد قال: حدثتني جدتي، وعبد الرحمن بن خلاد عن أم ورقة بنت نوفل به. قال الحاكم: قد احتج مسلم بالوليد بن جميع، وهذه سنة غريبة لا أعرف في الباب حديثًا مسندًا غير هذا. =

جميع: حدثتني جدتي عن أم ورقة أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرها، أَو اذِنَ لها، أن تؤمَّ أهل دارها، وكانت قد قرأت القرآن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن ميسرة أبي حازم، عن رائطة الحنفية أن عائشة -رضي اللَّه عنها- أمَّت نسوة في المكتوبة، فأَمَّتهن بينهن وسطًا (¬2)، تابعه ليث عن ¬

_ =أقول: وهذا الحديث له علتان: الأولى: الاختلاف في إسناده، فقد روي كما ذكرنا، ورواه ابن السكن، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ 3572 رقم 8062) من طريق الوليد عن جدته ليلى بنت مالك عن أمّها عن أم ورقة -كما في "الإصابة" (4/ 481) -. وروي من طريق الوليد عن عبد الرحمن بن خلاد عن أبيه عن أم ورقة كما في "الإصابة"، و"تحفة الأشراف" (13/ 110). الثانية: عبد الرحمن بن خلاد، وجدة الوليد، وهي ليلى بنت مالك؛ كلاهما مجهول، ولم يوثقهما إلّا ابن حبان كعادته. (تنبيه): أم ورقة بنت نوفل هي نفسها أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث. (تنبيه أخر): حسن شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- الحديث في "الإرواء" (رقم 493) ولم ينتبه للاختلاف الذي في إسناده، وساق المصادر سياقة واحدة دون تفريق أو تنبيه على الخلاف الذي فيها، وعزاه أيضًا لأبي القاسم الحامض في "المنتقى من حديثه" (ج 3/ 9/ 2)، وأبي علي الصواف في "حديثه" (89 - 91). (¬1) هو مُخَرَّج مع الذي قبله. (¬2) لم أجده في "المسند"، ولا في "أطرافه" (9/ 306 - 307)، وإنما رواه البيهقي (3/ 131) من طريق الامام أحمد به، ووجدته عنده في "العلل ومعرفة الرجال" (2/ 552 رقم 3611 - رواية عبد اللَّه)، ورواه عبد الرزاق (5086)، والدارقطني (1/ 404)، وابن حزم في "المحلى" (3/ 126) من طريق سفيان به. وميسرة هذا هو ابن حبيب النهدي، أبو خازم. قال النووي في "الخلاصة" (رقم 2357): إسناده صحيح، وانظر "نصب الراية" (2/ 30). أقول: ورائطة الحنفية -وفي مصادر التخريج: ريطة- قال في "التقريب" (8592): "لا تعرف، من السادسة". وذكره الحافظ في "التلخيص" (2/ 42) ساكتًا عليه!! ورواه ابن أبي شيبة (1/ 536) من طريق علي بن هاشم عن ابن أبي ليلى عن عطاء عن عائشة أنها كانت تؤم النساء تقوم معهنّ في الصف. وهذا إسناد ضعيف، لضعف ابن أبي ليلى، وهو محمد بن عبد الرحمن. وعطاء هو ابن أبي رباح. وابن أبي ليلى توبع، تابعه ليث بن أبي سُلَيْم. أخرجه الحاكم (1/ 203)، والبيهقي (3/ 131) من طريق عبد اللَّه بن إدريس عنه، وليث ضعيف. =

عطاء، عن عائشة (¬1)، وروى الشافعي عن أم سلمة أنها أمَّت نساء فقامت وسطهنّ (¬2)، ولو لم يكن في المسألة إلّا عموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تفضلُ صلاة الجماعة على صلاة الفَذِّ (¬3) بسبع وعشرين درجة" (¬4)، لكفى. وروى البيهقي من حديث يحيى بن يحيى: أنا ابن لهيعة، عن الوليد بن أبي الوليد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا خير في جماعة النساء إلّا في صلاة أو جنازة" (¬5)، والاعتماد على ما تقدم، فردّت هذه ¬

_ = (تنبيه): عزا الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 42) الحديث للحاكم من طريق ابن أبي ليلى، وإنما هو فيه من طريق ليث بن أبي سُلَيْم كما ذكرت. ورواه عبد الرزاق (5087) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (3/ 127) - من طريق يحيى بن سعيد عن عائشة وهو منقطع. ووصله ابن حزم في "المحلى" (3/ 126) من طريق يحيى القطان عن زياد بن لاحق عن تميمة بنت سلمة عن عائشة أنها أمّت نساء في الفريضة في المغرب، وقامت وسطهنّ، وجهرت بالقراءة، وإسناده ضعيف. ورواه محمد بن الحسن في كتابه "الآثار" (1/ 603 رقم 217)، وكما في "نصب الراية" (2/ 31) عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أن عائشة كانت تؤتم النساء. . . وإبراهيم لم يسمع من عائشة. (¬1) مُخرّج في الذي قبله. (¬2) رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 157)، و"الأم" (1/ 164) -ومن طريقه البيهقي (3/ 131) -، وابن أبي شيبة (1/ 536)، وابن سعد (8/ 484) عن سفيان بن عيينة، ورواه عبد الرزاق (5082) -ومن طريقه الدارقطني (1/ 455 رقم 1492 - بترقيمي) وابن حزم في "المحلى" (3/ 127) - عن سفيان الثوري كلاهما عن عمار الدهني عن حُجيرة عن أم سلمة به. قال النووي في "الخلاصة": إسناده صحيح. أقول: حُجيرة ترجمها ابن سعد (8/ 484) ولم يذكر فيها جرحًا ولا تعديلًا. ورواه ابن أبي شيبة (1/ 536)، وابن حزم في "المحلى" (3/ 127) من طريق قتادة عن أم الحسن أنها رأت أم سلمة تقوم معهن في صفهنّ. وهذا إسناد صحيح، أم الحسن هي خيرة من الثقات. (¬3) قال (د): "الفذ -بفتح الفاء، آخره ذال معجمة- المنفرد"، وبنصه في (و). (¬4) رواه البخاري (645) في (الأذان): باب فضل صلاة الجماعة، و (649) في (فضل صلاة الفجر في جماعة)، ومسلم (650) في (المساجد): باب فضل صلاة الجماعة، من حديث ابن عمر. (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 66 و 154) -ومن طريقه ابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 1500) =

[التسليم من الصلاة مرة أو مرتين]

السنن بالمتشابه من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لن يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة" (¬1)، وهذا إنما هو في (¬2) الولاية والإمامة العظمى والقضاء، وأما الرواية والشهادة والفُتْيا والإمامة فلا تدخل في هذا. والعجب (¬3) أنَّ من خالف هذه السنة جَوَّز أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين، فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم تفلح أخواتها من النساء إذا أمَّتهن؟. [التسليم من الصلاة مرة أو مرتين] المثال السادس والخمسون: رد السنة (¬4) الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- التي رواها عنه خمسة عشر نفسًا من الصحابة "أنه كان يسلّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬5)، ¬

_ = -والطبراني في "الأوسط" رقم (9359) من طريق ابن لهيعة به ولفظه: "لا خير في جماعة النساء إلّا في المسجد أو جنازة قتيل". وعند الطبراني: "إلا في مسجد جماعة". قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 33): "وفيه ابن لهيعة وفيه كلام". وفي الباب عن عبادة بن الصامت، عند الطبراني من طريق يحيى بن إسحاق عنه، ويحيى لم يدرك عبادة، وبقية رجاله رجال الصحيح، قاله الهيثمي أيضًا (10/ 77 - 78). وعن ابن عمر عند الطبراني (12/ 317 رقم 13228) بلفظ: "لا خير في جماعة النساء، ولا عند ميت، فإنهن إذا اجتمعن قلن قلن"، وفيه الوازع بن نافع، ضعيف، قاله الهيثمي (3/ 26). (¬1) رواه البخاري (4425) في (المغازي): باب كتاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى كِسْرى وقيصر، و (7099) في (الفتن): باب رقم (18)، من حديث أبي بكرة. (¬2) في بعض النسخ: "إنما ورد في". (¬3) في المطبوع و (ن): "ومن العجب". (¬4) في (ق): "السنن". (¬5) ذكر ابن القيم أن جمعًا من الصحابة رووا عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تسليمتين في الصلاة من هؤلاء سعد بن أبي وقاص، روى حديثه مسلم (582) في (المساجد): باب السلام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته. ومنهم ابن مسعود: روى حديثه أبو داود (996) في (الصلاة)، والنسائي (2/ 230)، و (3/ 63 و 64)، والترمذي (295)، وابن ماجه (914) ولفظه: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة اللَّه، وعن يساره مثل ذلك"، وأصله في "صحيح مسلم" (581) فيه ذكر التسليمتين فقط. وذكر هؤلاء العشرة البزار في "مسنده" (ق 187). =

منهم عبد اللَّه بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن سَمُرة، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وعبد اللَّه بن عمر، والبراء بن عازب، ووائل بن حُجْر، وأبو مالك الأشعري، وعَدي بن عَميرة (¬1) الضَّمري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رِمْثَة، والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن (¬2)، فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحّتها. أحدها: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة" (¬3)، رواه الترمذي. ¬

_ = وانظر باقي أحاديث الصحابة في هذا في "الخلافيات" للبيهقي (مسألة 126 - بتحقيقي)، و"نصب الراية" (1/ 431 - 433)، و"التلخيص الحبير" (1/ 271)، وهي متواترة، ذكرها السيوطي في "قطف الأزهار المتناثرة" (ص 104)، والزبيدي في "لقط اللآلئ المتناثرة" (ص 111)، وانظر "التمهيد" (19/ 189 - 190)، و"الأوسط" لابن المنذر. (¬1) في (ن): "عمرة"!. (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (2/ 195)، و"زاد المعاد" (1/ 66 - 67)، و"تهذيب السنن" (1/ 51 - 52)، والأحاديث المذكورة في "الخلافيات" (مسألة رقم 126)، وجلّها في "شرح معاني الآثار" (1/ 266 وما بعد) للطحاوي. (¬3) رواه الترمذي (296) في (الصلاة): باب منه -يعني مما جاء في التسليم في الصلاة-، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 270)، وابن حبان (1995)، وابن خزيمة (729)، والطبراني في "الأوسط" (رقم 970 - ط. الحرمين)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 220)، وابن عدي (3/ 1075)، والحاكم (1/ 235)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 179)، و"الخلافيات" (1/ ق 111/ أ)، والدارقطني (1/ 357 - 358) أو (رقم 1337 - بتحقيقي)، وابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 352 - 360 رقم 621 - ط قلعجي)، كلهم من طريق عمرو بن أبي سلمة عن زهير بن محمد عن هشام بن عروة به. قال الترمذي: قال محمد بن إسماعيل: زهير بن محمد أهل الشام يروون عنه مناكير، ورواية أهل العراق عنه أشبه. أقول: وهذه من رواية أهل الشام إذ إن عمر بن أبي سلمة دمشقي. وعمر هذا مُتابع، فقد تابعه عبد الملك بن محمد الصَّنْعَاني، رواه ابن ماجه (919) في (الإقامة): باب من يسلم تسليمة واحدة، والطبراني في "الأوسط" (6746 - ط. الحرمين)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1075). وفي المطبوع من "سنن ابن ماجه" وقعت نسبته الصغَّاني، وهذا خطأ، كما هو في كتب الرجال، وهو صنعاني من صنعاء دمشق!! وهو ضعيف والراوي عنه هشام بن عمار له أخطاء أيضًا. وقد أعلّ هذا الحديث الطحاوي والدارقطني والترمذي والبزار وأبو حاتم وابن عبد البر =

والثاني: حديث عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد، [عن سعد] (¬1) "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان. في آخر الصلاة تسليمة واحدة: السلام عليكم" (¬2). الثالث: حديث عبد المهيمن بن عَبَّاس، عن أبيه، عن جده أنه سمع ¬

_ = وغيرهم أعلّوه بالوقف. انظر: "الاستذكار" (2/ 214)، و"نصب الراية" (1/ 433)، و"التلخيص الحبير" (1/ 270)، و"تنقيح التحقيق" (2/ 922)، وكلام المصنف الآتي. وأما الحاكم -فكعادته- صححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي!! وزهير له متابعة في "مسند بقي بن مخلد" كما في "التلخيص الحبير" (1/ 270)، فقد تابعه عاصم. قال ابن حجر: وعاصم عندي هو ابن عمر وهو ضعيف، وهم من زعم أنه ابن سليمان الأحول. والرواية الموقوفة على عائشة في هذا عند ابن أبي شيبة (1/ 301)، وابن خزيمة (730 و 732)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 222 رقم 1549)، والحاكم (1/ 231)، والبيهقي (2/ 179) من طريق عبيد اللَّه بن عمر عن القاسم عنها، وهذا إسناد على شرط الشيخين. أقول: ذكر الحافظ في "التلخيص" حديثًا عن عائشة في وتر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بتسع لا يقعد إلّا في الثامنة ثم يصلي التاسعة. . . ثم يسلم تسليمة. وعزاه لابن حبان في "صحيحه"، وأبي العباس السراج في "مسنده" من طريق زرارة بن أوفى عن سعيد بن هشام عنها. لكن لم أجد هذا في "صحيح ابن حبان"، بل وجدت فيه (2442) من الطريق نفسه أنه كان يُسلّم تسليمًا يسمعناه، وهو في "صحيح مسلم" (746) كذلك "تسليمًا"، وكذا هو في "سنن النسائي" (3/ 241). لكن الحديث في "مسند أحمد" (6/ 236) من الطريق نفسه -أي طريق زرارة-، ولكنه ورد بلفظ: "يسلم تسليمة واحدة. . . " وسنده صحيح. وفي الباب عن جماعة كما سيأتي عند المصنف قريبًا. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 266) من طريق الدَّرَاوَرْدي به. ورواه أصحاب مصعب بن ثابت الثقات منهم ابن المبارك، رووه بتسليمتين، رواه ابن خزيمة (727)، وابن حبان (1992)، والبيهقي في "السنن" (2/ 178)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 267)، وأحمد (1/ 180 و 181)، وابن ماجه (915). ورواه أيضًا غير مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد به بتسليمتين، رواه مسلم (582) وغيره. وانظر -غير مأمور- "مسند سعد بن أبي وقاص" للدورقي (رقم 22)، و"الاستذكار" (4/ 292).

رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلم تسليمة واحدة لا يزيد عليها، رواه الدارقطني (¬1). الرابع: حديث [روح بن] (¬2) عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة بن جندب: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسلِّم [مرة] (¬3) واحدة في الصلاة قِبَل وجهه، فإذا سَلَّم عن يمينه سَلَّم عن يساره"، رواه الدارقطني (¬4). ¬

_ (¬1) في "السنن" (1/ 359) أو (رقم 1339، 1340 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 360 رقم 622 - ط. قلعجي) - وهو أيضًا في "سنن ابن ماجه" (918) في (إقامة الصلاة): باب من يسلم بتسليمة واحدة. قال البوصيري (1/ 185): إسناده ضعيف، عبد المهيمن قال فيه البخاري: منكر الحديث. أقول: فمثله ضعيف جدًا، قال ابن عدي في "الكامل" (5/ 1982): له قدر عشرة أحاديث أو أقل. وكلها بهذا الإسناد. ولسهل بن سعد حديث في التسليمتين: رواه أحمد في "سنده" (5/ 338) وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف. وفي (ق): "ابن عياش". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من النسخ كلها، وأثبته من مصادر التخريج. وتابع المصنف عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (2/ 217) في هذا الإسقاط وتعقّبه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 22) فقال: "جعله من حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه وحفص وليس كذلك. وإنما هو من رواية روح بن عطاء قال: حدثني أبي وحفص المنقري". قلت: وهذا التعقب يلحق المصنف أيضًا، فتأمّل. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه الدارقطني (1/ 358 - 359) أو (رقم 1338 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 361 رقم 623) - وابن عدي في "الكامل" (3/ 1001 و 5/ 2005)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 179)، و"الخلافيات" (1/ ق 111/ أ) من طريق نعيم بن حماد وأبي كامل الجحدري كلاهما عن روح بن عطاء بن أبي ميمونة به. وضعّفه ابن عدي بعطاء، وقال: وابنه روح بن عطاء في حديثه بعض ما ينكر، قال هذا في ترجمة عطاء، وذكر الحديث هنا مختصرًا ولفظه: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يسلم تسليمة تلقاء وجهه". أقول: عطاء هذا وثقه ابن معين وأبو زرعة والنسائي وابن حبان ويعقوب بن سفيان، وقال أبو حاتم: صالح لا يحتجّ بحديثه وكان قدريًا. وأبو حاتم متشدّد، وكأنه غمز الرجل لكونه قدريًا. وعطاء قد روى له البخاري ومسلم، والعجب أن الحافظ الزيلعي قد ذكر تضعيف ابن عدي لعطاء هذا ساكتًا عليه (1/ 434). =

الخامس: حديث يحيى بن راشد، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، [عن سلمة] (¬1) قال: رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلّم مرة واحدة (¬2). وهذه الأحاديث لا تقاوم تلك ولا تقاربها حتى تُعارض بها. أمّا حديث عائشة فحديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث، قال البخاري (¬3): "زهير بن محمد أهل الشام يروون [عنه] (¬4) مناكير"، وقال يحيى (¬5): ¬

_ = ثم هو مُتابع في "كامل ابن عدي"، حيث تابعه حفص المنقري، وحفص هذا من الثقات. وأما روح فنقل ابن عدي -وأورد حديثه هكذا: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلم في الصلاة تسليمة قبالة وجهه، فإذا سلم عن يمينه سلم عن يساره"- عن ابن معين أنه قال فيه: ضعيف، وعن أحمد أنه قال: منكر الحديث، وذكر فيه -كما ترى- ثلاث تسليمات، قاله ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 23) وسيأتي نقل المصنف اقوال أئمّة الجرح والتعديل فيه. وللحديث علة أخرى أيضًا، وهي سماع الحسن من سمرة، إلا أن يكون كتابًا، وقد سبق احتجاج المصنف به. وانظر: "الأحكام الوسطى" لعبد الحق الإشبيلي (1/ 413 - 414). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من النسخ كلها، وأثبته من مصادر التخريج. (¬2) رواه ابن ماجه (920)، والطبراني في "الكبير" (6285) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (31/ 302)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 361 - 362 رقم 624) - والبيهقي (2/ 179) من طريق يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع عن سلمة به. قال البوصيري (1/ 185): هذا إسناد ضعيف لضعف يحيى بن راشد. وسيأتي نقل المصنف أقوال أئمة الجرح والتعديل فيه، وخولف، خالفه أنس بن عياض، ووقفه على سلمة، أخرجه ابن المنذر في "الأوسط" (3/ 223 رقم 1550). وانظر "مرويات الصحابي سلمة بن الأكوع" (ص 127 - 132). (¬3) في "التاريخ الكبير" (3/ 427)، و"التاريخ الأوسط" (2/ 112 - رواية الخفاف)، -والمذكور لفظه- وانظر: "تهذيب الكمال" (9/ 418). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، وقبله فيه وفي (ق) و (ن) و (ك): "يروى"، والتصويب من "سنن الترمذي" والمصادر السابقة. (¬5) قال في رواية معاوية بن صالح عنه: "ضعيف"، كذا في "الكامل" (3/ 1073)، وقال عباس الدوري في "تاريخه" (2/ 176) عنه: "ثقة". وكذا قال عثمان بن سعيد الدارمي في "تاريخه" (رقم 345)، وقال في موضع آخر (رقم 343): "وليس به بأس"، وهو ما قاله ابن الجنيد في "سؤالاته" (رقم 564)، وابن طهمان في "كلام ابن معين في الرجال" (رقم 9)، وقال ابن أبي خيثمة عنه: "صالح"، كذا في "الجرح والتعديل" (3/ رقم 2675).

ضعيف. والحديث من رواية عمرو بن أبي سلمة عنه، قال الطحاوي (¬1): "هو وإن كان ثقة فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تضعف جدًا، هكذا (¬2) قال يحيى بن معين فيما حَكَى لي عنه غير واحد من أصحابنا منهم علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، وزعم أن فيها تخليطًا كثيرًا"، قال: "والحديث أصله موقوف على عائشة، هكذا رواه الحفاظ". فإن قيل: فإذا ثبت ذلك عن عائشة فبمن تعارضها في ذلك من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟. قيل له (¬3): بأبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب (¬4)، وعبد اللَّه بن مسعود، وعمار بن ياسر، وسهل بن سعد الساعدي، وذكر الأسانيد عنهم بذلك". ثم قال (¬5): "فهؤلاء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وعَمَّار ومن ذكرنا معهم يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا ينكر ذلك عليهم غيرهم، على قرب عهدهم برؤية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحفظهم لأفعاله، فما ينبغي لأحد خلافه لو لم يكن رُوي في ذلك عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[شيء]، فكيف وقد روي عنه ما يوافق فعلهم؟ ". وأمّا حديث سعد بن أبي وقاص فحديثٌ معلول، بل باطل، والدليل على بطلانه أن الذي رواه هكذا الدراوردي خاصة، وقد خالف في ذلك جميع من رواه عن مصعب بن ثابت كعبد اللَّه بن المبارك، ومحمد بن عمرو، ثم قد رواه إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد كما رواه الناس: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلِّم عن يمينه حتى يُرى بياض خَدِّه، وعن يساره حتى يُرى بياض خدّه"، رواه مسلم في "صحيحه" (¬6). ¬

_ (¬1) في "شرح معاني الآثار" (1/ 270). (¬2) كذا في (ق) وعند الطحاوي، وفي سائر النسخ: "وهكذا". (¬3) في (ن): "قال: قيل له". (¬4) بعده في المطبوع قال: "عليهم السلام". (¬5) أي الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 270 - 271)، وما بين المعقوفتين منه. (¬6) (كتاب المساجد): باب اللام للتحليل من الصلاة عند فراغها وكيفيته (1/ 409/ رقم 582). وانظر لتمام التخريج وتفصيله "مسند سعد بن أبي وقاص" للدورقي (رقم 22) مع التعليق عليه، وما قدمناه قريبًا.

فقد صحَّ رواية سعد "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلَّم تسليمتين" (¬1)، ومعه من ذكرنا من الصحابة، وبان بذلك بطلانُ رواية الدراوردي. وأمّا حديث عبد المهيمن بن عَبَّاس (¬2) بن سهل، عن أبيه، عن جده فقال الدارقطني (¬3): "عبد المهيمن ليس بالقوي"، وقال ابن حبان (¬4): بطل الاحتجاج به. وأما حديث عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه (¬5)، عن الحسن فمن رواية روح ابنه عنه، قال الإمام أحمد (¬6): منكر الحديث، وتركه يحيى (¬7). وأما حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة فقال يحيى [بن معين] (¬8): يحيى بن راشد ليس بشيء (¬9)، وقال النسائي (¬10): ضعيف. وقال أبو عمر بن عبد البر (¬11): رُوي عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- "أنه كان يسلم تسليمة واحدة"، من حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث عائشة، ومن حديث أنس (¬12)، إلّا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث؛ لأن حديث سعد ¬

_ (¬1) رواه مسلم (582) في (المساجد): باب السلام للتحليل من الصلاة. (¬2) في (ق) و (ك): "بن عياش". (¬3) في "سننه" (1/ 359). (¬4) في "المجروحين" (2/ 148)، وانظر "الميزان" (2/ 671). (¬5) كذا في الأصول، والصواب "حديث روح بن عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن" كما قدمناه سابقًا. (¬6) في "العلل" رواية عبد اللَّه (3926). (¬7) وقال ابن معين في رواية (الدوري) (2/ 169) "ضعيف"، وانظر "الميزان" (2/ 60). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) كذا نقله المزي في "تهذيب الكمال" (31/ 301) عن عباس الدوري عنه، وفي "تاريخ الدوري" (2/ 642): "يحيى بن راشد كان في مجلس معتمر، وكان يروي عن الجريري". (¬10) لم يترجم له في "ضعفائه"، ولا ذكره صاحب "المستخرج"، فيستدرك عليه، وهو في "الميزان" (4/ 373). وانظر "تهذيب الكمال" (31/ 299 - 302). (¬11) في "الاستذكار" (4/ 291)، وبنحوه في "التمهيد" (16/ 181). (¬12) أخرجه البزار (566 - زوائده)، والطبراني في "الأوسط" (8473)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 179)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 111/ أ) من طريق عبد اللَّه بن عبد الوهاب الحجبي عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي عن حميد عن أنس رفعه ولفظه: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر وعمر -رضي اللَّه عنهما- يفتتحون القراءة بالحمد للَّه رب العالمين، ويسلّمون تسليمة. . . " وبعضهم اختصره. قال ابن حجر في "الدراية" (ص 90): "ورجاله ثقات"، وصححه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (رقم 316) و"الإرواء" (2/ 34).

أخطأ فيه الدراوردي، فرواه على غير ما رواه الناس بتسليمة واحدة، وغيره يروي فيه بتسليمتين، ثم ذكر حديثه عن مصعب بن ثابت "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة" (¬1)، ثم قال: وهذا وهم عندهم وغلط، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه "كان يسلم عن يمينه وعن يساره" (¬2)، وقد روي هذا الحديث بالتسليمتين من طريق مصعب، ثم ساق طرقه بالتسليمتين عن سعد، ثم ساق من طريق ابن المبارك عن مصعب، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن شماله، وكأني أنظر إلى صفحة خدّه" (¬3)، فقال الزهري: ما سمعنا هذا من حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له إسماعيل بن محمد: أكلّ حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سمعت؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ قال: لا، قال: فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع. قال (¬4): وأما حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة" (¬5)، فلم يرفعه أحد إلّا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة [وغيره]، وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتجّ به، وذكر ليحيى (¬6) بن معين هذا الحديث فقال: عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما. ¬

_ = وقال الهيثمي: "رجاله رجال الصحيح"، وقال: "ذكرته لأجل التسليمة، وباقيه في الصحيح". وانظر: "نصب الراية" (1/ 433 - 434). ورواه ابن أبي شيبة (1/ 301) من طريق أبي خالد الأحمر، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 222 رقم 1546) من طريق عبد اللَّه بن بكر كلاهما عن حميد: صلّيت مع أنس، فكان يسلم تسليمة واحدة، وهذا موقوف، ولعلّه أشبه. (¬1) مضى تخريجه سابقًا. (¬2) هو تابع للحديث السابق، ورواية ابن المبارك عن مصعب، أخرجها الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 267)، وابن خزيمة (727)، والبيهقي في "السنن" (2/ 178) ورواه جماعة عن مصعب أيضًا. فقد أخرجه أحمد في "مسنده" (1/ 180 و 181)، وابن أبي شيبة (1/ 298)، وابن ماجه (915)، والطحاوي (1/ 266 - 267) من طرق عنه. (¬3) رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 267)، وابن خزيمة (727)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 178)، وابن حبان (1992) من طريق ابن المبارك به. (¬4) أي ابن عبد البر في "الاستذكار" (4/ 293)، وبنحوه في "التمهيد" (16/ 189) له أيضًا. (¬5) سبق تخريجه قريبًا. (¬6) في المطبوع: "وذكر يحيى"، وكذا في "الاستذكار".

[الكلام على عمل أهل المدينة]

وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس (¬1)، ولم يسمع أيوب من أنس (¬2) عندهم شيئًا. قال: وقد روي عن الحسن (¬3) مرسلًا "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة" (¬4)، ذكره وكيع عن الربيع عنه، قال: "والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرًا عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد؛ لأنه لا يخفى، لوقوعه في كل يوم مرارًا". [الكلام على عمل أهل المدينة] قلت: وهذا أصل قد نازعهم فيه الجمهور، وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار، ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام (¬5)، فمن كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإذا اختلف علماء ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (1/ 301)، والبيهقي في "الخلافيات" (1/ ق 111/ أ) من طريق جرير بن حازم عن أيوب به. وسنده منقطع، كما سيأتي قريبًا. وجاء من طريق حميد عن أنس، ورجاله ثقات، ومضى بيان ذلك قريبًا. (¬2) قاله أبو حاتم في "المراسيل" (رقم 39)، وأحمد، كما في "جامع التحصيل" (ص 176)، و"تحفة التحصيل" (ص 35)، وقال ابن حبان في "الثقات" (6/ 53): "قيل إنه سمع من أنس، ولا يصح ذلك عندي". وانظر: "شرح علل الترمذي" (2/ 590) وفيه (2/ 702): "وقال الأثرم عن أحمد: جرير بن حازم يروي عن أيوب عجائب"، وهذه علّة أخرى للحديث. (¬3) في مطبوع "الاستذكار": "الحسين"، وهو خطأ. (¬4) رواه ابن أبي شيبة (1/ 334) من طريق الربيع عن وكيع به. والربيع هذا هو ابن أنس، قال أبو حاتم والعجلي: صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، ولم يتكلّم فيه ابن حبان إلا من رواية أبي جعفر الرازي حيث قال: الناس يتّقون من حديثه ما كان من رواية أبي جعفر عنه؛ لأن في أحاديثه عنه اضطرابًا كثيرًا. فلا داعي إذن أن يقول فيه ابن حجر في "التقريب": صدوق له أوهام؛ لأن أوهامه من رواية أبي جعفر فقط. ورواه عبد الرزاق (3145) عن جعفر بن سليمان عن الصلت بن دينار عن الحسن به. والصلت هذا متروك. (¬5) انظر كلام ابن القيم على عمل أهل المدينة النبوية في "بدائع الفوائد" (4/ 32)، و"زاد المعاد" (1/ 110)، وانظر "مجموع الفتاوى" (20/ 229 - 310) و"صحة أصول أهل المدينة" كلاهما لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-، و"المستصفى" (1/ 187) =

المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة اتّباع السنة، ولا تُترك السنة لكون عَمَل بعض المسلمين على خلافها أو عَمِل بها غيرُهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتُرِكَت السنن وصارت تبعًا لغيرها، فإن عَمِل بها ذلك الغير عُمِل بها وإلّا فلا، والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارًا على السنة، ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار دون سائرها، والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال، وإنما التأثير لأهلها وسكانها، ومعلوم أن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وظفروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم، فهم المُقدَّمون في العلم على من سواهم، كما هم المقدّمون في الفضل والدين، وعملهم هو العمل الذي لا يُخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة، وتفرّقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام مثل عليّ بن أبي طالب (¬1)، وأبي موسى، وعبد اللَّه بن مسعود، وعُبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاث مئة صحابي ونيَّف، وإلى الشام ومصر نحوهم، فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا، فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ولم يكن خلاف مَنْ (¬2) انتقل عنها معتبرًا؟! هذا من الممتنع، وليس جعل عمل الباقين معتبرًا أَوْلى من جعل عمل المفارقين معتبرًا، فإن الوحي قد انقطع بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يبق إلّا كتاب اللَّه وسنة رسوله، فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقًا، ثم كيف (¬3) تُترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟. ثم يقال: أرأيتم لو استمرّ عمل أهل مصر من الأمصار التي انتقل إليها الصحابة على ما أدّاه إليهم مَنْ صار إليهم من الصحابة، ما الفرق بينه وبين عمل ¬

_ = للغزالي، و"المحصول" (4/ 162 - 169)، و"الإحكام" للآمدي (302 - 305)، و"الإحكام" (4/ 204 - 218) لابن حزم، (ومنه نقل المصنف كثيرًا من الأمثلة الآتية)، و"روضة الناظر" (ص 126)، و"الرسالة" (533 - 535)، و"المسودة" (ص 331 - 333)، و"إرشاد الفحول" (ص 82) للشوكاني، ورسالة الدكتور أحمد محمد نور سيف "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين". (¬1) بعده في المطبوع: "كرّم اللَّه وجهه". (¬2) في المطبوع: "ما". (¬3) في المطبوع: "فكيف".

أهل المدينة المستمرّ على مَنْ أَدَّاه إليهم من بها من الصحابة، والعمل إنما استند (¬1) إلى قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفعله؟ فكيف يكون قوله وفعله الذي أدَّاه من بالمدينة موجبًا للعمل دون قوله وفعله الذي أدَّاه غيرهم؟ هذا إذا كان النص مع عمل أهل المدينة، فكيف إذا كان مع غيرهم النص، وليس معهم نصٌّ يعارضه، وليس معهم إلّا مجرد العمل؟ ومن المعلوم أن العمل لا يُقابل النص، بل يُقابَل العمل بالعمل، ويسلم النص عن المعارض. وأيضًا فنقول: هل يجوز أن يخفى على أهل المدينة بعد مفارقة جمهور الصحابة لها سنة من سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويكون علمها عند مَنْ فارقها أم لا؟ فإن قلتم: "لا يجوز"، أبطلتم أكثر السنن التي لم يروها أهل المدينة، وإن كانت من رواية إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه، ومن رواية أهل بيت علي عنه، ومن رواية أصحاب معاذ عنه، ومن رواية أصحاب أبي موسى عنه، ومن رواية (¬2) عمرو بن العاص، وابنه عبد اللَّه، وأبي الدرداء، ومعاوية، وأنس بن مالك، وعمار بن ياسر وأضعاف هؤلاء، وهذا مما لا سيل إليه. وإن قلتم: "يجوز أن يخفى على من بقي في المدينة بعض السُّنن ويكون علمها عند غيرهم"، فكيف تُترك السنن لعمل مَن قد اعترفتم بأنَّ السنّة قد تخفى عليهم؟. وأيضًا فإن عمر بن الخطاب كان إذا كتب إليه بعض الأعراب بسنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمل بها، ولو لم يكن معمولًا بها بالمدينة، كما كتب إليه الضَّحاك بن سفيان الكِلابيّ: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَّث امرأة أَشْيَم الضِّبابي من دية زوجها"، فقضى به عمر (¬3). وأيضًا فإن هذه السنة التي لم يعمل بها أهل المدينة لو جاء مَن رواها إلى المدينة وعمل بها لم يكن عمل مَنْ خالفه حجّة عليه، فكيف يكون حجة عليه إذا خرج من المدينة؟. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "أسند". (¬2) بعدها في المطبوع زيادة كلمة "أصحاب". (¬3) رواه ابن أبي شيبة (9/ 313)، وأبو داود (2927) في (الفرائض): باب في المرأة ترث من دية زوجها، والترمذي (1436) في (الديات)، و (2193) في (الفرائض)، وابن ماجه (2642)، وأحمد (3/ 452)، والطبراني في "الكبير" رقم (8145 و 8142)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1496 و 1497) من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب كان يقول. . . حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان. قال الترمذي: هذا حديث حَسَن صحيح.

[هل حقا أن عمل أهل المدينة حجة؟]

وأيضًا فإن هذا يُوجب أن يكون جميع أهل الأمصار تبعًا لأهل المدينة (¬1) فيما يعملون به، وأنه لا يجوز لهم مخالفتهم في شيء، فإن عملهم إذا قُدِّم على السنة فلأن يُقدَّم على عمل غيرهم أولى، وإن قيل: إن عملهم نفسه سنة لم يحل لأحد مخالفتهم، ولكن عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهل الأمصار أن لا يَعْملوا بما عرفوه (¬2) من السنة وعَلَّمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة، وأنهم لا يعملون إلّا بعمل أهل المدينة، بل مالك نفسه منع الرشيد من ذلك، وقد عزم عليه، وقال له: قد تفرَّق أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في البلاد، وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم (¬3)، وهذا يدل على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة، وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل، ولم يقل قط في "موطئه" ولا غيره لا يجوز العمل بغيره، بل يخبر إخبارًا مجردًا أن هذا عمل أهل بلده، فإنه -رضي اللَّه عنه- وجزاه عن الإسلام خيرًا ادَّعى إجماع أهل المدينة في نيِّف وأربعين مسألة. ثم هي ثلاثة أنواع (¬4): أحدهما: لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم. والثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه. والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة انفسهم، ومن ورعه رحمه اللَّه لم يقل: إن هذا إجماع الأمة الذي لا يحلّ خلافه. [هل حقًا أن عمل أهل المدينة حجة؟] وعند هذا فنقول: ما عليه العمل إمّا أن يراد به القسم الأول، أو هو والثاني، أو هما والثالث، فإن اريد الأول فلا ريب أنه حجّة يجب اتّباعه، وإن أريد الثاني والثالث فأين دليله؟ وأيضًا فأحق عمل أهل المدينة أن يكون حجة العمل القديم الذي كان في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه وزمن خلفائه الراشدين، وهذا كعملهم الذي كأنه مُشاهد بالحس ورأي عين في (¬5) إعطائهم أموالهم التي ¬

_ (¬1) كذا في (ق) وفي سائر الأصول: "تبعًا للمدينة". (¬2) في (ن): "أن لا يعملوا إلا بما عرفوه"، وفي (ق): "ألا يعلموا إلا بما عرفوه"!. (¬3) انظر "الموافقات" للشاطبي (3/ 270، 271)، وتعليقي عليه. (¬4) انظرها مع حصر مفرداتها في رسالة الدكتور أحمد محمد نور سيف: "عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالك وآراء الأصوليين" (ص 321 وما بعد). و"المسائل التي بناها الإمام مالك على عمل أهل المدينة" للدكتور محمد المدني بُوساق. (¬5) في المطبوع: "من".

قسمها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على من شهد معه خيبر فأعطوها اليهود على أن يعملوها بأنفسهم وأموالهم والثمرة بينهم وبين المسلمين، يقرّونهم ما أقرَّهم اللَّه ويخرجونهم متى شاءوا (¬1)، واستمرّ هذا العمل كذلك لا ريب إلى أن استأثر اللَّه بنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- مدة أربعة أعوام، ثم استمرّ مدة خلافة الصدِّيق، وكلهم على ذلك، ثم استمرّ مدة خلافة عمر -رضي اللَّه عنهم-، إلى أن أجلاهم قبل أن يستشهد بعام (¬2)، فهذا هو العمل حقًا. فكيف ساغ خلافه وتركه لعمل حادث؟. ومن ذلك عمل الصحابة مع نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- على الاشتراك في الهَدْي: البَدَنة عن عشرة (¬3) والبقرة عن سبعة (¬4)، فيا له من عمل ما أحقّه وأولاه بالاتّباع، فكيف يخالف إلى عمل حادث بعده مخالف له؟. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2338) في (الحرث والمزارعة): باب إذا قال رب الأرض: أقرك ما أقرّك اللَّه، و (3152) في (فرض الخمس): باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه. ومسلم (1551) (6) في (المساقاة): أوّله من حديث ابن عمر. (ملاحظة): الحديث في "صحيح البخاري" ورد في مواطن كثيرة، لكن ما أراده المؤلف موجود في الموطنين اللذين ذكرت. وانظر "صحيح البخاري" (2285) فأطرافه هناك. وانظر القصة مطولة في "سنن أبي داود" (3006)، و"صحيح ابن حبان" (5199)، و"سنن البيهقي" (6/ 114)، و"دلائل النبوّة" له (4/ 229)، ووقع في (ق): "متى شاء". (¬2) انظر "الأموال" (ص 99) لأبي عبيد و (407) لابن زنجويه، والمذكور نقله ابن حزم في "الإحكام" (4/ 206). (¬3) في (ق) و (ن): "سبعة". (¬4) روى أحمد في "مسنده" (1/ 275)، والترمذي في "سننه" (905) في (الحج): باب ما جاء في الاشتراك في البدنة والبقرة، والنسائي (7/ 222) في (الضحايا): باب ما تجزئ عنه البدنة في الضحايا، وابن ماجه (3131) في (الأضاحي): باب عن كم تجزئ البدنة والبقرة، وابن حبان (4007)، والطبراني (11929)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 236 - 235) من طرق عن الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عِلْباء بن أحمر عن عكرمة عن ابن عباس قال: كُنَّا مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفر فحضر النحر فذبحنا البقرة عن سبعة والبعير عن عَشَرة، ووقع في "صحيح ابن حبان" على الشك: وفي البعير سبعة أو عَشَرة، قال الترمذي: حسن غريب! ورواه الحاكم (4/ 230) من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن الحسين بن واقد عن عكرمة به بإسقاط علباء بن أحمر، وصححه على شرط البخاري ووافقه الذهبي. =

[سجود التلاوة في "الانشقاق"]

[سجود التلاوة في "الانشقاق"] ومن ذلك عمل أهل المدينة الذي كأنه رأي عين في سجودهم في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1] مع نبيّهم -صلى اللَّه عليه وسلم- وتبعهم (¬1) أبو هريرة (¬2)، وإنما صحب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أعوام وبعض الرابع، وقد أخبر عن عمل الصحابة مع نبيّهم في آخر أمره، فهذا واللَّه هو العمل، فكيف يُقدَّم عليه عمل مَن بعدهم بما شاء اللَّه من السنين، ويُقال: العمل على ترك السجود؟. ¬

_ = أقول: الحسين بن واقد هذا وإن أخرج له مسلم ووثقه غير واحد، إلّا أن له بعض ما يُنكر، قال الذهبي في "الميزان": "واستنكر أحمد بعض حديثه وحَرَّك رأسه كأنه لم يَرْضه لما قيل له: إنه روى. . . ". ولذلك قال البيهقي: وقد تفرّد به الحسين بن واقد، وحديث جابر أصح. أقول: حديث جابر في صحيح مسلم (1318) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (4/ 206) - وغيره. قال: نحرنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عام الحديبية البَدَنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وروى الحاكم أيضًا من طريق محمد بن بشار ثنا عبد الرحمن عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر قال: نحرنا يوم الحديبية سبعين بدنة البدنة عن عشرة. . . وقال: صحيح على شرط مسلم. فتعقبه الذهبي بقوله: وخالفه ابن جريج وزهير عن أبي الزبير فقالوا: البدنة عن سبعة، وجاء عن سفيان كذلك. وقال البيهقي في "سننه" (5/ 236): وما روي عن سفيان من أن البدنة تجزئ عن عشرة لا أحسبه إلا وهمًا، فقد رواه الفريابي عن الثوري وقال: البدنة عن سبعة، وكذلك قاله مالك بن أنس وابن جريج وزهير بن معاوية وغيرهم عن أبي الزبير عن جابر قالوا: البدنة عن سبعة، وكذلك قاله عطاء بن أبي رباح عن جابر، ورجح مسلم بن الحجاج روايتهم لما أخرجها دون رواية غيرهم. أقول: وهذه الروايات في صحيح مسلم (1318) (350 - 353). وفي حديث ابن إسحاق عن الزهري عن عروة عن مروان بن الحكم والمسور بن مخرمة أنهما حدَّثاه جميعًا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج يريد زيارة البيت لا يريد حربًا، وساق معه الهدي صبعين بدنة عن سبعمائة رجل كل بدنة عن عشرة. أخرجه البيهقي في "سننه" (5/ 235) وبيّن وهم ابن اسحاق، وإن الروايات الثابتة أن عددهم كان أكثر من ألف. وانظر "معرفة السنن والآثار" (7/ 234)، و"الإحكام" (4/ 206 - 207) لابن حزم، و"نصب الراية" (4/ 209 - 210). (¬1) في المطبوع: "ومعهم". (¬2) مضى تخريجه، وهذا المثال وما قبله في "الإحكام" (4/ 206 - 207) لابن حزم.

[الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس]

ومن ذلك عمل الصحابة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد قرأ السجدة على المنبر في خطبته يوم الجمعة ثم نزل عن المنبر فسجد، وسجد معه أهل المسجد، ثم صعد (¬1)، وهذا العمل حق، فكيف يقال: العمل على خلافه، ويقدم العمل الذي يخالف ذلك عليه (¬2)؟. [الاقتداء بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو جالس] ومن ذلك عمل الصحابة مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في اقتدائهم به، وهو جالس (¬3)، وهذا كأنه رأي عين، سواء كانت صلاتهم خلفه قعودًا أو قيامًا، فهذا عمل في غاية الظهور والصحة (¬4)، فمن العجب أن يُقدَّم عليه رواية جابر الجُعفي عن الشعبي -وكلاهما كوفيان (¬5) - أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يؤمنَّ أحدٌ بعدي جالسًا" (¬6)! وهذه من أسقط روايات أهل الكوفة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1077) في (سجود القرآن): باب من رأى أن اللَّه عزّ وجلّ لم يوجب السجود. وانظر كلام الحافظ في "الفتح" على الحديث فإنه قد زعم بعضهم أنَّه معلق، وانظر "التلخيص" أيضًا (2/ 11). (¬2) سيأتي بحث نفيس في سجود القرآن بعد قليل، وانظر: "زاد المعاد" (1/ 96)، و"تهذيب السنن" (2/ 117). (¬3) ورد من حديث عائشة، رواه البخاري (688) في (الأذان): باب إنما جعل الإمام ليؤتمّ به، و (1113) في (تقصير الصلاة): باب في صلاة القاعد، و (1236) في (السهو): باب الإشارة في الصلاة، و (5658) في (المرض): باب إذا عاد مريضًا فحضرت الصلاة فصلّى بهم جماعة، ومسلم (412) في (الصلاة): باب ائتمام المأموم بالإمام. ومن حديث أنس بن مالك: رواه البخاري (378) -وأطرافه كثيرة جدًا تنظر هناك- ومسلم (411). (¬4) انظر: "زاد المعاد" (2/ 97)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 367). (¬5) في المطبوع و (ن): "وهما كوفيان". (¬6) رواه الدارقطني (1/ 398)، والبيهقي (3/ 80) من رواية جابر الجعفي عن الشعبي مرفوعًا به. قال الدارقطني: لم يروه غير جابر الجعفي عن الشعبي، وهو متروك، والحديث مرسل لا تقوم به حجة. ونقل البيهقي عن الشافعي أنه قال: قد علم الذي احتجّ بهذا أن ليست فيه حجة وأنه لا يثبت لأنه مرسل؛ ولأنه عن رجل يرغب الناس عن الرواية عنه. وقال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 143): وهو حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث، إنما يرويه جابر الجعفي عن الشعبي مرسلًا، وجابر الجعفي لا يحتج بشيء =

[الطيب قبل الإفاضة]

[الطِّيب قبل الإفاضة] ومن ذلك أن سليمان بن عبد الملك عام حج، جمع ناسًا من أهل العلم، فيهم عمر بن عبد العزيز، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد، وسالم، وعبد اللَّه (¬1) ابنا عبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن شهاب الزهري، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة، فكلّهم أمره بالطيب، وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طَيَّبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِحُرْمه حين أحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت (¬2)، ولم يختلف عليه أحد منهم، إلا أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه (¬3) قال: كان عبد اللَّه رجلًا جادًّا مجدًّا، كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض (¬4) قبل أن يأتي منزله، قال سالم: صدق، ذكره النسائي (¬5)، فهذا عملُ أهل المدينة وفتياهم، فأيُّ عملٍ بعد ذلك يخالفه يستحق التقديم عليه؟. [المزارعة على الثلث والربع] ومن ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه" عن [قيس] (¬6) بن مسلم، عن أبي جعفر قال: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي، وسعد بن مالك، وعبد اللَّه بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين، وعامل عمر بن الخطاب الناس على [أنه] (¬7) إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشَّطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا [وكذا] (¬8) "، فهذا واللَّه هو العمل الذي يستحق ¬

_ = يرويه مسندًا، فكيف بما يرويه مرسلًا؟! وقال ابن حزم في "الإحكام" (4/ 207): "وهذه رواية ليس في رواية أهل الكوفة أنتن منها"، والمثل المذكور مأخوذ منه. (¬1) كذا في (ن)، و"الإحكام" وفي سائر النسخ: "وعُبيد اللَّه". (¬2) مضى تخريجه. (¬3) في المطبوع: "عبد اللَّه بن عبيد اللَّه". (¬4) كذا في المطبوع، ومصادر التخريج، وفي النسخ الخطية: "ثم يفيض". (¬5) في "الكبرى" (4160) في (الحج): باب إباحة الطيب بمنى قبل الإفاضة -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (4/ 207 - 208) - من طريق عَبْد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر قال: كان عبد اللَّه جادًّا مجدًا. (¬6) في النسخ المطبوعة: "قاسم"!، وما أثبتناه من "صحيح البخاري" و"الإحكام". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) هو في "صحيح البخاري" في (الحرث والمزارعة): باب المزارعة بالشطر، ونحوه قبل حديث (2328) تعليقًا، وما بين المعقوفتين ليس فيه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ووصله عن قيس بن مسلم عن أبي جعفر به، عبد الرزاق (14476) (8/ 100)، وابن أبي شيبة (5/ 145) من طريق الثوري عنه. وأبو جعفر هذا هو محمد بن علي بن الحسين الباقر. وقيس بن مسلم من الثقات. وأثر علي: رواه عبد الرزاق (14471)، وابن أبي شيبة (5/ 144 - ط. دار الفكر) أو (6/ 339 رقم 1275 و 14/ 277 رقم 18366 - ط. الهندية)، والطحاوي في "المشكل" (3/ 291 - ط. الهندية)، أو (7/ 1202 - ط مؤسسة الرسالة)، وابن المنذر في "الأوسط" (4/ ق 59/ ب)، وابن حزم في "المحلى" (8/ 215) من طريق الثوري عن الحارث بن حصيرة عن صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع عنه أنه لم ير بأسًا بالمزارعة على النصف، والحارث بن حصيرة: صدوق يخطئ، ووثقه النسائي وابن معين والعجلي وابن حبان (6/ 173). وصخر بن الوليد: ترجمه البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، ووثقه ابن حبان (6/ 472)، وروى عنه جماعة، فإسناده حسن، وحسنهُ الطحاوي. وأثرا سعد بن مالك -وهو ابن أبي وقاص- وابن مسعود: رواهما ابن أبي شيبة (5/ 143)، والطحاوي في "المشكل" (7/ 123، 124 - ط. مؤسسة الرسالة)، وسعيد بن منصور في "سننه" -كما في "تغليق التعليق" (3/ 301)، و"الفتح" (5/ 11) -ومن طريقه البيهقي (6/ 145)، من طرق إبراهيم بن المهاجر عن موسى بن طلحة قال: كان سعد وابن مسعود يزارعان بالثلث والربع، وإسناده جيد. ورواه بسياق أطول عبد الرزاق (14470) من طريق الثوري عن إبراهيم بن المهاجر به، وهذا إسناد جَيّد كذلك. ورواه نحوًا من سياق عبد الرزاق ابن أبي شيبة (5/ 143)، والطحاوي في "المشكل" (7/ 124)، وفي "شرح معاني الآثار" (4/ 114) لكن في إسناده شريك القاضي وهو على كل حال مُتابع. وأثر عمر بن عبد العزيز: رواه ابن أبي شيبة (5/ 145) من طريق خالد الحذاء أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي أن يزارع بالثلث والربع. ورواه أيضًا من طريق يحيى بن سعيد عن عمر بن عبد العزيز، وهذان إسنادان صحيحان. ورواه ابن حزم في "المحلى" (8/ 216) من طريق ابن أبي شيبة بالإسنادين. وأثرا القاسم بن محمد ومحمد بن سيرين: رواهما عبد الرزاق (14474) قال: سمعت هشامًا يحدث قال: أرسلني محمد بن سيرين إلى القاسم بن محمد أسأله عن رجل قال لآخر: اعمل في حائطي هذا ولك الثلث أو الربع، فقال: لا بأس به، قال: فرجعت إلى ابن سيرين فأخبرته، فقال: هذا أحسن ما يصنع في الأرض. وهذا إسناد صحيح. =

[أنواع السنن وأمثلة لكل نوع منها]

تقديمه على كل عمل خالفه، والذي مَنْ جعله بينه وبين اللَّه فقد استوثق. فياللَّه [العَجب] (¬1)! أيّ عمل بعد هذا يقدم [عليه] (¬2)؟ وهل يكون عمل يمكن أن يقال: إنه إجماع، أظهر من هذا وأصح منه؟ (¬3). [أنواع السنن وأمثلة لكل نوع منها] وأيضًا فالعمل نوعان (¬4): ¬

_ = ورواه ابن أبي شيبة (5/ 145) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (8/ 216) - من طريق هشام به، وفي لفظه مغايرة واختصار. وروى النسائي (7/ 52) في (الأيمان والنذور): باب ذكر اختلاف الألفاظ المأثورة في المزارعة عن ابن سيرين جواز ذلك. وأثر عروة بن الزبير: رواه ابن أبي شيبة (5/ 145) من طريق أبي أسامة عن هشام بن عروة قال: كان أبي لا يرى بكرى الأرض بأسًا. وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وقوله: آل أبي بكر، وآل عمر وآل علي: رواه عبد الرزاق (14477)، وابن أبي شيبة (5/ 145)، وابن حزم (8/ 217) من طرق عن عمرو بن عثمان بن موهب سمعت أبا جعفر محمد بن علي يقول: آل أبو بكر وآل عمر وآل علي يدفعون أرضيهم بالثلث. وهذا إسناد صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة (7/ 339 - ط. الهندية)، والطحاوي في "المشكل" (7/ 121)، و"شرح معاني الآثار" (4/ 115)، وابن حزم (8/ 215) عن كليب بن وائل قال: "قلت لابن عمر: آتي رجلًا له أرض وماء، وليس له بذر ولا بقر، أحْرُثُ أرضه بالنصف فزرعتها ببذري وبقري، فناصفتها، فقال: حسن" وإسناده حسن. وروى عبد الرزاق (14476)، وابن أبي شيبة (6/ 343)، وابن حزم (8/ 216) عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين، قال: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة، لا يُعطون أرضهم بالثلث والربع"، وإسناده صحيح. وقوله: وعامل عمر بن الخطاب الناس. . . رواه ابن أبي شيبة -كما في "الفتح" (5/ 12) من طريق يحيى بن سعيد عن عمر. قال الحافظ: هذا مرسل. ورواه البيهقي (6/ 135) من طريق عمر بن عبد العزيز عن عمر ثم قال: هو مرسل. قال الحافظ ابن حجر: فيتقوّى أحدهما بالآخر. وانظر -غير مأمور- "تغليق التعليق" (3/ 350). (¬1) سقطت من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (97/ 29، 134) و (30/ 110، 114، 125)، وتعليقي على "الإشراف" (3/ 189 - 193) للقاضي عبد الوهاب المالكي. (¬4) ما تحته مأخوذ من "الإحكام" (4/ 209) لابن حزم، مع زيادة تفريع وتأصيل وتقعيد.

[نقل القول، وطريقة البخاري في ترتيب "صحيحه"]

• نوع لم يعارضه نص ولا عمل قبله ولا عمل مصر آخر غيره. • وعمل عارضه واحد من هذه الثلاثة. فإن سوّيتم بين أقسام هذا العمل كلها فهي تسوية بين المختلفات التي فرَّق النَّصُّ والعقل بينها، وإنْ فرَّقتم بينها فلا بدَّ من دليل فارق بين ما هو معتبر منها وما هو غير معتبر، ولا تذكرون دليلًا قط إلا كان دليل مَنْ قدَّم النص أقوى، وكان به أسعد. وأيضًا فإنّا نقسم عليكم هذا العمل من وجه آخر ليتبيّن به المقبول من المردود، فنقول: عمل أهل المدينة وإجماعهم نوعان: أحدهما: ما كان من طريق النقل والحكاية. والثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال. فالأول على ثلاثة أضرب: أحدها: نقل الشرع مبتدأ من جهة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أربعة أنواع: أحدها: نقل قوله، والثاني: نقل فعله، والثالث: نقل تقريره لهم على أمر شاهدهم عليه أو أخبرهم به، الرابع: نقلهم لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله. الثاني: نقل العمل المتصل زمنًا بعد زمن من عهده -صلى اللَّه عليه وسلم-. والثالث: نقل لأماكن وأعيان ومقادير لم تتغير عن حالها. [نقل القول، وطريقة البخاري في ترتيب "صحيحه"] ونحن نذكر أمثلة هذه الأنواع، فأما نقل قوله فظاهر، وهو الأحاديث المدنية التي هي أمّ الأحاديث النبوية، وهي أشرف أحاديث أهل الأمصار، ومن تأمّل أبواب البخاري وجده أوّل ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يتبعها بأحاديث أهل الأمصار، وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وابن شهاب عن سالم عن أبيه، وابن شهاب عن حُميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وابن شهاب عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس، ومالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة بن زيد، والزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب، وأمثال ذلك.

[نقل الفعل]

[نقل الفعل] أما نقل فعله فكنقلهم أنه توضأ من بئر بضاعة (¬1)، وأنه كان يخرج كل عيد ¬

_ (¬1) "هي بضم الباء، وكَسَرَها بعضهم، وهي دار بني ساعدة بالمدينة، وبئرها مشهورة معروفة" (و). الحديث يرويه أبو سعيد الخدري، وفيه اختلاف: فقد رواه النسائي في "سننه" (1/ 174) في (المياه): باب ذكر بئر بضاعة، وأبو يعلى (1304)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (رقم 1553)، والخطيب في "الموضح" (2/ 82 - 83)، وابن سمويه في "بعض الثالث من الفوائد" (ق 137/ ب)، والبيهقي في "سننه" (1/ 257 - 258)، و"الخلافيات" (3/ 204 رقم 975 - بتحقيقي)، وعبد الغني بن سعيد في "إيضاح الإشكال"-كما في "البدر المنير" (2/ 58) - من طريقين عن عبد العزيز بن مسلم القسملي عن مطرف عن خالد بن أبي نوف عن سَليط عن ابن أبي سعيد الخدري عن أبيه قال: انتهيت إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يتوضأ من بئر بضاعة فقلت: يا رسول اللَّه أتتوضأ منها، وهي يُلقى فيها ما يلقى من النّتَن؟ فقال: إن الماء لا ينجسه شيء. أقول: خالد بن أبي نوف، اختلف في اسمه، فقيل: هو خالد بن كثير، وصَوَّب أبو حاتم أنه غيره، وقال: يروي ثلاثة أحاديث مراسيل، وذكره ابن حبان في "الثقات"! كعادته. وسليط هذا هو ابن أيوب لم يوثقه أحد، وذكره ابن حبان في "ثقاته". وابن أبي سعيد هو عبد الرحمن، وباقي الإسناد ثقات. لكن رواه أحمد (3/ 15 - 16) -ومن طريقه الخطيب في "الموضح" (2/ 82) -، والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 12) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، وعيسى بن إبراهيم عن عبد العزيز به دون ذكر (سليط). وأخرجه ابن عدي (2/ 459) وبكير هذا ضعيف. ورواه بكير بن خُنيس عن مطرف به كذلك، بإسقاط (سليط). ورواه محمد بن فضيل وأسباط بن محمد عن مطرف عن خالد عن ابن إسحاق عن سليط عن أبي سعيد، دون واسطة بين (سليط) و (أبي سعيد)، فرجع الحديث إلى ابن إسحاق، وأرسله إلى أبي سعيد. رواه ابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ 209) والخطيب في "الموضح" (2/ 83). ورواه الطيالسي (2199)، وابن جرير (رقم 1556)، والطحاوي (1/ 11)، والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 968) عن حماد عن ابن إسحاق عن عبيد اللَّه بن عبد الرحمن (وعند البيهقي: ابن عبد اللَّه) عن أبي سعيد دون واسطة بين (ابن إسحاق) و (عبيد اللَّه). ورواه أبو معاوية الضرير عن ابن إسحاق، فلم يقم إسناده وخلط فيه، فقال: عن عبيد اللَّه بن عتبة، ومرة قال: عن عبيد اللَّه بن عمر، وكذلك قال حماد بن سلمة (وسبقت روايته قريبًا) عن محمد بن إسحاق، وقال جرير بن عبد الحميد: عن ابن إسحاق بلغني =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن رافع عن أبي سعيد. وقد قارب؛ لأن ابن إسحاق رواه عن سليط عن عبيد اللَّه، أفاده الدارقطني في "العلل" (11/ 287). وقد اختلف فيه على سليط. فرواه محمد بن سلمة عن ابن إسحاق عنه عن عُبيد اللَّه بن عبد الرحمن بن رافع بن خديج عن أبي سعيد. أخرجه أبو داود (67) في (الطهارة): باب ما جاء في بئر بضاعة -ومن طريقه البيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 257)، و"المعرفة" (2/ 78 رقم 1817) - والدارقطني (1/ 30) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (970 - بتحقيقي) -، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (رقم 1551)، وسقط عند ابن جرير والدارقطني: "عبيد اللَّه بن"! وهو من أوهام محمد بن سلمة، قاله الدارقطني في "العلل" (11/ 286 - 287). وقد اختلف فيه على ابن إسحاق في إسناده، وفي اسم الراوي عن أبي سعيد الخدري. فرواه أحمد الوهبي، وإبراهيم بن سعد، ويونس بن بكير عنه: حدثني سَليط عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن بن رافع عن أبي سعيد. أخرجه البخاري في "التاريخ" (5/ 389)، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 145 - بتحقيقي)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 11)، والدارقطني (1/ 31)، والبيهقي في "الخلافيات" (3/ 201 رقم 971، 972، 973)، وكذا رواه شعيب بن إسحاق، وهو أشبه بالصواب، أفاده الدارقطني في "العلل" (11/ 287). ورواه يحيى بن واضح عنه عن سليط عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه عن أبي سعيد. أخرجه البخاري في "التاريخ" (5/ 389)، ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (3/ 199 رقم 969 - بتحقيقي). ورواه إبراهيم بن سعد مرة أخرى عنه عن عبد اللَّه بن أبي سلمة عن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن رافع. أخرجه الدارقطني (1/ 32) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 974) - وابن جرير في "تهذيب الآثار" (1563)، وسمويه في بعض الثالث من فوائده (ق 137/ ب)، والبخاري في "تاريخه" (5/ 389)، وهذا السند الأخير توبع عليه ابن إسحاق، فرواه أيضًا إبراهيم بن سعد عن الوليد بن كثير عن عبد اللَّه بن أبي سلمة به، لكن قال عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه أخرجه أحمد في "مسنده" (3/ 86). والوليد بن كثير اختلف عليه. فرواه أبو أسامة عنه عن محمد بن كعب القرظي عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن رافع عن أبي سعيد. فزاد أبو أسامة: "محمد بن كعب". أخرجه أحمد (3/ 31)، وابن أبي شيبة (1/ 141 - 142)، والبخاري في "التاريخ" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (5/ 389)، وأبو داود (66)، والترمذي (66) في (الطهارة): باب ما جاء في أن الماء لا ينجسه شيء، والنسائي (1/ 174)، وابن الجارود (47)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 269)، والدارقطني (1/ 30)، وابن منده -كما في "البدر المنير" (2/ 57) - وسمويه في "بعض الثالث من فوائده" (ق 139/ أ)، والبيهقي (1/ 4 - 5 و 257)، وفي "الخلافيات" (3/ 196 - 197 رقم 966، 967 بتحقيقي)، والبغوي (2/ 60 رقم 283). قال الترمذي: حدبث حسن، وقد جَوَّده أبو أسامة. وقال الدارقطني في "العلل" (11/ 288): "وأحسنها إسنادًا حديث الوليد بن كثير"، ونقل الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 13) تصحيحه عن أحمد وابن معين. ونقل عن ابن القطان أنه أعلّه بجهالة راويه عن أبي سعيد، واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه. أقول: وقد قال ابن القطان: في هذا الرجل -أي الراوي عن أبي سعيد- خمسة أقوال ثم قال: وكيفما كان فهو ممن لا يعرف له حال. وهذا هو الصواب في إسناد هذا الحديث. ورواه الشافعي في "مسنده" (1/ 21)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (رقم 1552)، والبيهقي (1/ 258) وفي "المعرفة" (2/ 77 رقم 1814) من طريق ابن أبي ذئب عمّن لا يتهم عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن العدوي (وفي إسناد الشافعي عن الثقة عنده عمَّن حدثه، أو عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه) عن أبي سعيد. والثقة الذي حدث ابن أبي ذئب ابن إسحاق، فيكون هذا قولًا آخر، حكاه ابن القطان قولًا لابن إسحاق، وانظر: "نيل الأوطار" (1/ 28). ويشوّش على هذا، ما أخرجه أبو عبيد في "الطهور" (146 - بتحقيقي) عن ابن إسحاق وابن أبي ذئب عمّن أخبرهم عن عبيد اللَّه بن عبد الرحمن عن أبي سعيد. وأخرجه عبد الرزاق (255) عن معمر عن ابن أبي ذئب عن رجل عن أبي سعيد به. فقد رواه أبو داود الطيالسي (2155)، ومن طريقه البيهقي (1/ 258)، وفي "الخلافيات" (رقم 978) من طريق قيس بن الربيع عن طريف عن أبي نضرة عنه قال: كنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأتينا على غدير فيه جيفة. . .، وقيس ضعيف. ورواه البيهقي (1/ 258)، وفي "الخلافيات" (رقم 979)، والطحاوي (1/ 12) وابن جرير في "تهذيب الآثار" (رقم 1557) من طريق شريك عن طريف عن جابر أو أبي سعيد، وشريك ضعيف، وطريف هو ابن شهاب أبو سفيان السعدي، ضعّفه ابن معين والدارقطني، وقال النسائي: متروك. ورواه أبو عبيد في "الطهور" (رقم 147)، وابن ماجه (5020)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1437 - 1438) من طريق شريك به، عن أبي سعيد بالجزم. ورواه ابن جرير (رقم 1559)، والبيهقي أيضًا (1/ 258) بإسناد فيه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف. =

إلى المصلَّى فيصلّي به العيد هو والناس (¬1)، وأنه كان يخطبهم قائمًا على المنبر ¬

_ = وقد روي من حديث سهل بن سعد. رواه قاسم بن أصبغ في "مصنفه"، ومحمد بن عبد الملك بن أيمن في "مستخرجه" على سنن أبي داود -كما في "التلخيص" (1/ 13) - من طريق محمد بن وضاح: حدثنا عبد الصمد بن أبي سكينة الحلبي عن عبد العزيز بن أبي حاتم عن أبيه عنه. قال الحافظ ابن حجر: ابن أبي سكينة مجهول لم نجد عنه راويًا إلا محمد بن وضاح. أقول: ورواه أيضًا من حديث سهل بن سعد، الدارقطني (1/ 32)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 12)، وسمويه في "بعض الثالث من فوائده" (ق 139/ أ)، والبيهقي (1/ 259) وابن حزم في "المحلى" (1/ 155) من طريقين عن محمد بن أبي يحيى عن أبيه عن سهل به. وفي "سنن الدارقطني": محمد بن أبي يحيى عن أمّه قالت. . . أقول: محمد بن أبي يحيى هذا وثقه أبو داود والخليلي، وذكره ابن حبان في "الثقات". وقال أبو حاتم: تكلّم فيه يحص القطان، وقال ابن شاهين: فيه لين. وأبوه أبو يحيى اسمه سمعان، روى عنه ابناه: محمد وأنيس، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال النسائي: ليس به بأس. أقول: والراويان عن محمد بن أبي يحيى حاتم بن إسماعيل، وفضيل بن سليمان كلاهما كان في حفظه شيء. أحدهما قال: عن محمد عن أبيه. والآخر: عن محمد عن أمّه. والحديث صححه أحمد بن حنبل قال الخلال: قال أحمد: حديث بئر بضاعة صحيح، ونقله عنه أبو بكر عبد العزيز في "الشافي"، كما قال ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 42)، والمزي في "تهذيب الكمال" (2/ ق 881). وصححه أيضًا يحيى بن معين وابن حزم، وحسّنه ابن القطان في "بيان الوهم والايهام" (ق 1/ 208)، وقال ابن أصبغ: أحسن شيء في بئر بضاعة. وقال العيني: إسناده صحيح وصححه النووي وابن الملقن. انظر: "التخيص الحبير" (1/ 12)، و"تحفة المحتاج" (1/ 137)، و"المجموع" (1/ 82)، و"المغني" (1/ 25)، و"خلاصة البدر المنير" (1/ 7)، و"البناية في شرح الهداية" (1/ 320)، و"إرواء الغليل" (1/ 45 - 46)، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية" (1/ 266)، و"تحفة الطالب" لابن كثير (رقم 146)، و"تنقيح التحقيق" (1/ 205 - 207)، و"البدر المنير" (2/ 51 - 61). (¬1) في هذا أحاديث منها: حديث أم عطية، رواه البخاري (324) في (الحيض): باب شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين، و (351) في (الصلاة): باب وجوب الصلاة في الثياب، و (971) في (العيدين): باب التكبير أيام منى، و (974) باب خروج النساء والحيض إلى المصلى، و (980) باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد، و (981) باب اعتزال الحيض المصلى، و (1652) في (الحج): باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا =

وظهره إلى القبلة ووجهه إليهم (¬1)، وأنه كان يزور قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا (¬2)، ¬

_ = الطواف بالبيت، ومسلم (890) في (صلاة العيدين): باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى. وحديث ابن عباس: رواه البخاري (863) في (الأذان): باب وضوء الصبيان، ومتى يجب عليهم، و (977) في (العيدين): باب العلم الذي في المصلى -وأطرافه كثيرة جدًا- تنظر رقم (98). وحديث أبي سعيد الخُدري: رواه البخاري (956) في (العيدين): باب الخروج إلى المصلى، ومسلم (889) في (العيدين). (¬1) أما خطبة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قائمًا: فقد رواه البخاري (920) في (الجمعة): باب الخطبة قائمًا، و (928) باب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة، ومسلم (861) في (الجمعة): باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة، من حديث ابن عمر. ورواه مسلم من حديث جابر بن سمرة (862). وأما أنه كان يخطب مستقبل الناس: فقد روى البخاري (1013) في (الاستسقاء): باب الاستسقاء في المسجد الجامع، ومسلم (897) في (الاستسقاء): باب الدعاء في الاستسقاء من حديث أنس قال: أن رجلًا دخل المسجد يوم جُمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائم يخطب، فاستقبل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قائمًا ثم قال: يا رسول اللَّه. . . ويفهم هذا أيضًا من حديث جابر الذي رواه البخاري (930 و 931 و 1166)، ومسلم (875) قال: بينا النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب يوم الجمعة إذ جاء رجل فقال له النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أصلّيت يا فلان؟ قال: لا، قال: قم فاركع. أقول: وقد ترجم البخاري في "صحيحه": (باب يستقبل الإمام القوم، واستقبال الناس الإمام إذا خطب) ثم ذكر حديث أبي سعيد أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جَلَسَ ذات يوم على المنبر وجلسنا حَوْله. قال الحافظ ابن حجر: ووجه الدلالة منه أن جلوسهم حوله لسماع كلامه يقتضي نظرهم إليه غالبًا. أقول: وما ذكرتُ كالصريح في استقبال الإمام للناس. ونقل الحافظ عن ابن المنذر قال: "لا أعلم في ذلك خلافًا بين العلماء"، وهو ليس في كتابه "الإجماع"، وإنما معناه في "الأوسط" (4/ 74). قال: وقال الترمذي: لا يصح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه شيء، قال الحافظ: أي صريحًا. أقول: أي: من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما فعله فواضح. (¬2) أما زيارته قباء راكبًا وماشيًا: فرواه البخاري (1191) في كتاب (فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة): باب مسجد قباء، و (1193) باب من أتى مسجد قباء كل سبت، و (1194) باب إتيان مسجد قباء ماشيًا وراكبًا، و (7326) في (الاعتصام): باب ذكر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وحض على اتفاق أهل العلم، ومسلم (1399) في (الحج): باب فضل مسجد قباء، من حديث ابن عمر.

[نقل التقرير]

وأنه كان يزورهم في دورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم (¬1) ونحو ذلك. [نقل التقرير] وأما نقل التقرير، فكنقلهم إقراره لهم على تلقيح النَّخل (¬2)، وعلى تجاراتهم التي كانوا يتّجرونها، وهي على ثلاثة أنواع: تجارة الضرب في الأرض، وتجارة الإدارة، وتجارة السّلم (¬3)، فلم يُنكر عليهم منها تجارة واحدة، وإنما أنكر (¬4) عليهم فيها الربا الصريح ووسائله المفضية إليه أو التوسل بتلك المتاجر إلى الحَرَام ¬

_ (¬1) وأما زيارته لأصحابه في دورهم فهذا ثابت في أحاديث منها: حديث أنس بن مالك: رواه البخاري (380) في (الصلاة): باب الصلاة على الحصير، و (727) في (الأذان): باب المرأة وحدها تكون صفًا، و (860) باب وضوء الصبيان،، و (871 و 874) باب صلاة النساء خلف الرجال، و (1164) في (التهجد): باب ما جاء في التطوّع مثنى مثنى، ومسلم (658) في (التهجد): باب ما جاء في التطوع مثنى مثنى. وحديث أنس أيضًا في زيارة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لأم أيمن: رواه مسلم (2454) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل أم أيمن. وحديث أم حرام: رواه البخاري (2799 و 2780)، ومسلم (1912). وأما عيادته لمرضاهم، ففي هذا أحاديث منها: حديث سعد: رواه البخاري (1295 و 2742 و 2744 و 3936 و 4459 و 5354 و 5659 و 5668 و 6373 و 6733)، ومسلم (1628). وحديث ابن عباس: رواه البخاري (3616 و 5622 و 5656 و 7470). وحديث ابن عمر: رواه البخاري (1354)، ومسلم (924). وأما تشييع الجنائز: منها حديث جابر بن سمرة: رواه مسلم (965) في (الجنائز): باب ركوب المصلي على الجنازة إذا انصرف. وحديث عبد الرحمن بن جوشن: رواه أحمد (5/ 36 و 38)، وأبو داود (3182 و 3183)، والنسائي (4/ 42 - 43)، والبيهقي (4/ 22)، وإسناده صحيح. وحديث ابن عمر: رواه أبو داود (3179)، والترمذي (1007 و 1008)، والنسائي (4/ 56)، وابن ماجه (1482)، وأحمد (2/ 8)، والدارقطني (2/ 70)، والبيهقي (4/ 23، 24). (¬2) ورد من حديث طلحة بن عبيد اللَّه: رواه مسلم (2361) في (الفضائل): باب وجوب امتثال ما قاله شرعًا. وحديث رافع بن خديج: رواه مسلم (2362)، ومن حديث عائشة وأنس رواه مسلم أيضًا (2363). (¬3) "أن تعطي ذهبًا أو فضة في سلعة معلومة إلى أمد معلوم، فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة" (و). (¬4) في المطبوع: "حرم".

كبيع السلاح لمن يقاتل به المسلم، وبيع العصير لمن يعصره خمرًا، وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال ونحو ذلك مما هو معاونة على الإثم والعدوان. وكإقرارهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرَّم عليهم فيها الغشّ والتوسّل بها إلى المحرمات، وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة (¬1)، وذكر أيام الجاهلية (¬2) والمسابقة على الأقدام (¬3)، وكإقرارهم على المناهدة (¬4) في السفر (¬5)، وكإقرارهم على الخُيلاء في الحرب (¬6)، ولبس ¬

_ (¬1) في هذا أحاديث منها حديث حسّان بن ثابت في إنشاده الشعر في مسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه البخاري (453) في (الصلاة): باب الشعر في المسجد، ومسلم (2485) في "فضائل الصحابة": باب فضائل حسان بن ثابت. وانظر مطلع كتابي "شعر خالف الشرع" يسر اللَّه إتمامه بخير وعافية. (¬2) من ذلك ما رواه مسلم (2322) في (الفضائل): باب تبسّمه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن سماك بن حرب قال: قلتُ لجابر بن سَمُرة: أكنت تُجالس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم، كثيرًا، كان لا يقوم من مصلّاه الذي يصلي فيه الصُّبح حتى تطلع الشمس، فإذا طَلَعت قام وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسَّم -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) قد يدلّ على هذا مسابقته هو نفسه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة أم المؤمنين في الحديث الذي رواه أحمد (6/ 39، 129، 182، 261، 264، 280)، وابن أبي شيبة (12/ 508 - 509)، والحميدي (261)، وأبو داود (2578) في (الجهاد): باب السبق على الرجل، وابن ماجه (1979) في (النكاح): باب حسن معاشرة النساء، والنسائي في "عشرة النساء" (56 و 57 و 58 و 59)، والطيالسي (1462)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (3454)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1880)، والطبراني (23/ رقم 124، 125)، والبيهقي (10/ 17 - 18 و 18)، وابن حبان (4691) من حديث عائشة قالت: سابقتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسبقته، فلما حملتُ اللحم سابقته فسَبَقني، فقال: "هذه بتلك"، وعند بعضهم أطول من هذا، وهو حديث صحيح. وانظر "الفروسية" (85 - بتحقيقي)، و"الإرواء" (5/ 327). (¬4) كذا في (ق) و (ك) وهو الصواب، وفي سائر الأصول والنسخ: "المهادنة"!! و (المناهدة): إخراج كل واحد من الرفقة نفقة على قدر نفقة صاحبه، انظر: "لسان العرب" (3/ 430 مادة نهد)، وكتابي "المروءة وخوارمها" (ص 154). (¬5) تدلل عليه نصوصًا عديدة، جمع البخاري في "صحيحه" أربعة منها ووضعها في (كتاب الشركة) وبوّب عليها (باب الشركة في الطعام والتهد والعروض)، منها (رقم 2486) عن أبي موسى الأشعري رفعه: "إنّ الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قلَّ طعامُ عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسّوية، فهم مني وأنا منهم"، ورواه أيضًا مسلم (2500) في "فضائل الصحابة": باب من فضائل الأشعريين -رضي اللَّه عنهم-، وانظر: "زاد المعاد" (2/ 77، 130 - 133، 143 و 2/ 44، 224). (¬6) روى ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام (3/ 11 - 12) - في قصة أبي دجانة =

الحرير فيه (¬1)، وإعلام الشجاع منهم بعينه بعلامة من ريشة أو غيرها. وكإقرارهم على لبس ما نَسَجه الكفار من الثياب (¬2)، وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم، وربما صار عليها صورة ملوكهم (¬3)، ولم يضرب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا خلفاؤه مدة حياتهم دينارًا ولا درهمًا، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. ¬

_ = سِمَاك بن خرشة في تبختره بين الصفين في غزوة أحد، قال ابن إسحاق فحدثني جعفر بن عبد اللَّه بن أسلم مولى عمر بن الخطاب عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنها مشية يبغضها اللَّه إلا في مثل هذا الموطن" ورواه البيهقي في "دلائل النبوة" (3/ 233 - 234) من طريق ابن إسحاق لكن سَمّى الرجل الذي من بني سلمة معاوية بن معبد بن كعب بن مالك. أقول: ومعاوية بن معبد هذا ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/ 378) وذكر أنه يروي عن جابر بن عبد اللَّه ونقل فيه قول ابن معين: لا أعرفه. قال ابن أبي حاتم: يعني لأنه مجهول، فهذا مرسل ضعيف. ثم وجدت له طريقًا آخر رواه الطبراني في "الكبير" (6508) من طريق خالد بن سليمان بن عبد اللَّه بن خالد بن سماك بن خرشة عن أبيه عن جده فذكره مثله. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 109): وفيه من لم أعرفه. أقول: وأظنه مرسلًا كذلك! كما هو ظاهر الإسناد. وروى الدارمي (2/ 149) وأحمد في "مسنده" (5/ 445 و 446) وأبو داود (2659) في الجهاد: باب في الخيلاء في الحرب، والنسائي (5/ 78) في الزكاة: باب الاختيال في الصدقة، وابن حبان (4762) وسعيد بن منصور في "سننه" (2548) والطبراني في "الكبير" (1772 - 1777) والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 308 و 9/ 156) وفي "الأسماء والصفات" (1053) وابن أبي عاصم في "الجهاد" (294) من طرق عن يحيى ابن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم عن ابن جابر بن عتيك عن جابر بن عتيك قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ". . . ومن الخيلاء ما يبغض اللَّه ومنها ما يُحب اللَّه فأما الخيلاء التي يحب اللَّه فاختيال الرجل بنفسه عند القتال واختياله عند الصدقة. . . " وإسناده ضعيف فإن لجابر وابنين وكلاهما مجهول، ومع هذا فقد صحح الحافظ ابن حجر إسناده في "الإصابة" في ترجمة جابر بن عتيك! (¬1) روى البخاري في "صحيحه" في مواطن منها (2920) في (الجهاد): باب الحرير في الحرب، ومسلم (2076 بعد 26) في (اللبالس والزينة): باب إباحة لبس الحرير للرجل إذا كان به حكة أو نحوها عن أنس "أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكوا إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-يعني القمل- فأرخص لهما في الحرير فرأيته عليهما في غزاة"، وانظر: "فتح الباري" (6/ 101). (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 153). (¬3) في المطبوع: "وربما كان عليها صور ملوكهم".

وكإقراره لهم بحضرته على المزاح المباح (¬1)، وعلى الشبع في الأكل (¬2)، وعلى النوم في المسجد (¬3)، وعلى شركة الأبدان (¬4)، وهذا كثير من أنواع السنن احتجّ به الصحابة وأئمّة الإسلام كلهم. وقد احتجّ به جابر في تقرير الربّ في زمن الوحي؛ كقوله: "كنا نعزلُ ¬

_ (¬1) وجدت في هذا قصة طويلة في سفر أبي بكر ومعه جماعة فيهم نُعيمان وسويبط وكان أحدهما رجلًا مزَّاحًا (وقد اختلف هل هو جماعة، فيهم نعيمان أو سويبط) وحصل معهما قصة طريفة فلما قدموا على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخبروه ضحك النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه منه حولًا. روى القصة أحمد في "مسنده" (6/ 316)، وابن ماجه (3719) في الأدب: باب المزاح -وأبو بكر بن أبي شيبة وأحمد بن منيع في "مسنديهما" كما في "مصباح الزجاجة" (2/ 250) - من طريق زمعة بن صالح عن الزهري عن عبد اللَّه بن وهب بن زمعة عن أم سلمة، قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف زمعة بن صالح وإن أخرج له مسلم فإنما أخرج له مقرونًا بغيره، وقد ضعّفه وأحمد وابن معين وأبو حاتم وأبو زرعة وأبو داود والنسائي، وقد ذكر القصة الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة سُويبط ساكتًا عليها. أقول: ومزاحه هو -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أصحابه مشهور ذكره المؤلف من قبل، وخرجنا الأحاديث هناك. (¬2) في هذا أحاديث كثيرة منها حديث أنس في أكل الصحابة في دار أبي طلحة بحضرة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رواه البخاري في مواطن منها (5381) في (الأطعمة): من أكل حتى شبع، ومسلم (2040) في (الأشربة): باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه، ومنها حديث أبي هريرة في خروج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وعمر من بيوتهم جوعى وفيه: "فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العِذْق وشربوا فلما أن شبعوا ورووا. . . " أخرجه مسلم (2038). (¬3) في هذا أحاديث، منها حديث عبد اللَّه بن عمر أنه كان ينام وهو شابٌّ أعْزَب لا أهل له في مسجد النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، رواه البخاري في "صحيحه" في مواطن كثير، انظر أطرافه عند رقم (440) في (الصلاة): باب نوم الرجال في المسجد. ومنها حديث سهل بن سعد في إتيان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عليًا -رضي اللَّه عنه- وهو راقد في المسجد، وقول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- له: "قم يا أبا تراب"، رواه البخاري أيضًا (441). (¬4) يدل على هذا حديث عبد اللَّه بن مسعود قال: اشتركت أنا وعمار وسعد فيما نُصيب يوم بدر، قال: فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشيء. أخرجه أبو داود (3388) في (البيوع): باب الشركة على غير رأس مال، والنسائي في "المجتبى" في (البيوع): باب الشركة بغير مال، وفي "الكبرى" (8659): باب الأسْر، وابن ماجه (2288) في (التجارات): باب الشركة والمضاربة، والبيهقي في "سننه الكبرى" (6/ 79) من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود عنه، وهذا إسناد فيه انقطاع، أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وذكره الحافظ في "التلخيص" (3/ 49) ساكتًا عليه!! وانظر: "الإرواء" (1474).

والقرآن ينزل، فلو كان شيء يُنهى عنه لنهى عنه القرآن" (¬1)، وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم، واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها، وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يَحْرم منها إلّا ما حَرَّمه اللَّه على لسان رسوله. الثاني: أنَّ علم الرب تعالى بما يفعلون (¬2) في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوًّا عنه استصحابًا، وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرًا لحكم الاستصحاب، ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزُّرُوع التي تُداس بالبقر، من غير أمر لهم بغسلها، وقد علم -صلى اللَّه عليه وسلم- أنها لا بدّ أن تبول وقت الدياس، ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأخثاء البقر وأبعار الغنم، وقد علم أن دُخانَها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم، ولم يأمرهم باجتناب ذلك، وهو دليل على أحد أمرين ولا بدّ: طهارة ذلك، أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس. ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتدَّ الحرُّ (¬3)، ولا يقال في ذلك: إنه ربما لم يعلمه، لأن اللَّه قد عَلِمه وأقرَّهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم، فتأمل هذا الموضع. ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرّض لكيفية وقوعها، وإنما أنكر منها ما لا مَسَاغ له في الإسلام حين الدخول فيه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5207 و 5208 و 5209) في (النكاح): باب العزل، ومسلم (1445) في (النكاح): باب حكم العزل. (¬2) في (ك): "يفعلونه". (¬3) في هذا حديث أنس بن مالك قال: كُنَّا نصلي مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فيضع أحدُنا طرف الثوب من شدة الحرِّ في مكان السجود، أخرجه البخاري (385) في (الصلاة): باب السجود على الثوب في شدة الحر، و (542) باب وقت الظهر عند الزول، و (1208) في العمل في الصلاة: باب بسط الثوب في الصلاة في السجود، ومسلم (620) في (المساجد): باب استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر. (¬4) وذلك مثل أمره -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن عنده أكثر من أربع نسوة أن يبقي أربعًا ويطلق سائرهن، ومثل من كان عنده أختان، أن يفارق إحداهما. . . وقد ذكر المؤلف ذلك في غير هذا الموطن وخرَّجناه مفصلًا في (3/ 168).

ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربًا أو غيره، ولم يأمر بردها، بل جعل لهم بالتوبة ما سلف من ذلك، ومنه تقرير الحبشة باللّعب في المسجد بالحِرَاب، وتقرير عائشة على النظر إليهم (¬1)، وهو كتقرير النساء على الخروج والمشي في الطرقات وحضور المساجد (¬2) وسماع الخطب التي كان يُنادى بالاجتماع لها (¬3)، وتقريره الرجال على استخدامهنَّ في الطَّحن والغسل والطبخ والعجن وعلف الفرس والقيام بمصالح البيت (¬4)، ولم يقل للرجال قط: لا يحل لكم ذلك إلا بمعاوضتهن أو استرضائهن حتى يتركن الأجرة، وتقريره لهم على الإنفاق عليهن بالمعروف من غير تقدير فرضٍ ولا حبٍّ ولا خبز، ولم يقل لهم: لا تبرأ ذممكم من الإنفاق الواجب إلا بمعاوضة الزوجات من ذلك على الحبِّ الواجب لهنّ مع فساد المعاوضة من وجوه عديدة، أو بإسقاط الزوجات حقهن من الحَبّ، بل إقرارهم (¬5) على ما كانوا يعتادون نفقته ¬

_ (¬1) لعب الحبشة في المسجد ونظر عائشة إليهم بحضرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثابت من حديث عائشة نفسها، أخرجه البخاري في (الصلاة) (454 و 455): باب أصحاب الحِرَاب في المسجد -وأطرافه هناك- ومسلم (892) (17) - (21) في (صلاة العيدين): باب الرخصة في اللعب. (¬2) أحاديث خروج النساء إلى المساجد كثيرة، منها حديث ابن عمر رواه البخاري (865) في (الأذان): باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغَلَس، و (873): باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، ومسلم (442) كتاب (الصلاة): باب خروج النساء إلى المساجد. وحديث أبي هريرة: "لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه وليخرجن تفلات" وقد تقدم تخريجه. (¬3) مثل خُطبة الجمعة، وفي هذا تقول أم هشام بنت حارثة بن النعمان -وهي أخت عمرة بنت عبد الرحمن لأمها-: ما حفظتُ (ق) إلّا من في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يخطب بها كل جمعة. وخطبة العيدين فقد روى ابن عباس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى يوم العيد ثم بعد خطبته أتى النساء فوعظهن وذكرهنّ أمرهن بالصدقة، وأخرج ذلك البخاري (977) في (العيدين): باب العَلَم الذي بالمصلى ومسلم (884) أول صلاة العيدين. (¬4) روى البخاري في "صحيحه" في مواطن منها (3113) في فرض الخمس: باب الدليل على أن الخمس لنوائب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (5361) في (النفقات): باب عمل المرأة في بيت زوجها، و (5362): باب خادم المرأة، ومسلم (2727) في (الذكر والدعاء): باب التسبيح أول النهار وعند النوم عن عليّ بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- أن فاطمة اشتكت ما تلقى من الرَّحَى في يدها و. . . وذكر أنها طلبت من النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خادمًا فعلّمها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ما تقول عند النوم، وقال: "فهو خيرٌ لكما من خادم"، وانظر ما قاله الحافظ ابن حجر في "الفتح" (5/ 506 و 507)، والسخاوي في "رجحان الكفة" (ص 112، 115) فإنه هام. (¬5) في المطبوع: "بل أقرهم".

قبل الإسلام وبعده، وقرّر وجوبه بالمعروف، وجعله نظير نفقة الرقيق في ذلك (¬1)، ومنه تقريرهم على التطوّع بين أذان المغرب والصلاة، وهو يراهم ولا ينهاهم (¬2). ومنه تقريرهم على بقاء الوضوء، وقد خفقت رؤوسهم من النوم في انتظار الصلاة ولم يأمرهم بإعادته (¬3)، وتطرق احتمال كونه لم يعلم ذلك مردود بعلم اللَّه به، وبأن القوم أجلّ وأعرف باللَّه ورسوله أن لا يخبروه (¬4) بذلك، وبأن خفاء مثل ذلك على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو يراهم ويشاهدهم خارجًا إلى الصلاة ممتنع (¬5). ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا (¬6). ¬

_ (¬1) انظر "الفتاوى الكبرى" (2/ 234 - 235)، وكتابي "من قصص الماضين" (ص 129). (¬2) روى مسلم في "صحيحه" (836) في (صلاة المسافرين): باب استحباب ركعتين قبل صلاة المغرب عن مُختار بن فُلفل عن أنس: ". . . وكنا نصلي على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقلت له: أكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّاهما؟ قال: كان يرانا نصلّيهما فلم يأمُرنا ولم يَنْهنا"، وانظر: "بدائع الفوائد" (4/ 114 - 115). (¬3) روى أبو داود في "سننه" (200) في (الطهارة): باب الوضوء من النوم -ومن طريقه البيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 119) -، والدارقطني (1/ 131) أو (رقم 468 - بتحقيقي) من طريق هشام الدسوائي عن قتادة عن أنس قال: كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلّون ولا يتوضؤون. قال الدارقطني: صحيح. وروى الدارقطني (1/ 130 - 131)، والبيهقي (1/ 120) من طريق ابن المبارك عن معمر عن قتادة عن أنس قال: "رأيت أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوقظون للصلاة حتى أني لأسمع لأحدهم غطيطًا ثم يقومون فيصلّون ولا يتوضئون"، قال ابن المبارك: هذا عندنا وهم جلوس، وصححه الدارقطني، وحديث قتادة عن أنس هذا في "صحيح مسلم" (376) في (الحيض): باب الدليل على أن نوم الجالس لا ينقض الوضوء، ولفظه: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينامون ثم يصلون ولا يتوضأون"، وفي "صحيح البخاري" (642) و (643) و (6292)، و"صحيح مسلم" (376) من طريق عبد العزيز بن صهيب عن أنس قال: أقيمت الصلاة ورجلٌ يناجي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فما زال يناجيه حتى نام أصحابه، ثم قال: فصلّى. وفي لفظ مسلم: فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه، ثم جاء فصلّى بهم. وانظر للفائدة: "صحيح ابن حبان" (3/ 379 و 380)، و"نصب الراية" (1/ 46 - 47)، و"التلخيص الحبير" (1/ 116)، و"فتح الباري" (1/ 314 - 315). في (ق): "ولم يأمرهم بإعادة الوضوء". (¬4) في (ن): "أن لا يخبره". (¬5) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 89). (¬6) أخرج ابن أبي شيبة (1/ 146) عن وكيع، وابن أبي شيبة (1/ 340) وسعيد بن منصور (646) و (647) عن عبد العزيز بن محمد، كلاهما عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار قال: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدخلون المسجد ويخرجون منه، ولا يصلون فيه، ورأيت ابن عمر يفعله" لفظ عبد العزيز. وله لفظ آخر: "رأيت رجالًا من أصحاب رسول اللَّه =

ومنه تقريرهم على مبايعة عميانهم على مبايعتهم وشرائهم بأنفسهم من غير نهي لهم عن ذلك يومًا ما، وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير (¬1). ومنه تقريرهم على قبول الهدية التي يخبرهم بها الصبي والعبد والأمة (¬2)، وتقريرهم على الدخول بالمرأة التي يخبرهم بها النساء أنها امرأته، بل الاكتفاء بمجرد الإهداء من غير إخبار. ومنه تقريرهم على قول الشعر وإن تغزَّل أحدهم فيه بمحبوبته، وإن قال فيه ما لو أقر به في غيره لأخذ به كتغزل كعب بن زهير بسعاد (¬3)، وتغزّل حسان في شعره، وقوله فيه: ¬

_ = يجلسون في المسجد وهم مجنبون، إذا توضئوا وضوء الصلاة". ولفظ وكيع عن هشام عن زيد (دون ذكر عطاء) قال: كان الرجل منهم يجنب، ثم يدخل المسجد، فيحدث فيه، وإسناده حسن. وانظر: "تهذيب السنن" (1/ 157 - 158)، و"طريق الهجرتين" (ص 379). (¬1) بيع العميان من زمن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الوقت الحاضر لم يمنعوا من بياعاتهم ولم ينكر عليهم أحد، قاله الكاساني في "بدائع الصنائع" (5/ 164). قلت: وجوز النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لحبان بن منقذ البيع والشراء، وقال له: "إذا بايعت فقل لا خلابة"، وكان ضريرًا. وأدلّة المانعين لا تنهض وليست في المسألة، انظرها ومناقشتها في كتاب أستاذنا ياسين دراركة -حفظه اللَّه-: "نظرية الغرر في الشريعة الإسلامية" (1/ 373 - 381)، "الإشراف" (2/ 497 مسألة 815) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 363)، و"بدائع الفوائد" (1/ 6 و 3/ 145 - 146). (¬3) روى قصته ابن إسحاق -كما في "سيرة ابن هشام" (4/ 157) - قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة فذكر قصة كعب بن زهير، وتغزله بسعاد في بداية القصيدة، وعاصم بن عمر هذا مات بعد المئة والعشرين وهو من الثقات، فالقصة مرسلة. ورواه من طريق ابن إسحاق الحاكم في "المستدرك" (3/ 584). وللقصة إسناد آخر وفيها تغزل كعب، أخرجها ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2706)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 579) ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوّة" (5/ 207 - 211) وابن ديزيل في "جزئه" (ص 53)، وثعلب في "مجالسه" (2/ 340)، وأبو الفرج في "الأغاني" (15/ 142)، وابن خير الإشبيلي في "الفهرست" (400 - 401) من طريق إبراهيم بن المنذر الحزاميّ نا حجاج بن ذي الرُّقيبة بن عبد الرحمن بن كعب بن زهير بن أبي سُلمى عن أبيه عن جده، وصححه الحاكم في (3/ 583) ووافقه الذهبي وذكر القصة بهذا الإسناد الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة كعب وقال: "ووقعت لنا بعلو في جزء إبراهيم بن ديزيل الكبير"، وسكت على الإسناد! مع أن الحجاج وأباه وجده لا ترجمة لهم!! وروى القصة أيضًا الحاكم في "المستدرك" (3/ 582) ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوّة" (5/ 211) من طريق موسى بن عقبة في "مغازيه" لكن دون إسناد من موسى إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-! =

كأن سبيئة (¬1) من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء ثم ذكر وصف الشراب، إلى أن قال: ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدًا لا ينهنهنا اللقاء (¬2) فأقرّهم على قول ذلك وسماعه، لعلمه ببرِّ قلوبهم ونزاهتهم وبعدهم عن كل دَنَسٍ وعيب، وأن هذا إذا وقع [مقدمة] (¬3) بين يدي ما يحبه اللَّه ورسوله من مدح الإسلام وأهله وذم الشرك وأهله والتحريض على الجهاد والكرم والشجاعة فمفسدته مغمورة جدًا في جنب هذه المصلحة، مع ما فيه من مصلحة هزّ النفوس واستمالة إصغائها وإقبالها على المقصود بعده، وعلى هذا جرت عادة الشعراء بالتغزّل بين يدي الأغراض التي يريدونها بالقصيد. ومنه تقريرهم على رفع الصوت بالذكر بعد السلام، بحيث كان مَنْ هو خارج المسجد يعرف انقضاء الصلاة بذلك، ولا ينكره عليهم (¬4). ¬

_ = وروى أولها فقط الحاكم (3/ 582) من طريق محمد بن عبد الرحمن الأوقص عن ابن جدعان. وابن جدعان هو علي بن زيد ضعيف، ثم بينه وبين النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مفاوز. ولعل القصة بهذه الطرق يكون لها أصل، واللَّه أعلم. وانظر "القول المستجاد في بيان صحة قصيدة بانت سعاد" للعلامة إسماعيل الأنصاري رحمه اللَّه، و"توثيق قصيدة بانت سعاد في المتن والإسناد" للدكتور سعود الفنيان. (¬1) في المطبوع "خبيئة"، وفي (ق): "سبية". (¬2) ذكر هذه الأبيات ابن إسحاق -كما في سيرة ابن هشام (4/ 43) - وأن حَسَّانًا قالها بعد فتح مكة- دون إسناد. أما المؤلف -رحمه اللَّه- فقد ذكر في "زاد المعاد" (3/ 416 طبعة مؤسسة الرسالة) إن حسانًا قالها بعد عمرة الحديبية، وعلى الحالتين كان ذلك قبل تحريم الخمر، راجع: "أفعال الرسول" للأشقر (2/ 114 - 115) وقارن بـ "نظم الدرر" للبقاعي (14/ 119 - 120)، وانظر: "ديوان حسان بن ثابت" (ص 56 - 57) بشرح البرقوقي، وفيه: "ما ينهنهنا"، وفي المطبوع: "كان خبيئة"، والتصويب من "الديوان" و (ن). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) روى البخاري (841) في الأذان: باب الذكر بعد الصلاة ومسلم (583) (122) في المساجد: باب الذكر بعد الصلاة عن ابن عباس: "أن رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ابنُ عباس: كنت أعلمُ إذا انصرفوا لذلك إذا سمعتُهُ. ومن الوجه نفسه؛ رواه البخاري (482) ومسلم (583) (120) و (121) ولفظه: كنا نعرف انقضاء صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتكبير. وانظر لبيان معنى الحديث: "فتح الباري" (2/ 225 - 326).

فصل

فصل (¬1) وأما نقلهم لتركه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو نوعان، وكلاهما سنة: أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم ولم يُصل عليهم" (¬2)، وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذانٌ ولا إقامة ولا نداء" (¬3)، وقوله في جمعه بين الصلاتين: "ولم يُسبِّح بينهما ولا على إثر واحدة منهما" (¬4)، ونظائره. والثاني: عدم نَقْلهم لِما لو فَعَله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبَتة ولا حدَّث به في مجمع أبدًا علم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفّط بالنية (¬5) عند دخوله في الصلاة (¬6)، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمّنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات (¬7)، وتركه وفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية، وقوله: "اللهمّ اهدنا فيمن هديت"، يجهر بها ويقول المأمومون (¬8) كلهم: "آمين" (¬9)، ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغيرٌ ولا كبيرٌ ولا رجلٌ ولا امرأةٌ ألبتَّة، وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخلّ به يومًا واحدًا، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة، ولرمي الجمار، ولطواف ¬

_ (¬1) ما تحته تأصيل وتقعيد في الرد على رسالة الغماري: "حسن التفهم والدرك لمسألة الترك". (¬2) رواه البخاري (1343) في (الجنائز): باب الصلاة على الشهيد، و (1346) باب من لم ير غسل الشهداء، و (1347) باب من يقدم في اللحد، و (1353) باب اللحد والشق في القبر، و (4079) في (المغازي): باب من قتل من المسلمين يوم أحد، من حديث جابر. (¬3) رواه البخاري (960) في (العيدين): باب المشي والركوب إلى العيد بغير أذان ولا إقامة، ومسلم (886) في (العيدين)، من حديث ابن عباس، ورواية مسلم أتم. (¬4) هو بهذا اللفظ الصريح: رواه البخاري (1673) في (الحج): باب من جمع بينهما ولم يتطوع. وانظر أطراف الحديث في "صحيح البخاري" (1091). (¬5) في (ن): "اللفظ بالنية". (¬6) انظر: "زاد المعاد" (1/ 15)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 136 - 139)، و"تحفة المودود" (ص 93)، وكتابي: "القول المبين في أخطاء المصلين" (225). (¬7) انظر: "زاد المعاد" (1/ 66)، وكتابي "القول المبين في أخطاء المصلين" (298). (¬8) في المطبوع: "المأمون"، ولعل الصواب ما أثبته. (¬9) انظر مبحث القنوت مطولًا في: "كتاب الصلاة" (127 - 129)، و"زاد المعاد" (1/ 69 - 73) للمؤلف رحمه اللَّه، وكتابي "القول المبين" (126 - 132).

فصل [نقل الأعيان]

الزيارة، ولصلاة الاستسقاء والكسوف، وعن هاهنا (¬1) يُعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنّة، فإن تَرْكه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة كما أن فِعْله سنة، فإذا أستحببنا قعل ما تَرَكه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق. فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدًا عن معرفة هديه وسنّته، وما كان عليه، ولو صح هذا السؤال وقُبِل لاستحبَّ لنا مستحبٌّ الأذانَ للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا مستحب آخر الغُسْلَ لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة: يرحمكمُ اللَّه، ورفع بها صوته، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحتا لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب، وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر اسم اللَّه واسم رسوله جماعة وفُرادى، وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ واستحبّ لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب، وقال: من أين لكم أنّ إحياءَهما لم ينقل؟ وانفتح باب البدعة، وقال: كلُّ من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة، فلا يطالبهم بزكاة، ولا هم يؤدّونها إليه (¬2). فصل [نقل الأعيان] وأما نقل الأعيان وتعيين الأماكن فكنقلهم الصَّاع والمدّ وتعيين موضع المنبر، وموقفه للصلاة والقبر والحجرة ومسجد قباء وتعيين الروضة والبقيع والمصلى ونحو ذلك، ونقل هذا جارٍ مجرى نقل مواضع المناسك كالصَّفا والمروة ومنًى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة ومواضع الإحرام كذي الحُلَيْفة والجُحْفة وغيرهما. فصل [نقل العمل المستمر] وأما نقل العمل المستمر فكنقل الوقوف والمزارعة، والأذان على المكان ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "هنا". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (1/ 149)، و"تهذيب السنن" (2/ 192) كلاهما للمصنف، وانظر مسألة الزكاة في الخضروات في "الإشراف" (2/ 154 مسألة 473) للقاضي عبد الوهاب المالكي، وتعليقي عليه.

فصل [العمل الذي طريقه الاجتهاد]

المرتفع (¬1)، والأذان للصبح قبل الفجر، وتثنيه الأذان وإفراد الإقامة، والخطبة بالقرآن وبالسنن دون الخطبة الصناعية وبالتسجيع والترجيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا النقل وهذا العمل حجة يجب اتّباعها، وسنّة متلقاة بالقبول على الرأس والعينين، وإذا ظفر العالم بذلك قَرَّت به عينُه، واطمأنت إليه نفسُه. فصل [العمل الذي طريقه الاجتهاد] وأما العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال فهو معترك النزال ومحل الجدال، قال القاضي عبد الوهاب (¬2): وقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس بحجة أصلًا، وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل، ولا يُرجَّح به أيضًا أحد الاجتهادين على الآخر، وهذا قول أبي بكر (¬3)، وأبي يعقوب الرازي، والقاضي أبي بكر بن منتاب (¬4)، والطيالسي والقاضي أبي الفرج والشيخ أبي بكر الأبهري (¬5)، وأنكروا أن يكون هذا مذهبًا لمالك أو لأحد من معتمدي أصحابه. والوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة فإنه يُرجَّح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم، وبه قال بعض الشافعية (¬6). والثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجّة وإن لم يحرم خلافه، ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 74 - 75). (¬2) في كتابه "أصول الفقه"، كما صرّح به ابن تيمية في "صحة أصول أهل المدينة" (33)، ونقل القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 47 وما بعد) والزركشي في "البحر المحيط" (4/ 485) والقرافي "نفائس الأصول" جلَّ هذا النقل عنه، وانظر: "عمل أهل المدينة" (ص 88 وما بعد). (¬3) هو أبو بكر القاضي، محمد بن الطبب الباقلاني (المتوفى 403 هـ) الملقّب بشيخ السنة، من رؤساء المذهب المالكي، له مصنفات كثيرة، ترجمته في "الديباج" (267)، و"شذرات الذهب" (3/ 168) ثم وجدته في "ترتيب المدارك" (1/ 50): "ابن بُكير" وهو الصواب واللَّه أعلم. (¬4) كذا في المطبوع، وهو الصواب وفي (ن): "ابن مساب". (¬5) وهذا الذي صححه الباجي في "إحكام الفصول" (482). (¬6) في المطبوع: "بعض أصحاب الشافعي" وقال القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 51): "ولم يرتضه القاضي أبو بكر [الباقلاني]، ولا محققوا أئمتنا ولا غيرهم".

[حال خبر الآحاد]

كإجماعهم من طريق النقل، وهذا مذهب قوم من أصحابنا، وهو الذي [يدل] عليه كلام أحمد بن المعذّل وابن بكير (¬1) وغيرهما، وذكر الشيخ أن في "رسالة مالك إلى الليث بن سعد" ما يدلّ عليه، وقد ذكر أبو مصعب (¬2) في "مختصره" مثل [ذلك] (¬3)، والذي صرّح به القاضي أبو الحسن بن أبي عمر (¬4) في "مسألته التي صنّفها على أبي بكر الصيرفي"، نقضًا لكلامه على أصحابنا في إجماع أهل المدينة، وإلى هذا يذهب جل أصحابنا المغاربة أو جميعهم. [حال خبر الآحاد] فأمّا حال الأخبار من طريق الآحاد فلا تخلو من ثلاثة أمور: * إما أن يكون صحبها عمل أهل المدينة مطابقًا لها. * أو أن يكون عملهم بخلافها. * أو أن لا يكون منهم عمل أصلًا لا بخلاف ولا بوفاق. فإن كان عملهم موافقًا لها كان ذلك آكد في صحتها (¬5) ووجوب العمل بها، إذا كان العمل من طريق النقل، وإن كان من طريق الاجتهاد كان (¬6) مرجحًا للخبر على ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان عملهم بخلافه نُظر، فإن كان العمل المذكور على الصفة [المذكورة] (¬7) التي ذكرناها فإن الخبر يُترك للعمل عندنا، لا خلاف بين أصحابنا في ذلك، وهذا أكبر الغرض بالكلام في هذه المسألة، وهذا كما نقوله في الصاع والمد وزكاة الخضراوات وغير ذلك. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وأبي بكر"، والمثبت من النسخ الخطية. و"نفائس الأصول" وعند القاضي عياض: "وعليه يدل كلام أحمد بن المعذل وأبي مصعب وإليه ذهب أبو الحسن بن أبي عمر من البغداديين وجماعة من المغاربة من أصحابنا". (¬2) هو أحمد بن أبي بكر الزهري (المتوفى 242 هـ)، له كتاب "مختصر في قول مالك"، مشهور، فقيه أهل المدينة من غير مدافع، روى عنه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" ترجمته في "ترتيب المدارك" (4/ 347). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) هو علي بن ميسرة القاضي، ولي قضاء إنطاكية، له كتاب في "إجماع أهل المدينة" من طبقة الأبهري من العراقيين، ترجمته في "الديباج المذهب" (197)، ووقعت كنيته في النسخ المطبوعة من "الإعلام" و (ك): "أبو الحسين"!! (¬5) في (ق): "تصحيحها". (¬6) في (ن): "وكان". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.

[تقديم عمل أهل المدينة المتصل على خبر الآحاد]

وإن كان العمل منهم اجتهادًا، فالخبر أولى منه عند جمهور أصحابنا، إلّا من قال منهم: إن الإجماع من طريق الاجتهاد حجة. وإن لم يكن في المدينة (¬1) عمل يوافق موجب الخبر أو يخالفه، فالواجب المصير إلى الخبر، فإنه دليل منفرد عن مُسْقِط أو معارض. [تقديم عمل أهل المدينة المتصل على خبر الآحاد] وهذا (¬2) جملة قول أصحابنا في هذه المسألة، وقد تضمّن ما حكاه أن عملهم الجاري مجرى النقل حجة، فإذا أجمعوا عليه فهو مقدَّم على غيره من أخبار الآحاد، وعلى هذا الحرف بَنَى المسألة وقرَّرها، وقال: والذي يدل على ما قلناه أنهم إذا أجمعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا، فإن ذلك الأمر معلوم بالنقل المتواتر الذي يحصل به العلم، [وينقطع العذر فيه، ويجب ترك أخبار الآحاد له؛ لأن المدينة بلدة جمعت من الصحابة مَنْ يقع العلم] (¬3) بخبرهم فيما أجمعوا على نقله، فما هذا سبيله إذا ورد خبرُ واحدٍ بخلافه كان حجّة على ذلك الخبر وتُرك له، كما لو روي لنا خبر واحد فيما تواتر به نقل جميع الأمة لوجب ترك الخبر للنقل المتواتر من جميعهم، فيقال: من المحال عادةً أن يُجمعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا من عندهم إلى زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته، هذا من أبْيَن الباطل، وإن وقع ذلك فيما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تُضْمن لاجتهادهم، فلم يجمعوا من طريق النقل ولا العمل المستمر على هذه الشريطة على بطلان خِيَار المجلس، ولا على التسليمة الواحدة، ولا على القنوت في الفجر قبل الركوع، ولا على ترك الرفع عند الركوع والرفع منه، ولا على ترك السجود في المُفصَّل، ولا على ترك الاستفتاح والاستعاذة قبل الفاتحة، ونظائر ذلك، كيف وقدماؤهم الذين نقلوا العلم الصحيح الثابت الذي كأنه رأي عين عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه بخلاف ذلك؟ فكيف يقال: إن تركه عمل مستمر من عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الآن؟ هذا من المحال، بل نقلهم الصاع والمد والوقوف والأخاير (¬4) وترك زكاة الخضراوات ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بالمدينة". (¬2) في (ق) و (ك): "هذا" دون واو في أوله. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ق) بالحاء المهملة، وفي المطبوع بالخاء المعجمة، وهو الصواب.

[العمل في المدينة بعد انقراض عصر الصحابة]

حق، ولم يأت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة تخالفه ألبتّة، ولهذا رجع أبو يوسف إلى ذلك كلّه بحضرة الرشيد لمّا ناظره مالك (¬1) وتبيّن له الحق، فلا يلحق بهذا عملهم من طريق الاجتهاد، ويُجعل ذلك نقلًا متصلًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتُترك له السنن الثابتة، فهذا لون [وذلك] (¬2) لون، وبهذا التمييز والتفصيل يزول الاشتباه ويظهر الصواب. [العمل في المدينة بعد انقراض عصر الصحابة] ومن المعلوم أن العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة كان بحسب مَنْ فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق، ولم تكن الرعية تُخالف هؤلاء، فإذا أفتى المفتون نفَّذه الوالي، وعمل به المُحتسب، وصار عملًا، فهذا هو الذي لا يُلتفت إليه في مخالفة السنن، لا عمل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه والصحابة فذاك هو السنة، فلا يُخلط أحدهما بالآخر، فنحن لهذا العمل أشدُّ تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشدُّ تركًا، وباللَّه التوفيق. وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يفتي وسليمان بن بلال المحتسب ينفِّذ فتواه فتعمل الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا، كما يطّرد العمل في بلد أو إقليم ليس فيه إلّا قول مالك على قوله وفتواه، ولا يجوِّزون العمل هناك بقول غيره من أئمّة الإسلام، فلو عمل به أحد لاشتدّ نكيرهم عليه، وكذلك [كل] (¬3) بلد أو إقليم لم يظهر فيه إلّا مذهب أبي حنيفة، فإن العمل المستمر عندهم على قوله، وكل طائفة اطرد عندهم عمل [من] (¬4) وصل إليهم قوله ومذهبه ولم يألفوا غيره. ولا فرق في هذا العمل بين بلد وبلد، والعمل الصحيح ما وافق (¬5) السنة. [تغير عمل أهل المدينة من عصر إلى عصر] وإذا أردت وضوح ذلك فانظر العمل في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في جهره بالاستفتاح في الفرض في مصلَّى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعمل الصحابة به (¬6)، ثم العمل في زمن مالك بوصل التكبير بالقراءة من غير ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في "حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي" (ص 29). (¬2) في (ق) و (ك): "وذاك". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ن) و (ك): "ما وافقته". (¬6) رواه مسلم في "صحيحه" (399) (52) في "الصلاة": باب حجة من قال: لا يجهر =

استفتاحٍ ولا تعوّذ (¬1). وانظر العمل في زمن الصحابة كعبد اللَّه بن عمر في [اعتبار] (¬2) خيار المجلس ومفارقته لمكان التبايع ليلزم العقد (¬3) ولا يخالفه في ذلك صحابي، ثم العمل به في زمن التابعين، وإمامُهم وعالمهم سعيد بن المسيب يُفتي به ويعمل به ولا ينكره عليه مُنكر، ثم صار العمل في زمن ربيعة وسليمان بن بلال بخلاف ذلك. ¬

_ = بالبسملة من طريق الوليد بن مسلم: حدّثنا الأوزاعي عن عبدة أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهمّ وبحمدك. وعبدة هو ابن أبي لبابة، قال أبو حاتم: رأى ابن عمر رؤية، وقال العلائي (ص 231): أخرج له مسلم عن عمر والظاهر أنه مرسل إذا كان لم يدرك ابن عمر وأم سلمة. أقول: ورواية مسلم هذه في الشواهد، وانظر: "تذكرة المحتاج" (ص 45 - 46) لابن الملقن، و"شرح النووي على مسلم" (4/ 111 - 112)، و"غرر الفوائد المجموعة" (2/ 778 - ملحق بآخر كتابي "الإمام مسلم ومنهجه في الصحيح")، و"التلخيص الحبير" (1/ 229). وروى الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 111) من طريق الحكم عن عمرو بن ميمون، قال: صلّى بنا عمر -رضي اللَّه عنه- بذي الحليفة فقال: اللَّه أكبر سبحانك اللَّهمّ وبحمدك. . . ورجاله ثقات. وله طريق آخر، خرجته في "الطهور" (رقم 96) لأبي عبيد القاسم بن سلام. وفي "مصنف عبد الرزاق" (2/ 75) روايات عن عمر في دعاء الاستفتاح، لكن ليس فيها أنه كان يجهر بها. وانظر حول دعاء الاستفتاح، وترجيح ابن القيم القول بسنيته: "زاد المعاد" (1/ 52)، و"الإشراف" (1/ 251 مسألة 172) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. (¬1) "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 132)، و"التلقين" (1/ 103)، و"الذخيرة" (2/ 187)، "المدونة" (1/ 161)، "المعونة" (1/ 216)، "بداية المجتهد" (1/ 96)، "قوانين الأحكام" (ص 75)، "جامع الأمهات" (ص 94)، "الإشراف" (1/ 251 مسألة 172 - بتحقيقي). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) رواه البخاري (2107) في (البيوع): باب كم يجوز الخيار؟ وعلَّقه في (2116) باب إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته قبل أن يتفرّقا، ولم ينكر البائع على المشتري، وهذا وصله أبو نعيم والإسماعيلي -كما في "الفتح" (4/ 336) -، ومسلم (1531) في (المساقاة): باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين. وانظر: "فتح الباري" (4/ 328)، و"الموافقات" (1/ 425 - بتحقيقي)، و"الإشراف" (2/ 436 مسألة 758 - بتحقيقي).

وانظر إلى العمل في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة خَلْفه وهم يرفعون أيديهم في الصلاة في الركوع والرفع منه (¬1)، ثم العمل في زمن الصحابة بعده حتى كان عبد اللَّه بن عمر إذا رأى من لا يرفع يديه حَصَبه (¬2)، وهو عمل كأنه (¬3) رأي عَيْن، وجمهور التابعين يعمل به في المدينة (¬4) وغيرها من الأمصار كما حكاه البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما [عنهم] (¬5)، ثم صار العمل بخلافه. وانظر إلى العمل الذي كأنه رأي عين من صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ابني بَيْضاء: سُهيل وأخيه في المسجد والصحابة معه (¬6)، وصلَّت عائشة على سعد بن ¬

_ (¬1) تقدم تفصيل لهذا الإجمال وتخريجه هناك، وذكر في "زاد المعاد" (1/ 218 - 219 - ط. مؤسسة الرسالة) أنه ورد الرفع عن ثلاثين نفسًا. (¬2) رواه البخاري في "جزء رفع اليدين" (15) عن الحميدي -وهو في "مسنده" (رقم 615 - ط. الأعظمي، ورقم 627 - ط. حسين أسد) - والدارقطني (1/ 289)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 218)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (ص 433)، وابن الجوزي في "مناقب الإمام أحمد" (ص 83) جميعهم من طريق الوليد بن مسلم: سمعت زيد بن واقد يحدث عن نافع به، وإسناد صحيح، وصرّح الوليد بالتحديث. لكنه قال: رماه بالحصى. وباللفظ الذي ذكره المؤلف عزاه الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 220) "للمسند" -ولم أجده فيه- ولم يذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 101 - 103)، ولا ابن حجر نفسه في "أطراف المسند" واقتصر في "إتحاف المهرة" (9/ 90) في عزوه على الدارقطني، وأهمل أحمد، وقد ذكره الحافظ أيضًا في "الفتح" (2/ 220)، وعزاه للبخاري في "جزئه" فقط، وهو في "مسائل عبد اللَّه لأبيه" (ص 70 - ط. المكتب الإسلامي). وعزاه ابن عبد البر في "التمهيد" (5/ 65) لأبي بكر الأثرم عن أحمد، وانظر: "تنقيح التحقيق" (1/ 769). (¬3) في المطبوع: "كان". (¬4) في المطبوع: "بالمدينة". (¬5) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 89 - 90 و 4/ 91)، و"زاد المعاد" (1/ 52، 55، 62 - 63)، و"تهذيب السنن" (1/ 368 - 369)، جميعها للمصنف. وانظر: "جزء رفع اليدين" للبخاري (ص 154 وما بعد)، و"المحلى" (4/ 79 - 80)، و"الاستذكار" (2/ 126 - ط. المصرية القديمة)، و"إيضاح أقوى المذهبين في مسألة رفع اليدين" لأبي حفص عمر بن عيسى الباريني (ت 764 هـ)، نشر دار البخاري، المدينة النبوية. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) رواه مسلم (973) (101) من حديث عائشة، قالت: واللَّه ما صلّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ابني بيضاء إلّا في المسجد: سُهيل وأخيه. ورواه (973) (99) و (105) قالت: "ما صلّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على سُهيل بن بيضاء. . . " فقط.

أبي وقاص في المسجد (¬1). وصُلِّي على (¬2) عمر بن الخطاب في المسجد، ذكره مالك عن نافع عن عبد اللَّه (¬3)، قال الشافعي: ولا نرى أحدًا من الصحابة حضر موته فتخلَّف عن جنازته، فهذا عمل مجمع عليه عندكم، قاله لبعض المالكية، وروى هشام عن أبيه أنَّ أبا بكر صُلِّي عليه في المسجد (¬4)، فهذا العمل حق (¬5)، ولو تركت السنن للعمل لتعطَّلت سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودرست رسومها وعَفَت آثارها، وكم من عمل قد اطّرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن، وكل وقت تُترك سنة ويُعمل بخلافها ويستمر عليها العمل فتجده (¬6) يسيرًا من السنة معمولًا به على نوع تقصير. ¬

_ (¬1) هو في الحديث السابق، لكن هي أمرت أن يدخل إلى المسجد، فيُصلّى عليه. وجزم الحافظ ابن حجر في "الإصابة" أنه صُلّي عليه في المسجد. (¬2) في (ق): "وصلى علي على عمر". (¬3) رواه مالك (1/ 230)، ومن طريقه ابن أبي شيبة (3/ 242)، وعبد الرزاق (6577) عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: صُلّي على عمر في المسجد، وإسناده صحيح غاية. وانظر الهامش الآتي. وله إسناد آخر: رواه ابن أبي شيبة (3/ 243)، وفيه مجاهيل. (¬4) رواه عبد الرزاق (6576) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (5/ 162) - وابن أبي شيبة (3/ 242)، وابن سعد (3/ 206، 207)، وأبو بكر الدينوري في "المجالسة" (رقم 2179 - بتحقيقي) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه -وفي رواية عند ابن سعد: عن أبيه أو غيره، شك وكيع- قال: ما صُلّي على أبي بكر إلّا في المسجد، وهذا إسناد منقطع عروة لم يدرك أبا بكر، ولد في خلافة عثمان. ورواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 185 - 186 رقم 120) عن ابن أبي عمر عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن مولى لهم قال: "صُلِّي على أبي بكر -رضي اللَّه عنه- في المسجد". وأخرج ابن سعد (3/ 206) عن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب أن أبا بكر وعمر صلِّي عليهما في المسجد تجاه المنبر. وأخرج ابن سعد (3/ 207)، والبلاذري في "أنساب الأشراف" (ص 80 - أخبار الشيخين) عن ابن جريج عن بعض ولد سعد: أن عمر حين صلّى على أبي بكر في المسجد ربَّع. وذكره الحافظ في "الفتح" (3/ 199) ساكتًا عنه. (¬5) انظر: "زاد المعاد" (1/ 140 و 3/ 47)، و"تهذيب السنن" (4/ 325)، و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 93 - 94 مسألة رقم 417) وتعليقي عليه. (¬6) في (ق): "فخذ".

[تعطيل السنن بتركها]

[تعطيل السنن بتركها] وخذ بلا حسبان (¬1) ما شاء اللَّه من سنن قد أهملت وعُطِّل العمل بها جملة، فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس: تركت السنة، فقد تقرّر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل ألبتّة، وإنما يقع من طريق الاجتهاد، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودًا، وكل عمل طريقه النقل فإنه لا يخالف سنة صحيحة ألبتّة. فلنرجع إلى الأمثلة التي تُرك فيها المحكم للمتشابه، فنقول: [الجهر بآمين] المثال السابع والخمسون: ترك السنة المحكمة الصحيحة في الجهر بآمين في الصلاة (¬2)؛ كقوله في "الصحيحين": "إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا فإنه مَنْ وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفر له [ما تقدَّم من ذنبه"] (¬3)، ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمّن معه ويوافقه في التأمين، وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن حُجْر بن عَنْبَس، عن وائل بن حُجْر قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قال: ولا الضالين، قال: آمين، ورفع بها صوته"، وفي لفظ: "وطوَّل بها" (¬4)، رواه الترمذي وغيره، وإسناده صحيح. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بلا حساب". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (1/ 52)، و"بدائع الفوائد" (3/ 52)، و"تهذيب السنن" (1/ 438 - 439). (¬3) رواه البخاري (780) في (الأذان) باب جهر الإمام بالتأمين، و (6402) في (الدعوات): باب التأمين، ومسلم (410) في (الصلاة): باب التسميع والتحميد والتأمين، من حديث أبي هريرة. وله لفظ آخر عن أبي هريرة أيضًا: "إذا قال الإمام: "غير المغضوب عليهم ولا الضالين" فقولوا: آمين، فإنه من وافق. . . ". رواه البخاري (782 و 4475)، ومسلم (410) (76). وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) رواية سفيان عن سلمة به: أخرجها ابن أبي شيبة (2/ 425)، وأحمد (4/ 316 و 317)، وأبو داود (932) في (الصلاة): باب التأمين وراء الإمام، والترمذي (248) في (الصلاة): باب ما جاء في التأمين، والدارمي (1/ 284)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 111)، والدارقطني (1/ 334)، والبيهقي (2/ 57)، والبغوي (586). =

وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث، فقال: "وخفض بها صوته"، وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان، فقال الترمذي (¬1): "سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كُهَيْل في هذا الباب أصح من حديث شعبة، أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع، فقال: "عن حُجْر أبي العَنْبَس"، وإنما كنيته أبو السَّكن، وزاد فيه: علقمة بن وائل، وإنما هو حُجْر بن عَنْبَس عن وائل بن حُجْر، ليس فيه علقمة، وقال: "وخفض بها صوته"، والصحيح أنه جهر بها". قال الترمذي (¬2): "وسألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة [هذا] (¬3)، فقال: حديث سفيان أصحّ من حديث شعبة، وقد روى العلاء بن صالح عن سلمة بن كُهَيْل نحو رواية سفيان". وقال الدارقطني (¬4): "كذا قال شعبة: "وأخفى بها صوته"، ويقال: إنه وَهِمَ فيه؛ لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كُهَيْل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا: "ورفع صوته بآمين"، وهو الصواب". وقال البيهقي (¬5): "لا أعلم اختلافًا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان (¬6)، وقال ¬

_ = ورواه أيضًا عن سلمة ابنه محمد، أخرجه الطبراني في "الكبير" (22/ رقم 113). ورواه أيضًا العلاء بن صالح: رواه ابن أبي شيبة (1/ 299)، وأبو داود (933)، والترمذي (249)، والطبراني (22/ رقم 114)، ووقع عند أبي داود (علي بن صالح) وهو وهم، قاله المزي. والذي قاله في هذا الحديث: "وأخفى بها صوته" شعبة، وروايته عند الطيالسي (1024) -ومن طريقه البيهقي (2/ 57) -، وقد اختلف عليه، فرواه مرة كرواية عامة أصحابه، أخرجه الطبراني (22/ رقم 109)، ورواه مرة فأقام إسناده ومتنه، أخرجه البيهقي (2/ 57) وصحح إسناده في "المعرفة"، والمشهور عن شعبة خلاف رواية الثوري، والصحيح رواية الثوري، قال ابن حجر في "التلخيص": "قد رجحت رواية سفيان بمتابعة اثنين له، بخلاف شعبة، فلذلك جزم النقاد بأن روايته أصح"، انظر نقولات المصنف الآتية، وكلامه في "تهذيب السنن" (1/ 438). وانظر: "تنقيح التحقيق" (2/ 832 - 833 ط. عامر صبري)، و"الأحكام الوسطى" (2/ 177)، و"بيان الوهم والإيهام" (3/ 373 - 375)، و"السلسلة الصحيحة" (رقم 464). وانظر: "نصب الراية" (1/ 371)، و"التلخيص" (1/ 237)، وجزئنا المفرد في طرق هذا الحديث: "القول الجلي في صفة صلاة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الواردة في حديث وائل بن حجر الحضرمي"، يسر اللَّه إتمامه ونشره. (¬1) في "جامعه" (2/ 28 - 29 - ط. شا كر). (¬2) في "جامعه" أيضًا (2/ 29). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في "سننه" (1/ 334). (¬5) في "الخلافيات" (2/ 64 - مختصره)، وبعضه في "معرفة السنن" (1/ 531). (¬6) انظر: "تهذيب التهذيب" (4/ 111 - 115).

يحيى بن سعيد: ليس أحد أحبّ إليّ من شعبة، ولا يعدله عندي أحد، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان، وقال شعبة: سفيان أحفظ مني" (¬1)، فهذا ترجيح لرواية سفيان، وترجيح ثان، وهو متابعة العلاء بن صالح (¬2) ومحمد بن سلمة بن كهيل (¬3) له، وترجيح ثالث، وهو أن أبا الوليد الطيالسي -وحسبك به- رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه (¬4)، فقد اختلف على شعبة كما ترى، قال البيهقي (¬5): "فيحتمل أن يكون تنبَّه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه، وترك ذكر [ذلك] (¬6) علقمة في إسناده"، وترجيح رابع، وهو أن الروايتين لو تقاوَمَتا لكانت رواية الرفع متضمّنة لزيادة وكانت أولى بالقبول، وترجيح خامس، وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة: "إذا أمَّن الإمام فأمَّنوا، فإن الإمام يقول: آمين، والملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له" (¬7)، وترجيح سادس، وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا فرغ من قراءة أمّ القرآن رفع صوته بآمين" (¬8)، ولأبي داود بمعناه، وزاد بيانًا فقال: ¬

_ (¬1) انظر: "تاريخ ابن معين" (2/ 215 - رواية الدوري)، و"التهذيب" (4/ 113 - 115). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه البيهقي (2/ 57). (¬5) في "الخلافيات" (2/ 65 - مختصره). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) رواه البخاري (780) في (الأذان): باب جهر الإمام بالتأمين، و (781) باب فضل التأمين، و (782) باب جهر المأموم بالتأمين، و (4475) في (التفسير): باب "غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، و (6402) في (الدعوات): باب التأمين، ومسلم (410)، من حديث أبي هريرة قريبًا منه. وأقرب لفظ لهذا المذكور: رواه النسائي (2/ 144) في (الصلاة): باب جهر الإمام بآمين. وعزاه الحافظ في "الفتح" (2/ 264) للسراج وأبي داود، ولكن ليس لفظه هكذا في "سنن أبي داود". (¬8) هو في "المستدرك" (1/ 223)، ورواه أيضًا ابن حبان (1806)، وابن خزيمة (571)، والدارقطني (1/ 335)، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 14)، والبيهقي في "السنن" (2/ 58)، وابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 247 رقم 519 - ط. قلعجي) كلّهم من طريق إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزُّبيدي عن عمرو بن الحارث: حدثنا عبد اللَّه بن سالم عن محمد بن الوليد الزبيدي عن الزهري عن سعيد وأبى سلمة عنه. قال الدارقطني: إسناده حسن، وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ونقل الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (1/ 236) أن البيهقي قال: حسن صحيح. ولبس هو في "سننه"، وإنما نقل تحسينه عن الدارقطني. =

"قال آمين حتى يُسمع مَنْ يليه من الصف الأول" (¬1)، وفي رواية عنه: "كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال: آمين، يرفع بها صوته، ويأمر بذلك" (¬2)، وذكر البيهقي عن عليّ [كرّم اللَّه وجهه] (¬3) قال: "سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: آمين إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} " (¬4). ¬

_ = أقول: وهذا إسناد فيه مقال، إسحاق بن إبراهيم قال أبو حاتم: شيخ لا بأس به، ولكنهم يحسدونه، سمعت يحيى بن معين أثنى عليه خيرًا، وقال النسائي: ليس بثقة. وعمرو بن الحارث هو الحمصي، ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبي: "لا تعرف عدالته"، واختلف فيه عن الزبيدي في إسناده ومتنه، قاله الدارقطني في "العلل" (8/ 85)، وانظر: "مرويات الإمام الزهري المعلّة" (2/ 865). وقد علّق معناه عن أبي هريرة البخاري في "صحيحه" بعد (782) من حديث أبي نعيم المجمر عنه. وهذا وصله أحمد (2/ 497)، والنسائي (2/ 134)، وابن الجارود (184)، وابن خزيمة (499)، والحاكم (1/ 232)، وابن حبان (1797)، والبيهقي (2/ 58)، من طريق سعيد بن أبي هلال عنه، قال: "صلّيتُ وراء أبي هريرة فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ثم قرأ بأمّ الكتاب حتى إذا بلغ غير المغضوب عليهم ولا الضالين! قال: آمين، وقال الناس: آمين. . . ثم قال: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. (¬1) رواه أبو داود (934) في (الصلاة): باب التأمين وراء الإمام، وابن ماجه (853) في (إقامة الصلاة): باب الجهر بآمين، وأبو يعلى (6220)، والمزي في "تهذيب الكمال" (34/ 28) من طريق بشر بن رافع عن أبي عبد اللَّه ابن عم أبي هريرة عن أبي هريرة. قال البوصيري في "الزوائد" (1/ 175): "هذا إسناد ضعيف أبو عبد اللَّه لا يعرف حاله، وبشر ضعفه أحمد". أقول: وقد ذكره البوصيري في "الزوائد" مع أنه في "سنن أبي داود" لوجود زيادة في لفظه. وانظر: "نصب الراية" (1/ 371)، و"التلخيص الحبير" (1/ 238)، و"تنقيح التحقيق" (2/ 835 - ط. عامر صبري). (¬2) في "سنن الدارقطني" (1/ 335) من طريق بحر السقاء عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قال: ولا الضالين، قال: آمين، ورفع بها صوته. وقال: بحر السقاء ضعيف. وانظر: "علل الدارقطني" (8/ 89). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه ابن ماجه (854) في (إقامة الصلاة): باب الجهر بآمين، وابن أبي حاتم في "علله" (1/ 93)، والمستغفري في "فضائل القرآن" (ق 1/ 96) من طريق ابن أبي ليلى عن سَلَمة بن كهيل عن حُجيّة بن عَديّ عن علي به. =

[وعنده أيضًا] (¬1) "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قرأ ولا الضالين رفع صوته بآمين" (¬2)، وعند أبي داود عن بلال أنه قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تسبقني بآمين" (¬3)، قال الرَّبيع: سئل الشافعي عن الإمام: هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، ويرفع بها مَنْ خلفه أصواتهم، فقلت: وما الحجَّة؟ فقال: أخبرنا مالك، وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته، ثم قال: ففي قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا" (¬4)، دلالة على أنه أَمَر الإمام أن يجهر بآمين؛ لأَنَّ مَنْ خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلّا بأن يسمع تأمينه، ثم بيَّنه ابنُ شهاب فقال: وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: آمين، فقلت للشافعي: فإنَّا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين، فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلّا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك، فينبغي أن يستدلَّ بأن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجهر بآمين، وأنه أمر الإمام أن يجهَر بها، فكيف ولم يزل أهلُ العلم عليه؟ " (¬5). وروى وائل بن حُجْر أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كان يقول: آمين يرفع بها صوته" (¬6)، ويَحكي مَدَّه إياها، وكان أبو هريرة يقول للإمام: لا تسبقني بآمين، وكان يؤذِّن ¬

_ = قال أبو حاتم: هذا خطأ إنما هو سلمة عن حجر أبي العنبس عن وائل بن حجر عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا من ابن أبي ليلى. كان ابن أبي ليلى، سيء الحفظ. ومما يدل على وهم ابن أبي ليلى أن المطلب بن زياد رواه عنه عن عدي بن ثابت عن زر عن علي به. ذكره ابن أبي حاتم (1/ 93)، قال أبو حاتم: هذا خطأ. ورواه أيضًا عن عبد الكريم عن عبد اللَّه بن الحارث عن ابن عباس عن علي ذكره الدارقطني في "علله" (3/ 186) ثم قال: والاضطراب في هذا من ابن أبي ليلى لأنه كان سيء الحفظ، والمشهور عنه حديث حجية بن عدي. وضعفه البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 175). (تنبيه): عزا المؤلف الحديث للبيهقي، ولم أجده لا في "السنن" ولا في "المعرفة"، وهو في "الخلافيات" (2/ 66 - 67 - مختصره) له. (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "وعنه أيضًا رضي اللَّه عنه" وفي (ق): "وعنده أيضًا عنه". (¬2) سبق في الذي قبله. (¬3) مضى تخريجه، وهو في "سنن أبي داود" (937)، وروي مرسلًا، أفاده المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (1/ 440). (¬4) أقرب لفظ لهذا ما رواه مسلم (410) (74) و (75)، وهو في "الأم" (1/ 109)، و"الخلافيات" (1/ 67 - مختصره). (¬5) انظر: "الأم" (1/ 109)، و"الخلافيات" (2/ 67 - 68 - مختصره). (¬6) مضى تخريجه.

[له] (¬1)، أنبأنا مسلم بن خالد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء: كنت أسمع الأئمّة: ابن الزبير ومن بعده يقولون: آمين، ومَنْ خلفهم آمين، حتى إن للمسجد للجَّة (¬2) "، وقوله: "كان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقني بآمين"، يريد ما ذكره البيهقي بإسناده عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذّن لمروان بن الحكم، فاشترط [عليه] (¬3) أن لا يسبقه بالضالين، حتى يعلم أنه قد وَصلَ إلى الصَّف، فكان مروان إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، قال أبو هريرة: (آمين) يمدّ بها صوته (¬4)، وقال: إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم (¬5). وقال عطاء: أدركت مئتين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} سمعتُ لهم رجَّة بآمين (¬6). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 82)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (2/ 59)، و"الخلافيات" (2/ 68 - مختصره)، ومسلم بن خالد هذا وثّقه ابن معين، وضعّفه في مرة أخرى، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به. وضعفه أبو داود، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وهو حسن الحديث. وذكر له الذهبي جملة من الأحاديث ثم قال: فهذه الأحاديث وأمثالها يُرَدَّ بها قوة الرجل ويُضَعَّف، وفيه عنعنة ابن جريج، ولعله تلقاه عن خالد بن أبي نوف فقد رواه عن عطاء بلفظ: "أدركت مئتين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا المسجد (يعني الحرام)، إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} رفعوا أصواتهم بآمين"، وفي رواية: "سمعت لهم رجّة بآمين"، أخرجه ابن حبان في "الثقات" (2/ 74)، والبيهقي (2/ 59)، وخالد هذا مترجم في "الجرح والتعديل" (1/ 2/ 355 - 356) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. والأثر علّقه البخاري في "صحيحه" باب جهر الإمام بالتأمين قبل رقم (780) بصيغة الجزم، وقال ابن حجر في "الفتح" (2/ 208): "وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، وقال: ويعني ابن جريج، قلت له: أكان ابن الزبير يؤمن على إثر أم القرآن؟ قال: نعم، ويؤمن من وراءه حتى أن للمسجد لجّة، ثم قال: إنما آمين دعاء"، وهو في "مصنف عبد الرزاق" (2640)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (3/ 364)، وقد صرح ابن جريج في هذه الرواية أنه تلقى ذلك عن عطاء مباشرة، فأمنّا بذلك تدليسه، وثبت بذلك هذا الأثر عن الزبير، قاله شيخنا الألباني في "الضعيفة" (952). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 59)، و"الخلافيات" (2/ 513 - 514 - مختصره)، وإسناده صحيح. (¬5) مضى تخريجه. (¬6) رواه ابن حبان في "الثقات" (2/ 74)، والبيهقي (2/ 59) من طريق علي بن الحسن بن شقيق أنبانا أبو حمزة عن مطرف عن خالد بن أبي نوف عنه. =

[بيان الصلاة الوسطى]

فردّ هذا كله بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين، والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم، ولا معارضة بين الآية والسنة بوجهٍ ما. [بيان الصلاة الوسطى] المثال الثامن والخمسون: ترك القول بالسنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن الصلاة الوسطى صلاة العصر (¬1)، بالمتشابه من قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وهذا عَجبٌ من العجب، وأعجب منه تركها بأن في مصحف عائشة: (وصلاة العصر)، وأعجب منهما تركها بأن صلاة الظهر تقام في شدّة الحر وهي في وسط النهار، فأكَّدها اللَّه تعالى بقوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وأعجب من ذلك تركها بأن المغرب وسطى بين الثنائية والرباعية، فهي أحق بهذا الاسم من غيرها، وأعجب منه تركها بأن صلاة العشاء قبلها صلاة آخر النهار، وبعدها صلاة أوّل النهار، وهي وسطى بينهما، فهي أحق بهذا الاسم من غيرها، وقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونصّه الصريح [المحكم] (¬2) الذي لا يحتمل إلّا ما ¬

_ = وخالد بن أبي نوف هذا تقدم في الذي قبله. وأبو حمزة هو محمد بن ميمون المروزي ثقة فاضل. (¬1) أخرجه مسلم في "صحيحه" (رقم 628)، والترمذي في "الجامع" (رقم 181 و 2985)، والطيالسي في "المسند" (رقم 366)، وأحمد في "المسند" (1/ 392، 403، 404، 456)، وغيرهم عن ابن مسعود مرفوعًا. وأخرجه الترمذي في "جامعه" (أبواب الصلاة): باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر (1/ 340 - 341/ رقم 182)، و (أبواب تفسير القرآن): باب ومن سورة البقرة (5/ 217/ رقم 2983)، وأحمد في "المسند" (5/ 7، 8، 12، 13، 22)، والطبراني في "الكبير" (رقم 6823، 6824، 6825، 6826)، وابن جرير في "التفسير" (2/ 344)، والبيهقي في "الكبرى" (1/ 460)، والدمياطي في "كشف المغطَّى في تبيين الصلاة الوسطى" (رقم 31، 32، 33، 34، 35) من طرق عن الحسن عن سمرة به. والحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، وتابع الحسن سليمان بن سمرة، فرواه عن أببه ضمن وصية جامعة كما عند ابن زَبْر في "وصايا العلماء" (88 - 89)، -ومن طريقه الدمياطي في "كشف المغطى" (رقم 37) -، والطبراني في "الكبير" (رقم 7001، 7002، 7007، 7008، 7009، 7010) مفرَّقًا، وإسناده ضعيف، فيه خبيب بن سليمان من المجهولين، وجعفر بن سعد ليس بالقوي. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

[ما يقول الإمام في الرفع من الركوع]

دلّ عليه أَوْلى بالاتّباع (¬1)، واللَّه الموفق. [ما يقول الإمام في الرفع من الركوع] المثال التاسع والخمسون: ترك السنة الصحيحة الصريحة في قول الإمام: "ربنا ولك الحمد"، كما في "الصحيحين"، من حديث أبي هريرة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قال: سَمِعَ اللَّه لمن حمده، قال: اللَّهمّ ربنا لك الحمد" (¬2). وفيهما أيضًا عنه: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع اللَّه لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربَّنا ولك الحمد" (¬3). وفي "صحيح مسلم" عن ابن عمر: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع اللَّه لمن حمده، اللهمّ ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد" (¬4)، وعن أبي سعيد: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع اللَّه لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد -وكلنا لك عبد- لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (¬5)، فردت ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" (2/ 87)، و"كتاب الصلاة" (ص 34). (¬2) حديث أبي هريرة الذي في "صحيح البخاري" (796) في (الأذان): باب فضل "اللهمّ ربنا لك الحمد"، و (3228) في (بدء الخلق): باب إذا قال أحدكم: آمين، و"صحيح مسلم" (409) في (الصلاة): باب التسميع والتحميد. . . لفظه: "إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده:. . . فقولوا" فهو من قوله عليه السلام. (¬3) رواه البخاري (789) في (الأذان): باب التكبير إذا قام من السجود، و (803) باب يهوي بالتكبير حين يسجد، ومسلم (392) (28). (¬4) لم أجد هذا الحديث في "صحيح مسلم" من حديث ابن عمر، وإنما وجدته من حديث ابن أبي أوفى (476) في (الصلاة): باب ما يقول: إذا رفع رأسه من الركوع، ومن حديث علي بن أبي طالب (771) في (صلاة المسافرين): باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وفي "صحيح البخاري" (735) عن ابن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يرفع يديه حذو منكبيه، إذا افتتح الصلاة، وإذا كبّر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، رفعهما كذلك أيضًا، وقال: "سمع اللَّه لمن حمده ربنا ولك الحمد". (¬5) رواه مسلم (477) وقريبًا منه من حديث ابن عباس أيضًا (478). وقال (و): "ولا ينفع ذا الغنى غناه، وإنما ينفعه الإيمان والطاعة، وقد انتقد أبو عبيد من قالها بكسر الجيم" اهـ.

[إشارة المتشهد بإصبعه]

هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: "إذا قال الإمام سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد" (¬1). [إشارة المتشهد بإصبعه] المثال الستون: رد السنة الصحيحة المحكمة في إشارة المصلِّي في التشهد بإصبعه (¬2) كقول ابن عمر: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا جلس في الصلاة وضع كفَّه اليمنى (¬3) على فخذه اليمنى وقَبضَ أصابعه كُلَّها، وأشار بإصبعه (¬4) التي تلي الإبهام"، رواه مسلم (¬5)، وعنده أيضًا عنه: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على رُكبتيه ووضع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها" (¬6)، وعنده أيضًا عن عبد اللَّه بن الزبير: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قعد في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه" (¬7)، ورواه خُفاف بن إيماء بن رخَصَة (¬8)، ووائل بن ¬

_ (¬1) سبق تخريجه آنفًا، وانظر: "زاد المعاد" (1/ 56)، و"كتاب الصلاة" (ص 122 - 123). (¬2) انظر: "زاد المعاد" (1/ 65). (¬3) في النسخ الخطية: "الأيمن". (¬4) "في الأصبع تسع لغات، فهمزته مثلثة، ومع كل حركة تثلث الباء" (و). (¬5) (580) (116) في (المساجد): باب صفة الجلوس في الصلاة وكيفية وضع اليدين على الفخذين. (¬6) رواه مسلم (رقم 580) في (المساجد): باب صفة الجلوس في الصلاة. (¬7) رواه مسلم في "الصحيح" (579) في (المساجد): باب صفة الجلوس في الصلاة. (¬8) وفي المطبوع و (ق): "بن رحضة"، وفي (ك): "بن حصبة"، والصواب ما أثبتناه. أخرج حديثه أحمد في "مسنده" (4/ 57) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 985 - 986 رقم 2423) والبيهقي في "سننه" (2/ 133) من طريقه ابن إسحاق حدثني عمران بن أبي أنس عن أبي القاسم مقسم مولى عبد اللَّه بن الحارث بن نوفل قال: حدثني رجل من أهل المدينة، فذكر إشارته باصبعه في الصلاة، وتأييد خفاف له وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان هكذا يصنع، ذكره الهيثمي في "المجمع" (2/ 131) وعزاه لأحمد وقال: "وأبو يعلى بنحوه وسمّى المبهم الحارث، ولم أجد من ترجمه ولم يسمه أحمد". أقول: هو في "مسند أبي يعلى" (908)، وقال محقّقه -حفظه اللَّه- بعد أن ذكر إسناد أحمد والبيهقي: وهذا إسناد ظاهره أنه منقطع غير أن الرواية التي عندنا -أي في "مسند أبي يعلى"- لعلها تعبن في تعيين الرجل المجهول وأنه ابن خُفاف، فإذا كان الأمر كذلك يكون الإسناد صحيحًا. أقول: لخفاف ولد اسمه الحارث مترجم في "التهذيب"، روى عنه خالد بن عبد اللَّه بن حرملة ففط، وقد أخرج له مسلم ولم يذكروا لمقسم روايةً عنه، ثم إن في طرق الحديث هذا ما يدل على أنه ليس هو؛ إذ قد وقع عند البيهقي قول خُفاف له: ابنَ أخي لم تفعل هذا؟ ثم قوله كذلك في بعض الروايات قال: فرآني خفاف بن إيماء وكانت =

حُجْر (¬1)، وعبادة بن الصامت (¬2)، ومالك بن نمير (¬3) الخزاعي عن أبيه (¬4) كلهم عن ¬

_ = له صحبة مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنا أصنع ذلك،. . . فهذا يدل على أنه ليس ابنه، واللَّه اعلم، وأن الحارث -كما قال الهيثمي يحتاج إلى نظر-. ثم وجدت الحديث في "معجم الطبراني" (4176) من طريق ابن إسحاق أيضًا عن عمران به بإسقاط الرجل الذي من أهل المدينة، ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (2/ 140) وقال: ورجاله ثقات! أقول: مقسم له رواية عن خُفاف لكن هل سَمِع منه؟ لم أجد من صَرَّح، وواضح في هذا الحديث أنه لم يسمعه منه وإنما سمعه بالواسطة. فتبقى جهالة حال هذا الرجل، واللَّه أعلم. (¬1) أخرج حديثه الحميدي (885)، والطيالسي (1020)، وعبد الرزاق (2522)، وأحمد (4/ 316 و 317 و 318 و 319)، وأبو داود (726) في (الصلاة): باب رفع اليدين في الصلاة، و (957) في باب كيف الجلوس في التشهد، والنسائي (2/ 236) في (الافتتاح): باب موضع اليدين عند الجلوس للتشهد الأول، و (3/ 34) في (السهو): باب صفة الجلوس في الركعة التي يقضى فيها الصلاة، و (3/ 35): باب موضع الذراعين وباب موضع المرفقين، وفي "الكبرى" (رقم 659 و 1096 و 1097)، وابن ماجه (912) في الإقامة: باب الإشارة في التشهد، وابن حبان (1945)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 78 - 81، 83 - 90)، و"الدعاء" (رقم 637)، وابن خزيمة (713)، والدارقطني (1/ 295 - 291)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 259)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (2/ 72 و 1/ 131)، والبغوي (563)، وابن حزم (4/ 125 - 126) كلهم من طرق كثيرة عن عاصم بن كليب عن أبيه عنه في وصف صلاة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفيها إشارته -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسبابة، وإسناده قوي. وانفرد زائدة في الرواية عن عاصم عن كليب، فقال: "فرأيته يحركها يدعو بها"، أخرجه من طريقه أحمد في "مسنده" (318/ 4)، وأبو داود (727)، والنسائي (2/ 126 - 127) في "الافتتاح": باب موضع اليمين من الشمال في الصلاة، و (3/ 37) في (السهو): باب قبض الثنتين من أصابع اليد اليمنى، وفي "السنن الكبرى" (رقم 873، 1100)، والدارمي (1/ 314، 315)، وابن الجارود (208)، وابن خزيمة (697، 698، 713، 714)، وابن حبان (1860)، والطبراني (22/ رقم 82، 83)، والبيهقي (2/ 132). (¬2) أخرجه البيهقي في "الخلافيات" (2/ 96 - مختصره). (¬3) في النسخ المطبوعة و (ك) و (ق): "ومالك بن بهز"!! وهو خطأ، صوابه ما أثبتناه. (¬4) أخرج حديثه أحمد في "مسنده" (3/ 471)، وأبو داود (991) في (الصلاة): باب الإشارة في التشهد، والنسائي (3/ 39) في (السهو): باب إحناء السبابة في الإشارة، وفي "الكبرى" (رقم 1103، 1106) وابن ماجه (911) في (الإقامة): باب الإشارة في التشهد، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2329) و (2330)، وابن خزيمة (715 و 716)، والبخاري في "تاريخه الكبير" (8/ 661)، وابن حبان (1946)، وابن قانع في =

النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه فعل ذلك، وسئل ابن عباس عنه فقال: هو الإخلاص (¬1). فردّ (¬2) ذلك كله بحديث لا يصح، وهو ما رواه محمد بن إسحاق، عن ¬

_ = "معجم الصحابة" (1145)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2688 رقم 6433، 6434)، والبيهقي (2/ 131)، والمزي في "تهذيب الكمال" (30/ 25) من طرق عن عصام بن قدامة عن مالك بن نُمير الخزاعي عن أبيه أنه رأى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- واضعًا يده اليمنى على فخذه اليمنى رافعًا أصبعه السبابة قد حناها شيئًا وهو يدعو. ونمير الخزاعي لا يُعرف إلا بهذا الحديث يرويه عنه ابنه مالك، قال الدارقطني: يعتبر به، وقال ابنُ القطان: لا يعرف حال مالك ولا روى عن أبيه غيره. وقال الذهبي: لا يُعرف وذكره ابن حبان في الثقات!! فهو في عداد المجاهيل فالإسناد ضعيف، وقد ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه- وذكر حديثه هذا ولم يتكلم عليه. (¬1) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 133) من طريق ابن فضيل عن الأعمش عن أبي إسحاق عن العيزار، قال: سئل ابن عباس عن الرجل يدعو يشير بأصبعه، فقال ابن عباس: هو الإخلاص. وهذا إسناد رجاله ثقات، وأبو إسحاق هو السبيعي اختلط، وقد أخرج له مسلم من رواية الأعمش عنه، ورواه عنه أيضًا الثوري -وقد أخرج له البخاري من روايته عنه ورواية الثوري هذه أشار إليها البيهقي، قال: ورواه الثوري في "الجامع" عن أبي إسحاق عن أربدة عن ابن عباس. أقول: وأربدة هذا صدوق، وذكر أبو الفتح الأزدي في "ذكر اسم كل صحابي. . . " (رقم 20) أنه لم يرو عنه إلا أبو إسحاق السبيعي، ومثل هذا الاختلاف لا يضر، فهو اختلاف بين اثنين مقبولين في الرواية. وقد روي مرفوعًا، أخرجه الحاكم (4/ 320)، ومن طريقه البيهقي (2/ 133) من طريق الحسن بن علي بن زياد عن عبد العزيز بن عبد اللَّه عن سليمان بن بلال عن عباس بن عبد اللَّه بن معبد عن أخيه إبراهيم بن معبد عن ابن عباس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "هكذا الإخلاص" يشير بأصبعيه التي تلي الإبهام. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. فتعقبه الذهبي، قلت: ذا منكر بمرة. أقول: رجاله كلهم ثقات، غير الحسن بن علي فينظر في حاله، فإني لم أجد له ترجمة إلا في "الأنساب" (7/ 136) للسمعاني، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وترجمته هكذا عنده: "والحسن بن علي بن زيد السَّري، يروي عن أحمد بن الحسن اللهبي، حدث عنه أبو بكر بن إسحاق الضَّبغي النيسابوري". قلت: وعليه فهو مجهول. وبناءً على انفراده به أعلّه الذهبي بالنكارة. وهذه من نقدات الإمام الذهبي التي لا يصل إليها إلا من خَبَر حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرحمه اللَّه ورضي عنه. (¬2) في المطبوع و (ن): "فردوا".

[ما يصنع بشعر المرأة الميتة]

يعقوب بن عُتْبة، عن أبي غَطَفان المُرّيّ، عن أبي هريرة مرفوعًا: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار في صلاته إشارة تُفهم عنه فليُعِدْها" (¬1). قال الدارقطني (¬2): "قال لنا ابن أبي داود: أبو غَطَفان هذا مجهول (¬3)، وآخر الحديث زيادة في الحديث، ولعلّه من قول ابن إسحاق، والصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يشير في الصلاة". [ما يصنع بشعر المرأة الميتة] المثال الحادي والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة في ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر؛ كقوله في "الصحيحين" في غسل ابنته: "اجْعَلْنَ رأسها ثلاثة قرون"، قالت أم عطية: ضَفَرْنا رأسها وناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها (¬4)، فرد ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا، وإنما يرسل شعرها شقّين على ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (944) في (الصلاة): باب الإشارة في الصلاة، والدارقطني (2/ 83) ومن طريقه البيهقي (2/ 262)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (رقم 726) من طريق ابن إسحاق به. قال أبو داود: هذا الحديث وهم. وقال الدارقطني: قال لنا ابن أبي داود: أبو غطفان هذا مجهول، وآخر الحديث زيادة في الحديث، ولعله من قول ابن إسحاق، والصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يشير في الصلاة، رواه أنس وجابر وغيرهما عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال الدارقطني: وقد رواه ابن عمر وعائشة". قلت: إعلال الحديث بأبي غطفان غير صحيح، فقد وثقه ابن معين والنسائي، وأخرج له مسلم في "صحيحه" (3/ 1601)، لكن آخره معلول لمخالفته للأحاديث الصحيحة، وقد أعلّه غير من ذكرت، منهم: الإمام أحمد -كما في "نصب الراية" (2/ 90 - 91) - وأعلّه أبو حاتم، فقال كما في "علل ابنه" (1/ 75): وليس في شيء من الأحاديث هذا الكلام، وليس عندي بذاك الصحيح، إنما رواه ابن إسحاق. أقول: وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن، وأوهامه معروفة، فيظهر أن هذا منه، وليس من أبي غطفان، واللَّه أعلم. وانظر: "نصب الراية" (2/ 90)، وذكره مغلطاي في "الدر المنظوم" (رقم 125) في الضعيف. وفي (ق) و (ك): "ومن أشار إِشارة في صلاته تفهم. . . ". (¬2) في "سننه" (2/ 83)، وعنه البيهقي في "الخلافيات" (2/ 97 - مختصره). (¬3) بل معروف وموثق، كما قدمناه تحت تخريج الحديث. (¬4) أقول: رواية "الصحيحين" ليس فيها أمر، وإنما قالت أم عطية مشطناها ثلاثة قرون، وفي =

[وضع اليدين في الصلاة]

ثدييها (¬1)، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بالاتّباع (¬2). [وضع اليدين في الصلاة] المثال الثاني والستون: ترك السنة الصحيحة الصريحة التي رواها الجماعة عن سفيان الثوري، عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْر قال: "صلّيت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" (¬3)، ولم ¬

_ = رواية: وجعلنا رأسها ثلاثة قرون، انظر "صحيح البخاري" (1254 و 1259 و 1260 و 1262 و 1263)، ومسلم (939). نعم ورد الأمر بهذا في "صحيح ابن حبان" (3033)، والطبراني في "الكبير" (25/ 98)، وإسناده صحيح. وانظر للفائدة "فتح الباري" (3/ 134). (¬1) في (ق): "شقتين على ثديها". (¬2) في المطبوع: "أحق بالاتّباع". (¬3) طريق سفيان عن عاصم الذي أشار إليه ابن القيم: رواه أحمد في "مسنده" (4/ 318)، والطبراني في "الكبير" (22/ 78) وعندهما: يضع يده اليمنى على اليسرى، وليس فيه: (على صدره)، ولم يحك هذه العبارة غير مؤمل بن إسماعيل، كما قال المصنف. وقد روى الحديث جمع عن عاصم غير سفيان كلهم قال: "وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى"، لكن دون تحديد المكان، كما عند أحمد (4/ 311، 318، 319)، والدارمي (1/ 314)، وابن أبي شيبة (1/ 390)، والطيالسي (ص 137)، والنسائي (2/ 126)، وابن ماجه (1/ 266)، وابن الجارود (ص 89، 81)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 78)، وابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 71)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 90)، والبيهقي (2/ 228) وغيرهم، كما بيّنته بالتفصيل في جزء مفرد، وللَّه الحمد والمنّة، وانظر: "فتح الغفور في وضع الأيدي على الصدور" (ص 31 وما بعد) لمحمد حياة السندي، و"درهم الصرة في وضع اليدين تحت السرة" (ص 28)، وما بعده للتتوي، و"إبكار المنن" (ص 106)، و"تحفة الأحوذي" (2/ 89). وأما رواية مؤمل عن سفيان الثوري بوضعها على الصدر، فأخرجها ابن خزيمة (1/ 242 - 243 رقم 479)، والبيهقي (2/ 30)، ومؤمل ضعيف. وله طريق آخر ضعيف أيضًا. (تنبيه): قال الشيخ محمد حياة السندي في رسالته: "فتح الغفور" (ص 34): "فهم بعض الناس (أي من كلام المصنف السابق) أنه يقصد به ترك السنة الصحيحة الصريحة، وهي وضع اليدين فوق الصدر، وليس هذا من غرضه، بل إنه ينتقد المالكية القائلين بالإرسال؛ لأنه ذكر في الفصل نفسه عدة أحاديث منها ما رواه مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق في وضع اليمين على الشمال. . . ثم قال رحمه اللَّه، فردّت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك قال: "تركه أحب إليّ، ولا أعلم شيئًا قط ردت به سواه"، فافهم ذلك.

يقل: "على صدره"، غير مُؤَمّل بن إسماعيل، وفي "صحيح مسلم" (¬1) عنه: "أنه رأى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رفع يديه حين دخل في الصلاة ثم كبَّر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يَرْكَعَ أخرج يديه ثم رفعهما وكبَّر فركع (¬2)، فلما قال: سمع اللَّه لمن حمده، رفع يديه فلما سجد سجد بين كفَّيه"، وزاد أحمد وأبو داود: "ثم وضع يده اليمنى على كفّه اليسرى والرسغ والساعد" (¬3)، وفي "صحيح البخاري" عن سهل بن سعد، قال: "كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"، قال أبو حازم: ولا أعلمه إلّا يَنمي (¬4) ذلك إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، وفي "السنن" عن ابن مسعود أنه كان يصلّي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فوضع يده اليمنى على اليسرى (¬6)، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (401) في (الصلاة): باب وضع يده اليمنى على اليسرى. (¬2) في المطبوع: "فرفع". (¬3) رواه أحمد (4/ 318)، وأبو داود (727)، والنسائي (2/ 126 - 127)، وفي "الكبرى" (رقم 873، 1100)، وابن الجارود (208)، وابن خزيمة (480)، وابن حبان (1860)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 82)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 93)، والبيهقي (2/ 28، 132) من طريق زائدة عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل. (¬4) في المطبوع: "إلا ينهى". (¬5) رواه البخاري (740) في (الأذان): باب وضع اليمنى على اليسرى، وفي (ق) و (ك): "إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬6) رواه ابن أبي شيبة (1/ 391)، وأبو داود (755) في (الصلاة): باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، والنسائي (2/ 126) في (الافتتاح): في الإمام إذا رأى رجلًا قد وضع شماله على يمينه، وفي "الكبرى" (رقم 872)، -ومن طريقه ابن عبد البرّ في "التمهيد" (20/ 72) - وابن ماجه (811) في (إقامة الصلاة): باب إذا وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وابن عدي في "الكامل" (2/ 647 و 648)، وأبو يعلى (5041)، والدارقطني في "سننه" (1/ 286 - 287)، والعقيلي (1/ 283 - 284)، والبيهقي (2/ 28) من طريق هُشيم: حدثنا الحجاج بن أبي زينب عن أبي عثمان النهدي عنه. ورواه ابن عدي والدارقطني من طريق محمد بن زيد الواسطي عن حجاج به. وحجاج بن أبي زينب هذا وإن أخرج له مسلم، فقد قال أحمد بن حنبل: "أخشى أن يكون ضعيف الحديث، وقال ابن المديني: ضعيف، وقال الدارقطني: ليس بقوي ولا حافظ، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه، وقال ابن معين وأبو داود وابن عدي: لا بأس به، وقال الدارقطني في رواية أخرى: ثقة". ومما يؤيّد سوء حفظ حجاج هذا: أن ابن أبي شيبة (1/ 427)، وابن عدي روياه من طريق يزيد بن هارون عنه، عن أبي عثمان مرسلًا. =

وقال [علي] (¬1): "من السُّنة في الصلاة وضع الكَفِّ (2) على الكَفِّ (¬2) تحت السرة"، رواه أحمد (¬3)، وقال مالك في "موطئه" (¬4): وضع اليدين إحداهما (¬5) على الأخرى في الصلاة، ثم ذكر حديث سهل بن سعد. وذكر عن عبد الكريم ابن أبي المُخَارِق البصري أنه قال: من كلام النبوّة: "إذا لم تستح فافعل ما شئت، ووضع إحدى اليدين في الصلاة على الأخرى يضع اليمنى على اليسرى، وتعجيلُ الفطر، والإسْتِينَاءُ بالسحور" (¬6). ¬

_ = قال ابن عبد البر: "أرسله يريد بن هارون عن الحجاج عن أبي عثمان، وهشيم أحفظ من الذي أرسله". ورواه محمد بن الحسن الواسطي عنه عن أبي سفيان عن جابر به. رواه ابن عدي (2/ 648)، والدارقطني (1/ 287)، وانظر: "تحفة الأشراف" (7/ 80). وقال الدارقطني: ووهم فيه، وقول هشيم عنه أصح، وكذا في "العلل" له (5/ 338 - 339). أقول: محمد بن الحسن هذا ثقة، فلماذا لا يكون هذا الاختلاف من أوهام الحجاج بن أبي زينب، وليس من محمد بن الحسن؟! والحديث حسنه الحافظ في "الفتح" (2/ 224)، والنووي في "الخلاصة" (رقم 1090)، وابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 339 - 342)، وانظر "نصب الراية" (1/ 318)، و"تنقيح التحقيق" (1/ 784 - ط. عامر صبري). (¬1) سقطت من (ك). (¬2) سقطت من (ك) و (ق): "الأكف". (¬3) رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زياداته على المسند" (1/ 110)، وأبو داود (756)، وابن أبي شيبة (1/ 427)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 94 رقم 1290)، وابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 77)، والدارقطني (286/ 1) ومن طريقه البيهقي (2/ 31) من طرق عن عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي عن زياد بن زيد السُّوائي عن أبي جُحيفة عنه. وهذا إسناد ضعيف، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ رقم 2263): عبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شيبة الواسطي، قال فيه ابن حنبل، وأبو حاتم: منكر الحديث، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر، وزياد بن زيد هذا لا يعرف، وانظر: "نصب الراية" (1/ 314)، و"التنقيح" (2/ 786 - ط. عامر صبري)، و"الإرواء" (2/ 69 رقم 353). وقال البيهقي: وعبد الرحمن بن إسحاق متروك. وضعف إسناده الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 224). ومما يدل على ضعف عبد الرحمن أنه اضطرب فيه، فرواه عن النعمان بن سعد عن علي، أخرجه الدارقطني (1/ 286)، ومن طريقه البيهقي (2/ 31). والنعمان بن سعد هذا مجهول. (¬4) (1/ 158). (¬5) في (ق): "إحديهما". (¬6) هو في "الموطأ" (1/ 158)، وعبد الكريم ضعيف.

وذكر أبو عمر في "كتابيه" (¬1) من حديث الحارث بن غُطَيْف أو غطيف بن الحارث قال: مهما رأيتُ شيئًا فنسيته فإني لم أنس أنّي رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واضعًا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة (¬2). ¬

_ = وقد ثبت هذا في حديث: رواه ابن حبان (1770)، والطبراني في "الكبير" (11485) من طريق عمرو بن الحارث عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس مرفوعًا: "إنا معشر الأنبياء أُمِرْنا أن نؤخر سُحُورنا ونُعَجِّل فِطْرنا، وأن نمسك بأيماننا على شمائلنا في الصلاة". وله طريق آخر عن ابن عباس عند الطبراني أيضًا (10851)، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (5/ 102): ورجاله رجال الصحيح. وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 224). (¬1) في المطبوع و (ن): "في كتابه"! والمراد: "الاستذكار" (6/ 194)، و"التمهيد" (20/ 73). (¬2) الحديث يرويه معاوية بن صالح، وقد رواه عنه جماعة، وقد اختلف عليه في اسم راوي الحديث، فبعضهم يجعله بالضاد وبعضهم بالطاء، وبعضهم يرويه بالشك وبعضهم يرويه دون شك، فقد رواه أحمد في "مسنده" (4/ 105 و 5/ 290) -ومن طريقه ابن الأثير في "أسد الغابة" (4/ 340) - وابن أبي شيبة (1/ 426)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2433)، والطبراني في "الكبير" (3399)، وعلقه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 113)، ووصله أيضًا: عباس الدوري في "تاريخ ابن معين" (2/ 469 و 3/ 12)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (12/ 4220 رقم 1507)، وابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 73)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 2274، 2275 رقم 5637)، والبغوي في "الصحابة" وسمويه وابن السكن -كما في "الإصابة" (1/ 287) - من طرق عن معاوية بن صالح عن يونس بن سيف العنسي عن الحارث بن غضيف، أو غضيف بن الحارث به. وعلقه أبو الفتح الأزدي في "ذكر اسم كل صحابي روى عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرًا ونهيًا" (رقم 382) عن يونس، وعنده: "وضع إحدى رجليه!! على الأخرى"، والصواب "يديه" فلتصحح. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 104): رجاله ثقات. أقول: معاوية بن صالح على إمامته إلا أن بعضهم كان لا يرضاه فلا أدري لعل هذا الاختلاف في اسم الراوي يكون منه. وقد رواه الطبراني في "الكبير" (3400) وابن منده، والبارودي وابن شاهين -كما في "الإصابة" (1/ 287) - من طريق ابن وهب، ورشدين بن سعد عن معاوية عن يونس عن أبي راشد الحبراني عن الحارث بن غطيف به. فزادا في إسناده: "أبا راشد"، قال ابن منده: ذكر أبي راشد فيه زيادة. وقد اختلف في صحبة الراوي، فانظر: "الإصابة" (1/ 187 و 3/ 184)، والظاهر صحة صحبته، واللَّه أعلم.

وعن قَبيصة بن هُلْب (¬1)، عن أبيه قال: "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واضعًا يمينه على شماله في الصلاة" (¬2)، وقال علي بن أبي طالب (¬3): "من السنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة" (¬4)، وعنه أيضًا أنه كان إذا قام إلى الصلاة وضع يمينه على رُسْغه، فلا يزال كذلك حتى يركع، إلّا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده (¬5). ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "قبيصة بن ثابت"!! وفي (ق): "قبيصة بن بدر". (¬2) رواه احمد في "مسنده" (5/ 226 و 227)، وابنه عبد اللَّه (5/ 226، 227)، والترمذي في "الصلاة" (252) باب ما جاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وابن ماجه (809) في (إقامة الصلاة): باب وضع اليمين على الشمال في الصلاة، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2493 - 2495)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 421 و 422 و 423 و 424 و 426)، وعبد الرزاق (3207)، وابن أبي شيبة (1/ 426)، وابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 73، 74)، والبيهقي (2/ 29)، والدارقطني (1/ 285)، والمزي في "تهذيب الكمال" (23/ 495) من طرق عن سماك بن حرب عن قبيصة به. قال الترمذي: حديث حسن. أقول: قبيصة هذا، روى عنه سماك وَحْدَه، قال العجلي: تابعي ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، أما ابن المديني والنسائي فقالا: مجهول، وهو اللائق بحاله، والعجلي على قاعدته في توثيق التابعين، وابن حبان قاعدته في هذا معروفة! ولهذا قال الحافظ في "التقريب": مقبول. وانظر: "تنقيح التحقيق" (1/ 782) لمحمد بن عبد الهادي وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 1085). (¬3) بعده في المطبوع زيادة: "كرم اللَّه وجهه". (¬4) مضى ذكره قريبًا ذكره عند المصنف بزيادة في آخره: "تحت السرة" وتخريجه هناك، وهو في "الاستذكار" (6/ 194) باللفظ الذي أورده المصنف -دون إسناد- وكذا الأحاديث والآثار قبل وبعد، بالترتيب الذي عند المصنف، فهو ينقل منه. (¬5) رواه ابو داود (757) في (الصلاة): باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة، وابن أبي شيبة (1/ 427) أو (1/ 390 و 2/ 519 - ط. الهندية)، -ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 77) -، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 29)، وعلّقه البخاري في "صحيحه" في أول العمل في الصلاة، ووصله في "التاريخ الكبير" (2/ 211)، والسلفي في "السفينة الجرائدية" كما في "الفتح" (3/ 72)، ومن طريقه ابن حجر في "التغليق" (2/ 442) من طريق عبد السلام بن أبي حازم -شداد- عن غزوان بن جرير الضبي عن أبيه عن علي به. أقول: غزوان هذا لم يرو عنه إلا عبد السلام، والأخضر بن عجلان، وذكره ابن حبان في "الثقات". ووالده جرير: ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال الذهبي: لا يعرف. ومع هذا قال البيهقي: هذا إسناد حسن.

وقال علي (¬1) في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]: إنه وضع اليمين على الشمال في الصلاة تحت الصَّدْر (¬2)، وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا، ووضع اليمنى على اليسرى [في الصلاة] (¬3)، وقال أبو الدرداء: من أخلاق النَّبيين وضع اليمين على الشمال في ¬

_ (¬1) بعده في المطبوع زيادة: "عليه السلام". (¬2) هذا الأثر يرويه عاصم الجحدري واختلف عنه. فرواه يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد عنه عن عقبة بن ظهير عن على: أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 427) -ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 770) -، وابن جرير في "التفسير" (30/ 201) والدارقطني (1/ 285)، والخطيب في "الموضح" (2/ 305)، والثعلبي في "الكشف والبيان" (ق 191/ ب)، والبخاري في "التاريخ" (6/ 437)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 29)، ووقع عند الأخيرين عقبة دون تسمية والده. ورواه حماد بن سلمة عنه عن عقبة بن صُهْبان عن علي: رواه الحاكم في "المستدرك" (2/ 537)، ومن طريقه البيهقي (2/ 29)، من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد به. وقال البيهقي: كذا قال شيخنا (اي الحاكم) عن عقبة بن صُهبان عن علي، وكذا رواه شيبان عن حماد به، عند البيهقي (2/ 30). لكن رواه البخاري في "التاريخ" (6/ 437)، ومن طريقه البيهقي (2/ 29) من طريق موسى بن إسماعيل، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 91 رقم 1284)، والثعلبي في "الكشف والبيان" (ق/ 191/ ب)، من طريق حجاج، وابن جرير (30/ 201) من طريق أبي صالح الخراساني، والخطيب في "الموضح" (2/ 305) من طريق أبي الوليد الطيالسي جميعهم عن حماد بن سلمة عن عاصم الجحدري عن أبيه عن عقبة بن ظبيان عن علي. ورواه عبد الرحمن عن حماد، وقال: "عن عقبة بن ظبيان عن أبيه"، أخرجه ابن جرير (30/ 201). وعقبة هذا ترجمه البخاري (6/ 437)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/ 313) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا. وهذا الأثر ذكره ابن كثير في تفسيره (4/ 597) وقال: "لا يصح"، قلت: وهو مضطرب، قاله ابن التركماني في "الجوهر النقي" (2/ 29)، وانظر: "الجرح والتعديل" (6/ 313)، و"فتح الغفور في وضع الأيدي على الصدور" (ص 19 - 27)، و"تفسير القرطبي" (20/ 219، 221)، وتعليقي على "الإشراف" (1/ 266 - 267) للقاضي عبد الهادي. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (1/ 427) -ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 77) - وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 91) من طريق ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن أبي زياد مولى آل دراج عن أبي بكر. وهذا إسناد ضعيف، أبو زياد هذا ذكره الذهبي في "الميزان"، وقال: لا يعرف، وقال الدارقطني: يترك. وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

الصلاة (¬1)، وقال ابن الزبير: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنّة (¬2)، ذكر هذه الآثار أبو عمر بأسانيدها، وقال: هي آثار ثابتة (¬3)، وقال وهب بن بقية: ثنا محمد بن المطلب، عن أبان بن بشير المُعلِّم، ثنا يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاث من النبوّة: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة" (¬4)، وقال سعيد بن ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 390) -ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 74) - وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 91 رقم 1285)، والطبراني في "الكبير" مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف صحيح، قاله الهيثمي في "المجمع" (2/ 105)، قلت: رجاله ثقات، وفيه عنعنة الأعمش، وانظر الهامش الآتي. (¬2) أخرجه أبو داود (754) في (الصلاة): باب وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة -ومن طريقه ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 73) - والطبراني في "الكبير" (رقم 64 - القطعة المتبقية) من طريق العلاء بن صالح -وفيه ضعف- قال: ثنا زرعة بن عبد الرحمن عن ابن الزبير به. ووارد عنه أنه كان إذا صلّى أرسل يديه، أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 391)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 93 رقم 1288). (¬3) ذكرها في "الاستذكار" (6/ 194 - 195) مجردة عن أسانيدها وقال: "وكل هذا مذكور في "التمهيد" بأسانيده" -ومنه ينقل المصنف- وذكر الأسانيد في "التمهيد" (20/ 72 - 74)، وأمّا نقل المصنف عنه: "هي آثار ثابتة" في "الاستذكار" (6/ 193)، وذكر ابن عبد البر عقبها حديث وائل بن حجر السابق، فقولته هذه تعود عليه فحسب، فتنبّه. (¬4) رواه ابن عبد البر في "الاستذكار" (6/ 97 رقم 8599)، و"التمهيد" (20/ 80) من طريق وهب بين بقية به وإسناده ضعيف، محمد بن المطلب مجهول. انظر: "اللسان" (5/ 383) وأبان مثله. أنظر: "اللسان" (1/ 20) أيضًا وله عن أبي هريرة طريق آخر مرفوع ولفظه: "أمرنا معاشر الأنبياء. . . ونضرب بأيماننا عن شمائلنا في الصلاة". رواه الدارقطني (1/ 284) ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 191 رقم 480 - ط. قلعجي)، وإسناده ضعيف جدًا فيه طلحة بن عمرو متروك، واضطرب فيه، فجعله مرة أخرى عن عطاء عن ابن عباس رفعه، رواه الدارقطني (1/ 284) ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 190 رقم 479)، وانظر: "تنقيح التحقيق" (1/ 782) لمحمد عبد الهادي، وله طريق آخر من حديث ابن عباس رواه ابن حبان (1770)، والطبراني في "الكبير" (11485) ولفظه: "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر سُحورنا. . . " قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، وله طريق آخر عن ابن عباس عند الطبراني في "الكبير" أيضًا (10851)، ورجاله رجال الصحيح أيضًا، وفي الباب عن أبي الدرداء. رواه الطبراني في "الكبير" -كما في "المجمع" (2/ 105)، وقال الهيثمي: "رواه مرفوعًا وموقوفًا على أبي الدرداء، والموقوف صحيح، والمرفوع في رجاله من لم أجد له ترجمة"، وإسناده عند الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 470). =

منصور: ثنا هُشَيْم، أنا منصور بن زَاذَان، عن محمد بن ابان الأنصاري، عن عائشة قالت: ثلاث من النبوّة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (¬1)، فردت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك، قال: تَرْكه أحبُّ إليَّ (¬2) ولا أعلم شيئًا قط ردّت به سواه (¬3). ¬

_ = أقول: وهذا الموقوف له حكم المرفوع بلا شك. وفي الباب عن يعلى بن أمية: رواه الطبراني في "الكبير" (22/ 676)، وفي "الأوسط" (7470)، والعقيلي في "الضعفاء" (3/ 177)، وقال الهيثمي: فيه عمر بن عبد اللَّه بن يعلى وهو ضعيف. (¬1) رواه ابن عبد البر في "الاستذكار" (6/ 197)، و"التمهيد" (20/ 80)، وابن المنذر في "الأوسط" (3/ 92 رقم 1287) من طريق سعيد بن منصور به، وتابع سعيدًا: شجاع بن مخلد، رواه الدارقطني (1/ 284) ومن طريقه البيهقي (2/ 29)، وتابعهما: قتيبة، ورواه عنه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 32) وقال: "ولا نعرف لمحمد سماعًا من عائشة". قلت: فهو منقطع، وكذا قال النووي في "المجموع" (3/ 313)، وانظر: "الميزان" (3/ 454)، و"الجوهر النقي" (2/ 29) ومن العجب قول المعلق على "الاستذكار": "ومنصور بن زاذان ضعيف"!! وهو ثقة ثابت، روى له الجماعة. (¬2) انظر "المدونة" (1/ 169) و"شرح زروق على الرسالة" (1/ 155) و"أحكام القرآن" لابن العربي (4/ 1990) و"الإشراف" (1/ 265 - 266 مسألة 682) وتعليقي عليه. (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 91)، و"تهذيب السنن" (1/ 354 - 355)، "الموطأ" (1/ 158 - 159)، وشروحه: "المنتقى" (1/ 281)، "شرح الزرقاني" (1/ 320 - 321)، "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 132)، "المدونة" (1/ 170)، "التاج والإكليل" (1/ 536)، "بداية المجتهد" (1/ 107)، "الكافي" (1/ 206)، "الخرشي" (1/ 286)، "الشرح الصغير" (1/ 324)، "جامع الأمهات" (94). وانظر لزامًا تقديمي لرسالة علي القاري: "شفاء السالك في إرسال مالك" (ص 10 وما بعد، 22 - 33)، "الصوارم والأسنة في الذّبّ عن السنة" لمحمد بن أبي مدين الشنقيطي، وفيه (ص 40، 68) نقل عن المصنف، وفيه (ص 39 - 49) الفصل الثاني: في نصوص المالكية على مطلوبيته، و (ص 49 - 55/ الفصل الثالث): في كونه هو الراجح من مذهب مالك والمشهور، ولمحمد الخضر الشنقيطي: "إبرام النقض لما قيل من أرجحية القبض". ذهب فيه إلى أرجحية الإرسال على القبض في مذهب مالك!! بينما صنَّفت ما يقارب ثلاثين رسالة في كشف الغلط هذا، سوى الأبحاث التابعة في الشروح والمطولات. انظر: "التعالم" (100) للشيخ بكر أبو زيد، "المثنوي والبتار"، "جؤنة العطار"؛ كلاهما لأحمد الغماري، "مختصر الخلافيات" (2/ 33/ رقم 75).

[التعجيل بصلاة الفجر]

[التعجيل بصلاة الفجر] المثال الثالث والستون (¬1): رد السنة المحكمة الصريحة في تعجيل الفجر وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقرأ فيها بالستين إلى المئة (¬2)، ثم ينصرف منها والنِّساء لا يُعْرَفن من الغَلَس (¬3)، وأن صلاته كانت التغليس (¬4) حتى توفَاه اللَّه (¬5)، وأنه إنما أسفر بها مرة واحدة (¬6)، وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية (¬7)، فرد (¬8) ذلك بمجمل ¬

_ (¬1) أخطأ ناسخ (ق) في العد، فجعل هذا المثال الثاني والستين. (¬2) رواه البخارى (541) في (مواقيت الصلاة): باب وقت الظهر عند الزوال، و (547) باب وفت العصر، و (599) في ما يكره من السمر بعد العشاء، و (771) في (الأذان): باب القراءة في الفجر، ومسلم (461) في الصلاة: باب القراءة في الصبح، و (647) في (المساجد): باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها، من حديث أبي بَرْزَة الأسلمي. (¬3) رواه البخاري (372) في (الصلاة): باب كم تصلي المرأة في الثياب -وأطرافه هناك- ومسلم (645) في (المساجد): باب استحباب التبكير بالصبح في أول وقتها من حديث عائشة. (¬4) "الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بضوء الصبح. . . " (و). (¬5) أما إن صلاته عليه السلام كانت التغليس، ففي حديث أبي مسعود الأنصاري الطويل في صلاة جبريل بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وصَلَّى الصُّبح مرة بغَلَس ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغَلَس حتى مات -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يعُد إلى أن يُسفر"، أخرجه أبو داود (394) في (الصلاة): باب ما جاء في المواقيت، وابن خزيمة (352)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 380)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 176)، والطبراني (22/ 259)، وابن حبان (1449) و (1494)، والدارقطني (1/ 250) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 40 رقم 37 - ط. قلعجي) - والبيهقي (1/ 363 - 364)، وفي "الخلافيات" (1/ ق 159/ أ)، والخطيب في "الفصل للوصل" (2/ 628 وما بعد - ط. ابن الجوزي) وهو حديث جيّد رواته كلهم ثقات غير أسامة بن زيد الليثي وهو حسن الحديث، وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (3/ 416 رقم 1167)، و"فتح الباري" (2/ 5 - 6)، و"تنقيح التحقيق" (1/ 352)، و"الإرواء" (2/ 628). (تنبيه): ذكر الخطيب في "الفصل" (2/ 630) أن أسامة بن زيد وهم إذ ساق جميع الحديث بهذا الإسفار؛ لأن قصة المواقيت ليست من حديث أبي مسعود، وإنما كان الزهري يقول فيها: بلغنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬6) هو مذكور في الحديث السابق. (¬7) رواه البخاري (576) في (مواقيت الصلاة): باب وقت الفجر، و (1134) في (التهجد): باب من تسحر فلم ينم حتى صلى الصبح من حديث أنس بن مالك، ورواه البخاري (575) و (1921) في (الصوم): باب قدر كم بين السجود وصلاة الفجر، ومسلم (1097) في (الصيام): باب فضل السحور وتأكيد استحبابه من حديث أنس بن مالك عن زيد بن ثابت. (¬8) في (ق): "فردوا".

حديث رافع بن خَديج: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (¬1)، وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار بها دوامًا، لا ابتداء، فيدخل فيها مغلسًا ويخرج منها مسفرًا كما كان يفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقوله موافق لفعله، لا مناقض له، وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 465 و 4/ 140 و 142 و 143)، وابن أبي شيبة (1/ 354)، وعبد الرزاق (2159)، والحميدي (408)، والطيالسي في "مسنده" (301 منحة)، والشافعي في "مسنده" (1/ 51)، وأبو داود (424) في (الصلاة): باب صلاة الصبح، والترمذي (154) في (الصلاة): باب ما جاء في الإسفار بالفجر، والنسائي (1/ 272) في الصلاة: باب الإسفار، وابن ماجه (672) في الصلاة: باب وقت صلاة الفجر، والدارمي (1/ 277)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 178 و 179)، وابن حبان (1489 و 1490 و 1491)، والطبراني في "الكبير" (4283 - 4293)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 457)، والبغوي (354)، وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 94)، و"ذكر أخبار أصبهان" (2/ 329)، والحازمي في "الاعتبار" (ص 75)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (رقم 458)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (13/ 45) من طريقين عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج به. ووقع لفظه عند بعضهم: "أصبحوا بالصبح. . . ". قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وقد رواه بعضهم فجعله عن محمود بن لبيد عن بعض أصحاب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواه بعضهم فجعله في مسند محمود بن لبيد ومثل هذا لا يضر إن شاء اللَّه تعالى، وانظر: "نصب الراية" (1/ 238)، وقد فصل القول فيه البيهقي في "الخلافيات" (مسألة رقم 67)، وانظر: "الإرواء" (1/ 281 - 287) وحكم فيه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- بصحة الحديث. والعجب من السيوطي في "الأزهار المتناثرة" (ص 14)، فإنه عدّه متواترًا؛ فقال: "أخرجه الأربعة عن رافع بن خديج، وأحمد عن محمود بن لبيد، والطبراني عن بلال وابن مسعود وأبي هريرة وحواء، والبزار عن أنس وقتادة، والعدني في "مسنده" عن رجل من الصحابة". ولم يتفطن رحمه اللَّه أن زيد بن أسلم اضطرب في طرقه؛ فجعله تارة من مسند رافع، وتارة من مسند أنس، وتارة عن محمود بن لبيد، وتارة عن رجل من الأنصار، وتارة عن حواء؛ فهؤلاء خمسة يرجع حديثهم إلى اضطراب زيد بن أسلم، وحكم ابن حبان في "المجروحين" (1/ 324 - 325) على حديث أبي هريرة بالوهم، وحديث بلال وابن مسعود ضعيفان، ورواه عاصم بن عمر بن قتادة، واختلف عليه فيه؛ فجعله مرة عن رافع، ومرة عن قتادة بن النعمان، فلم يسلم من هذه الأحاديث إلا حديث رافع، وهو صحيح. وانظر: "الخلافيات" للبيهقي (4 مسألة رقم 67) وتعليقنا عليه. (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 89)، و"طريق الهجرتين" (ص 386 - 388).

[وقت المغرب]

[وقت المغرب] المثال الرابع والستون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق كما في "صحيح مسلم" من حديث عبد اللَّه بن [عمرو] (¬1) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وَقْتُ صلاة الظهر ما لم تحضر صلاة العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفرّ الشمس، ووقت [صلاة] المغرب ما لم يسقط نور الشَّفق، ووقت [صلاة] العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس" (¬2)، وفي "صحيحه" أيضًا عن أبي موسى أن سائلًا سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المواقيت فذكر الحديث، وفيه: "ثم أمره فأقام المغرب حين وَجَبَت الشمس، فلما كان في اليوم الثاني قال: ثم أخَّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق [وفي لفظ: فصلَّى المغرب قبل أن يغيب الشفق] (¬3)، ثم قال: الوقت ما بين هذين" (¬4)، وهذا متأخر عن حديث جبريل (¬5)؛ لأنه كان بمكة، وهذا قول، وذاك (¬6) فعل، وهذا يدلّ على الجواز، وذلك [يدل] (¬7) على الاستحباب، وهذا في "الصحيح"، وذاك (¬8) في "السنن"، وهذا يوافق قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها" (¬9)، وإنما خُصَّ منه الفجر بالإجماع، فما عداها من الصلوات داخل في عمومه، والفعل إنما يدل على الاستحباب فلا يعارض العام ولا الخاص. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "عمر"! والتصويب من "صحيح مسلم" و (ن) و (ق). (¬2) رواه مسلم (612) في (المساجد): باب أوقات الصلوات الخمس. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رقم (614) في (المساجد): باب أوقات الصلوات الخمس. (¬5) حديث جبريل في إمامته بالنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه جمع من الصحابة، وخرجته في كتابي "الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر" (ص 21 - 22 - ط. الثانية)، وذكر طرقه مفصلة الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 221 - 227)، وليس شيء منها مروي في أحد "الصحيحين"، وكلها فيها أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صلّى المغرب في وقت واحد، ولكن هذه لا تعارض أحاديث الصحيح، كما قال المؤلف رحمه اللَّه. (¬6) في المطبوع: "وذلك". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في المطبوع: "وذلك". (¬9) لم أجد حديثًا بهذا اللفظ، ولعله في "الخلافيات"، فإن المصنف يكثر النقل منه، وفي "صحيح مسلم" (681) في (المساجد): باب قضاء الصلاة الفائتة من حديث أبي قتادة: "أما أنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى".

[وقت العصر]

[وقت العصر] المثال الخامس والستون: رد السنة الصريحة المحكمة الثابتة في وقت العصر أنه (¬1) إذا صار ظل كل شيء مثله، وأنهم كانوا يصلّونها مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم يذهب أحدهم إلى العَوَالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة (¬2)، وقال أنس: صلّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العصر، فأتاه رجل من بني سَلَمة فقال: يا رسول اللَّه، إنَّا نريد أن ننحر جزورًا لنا، وإنا نحبُّ أن تحضرَها، قال: نعم، فانطلق وانطلقنا معه، فوجد الجزور لم تُنحر، فنُحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس (¬3)، ومحال أن يكون هذا بعد المثلين، وفي "صحيح مسلم" عنه: "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر" (¬4)، ولا معارض لهذه السنن، لا في الصحة ولا في الصراحة والبيان، فردّت [هذه السنن] (¬5) بالمجمل من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6): "مَثَلُكم ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجراء فقال: مَنْ يعمل لي إلى نصف النهار على قِيرَاط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي إلى أن تغيب الشمس على قيراطين (¬7)، فعملتم أنتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقلّ أجرًا، فقال: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أُوتيه من أشاء" (¬8)، وياللَّه العجب! أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وأنه". (¬2) رواه البخاري (550) في (المواقيت): باب وقت العصر، ومسلم (621) في (المساجد): باب استحباب التبكير بالعصر. وهناك أحاديث أخرى في "صحيح البخاري" في الأبواب المذكورة. قال (و): "العوالي": أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية، وروى حديثه هذا الجماعة إلا البخاري! اهـ. (¬3) رواه مسلم (624) في (المساجد): باب استحباب التبكير بالعصر. (¬4) لم أجد في "صحيح مسلم" حديثًا عن أنس بهذا اللفظ، وإنما هو في (612) من حديث عبد اللَّه بن عمرو كما تقدم. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬6) عنون في هامش (ق) هنا قائلًا: "مستدل من يؤخر العصر من الحنفية وغيرهم". (¬7) في (ك): "قيراطين قيراطين". (¬8) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب أحاديث الأنبياء): باب ما ذكر عن بني إسرائيل (6/ 495 - 496 رقم 3459) عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-. =

[تخليل الخمر]

العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة؟ وإنما يدل على أن صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر، وهذا لا رَيْبَ فيه. [تخليل الخمر] المثال السادس والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في المنع من تخليل الخمر، كما في "صحيح مسلم" عن أنس: "سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخمر تتخذ خلًا، قال: لا" (¬1)، وفي "المسند" وغيره من حديث أنس قال: "جاء رجل إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي حِجْره يتيم، وكان عنده خمر حين حرمت الخمر، فقال: يا رسول اللَّه، أصنعها خلًا؟ قال: لا، فصبَّها حتى سال الوادي" (¬2)، وقال أحمد: ثنا وكيع: ثنا سفيان، عن السُّديّ، عن أبي هُبيرة (¬3)، عن أنس: "أن أبا طلحة سأل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أيتام ورثوا خمرًا، فقال: أهْرِقْها (¬4)، فقال: أفلا نجعلها خلًا؟ قال: لا" (¬5)، وروى الحاكم والبيهقي من حديث أنس أيضًا قال: "كان في حجر ¬

_ = وأخرجه في "صحيحه" أيضًا (كتاب الإجارة): باب الإجارة إلى نصف النهار (4/ 445/ رقم 2268) عن ابن عمر مطولًا مرفوعًا، وفيه: "مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استاجر أجراء. . . " نحوه. وأخرجه في "صحيحه" أيضًا (كتاب الإجارة): باب الإجارة إلى صلاة العصر (4/ 446 - 447/ رقم 2269)، و (كتاب فضائل القرآن) باب فضل القرآن على سائر الكلام (6/ 66 رقم 5021) عن ابن عمر نحوه. وأخرجه في "صحيحه" أيضًا (كتاب الإجارة): باب الإجارة من العصر إلى الليل (4/ 447 رقم 2271) عن أبي موسى مرفوعًا نحوه، وفيه: "مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قومًا". (¬1) هو فيه (1983) في (الأشربة): باب تحريم تخليل الخمر. (¬2) هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحمد، وإنما رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (3335)، والبيهقي (6/ 37) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود قال: حدثنا سفيان عن السُّدي عن أبي هريرة يحيى بن عباد عن أنس به. وهذا إسناد فيه مقال، أبو حذيفة سيء الحفظ، لكنه متابع فانظر ما بعده. (¬3) في المطبوع و (ك) و (ق): "أبي هريرة"، وهو خطأ. (¬4) في (ك): "أهريقوها"، وفي (ق): "أهريقها". (¬5) هو في "المسند" (3/ 119 و 180) من طريق وكيع به. ورواه أيضًا أبو داود (3675) في (الأشربة): باب ما جاء في الخمر تخلل، والترمذي (1294) في (البيوع): باب النهي أن يتخذ الخمر خلًا، وأبو يعلى (4045 و 4051)،=

أبي طلحة يتامى (¬1)، فاشترى لهم خمرًا، فلمَّا أنزل اللَّه تحريم الخمر أتى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر ذلك له، فقال: أأجعله خلًا؟ قال: [لا]، فأهْرقه" (¬2)، وفي الباب عن أبي الزبير عن جابر (¬3)، وصح ذلك عن عمر بن الخطاب (¬4)، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف، فرُدَّت بحديث مجمل لا يثبت، وهو ما رواه الفَرَج بن فَضَالة، عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة، عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تحلبها، ففقدها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "ما فعلت شاتك؟ (¬5) فقلت: ماتت، قال: أفلا انتفعتم ¬

_ = وأبو عبيد في "الأموال" (282)، وابن الجارود (854)، والطبراني في "الكبير" (4713)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3336 و 3337)، والدارقطني (4/ 265) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 112 رقم 104 - ط. قلعجي) -، والبيهقي (6/ 37)، وفي المعرفة (8/ 225)، وابن أبي شيبة (5/ 512) -، من طرق عن سفيان به، وإسناده حسن لحال السدي وهو إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة. ورواه أحمد (3/ 260)، والترمذي (1293)، والدارقطني (4/ 265)، والطبراني (4714) من طريق الليث بن أبي سليم عن يحيى بن عباد عن أنس عن أبي طلحة به. وقال في آخره: "أهرق الخمر واكسر الدنان"، وجعله من (مسند أبي طلحة) وكذا فعل قيس بن الربيع فرواه عن السدي مثله، رواه الطبراني (4712)، وهو في "مسند أحمد" (3/ 260) من طريق إسرائيل عن الليث، وليس فيه كسر الدنان، قال الدارقطني في "العلل" (6/ 12 - 13): "والصحيح قول الثوري وإسرائيل"، وانظر طريق إسرائيل في الحديث الآتي. والحديث أصله في "صحيح مسلم" كما مضى. (¬1) في (ق) و (ك): "أيتام". (¬2) رواه أحمد (3/ 260)، والدارمي (2/ 118)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3338 و 3339)، والدارقطني (4/ 265)، والبيهقي (6/ 37) من طرق عن إسرائيل عن السدي عن يحيى بن عباد عنه، وإسناده حسن. وأقرب لفظ للمذكور هنا هو رواية البيهقي. ما بين المعقوفتين ليس في (د) و (و)، وفي (ق): "فأهراقه". (¬3) حديث أبي الزبير عن جابر هذا: رواه البيهقي (6/ 37) من طريق أبي جناب عن أبي الزبير به، وأبو جناب هذا ضعفوه لشدة تدليسه كما في "التقريب". (¬4) رواه عبد الرزاق (17111)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (8/ 292 و 293)، وأبو عبيد في "الأموال" (288)، والبيهقي في "سننه" (6/ 37)، وابن حزم في "المحلى" (7/ 498) من طريق ابن أبي ذئب عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد عن أسلم مولى عمر عن عمر، قال: "لا تشرب خل الخمر، افسدت حتى يبدي اللَّه فسادها، فعند ذلك يطيب الخل". وإسناده صحيح على شرط الشيخين. (¬5) في المطبوع: "بشاتك".

بإهابها، قلت: إنها ميتة، قال: فإن دِبَاغَها يحل كما يحل الخلُّ الخمرَ" (¬1)، قال الحاكم (¬2): "تفرَّد به الفَرَج بن فَضَالة عن يحيى، والفرج ممن لا يُحتجُّ بحديثه، ولم يصح تحليل خل الخمر من وجه". وقد فَسَّره راويه الفرج فقال: "يعني أنَّ الخمر إذا تغيرت فصارت خلًا حَلَّت" (¬3)، فعلى هذا التفسير الذي فَسَّره راوي الحديث يرتفع الخلاف، وقد قال الدارقطني (¬4): كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فَضَالة، ويقول: حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة، وقال البخاري (¬5): الفَرَج بن فَضَالة منكر الحديث. ورُدَّت بحديثٍ واهٍ من رواية مغيرة بن زياد، عن أبي الزبير، عن جابر يرفعه: "خيرُ خَلِّكم خلُّ خَمْركم" (¬6)، ومغيرة هذا يقال له: أبو هشام المكفوف ¬

_ (¬1) رواه ابن عدي في "الكامل" (6/ 2054)، ومن طريقه البيهقي (6/ 37 - 38)، والطبراني في "الأوسط" (رقم 9390)، والكبير (23/ رقم 847)، والدارقطني (1/ 49 و 4/ 266)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" رقم (1713)، وعلّته الفرج بن فَضَالة، وتفرد به، كما قال الدارقطني. وقال البيهقي في "المعرفة" (8/ 226): "تفرد به الفرج، وكان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عنه، ويقول: حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث منكرة مقلوبة، وضعفه سائر أهل العلم بالحديث"، وقد تكلم عليه ابن القيم، وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 46)، و"المجمع" (1/ 223). (¬2) نقله عنه البيهقي في "الخلافيات" (3/ 372 - مختصره)، ومنه ينقل المصنف. (¬3) هذه رواية محمد بن بكار عن الفرج، رواها البيهقي في "الخلافيات" (3/ 372 - 373 - مختصره). (¬4) ضعفه الدارقطني في "سننه" (1/ 49، 144)، وفي "سؤالات البرقاني" له (رقم 416)، وروى تضعيفه القاضي أبو الطيب الطبري، كما في "تاريخ بغداد" (12/ 396)، وانظر "تهذيب الكمال" (23/ 160). والعبارة التي نقلها المصنف ليست للدارقطني، وإنما هي لـ (عمرو بن علي) وهو الفلاس، نقلها عنه البيهقي في "الخلافيات" (3/ 373 - مختصره)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (7/ رقم 483)، والمزي في "تهذيب الكمال" (23/ 161)، فظن المصنف أنه الدارقطني، واسمه (علي بن عمر)، وسبب وهمه تشابه الأسماء. (¬5) في "ضعفائه" (رقم 300)، و"التاريخ الكبير" (7/ 134). (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 38) من طريق الحسن بن قتيبة: حدثنا مغيرة بن زياد به، وأوله: "ما أقفر أهل بيت من أدم فيه خل. . . "، قال البيهقي: قال أبو عبد اللَّه: هذا حديث واهي والمغيرة بن زياد صاحب مناكير. أقول: المغيرة بن زياد قال فيه أحمد بن حنبل: ضعيف الحديث له مناكير، وقال ابن =

صاحب مناكير عندهم، ويقال: إنّه حدَّث عن عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير بجملة من المناكير، وقد حَدَّث عن عبادة بن نُسَيّ بحديث غريب موضوع، فكيف يعارض بمثل هذه الرواية الأحاديث الصحيحة المحفوظة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في النهي عن تخليل الخمر؟ ولم يزل أهل مدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينكرون ذلك، قال الحاكم (¬1): سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعتُ محمد بن إسحاق [أخبرنا العباس] يقول: سمعتُ قُتيبة بن سعيد يقول: قدمت المدينة أيام مالك، فقدمت إلى فامي (¬2) فقلت: عندك خَلُّ خمر؟ قال: سبحان اللَّه! في حرم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: ثم قدمت بعد موت مالك، فذكرتُ ذلك لهم، فلم يُنكر عليّ. وأمّا ما روي عن علي -رضي اللَّه عنه- من اصطباغه بخلِّ الخمر (¬3)، وعن عائشة أنه لا ¬

_ = معين: ليس به بأس، له حديث واحد منكر، وقال ابن عدي: هو عندي لا بأس به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال أيضًا: ليس به بأس، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس بالمتين عندهم. وقد أعلّه الحافظ في "التلخيص" أيضًا بالراوي عنه، وهو الحسن بن قتيبة، قال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، قال الذهبي: بل هو هالك، قال الدارقطني في رواية البرقاني: متروك الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال الأزدي: واهي الحديث. والحديث قال فيه ابن الجوزي في "التحقيق": "لا أصل له"، وسكت عليه صاحب "التنقيح" (1/ 318). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الفتاوى" (21/ 485): "هذا الكلام لم يقله النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن نقله عنه فقد أخطأ، ولكن هو كلام صحيح". وقال البيهقي: "أهل الحجاز يقولون لخل العنب: خل الخمر، وهو المراد بالخبر إن صح". (¬1) نص كلام الحاكم: "هذا حديث واهٍ شاذ، لا أعلم أنا كتبناه إلا بهذا الإسناد، والمغيرة بن زياد الموصلي، يقال له: أبو هشام. .! وذكر الكلام السابق عند المصنف، إلى قوله هنا: "سمعت أبا الحسن. . . "، ونقله عن الحاكم البيهقي في "الخلافيات" (3/ 374 - مختصره)، ومنه ينقل المصنف، وما بين المعقوفتين منه، وسقط ما بين المعقوفتين من جميع نسخ "الإعلام" الخطية والمطبوعة. (¬2) تحرفت في جميع نسخ "الإعلام" إلى "قاض". (¬3) رواه عبد الرزاق (17107 و 17108)، وابن أبي شيبة (5/ 512)، أو (8/ 2 رقم 4143 - ط. الهندية)، وأبو عبيد في "الأموال" (رقم 291)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 485)، وابن زنجويه في "الأموال" (رقم 442)، والأنصاري في "حديثه" (ق 37/ ب)، والبيهقي (6/ 38)، وفي "الخلافيات" (3/ 374 - مختصره)، وابن حزم في =

[تسبيح من نابه شيء في صلاته]

بأس به (¬1)، فهو خل الخمر الذي تخلّلت بنفسها لا باتّخاذها. [تسبيح من نابه شيء في صلاته] المثال السابع والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة في تسبيح المصلّي إذا نَابَه شيء في صلاته (¬2)، كما في "الصحيحين" من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "التسبيح في الصلاة للرِّجال، والتصفيق للنِّساء" (¬3)، وفي "الصحيحين" أيضًا عن سهل بن سعد الساعدي: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذهب إلى بني عَمرو بن عوف ليصلح بينهم"، فذكر الحديث، وقال في آخره: فقال النبيّ (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما لي أراكم أكثرتم التصفيق؟ مَنْ نابه شيء في صلاته فليسبِّح، فإنه إذا سبَّح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء" (¬5)، وذكر البيهقي من حديث إبراهيم بن طَهْمان، عن الأعمش، عن ذَكْوان، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا استؤذن على الرجل، وهو يصلي فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلّي فإذنها التصفيق" (¬6)، قال ¬

_ = "المحلى" (7/ 517) من طريق سليمان التيمي عن أم خراش عنه. وأم خراش أو خداش أو حراش هذه لم أجد فيها كلامًا لأئمة الجرح والتعديل، وترجمها ابن سعد (8/ 485)، واقتصر على قوله: "روت عن علي". (¬1) رواه ابن أبي شيبة (5/ 512)، والبيهقي في "الخلافيات" (3/ 374 - مختصره) من طريق مسربل العبدي عن أمه عنها، قالت: "لا بأس بخل الخمر"، وذكره البيهقي (6/ 38)، وقال: إسناده مجهول، وزاد في "الخلافيات": "مظلم". قلت: وذلك من أجل مسربل وأمه، انظر: "طبقات الأسماء المفردة" (ص 99)، و"التاريخ الكبير" (8/ 64)، و"الجرح والتعديل" (8/ 433)، و"ذكر اسم كل صحابي روى عن رسول اللَّه أمرًا ونهيًا ومن بعده من التابعين" (رقم 498). (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 362)، و"تهذيب السنن" (3/ 88 - 90) فإنه مهم. (¬3) رواه البخاري (1203) في (العمل في الصلاة): باب التصفيق للنساء، ومسلم (422) في (الصلاة): باب تسبيح الرجال، وتصفيق المرأة إذا نابها شيء في الصلاة. (¬4) في (ق) و (ك): "رسول اللَّه". (¬5) رواه البخاري (684) في (الأذان): باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول -وأطرافه هناك- ومسلم (421) في (الصلاة): باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام. (¬6) رواه في "سننه الكبرى" (2/ 247)، و"الخلافيات" (2/ 151 - مختصره) من طرق عن حفص بن عبد اللَّه عن إبراهيم بن طهمان به. وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري. وروى أحمد في "مسنده" (2/ 290): حدثنا مروان بن معاوية الفزاري أنا يزيد بن =

[سجدات المفصل والحج]

البيهقي (¬1): "رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات" فردَّت هذه السنن بأنها معارضة لأحاديث تحريم الكلام في الصلاة، وقد تعارض حاظر ومبيح، فيقدَّم الحاظر. والصواب أنه لا تعارض بين سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بوجهٍ، وكل منها له وجه، والذي حَرَّم الكلام في الصلاة ومنع منه هو الذي شرع التسبيح المذكور، وتحريم الكلام كان قبل الهجرة، وأحاديث التسبيح بعد ذلك، فدعوى نسخها بأحاديث تحريم الكلام محال، ولا تعارض بينهما بوجهٍ ما، فإن "سبحان اللَّه"، ليس من الكلام الذي منع منه المصلي، بل هو مما أُمِرَ به أَمْر إيجاب أو استحباب، فكيف يُسوَّى بين المأمور والمحظور؟ وهل هذا إلّا من أفسد قياس واعتبار؟. [سجدات المفصل والحج] المثال الثامن (¬2) والستون: رد السنة الثابتة في إثبات سجدات المفصل، والسجدة الأخيرة من [سورة] الحج (¬3)، كما روى أبو داود في "السنن": حدثنا محمد بن عبد الرحيم البَرْقي: [ثنا سعيد] (¬4) بن أبي مريم، أخبرنا نافع بن يزيد، عن الحارث بن سعيد العُتَقي (¬5)، عن عبد اللَّه بن مُنَيْن (¬6)، عن عمرو بن العاص: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقرأه خمس عشرة سجدةً في القرآن، منها ثلاث في المُفصَّل، وفي ¬

_ = كيسان استأذنتُ على سالم بن أبي الجعد وهو يصلي فسبَّح بي فلما سلم قال: إنّ إذن الرجل إذا كان في الصلاة يسبح، وإن إذنْ المرأة أن تصفق وقال أحمد: حدثنا مروان أنا عوف عن الحسن عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مثله. وأخرجه أحمد (2/ 290) وابن حبان (2262 الإحسان) من طريق مروان: أخبرني عوف عن ابن سيرين عن أبي هريرة مثله، فهذه ثلاثة أسانيد: الأول مقطوع، والثاني مرسل، والثالث: مرفوع على شرط الشيخبن. (¬1) في "السنن الكبرى" (2/ 247)، و"الخلافيات" (2/ 151 - مختصره). (¬2) في (ك): "السابع". (¬3) تقدمت الإشارة إلى هذا المبحث، وتتميمًا للفائدة انظر: "زاد المعاد" (1/ 96)، و"تهذيب السنن" (2/ 117). وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض يسع لفظه "ثنا"، وقبلها في (ن)، و (ق): "البرتي" بالتاء، وفي (ك): "الزبري". (¬5) في (ق) و (ك): "العنفي". (¬6) في المطبوع و (ك) و (ق): "منير" براء في آخره، والصواب نون.

سورة الحج سجدتان" (¬1)، تابعه محمد بن إسماعيل السُّلمي، عن سعيد بن أبي مريم. وقال ابن وهب: أنا ابنُ لَهِيعة، عن مِشْرَح بن هاعَان (¬2)، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فُضِّلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجد فيهما (¬3) فلا يقرأهما" (¬4)، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1401) في (الصلاة): باب تفريع أبواب السجود كم سجدة في القرآن؟ وابن ماجة (1057) في (إقامة الصلاة): باب عدد سجود القرآن، والدارقطني (1/ 408) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (3/ 66 رقم 666 - ط، قلعجي) -، والحاكم (1/ 223)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (2/ 527)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (97 و 249) من طريق الحارث بن سعيد العتقي به. قال الحاكم: وقد احتجّ الشيخان بأكثر رواته، وليس في عدد سجود القرآن أتمّ منه. ونقل في "التلخيص" عن المنذري أنه حسنه (2/ 18)، ولم أجدها في "مختصره على أبى داود". قال عبد الحق في "أحكامه" (2/ 92): وعبد اللَّه بن منين لا يحتج به، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 158 رقم 869) وذلك لجهالته، فإنه لا يعرف روى عنه غير الحارث بن سعيد العتقي، وهو رجل لا يعرف له حال. وانظر: "نصب الراية" (2/ 180). قلت: عبد اللَّه بن مُنين وثقه يعقوب بن سفيان، كما في "التهذيب" و"التقريب". وأما الحارث بن سعيد: قال ابن حجر في "التهذيب": "قال ابن القطان الفاسي: لا يعرف له حال، وقرأت بخط الذهبي: لا يعرف حاله". فهذا إسناد ضعيف لا تقوم به حجة. وضعفه شيخنا الألباني في "تمام المنة" (ص 269). (¬2) في المطبوع: "بن عاهان"، وفي (ق): "ماهان"، والصواب ما أثبتناه. (¬3) في (ك): "بهما". (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 151 و 155)، وأبو داود (1402) في (الصلاة): باب تفريع أبواب السجود، وكم سجدة في القرآن؟ والترمذي (578) في (أبواب الصلاة): باب ما جاء في السجدة في الحج، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص 249)، والروياني في "مسنده" (1/ 173 رقم 220)، والدولابي في "الكنى" (1/ 116)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص 289)، وأبو نعيم في "المعرفة" (4/ 2153 رقم 5393)، والطبراني في "الكبير" (17/ 847)، والدارقطني (1/ 408)، والحاكم (1/ 221) و (2/ 390)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (2/ 317)، والبغوي في "شرح السنة" (4/ 304)، والديلمي في "مسند الفردوس" (ق 265/ أ)، والثعلبي في "الكشف والبيان" (م 3/ ق 57/ أ) كلهم من طرق عن ابن لهيعة. وقال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بذلك القويّ، وقال الحاكم: هذا حديث لم نكتبه مسندًا إلّا من هذا الوجه، وعبد اللَّه بن لهيعة الحضرمي أحد الأئمة إنما نقم عليه اختلاطه في آخر عمره. =

وحديث ابن لهيعة يحتجّ منه (¬1) بما رواه عنه العبادلة كعبد اللَّه بن وهب وعبد اللَّه بن المبارك، وعبد اللَّه بن يزيد المقرئ، قال أبو زرعة (¬2): ابنُ لهيعة، كان ابن المبارك وابن وهب يتبعان أصوله، وقال عمرو بن علي (¬3): من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك والمقرئ (¬4) أصح ممن كتب عنه بعد احتراقها، وقال ابن وهب (¬5): كان ابن لهيعة صادقًا، وقد انتقى النسائي (¬6) هذا الحديث من جملة ¬

_ = أقول: ابن لهيعة اختلط ورواية العبادلة عنه صحيحة، وهنا روى عنه اثنان: عبد اللَّه بن يزيد، وابن وهب، إلا أن هناك علّة أخرى، وهي مِشْرح بن هاعان. قال الذهبي: صدوق لينه ابن حبان، وقال ابن معين: ثقة، وقال ابن حبان: يروي عن عقبة مناكير لا يتابع عليها، وقال الذهبي: الصواب ترك ما انفرد به. ثم وجدت ابن لهيعة يضطرب في هذا الحديث، فقد رواه أبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص 249)، والطبراني في "الكبير" (17/ 846) من طريقه عن أبي عُشَّانة عن عقبة بن عامر. وأبو عشانة هذا هو حي بن يؤمن وهو ثقة، لكن هذا من تخاليط ابن لهيعة، ويشهد له حديث ابن العاص المتقدم. ومرسل خالد بن معدان، رواه أبو عُبيد في "فضائل القرآن" (248 - 249)، وأبو داود في "المراسيل" (رقم 78)، ومن طريقه البيهقي (2/ 307)، قال: وقد أُسند هذا، ولا يصح، وقد ذكر له الحاكم والبيهقي شواهد موقوفة عن عدد من الصحابة، قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/ 221): وهذه شواهد يشدّ بعضها بعضًا، وانظرها في "الخلافيات" (مسألة رقم 104 - بتحقيقي)، و"فضائل القرآن" لأبي عبيد (ص 248 - 249 - ط. دار ابن كثير)، و"لمحات الأنوار ونفحات الأزهار وريّ الظمآن لمعرفة ما ورد من الآثار في ثواب قارئ القرآن" (2/ 815 - 817)، و"موسوعة فضائل سور وآيات القرآن" (2/ 20 - 24) للطرهوني. (¬1) في (ك): "به". (¬2) في "أسامي الضعفاء" (630) ومقولته هذه أوردها ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ رقم 682)، وانظر: "الميزان" (2/ 477). (¬3) نقله عنه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ رقم 682)، وانظر "الميزان" (2/ 477). (¬4) في المطبوع: "وابن المقرئ". (¬5) نقل كلامه الذهبي في "الميزان" (2/ 477). (¬6) لم أظفر بالحديث في "السنن الصغرى" ولا "الكبرى" للنسائي، ولا عزاه المزي في "تهذيب الكمال" (7/ 321) له، واكتفى بعزوه للترمذي وأبي داود، ولم يتعقبه ابن العراقي ولا ابن حجر، ولم يرمز المزي أيضًا في "تهذيب الكمال" (15/ 487) في ترجمة (ابن لهيعة) للنسائي، وكذا من اختصر كتابه، وختم المزي ترجمته بقوله: "وروى =

حديثه، وأخرجه، واعتمده، وقال: "ما أخرجتُ من حديث ابن لهيعة قط إلّا حديثًا واحدًا أخبرناه هلال بن العلاء: ثنا مُعافى بن سُليمان، عن موسى بن أعين، عن عمرو بن الحارث، عن ابن لهيعة، فذكره". وقال ابن وهب (¬1): حدثني الصادق البار -واللَّه- عبدُ اللَّه بن لهيعة، وقال الإمام أحمد (¬2): مَنْ كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟! وقال ابن عيينة (¬3): كان عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع، وقال أبو داود: سمعت أحمد (¬4) يقول: ما كان محدِّث مصر إلّا ابن لهيعة. وقال أحمد بن صالح الحافظ: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلّابًا للعلم (¬5). وقال ابن حبان (¬6): "كان صالحًا لكنه يدلس عن الضعفاء، ثم احترقت كتبه، وكان أصحابنا يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة: ابنُ وهب، وابن مبارك، والقعنبي، والمقرئ فسماعهم صحيح" (¬7). ¬

_ = النسائي أحاديث كثيرة من رواية ابن وهب وغيره يقول فيها عن عمرو بن الحارث وذكر آخر: وعن فلان، وذكر آخر، ونحو ذلك، وجاء كثير من ذلك مبيّنًا في رواية غيره أنه ابن لهيعة". ثم وجدتُ كلام النسائي الذي عند المصنف في "الميزان" (2/ 477) -وينقل المصنف منه كما بيّنته في "فوائد حديثية" و"الفروسية"- وقبله: "وقال أبو سعيد بن يونس: قال النسائي يومًا. . . " وذكره. (¬1) رواه عنه أبو الطاهر بن السرح، وقال: "وما سمعتُه يحلف بمثل هذا قط". انظر: "الكامل" لابن عدي (4/ 1463)، و"تهذيب الكمال" (15/ 495)، و"الميزان" (2/ 477). (¬2) في (د): "حمد"!، ومقولته في "سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود" (2/ 175 رقم 1512)، و"تهذيب الكمال" (15/ 494)، وفيه "قال النسائي عن أبي داود" والنسائي خطأ شنيع، صوابه "الآجري"، والعبارة في "الميزان" (2/ 477). (¬3) هذه مقولة سفيان الثوري، كما في "تهذيب الكمال" (15/ 495)، ورأى المصنف العبارة في "الميزان" (2/ 477) معزوة لسفيان هكذا دون تعيين، فظنه "ابن عيينة"!! فأخطأ. (¬4) "تهذيب الكمال" (15/ 496)، و"الميزان" (2/ 478)، وفي (ق): "من كان. . . ". (¬5) في المطبوع: "طالبًا للعلم"، والصواب ما أثبتناه، كما في "المعرفة والتاريخ" (2/ 184)، و"تهذيب الكمال" (15/ 497)، و"الميزان" (2/ 477)، و (ق). (¬6) في "المجروحين" (2/ 11)، وتسمية العبادلة من الذهبي في "الميزان" (2/ 482) والتصرف في عبارة ابن حبان منه. (¬7) ألحق بعضُ العلماء جمعًا بالعبادلة، فمشوا روايتهم عن ابن لهيعة، وألحقوهم بهم، بسبب قيام الأدلة أو القرائن على روايتهم عنه قبل اختلاطه (المزعوم!!)، وإليك ما =

وقد صحّ عن أبي هريرة أنه سجد مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬1)، وصحّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سجد في النجم، ذكره البخاري (¬2). فردّت هذه السنن برأي فاسد وحديث ضعيف: أما الرأي (¬3) فهو أن آخر الحج السجود فيها سجود الصلاة لاقترانه بالركوع، بخلاف الأولى؛ فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع، ولهذا لم يكن قوله تعالى {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [آل عمران: 43]، من مواضع السجدات بالاتفاق. وأما الحديث الضعيف فإنه (¬4) رواه أبو داود: ثنا محمد بن رافع: ثنا أزهر بن القاسم: ثنا أبو قدامة، عن مطر الوَرَّاق، عن عكرمة، عن ابن العباس: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسجد في شيء من المُفصَّل منذ تحول إلى المدينة" (¬5). ¬

_ = وقفت عليه، وأكتفي بسرد الأسماء، تجنبًا للإطالة: قتيبة بن سعيد، سفيان الثوري، شعبة بن الحجاج، الأوزاعي، عثمان بن الحكم الجذامي، عمرو بن الحارث المصري، إسحاق بن عيسى الطباع، ليث به سعد، لهيعة بن عيسى بن لهيعة (أخذ عنه قتيبة من كتابه)، عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبيد أبو سعد مولى بني هاشم، بشر بن بكر البجلي، عثمان بن صالح السهمي، النضر بن عبد الجبار. (¬1) رواه مسلم (578) في (المساجد) باب سجود التلاوة. (¬2) في "الصحيح" كتاب "سجود القرآن: باب ما جاء في سجود القران وسنتها (1067) و (1070): باب سجدة النجم، و (3853) في "مناقب الأنصار": باب ما لقي النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه من المشركين بمكة، و (3972) في (المغازي): باب قتل أبي جهل، و (4863) في (التفسير): باب {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)}، ومسلم (576) من حديث ابن مسعود، ورواه البخاري (1071)، و (4862) من حديث ابن عباس. (¬3) وهو قول "أصحاب أبي حنيفة"، انظر "المبسوط" (2/ 6). (¬4) في المطبوع: "فما". (¬5) رواه الطيالسي في "المسند" (1/ 112 - المنحة)، وأبو داود في (1403) في (الصلاة): باب من لم ير السجود في المفصل، وابن خزيمة (560)، والبيهقي (2/ 313)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 444)، -وعزاه الحافظ في "التلخيص الحبير" (2/ 15) لابن السكن في "صحيحه"- من طريق أبي قدامة به. قال الحافظ ابن حجر: وأبو قدامة، ومطر من رجال مسلم، ولكنهما ضُعّفا. أقول: أبو قدامة، قال فيه أحمد بن حنبل: مضطرب الحديث، وقال ابن معين: ضعيف، وقال مرة: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: كان شيخًا صالحًا وكثر وهمه. ومطر فيه ضعف أيضًا. قال ابن عبد البر -كما في "نصب الراية" (2/ 182) -: هذا حديث منكر، وأبو قدامة =

فأما الرأي فيدل على فساده وجوه: منها أنه مردودٌ بالنص، ومنها أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يُخرجه عن كونه [موضع سجدة، كما أن اقترانه بالعبادة التي هي أعمّ من الركوع لا يخرجه عن كونه سجدة] (¬1)، وقد صح سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- في النَّجم (¬2)، وقد قَرَنَ السجود فيها بالعبادة كما قرنه بالعبادة في سورة الحج، والركوع لم يزده إلّا تأكيدًا، ومنها أن أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة، فإن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، يدخل فيه سجود المصلين قطعًا، وكيف لا؛ وهو أجلّ السجود وأفرضه؟ وكيف لا يدخل هو في قوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} [النجم: 62]، وفي قوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19]، [وقد قال قبل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} [العلق: 9 - 10]،] (¬3) ثم قال: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19]، فأمره بأن يفعل هذا الذي نهاه عنه عدوّ اللَّه، فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع كونها سجدة، بل تؤكّدها وتقوّيها. يوضحه أن مواضع السجدات في القرآن نوعان: إخبار، وأمر، فالإخبار خبر من اللَّه تعالى عن سجود مخلوقاته له عمومًا أو خصوصًا، فسُنَّ للتالي والسامع وجوبًا أو استحبابًا أن يتشبّه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها، وآيات الأوامر بطريق الأَوْلى. وهذا لا فرق فيه بين أمر وأمر، فكيف يكون الأمر بقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} [النجم: 62]، مقتضيًا للسجود دون الأمر بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ¬

_ = ليس بشيء، وأبو هريرة لم يصحب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلّا بالمدينة، وقد رآه يسجد في "الانشقاق- والقلم" -أي العلق-. أقول: وحديث أبي هريرة ثابت في "الصحيح". وقد روى عبد الرزاق في "مصنفه" (5900) (3/ 343) عن معمر عن طاوس عن ابن عباس قال: ليس في المفصل سجدة، وهذا إسناد صحيح. لكن العمدة ما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في "الصحيح". وانظر: "تنقيح التحقيق" (2/ 969) لابن عبد الهادي، و"فتح الباري" (2/ 555)، وتعليقي على "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 318 رقم 235). (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "سجودًا". (¬2) هو في "صحيح البخاري"، وقد سبق تخريجه قريبًا. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).=

[رواية أبي قدامة الحارث بن عبيد]

ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، فالساجد إما متشبه بمن أُخبر عنه، أو ممتثل لما أُمر به، وعلى التقديرين يسنّ له السجود في آخر الحج كما يُسَنُّ له [السجود] (¬1) في أوَّلها، فلما سوَّت السنة بينهما سوى القياس الصحيح والاعتبار الحقّ بينهما، وهذا السجود شرعه اللَّه ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات واستماعها، وقربة إليه، وخضوعًا لعظمته، وتذلّلًا بين يديه، واقتران الركوع ببعض آياته، مما يؤكّد ذلك ويقوّيه، لا يضعفه ويوهيه، واللَّه المستعان (¬2). وأمّا قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [آل عمران: 43]، فإنما (¬3) لم يكن موضع سجدة لأنه خبر خاص عن قول الملائكة لامرأة بعينها أن تُديمَ العبادة لربّها بالقنوت وتصلّي له بالركوع والسجود، فهو خبرٌ عن قول الملائكة لها ذلك، وإعلام من اللَّه تعالى لنا أن الملائكة قالت ذلك لمريم، فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات. [رواية أبي قدامة الحارث بن عبيد] وأما الحديث الضعيف فإنه من رواية أبي قدامة -واسمه الحارث بن عبيد- ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) قال شيخنا العلامة الألباني -رحمه اللَّه- في "تمام المنة" (ص 269 - 270) بعد تضعيفه لحديث عمرو بن العاص السابق: "ولذلك اختار الطحاوي أن ليس في الحج سجدة ثانية قرب آخرها، وهو مذهب ابن حزم في "المحلى"، قال: "لأنه لم يصح فيها سنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أجمع عليها، وصح عن عمر بن الخطاب، وابنه عبد اللَّه وأبي الدرداء السجود فيها"، ثم ذهب ابن حزم إلى مشروعية السجود في السجدات الأخرى المذكورة في الكتاب، وذكر أن العشر الأولى متفق على السجود فيها عند العلماء. وكذلك حكى الاتفاق عليها الطحاوي في "شرح المعاني" (1/ 211)، إلا أنه جعل سجدة (فصلت) بدل سجدة (ص). ثم أخرجا كلاهما بأسانيد صحيحة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سجد في (ص)، و (النجم)، و (الانشقاق)، و (اقرأ)، وهذه الثلاث الأخيرة من المفصل التي أشير إليها في حديث عمرو هذا. وبالجملة؛ فالحديث مع ضعف إسناده قد شهد له اتفاق الأمة على العمل بغالبه، ومجيء الأحاديث الصحيحة شاهدة لبقيّته إلا سجدة الحج الثانية فلم يوجد ما يشهد لها من السنة والاتفاق، إلا أن عمل بعض الصحابة على السجود فيها قد يستأنس بذلك على مشروعيتها، ولا سيما ولا يعرف لهم مخالف، واللَّه أعلم" اهـ. (¬3) في (ق): "فإنه".

[سجود الشكر]

قال الإمام أحمد (¬1) -رضي اللَّه عنه-: هو مضطرب الحديث، وقال يحيى (¬2): ليس بشيء، وقال النسائي (¬3): ليس بالقوي، وقال الأزدي: ضعيف، وقال ابن حبان (¬4): لا يحتجّ به إذا انفرد. قلت: وقد أنكر عليه هذا الحديث (¬5)، وهو موضع الإنكار، فإن أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- شهد سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- في المفصل في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}، ذكره مسلم في "صحيحه" (¬6)، وسجد معه، حتى لو صح خبر أبي قدامة هذا لوجب تقديم خبر أبي هريرة عليه؛ لأنه مثبت فمعه زيادة علم، واللَّه سبحانه أعلم. [سجود الشكر] المثال التاسع والستون: رد السنة (¬7) الثابتة الصحيحة في سجود الشكر (¬8) ¬

_ (¬1) في "العلل ومعرفة الرجال" (رقم 4004، 4005)، ونقله المزي في "تهذيب الكمال" (5/ 259)، والذهبي في "الميزان" (1/ 438). (¬2) كذا في "الميزان" (1/ 438). وقال عباس الدوري في "تاريخه" (2/ 93) عنه: "ضعيف"، وكذا روى عنه أحمد بن زهير، كما في "المجروحين" (1/ 224)، والدقاق أيضًا (رقم 175). (¬3) في "ضعفائه" (رقم 119) ونقل ابن حجر في "التهذيب" (2/ 149 - 150) أنه قال عنه: "صالح"، ونقل المزي في "تهذيب الكمال" (5/ 260) قوله: "ليس بذاك القوي". (¬4) عبارته في "المجروحين" (1/ 224): "كان شيخًا صالحًا ممن كثر وهمه، حتى خرج عن جملة من يحتج بهم إذا انفردوا". (¬5) قال الذهبي في "الميزان" (1/ 439) في ترجمته، وأورد له هذا الحديث: "مطر رديء الحفظ، وهذا منكر، فقد صحَّ أن أبا هريرة سجد مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} وإسلامه متأخر". (¬6) سبق تخريجه قريبًا. (¬7) في (ك): "السنن". (¬8) قال ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 287) بعد أن سرد الأقوال في المسألة: "وبالقول الأول -أي مشروعية سجود الشكر- أقول، لأن ذلك قد روي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن أبي بكر وعلي وكعب بن مالك، فليس لكراهية من كره ذلك معنى"، وقال شيخنا الألباني -رحمة اللَّه عليه- في "الإرواء" (2/ 226 - 232) بعد أن خرج الأحاديث والآثار الواردة في ذلك: "وبالجملة فلا يشك عاقل في مشروعية سجود الشكر بعد الوقوف على هذه الأحاديث، ولا سيما وقد جرى العمل عليها من السلف الصالح -رضي اللَّه عنهم-". وانظر مبحث مشروعية سجود الشكر للمؤلف -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (1/ 95 - 96، و 3/ 22)، و"تهذيب السنن" (4/ 85)، و"الخلافيات" (مسألة 116 - بتحقيقي)، =

كحديث عبد الرحمن بن عوف: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج نحو صدقته فخرّ ساجدًا فأطال السجود، ثم قال: إن جبريل أتاني وبَشَّرني فقال: إن اللَّه عزّ وجلّ يقول لك: مَنْ صلَّى عليك صلّيت عليه، ومَنْ سلَّم عليك سلمت عليه، فسجدت للَّه شكرًا" (¬1)، ¬

_ = و"الموافقات" (3/ 161) للشاطبي، وتعليقنا عليه، وللسخاوي جزء "تجديد الذكر في سجود الشكر"، انظر عنه كتابنا: "مؤلفات السخاوي" (ص 62). (¬1) له عن عبد الرحمن بن عوف طرق: الأولى: محمد بن جُبير بن مُطعم عنه. رواه أحمد في "مسنده" (1/ 191) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (3/ رقم 930، 931) - وابن أبي عاصم في "الصلاة على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-" (45) -ومن طريقه "الضياء" (رقم 929) - وأبو يعلى (869)، والحاكم (1/ 222 - 223)، والبيهقي (2/ 370 - 371 و 9/ 285) من طريق عمرو بن أبي عمرو عن أبي الحويرث عنه به. وهذا إسناد ضعيف: أبو الحويرث هو عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث، سيء الحفظ. أما الحاكم فقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي!! ومحمد بن جبير بن مطعم يظهر أنه لم يسمع من عبد الرحمن بن عوف فإن محمدًا مات قريبًا من المئة، وابن عوف مات سنة (33)، وقد نص الدارقطني -كما في "التهذيب"- على أنه لم يسمع من عثمان، وعثمان مات بعد عبد الرحمن بن عوف. الثانية: عبد الواحد بن محمد بن عبد الرحمن بن عوف. رواه أحمد في "مسنده" (1/ 191) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (رقم 926) - وإسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-"، رقم (7)، ومحمد بن نصر المروزي في "تعظيم قدر الصلاة" (رقم 237)، وابن أبي عاصم في "الصلاة على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-"، (رقم 47)، وابن شاهين في "الترغيب" (رقم 14)، وعبد بن حميد (157)، والحاكم (1/ 550)، ومن طريقه البيهقي (2/ 371) من طريقين عنه به. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 287): رواه أحمد ورجاله ثقات. أقول: عبد الواحد بن محمد هذا لم يوثقه إلّا ابن حبان فقط، وذكره البخاري، وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، ثم ينظر في سماعه من جده، ووقع فيه خلاف بيَّنه الدارقطني في "العلل" (4/ 296 - 297)، وذكرته في تعليقي على "جلاء الأفهام" (ص 144 - 145) للمصنف. الثالثة: مولى لعبد الرحمن بن عوف. رواه أبو يعلى (847)، وابن أبي عاصم في "الصلاة على النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-" (رقم 57)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (1555) من طريق ابن أبي سندر الأسلمي عنه به. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 160 - 161): رواه أبو يعلى، وفيه من لم أعرفه. أقول: يريد ابن أبي سندر، ومولى عبد الرحمن فإنهما مجهولان. الرابعة: إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. رواه ابن ابي شيبة في "مصنفه" (4/ 484 و 11/ 556)، والبزار في "مسنده" (1006)، =

وكحديث سعد بن أبي وقاص في سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- شكرًا لربّه لما أعطاه ثلث أمته، ثم سجد ثانية فأعطاه الثلث الآخر ثم [سجد] (¬1) ثالثة فأعطاه الثلث الباقي (¬2)، وكحديث أبي بكرة (¬3): "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جاءه أمر يُسرّ به خَرَّ ساجدًا شكرًا للَّه [تعالى] (¬4)؛ وأتاه بشيرٌ ليبشره بظفر جندٍ له على عدوّهم، فقام وخرَّ ساجدًا" (¬5)، وسجد كعب بن مالك لما بُشِّر بتوبة اللَّه عليه (¬6)، وسجد أبو بكر حين جاءه قتل ¬

_ = وإسماعيل القاضي (10)، وأبو يعلى (858)، والعقيلي (3/ 467 - 468)، وابن أبي عاصم (46)، وابن أبي الدنيا -كما في "جلاء الأفهام" (145 - بتحقيقي)، و"الترغيب" للمنذري (2/ 278) و"القول البديع" (106) - من طريق موسى بن عبيدة عن قيس بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن سعد بن إبراهيم عنه به. وهذا إسناد ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة. وقيس هذا ذكره العقيلي، ونقل عن البخاري قوله: ولم يصح حديثه. أقول: هذه طرق متعدّدة يقوّي بعضها بعضًا. وانظر: "الإرواء" (2/ 228 - 229)، و"العلل" للدارقطني (4/ رقم 572) وتعليقي على "جلاء الأفهام" (ص 143 - 147). ووقع في (د) و (ط) و (ح): "نحو أحد" بدلًا من "نحو صدقته". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) رواه أبو داود (2775) في (الجهاد): باب سجود الشكر، ومن طريقه البيهقي (2/ 370) من طريق يحيى بن الحسن بن عثمان عن الأشعث بن إسحاق بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه، فذكره وهو حديث طويل. وهذا إسناد ضعيف يحيى هذا مجهول الحال، كما في "التقريب"، ولم أجده في "تهذيب ابن حجر"!. والأشعث لم يوثقه إلّا ابن حبان. (¬3) في المطبوع: "أبي بكر". (¬4) في (ق) و (ك): "عز وجل". (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 45)، وأبو داود (2774) في (الجهاد): باب صلاة الشكر، والترمذي (1578) في (السير): باب ما جاء في سجدة الشكر، وابن عدي في "الكامل" (1/ 475)، وابن المنذر في "الأوسط" (5/ 287 رقم 2880)، والدارقطني (1/ 410)، والحاكم (4/ 291)، وابن ماسي في "فوائده" (رقم 27)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 34)، والبيهقي (2/ 370) كلهم من طريق بكار بن عبد العزيز بن أبي بكرة عن أبيه عن أبي بكرة به. قال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث بكار بن عبد العزيز. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي!! أقول: بكار بن عبد العزيز هذا قال ابن معين: ليس بشيء، وقال ابن عدي: هو من جملة الضعفاء الذين يكتب حديثهم، وذكره العقيلي في "الضعفاء" فمثله لا يُحسَّن حديثه، وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 1513، 1514). (¬6) رواه البخاري (4418) في (المغازي): باب حديث كعب بن مالك، ومسلم (2769) في (التوبة): باب حديث توبة كعب بن مالك.

مُسيلمة الكَذَّاب (¬1)، وسجد عليٌّ حين وجد ذا الثَّدية في الخوارج الذين قتلهم (¬2)، ¬

_ (¬1) عزاه المؤلف في "الزاد" (1/ 362) لسعيد بن منصور في "سننه". والذي وجدته في "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 367)، و"سنن البيهقي" (2/ 371) من طريق أبي عون الثقفي محمد بن عبيد اللَّه (وفي المصنَّف: عن أبي عون عن محمد) عن رجل لم يسمّه أن أبا بكر لما جاءه فتح اليمامة سَجَدَ، وهذا إسناد ضعيف لجهالة الراوي الذي لم يُسمَّ. ورواه عبد الرزاق (3/ 358 رقم 5963) -ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 288 رقم 2882) - عن الثوري عن أبي عون قال: سجد أبو بكر حين جاءه فتح اليمامة. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 107 - 108 و 147)، وفي "الفضائل" (1224)، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (رقم 1425، 1449)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (6/ 233)، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (رقم 247)، والبزار (897)، والنسائي في "خصائص علي" (181)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 366) من طريق إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن طارق بن زياد عن علي فذكر قصة منها سجود علي لما وجد ذا الثَّدية قتيلًا. وهذا إسناد ضعيف، طارق بن زياد هذا مجهول، ووقع في "السنة" (1449): "زياد بن طارق". وقد روى موضع الشاهد منه -أي سجود علي- ابن أبي شيبة (2/ 367)، أو (2/ 483 و 12/ 295، 296 - ط. الهندية)، والشافعي في "الأم" (1/ 117 و 7/ 165)، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (رقم 1450)، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (رقم 246)، وعبد الرزاق في "المصنف" (3/ 358 رقم 5962) -ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" (5/ 288 رقم 2883) -، والحاكم (2/ 154)، والخرائطي في "فضيلة الشكر" (رقم 65)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (2/ 371)، و"الدلائل" (6/ 433)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 206 و 13/ 158)، والذهبي في "السير" (8/ 212) من طريق سفيان الثوري، وشريك وإسرائيل عن محمد بن قيس عن رجل يقال له: أبو موسى -يعني: مالك بن الحارث- عن علي، ومالك بن الحارث هذا لم يوثقه إلا ابن حبان، وهو الحارث بن قيس عند الخطيب. وأخرج له الشيخان، ولذا قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بذكر سجدة الشكر، وهو غريب صحيح في سجود الشكر". ورواه ابن أبي شيبة (2/ 368)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (9/ 230) من طريق ريان بن صبرة الحنفي عن علي. وريان هذا لم يوثقه إلا ابن حبان. تنبيه: ريان هذا براء مهملة وياء آخر الحروف، وتصحف في مطبوع "المصنف" إلى "زبان" بزاي وموحدة، ووقع على الجادة في (12/ 297 رقم 12898) الطبعة الهندية، ولكن وقع محرفًا في خبر آخر منه (5/ 41) فليصحح. وانظر: "المؤتلف" (1070) للدارقطني، و"تصحيفات المحدثين" (2/ 638) للعسكري. =

[نوعا النعم الإلهية]

ولا أعلم شيئًا يدفع هذه السنن (¬1) والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد، وهو أن نِعَمَ اللَّه سبحانه وتعالى لا تزال واصلة إلى عبده، فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود، وهذا من أفسد رأي وأبطله. [نوعا النعم الإلهية] فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتجدّدة، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شرع لها سجود الشكر، شكرًا للَّه عليها، وخضوعًا له، وذلًّا، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها، وذلك من أكبر أدوائها، فإن اللَّه سبحانه لا يُحبُّ الفَرِحين ولا الأَشِرين، فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره. ونظير هذا السجود عند الآيات (¬2) التي يُخوّف اللَّه بها عباده كما في الحديث: "إذا رأيتم آية فاسجدوا" (¬3)، وقد فزع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة، وأمر بالفَزَع إلى ذكره (¬4)، ومعلوم أن آياته [تعالى] (¬5) لم تزل مشاهدة معلومة بالحسّ والعقل، ولكن تجدّدها يحدث للنفوس (¬6) من الرهبة والفزع إلى اللَّه ما لا تحدثه الآيات المستمرة، فتجدُّد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتجدّد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلاة (¬7)، ¬

_ = وورد سجود علي في الحادثة نفسها عن عبيدة السلماني عن علي، وجل المصادر لم تذكر السجود من هذا الطريق، ورواه بذكره الآجرّي في "الشريعة" (رقم 53). فهذه طرق لا شك أنه يتقوّى بها الحديث، واللَّه أعلم. قال (و): ". . . وكان [أي: ذا الثدية] في يده مثل ثدي المرأة، على رأسه حلمة مثل حلمة الثدي عليه شعرات مثل سبالة السنور" اهـ. (¬1) في (ق): "هذا السياق". (¬2) ثبت في "مصنف عبد الرزاق" (4929، 4930) عن ابن عباس وحذيفة أنهما صليا في زلزلة، الأول بالبصرة، والثاني بالمدائن في الآيات، وقال عبد اللَّه في "مسائل أحمد": "رأيت أبي إذا كانت ريح أو ظلمة، أو أمر يفزع الناس منه يفزع إلى الصلاة كثيرًا، والدعاء حتى ينجلي ذلك"، وذهب إلى هذا أبو ثور وأهل الرأي وابن حزم، ولعلّه المراد بالسجود في الحديث الآتي، وانظر: "المحلى" (5/ 96)، و"المغني" (2/ 282)، و"المقنع" (1/ 363)، و"الإنصاف" (2/ 449)، و"فقه الإمام أبي ثور" (ص 271). (¬3) سيأتي تخريجه ضمن قصة ابن عباس الآتية. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في (ق) و (ك): "سبحانه". (¬6) في المطبوع: "للنفس". (¬7) في المطبوع: "الصلوات".

ولهذا لما بلغ فقيه الأمة وترجمان القرآن عبد اللَّه بن عباس موت ميمونة زوج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خرّ ساجدًا، فقيل له: أتسجد لذلك؟ فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رأيتم آية فاسجدوا"، وأيّ آية أعظم من ذهاب أزواج [النبيّ] (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- من بين أظهرنا (¬2)؟ فلو لم تأتِ النصوص بالسجود عند تجدّد النعم لكان هو محض القياس، ومقتضى عبودية الرغبة، كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة، وقد أثنى اللَّه سبحانه على الذين يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبًا ورهبًا، ولهذا فرَّق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن (¬3) هذه صلاة رهبة وهذه صلاة رغبة، فصلوات اللَّه وسلامه على من جاءت سنّته وشريعته بأكمل ما جاءت به شرائع الرسل وسننهم (¬4) [وعلى آله]. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "رسول اللَّه". (¬2) رواه أبو داود (1197) في (الصلاة): باب السجود عند الآيات، والترمذي (3891) في (المناقب): باب فضل أزواج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والطبراني في "الكبير" (11618)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 114)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 343)، والبغوي في "شرح السنة" (1156)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (812)، والمزي في "تهذيب الكمال" (11/ 251) من طريق إبراهيم بن الحكم وسَلم بن جعفر، كلاهما عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس به. ووقع في سنن الترمذي: "مسلم بن جعفر، وكان ثقة". وقال الترمذي: حسن غريب، وفي نسخة: "حسن صحيح"، ونقله محب الدين الطبري في "السمط الثمين" (ص 10) عنه: "حسن صحيح غريب"، ولعله الصواب. أما ابن الجوزي فقال: هذا حديث لا يصح، قال يحيى: إبراهيم بن الحكم بن أبان ليس بشيء. وقال أحمد: ليس بثقة. أقول: وإبراهيم كما ترى توبع، وسَلْم هذا وثقه ابن المديني، ويحيى بن كثير، والترمذي وابن حبان وابن شاهين. وقال الأزدي: متروك الحديث لا يحتج به. أقول: الأزدي نفسه مجروح! والحكم بن أبان وثقه ابن معين والنسائي وسفيان بن عيينة وابن نمير وابن المديني وأحمد وقد تكلم فيه بعضهم ولعل البلاء من ابنه إبراهيم، فهو حسن الحديث إن شاء اللَّه، وحسن شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في تعليقه على "المشكاة" (رقم 1491) إسناد هذا الحديث. (¬3) في (ق): "فإن". (¬4) في (ق): "وسنتهم"، وما بين المعقوفتين بعدها سقط منها.

[انتفاع المرتهن بالمرهون]

[انتفاع المرتهن بالمرهون] المثال السبعون: رد السنة الثابتة الصحيحة بجواز ركوب المرتهن للدابّة المرهونة وشربه لبنها بنفقته عليها، كما روى البخاري في "صحيحه": ثنا محمد بن مقاتل: أنا عبد اللَّه: أنا زكريا، عن الشعبي، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الرَّهنُ يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" (¬1)، وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأعدلها، ولا أصلح للرَّاهِنين (¬2) منه، وما عداه ففساده ظاهر، فإن الراهن قد يغيب ويتعذَّر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن، ويشق (¬3) عليه أو يتعذّر رفعه إلى الحاكم وإثبات الرهن وإثبات غيبة الراهن وإثبات أن قدر نفقته عليه هي قدر حلبه وركوبه وطلبه منه الحكم له بذلك، وفي هذا من العُسْر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة، فشرع الشارع الحكيم القيّم بمصالح العباد للمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره وعليه نفقته، وهذا محض القياس لو لم تأتِ به السنة الصحيحة، وهو يخرج على أصلين: أحدهما: أنه إذا أنفق على الرهن صارت النفقة دَيْنًا على الراهن؛ لأنه واجب أدّاه عنه، ويتعسَّر عليه الإشهاد على ذلك كل وقت واستئذان الحاكم، فجوَّز له الشارع استيفاء دينه من ظهر الرهن ودرّه، وهذا مصلحة محضة لهما، وهي بلا شك أَوْلى من تعطيل منفعة ظهره وإراقة لبنه أو تركه يفسد في الحيوان أو يفسده حيث يتعذّر الرفع إلى الحاكم، لا سيما ورهن الشاة ونحوها إنما يقع غالبًا بين أهل البوادي حيث لا حاكم، ولو كان فلم يولّ اللَّه ولا رسوله الحاكم هذا الأمر. الأصل الثاني: أن ذلك معاوضة في غيبة أحد المعاوضين للحاجة والمصلحة الراجحة، وذلك أَوْلى من الأخذ بالشفعة بغير رضا المشتري؛ لأن الضرر في ترك هذه المعاوضة أعظمُ من الضرر في ترك الأخذ بالشفعة، وأيضًا فإن المرتهن يريد حفظ الوثيقة لئلا يذهب ماله، وذلك إنما يحصل ببقاء الحيوان، والطريق إلى ذلك إما النفقة عليه، وذلك مأذون فيه عرفًا كما هو مأذون فيه شرعًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2511، 2512) في (الرهن): باب: الرهن مركوب ومحلوب. (¬2) في المطبوع: "للرهنان". (¬3) في (ك): "وتسقط".

[العرف يجري مجرى النطق]

[العرف يجري مجرى النطق] وقد أُجريَ العرفُ مجرى النطق في أكثر من مئة موضع (¬1) منها نقد البلد في المعاملات، وتقديم الطعام إلى الضيف، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره، والشرب من خَوَابي السيل ومصانعه في الطرق، ودخول الحَمَّام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع الحمامي لفظًا، وضرب الدابّة المستأجرة إذا حرنت في السير وايداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة، ودفع الوديعة إلى من جَرَت العادة بدفعها (¬2) إليه من امرأة أو خادم أو ولد، وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه، وجواز التخلّي في دار من أذن له بالدخول إلى داره والشرب من مائه والاتّكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثواء عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة لفظًا اعتمادًا على الإذن العُرفي، وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل، ولو وكَّل غائبًا أو حاضرًا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك، ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجةُ إلى التخلِّي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعًا سواه إما لضيق الطريق أو لتتابع المارِّين فيها، فكيف بالصلاة فيه والتيمّم بترابه؟ ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظًا لمالكها (¬3) عليه كان ذلك أَوْلى من تركها تذهب ضياعًا، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا البائس (¬4) أن التصرف في ملك الغير إنما حَرَّمه اللَّه لما فيه من الإضرار به وترك التصرّف هاهنا هو الإضرار. ومنها لو استأجر غلامًا فوقعت الأكلة (¬5) في طرفه فتيقَّن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه. ومنها لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك، ولم يضمن نقب الحائط. ¬

_ (¬1) انظر مباحث العرف لابن القيم -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (3/ 137، 139)، وفي "إغاثة اللهفان" (2/ 60)، و"بدائع الفوائد" (4/ 51). (¬2) في (ق): "بدفع الوديعة". (¬3) في المطبوع: "علماليتها". (¬4) كذا (ك) و (ق) وفي باقي النسخ: "اليابس". (¬5) "أي الحكة" (و).

ومنها لو قصد العدوّ مال جاره فصالحه ببعضه دفعًا عن بقيّته (¬1) جاز له، ولم يضمن ما دفعه إليه. ومنها لو وقعت النار في دار جاره فهدم جانبًا منها على النار لئلّا تسري إلى بقيتها لم يضمن. ومنها لو باعه صبرة (¬2) عظيمة أو حطبًا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها [به] (¬3)، وإن لم يأذن له في ذلك لفظًا. ومنها لو جذّ ثماره أو حصد زرعه ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه، وإن لم يأذن فيه لفظًا. ومنها لو وجد هديًا مشعرًا منحورًا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع [منه] (¬4) ويأكل منه. ومنها لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقة الباب عليه، وإن كان تصرفًا (¬5) في بابه لم يأذن له فيه لفظًا. ومنها الاستناد إلى جداره والاستظلال به. ومنها الاستمداد من محبرته، وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك. وهذا أكثر من أن نحصره (¬6)، وعليه يخرَّج حديث عروة بن الجعد البارقي (¬7) حيث أعطاه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إِحداهما بدينار وجاءه بالدينار والشاة الأخرى (¬8)، فباع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي اعتمادًا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع، ولا إشكال بحمد اللَّه في هذا الحديث بوجهٍ ما، وإنما الإشكال في ¬

_ (¬1) في (ن): نفسه. (¬2) "الصبرة: الكومة من الطعام، ويقال: اشترى الطعام صبرة، جزافًا بلا كيل أو وزن" (و). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) كذا في (ق) وفي غيرها من الأصول: "تصرف". (¬6) في (ك) والمطبوع: "يُحصر". (¬7) انظر حديث عروة البارقي وكلام ابن القيم عليه في "تهذيب السنن" (5/ 48 - 49). (¬8) رواه البخاري (3642) في المناقب، باب (28).

فصل [الشرط العرفي كالشرط اللفظي]

استشكاله، فإنه جارٍ على محض القواعد كما عرفته (¬1). فصل [الشرط العرفي كالشرط اللفظي] ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي (¬2)، وذلك كوجوب نَقْد البلد عند الإطلاق، ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظًا فانصرف العقد بإطلاقه إليه، وإن لم يقتضه (¬3) لفظه، ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلًا لاشتراط سلامة المبيع عُرْفًا منزلة اشتراطها لفظًا. ومنها وجوب وفاء المسلَمِ فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظًا بناءً على الشرط العرفي. ومنها لو دفع ثوبَه إلى مَنْ يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينه لمن يخبزه أو لحمًا لمن يطبخه أو حَبًّا لمن يطحنه أو متاعًا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله، وإن لم يشترط معه ذلك ¬

_ (¬1) "وقد تمّ -بحمد اللَّه وتوفيقه- الجزء الثاني من كتاب "إعلام الموقعين، عن رب العالمين"، للإمام الحجة أبي بكر شمس الدين المعروف بابن قيم الجوزلة، ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- الجزء الثالث منه، وأوّله: "فصل، ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي"، نسأل الذي بيده كل شيء أن يمن علينا بإكماله، إنه لا معين سواه" (د). (¬2) قاعدة في الشرط العرفي كاللفظي ذكرها المؤلف -رحمه اللَّه- في "روضة المحبين" (ص 314 - 315)، و"بدائع الفوائد" (4/ 51)، و"زاد المعاد" (4/ 8 أو 5/ 109 - ط مؤسسة الرسالة). وقال السيوطي في "الأشباه والنظائر" (ص 90): "اعلم أن اعتبار العادة والعرف رجع إليه في الفقه في مسائل لا تعدّ كثرة، وقال إمام الحرمين: "إن المعاملات تُبنى على مقاصد الخلق. لا على صيغ الألفاظ، سيما إذا عمَّ العرف في باب فهو المتَّبع" وقال: "وأما العادة المطردة. فنِعْم المرجِّح هي في أمثال هذه المعاملات" وقال: "ومن لم يخرِّج العرف في المعاملات تفقّهًا، لم يكن على حظ كامل فيها" من كتابه "الأساليب في الخلافيات" بواسطة كتاب "فقه إمام الحرمين" (ص 375 - 376) وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (34/ 91) و"شرح مختصر الروضة" (3/ 212) و"القواعد والأصول الجامعة" (ص 38 - 42) و"المختارات الجلية" (ص 55) كلاهما للشيخ السِّعدي و"العرف: حُجِّيته وآثره في فقه المعاملات المالية عند الحنابلة" للشيخ عادل بن عبد القادر، وهي دراسة جيدة ومفيدة، مطبوعة في مجلدين. (¬3) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "يقتضيه".

لفظًا، عند جمهور أهل العلم، حتى عند المنكرين لذلك؛ فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به، بل ليس يقف الإذن فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة؛ لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا جاز لأحدهم ضم (¬1) اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة، حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقَطة وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه؛ فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقْدَمَ على ذلك، ولضاعت مصالح الناس، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا، وتعطلت حقوق كثيرة، وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة مَنْ بَهَرَتْ شريعتُه العقولَ (¬2) وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطَّلت كل مفسدة تأبى ذلك كُلَّ الإباء، وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرفَ الفُضُولي (¬3)، ووقف العقود تحصيلًا لمصلحة المالك ومنع المرتهن من الركوب والحلب بنفقته؟ فياللَّه العجب! يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حرامًا لا اعتبار به شرعًا مع إذْنِ الشارع فيه لفظًا (¬4) وإذن المالك عرفًا وتصرُّفُ الفضوليّ معتبرًا مرتبًا عليه حكمه؟ هذا ومن المعلوم أنَّا في إبراء الذمم أحْوَجُ منّا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم وعبيدهم ودورهم وأموالهم؛ فالمرتهنُ محسنٌ (¬5) بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان مؤدِّ لحقِّ اللَّه فيه ولحق مالكه ولحق الحيوان ولحق نفسه متناول ما أذن له فيه الشارع من الِعِوَضِ بالذَرّ والظهر، وقد أوجب اللَّه سبحانه وتعالى، على الآباء إيتاء المَرَاضِع أَجرهن بمجرد الإرضاع، وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة؛ فقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. ¬

_ (¬1) في (ق): "رد". (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "من بهرت العقول شريعته"، كذا بتقديم وتأخير. (¬3) "الفضولي لغةً: المشتغل بما لا يعنيه، والخياط، وشرعًا: من لم يكن وليًا ولا وصيًا ولا أصيلًا ولا وكيلًا" (و). (¬4) بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة". رواه البخاري (2511، 2512) عن أبي هريرة مرفوعًا. وانظر تفصيل المسألة في "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (3/ 19 مسألة رقم 878) وتعليقي عليه. (¬5) انظر: "الإحسان الإلزامي في الإسلام" للأستاذ محمد الحبيب التجكاني.

فإن قيل: فهذا ينتقص عليكم بما لو كان الرهن دارًا فخرِبَ بعضُها فعمَّرها ليحفظ الرهن؛ فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة، ولا يرجع بها. قيل: ليس كذلك، بل يحتسب له بما أنفقه؛ لأن فيه إصلاح الرهن، ذكره القاضي (¬1) وابنه وغيرهما. وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي حرب الجرجرائي (¬2) في رجل عمل في قَنَاة رجل بغير إذنه، فاستخرج الماء، لهذا الذي عمل أجرٌ في نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة، هذا مع أن الفرق بين الحيوان والدار ظاهر، لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه، بخلاف عمارة الدار، فإن صح الفرق بطل السؤال، وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم. فإن قيل: في هذا مخالفة للأصول من وجهين: أحدهما: أنه إذا أدَّى عن غيره واجبًا بغير إذنه كان متطوعًا (¬3)، ولم يلزمه القيام [له] (¬4) بما أدَّاه عنه. الثاني: أنه لو لزمه عوضه فإنما يلزمه نظير ما أدَّاه، فأما أن يُعاوض عليه بغير جنس ما أداه بغير اختياره فأصولُ الشرع تأبى ذلك (¬5). قيل: هذا هو الذي رُدَّتْ به هذه السنة، ولأجله تأوَّلها منْ تأولها على أن المراد بها أن النفقة على المالك فإنه الذي يركب ويشرب، وجعل الحديث (¬6) دليلًا على جواز تصرف الراهن في الرهن بالركوب والحَلْب وغيره، ونحن نبين (¬7) ما في هذين الأصلين من حق وباطل. فأما الأصل الأول فقد دل على فساده القرآنُ والسنةُ وآثار الصحابة والقياسُ [الصحيح] (¬8) ومصالح العباد، أما القرآن فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقد تقدم تقرير الدلالة منه، وقد اعترض بعضُهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهنَّ المسماة فإنه أمرٌ لهم بوفائها، لا أمرٌ لهم بإيتاء ¬

_ (¬1) في "الخلاف الكبير" بينما ذهب في "المجرد" أنه لا يرجع إلا بأعيان آلته، وانظر في المسألة: "المحرر" (1/ 336)، و"المغني" (4/ 252 رقم 3372)، و"القواعد" لابن رجب (2/ 82 - 83 - بتحقيقي)، و"الإنصاف" (5/ 177). (¬2) ذكرها ابن رجب في "القواعد الفقهية" (2/ 71 - بتحقبقي)، وأطال النفس في توجيهها. وفي الأصول الجرجاني والمثبت من (ق) و (ك). (¬3) في المطبوع: "متبرعًا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬5) في (ق): "هذا". (¬6) المتقدم تخريجه قريبًا. (¬7) في (ك): "نذكر". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

ما لم يسموه من الأجرة، ويدل عليه قوله [تعالى] (¬1): {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وهذا التعاسر إنما يكون حال العقد بسبب طلبها الشَّطط (¬2) من الأجر أو حطّها عن أجرة المثل، وهذا اعتراض فاسد؛ فإنه ليس في الآية ذكر التسمية، ولا يدل عليها بدلالة من الدلالات الثلاث؛ أما اللّفظيتان فظاهر، وأما اللزومية فلانفكاك التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدّم تسميته، وقد سَمَّى اللَّه سبحانه وتعالى ما يؤتيه (¬3) العاملَ على عمله أجرًا وإن لم يتقدم له تسمية كما قال تعالى عن خليله [عليه السلام] (1): {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (1)} [لعنكبوت: 27]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] ومعلوم أن الأجر ما يعود إلى العامل عِوَضًا عن عمله؛ فهو كالثواب الذي [يَثُوبُ إليه: أي] (¬4) يرجع من عمله، وهذا ثابت سواء سُمّي أو لم يُسمّ، وقد نص الإمام أحمد (¬5) -رضي اللَّه عنه- على أنه إذا افتدى الأسير رجع عليه بما غرمه عليه، ولم يختلف قوله فيه. واختلف قوله فيمن قضى (¬6) دَيْن غيره عنه بغير إذنه؛ فنص في موضع على أنه يرجع عليه، فقيل له: هو متبرع بالضمان، فقال: وإن كان متبرعًا بالضمان، ونص في موضع آخر على أنه لا يرجع (¬7)، [فإنه قال: إذا لم يقل: اقْض عني ديني كان متبرِّعًا، ونص (¬8) على أنه يرجع] (1) على السيد بنفقة عبده الآبق إذا ردَّه (¬9)، وقد كتب عمرُ بن الخطاب إلى عامله في سَبْي العرب ورقيقهم، وقد كان التجار اشتروه فكتب إليه: أيما حر (¬10) اشتراه التجار فاردد عليهم رؤوس أموالهم (¬11)، وقد قيل: إن جميع ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "الشطر". (¬3) في (ن) و (ك): "ما يؤتى". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) انظر: "القواعد" لابن رجب (2/ 75 - بتحقيقي)، و"المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين" (2/ 375 - 376). (¬6) في المطبوع: "أدّى". (¬7) انظر: "المحرر" (1/ 340) و (2/ 174)، و"القواعد" لابن رجب (2/ 74 - 75 - بتحقيقي)، و"المغني" (6/ 353 رقم 8583) "أحكام الإذن" (1/ 345). (¬8) في "مسائل عبد اللَّه" (310 رقم 4532). (¬9) انظر: "القواعد" لابن رجب (2/ 77 - بتحقيقى)، و"المحرر" (1/ 336)، و"المغني" (6/ 22 - 23 رقم 4532). (¬10) في (ن) و (ك): "أيما رجل". (¬11) أخرج سعيد بن منصور في "سننه" (رقم 2853 - ط الأعظمي) عن عثمان بن مطر =

الفِرَق تقول بهذه المسألة وإن تناقضوا ولم يطَّردوها؛ فأبو حنيفة يقول: إذا قضى بعضُ الورثة دينَ الميت ليتوصلَ بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه، وهذا واجب قد أدَّاه عن غيره بغير إذنه، وقد رجع به، ويقول: إذا بنى صاحبُ العلو [أو] (¬1) السفل بغير إذن المالك لزم الآخر غرامة ما يخصه، وإذا أنفق المُرتهن على الرَّهن في غيبة الراهن رجع بما أنفق، وإذا اشترى اثنان من واحد عبدًا بألف فغاب أحدهما فأدَّى الحاضر جميع الثمن ليستلم (¬2) العبد كان له الرجوع. والشافعي يقول: إذا أعار عبدًا لرجلٍ ليرهَنه فرهنه ثم إنَّ صاحب الرهن قضى الدين بغير إذن المستعير وافْتَكَّ الرهن رجع بالحق، وإذا استأجر جِمَالًا ليركبها فهرب الجَمَّالُ فأنفق المستأجر على الجِمَال رجع بما أنفق، وإذا ساقى رجلًا على نخلِهِ فهرب العامل فاستأجر صاحبُ النخل مَنْ يقوم مَقَامه رجع [عليه] (¬3) به، واللقيط إذا أنفق عليه أهلُ المحلة ثم استفاد مالًا رجعوا عليه. وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدّى الحق بغير إذنه رجع عليه. وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولًا بهذا الأصل، والمالكية أشدُّ قولًا به؛ ومما يوضح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل: إن هذه الصور كلها أحْوَجَتْه إلى استيفاء حقه أو حفظ ماله؛ فلولا عمارة السفل لم يثبت العلو، ولو لم يقض الوارث الغرماء لم يتمكن من أخذ حقه من التركة بالقسمة، ولو لم يحفظ الرهْنَ بالعَلَف لتلف محل الوثيقة، ولو لم يستأجر على الشجر مَنْ يقوم مقام العامل لتعطلت الثمرة، وحقه متعلق بذلك كله، فإذا أنفق كانت نفقته ليتوصل إلى حقه، بخلاف مَنْ أدَّى دين غيره فإنه لا حقَّ له هناك يتوصل [به] (¬4) إلى استيفائه بالأداء؛ فافترقا؛ وتبين أن هذه القاعدة لا تلزمنا، وأن مَنْ أدَّى عن غيره واجبًا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فُضُولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوَّته على ¬

_ = الشيباني قال: أنا أبو حريز عن الشعبي؛ قال: وذكره ضمن قصة طويلة. وأخرجه البيهقي (9/ 112) من طريق ابن المبارك عن سعيد بن أبي عروبة عن رجل عن الشعبي. وانظر تعليقي على: "القواعد" (2/ 76) لابن رجب. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) في (ن): "ليتسلم". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

نفسه، أو متفضل فحوالته على اللَّه دون مَنْ تفضَّل عليه؛ فلا يستحق مطالبته، وزادت الشافعية وقالت: لما ضمن له المؤجر تحصيل منافع الجِمَال، ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعَلَف، دخل [في] (¬1) ضمانه لتلك المنافع إذنُه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنًا وتبعًا؛ فصار ذلك مستحقًا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير [عنه] (¬2)، يوضحه أن المؤجر والمُسَاقي قد علما أنه لا بدَّ للحي من قوام، ولا بد للنخيل من سَقْي وعمل عليها؛ فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفًا، والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي، وشاهده ما ذكرتم من المسائل؛ فيقال: هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المُرْتَهن للرَّهن، واستحقاقه للرجوع بما غرمه، وهذا نصف المسافة، وبقي نصفها الثاني، وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه، وهي أسهل المسافتين وأقربهما؛ إذ غايتها تسليطُ الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان، وهي أولى من تسليطه الشفيع (¬3) على المعاوضة عن الشقص المشفوع لتكميل ملكه وإنفراده به وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيار مَنْ عليه الحق (¬4)؛ فإن سبب الحق فيها ليسس ثابتًا، والآخذ ظالم في الظاهر، ولهذا منعه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأخذ وسماه خائنًا بقوله: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنْ خانك" (¬5) وأما هاهنا فسبب الحق ظاهر، وقد أذن في المعاوضة للمصلحة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬2) سقطت في (ك). (¬3) في المطبوع: "تسليط الشفيع". (¬4) انظر: "زاد المعاد" (4/ 149)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 75). (¬5) ورد من حديث أبي هريرة وأنس وأبي أمامة وأبي بن كعب ورجل من قريش عن أبيه. أما حديث أبي هريرة، فقد رواه الدارمي (2/ 264)، وأبو داود (3535) في (البيوع): باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذي (1264) في (البيوع): باب (38)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (973)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1831، 1832)، والدارقطني (3/ 35)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 365)، والحاكم (2/ 46)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص 30) وتمام في "الفوائد" (رقم 707 - ترتيبه)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 269)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (742)، والبيهقي (10/ 271) وفي "معرفة السنن والآثار" (14/ 380 رقم 20376) من طريق طلق بن غنام عن شريك وقيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي صالح عنه مرفوعًا به. وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: "حديث شريك عن أبي حصين صحيح على شرط مسلم"، ووافقه الذهبي. =

التي فيها، فكيف تمنع هذه المعاوضة التي سببُ الحقِّ فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع، وتجوز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع؟ فلا نص ولا قياس. ومما يدل على أن مَنْ أدَّى عن غيره واجبًا أنه يَرجعُ عليه به قولهُ تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] وليس من جزاء هذا المحسن بتخليص من أحسن إليه بأداء دَيْنه وفك أسره منه وحل وثاقه أن يضيع عليه معروفه وإحسانه، وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته عليه بالإساءة، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أسْدَى إليكم معروفًا فكافئوه" (¬1) وأي معروف فوق معروف هذا ¬

_ = أقول: مسلم إنما أخرج لشريك متابعة وهو في حفظه شيء، لكن تابعه قيس بن الربيع وهو سيء الحفظ أيضًا، لكن يقوي بعضهما بعضا. وقد أعل هذا الطريق أبو حاتم -كما رواه عنه ابنه في "علله" (1/ 375) - حيث قال: طلق بن غنام روى حديثًا منكرًا عن شريك وقيس قال: لم يرو هذا الحديث غيره. أقول: طلق بن غنّام وثّقه الأئمة فلا أدري ماذا يريد الإمام أبو حاتم بالنكارة؟ وأما ابن الجوزي -رحمه اللَّه- فقد قال: هذا الحديث من جميع طرقه لا يصح! وأما حديث أنس، فقد رواه الطبراني في "الكبير" (760)، وفي "الصغير" (475)، والدارقطني (3/ 35)، والحاكم (2/ 46)، وابن عدي (1/ 354)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (743)، والبيهقي (10/ 271) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (974). أقول: ومدار الحديث عند جميعهم على أيوب بن سويد وهو ضعيف، ولكنه غير موجود في إسناد الطبراني "الكبير"، لذلك قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 145): ورجال "الكبير" ثقات. أقول: لكن في إسناد "الكبير" أحمد بن زيد القزاز ينظر في حاله. وأخشى أن يكون في السند خطأ. وأما حديث أبي أمامة، فقد رواه الطبراني في "الكبير" (7580) والبيهقي في "المعرفة" (14/ 380 - 381 رقم 20380) وفي "السنن الكبرى" (10/ 271) وقال: "وأبو حفص الدمشقي مجهول، ومكحول لم يسمع من أبي أمامة" وأعله الهيثمي في "المجمع" (4/ 145). وأما حديث أبي بن كعب، فقد رواه الدارقطني (3/ 35)، ومن طريقه ابن الجوزي (975) قال ابن حجر في "التلخيص" (3/ 97): وفي إسناده من لا يعرف. وأما حديث الرجل من قريش عن أبيه، فقد رواه أحمد (3/ 414)، وأبو داود (3534)، والبيهقي (10/ 270). وظاهر صنيع الحافظ ابن حجر في "التلخيص" أنه يُضَعِّف الحديث؛ أقول: وطريقه الأول قوي فيظهر أن له أصلًا واللَّه أعلم. وانظر: "نصب الراية" (4/ 119) و"التلخيص الحبير" (3/ 97) و"السلسلة الصحيحة" (423). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 68 و 99 و 128)، والبخاري في "الأدب المفرد" (رقم 216)،=

الذي افْتكّ أخاه من أسْرِ الدَّينِ؟ وأي مكافاة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه؟ واذا كانت الهَدِيَّةُ التي هي تبرع محض قد شُرعت المكافأة عليها وهي من أخلاق المؤمنين، فكيف يشرع جواز ترك المكافأة (¬1) على ما هو من أعظم المعروف؟ وقد عقد اللَّه سبحانه وتعالى الموالاة بين المؤمنين وجعل بعضهم أولياء بعض، فمن أدّى عن وليه واجبًا كان نائبه فيه بمنزلة وكيله ووَليّ من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه. ومما يوضح ذلك أن الأجنبي لو أقرض ربَّ الدَّيْنِ قدر دينه وأحاله به على المَدِين ملك ذلك، وأيُّ فرقٍ شرعي أو معنوي بين أن يوفيه ويرجع به على المدين أو يقرضه ويحتال به على المدين؟ وهل تفرق الشريعة المشتملة على المصالح العباد بين الأمرين؟ ولو تعيّن عليه ذبح هَدْي أو أضحية فذبحها [عنه] (¬2) أجنبي بغير إذنه أجزأت وتأدّى الواجب بذلك، ولم تكن ذبيحة غاصب، وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه فأدى هذا الواجب غيره وقام مقام تأديته هو بحكم النيابة عنه شرعًا، وليس الشأن في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع ¬

_ = وأبو داود (1672) في (الزكاة) باب عطية من سأل باللَّه، و (5109) في (الأدب): باب في الرجل يستعيذ بالرجل، والنسائي (5/ 82) في (الزكاة): باب من سأل اللَّه عز وجل، والطيالسي (1895)، والحاكم (1/ 412 - 413 و 2/ 63 - 64)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (421)، وابن حبان (3408) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 56) والبيهقي (4/ 199) والطبراني في "الكبير" (13465 و 13466 و 13480) كلهم من طرق عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر مرفوعًا: ". . . ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه. . . ". وصححه الحاكم على شرط الشيخين وقال: ولم يخرجاه للخلاف الذي بين أصحاب الأعمش فيه. أقول: رواية الثقات من أصحاب الأعمش هو ما ذكرت. وقد رواه أبو بكر بن عياش عن الأعمش فقال: عن أبي حازم عن أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 512)، والحاكم (1/ 413). وقال الحاكم: "إسناده صحيح، فقد صح عند الأعمش الإسنادان جميعًا على شرط الشيخين، ونحن على أصلنا في قبول، الزيادات من الثقات في الأسانيد والمتون". أقول: أبو بكر بن عياش أخرج له البخاري فقط، لكن له أوهام فلا تقبل منه مخالفة الثقات، واللَّه أعلم. والحديث ذكره العجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 225) وصحح إسناده. (¬1) في المطبوع: "المكافآت". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق).

[ضمان دين الميت الذي لم يترك وفاء]

وفروعه لها، وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملًا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه، أو فعله حفظًا لمال المالك واحترازًا له من الضياع؛ فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله، وقد نص عليه الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- في عدة مواضع: منها أنه إذا حصد زرعه في غيبته فإنه نص (¬1) على أنه يرجع عليه بالأجرة، وهذا من أحسن الفقه، فإنه إذا مرض أو حبس أو غاب فلو ترك زرعه بلا حَصَاد لهلك وضاع، فإذا علم مَنْ يحصده له أنه يذهب عليه عمَلُه ونفقتُه ضياعًا لم يُقْدِمْ على ذلك، وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة؛ فكان من أعظم محاسنها أن أذِنَتْ للأجنبي في حَصَاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظًا لماله ومال المحسن إليه، وفي خلاف ذلك إضاعة لمالَيهما أو مال أحدهما، ومنها ما نص عليه (¬2) فيمن عمل في قَنَاة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء، قال: لهذا الذي عمل نفقته، ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلَّصه رجل فإنه لصاحبه، وله عليه أجرة مثله، وهذا أحسن من أن يقال: لا أجرة له؛ فلا تطيب نفسه بالتعرض للتلف والمشقة الشديدة ويذهب عمله باطلًا أو يذهب مال الآخر ضائعًا، وكل منهما فساد محض (¬3)، والمصلحة في خلافه ظاهرة، والمؤمنون يرون قبيحًا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعًا ومال هذا ضائعًا، ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سَعْيُ هذا، واللَّه الموفق. [ضمان دين الميت الذي لم يترك وفاء] المثال الحادي والسبعون: رد السنة الثابتة الصريحة المحكمة في [صحة] (¬4) ضمان دين الميت الذي لم يُخَلِّفْ وفاء، كما في "الصحيحين" عن أبي قتادة قال: "أُتِيَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بجنازة ليصلي عليها، فقال: أعليه دَيْن؟ فقالوا: نعم ديناران، فقال: أتَرَكَ لهما وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول اللَّه، [فصلّى عليه] " (¬5) فردت هذه السنة برأي لا يُقَاومها، وهو ¬

_ (¬1) انظر: "القواعد" (2/ 71 - 72 - بتحقيقي). (¬2) في رواية أبي حرب الجرجرائي، ومضت. (¬3) في (ن): "وكلها فساد محض"، وفي (ق): "وكلاهما فساد محض". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) حديث أبي قتادة هذا ليس في "الصحيحين"! فقد رواه أحمد في "مسنده" (5/ 301 - 302 و 304 و 311)، والدارمي (2/ 263)، والترمذي (1969) في (الجنائز): باب ما =

أن الميت قد خَرِبت ذمته؛ فلا يصح ضمان شيء خَرَاب في محل خراب، بخلاف الحيّ القادر فإنَّ ذمته بصَدَد العمارة فيصح ضمان دينه، وإن لم يكن له وفاء في الحال، وأما إذا خلف وفاء فإنه يصح الضمان [في الحال] (¬1) تنزيلًا لذمته بما خلفه من الوفاء منزلة الحي القادر. قالوا: وأما الحديث فإنما هو إخبار عن ضمان متقدّم على الموت؛ فهو إخبار منه بالتزام سابق، لا إنشاء للالتزام حينئذ، وليس في ذلك ما ترد به السنة الصريحة، ولا يصح حملها على الإخبار لوجوه: أحدهما: أن في بعض ألفاظ الحديث: "فقال أبو قتادة: أنا الكفيل (¬2) به يا رسول اللَّه، فصلَّى عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬3) رواه النسائي بإسناد صحيح. الثاني: أن في [بعض] (¬4) طرق البخاري: "فقال أبو قتادة: صَلِّ عليه يا رسول اللَّه وعليّ دينه" (¬5) فقوله: "وعليّ دينه" كالصريح في الالتزام أو صريح فيه؛ ¬

_ = جاء في الصلاة على المديون، والنسائي (4/ 65) في (الجنائز): باب الصلاة على من عليه دين، وابن ماجه (2407) في (الصدقات): باب الكفالة، وعبد الرزاق (15258)، وابن حبان (3058 و 3059 و 3060)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4146) من طريق عبد اللَّه بن أبي قتادة عن أبيه به، وإسناده صحيح. ورواه أحمد (5/ 297)، وابن حبان (3059) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي قتادة، وأخثى أن يكون هذا من أوهام محمد بن عمرو، وقد ذكر الطحاوي للحديث علة، حيث بَيّن أن عبد اللَّه بن أبي قتادة لم يسمع الحديث من أبيه، فقد رواه (4147 و 4148) من طريق عمرو بن الحارث، والليث بن سعد عن بكير بن عبد اللَّه عن ابن أبي قتادة أنه قال: سمعت من أهلي من لا أتّهم يُحَدّث أن رجلًا توفي على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعليه ديناران. . . أقول: وأسانيد الطرق التي ذكرتها صحيحة، ففيه رجل مبهم، وعلى كل حال فللحديث شواهد. فقد روى البخاري (2289) في (الحوالة): باب من أحال دين الميت على رجل جاز، و (2295) في (الكفالة): باب من تكفل عن ميت دين فليس له أن يرجع من حديث سَلَمة بن الأكوع نحوه، وفيه تَحمُّل أبي قتادة لدين الميت. وروى عبد الرزاق (15257)، ومن طريقه أبو داود (3343)، والنسائي (4/ 65 - 66) عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر نحوه، وفيه تَحمُّل أبي قتادة لدين الميت كذلك. وإسناده على شرط الشيخين. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬1) سقط من (ك) و (ق). (¬2) في (ك) و (ق): "أتكفل". (¬3) مضى في الذي قبله. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬5) مضى في التخريج السابق من حديث سلمة بن الأكوع.

فإن هذه الواو للاستئناف، وليس قبلها ما يصح أن يعطف ما بعدها عليه، كما لو قال: صلِّ عليه وأنا ألتزم ما عليه، [أو وأنا ملتزمٌ ما عليه] (¬1). الثالث: أن الحكم لو اختلف لقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل ضمنت ذلك في حياته أو بعد موته؟ ولا سيما فإن الظاهر منه الأنشاء، وأدنى الأحوال أن يحتملهما على السواء، فإن كان أحدهما باطلًا في الشرع والآخر صحيحًا فكيف يقرّه على قول مُحتملٍ لحق وباطل ولم يستفصله عن مراده به؟ الرابع: أن القياس يقتضي صحة الضمان وإن لم يخلِّف وفاءً، فإنَّ مَنْ صح ضمان دينه إذا خلَّف وفاءً صح ضمانه وإن لم يكن له مال كالحي، وأيضًا فمن صح ضمان دينه حيًا صح ضمان دينه ميتًا، وأيضًا فإن الضمان لا يُوجِبُ الرجوع، وإنما يوجبُ مطالبةَ رب الدين للضامن، فلا فرق بين أن يخلف الميت وفاءً أو لم يخلفه، وأيضًا فالميت أحْوَجُ إلى ضمان دينه من الحي لحاجته إلى تبريد جلده (¬2) ببراءة ذمته وتخليصه من ارتهانه بالدين، وأيضًا فإن ذمة الميت وإن خَرِبَتْ من وجه -وهو تعذر مطالبته- لم تخرب من جهة بقاء الحق فيها، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس من ميّت يموت إلا وهو مرتَهَنٌ بدينه" (¬3) ولا يكون مرتهنًا وقد خربت ذمته. ¬

_ (¬1) سقط من (ك) و (ق). (¬2) في (ن) و (ق): "جلدته". (¬3) بهذا اللفظ وجدته مطولًا من حديث علي بن أبي طالب يرويه الدارقطني (3/ 46 - 47) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (7/ 257 رقم 1760 - ط قلعجي) - والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 73) من طريق إسماعيل بن عياش عن عطاء بن عجلان عن أبي إسحاق الهمداني عن عاصم بن ضمرة عنه، وفيه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي: جزاك اللَّه خيرًا، فك اللَّه رهانك؛ كما فككت رهان أخيك، إنه ليس من ميت يموت. . . فذكره. وهذا إسناد ضعيف جدًا، عطاء بن عجلان هذا قال ابن معين والفلّاس: كذاب، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. وقال البيهقي عقبه: "عطاء بن عجلان ضعيف، والروايات في تحمل أبي قتادة دين الميت أصح". وروى نحوه أبو يعلى (3477) من طريق يوسف بن عطية الصفار عن ثابت عن أنس مرفوعًا: "أن صاحب الدين مُرْتهن في قبره حتى يُقْضى عنه دَيْنه" قال الهيثمي (3/ 39 - 40): "وفيه من لم أعرفه". أقول: بل رجاله معروفون، وقد وقع اسم يوسف هذا دون نِسْبة فلعله لم يتبين من هو، وهو الصفار لأنه يروي عن ثابت، وفي ترجمته في "الميزان" ذكر الذهبي حديثه هذا، قال البخاري: منكر حديث، وقال النسائي: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال الذهبي: مُجْمَعٌ على ضعفه. ورواه أبو يعلى (4244) من طريق عيسى بن صدقة بن عباد اليشكري عن أنس فذكر نحوه. =

[الجمع بين الصلاتين]

وأيضًا فإنه لو خربت ذمته لبطل الضمان بموته؛ فإن الضامن فرعه، وقد خربت ذمة الأصل، فلما اسْتُدِيْمَ الضمانُ ولم يبطل بالموت علم أن الضمان لا ينافي الموت؛ فإنه لو نافاه أبتداء لنافاه استدامَةً؛ فإن هذا من الأحكام التي لا يفرق فيها بين الدوام والابتداء لاتحاد سبب الابتداء والدوام فيها؛ فظهر أن القياس المحفمع السنة الصحيحة (¬1)، واللَّه الموفق. [الجمع بين الصلاتين] المثال الثاني والسبعون: ترك السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في جَمْع التقديم والتأخير بين الصلاتين للعذر، كحديث أنس: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ارتَحَلَ قبل أن تزيغ الشمس أَخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما" (¬2) وفي لفظ له: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخّر الظهر حتى يدخل وقت العصر (¬3)، ثم يجمع بينهما"، وهو في "الصحيحين" (¬4)، وكقول معاذ بن جَبَل: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة تَبُوك [إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس (¬5) أخَّر الظهر حتى يجمعها مع (¬6) العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زَيْغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار] (¬7)، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجَّل العشاء فصلاها مع المغرب" (¬8) وهو في "السنن" و"المسند"، ¬

_ = قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 39): وعيسى وثقه أبو حاتم وضعفه غيره. أقول: أبو حاتم لم يوثقه بل قال: يكتب حديثه، وحكى عن أبي الوليد (أظنه الطيالسي) أنه قال: ضعيف، وقال أبو زرعة: شيخ، وشنَّع عليه ابن حبان. . . (¬1) انظر: "كتاب الروح" (ص 121). (¬2) رواه البخاري (1111) في (تقصير الصلاة): باب يؤخر الظهر إلى الغصر إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس، و (1112) باب إذا ارتحل بعد ما زاغت الشمس صلى الظهر ثم ركب، ومسلم (704) في (صلاة المسافرين): باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر. (¬3) في (ن) و (ق): "أخر الظهر إلى وقت العصر". (¬4) هو بهذا اللفظ في "صحيح مسلم" فقط (704 بعد 47)، ولم أجده في "صحيح البخاري". (¬5) في (ن) و (ك): "قبل زيغ الشمس". (¬6) في (ق) و (ك): "إلى". (¬7) ما بين المعقوفتين مكرر في (ك). (¬8) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 241 - 242)، وأبو حاتم -كما في "علل ابنه" (1/ 91) - وأبو داود (1225) في (الصلاة): باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين، والترمذي (553 و 554) =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = في (الصلاة): باب ما جاء في الجمع بين الصلاتين، وابن حبان (1458 و 1593)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 119 - 120)، والدارقطني (1/ 292 - 293) والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 163)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 465 - 466) وابن عبد البر في "التمهيد" (12/ 205) والمزي في "تهذيب الكمال" (23/ 532 - 533) من طريق قتيبة بن سعيد عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عنه. وهذا الحديث أعله غير واحد منهم أبو داود والترمذي، وأبو حاتم، وقد أطال الحاكم في الحديث عنه حيث قال: فنظرنا فإذا الحديث موضوع، وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون. ونقل عن البخاري قوله: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني: قال البخاري، وكان خالد المدائني يدخل الحديث على الشيوخ. أقول: الرواة المشهورون: قرة بن خالد وسفيان الثوري ومالك وغيرهم، رووه عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ مختصرًا في ذكر الجمع بين الصلاتين، وليس فيه التفصيل الوارد هنا، ولذلك تكلموا في رواية قتيبة هذه. فأخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 143) -ومن طريقه عبد الرزاق (4399) وأحمد (5/ 237 - 238، 238)، والشافعي (1/ 187 - 188 - ترتيب المسند)، والدارمي (1/ 356) وعنه مسلم (4/ 1784 - 1785)، والنسائي (587) وأبو داود (1206)، وابن خزيمة (968، 1704) وابن حبان (1595) والشاشي (1340) والطحاوي (1/ 160) والطبراني (20/ رقم 102) والبيهقي (3/ 162) وفي "الدلائل" (5/ 236) والبغوي (4/ 193) - عن أبي الزبير عن أبي الطفيل أن معاذًا أخبره أنهم خرجوا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عام تبوك، فكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء قال: فأخّر الصلاة يومًا، ثم خرج فصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعًا، هذا هو اللفظ المحفوظ ورواه قرّة عن أبي الزبير به بلفظ: "جمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء" رواه الطيالسي (569) ومسلم (1/ 490 رقم 706) وأحمد (5/ 229) وابن خزيمة (966) والطحاوي (1/ 160) والشاشي (1338) والبزار (2/ ق 42) وابن حبان (1591) والطبراني (20/ 59) وأبو الشيخ في "الجزء فيه أحاديث أبي الزبير عن غير جابر" (رقم 44) ورواه عن أبي الزبير هكذا مختصرًا، دون ذكر جمع التقديم قبل السفر: * زهير بن معاوية: رواه مسلم (1/ 490) والطبراني (20/ 58) والبزار (2/ ق 42). * سفيان الثوري: رواه عبد الرزاق (2/ 545) وابن أبي شيبة (4/ 211) وأحمد (5/ 230، 236) وابن ماجه (1070) والطبراني (20/ 57) والبيهقي (3/ 162) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 88). واختلف فيه على سفيان على نحو فصله الدارقطني في "العلل" (6/ 40 - 41) ورجح هذه الطريق. =

وإسناده صحيح، وعلَّتُه واهية، وكقول ابن عباس: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا زاغت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله سار حتى إذا حانت (¬1) العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت (1) له المغرب في منزله جمع بينه وبين العشاء، وإذا لم تَحِنْ (¬2) في منزله ركب حتى إذا كان العشاء نزل فجمع بينهما" (¬3) وهذا متابع لحديث معاذ، وفي بعض طرق ¬

_ = * ابن لهيعة وعنه قتيبة بن سعيد. رواه أبو الشيخ (رقم 42). * عمرو بن الحارث، رواه الطبراني (20/ 58). وقد رد المصنف على هذا في "زاد المعاد" (477 - 480) وذكر له متابعة يزيد بن خالد بن عبد اللَّه بن مَوْهب. لكن يزيد هذا خالف في إسناده، فقال: حدثنا المفضل بن فضالة، والليث بن سعد عن هشام بن سعد عن أبي الزبير عن أبي الطفيل عن معاذ، رواه أبو داود (1208) -ومن طريقه الدارقطني (1/ 392) والبيهقي (3/ 162 - 163) وابن عبد البر في "التمهيد" (12/ 204 - 205) - وأبو الشيخ في "الجزء فيه أحاديث أبي الزبير عن غير جابر" (رقم 43) ويزيد ثقة. وهشام بن سعد هذا لم يكن بالحافظ، وتكلم فيه أحمد وابن معين والنسائي وابن عدي، وخالف أصحاب أبي الزبير -مالك وغيره- فذكر ما لم يذكروه، فهذه المتابعة لا تنفع فإعلال الحديث ما زال قائمًا وأما قول شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (3/ 29): "إن قتيبة ثقة فلا يضر تفرده، أما الوهم فمردود، إذ لا دليل عليه إلا الظن والظن لا يغني من الحق شيئًا ولا يرد به حديث الثقة، ولو فتح هذا الباب لم يسلم لنا حديث" فعليه ملاحظتان: الأولى: فَرْقٌ بين تفرد الراوي وبين مخالفته، فجميع الرواة الثقات رووا الحديث دون ذكر جمع التقديم، ورواها قتيبة وحده فهذه مخالفة وهي غير التفرد. الثانية: الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا هو إذا كان من غير دليل أما هنا فليس هذا بظن، بل هو مع دليله وكبار أهل الحديث يُعِلُّون بزيادات الثقات، حتى وإن كانوا من المشاهير كمالك والثوري، وكتب "العلل" طافحة بهذا. والخلاصة ما قاله ابن حجر في "التهذيب" (8/ 360) أنه وقع في متن الحديث الذي رواه قتيبة التصريح بجمع التقديم في وقت الأولى، وليس ذلك في حديث مالك من تابعه، وإذا جاز أن يغلط في رجل في الإسناد، فجائز أن يغلط في لفظة في المتن، والحكم عليه مع ذلك بالوضع بعيد جدًا، واللَّه أعلم. وفي الباب عن ابن عباس، ينظر في الذي بَعْده. (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "جاءت". (¬2) في (ن) و (ك): "لم تجيء". (¬3) رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 186)، وعبد الرزاق (4405)، وأحمد (1/ 367 - 368)، والطبراني في "الكبير" (11522 - 11526)، والدارقطني (1/ 388 و 389)، والبيهقي (3/ 163 و 164)، والترمذي -كما في "تحفة الإشراف" (5/ 120) في رواية أبي حامد =

هذا الحديث: "وإذا سافر قبل أن تزول الشَّمس أخَّر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر"، وكقول ابن عمر وقد أخَّر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما. ثم أخبر "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يفعل ذلك إذا (¬1) جَدَّ به السير" (¬2). كل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة، ولا معارض لها؛ فردّت بأنها ¬

_ = أحمد بن عبد اللَّه التاجر المروزي عنه -من طريق حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه عن عكرمة وكريب عنه، مطولًا ومختصرًا. وبعضهم يرويه عن حسين عن عكرمة عن ابن عباس، وبعضهم يرويه عن حسين عن كريب عن ابن عباس، وبعضهم يجمع بينهما، وقد صحح الدارقطني في "علله" (6/ 40) كلا الوجهين، لكن العِلّة هي في حُسين هذا الذي عليه مدار الحديث. قال الحافظ في "التلخيص" (2/ 48)، وفي "الفتح" (2/ 583): حُسين ضعيف، ويقال: إن الترمذي حسَّنه، وكأنه باعتبار القابعة وَغَفَل ابن العربي فصحح إسناده، لكن له طريق أخرى أخرجها يحيى بن عبد الحميد الحماني في "مسنده" عن أبي خالد الأحمر عن الحجاج عن مقسم عن ابن عباس. وروى إسماعيل القاضي في "الإحكام" عن إسماعيل بن أبي أُويس عن أخيه عن سليمان بن بلال عن هشام بن عروة عن كريب عن ابن عباس نحوه. أقول: الطريق الأول الذي ذكره الحافظ ابن حجر فيه يحيى الحِمّاني -راويه- كان يسرق الحديث، والحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث، وأما الطريق الثاني الذي رواه إسماعيل القاضي -فقد ذكره أَيضًا مسندًا ابن القيم في "زاد المعاد" (1/ 480) لكن وقع في مطبوعه -سليمان بن مالك!! - بدلًا من سليمان بن بلال، وسليمان بن مالك لم أجد له ترجمة، وأما سليمان بن بلال فهو ثقة مشهور. وإسماعيل بن أبي أويس وإن روى له البخاري ومسلم إلا أنَّه أخطأ في أحاديث كان يرويها من حفظه. وذكر الحافظ في "الفتح" (2/ 583) طريقًا آخر للحديث من طريق حماد عن أبي أيوب عن أبي قلابة عن ابن عباس مرفوعًا نحوه، رواه البيهقي (3/ 164) قال الحافظ: إلا أنَّه مشكوك في رفعه والمحفوظ أنَّه موقوف، وقد أخرجه البيهقي من وجه آخر مجزومًا بوقفه على ابن عباس. (¬1) في المطبوع: "إذ"! (¬2) رواه البخاري (1091 و 1092) في (تقصير الصلاة): باب يُصلي المغرب ثلاثًا في السَّفر، و (1096) باب في الجمع في السفر بين المغرب والعشاء، و (1109) باب هل يؤذن أو يقيم إذا جمع بين المغرب والعشاء، و (1805) في العمرة: باب المسافر إذا جد به السير يُعَجل إلى أهله، و (3000) في (الجهاد): باب السُّرعة في السير، ومسلم (703) في (صلاة المسافرين): باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر، وفي (ك): "المسير".

أخبار آحاد (¬1)، وأوقات الصلوات (¬2) ثابتة بالتواتر، كحديث إمامة جبريل للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصلاته به كل صلاة في وقتها ثم قال: "الوقت ما بين هذين" (¬3) فهذا في أول الأمر بمكة، وهكذا فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسائل في المدينة سواء، صلى به كل صلاة في أول وقتها وآخره وقال: "الوقت ما بين هذين" (¬4) وقال: في حديث عبد اللَّه بن عمرو: "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفّر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق (¬5)، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل" (¬6) وقال: "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي تليها" (¬7) ويكفي [قوله] (¬8) للسائل وقد سأله عن المواقيت ثم بيّنها له بفعله: "الوقت فيما بين هذين" (¬9) فهذا بيان بالقول والفعل، وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة (¬10) في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة، وجميعهم احتجوا بها في أوقات الصلاة، فقدمتم عليها أحاديث مجملة محتملة في الجمع غير صريحة فيه؛ يجوز (¬11) أن يكون المراد بها الجمع في الفعل، وأن يراد بها الجمع في الوقت، فكيف يترك الصريح المبيّن للمجمل المحتمل؟ وهل هذا إلا تَرْك للمحكم وأخذ بالمتشابه، وهو عين ما أنكرتموه في هذه الأمثلة؟ ¬

_ (¬1) انظر: "بداية المجتهد" (1/ 171) وكتابي: "الجمع بين الصلاتين" (ص 54 وما بعد - ط الأولى). (¬2) في المطبوع: "وأوقات الصلاة". (¬3) أحاديث إمامة جبريل بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كثيرة. وردت من حديث ابن عباس، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي مسعود الأنصاري، وأبي هريرة وغيرهم وفيها قول جبريل للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الوقت ما بين هذين" انظرها مُخَرّجة مفصلة في "نصب الراية" (1/ 221) والطبعة الثانية من كتابي: "فقه الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر" (ص 21 - 23). (¬4) رواه مسلم في "صحيحه" (613) في (المساجد): باب أوقات الصلوات الخمس من حديث بُرَيدة، ورواه مسلم أيضًا (614) من حديث أبي موسى الأشعري، وانظر -غير مأمور- "المجالسة" (3144 - بتحقيقي)، وفي (ق): "الوقت فيما بين هذين". (¬5) تصحفت في المطبوع و (ك) إلى "نور الشفق"، وتحرفت في (ن) و (ق) إلى "فور الشفق". (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في معناه ما رواه مسلم (681) في (المساجد): باب قضاء الفائتة، من حديث، أبي قتادة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلِّ حتى يجيء وقت صلاة أخرى". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬9) مضى تخريجه قريبًا. (¬10) في (ق) و (ك): "صريحة صحيحة". (¬11) في المطبوع: "لجواز".

فالجواب أن يقال: الجميع حق، فإنه من عند اللَّه، وما كان من عند اللَّه فإنه لا يختلف، فالذي وَقَّتَ هذه المواقيت وبيَّنها بقوله وفعله هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله؛ فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها، والأوقات التي بينها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله وفعله نوعان بحسب حال أربابها: أوقات السعة والرفاهية، وأوقات العذر والضرورة، ولكلٍ منها أحكام تخصها، وكما أن واجبات الصلاة وشروطها تختلف باختلاف القُدْرة والعجز فهكذا أوقاتها، وقد جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقْتَ النائم والناسي (¬1) حين يستيقظ ويذكر، أيَّ وقتٍ كان (¬2)، وهذا غير الأوقات الخمسة، وكذلك جعل أوقات المعذورين ثلاثة: وقتين مشتركين، ووقتًا مختصًا؛ فالوقتان المشتركان لأرباب الأعذار هما أربعة لأرباب الرفاهية، ولهذا جاءت الأوقات في كتاب اللَّه نوعين: خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات من القرآن، فالخمسة لأهل الرفاهية والسعة، والثلاثة لأرباب الأعذار، وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه، فتوافقت دلالة القرآن والسنة، والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح؛ فأحاديث الجمع مع أحاديث الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات؛ فالسنة يبيّن بعضها بعضًا، لا يُرد بعضها ببعض ومَنْ تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل، وعلم أن جمع الفعل أشق وأصعب من الإفراد بكثير؛ فإنه يُنتظر بالرخصة أن يبقى من وقت الأولى قدر فعلها فقط، بحيث إذا سلّم منها دخل وقت الثانية فأوقع كل واحدة منهما في وقتها، وهذا أمر في غاية العسر والحرج والمشقة، وهو مُنَافٍ لمقصود الجمع، وألفاظ السنة [الصحيحة] (¬3) الصريحة ترده كما تقدم، وباللَّه التوفيق (¬4). ¬

_ (¬1) كذا الصواب، وفي الأصول: "والذاكر"!! فتأمل!. (¬2) بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها". أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب مواقيت الصلاة): باب من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها, ولا يعيد إلا تلك الصلاة. . .، (597)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساجد): باب قضاء الفائتة، واستحباب تعجيله (684)؛ من حديث أنس. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر كلام ابن القيم في هذه المسألة في "زاد المعاد" (1/ 132 - 133 أو 3/ 7 - 8، 14)، وبنحو المذكور هنا عند ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (24/ 54 - 55)، وقارن بـ"مجموعة الرسائل والمسائل" (2/ 251 - وما بعد)، وكتابنا "فقه الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر" (ص 161 - 163).

[الوتر مع الاتصال]

[الوتر مع الاتصال] المثال الثالث والسبعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة كحديث أم سلمة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُوترُ بسبع وبخمس، لا يفصل بينهنّ بسلام ولا كلام" (¬1) رواه الإِمام أحمد، وكقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلي من الليل ثلاثَ عَشْرَةَ ركعةً، يوتر من ذلك بخمس، ولا يجلس إلا في آخرهن" متفق عليه (¬2)، وكحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- "أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه ثم ينهض، ولا يسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة، ثم يقعد فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يُسْمِعُنَاهُ، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسَنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول" (¬3) وفي لفظ عنها: "فلما أسَنَّ ¬

_ (¬1) رواه أحمد (6/ 290، 310، 321)، والنسائي في "سننه" (كتاب قيام الليل): باب كيف الوتر بخمس؟ (3/ 239)، وابن ماجه (1192) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في الوتر بثلاث وخمس وسبع وتسع، وأبو يعلى (6963)، وعبد الرزاق (4668)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (23/ 617) من طريق منصور وجرير بن عبد الحميد الضبي عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عنها به. أقول: الحكم لم يسمع من مقسم إلا أربعة أحاديث، وهذا منها. وفي سماع مقسم من أُم سلمة مقال فالإمام البخاري -رحمه اللَّه- نفى ذلك في "تاريخه الصغير" (1/ 294)، وأما ابن سعد في "الطبقات" (5/ 295) فقال: وقد روى عن أم سلمة سماعًا. والحديث رواه النسائي (3/ 239) من طريق إسرائيل، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 138) من طريق سفيان الثوري كلاهما عن منصور عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أم سلمة به. وهذا قد يؤيد عدم سماع مقسم لهذا الحديث من أم سلمة. وقد ذكره ابن أبي حاتم في "علله" (1/ 159 - 160) من هذا الطريق الثاني -بإثبات ابن عباس-، وقال: قال أبي: هذا الحديث منكر!! واعلم أنه ورد لفظ الحديث في بعض الروايات: سبع أو خمس. (¬2) هو في "صحيح مسلم" وحده، رواه في (صلاة المسافرين): باب صلاة الليل (737)، وأما في "صحيح البخاري" (رقم 1140) فقد قالت عائشة: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة، منها الوتر وركعتا الفجر. (¬3) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب صلاة المسافرين): باب جامع صلاة الليل، ومن نام =

رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلّم إلا في السابعة" وفي لفظ: "صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن" وكلُّها أحاديث صحاح صريحة (¬1) لا معارض لها؛ فردت هذه بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة الليل مَثْنَى مَثْنَى" وهو حديث صحيح (¬2)، ولكن الذي قاله هو الذي أوتر [بالتسع] (¬3) والسبع والخمس، وسننه (¬4) كلها حق يصدّق بعضُها بعضًا؛ فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أجاب السائلَ له عن صلاة الليل بأنّها مثنى مثنى، ولم يسأله عن الوتر، وأما السبع والخمس والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها, وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع [والتسع] (¬5) بسلامين كالأحدى عشرة كان الوتر اسمًا للركعة المفصولة وحدها، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة توتر له ما صلّى" (¬6) فاتفق فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- وقوله، وصَدَّقَ بعضُه بعضًا، وكذلك يكون ليس إلا، وإن حصل تناقض فلا بد من أحد أمرين: • إما أن يكون أحد الحديثين ناسخًا للآخر. • أو ليس من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإن كان الحديثان من كلامه وليس أحدهما منسوخًا فلا تناقض ولا تضاد هناك البتة، وإنما يؤتى مَنْ يؤتى هناك من قِبَل فهمه وتحكيمه آراء الرجال وقواعد المذهب على السنة؛ فيقع الاضطراب والتناقض والاختلاف، واللَّه المستعان (¬7). ¬

_ = عنها أو مرض (746)، ووقع في المطبوع: "مثل صنعه في الأولى"، وفي (ن) و (ق): "مثل صنيعه في الأول" والتصويب من "صحيح مسلم". وقول المصنف الآتي: "وفي لفظ عنها: فلما أسنّ. . . وفي لفظ: صلى سبع. . . " هو عند أبي داود (1342). (¬1) في (ق): "صحيحة". (¬2) في "الصحيحين"، وقد سبق تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "وسنته". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬6) الحديث في "الصحيحين"، وسبق تخريجه. (¬7) انظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (1/ 86)، و"بدائع الفوائد" (4/ 112).

فصل [في تغير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد]

فصل [في تغير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد] (¬1) [الشريعة مبنية على مصالح العباد] هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيم على الشريعة أوْجَبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يعلم (¬2) أن الشريعة الباهرة التي [هي] (¬3) في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به. [وصف الشريعة] فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل اللَّه بين عبادة، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَمَّ دلالةٍ وأصدقَهَا، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكلُّ خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها, ولولا رسومٌ قد بقيت [لخَرِبت الدنيا وطُوِيَ العالم] (¬4)، وهي العصمة للنَّاس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد اللَّه سبحانه وتعالى خرابَ الدنيا وطَيَّ ¬

_ (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 117)، و"زاد المعاد" (2/ 78)، و"تهذيب السنن" (3/ 40) مهم، و"مدارج السالكين" (1/ 4 - 7)، و (3/ 143 - 148، 198، 438)، و"طريق الهجرتين" (ص 712 - 716). (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "وما يعلم"، والصواب حذف "و". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

[إنكار المنكر وشروطه]

العالم رَفَع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث اللَّه بها رسولَه هي عمود العالم، وقطب [رحى] (¬1) الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة (¬2). ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول اللَّه وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة. [إنكار المنكر وشروطه] المثال الأول: أن النبي- صلى اللَّه عليه وسلم- شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبّه اللَّه ورسوله (¬3)، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى اللَّه ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان اللَّه يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والوُلاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابةُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتال الأمراء الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: "لا، ما أقاموا الصلاة" (¬4)، وقال: "مَنْ رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعَنَّ يدًا من طاعة" (¬5) ومن تأمل ما جرى على الإِسلام من الفتن الكِبَار والصغار رآها من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) انظر قاعدة شمولية الشريعة لأحكام المكلفين وكمالها، وأنها محيطة بأحكام الحوادث في: "مفتاح دار السعادة" (ص 324 - 334)، و"مدارج السالكين" (2/ 458 - 459)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 5، 88، 90)، و"اجتماع الجيوش الإِسلامية" (ص 3)، وانظر "الموافقات" للشاطبي (3/ 27). (¬3) أخرج مسلم في "صحيحه" (كتاب الإيمان): باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم (49). أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من رأى منكم منكرًا، فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". (¬4) يظهر أن هذا الحديث مركب من حديثين: فليس في الأحاديث -فيما اطلعت- قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة، وإنما قال لهم: "صلِّ الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصلها فإنَّها نافلة. . . ". أما في الأمراء فقد روى مسلم في "صحيحه" (1854) في (الإمارة): باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، من حديث أم سلمة قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنه سيكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون. . . قالوا: يَا رسول اللَّه أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا. ونحو هذا عن عدد كبير من الصحابة. (¬5) رواه البخاري (7053 و 7054) في (الفتن): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: سترون بعدي أمورًا تنكرونها"، و (7143) في (الأحكام): باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، =

[إنكار المنكر أربع درجات]

إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه؟ فقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح اللَّه مكة وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت ورَدِّه على قواعد إبراهيم، ومنَعَه من ذلك -مع قدرته عليه- خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإِسلام وكونهم حَدِيثي عهدٍ بكفرٍ (¬1)، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء. [إنكار المنكر أربع درجات] فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يُزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأولَتَانِ مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة؛ ¬

_ = ومسلم (1849) في (الإمارة): باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين، من حديث ابن عباس، ولفظه: "من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر، فإنه من يفارق الجماعة. . . ", وليس فيه فلا ينزعن يدًا من طاعة. ورواه مسلم (1855) في (الإمارة): باب خيار الأئمة وشرارهم عن عوف بن مالك رفعه: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم. . . " قيل: يَا رسول اللَّه! أفلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاة وإذا رأيتم من ولاتكم شيئًا تكرهون، فاكرهوا عمله، ولا تنزعوا يدًا من طاعة". وفي المطبوع: "من طاعته". (¬1) يشير المؤلف إلى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعائشة: "لولا أن قومك حديثٌ عهدهم -قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين: باب يدخل الناس، وباب يخرجون" لفظ مسلم. ورواه البخاري (126) في (العلم): باب من ترك الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس، و (1583 و 1584 و 1585 و 1586) في (الحج): باب فضل مكة، و (3368) في (الأنبياء): باب رقم (10)، و (4484) في (التفسير): باب قول اللَّه تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، و (7243) في (التمني): باب ما يجوز من اللّو، ومسلم (1333) في (الحج): باب نقض الكعبة وبنيانها، من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-.

فصل [النهي عن قطع الأيدي في الغزو]

فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشِّطْرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى اللَّه ورسوله كَرَمِي النشَّاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكَاء وتَصْدِية (¬1) فإن نقلتهم عنه إلى طاعة [اللَّه فهو المراد] (¬2)، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكُتُب المجنون ونحوها وخِفْتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسّحر (¬3) فَدَعْهُ وكتبه الأولى، وهذا باب واسع؛ وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية قدّس اللَّه روحه [ونوّر ضريحه] (¬4) يقول: مررت أنا وبعضُ أصحابي في زمن التَّتَار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَنْ كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلت له: إنما حرم اللَّه الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسَبي الذرية وأخذ الأموال فَدَعْهم (¬5). فصل [النهي عن قطع الأيدي في الغزو] المثال الثاني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "نهى أن تُقْطَع الأيدي في الغَزْوِ" رواه أبو داود (¬6)، فهذا حَدٌّ من حدود اللَّه تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى اللَّه من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا (¬7). ¬

_ (¬1) "المكاء: التصفير بالفم، أو التشبيك بالأصابع، والنفخ فيها، والتصدية: التصفيق باليدين" (ط). قلت: وانظر: "المفردات" (ص 481 و 777) -للراغب الأصفهاني. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬3) في (و) و (ك): "السحرة" وانظر كتابي "كتب حذر منها العلماء" (1/ 99). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) انظر: "الأمر بالمعروف" (ص 17 - 18) و"مجموع الفتاوى" (20/ 57 - 61) و"الإستقامة" (2/ 165 - 168) كلها لابن تيمية. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) انظر كتاب: "الحدود والتعزيرات" (ص 39 - 68) للشيخ الفاضل بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-.

كما قاله عمر وأبو الدَّرداء وحُذَيفة (¬1) وغيرهم، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإِسلام على أنَّ الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكرها أبو القاسم الخرقي في "مختصره" فقال: ولا تقام الحدود (¬2) على مسلم في أرض العدو، وقد أُتي بُسْر (¬3) بن أرْطَاة برجل من الغزاة (¬4) قد سرق مجنَّةَ فقال: لولا أني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا تقطع الأيْدِي في الغَزْو" لقطعت يدك (¬5)، رواه أبو داود (¬6)، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة (¬7)، روى سعيد بن منصور في "سننه" بإسناده عن الأحوص بن حكيم، عن أَبيه أن عمر كَتب إلى الناس أن لا يجلدنَّ أميرُ جيشٍ ولا سرية ولا رجلٌ من المسلمين حدًا وهو غازٍ حتى يقطع الدَّرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكُفَّار (¬8). وعن أبي الدرداء مثل ذلك (¬9). وقال علقمة: كنَّا في جيش في أرض الروم، ومعنا حُذَيفة بن اليَمَان، وعلينا ¬

_ (¬1) سيذكر آثارهم المؤلف بعد قليل، وهناك تخريجها. (¬2) في المطبوع: "لا يقام الحد". (¬3) في المطبوع: "بشر"! وهو تصحيف. (¬4) في (ن) و (ق): "في الغزو"، وفي (ك): "في الغزاة". (¬5) في (ك) و (ق): "لقطعتك". (¬6) سبق تخريجه. (¬7) انظر: "المغني" (13/ 172 - 175 - ط هجر). (¬8) رواه سعيد بن منصور (2500) عن إسماعيل بن عياش به، وإسماعيل بن عياش ثقة إذا روى عن أهل بلده وهذه منها. لكن الأحوص بن حكيم بن عمير ضعيف، إِلا أنه توبع، تابعه أبو بكر بن أبي مريم عن حكيم به، رواه ابن أبي شيبة (6/ 565)، وأبو بكر هذا ضعيف أيضًا، وحكيم بن عمير الراوي عن عمر بن الخطاب لم يدركه، فالإسناد منقطع على كلا الوجهين. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 105) من طريق الشافعي عن أبي يوسف -وهو عنده في "الرد على سير الأوزاعي" (81 - 82) - قال: حدثنا بعض أصحابنا عن ثور بن يزيد عن حكيم بن عمير به، وفيه إبهام وانقطاع إيضًا. ثم نقل عن الشافعي قوله: ما روي عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- مستنكر وهو يعيب أن يحتج بحديث غير ثابت. ورواه عبد الرزاق (9370) عن ابن جريج قال: أخبرني بعض أهل العلم أن عمر بن الخطاب كتب أن لا يَحُدَّ أمير جيش. . . وبين ابن جريج وعمر مفاوز. (¬9) رواه سعيد بن منصور (2499)، وابن أبي شيبة (6/ 566) من طريق أبي بكر بن أبي مريم عن حميد بن فلان بن رومان عنه. وأبو بكر ضعيف، وحُميد هذا لم أعرفه.

[قصة أبي محجن]

الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدُّون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟ (¬1) [قصة أبي محجن] وأُتي سعد بن أبي وقَّاص بأبي مِحْجَنٍ يوم القادسية وقد شربَ الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقي النَّاسُ قال أبو محْجَنٍ: كَفَى حَزَنًا أن تطرد (¬2) الخيلُ بالقَنَا ... وأُتْرَكَ مشدودًا عليَّ وثاقِيا فقال لابنة خصفة (¬3) امرأة سعد: أطلقيني ولَكِ واللَّه (¬4) عليَّ إن سَلَّمني اللَّه أن أرجع حتى أضَعَ رجلي في القَيْد، فإن قتلت استرحْتُمْ مني، قال: فحلّته حين (¬5) التقي الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عُرْفُطة، فوثب أبو مِحْجَنٍ على فَرَس لسعد يقال لها: البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هَزَمهم، وجعل الناس يقولون: هذا مَلَك، لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الضَّبْرُ ضبْرُ (¬6) البلقاء، والظفر ظفر أبي محجن، وأبو محجن في القيد، فلما هُزِم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنة خصفة سعدًا بما كان من أمره، فقال سعد: لا واللَّه لا ¬

_ (¬1) هو في "سنن سعيد بن منصور" (2501)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 566) من طريق عيسى بن يونس وأبو يوسف في "الخراج" (ص 361 - ط إحسان عباس) كلاهما عن الأَعمش عن إبراهيم به. وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. ورواه عبد الرزاق في "مصنفه" (9372) من طريق ابن عيينة عن الأَعمش به، إلا أنه قرن بحذيفة بن اليمان أبا مسعود الأنصاري، وجعله من قولهما معًا، وإسناده صحيح كذلك. (¬2) وقع في "الإصابة": "ترتدي"، وفي رواية الطبري وابن الأثير والراغب: "تردي"، وفي كتاب "الشعر والشعراء": "قطعن"، وفي "المجالسة": "تطعن". (¬3) ذكر الاسم بعد قليل أيضًا محرفًا في المطبوع إلى: "حفصة". (¬4) في (ن) و (ق): "ولك اللَّه". (¬5) في المطبوع: "حتى". (¬6) في جميع النسخ المطبوعة: "الصبر صبر" بالصاد المهملة، وصوابه بالضاد المعجمة، قال الخطابي في "غريبه" (2/ 224): "الضَّبْر: عَدْو الفَرس، وهو أن يجمع قوائمه ثم يَثِب" قال: "ومن هذا قيل للرجل المجتمع الخلق: مضْبور، وللحزمة من الكتب إضبارَة، وللجماعة يغزون ضَبْر".

أضرب اليوم رجلًا أبْلى للمسلمين ما أبلاهم، فخلَّى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنتُ أشربها إذ يقام عليَّ الحدُّ وأُطَهَّرُ منها، فأما إذ بَهْرَجْتَني فواللَّه لا أشربها أبدًا (¬1). ¬

_ (¬1) أخرجه الدينوري في "المجالسة" (رقم 1014 - بتحقيقي)، قال: حدثنا عبد اللَّه بن مسلم بن قتيبة، نا إسماعيل بن محمد، عن الأصمعي، عن ابن عون، عن عُمَيْر بن إسحاق؛ قال:. . . وذكر نحوه، وإسناده ضعيف. عُمير بن إسحاق لم يرو عنه غير عبد اللَّه بن عون، قاله خليفة في "طبقاته" (ص 255)، ومسلم في "الوحدان" (ص 18 - ط الهندية)، والنسائي في "تسمية من لم يرو عنه غير رجل واحدًا: (رقم 8 - بتحقيقي)، وأبو حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 375)، وأحمد في "العلل" (رقم 4441، 4443 - رواية ابنه عبد اللَّه)، والخطيب في "تالي التلخيص" (رقم 137 - بتحقيقي)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1724)، والذهبي في "الميزان" (3/ 296). وذكر ابن حجر في "التهذيب" (8/ 127) أن العقيلي ذكره في "الضعفاء" (3/ 317)؛ لأنه لم يرو عنه غير واحد. ومن هذا تعلم أن ما في "طبقات ابن سعد" (7/ 220) في ترجمته: "روى عنه البصريون ابن عون وغيره" فيه نظر كبير. وانظر له: "تهذيب الكمال" (22/ 369 - 371). قلت: ولا يعرف لعُمير سماع من سعد أو شهود لواقعة القادسية!! وقد رويت القصة عن غيره وسنه تتحملها؛ فقد أورد المزي من ضمن من روى عنهم: عمرو بن العاص، وأبو هريرة، والمقداد بن الأسود. وفي القصة نكارة ظاهرة، ولا سيما أن في آخرها: أن سعدًا عزم على عدم سجنه مرة أخرى إن عاد إلى شرب الخمر، وليس ذلك من سلطته شرعًا، وليست عقوبة شارب الخمر السجن، وليس من سلطة سعد أو أم ولده -إن صح أن عمر أمر بسجنه- أن يفرج عن أبي محجن قبل أن يراجع عمر، واضطربت الروايات في سبب سجن أبي محجن؛ فرواية تذهب إلى أنه كان ممن شغب على سعد حين استخلف خالد بن عرفطة، وتذهب رواية إلى أن أبا جهراء لحق بعمر حين هرب منه أبو محجن، فكتب عمر إلى سعد بسجنه، ورواية ثالثة تقول أن أبا محجن هوى امرأة من الأنصار يقال لها: (شموس)، فحاول النظر إليها فلم يقدر؛ فآجر نفسه من بنّاء كان يبني بيتًا بجانب منزلها، فأشرف عليها، وأنشد شعرًا، فاستعدى زوجها عمر، فنفاه، وكان ذلك سبب قصة أبي الجهراء، وفي رواية رابعة: أن عمر سجنه بسبب أبيات شعر قالها في الخمر، وفي رواية أن سعدًا لم يسجنه، وقال له: "اذهب؛ فما أنا بمؤاخذك بشيء حتى تفعله". وفي هذا اضطراب شديد، وبعضها مصنوع. وأخرجه ابن قتيبة في "عيون الأخبار" (1/ 284 - ط دار الكتب العلمية، و 1/ 187 - ط المصرية): حدثني يزيد بن عمرو: حدثنا أسهل بن حاتم: حدثنا ابن عون، به نحو ما عند المصنف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (رقم 2502 ط الأعظمي) -ومن طريقه الخطابي في "غريب الحديث" (2/ 323) -، وابن أبي شيبة في "المصنف" وأبو أحمد الحاكم في "الكني" -كما في "الإصابة" (4/ 174) -، وعمر بن شبّة -ومن طريقه محمد بن عمران العبدي في "العفو والاعتذار" (2/ 599 - 602)، وأبو الفرج في "الأغاني" (19/ 11 - 12 - ط دار الكتب العلمية) -؛ جميعهم عن أبي معاوية محمد بن خازم: نا عمرو بن مهاجر، عن إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أَبيه؛ قال: أتي سعد بأبي محجن يومِ القادسية، وقد شرب الخمر. . . "، وذكره بنحوه، وفيه قول سعد؛ "واللَّه؛ لا أحبسه أبدًا في الخمر". ورجّح ابن حجر في "الإصابة" (4/ 175) ألفاظ هذا الطريق، وقال (4/ 174): "وأخرج عبد الرزاق [في "المصنف" (9/ 243 رقم 7077) وابن القاص الطبري في "أدب القاضي" (1/ 128 - 129)، بسند صحيح عن ابن سيرين: كان أبو محجن الثقفي لا يزال يجلد في الخمر، فلما أكثر عليهم، سجنوه وأوثقوه، فلما كان يوم القادسية. . . "، وذكر نحوه، وانظر: "الاستيعاب" (4/ 310). ثم قال ابن حجر بعد كلام طويل (4/ 175 - 176): "وأنكر ابن فتحون قول من روى أن سعدًا أبطل عنه الحد، وقال: لا يظن هذا بسعد، ثم قال: لكن له وجه حسن، ولم يذكره، وكأنه أراد أن سعدًا أراد بقوله: "لا يجلده في الخمر" بشرط أضمره، وهو: إن ثبت عليه أنه شربها؛ فوفقه اللَّه أن تاب توبة نصوحًا؛ فلم يعد إليها؛ كما في بقية القصة". قلت: وهذا التأويل بعيد، ولا يتناسب مع السياق الذي قيلت فيه هذه المقولة، وهذا شرط عام يجب توفره في حق كل أحد، ويا ليت ابن فتحون صرح به! وأخرج نحوها مطولة: سيف بن عمر في كتاب "الفتوح" -ومن طريقه أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني" (11/ 7 - 8 - ط دار الكتب العلمية)، وابن قدامة في "التوّابين" (ص 145 - 147) - عن محمد وطلحة وابن مخراق وزياد؛ قالوا. . . وذكروها. وانفرد سيف بذكر أشياء فيها؛ قال ابن حجر في "الإصابة" (4/ 175): "قلت: سيف ضعيف، والروايات التي ذكرناها أقوى وأشهر". وانفرد أبو الفرج الأصفهاني في "الأغاني" (11/ 5 - 6، 11 - 12) بذكر طرق أخرى عن قصاصين! وهي أشبه منها بالحكايات من الطرق الثابتات، والنيل من صحابي جليل، واتهامه بشرب الخمر، بله الإدمان عليه، وغزل النساء والتشبب والتعلق والتفكير والعمل على لقائهن، والنظر إليهن أمر لا يقدم عليه إلا مَنْ خَفَّ دينه، وطاش عقله، نسأل اللَّه السلامة. وعلى كلٍّ؛ هذه قصة شهر ذكرها في كتب الأدب والتاريخ، والنفس ليست مطمئنة إلى صحة تفصيلاتها، وفيما ذكرناه كفاية، ولعل لي عودة لها في كتابي "قصص لا تثبت"، واللَّه الموفق. =

[أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة]

وقوله: "إذ بَهْرَجْتَني" أي أَهدَرتني بإسقاط الحد عني، ومنه: "بَهَرَج دم ابن الحارث" (¬1) أي: أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصًا ولا قياسًا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا، بل لو أُدعي أنه إجماع الصحابة كان أصوب. قال الشيخ (¬2) في "المغني": وهذا اتفاق لم يظهر خِلَافُه. [أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة] قلت: وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخيرُ الحدِّ لعارضٍ أمرٌ وردت به الشريعة، كما يؤخَّر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحُر والبرد والمرض؛ فهذا تأخير لمصلحة المحدود؛ فتأخيره لمصلحة الإِسلام أولى (¬3). [تفسير موقف سعد من أبي محجن] فإن قيل: فما تصنعون بقول سعد: "واللَّه لا أضرب اليوم رجلًا أبلى للمسلمين ما أبلاهم" (¬4) فأسقط عنه الحد؟ قيل: قد يتمسك بهذا من يقول: "لا حَدَّ على مسلم في دار الحرب" كما ¬

_ = وانظرها في: "الشعر والشعراء" (1/ 423)، و"تاريخ الطبري" (3/ 575)، و"فتوح البلدان" (2/ 316 - 317) للبلاذري، و"طبقات الشعراء" لابن سلام (268)، و"البداية والنهاية" (7/ 45)، و"تاريخ الإِسلام" (ص 300 - 301 عهد الخلفاء الراشدين)، و"العقد الثمين" (8/ 97)، و"التذكرة الحمدونية" (2/ 455 - 456)، وكتاب "القادسية" (ص 159 - 161، 245 - 248) لأحمد عادل كامل. والشعر في "ديوان أبي محجن" (37) -وقد طبع قديمًا بمصر، دون تاريخ، وهو ديوان صغير-، و"فتوح البلدان" (2/ 319). (¬1) هو ذباب بن الحارث، والمذكور حديث أورده أبو موسى المديني في "المجموع المغيث" (1/ 202) وعنه -كعادته- ابن الأثير في "النهاية" (1/ 166) وابن منظور في "لسان العرب" (2/ 217)، ولم أظفر به مسندًا! وانظر مادة (بهرج) أيضًا في "غريب الحديث" (2/ 224) للخطابي و (3/ 706) لابن قتيبة و"الفائق" (1/ 140 - 141). وفي (ق): "ومنه أنه بهرج. . . " (¬2) (13/ 175 - ط هجر)، وفي هامش (ق): "يعني الموفق". (¬3) انظر: "تحفة المودود" (ص 200)، و"زاد المعاد" (3/ 204، 207)، و"الحدود" (ص 68 - 70). (¬4) مضى تخريجه قريبًا.

يقوله أبو حنيفة (¬1)، ولا حجة فيه، والظاهر أن سعدًا -رضي اللَّه عنه- اتَّبَعَ في ذلك سنة اللَّه تعالى؛ فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبَذْلِه نفسَه للَّه ما رأى درأ عنه الحد؛ لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقَطْرة نجاسةٍ وقعت في بحر، ولا سيما وقد شام منه مَخَايل التربة النصوح وقت القتال، إذ لا يُظن [في] (¬2) مسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على اللَّه وهو يرى الموت، وأيضًا فإنه بتسليمه نفسَه ووضع رجله في القيد اختيارًا قد استحق أن يوهب له حده كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للرجل الذي قال له: "يَا رسول اللَّه أصَبْتُ حدًّا فأقمه عليَّ، فقال: هل (¬3) صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذْهَبْ فإن اللَّه قد غَفَرَ لك حَدَّكَ" (¬4) وظهرت (¬5) بركة هذا العفو الإسقاط في صدق توبته، فقال: واللَّه لا أشربها أبدًا، وفي رواية: "أبَدَ الأبدِ" (¬6) [وفي رواية] (¬7): "قد كنت آنف أن أتركها من أَجل جلداتكم، فأما إذا تركتموني فواللَّه لا أشربها أبدًا" (¬8) وقد برئ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مما صنع خالد ببني جذيمة، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" (¬9) ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام. ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي والثواب والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب. ¬

_ (¬1) انظر: "الخراج" (178)، "الاختيار" (2/ 91)، "تبيين الحقائق" (3/ 182)، "المبسوط" (9/ 100)، "شرح فتح القدير" (4/ 152)، "حاشية ابن عابدين" (4/ 29)، وانظر: "الإشراف" (4/ 236 مسألة رقم 1590) وتعليقي عليه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) "في رواية سبقت: "أليس" بدلًا من: "هل"، وعلقت عليها، واستعمال "هل" هنا هو الصواب" (و). (¬4) رواه مسلم (2765) في (التربة): باب قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، من حديث أبي أُمامة. ورواه البخاري (6823) في (الحدود): باب إذا أقر بالحد ومسلم (2764) من حديث أنس. (¬5) في (و): "ظهر"، وفي (ك) و (ق): "وظهر". (¬6) في (و): "أبدًا لأبد". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬8) هذا في قصة أبي محجن السابقة، ومضى تخريجها. (¬9) رواه البخاري (4339) في (المغازي): باب بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، و (7189) في (الأحكام): باب إذا قضى الحاكم بجور أو بخلاف أهل العلم فهو رد، من حديث ابن عمر.

[عود إلى إسقاط الحدود لمصلحة]

[عود إلى إسقاط الحدود لمصلحة] وإذا كان اللَّه لا يعذب تائبًا فهكذا الحدود لا تُقام على تائب، وقد نص اللَّه على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم، وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحِرَاب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى (¬1)، وقد رُوينا في "سنن النسائي" من حديث سِمَاك، عن علقمة بن وائل، عن أَبيه أن امرأة وقع عليها [رجل] في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مَرَّ عليها، وفرَّ صاحبُها، ثم مر عليها ذوو عدد، فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي [كانت] (¬2) استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها، فقال [لها] (¬3): أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬4) وسلم، فأخبرته أنه [الذي] (2) وقع عليها، وأَخبر القوم أنهم أدركوه يَشْتَدُّ، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذبَ، هو الذي وقع عليّ، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انطلقوا به فارجموه" فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة، فقال: "أما أَنْتَ فقد غُفِرَ لك" وقال للذي أغاثها قولًا حسنًا، فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى، فأبى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقال: " [لا لأنه] (¬5) قد تاب إلى اللَّه" (¬6)، رواه عن محمد بن ¬

_ (¬1) انظر: "مدارج السالكين" (1/ 178 - 434 و 3/ 435)، و"طريق الهجرتين" (ص 417 - 451)، "والداء والدواء" (ص 11، 125، 214)، و"الوابل الصيب" (14، 16)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 71 - 85). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق) (¬4) "ما بين المعقوفتين من نسخة" (و). (¬5) كذا في (ق) وفي المطبوع وباقي النسخ: "لأنه". (¬6) رواه النسائي في "الكبرى" (7311) كما قال المصنّف، ورواه أيضًا ابن الجارود في "المنتقى" (ص 279) والطبراني في "الكبير" (20/ 18)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 284 و 285) من طريق عمرو بن حماد به، وقد توبع أسباط على هذا. فرواه أحمد في "مسنده" (6/ 399)، وأبو داود (4379) في (الحدود) باب صاحب الحد يجيء فيقر، والترمذي (1454) من طريق إسرائيل عن سماك به نحوه، وقال الترمذي: هذا حديث حَسَن غريب صحيح. وهذا المتن مشكل، ولذلك قال البيهقي بعده: وقد وجد مثل اعترافه من ماعز =

[إشكال في الحديث وحله]

يحيى بن كثير الحراني: ثنا (¬1) عمرو بن حماد بن طلبة: حدثنا أسباط بن نصر عن سماك، وليس فيه بحمد اللَّه إشكال (¬2). [إشكال في الحديث وحلّه] فإن قيل: فكيف أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برَجْم المُغِيث من غير بينة ولا إقرار؟ [اعتبار القرائن وشواهد الأحوال] قيل: هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن والأخذ بشواهد الأحوال في التُّهم، وهو يشبه إقامة الحد (¬3) بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة (¬4)، وإقامة حد الزنا بالحَبَل كانص عليه عمر (¬5) وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك الصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدْركَ وهو يشتدّ هَرَبًا وقالت المرأة: هذا هو الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دَنَا منها وأتى إليها وادعى أنه كان مُغيثًا لا مُرِيبًا، ¬

_ = والجهنية، والغامدية، ولم يسقط حدودهم، وأحاديثهم أكثر وأشهر واللَّه أعلم. أقول: والحديث مداره على سماك بن حرب، وهو ممن يغلط، وقد تكلم فيه غير واحد من أهل الجرح والتعديل، ففي انفراده بهذا الخبر نَظَرٌ. وعلقمة قال فيه ابن معين: لم يسمع من أَبيه شيئًا أقول: لكن ثبتت روايته عن أَبيه في "صحيح مسلم"، وقال الترمذي: "وعلقمة بن وائل بن حُجر سمع من أَبيه وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أَبيه"، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬1) في (و) و (ك): "حدثنا". (¬2) في (ق): "وليس فيه إشكال بحمد اللَّه تعالى". (¬3) في المطبوع: "وهذا يشبه إقامة الحدود". (¬4) انظر إقامة حد الخمر بالقرينة الظاهرة في "الطرق الحكمية" (ص 4)، و"زاد المعاد" (2/ 78 - 79، 43 أو 3/ 211)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 325 - 342). وانظر ما مض أيضًا مع تخريجنا له. (¬5) هو جزء من حديث طويل: رواه البخاري (6829) في (الحدود): باب الاعتراف بالزنا، و (6830) باب رجم الحُبلى من الزنا إذا أحصنت، ومسلم (1691) في (الحدود): باب رجم الثيب في الزنا، من حديث ابن عباس عن عمر، وفيه قوله: "وإن الرَّجم في كتاب اللَّه حق على من زنى إذا أَحْصَنَ من الرِّجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحَبَل أو الاعتراف". وانظر "الإشراف" (4/ 209 مسألة 1561) وتعليقي عليه.

ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان في هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، واحتمالُ الغلطِ وعداوة الشهود كاحتمال الغلط وعداوة (¬1) المرأة هاهنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد؛ فنهاية الأمران هذا لَوْثٌ ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعًا كما يقتل في القَسَامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع؛ فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة متابعة للأدلة الظاهرة من البيِّنات والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط (¬2) أمر لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام، والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد، وإنما [ارتباطُ الحدِّ بها] (¬3) ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يُلْغِهِ الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلًا كالبيّنة والإقرار، وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فأحْرَى أن لا يتسع له نطاف كثير من الفقهاء، ولكن اتسع له نطاق الرؤوف الرحيم، فقال: "إنه قد تاب إلى اللَّه" (¬4) وأبي أن يحده، ولا رَيْبَ أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طَوْعًا واختيارًا خشيَةً من اللَّه وحده [وإنقاذًا لرجل مسلم] (¬5) من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدواء لذلك الداء، وكانت القوّة صالحة، فزال المرض، وعاد القلبُ إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طُهْرةً ودواءً؛ فإذا تطهرَّت بغيره فعفوُنَا يَسَعُك، فأيُّ حكمٍ أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة؟ وباللَّه التوفيق. وقد رُوِّينا في "سنن (¬6) النَّسائي" من حديث الأوزاعي: ثنا أبو عَمَّار شَدَّاد، قال: حدثني أبو أُمامة أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يَا رسول اللَّه أصبتُ حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم قال: إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم قال: يَا رسول اللَّه إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، فأقيمت الصلاة، فلما سلَّم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: يَا رسول اللَّه إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال: "هل توضأت حين أقبلت؟ قال: نعم، قال: هل صلَّيت معنا حين صلينا؟ قال: ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أو عداوة". (¬2) في (ن) و (ق): "أو لا ينضبط". (¬3) في (و) بدل ما بين المعقوفتين: "ذلك من". (¬4) يقصد المؤلف بقوله: "الرؤوف الرحيم" رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحديث سبق قريبًا. (¬5) في (و): "وانقاد الرجل المسلم". (¬6) في (ك): "مسند"!!

فصل [من أسباب سقوط الحد عام المجاعة]

نعم، قال: اذهب فإن اللَّه قد عفا عنك" (¬1)، وفي لفظ: "إن اللَّه قد غفر لك ذنبك، أو حَدَّكَ"، ومن تراجم النَّسائي على هذا الحديث: "من اعترف بحد ولم يُسَمِّه" (¬2) وللناس فيه ثلاث مسالك: • هذا أحدها. • والثاني: أنه خاص بذلك الرجل. • والثالث: سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه، وهذا أصح المسالك. فصل [من أسباب سقوط الحد عام المجاعة] المثال الثالث: أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أسقط (¬3) القَطْع عن السارق في عام المَجَاعة، قال السعدي (¬4): حدثنا هارون بن إسماعيل الخَرَّاز: ثنا علي بن المبارك: ثنا يحيى بن أبي كثير: حدثني حَسَّان بن زاهر أن ابن حُدَيْر حدثه عن عمر قال: "لا تُقْطَعُ اليد في عَذْق ولا عَامَ سنَة" (¬5)، قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: العَذْقُ: النخلة، وعام سنة: المجاعة، فقلت ¬

_ (¬1) الحديث في "صحيح مسلم" كتاب (التوبة): باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} (2765)، وعند النسائي -كما قال ابن القيم- في "السنن الكبرى" (7312 - 7316) في (الرجم) باب من اعترف بحد ولم يسمِّه، وغيرهما عن أبي أمامة، ووقع في بعض طرق النسائي عن واثلة بن الأسقع، وبيَّن -رحمه اللَّه- خطأ راويه في ذلك فقال: ولا نعلم أحدًا تابع الوليد على قوله: عن واثلة، والصواب أبو هانئ عن أبي أمامة. وأخرجه البخاري في "الصحيح" كتاب (المحاربين): باب إذا أقر بالحد، ولم يبين هل للإمام أن يستر عليه؟ رقم (6823)، ومسلم الموضع السابق نفسه رقم (2764)، عن أنس -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "الخلافيات" (رقم 19 - بتحقيقي). (¬2) انظر: "السنن الكبرى" للنسائي (4/ 314). (¬3) هو لم يسقط الحد، ولكن وجد أن شروطه في هذه الحالة لم تتوفر لإقامته، فامتثل الأمر -رضي اللَّه عنه-. (¬4) السعدي هو الإِمام الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب السعدي، تتلمذ على يد الإِمام أحمد، وأخذ الفقه عنه، وتتلمذ على يديه خلق كثير منهم: أبو داود والترمذي والنسائي -رحمهم اللَّه جميعًا- اختلف في عام وفاته، فقيل: سنة 256 هـ، وقيل: 259 هـ، لم يطبع له إلا "أحوال الرجال" و"أمارات النبوة"، انظر ترجمته في "تذكرة الحفاظ" (2/ 549/ 568). (¬5) أخرجه السعدي في "جامعه" -كما قال الحافظ في "التلخيص" (4/ 70) - عن أحمد بن حنبل عن هارون بن إسماعيل به، فسقط أحمد بن حنبل من الإسناد الذي ذكره ابن القيم -رحمه اللَّه-. =

لأحمد: تقول به؟ فقال: إِي لعمري، قلت: إن سَرَق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك والناسُ في مجاعة وشدة. قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب، ثنا أبو النُّعمان عارم: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن حاطب (¬1) أن غِلْمة لحاطب بن أبي بَلْتعة سرقوا ناقة لرجل من مُزَينة، فأتى بهم عمر، فأقّروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال [له] (¬2): إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مُزَينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر: يَا كثير بن الصَّلْت اذهب فاقطع أيديهم، فلما ولَّى بهم (¬3) ردَّهم عمر ثم قال: أما واللَّه لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرَّم اللَّه عليه حَلَّ له لقطعت أيديهم، وأيم اللَّه إذ لم أفعل لأُغَرمنَّك غرامة تُوجِعُكَ، ثم قال: يَا مُزَني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربع مئة، قال عمر: اذهب فأعْطه ثماني مئة (¬4). وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفَصْلَيْنِ جميعًا؛ ففي "مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي" التي شَرَحَها السعدي بكتاب سماه "المترجم" (¬5)، قال: سألت ¬

_ = وعلّق البخاري في "تاريخه الكبير" (3/ 4) أوّله من طرق عن يحيى بن أبي كثير به، والأثر فيه حسان بن زاهر، وحُصين بن حُدَير ترجمهما البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيهما جرحًا ولا تعديلًا، وهما على شرط ابن حبان في "الثِّقات"! (¬1) في (و): "عن أبي حاطب". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ن): "فلما مضى بهم"، وفي (ك) و (ق): "فلما قفى بهم". (¬4) روى هذه القصة مالك (2/ 748 رواية يحيى ورقم 2905 - رواية أبي مصعب) وعبد الرزاق (18978) والبيهقي في "سننه الكبرى" (8/ 278) و"معرفة السنن" (رقم 17242) من طريق هشام بن عروة به، وسَمَّى ابن حاطب: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، وهو لم يدرك عمر قطعًا مات سنة 104 هـ. قال ابن التركماني في "الجوهر النقي": "وذكر ابن وهب في "موطئه" الحديث بمعناه من طريقين: من رواية يحيى بن عبد الرحمن عن أبيه، وأبوه عبد الرحمن سمع عمر، وَرَوى عنه وليس عند جمهور رواة "الموطأ": عن أبيه قال أبو عمر (ابن عبد البر): أظن ابن وهب وَهِمَ فيه". قلت: رواية عبد الرزاق عن ابن جريج ثني هشام بن عروة عن عروة أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أخبره عن أبيه فذكر القصة، وأن الغرامة وقعت في مال عبد الرحمن بن حاطب، فهذه تقوي رواية ابن وهب بذكر عبد الرحمن بن حاطب، واللَّه أعلم، وانظر -لزامًا- "الاستذكار" لابن عبد البر (22/ 258 - 262). (¬5) انظر في التعريف به تعليقي على "القواعد" لابن رجب (2/ 304 - 305).

[وجوب بذل الطعام بالمجان في زمن المجاعة]

أحمد بن حنبل عن الرجل (¬1) يحمل الثمر من أكمامه، فقال: فيه الثَّمَنُ مرتين وضَرْبُ نَكَالٍ، وقال: وكل مَنْ دَرَأنا عنه الحدود (¬2) والقَوَد أضعفنا عليه الغُرْم، وقد وافق أحمدَ على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعيُّ (¬3)، وهذا مَحْضُ القياس، ومقتضى قواعد الشرع؛ فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غَلَبَ على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسدّ به رَمَقَه، ويجب على صاحب المال بَذْلَ ذلك له، إما بالثَّمن وإما مجانًا (¬4)، على الخلاف في ذلك. [وجوب بذل الطعام بالمجان في زمن المجاعة] والصحيح وجوب بذله مجانًا؛ لوجوب المواساة (¬5) وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، وهذه شُبْهة قوية تَدْرأ القطع [عن المحتاج] (¬6)، وهي أقوى من كثير من الشُّبَه التي يذكرها كثير من الفقهاء، بل إذا وازَنْتَ بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت، فأين شبهة كون المسروق مما يُسْرع إليه الفساد، وكون أصله على الإباحة [كالماء] (6)، وشبهة القَطْع به مرة، وشبهة دعوى ملكه بلا بينة، وشبهة إتلافه في الحِرْز بأكل أو احتلاب (¬7) من الضَّرْع، وشبهة نقصان ماليّته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه، وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدًا إلى هذه الشبهة القوية؟ لا سيما وهو مأذون له في مُغَالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق الغير حاجة من غيره، فاشتبه مَنْ يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدُرِئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به (¬8) وهو مستغنٍ عن (¬9) السرقة قطع (¬10). ¬

_ (¬1) في (و): "رجل" بدون "الـ". (¬2) في المطبوع: "عند الحد". (¬3) انظر: "فقه الأوزاعي" (2/ 333). (¬4) في المطبوع: "أو مجانًا". (¬5) في (و): "المساواة"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ن) و (ق): "بالأكل أو احتلابه". (¬8) في (ن): "إذا بأن السارق ولا حاجة به". (¬9) في (و): "من"! ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬10) انظر: "شرح فتح القدير" (5/ 367)، لابن الهمام، "الكافي" (2/ 1084) لابن عبد البر، "روض الطالب" (4/ 146) للأنصاري، "المهذب" (2/ 282)، "شرح منتهى الارادات" (3/ 370)، "المغني" (9/ 136) لابن قدامة، "العناية" (5/ 366) للبابرتي، "المحلى" =

فصل [صدقة الفطر لا تتعين في أنواع]

فصل [صدقة الفطر لا تتعين في أنواع] المثال الرابِع (¬1): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فرض صدقة الفطر صاعًا من تمرٍ أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقِط (¬2)، وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهلُ بلدٍ أو محلة قوتُهم غيرُ ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فِطرَتَهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره؛ إذ المقصود سَدُّ خَلَّة المساكين يوم العيد، وموَاساتهم (¬3) من جنس ما يقتاته أهلُ بلدهم، وعلى هذا فيجزِئُ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه الحديث (¬4)، وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وإن كان أنفع للمساكين لقلَّة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحَبُّ أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه ما لا يتأتى من الخبز والطعام، ولا سيما إذا كثر الخبز والطعام عند المسكين (¬5) فإنه يفسد ولا يمكنه حفظه، وقد يقال: لا اعتبار بهذا، ¬

_ = (11/ 343)، "أثر الشبهات في درء الحدود" (405 - 407)، وانظر بعض شروط القطع في السرقة في "زاد المعاد" (3/ 211، 212) مهم. (¬1) "ما زال يضرب أمثلة لتغير الفتوى بتغيُّر الأزمنة والأمكنة" (و). (¬2) رواه البخاري (1506) في (الزكاة): باب صدقة الفطر صاعًا من طعام، و (1508) باب صاع من زبيب، و (1510) باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، ومسلم (985) في (الزكاة): باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير، من حديث أبي سعيد الخدري. وقال (و): "الأقط: مثلثة ومثل كتف ورجل، وهو لبن مجفف يابس مستحجر، يطبخ به" اهـ. (¬3) في (و): "مؤاساتهم". (¬4) يشير إلى ما رواه الحاكم (1/ 411) والدارقطني (2/ 150) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (2/ ق 420/ أ) وابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 210 رقم 1196 - ط قلعجي) - من طريق سليمان بن أرقم عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال: خطبنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "من كان عنده فليتصدق بنصف صاع من بر. . . أو صاع من دقيق" وإسناده ضعيف جدًا. قال الدارقطني: "لم يروه بهذا الإسناد، وهذه الألفاظ غير سليمان بن أرقم، وهو متروك الحديث" وانظر -غير مأمور-: "العلل" له (9/ 109) و"تنقيح التحقيق" (2/ 1467) لابن عبد اللهادي و (5/ 209) للذهبي. (¬5) في (ن) و (ق): "إذا أكثر الطعام والخبر عند المساكين".

فإن المقصود إغناؤهم في ذلك اليوم العظيم عن التعرض (¬1) للسؤال، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أغنُوهُم في هذا اليوم عن المسألة" (¬2) وإنما نص على تلك الأنواع المُخرَجَة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة؛ ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمِرُوا أن يطعموا منها القانع والمعتر؛ فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم، بل يشرع لهم أن يُوَاسوا المساكين من أطعمتهم، فهذا محتمل يسوغ القول به (¬3)، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) في (ن): "التعريض". (¬2) قال الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 432) غريب بهذا اللفظ. قلت: أخرجه أبو القاسم الشريف الحسيني في "الفوائد المنتخبة" (13/ ق 147/ 2) عن القاسم بن عبد اللَّه، عن يحيى بن سعيد وعبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإخراج صدقة الفطر قبل الصلاة، وقال: "أغنوهم عن السؤال". وهذا سند ساقط؛ لأن القاسم بن عبد اللَّه وهو العمري المدني، قال الحافظ: "متروك رماه أحمد بالكذب قاله شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (3/ 334). وقد ورد بلفظ: "اغنوهم عن الطواف في هذا اليوم". رواه ابن عدي في "الكامل" (7/ 2519)، وابن زنجويه في "الأموال" رقم (2397)، والدارقطنيِ (2/ 153)، والحاكم في "المعرفة" (ص 131) والبيهقي (4/ 175) من طريق أبي معشر نجيح عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. ذكره ابن عدي في ترجمة نجيح هذا، ونقل تضعيفه عن ابن معين، وأحمد ويحيى بن القطان، والبخاري، وابن مهدي، والنسائي وغيرهم. وضعفه البيهقي في "سننه" والنووي في "المجموع" (6/ 126) وابن الملقن في "خلاصة البدر المنير" (1/ 313) وابن حجر في "بلوغ المرام" ومحمد بن عبد اللهادي في "التنقيح" (2/ 1455). وروى ابن سعد في "الطبقات" (1/ 191) حديثًا طويلًا من ثلاثة أسانيد مدارها على الواقدي من ضمنه هذا الحديث. والواقدي متروك. (¬3) مع مراعاة كونه طعامًا على قول الجماهير سلفًا وخلفًا، وخلافًا لمن جوَّز القيمة، وداعي الشرع مصلحة الفقراء في زكوات الأموال، فأوجب القيمة خلافًا لزكاة الأبدان، فإن مصلحتهم فيها من جنس السبب الذي أوجب الصدقة، فضلًا عن أن (صدقة الفطر) بمثابة (شعيرة عيد الفطر) كما أن الأضحية (شعيرة عيد الأضحى)، فكما لا يجوز استبدال الأضحية بالقيمة فكذا (صدقة الفطر) مع احتياج الفقراء إليها، وتقصير الأغنياء في الأموال لا يخول للمكلفين تبديل هذه الشعيرة، إذ "الشر لا يأتي بخير"، وخير الهدي هدي محمد وصحبه، فافهم ذاك، تولى اللَّه هداك، وانظر رسالة الأخ الشيخ الفاضل محمد بن إسماعيل: "هل تجزئ القيمة في صدقة الفطر؟ " و"الإشراف" (2/ 201 مسألة 524 - بتحقيقي).

فصل [هل يجب في المصراة رد صاع من تمر؟]

فصل [هل يجب في المُصَرّاة رد صاع من تمر؟] المثال الخامس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نص في المُصَرَّاة (¬1) على رَدِّ صاع من تمر بدل اللَّبن (¬2)، فقيل: هذا حكم عام في جميع الأمصار، حتى في المصر الذي لم يَسْمع أهله بالتَّمر قط ولا رأوه؛ فيجب إخراج قيمة الصالح في موضع التمر، ولا يجزئهم إخراج صاع من قوتهم، وهذا قول أكثر الشافعية والحنابلة، وجعل هؤلاء التمر في المُصَراة كالتمر في زكاة التمر لا يجزئُ سواه، فجعلوه تعتدًا، فعينوه اتباعًا للفظ النص، وخالفهم آخرون، فقالوا: بل يُخرج في كل موضع صاعًا من قوت ذلك البلد الغالب؛ فيخرج في البلاد التي قوتهم البُرّ صاعًا من بُرٍّ، وإن كان قوتهم الأرز فصاعًا من أرز، وإن كان الزبيب والتين عندهم كالتمر في موضعه أجزأ صاع منه، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار أبي المحاسن الروياني وبعض أصحاب أحمد، وهو الذي ذكره أصحاب مالك، قال القاضي أبو الوليد: روى ابن القاسم أن الصاع يكون من غالب قوت البلد، قال صاحب "الجواهر"، بعد حكاية ذلك: ووجهه أنه ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث صاعًا من طعام؛ فيُحمل تعيين صاع التمر في الرواية المشهورة على أنه غالب قوت ذلك البلد، انتهى (¬3). ولا ريب أن هذا أقرب إلى مقصود الشارع ومصلحة المتعاقدين من إيجاب قيمة صاع من التمر في موضعه، واللَّه أعلم. وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان التي يقوم غيرُهَا مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها كنصه على الأحجار في الاستجمار (¬4)، ومن المعلوم ¬

_ (¬1) "الناقة أو البقرة أو الشاة يجمع اللبن في ضرعها، وفسرها الشافعي بأنها التي تصرُّ أخلافها، ولا تحلب أيامًا حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فإذا حلبها المشتري استغزرها" (و). قلت: وانظر: "زاد المعاد" (4/ 242، 272). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) انظر: "المدونة الكبرى" للإمام مالك (4/ 286 - 289 - رواية سحنون عن ابن القاسم)، وانظر: "عقد الجوهر الثمينة" (1/ 340)، و"الرسالة" للشافعي (556 - 558 - تحقيق أحمد شاكر)، و"الأم" له (3/ 68 و 7/ 176 - تحقبق زهري النجار)، و"المجموع شرح المهذب" (11/ 233 - 279) و"الإشراف" (2/ 481 مسألة 800 - بتحقيقي). (¬4) سبق تخريجه.

فصل [طواف الحائض بالبيت]

أن الخِرقَ والقُطْنَ والصوف أولى منها بالجواز، وكذلك نصّه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب (¬1) والأشنانُ أولى منه (¬2)، هذا فيما علم مقصود الشارع منه، وحصولُ ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه. فصل [طواف الحائض بالبيت] المثال السادس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهير، وقال: "اصْنَعِي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" (¬3) فظنَّ مَنْ ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يفرِّق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس (¬4) لها حتى تطهير وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك، وتمسك بظاهر النص، ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام؛ إذ نهى الحائض عن الجميع سواء، ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة، ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما: صحح (¬5) الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعًا من صحته، بل جعلوا الطهارة واجبة تُجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما (¬6) عنه، وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشَّرط بالمشروط، بل جعلوها واجبة من واجباته، وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصحُّ فعلُه مع الإخلال بها وبجبرها الدم. ¬

_ (¬1) سبق تخريجه أيضًا. (¬2) انظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- على إزالة نجاسة ولوغ الكلب بغير التراب في "بدائع الفوائد" (4/ 52). (¬3) رواه البخاري (294) في (الحيض): باب كيف كان بدء الحيض؟، و (1516 و 1518) في (الحج): باب الحج على الرحل، و (1650): باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف، و (1787) في (العمرة): باب أجر العمرة على قدر النصب، و (5548) في (الأضاحي): باب الأضحية للمسافر والنساء، و (5559) باب من ذبح أضحية غيره، ومسلم (1211) في (الحج): باب بيان وجوه الإحرام، من حديث عائشة، وفيه قصة. (¬4) في (ن) و (ق): "الأحباس". (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "صححوا". (¬6) انظر: "الفروع" (1/ 260 و 3/ 502) و"شرح العمدة" لابن تيمية (1/ 459 - الطهارة) وفي (و): "نصّهما".

[لا تخلو الحائض في الحج من ثمانية أقسام في هذه الأيام]

والفريق الثاني: جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها (¬1) بمنزلة وجوب السترة واشتراطها، بل وبمنزلة (¬2) سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز، قالوا: وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها (¬3) له بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحْرَى، قالوا: وقد كان في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه الراشدين يحتبس (¬4) أمراء الحج للحُيَّض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في شأن صفية وقد حاضت: "أحابِسَتُنَا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت، قال: "فلتنفر إذًا" (¬5)، وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها. [لا تخلو الحائض في الحج من ثمانية أقسام في هذه الأيام] فأما في هذه الأزمان التي يتعذَّر إقامة الرَّكب لأجل الحُيّض فلا تخلو من ثمانية أقسام: أحدها أن يقال لها: أقيمي بمكة وإن رَحَل الركب حتى تطهري وتطوفي، وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلدة الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه. الثاني أن يقال: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه. الثالث أن يقال: إذا علمَتْ أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته. الرابع أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حَجَّتْ أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضُها بالكلية. ¬

_ (¬1) في (ك): "أو اشتراطها". (¬2) كذا في (و)، وإن)، وفي غيرهما: "بمنزلة" من غير واو. (¬3) في (و): "ووجوبها". (¬4) في (د): "تحتبس". (¬5) رواه البخاري (1733) في (الحج): باب الزيارة يوم النحر، و (1757) في باب إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت، و (1771 و 1772) في باب الإدلاج من المحصب، و (4401) في (المغازي): باب حجة الوداع، و (5329) في (الطلاق): باب قول اللَّه تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ}، ومسلم (1211) (128) في (الحج): باب بيان وجوه الإحرام، من حديث عائشة.

[الرأي الصحيح في حكم الحائض هو القسم الثامن]

الخامس أن يقال: بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة، ولو كان بينها وبينه مسافة سنين، ثم إذا أصابها الحيض في سنة العَوْد رجعت كما هي، ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهير فيه. السادس أن يقال: بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهير كما يتحلل المحصر، مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت على الحج لزمها؛ ثم إذا أصابها ذلك أيضًا تحللت، وهكذا أبدًا حتى يمكنها الطواف طاهرًا. السابع أن يقال: يجب عليها أن تستنيبَ مَنْ يحجُّ عنها كالمَعْضُوب، وقد أجزأ عنها الحج، وإن انقطع حيضها بعد ذلك. [الرأي الصحيح في حكم الحائض هو القسم الثامن] الثامن أن يقال: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج، ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما سقط (¬1) عنها طواف الوداع بالنَّص (¬2)، وكما سقط (1) عنها فرض السترة إذا شلحتها (¬3) العبيد أو غيرهم، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها، وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي إذا عرض (¬4) فيه نجاسة تتعذَّر (¬5) إزالتها (¬6)، وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه، وكما يسقط فرض القيام والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلّي، وكما يسقط فرضُ الصوم عن العاجز عنه [إلى بَدَله] (¬7) وهو الإطعام، ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بَدَل أو مطلقًا؛ فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها، ومن ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك) و (ق): "يسقط". (¬2) هو في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لصفية لما قالت: "ما أراني إلا حابستكم" فقال: "عَقْرى حَلْقَى أوما كنت طُفْتِ يومَ النَّحرِ؟ قالت: بلى، قال: لا بأس، انفري". رواه البخاري (1516) في (الحج): باب التمتع والقران والافراد بالحج، و (1733) في باب الزيارة يوم النحر، و (1757 و 1762) باب إذا حاضت المرأة بعد ما أفاضت، و (1771 و 1772) في باب الإدلاج من المُحَضَب، ومسلم (1211) (128) في (الحج): باب بيان وجوه الإحرام، من حديث عائشة. (¬3) في (ق) و (ك): "شلحها". (¬4) في (ن) و (ك): "إذا فرض". (¬5) في (و) و (ك) و (ق): "يتعذر". (¬6) في (ق) و (ك): "زوالها". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "عجزًا إذا بدل"! وفي (ك) و (ق): "عجزًا إلى بدل".

[الرد على القائلين بالتقدير الأول]

المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن. [الرّد على القائلين بالتقدير الأول] فإن القسم الأول وإن قاله مَنْ قال من الفقهاء (¬1) فلا يتوجه هاهنا؛ لأن هذا الذي قالوه متوجّه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمَّت بها البَلْوَى، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة، بل قد ذكروا أن المكريَّ يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهرَ ثم تطوف، فإنه كان ممكنًا بل واقعًا في زمنهم، فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهير لتمكّنها من ذلك، وهذا لا نِزاعَ فيه ولا إشْكَال؛ فأما في هذه الأزمان فغير ممكن، وإيجابُ سفرين كاملين في الحج من غير تفريط من الحاج ولا سبب صدَر منه يتضمن إيجاب حجّتين إلى البيت، واللَّه تعالى إنما أوجب حجة واحدة، بخلاف مَنْ أفسد الحج فإنه قد فَرَّطَ بفعل المحظور، وبخلاف مَنْ ترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة فإنه لم يفعل ما يتم به حجَّه (¬2)، وأما هذه فلم تُفَرّط ولم تترك ما أُمِرَت به فإنَّها لم تؤمر بما لا تقدر عليه، وقد فعلت ما تقدر عليه؛ فهي بمنزلة الجُنب إذا عجز عن الطهارة الأصليّة والبدلية وصلَّى على حسب حالة، فإنه لا إعادة عليه في أصح الأقوال (¬3)، وأيضًا فهذه قد لا يمكنها السفر مرة ثانية، فإذا قيل (¬4): إنها تبقى مُحْرمة إلى أن تموت، فهذا ضرر لا يكون مثله في دين الإِسلام، بل يُعلم بالضرورة (¬5) أن الشريعة لا تأتي به. فصل [الرّد على القائلين بالتقدير الثاني] وأما التقدير الثاني -وهو سقوط طواف الإفاضة- فهذا مع أنه لا قائل به فلا ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "وإن قاله من قاله". (¬2) كذا في (و) و (ن) و (ك) و (ق)، وفي سائر النسخ: "ما يتم حجّته". (¬3) وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- انظر له: "شرح العمدة" (3/ 582 وما بعد)، و"مجموع الفتاوى" (26/ 126، 176، 199 - 247) و"العقود الدرية" (ص 323)، وانظر في المسألة: "الفروع" (3/ 501)، و"المبدع" (3/ 221)، و"كشاف القناع" (2/ 485). (¬4) في (و): "إذا قيل". (¬5) في (و): "بل بعلم الضرورة".

فصل [الرد على القائلين بالتقدير الثالث]

يمكن القول به؛ فإنه ركنُ الحج الأعظم، وهو الركن المقصود لذاته، والوقوف بعرفة وتوابعه مقدِّمات له. فصل [الرّد على القائلين بالتقدير الثالث] وأما التقدير الثالث -وهو تقدّم طواف الإفاضة على وقته إذا خشيت الحيض في وقته- فهذا لا يُعلم به قائل، والقول به كالقول بتقديم الوقوف [بعرفة] (¬1) على يوم عرفة، وكلاهما مما لا سبيل إليه. فصل [الرّد على الرّابع] وأما التقدير الرابع -وهو أن يقال: يسقطُ عنها فرضُ الحج إذا خَشيت ذلك- فهذا وإن كان أفقه مما قبله من التقديرات فإن الحج يسقط بما هو دون هذا (¬2) من الضرر -كما لو كان بالطويق أو بمكة خَوْف، أو أخذ خفارة مُجْحفة أو غير مجحفة على أحد القولين، أو لم يكن لها محرم (¬3) - ولكنّه ممتنع لوجهين: أحدهما: أنَّ لازمه سقوط الحج عن كثيرٍ من النساء أو أكثرهن؛ فإنهن يخفن من الحيض وخروج الركب قبل الطهر، وهذا باطل؛ فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها ولا عن بعض أركانها، وغاية هذه أن تكون عَجَزَتْ عن شرط أو ركن، وهذا لا يُسْقِطُ المقدور عليه، قال اللَّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمرٍ فَأتُوا منه ما استطعتم" (¬4) ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان، وما عجز عنه من فروضها أو شروطها سقط عنه؛ والطوافُ والسَّعْي إذا عجز عنه ماشيًا فَعَلَه راكبًا اتفاقًا، والصبي يفعل عنه وليه ما يعجز عنه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬2) في المطبوع: "لما هو دون هذا"، وفي (و): "لما دون هذا". (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 84). (¬4) رواه البخاري (7288) في (الاعتصام): باب الاقتداء بسنن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (1337) في (الحج): باب فرض الحج في العمر مرة، و (4/ 1831) في (الفضائل): باب توفيره -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك اكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، من حديث أبي هريرة وهو جزء من حديث.

فصل [الرد على الخامس]

الوجه الثاني: أن يقال في الكلام فيمن تكلَّفت وحجَّتْ وأصابها هذا العذر: فما يقول صاحب هذا التقدير حينئذ؟ فإما أنْ يقول: تبقى محرمة حتى تعودَ إلى البيت، أو يقول: تتحلل كالمُحصر، وبالجملة فالقول بعدم وجوب الحج على مَنْ تخاف الحيض لا يُعلم به قائل، ولا تقتضيه الشريعة؛ فإنَّها لا تسقط مصلحةَ الحج التي هي من أعظم المصالح لأجل العجز عن أمرٍ غايتُه أن يكون واجبًا في الحج أو شرطًا فيه؛ فأصولُ الشريعة تبطل هذا القول. فصل [الرّد على الخامس] وأما التقدير الخامس -وهي أن ترجع وهي على إحرامها ممتنعة من النكاح والوطء إلى أن تعود في العام المقبل، ثم إذا أصابها الحيض رجعت كذلك، وهكذا كل عام- فمما تردُّه أصول الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة والإحسان (¬1)؛ فإن اللَّه لم يجعل على الأمة مثلَ هذا الحرج، ولا ما هو قريب منه. فصل [الرّد على السادس] وأما التقدير السادس -وهو أنها تتحلل كما يتحلل المحصر- فهذا أفقه من التقدير الذي قبله؛ فإن هذه منعها خوفُ المقَام من إتمام النسك، فهي كمن منعها عَدُوّ عن الطواف بالبيت بعد التعريف، ولكن هذا التقدير ضعيف؛ فإن الإحصار أمرٌ عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج، وهذه متمكّنة من البيت ومن الحج من غير عدوّ ولا مرض ولا ذهاب نفقة، وإذا جعلت هذه كالمُحْصَر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها، والعذرُ الموجِبُ للتحلل بالإحصار إذا كان قائمًا به مَنعَ [من] (¬2) فرض الحج ابتداءً كإحاطة العدو بالبيت وتعذّر النفقة، وهذه عذرها لا يُسقط فرض الحج عليها ابتداءً؛ فلا يكون عروضه موجبًا للتحلل كالإحصار؛ فلازم هذا التقدير أنها إذا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "من الحكمة والمصلحة والرحمة والإحسان". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

فصل [الرد على السابع]

علمت أن هذا العذر يصيبها أو غلب على ظنّها أنْ يسقط عنها فرض الحج فهو رجوع إلى التقدير الرابع. فصل [الرّد على السابع] وأما التقدير السابع -وهو أن يقال: يجب عليها أن تستنيبَ مَنْ يحجُّ عنها إذا خافت الحيض، وتكون كالمَعْضُوب (¬1) العاجز عن الحج بنفسه- فما أحسنه من تقدير لو عرف به قائل؛ فإن هذه عاجزة عن إتمام نسكها، ولكن هو باطل أيضًا؛ فإن المَعْضُوب (1) الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي يكون آيسًا من زوال عذره، فلو كان يرجو زوال عذره كالمرض العارض والحبس لم يكن له أن يستنيب، وهذه لا تيأس من زوال عذرها؛ لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم أو أن دمها ينقطع قبل سن اليأس لعالرض بفعلها أو بغير فعلها؛ فليست كالمَعْضُوب (¬2) حقيقة ولا حكمًا. فصل [ببطلان التقديرات السبع يتعين الثامن] فإذا بطلت هذه التقديرات تعيّن التقدير الثامن، وهو أن يُقال: تطوف بالبيت والحالة هذه، وتكون هذه ضرورة (¬3) مقتضية لدخول المسجد مع الحَيْض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها كما تقدم؛ إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عَجْز، ولا حرام مع ضرورة. [اعتراض على الثامن] فإن قيل: في ذلك محذوران: أحدهما: دخول الحائض المسجد، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا أحِلُّ المسجدَ لحائض ولا جُنُبٍ" (¬4)، فكيف بأفضل المساجد؟ ¬

_ (¬1) في (و): "كالمغصوب"! ولعل الصواب ما أثبتناه، والمعضوب: هو من أصيب بمرض أعجزه عن الحركة، أو الذي أصيب بشلل كلي. (¬2) في (و): "كالمغصوب"! (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "الضرورة". (¬4) رواه أبو داود (232) في (الطهارة): باب في الجنب يدخل المسجد، والبخاري في =

الثاني: طوافها في حال الحيض، وقد منعها الشارع منه كما منعها من الصلاة، فقال: "اصْنَعِي ما يصنعُ الحاجُّ غيرَ أن لا تطوفي بالبيت" (¬1) فالذي منعها من الصلاة مع الحيض هو الذي منعها من الطواف معه. ¬

_ = "تاريخه" (2/ 67)، وإسحاق في "مسنده" (1241)، والدولابي في "الكني والأسماء" (1/ 150 - 151)، وابن خزيمة في "صحيحه" (1327)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (2/ 442 - 443) كلهم من طريق أفلت بن خليفة عن جسرة بنت دجاجة عن عائشة قالت. . .، وهو جزء من حديث أوله: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد". ونقل البغوي (2/ 45) عن أحمد أنه ضعفه؛ لأن راويه أفلت مجهول!!، وكذا قال ابن حزم في "المحلى" (2/ 681)، والخطابي، ورد عليه المنذري في "مختصره على أبي داود" (1/ 158). أقول: البحث هنا في راويين: الأول: أفلت، ويقال: فليت كنيته أبو حسَّان. قال أحمد: ما أرى به بأسًا، وسئل عنه أبو حاتم فقال: شيخ. والثانية: جَسْرة بنت دجاجة فقد ذكر البخاري في "تاريخه" في أثناء ذكر السند أن عندها عجائب. لكن ذكرها العجلي وابن حبان في "الثقات"، وذكرها أبو نعيم في "الصحابة"، وقال الذهبي: وثِّقت. وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 332 رقم 2509)، وكما في "نصب الراية" (1/ 194): قول البخاري: عندها عجائب، لا يكفي في إسقاط ما روت. لذلك حسَّن حديثها ابن القطان، وصححه -من قبل- ابن خزيمة. أما البخاري فقد أعله بأن الصحيح هو رواية عروة وعباد بن عبد اللَّه عن عائشة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سدوا هذه الأبواب إلا باب أبي بكر"، قال: وهذا أصح. وله طريق آخر: رواه ابن ماجه (645) في (الطهارة وسننها): باب في اجتناب الحائض المسجد، وابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 99 - 100)، والطبراني في "الكبير" (23/ رقم 883) من طريق أبي الخطاب الهجري عن محدوج الذهلي عن جسرة قالت: أخبرتني أم سلمة الحديث. ورواه ابن أبي شيبة في "مسنده" -كما في "اللآلئ" (1/ 353) - ومحدوج الذهلي هذا مجهول، أخطأ من زعم أن له صحبة كما قال الحافظ في "التقريب". أما ابن حزم فقال: ساقط!! وأبو خطاب الهجري مجهول أيضًا. قال أبو زرعة: يقولون عن جسرة عن أم سلمة، والصحيح عن جسرة عن عائشة. وانظر -غير مأمور- "إعلام الرجال والنساء بتحريم المكث في المسجد على الجنب والحائض والنفساء" (ص 49 وما بعد). (¬1) سبق تخريجه قريبًا.

[دفع الاعتراض]

[دفع الاعتراض] فالجواب عن الأول من أربعة أوْجُهٍ: أحدها: أن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب؛ فإنها لو خافت العدو أو مَنْ يستكرهها على الفاحشة أو أخذ مالها ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض، وهذه تخاف ما هو قريبٌ من ذلك؛ فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يُؤخذ مالُها إن كان لها مال، وإلا أقامت بغربة ضرورة (¬1)، وقد تخاف في إقامتها مقن يتعرض لها، وليس لها مَنْ يدفع عنها. الجواب الثاني: أن طوافها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حولَ البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافُهَا للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز. يوضحه الوجه الثالث: أنَّ دمَ الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة، والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجَّمت (¬2) اتفاقًا، وذلك لأجل الحاجة، وحاجة هذه أولى. يوضحه الوجه الرابع: أن منعها من دخول المسجد للطواف كمنع الجُنُب؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوَّى بينهما في تحريم المسجد عليهما، وكلاهما يجوز له الدخول عند الحاجة (¬3)، وسر المسألة أن قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تطوفي بالبيت" هل ذلك لأن الحائض ممنوعة من المسجد؟ والطواف لا يكون إلا في المسجد، أو أن عبادة الطَّواف لا تصح مع الحيض [كالصلاة] (¬4)، أو لمجموع الأمرين، أو لكلِّ واحدٍ من الأمرين؟ فهذه أربعة تقادير، فإن قيل بالمعنى الأول لم يمنع صحة الطواف مع الحيض كما قاله أبو حنيفة ومَنْ وافقه وكما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وعلى هذا فلا يمتنع الأذنُ لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة، ويقيّد بها مُطْلَق نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس بأول مُطْلَق قُيّد بأصول الشريعة وقواعدها، وإن قيل بالمعنى الثاني فغايته أن تكون الطهارة شرطًا من شروط الطواف، فإذا ¬

_ (¬1) في (ك): "بغيره مضرورة"، وفي (ق): "بغربة مضرورة". (¬2) "شدت عليها ما يمنع سقوط الدم" (و). (¬3) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 157 - 158) و"طريق الهجرتين" (ص 379). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

فصل [متابعة دفع الاعتراض السابق الطواف مع الحيض]

عجزت عنها سقط اشتراطها كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الاغتسال والتيمم فإنها تطوت على حسب حالها كما تصلي بغير طهور (¬1). فصل [متابعة دفع الاعتراض السابق الطواف مع الحيض] وأما المحذورُ الثاني -وهو طوافها مع الحيض والطواف كالصلاة- فجوابه من وجوه: أحدها: أن يقال: لا ريب أن الطواف تجب فيه الطهارة وسَتر العَوْرَة كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا يَطُوف بالبيت عُرْيَان" (¬2)، وقال اللَّه تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وفي "السنن" مرفوعًا وموقوفًا: "الطوافُ بالبيت صلاة إلا أن اللَّه أباح فيه الكلام، فمن تكلّم فيه فلا يتكلم إلا بخير" (¬3) ولا رَيْبَ أن وجوب الطهارة وسَتْر العَوْرَة في الصلاة آكَدُ من وجوبها في الطواف؛ فإن الصلاة بلا طهارة مع القُدْرة باطلة بالاتفاق، وكذلك صلاة العُرْيان. [حكم طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر] وأما طواف الجنب والحائض والمُحْدِث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران وإن حصل الاتفاق على أنه منهيّ عنه في هذا الحال، بل وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكَدُ من أركان الحج وواجباته؛ فإن واجبات الحج إذا تَرَكها عمدًا لم يبطل حجه، وواجبات الصلاة إذا تركها عمدًا بطلت صلاته، وإذا نقص من الصلاة ركعة عمدًا لم تصح، ولو طاف ستة أشواط صحّ ووجب عليه دم عند أبي حنيفة وغيره، ولو نكس الصلاة لم تصح، ولو نكس الطواف ففيه خلاف، ولو صلى مُحْدِثًا لم تصح صلاته، ولو طاف محدثًا أو جُنُبًا صح في أحد ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (21/ 46 و 26/ 200، 201). (¬2) رواه البخاري (369) في (الصلاة): باب ما يستر العورة، و (1622) في (الحج): باب لا يطوف بالبيت عُريان، و (3177) في (الجزية والموادعة): باب كيف يُنبذ إلى أهل العهد؟ و (4363) في (المغازي): باب حج أبي بكر بالناس، و (4655) في (تفسير سورة التوبة): باب {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ}، و (4656) في باب {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ}، و (4757) باب {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، ومسلم (1347) في (الحج): باب لا يحج البيت مشرك، من حديث أبي هريرة. (¬3) تقدم تخريجه.

[تقسيم الشارع العبادة بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين]

القولين (¬1)، وغاية الطواف أن يُشَبَّه بالصلاة، وإذا تبين هذا فغاية هذه إذا طافت مع الحيض للضرورة أن تكون بمنزلة مَنْ طافت عريانة للضرورة؛ فإنّ نَهْيَ الشارع صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله عن الأمرين واحد، بل الستارة في الطواف آكد من وجوه: أحدها: أن طواف العريان منهيّ عنه بالقرآن والسنة وطواف الحائض منهي عنه بالسنة وحدها. الثاني: أن كشف العورة حَرَام في الطواف وخارجه. الثالث: أن طواف العريان أقبح شرعًا وعقلًا وفطرة من طواف الحائض والجنب؛ فإذا صح طوافها مع العُرْي للحاجة فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحْرَى، ولا يقال: "فيلزمكمَ على هذا أن تصح صلاتها وصومها مع الحيض للحاجة" [لأنّا نقول] (¬2): هذا سؤال فاسد؛ فإن الحاجة لا تدعوها (¬3) إلى ذلك بوجه من الوجوه، وقد جعل اللَّه سبحانه صلاتها زمن الطهر مغنية لها عن صلاتها في الحيض وكذلك صيامها، وهذه لا يمكنها أن تتعوّض في حال طهرها بغير البيت. [تقسيم الشارع العبادة بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين] وهذا يبين سر المسألة وفقهها، وهو أن الشارع قسم العبادات بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين: • قسم يمكنها التعوّض عنه في زمن الطهر فلم يوجبه عليها في الحيض، بل أسقطه إما مطلقًا كالصلاة صماما إلى بدله زمن الطهر كالصوم. • وقسم لا يمكنها التعوض عنه ولا تأخيره إلى زمن الطهر فشرعه لها مع الحيض أيضًا كالإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه. [حكم قراءة الحائض القرآن وإعلال حديث المنع] ومن هذا جواز قراءة القرآن لها وهي حائض؛ إذ لا يمكنها التعوض عنها ¬

_ (¬1) انظر تفصيل المسألة في: "الهداية" (1/ 101)، و"الفروع" (3/ 501)، و"المغني" (3/ 377)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (26/ 208)، و"شرح العمدة" (3/ 586) وما بعدها. (¬2) في (و): "لأن القول"، وفي (ن) و (ك): "قيل". (¬3) في (ك): "تدعوا".

زمن الطهر؛ لأن الحيض قد يمتد بها غالبه أو أكثره، فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتُها، وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها، وهذا مذهب مالك [وإحدى الروايتين عن أحمد] (¬1) واحد قولي الشافعي، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يمنع الحائض من قراءة القرآن، وحديثُ: "لا تقرأ الحائض والجنب شيئًا من القرآن" (¬2) لم يصح؛ فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "وأحمد في إحدى الروايتين". (¬2) رواه الترمذي (131) في أبواب الطهارة: باب ما جاء في الجنب والحائض، وابن ماجه (595) في (الطهارة): باب ما جاء في قراءة القرآن على غير طهارة، وأبو الحسن القطان في "زوائده" عليه (596) والحسن بن عرفة في "جزئه" رقم (61)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 294 و 4/ 1390 - 1391)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 145)، وعبد اللَّه بن أحمد في "العلل" (3/ 381 رقم 5675) -ومن طريقه العقيلي في "الضعفاء" (1/ 90) - والطحاوي (1/ 88)، والدارقطني (1/ 117) والآجرّي في "أخلاق حملة القرآن" (رقم 77) والبيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 90) و"الخلافيات" (2/ رقم 317، 318) و"المعرفة" (1/ 190 رقم 116) والذهبي في "السير" (6/ 118) من طرق عن إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا به، وفي بعضها عن موسى بن عقبة وعبيد اللَّه بن عمر، وعند الحسن بن عرفة: وعبد اللَّه بن عمر. قال الترمذي: "لا نعرفه إلا من حديث ابن عياش عن موسى، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديث مناكير". ونحوه قال ابن عدي وزاد: وزاد في هذا الإسناد عن ابن عياش: إبراهيم بن العلاء، وسعيد بن يعقوب فقالا: عبيد اللَّه وموسى بن عقبة، قال: وليس لهذا الحديث أصل من حديث عبيد اللَّه. ونقل العقيلي عن أحمد قوله: هذا باطل، أي أنكره على إسماعيل بن عيّاش. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه (1/ 49): هذا خطأ، وإنما هو عن ابن عمر قوله، وأسهبتُ في بيان مَنْ ضعّفه من الأئمة والمحدّثين في تعليقي على "الخلافيات" (2/ 24 - 25). ورواه الدارقطني (1/ 117) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (2/ 26 رقم 319) - من طريق عبد الملك بن مسلمة حدثني المغيرة بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة به. وعبد الملك هذا قال فيه أبو زرعة وابن يونس: منكر الحديث. وقال ابن حبان: يروي المناكير الكثيرة عن أهل المدينة. وانظر تعليقي على "الخلافيات" (2/ 26 - 28) ففيه سرد أسماء من ضعف الحديث من العلماء، وتعقب من أخطأ فيه. ورواه الدارقطني (1/ 117 - 118) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (2/ 28 رقم 320) - من طريق رجل عن أبي معشر عن موسى بن عقبة. =

[جرح إسماعيل بن عياش راوي حديث المنع]

[جرح إسماعيل بن عياش راوي حديث المنع] فإنه من رواية إسماعيل بن عيّاش، عن موسى بن عُقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال الترمذي (¬1): "لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عيّاش عن موسى بن عقبة، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديثَ مناكيرَ، كأنه يضعّف روايته عنهم فيما ينفرد به، وقال: إنما هو حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام"، انتهى وقال البخاري (¬2) أيضًا: "إذا حدَّث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر"، وقال علي بن المديني: ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل بن عياش لو ثبت في حديث أهل الشام، ولكنه خلّط في حديث أهل العراق (¬3)، وحدَّثنا (¬4) عنه ¬

_ = وهذا إسناد ضعيف للراوي المبهم، وأبو معشر هو نجيح وهو ضعيف أيضًا. وله طريق آخر: فقد رواه ابن عدي في "الكامل" (4/ 1391 و 6/ 2173)، والدارقطني (2/ 87)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 22) من طريق محمد بن الفضل بن عطية عن أبيه عن طاوس عن جابر مرفوعًا. وفيه محمد بن الفضل هذا متروك، وقد كذبوه كما قال الحافظ في "التقريب". وقد ورد عن جابر موقوفًا: رواه الدارقطني (1/ 121) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (2/ 42 رقم 329)، وفيه يحيى بن أبي أنيسة وهو هالك، ولكنه توبع، تابعه ابن لهيعة. رواه ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 97 رقم 621) من طريق عبد اللَّه بن وهب عنه به وإسناده صحيح، وفيه تصريح أبي الزبير بالسماع، ولم أر أحدًا نبه على هذا الطريق، وللَّه الحمد والمنة. وانظر: "نصب الراية" (1/ 195) و"التلخيص الحبير" (1/ 138) و"تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي (1/ 424 - 425) وتعليقي على "الخلافيات" (2/ 29 - 30، 42). قال الحافظ في "التلخيص" (1/ 241): وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب، وساقه عنه في "الخلافيات" بإسناد صحيح. قلت: وهو كما قال، أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 125)، وعبد الرزاق (1307)، والطحاوي (1/ 90)، وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 96 رقم 618)، والبيهقي في "المعرفة" (1/ 189 رقم 115)، و"الخلافيات" (2/ 38 رقم 325 - بتحقيقي)، و"السنن الكبرى" (1/ 89). وله طريق آخر عن عمر، انظره وتخريجه في "الخلافيات" (رقم 326) وتعليقي عليه. (¬1) في "جامعه" (1/ 236). (¬2) في "تهذيب الكمال" (3/ 177)، "تاريخ الخطيب" (6/ 224). (¬3) في (ن): "أهل الشام والعراق"، والتصويب من المطبوع كما في "تهذيب الكمال" (3/ 177). (¬4) في (و): "وثنا".

[الفرق بين الحائض والجنب]

عبد الرحمن ثم ضرب على حديثه؛ فإسماعيل عندي ضعيف، وقال عبد اللَّه بن أحمد (¬1): عرضت على أبي حديثًا حَدَّثَنَاه الفضل بن زياد الضّبيّ (¬2): حدثنا ابنُ عَيَّاش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تقرأ الحائض و [لا] (¬3) الجنب شيئًا من القرآن" فقال أبي: هذا باطل، يعني أن إسماعيل وهم. وإذا لم يصح الحديث لم يبق مع المانعين حجة إلا القياس على الجنب. [الفرق بين الحائض والجنب] والفرقُ الصحيحُ بينها وبين الجنب مانعٌ من [الإلحاق، وذلك] (¬4) من وجوه: أحدها: أن الجنب يمكنه التطهّر متى شاء بالماء أو بالتراب فليس له عذر في القراءة مع الجنابة بخلاف الحائض. والثاني: أن الحائض يُشرع لها الإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه مع الحيض بخلاف الجنب. الثالث: أن الحائض يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلّى بخلاف الجنب. [هل تقرأ الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال عند من حرّموا عليها القراءة؟] وقد تنازع مَنْ حَرَّم عليها القراءة: هل يُباح لها أن تقرأ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: المنع مطلقًا وهو المشهور من مذهب الشافعي (¬5) وأبي حنيفة (¬6) ¬

_ (¬1) في "العلل ومعرفة الرجال" (3/ 381 رقم 5675). (¬2) في بعض النسخ "الطبري"! انظر: "إعلام الموقعين" طبعة فرج اللَّه زكي الكردي (ج 3 ص 41) (ط)، وفي (و) نحوه باختصار. وفي (ق): "الطسي". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ن) و (ق): "إلحاق ذلك". (¬5) انظر: "المهذب" (1/ 32)، "روضة الطالبين" (1/ 85)، "المجموع" (2/ 162)، "مغني المحتاج" (1/ 72)، "نهاية المحتاج" (1/ 204). (¬6) انظر: "شرح فتح القدير" (1/ 148)، "تبيين الحقائق" (1/ 57)، "البحر الرائق" (1/ 216 - 217)، "حاشية ابن عابدين" (1/ 172).

فصل [عود إلى الكلام عن طواف الحائض]

وأحمد (¬1)؛ لأنها بعد انقطاع الدم تصير كالجُنُب. الثاني: الجواز مطلقًا وهو اختيار القاضي أبي يعلى (¬2)، قال: وهو ظاهر كلام أحمد. الثالث: إباحته للنفساء وتحريمه على الحائض، وهو اختيار الخَلَّال (¬3)؛ فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، فإذا لم تمنع الحائض من قراءة القرآن لحاجتها إليه فعدم منعها في هذه الصورة عن الطواف الذي هي أشد حاجة إليه بطريق الأولى والأحْرَى. فصل [عود إلى الكلام عن طواف الحائض] هذا إذا كان المنع من طوافها لأجل [المنع من] (¬4) دخول المسجد أو لأجل الحيض ومنافاته للطواف، فإن قيل بالتقدير الثالث وهو أنه لمجموع الأمرين بحيث إذا انفرد أحدهما لم يستقل بالتحريم، أو بالتقدير الرابع وهو أن كلًا منهما علة مستقلة كان الكلام على هذين التقديرين كالكلام على التقديرين الأولين، وبالجملة فلا يمتنع (¬5) تخصيصُ العلة لفوات شرطٍ أو لقيام مانعٍ، وسواء قيل: إن وجود الشرط وعدم المانع من أجزاء العلة أوهو أمر خارج عنها؛ فالنزاع لفظي، فإن أريد بالعلة التامة فهما من أجزائها، وإن أريد بها المقتضية كانا خَارِجَيْن عنها. [تشبيه الطواف بالصلاة] فإن قيل: الطواف كالصلاة، ولهذا تشترط (¬6) له الطهارة من الحَدَث، وقد أشار إلى هذا بقوله في الحديث: "الطواف بالبيت صلاة" (¬7) والصلاة لا تُشرع ولا تصح مع الحيض، فهكذا شقيقها ومُشبَّهها، ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فلم تصح مع الحيض كالصلاة، وعكسه الوقوف بعرفة وتوابعه. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" (1/ 144)، "الكافي" (1/ 58)، "كشاف القناع" (1/ 168)، "شرح منتهى الإرادات" (1/ 77). وفي (ق): "الشافعي وأحمد وأبي حنيفة". (¬2) انظر: "الإنصاف" (1/ 243) و"شرح العمدة" (3/ 589) لابن تيمية. (¬3) المرجعان السابقان. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (و): "فلا تمتنع". (¬6) في (ك): "اشترط". (¬7) سبق تخريجه قريبًا.

[الجواب عما سبق]

[الجواب عمّا سبق] فالجواب (¬1) أن القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع، بل فيه النزاع قديمًا وحديثًا؛ فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك، وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه، قال أبو بكر في "الشافي" (¬2): باب في الطواف بالبيت غير طاهر، قال أبو عبد اللَّه في رواية أبي طالب (¬3): لا يطوف أحد بالبيت إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مَشاهدَ الحج إلا طاهرًا، وقال في رواية محمد بن الحكم (3): إذا طات طوافَ الزيارةِ وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه، وأختارُ له أن يطوف وهو طاهر، وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنبًا ناسيًا صح طوافه ولا دَمَ عليه، وعنه رواية أخرى عليه دَمٌ (¬4)، وثالثة أنه لا يُجْزِيه الطواف، وقد ظن بعض أصحابه أن [هذا الخلاف عنه إنما] (¬5) هو في المحدث والجنب، فأما الحائض فلا يصح طوافها قولًا واحدًا؛ قال شيخنا رضي اللَّه عنه (¬6): "وليس كذلك، بل صرّح غيرُ واحدٍ من أصحابنا بأن الخلاف عنه في الحيض والجنابة، قال: وكلام أحمد يدّل على ذلك، ويبين أنه كان متوقفًا (¬7) في طواف الحائض وفي طواف الجنب، قال عبد الملك الميموني في "مسائله": قلت لأحمد: مَنْ طاف طوافَ الواجب على غير وضوء وهو ناسٍ ثم واقع أهله، قال: أخبرك مسألة فيها وهمٌ ¬

_ (¬1) زاد قبلها في (ن): "قيل". (¬2) صاحبه عبد العزيز بن جعفر بن أحمد بن يزداد، أبو بكر البغدادي، المعروف بـ (غُلام خلال) (توفي سنة 363 هـ)، كان كبير الشأن، من بحور العلم، له الباع الأطول في الفقه، قاله الذهبي، وزاد قوله عن كتابه: "ومن نظر فيه عرف محله من العلم، لولا ما بشّعه بغض بعض الأئمة، مع أنه ثقة فيما ينقله، وقال القاضي أبو يعلى عنه: "نحو ثمانين جزءًا" انظر "طبقات الحنابلة" (2/ 119 - 127)، و"السير" (16/ 143 - 145). ونقله عنه ابن تيمية في "شرح العمدة" (3/ 587)، و"مجموع الفتاوى" (26/ 208). (¬3) ذكرها ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (26/ 210)، وفي "شرح العمدة" (3/ 586 - 587)، والقاضي في "الروايتين" (1/ 282). (¬4) هذه رواية ابن الحكم كما في "الروايتين" (1/ 282)، و"شرح العمدة" (3/ 587). (¬5) في (و): "أن بعض الخلاف عنه، وإنما". (¬6) أي شيخ الإِسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-، وكلامه في "مجموع الفتاوى" (26/ 207)، و"شرح العمدة" (3/ 588 - 589). (¬7) في (و): "متوقعًا".

وهم مختلفون (¬1)، وذكر قول عطاء والحسن، قلت: ما تقول أنت؟ قال: دَعْهَا، أو كلمة تشبهها، وقال الميموني في "مسائله" (¬2) أيضًا: قلت له: مَنْ سعى وطاف على غير طهارة ثم واقع أهله، فقال لي: مسألة الناسُ فيها مختلفون، وذكر قول ابن عمر (¬3)، وما يقول عطاء مما يسهل فيها، وما يقول الحسن، وأن عائشة قال لها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين حاضت: "افْعَلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" (¬4) ثم قال لي: إلا أن هذا أمر بُليت به نزل عليها ليس من قِبَلِها، قلت: فمن الناس من يقول: عليها الحج من قابل، فقال لي: نعم كذا أكبرُ علمي، قلت: ومنهم من يذهب إلى أن عليها دمًا، فذكر تسهيل عطاء فيها خاصة، قال لي أبو عبد اللَّه: أولًا وآخرًا هي مسألة مشتبهة فيها موضع نظر، فَدَعْنِي حتى انظر فيها، قال ذلك غير مرة، ومن الناس من يقول: وإن رجع إلى بلده يرجع (¬5) حتى يطوف، قلت: والنسيان، قال: والنسيان أهون حكمًا بكثير، يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا" (¬6)، هذا لفظ الميموني. قلت: وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فَتْوَاه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطًا في صحة الطواف، وقد قال سعيد (¬7) بن منصور: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن عطاء قال: حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين، فحاضت في الطواف، فاتمّت بها عائشة بقية طوافها هذا (¬8)، والناسُ إنما تلقوا منعَ الحائضِ ¬

_ (¬1) كذا في (ق) وفي سائر الأصول: "فيها وهم مختلفون". (¬2) ونقلها عنه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (26/ 207)، و"شرح العمدة" (3/ 588). (¬3) روى ابن أبي شيبة في "مصنفه" (4/ 386): حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن عبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا طافت بالبيت ثم حاضت قبل أن تسعى بين الصفا والمروة، فلتسع بين الصفا والمروة. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (و): "لم يرجع"! والصواب حذف "لم" كما في سائر الأصول، و"مجموع الفتاوى" و"شرح العمدة". (¬6) انظر: "مجموع الفتاوى" (26/ 207) لشيخ الإِسلام ابن تيمية، بتصرف يسير. (¬7) في المطبوع: "إسماعيل" بدل "سعيد". (¬8) عزاه ابن حزم في "المحلى" (7/ 180) لسعيد بن منصور من هذا الطريق، وإسناده صحيح على شرط الشيخين، وأبو بشر هو جعفر بن إياس، وعطاء هو ابن أبي رباح.

من الطَّواف من حديث عائشة، وقد دلَّتْ أحكامُ الشَّريعة على أنَّ الحائض أولى بالعذر، وتحصيل مصلحة العبادة التي تفوتها إذا تركتها مع الحيض من الجنب (¬1)، وهكذا (¬2) إذا حاضت في صَوْم شهرَيْ التتابع لم يثقطع تتابعُها بالاتفاق، وكذلك تقضي المناسك كلها من أولها إلى آخرها مع الحيض بلا كراهة بالاتفاق سوى الطواف؛ وكذلك تشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة بالنص (¬3)، وكذلك تقرأ القرآن إما مطلقًا وإما عند خوف النسيان، وإذا حاضت وهي معتكفة لم يبطل اعتكافها بل تُتِمه في رَحْبة المسجده وسر المسألة ما أشار إليه صاحب الشرع بقوله: "إن هذا أمر كَتَبه اللَّه على بنات آدم" (¬4) ولذلك (¬5) قال الإِمام أحمد (¬6): "هذا أمر بُلِيَتْ به نزل عليها ليس من قِبَلِها"، والشريعة قد فرَّقت بينها وبين الجنب كما ذكرناه؛ فهي أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسيًا أو ذاكرًا؛ فإذا كان فيه النزاع المذكور فهي أحق بالجواز منه؛ فإن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها، فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان، فإن الناسي لِما أُمر به من الطهارة والصلاة يُؤمر بفعله إذا ذكره، بخلاف العاجز عن الشرط أو الركن فإنه لا يؤمر بإعادة العبادة معه إذا قَدِرَ عليه؛ فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه، كما قال اللَّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فأتُوا منه ما استطعتم" (¬7) وهذه لا تستطيع إلا هذا، وقد اتقت اللَّه ما استطاعت؛ فليس عليها غير ذلك بالنَّص وقواعد الشريعة، والمطلق يقيد بدون هذا بكثير، ونصوص أحمد وغيره من العلماء صريحة في أن الطواف ليس كالصلاة في اشتراط الطهارة، وقد ذكرنا نصه في رواية محمد بن الحكم (¬8) إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع ¬

_ (¬1) كذا العبارة في الأصول! ولعل نقصًا فيها، تقديره: "أولى من الجنب". (¬2) في (ن): "ولهذا". (¬3) في هذا حديث أم عطية، رواه البخاري (974) في العيدين: باب خروج النّساء والحيّض إلى المصلى، ومسلم (890) في العيدين: باب ذكر إباحة خروج النساء في العيدين إلى المصلى. (¬4) هو جزء من حديث: "افعلي ما يفعل الحاج" سبق تخريجه قريبًا. (¬5) في المطبوع: "وكذلك". (¬6) في رواية الميموني، كما في "شرح العمدة" (3/ 588) ومضى كلامه بتمامه قريبًا. (¬7) سبق تخريجه. (¬8) مضى توثيقها (ص 371).

[الجوامع والفوارق بين الطواف والصلاة]

فلا شيء عليه، واختارَ له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه، وقد تقدّم قول عطاء، ومذهب أبي حنيفة صحة الطواف بلا طهارة. [الجوامع والفوارق بين الطواف والصلاة] وأيضًا فإن الفوارق بين الطواف والصلاة أكثر من الجوامع؛ فإنه يباح فيه الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير، وليس فيه تحريمٌ ولا تحليلٌ (¬1) ولا ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا تشهد، ولا تجب له جماعة، وإنما اجتمع هو والصلاة في عموم كونه طاعة وقربة، وخصوص كونه متعلقًا بالبيت، وهذا لا يعطيه شروط الصلاة كما لا يعطيه واجباتها وأركانها. وأيضًا فيقال: لا نُسلّم أن العلة في الأصل كونها عبادة متعلقة بالبيت ولم يذكروا على ذلك حجة واحدة، والقياس الصحيح ما تبيّن فيه أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم في الأصل أو دليل العلة؛ فالأول: قياس. العلة، والثاني: قياس الدلالة. وأيضًا فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة، سواء تعلّقت بالبيت أو لم تتعلق، ولهذا وجبت النافلة في السفر إلى غير القبلة، ووجبت حين كانت مشروعة إلى بيت المقدس، ووجبت لصلاة الخوف إذا لم يمكن الاستقبال. وأيضًا فهذا القيام ينتقض بالنظر إلى البيت؛ فإنه عبادة متعلقة بالبيت. وأيضًا فهذا قياس معارض بمثله، وهو أن يقال: عبادة مِنْ شَرْطها المسجد، فلم تكن الطهارة شرطًا فيها كالإعتكاف، وقد قال اللَّه تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وليس إلحاق الطائفين بالرُّكَّع السجود أولى من إلحاقهم بالعاكفين، بل إلحاقهم بالعاكفين أشبه؛ فإن المسجد شرطٌ في كلٍّ منهما بخلاف الركع السجود. فإن قيل: الطائف لا بد أن يصلي ركعتي الطواف، والصلاة لا تكون إلا بطهارة. قيل: وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، وإذا قيل بوجوبهما لم تجب الموالاة بينهما وبين الطواف، وليس اتصالهما بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة، ولو خطب مُحْدثًا ثم توضأ وصلَّى الجمعة جاز؛ فجواز طوافه محدثًا ثم ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "تحليل ولا تحريم".

فصل [حكم الطهارة للطواف]

يتوضأ ويصلي ركعتي الطواف أولى بالجواز، وقد نص أحمد على أنه إذا خطب جنبًا جاز (¬1). فصل [حكم الطهارة للطواف] وإذا ظهر أن الطهارة ليست شرطًا في الطواف (¬2)، فإما أن تكون واجبة وإما أن تكون سنة، وهما قولان للسلف والخلف، ولكن مَنْ يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول: عليها دم، وأحمد يقول؛ ليس عليها دم ولا غيره، كما صرح به فيمن طاف جنبًا وهو ناسٍ، قال شيخنا (¬3): فإذا طافت حائضًا مع عدم العذر توجّه القول بوجوب الدم عليها، وأما مع العجز فهنا غاية ما يُقال: عليها دم؛ والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن الطهارة واجب يُؤمر به مع القدرة لا مع العجز، فإن لزوم الدم إنما يكون مع ترك المأمور أو [مع] (¬4) فعل المحظور، وهذه لم تترك مأمورًا في هذه الحال ولا فعلت محظورًا، فإنها إذا رَمَتِ الجمرةَ وقصرت حل لها ما كان محظورًا عليها بالإحرام غير النكاح؛ فلم يبقْ بعد التحلل الأول محظورٌ يجب بفعله دم، وليست الطهارة مأمورًا بها مع العجز فيجب بتركها دم. فإن قيل: لو كان طوافها مع الحيض ممكنًا أُمِرت بطواف القدوم وطواف الوداع، فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع علم أن طوافها مع الحيض غير ممكن. قيل: لا ريب أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسقط طواف القدوم عن الحائض، وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تَدَعَ أفعال العمرة وتحرم بالحج (¬5)؛ فعلم أن ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" (1/ 219) للمؤلف، و"مجموع الفتاوى" (26/ 126، 199، 247)، و"شرح العمدة" (3/ 582)، و"المغني" (3/ 377)، و"الفروع" (3/ 501)، و"المبدع" (3/ 221)، و"كشاف القناع" (2/ 485). (¬2) مبحث "شروط الطواف" انظره في "تهذيب "السنن" (1/ 52 - 53). (¬3) في "مجموع الفتاوى" (26/ 207 - 215)، والكلام الآتي برمته له، وعنده تفصيل زائد، فراجعه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) سبق تخريجه.

الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد أو للطواف أولهما، والمحظورات لا تباح إلا في حالة الضرورة، ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم؛ لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد، ولا إلى طواف الوداع؛ فإنه ليس من تمام الحج، ولهذا لا يودِّع المقيم بمكة، وإنما يوء المسافر عنها فيكون آخر عهده بالبيت (¬1)، فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أَمْرَ إيجاب فيهما أو في أحدهما أو استحباب كما هي أقوال معروفة، وليس واحد منهما ركنًا يقف صحة الحج عليه، بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه، وهذا كما يباح لها الدخول إلى المسجد واللُّبْثُ فيه للضرورة، ولا يباح لها الصلاة ولا الاعتكاف فيه وإن كان منذورًا، ولو حاضت المعتكفة خرجت من المسجد إلى فنائه فأتمت اعتكافها ولم يبطل، وهذا يدل على أن منع الحائض من الطواف كَمنعها من الاعتكاف، وإنما هو لحرمة المسجد لا لمنافاة الحيض لعبادة الطواف والاعتكاف، ولما كان الاعتكاف يمكن أن يفعل في رَحْبَة المسجد وفنائه جوز لها إتمامه فيها لحاجتها، والطواف لا يمكن إلا في المسجد وحاجتها في هذه الصورة إليه أعظم من حاجتها إلى الاعتكاف، بل لعل حاجتها إلى ذلك أعظم من حاجتها إلى دخول المسجد واللبث فيه لبَرْد أو مَطَر أو نحوه. وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين: أحدهما: في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها (¬2)، وقد تبين ذلك بما فيه كفاية. والثاني: في أن كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط أو الوجوب إنما هو في حال القدرة والسَّعَة لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم؛ فالمفتي بها موافق ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1755) في (الحج): باب طواف الوداع، ومسلم (1328) من حديث ابن عباس قال: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت. ورواه مسلم (1327) في (الحج): باب وجوب طواف الوداع وسقوطه عن الحائض قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ينفرنّ أحد حتى يكون آخر عهده الطواف بالبيت" من حديث ابن عباس أيضًا. وانظر: "زاد المعاد" (1/ 239 - 240). (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "منافاتها لها".

فصل [حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد]

لأصول الشرع وقواعده (¬1)، ولقواعد الأئمة، وباللَّه التوفيق. فصل [حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد] المثال السابع (¬2): أن المَطلِّقَ في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وزمن خليفته أبي بكر وصَدْرًا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفمٍ واحدٍ جعلت واحدة، كما ثبت ذلك في "الصحيح" عن ابن عباس؛ فروى مسلم في "صحيحه" عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين من خلافه عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (¬3)، وفي "صحيحه" أيضًا عن طاوس "أن أبا الصَّهْباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تُجعل واحدة على عهد رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم" (¬4) وفي "صحيحه" أيضًا عنه أنَّ أبا الصَّهْباء قال لابن عباس: هاتِ من هَنَاتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر واحدة، فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع (¬5) الناس في ¬

_ (¬1) في (ك): "ولقواعده" وفي (ق): "وقواعدها". (¬2) نحوه في "الزاد" (5/ 247 - 248 - ط مؤسسة الرسالة) للمصنف، ونقل يوسف بن عبد الهادي في "سير الحارث إلى علم الطلاق الثلاث" (الفصل السادس) (ص 41 - 48) ما تحت هذا المنال. (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب الطلاق): باب طلاق الثلاث (رقم 1472) (15) قال أحمد شاكر في كتابه "نظام الطلاق في الإِسلام" (ص 42 - 43): "وهذا الحديث أصل جليل من أصول التشريع في الطلاق، والبحث فيه من مزالق الأقدام. فإنه يصادم كثيرًا مما يذهب إليه جمهور العلماء وعامة الدهماء في الطلاق. وقديمًا كان موضع نزاع وخلاف واضطراب ولشيخ الإِسلام ابن تيمية ثم تلميذه الإِمام ابن القيم الباعُ الطويل في شرحه والكلام عليه، ونصرة القول بوقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة فقط، كما هو معروف مشهور". (¬4) رواه مسلم حديث رقم (1472) (16). (¬5) في جميع النسخ المطبوعة: "تتابع" بباء موحدة! قال النووي في "شرح صحيح مسلم" (10/ 72): "هو بياء مثناة من تحت بين الألف والعين، هذه رواية الجمهور وضبطه بعضهم بالموحدة، وهما بمعنى، ومعناه: أكثروا منه وأسرعوا إليه، ولكن بالمثناة! إنما يستعمل في الشر، وبالموحدة يستعمل في الخير والشر، فالمثناة هنا أجود".

الطلاق، فأجازه عليهم (¬1). وفي "سنن أبي داود" عن طاوس أن رجلًا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طقق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جَعَلوها واحدة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وصَدْرًا من إمارة عمر -رضي اللَّه عنه-؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وصَدْرًا من إمارة عمر، فلما رأى النَّاسَ قد تتايعوا (¬2) فيها قال: أجيزوهنّ عليهم (¬3). وفي "مستدرك الحاكم" من حديث عبد اللَّه بن المُؤمَّل، عن ابن أبي مُلَيكة أن أبا الجوزاء أتى ابنَ عباس، فقال: أتعلم أن الثلاث كُنَّ يُرْددن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى واحدة؟ قال: نعم (¬4). قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء. وقال الإِمام أحمد في "مسنده": ثنا سعد بن إبراهيم: ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحُصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: طلّق رُكَانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: كيف طلّقتها؟ قال: طلقتها ثلاثًا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: فإنّ تلك (¬5) ¬

_ (¬1) رواه مسلم حديث رقم (1472) (17). (¬2) في جمع النسخ المطبوعة: "تتابعوا" بالباء الموحدة، وانظر ما قدمناه قريبًا. (¬3) رواه أبو داود (2199) في (الطلاق): باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث، وسنده هكذا: حماد بن زيد عن أيوب عن غير واحد عن طاوس. ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 338) وفيه إبهام كما ترى، وصحح إسناده المصنف في "الزاد" (5/ 251). وفي (ق) و (ك): "أجيزهن". (¬4) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 196)، وصححه كما قال المؤلف، لكن تعقبه الذهبي بقوله: "ابن المؤمل ضعفوه". قلت: هو عبد اللَّه بن المؤمل بن وهب القرشي، ضعيف. وأخرجه الحاكم من طريق أخرى عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس، وصححه على شرطهما، وأقره الذهبي. ولم يعزه في "الدر المنثور" (1/ 279، 280) إلا للحاكم. (¬5) قال (ط): "في نسخة": "فإنما تلك واحدة" انظر "إعلام الموقعين" طبعة المطبعة المنيرية =

واحدة، فأرجعها إنْ شئتَ، قال: فراجعها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طُهْر (¬1). وقد صحح الإِمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث ¬

_ = (ج 3 ص 25)، وقال (د): "في نسخة: فإنما تلك واحدة". قلت: وهي كذلك في (ك) وفي "المسند". وقال أحمد شاكر رحمه اللَّه في "نظام الطلاق في الإِسلام" (39 - 41): "وقوله في الحديث "إنما تلك واحدة" هكذا هو "تلك" اسم إشارة، وبرفع "واحدة". وهو الصواب في الرواية، والصحيح في المعنى البليغ. ولكن جاء هذا الحرف في "إعلام الموقعين" (ج 3 ص 25) و"عون المعبود شرح أبي داود" (ج 2 ص 229) و"التعليق المغني شرح الدارقطني" (ص 446) -: بلفظ"تملك"فعل مضارع من (ملك) وبنصب "واحدة" فرجعنا إلى نسختين مخطوطتين قديمتين من "زاد المعاد" -بدار الكتب المصرية- فوجدناها كذلك "تملك" فعل مضارع، وأنا أرجح أن هذا تحريف من الناسخين، وأن الصواب "تلك" اسم إشارة؛ لأنه كذلك هو في "زاد المعاد" المطبوع بمصر وبالهند و"إغاثة اللهفان"، وكذلك هو في "مسند أحمد" المطبوع، وفي نسخة منه مخطوطة مصرية، وأخرى مخطوطة مغربية. وكذلك هو في كل الكتب التي نقلته عن المسند: كـ "فتح الباري"، و"فتح القدير"، "ونيل الأوطار" وغيرها. وكذلك نقله السيوطي في "الدر المنثور" والآلوسي في "التفسير" عن البيهقي بلفظ "تلك" وكذلك نقله الجصاص في "أحكام القرآن" عن ابن إسحاق، ولم يقل الحديث عن "المسند" فيما أظن. ومما يؤيد أن لفظ "تلك" اسم إشارة هو الصواب: أن الحافظ ابن حجر نقل الحديث بالمعنى في "بلوغ المرام" (برقم 1107) واختصره فقال؛ "فإنها واحدة" فأناب الضمير مناب اسم الإشارة، ولو كان صحة اللفظ "تملك" ما فعل ذلك إن شاء اللَّه. ثم وجدت أن ابن القيم نقل الحديث في "إغاثة اللهفان" (ص 177) عن كتاب "الوثائق الكبير" لأبي الحسن اللخمي بلفظ: "إنما هي واحدة؛ فإن شئت فدعها، وإن شئت فارتجعها". وهذا أيضًا يؤيد أن صحة الكلمة في رواية أحمد "إنما تلك" اسم إشارة، واللَّه أعلم. إن ثبت أن ما حكاه محمود بن لبيد هو عن حادثة ركانة. وإذا كان عن حادثة أخرى لشخص آخر كانت الحوادث ثلاثًا". (¬1) رواه أحمد (1/ 265)، وأبو يعلى (2500)، والبيهقي (7/ 339) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 1113 رقم 2803) من طريق محمد بن إسحاق به. وهذا إسناد فيه ضعيف، رواية داود عن عكرمة فيها نكارة، قال ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر، وقال أبو داود: أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير. وقال البيهقي: وهذا الإسناد لا تقوم به الحجة، مع ثمانية رووا عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- فتياه بخلاف ذلك. وانظر الكلام من بداية المثال السابع إلى هنا في "مجموع الفتاوى" (33/ 12 - 13).

عَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جَدِّه "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَّ ابنته على ابن أبي العاص بمَهْرٍ جديدٍ ونكاح جديد" (¬1): هذا حديث ضعيف، أو قال وَاهٍ لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبيد اللَّه العرزمي (¬2)، والعرزمي (2) لا يساوي حديثه شيئًا، والحديث [الصحيح] (¬3) الذي رواه (¬4) "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقرَّهما على النكاح الأول" (¬5) وإسناده عنده هو إسناد حديث رُكانة بن عبد يزيد هذا، وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس (¬6)، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 208)، وابن سعد (8/ 32)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (12648) وسعيد بن منصور (2109) وأبو يوسف في "الرد على سير الأوزاعي" (ص 100)، والترمذي (1144) في (النكاح): باب ما جاء في الزوجين المشركين يُسلم أحدهما، وابن ماجه (2010) في (النكاح): باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، والدولابي في "الذرية الطاهرة" (ص 50)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 256)، والدارقطني في "سننه" (3/ 253)، أو (رقم 3564 - بتحقيقي)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 188) و"المعرفة" (10/ 143 رقم 3990) و"الخلافيات" (3/ ق 78) من طرق عن الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب به. قال عبد اللَّه بن أحمد: قال أبي: هذا حديث ضعيف، ثم ذكر الكلام الذي نقله ابن القيم. ونقل عنه ابنه في "العلل" أيضًا (1/ 19): قرأت في بعض الكتب عن حجاج قال: حدثني محمد بن عبيد اللَّه العزرمي عن عمرو بن شعيب. . . ومحمد بن عبيد اللَّه ترك الناس حديثه. وقال الترمذي: "هذا حديث في إسناده مقال". وقال في كتابه "العلل الكبير" (1/ 450 - 451): سألت محمدًا عن هذين الحديثين -أي: هذا الحديث وحديث ابن عباس أنه أقرهما على النكاح الأول- فقال: حديث ابن عباس أصح في هذا الباب من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. ونحو هذا قال الدارقطني والبيهقي. والحديث رواه الحاكم (3/ 639) من طريق الحجاج أيضًا، وقد وقع في متنه نكارة، ردها الذهبي وقال: ولا أدري الاختلاف في الحديث من الحجاج أو ممن دونه. أقول: هذا من الحجاج بلا شك، فإنه كان يُغيّر في الألفاظ، وكان في حفظه شيء، وروايته عن عمرو بن شعيب أكثرها دَلَّسها عن محمد بن عبيد اللَّه العرزمي وهو متروك. (¬2) تصحف اسمه في المطبوع و (ق) إلى "عبد اللَّه العزرمي"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) في (ن) و (ك) و (ق): "الذي روي". (¬5) سبق تخريجه، وإلى هنا ينتهي كلام أحمد في "المسند" (2/ 207 - 208). (¬6) وتتمة كلامه: "ولكن لا نعرف وجه هذا الحديث، ولعله قد جاء من قِبل داود بن حُصين من قِبل حفظه".

عند الترمذي؛ فهو حجة ما لم يعارض ما هو أقوى منه، فكيف إذا عَضَدَه ما هو نظيره أو أقوى منه؟ وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح: ثنا عبد الرزاق: أخبرنا ابنُ جُرَيج قال: أخبرني بعضُ بني أبي رافع مولى النبي-صلى اللَّه عليه وسلم-، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: "طَلَّق عبد يزيد أبو ركانة وإخوتِهِ (¬1) أمَّ ركانة، ونكح امرأة من مُزَينة، فجاءت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: ما يُغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حميةٌ، فدعا بركانة وإخوتِهِ، ثم قال لجلسائه: أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانًا [يشبه منه] كذا وكذا؟ قالوا: نعم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد بن يزيد: طلّقها (¬2) ففعل، فقال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال: قد عَلمتُ، رَاجِعْها، وتلا {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] (¬3)، وقال أبو داود (¬4): "حديث نافع بن عُجير (¬5) وعبد اللَّه بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته فردَّهَا إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصح (¬6)، ¬

_ (¬1) بالجر، معطوف على ركانة، أي: وأبو إخوة ركانة. (¬2) في (ن) و (ق): "طلق امرأتك". (¬3) رواه عبد الرزاق (11334)، ومن طريقه أبو داود (2196) في (الطلاق): باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث والبيهقي (7/ 339). قال الخطابي في "معالم السنن" (3/ 236): "في إسناد هذا الحديث مقال؛ لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني رافع ولم يُسَمِّه، والمجهول لا تقوم به الحجة". (¬4) في "سننه" (2/ 260 - ط محمد محمي الدين و 3/ 71 - ط عوامة). (¬5) تحرف في المطبوع و (ك) و (ق) إلى "جبير"!! (¬6) أخرجه الدارمي (2/ 163) وأبو داود (2208) والترمذي (1177) وفي "العلل الكبير" (298) وابن ماجه (2051) والطيالسي (1188) وابن أبي شيبة (5/ 65) وأبو يعلى (1537، 1538) وابن حبان (4274) والعقيلي (3/ 254) وابن عدي (5/ 149، 1850) والدارقطني (4/ 34) والحاكم (2/ 199) والبيهقي (7/ 342) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 1113 - 1114 رقم 2804، 2805، 2806) والمزي في "تهذيب الكمال" (15/ 323) من طريق الزبير بن سعيد عن عبد اللَّه بن علي بن يزيد به. وأخرجه الشافعي في "المسند" (2/ 37، 38) -ومن طريقه أبو داود (2206، 2207) - والدارقطني (4/ 33) والحاكم (2/ 199، 200) وفي "معرفة علوم الحديث" (175) والبيهقي (7/ 342) والبغوي (2353) من طريق نافع بن عجير به. قال الترمذي: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وسألتُ محمدًا عن هذا الحديث. فقال: فيه اضطراب". =

لأنهم (¬1) ولد الرجل وأهله أعلم (¬2) به، وأن ركانة إنما طلَّق امرأته البتة، فجعلها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واحدة". قال شيخنا (¬3) -رضي اللَّه عنه-: "وأبو داود لمَّا لم يرو في "سننه" الحديثَ الذي في "مسند أحمد" -يعني الذي ذكرناه آنفًا- فقال: حديثُ البتة أصحُّ من حديث ابن جُريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأنهم أهل بيته، ولكن الأئمة الكبار (¬4) العارفون بعلل الحديث (¬5) كالإمام أحمد وأبي عُبيد والبخاري ضعَّفوا حديث البتة، وبينوا أن رواته (¬6) قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت (¬7) حديثَ الثَّلاث، وبيَّن أنه الصواب، وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، وأهل المدينة يسمون الثلاث "البتَّة"، قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث ركانة في البتة، فضعَّفه (¬8). والمقصود أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- لم يَخْفَ عليه أن هذا هو السنة، وأنه توسعة من اللَّه لعباده، إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم ¬

_ = قلت: وقال في موضع آخر: "علي بن بزيد بن ركانة عن أبيه، لم يصح حديثه". وقال عبد الحق: "في إسناده عبد اللَّه بن علي بن السائب عن نافع بن عجير بن عبد يزيد عن ركانة، والزبير بن سعيد عن عبد اللَّه بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده، وكلهم ضعفاء، والزبير أضعفهم". وقال المنذري في "مختصر السنن": "حكي عن أحمد أنه كان يضعف طرق هذا الحديث كلها". وقال المصنف في "الزاد" (5/ 263) عن نافع بن عجير: "مجهول لا يعرف حاله ألبتة". وانظر: "معالم السنن" (3/ 247 - 248) و"فتح الباري" (9/ 362 - 365) و"السير الحاث" (30 - 31) و"نيل الأوطار" (7/ 11 - 20) و"الإرواء" (2063) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3907). (¬1) كذا في الأصول، وطبعة عوامة، وطبعة محمد ومحيي الدين: "لأن"!. (¬2) في جميع الأصول: "وأعلم" والصواب حذف الواو، كما في "السنن". (¬3) في "مجموع الفتاوى" (33/ 15) و"الفتاوى الكبرى" (3/ 49، 50) وانظر "شيخ الإسلام ابن تيمية وجهوده في الحديث وعلومه" (4/ 328 - 329). (¬4) في المطبوع: "الأكابر". (¬5) في المطبوع: "الحديث والفقه". (¬6) في المطبوع: "أنه رواية". (¬7) في (ن) و (ق): "ثبَّت". (¬8) نقله المنذري في "مختصر السنن" وابن قدامة في "المغني" (10/ 334 - 35 - ط هجر) ويوسف بن عبد الهادي في "السير الحاث" (ص 27، 46 - ط العجمي).

يملك المكلف إيقاع مَرَّاته كلها جملة واحدة كاللِّعان، فإنه لو قال: "أشهد باللَّه أربع شهادات إني لمن الصادقين" كان ذلك مرة واحدة، ولو حلف في القَسَامة وقال: "أقسم باللَّه خمسين يمينًا أن هذا قاتلُه" كان ذلك يمينًا واحدة، ولو قال المقرّ بالزنا: "أنا أقر أربع مرات أني زنيت" كان ذلك مرة واحدة؛ فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارًا واحدًا، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قال في يومه: سبحان اللَّه وبحمده مئة مرة حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زَبَدِ البحر" (¬1) فلو قال: "سبحان اللَّه وبحمده مئة مرة" لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله: "مَنْ سَّبح اللَّه دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمده ثلاثًا وثلاثين، وكبَّره ثلاثًا وثلاثين" (¬2) الحديثَ؛ لا يكون عاملًا به حتى يقولها (¬3) مرة بعد مرة، ولا يجمع الكل بلفظ واحد، وكذلك قوله: "من قال: [في يومه] (¬4): لا إلهَ إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [مئة مرة] (¬5) كانت له حِرزًا من الشيطان يومَهُ ذلك حتى يمسي" (¬6) لا يحصل له هذا إلا بقولها مرة بعد مرة، وهكذا قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذانُ ثلاثُ مرات، فإن أُذِنَ لك وإلا فارْجِع" (¬7) لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6405) في (الدعوات): باب فضل التسبيح، ومسلم (2691) في (الذكر): باب فضل التهليل والتسبيح، من حديث أبي هريرة. وفي "مسند أحمد" (2/ 371): من حديث أبي هريرة: من قالها حين يمسي وحين يصبح. (¬2) رواه مسلم (597) في (المساجد): باب استحباب الذكر بعد الصلاة، وبيان صفته، من حديث أبي هريرة. وله شواهد عن عدد من الصحابة. (¬3) في المطبوع: "حتى يقول ذلك". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) رواه البخاري (3293) في (بدء الخلق): باب صفة إبليس، و (6403) في (الدعوات): باب فضل التهليل، ومسلم (2691) في (الذكر والدعاء): باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، من حديث أبي هريرة. (¬7) رواه البخاري (6245) في (الاستئذان): باب التسليم والاستئذان ثلاثًا، ومسلم (2153) (34) في (الآداب): باب الاستئذان، من حديث أبي سعيد الخدري.

مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة، وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء، كقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول ابن عباس: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" (¬1) إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرتين" (¬2) فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة, وهذه النصوصُ المذكورة وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كلُّها من باب واحد ومشكاة واحدة، والأحاديث المذكورة تفسّر المراد من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كما أن حديث اللعان تفسير لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]. فهذا كتاب اللَّه وهذه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة كلهم معه في عَصْره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب (¬3)؛ فلو عَدَّهم العادُّ بأسمائهم واحدًا واحدًا ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ: رواه مسلم (176) بعد (285) في (الإيمان): باب معنى قول اللَّه عز وجل {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} والدارقطني في "الرؤية" (رقم 272)، وابن منده في "الإيمان" (رقم 757). وله ألفاظ وطرق عن ابن عباس انظرها في "الرؤية" (رقم 268 وما بعدها) للدارقطني، و"السنة" لابن أبي عاصم (1/ 189 - 191)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 190)، وغيرها. (¬2) رواه البخاري (6133) في (الأدب)، ومسلم (2998) في (الزهد والرقائق) كلاهما في باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، من حديث أبي هريرة. (¬3) قال العلامة أحمد شاكر في كتابه القيم "نظام الطلاق في الإسلام" (ص 51 - 56) بعد نقله لكلام الإمام ابن القيم السابق، ما نصه: "وقد كرر ابن القيم هذا المعنى في كتبه الأخرى، ولكنه جعل أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، (أنت طالق ثلاثًا): لا يقع به إلا واحدة-: قياسًا على المُثُل التي ذكرها، كما صرح بذلك في "زاد المعاد" (4/ 55) وإغاثة اللهفان (ص 156)، واعتبر هو وغيره أن هذا من موضع الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة أو ثلاث طلقات. وهذا انتقال نظر غريب منه ومن سائر الذين حققوا في هذا المقام! وأنا أخالفهم جميعًا في ذلك، وأقرر: أن قول القائل (أنت طالق ثلاثًا) ونحوه -أعني إيقاع الطلاق وإنشاءه بلفظ واحد موصوف بعدد- لا يكون في دلالة الألفاظ على المعاني لغة وفي بديهة العقل إلا طلقة واحدة، وأن قوله (ثلاثًا) في الإنشاء والإيقاع، قول محال عقلًا باطل لغة، فصار لغوًا من الكلام، لا دلالة له على شيء في تركيب الجملة التي وضع فيها، وإن دلّ في نفسه على معناه الوضعي دلالة الألفاظ المفردة على معانيها. كما إذا ألحق المتكلم بأية جملة صحيحة كلمة لا تعلق لها بالكلام، فلا تزيد على أن تكون لغوًا باطلًا.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وأقرر أيضًا: أن الخلاف بين التابعين فمن بعدهم في الطلاق الثلاث ونحوه: إنما هو تكرار الطلاق. أعني: أن يطلق الرجل امرأته مرة ثم يطلقها مرة أخرى ثم ثالثة. وأعني أيضًا: أن موضوع الخلاف هو: هل المعتدة يلحقها الطلاق؟ أي إذا طلقها المرة الأولى فصارت معتدة، ثم طلقها ثانية في العدة: هل تكون طلقة واقعة ويكون قد طلقها طلقتين؟ فإذا ألحق بهما الثالثة وهي معتدة من الأولى: هل تكون طلقة واقعة أيضًا ويكون قد أوقع جميع الطلقات التي له عليها وأبانها وبت طلاقها؟ أو أن المعتدة لا يلحقها الطلاق؟ فإذا طلقها الطلقة الأولى كانت مطلقة منه، وهي في عدته، لا يملك عليها إلا ما آذنه به اللَّه {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}: إن ندم على الفراق راجعها فأمسكها، وإن أصر على الطلاق فليدعها حتى تنقضي عدتها ثم يسرحها بإحسان عن غير مضارة، ثم هو بالنسبة إليها بعد ذلك إن رغب في عودتها كغيره من الرجال: خاطبٌ عن الخطاب؟. هذا هو موضع الخلاف على التحقيق، وأما كلمة (أنت طالق ثلاثًا) ونحوها فإنما هي محالٌ، وإنما هي تلاعب بالألفاظ، بل هي تلاعب بالعقول والأفهام!! ولا يعقل أن تكون موضع خلاف بين الأئمة التابعين فمن بعدهم. ومن جعلها من العلماء موضع خلاف فقد سبق نظره، وفاته المعنى الصحيح الدقيق. ولكنهم -رضي اللَّه عنهم- أرادوا الاحتياط في الحل والحرمة، وتغالوا فيه، ففهموا أن الاحتياط دائمًا هو في إيقاع الطلاق ولو بالشبهة، ثم نقل إليهم الخلاف في وقوع الطلاق الثلاث وعدم وقوعه، وتحققوا من إمضاء عمر إياه، وأن الصحابة وافقوه على إمضائه، وظنوا إجماعًا منهم، وفهموا أن الطلاق الثلاث يشمل اللفظ الواحد، أي قول الرجل: (أنت طالق ثلاثًا) بوصف الإنشاء بالعدد، ويشمل إيقاع ثلاث طلقات متفرقاتٍ في العدة سواء أكانت في مجلس واحد أم في مجالس. ولم يتنبهوا إلى الفرق في الوضع وفي دلالة الكلام بين صحة النوع الثاني -أي صحة الإنشاء في اللفظ؛ وأن المطلق أوقع ثلاث تطليقات. وأما صحته شرعًا وأنه طلاق معتبر، أو عدم صحته شرعًا وأنه طلاق غير معتبر: فذاك شيء آخر أي إيقاعها متفرقات، وبين بطلان النوع الأول، أي اللفظ الإنشائي المقترن بالعدد، وأنه لا يدل في الوضع إلا على إنشاءٍ واحد فقط، وأن الوصف بالعدد وصف لاغٍ- وأما الأحاديث التي تجد فيها أن فلانًا أو رجلًا طلق زوجته ثلاثًا: فإنما هي أخبار؛ أي إن الراوي يحكي عن المطلق ويخبر عنه أنه طلق ثلاثًا، فهذا إخبار صادق، لأنه يحكي عن غيره أو عن نفسه أنه أوقع ثلاث تطليقات إن شاء لكل واحدة منها، كما تحكي عن نفسك أو عن غيرك، فتقول: صلى أربع ركعات، وسبح مائة تسبيحة؛ وهكذا-. ولو تنبهوا إلى هذا الفرق لما عدلوا عنه إن شاء اللَّه، ولقالوا كما قلنا: إن وصف الطلاق الإنشائي بالعدد وصف باطل في اللغة، لاغ في دلالة الألفاظ على المعاني، وإنه لا يدل إلا على طلقة واحدة، وإنه ليس داخلًا في الخلاف في وقوع الثلاث أو عدم وقوعه، وإنه لم يعرِفه الصحابة، ولم يعرفه عمر، ولم يُمضه أحد منهم على الناس، إذ كانوا أهل اللغة والمتحققين بها بالفطرة العربية السليمة، وإنما الذي عرفوه وأمضوهُ هو النوع الثاني وحده، وهو التطليق مرة ثانية ثم مرة ثالثة قبل انقضاء العدة، في مجلس واحد أو مجالس.=

[لوجد] (¬1) أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها، ولو فُرض فيهم مَنْ لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مُفتٍ ومقرّ بفتيا وساكتٍ غيرِ منكر، وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعًا كما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق (¬2)، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال؛ استشهد من المسلمين في وَقعة اليمامة ألف ومئتا رجل منهم سبعون من القرّاء كلهم قد قرأوا القرآن، وتُوفي في خلافة الصديق رضي اللَّه عنه فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعبد اللَّه بن أبي بكر (¬3)، قال محمد بن إسحاق: فلما أُصيب المسلمون من المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع أبو بكر إلى القرآن، وخاف أن يهلك منه طائفة، وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارًا أو سكوتًا. ولهذا ادعى بعضُ أهلِ العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة -وللَّه الحمد- على خلافه، بل لم يزل فيهم مَنْ يُفتي به قرنًا بعد قرن، وإلى يومنا هذا، فأفتى به حَبْر الأمة وتَرْجُمَان القرآن عبد اللَّه بن عبَّاس كما رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفم واحد فهي واحدة" (¬4) وأفتى أيضًا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها ¬

_ = وهذا المعنى قد بدا لي منذ أكثر من عشرين سنة، وتحققتُ منه، وكتبته مختصرًا في مقالٍ نشرته في جريدة الأهرام في 30 مارس سنة 1916 - وكتبته أيضًا بشيء من التفصيل من نحو عشر سنين، في تعليقاتي على (الروضة الندية ج 2 ص 52 - 53) - ثم لم أزل كلما فكرت فيه ازددت به يقينًا، حتى لا أجد فيه مجالًا للشك أو التردد. وقد حاولت إيضاحه هنا أتم وضوح، بما وصل إليه جهدي، فإن أكن فعلت فذاك التوفيق من اللَّه، وإن أكن عجزت فذاك وُسعُ العاجز. وفوق كل ذي علم عليمٌ. وانظر إلى إخبار ركانة أنه طلقها ثلاثًا؛ وإلى سؤال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في مجلس واحد؟ " فإنه يدل على أنه فهم من خبره ما يفهمه العربي وغيره بالبديهة، وهو: أنه نطق بالتطليق ثلاث مرات بثلاثة ألفاظ، ولذلك سأله". (¬1) سقطت من (ك) و (ق). (¬2) في المطبوع: "أبي إسحاق". (¬3) "البداية والنهاية" (6/ 308). (¬4) لم أجد هذه الرواية بعد بحث، والمشهور عن ابن عباس بالأسانيد الصحيحة عنه أنها تقع ثلاثًا، فانظر: "مصنف عبد الرزاق" (6/ 396 - 397)، و"سنن سعيد بن منصور" (1/ 262)، و"سنن البيهقي" (7/ 337).

واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابنُ وضَّاح (¬1)، وعن علي كرم اللَّه وجهه وابن مسعود روايتان (¬2) كما عن ابن عباس، وأما التابعون فأفتي به عكرمة، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس، وأما تابعوا التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به ¬

_ (¬1) لم أجده عنهما مسندًا، وقال ابن رجب في "مشكل الأحاديث الواردة في أن الطلاق الثلاث واحدة" "اعلم أنه لم يثبت عن أحد من الصحابة ولا من التابعين ولا من أئمة السلف المعتد بقولهم في الفتاوى في الحلال والحرام شيء صريح في أن الطلاق الثلاث بعد الدخول يحسب واحدة، إذا سيق بلفظ واحد" نقله عنه يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث" (ص 3). (¬2) أما أن الثلاث تقع واحدة، فذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 173) من طريق الأعمش عن أبي إسحاق عن الأحوص عن ابن مسعود، وهي عند البيهقي (7/ 332)، وهي رواية محتملة أيضًا كما قال ابن حزم، وذكر عن علي من طريق حماد بن زيد عن يحيى بن عتيق عن ابن سيرين عنه، رواية محتملة أيضًا وقال: هذا منقطع عنه لأن ابن سيرين لم يسمع من علي كلمة. أما أن الثلاث تقع ثلاثًا فأما ابن مسعود فقد روى سعيد بن منصور (1063)، و (1093)، وعبد الرزاق (11343)، والبيهقي (7/ 332) من طرق عن الأعمش (وقرن بعضهم معه منصورًا) عن إبراهيم عن علقمة قال: جاء رجل إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي مئة قال: بانت منك بثلاث وسائرهن معصية، قال ابن حزم (10/ 172): هذا خبر في غاية الصحة. ورواه البيهقي (7/ 332) من طريق شعبة عن الأعمش عن مسروق عنه. وأما علي بن أبي طالب: فقد رواه عبد الرزاق (11341) عن إبراهيم بن محمد عن شريك بن أبي نمر قال: جاء رجل إلى علي فقال: إني طلقت امرأتي عدد العرفج قال: تأخذ من العرفج ثلاثًا وتدع سائره. وهذا إسناد ضعيف، إبراهيم بن محمد هو الأسلمي، ضعيف الحديث، ورواه البيهقي (7/ 335) من طريق أبي نعيم عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن بعض أصحابه عن علي، وفيه رجل مبهم. ورواه سعيد بن منصور (1096) من طريق هشيم أخبرنا ابن أبي ليلى، عن رجل حدثه عن أبيه عن علي، وابن أبي ليلى هو محمد سيء الحفظ، وفيه مبهمان، ورواه البيهقي (7/ 334) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عن حسن عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي فيمن طلق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها، قال: لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره. ورواه البيهقي (7/ 335) من طريق أبي نعيم عن حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي. وفيه انقطاع بين محمد وعلي.

خِلَاس بن عمرو والحارث العُكْلي، وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم ابن المغلِّس (¬1) وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في "شرح تفريع ابن الجلاب" (¬2) قولًا لبعض المالكية، وأفتى به بعضُ الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، قال: وكان الجد يفتي به أحيانًا (¬3)، وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وعمر واحدة" (¬4) بأيِّ شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافُه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث (¬5)؛ فقد صرح بأنه إنما ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أبو المفلس"! وهو عبد اللَّه بن أحمد بن المغلِّس البغدادي الظاهري (ت 324 هـ)، ترجمته في "السير" (15/ 77). (¬2) شرح "التفريع" لأبي القاسم عُبيد اللَّه بن الحسين بن الحسن بن الجلاب البصري (المتوفي 378 هـ) -وهو مطبوع عن دار الغرب الإسلامي في مجلدين- وهناك اثنان ممن ينسبون (التلمساني)، وشارحا هذا الكتاب هما: الأول: محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الخزرجي التلمساني المالكي، نزيل الإسكندرية (المتوفى 656 هـ) -وهو شارح الجلاب المشهور-كما في "نيل الابتهاج" (ص 229). والآخر: إبراهيم بن أبي بكر بن عبد اللَّه بن موسى الأنصاري التلمساني، أبو إسحاق (المتوفى 697 هـ)، شرح ابن الجلاب شرحًا جليًا واسعًا، كما في "الديباج المذهب" (1/ 274). (¬3) نقله عن المصنف من قوله السابق: "وكل صحابي من لدن خلافة. . . " إلى هنا: يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث" (ص 39 - 40) وزاد: "قلت: وقد كان يفتي به فيما يظهر لي ابن القيم. وكان يفتي به شيخ الإسلام ابن تيمية -رضي اللَّه عنه- بلا خلاف، وكان يفتي به جدنا جمال الدين الإمام، ولم يرد عنه أنه أفتى بغيره. قلت: وقد كان يفتي به في زماننا الشيخ على الدواليبي البغدادي، وجرى له من أجله محنة ونكاية فلم يدعه، وقد سمعت بعض شيوخنا يقوّيه، وظاهر إجماع ابن حزم أنه إجماع، لكنه لم يصرح به" قال أبو عبيدة: وكان يفتي به ابن كثير، وأوذي وامتحن بسبب هذه المسألة، كما في "طبقات الشافعية" (3/ 115) لابن قاضي شهبة وألف ابن رجب "الأحاديث والآثار المتزائدة في أن الطلاق الثلاث واحدة"، ثم تراجع عنها. والمعمول به في قوانين الأحوال الشخصية اليوم في جل بلدان المسلمين هذا القول، والحمد للَّه. (¬4) مضى تخريجه قريبًا. (¬5) مضى تخريجه ونقله يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث" (ص 37) عن المصنف.

ترك القول به لمخالفة رَاوِيه له، وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة (¬1) راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفَتْواه في بيع الأمة (¬2) فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقًا، وترك رأيه، وعلى أصله يُخرَّج له قول إن الثلاث واحدة؛ فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرَّح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا تُوجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرِّجون على مذهبه أقوالًا دون ذلك بكثير. والمقصود أن هذا القولَ قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماعٌ يبطله، ولكن رَأى أمير المؤمنين عمر -رضي اللَّه عنه- أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملةً واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره نكاحَ رغبةٍ يراد للدوام لا نكاحَ تحليلٍ، فإنه كان من أشدِّ الناس فيه (¬3)، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعهد الصديق وصدرًا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا (¬4) فيه، وكانوا يتقون اللَّه في الطلاق، وقد جعل اللَّه لكل من اتقاه ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "بمخالفة". (¬2) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1947): حدثنا هشيم: أخبرنا خالد الحذاء عن عكرمة عنه أنه كان يقول في بيع الأمة: هو طلاقها، وإسناده صحيح؛ رجاله كلهم ثقات. وروي هذا عن ابن مسعود وأبي بن كعب ومن التابعين عن سعيد بن المسيب والحسن ومجاهد، أفاده ابن بطال فيما نقله ابن حجر في "الفتح" (9/ 404) ثم تعقبه بقوله: "وما نقله عن الصحابة أخرجه ابن أبي شيبة بأسانيد فيها انقطاع". قال: "وفيه عن جابر وأنس أيضًا، وما نقله عن التابعين فيه بأسانيد صحيحة". وفيه أيضًا: "عن عكرمة والشعبي نحوه، وأخرجه سعيد بن منصور عن ابن عباس بسند صحيح". وانظر "تفسير ابن جرير" (8/ 155 رقم 8974 - ط شاكر) و"الإشراف" (3/ 348 - مسألة 1183 بتحقيقي). (¬3) ثبت عنه -رضي اللَّه عنه- قوله: "لا أوتى بمحلل ولا محلَّل له إلا رجمتهما"، وسيأتي تخريجه قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. (¬4) كذا في الأصول، وضبط في "صحيح مسلم" -كما قدمناه (ص 377) - بالياء آخر الحروف بدل الباء الموحدة.

مخرجًا، فلما تركوا تقوى اللَّه وتلاعبوا بكتاب اللَّه وطلّقوا على غير ما شرعه اللَّه ألزمهم بما التزموه عقوبةً لهم؛ فإن اللَّه تعالى إنما شرع الطلاق مرَّة بعد مرَّة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدَّى حدود اللَّه، وظلم نفسه، ولعب بكتاب اللَّه، فهو حقيق أن يُعَاقَبَ، ويُلزم بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصة اللَّه وسعته، وقد صعّبها على نفسه، ولم يتق اللَّه ولم يطلق كما أمره اللَّه وشَرَعه له، بل استعجل فيما جعل اللَّه له الأناة فيه رحمة منه وإحسانًا، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابةُ -رضي اللَّه عنهم- حُسْنَ سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما أَلْزم به، وصرَّحوا لمن استفتاهم بذلك فقال عبد اللَّه بن مسعود: مَنْ أتى الأمر على وجهه فقد بُيِّن له، ومن لبّس على نفسه جعلنا عليه لبسه، واللَّه لا تلبسون على أنفسكم ونتحملُه منكم، هو كما تقولون (¬1). فلو كان وقوع الثلاث ثلاثًا في كتاب اللَّه وسنة رسوله لكان المطلِّق قد أتى الأمر على وجهه، ولَما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن فعل ذلك: "أَيُلْعب (¬2) بكتاب اللَّه وأنا بين أظْهُركم؟ " (¬3) ولما ¬

_ (¬1) لم أظفر به. (¬2) في المطبوع: "تلعب". (¬3) رواه النسائي في "سننه الصغرى" (6/ 142) وفي "الكبرى" (5594) في (الطلاق): باب الثلاث المجموعة، وما فيه من التغليظ من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه قال سمعت محمود بن لبيد فذكره. قال ابن حجر في "الفتح" (9/ 362): ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد، ولد في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في "مسنده"، وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صَرّح فيه بالسماع، وقد قال النسائي بعد تخريجه: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير -يعني ابن الأشج- عن أبيه، ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث، وقد قيل أنه لم يسمع من أبيه. أقول: كلام ابن حجر -رحمه اللَّه- هنا عن صحبة محمود بن لبيد خلاف ما ذكره في "الإصابة" فقد ذكره هناك (3/ 367) في القسم الأول، وذكر عن البخاري أن له صحبة، وذكر حديثًا في "مسند أحمد" فيه سماعه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ونَقْله عن النسائي موجود في "سننه الكبرى"، عن مخرمة في سماعه من أبيه كلام، وروايته عنه في "صحيح مسلم" وانظر: "زاد المعاد" (5/ 241 - 243) و"الرواة المتكلم فيهم في صحيح مسلم" (ص 495 - 505 رسالة ماجستير) لسلطان العكايلة و"الأحكام الوسطى" (3/ 193) و"الأوهام التي في مدخل أبي عبد اللَّه الحاكم" (ص 92 - 93) لعبد الغني بن سعيد، مع تعليقي عليه، وتعليقي على "الإشراف" (3/ 405).

توقَّف عبد اللَّه بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد اللَّه بن عباس وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفْتِهِ فقد جاءتك مُعْضلة، ثم أفتياه بالوقوع (¬1)؛ فالصحابة -رضي اللَّه عنهم- ومُقدَّمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولبَّسوا على أنفسهم ولم يتقوا اللَّه في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتَّشديد على أنفسهم ولم يَقِفُوا على ما حدَّ لهم ألزموهم بما التزموه، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسِهم من التشديد الذي وسَّعَ اللَّه عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن مَنْ فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه؛ إذ لم يقبل رخصة اللَّه وتيسيره ومهلته، ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مئة: عصيتَ ربك وبانت منك امرأتك؛ إنك لم تتق اللَّه فيجعل لك مخرجًا، ومن يتق اللَّه يجعل له مخرجًا (¬2). وأتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى اللَّه فأندمه [اللَّه] (¬3) وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: مَنْ يخادع اللَّه يخدعه (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 571 و 1630 - رواية أبي مصعب) ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (2/ 36) والبيهقي (7/ 335) عن يحيى بن سعيد عن بكير بن عبد اللَّه بن الأشج أنه أخبره عن معاوية ابن أبي عياش الأنصاري أنه كان جالسًا مع عبد اللَّه بن الزبير فذكر القصة. . . أقول: هكذا في إسناد مالك (معاوية) وعند الشافعي (ابن أبي عياش) والمعروف بابن أبي عياش هو"النعمان" وقد ورد هكذا في إسناد حديث عند مالك قبل هذا يرويه عنه كذلك بكير بن الأشج الراوي عنه هنا، ثم وجدت ابن عبد البر يقول في "الاستذكار" (17/ 258): "معاوية والنعمان أخوان، والنعمان أسن وأبوهما أبو عياش الزرقي له صحبة" ومعاوية ترجمته في "ثقات ابن حبان" (7/ 467) و"التاريخ الكبير" (4/ 1/ 332). (¬2) هو بهذا اللفظ: رواه البيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 337) من طريق عبيد اللَّه بن معاذ عن أبيه عن شعبة عن ابن أبي نجيح، وحميد الأعرج عن مجاهد عنه، ورواه سعيد بن منصور (1064) من طريق الأعمش عن مالك بن الحارث عن ابن أبي عياش، وإسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات مشهورون، وقد روى معناه عبد الرزاق (6/ 396 - 398)، وابن أبي شيبة (5/ 12)، والبيهقي (7/ 337) من طرق عنه. (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬4) رواه سعيد بن منصور (1064) وابن أبي شيبة (5/ 10 - 11)، وعبد الرزاق (10779) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 181) -، وابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 48)، والبيهقي (7/ 337) من طرق عن الأعمش عن مالك بن الحارث عنه. وهذا إسناد صحيح رجاله من رواة "الصحيح" إلا مالك بن الحارث وهو ثقة.=

فليتدبَّر العالم الذي قَصْدهُ معرفةُ الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق، فجرَتْ عليهم رخصة اللَّه وتيسيره شرعًا وقدرًا، فلما ركب الناس الأحموقة، وتركوا تقوى اللَّه، ولبَّسوا على أنفسهم، وطلَّقوا على غير ما شرعه اللَّه لهم، أجْرَى اللَّه على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعًا وقدرًا إلزامَهُم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصْرِ الذي جعلوه هم في أعناقهم كما جعلوه، وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان (¬1)، فجاء أئمة الإسلام، فمضوا على آثار الصحابة سالكين مسلكهم، قاصدين رضاء اللَّه ورسوله وإنفاذ دينه. فمنهم مَنْ ترك القول بحديث ابن عباس لظنه أنه منسوخ، وهذه طريقة الشافعي (¬2). قال: "فإن كان معنى قول ابن عباس: إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واحدة بمعنى أنه أمْرُ (¬3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فالذي يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا فنُسِخ. فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يُشبه أن يكون ابنُ عباس [قد] (¬4) يروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا ثم يخالفه بشيء ولم يعلمه كان من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه خلاف. فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر؟ ¬

_ = ومالك هذا هو ابن الحارث، لكن وقع في "مصنف عبد الرزاق" ابن الحويرث، وقد نقله ابن حزم في "المحلى" (10/ 181) فقال: ابن الحارث، وهو الصواب إن شاء اللَّه تعالى. ورواه سعيد بن منصور (1065) من طريق هشيم عن الأعمش فقال: عن عمران بن الحارث السلمي. . . وذكره. وأخشى أن يكون هناك وهم، ورواية الجماعة أولى أي: مالك بن الحارث. . . وعمران هذا من الثقات، فلا يضر إذن. (¬1) في المطبوع: "الزمن". (¬2) نقل يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث" (ص 23) كلام المصنف من قوله: "ولكن رأى أمير المؤمنين عمر -رضي اللَّه عنه- أن الناس". . . إلى هنا. (¬3) في (ك) و (ق): "بأمر". (¬4) سقطت من (ك) و (ق).

قيل: قد علمنا أنَّ ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة (¬1)، وبيع الدينار بالدينارين (¬2)، وبيع أمهات الأولاد (¬3)، فكيف يوافقه في شيء روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أما نهي عمر عن نكاح المتعة فهذا ثابت في "صحيح مسلم" (1405 بعد 17) في (النكاح): باب نكاح المتعة. أما ابن عباس فقد ورد عنه القول بإباحتها -أي المتعة- فروى مسلم في "صحيحه" (1406 بعد 27) عن عبد اللَّه بن الزبير قال: إن أناسًا أعمى اللَّه قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة، يريد: ابن عباس. وروى أيضًا (1407) قول علي لفلان: إنك رجل تائه، وروى أيضًا (1407 بعد 31) عن علي أنه سمع ابن عباس يُليّن في متعة النساء. وفي "صحيح البخاري" (5115) أن عليًا قال لابن عباس: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن المتعة. وروى سعيد بن منصور (849) ومن طريقه الطحاوي (3/ 25) أن عليًا مر بابن عباس، وهو يفتي بالمتعة متعة النساء، أنه لا بأس بها. وانظر أيضًا: "سنن البيهقي" (7/ 205)، و"فتح الباري" (9/ 168)، ويظهر أن ابن عباس لم يجز هذا الأمر مطلقًا. ففي "صحيح البخاري" (5116) عن أبي جمرة قال: سمعتُ ابن عباس يُسأل عن متعة النساء فرخص، فقال له مولى له: إنما ذلك في الحال الشديد، وفي النساء قلة أو نحوه، فقال ابن عباس: نعم. وانظر: "الفتح" أيضًا. (¬2) تجويز ابن عباس لربا الفضل ثابت في "صحيح البخاري" (2178 و 2179) في (البيوع): باب الدينار بالدينار نساء، ومسلم (1596) في (المساقاة): باب بيع الطعام مثلًا بمثل، من حديث أبي سعيد وفيه قصة. وفي "صحيح مسلم" (1594 بعد 99) و (100) عن أبي نضرة: سألتُ ابن عباس عن الصرف فقال: أيدًا بيد؟ قلت: نعم، قال: فلا بأس به. . . وفيه كتابة أبي سعيد له. ثم ذكر أن ابن عباس كرهه فيما بعد، وقد روي أن ابن عباس رجع عن هذا، روى ذلك الحاكم في "مستدركه" (2/ 42 - 43) من طريق حَيَّان بن عبيد اللَّه قال: سألت أبا مجلز عن الصرف، فقال: كان ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- لا يرى به بأسًا زمانًا من عمره. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: حَيَّان فيه ضعف، وليس بالحجة. والحديث ذكره الحافظ في "الفتح" (4/ 382) ساكتًا عليه. ولرجوعه ينظر: "أوهام الحاكم في المدخل" العبد الغني بن سعيد الأزدي (ص 103 - 104) مع تعليقي عليه (¬3) أما عمر فقد كان ينهى عن بيع أمهات الأولاد، روى ذلك عبد الرزاق في "مصنفه" (13224)، والشافعي في "الأم" (7/ 162) وسعيد بن منصور (2046، 2048) وابن شبة في "تاريخ المدينة" (2/ 729) والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 442) والدولابي =

[فتوى الصحابي على خلاف ما رواه]

[خلافُه]؟ (¬1). [فتوى الصحابيّ على خلاف ما رواه] قال المانعون من لزوم الثلاث: النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا ترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة راويه له؛ فإن مخالفته ليست معصومة (¬2)، وقد قدَّم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بَريرة (¬3) على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها (¬4)، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة: "من استقاء فعليه القضاء" (¬5) وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه (¬6)، وأخذوا (¬7) ¬

_ = في "الكنى والأسماء" (2/ 113) وأبو عبيد في "الأموال" (رقم 850) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 343، 348) و"المدخل إلى السنن الكبرى" (رقم 86) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 74) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 64) عن عبيدة قال: سمعت عليًا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، وسنده صحيح. وفي "مصنف عبد الرزاق" روايات عديدة عن عمر في منع بيعها. أما ابن عباس ففي "مصنف عبد الرزاق" (13218) عن عمرو بن دينار عن عطاء عنه قال في أم الولد: واللَّه ما هي إلا بمنزلة بعيرك أو شاتك. وفيه أيضًا (13222) عن طاوس أن ابن عباس قال لابنة له لأم ولد: أشهدكم أن هذه حرة. وفيه أيضًا (13216) أن ابن عباس قال: لا تعتق أم الولد حتى يتكلم بعتقها. وهذه أسانيد صحيحة. وانظر: "التلخيص" (4/ 217 - آخر الكتاب). (¬1) "معرفة السنن والآثار" (11/ 38) بحروفه وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) انظر: "مفتاح دار السعادة" (ص 361 - 364، 370)، و"زاد المعاد" (2/ 183)، و"شفاء العليل" (ص 405 - 406). (¬3) حديث ابن عباس في شأن بريرة رواه أحمد (1/ 215 و 281) وسعيد بن منصور (1257) وأبو داود (2232) في الطلاق! باب المملوكة تعتق وهي تحت حر أو عبد والطحاوي في شرح معاني الآثار (3/ 82) وابن حبان (4270) والطبراني في "الكبير" (11826) والبيهقي (7/ 221 - 222) من طريق عكرمة عنه مطولًا ومختصرًا وفيه تخيير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لبريرة فاختارت نفسها وهو حديث صحيح وأصله في صحيح البخاري (5280) - (5283) لكن ليس فيه ذكر التخيير. (¬4) مضى تخريجه. (¬5) مضى تخريجه. (¬6) لم أجد من رواه عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-، وقد وجدت البيهقي في "سننه الكبرى" (4/ 219) يقول: وروي عن أبي هريرة أنه قال في القيء: لا يفطر. (¬7) في (ق): "وأخذ".

برواية ابن عباس: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر الصحابة أن يرملوا الأشواطَ الثلاثَةَ وأن يمشوا بين الركنين" (¬1) وصح عنه أنه قال: ليس الرملُ بسنة (¬2)، وأخذوا (¬3) برواية عائشة في منع الحائض من الطواف (¬4)، وقد صح عنها أن امرأة حاضت وهي تطوف معها فأتمت بها عائشة بقية طوافها (¬5)، رواه سعيد بن منصور: ثنا أبو عَوَانة عن أبي بشر عن عطاء، فذكره، وأخذوا برواية ابن عباس في تقديم الرمي والحلق والنحر بعضها على بعض، وأنه لا حَرَجَ في ذلك (¬6)، وقد أفتى ابنُ عباس أن فيه ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1602) في (الحج): باب كيف كان بدء الرمل، و (4256) في (المغازي). باب عمرة القضاء، ومسلم (1266) في (الحج): باب استحباب الرمل في الطواف والعمرة. (¬2) الذي وجدته عن ابن عباس في هذا ما رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (4/ 362) عن يزيد بن هارون عن حجاج عن أبي جعفر أن ابن عباس، وعلي بن حسين كانا لا يرملان. أقول: وحجاج هذا هو ابن أرطاة؛ لأنه هو الذي يروي عن أبي جعفر، وهو محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وحجاج بن أرطاة مقبول الرواية إذا صرّح بالسماع. وروى البيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 84) من طريق ابن عبد الحكم عن ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يرمل في السبع الذي أفاض فيه، وهذا إسناد رواته كلهم ثقات إلا ابن جريج فإنه مدلس. وروى ابن أبي شيبة (4/ 465) من طريق الثقفي عن حبيب بن أبي ثابت قال: سئل عطاء عن المجاور إذا أهلّ من مكة هل يسعى الأشواط الثلاثة؟ قال: إنهم يَسْعون فأما ابن عباس فإنه قال: ذلك على أهل الآفاق. وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن في رواية حبيب عن عطاء مقال، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام": له غير حديث عن عطاء لا يتابع عليه، وليست بمحفوظة، ومثله قال العقيلي. قال ابن حجر في "الفتح" (3/ 471) قال ابن عباس: ليس هو (أي الرمل) بسُنّة، من شاء رمل ومن شاء لم يرمل. (¬3) في (ق): "وأخذ". (¬4) رواه البخاري (294) في (الحيض): باب الأمر بالنساء إذا نفسن، و (305) في (الحيض)، و (1650) في (الحج): كلاهما باب تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت، ومسلم (1211) (120)، و (121) في (الحج): باب بيان وجوه الإحرام. (¬5) سبق تخريجه. (¬6) رواه البخاري (84) في (العلم): باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس، و (1721 و 1722 و 1723) في (الحج): باب الذبح قبل الحلق، و (1734 و 1735) باب إذا رمى =

دمًا (¬1)، فلم يلتفتوا إلى قوله وأخذوا بروايته، وأخذت الحنفية بحديث ابن عباس "كلُّ الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه" (¬2) قالوا: وهذا صريح في طلاق المكره، وقد صح عن ابن عباس: ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق (¬3)، وأخذوا هم والناسُ بحديث ابن عمر أنه اشترى جَمَلًا شاردًا (¬4)، بأصح سند يكون، وأخذ الحنفية والحنابلة بحديث عليّ [كرم اللَّه وجهه] (¬5) وابن عباس: "صلاة الوسْطَى صلاة العصر" (¬6) وقد ثبت عن عليّ [كرم اللَّه وجهه] (5) وابن عباس أنها صلاة ¬

_ = بعد ما أمسى أو حلق قبل أن يذبح ناسيًا أو جاهلًا، و (6666) في "الأيمان والنذور": باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1307) في (الحج): باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الحلق. وفي (ق): "النحر والحلق والرمي". (¬1) رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 238)، وابن أبي شيبة (4/ 453) من طريق سالم بن مطيع عن إبراهيم بن مهاجر عن مجاهد عنه قال: من قدم شيئًا من حجه أو أخّره فليهرق لذلك دمًا. قال ابن حزم في "المحلى" (7/ 183): وأما الرواية عن ابن عباس فهي واهية؛ لأنها عن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف، ونقل الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 571) تضعيفه عن القرطبي، ثم وجدتُ كلام القرطبي في "المفهم" (3/ 408 - ط دار ابن كثير)، قال: "وحكي عن ابن عباس فيمن قدم شيئًا من النسك المذكور عليه الدم، وليس بالثابت عنه". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) رواه سعيد بن منصور في "سننه" (1143)، وابن أبي شيبة (4/ 38): حدثنا هشيم: أخبرنا عبد اللَّه بن طلحة الخزاعي قال: حدثني أبو يزيد المديني عنه. ورواه البيهقي (7/ 358) من طريق عفان عن هشيم به إلا أنه اقتصر على أوله فقط. والعجيب أن الحافظ في "الفتح" (9/ 391)، وفي "التهذيب" (5/ 235 - 236) عزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة فزاد في إسنادهما -قبل ابن عباس- عكرمة. وفي ترجمة أبي يزيد في "التهذيب" أنه يروي عن ابن عباس، ويروي عن عكرمة مولى ابن عباس أيضًا. وعبد اللَّه بن طلحة لا يعرف بجرح ولا تعديل، وقد ذكره ابن حبان في "الثقات". (¬4) رواه ابن أبي شيبة (5/ 61) من طريق عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه اشترى بعيرًا وهو شارد. وهذا إسناد على شرط الصحيحين. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) حديث علي: رواه البخاري (2931) في (الجهاد): باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، و (4111) في (المغازي): باب غزوة الخندق، و (4533) في (التفسير): باب {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}، و (6396) في (الدعوات): باب الدعاء على المشركين، ومسلم (627) في (المساجد): باب التغليظ في تفويت صلاة العصر.=

الصبح (¬1)، وأخذ الأئمة [الأربعة] (¬2) وغيرهم بخبر عائشة في التحريم بلبن ¬

_ = وأما حديث ابن عباس: فرواه أحمد (1/ 301)، والطبراني في "الكبير" (11905)، وفي "الأوسط" (2016)، والطحاوي في "معاني الآثار" (1/ 174) والدمياطي في "كشف المغطى" (رقم 52). قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 309): رجاله موثقون. أقول: بل رجاله كلهم من رجال الصحيح؛ لأن هذه العبارة يطلقها الهيثمي على من في بعض رجاله كلام. وله إسناد آخر عن ابن عباس: رواه الطبراني في "الكبير" (12069)، والطحاوي (1/ 174)، وفيه ابن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ. وروى البزار (389) من حديث ابن عباس مرفوعًا: "صلاة الوسطى صلاة العصر"، قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 309): رجاله موثقون. (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 139) بلاغًا عنهما. ووصله عن ابن عباس: عبد الرزاق في "مصنفه" (2207)، وابن أبي شيبة (2/ 387 و 389)، وسعيد بن منصور (402 في أجزاء التفسير)، والطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 170)، والبيهقي (1/ 461)، وابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 285)، والطبري في "تفسيره" (5472، 5478، 5481)، وآخرون ذكرهم السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 718) من طرق كثيرة عنه، وأكثرها صحيح الإسناد. وأما علي فلم أجده موصولًا عنه، بل الثابت عنه أنه كان يقول: هي العصر، رواه ابن جرير (2/ 342) وانظر: "الدر المنثور" (1/ 727 - 728) و"كشف المغطى" (ص 27) فقول ابن القيم: "ثبت عن علي" في هذا الجزم نَظَر، واللَّه أعلم. ثم وجدت الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه- يقول في "الفتح" (8/ 196): "ونقله مالك بلاغًا عن علي والمعروف عنه خلافه"، فأيَّد ما قلت، فالحمد للَّه على توفيقه. ثم وجدتُ أن عليًا -رضي اللَّه عنه- كان يقول هي الفجر، حتى سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول يوم الأحزاب: "شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر". أخرج ابن أبي حاتم -كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 430) - وابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 288) والدمياطي في "كشف المغطى" (ص 20، 21) من طريق سفيان عن عاصم عن زر قال: قلت لعبيدة: سل عليًا عن الصلاة الوسطى؟ فسأله، فقال: كنا نراها الفجر، حتى سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . وذكره وإسناده صحيح. وكذا قال إسرائيل عن عاصم، رواه ابن جرير في "تفسيره" (2/ 345) وكذا قال زائدة بن قدامة رواه الدمياطي (20) وروى أحمد (1/ 153) وابن سعد (2/ 72) عن أبي حسان عن عبيدة. قال: كنا نرى أن صلاة الوسطى صلاة الصبح، قال: فحدثنا علي أنهم يوم الأحزاب اقتتلوا وحبسونا عن صلاة العصر، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم املأ قبورهم نارًا، واملأ بطونهم نارًا، كما حبسونا عن صلاة الوسطى" قال: "فعرفنا يومئذ أن صلاة الوسطى صلاة العصر". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

الفَحْلِ (¬1)، وقد صح عنها خلافه، وأنه (¬2) كان يدخل عليها مَنْ أرضعته بناتُ إخوتها، ولا يدخل عليها مَنْ أرضعته نساء إخوتها (¬3)، وأخذ الحنفية برواية (¬4) عائشة: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" (¬5). وصح عنها أنها أتمت الصلاة في السفر (¬6)، فلم يدَعُوا روايتها لرأيها، واحتجوا بحديث جابر وأبي موسى في الأمر بالوضوء من الضَّحك في الصلاة (¬7). ¬

_ (¬1) هو حديثها في منعها دخول عمها من الرضاعة عليها، وإنكار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلها. رواه البخاري (4796) في (التفسير): باب {نْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ}، و (5103) في (النكاح): باب لبن الفحل، و (5239) في (النكاح): باب ما يحل من الدخول والنظر إلى النساء في الرضاع، و (6156) في (الأدب): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: تربت يمينك، ومسلم (1445) في (الرضاع) باب تحريم الرضاعة من لبن الفحل. (¬2) في (و): "وإن". (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 604) عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عنها، وهذا إسناد على شرط الشيخين. ورواه ابن حزم في "المحلى" (10/ 2) من طريق أبي عبيد عن إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو بن علقمة عن عبد الرحمن بن القاسم به. (¬4) في (ن) و (ك): "بحديث"، وتحرفت في (و) إلى "برضاء". (¬5) رواه البخاري (350) في (الصلاة): باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، و (1090) في (تقصير الصلاة): باب يقصر إذا خرج من موضعه، و (3935) في (مناقب الأنصار): باب التاريخ، ومسلم (685) في صلاة المسافرين وقصرها. (¬6) روى البخاري (1090) في (تقصير الصلاة): باب يقصر إذا خرج من موضعه، ومسلم (685) (3) في (صلاة المسافرين): أوله من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت: فُرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأُقرت في صلاة السفر، وزيد في الحضر. قال الزهري: فقلت لعروة: ما بالُ عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأوَّلت كما تأوَّل عثمان. (¬7) حديث جابر: رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 172)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (رقم 611)، وابن عدي (7/ 2724 - 2725) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 746) - والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (188)، والبيهقي في "الخلافيات" (676)، وابن الجوزي في "الواهيات" (611)، من طريق محمد بن يزيد بن سنان عن أبيه عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به مرفوعًا. وقال الدارقطني: يزيد بن سنان ضعيف، ويكنَّى بأبي فروة الرهاوي، وابنه ضعيف أيضًا، وقد وهم في هذا الحديث في موضوعين: أحدهما في رفعه، والآخر في لفظه، والصحيح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر من قوله، كذلك رواه عن الأعمش جماعة من الرفعاء الثقات منهم سفيان الثوري، وأبو معاوية الضرير. . . ". =

وقد صح عنهما أنهما قالا: لا وضوء من ذلك (¬1)، وأخذ الناسُ بحديث ¬

_ = وقال البيهقي في "المعرفة" (1/ 242): "الموقوف هو الصحيح، ورفعه ضعيف"، وقال الحاكم: "لهذا الحديث علّة صحيحة". وأما حديث أبي موسى الأشعري: فرواه الطبراني في "معجمه الكبير" -كما في "نصب الراية" (1/ 47) - من طريق محمد بن عبد الملك الدقيقي: ثنا محمد بن أبي نعيم الواسطي: حدثنا مهدي بن ميمون ثنا هشام بن حَسّان عن حفصة بنت سيرين عن أبي العالية عن أبي موسى. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 246): محمد بن عبد الملك لم أر من ترجمه، وبقية رجاله موثقون، وقال في (2/ 82): رجاله موثقون، وفي بعضهم خلاف. قلت: الدقيقي هذا مترجم في "تهذيب التهذيب" وهو ثقة! وقد توبع، تابعه أحمد بن سنان عند البيهقي في "الخلافيات" (رقم 741). أقول: في هامش "المجمع" (1/ 246): علة الحديث إنما هي الانقطاع، فإن راويه لم يسمعه من أبي موسى. أقول: أبو العالية، كثير الارسال، وفي بعض رواة هذا الحديث كلام. وقد رواه جماعة من الثقات عن حفصة عن أبي العالية مرسلًا، وكذا أصحاب أبي العالية يروونه عنه مرسلًا، كما قال الدارقطني في "سننه" (1/ 168)، والبيهقي في "الخلافيات" (2/ 401). وللحديث شواهد عن عدد من الصحابة انظرها مفصلة في: "الخلافيات" (مسألة رقم 22) و"نصب الراية" (1/ 47)، وما بعدها، وكلها واهية، وانظر: "التلخيص" (1/ 115). (¬1) أما أثر جابر في عدم الوضوء من الضحك في الصلاة: فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 424)، والدارقطني (1/ 172 - 173 أو رقم 640 - بتحقيقي)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (188)، والبيهقي في "الكبرى" (1/ 144)، وفي "الصغرى" (46)، و"المعرفة" (1/ رقم 219)، وفي "الخلافيات" (رقم 675 - 679 - بتحقيقي)، والخليلي، ومن طريقه ابن حجر في "التغليق" (2/ 110) من طرق عن الأعمش عن أبي سفيان عنه قال: إذا ضحك الرجل في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء، وعلقه البخاري في "صحيحه" (1/ 280 - مع "الفتح") بصيغة الجزم. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقال البيهقي في "الخلافيات" (2/ 265 - بتحقيقي): "وهذا ثابت عن جابر". ورواه عبد الرزاق (3766) عن معمر عن مطر الوراق عن شعيب عنه، وله طريق آخر صحيح، انظر: "الخلافيات" (680). وأما أثر أبي موسى: فقد رواه ابن أبي شيبة (1/ 424)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 228)، والدارقطني (1/ 174)، والبيهقي (1/ 145)، وفي "الخلافيات" (682) من طريق هشيم، والفضل بن دكين كلاهما عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال قال: صلى أبو موسى بأصحابه فرأوا شيئًا فضحكوا منه فقال أبو موسى: كل من ضحك منكم فليعد الصلاة. وهذا إسناد صحيح، رواته ثقات من رجال الصحيح.

عائشة في ترك إيجاب الوضوء [مما مَسَّتِ النار (¬1)، وقد صح عن عائشة بأصح إسناد إيجابُ الوضوء] (¬2) للصلاة من أكل كل ما مسَّت النار (¬3)، وأخذ الناس بأحاديث عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، في المسح على الخفّين (¬4). ¬

_ (¬1) الذي وجدته عن عائشة في هذا هو قولها: "إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يمر بالقدر فيتناول منها العرق فيصيب منه ثم يصلي، ولم يتوضأ ولم يمس نارًا". رواه ابن أبي شيبة (1/ 67 - 68 - دار الفكر)، وأحمد (6/ 161)، وأبو يعلى (رقم 4449)، والبزار (رقم 298) كلهم من طريق عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة وعكرمة عن عائشة. لكن وقع عند أبي يعلى: ابن أبي مليكة عن عكرمة. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 253): رجاله رجال الصحيح. وفي (ك): "من أكل كل ما مست النار". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬3) روى عبد الرزاق في "مصنفه" (رقم 673) عن الزهري عن عروة عن عائشة أنها كانت تتوضأ مما مست النار. وروى مسلم عنها مرفوعًا (353): "توضؤوا مما مست النار". وانظر: "تهذيب السنن" (1/ 137 - 138)، و"زاد المعاد" (3/ 186 - 187)، و"بدائع الفوائد" (4/ 125). وفي (ق): "مسته". (¬4) حديث عائشة: رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 194) من طريق بقية: حدثنا أبو بكر بن أبي مريم: حدثنا عبدة بن أبي لبابة عن محمد الخزاعي عن عائشة قالت: ما زال رسول اللَّه يمسح منذ أنزلت عليه سورة المائدة. وأبو بكر هذا ضعيف، ومحمد هذا لم أعرفه. وفي "صحيح مسلم" (276) أن شريح بن هانيء سأل عائشة عن المسح على الخفين، فقالت له: إن عليًا. . . فأخبره. وأما حديث ابن عباس: فقد رواه الطبراني في "الكبير" (11319) من طريق ابن أبي ليلى عن عطاء عن ابن عباس قال: ما زال رسول اللَّه يمسح على الخفين حتى قبضه اللَّه. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 257): وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف لسوء حفظه. وله إسناد آخر عن ابن عباس: ذكره الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 169) وعزاه للبزار من طريق خصيف عن مقسم عن ابن عباس قال: أشهد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مسح على الخفين، وخصيف هذا ضعفه أحمد وأبو حاتم ويحيى القطان، وقوّاه ابن معين وأبو زرعة. وأما حديث أبي هريرة: فرواه أحمد (2/ 358)، وفيه أبان وهو ضعيف وراوٍ آخر مجهول، وله طرق عن أبي هريرة وألفاظ انظرها مفصلة في "علل الدارقطني" (8/ 275 - 276) ثم قال: ولا يصح عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المسح وانظر مفصلًا: "نصب الراية" (1/ 162) و"الهداية" للغماري (1/ 174 - 201) وأورد المسح من حديث ستة وستين صحابيًا.

وقد صح عن ثلاثتهم المنعُ من المسح جملة (¬1)؛ فأخذوا بروايتهم وتركوا ¬

_ (¬1) أما عائشة: فقد روى مسلم في "صحيحه" (276) من طريق شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فسله، فإنه كان يسافر مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . قال البيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 272)، وأما عائشة فإنها كرهت ذلك (أي المسح) ثم ثبت أنها أحالت بعلم ذلك على علي. أقول: وقد روى ابن أبي شيبة (1/ 213) عن هُشيم: أنا يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد عنها قالت: لأن أخرجهما بالسكاكين أحب إليَّ من أن أمسح عليهما. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. ورواه ابن أبي شيبة أيضًا من طريق شعبة عن أبي بكر بن حفص عن عروة بن الزبير عنها. وهذا إسناد على شرطهما كذلك. وأما ابن عباس: فقد روى ابن أبي شيبة (1/ 213) عن علي بن مُسْهِر عن عثمان بن حكيم عن عكرمة عنه قال: سَبَقَ الكتاب الخُفين، وهذا إسناد صحيح على شرط مُسلم. وروى البيهقي (1/ 273) من طريق عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني خُصَيْف أن مقسم مولى عبد اللَّه بن الحارث أخبره أن ابن عباس أخبره قال: كنت أنا عند عمر. . . ثم قال ابن عباس: قد علمنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَسَحَ على خفيه، ولكن أقبل المائدة أم بعدها؟ لا يخبرك أحد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَسَحَ بعد المائدة، فسكت عمر. وخُصيف سيء الحفظ، وقد أخبر جرير أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مسح بعد المائدة، وحديثه في "الصحيح". وروى ابن أبي شيبة (1/ 213) من طريق ضرار بن مرة عن سعيد بن جبير قال: قال ابن عباس: ما أبالي مسحت على الخفين أو مسحت على ظهر بختي هذا، أي لا يرى المسح. وهذا إسناد على شرط الشيخين. لكن ورد عنه أنه أجاز ذلك في السفر البعيد، والبرد الشديد، فقد روى عبد الرزاق (768)، ومن طريقه البيهقي (1/ 273) عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سمعت رجلًا يحدث ابن عباس: بخبر سعد، وابن عمر في المسح على الخفين، فقال ابن عباس: لو قلتم هذا في السفر البعيد، والبرد الشديد. وهذا إسناد صحيح. بل قد ورد عنه جواز ذلك: فقد روى ابن أبي شيبة (1/ 213)، والبيهقي (1/ 273) من طريق فطر بن خليفة قال: قلت لعطاء: إن عكرمة يقول: قال ابن عباس: سبق الكتاب الخفين، فقال عطاء: كذب عكرمة، أنا رأيت ابن عباس يمسح عليها. وإسناده جيّد. وروى البيهقي بإسناد آخر عنه أيضًا أنه أجاز المسح وصححه. =

رأيهم، واحتجوا في إسقاط القصاص عن الأب بحديث عمر: "لا يُقْتَصُّ لولد من والده" (¬1) وقد قال عمر: لأقُصَّنَّ للولد من الوالد (¬2)؛ فلم يأخذوا برأيه بل بروايته، واحتجت الحنفية والمالكية في أن الخُلْعَ طلاق بحديثين لا يصحان عن ابن عباس (¬3)، وقد صح عن ابن عباس بأصح إسناد يكون: "أن الخلع فَسْخٌ لا طلاق" (¬4) وأخذت الحنفية بحديث لا يصح بل هو من وضع حَرَام (¬5) بن عثمان ومُبشّر بن عُبيد الحَلَبي، وهو حديث جابر: "لا يكون صداق أقل من عشرة دراهم" (¬6) وقد صح عن جابر جواز النكاح بما قلَّ أو كثر (¬7)، واحتجوا هم ¬

_ = وأما أبو هريرة: فقد روى ابن أبي شيبة (1/ 213 - 214): حدثنا يونس بن محمد: حدئنا إسماعيل بن سميع: حدثني أبو رزين قال: قال أبو هريرة: ما أبالي على ظهر خفي مسحت أو على ظهر خمار، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. لكن قال ابن حجر في "التلخيص" (1/ 158): قال أحمد: لا يصح حديث أبي هريرة في إنكار المسح وهو باطل. أقول: لعله حديث غير هذا وانظر: "التلخيص" (1/ 158). (¬1) رواه أحمد (1/ 22 و 49)، وابن أبي شيبة (6/ 426) وعبد بن حميد (41)، والترمذي (1400)، وابن ماجه (2662)، وابن الجارود (788)، وابن أبي عاصم في "الديات" (65 و 66)، والدارقطني (3/ 140)، وفي "الأفراد" (4/ 26 رقم 3519 - أطرافه)، والبيهقي (8/ 38 و 72) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عمر مرفوعًا، ولفظه: "لا يقتل. . . ولا يقاد" وهذا إسناد حسن. وقد تقدم مفصلًا. وفي (ق): "الولد من والده". (¬2) انظر: "مصنف عبد الرزاق" (7/ 441) و"مصنف ابن أبي شيبة" (10/ 23). (¬3) وجدت عن ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الخلع تطليقة بائنة، أخرجه ابن عدي في الكامل (4/ 1642) والدارقطني (4/ 45) والبيهقي (7/ 316) من طريق عباد بن كثير عن أيوب عن عكرمة عنه. ذكره ابن عدي في ترجمة عباد بن كثير الثقفي ونقل عن أحمد قوله: روى أحاديث كذب لم يسمعها وقال ابن معين: ليس بشيء وقال البخاري: تركوه، وقال النسائي: متروك الحديث، وتكلم فيه أيضًا شعبة وابن المبارك وختم ابن عدي ترجمته بقوله: ومقدار ما أمليت عامته مما لا يُتابع عليه. (¬4) ثبت هذا من طرق عن ابن عباس، كما في "مصنف عبد الرزاق" (11765 و 1767 و 11768 و 11770 و 11771)، و"سنن سعيد بن منصور" (1449، و 1450)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (7/ 316). (¬5) تصحف في المطبوع إلى: "حزام" وهو خطأ. (¬6) سبق تخريجه. (¬7) عزاه له ابن حزم في "المحلى" (9/ 500): روينا من طريق وكيع عن عبد الرحمن بن=

وغيرهم على المنع من بيع أمهات الأولاد بحديث ابن عباس المرفوع (¬1)، وقد ¬

_ = مهدي عن صالح بن رومان عن أبي الزبير عنه قال: مَنْ أعطى في صداق المرأة ملء حفنة من سويق أو تمر فقد استحل. وصالح هو ابن مسلم بن رومان، وقيل: موسى بن مسلم وهو خطأ، كما قال الحافظ ابن حجر، وهو ضعيف الحديث، ومما يدل على ضعفه أنه رواه مرفوعًا، أخرجه أبو داود (2110)، ومن طريقه البيهقي (7/ 238)، ووقع عنده: "موسى بن مسلم بن رومان"، وروى مسلم (1405) (16) من طريق عبد الرزاق: أخبرنا ابن جُريج: أخبرني أبو الزبير قال: سمعت جابرًا يقول: كنا نستمتع بالقبضة من التمر، والدقيق الأيام، على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر. . . وخرجته مفصلًا في تعليقي على "المجالسة" (4/ 11 - 17). (¬1) الذي ورد عن ابن عباس مرفوعًا في هذا حديثان: أولهما حديث: "من وطئ أَمته فولدت فهي معتقة عن دبر منه". رواه عبد الرزاق (13219)، وابن أبي شيبة (5/ 184)، والدارمي (2/ 257)، وأحمد (1/ 303 و 317 و 320)، وابن ماجه (2515) في (العتق): باب أمهات الأولاد، وابن سعد (8/ 215)، والطبراني (11519) وأبو يعلى -كما في "نصب الراية" (3/ 288)، ولم أهتد إلى موطنه في طبعتيه- والدارقطني (4/ 130 - 131 و 132)، والحاكم (2/ 19)، والبيهقي (10/ 346) من طرق عن شريك عن حسين بن عبد اللَّه عن عكرمة عنه به. قال الحاكم: صحيح الإسناد، فرده الذهبي بقوله: حسين متروك. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 65): هذا إسناد ضعيف حسين بن عبد اللَّه بن عبيد اللَّه الهاشمي تركه علي بن المديني، وأحمد بن حنبل، والنسائي، وضعفه أبو حاتم، وأبو زرعة، وقال البخاري: يقال: إنه كان يتهم بالزندقة. أقول: وفيه شريك القاضي وهو ضعيف، لكنه توبع، فقد رواه الدارقطني (4/ 131) من طريق سفيان الثوري عن حُسين به. فبقيت العلة محصورة في حُسين هذا. وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (3/ 137، 138)، و"الدر المنظوم" (رقم 357) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4149، 4155). الثاني: قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد ذُكرت عنده مارية أم إبراهيم: "أعتقها ولدها". رواه ابن ماجه (2516)، وابن سعد (8/ 215)، والدارقطني (4/ 131 و 132 و 133)، والحاكم (2/ 19)، والبيهقي (10/ 346) من طرق عن حُسين بن عبد اللَّه عن عكرمة عنه به. وهذا إسناد ضعيف؛ لأن مداره أيضًا على حُسين المذكور في الإسناد قبل. ورواه قاسم بن أصبغ في "كتابه"، كما في "نصب الراية" (3/ 287)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 18) عن محمد بن وضاح عن مصعب بن سعيد المصيصي عن =

صح عنه جواز بيعهن (¬1)؛ فقدموا روايته التي لم تثبت على فتواه الصحيحة عنه، وأخذت الحنابلة وغيرهم بخبر سعيد بن المسيب عن عمر أنه ألحق الولَدَ بأبويه (¬2)، وقد خالفه سعيد بن المسيب (¬3)؛ فلم يعتدّوا بخلافه، و [قد] (¬4) صح عن عمر، وعثمان، ومعاوية أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تمتع بالعمرة إلى الحج (¬5)، وصح عنهم النهيُ عن التمتع (¬6)، فأخذ الناس بروايتهم وتركوا رأيهم، وأخذ الناس بحديث أبي هريرة في ¬

_ = عبيد اللَّه بن عمرو الرقي عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس به، هكذا ذكر الزيلعي إسناد قاسم بن أصبغ. أما في "المحلى" فقد وقع هكذا، محمد بن مصعب عن عبيد اللَّه بن عمرو به. وقال ابن حزم: هذا خبر صحيح السند، والحجة به قائمة. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4/ 218): وتعقبه ابن القطان بأن قوله: عن محمد بن مصعب خطأ، وإنما هو عن "محمد"، وهو ابن وضاح عن "مصعب"، وهو ابن سعيد المصيصي، وفيه ضعف. وانظر: "ببان الوهم والإيهام" (2/ 84 - 86). أما الزيلعي فنقل عن ابن القطان أنه قال: وقد روي بإسناد جَيّد، فلا أدري كيف يكون جيدًا وهو قد بيّن ضعفَ مصعب بن سعيد فلينظر. لكن إسناد ابن حزم في "المحلى" المطبوع، ورد هكذا: حدثنا مصعب بن سعيد عن عُبيد اللَّه بن عمرو الرقي، ليس فيه محمد بن وضاح. (¬1) روى عبد الرزاق (13218) عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار -أظنه عن عطاء- عن ابن عباس قال في أم الولد: واللَّه ما هي إلا بمنزلة بعيرك أو شاتك، وروى كذلك (13216) عن ابن جريج أخبرني عطاء أن ابن عباس قال: لا تعتق أم الولد حتى يتكلم بعتقها. وهذان إسنادان صحيحان. وروى ابن أبي شيبة (5/ 186) من طريق أشعث عن سالم عن ابن أبي عروبة عن ابن عباس أنه جعل أم الولد من نصيب ولدها. وفي الإسناد سقط، فابن أبي عروبة لا يروي عن ابن عباس. (¬2) روى ذلك عبد الرزاق (13476)، والبيهقي (7/ 413)، وفي إسناده انقطاع، وانظر: "قواعد ابن رجب" (3/ 233) وتعليقي عليه، وفي (ك): "بابوين". (¬3) قال: هو للآخر منهما، كما في "مصنف عبد الرزاق" (7/ 360)، و"سنن البيهقي" (10/ 264). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) و (¬6) وأما عثمان فقد روى مسلم في "صحيحه" (1223) في (الحج): باب جواز التمتع، قال عبد اللَّه بن شقيق: كان عثمان ينهى عن المتعة، وكان علي يأمر بها، فقال عثمان لعلي كلمة، ثم قال علي: لقد علمت أنا قد تمتعنا مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أجل ولكنا كنا خائفين. وهو في "صحيح البخاري" (1563)، و (1569)، ومسلم أيضًا (1223) (159) من =

البحر: "هُوَ الطَّهُورُ ماؤه الحلُّ ميتته" (¬1) وقد روى سعيد بن منصور في "سننه" عن أبي ¬

_ = طريق مروان بن الحكم، ولكن ليس فيه قول علي: لقد علمت. . . إلى آخره. ولذلك قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 425): هذه زيادة شاذة. وفي "سنن النسائي" (5/ 152) ما يؤيد كلام علي لعثمان، وهو من طريق عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب، وفيه قول علي: ألم تسمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تمتع؟ قال: بلى. إذن هذا يدل على أن عثمان يعرف التمتع، ولكنه نهى عنه لأمر آخر كما في "الفتح" (3/ 425). وأما عمر: فقد روى عنه النسائي (5/ 153) في (الحج): باب التمتع من طريق ابن عباس عنه قال: واللَّه إني لا أنهاكم عن المتعة، وانها لفي كتاب اللَّه، ولقد فعلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-يعني العمرة في الحج. وأصرح منه أيضًا ما روى مسلم في "صحيحه" (1222) من طريق إبراهيم بن أبي موسى عن أبي موسى أنه كان يفتي بالمتعة فقال له رجل: رويدك ببعض فتياك فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعد، حتى لقيه بعد، فسأله. فقال عمر: قد علمتُ أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا مُعْرِسين في الأراك. وأما نهيه عن التمتع: فقد رواه الترمذي (824) في (الحج): باب ما جاء في التمتع، والبيهقي (5/ 21)، وقد بين في رواية البيهقي سبب نهي عمر عن ذلك. وأما معاوية فلم أجد روايته للتمتع، وإنما وجدت نهيه عن ذلك. يدل على ذلك: ما رواه مسلم في "صحيحه" (1225)، والنسائي (5/ 152 - 153)، والبيهقي (5/ 17)، ورواية مسلم مختصرة. (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (كتاب الطهارة): باب الطهور للوضوء (1/ 22/ رقم 12) -ومن طريقه الشافعي في "الأم" (1/ 16)، و"المسند" (8/ 335 - مع الأم)، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 231 - بتحقيقي)، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" (رقم 46) - وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 131)، و"المسند" -كما في "نصب الراية" (1/ 96)، وأحمد في "المسند" (2/ 237 و 361 و 393) -، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطهارة): باب الوضوء بماء البحر (1/ 176)، و (كتاب الصيد والذبائح): باب ميتة البحر (7/ 207)، و"السنن الكبرى" (رقم 67)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الطهارة): باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (1/ 100 - 101/ رقم 69)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطهارة): باب في الوضوء بماء البحر (1/ 64/ رقم 83)، والدارمي في "السنن" (كتاب الطهارة): باب الوضوء بماء البحر (1/ 186)، و (كتاب الصيد): باب في صيد البحر (2/ 91)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الطهارة): باب الوضوء بماء البحر (1/ 136 / رقم 386)، و (كتاب الصيد): باب الطافي من صيد البحر (2/ 1081/ رقم 3246)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 478) ترجمة (سعيد بن سلمة المخزومي)، وابن حبان في "الصحيح" =

هريرة أنه قال: ماءان لا يجزِئان في غسل الجنابة: ماء البحر وماء الحمَّام (¬1)، وأخذت الحنابلة والشافعية بحديث أبي هريرة في الأمر بغَسْل الأناء من ولُوغ الكلب (¬2)، وقد صح عن أبي هريرة ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" أن أبا هريرة سُئِل عن الحَوْض يَلَغُ فيه الكلب ويشرب منه الحمار، فقال: لا يُحرِّم الماء شيء (¬3)، ¬

_ = (رقم 119 - موارد الظمآن)، وابن خزيمة في "الصحيح" (1/ 59/ رقم 111)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 43)، والدارقطني في "السنن" (1/ 36)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 145 - 141)، و"معرفة علوم الحديث" (ص 87)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 3)، و"السنن الصغرى" (1/ 63/ رقم 155)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 247)، والبغوي في "شرح السنة" (2/ 55 - 56/ رقم 281)، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" (1/ 346)، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، ونقل عن البخاري تصحيحه لهذا الحديث. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن منده وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وابن الأثير وابن الملقن والزيلعي وابن حجر والنووي والشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني. انظر: "البدر المنير" (2 - 5) و"نصب الراية" (1/ 95)، و"التلخيص الحبير" (1/ 9)، و"المجموع" (1/ 82)، و"خلاصة البدر المنير" (رقم 1)، و"تحفة المحتاج" (رقم 3)، و"البناية شرح الهداية" (1/ 297)، وتعليق أحمد شاكر على "جامع الترمذي" (1/ 101)، و"نيل الأوطار" (1/ 17)، و"سبل السلام" (1/ 15)، و"إرواء الغليل" (1/ 42). وقال الإمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا الحديث نصف علم الطهارة"، انظر "المجموع" للنووي (1/ 84)، وانظر: "زاد المعاد" (3/ 192)، و"بدائع الفوائد" (2/ 47) للمؤلف. وانظر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد القاسم بن سلام (رقم 231 - 240) مع تعليقي عليه. (¬1) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 156) من طريق يحيى بن أبي كثير عن رجل من الأنصار عنه وفيه راوٍ مبهم. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (1/ 167)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ 218) عن ابن عُليّة عن حبيب بن شهاب عن أبيه أنه سأل أبا هريرة فذكره. وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات، ابن عُليّة ثقة من رجال الشيخين، وتوبع، تابعه ابن أبي عدي عند أبي عبيد في "الطهور" (رقم 156، 224، 229 - بتحقيقي)، ومن طريقه ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 267 - 268، 310)، وحبيب بن شهاب، وأبوه ليسا من رجال "التهذيب". وحبيب ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (3/ 103)، ونقل عن أحمد أنه قال: ليس به بأس، وقال ابن معين: ثقة. وأبوه شهاب بن مدلج العنبري ترجمه أيضًا ابن أبي حاتم (4/ 361)، وذكر أنه يروي عن أبي هريرة، وابن عباس ثم ذكر قول أبي زرعة فيه: بصري ثقة.

وأخذت الحنفية بحديث عليّ [كرم اللَّه وجهه] (¬1): "لا زكاة فيما زاد على المئتي درهم حتى يبلغ أربعين درهمًا" (¬2) مع ضعف الحديث بالحسن بن عمارة، وقد صح عن عليّ -عليه السلام- (¬3) أن ما زاد على المئتين ففيه الزكاة بحسابه، رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن عاصم بن ضَمْرة عنه (¬4). وهذا باب يطول تتبّعه، وترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديثُ يوافق قولَ مَنْ قلَّده وقد خالفه راويه يقول: الحجة فيما رَوَى، لا في قوله، فإذا جاء قولُ الراوي موافقًا لقول مَنْ قلده والحديث بخلافه (¬5) قال: لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نَسْخُه، وإلا كان قَدْحًا في عَدَالته، فَيَجْمَعُونَ في كلامهم ¬

_ = (ملاحظة) أبو هريرة هنا سئل عن الحوض، وفرَّق بين الإناء الذي يلغ فيه الكلب، فهذا فيه الغسل سبع مرات، وقد ثبت هذا من قول أبي هريرة، فيما رواه عنه الدارقطني (1/ 64) قال: يهراق، ويغسل سبع مرات، وقال الدارقطني: إسناده صحيح موقوف. وأما سؤاله هنا فهو عن الحياض التي ترد إليها الكلاب والحمير والسباع، فهذه ثبت جواز التطهر بها عن غير واحد من السلف. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) مضى تخريجه عن علي -رضي اللَّه عنه-. وذكر الزيلعي في أدلة الأحناف حديث معاذ بن جبل الذي رواه الدارقطني (2/ 93) ومن طريقه البيهقي في "السنن" (4/ 135) و"الخلافيات" (2/ ق 406/ أ) وابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 127 رقم 1145)، وقال الدارقطني: المنهال بن الجراح متروك. وانظر: "معرفة السنن والآثار" (6/ 133 رقم 8263) و"تنقيح التحقيق" (2/ 1416) لمحمد بن عبد الهادي و (5/ 126) للذهبي وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 1880). وفي كتاب عمرو بن حزم ذكر هذا أيضًا: رواه ابن حبان (6559)، والحاكم (1/ 395 - 397)، والبيهقي (4/ 89 - 90)، وقد أعل هذا الكتاب غير واحد منهم النسائي (8/ 59) وأبو حاتم (1/ 222). وانظر: "نصب الراية" (2/ 368)، و"الجوهر النقي" (4/ 135). (¬3) في (د): "عن عليٍّ كرم اللَّه وجهه"، وسقط من (ق). (¬4) هو في "مصنفه" (7074) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (6/ 38) - عن معمر به، وإسناده حسن، عاصم بن ضمرة هو السلولي، وثقه جماعة، إلا أن بعضهم تكلم فيه لوجود منكرات في حديثه، وخاصة عن علي، ويظهر أن هذه المنكرات ليست منه وحده، بل ممن روى عنه كذلك وممن حمل عليه ابن عدي حيث قال: حدث عن علي بأحاديث باطلة لا يتابعه الثقات عليه، والبلاء منه. وقال ابن حبان: كان رديء الحفظ فاحش الخطأ. وكل هذه مبالغات في الرجل، لا يصل إليها. (¬5) في (ك) و (ق): "يخالفه".

[وجوب الأخذ بالحديث وترك كل ما خالفه]

بين هذا وهذا، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد، وهذا من أقبح التناقض. [وجوب الأخذ بالحديث وترك كل ما خالفه] والذي ندينُ اللَّه به ولا يَسَعُنَا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذُ بحديثه وتَرْكُ كل ما خالفه، ولا فتركه لخلاف أحدٍ من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره؛ إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديثَ، أو لا يَحْضُره (¬1) وقتَ الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارَضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفَتُه لما رواه سقوطَ عدالتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. فصل [تغير الفتوى بمسألة الطلاق الثلاث حسب الأزمنة] إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفَتْوَى بها بحسب الأزمنة كما عرفت؛ لما رأته (¬2) الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مَفْسَدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لَعَنَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعلَه (¬3) مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق اللَّه في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم (¬4)، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره. [لعنة التحليل بالتيس المستعار] وأما في هذه الأزمان التي قد شَكَتِ الفروجُ فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رَمَد بل عَمًى في عين الدين وشَجًى ¬

_ (¬1) في (ك): "يحضر". (¬2) في (ك) و (ق): "رآه". (¬3) حديث لعن المحلل والمحلل له سيأتي تخريجه مفصلًا بعد قليل. (¬4) سيأتي تخريجه قريبًا.

في حلوق المؤمنين، من قبائحَ تُشْمِتُ أعداء الدين به وتمنع (¬1) كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب (¬2)، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رَسْمَه، وغيّرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وقد زعم أنه قد طيّبها (¬3) للحليل، فياللَّه العجب! أيُّ طيب أعارَهَا هذا التيسُ الملعون؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدُّون؟ أترى وقوفَ الزوج المطلِّق أو الولي على الباب والتيسُ الملعونُ قد حل إزارها وكشف النقاب وأخَذَ في ذلك المرتع والزوجُ أو الولي يُنَاديه: لم يقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة أو (¬4) أوليائها بك رضًا ولا فرح ولا ابتهاج، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضِّرَاب، الذي لولا هذه البَلْوَى لما رضينا وقوفَكَ على الباب؛ فالناس يُظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصَى بكتمان هذا الداء العُضال ونجعله أمرًا مستورًا؛ بلا نِثَار ولا دُفٍّ ولا خِوَان ولا إعلان، بل التواصي بهُمسَّ ومسَّ (¬5) والإخفاء والكتمان؛ فالمرأة تُنكَح لدينها وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فإنه لا يمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، واللَّه تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكَنًا لصاحبه، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصودُ هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شَرَعَهُ لأجلها العزيزُ الحكيم، فسَلِ التيسَ المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟ وسَلْه: هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا يأوِي إليه؟ ثم سَلْها: هل رضيت به قط زوجًا وبعلًا تُعَوِّلُ في نوائبها عليه؟ وسل أولي التمييز والعقول: هل تزوجت فلانة بفلان؟ وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا من أمته نكح ¬

_ (¬1) في (و): "ويمنع". (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 406 - 498 - تحقيق: محمد عفيفي)، و"مجموع الفتاوى" لشيخ الإسلام ابن تيمية (32/ 94 - 97 و 146 - 164 و 33/ 37 - 40)، ورسالة شيخ الإسلام: "إقامة الدليل على إبطال التحليل". (¬3) في (ق): "وطئها". (¬4) في (ك) و (ق): "و". (¬5) أشار في هامش (ق) إلى أن: "هُس: زجر للغنم".

نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار (¬1)، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟ وكيف تُعَيَّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك [التيس] (¬2) بين النسوان؟ وسل التيس المستعار: هل حَدَّثَ نفسَه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدثت نفسها به هنالك؟ وهل طلب منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا؟ وسل عقول العالمين وفِطَرَهم: هل كان خير هذه [الأمة] (2) أكثرهم تحليلًا، أو كان المحلل الذي لعنه اللَّه ورسوله أهداهم سبيلًا؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به: هل تجمَّلَ أحد منهما (¬3) بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسبٍ أو مالٍ أو جمال؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيسُ المستعار أو يتسرّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته؟ وسل التيس [المستعار] (2): هل ¬

_ (¬1) تسميةُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المحلِّل، بالتيس المستعار: أخرجه ابن ماجه (1936) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له، والروياني في "المسند" (226) والطبراني في "الكبير" (17/ رقم 825)، والدارقطني (3/ 251) -ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (رقم 1072) - والحاكم (2/ 198 - 199)، والبيهقي (7/ 208) من طريقين (عثمان بن صالح وعبد اللَّه بن صالح) عن الليث بن سعد عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ألا أخبركم بالتيس المستعار. . . ". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقد أعل أبو زرعة الحديث -كما نقله عنه ابن أبي حاتم (1/ 411) - بعدم سماع الليث من مشرح، وكذا أعله الترمذي في "علله الكبير". أقول: ثبت في بعض طرق الحديث تصريح الليث بالسَّماع من مشرح قال الزيلعي (3/ 239): "قوله في الإسناد -أي إسناد ابن ماجه- قال أبو مصعب يرد ذلك" وكذلك حسنه عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (6/ 228). والعلة التي ذكرها ابن أبي حاتم لم يعرج عليها ابن القطان، في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 504 - 505) ولا غيره. وقال البوصيري (1/ 340): هذا إسناد مختلف فيه من أجل أبي مصعب. أقول: أبو مصعب هو مشرح بن هاعان، حسن الحديث، واللَّه أعلم. وفي (ق): "يشبه" (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "أحدها".

فصل [جناية التحليل على الأعراض]

سأل قط عما يسأله (¬1) عنه مَنْ قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب المِلَاح؟ وسَله: هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي نفقة هذا العرس أو حُطِّي؟ [وسَلْه: هل تحمَّلَ من كُلْفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟] (¬2) وسله عن وليمة عُرْسه: هل أوْلَم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحدًا من أصحابه فقضى حقه وأتاه؟ وسَلْه: هل تحمَّلَ من كُلْفة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس [لأصحابُ] (¬3) والمهنئون؟ وهل قيل له: بارك اللَّه لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية، أم لعن اللَّه المحلل والمحلَّل له لعنة تامة وافية؟ فصل [جناية التحليل على الأعراض] ثم سَلْ مَنْ له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حُرَّة مَصُونة أنْشَبَ فيها المحلل مخالِبَ إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردًا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان؟ فلعمر اللَّه! كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العُشَرَاء والخدناء (¬4)؟ ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القَنَا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها. [ولوغ المحلل في المحرّمات وإفساده للمرأة] وسَلْ أهل الخبرة: كم عَقَدَ المحلل على أم وابنتها؟ وكم جمع ماءَه في أرحام ما زاد (¬5) على الأربع وفي رحم الأختين؟ وذلك مُحَرّم باطل في المذهبين، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تفرد بالذكر وهي كموجة واحدة من الأمواج، ومن يستطيع عد (¬6) أمواج البحر؟! وكم من امرأة ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "يسأل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ك) و (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في كافة الأصول: "الحرفاء" والمثبت في هامش (ق). (¬5) في (ق): "فيما زاد". (¬6) في (ك): "عده".

[حكم الصحابة على التحليل بأنه سفاح]

[كانت] (¬1) قاصِرَةَ الطّرْف على بعلها، فلما ذاقت عُسَيْلَة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها، ومن (¬2) كان هذا سبيله فكيف يحتمل أكمل الشرائع وأحكمها تحليله؟! [حكم الصحابة على التحليل بأنه سفاح] فصلوات اللَّه وسلامه على مَنْ صرَّح بلعنته، وسماه بالتيس المستعار من بين فساق أمته، كما شهد [به] (¬3) عليّ بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] (¬4)، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبو هريرة، وجابر بن عبد اللَّه، وعقبة بن عامر، وعبد اللَّه بن عباس وأخبر عبد اللَّه بن عمر أنهم كانوا يَعُدُّونه على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سِفاحًا. [الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه يلعنون المحلل] أما [حديث] (¬5) ابن مسعود ففي "مسند الإمام أحمد"، و" [سنن] (1) النَّسائي"، و"جامع الترمذي" عنه قال: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المحلل والمحلل له" (¬6) قال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك) و (ق): "وما". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬6) رواه أحمد (1/ 448 و 462)، والترمذي (1120) في (النكاح): باب ما جاء في المحلل والمحلل له، والنسائي (6/ 149) في (الطلاق): باب إحلال المطلقة ثلاثًا، وما فيه من التغليظ، والدارمي (2/ 185)، وابن أبي شيبة (4/ 295 و 14/ 190)، وأبو يعلى (5350)، والبيهقي (7/ 208) من طريق أبي قيس عن هُزَيل بن شرحبيل عن ابن مسعود. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (4/ 442 رقم 2015)، وابن دقيق العيد في "الاقتراح" (461) على شرط البخاري، وانظر: "التلخيص الحبير" (3/ 170). وقال المصنف في "إغاثة اللهفان" (1/ 269): "إسناده صحيح". وله طريق آخر رواه أحمد في "مسنده" (1/ 450 - 401)، وأبو يعلى (5054)، والشاشي (862) والبغوي (9/ 100 رقم 2293) من طريق أبي واصل عن ابن مسعود، وعزاه الحافظ في "التلخيص" الإسحاق بن راهويه. أقول: أبو واصل هذا ترجمه الحافظ في "تعجيل المنفعة"، ونقل عن الحسيني أنه قال: "مجهول". أقول: هذا القول ليس في "الإكمال" للحسيني، ولكنه ذكره في "التذكرة" (4/ 2290 رقم 9113) وسكت عنه البخاري في "الكنى" (9/ 77). وله طرق أخرى ستأتي إن شاء اللَّه.

الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال سفيان الثوري: حدثني أبو قيس الأوْدِي، عن هُزَيْل (¬1) بن شرحبيل، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: "لعنَ رسولُ اللَّه الواشِمةَ والمسْتَوشمة، والواصلَة والموصولة (¬2)، والمُحلِّل والمُحلَّل له، وآكل الربا وموكله" (¬3) ورواه النَّسائي والإمام أحمد، وروى الترمذيُّ عنه (¬4): "لعن المحلل" وصححه، ثم قال: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين، ورواه الإمام أحمد من حديث أبي الواصل، عن ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن المُحلِّل والمحلَّل له" (¬5)، وفي "مسند الإمام أحمد"، والنسائي من حديث الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرَّة، عن [الحارث عن] (¬6) ابن مسعود قال: "آكلُ الرِّبا وموكِلَه وشاهداه وكاتبه إذا عَلِموا به، والوَاصِلة والمُسْتَوصلة، ولاوي الصَّدقة (¬7) والمعتدي فيها، ¬

_ (¬1) في (و) و (ق): "هذيل". (¬2) في (ق): "الموصلة". (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 448 و 462)، والنسائي في "سننه" (6/ 149) في (الطلاق): باب إحلال المطلقة ثلاثًا -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 180) - وأبو يعلى في "مسنده" (رقم 5350)، والبزار في "مسنده" (2045) والبيهقي في "المعرفة" (10/ 180 رقم (14116) من طريق سفيان به، وهذا إسناد صحيح. وأخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب التفسير): باب {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ} (8/ 630/ رقم 4886، 4887)، و (كتاب اللباس): باب الموصولة (10/ 378/ رقم 5943)، وباب الواشمة (10/ 380/ رقم 5948)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب اللباس والزينة): باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة (3/ 1678/ رقم 2125)، والترمذي (أبواب الأدب): باب ما جاء في الواصلة والمستوصلة (5/ 104/ رقم 2782)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الزينة): باب لعن المتنمصات والمتفلجات) (8/ 188)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب النكاح): باب الواصلة والواشمة (1/ 640/ رقم 1989)، وأحمد في "المسند" (1/ 433 - 434، 443، 454، 465) عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- مقطَّعًا، كل في موضع دون ذكْر التحليل وآكل الربا. وقال (و)؛ "الوشم: أن يغرز الجلد بإبرة، ثم يحشى بكحل أو نيل، فيزرق أثره، أو يخضر، وقد وشمت -بفتح الشين- تشم، وشمًا، فهي واشمة، والمستوشمة، والموتشمة: التي يفعل بها ذلك، والواصلة: التي تصل شعرها بشعر آخر زور، والموصولة: من فعل بها ذلك" اهـ. (¬4) في (ن) و (ق): "منه". (¬5) تقدم تخريجه قبل قليل. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) المستوصلة: التي تطلب ما سبق بيانه عن الواصلة. واللاوي: "الجاحد الصدقة" (و).

والمرتد على عقبيه أعرابيًا بعد هجرته، ملعونون على لسان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم القيامة" (¬1). وأما حديث عليّ بن أبي طالب، ففي "المسند"، و"سنن أبي داود" "والترمذي"، "وابن ماجه"، من حديث الشعبي، عن الحارث، عن علي [بن أبي طالب] (¬2) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنه لعن المحلِّل والمُحلَّل له" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (10793) وأحمد (1/ 409 و 430 و 464 - 465)، والنسائي في (الزينة) (8/ 147) باب المستوشمات، وأبو يعلى (5241)، وابن حبان (3252) وابن الأعرابي في "معجمه" (910) من طريق الأعمش به. وهذا إسناد ضعيف لضعف الحارث هذا، وهو الأعور. ورواه عبد الرزاق (15350) عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن ابن مسعود بإسقاط الحارث. مع أن الإمام أحمد في بعض أسانيده يرويه عن عبد الرزاق بإثبات الحارث. وعند أحمد في بعض طرقه: قال الأعمش: فذكرته لإبراهيم فقال: حدثني علقمة قال: قال عبد اللَّه: آكل الربا وموكله سواء. وهذا إسناد صحيح، ولكن أوله فقط. والحارث متابع. فقد رواه ابن خزيمة (2250)، والحاكم (1/ 387 - 388)، والبيهقي (9/ 19) من طريق يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن مسروق قال: قال عبد اللَّه. . . فذكره. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، فقد احتج بيحيى بن عيسى الرملي ولم يخرجاه. أقول: هذا إسناده ظاهره الصحة، لكن قال البيهقي بعد روايته: تفرد به يحيى بن عيسى هكذا، ورواه الثوري وغيره عن الأعمش عن عبد اللَّه بن مرة عن الحارث. ويحيى بن عيسى الرملي هذا وإن كان روى له مسلم إلا أنه ضعَّفه النسائي، وابن معين، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه مما لا يتابع عليه، فمثله لا يقبل منه مخالفة أصحاب الأعمش كالثوري وغيره، فهو واهمٌ لا محالة، والصواب الرواية الأولى. (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬3) رواه أحمد (1/ 83 و 87 و 88 و 93 و 107 و 121 و 133 و 150 و 158) وسعيد بن منصور (2008) وأبو داود (2076) في (النكاح): في التحليل، والترمذي (1119) في (النكاح): باب ما جاء في المحلل والمحلل له، وابن ماجه (1935) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له، وعبد الرزاق في "مصنفه" (10791) (6/ 269) و (15352) (8/ 316) وأبو يعلى (402) و (516)، والبزار في "مسنده" (819 و 820 و 821 و 822 و 825 و 827)، والطبراني في "الأوسط" (7063) والتيمي في "الترغيب" (1444) والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 207 - 208)، و"الشعب" (5508) وابن عدي (1/ 370) والذهبي في "السير" (4/ 155) وابن الجوزي في "الواهيات" (1073) من طريق الحارث عن علي. وزاد عند بعضهم: وعن مجالد عن الشعبي عن جابر، وهو جزء من حديث. =

وأما حديث أبي هريرة ففى "المسند" للإمام أحمد (¬1)، و"مسند أبي بكر بن أبي شيبة" من حديث عثمان بن [محمد] الأخْنَسيّ (¬2)، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن اللَّه المحلل والمحلل له" (¬3). قال يحيى بن معين (¬4). عثمان بن الأخنس (¬5) ثقة، والذي رواه عنه عبد اللَّه بن جعفر المَخْرَمي (¬6) ثقة من ¬

_ = وهذا إسناد ضعيف، الحارث الأعور ضعيف، ومجالد بن سعيد ليس بالقوي وقال الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 239): "معلول بالحارث" وقال الذهبي: "مجالد ليّن". قال الترمذي: حديث علي وجابر معلول، وهكذا روى أشعث بن عبد الرحمن عن مجالد عن عامر الشعبي عن الحارث عن علي وعامر عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا الحديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مجالدًا بن سعيد قد ضعفه بعض أهل العلم منهم أحمد بن حنبل، وروى عبد اللَّه بن نمير هذا الحديث عن مجالد عن عامر عن جابر بن عبد اللَّه عن علي، وهذا قد وَهِم فيه ابن نمير. أقول: هذا الطريق رواه ابن أبي شيبة (14/ 190)، ورواه النسائي (8/ 147) عن الحارث مرسلًا وانظر مفصلًا: "علل الدارقطني" (3/ 154 - 156). (¬1) في (ق) و (ك): "مسند الإمام أحمد". (¬2) في (ق): "عثمان بن أبي الأخنس". (¬3) رواه أحمد (2/ 322)، وابن أبي شيبة (4/ 296) وابن الجارود (684)، وابن أبي حاتم في "علله" (1/ 413)، والترمذي في "علله الكبير" (2/ 437)، والبزار في "مسنده" (1442)، وتمام في "فوائده" (2/ 389 - 390 رقم 753 - ترتيبه)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 208) -وعزاه في "نصب الراية" (3/ 240) لأبي يعلى، وإسحاق في "مسنديهما"، ولم أجده فيهما- رووه من طريق عبد اللَّه بن جعفر المخرمي عن عثمان بن محمد الأخنسي به. قال الترمذي: فسألت محمدًا عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن، وعبد اللَّه بن جعفر صدوق ثقة، وعثمان بن محمد الأخنسي ثقة، وكنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري. وقال المصنف في "إغاثة اللهفان" (1/ 270): "رجالهم كلهم ثقات، وثقهم ابن معين وغيره". وصححه الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 24). أقول: عثمان الأخنسي: نعم وثقه ابن معين، وغيره، لكن قال ابن حبان في "الثقات" (7/ 203): "يعتبر حديثه من غير رواية المخرمي عنها والمخرمي هو عبد اللَّه بن جعفر. (¬4) في رواية إسحاق بن منصور عنه، كما في "الجرح والتعديل" (6/ رقم 910) و"تهذيب الكمال" (19/ 488). (¬5) في (ق): "عثمان بن أبي الأخنس". (¬6) في نسخة: المخزومي، [في الموضعين: الثلاثة، انظر: "إعلام الموقعين" (ط): فرج اللَّه زكي الكردي (ج 3 ص 56)]، كذا في (د)، وما بين المعقوفتين زيادة (ط) عليها، وفي (ن) و (ق): "القرشي" في الموضع الأول، وفي الموضع الثاني والثالث: "المخزومي". وفي (ق): "عبد اللَّه بن أبي جعفر القرشي" في الموضع الأول.

[المحلل تيس مستعار]

رجال مسلم، وثقه أحمد ويحيى وعليّ وغيرهم (¬1)، فالإسناد جَيّد، وفي كتاب "العلل" للترمذي (¬2): ثنا محمد بن يحيى: ثنا مُعلَّى (¬3) بن منصور، عن عبد اللَّه بن جعفر المَخْرَمي (¬4)، عن عثمان بن محمد الأخنس (¬5)، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن المحلل والمحلل له" (¬6) قال الترمذي: سألت أبا عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وعبد اللَّه بن جعفر المخرمي (4) صدوق، وعثمان بن محمد الأخنس (5) ثقة، وكنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا إسناد جيد (¬7). وأما حديث جابر بن عبد اللَّه ففي "جامع الترمذي" من حديث مُجالِد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن المحلل والمحلل له" (¬8) ومجالد وإن كان غيره أقوى منه فحديثه شاهد ومقوّ. [المحلِّل تيسٌ مستعار] وأما حديث عقبة بن عامر ففي "سنن ابن ماجه" عنه، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) أما توثيق أحمد، فروى عنه ابنه صالح في "مسائله" (رقم 1552): "ليس بحديثه بأس" وقال أبو طالب عنه: "ثقة" نقله عنهما ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (5/ 22) والمزي في "تهذيب الكمال" (14/ 374) وقال أبو عبيد الآجري: "سئل أبو داود عنه، فقال: سمعت أحمد يثبته". وأما توثيق يحيى، فقال الدارمي في "تاريخه" (588) عنه: "ثقة" وقال ابن محرز في "سؤالاته" (301) له: "ليس به بأس" وقال ابن أبي خيثمة عنه: "ليس به بأس صدوق وليس بثبت" كذا في "الجرح والتعديل" (5/ 22) و"تهذيب الكمال" (14/ 374). وأما توثيق علي بن المديني. فنقله ابن حجر في "التهذيب" (5/ 171). (¬2) "العلل الكبير" (1/ 437). (¬3) في (ق): "يعلى". (¬4) انظر الحاشية رقم (3) في الصفحة السابقة. (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "الأخنسي" وهو عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي الأخنسي. (¬6) هو مخرّج في الذي قبله. (¬7) انظر كتاب: "بيان الدليل على إبطال التحليل" لشيخ الإسلام (ص 396 - تحقيق د فيحان المطيري). (¬8) تقدم تخريجه تحت حديث عليٍّ -رضي اللَّه عنه-.

[علل هذا الحديث]

"ألا أخبركم بالتَّيس المُستعار؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: هو المُحلِّل، لعن اللَّه المُحلِّل والمحلَّل له" (¬1)، رواه الحاكم في "صحيحه" من حديث الليث بن سعد، عن مِشْرَح بن هاعان (¬2)، عن عقبة بن عامر، فذكره. [علل هذا الحديث] وقد أعل هذا الحديث بثلاث علل: إحداها: أن أبا حاتم البُستي ضعف مِشْرَح بن هاعان (¬3). والعلة الثانية: ما حكاه الترمذي في "كتاب العلل" (¬4) عن البخاري فقال: "سألت أبا عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث عبد اللَّه بن صالح: حدثني الليث، عن مِشْرَح بن هاعان (¬5)، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا أخبركم بالتيس المستعار، هو المحلل [والمحلل له] (¬6)، ولعن اللَّه المحلل والمحلل له" فقال: عبد اللَّه بن صالح لم يكن أخرجه في أيامنا، ما أرى الليث سمعه من مِشْرَح بن هاعان (5)؛ لأن حَيْوة يروي عن بكر بن عمرو (¬7) عن مشرح. والعلة الثالثة: ما ذكرها الجوزجاني (¬8) في "مترجمه" (¬9) فقال: كانوا ينكرون على عثمان هذا (¬10) الحديث إنكارًا شديدًا (¬11). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه قريبًا. (¬2) في المطبوع، و (ن): "بن عاهان"!، والصواب ما أثبتناه. (¬3) بقوله في "المجروحين" (3/ 28): "والصواب في أمره ترك ما انفرد من الرويات والإعتبار بما وافق الثقات"، وفي (ق): "أحدها، بن عاهان". (¬4) رقم (164)، وفي (ق): "حكاها". (¬5) في المطبوع، و (ن) و (ق): "بن عاهان"!، وصوابه ما أثبتناه. (¬6) ما بين المعقوفتين مضروب عليها في (ق). (¬7) في (و): "عمر". (¬8) "نسبة إلى جوزجانان أو جوزجان، وهما واحد اسم كورة بين مرور الرول وبلخ، ويقال لقصبتها: اليهودية" (و). (¬9) كذا في (ن) فقط وهو الصواب، وتقدم تعريف المصنف به، وفي سائر النسخ: "ترجمته"!! (¬10) في (ك): "في هذا". (¬11) نقله ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 398).

[الرد على العلل]

[الرّد على العلل] فأما العلة الأولى فقال محمد بن عبد الواحد المقدسي (¬1): "مِشْرَح قد وثَّقه يحيى بن معين في رواية عثمان بن سعيد (¬2)، وابن مَعِين أعلم بالرجال من ابن حبَّان" قلت: وهو صدوق عند الحفاظ، لم يتهمه أحد البتة، ولا أطلق عليه أحد من أهل الحديث قط أنه ضعيف، ولا ضعفه ابنُ حبَّان، وإنما قال (¬3): يروي عن عقبة بن عامر مناكير لا يتابع عليها؛ فالصواب تَرْكُ ما انفرد به، وانفرد ابن حبان من بين أهل الحديث بهذا القول فيه. وأما العلة الثانية؛ فعبد اللَّه بن صالح قد صرّح بأنه سمعه من الليث، وكونُه لم يخرجه وقت اجتماع البخاري به لا يضره شيئًا؛ وأما قوله: "إن حيوة يروي (¬4) عن بكر بن عمرو (¬5) عن مِشْرَح" فإنه يريد به أن حيوة (¬6) من أقران الليث أو أكبر منه، وإنما روى عن بكر بن عمرو عن مِشْرَح، وهذا تعليل قوي، ويؤكده أن الليث قال: "قال مِشْرَح" ولم يقل: حدثنا، وليس بلازم؛ فإن الليث كان معاصرًا لِمشْرح وهو في بلده، وطلبُ اللَّيث العلمَ (¬7) وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مِشْرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد. وأما التعليل الثالث فقال شيخ الإسلام: "إنكار مَنْ أنكر هذا الحديث على عثمان (¬8) غيرُ جيدٍ، وإنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظَنِّهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث، كما قد يتوهم بعضُ مَنْ يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل مَنْ ليس بالمشهور مِنْ أصحابه كان ¬

_ (¬1) في كتابه: "الكمال"، وهو غير مطبوع وطبع "تهذيب الكمال"، وترجمة مشرح فيه (28/ 7 رقم 5974). (¬2) انظر: "تاريخ عثمان بن سعيد" (رقم 755) وقال عئمان عقب توثيق ابن معين: "ومشرح ليس بذاك، وهو صدوق". (¬3) في "المجروحين" (3/ 28)، وذكره في "الثقات" (5/ 452) وقال: "يخطئ ويخالف" وفي المطبوع: "يقال"! (¬4) في (ق) و (ك): "روى". (¬5) في (و): "عمر"، وبعدها في (ن) و (ك): "بن شريح المصري". (¬6) في (ق) و (ك): "أن حيوة بن شريح المصري". (¬7) في (و): "فطلب الليث العلم"، وفي (ن) و (ق): "وطلب الليث للعلم". (¬8) هو ابن صالح المصري يرويه عن الليث عن مشرح عن عقبة رفعه، ومضت روايته ورواية من تابعه (أبو صالح كاتب الليث).

ذلك شذوذًا فيه وعلة قادحة، وهذا لا يتوجه هاهنا لوجهين: أحدهما: أنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتبُ الليث عنه، روِّيناه [عنه] (¬1) من حديث أبي بكر القَطِيعي [أحمد بن جعفر بن حمدان قال] (1): ثنا جعفر بن محمد الفِرْيابي (¬2) حدثني العباس المعروف بأبي فريق [قال] (1): ثنا أبو صالح: حدثني الليث به، فذكره، ورواه أيضًا الدارقطني في "سننه": ثنا أبو بكر الشافعي [قال] (1): ثنا إبراهيم بن الهَيْثم: أخبرنا أبو صالح، فذكره. الثاني: أن عثمان بن صالح هذا المصري [ثقة] (¬3) روى عنه البخاري في "صحيحه"، وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي، وقال (¬4): هو شيخ صالح سليم [التأدية] (¬5)، قيل له: كان يُلَقَّن؟ قال: لا. ومَنْ (¬6) كان بهذه المثابة كان ما ينفرد به حجة، وإنما الشاذ (¬7) ما خالف به الثقات، لا ما انفرد به عنهم، فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثًا عنه؟ وهو ثقة أيضًا، وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط، ومِشْرَح بن هاعان (¬8)، قال فيه ابن معين (¬9): ثقة، وقال فيه الإمام أحمد (¬10): هو معروف؛ فثبت أن هذا [الحديث] (¬11) حديث جيّد وإسناده حسن" (¬12) انتهى. وقال الشافعي: ليس الشاذ أن ينفرد الثقة عن الناس بحديثٍ، إنما الشاذ أن يخالف ما رواه الثقات (¬13). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من كتاب: "بيان الدليل على بطلان التحليل". (¬2) في (ق): "محمد بن جعفر" أشار في الهامش أنه في نسخة: "جعفر بن محمد". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام" المطبوعة والخطية "نفسه" والمثبت من "بيان الدليل". (¬4) في "الجرح والتعديل" (6/ 154 رقم 846) وانظر: "تهذيب الكمال" (19/ 391 - 393). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "الناحية". (¬6) في "بيان الدليل": "وهن"! (¬7) في "بيان الدليل": "وإنما أشاذ"! (¬8) في المطبوع و (ن) و (ق): "عاهان"، والصواب ما أثبتناه كما في "بيان الدليل"، وكتب الرجال. (¬9) وثقه في رواية عثمان بن سعيد الدارمي في "تاريخه" (رقم 755) وانظر: "الجرح والتعديل" (8/ 432). (¬10) قاله في رواية حرب بن إسماعيل عنه، كما في "الجرح والتعديل" (8/ 432) و"تهذيب الكمال" (28/ 8). (¬11) ما بين المعقوفتين من "الإعلام" فقط. (¬12) انظر كلام شيخ الإسلام بطوله في: "بيان الدليل على بطلان التحليل" (ص 398 - 399 - تحقيق: د فيحان المطيري). (¬13) انظر قول الشافعي -رحمه اللَّه- في "آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم (233، 234، 235)، "المقنع" (1/ 165) لابن الملقن، "الإرشاد" (1/ 176) "معرفة علوم الحديث" (119).

[حديث ابن عباس في لعن المحلل]

[حديث ابن عباس في لعن المحلل] وأما حديث عبد اللَّه بن عباس فرواه ابن ماجه في "سننه" عنه قال: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المحلل والمحلل له" (¬1) وفي إسناده زمعة بن صالح (¬2)، وقد ضعَّفه قوم، ووثقه آخرون، وأخرج له مسلم في "صحيحه" مقرونًا بآخر، وعن ابن معين (¬3) فيه روايتان. [حديث ابن عمر في المحلِّل] وأما حديث عبد اللَّه بن عمر ففي "صحيح الحاكم" من حديث ابن أبي مريم: حدثنا أبو غسَّان، عن عمر (¬4) بن نافع، عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة بينهم (¬5) ليحلّها لأخيه: هل تحلُّ للأول؟ قال: لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سِفَاحًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (1934) في (النكاح): باب المحلل والمحلل له من طريق زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عنه به. قال البوصيري (2/ 102): وهذا إسناد ضعيف لضعف زمعة بن صالح الجندي في سلمة. وعزاه لأبي يعلى في "مسنده"، ولم أجده في المطبوع، ولا في "زوائد الهيثمي". والحديث ضعفه الحافظ في "التلخيص" (3/ 170)، وضعفه شيخنا الألباني في "الإرواء" (6/ 309) بسلمة بن وهرام كذلك، وسلمة هذا صدوق! لا بأس بحديثه. وانظر شواهده المتقدمة. (¬2) انظر له: "تهذيب الكمال" (9/ 386)، والتعليق عليه. (¬3) قال في رواية ابن طهمان (62): "ضعيف" وكذا في رواية الدوري (2/ 174) وقال مرة أخرى: صويلح الحديث. انظر: "تهذيب الكمال" (9/ 388). (¬4) في المطبوع و (ك): "عمرو" بفتح العين، والصواب ضمها، كما في كتب الرجال، ومصادر التخريج، وانظر: "إتحاف المهرة" (9/ 254). (¬5) في المطبوع: "بينه". (¬6) رواه الحاكم (2/ 199)، ومن طريقه البيهقي (7/ 208) من طريق ابن أبي مريم به. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وابن تيمية في "بيان الدليل" (479) ورواه الطبراني في "الأوسط" (6246) من طريق محمد بن فليح، وابن حزم في "المحلى" (10/ 181) من طريق وكيع كلاهما عن محمد بن طريف أبي غسان به. وقال الهيثمي في "المجمع" (4/ 267): ورجاله رجال الصحيح.

فصل [عن التيس المستعار]

قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال سعيد في "سننه": حدثنا محمد بن نشيط البصري قال: قال بكر بن عبد اللَّه المُزَنيّ: لُعن المحلل والمحلل له، وكان يسمى في الجاهلية التيس المستعار (¬1). وعن الحسن البصري قال: كان المسلمون يقولون: هذا التيس المستعار (¬2). فصل [عن التيس المستعار] فَسَلْ هذا التيسَ: هل دخل في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] وهل دخلَ في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وهل دخلَ في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنِ استطاع منكم الباءة (¬3) فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر وأحْصَنُ للفرج" (¬4)، وهل دخلَ في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تزوجوا الوَدُودَ الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" (¬5)، وهل دخلَ في ¬

_ (¬1) رواه في "سننه" (1998): حدثنا محمد بن (بسيط، كذا في المطبوع، وصوابه نشيط) به. ومحمد بن نشيط هذا عامري ترجمه البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا. (¬2) ظاهره أنه في "سنن سعيد بن منصور" وليس هو فيه، وقد ذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 182) دون إسناد. (¬3) قال (و): ". . . والباءة يطلق على الجماع والعقد، ويصح كلاهما في الحديث بتقدير المضاف، أي مؤنته وأسبابه، ويمكن أن يراد بها المؤنة والأسباب؛ إطلاقًا للاسم على ما لا يلزم مسماه" اهـ. (¬4) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الصوم): باب الصوم لمن خاف على نفسه العُزبة (4/ 119 / رقم 1905)، و (كتاب النكاح): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج" (9/ 106/ رقم 5065)، وباب من لم يستطع الباءة فليصم (9/ 112/ رقم 5066)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب النكاح): باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه ووجد مؤونة (2/ 1018/ رقم 1400) عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-. (¬5) ورد من حديث أنس بن مالك: رواه أحمد (3/ 158 و 245)، وسعيد بن منصور في "سننه" (490)، وابن حبان (4028)، والبزار (2/ 148 - 149 - زوائده)، والطبراني في "الأوسط" (5099)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 81 - 82) من طريق خلف بن خليفة عن حفص ابن أخي أنس بن مالك عن أنس به مرفوعًا.=

قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أربع من سنن المرسلين: النكاح، والتعطّر، والخِتَان (¬1)، وذكر الرابعة" (¬2)، وهل دخلَ في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "النكاح سنّتي؛ فمن رَغِبَ عن سنَّتي فليس ¬

_ = وعزاه الهيثمي في "المجمع" (4/ 252 و 258) للطبراني في "الأوسط"، وحسَّن إسناده. أقول: خلف هذا اختلط في آخر عمره قال ابن حجر: "صدوق اختلط في الآخر، وادعى أنه رأى عمرو بن حُريث الصحابي، فأنكر عليه ذلك ابن عيينة وأحمد". وله طريق آخر واه عن أنس عند أبي نعيم في "الحلية" (4/ 219). وله شاهد من حديث معقل بن يسار. رواه أبو داود (2050) في (النكاح): باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، والنسائي (6/ 65 - 66) في (النكاح): باب كراهية تزوج العقيم، وابن حبان (4056 و 4057)، والطبراني في "الكبير" (20/ 508)، والمحاملي (393 - رواية ابن البيع) والحاكم (2/ 162)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 62)، والبيهقي (7/ 81)، وإسناده جَيِّد، وانظر: "رفع الجُناح، وخفض الجَناح" لعلي القاري (رقم 3 - بتحقيقي). (¬1) في هامش (ق): "لعله: الحياء"!! وقال المصنف في "المنار المنيف" (رقم 295): "وسمعت شيخنا أبا الحجاج المزي يقول: -أي عن (الحناء) - هذا غلط من بعض الرواة، وإنما هو الختان بالنون، كذلك رواه المحاملي عن شيخه الترمذي، قال: والظاهر أن اللفظة وقعت في آخر السطر فسقطت منها النون، فرواها بعضهم: "الحناء" وبعضهم: "الحياء" وإنما هو "الختان" ونحوه في "زاد المعاد" (4/ 252 - ط الرسالة). (¬2) رواه أحمد (5/ 421)، وعبد بن حميد (220)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 197) من طريق يزيد بن هارون، وهناد في "الزهد" (1348) حدثنا أبو معاوية، وأحمد (5/ 421) عن محمد بن يزيد، وعبد الرزاق (15390) من طريق يحيى بن العلاء جميعهم عن حجاج عن مكحول قال: قال أبو أيوب، وحجاج هو ابن أرطاة، وهو مدلس، ومكحول لم يسمع من أبي أيوب. ورواه الترمذي (1080)، والطبراني في "الكبير" (4085)، و"مسند الشاميين" (رقم 3590) والمحاملي في "أماليه" (444) والبيهقي في "الشعب" (6/ 137 رقم 7719) من طريق حفص بن غياث، وعباد بن العوام عن الحجاج عن مكحول عن أبي الشمال بن ضباب عن أبي أيوب. وصرح الحجاج عند المحاملي بالسماع، وأبو الشمال هذا قال فيه أبو زرعة: لا يعرف إلا بهذا الحديث. فهو مجهول. وقد ذكر الترمذي هذا الاختلاف في الحديث ثم رجح طريق حفص بن غياث، وعباد بن العوام بذكر أبي الشمال، ثم قال: حسن غريب؟! مع أن أبا الشمال مجهول كما ذكرت، وعزا الدارقطني في "علله" (6/ 123) هذا الاختلاف في الحديث لحجاج بن أرطاة؛ لأنه كثير الوهم. قال (و): ". . . والرابعة: السواك". =

منّي" (¬1)، وهل دخلَ في قول ابن عباس: خير هذه الأمة أكْثَرُهَا نساء (¬2)؟ وهل له نصيبٌ من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاثة (¬3) حق على اللَّه عَوْنُهم: النَّاكحُ يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء" (¬4) وذكر الثالث، أم حقٌ على اللَّه لعنته تصديقًا لرسوله فيما أخبر عنه؟ وسَلْه: هل يلعن اللَّه ورسوله من يفعل مستحبًا أو جائزًا أو مكروهًا أو صغيرة، أم لعنته مختصة بمن ارتكب كبيرة أو ما هو أعظم منها؟ ¬

_ = وقد حسّنه السيوطي أيضًا في "الجامع الصغير"، واستدرك عليه المناوي في "شرحه"، ونقل تضعيفه عن ابن محمود شارح أبي داود، وابن العربي. وقد اختلف في ضبط "الحياء"، أو "الختان" أو "الحنَّاء"، وقد تكلم عليها النووي في "المجموع" (1/ 274 - 275)، والسيوطي في "التطريف" (ص 48)، والمناوي في "فيض القدير" (1/ 466) والمباركفوري في "تحفة الأحوذي" (4/ 166). فانظره. وللحديث شواهد ذكرها شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (1/ 117 - 118)، ولكنها شديدة الضعف، وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 66). والرابع هو السواك. (¬1) بهذا اللفظ: رواه ابن ماجه (1846) في (النكاح): باب فضل النكاح، من حديث عائشة. قال البوصيري (1/ 323): هذا إسناد ضعيف لضعف عيسى بن ميمون المديني، لكن له شاهد صحيح. وشاهده هو في حديث الثلاثة النفر فقال: "وأتزوج فمن رغب عن سنتي فليس مني" رواه البخاري (5063)، ومسلم (1401)، من حديث أنس بن مالك. (¬2) رواه البخاري (5069) في (النكاح): باب كثرة النساء. قال (طـ): "هذا القول من ابن عباس -رضي اللَّه عنه- كان يوافق زمانه وبيئته، أما في هذا العصر: عصر الحضارة المعقدة، فلا أرى خيرًا في التعدد -بدون سبب- وهذا ما يجب أن تتغير فيه المفاهيم بتغير الزمان والمكان!! إلخ" اهـ. قلت: وفي كلامه نظر ظاهر فتأمل! (¬3) قال (و): "الثالث: المجاهد في سبيل اللَّه. . . ". (¬4) رواه عبد الرزاق (9542)، وأحمد (2/ 251 و 437)، والترمذي (1655) في (فضائل الجهاد): باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب وعون اللَّه إياهم، والنسائي (6/ 61) في (النكاح): باب معونة اللَّه الناكح الذي يريد العفاف، وابن ماجه في (العتق) (2518) باب المكاتب، وابن حبان (4030)، والحاكم (2/ 160 و 217)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 388)، والبيهقي (7/ 78 و 10/ 318) من طريق ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا به. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي!! أقول: محمد بن عجلان روى له مسلم متابعة فقط، وعلَّق له البخاري، وحديثه حسن.

[تعريف الكبيرة]

[تعريف الكبيرة] كما قال ابن عباس: كلُّ ذنبٍ ختم بلعنة أو غضب أو عذاب أو نار فهو كبيرة (¬1). [عودٌ إلى تحريم المحلِّل] وسَلْه: هل كان (¬2) في الصحابة محلِّل واحدٌ أو أقرَّ رجلٌ منهم على التحليل؟ وسَلْه لأيِّ شيء قال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما (¬3)، وسَلْه: كيف تكون المتعة حرامًا نصًا مع أن المُسْتَمتع له غرض في نكاح الزوجة إلى وقت لكن لما كان غير داخل على النكاح المؤبد كان مرتكبًا للمحرم؟ فكيف يكون نكاح المحلِّل الذي إنما قَصْدُه أن يمسكَها ساعةً من زمان أو دونها، ولا غَرَضَ له في النكاح ألبتَّة؟ بل قد شَرط انقطاعَه وزوالَه إذا أخبثها بالتحليل، فكيف يجتمعُ في عقلٍ أو شرع تحليلُ هذا وتحريمُ المتعة؟ هذا مع أنَّ المتعةَ أبيحت في أولِ الإسلام، وفَعَلَهَا الصحابةُ، وأفتى بها بعضُهم بعد موت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، ونكاحُ المحلِّل لم يُبَحْ في ملة من المللِ قط ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم؟ وليس الغرض بيان تحريم هذا العقد وبطلانه وذكر مفاسده وشره، فإنه يستدعي سِفْرًا ضخمًا نختصر فيه الكلام. ¬

_ (¬1) رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره" (9212) من طريق المثنى، والبيهقي في "شُعب الإيمان" (290) من طريق عثمان الدارمي كلاهما عن عبد اللَّه بن صالح: حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة عنه. ومعاوية هو ابن صالح الحضرمي، وثقه أحمد، وابن مهدي، وأبو زرعة، وقال ابن معين: ليس برضا، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، حسن الحديث يكتب حديثه، ولا يحتج به. وعلي لم يسمع ابن عباس بينهما مجاهد. (¬2) في (ك): "أكان". (¬3) رواه عبد الرزاق (10777)، وابن أبي شيبة (3/ 391) في "مصنفيهما"، وسعيد بن منصور في "سننه" (1992)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 208) من طرق عن الأعمش، وابن حزم في "المحلى" (10/ 181) من طريق سفيان الثوري كلاهما عن المسيب بن رافع عن قبيصة بن جابر عنه، وإسناده على شرط الشيخين، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 480): "وهو مشهور محفوظ عن عمر، رووه بالأسانيد الثابتة". (¬4) تقدم بيان ذلك مع تخريجه.

[المقصود بيان شأن التحليل عند الله ورسوله]

[المقصود بيان شأن التحليل عند اللَّه ورسوله] وإنما المقصود أن هذا شأن التحليل عند اللَّه ورسوله وأصحاب رسوله، فالزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جَمَعُوها ليكُفُّوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به (¬1)، وأنه لا سبيل إلى عَوْدِها بالتحليل، فلما (¬2) تغيَّر الزمانُ، وبَعُدَ العهدُ بالسنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس؛ فالواجب أن يُرَدَّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخليفته من الإفتاء بما يعطِّل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها، هاذا عرض على مَنْ وفَّقَه اللَّه وبَصَّرَه بالهدى ووفَقَّهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووَازَنَ بينهما تبين له التفاوتُ، وعلم أيُّ (¬3) المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين. فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك، وقد أُهديت -إنْ قبلتها- إليك، وما أظن عَمَى التقليد [إلا] (¬4) يزيد الأمر على ما هو عليه، ولا تدع التوفيق (¬5) يقودك اختيارًا إليه، وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة تُطلع العالم على ما وراءها، [وباللَّه التوفيق] (4). فصل فقد (¬6) تبين لك (¬7) أمر مسألة من المسائل التي تمنع التحليل، أفتى بها المفتي، وقد قال بها بعضُ أهل العلم؛ فهي خير من التحليل، حتى لو أفتى المفتي بحلِّها بمجرد العقد من غير وَطْء لكان أعْذَرَ عند اللَّه من أصحاب التحليل، وإن اشترك كل منهما (¬8) في مخالفة النص؛ فإن النصوص المانعة من التحليل المصرحة بلعن فاعله كثيرة جدًا، والصحابة والسلف مجمعون عليها، والنصوص المشترطة للدخول لا تبلغ مبلغها، وقد اختلف فيها التابعون؛ فمخالفتها أسهل من مخالفة أحاديث التحليل، والحق مُوَافقة جميع النصوص، وأن لا يترك منها شيء، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (و): "لمَّا" بحذف الفاء. (¬3) في (و): "أنَّ". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) نقلها يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث" (ص 76) عن المصنف: "ولا يعود يدع التوفيق". (¬6) في (و): "قد" بدون الفاء. (¬7) زاد في (ك): "أن"، وفي (ق): "أن" بدل "لك". (¬8) في (ق) و (ك): "كل منها".

[يمتنع معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر في هذه الأزمنة]

وتأمل كيف كان الأمر على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعهد أبي بكر الصديق من كون الثلاث واحدة والتحليل ممنوع منه، ثم صار في بقية خلافة عمر الثلاثُ ثلاثٌ والتحليلُ ممنوعٌ منه، وعمر من أشد الصحابة فيه، وكلهم على مثل قوله فيه. [يمتنع معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر في هذه الأزمنة] ثم صار في هذه الأزمنة التحليل كثيرًا مشهورًا والثلاث ثلاثًا. وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين: أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جَمْعَ الثلاث حرام، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يُعَاقَب مَنْ لم يرتكب محرمًا عند نفسه؟ الثاني: أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودًا على عهد الصحابة، والعقوبة إذا تضمنت مَفْسَدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحبَّ إلى اللَّه ورسوله، ولو فرضنا أن التحليل مما أباحته الشريعة -ومَعَاذ اللَّه- لكان المنع منه إذا وصل إلى هذا الحد الذي قد تفاحش قبحه من باب سَدِّ الذَّرَائع، وتعيَّنَ على المفتين والقُضَاة المنعُ منه جملة، وإنْ فرض أن بعض أفراده جائز؛ إذ لا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أوْلى من الرجوع إلى التحليل، واللَّه الموفق (¬1). فصل [موجبات الأيمان والأقارير والنذور] المثال الثامن: مما تتغيّر (¬2) به الفتوى لتغير العرف والعادة: موجبات الأيْمَانِ والإقرار والنذور وغيرها؛ فمن ذلك أن الحالف إذا حَلَفَ "لا ركبتُ دابة" وكان في بلدٍ عرفُهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل، وإن كان عرفُهم في لفظ الدابة الفَرَس خاصة حُملت يمينه ¬

_ (¬1) نقل يوسف بن عبد الهادي في "سير الحاث" (ص 69 - 77) كلام المصنف عن (المحلل) وعزاه لكتابنا هذا. (¬2) في (و): "يتغير".

عليها دون الحمار، وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومَنْ جَرَى مَجْرَاهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب؛ فيُفتى في كل بلد بحسب عُرْف أهله، ويُفتي كل أحد بحسب عادته (¬1)، وكذلك إذا حلف: "أكلت رأسًا" في بلدٍ عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل [رؤوس] (¬2) السمك حنث بأكل رؤوسها، وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك، وعادتُه أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حَنَث قطعًا بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفسُ ما حلف عليه، وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس فإنْ قَصَدَ منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل، وإن قصد عدمَ الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل، وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبسَاطها (¬3) وما هَيَّجَهَا، وعلى هذا إذا أقر المَلِكُ أو أغنى أهل البلد [لرجل] (¬4) بمال كثير لم يُقْبَلْ تفسيرُه بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتموَّل [به] (¬5)، فإن أقَرَّ به فقير يعد عنده الدرهم والرغيف كثيرًا قبل منه، وعلى هذا إذا قيل له: جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة، فقال: ليس كذلك، بل هما حرَّان لا أعلم عليهما فاحشة؛ فالحق المقطوع به أنهما لا يُعتقان بذلك، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين اللَّه تعالى؛ فإنه لم يرد ذلك قطعًا، واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحًا في العتق ولا ظاهرًا فيه، بل ولا محتملًا له، فإخراجُ عبدِه أو أمته عن ملكه بذلك غيرُ جائزٍ (¬6)، ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا أنه قال لامرأته: إن أذنْتُ لك في الخروج إلى الحمَّام فأنت طالق، فتهيأت للخروج إلى الحمام، فقال لها: أخرجي وأبصري، فاستفتى بعض الناس، فأفتوه بأنها قد طلقت منه، فقال للمفتي: بأي شيء أوقعت عليّ الطلاق؟ قال: بقولك لها أخرجي، فقال: إني لم أقل لها ذلك إذنًا، وإنما قلته تهديدًا، أي: إنّكِ لا يمكنكِ الخروج، وهذا ¬

_ (¬1) انظر في وجوب مراعاة القاضي العرف في قضاءه ما سيأتي (3/ 470)، فإنه مهم. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق): "سباطها" وبينهما معنى مشترك، انظر "معجم مقاييس اللغة" (1/ 247، 3/ 128). (¬4) سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين من (و). (¬6) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 148)، و"تهذيب السنن" (5/ 424 - 425 و 6/ 339).

كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، فهل هذا إذْنٌ لهم أن يعملوا ما شاءوا؟ فقال: لا أدري، أنت لفظتَ بالإذنِ، فقال له: ما أردت الإذن، فلم يَفْقَه المُفْتِي هذا، وغلظ حجابه عن إدراكه، وفرَّق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به اللَّه ورسوله (¬1) ولا أحد من أئمة الإسلام، وليت شعري هل يقول هذا المفتي: إن قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، إذْنٌ له في الكفر؟ وهؤلاء أبْعَدُ الناس عن الفَهْمِ عن اللَّه ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم، ومِنْ هذا إذا قال العبد لسيده، وقد استعمله في عمل يَشُقُّ عليه: أعتقني من هذا العمل، فقال: أعتقتك، ولم ينو إزالة ملكه عنه، لم يعتق بذلك، وكذلك إذا قال عن امرأته: هذه أختي، ونوى أختي في الدين، لم تحرم بذلك، ولم يكن مُظَاهِرًا، والصريح لم يكن موجبًا لحكمه لذاته، وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه؛ لجريان (¬2) اللفظ على لسانه اختيارًا؛ فإذا ظهر قَصْدُه بخلاف معناه لم يجز أن يُلْزَمَ بما لم يرده، ولا التزمه، ولا خطر بباله، بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف، واللَّه سبحانه وتعالى رَفَعَ المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مُكْرَهًا لما لم يقصد معناها ولا نواها، فكذلك (¬3) المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرهًا لا يلزمه شيء من ذلك؛ لعدم نيته وقصده، وأتى باللفظ الصريح؛ فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به، واللَّه تعالى رفع المؤاخذة عمَّن حدَّثَ نفسَه بأمر بغير تلفظٍ أو عمل، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه، ولا إرادة، ولهذا لا يكفر مَنْ جَرَى على لسانه لفظُ الكفر سَبْقًا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك (¬4)، كما في حديث الفرح الإلهِيِّ بتوبة العبد، وضرب مثل ذلك بمن فَقَدَ راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المُهْلكة، فأيس منها ثم وجدها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك "أخطأ من شدة الفرح" (¬5) ولم يؤاخذ بذلك. ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "بما لم يأذن اللَّه به ولا رسوله". (¬2) في (ك): "بجريان". (¬3) في (ق) و (ك): "ولا نواة، وكذلك". (¬4) في (و): "أو غير ذلك". (¬5) رواه البخاري (6309) في (الدعوات): باب التوبة، ومسلم (2747) في (التوبة): باب في الحض على التوبة، من حديث أنس بن مالك. وقد ورد عن جمع من الصحابة أغلبها في "الصحيحين".

[لا يؤاخذ الإنسان حين يخطئ من شدة الغضب]

[لا يؤاخذ الإنسان حين يخطئ من شدة الغضب] وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بذلك، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب، ولو (¬1) استجابه اللَّه تعالى لأهلكه وأهلك مَنْ يَدْعو عليه، ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده (¬2). [حكم الطلاق حال الغضب] ومن هذا رفعه -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم الطلاق عمن (¬3) طلق في إغلاق (¬4)، وقال الإمام أحمد في رواية حنبل: هو الغَضَب، وبذلك (¬5) فسَّره أبو داود، وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة المالكية ومُقَدَّم فقهاء أهل العراق منهم، وهي (¬6) عنده مِنْ لَغْو اليمين أيضًا، فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق، وحكاه شارح "أحكام عبد الحق" عنه، وهو ابن بزيزة الأندلسي، قال: وهذا قول عليّ (¬7) وابن عباس وغيرهما من الصحابة أن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم، وفي "سنن الدارقطني" بإسناد فيه لِين من حديث ابن عباس يرفعه: "لا يمين في غَضَبٍ، ولا عتاق فيما لا يملك" (¬8) وهو وإن لم يثبت رفعه ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "لو". (¬2) قاله مجاهد، وهو في "تفسيره" (1/ 292) وأسنده عنه ابن جرير (11/ 92) وابن أبي حاتم (6/ 1932 رقم 10255) وقال المصنف في "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" (ص 8): وفي "تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد. . . " وذكره. (¬3) في (ن) و (ق): "فيمن". (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) في المطبوع: "وكذلك". (¬6) في (ك): "وهو". (¬7) مضى تخريجه. (¬8) رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 16 و 159) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 136 رقم 2058 و 10/ 368 رقم 2422) - وابن عدي في "الكامل" (3/ 1110)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10933)، وفي "الأوسط" (رقم 2029) من طريق سليمان بن أبي سليمان عن يحيى بن أبي كثير عن الزهري عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا، وفيه زيادة، وليس عند الطبراني في "الكبير": ولا يمين في غضب. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 186): ورجال الكبير ثقات!! أقول: سليمان بن أبي سليمان هذا هو ابن داود اليمامي، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، أما ابن عدي في "الكامل" فجعلهما اثنين: =

فهو قول ابن عباس، وقد فسَّر الشافعي (¬1): "لا طلاق في إغلاق" بالغضب، وفسره به مسروق؛ فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل، كلهم فسروا الإغلاق بالغضب وهو من أحسن التفسير؛ لأن الغَضبَان قد أُغْلِقَ عليه بابُ القصد لشدة غضبه (¬2)، وهو كالمُكْره، بل الغضبان أولى بالإغلاق من المُكْرَه؛ لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر القليل الذي هو دونه، فهو قاصد حقيقة، ومن [ها] (¬3) هنا أوقع عليه الطلاقَ مَنْ أوقعه، وأما الغَضْبَان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون، فإن الغضب غُول العقل يغتاله [كما يغتاله] (¬4) الخمر، بل أشد، وهو شعبة من الجنون، ولا يشك فقيهُ النفسِ في أن هذا لا يقع طَلَاقُه؛ ولهذا قال حَبْر الأمة الذي دعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالفقه (¬5) في الدين: "إنما الطلاق عن وَطَر"، ذكره البخاري في ¬

_ = سليمان بن أبي سليمان، وسليمان بن داود، وقال في سليمان بن داود: وعامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد. وقال في سليمان بن أبي سليمان: في بعض رواياته عن يحيى بعض الإنكار مما لا يرويه عن يحى غيره، ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا من صدق أو ضعف (وذكر حديثنا في ترجمة هذا). ونقل الذهبي في "الميزان" عن ابن أبي حاتم أنه ضعَّفه. وهو في "الجرح والتعديل" (4/ 122)، وقال فيه: شيخ ضعيف، وقد فرّق ببنهما أيضًا ابن حبان، فذكر ابن داود في "الضعفاء"، وذكر ابن أبي سليمان في "الثقات"، وقال: ربما خالف. وفرّق بينهما أيضًا البخاري، ورد عليه الخطيب في "الموضح" (1/ 119). قال ابن حجر: ولم يأت بدليل، وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (3/ 555) و"الدر المنظوم" (رقم 262) و"تنقيح التحقيق" (9/ 135 و 10/ 367) للذهبي، و"لسان الميزان" (3/ 95 رقم 322)، وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3867، 4233) وعلى كل حال: فالحديث فيه لين، كما قال المصنف -رحمه اللَّه-. (¬1) "الأم" (5/ 184)، وانظر "مختصر البيهقي" (4/ 218). (¬2) في المطبوع و (ك): "بشدة غضبه". (¬3) ما بين المعقوفتين من (و) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬5) رواه البخاري (143) في (الوضوء): باب وضع الماء عند الخلاء، ومسلم (2477) في (فضائل الصحابة): باب فضائل عبد اللَّه بن عباس، من حديث ابن عباس بهذا اللفظ. ورواه البخاري (75 و 3756 و 7270) من حديثه أيضًا بلفظ: "اللهم علِّمه الكتاب". ورواه أحمد في "مسنده" (1/ 266 و 314 و 328 و 335)، وفي (فضائل الصحابة): (1856 و 1858 و 1882) من حديثه أيضًا بلفظ: "اللهم فقهه في الدين وعلِّمه التأويل".

[يمين اللغو بالله وبالطلاق]

"صحيحه" (¬1)، أي عن غَرَض من المطلِّقِ في وقوعه، وهذا من كمال فقهه -رضي اللَّه عنه- وإجابة اللَّه دعاء رسوله له، إذ (¬2) الألفاظ إنما يترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها (¬3). [يمين اللغو باللَّه وبالطلاق] ولهذا لم يؤاخذنا اللَّه باللَّغْو في أيماننا، ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة وجمهور السلف [أنه قول الحالف]: لا واللَّه، وبلى واللَّه، في عرض كلامه من غير عقد اليمين (¬4)، وكذلك لا يؤاخذ اللَّه باللغو في أيمان الطلاق، كقول الحالف في عرض كلامه: عليّ الطلاق لا أفعل، والطلاق يلزمني لا أفعل، من غير قصد لعقد اليمين، بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو فيمينُ الطلاقِ أولى ألا ينعقد ولا يكون أعظم حرمة من الحلف باللَّه، وهذا أحد القولين من مذهب أحمد، وهو الصواب (¬5)، وتخريجه على نص أحمد صحيحٌ؛ فإنه نَصَّ على اعتبار الاستثناء في يمين الطلاق أنها عنده يمين، ونص على أن اللغو أن يقول: لا واللَّه، وبلى واللَّه، من غير قصد لعقد اليمين، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه يَنْهَاكم أن تحلفوا بآبائكم" (¬6) وصح عنه أنه قال: "أفْلَحَ وأبيه إن صدق" (¬7) ولا تعارُض بينهما، ¬

_ (¬1) (كتاب الطلاق): باب الطلاق في الإغلاق والإكراه والسكران والمجنون (قبل رقم 5269)، وليس فيه قوله: "إنما". (¬2) في (د): "إذا"، والصواب ما أثبتناه كما في باقي النسخ و (ن). (¬3) للمصنف رسالة "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" توسع فيها عن المذكور هنا. (¬4) في (ك) و (ق): "عقد اليمين"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وقول عائشة رواه مالك في "الموطأ" (2/ 477)، والبخاري (6663) في (الأيمان والنذور): باب {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} وانظر: "تفسير ابن جرير" (10/ 526)، و"الدر المنثور" (2/ 312) و"مرويات عائشة في التفسير" (185). (¬5) انظر كلام ابن القيم عن اللغو في اليمين في "زاد المعاد" (4/ 39). (¬6) رواه البخاري (3836) في (مناقب الأنصار): باب أيام الجاهلية، و (6108) في (الأدب): باب من لم ير إكفار من قال ذلك متاولًا أو جاهلًا و (6646 و 6647 و 6648) في (الأيمان والنذور): باب لا تحلفوا بآبائكم، ومسلم (1646) في (الأيمان)؛ باب النهي عن الحلف بغير اللَّه، بعضهم يجعله عن ابن عمر، وبعضهم عن ابن عمر عن عمر. (¬7) رواه بهذا اللفظ مسلم (11) في (الإيمان)؛ باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام، من حديث طلحة بن عبيد اللَّه. وهو في "صحيح البخاري" (46 و 1891 و 2678 و 6956) لكن دون لفظة: "وأبيه" =

ولم يعقد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اليمين بغير اللَّه قط، وقد قال حمزة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، هل أنتم إلا عبيد لأبي (¬1)، وكان نَشْوانًا (¬2) من الخمر، فلم يكفّره بذلك، وكذلك الصحابي الذي قرأ: "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون" (¬3) وكان ذلك قبل ¬

_ = وانظر لها: "التمهيد" (14/ 366) و"مرويات الحلف" (ص 54 - 61). (ملاحظة): عزا ابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 168) الحديث بلفظة "وأبيه" للشيخين، وهو وهم، إذ هي من مفاريد مسلم، وهو على الصواب في "الفتح" (1/ 107 و 4/ 102 و 5/ 287 و 11/ 533). (¬1) رواه البخاري (2375) في (المساقاة): باب بيع الحطب والكلأ، و (3091) في (فرض الخمس أوله) و (4003) في (المغازي): باب رقم (12)، وعلَّقه في (الطلاق): باب (11)، ومسلم (1979) في (الأشربة): أوله وهو جزء من حديث طويل. (¬2) في (و): "نشوان"! (¬3) رواه عبد بن حميد في "مسنده" (82 - منتخب)، وأبو داود (3671) في (الأشربة): باب في تحريم الخمر، والترمذي (3026) في (التفسير): باب ومن سورة النساء، والنسائي في "سننه الكبرى" -كما في "تحفة الإشراف" (7/ 402) - والبزار في "مسنده" (598 - البحر الزخار)، والطبري في "تفسيره" (رقم 9524)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 307 و 4/ 142 و 142 - 143)، ومسدد -كما في "إتحاف المهرة" (4/ ق 70/ ب) - والبيهقي (1/ 389) وابن أبي حاتم في "تفسيره" -كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 512) - والخطيب في "الأسماء المبهمة" (381) من طرق عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السُّلمي عن علي، فذكر القصة في صلاة ذاك الصحابي. قال البزار: "وهذا لا نعرفه يُروى عن علي -رضي اللَّه عنه- متصل الإسناد إلا من حديث عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن، وإنما كان ذلك قبل أن تحرَّم الخمر، فحرمت من أجل ذلك" وقال البوصيري في "الإتحاف": "هذا إسناد رجاله ثقات". قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (5/ 259): "وقد اختلف في إسناده ومتنه، فأما الإختلاف في إسناده فرواه سفيان الثوري، وأبو جعفر الرازي عن عطاء مسندًا، ورواه سفيان بن عيينة، وإبراهيم بن طهمان، وداود بن الزبرقان، عن عطاء بن السائب فأرسلوه، وأما الاختلاف في متنه ففي كتاب أبي دواد والترمذي ما قدمناه (أي أن الذي صَلَّى علي)، وفي كتاب النسائي، وأبو جعفر النحاس أن المصلي بهم عبد الرحمن بن عوف، وفي كتاب أبي بكر البزار: أمروا رجلًا فصلى بهم ولم يسمه وفي حديث غيره: فتقدم بعض القوم". أقول: رواه أيضًا عن عطاء موصولًا عبد الرحمن بن مهدي، وغيره، وأما من ذكرهم المنذري ممن رواه عن عطاء موصلًا فلم أقف على رواية واحد منهم. نعم، وجدت الحاكم (14/ 142 - 143) يرويه من طريق خالد الطحان، عن عطاء عن أبي عبد الرحمن مرسلًا. ورواه الواحدي في "أسباب النزول" (ص 153) من طريق أبي عبد الرحمن الإفريقي عن عطاء به مرسلًا أيضًا. =

[التحذير من إهمال قصد المتكلم]

تحريم الخمر، ولم يُعدّ بذلك كافرًا، لعدم القَصْد وجَرَيَان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه (¬1). [التحذير من إهمال قصد المتكلم] فإياك أن تهمل قصد المتكلم (¬2) ونيته وعرفه، فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتُلزم الحالف والمُقِرَّ والناذر والعاقد ما لم يُلْزِمْهُ اللَّه ورسولهُ به، ففقيه النفس يقول: ما أردتَ، ونصف الفقيه يقول: ما قلتَ؛ فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال، وقد رفع اللَّه المؤاخذة بهذا وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فقال ربهم تبارك وتعالى: قد فعلتُ (¬3). فصل [اليمين بالطلاق وتعليق الطلاق على الشرط] ومن هذا الباب اليمينُ بالطلاق والعتاق، فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعِتْق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدًا. ¬

_ = ورواه الطبري (9525) من طريق حجاج بن منهال عن حماد عن عطاء عن عبد اللَّه بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف، وهذا مرسل أيضًا لكنَّ المُرْسِل آخر. أقول: عطاء بن السائب كان اختلط وقد روى عنه سفيان الثوري قبل الاختلاط، ولم يختلف أهل الجرح والتعديل في ذلك. لذلك قال الحاكم: هذه الأسانيد كلها صحيحة والحكم لحديث سفيان الثوري، فإنه أحفظ من كل من رواه عن عطاء بن السائب. وهذا الصواب إن شاء اللَّه تعالى. وأما الاختلاف في المتن فهذا لا يضر ما دام أن المتون اتفقت على أمر واحد، وهو صلاة ذاك الصحابي وهو شاربٌ للخمر، واللَّه أعلم. (¬1) في (ن): "مع غير قصد لمعناه". (¬2) في (ن): "قول المتكلم"! (¬3) رواه مسلم في "صحيحه" (126) في (الإيمان): باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، من حديث ابن عباس. وروى نحوه أيضًا (125) من حديث أبي هريرة.

[الطلاق بصيغة الشرط]

[الطلاق بصيغة الشرط] وإنما المحفوظُ إلزام الطلاقِ بصيغة الشرط والجزاء الذي قُصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في "صحيح البخاري" عن نافع قال: طَلَّقٌ رجلٌ امرأتَه البتة إن خَرَجَت، فقال ابن عمر: إنْ خَرجَتْ فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء (¬1)، فهذا لا ينازع فيه إلا مَنْ يمنع وقوع الطلاق المعلَّق بالشرط مطلقًا. [صور لوقوع الطلاق المعلَّق] وأما مَنْ يفصِلُ بين القَسَم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب؛ فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صُوَر، وصح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين، ولا يُؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها، فأما الوقوع فالمحفوظُ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر (¬2) وما رواه الثوري، عن الزبير بن عَدي، عن إبراهيم، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- في رجل قال لامرأته: إن فَعَلتْ كذا وكذا فهي طالق، ففعلته، قال: هي واحدة، وهو أحق بها (¬3)، على أنه منقطع، وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سَنَة، قال: يستمتع بها إلى سنة (¬4)، ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحَّت عليه في سؤاله عن ليلة ¬

_ (¬1) هو في "صحيح البخاري" معلقًا في (الطلاق): باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران. . . قبل حديث (5269)، ولم يذكر الحافظ ابن حجر له وَصْلًا، وإنما ذكر أن سعيد بن منصور روى بإسناد صحيح عن ابن عمر أنه قال: "في الخلية والبتة ثلاث ثلاث"، وهو فيه برقم (1679)، وكذا رواه البيهقي (7/ 344)، وابن أبي شيبة (4/ 50، 54)، ومالك في "الموطأ" (1/ 550). (¬2) هو الأثر السابق نفسه. (¬3) رواه البيهقي (7/ 356) من طريق الثوري به. وإبراهيم هو ابن يزيد النخعي لم يسمع من ابن مسعود. (¬4) ذكره البيهقي -كما قال المؤلف رحمه اللَّه- (7/ 356) عن ابن عباس، ولم يذكر له إسنادًا. ثم وجدت ابن أبي شيبة (4/ 23) يروي عن معتمر بن سليمان الرقي (في الأصل: معمر وهو خطأ) عن عبد اللَّه بن بشر عن ابن عباس قال: إلى الأجل أي المدة المؤقتة، وهذا إسناد حسن. وروى ابن حزم في "المحلى" (10/ 214) من طريق أبي عبيد عن يزيد بن هارون عن الجراح بن المنهال عن الحكم بن عتيبة عنه قال: من قال لامرأته: أنت طالق إلى رأس السنة أنه يطأها ما بينه وبين رأس السنة. =

[إلحاف أبي ذر في السؤال عن ليلة القدر وغضب النبي -صلى الله عليه وسلم-]

القدر، فقال: إن عُدْتِ سألتِني فأنتِ طالق (¬1). [إلحاف أبي ذر في السؤال عن ليلة القدر وغضب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] وهاهنا نكتة لطيفة يحسن التنبيه عليها، وهي أن أبا ذر سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ليلة القدر وألحَّ عليه، حتى قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في آخر مسائلته: "الْتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخر، ولا تسألني عن شيء بعد هذا" ثم حدَّث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحدَّث، قال: فاهْتَبَلْتُ غفلته فقلت: أقسمتُ عليك يا رسول اللَّه بحقّي عليك (¬2) لتحدثني في أي العشر هي، قال: فغضب عليَّ غضبًا ما غضب عليَّ من قبل ولا من بعد، ثم قال: "التمسوها في السبع الأواخر، ولا تسألني عن شيء بعد" (¬3)، ذكره النسائي والبيهقي. ¬

_ = وهذا إسناد ضعيف جدًا، الجراح هذا متروك والحكم لم يسمع من ابن عباس، انظر: "إتحاف المهرة" (7/ 49). (¬1) رواه الأثرم في "سننه". (¬2) قال (و): "ما كان لصحابي جليل كأبي ذر أن يقسم بمثل هذا الذي يخرج من الإيمان، ولهذا أرتاب في صحة الحديث"!! (¬3) رواه أحمد (5/ 171)، والنسائي في "الكبرى" (3427) في (الاعتكاف): باب ليلة القدر وابن خزيمة (2170)، والبزار (1036)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 85) والحاكم (1/ 437) والبيهقي (7/ 304)، وابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 213) من طريق عكرمة بن عمار، عن أبي زميل سماك الحنفي، عن مالك بن مرثد عن أبيه عن أبي ذر به، وهو عند النسائي مطولًا. ومرثد هذا لم يرو عنه سوى ابنه مالك، وثقه ابن حبان والعجلي!! وتوثيقهما للمجاهيل معروف لذلك قال الذهبي في "الميزان" (4/ 87): "فيه جهالة، ذكره العقيلي في "الضعفاء"، وقال: "لا يتابع على حديثه، هكذا وجدت بخطي فلا أدري من أين نقلته، إلا أنه ليس بالمعروف". وقال الحافظ في "التقريب": مقبول!! ورواه ابن أبي شيبة (2/ 487)، وابن خزيمة (2169)، والبزار (1035)، وابن حبان (3963)، وابن عبد البر (2/ 212) من طريق الأوزاعي عن مرثد بن أبي مرثد عن أبيه عن أبي ذر به. قال الحافظ في "التهذيب": مالك بن مرثد بن عبد اللَّه روى عن أبيه عن أبي ذر. . . روى عنه الأوزاعي فقال مرة: عن مرثد بن أبي مرثد، وقال مرة: عن ابن مرثد أو أبي مرثد. وقال ابن عبد البر: هكذا قال الأوزاعي: عن مرثد بن أبي مرثد، وهو خطأ، وإنما هو مالك بن مرثد عن أبيه ولم يقم الأوزاعي إسناد هذا الحديث، ولا ساقه سياقة أهل الحفظ له. =

[إلحاف امرأة أبي ذر عليه وإيعاده لها بالطلاق]

[إلحاف امرأة أبي ذر عليه وإيعاده لها بالطلاق] فأصاب أبا ذر من امرأته وإلحاحها عليه ما أوجب غضبه وقال: إن عُدْت سألتِني فأنتِ طالق. فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلَّق. [صور لم يقع فيها الحلف بالطلاق والعتاق] وأما الآثار عنهم في خلافه فصح عن عائشة، وابن عباس، وحَفْصَة، وأم سلمة فيمن حَلَفَتْ بأنَّ كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته، أنها تُكَفِّرُ عن يمينها [ولا تفرق بينهما] (¬1)، قال الأثرم في "سننه": ثنا عَارِم بن الفضل: ثنا مُعْتمر (¬2) بن سليمان قال: قال [لي] (¬3) أبي: ثنا بكر بن عبد اللَّه قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كلُّ مملوكٍ لها حر (¬4)، وكلُّ مال لها هَدْيٌ، وهي يهودية وهي نصرانية (¬5) إن لم تطلق امرأتَكَ أو تفرِّق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيتُ زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذُكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذُكرت زينب، قال: فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت: في البيت هاروت وماروت: فقالت: يا زينب، جعلني اللَّه فداك إنها قالت: إن كل مملوك لها حر (4) وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية (5)، فقالت: يهودية ونصرانية خلِّي (¬6) بين الرجل وامرأته، فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلَتْ إليها فأتتها فقالت: يا أم المؤمنين جعلني اللَّه فداك إنها قالت: كلُّ مملوك لها حر (4)، وكل مال لها هَدْي، وهي يهودية ونصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية، خلِّي (6) بين الرجل وامرأته، قالت: فأتيت عبد اللَّه بن عمر، فجاء معي إليها، فقام معي على ¬

_ = قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 177): رواه البزار، ومرثد هذا لم يرو عنه غير ابنه مالك، وبقية رجاله ثقات. ووجدت بعض حديث أبي ذر هذا في "مصنف عبد الرزاق" (7709) عن ابن جريج قال، حُدِّثتُ أن شيخًا من أهل المدينة سأل أبا ذر. . . وهذا فيه مجهول. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬2) في المطبوع: "معمر"! (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬4) في (ط) و (د) و (ك) و (ق): "محرر". (¬5) في (ك) و (ق): ونصرانية دون "هي". (¬6) في (د) و (ط) و (ح) و (ق): "وخلِّ" في المواضع الثلاثة.

الباب (¬1) فسلَّم، فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك! (¬2)، فقال: أَمِن حجارة أنت أم من حديد أنت أم (¬3) أي شيء أنت؟ أفتَتْكِ زينبُ وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما، فقالت: يا أبا عبد الرحمن جعلَني اللَّه فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هَدْي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقال: يهودية ونصرانية كَفِّرِي عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته (¬4). وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في "المترجم" له: ثنا صفوان بن صالح: ثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي قال: حدثني حسن بن الحسن، قال: حدثني بكر بن عبد اللَّه المزني قال: حدثني رُفيع قال: كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فحلفت بالهَدْي والعَتَاقة أن تفرق بيننا، فأتيت امرأة من أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرت لها ذلك، فأرسلت إليها أنْ كَفِّرِي عن يمينك، فأبَتْ، ثم أتيت زينب وأم سلمة، فذكرتُ ذلك لهما، فأرسلتا إليها (¬5) أن كفِّري عن يمينك، [فأبت] (¬6)، فأتيت ابن عمر، [فذكرت ذلك له، فأرسل إليها ابن عمر: أنْ كَفِّرِي عن يمينك، فأبت، فقام ابن عمر] (¬7) فأتاها فقال: أَرْسَلتْ إليك فلانة زوج (¬8) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وزينب أن تكفري عن يمينك فأبيت، قالت: يا أبا ¬

_ (¬1) في (ق): "فقام إلى الباب". (¬2) وقعت في (د)، و (ط): "زبيبي أنت وبيبي أبوك"، وفي (و)، و (ح): "بيبا وبيبا أبوك" وفي (ك) و (ق): "بينا أنت وبينا أبوك" وعلق (و) قائلًا: "لم أعثر عليها هكذا في المعاجم، ولعلها: "بأبي أنت، وأبوك" كما ورد في بعض روايات الحديث" اهـ. قلت: وهذه الرواية المشار إليها في "السنن الكبرى" للبيهقي، وما أثبتناه من "مصنف عبد الرزاق" ولعله الصواب. (¬3) زاد هنا في (ك) و (ق): "من". (¬4) رواه عبد الرزاق (16000) من طريق ابن التيمي عن أبيه عن بكر به، وابن التيمي هذا هو معتمر بن سليمان، ورواه البيهقي (10/ 66) من طريق يحيى بن سعيد عن سليمان التيمي به. وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات، وأبو رافع هو الصائغ: نفيع بن رافع أدرك الجاهلية، ووثقه غير واحد. ورواه عبد الرزاق (16001)، (16013)، والدارقطني (4/ 164) -ومن طريقه البيهقي (10/ 66) - من طريق أبان، وغالب عن بكر بن عبد اللَّه به. ووقع هنا في (ك) و (ق): "وبين امرأته". (¬5) في (و) و (ك): "زينب أو أم سلمة، فذكرت ذلك لها، فأرسلته إليها". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬8) في المطبوع: "زوجة".

عبد الرحمن إني حلفت بالهَدْي والعَتَاقة، قال: وإن كنتِ قد حلفتِ بهما (¬1). وقال الدارقطني: ثنا أبو بكر النيسابوري: ثنا محمد بن يحيى: [ثنا محمد بن] (¬2) عبد اللَّه الأنصاري: ثنا أشعث: ثنا بكر بن عبد اللَّه المُزَنيّ، عن أبي رافع أن مولاة له أرادت أن تفرِّق بينه وبين امرأته فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر [وكل مال لها في سبيل اللَّه، وعليها المشي إلى بيت اللَّه] إنْ لم تفرّق بينهما، فسألت عائشة [وابن عمر] وابن عباس وحفصة وأم سلمة -رضي اللَّه عنهم-، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكوني (¬3) مثل هاروت وماروت؟ فأمروها أن تكفِّر عن يمينها وتخلي بينهما (¬4). وقد رواه البيهقي من طريق الأنصاري: ثنا أشعث: ثنا بكر، عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرّق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل اللَّه وعليها المشي إلى بيت اللَّه إن لم تفرِّق بينهما، فسألت عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وحفصة، وأم سلمة، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكوني (3) مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلِّي بينهما (¬5). رواه روح (¬6) والأنصاري واللفظ له، وحديث روح مختصر، وقال النَّضر بن شُميل: ثنا أشعث، عن بكر بن عبد اللَّه، عن أبي ¬

_ (¬1) هذا إسناد رجاله كلهم ثقات غير الحسن بن الحسن فإني لم أتبين من هو، وكل من وقفت عليه بهذا الاسم لم أجد فيهم توثيقًا إلا لابن حبان فقط، وصفوان بن صالح كان يدلس تدليس التسوية. وسقطت من (ق) و (ك) كلمة: "بهما". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في سائر النسخ "بن"، وهو خطأ، وصوابه من مصادر التخريج. (¬3) كذا في مصادر التخريج، وفي نسخ "الإعلام": "تكْفُري"! (¬4) هو في "سنن الدارقطني" (4/ 163 - 164)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 66) و"الخلافيات" (3/ ق 298) وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات، محمد بن يحيى الذهلي الإمام، ومحمد بن عبد اللَّه هو ابن المثنى ثقة، من رجال الصحيح، وأشعث هو ابن عبد الملك الحُمْراني ثقة فقيه. وما بين المعقوفتين من مصادر التخريج، وسقط من نسخ "الإعلام". (¬5) هو نفس الإسناد السابق، رواه البيهقي (10/ 66) من طريق الدارقطني. (¬6) أورده البيهقي (10/ 66) عن روح بن عبادة ومحمد بن عبد اللَّه الأنصاري كلاهما عن أشعث به، وساقه باللفظ الذي عند المصنف، وقال: "لفظ حديث الأنصاري. وحديث روح مختصر ولم يذكر حفصة".

[قاعدة الإمام أحمد تفرض عليه الأخذ بهذا الأثر]

رافع، عن ابن عمر (¬1) وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا: تكفِّر يمينها (¬2). وقال يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي: ثنا بكر بن عبد اللَّه عن أبي رافع أن ليلى بنت العجماء مولاته قالت: هي يهودية، وهي نصرانية، وكل مملوك لها حر (¬3)، وكل مال لها هَدْي إن لم يطلِّق امرأته إن لم تفرق بينهما، فذكر القصة، وقال: فأتيت ابن عمر فجاء معي فقام بالباب، فلما سلَّم قالت: بأبي أنت وأبوك، فقال (¬4): أَمِن حجارة أنت أم من حديد؟ أتتك زينب وأرسلت إليك حفصة، قالت: قد حلفت بكذا وكذا، قال: كفِّري عن يمينك وخَلِّي بين الرجل وامرأته (¬5). فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعلَّ بها حديث ليلى هذا، وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق، كذا قال الإمام أحمد: "لم يقل: وكل مملوك لها حر إلا التيمي" وبرئ التيمي من عُهْدَة التفرد. [قاعدة الإمام أحمد تفرض عليه الأخذ بهذا الأثر] وقاعدة الإمام أحمد أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه (¬6)؛ فعلى أصله الذي بَنَى مذهبه عليه يلزمه القولُ بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته. ¬

_ (¬1) في (و): "عن أبي عمر"!. (¬2) هو في "سنن البيهقي" (10/ 66)، وإسناده صحيح. (¬3) عند البيهقي: "مملوك محرر"، وفي (ك): "مملوك لها محرر". (¬4) في (و): "قال"، وسقطت من (ق). (¬5) هو في "سنن البيهقي" (10/ 66)، وإسناده صحيح أيضًا رجاله كلهم ثقات، وفي (ق): "بين الرجل وبين امرأته". (¬6) هذا هو الأصل الثاني عند الإمام أحمد: أنه إذا لم يجد نصًا في المسألة وبلغه فتوى لصحابي لا يعلم له فيها مخالفًا منهم تمسك بها وأفتى بموجبها، ولا يقدم على آثار الصحابة عملًا لأهل قطر من أقطار المسلمين أو جماعة من العلماء، ولا رأيًا ولا قياسًا فكانت فتاواه بسبب ذلك أقرب ما تكون لفتاوى أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا اختلف الصحابة على قولين متعادلين عنده جاء عنه في المسألة روايتان، حتى إنه ليقدم فتاوى الصحابة على الحديث المرسل. فقد سئل الإمام أحمد: "حديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسل برجال ثبت أحبّ أو حديث عن الصحابة والتابعين متصل برجال ثبت؟ " قال: "عن الصحابة أعجب إليَّ". انظر: "المدخل" لابن بدران (ص 42).

[شبهة علة للأثر ودفعها]

[شبهة علّة للأثر ودفعها] فإن قيل: للحديث علة أخرى، وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به، وقد أشار إليها في رواية الأثرم، فقال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفتْ بكذا وكذا وكل مملوك لها حرٌّ، فأُفتيت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفْتَيا فيمن حلف بعتق جاريته وأَيمان فقال: أما الجارية فتُعتق. قلت: يريد [بهما] (¬1) ما رواه معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن أبي حَاضِر، قال: حلفتِ امرأة من آل ذي أصبح فقالت: مالُهَا في سبيل اللَّه وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا، لشيء يكرهه زوجها، فحلف زوجها أن لا تفعله، فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر، فقالا (¬2): أما الجارية فتعتق، وأما قولها: "مالي في سبيل اللَّه" فتتصدق بزكاة مالها (¬3)، فقيل: لا رَيْبَ أنه قد روي عن ابن عمر وابن عباس ذلك، ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان هذا، وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادًا وأصح من حديث عثمان، فإن رُوَاته حفاظ أئمة، وقد خالفوا عثمان، وأما ابنُ عباس فقد رُوي عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله، قال: يكفر يمينه (¬4)، وغاية هذا الأثر إنْ صَحَّ أن يكون عن ابن عمر روايتان، ولم يُختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة، قال أبو محمد بن حزم (¬5): "وصح عن عائشة (¬6) وأم سلمة أُمَّي المؤمنين وعن ابن عمر أنهم جعلوا (¬7) في قول ليلى بنت العجماء: "كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك" كَفارة يمين واحدة" (¬8). ¬

_ (¬1) سقطت من (ك) و (ق). (¬2) في (و): "فقال"!. (¬3) رواه عبد الرزاق (15998)، ومن طريقه البيهقي (10/ 68) عن معمر به. وهذا إسناد صحيح، رجال ثقات، وعثمان هو ابن حاضر الحميري، غَلَطَ فيه عبد الرزاق فقال: ابن أبي حاضر، وثقه أبو زرعة، وقال الحاكم: شيخ من أهل اليمن، مقبول صدوق، وأما ابن حزم فقال: مجهول؟! ولكنه خولف، كما بيّنه المصنف. قال البيهقي بعد روايته: كذا في هذه الرواية وقد روينا عن ابن عباس، وابن عمر ما دل على جواز التكفير. (¬4) ذكره ابن حزم في "المحلى" (8/ 8) عنه دون إسناد. (¬5) في "المحلى" (8/ 8). (¬6) في سائر النسخ: "وصح عن ابن عمر وعائشة"، وما أثبتناه من "المحلى". (¬7) في مطبوع "المحلى": "إنه جعل". (¬8) سبق تخريجه قريبًا.

في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه

فإذا صح هذا عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن حاضر (¬1) في قول الحالف: عَبْده حر إن فعل، أنه يجزيه كفارة يمين، وان لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى اللَّه تعالى فأن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى اللَّه أولى وأحرى، كيف وقد أفتى [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب [-عليه السلام-] الحالفَ بالطلاق أنه لا شيء عليه (¬2)، ولم يُعرف له في الصحابة مخالف؟ قال (¬3) عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التميمي المعروف بابن بزيزة في "شرحه لأحكام عبد الحق": الباب الثالث: في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلافَ العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمَشْي وغير ذلك، هل يلزم أم لا؟ فقال [أمير المؤمنين] (¬4) علي أكرم اللَّه وجهه، (¬5) وشريح وطاوس: "لا يلزم من ذلك شيء، ولا يُقضى بالطلاق على مَنْ حلف به بحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة" هذا لفظه بعينه، فهذه فتوى أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحلف بالعتق والطلاق، وقد قدمنا فتواهم (¬6) في وقوع الطلاق المعلَّق بالشرط، ولا تعارض بين ذلك. [لم يقصد الحالف وقوع الطلاق ولهذا لم يحكم بوقوعه] فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق، وإنما قصد منع نفسه بالحلف مما لا يريد وقوعه (¬7)، فهو كما لو خَصَّ (¬8) منع نفسه بالتزام التطليق والإعتاق والحج والصوم وصدقة المال، وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر، فإن كراهته لذلك كله وإخراجه مخْرَجَ اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمه، وهذه علة صحيحة فيجب طَرْدُها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق البتة، ¬

_ (¬1) في (د)، و (ط)، و (ح): "بن أبي حاضر"! (¬2) هو في قصة وقعت ذَكَرها ابن حزم في "المحلى" (10/ 212) من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن عن علي، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). . (¬3) في (و): "قاله"!! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بن أبي طالب". (¬6) في المطبوع: "فتاويهم". (¬7) في (و)، و (ن): "بما لا يريد وقوعه". (¬8) في (ك) و (ق): "حض".

والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها، كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم بل لزوم الإعتاق والتطليق بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى؟ أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين وعدم وقوعها فالطلاق أولى، وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صُوَر الإلزام سواء بسواء، وأما الحلف بالتزام التطليق والإعتاق فإذا كان قَصْدُ اليمين قد مَنعَ ثلاثة أشياء وهي: وجوب التطليق، وفعله، وحصول أثره، وهو الطلاق، فَلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى، وأما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة وبالقول تارة وبالشك تارة ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه، فَلأَن يمنع من وقوع الطلاق أولى وأحرى، وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى اللَّه ويَسْرِي في ملك الغير وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه كما أفتى به الصحابة فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع، وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول المكلف: "أَيْمان المسلمين تلزمني" عند من ألزمه (¬1) بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أولى وأحرى، وإذا دخلت في قول الحالف: "إن حلفتُ يمينًا فعبدي حر" فدخولها في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه ولْيَأْتِ الذي هو خير" (¬2) أولى وأحرى، وإذا دخلت (¬3) في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَلَفَ فقال: إن شاء اللَّه فإن شاء فَعَل وإن شاء تَرَك" (¬4) فدخولها في قوله: "مَنْ حَلَفَ على يمين فرأى ¬

_ (¬1) في (و): "ألزمها"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) رواه مسلم (1650) في (الإيمان): باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها أن يأتي الذي هو خير، ويكفر عن يمينه، من حديث أبي هريرة. وفي الباب عن أبي موسى: رواه البخاري (3133)، وأطرافه هناك، ومسلم (1649)، وعن عبد الرحمن بن سمرة: رواه البخاري (6622 و 6722 و 7147)، ومسلم (1652) وعن عدي بن حاتم رواه مسلم (1651)، وعن جماعة من الصحابة انظر: "نصب الراية" (3/ 296)، و"إرواء الغليل" (7/ 165). (¬3) في (و): "دخل". (¬4) رواه أحمد (2/ 6 و 48 - 49 و 68 و 126 و 127 و 153)، والحميدي (690) وعبد بن حميد (779 - المنتخب) والدارمي (2/ 185)، وأبو داود (3262) في "الأيمان والنذور": باب الاستثناء في اليمين، والترمذي (1531) في (الأيمان والنذور): باب ما =

غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه" (¬1) [أولى وأحرى] (¬2) فإن الحديث أصح وأصرح، وإذا دخلت في قوله: "مَنْ حَلَف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مُسْلم لقي اللَّه وهو عليه غضبان" (¬3) فدخولها في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] أولى [وأحرى] (¬4) بالدخول أو مثله، وإذا دخلت في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فلو (¬5) حلف بالطلاق كان مُوليًا فدخولها في نصوص الأَيْمان أولى وأحرى لأن الإيلاء نوعٌ من اليمين، فإذا دخل الحلف بالطلاق (¬6) في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه، فإن النوع مستلزم الجنس، ولا ينعكس، وإذا دخلت في قوله: "يمينُك على ما يصدِّقك به صاحبك" (¬7) فكيف لا تدخل (¬8) في بقية نصوص الأيمان؟ وما الذي أوجَب هذا التخصيص من غير مخصص؟ وإذا دخلت في قوله: "إيَّاكم وكثرة الحَلِف في البيع فإنه يُنفقُ ثم يمحق" (¬9) فهلّا دخلت في غيره من نصوص اليمين؟ وما الفرق المؤثر ¬

_ = جاء في الاستثناء في اليمين، والنسائي (7/ 12) في (الأيمان والنذور): باب من حلف فاستثنى، و (7/ 25): باب الاستثناء، وابن ماجه (2105) في (الكفارات): باب الاستثناء في اليمين، وابن الجارود (928) وابن حبان (4339، 4342) والطبراني في "الأوسط" (3099) والحاكم (4/ 303) وأبو نعيم (6/ 79) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 360 - 361 و 10/ 46) والخطيب البغدادي (5/ 88) من طرق عن أيوب عن نافع عن ابن عمر به مرفوعًا وهذا إسناد على شرط الشيخين. (¬1) مضى تخريجه قريبًا. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (و)، و (ن) و (ك) و (ق). (¬3) رواه البخاري (2356 و 2357) في (الشرب والمساقاة): باب الخصومة في البئر والقضاء عليها، وانظر باقي أطرافه هناك -وهي كثيرة-، ومسلم (138) في (الإيمان): باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، من حديث ابن مسعود، وفي الباب عن عدد من الصحابة. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "فإذا". (¬6) في (و): "في الطلاق"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬7) رواه مسلم (3/ 1247، 1653) في (الأيمان): باب يمين الحالف على نية المستحلف، من حديث أبي هريرة. (¬8) في (و) و (ك): "لا يدخل"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬9) رواه مسلم (1607) في (المساقاة): باب النهي عن الحلف في البيع، من حديث أبي قتادة الأنصاري.

[يمين الطلاق باطلة لا يلزم بها شيء]

شرعًا أو عقلًا أو لغة؟ وإذا دخلت في قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] فهلا دخلت في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وإذا دخلت في قول الحالف: "أيمان البيعة تلزمني" وهي الأيمان التي رتّبها الحَجّاج فلِمَ لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام اللَّه تعالى ورسوله؟ فإن كانت يمين الطلاق يمينًا شرعية بمعنى أن الشرع اعتبرها وجَبَ أن تُعطى حكم الأيمان. [يمين الطلاق باطلة لا يلزم بها شيء] وإن لم تكن يمينًا شرعية كانت باطلة في الشرع (¬1)، فلا (¬2) يلزم الحالفَ بها شيء كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق (¬3)، عن معمر، عن ابن طاوس، عنه: "ليس الحلف بالطلاق شيئًا" وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود [بن علي] (¬4) في "تفسيره" عنه "أنها من خُطُوَات الشيطان لا يلزم بها شيء"، وصح عن شُرَيْح (¬5) قاضي [أمير المؤمنين] (¬6) علي وابن مسعود أنها لا يلزم بها طلاق، وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه (¬7)، وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما (¬8) إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله: إنْ كلَّمتِ فلانًا فأنت طالق، فقال: لا تطلق إن كلَّمته؛ لأن الطلاق لا يكون بيدها إنْ شاءتْ طلقت وإنْ شاءت أُمسكت (¬9). [من قال: الطلاق يلزمني لا أفعل] وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور، كقوله: الطلاق يلزمني أو لازم لي لا أفعل كذا وكذا، فإن لهم فيه ثلاثة أوجه: ¬

_ (¬1) "هذا هو الحق، وهذا هو هدي النبوة، وقارئ آيات الطلاق في القرآن يتبين له ذلك" (و). (¬2) في (ك) و (ق): "فلم". (¬3) في "مصنفه" (6/ 386)، وعنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 213). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). وسُنيد بن داود قال عنه ابن حجر في التقريب: ضعِّف مع إمامته ومعرفته. (¬5) مضى تخريج ذلك والمذكور عند ابن حزم. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) انظر: "المحلى" (10/ 211 - 213). (¬8) في (و): "فيم". (¬9) انظر: "المعيار المعرب" (2/ 497)، "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 517 - 518).

أحدها: أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه، وإلا فلا يلزمه، وجعله هؤلاء كناية، والطلاق يقع بالكناية مع النية. الوجه الثاني: أنه صريح، فلا يحتاج إلى نية (¬1)، وهذا اختيار الروياني، ووجهه أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية. الوجه الثالث: أنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به طلاق وإن نواه، وهذا اختيار القَفَّال في "فتاويه"، ووجهه أن الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة كقوله: أنت طالق، أو طلّقتك، أو قد طلقتك (¬2)، أو يقول: امرأتي طالق، أو فلانة طالق، ونحو هذا، ولم توجد هذه الإضافة في قوله: الطلاق يلزمني، ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته: طلِّقي نفسك، فقالت: أنت طالق، فإنه لا يقع بذلك طلاق (¬3)، وقال؛ خطَّأ اللَّه نَوْأها (¬4)، وتبعَهُ على ذلك الأئمة، فإذا قال: " [الطلاق] (¬5) يلزمني" لم يكن لازمًا به إلا أن يضيفه إلى محله، ولم يضفه فلا يقع، والمُوقِعون يقولون: إذا التزمه فقد لزمه، ومِنْ ضرورة لزومه إضافته إلى المحل، فجاءت [الإضافة من] (5) ضرورة اللزوم، ولمن نَصَر قولَ القَفَّال أن يقول (¬6): إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقوع الطلاق الذي هو أثره، فإن كان الأول لم يلزمه لأنه نَذَر أن يُطلِّق، ولا تطلق المرأة بذلك، وإن كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع، وقوله: "الطلاق يلزمني" التزامٌ لحكمه عند وقوع سببه، وهذا حق، فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق؟ وقوله: "الطلاق يلزمني" لا يصلح أن يكون سببًا، إذا (¬7) لم يضفْ فيه الطلاق إلى محله بوجه، ونظيرُ هذا أن يقول له: بعني أو أجِّرني (¬8)، فيقول: البيع ¬

_ (¬1) في المطبوع: "نيته". (¬2) في (ك) و (ق): "طلَّقت". (¬3) رواه ابن أبي شيبة (4/ 45)، وسعيد بن منصور (1641 و 1642) من ثلاثة طرق عن ابن عباس، بأسانيد صحيحة. ورواه البيهقي (7/ 349) بإسنادين عن ابن عباس أحدهما منقطع، والآخر فيه متروك!! (¬4) في (و)، و (ح): "عطاء اللَّه بوَّأها" وما أثبتناه من (د)، و"مصنف ابن أبي شيبة" و"السنن الكبرى". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ن) و (ق): "ولمن نصر الإضافة من قول القفال أن يقول". (¬7) في (د)، و (ط) و (ق): "إذ"، وما أثبتناه من (و)، و (ح). (¬8) في (د): "آجرني".

[محل الطلاق الزوجة]

يلزمني، أو الإجارة تلزمني، فإنه لا يكون بذلك مُوجِبًا لعقد البيع أو الإجارة، حتى يُضيفهما إلى محلهما، وكذلك لو قال: "الظهار يلزمني" لم يكن بذلك مُظاهرًا حتى يضيفه إلى محله [فهو كما لو قال: "العتق يلزمني"، ولم يضف فيه العتق إلى محله] (¬1)، وهذا بخلاف ما لو قال: "الصومُ يلزمني، أو الحج، أو الصدقة" فإن محله الذمة وقد أضافه إليها. فإن قيل: وهاهنا محل الطلاق والعتاق الذمة. [محل الطلاق الزوجة] قيل: هذا غلط، بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد، وإنما الذمة محل وجوب ذلك وهو التطليق والإعتاق، وحينئذٍ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق، وذلك لا يوجب الوقوع، والذي يوضح هذا أنه لو قال: "أنا منك طالق" لم تطلق بذلك لإضافة الطلاق إلى غير محله، وقيل: تطلق إذا (¬2) نوى طلاقَهَا هي بذلك، تنزيلًا لهذا اللفظ منزلة الكنايات (¬3)، فهذا كشف سر هذه المسألة، وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في "شرح التنبيه" (¬4)، وأكثر أَيْمان الطلاق بهذه الصيغة، فكيف يحل لمن يؤمن بأنه موقوف بين يديّ اللَّه ومسئول أن يُكَفِّرَ أو يجهِّل من يفتي بهذه المسألة (¬5) ويسعى في قتله وحبسه ويلبِّس على الملوك والأمراء والعامة أن المسألة مسألة إجماع، ولم يخالف فيها أحد من المسلمين، وهذه أقوال أئمة المسلمين من الصحابة [والتابعين] (¬6) ومَنْ بعدهم؟ وقد علم اللَّه ورسوله وملائكته وعباده أن هذه المسألة لم تُرَدَّ بغير الشكاوى إلى ¬

_ (¬1) أثبت (د)، و (ط) ما بين المعقوفتين بعد قول المصنف السابق "إذا لم يضف فيه الطلاق إلى محله"، وكذا هو في (ك) و (ق). (¬2) في (و)، و (ح): "إذ". (¬3) في (ك): "الكناية". (¬4) لعله يريد "غنية الفقيه في شرح التنبيه" للإمام شرف الدين أبي العباس أحمد بن كمال الدين بن يونس الأربلي الموصلي (المتوفى سنة 622 هـ)، وهو مخطوط بدار الكتب المصرية، تحت رقم (182 - فقه شافعي)، في مجلد واحد، وقد سقط منه باب الطهارة والصلاة، ويبدأ بباب الزكاة نقل ابن خلكان أنه شرع في تصنيفه بإربل، واستعار منا نسخة من "التنبيه" عليها حواش مفيدة بخط الشيخ رضي الدين سليمان بن المظفر الجيلي (631 هـ)، ونقل الحواشي كلها في "شرحه"، انظر: "الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وأثره في الفقه" (1/ 142 - مضروبة على الآلة الكاتبة)، وهو أطروحة دكتوراه لأستاذنا محمد عقلة. (¬5) يشير في كلامه هذا إلى مسلك خصوم شيخ الإسلام ابن تيمية معه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ]

الملوك، ودعوى الإجماع الكاذب، واللَّه المستعان، وهو عند كل لسان (¬1) قائل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105]. فصل [لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ] وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدًا لها مُرِيدًا لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصدًا للتكلم باللفظ مريدًا له، فلا بد من إرادتين: إرادة التكلم باللفظ اختيارًا. وإرادة موجبه ومقتضاه، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصودُ واللفظ وسيلَةٌ، هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام (¬2)، وقال مالك (¬3) وأحمد (¬4) فيمن قال: "أنتِ طالق البتَّة" وهو يريد أن يحلف على شيء ثم بَدَا له فترَكَ اليمينَ: لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يرد أن يطلقها، وكذلك قال أصحاب أحمد، وقال أبو حنيفة (¬5): مَنْ أراد أن يقول كلامًا فسبق لسانُه فقال: "أنت حُرَّة" لم تكن بذلك حرة، وقال أصحاب أحمد (¬6): لو قال الأعجمي لامرأته: أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذه اللفظة لم تطلق؛ لأنه ليس مختارًا للطلاق، فلم يقع طلاقه كالمكره، قالوا: فلو نرى مُوجبه عند أهل العربية لم يقع أيضًا؛ لأنه لا يصح منه اختيار ما لا يعلمه، وكذلك لو نطق بكلمة الكفر مَنْ لا يعلم معناها لم ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "لسان كل". (¬2) في (ن) و (ق): "علماء المسلمين". (¬3) انظر: "المدونة" (2/ 394، 402)، "المعونة" (2/ 849)، "أسهل المدارك" (2/ 142)، "الكافي" (265) "مواهب الجليل" (4/ 57)، "بداية المجتهد" (2/ 76 - 77) "الإشراف" (3/ 422) وتعليقي عليه. والعبارة في (ك) و (ق): "قال مالك". (¬4) انظر: "المغني" (7/ 367)، "الإنصاف" (8/ 451)، "كشاف القناع" (5/ 241)، "شرح المنتهى" (3/ 125)، "المحرر" (2/ 51)، "شرح الزركشي" (5/ 401)، "زاد المعاد" (5/ 320). (¬5) انظر: "المبسوط" (6/ 72)، "اللباب" (3/ 43). (¬6) انظر: "المغني" (10/ 359 - ط هجر).

[لا يلتزم المخطئ والمكره بما أخطأ فيه وكره عليه من الأيمان والعقود]

يكفر، وفي "مصنف وكيع" أنَّ عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها سَمِّني فسماها الظبية (¬1)، فقالت: لا، فقال لها: ما تريدين أن أسميك؟ قالت: سمّني خليّة طالق، فقال لها (¬2): فأنت خلية طالق (¬3)، فأتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن زوجي طلَّقني، فجاء زوجها فقصَّ عليه القصة، فأوجع عمر رأسَهَا، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوْجِعْ رأسها (¬4). وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان، وإن تلفَّظ بصريح الطلاق. [لا يلتزم المخطئ والمكره بما أخطأ فيه وكره عليه من الأَيْمان والعقود] وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح (¬5)، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر، لكونه لم يُردْه، والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته. [التزام المستهزئ والهازل] بخلاف المستهزئ والهازل، فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلًا لأنه ¬

_ (¬1) في سائر النسخ: "الطيبة"!! وما أثبتناه هو الصواب، وكذا في (و) و (ك): "الظبية"، وعلّق قائلًا "في النهاية أنها قالت له: شبهني، فقال، كأنك ظبية، كأنك حمامة، فقالت: لا أرضى حتى تقول: خلية طالق إلخ". قلت: قال أبو عبيد في "الغريب" (3/ 379): "شبهها بالناقة التي تكون معقولة، ثم تخلّى وتطلق، ولم يرد طلاقها الشرعي"، قال: "وهذا أصل لكل من تكلم بشيء يشبه لفظ الطلاق والعتاق، وهو ينوي غيره، أن القول قوله فيما بينه وبين اللَّه، وفي الحكم على تأويل مذهب عمر". (¬2) في (و)، و (ن): "قال لا". (¬3) "أراد أنها كالناقة تخلَّى من عقالها، وطلقت من العقال، وقيل: أراد بالخلية الغزيرة يؤخذ ولدها، فيعطف عليه غيرها، وتخلَّى للحي يشربون لبنها، والطالق: الناقة التي لا خطام عليها، وأرادت هي مخادعته" (و). (¬4) ذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 200) قال: "روينا من طريق وكيع عن ابن أبي ليلى عن الحكم بن عتيبة عن خيثمة بن عبد الرحمن قال: قالت امرأة لزوجها. . ." وذكره. وأخرجه أبو عبيد في "الغريب" (3/ 379) حدثنا الشيخ: اخبرنا ابن أبي ليلى به، وابن أبي ليلى سيء الحفظ. وانظر: "مسند الفاروق" (1/ 418 - 419) لابن كثير. (¬5) سبق تخريجه.

فصل [تعليق الطلاق بشرط مضمر]

قاصد للتكلم باللفظ وهَزْله لا يكون عذرًا له، بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود؛ فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل، والهَزَل لم يجعله اللَّه ورسوله عذرًا صارفًا، بل صاحبه أحق بالعقوبة، ألا ترى أن اللَّه تعالى عَذَرَ المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، ولم يعذر الهازل بل قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66] وكذلك (¬1) رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي. فصل [تعليق الطلاق بشرط مضمر] ومن ذلك أنه لو قال: "أنت طالق" وقال: أردتُ إنْ كَلَّمتِ رجلًا أو خرجت من داري، لم يقع به الطلاق في أحد الوجهين لأصحاب أحمد والشافعي، وكذلك لو قال: أردت إنْ شاء اللَّه، ففيه وجهان لهم، ونص الشافعي فيما لو قال: "إن كَلَّمَتُ زيدًا فأنت طالق" ثم قال: أردت به إلى شهر، فكلَّمه بعد شهر، لم تطلق باطنًا، ولا فرق بين هذه الصورة والصورتين اللتين قبلها، فإن التقييد بالغاية المنوية كالتقييد بالمشيئة المنوية، وهو أولى بالجواز من تخصيص العام بالنية، كما إذا قال: "نسائي طَوَالق" واستثنى بقلبه واحدة منهن، فإنه إذا صح الاستثناء بالنية في إخراج ما يتناوله (¬2) اللفظ صح التقييد (¬3) بالنية بطريق الأولى؛ فإن اللفظ لا دلالة له بوضعه على عموم الأحوال والأزمان، ولو دل عليها بعمومه فإخراجُ بعضها تخصيصٌ للعام، وهذا ظاهر جدًا، وغايته استعمالُ العام في الخاص أو المُطْلَق في المقيد، وذلك غير بِدْع لغة وشرعًا وعرفًا، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما معاويةُ فصعلوكٌ لا مالَ له، وأما أبو الجهم فلا يَضَعُ عصاه عن عاتقه" (¬4) فالصواب قبول مثل هذا فيما بينه وبين اللَّه وفي الحكم أيضًا. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ولذلك". (¬2) في (ك): "تناوله". (¬3) في (و): "التعيين". (¬4) رواه مسلم (1480) في (الطلاق): باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها، من حديث فاطمة بنت قيس.

فصل [للحلف بالطلاق وبالحرام صيغتان]

فصل [للحلف بالطلاق وبالحرام صيغتان] قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان: إحداهما: إن فَعلتِ كذا [وكذا] (¬1) فأنتِ طالقٌ. والثانية: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وأن الخلاف في الصيغتين قديمًا وحديثًا. وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان: إحداهما: إن فَعلتِ كذا فأنت عليّ حرام، أو ما أحلَّ اللَّه عليّ حرام. والثانية: الحرام يلزمني لا أفعل كذا. [حكم الحلف بالحرام] فمن قال في: "الطَّلاقُ يلزمني" إنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به شيء، ففي قوله: "الحرام يلزمني" أولى، ومن قال: إنه كناية إنْ نَوَى به الطلاق كان طلاقًا وإلا فلا، فهكذا يقول في: "الحرام يلزمني" إن نوى به التحريم كان كما لو نوى بالطلاق التطليق، فكأنه التزم أن يُحرّم كما التزم ذلك أن يُطلِّق، فهذا التزامٌ للتحريم وذاك التزام للتطليق، وإن نوى به ما حرم اللَّه عليّ يلزمني تحريمه لم يكن يمينًا ولا تحريمًا ولا طلاقًا ولا ظِهارًا، ولا يجوز أن يُفرَّق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ (¬2) لم يوضع للطلاق ولا نواه، وتلزمه كفارة يمين حرمة لشدة اليمين، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين وهي يمينٌ منعقدةٌ ففيها كفارة يمين. وبهذا أفتى ابنُ عباس ورَفَعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فصح عنه بأصح إسناد: "الحرام يمين يكفرها" (¬3) ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) كذا في النسخ المطبوعة، وقال (ط): "كذا في بعض النسخ، ولعل الصواب: بلفظ لم يوضع للطلاق ولا نواه بدون كلمة غير" اهـ، ونحوه باختصار في (د). (¬3) سبق تخريجه.

[مذهب الأئمة فيمن قال لامرأته: أنت حرام]

وهكذا حكم قوله: "إن فعلتِ كذا فأنت عليّ حرَّام" وهذا أولى بكفارة يمين من قوله: "أنت عليّ حرام". [مذهب الأئمة فيمن قال لامرأته: أنت حرام] وفي قوله: "أنت عليّ حرام" أو: "ما أحل اللَّه عليّ حرام" أو: "أنت عليّ حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير" مذاهب: أحدهما: أنه لغوٌ وباطل لا يترتب عليه شيء، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وبه قال مسروق، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء (¬1)، والشعبي، وداود، وجميع أهل الظاهر (¬2)، وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قَوْلي المالكية اختاره أصبغ بن الفرج (¬3). [تحريم الزوج للمرأة ليس بشيءٍ] وفي "الصحيح" عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول: إذا حرَّم امرأته فليس بشيء، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬4) [الأحزاب: 21]، وصح عن مسروق أنه قال: ما أبالي أحرَّمتُ امرأتي أو (¬5) قَصْعَة من ثريد (¬6)، وصح عن الشعبي في تحريم المرأة: لهو أهونُ عليَّ من نَعْلي (¬7)، وقال أبو سلمة: ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرَّمتُ ماء النهر (¬8). وقال الحجَّاج بن مِنْهَال: [نا همام بن يحيى: أنا قتادة] (¬9): إن رجلًا جعل ¬

_ (¬1) حكاه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 127). (¬2) انظر: "المحلى" (10/ 127 - 128)، وسيفصل المصنف ما أجمله عن ابن عباس وغيره. (¬3) انظر "النوادر والزيادات" (5/ 156) و"الإشراف" (3/ 421 - 422) وتعليقي عليه. (¬4) أخرج البخاري (5266) في (الطلاق): باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} بسنده إلى ابن عباس قال: "إذا حرم امرأته ليس بشيء، وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}. (¬5) في (و): "أم". (¬6) علقه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 127) وأخرجه عبد الرزاق في "مصنفه" (6/ 402 رقم 11375). (¬7) أخرجه عبد الرزاق (6/ 403 رقم 11378) ومن طريقه ابن حزم (10/ 127). (¬8) أخرجه عبد الرزاق (6/ 402 رقم 11376) ومن طريقه ابن حزم (10/ 127). (¬9) ما بين المعقوفتين من مصادر التخريج، وسقط من جميع النسخ.

فصل [المذهب الثاني في مسألة تحريم المرأة]

امرأته عليه حرامًا، فسأل عن ذلك حُميد بن عبد الرحمن، فقال له [حميد] (¬1): قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8] وأنت رجلٌ تلعب فاذهب فالعب (¬2). فصل [المذهب الثاني في مسألة تحريم المرأة] المذهب الثاني: أنها ثلاث تطليقات، وهو قول علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] (¬3) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) علقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 127) من طريق الحجاج به. (¬3) قول علي في الحرام أنه ثلاث تطليقات: رواه ابن أبي شيبة (4/ 55)، وعبد الرزاق (11380)، وسعيد بن منصور (1694) من طرق عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عنه. ورواته ثقات إلا أن محمد بن علي وهو ابن حسين بن علي بن أبي طالب لم يدرك عليًا. ورواه عبد الرزاق (11379)، وسعيد بن منصور (1697) عن معمر عن قتادة عن رجل سمع عليًا، ففيه راوٍ مُبْهَم، والإبهام عند سعيد في الراوي عن قتادة. ورواه ابن أبي شيبة (5/ 66، 69، 72 - ط الهندية) عن محمد بن فضيل عن عطاء بن السائب عن الحسن عنه. والحسن هو البصري، لم يسمع من علي. وروى سعيد بن منصور (1682) والشافعي في "الأم" (7/ 159) وابن المنذر في "الأوسط" (3/ ق 253/ ب) والبيهقي (7/ 344) من طريق الشعبي في الرجل يجعل امرأته عليه حرامًا قال: يقولون: "إن عليًا -رضي اللَّه عنه- جعلها ثلاثًا" وهذا ظاهر أن فيه انقطاعًا. وروى عبد الرزاق (11383) عن ابن التيمي عن أبيه أن عليًا وزيدًا فرَّقا بين رجل وامرأته قال: هي عليّ حرام. وابن التيمي هذا لم أعرفه، ثم تبين لي كأنه معتمر بن سليمان، وسليمان لم يدرك عليًا، ولد عام وفاته! وروى عبد الرزاق (11381) عن عبد اللَّه بن محرَّر، والحربي في "غريب الحديث" (2/ 554) من طريق عمر بن عامر، وابن أبي شيبة (5/ 71) وابن المنذر في "الأوسط" (3/ ق 253/ ب و 256)، والبيهقي (7/ 346) من طريق سعيد بن أبي عروبة، وابن المنذر (3/ ق 256/ ب) من طريق همام جميعهم عن قتادة عن خلاس بن عمرو وأبي حسان الأعرج أن عدي بن قيس جعل امرأته عليه حرام فقال له علي: والذي نفسي بيده لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنك. وروى البيهقي (7/ 344) من طريق جعفر بن عون عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر قال: كان علي -رضي اللَّه عنه- يجعل الخلية والبرية والبته والحرام ثلاثًا. وهذا إسناد جيد. =

[المذهب الثالث وحجته]

وزيد بن ثابت (¬1) وابن عمر (¬2) والحسن البَصْري (¬3)، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬4)، وقضى فيها [أمير المؤمنين] عليٌّ بالثلاث في عَدي بن قيس (¬5) الكِلَابيّ وقال له: والذي نفسي بيده لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنَّك (¬6)، وحجة هذا القول أنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حرامًا عليه. [المذهب الثالث وحجته] المذهب الثالث: أنها بهذا القول حرام عليه، صح أيضًا عن أبي هريرة، والحسن، وخِلَاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة (¬7)، ولم يذكر هؤلاء طلاقًا، ¬

_ = وذكره مالك في "الموطأ" (2/ 552) عن علي بلاغًا. لكن روى عبد الرزاق (11384)، وسعيد بن منصور (1682) من طريق ابن عيينة وهشيم ومطرف عن الشعبي قال: أنا أعلمكم بما قال علي في الحرام، قال: لا آمرك أن تُقدِّم ولا آمرك أن تؤخِّر. وعلقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 126) عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬1) رواه ابن أبي شيبة (3/ 56)، والبيهقي (7/ 344) عن عبد الوهاب بن سعيد (وفي المطبوع من "المصنف" عن سعيد وهو خطأ) عن مطرف عن حميد بن هلال عن سعد بن هشام عنه. ورواته ثقات إلا أني لم أتبين هل سمع سعد من زيد أم لا، وأخشى أن لا يكون كذلك. ورواه ابن أبي شيبة كذلك عن عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن زيد، وقتادة لم يدرك زيدًا. ورواه عبد الرزاق (11372) عن عبد اللَّه بن محرر عن الزهري عنه، وعبد اللَّه متروك، والزهري لم يدرك زيدًا. (¬2) حكاه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 124). وأسند (10/ 125) عن قبيصة بن ذؤيب قال: سألت زيد بن ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته: أنت علي حرام؟ فقالا جميعًا: كفارة يمين، ورواته ثقات. (¬3) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 402 - 403)، وحكاه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 124)، وابن المنذر في "الإشراف" (4/ 172)، والقرطبي في "تفسيره" (18/ 181). (¬4) حكاه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 124). (¬5) في (ن): "قيس بن عدي"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) مضى تخريجه قريبًا. (¬7) ذكره ابن حزم عنهم جميعًا في "المحلى" (10/ 125).

[المذهب الرابع وحجته]

بل أمروه باجتنابها فقط. وصح ذلك [أيضًا] عن علي [عليه السلام] (¬1)، فإما أن يكون عنه روايتان، أو يكون أراد تحريم الثلاث، وحُجّة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ولم يتعرض لعددِ الطلاق؛ فحرمت عليه بمقتضى تحريمه. [المذهب الرابع وحجته] المذهب الرابع: الوقف فيها، صح ذلك عن [أمير المؤمنين] عليّ أيضًا، وهو قول الشعبي، قال: يقول رجال في "الحلال حَرَام ": إنها حَرَام حتى تنكح زوجًا غيره (¬2)، وينسبونه إلى عليّ، واللَّه ما قال ذلك عليّ، إنما قال: ما أنا بمُحِلِّها ولا بمحرِّمها (¬3) عليك، إنْ شئتَ فتقدم وإنْ شئت فتأخَّر (¬4). وحجة هؤلاء أن التحريم ليس بطلاق، وهو لا يملك تحريم الحلال، وإنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به وهو الطلاق، وهذا ليس بصريح في الطلاق، ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة، فاشتبه الأمر فيه. [المذهب الخامس وحجته] المذهب الخامس: إن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإلا فهو يمين، وهذا قول طاوس، والزهري، والشافعي، ورواية عن الحسن (¬5)، وحجة هذا القول أنه كناية في الطلاق، فإن نَوَاه (¬6) به كان طلاقًا، وإن لم ينوه كان يمينًا، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] (¬7). [المذهب السادس وحجته] المذهب السادس: أنه إن نوى بها الثلاث فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهو يمين، وإن لم ينو شيئًا فهي كَذْبة لا شيء فيها. قاله سفيان (¬8)، وحكاه النخعي (¬9) عن أصحابه، وحجة هذا القول أن اللفظ يحتمل لما نواه من ذلك فيتبع نيته. ¬

_ (¬1) قاله ابن حزم (10/ 124)، ومضى تخريجه قريبًا، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) ذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 126)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق) و (ك): "محرمها". (¬4) مضى تخريجه. (¬5) ذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 125). (¬6) في (ن): "نوى". (¬7) في (ن) و (ك) و (ق): "ذكر الآيتين كاملتين". (¬8) كما في "المحلى" (10/ 125). (¬9) علقه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 125).

[المذهب السابع وحجته]

[المذهب السابع وحجته] المذهب السابع: مثل هذا، إلا أنه إن لم ينو شيئًا فهو يمين يكفّرها، وهو قول الأوزاعي (¬1)، وحجة هذا القول ظاهرُ قولِهِ تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فإذا نوى به الطلاق لم يكن يمينًا، فإذا طلَّق ولم ينو الطلاق كان يمينًا. [المذهب الثامن والتاسع وحجته] المذهب الثامن: مثل هذا أيضًا، إلا أنه إن لم ينو شيئًا فواحدة بائنة إعمالًا للفظ التحريم. المذهب التاسع: أن فيه كفارة الظهار، وصح ذلك عن ابن عباس أيضًا (¬2)، وأبي قِلَابة (¬3)، وسعيد بن جبير، ووهب بن مُنبِّه، وعثمان البتّي (¬4)، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد (¬5)، وحجة هذا القول أن اللَّه تعالى جعل تشبيه المرأة بأمِّه المحرمة عليه ظهارًا، وجعله منكرًا من القول وزورًا، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مُظَاهرًا فإذا صرَّح بتحريمها كان أولى بالظهار. وهذا أَقْيَسُ الأقوال وأفقهُها، ويؤيده أن اللَّه لم يجعل للمكلَّف التحريم والتحليل، وإنما ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحريم والتحليل؛ فالسبب إلى العبد، وحكمه إلى اللَّه تعالى، فإذا قال: "أنت عليَّ كظهر أمي" أو قال: "أنت عليَّ حَرَام"، فقد قال المنكَر من القول والزور، وكذَبَ، فإن اللَّه لم يجعلها كظهر أمه، ولا جعلها عليه حرامًا، فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار. ¬

_ (¬1) حكاه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 126)، وانظر: "فقه الإمام الأوزاعي" (2/ 57 - 58). (¬2) رواه عبد الرزاق (11385) -ومن طريقه ابن حزم (10/ 125) - عن الثوري عن منصور عن سعيد بن جبير عنه في الحرام قال: عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينًا. وهذا إسناد صحيح. وروى نحوه البيهقي (7/ 350) من طريق الثوري عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير به. (¬3) رواه عبد الرزاق (11387) عن معمر، وابن أبي شيبة (4/ 57) عن ابن عُليَّة كلاهما عن أيوب عنه، وهذا إسناد صحيح. (¬4) في المطبوع: "التيمي". (¬5) نقله ابن حزم (10/ 125) عن المذكورين سابقًا.

[المذهب العاشر وحجته]

[المذهب العاشر وحجته] المذهب العاشر: أنها تطليقة واحدة، وهي إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب (¬1)، وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة (¬2)، وحجة هذا القول أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث (¬3)، بل يصدق بأقلّه، والواحدة متيقنة؛ فحمل اللفظ عليها لأنها اليقين؛ فهو نظير التحريم بانقضاء العدّة. [المذهب الحادي عشر وحجته] المدهب الحادي عشر: أنه ينوي ما أراده (¬4) من ذلك في إرادة أصل الطلاق وعَدَدِه، وإن نوى تحريمًا بغير طلاق فيمين مُكَفَّرة، وهو قول الشافعي (¬5)، وحجة هذا القول أن اللفظ صالح لذلك كله؛ فلا يتعين واحد منها إلا بالنية، فإن نوى تحريمًا مجردًا كان امتناعًا منها بالتحريم كامتناعه باليمين، ولا تحرم عليه في الموضعين. [المذهب الثاني عشر وحجته] المذهب الثاني عشر: أنه ينوي أيضًا في أصل الطلاق وعدده، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة، وإن لم ينو طلاقًا فهو مُولٍ (¬6)، وإن نوى الكذب فليس بشيء، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وحجة هذا القول احتمال اللفظ لما ذكره، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة، لاقتضاء التحريم للبينونة وهو صغرى وكبرى، والصغرى هي المتحققة فاعتبرت دون الكبرى، وعنه رواية أخرى إن نوى الكذب ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (11391)، واليهقي (7/ 351) من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن إبراهيم قال: رُفع إلى عمر رجل فارق امرأته بتطليقتين ثم قال: أنت عليّ حرام قال: ما كنت لأردَّها عليه أبدًا. وإبراهيم هذا هو ابن سعد بن أبي وقاص، لم يدرك عمر، مات بعد المئة. ونقله عنه القفال في "حليته" (7/ 47). (¬2) حكاه ابن حزم في "المحلى" (10/ 125) والقفال في "حلية العلماء" (7/ 48). (¬3) في هامش (ن): "لعله: وطلق بالثلاث". (¬4) في (و): "ما أراد". (¬5) "حلية العلماء" (7/ 46)، وفي (ق): "للشافعي". (¬6) مولٍ: من الإيلاء، وهو الذي يحلف باللَّه عز وجل أن لا يطأ زوجته أكثر من أربعة أشهر، وانظر "القاموس الفقهي" (23).

[المذهب الثالث عشر وحجته]

دُيِّنَ ولم يقبل في الحكم، بل يكون مُوليًا، ولا يكون مُظَاهِرًا عنده (¬1) نواه أو لم ينوه، ولو صرح به فقال: "أعني به الظهار" لم يكن مظاهرًا. [المذهب الثالث عشر وحجته] المذهب الثالث عشر: أنه يمين يكفّره ما يكفّر اليمين على كل حال، صح ذلك أيضًا عن أبي بكر الصدِّيق (¬2)، وعمر بن الخطاب (¬3)، وابن عباس (¬4)، وعائشة (¬5)، ¬

_ (¬1) قال (طـ): "في نسخة: ولا يكون ظهارًا عنده" [انظر: "إعلام الموقعين" طـ - فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 73]، وكذا في (د) بدون ما بين المعقوفتين، والنسخة المشار إليها هي (ن). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (4/ 57)، وسعيد بن منصور (1695) من طريق جويبر عن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود قالوا: عليه كفارة يمين، وهذا إسناد ضعيف جدًا، جويبر متروك، وفيه انقطاع أيضًا. وعزاه في "كنز العمال" (8/ 719 رقم 46508) إلى هناد بن السري في "حديثه"، وعلقه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 126). (¬3) رواه سعيد بن منصور (1701)، وابن أبي شيبة (4/ 56)، وعبد الرزاق (11360) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 125) - والدارقطني (4/ 40 أو رقم 3936 - بتحقيقي) والبيهقي (7/ 350) وفي "معرفة السنن" (11/ 60 رقم 14777) من طرق عن عكرمة عنه. وهذا إسناد منقطع: عكرمة هو مولى ابن عباس لم يدرك عمر، مات بعد المئة. لكن رواه البيهقي (7/ 351) من طريق سفيان عن (جابر عن عكرمة عن ابن عباس عن عمر)، وذكر المحقق أن ما بين القوسين سقط من نسخة، فإن ثبت وجود ابن عباس اتصل الإسناد، لكن جابر هذا هو الجعفي ضعيف، وأخشى أن تكون زيادة ابن عباس في الإسناد من أوهامه؛ لأن الثقات من أصحاب عكرمة رووه دون ذكر ابن عباس. ورواه عبد الرزاق (11361) من طريق ابن جريج عن عبد الكريم أن عمر، وابن عباس قالا: هي يمين، وهذا منقطع. (¬4) رواه البخاري (4911) في (تفسير سورة التحريم): باب {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، و (5266) في (الطلاق)؛ باب {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، ومسلم (1473) في (الطلاق): باب وجوب الكفارة على من حَرَّم امرأته ولم ينو الطلاق. وانظر: "سنن الدارقطني" (رقم 3936، 3937، 3938 - بتحقيقي). (¬5) رواه ابن أبي شيبة (4/ 57)، والبيهقي (7/ 351) من طريقين عن سعيد بن أبي عروبة عن مطر عن عطاء عنها، وهذا إسناد جَيّد رجاله ثقات، سعيد بن أبي عروبة اختلط لكن روى عنه عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، وروايته عنه في "الصحيح"، ومطر الوراق، وإن أخرج له مسلم إلا أن في حديثه كلامًا لا ينزل عن رتبة الحسن، ورواه البيهقي (7/ 352) بإسناد صحيح عنها أيضًا.

[المذهب الرابع عشر وحجته]

وزيد بن ثابت (¬1)، وابن مسعود (¬2)، وعبد اللَّه بن عمر (¬3)، وعكرمة (¬4)، وعطاء (¬5)، ومكحول، وقتادة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، ونافع، والأوزاعي، وأبي ثور (¬6) وخلق سواهم، وحجة هذا القول ظاهرُ القرآنِ، فإن اللَّه تعالى ذكر فرض تحلَّة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينًا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلّة التي قصد ذكرها لأجله. [المذهب الرابع عشر وحجته] المذهب الرابع عشر: أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة، صح ذلك أيضًا عن ابن عباس (¬7)، وأبي بكر (¬8)،. . . . . ¬

_ (¬1) أخرج ابن حزم في "المحلى" (10/ 125) من طريق الطيالسي: ثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد اللَّه بن هبيرة عن قبيصة بن ذؤيب قال: سألت زيد بن ثابت، وابن عمر عمن قال لامرأته: أنت عليّ حرام؟ فقالا جميعًا: كفارة يمين، ورواته ثقات. (¬2) رواه عبد الرزاق (11366)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 125)، وسعيد بن منصور (1693) عن ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عنه، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، لكن روى عبد الرزاق (11366)، وابن أبي شيبة (4/ 56)، والبيهقي (7/ 351) بأسانيد صحيحة عنه أنه قال: إن نوى يمينًا فيمين، وإن نوى طلاقًا فما نوى. وروى ابن أبي شيبة (4/ 57) من طريق جويبر عن الضحاك أن أبا بكر وعمر وابن مسعود أنهم قالوا: عليه كفارة يمين، وهذا إسناد ضعيف جدًا، جويبر متروك، وفيه انقطاع. (¬3) مضى في الهامش قبل السابق. (¬4) و (¬5) أسنده عبد الرزاق عن عطاء (6/ 399 رقم 11357) وعن عكرمة (6/ 399 رقم 1136)، وعنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 126). (¬6) حكاه ابن حزم في "المحلى" (10/ 126) عن المذكورين جميعًا عند المصنف. (¬7) رواه النسائي (6/ 151) في (الطلاق): باب تأويل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}، والطبراني في "الكبير" (12246) والدارقطني (4/ 43 أو رقم 3944 - بتحقيقي) -وعزاه الحافظ في "الفتح" (9/ 376) لابن مردويه، وعزاه السيوطي في "الدر" أيضًا إلى ابن المنذر- من طريق سالم الأفطس عن سعيد بن جبير عنه، وإسناده صحيح. وروى عبد الرزاق (11386) من طريق ابن عيينة عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه قال: يمين مغلظة. (¬8) أخرجه ابن أبي شيبة (1/ 241) وهناد بن السري في "حديثه" -كما في "كنز العمال" (16/ 719 رقم 46508) - وحكاه عنه ابن حزم في "المحلى" (10/ 126) وابن المنذر في "الإشراف" (4/ 172) والقرطبي في "تفسيره" (18/ 181). =

[المذهب الخامس عشر وحجته]

وعمر (¬1)، وابن مسعود (¬2)، وجماعة من التابعين، وحجة هذا القول أنه لما كان يمينًا مغلظة غُلِّظت كفارتها بتحتم العتق، ووجهُ تغليظها تضمنُها تحريمَ ما أحل اللَّه وليس إلى العبد، وقولُ المنكر والزور إن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتدٍ في إقسامه، فغلظت كفارته بتحتم العتق كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين أو بإطعام ستين مسكينًا. [المذهب الخامس عشر وحجته] المذهب الخامس عشر: أنه طلاق، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها، وإن كانت مدخولًا بها فهو ثلاث، وإن نوى أقلَّ منها، وهو إحدى الروايتين (¬3) عن مالك، وحجة هذا القول أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يترتَّبَ عليه حكمه، وغير المدخول بها تحرم بواحدة، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث. [أقوال المالكية في المسألة] وبعد: ففي مذهب مالك خمسة أقوال (¬4)، هذا أحدها، وهو مشهورها. والثاني: أنه ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها، اختارها عبد الملك في "مبسوطه". والثالث: (¬5) أنه واحدة بائنة مطلقًا، حكاه ابن خويز منداد رواية عن مالك. الرابع: أنه واحدة رجعية، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. الخامس: أنه ما نواه من ذلك مطلقًا، سواء قبل الدخول وبعده (¬6). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) مضى تخريجه. (¬3) في (ق): "الروايات". (¬4) انظر تفصيل ذلك في "البيان والتحصيل" (5/ 221، 226، 6/ 21، 111، 160) و"النوادر والزيادات" (5/ 156 - 158) و"عقد الجواهر الثمينة" (2/ 163 - 167) والمصنف نقل الأقوال منه. (¬5) في (ك): "الثالث" دون واو، وفي (ق): "الثاني"!! (¬6) قال القرافي "الاستغناء" (ص 705 وما بعد) ما نصه: "ومذهب (المدونة) وكل ما ينبني عليه إنما يستقيم إذا كان العرف يقتضي أن هذه اللفظة وضعت للبينونة مع العدد الثلاث، وإنما أفتى به مالك رحمه اللَّه تعالى بناء على ذلك. كذلك قرره المازري رحمه اللَّه تعالى، ونقله صاحب (الجواهر) عنه كذلك. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ =وإذا كان العرف في بلد على ذلك تتعين الفُتيا به وبصحة الاستثناء كما تقدم، أما إذا تغير العرف مطلقًا، أو في بلد دون بلد امتنعت الفُتيا به حالة عَدِمَ العُرف عند من عَدِم عنده العرف. واليوم بمصر والقاهرة لم نجدهم على هذا العرف، بل نجدهم يطلقون (الحرام) على أصل الطلاق. أما العدد والثلاث فلم نجد ذلك. والحكم ينتفي لانتفاء مدركه إجماعًا. فكل من أفتى اليوم عندنا بالثلاث فهو مخالف للإجماع. ومما ينبّهك على هذه القاعدة أن كل زمان تحمل معاملات أهله عند الإطلاق على النقد المتعارف في ذلك الوقت، فإذا حدثت سكة أخرى امتنعت الفتيا بالسكة الأولى ويعينها على المشتري عند الإطلاق إذا اشتهرت الثانية. وكذلك إذا احلف أو أوصى أو أقر بدراهم أو غيرها حمل عند الإطلاق على العادة، فإذا تغيرت العادة تغيرت الفتيا. وهذا أمر مجمع عليه. وإياك أن يخطر لك أن هذه اللفظة تدل على هذا المعنى لغة؛ لأني أطرفك بشيء، وهو أن قول القائل: أنت طالق ثلاثًا لا يدل على إزالة العصمة بالعدد الخاص لغة، لحصول الاتفاق على أن أصل صيغ الطلاق والعتاق والعقود في المعاملات -نحو: بعت واشتريت- للإخبار، ثم انتقلت في العرف لإنشاء هذه الأحكام. ولو خُليّنا وموجب اللغة لكان معنى كلامه (أنت طالق ثلاثًا) الإخبار عن ذلك قد تقدم لها قبل هذا النطق؛ لأن الإخبار يقتضي تقدم استقرار المخبر عنه، وهي لم يستقر لها طلاق قبل هذا، فكان إخبارًا كذبًا لا يلزمه به شيء. وكذلك لو جاءنا وقال: قصدت الإخبار كذبًا لم يلزمه شيء في الفتيا دون القضاء، وإنما الموجب للزوم هذه الأحكام عن هذه الصيغ النقل العرفي. وكذلك لو قال: أنت طالق، لزمه الطلاق، ولو قال: أنت منطلقة لم يلزمه شيء إلا أن ينوي به الطلاق، مع أن الطاء واللام والقاف مشترك بين الصيغتين، غير أن (أنت طالق) في العرف موضوع للإنشاء، و (أنت منطلقة) بقي على أصل الخبرية فلا جرم لم يُفد إزالة العصمة؛ لأنه لم يوضع لها في العرف. فلو انعكس الحال في بعض الأزمنة أو بعض البلاد فصار (طالق) مهجورًا غير مستعمل في إزالة العصمة إلا على وجه الندرة، و (منطلقة) موضوعًا لذلك، ألزمناه الطلاق بمنطلقة بغير نية، ولم نلزمه الطلاق بطالق إلا بالنية وكذلك جميع الألفاظ لا أخص بهذا لفظًا دون لفظ. وليس في لغة العرب على الإطلاق ما يقتضي إزالة عصمة أحد عن امرأته. إنما فيها الإخبار عن الازالة. وفرق بين موجب الإزالة والإخبار عن الإزالة. والكلام إنما هو في الأول دون الثاني، وليس الأول في اللغة البتة في لفظ من الألفاظ وإنما يوجد ذلك في الألفاظ العرفية خاصة. فتأمل ذلك، فإن كثيرًا من الفقهاء يجوز أن تكون هذه الألفاظ تدل على هذه الأحكام لغة بسبب عدم معرفتهم بقواعد الشريعة وقواعد اللغة. =

وقد عرفت توجيه هذه الأقوال. ¬

_ = وحينئذ يتعين أن الإفادة إنما هي عرفية. فبنا ضرورة إلى تفقد العرف، إن وجدنا فيه شيئًا أفتينا به، وإلا حرم علينا الفتيا به وإن كان منقولًا في المذهب، فإن وضعه في المذهب يستحل أن يكون اللغة كما تقدم، فيتعين أن يكون العرف. والعرف إذا تغير تغيرت أحكامه إجماعًا كما تقدم. ومن العجب أنهم يُفتون بلزوم الطلاق الثلاث بما هو أشد وأبعد من "الحرام" وهو: الخَلية والبَرية ووهبتُك لأهلك. مع أنا لم نسمع أحدًا طلق امرأته بلفظ الخلية، ولو سمعناه ما كان عرفًا حتى يتكرر تكررًا يستغني في فهم معناه عن القرينة. ألا ترى أنا نسمع لفظ الأسد يستعمل في الرجل الشجاع مرارًا كثيرة، ومع ذلك لا نقول أنه من الألفاظ المنقولة، لاحتياجه للقرينة عند الإطلاق. وكذلك البحر في العالم والسخي، والغيث والغمام، وكذلك البدر في الجميل، إلى غير ذلك من الألفاظ التي تستعمل مجازًا فما يلزم من أصل الاستعمال النقل. ومالك رحمه اللَّه تعالى إنما أفتى في (المدونة) في الخلية والحرام والبرية ووهبتك لأهلك بالثلاث لأجل عرفٍ في زمانه. فإذا لم نجد نحن ذلك العرف لا تكون تلك الفتيا من ذلك في تلك الصورة، بل في صورة العرف لا في سورة عدمه. ألا ترى أنه أفتى بألفاظ كثيرة في المرابحة لأنها في العرف ذلك الوقت تستعمل كذلك. وفي وقتنا هذا لا تلزم تلك الأحكام عند تلك الإطلاقات. ألا ترى إلى قول القاضي إسماعيل في كتاب (الجلاب): إنما قال مالك ذلك في قبض الصداق؛ لأن ذلك كان عرفهم بالمدينة، وأما في غيرها فلا. بل نص العلماء في الكتب الموضوعة في الفُتيا وأحكامها وشروطها على أن المفتي إذا كان لبلدةٍ عادة وجاءه رجل لا يدري من أي البلاد هو يجب عليه أن يسأله عن عرف بلده. فإن أخبره بخلاف عرف بلده حرم عليه أن يفتيه بعرف نفسه ووجب عليه أن يفتيه بعرف السائل. فإن جاءه سائل آخرُ عرفُ بلده غير بلد الأول وجب عليه أن يفتيه بغير ما أفتى به الأول وكذلك جميع السائلين. وإنما أطنبت في هذا؛ لأني رأيتهم يجمدون على النقول الموجودة في الفتاوى المبنية على العوائد ويقولون: النقل هكذا، ولا يخرجوه عنه أصلًا. وهذا صعب محرم لا مرية فيه. إذا تقرر هذا، إن كان العرفُ في (الحرام) الثلاث فكما تقدم. وإن كان العرف أنه لأصل الطلاق دون العدد بطل استثناؤه؛ لأن أصل الطلاق واحدة، واستثناء واحدة من واحدة لا يصح فتلزمه واحدة، وهي مقتضى أصل كلامه. وإن كان اللفظ لم ينقل لأصل الطلاق أيضًا لم يلزمه شيء البتة إلا بالنية. هذه قواعد الفقه التي يتعين الانقياد لها". وانظر: "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 165)، "المدونة" (2/ 394، 402 - ط صادر)، "المعونة" (2/ 848)، "أسهل المدارك" (2/ 142)، "الكافي" (265)، "مواهب الجليل" (4/ 57)، "بداية المجتهد" (2/ 76 - 77).

فصل [تحرير مذهب الشافعي في المسألة]

فصل [تحرير مذهب الشافعي في المسألة] وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إنْ نوى به الظهار كان ظهارًا، وإن نوى به التحريم كان تحريمًا لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة، وإن نوى الطلاق كان طلاقًا وكان ما نواه، وإن أطلق فلأصحابه [فيه] (¬1) ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: أنه صريح في إيجاب الكفارة. والثاني: لا يتعلق به شيء. والثالث: أنه في حق الأَمَة صريحٌ في التحريم الموجب للكفارة وفي حق الحرة كناية، قالوا: لأن أصل الآية إنما وردت في الأمة، قالوا: فلو قال: "أنت عليَّ حرام" وقال: "أردتُ بها الظِّهار والطلاق" فقال ابن الحداد: يقال له: عَيَّنْ أحَدَ الأمرين؛ لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معًا، وقيل: يلزمه ما بَدَأ به منهما، قالوا: ولو ادَّعى رجل على رجل حقًا فأنكره فقال: "الحِلُّ عليك حرام، والنية نيتي لا نيتك، مالي عليك شيء" فقال: الحل عليّ حرام والنية في ذلك نيتك مالك عندي شيء، كانت (¬3) النية نية الحالِفِ لا المُحلِّف؛ لأن النية تكون ممن إليه الإيقاع. فصل [تحرير مذهب الإمام أحمد في المسألة] وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمُطْلَقِه وإن لم ينوه، إلا أن ينوي به الطلاق أو اليمين فيلزمه ما نواه. وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار فيلزمه ما نواه. وعنه رواية ثالثة أنه ظهار بكل حال، ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينًا ولا طلاقًا، كما لو نوى الطلاق أو اليمين بقوله: "أنت عليَّ كظهر أمي" فإن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬2) "الأم" (5/ 259 - 260) "مختصر المزني" (192 - 193) "الإقناع" (146)، "المهذب" (2/ 82)، "المنهاج" (106)، "حلية العلماء" (7/ 31)، "إخلاص الناوي" (3/ 209). (¬3) في (و): "فكانت".

[مذهب ابن تيمية في المسألة]

اللفظين صريحان في الظهار، فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله: "أعني به الطلاق" فهل يكون طلاقًا أو ظهارًا؟ على روايتين: إحداهما: يكون ظهارًا كما لو قال: "أنت عليَّ كظهر أمي"، أعني به الطلاق أو التحريم، إذ التحريم صريح في الظهار. والثانية: أنه طلاق لأنه قد صرَّح بإرادته بلفظ يحتمله، وغايته أنه كناية فيه، فعلى هذه الرواية إن قال: "أعني به طلاقًا" طلقت واحدة، وإن قال: "أعني به الطلاق" فهل تطلق ثلاثًا أو واحدة؟ على روايتين مأخَذُهما حَمْلُ اللام على الجنس أو العموم، هذا تحرير مذهبه وتقريره (¬1). [مذهب ابن تيمية في المسألة] وفي المسألة مذهب آخر وَرَاء هذا كله، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارًا ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به [كان يمينًا] (¬2) مُكفَّرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام [ابن تيمية] (¬3)، وعليه يدلُّ النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرًا من القول وزورًا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبَّه امرأته بالمحرَّمة، وإذا حلف به كان يمينًا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة (¬4)، وهذا محض القياس والفقه، ألا ترى أنه إذا قال: "للَّه عليَّ أن أعتق، أو أحج، أو أصوم" لزمه ولو قال: "إن كلمت فلانًا فلله عليّ ذلك" على وجه اليمين فهو يمين، وكذلك لو قال: "هو يهودي، أو نصراني" كَفَر بذلك، ولو قال: "إن فعلت كذا فهو يهودي، أو نصراني" كان يمينًا، وطَرْدُ هذا -بل نظيره من كل وجه- أنه إذا قال: "أنت عليَّ كظهر أمي" كان ظهارًا، فلو قال: "إن فعلتِ كذا فأنتِ عليَّ كظهر أمي" كان يمينًا، وطَرْدُ هذا أيضًا إذا قال: "أنت طالق" كان طلاقًا، وإن قال: "إن فعلت كذا فأنت طالق" كان يمينًا، فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان، وباللَّه التوفيق (¬5). ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" (7/ 367)، و"شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (5/ 401). (¬2) في (و): "يمينًا كان" بتقديم وتأخير. (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" (33/ 160، 167 - 168) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-. وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ن): "الإعتاق أو الحج أو الصدقة"، وفي (ك) و (ق): "الإعتاق والحج والصدقة". (¬5) في (ن) و (ك): "واللَّه الموفق".

فصل [منشأ أيمان البيعة]

فصل [منشأ أيمان البيعة] ومن هذه الالتزامات (¬1) التي لم يلزم بها اللَّه ولا رسوله لمن حلف بها الأيْمَانُ التي رتبها الفَاجِر الظَّالم الحجَّاج (¬2) بن يوسف، وهي أيمان البيعة. [كيف كانت البيعة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] وكانت البيعة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمصافحة، وبيعة النساء بالكلام (¬3)، وما مَسَّتْ يدُه الكريمة -صلى اللَّه عليه وسلم- يد امرأة لا يملكها (¬4)، فيقول لمن يبايعه: بايعتك، أو أبايعك، على السمع والطاعة في العسر واليسر والمَنْشَط والمكره، كما في "الصحيحين" عن ابن عمر: "كُنَّا نبايع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على السمع والطاعة، فيقول: فيما استطعت" (¬5)، وفي "صحيح مسلم" عن جابر: "كنا يوم الحديبية ألفًا ¬

_ (¬1) في (ك): "الإلزامات". (¬2) "التاريخ يظلم الحجاج مع الشيعة، إذا ظننا أنه كان سيئًا في كل شيء" (و). قلت: قال عنه الذهبي: ". . . وكان ظلومًا، جبارًا، ناصبيًا، خبيثًا سفاكًا للدماء: وكان ذا شجاعة وإقدام ومكر ودهاء، وفصاحة وبلاغة وتعظيم للقرآن. . . ثم قال بعد كلام: "فنسبّه ولا نحبّه بل نبغضه في اللَّه، فإنّ ذلك من أوثق عرى الإيمان. وله حسنات مغمورة في بحر ذنوبه، وأمره إلى اللَّه وله توحيد في الجملة، ونظراء من ظلمة الجبابرة والأمراء" اهـ. كذا في "السير" (4/ 343). (¬3) في هذا أحاديث منها: حديث عائشة حيث تقول: "فمن أقر بهذه الشروط من المؤمنات قال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: قد بايعتك، كلامًا ولا واللَّه ما مست يده يد امرأة في المبايعة" رواه البخاري (2713) في (الشروط): باب ما يجوز من الشروط في الإسلام، و (4891) في (التفسير): باب {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ}، (5288) في (الطلاق): باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية تحت الذمي، و (7214) في (الأحكام): باب بيعة النساء، ومسلم (1866) في (الإمارة): باب كيف بيعة النساء. وحديث أميمة بنت رقيقة: "إني لا أصافح النساء، إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة" رواه مالك في "الموطأ" (2/ 982 - 983)، وأحمد (6/ 357)، والترمذي (1597)، والنسائي (7/ 149)، وابن ماجه (2874)، وغيرهم وإسناده على شرط الشيخين. (¬4) سيأتي تخريجه، وانظر الهامش السابق، وفي (ق): "واللَّه الموفق". (¬5) رواه البخاري (7202) في (الأحكام): باب كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم (1867) في (الإمارة): باب البيعة على السمع والطاعة.

[كيف كانت بيعة النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس؟]

وأربع مئة، فبايعناه وعُمَرُ آخذ بيده تحت الشجرة، بايعناه على أن لا نَفَّر، ولم نبايعه على الموت" (¬1). [كيف كانت بيعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للناس؟] وفي "الصحيحين" عن عُبَادة بن الصامت قال: "بايَعْنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على السمع والطاعة في العُسْر واليُسْر والمَنْشَط والمكره، وعلى أَثَرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كُنَّا، لا نخاف (¬2) في اللَّه لومة لائم" (¬3). وفي "الصحيحين" أيضًا عن جُنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عُبَادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدِّثنا أصلحك اللَّه بحديثٍ ننتفع به (¬4) سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: دعانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبايعناه، وكان فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في مَنْشَطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأَثَرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تَرَوا كُفرًا بواحًا عندكم من اللَّه فيه بُرهان" (¬5). وفي "الصحيحين" عن عائشة قالت: كان المؤمنات إذا هاجَرْنَ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمتحنهن بقول (¬6) اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12]، إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمن أقرَّت بهذا من المؤمنات فقد أقرَّت بالمحنة، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أَقْررن بذلك من قولهن قال لهن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انطلقْنَ فقد بايعتُكنَّ"، ولا واللَّه ما مَسَّت يدُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدَ امرأة قط، غير أنه يبايعهنَّ بالكلام (¬7). ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (1856) في (الإمارة): باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال من رواية الليث عن أبي الزبير عن جابر. (¬2) كذا في (ن)، وفي سائر النسخ "لا تأخذنا". (¬3) رواه البخاري (7055 و 7056) في (الفتن:) باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سترون بعدي أمورًا تنكرونها"، و (7199 و 7200) في (الأحكام): باب كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم (1709) (3/ 1470) في (الإمارة): باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية. (¬4) في (ن) و (ك) و (ق): "ينفع اللَّه به". (¬5) هو في "صحيح البخاري" في الحديث المتقدم قبل (7055)، ومسلم (1709) (42) (3/ 1470). (¬6) في (ق) و (ك): "بقوله: يقول". (¬7) أخرج البخاري في "الصحيح" (كتاب الشروط): باب ما يجوز من الشروط في الإسلام =

[أيمان البيعة التي أحدثها الحجاج الثقفي]

قالت عائشة: واللَّه ما أخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على النساء قط إلا بما أمره اللَّه، وما مسَّتْ كفُّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كفَّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أَخذ عليهن: "قد بايعتكن" كلامًا (¬1). فهذه هي البيعة النبوية التي قال اللَّه عز وجل فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} [الفتح: 10] وقال فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. [أيمان البيعة التي أحدثها الحجاج الثقفي] فأحدث الحجَّاجُ في الإسلام بيعة غير هذه تتضمن اليمين باللَّه تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال والحج، فاختلف علماء الإسلام في ذلك على عدة أقوال. [من قال أيمان البيعة تلزمني] ونحن نذكر [تحرير] (¬2) هذه المسألة وكشفها، فإن كان مرادُ الحالف بقوله: "أيمان البيعة تلزمني" البيعةَ النبوية التي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يبايع عليها أصحابه لم يلزمه الطلاق والإعتاق ولا شيء مما رتبه الحجاج، وإن لم ينو تلك البيعة ونَوَى البيعة الحجَّاجية فلا يخلو: إما أن يذكر في لفظه طلاقًا أو عتاقًا أو حجًا أو صدقةً أو يمينًا باللَّه أو لا يذكر شيئًا من ذلك؛ فإن لم يذكر في لفظه شيئًا فلا يخلو: إما أن يكون عارفًا بمضمونها أو لا، وعلى التقديرين فإما أن ينوي مضمونها كله أو بعض ما فيها أو لا ينوي شيئًا من ذلك، فهذه تقاسيم هذه المسألة. ¬

_ = والأحكام والمبايعة (5/ 312/ رقم 2713)، وكتاب (الأحكام): باب بيعة النساء (13/ 203/ رقم 7214)، و (كتاب التفسير)، باب {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} (4891)، و (كتاب الطلاق): باب إذا أسلمت المشركة أو النصرانية (5288)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الإمارة): باب كيفية بيعة النساء (4/ 1489/ رقم 1866) عن عائشة -رضي اللَّه عنها-، قالت: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12]، قالت: وما مسّت يد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يد امرأة إلا امرأة يملكها" لفظ البخاري. وفي لفظ لمسلم: "ما مسّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيده امرأة قط". (¬1) هو تابع لما قبله. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[رأي الشافعي وأصحابه]

[رأي الشافعي وأصحابه] فقال الشافعي وأصحابه: إن لم يذكر في لفظه طلاقها أو عتاقها أو حجها أو صدقتها (¬1) لم يلزمه شيء، نَوَاه أو لم ينوه (¬2)، إلا أن ينوي طلاقها أو عتاقها فاختلف أصحابه، فقال العراقيون: يلزمه الطلاق والعتاق، فإنَّ اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النية. وقال صاحب "التتمة" (¬3): لا يلزمه ذلك وإن نواه ما لم يتلفظ به؛ لأن الصريح لم يوجد، والكناية إنما يترتب عليها الحكم فيما يتضمن الإيقاع، فأمَّا الالتزام (¬4) فلا، ولهذا لم يجعل الشافعي الإقرار بالكناية مع النية إقرارًا لأنه التزام، ومن هاهنا قال مَنْ قال من الفقهاء كالقَفَّال وغيره: إذا قال: "الطلاق يلزمني لا أفعل" لم يقع به الطلاق وإن نواه؛ لأنه كناية والكناية إنما يترتب عليها الحكم في غير الالتزامات، ولهذا لا تنعقد اليمين باللَّه بالكناية مع النية. [مذهب أصحاب الإمام أحمد] وأما أصحاب أحمد [فقد قال] (¬5) أبو عبد اللَّه بن بطة: كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن أيمان البيعة، فقال: لست أفتي فيها بشيء، ولا رأيت أحدًا من شيوخنا يفتي فيها بشيء، قال: وكان أبي رحمه اللَّه -يعني أبا علي- يَهَابُ الكلام فيها، ثم قال أبو القاسم: إلا أن يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الأيمان، فقال له السائل: عَرَفها أم لم يعرفها؟ قال: نعم، ووَجْهُ هذا القول أنه بالتزامه لموجبها صار ناويًا له مع التلفظ، وذلك مقتضى اللزوم، ومتى وجد سبب اللزوم والوجوب ثبت موجَبُه وإن لم يعرفه، كما لو قال: إن شفى اللَّه مريضي فثلث مالي صدقة، أو أوصى (¬6) ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "طلاقها وعتاقها وحجها وصداقها". (¬2) في (و): "شيء نواه، وإن لم ينوه". (¬3) كتاب "التتمة" كتاب في الفقه الشافعي، ألّفه المتولي أبو سعد عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري (المتوفى 478 هـ)، قال ابن هداية اللَّه في "طبقات الشافعية" (177): "وصنف "التتمة" تلخيصًا من "إبانة" الفوراني، مع زيادة أحكام عليها، ولذلك سماه "تتمة الإبانة" ولم يتم "التتمة"، بل بلغ إلى حد كتاب السرقة، فكمّلها جماعة" والكتاب غير مطبوع، يوجد له عدة نسخ في دار الكتب المصرية، ومكتبة أحمد الثالث بتركيا، ونسختها في اثني عشر جزءًا، ناقص الأول منها فقط، وهو كتاب مهم ومفيد، حري بأن يعتنى به، واللَّه الموفق. (¬4) في (ن) و (ك) و (ق): "فأما الإلزام". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ن): "فقال أصحاب"، وفي (ك) و (ق): "فقال". (¬6) في (ق) و (ك): "وصى".

فصل [مذهب المالكية]

به ولم يعرفه، أو قال: أنا مُقرّ بما في هذا الكتاب، وإن لم يعرفه، أو قال: ما أعطيتَ فلانًا فأنا (¬1) ضامن له، أو مَالَكَ عليه فأنا ضامنه، صحَّ ولزمه وإن لم يعرفه، أو قال: "ضمان عهدة هذا المبيع عليَّ" صحَّ ولزمه وإنْ لم يعرفه. وقال أكثر أصحابنا منهم صاحب "المغني" وغيره: إن لم يعرفها لم تنعقد يمشِه بشيء مما فيها؛ لأنها ليست بصريحة في القَسَم، والكناية لا يترتب عليها مقتضاها إلا بالنية، فمن لم يعرف شيئًا لم يصح أن ينويه (¬2) قالوا: وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم تصح أيضًا؛ لأنها كناية فلا يلزم حكمها إلا بالنية، وإن عرفها ونوى اليمينَ بما فيها صح في الطلاق والعتاق؛ لأن اليمين بهما تنعقد بالكناية، دون غيرهما؛ لأنها لا تنعقد بالكناية. وقال طائفة من أصحابنا: تنعقد في الطلاق والعتاق وصدقة المال دون اليمين باللَّه تعالى، فإن الكفارة إنما وجَبَتْ فيها لما اشتملت عليه من حرمة الاسم المعظم (¬3) الذي تعظيمه من لوازم الإيمان، وهذا لا يوجد فيما عداه من الأيمان. فصل [مذهب المالكية] وأما أصحاب مالك فليس عن مالك ولا عن [أحد من] (¬4) قدماء أصحابه فيها قول؛ واختلف المتأخرون، فقال أبو بكر ابن العربي (¬5): أجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه والعتق في جميع عبيده وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة، والمشي إلى مكة والحج ولو من أقصى المغرب والتصدق بثلث جميع أمواله وصيام شهرين متتابعين، ثم قال جُلُّ الأندلسيين: إن كل امرأة له تطلق ثلاثًا [ثلاثًا] (¬6)، وقال القرويون: إنما تطلق واحدة واحدة، وألزمه بعضهم صوم سنة إذا كان معتادًا للحلف بذلك. فتأمل هذا التفاوت العظيم بين هذا القول وقول أصحاب الشافعي. ¬

_ (¬1) في (و): "وأنا"، في (ك) و (ق): "أنا". (¬2) انظر: "المغني" (7/ 155). (¬3) في (و): "الأعظم". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) نحوه في "أحكام القرآن" (745 - 746) -وفيه: "وقد جمعتُ في المسألة رسالة إبان كنت بإفريقية، وقد كثر السؤال فيها عليّ، فاستخرتُ اللَّه تعالى على متوسط من الأقوال لم أخرج فيه عن جادّة الأدلة" -وانظره (1968) و"العواصم من القواصم" (ص 372 - 374) لابن العربي، و"البيان والتحصيل" (18/ 625) لابن رشد. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

فصل [الحلف بأيمان المسلمين]

فصل [الحلف بأيمان المسلمين] وهكذا اختلافهم فيما لو حلف بأيمان المسلمين أو بالأيمان اللازمة، أو قال: جميعُ الأيمان تلزمني، أو حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد. [مذهب المالكية] قالت المالكية: إنما ألزمناه بهذه المذكورات دون غيرها من كسوة العُرْيَان (¬1) وإطعام الجِيَاع والاعتكاف وبناء الثغور ونحوها ملاحَظَةً لما غلب الحلف به عرفًا، فألزمناه به؛ لأنه المسمَّى العرفيّ، فيقدَّم على المسمَّى اللغويَّ، واختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها هي المشتهرة، ولفظ الحلف واليمين إنما يستعمل فيها دون غيرها، وليس المدرك أن عادتهم أنهم يفعلون مسمياتها، وأنهم يصومون شهرين متتابعين، أو يحجُّون، بل غلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها، قالوا: وقد صرَّح الأصحابُ بأنه من كثرت عادته بالحلف بصوم سنة لزمه صوم سنة، فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرفي النقلي، قالوا: وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر أنه اشتهر (¬2) حللهم ونَذْرهم بالاعتكاف والرِّبَاط وإطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حَنِثَ الاعتكافُ وما ذكر معه، دون ما هو مذكور قبلها؛ لأن الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت (¬3)، كالعقود في المعاملات والعيوب في الأعواض في المبايعات ونحو ذلك، فلو تغيّرت العادة في النّقد والسّكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في المبيع عند الإطلاق على السكة والنقد المتجدد دون ما قبله، وكذلك إذا كان الشيء عيبًا في العادة رُدَّ به المبيع، فإن تغيرَّت العادة بحيث لم يعد عيبًا لم يرد به المبيع (¬4). قالوا: وبهذا تعتبر جميع الأحكام المترتبة (¬5) على العوائد، وهذا مجمع عليه ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "كسوة العميان"! (¬2) في (ن)، "أنه إن اشتهر". (¬3) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (15/ 305 - 308) و"الطرق الحكمية" (3 - 5، 8). (¬4) المذكور مع اللاحق من "الفروق" للقرافي (الفرق الثامن والعشرين): (المسألة الثالثة): (1/ 176 - 177). (¬5) في (ن): "المرتبة".

[يجب الأخذ بالعرف اعتبارا وإسقاطا]

بين العلماء، لا خلاف فيه، وإن وقع الخلاف في تحقيقه: هل وجد أم لا؟ قالوا: وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين، فلا تكاد تجد أحدًا يحلف به، فلا تسوغ الفتيا بإلزامه (¬1). [يجب الأخذ بالعرف اعتبارًا وإسقاطًا] قالوا: وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العُرْف [شيء] فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، قالوا فهذا هو الحق الواضح، والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، قالوا: وعلى هذه القاعدةُ تخرَّج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريحُ كنايةً يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحًا تستغني عن النية، قالوا: وعلى هذه القاعدة فإذا قال: "أيمان البيعة تلزمني" خرج ما يلزمه على ذلك. وما جرتْ به العادةُ في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نيةٌ، فأي شيء جَرَتْ به عادةُ ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عُرْفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة حُملت يمينه عليه، فإن لم يكن شيء من ذلك اعتبرت (¬2) نيته أو بِسَاطُ يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه، انتهى (¬3). [المفتي بمجرد المنقول دون اعتبار العرف ضال مضل] وهذا محض الفقه، ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطبِّ على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان. ¬

_ (¬1) "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 517 - 518). (¬2) في (ك): "فإن لم يكن الأمر كذلك اعتبرت". (¬3) كلام القرافي، وانظر: "العرف والعادة" (112) لأبي سنة، "العرف" (1/ 61 - 62).

[لم يكن الحلف بالأيمان اللازمة معتادا]

[لم يكن الحلف بالأيمان اللازمة معتادًا] ولم يكن الحلف بالأيمان اللازمة معتادًا على عهد السلف الطيّب، بل هي من الأيمان الحادثة المبتَدَعة التي أحدثها الجهلة الأول، ولهذا قال جماعة من أهل العلم: إنها من الأيمان اللاغية التي لا يلزم بها شيء البتَّة، أفتى بذلك جماعة من العلماء، ومن متأخري مَنْ أفتى بها تاجُ الدين أبو عبد اللَّه الأرموي صاحب كتاب "الحاصل" (¬1) قال ابن بزيزة في "شرح الأحكام": سأله عنها بعضُ أصحابنا، فكَتَبَ له بخطِّه تحت الاستفتاء: هذه يمينٌ لاغيةٌ، لا يلزم فيها شيء أَلبتة، وكتبَ محمد الأرموي، قال ابن بزيزة: وقفت على ذلك بخطه، وثبت عندي أنه خطه، ثم قال؛ وقال جماعة من العلماء: لا يلزم فيها شيء سوى كفَّارة اليمين باللَّه تعالى، [بناء على أن لفظ اليمين لا ينطلق إلا على اليمين باللَّه تعالى] (¬2)، وما عداه التزامات لا أيمان. قال: والدليل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كان حالفًا فَلْيَحْلف باللَّه أو لِيَصمُت" (¬3). [مذاهب القائلين بأن فيها كفارة] والقائلون بأن فيها كفارة يمين اختلفوا: هل تتعدد فيها كفارة اليمين بناء على أقل الجمع أو ليس عليه إلا كفارة واحدة لأنها إنما خرجت مخرج اليمين الواحدة كما أفتى به أبو عُمَر بن عبد البر (¬4) وأبو محمد بن حزم (¬5)؟ وقد كان أبو عمر يفتي بأنه لا شيء فيها أَلبتة، حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي (¬6)، وعاب عليه ذلك، قال: "ومن العلماء من رأى أنه يختلف بحسب اختلاف الأحوال (¬7) والمقاصد والبلاد، فمن حلف به قاصدًا للطلاق أو العتاق لزمه ما ألزمه نفسه، ومن لم يعلم مقتضى ذلك ولم يقصده ولم يقيّده العرفُ الغالب الجاري لزمه فيها كفارة ثلاثة أيمان باللَّه، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة، وبه كان يفتي أبو بكر الطرطوشي ومَنْ بعده من شيوخنا الذين حملنا عنهم، ومن شيوخ عصرنا من كان ¬

_ (¬1) مطبوع بعنوان "التحصيل من المحصول" عن مؤسسة الرسالة بتحقيق الدكتور عبد الحميد أبو زنيد. (¬2) قال (و): "هذا هو الحق"، وما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬3) هو جزء من الحديث المتقدم "إن اللَّه ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"، ومضى تخريجه. (¬4) انظر: "الاستذكار" (17/ 36). (¬5) انظر: "المحلى" (10/ 124). (¬6) في "المنتقى" (4/ 7 - 8). (¬7) في (ن) و (ق): "باختلاف الأحوال".

[القول بإجزاء كفارة واحدة هو رأي الصحابة]

يُفتي بها بالطلاق الثلاث بناء على أنه العرفُ المستمر الجاري الذي حصل عِلْمه والقصدُ إليه عند كل حالف بها، ثم ذكر اختلافَ المغاربة: هل يلزم فيها الطلاقُ الثلاث أم (¬1) الواحدة؟ ثم قال: والمعتمدُ عليه فيها الرجوعُ إلى عُرْف الناس وما هو المعلوم عندهم في هذه الأيمان، فإذا ثبت فيها عندهم شيء وقصدوه وعرفوه واشتهر بينهم وجب أن يَحْمِلوه عليه (¬2)، ومع الاحتمال يرجع إلى الأصل الذي هو اليمين باللَّه؛ إذ لا يُسمّى غير ذلك يمينًا، فيلزم الحالف بها كفارة ثلاثة أيمان، قال: وعلى هذا كان يُعوِّل (¬3) أهل التحقيق والإنصاف من شيوخنا. [القول بإجزاء كفارة واحدة هو رأي الصحابة] قلت: ولإجزاء الكفارة الواحدة فيها مَدْرَك آخر أفقه من هذا، وعليه تدل فتاوى الصحابة -رضي اللَّه عنهم- صريحًا في حديث ليلى بنت العجماء المتقدم (¬4)، وهذه الالتزامات الخارجة مخرج اليمين إنما فيها كفارة يمين بالنَّص والقياس واتفاق الصحابة كما تقدم، فموجَبُها كلها شيء واحد ولو تعدد المحلوف به، وصار هذا نظير ما لو حلف بكل سورة من القرآن على شيء واحد فعليه كفارة يمين لاتحاد المُوجب وإن تعدَّد السبب، ونظيره ما لو حلف بأسماء الرب تعالى وصفاته فكفارة واحدة، فإذا حلف بأيْمان المسلمين أو الأيمان كلها أو الأيمان اللازمة أو أيمان البيعة أو ما (¬5) يحلف به المسلمون لم يكن ذلك بأعظم مما لو حَلَف بكل كتاب أنزله اللَّه أو بكل اسم (¬6) من أسماء اللَّه أو صفة من صفات اللَّه، فإذا أجزأ في هذه (¬7) كفارة يمين مع حرمة هذه اليمين وتأكدها فَلأن تُجزئ الكفارة في هذه الأيمان بطريق الأوْلَى والأحرى، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة الحكيمة التي لم يطرق العالمَ شريعةٌ أكملُ منها غيرُ ذلك، وكذلك أفتى به أفقهُ الأمّةِ وأعلمهم بمقاصد الرسول ودينه وهم الصحابة. [اختلاف الفقهاء بعد الصحابة] واختلف الفقهاء بعدهم، فمنهم من يُلزم الحالف بما التزمه من جميع الالتزامات كائنًا ما كان، ومنهم من لا يلزمه بشيء منها ألبتَة لأنها أَيمانٌ غير ¬

_ (¬1) في (د)، و (ط): "أو". (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "أن يحملوا عليه". (¬3) في المطبوع و (ك): "يقول". (¬4) انظره (ص 438 - 439). (¬5) في (ط)، و (د): "بما". (¬6) في (ك): "أسماء". (¬7) في (ك) و (ق): "هذا".

فصل [أقوال العلماء في تأجيل بعض المهر وحكم المؤجل]

شرعية، ومنهم من يلزمه بالطلاق والعتاق ويخيّره في الباقي بين التكفير والالتزام، ومنهم من يحتِّم [عليه] (¬1) التكفير، ومنهم من يلزمه بالطلاق وَحْده دون ما عداه، ومنهم من يلزمه بشرط كون الصيغة شرطًا فإن كانت صيغة التزام فيمين، كقوله: "الطلاق يلزمني" لم يلزمه بذلك، ومنهم من يتوقف في ذلك ولا يفتي فيه بشيء، فالأول: قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، والثاني: قول أهل الظاهر وجماعة من السلف، والثالث: قول أحمد بن حنبل والشافعي في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومحمد بن الحسن، والرابع: قول بعض أصحاب الشافعي، ويُذكر قولًا له ورواية عن أحمد، والخامس: قول أبي ثور و [هو] (¬2) إبراهيم بن خالد (¬3)، والسادس: قول القَفَّال من الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة ويُحكى عنه نفسِهِ، والسابع: قول جماعة من أهل الحديث. وقول أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أصَحُّ وأفقه وأقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة، وباللَّه التوفيق. فصل [أقوال العلماء في تأجيل بعض المهر وحكم المؤجل] المثال التاسع (¬4): الإلزام بالصّدَاق الذي اتفق الزوجان على (¬5) تأخير المطالبة به، وإن لم يُسَميا أجلًا، بل قال الزوج: مئة مقدّمة ومئة مؤخّرة، فإن المؤخَّر لا يستحق المطالبة به إلا بموتٍ أو فُرْقَةٍ، هذا هو الصحيح، وهو منصوص أحمد، فإنه قال في رواية جماعة من أصحابه: إذا تزوّجها على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة، واختاره قُدَمَاء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، وهو قول النَّخَعي والشعبي والليث بن سعد (¬7)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬2) سقطت من جميع النسخ، وهي زيادة لا بد منها، إذ أبو ثور هو الفقيه إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي، ترجمته في "طبقات الشافعية الكبرى" (2/ 74) للسبكي و"شذرات الذهب" (2/ 93). (¬3) مذهبه في "المحلى" (11/ 386) و"فتح الباري" (9/ 372)، و"نيل الأوطار" (8/ 69)، و"فقه الإمام أبي ثور" (503). (¬4) "لما يتغير به الفتوى لتغير العرف والعادة والزمان والمكان" (و). (¬5) في (و): "اتفق الزوجان عليه على". (¬6) انظر: "مجموع الفتاوى" (32/ 195). (¬7) "الإشراف على مذاهب العلماء" (4/ 54 رقم 2262) ونقله الصردفي في "المعاني البديعة" (2/ 224) عن الحسن والنخعي.

وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول سنذكرها بإسنادها ولفظها [إن شاء اللَّه] (¬1)، وقال الحسن وحمَّاد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وسفيان الثوري [و] (¬2) أبو عُبيد: يبطل الآجل لجهالة محله، ويكون حالًا (¬3)، وقال إياس بن معاوية: يصح الآجل، ولا يحل الصداق إلا أن يفارقها أو يتزوج عليها أو يخرجها من بلدها، فلها حينئذ المطالبة به (¬4)، وقال مكحول والأوزاعي: يحل بعد سنة من وقت الدخول (¬5)، وقال الشافعي وأبو الخطَّاب: تفسد التسمية ويجب مهر المثل لجهالة العوض بجهالة أجله فترجع إلى مهر المثل (¬6). وأما مذهب مالك فقال عبد الملك: كان مالك وأصحابه يكرهون أن يكون شيء من المهر مؤخَّرًا، وكان مالك يقول: إنَّما الصَّداق فيما مضى ناجزٌ كله، فإن وقع منه شيء مؤخرًا فلا أحبُّ أن يطول الأجل في ذلك، وحُكي عن ابن القاسم تأخيره إلى السنتين والأربع، وعن ابن وهب إلى السنة، وعنه إن زاد الأجل على أكثر من عشرين سنة فسخ، وعن ابن القاسم إذا جاوز الأربعين فسخ، وعنه إلى الخمسين والستين، حكى ذلك كله فضل بن سلمة عن ابن المَوَّاز (¬7)، ثم قال: لأن الأجل الطويل مثل [ما] (¬8) لو تزوَّجها إلى موت أو فراق، قال عبد الملك: وقد أخبرني أصبغ أنه شَهِدَ ابن وهب وابن القاسم تذاكرا الأجل في ذلك، فقال ابن وهب: أرى فيه العشر (¬9) فدون فما جاوز ذلك فمفسوخٌ (¬10)، فقال له ابن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق) وحدها. (¬2) سقطت الواو من (ن). (¬3) "الإشراف على مذاهب العلماء" (4/ 54) ونقله الصردفي في "المعاني البديعة" (2/ 224) عن الحسن البصري وحماد والثوري وأبي عبيد. (¬4) نقله الصردفي في "المعاني البديعة" (2/ 225) وابن المنذر في "الإشراف على مذاهب العلماء" (4/ 55) عنه وعن قتادة. (¬5) "الإشراف على مذاهب العلماء" (4/ 54) ونقله الصردفي في "المعاني البديعة" (2/ 225) عن مكحول وعبيد اللَّه بن الحسن. (¬6) انظر: "الهداية" (262) لأبي الخطاب و"المعاني البديعة" (2/ 224) للصردفي. (¬7) هو الإمام الفقيه محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندري المالكي، الشهير بابن المواز، اختلف في وفاته، قيل: سنة (269 هـ)، وقيل: (سنة 281 هـ)، والمذكور نقله المصنف من "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 104). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬9) كذا في (ق) و (ن)، و"عقد الجواهر الثمينة": (2/ 104) وفي سائر الأصول: "العشرين". (¬10) في (ن)؛ "فمنسوخ"!!.

[فتاوى الصحابة في هذه المسألة]

القاسم: وأنا معك على هذا، فأقام ابن وهب على رأيه، ورجع ابن القاسم فقال: لا أفسخه إلى أربعين وأفسخه فيما فوق ذلك، فقال أصبغ: وبه آخذ ولا أحب ذلك نَدْبًا (¬1) إلى العشر ونحوها، وقد شهدتُ أشهب زوج ابنته وجعل مُؤخَّر مهرها إلى اثنتي عشرة سنة، قال عبد الملك: وما قَصُرَ من الأجل فهو أفضل، وإنْ بَعُد لم أفسخه إلا أن يُجاوز ما قال ابن القاسم، وإن كانت الأربعون في ذلك كثيرة جدًا، قال عبد الملك: وإن كان بعضُ الصَّداق مؤخَّرًا إلى غير أجل فإن مالكًا كان يفسخه قبل البناء ويمضيه بعده، وترد المرأة إلى صداق مثلها معجلًا كله (¬2)، إلا أن يكون صداق مثلها أقل من المُعجَّل فلا تنقص منه أو أكثر من المعجل والمؤجل فتوفي تمام ذلك، إلا أن يرضى الناكح بأن يجعل المؤخَّرَ معجلًا كله مع النقد فيمضي النكاح ولا يفسخ لا قبل البناء ولا بعده، ولا تُردُّ المرأةُ إلى صداق مثلها، ثم أطالوا بذكر فروع تتعلق بذلك (¬3). [فتاوى الصحابة في هذه المسألة] والصحيحُ ما عليه أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من صحة التسمية وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموتٍ أو فرقةٍ، حكاه الليث إجماعًا منهم، وهو محض القياس والفقه، فإن المُطْلَقَ من العقود ينصرفُ إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن، والعادةُ جاريةٌ بين الأزواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق، فجرت العادة مجرى الشرط كما تقدم ذكر الأمثلة بذلك، وأيضًا فإن عقد النكاح يخالف سائر العقود، ولهذا نافاه التوقيتُ المشترَطُ في غيره من العقود على المنافع، بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثّرة في صحّته، والصداق عوضه ومقابله، فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته، فهذا محض القياس، ونظير هذا لو أجَّره كلَّ شهر بدرهم فإنه يصح وإن كانت جملة الأجرة غير معلومة تبعًا لمدة الإجارة، فقد صحَّ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه في الجنة أنه أجَّر نفسَه كل دلو بتمرة، وأكل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ذلك التمر (¬4)، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المسلمون عَلَى ¬

_ (¬1) كذا في جميع الأصول! وفي "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 104): "بدءًا" وهو الصواب. (¬2) في (ك): "كليهما". (¬3) تراها في "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 105 - 106) وما سبق منه بالحرف. (¬4) رواه الترمذي (2473 و 2476) في (صفة القيامة): باب (34)، وابن إسحاق في =

شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا" (¬1) وهذا لا يتضمن واحدًا من الأمرين، فإن ما أحلَّ الحرَّام وحرَّم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أحقَّ الشروط (¬2) أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬3) وأما تلك التقديرات المذكورة فيكفي في عدم اعتبارها عدمُ دليل واحد يدل عليها، ثم ليس تقدير منها بأولى من تقدير أزيد عليه أو أنقص منه، وما كان هذا سبيله فهو غير معتبر. ¬

_ = "المغازي" (رقم 248)، وعنه هناد في "الزهد" (749) من طريق محمد بن كعب: حدثني من سمع علي بن أبي طالب فذكر قصة، وفيها أنه نزع كل دلو بتمرة، وليس فيه أنه أطعم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا. وقال الترمذي: حسن غريب!! وفيه راوٍ مبهم، ورواه مطولًا أبو يعلى (502)، وفيه مبهم أيضًا. وروى نحوه أحمد في "مسنده" (1/ 90 و 135) و"فضائل الصحابة" (1229)، وابنه عبد اللَّه في "الزهد" (164)، و"زوائده على فضائل الصحابة" (896)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 71، 72)، من طريق مجاهد عن علي نحوه، وفيه أكل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه، ومجاهد لم يسمع من علي. وروى ابن ماجه (2446) في (الرهون)؛ باب الرجل يستقي كل دلو بتمرة ويشترط جَلِدَة، والبيهقي (6/ 119) من طريق حنش عن عكرمة عن ابن عباس نحوه في قصة عليّ، وفيه أنه جاء بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وحنش هذا اسمه حسين بن قيس. قال البوصيري في "الزوائد" (2/ 262): هذا إسناد ضعيف، حنش اسمه حسين بن قيس، ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة، والبخاري، والنسائي، والبزار، وابن عدي، والعقيلي، والدارقطني. وعزاه لأحمد في "مسنده" من حديث ابن عباس، ولم أجده فيه بعد بحث، وهو فيه من حديث علي كما ذكرت، فلعله سبق فلم. وفي "سنن ابن ماجه" (2447)، والبزار (738 - البحر الزخار) من حديث علي موقوفًا: إن كنت لأدلو الذنوب بتمرة، وأشترط أنها حلوة جَلدة. وروى هناد (757) والمعافى بن عمران (246) كلاهما في "الزهد" من طريقين عن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار أن علي بن أبي طالب آجر نفسه من يهودي في أن ينزل له كل دلوٍ بتمرة، ورواية عمار عن علي مرسلة. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في المطبوع: "الشرط". (¬3) رواه البخاري (2721) في (الشروط): باب الشرط في المهر عند عقدة النكاح، و (5151) في (النكاح): باب الشروط في النكاح، ومسلم (1418) في (النكاح): باب الوفاء بالشروط في النكاح، من حديث عقبة بن عامر.

[رسالة من الليث بن سعد إلى مالك بن أنس]

[رسالة من الليث بن سعد إلى مالك بن أنس] وقال الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفَسَويُّ في كتاب "التاريخ والمعرفة" (¬1) له -وهو كتابٌ جَليلٌ غزيرُ العلمِ جَمُّ الفوائد-: حدثني يحيى بن عبد اللَّه بن بكير المخزومي قال: هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس (¬2): سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلا هو، أما بعد -عافانا اللَّه وإياك، وأحسن لنا العاقبة (¬3) في الدنيا والآخرة- قد بلغني كِتابُكَ تذكُر فيه من صلاح حالِكم الذي يسُرُّني، فأدام اللَّه ذلك لكم وأتمّهُ بالعَوْن على شكره والزيادة من إحسانه. وذكرتَ نظَرَك في الكتب التي بعثتُ بها إليك وإقامتَك إياها وخَتْمَكَ عليها بخاتمك، وقد أَتتْنا فجزاك اللَّه عما قدَّمتَ منها خيرًا، فإنها كُتُبٌ انتهت إلينا عنك فأحببتُ أن أبْلُغ حقيقَتَها بنظرك فيها. وذكرتَ أنه قد أنْشَطَكَ ما كتبتُ إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة (¬4)، ورجوتَ أن يكونَ لها عندي موضعٌ، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون (¬5) رأيك فينا جميلًا إلا لأني (¬6) لم أُذَاكِرْكَ مثلَ هذا. وأنّه بلغَكَ أني أفتي بأشياء مُخالِفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يَحِقُّ عليَّ الخوفَ على نفسي لاعتماد مَنْ قِبَلي على ما أفتيتُهم به، وأن الناس تبَعٌ لأهل المدينة إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآنُ. وقد أصبتَ بالذي كتبتَ به من ذلك إن شاء اللَّه تعالى، ووقَعَ مني بالموقع الذي تحب، وما أَعُدّ (¬7) أحدًا [قد] يُنْسِبُ إليه العلمَ أكْرَهَ لِشَواذِّ الفُتيا ولا أشَدَّ تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوْا، ولا آخَذَ لفُتياهم فيما اتَّفقوا عليه منِّي، والحمد للَّه رب العالمين لا شريك له. ¬

_ (¬1) (1/ 687) وما بين المعقوفتين منه، وسقط من الأصول جميعًا. (¬2) سيأتي توثيقها وتخريجها (ص 487)، وجاء في هامش (ق): "قال محمد بن رمح: كان دخل الليث كل سنة ثمانين ألف دينار وما وجبت عليه زكاة قط". (¬3) في (ن) و (ك): "أحسن العافية". (¬4) أي: أن تبتدأني بالنصيحة. (¬5) كذا في الأصول جميعًا، وفي مصادر التخريج، ونقلها صاحب "نماذج من رسائل الأئمة السلف، وأدبهم العلمي" (ص 33): "أن لا يكون"!! (¬6) كذا في (ط)، و (د): "إلا لأني"، وفي غيرها: "إلا أني". (¬7) في الأصول جميعًا: "وما أجد"، والتصويب من "المعرفة والتاريخ".

وأما ما ذكرْتَ مِنْ مُقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬1) وسلم بالمدينة، ونزولِ القرآن [بها] (¬2) عليه بين ظَهْرَي أصحابه، وما علَّمهم اللَّه منه، وأن الناس صاروا به تبَعًا لهم فيه، فكما ذكَرت. وأما ما ذكرتَ من قول اللَّه تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا (¬3) الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100] فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خَرَجُوا إلى الجهاد في سبيل اللَّه ابتغاءَ مرضاة اللَّه فجنَّدُوا الأجنادَ، واجتمع إليهم الناسُ فأظهروا بين ظَهْرَانَيْهمِ كتابَ اللَّه وسنَّةَ نبيه (¬4) ولم يكْتُمُوهم شيئًا عَلِموه. وكان في كلِّ جُند منهم طائفة يُعلِّمون -[للَّه] (¬5) - كتاب اللَّه وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يُفَسِّره لهم القرآنُ والسنةُ، ويقوِّمُهُم (¬6) عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارَهم المسلمون لأنفسهم. ولم يكن أولئك الثلاثة مضيِّعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون [لأجنادهم] (¬7) في الأمر اليسير لإقامة الدين والحَذَر من الاختلاف بكتاب اللَّه وسنة نبيه، فلم يتركوا أمرًا فسَّرهُ القرآن أو عمل به النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أو ائتمروا فيه بعده إلا أعْلَمُوهُمُوهُ. فإذا جاء أمرٌ عمل (¬8) فيه أصحابُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمصرَ والشَّامِ والعراقِ على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يزالوا عليه حتى قُبِضُوا لم يأمُرُوهم بغيره، فلا نراهُ يجوزُ لأجناد المسلمين أن يُحْدِثوا اليوم أمرًا لم يعمل به سَلَفُهم من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتابعين لهم. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (و). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في مطبوع "المعرفة"، و (د) و (ط)، و (و) و (ك) "من تحتها"، والصواب حذف "من". (¬4) كذا في الأصول، وفي سائر المصادر: "نبيّهم". (¬5) ما بين المعقوفتين من (و) و (ك)، و"المعرفة والتاريخ"، وفي "تاريخ ابن معين": "يعملون بكتاب اللَّه". (¬6) في مطبوع "المعرفة": "ويقومونهم"! وفي (ك) و (ق): "ويقويهم" وفي باقي الأصول: "وتقدمهم"!! والصواب ما أثبتناه، ومعناه: يصحح لهم فيما أخطأوا به أبو بكر. . . (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬8) في "المعرفة والتاريخ"، وسائر المصادر: "عملوا".

[حين ذهب العلماء وبقي فيهم من لا يشبه من مضى]

[حين ذهب العلماءُ وبقي فيهم من لا يُشبِه من مضى] مع أنَّ أصحابَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد اختلفوا بعده (¬1) في الفُتيا في أشياءَ كثيرةٍ، ولولا أني قد عرفتُ أنْ قد عَلِمْتَهَا لكتبتُ (¬2) بها إليك، ثم اختلف التابعون في أشياءَ بعد أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬3) وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤُه أشدَّ الاختلافِ. ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها ورأسُهم (¬4) يومئذ ابنُ شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن. [ما أخذه الليث على ربيعة] فكان (¬5) من خلاف ربيعة لبعض ما [قد] (¬6) مضى ما قد عرفتَ وحضرتَ، وسمعتُ قولَكَ فيه وقولَ ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعُبيد اللَّه بن عمر، وكثيرِ بن فَرْقَد وغيرِ كثيرٍ ممن هو أسَنُّ منه، حتى اضطَّرك ما كَرِهْت من ذلك إلى فراق مجلسه. وذاكَرَتُكَ أنت وعبدَ العزيز بن عبد اللَّه (¬7) بعضَ ما نَعيبُ على ربيعة من ذلك، فكُنتُما من الموافقين (¬8) فيما أنكرتُ، تَكْرَهان منه ما أكرهه (¬9)، ومع ذلك -بحمد اللَّه- عند ربيعةَ خيرٌ كثيرٌ، وعقلٌ أصيلٌ، ولسانٌ بليغٌ، وفَضْلٌ مستَبين، وطريقةٌ حسنة في الإسلام، ومودَّة [صادقة] (¬10) لإخوانه عامةً ولنا خاصة، رحمةُ اللَّه [عليه] وغفر له وجزاه بأحسنَ من عمله. [تناقض ابن شهاب أحيانًا] وكان يكون من ابن شهاب اختلافٌ كثيرٌ إذا لَقيناه، وإذا كاتَبه بعضُنا فربما ¬

_ (¬1) في (د) و (ط) و (و) و (ك) و (ق): "بعد"! (¬2) في المطبوع: "كتبت". (¬3) ما بين المعقوفتين من (و). (¬4) في مطبوع "المعرفة": "ورأيتهم" وهو تحريف، وفي (ك): "رأسهم". (¬5) في (ك) و (ق): "وكان". (¬6) سقطت من مطبوع "المعرفة"، وسائر المصادر التي أوردت الرسالة. (¬7) هو الماجشُون المدني، الثقة الفقيه (مات سنة 164 هـ) -رحمه اللَّه-. (¬8) كذا في الأصول، وفي "المعرفة" وسائر المصادر: "فكنتما لي موافقين". (¬9) في سائر المصادر: "أكره"، وكذلك في "المعرفة والتاريخ". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (د)، و (ط)، وهو مثبت في "المعرفة والتاريخ".

[لا يجوز الجمع بين الصلاتين في مطر]

كتب إليه في الشيء الواحد -عَلَى فَضْل رأيهِ وعلمِه- بثلاثة أنواعٍ يَنْقُضُ بعضُها بعضًا، ولا يَشعُر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يَدْعُوني إلى تَرْكِ ما أنكرت تركي إياه. [لا يجوز الجمع بين الصلاتين في مطر] وقد عرفتُ مما عِبتَ (¬1) إنكاري إياه: أن يجمع أحدٌ من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا اللَّه لم يجمع (¬2) منهم إمام قط في ليلة مَطَر، وفيهم أبو عبيدة بنُ الجرَّاح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومُعَاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أَعْلَمُهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" (¬3) وقال: "يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتَوْة" (¬4) وشَرحَبيل بن حَسَنة، وأبو الدَّرداء، وبلال بن رباح. ¬

_ (¬1) في الأصول: "عرفت أيضًا عيب"!!، وما أثبتناه من "المعرفة والتاريخ" وسائر المصادر. (¬2) في (ن) و (ك): "لم يخرج"! (¬3) هو جزء من حديث طويل: رواه بسياقة تامة أحمد في "مسنده" (3/ 184 و 281)، والترمذي (3791) في (المناقب)، وابن ماجه (154 و 155) في (المقدمة): باب في فضائل أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنسائي في فضائل الصحابة (138 و 182) والطحاوي في "مشكل الآثار" (808) (810)، والطيالسي (2096)، وابن حبان (7131 و 7137 و 7252)، والحاكم (3/ 422)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 122)، والبيهقي (6/ 210) و"المدخل" (91)، من طريق خالد الحذاء، وعاصم الأحول عن أبي قلابة عن أنس مرفوعًا به. قال الترمذي: حسن صحيح. ورواه الترمذي (3790) من طريق معمر عن قتادة عن أنس، وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من هذا الوجه، والمشهور من حديث أبي قلابة عن أنس. والمدقق في ألفاظه يجزم بيقين أن هذه القطعة من مرسل أبي قلابة، ومن ساقه بسياقة واحدة أدرج المرسل في المرفوع، كما قال جماعة من العلماء، وبيّنت ذلك -بما لا مزيد عليه- في جزء مفرد في طرق الحديث، والحمد للَّه، وسميتها طرق حديث أرحم أمتي بأمتي" وقرأته على شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- وكنت قد استدركت عليه تصحيحه إياه في المجلد الثالث من "السلسلة الصحيحة" وأقرني على ما توصلت إليه، متبعًا لغير واحد من أجلّة العلماء ومن أهل الصنعة الحديثية، مثل: الدارقطني، والخطيب البغدادي، وأبي نعيم الأصبهاني، والحاكم، والبيهقي وابن عبد البر وابن تيمية وتلميذه محمد بن عبد الهادي. وفي الأصول: "أعلمكم"، والتصويب من مصادر التخريج. (¬4) رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 590) والمحاملي في "أماليه" (رقم 214 - رواية =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ابن مهدي بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر (58/ 404) - وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 228) من طريق يزيد بن هارون، ومروان بن معاوية كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة عن شهر بن حوشب عن عمر بن الخطاب قال: ". . . سمعت نبيك -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول. . . فذكر بنحوه". وهذا إسناد ضعيف، شهر بن حوشب ضعيف، ثم هو لم يسمع من عمر بن الخطاب، وسعيد بن أبي عروبة اختلط، ورواية يزيد عنه قبل الاختلاط. لكن عبد اللَّه بن نمير رواه عن سعيد به موقوفًا على عمر: رواه ابن سعد في "الطبقات" (3/ 248)!! وهذا إما من تخليط سعيد أو بسبب ضعف شهر بن حوشب. وله طريق آخر عن عمر: رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1833)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 229) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 403) من طريق ضمرة بن ربيعة عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني (وفي "الحلية" الشيباني، وهو خطأ) عن أبي العجفاء -وزاد في "الحلية": أو أبي العجماء- قال: قيل لعمر. . . وأبو العجفاء هذا قال ابن معين: اسمه هَرِم بصري ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البخاري: في حديثه نظر، وقال أبو أحمد الحاكم: ليس حديثه بالقائم، ووثقه الدارقطني، وبقية رجاله ثقات فمثل حديثه يقبل في الشواهد. قلت: وللحديث شواهد مرسلة وهى: أولًا: محمد بن كعب القرظي. رواه ابن سعد (2/ 347)، ومن طريقه ابن عساكر (58/ 406) وإسناده إلى محمد صحيح. ورواه أبو نعيم (1/ 228) من طريق أبي العباس الثقفي: حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية عن محمد بن كعب به. لكن رواه الطبراني في "الكبير" (20/ 41)، وأبو نعيم (1/ 229) وابن عساكر (58/ 406) من طريق يحيى بن أيوب عن عمارة عن محمد بن عبد اللَّه بن أزهر عن محمد بن كعب. قال الهيثمي (9/ 311): وفيه محمد بن عبد اللَّه بن أزهر، ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. ثانيًا: محمد بن عبيد اللَّه الثقفي، أبو عون: رواه ابن سعد في "الطبقات" (2/ 347)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 530) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1834) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (58/ 405، 406) من طريق أبي معاوية عن أبي إسحاق الشيباني عنه، ورجاله ثقات. ثالثًا: الحسن البصري: رواه ابن سعد (2/ 347)، وابن أبي شيبة (7/ 530)، وابن أبي عاصم (1835) وابن عساكر (58/ 406) وإسناده صحيح. فالذي يظهر أن الحديث مسندًا أو مرسلًا له أصل، ولذلك صححه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "السلسلة الصحيحة" (3/ 81 - 84) (رقم 1091)، والعجيب أن =

[القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق]

وكان أبو ذر بمصر والزُّبير بن العوَّام وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلِّها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمرانُ بن حُصين، ونزلها [أمير المؤمنين] (1) عليُّ بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬1) سنين، وكان معه من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬2) وسلم فلم (¬3) يجمعوا بين المغرب والعشاء قط (¬4). [القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق] ومن ذلك القضاءُ بشهادة شاهد ويمينِ صاحب الحق، وقد عرفتَ أنه لم يزل يُقْضَى بالمدينة به، ولم يقضِ به أصحابُ رسولَ اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬5) وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكْتُبْ به إليهم الخلفاءُ الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم وُلِّي عمر بن عبد العزيز -وكان كما قد عَلِمتَ في إحياء السُّنن، [وقطع البدع] (¬6)، والجِدِّ في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس- فكتب إليه رُزَيق بن الحكيم (¬7): إنكَ كنتَ تقضي بالمدينة بشهادةِ الشَّاهد الواحد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه ¬

_ = الحافظ ابن حجر في "الإصابة" لم يذكر هذا الحديث إلا من مرسل أبي عون فقط!! و"الرتوة -بالتاء-: أي برمية سهم، وقل: بميل، وقيل مدى البصر" (و)، وباختصار في (د)، و (ط). وفي "أساس البلاغة" (ص 220) قال: "مسافة بعيدة قدر مد البصر". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين من (و) فقط. (¬3) زاد (د) قبلها: "كثير" ووضعها بين معقوفتين، ولا وجود لها في الأصول، ولا في مصادر تخريج "رسالة الليث". (¬4) معلوم أن مذهب الليث بن سعد -رحمه اللَّه-: منع الجمع بين الصلاتين لأجل المطر؛ كما ذهب إليه أصحاب الرأي؛ خلافًا لما ذهب إليه مالك، وأحمد، والأوزاعي، وكثير من الفقهاء من جوازه، وانظر "موسوعة فقه الليث بن سعد" (369) وكتابنا: "فقه الجمع بين الصلاتين في الحضر بعذر المطر" (ص 43 - 45). (¬5) ما بين المعقوفتين من (و) فقط. (¬6) في مطبوع "المعرفة": "وقطع اليد"!! وسقطت من (ك) و (ق). (¬7) في (ن)؛ "زريق" بتقديم الزاي، وكذا في مطبوع: "المعرفة"!!، وفي المطبوع و (ك) و (ق) "ابن الحكم"، والصواب ما أثبتناه، كما في "المؤتلف" (1013) للدارقطني و (58) لعبد الغني، و"الإكمال" (4/ 47)، وفي "التبصير" (2/ 501): "واختلف فيه كما اختلف في اسم أبيه، هل (رزيق) بتقديم الراء على الزاي، أو بتقديم الزاي على الراء، وهل حُكيم، بالضم أو بالفتح".

[مؤخر الصداق]

عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهلَ الشام على غير ذلك؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجلٍ وامرأتين. ولم يَجمع بين العشاء والمغرب قَطُّ ليلة المطرِ، والسماء (¬1) يَسْكبُ عليه في منزله الذي كان فيه بخُنَاصِرَ (¬2) ساكنًا (¬3). [مؤخر الصّداق] ومن ذلك أنَّ أهلَ المدينة يقضون في صَدُقَاتِ النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخَّر صداقها تكلَّمَتْ فدُفع إليها، وقد وافق أهلُ العراق أهلَ المدينة على ذلك وأهلُ الشام وأهلُ مصر، ولم يقضِ أحدٌ من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا مَنْ بعدهم لامرأةٍ بصدَاقها المؤخَّرِ إلا أن يفرِّق بينهما موتٌ أو طلاقٌ فتقوم على حقِّها. [القول في الإيلاء] ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاقٌ حتى يُوقَفَ وإنْ مرَّت الأربعةُ الأشهُرُ، وقد حدثني نافع عن عبد اللَّه بن عمر -وهو الذي كان يُرْوَى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر- أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر اللَّه في كتابه: لا يحِلُّ للمُولي إذا بَلَغ الأجلَ إلا أن يفيء كما أمر اللَّهُ أو يَعزِمَ الطَّلاقَ (¬4)، وأنتم تقولون: إنْ لَبِث بعد الأربعة الأشهر التي سمَّى اللَّه في كتابه ولم يُوقَف لم يكن ¬

_ (¬1) بدلها في المطبوع: "والمطر". (¬2) قال (و): "بليدة من أعمال حلب، تحاذي قِنَّسْرين نحو البادية، وتقال بالتاء -أيضًا-" اهـ. قلت: وهي بالتاء في المطبوع، وانظر: "معجم البلدان" (3/ 467). (¬3) بدلها في بعض المصادر التي ذكرت الرسالة: "سكبًا"، وما أثبتناه من "المعرفة", وكذا في جميع الأصول، وقد حررت مذهب عمر بن عبد العزيز في الطبعة الثانية من كتابي "فقه الجمع بين الصلاتين" (ص 40، 43 - 44، 139 - 140)، وفيها كثير من الزيادات على الطبعة الأولى، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬4) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 556)، والبخاري في "صحيحه" (5290) و (5291) في (الطلاق): باب قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}، وعبد الرزاق (11661) و (11662)، وابن أبي شيبة (4/ 98) , وسعيد بن منصور (1911)، والبيهقي (7/ 377) من طرق عن نافع عنه، وفيها ما هو من أصح الأسانيد.

[حكم المرأة التي تملك ثم تختار زوجها]

عليه طلاقٌ، وقد بلغنا عن (¬1) عثمان بن عفَّان، وزيد بن ثابت، وقَبِيصَةَ بنِ ذؤيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوت [أنهم] قالوا في الإيلاء: إذا مَضَتْ الأربعةُ الأشهر فهي تطليقةٌ بائنة (¬2)، وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن [بن الحارث] (¬3) بن هشام، وابن شهاب: إذا مَضَتْ الأربعةُ أشهر (¬4) فهي تطليقة، ولهُ الرَّجعةُ في العِدَّة. [حكم المرأة التي تملك ثم تختار زوجها] ومن ذلك أنَّ زيد بن ثابت كان يقول: إذا مَلَّكَ الرجلُ امرأتَه [أمرَها] (¬5) فاختارت زوجَهَا فهي تطليقةٌ، وإن طلَّقَتْ نفسها ثلاثًا فهي تطليقة (¬6)، وقضى بذلك ¬

_ (¬1) في الأصول: "أن"، وما ذكرناه من "المعرفة" وغيره. (¬2) أما قول عثمان، وزيد بن ثابت: فقد رواه عبد الرزاق (11638)، ومن طريقه البيهقي (7/ 378)، وابن أبي شيبة (4/ 95)، والدارقطني (4/ 62) من طريق معمر عن عطاء الخراساني عن أبي سلمة عنهما في الإيلاء قالا: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة، وهي أحق بنفسها تعتد عدة المطلقة. قال البيهقي: وكذلك رواه الأوزاعي عن عطاء الخراساني، وليس ذلك بمحفوظ، وعطاء الخراساني ليس بالقوي، والمشهور عن عثمان بخلافه، ثم روى من طريق الميموني قال: ذكرت لأحمد بن حنبل رحمه اللَّه حديث عطاء الخراساني عن أبي سلمة عن عثمان فقال: لا أدرى ما هو، روي عن عثمان -رضي اللَّه عنه- خلافه، قيل له: مَنْ رواه؟ قال: حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن عثمان يوقف. أقول: وقول عثمان الذي ذكره أحمد: رواه عبد الرزاق (11664)، والبيهقي (7/ 377)، ورواية الأوزاعي عن عطاء، والميموني عن أحمد عند الدارقطني (4/ 62 - 63). وأما قول قبيصة: فرواه عبد الرزاق (11651)، وابن أبي شيبة (4/ 96) عن معمر عن الزهري عنه، وإسناده على شرط الشيخين، وأما قول أبي سلمة فهو المنقول قبل عند قول عثمان وزيد. (¬3) سقط من "المعرفة والتاريخ". (¬4) في الأصول: "الأشهر". (¬5) ما بين المعقوفتين من هامش (ق). (¬6) روى مالك في "الموطأ" (2/ 554)، ومن طريقه البيهقي (7/ 348) عن سعيد بن سليمان بن زيد بن ثابت عن خارجة بن زيد أنه كان جالسًا عند زيد بن ثابت -رضي اللَّه عنه- فأتاه محمد بن أبي عتيق، وعيناه تدمعان، فقال له زيد: ما شأنك، قال: ملكت امرأتي أمرها ففارقتني، فقال له زيد: ارجعها إن شئت، فإنما هي واحدة، وأنت أملك بها، وإسناده صحيح. وروى عبد الرزاق (11917)، وسعيد بن منصور (1621)، والبيهقي (7/ 348) من طريق القاسم بن محمد عن زيد بن ثابت أنه قال في رجل جعل أمر امرأته بيدها، فطلقت نفسها ثلاثًا قال: هي واحدة. =

[الحر يشتري أمته والحرة تتزوج عبدها]

عبد الملك بن مروان، وكان ربيعةُ بن [أبي] (¬1) عبد الرحمن يقولُه. وقد كان الناسُ يجتمعون على أنها إن اختارَتْ زوجَهَا لم يكن فيه طلاقٌ، وإن اختارَتْ نفسَها واحدةً أو اثنتين كانتْ له عليها رجعة (¬2)، وإن طلَّقتْ نفسَها ثلاثًا بانتْ منه، ولم تحِلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره، فيدخُل بها ثم يموتُ أو يطلِّقها، إلا أن يَرُدَّ عليها في مجلسه فيقول: إنما ملَّكتُكِ واحدة، فيُستَحْلَفُ ويُخَلَّى بينه وبين امرأته. [الحرُّ يشتري أمته والحرّة تتزوّج عبدها] ومن ذلك أن عبد اللَّه بن مسعود كان يقول: أنَّما رجل تزوَّج أمةً ثم اشتراها زوجُها فاشتراؤها إياها ثلاث تطليقات (¬3)، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوَّجَتْ المرأةُ الحرةُ عبدًا فاشتَرَتْه فمثل ذلك. [ما أخذه الليث على مالك] وقد بُلِّغْنَا عنكم شيئًا من الفتيا مُستكرهًا (¬4)، وقد كنتُ كتبتُ إليك في بعضها (¬5) فلم تجبني في كتابي، فتَخوَّفْتُ أن تكون استَثْقَلتَ ذلك، فتركتُ الكتاب ¬

_ = ونحو هذا ورد في "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 43)، و"سنن البيهقي" (7/ 348) من طريق أبان بن عثمان عن زيد. وروى ابن أبي شيبة (3/ 46) من طريق أشعث عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن زيد بن ثابت قال: إن اختارت نفسها فثلاث، وإن اختارت زوجها فواحدة. وأشعث: هو ابن سَوَّار، والحكم هو ابن عتيبة، وابن أبي ليلى هو عبد الرحمن، وأشعث ضعيف. وروى نحوه سعيد بن منصور (1651): حدثنا هشيم: أخبرنا مغيرة عن إبراهيم عن زيد به. والمغيرة هو ابن المقسم، وإبراهيم هو النخعي لم يسمع من زيد بن ثابت. (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) في الأصول: "الرجعة". (¬3) روى عبد الرزاق (13169) وسعيد بن منصور (1941، 1942) من طريقين عنه قال: "بيع الأمة طلاقها". (¬4) في (ق): "نستنكرها". (¬5) روى ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 148) بسنده إلى عبد اللَّه بن غانم عن الليث بن سعد أنه قال: "أحصيتُ على مالك بن أنس سبعين مسألةً، كلُّها مخالفةٌ لسنَّة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، مما قال مالك فيها برأيه، قال: ولقد كتبتُ إليه في ذلك". قلت: فلعله يشير هنا إلى تلك المسائل، واللَّه أعلم.

[تقديم الصلاة قبل الخطبة في الاستسقاء]

إليك في شيء مما أنكرتُ (¬1) وفيما أوردتُ فيه على رأيك (¬2). [تقديم الصلاة قبل الخطبة في الاستسقاء] وذلك أنه بلغني أنك أمرتَ زُفَرَ بن عاصم الهِلَاليُ (¬3) -حين أراد أن يستسقي- أن يُقَدِّم الصَّلاةَ قبل الخطبة، فأعظمتُ ذلك؛ لأنَّ الخُطبة والاستسقاءَ كهيئة يوم الجُمعة إلا أن الإمام إذا دنا فَرَاغُه (¬4) من الخُطبة [حوّل وجهه إلى القبلة] فدَعَا وحَوَّلَ رداءه ثم نزل فصلى، وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرُهما، فكلّهم يقدِّمُ الخطبةَ والدعاء قبل الصلاة. فاسْتَهتَر الناسُ [كلهم] (¬5) فعلَ زُفَر بن عاصم من ذلك واستَنْكَروه. [لا تجب الزكاة على الخليطين حتى يملكَ كلٌّ منهما النصاب] ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال: إنه لا تجبُ عليهما الصدقة، حتى يكون لكل واحدٍ منهما ما تجب فيه الصَّدقةُ، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادَّان بالسَّوِيَّة (¬6)، وقد كان ذلك يُعمَل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قِبلَكَم وغيرِه، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يَكُن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه اللَّه وغفر له وجعل الجنةَ مصيرَه. [من أحكام المفلس] ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذأ أفلس الرجلُ وقد باعه رجلٌ سلعةً، فتقاضى طائفةً من ثمنها أو أنفقَ المشتري طائفةً منها أنه يأخذُ ما وَجَدَ من متاعه، وكان الناس على أنَّ البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئًا أو أنفق المشتري منها شيئًا فليستْ بعينها. ¬

_ (¬1) في (د)، و (ط): "أُنكرهُ". (¬2) كذا في الأصول، و"المعرفة" وفي بعض المصادر: "عَلِمَ رأيك"، وفي (ق): "وفيما أردت". (¬3) والي المدينة من جهة الخليفة المهدي. (¬4) في الأصول: "من فراغه". (¬5) سقط من مطبوع "المعرفة والتاريخ"، وفي (ق): "فاشتهر" بدل "فاستهتر". (¬6) كتاب عمر في الصدقات تكلمنا عليه في مكان آخر من هذا الكتاب، وانظره مفصلًا في "نصب الراية" (2/ 338 - 339) وقد ورد هذا أيضًا في حديث أبي بكر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصدقات، أخرجه البخاري (1451) في الزكاة: و (2487) في الشركة كلاهما في باب ما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية.

[ماذا أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أسهم للزبير]

[ماذا أعطى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من أسهم للزبير] ومن ذلك أنك تذكر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُعْطِ الزبيرَ بن العوام إلا لفرَس واحد، والناس كلهم يحدِّثون أنه أعطاه أربعةَ أسْهُمٍ بفرسين (¬1) ومنعه الفَرَسَ الثالثَ (¬2)، والأمةُ كلُّهم على هذا الحديث: أهلُ الشام، وأهلُ مصر، وأهلُ العراق، وأهلُ إفريقية، لا يختلف فيه اثنان؛ فلم يكن ينبغي لك -وإنْ كنتَ سمعتَه من رجلٍ مرضي- أن تخالف الأمة أجمعين. وقد تركتُ أشياءَ كثيرة من أشباه هذا. [إجلال الليث لمالك وختام رسالته] وأنا أحبُّ توفيق اللَّه إيَّاكَ وطُولَ بقائِك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضَّيْعَة إذا ذهب مِثْلُك مع استئناسِي بمكانك، وإن نأتْ الدَّارُ. فهذه منزلتُك عندي، ورأيي فيك فاستَيْقِنْهُ، ولا تَتْرُك الكتابَ إليَّ بخبرك، وحالك، وحالِ وَلَدِك وأهلك، وحاجةٍ إنْ كانت لك أو لأحدٍ يُوصَلُ بك، فإنِّي أُسَرُّ بذلك، كتبتُ إليك ونحن صَالحون مُعَافَوْنَ والحمد للَّه، نسأل اللَّه أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا (¬3) وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة اللَّه (¬4). ¬

_ (¬1) في الأصول: "لفرسين". (¬2) ذكر هذا البيهقي في "سننه الكبرى" (6/ 328 - 329) عن الشافعي قال: وقد ذكر عبد الوهاب الخفاف عن العمري عن أخيه أن الزبير وافى بأفراس يوم خبير، فلم يسهم إلا لفرس واحد. والعمري: هو عبد اللَّه بن عمر، وهو ضعيف، وفيه انقطاع. وانظر -غير مأمور-: "السير" (178 - 185) للفزاري، و"شرح السير الكبير" (3/ 930) للسرخسي، و"الرد على سير الأوزاعي" (17 - 19) لأبي يوسف، و"الأحكام السلطانية" (249 - 250) للماوردي و (ص 135 - 136) للقاضي أبي يعلى، و"فتح الباري" (6/ 68)، و"التلخيص الحبير" (3/ 106 - 107 رقم 1408)، و"زاد المعاد" (2/ 138، 142). (¬3) في (و): "أولينا". (¬4) انظر نص الرسالة كاملًا في "المعرفة والتاريخ" (1/ 687) للفسوي، و"تاريخ ابن معين" (4/ 487 - 497)، وأشار إليها القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (3/ 43 - 44)، والحجوي في "الفكر السامي" (1/ 376)، وقال بعد أن ساقها: "مُحصَّل الرسالة أن مالكًا أراد جمع الكلمة على عمل أهل المدينة، وحديث أهل الحجاز لقوَّته، لكن الإمام=

[عود إلى القول في تأجيل بعض المهر]

[عود إلى القول في تأجيل بعض المهر] فإن قيل: فما تقولون فيما لو تجمَّلوا وجعلوه حالًا، وقد اتفقوا [في الباطن] (¬1) على تأخيره كصدقات النساء في هذه الأزمنة في الغالب: هل للمرأة أن تطالب به قبل الفرقة أو الموت؟ [مهر السر ومهر العلن] قيل: هذا ينبني على أصل، وهو إذا اتفقا في السر على مهر وسموا في العلانية أكثر منه، هل يؤخذ بالسر أو بالعلانية؟ فهذه المسألة مما اضطربت فيها أقوال المتأخرين؛ لعدم إحاطتهم بمقاصد الأئمة، ولا بد من كشف غطائها، ولها في الأصل صورتان: إحداهما: أن يعقدوه في العلانية بألفَيْن مثلًا، وقد اتفقوا قبل ذلك أن المهر ألف وأن الزيادة سمعة، من غير أن يعقدوه [في العلانية] (¬2) بالأقل؛ فالذي عليه القاضي ومَنْ بعده من أصحاب أحمد أن المهر هو المسمّى في العقد، ولا اعتبار بما اتفقوا عليه قبل ذلك، هان قامت به البينة أو تصادقوا عليه، وسواء كان مهر العلانية من جنس مهر السر أو من جنس غيره أو أقل منه أو أكثر، قالوا: وهو ظاهرُ كلام أحمد في مواضع، قال في رواية ابن بدينا في الرجل (¬3) يصدق صداقًا ¬

_ = الليث تمسك برأيه، وأن ما عليه أهل كل بلد له حجة وأصل، أما ما انتقده الليث من أقوال الإمام فكله أجاب عنه أصحابه في كتب الفقه والخلافيات، وليس المحل لاستقصاء ذلك، وإنما ذلك في الكتاب صورة من صور النزاع الذي كان واقعًا في هذا العصر، وصورة من أصول الفقه". وانظر لها: "المدخل إلى الإكليل" (68) للحاكم. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬3) في (و): "قال في رواية يزيد: ثنا في الرجل"، وعلق قائلًا: "هكذا في نسخة، وفي نسخة ابن بدينا، وفي كتاب "إبطال التحليل" الشيخ الإسلام ابن تيمية الذي ينقل عنه ابن القيم هذا ورد: "قال في رواية ابن المنذر" (ص 155 ج 3 - فتاوى ابن تيمية - طبع دار الكتب الحديثية) " اهـ. قلت: تحرف (ابن بدينا) في مطبوع "إبطال التحليل" (ص 155) إلى (ابن المنذر) في طبعة "مجموع الفتاوى"، ووقعت على الجادة (ص 155 - بتحقيق د. فيحان المطيري)، وهو محمد بن الحسن بن هارون بن بدينا، أبو جعفر الموصلي، توفي سنة (303)، ترجمته في "المقصد الأرشد" (2/ 388)، وانظر تعليقي على "القواعد" لابن رجب (1/ 265).

في السر والعلانية (¬1) شيئًا آخر: يؤخذ بالعلانية، وقال في رواية أبي الحارث: إذا تزوجها في العلانية على شيء وأسَرَّ غير ذلك أخذنا بالعلانية وإن كان قد أشهد في السر بغير ذلك، وقال في رواية الأثرم في رجل أصدق صداقًا سرًا وصداقًا علانية: يؤخذ بالعلانية إذا كان قد أقر به، قيل له: فقد أشهد شهودًا في السر بغيره؟ قال: وإنْ، أليس قد أقر بهذا (¬2) أيضًا عند شهود؟ يؤخذ بالعلانية (¬3). قال شيخنا (¬4): "ومعنى قوله: "أقرَّ به" أي رضي به والتزمه؛ لقوله سبحانه: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] وهذا يعم التسمية في العقد والاعتراف بعده، ويقال: أقر بالجزية، وأقر للسلطان بالطاعة، وهذا كثير في كلامهم، وقال في رواية صالح في الرجل يعلن مهرًا ويخفي آخر: آخذ بما يعلن؛ لأن العلانية قد أشهد (¬5) على نفسه، وينبغي لهم أن يفوا له بما كان أسَرَّه (¬6)، وقال في رواية ابن منصور: إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرًا آخر ينبغي لهم أن يَفُوا، وأما هو فيؤاخذ (¬7) بالعلانية (¬8)، قال القاضي وغيره: فقد أطلق القول بمهر العلانية، [وإنما قال: ينبغي لهم أن (¬9)] يَفُوا بما أسروا (¬10)، على طريق الاختيار؛ لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك، وهذا القول هو قول الشعبي (¬11)، وأبي قِلابة (¬12) وابن أبي ليلى (¬13)،. . . . . . . ¬

_ (¬1) في (و) و (ق): "في السر وفي العلانية". (¬2) في (ن) و (ك): "بها". (¬3) انظر: "المغني" (10/ 172)، و"شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (5/ 324 - 326)، و"الإنصاف" (8/ 293)، و"المبدع" (7/ 165)، و"الفروع" (5/ 267)، و"المقنع" (3/ 89)، و"الكافي" (2/ 716). (¬4) في كتاب "بيان الدليل على بطلان التحليل" لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 155 - 158)، وما بين المعقوفتين منه. (¬5) زاد (د) بعدها: "بها"!! (¬6) في "مسائل صالح": "بما كان أسر"، وانظرها (3/ 140/ 1520). (¬7) في (د)، و (ط) و (ق): "فيؤخذ"، وكذا في مطبوع "بيان الدليل". (¬8) هذا النص غير موجود في مطبوع "مسائل ابن منصور". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من مطبوع "بيان الدليل". (¬10) في (ق) و (ك): "سروه". (¬11) و (¬12) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (4/ 151)، وسعيد بن منصور في "السنن" (رقم 1101)، وعبد الرزاق في "المصنف" (6/ رقم 10447) وانظر "الإشراف على مذاهب العلماء" (4/ 59). (¬13) رواه عنه سعيد بن منصور في "السنن" (رقم 1101) وذكره ابن المنذر في "الإشراف" (4/ 59).

وابن شبرمة (¬1)، والأوزاعي (¬2)، وهو قول الشافعي (¬3) المشهور عنه، وقد نص في موضع آخر [على] أنه يؤاخذ (¬4) بمهر السر، فقيل: في هذه المسألة قولان، وقيل: بل ذلك في الصورة الثانية كما سيأتي [إن شاء اللَّه تعالى]، وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم: إذا عَلم الشهودُ أن المهر الذي يظهره سمعة وأن أصل المهر كذا وكذا ثم تزوج وأعلن الذي قال فالمهر هو السر، والسمعة باطلة، وهذا هو قول الزهري (¬5) والحكم بن عُتيبة (¬6) ومالك (¬7)، والثوري (¬8)، والليث، وأبي حنيفة وأصحابه (¬9)، وإسحاق، وعن شُريح (¬10)، والحسن (¬11) كالقولين، وذكر القاضي [في موضع] عن أبي حنيفة أنه يبطل المهر ويجب مهر المثل، وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم (¬12)، وقد نُقل عن أحمد ما يقتضي أن الاعتبار بالسر إذا ثبت أن العلانية تَلْجئة، فقال: إذا كان الرجل (¬13) قد أظهر صداقًا وأسرّ غير ذلك نظر في البينات والشهود، وكان الظاهر أوْكَدَ، إلا أن تقوم بيْنةٌ تدفع العلانية، قال القاضي: وقد تأول أبو حفص العكبري هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية غير عدول، فحكم بالعدول، قال القاضي: وظاهر هذا أنه يحكم بمهر السر إذا لم تقم بينة عادلة بمهر العلانية (¬14). ¬

_ (¬1) "بيان الدليل" (156). (¬2) انظر: "فقه الإمام الأوزاعي" (2/ 46)، "الإشراف" (4/ 59) لابن المنذر. (¬3) انظر: "مغني المحتاج" (3/ 228)، و"نهاية المحتاج" (6/ 346)، و"الإشراف" (4/ 59) لابن المنذر. (¬4) في (د)، و (ط) و (ق): "فيؤخذ"، وكذا في مطبوع "بيان الدليل". (¬5) رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 151). (¬6) رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 151)، وفي (ن): "ابن عيينة"!! وفي (ك): "عتبة". (¬7) انظر: "الخرشي" (3/ 272). (¬8) رواه عنه عبد الرزاق (6/ 187 رقم 10447)، وحكاه ابن المنذر في "الإشراف" (4/ 59)، وانظر: "موسوعة فقه سفيان" (755 - 756). (¬9) انظر: "فتح القدير" (3/ 329)، و"تحفة الفقهاء" (2/ 218). (¬10) رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 151)، وسعيد بن منصور في "السنن" (998). (¬11) رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 151)، وسعيد (998)، وعبد الرزاق (10446). (¬12) انظر: "فتح القدير" (3/ 330). (¬13) في (ط) و (د) و (ق): "رجل" بدون "الـ". (¬14) في (ن) و (ق): "حكم. . . نكاح العلانية"، وفي مطبوع: "بيان الدليل" (ص 158): "أنه حكم بنكاح السر إذا لم تقم بينة عادلة بنكاح العلانية".

وقال أبو حفص: إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر أن الذي يظهر في العلانية للرِّياء (¬1) والسمعة فينبغي لهم أن يَفُوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر؛ لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المؤمنون على شروطهم" (¬2) قال القاضي: وظاهر هذا الكلام من أبي حفص أنه قد جعل للسرِّ حكمًا، قال: "والمذهب على ما ذكرناه". قال شيخنا (¬3): "كلام أبي حفص الأول فيما إذا قامت البيّنة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل، ولم يثبت نكاح العلانية، وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية، ولكن تشارطوا أن ما يظهرون من الزيادة (¬4) على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة". قال شيخنا (¬5): "وهذا الذي ذكره أبو حفص أشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله؛ فإن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة ولم يثبت بينة ولا اعتراف أن مهر العلانية سُمعة، بل شهدت البينة أنه تزوجها بالأكثر وادَّعى عليه ذلك فإنه يجب أن يؤخذ بما أقر به [لسانُه] إنشاءً أو إخبارًا؛ فإذا أقام شهودًا يشهدون أنهم تراضَوْا بدون ذلك [حكم بـ] البينة (¬6) الأولى؛ لأن (¬7) التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر، ألا ترى أنه قال: آخذ بالعلانية لأنه قد (¬8) أشهد على نفسه، وينبغي لهم أن يَفُوا بما كان ¬

_ (¬1) في (د)، و (ط) و (ق): "الرياء". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ما زال الكلام لابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 158). (¬4) في (ق) ومطبوع "بيان الدليل": "إنما يظهرون الزيادة". (¬5) في "بيان الدليل" (ص 158 - 161)، وما بين المعقوفتين منه فقط. (¬6) كذا في "بيان الدليل" و (و)، وسقط من (د)، و (ط) كلمة: "حكم"، وقال (د): "في الأصل بياض بين قوله: "ذلك"، وقوله: "البينة"، ولعله سقط منه لفظ: "عمل على" كما يدل عليه لاحق الكلام، ويكون أصل العبارة "بدون ذلك عمل على البينة الأولى"!! ونحوه باختصار في (ح)، و (ط)، وقال (و): "هنا في الأصل بياض بعد كلمة "ذلك"، وقد راجعناه على مصدره الأصلي، وهو كتاب "التحليل"، فأثبتنا ما بين القوسين، وهو [حكم بـ] ". قلت: وكذلك في (ن) و (ق) بياض بين "ذلك"، و"البينة". (¬7) قال (و): "في الأصل "أنَّ"، والتصويب عن المصدر الأصلي". قلت: يريد "بيان الدليل" (ص 159 - ط المطيري). (¬8) في مطبوع: "بيان الدليل": "لأن العلانية قد. . . ".

أسَرَّهُ؛ فقوله: "لأنه قد أشهد على نفسه" دليل على أنه إنما يلزمه في الحكم فقط، وإلا فما يجب [فيما] بينه وبين اللَّه لا يُعَلَّلُ بالإشهاد، وكذلك قوله: "ينبغي لهم أن يَفُوا له، وأما هو فيؤاخذ (¬1) بالعلانية" دليلٌ على أنه يُحكم عليه به وأن أولئك يجب عليهم الوفاء، وقوله: "ينبغي" يستعمل في الواجب أكثر مما يستعمل في المستحب (¬2)، ويدل على ذلك أنه قد قال أيضًا في امرأة تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمس مئة فاختلفوا في ذلك: فإنْ كانت البينة في السر والعلانية سواء أخذ بالعلانية لأنه أحوط وهو فرج يؤاخذ (¬3) بالأكثر، وقيدت المسألة بأنهم اختلفوا وأن كليهما قامت به بينة عادلة. وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية، وهو ما إذا تزوجها في السر بألف، ثم تزوجها في العلانية بالفين مع بقاء النكاح الأول، فهنا قال القاضي في "المجرد" و"الجامع": إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر؛ لأن النكاح المتقدم قد صح [ولزم، والنكاح] (¬4) المتأخر عنه لا يتعلق به حكم، ويحمل (¬5) مطلق كلام أحمد والخرقي (¬6) على مثل هذه الصورة، وهذا مذهب الشافعي (¬7)، وقال الخرقي: (إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذ بالعلانية وإن كان السر قد انعقد النكاح به) (¬8)، وهذا منصوص كلام أحمد في قوله: [إن] (¬9) تزوجت (¬10) في العلانية على ألف وفي السر على خمس مئة، وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها، وهذا هو الذي ذكره القاضي في "خلافه"، وعليه أكثر الأصحاب، ثم طريقته وطريقة جماعة في ذلك أن [يجعلوا] (¬11) ما أظهراه زيادة في المهر، والزيادة فيه بعد لزومه لازمة، وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر أخذ به أيضًا، وهو معنى قول الإمام أحمد: "آخذ ¬

_ (¬1) في (د) و (ط) و (ك) و (ق): "فيؤخذ"، وكذا في "بيان الدليل". (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 3)، و"الداء والدواء" (ص 194)، وقد مرَّ هذا المبحث. (¬3) في (ط) و (د) و (ق): "يؤخذ". (¬4) في (و): "ولزوم النكاح". (¬5) في مطبوع "بيان الدليل": "وحمل". (¬6) في "مختصره" (5/ 324 - مع شرح الزركشي). (¬7) انظر: "مغني المحتاج" (3/ 228)، و"نهاية المحتاج" (6/ 346). (¬8) انظر قول الخرقي في "مختصره" (7/ 201/ 5638 - مع "المغني"). (¬9) ما بين المعقوفتين من (ط)، و (د)، وسقط من سائر النسخ، و"بيان الدليل". (¬10) في (ك): "زوجت". (¬11) ما بين المعقوفتين من (و)، و"بيان الدليل".

[صورة أخرى لمسألة السر والعلانية]

بالعلانية" أي يؤخذ بالأكثر، ولهذا القول طريقة ثانية، وهو أن نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على إحدى الروايتين بل أنصهما (¬1)؛ فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة إنما هي بالنكاح الثاني (¬2). فقد تحرر أن الأصحاب (¬3) مختلفون: هل يؤاخذ (¬4) بصداق العلانية ظاهرًا وباطنًا أو ظاهرًا فقط؟ فيما إذا كان السر تَوَاطُؤًا من غير عقد، وإن كان السر عقدًا فهل هي كالتي قبلها أو يؤخذ هنا بالسر في الباطن بلا تردد؟ على وجهين (¬5)؛ فمن قال: إنه يؤاخذ (4) به ظاهرًا فقط وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم أن يؤاخذوا (¬6) إلا بما اتفقوا عليه لم يرد نقضًا، وهذا قول [قوي] (¬7) له شواهد كثيرة، ومَنْ قال: إنه يؤاخذ (¬8) به ظاهرًا وباطنًا بَنَى ذلك على أن المهر من توابع النِّكاح وصفاته فيكون ذكره سمعة كذكره هزلًا والنكاح جده وهزله سواء فكذلك ذكر ما هو فيه، يحقق ذلك أنَّ حِلَّ البُضْع مشروط بالشهادة على العقد، والشهادةُ وقعت على ما أظهره؛ فيكون وجود (¬9) المشهود به شرطًا (¬10) في الحل". هذا كلام شيخ الإسلام في مسألة مهر السر والعلانية في كتاب "إبطال التحليل" نقلته بلفظه (¬11). [صورة أخرى لمسألة السرّ والعلانية] ولهذه المسألة عدة صور: هذه إحداها. الثانية: أن يتفقا في السر على أن ثمن المبيع ألف ويُظهرا في العلانية أن ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر" (2/ 18)، و"الهداية" (1/ 255)، و"مسائل ابن هانئ" (968). (¬2) في مطبوع "بيان الدليل": "إنما هي بالثاني". (¬3) في مطبوع "بيان الدليل": "أن أصحابنا". (¬4) في (ط) و (د) و (ق): "يؤخذ". (¬5) انظرهما في "الإنصاف" (8/ 293). (¬6) في (د) و (ط): "يأخذوا". (¬7) ما بين المعقوفتين من (و)، و"بيان الدليل". (¬8) في (ط)، و (د): "يؤخذ". (¬9) في المطبوع: "وجوب"، وكذا في "بيان الدليل". (¬10) في مطبوع "بيان الدليل": "مشروطًا". (¬11) "هو من (ص 155) إلى قرب نهاية (ص 157) من كتاب "إبطال التحليل ج 2 الفتاوى، طبع دار الكتب الحديثية" (و).

[صورة ثالثة]

ثمنه ألفان، فقال القاضي في "التعليق القديم" والشريفُ أبو جعفر وغيرُهما: الثمن ما أظهراه، على قياس المشهور عنه في المهر أن العِبْرة بما أظهراه وهو الأكثر، وقال القاضي في "التعليق الجديد" وأبو الخطاب وأبو الحسين وغيرهم من أصحاب القاضي (¬1): الثمن ما أسَرَّاه، والزيادة سمعةً ورياءً، بخلاف المهر، [وإلحاقًا للعوض في البيع] (¬2) بنفس البيع، وإلحاقًا للمهر بالنكاح، وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي غير لاحقة، وقال أبو حنيفة (¬3) عكس هذا، بناءً على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح، وقال صاحباه: العبرة في الجميع بما أسَرَّاه (¬4). [صورة ثالثة] الصورة الثالثة: أن يتفقا في عقد البيع على أن يتبايعا شيئًا بثمن ذكراه على أنه بيع تَلْجئة (¬5) لا حقيقة له تخلُّصًا من ظالم يريد أخذه؛ فهذا عقدٌ باطل، وإن لم يقولا في صلب العقد: "قد تبايعناه تلجئة"، قال القاضي: هذا قياس قول أحمد؛ لأنه قال فيمن تزؤَج امرأة واعتقد أنه يُحلّها للأول: لم يصح هذا النكاح، وكذلك إذا باع عِنَبًا ممن يعتقد أنه يعصره خمرًا، قال: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور (¬6): إنه إذا أقر لامرأة بدين في مرضه ثم تزوَّجها ومات وهي وارثة فهذه قد أقرَّ لها وليست بزوجه: يجوز ذلك، إلا أن يكون أراد تلجئة فيرد، ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم (¬7) والمروزي، وهذا قول أبي يوسف ومحمد (¬8)، وهو قياس قول مالك (¬9). ¬

_ (¬1) انظر: "الإنصاف" (4/ 266)، و"المبدع" (7/ 165)، و"الفروع" (4/ 50). (¬2) في (و) و (ق): "إلحاقًا للعوض في المبيع". (¬3) انظر: "تحفة الفقهاء" (2/ 218). (¬4) "نقله بنصه عن المصدر السابق" (ص 154) (و). قلت: والمذكور في "بيان الدليل" (ص 153 - 154 - ط المطيري). (¬5) بيع التلجئة: بيع صوري، وهو أن يضطر لإظهار عقد، وإبطان غيره مع إرادة ذلك الباطن، كان يظهر بيع داره لابنه، لئلا يستولي عليها السلطان وقيل: هو البيع الذي يباشره المرء عن ضرورة، ويصير كالمكره، انظر: "معجم لغة الفقهاء" (ص 144)، و"التوقيف على مهمات التعاريف" (ص 154) للمناوي. (¬6) نقلها ابن تيمية في "بيان الدليل" (151)، وكذا ما بعده. (¬7) انظر: "مسائله" (2/ 166). (¬8) انظر: "حاشية ابن عابدين" (4/ 244) و"المدخل الفقهي العام" (1/ 176 - 180). (¬9) انظر "جواهر الإكليل" (2/ 21، 55).

[صورة رابعة]

وقال أبو حنيفة (¬1) والشافعي (¬2): لا يكون تلجئة حتى يقولا في العقد: "قد تبايعنا هذا العقد تلجئة"، ومأخذ مَنْ أبطله أنَهما لم يقصدا العقد حقيقة، والقَصْدُ معتبرٌ في صحته، ومأخذ من يصحّحه أن هذا شرط مقَدَّمٌ على العقد، والمؤثِّر في العقد إنما هو الشرط المقارنُ. والأوَّلون منهم مَنْ يمنع المقدمة الأولى ويقول: لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن، ومنهم من يقول: إنما ذلك في الشرط الزائد على العقد، بخلاف الرافع له فإن الشارط (¬3) هنا يجعلُ العقدَ غيرَ مقصود، وهناك هو مقصود، وقد أطلق عن شرط مقارن (¬4). [صورة رابعة] الصورة الرابعة: أن يُظهِرَا نكاحًا تلجئة (¬5) لا حقيقة له؛ فاختلف الفقهاء في ذلك؛ فقال القاضي وغيره من الأصحاب: إنه صحيحٌ كنكاح الهازل؛ لأن أكثر ما فيه أنه غير قاصد للعقد، بل هازل به، ونكاح الهازل صحيح، قال شيخنا (¬6): "ويؤيِّد هذا أن المشهور عندنا أنه لو شرط في العقد رَفْعَ موجبَه -مثل أن يشترط أنه لا (¬7) يطأها أو أنها لا تحلُّ له أو أنه لا ينفقُ عليها ونحو ذلك- صَحَّ العقدُ دون الشرط؛ فالاتّفاق على التلجئة حقيقتُهُ أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدًا لا يقتضي موجَبَه، وهذا لا يبطله". قال شيخنا (¬8): "ويتخرَّج في نكاح التلجئة أنه باطلٌ أن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطَّريقين لأصحابنا، ولو شرطا (¬9) في العقد أنه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحًا باطلًا، وإن قيل إن فيه خلافًا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كَمَا لو شَرَطا أنها لا تحلُّ له، وهذا الشرط يفسد العقد على الخلاف المشهور". ¬

_ (¬1) انظر: "منحة الخالق على البحر الرائق" (6/ 99)، و"حاشية ابن عابدين" (6/ 99). (¬2) انظر: "المجموع" (9/ 324). (¬3) في (و): "التشارط". (¬4) أخذه بتصرف يسير جدًا من "بيان الدليل" (ص 151 - 152 ط المطيري). (¬5) "هو تواطؤ اثنين على إظهار العقد أو صفة فيه، أو الإقرار أو نحو ذلك صورة من غير أن يكون له حقيقة، مثل الرجل الذي يريد ظالم أخذ ماله، فواطأه على أن يبيعه صورة لدفع الظلم" (و). (¬6) في "بيان الدليل" (ص 152). (¬7) في مطبوع "بيان الدليل" و (ق): "أن يشرط أن لا". (¬8) في "بيان الدليل" (ص 153). (¬9) في مطبوع "بيان الدليل": "اشترطا".

[الصورة الخامسة]

[الصورة الخامسة] الصورة الخامسة: أن يتفقا على أن العقد عقد تحليل، لا نكاح رغبة، وأنه متى دخل بها طلَّقها أو (¬1) فهي طالق، أو أنها متى اعترفت بأنه وصَلَ إليها فهي طالق ثم يعقداه مطلقًا وهو في الباطن نكاحُ تحليل لا نكاحَ رَغْبةٍ، فهذا محرَّم باطل، لا تحل به الزوجة للمطلق، وهو داخل تحت اللعنة، مع تضمن زيادة الخداع كما سماه السلف بذلك، وجعلوا فاعله مخادعًا للَّه، وقالوا: "مَنْ يخَادع اللَّه يَخْدَعْهُ " (¬2) وعلى بطلان هذا النكاح نحو ستين دليلًا. [العبرة بما أضمره المتعاقدون] والمقصود أن المتعاقدين وإن أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن فالعبرة لما أضمراه (¬3) واتفقا عليه وقَصَداه بالعقد، وقد أشهدا اللَّه على ما في قلوبهما فلا ينفعهما ترك التكلم حال العقد به (¬4)، وهو مطلوبُهُما ومقصودهما. [الصورة السادسة] الصورة السادسة: أن يحلف الرجل على (¬5) شيء في الظَّاهر، وقصده ونيته خلاف ما حلف عليه، وهو غيرُ مظلوم؛ فهذا لا ينفعه ظاهر لفظه، ويكون يمينه على ما يصدقه عليه صاحبه اعتبارًا بمقصده ونيته. [الصورة السابعة] الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مُكْرهًا لم يصح، وإن كان في الظاهر قد حَصَل صورة العقد؛ لعدم قصده وإرادته. فدل على أن القصدَ روحُ العقد ومصحِّحُه ومُبْطِله، فاعتبار القُصُودِ في ¬

_ (¬1) في (ق): "والا". (¬2) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 11)، وعبد الرزاق (6/ 397 رقم 11352)، وسعيد بن منصور في "سننه" (رقم 1065)، وابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 48 - ط المكتب الإسلامي)، وابن حزم في "المحلى" (10/ 181) عن ابن عباس قوله. (¬3) في (ك): "أظهراه"، وفي (ق): "بما اظهراه". (¬4) في المطبوع و (ق): "ترك التكلم به حالة العقد". (¬5) في المطبوع: "في".

[الله يحب الإنصاف]

العقود أولى من اعتبار الألفاظ؛ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها، ومقاصد العقود هي التي تُرادُ [لأجلها (¬1)، فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد] (¬2) لنفسها كان هذا إلغاءً لما يجب اعتباره واعتبارًا لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدَّمُ اعتبارُ اللفظِ الذي قد ظهر كُل الظهور أن المراد خلافه؟ بل قد يُقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن أنه المراد، وكيف ينكَرُ على أهل الظاهر من يسلك هذا؟ وهل ذلك إلا من إيراد الظاهرية؟ فإن أهل الظاهر تمسكوا بألفاظ النصوص وأجْرَوْهَا على ظواهرها حيث لا يحصل القَطعُ بأن المراد خلافُها، وأنتم تمسكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأن المراد خلافُها فأهل الظاهر أعذرُ منكم بكثير، وكل شبهة تمسكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظاهرية في تمسكهم بظواهر النصوص أقوى وأصح. [اللَّه يحبُّ الإنصاف] واللَّه تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضلُ حِلْية تحلَّى بها الرجل، خصوصًا من نصب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال [اللَّه] (¬3) تعالى لرسوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] فورثةُ الرسولِ (¬4) منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل أحدُهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل [يكونُ] (¬5) الحقُّ مطلوبه يَسِيرُ بسيرِه وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف ويحكّم الحجة، وما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فهو العلم الذي قد شَمَّرَ إليه، ومطلبه الذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عنه عذل عاذل، ولا تأخذهُ فيه لومة لائم، ولا يصده عنه قول قائل. [إلغاء الشارع الألفاظ التي لم يقصد المتكلمُ معناها] ومن تدبّر مصادر الشرع وموارده تبيَّن له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، ولم ¬

_ (¬1) اعتبار القصد في العقود تكلم عليه ابن القيم في "إغاثة اللهفان" (1/ 340)، وانظر "الموافقات" للشاطبي (3/ 23)، وتعليقي عليه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين من (د)، و (ط). (¬4) في (ن) و (ق): "فورثة الأنبياء". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

يُكفَّر من قال من شدة فرحه براحلته بعد يأسه منها: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" (¬1) فكيف يعتبر الألفاظ التي يُقطع بأن مرادَ قائِلها خلافها؟ ولهذا المعنى رد شهادة المنافقين (¬2) ووَصَفهم بالخداع والكذب والاستهزاء، وذَمَّهُم على أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وأن بواطِنَهم تخَالف ظواهِرَهم، وذم تعالى من يقول ما لا يفعل، وأخبر أن ذلك من أكبر المَقْتِ عنده، ولعن اليهودَ إذ توسَّلوا بصورة عقد البيع على ما حرَّمَهُ عليهم إلى أكل ثمنه، [وجعل أكل ثمنه] (¬3) لما كان هو المقصود بمنزلة أكله في نفسه، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الخمر عاصرَهَا ومُعتصِرَها (¬4)، ومن المعلوم أن العاصر إنما عصر عنبًا، ولكن لما كانت ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "ولهذا ألغى شهادة المنافقين". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) ورد هذا من حديث ابن عباس، وابن عمر، وأنس، وابن مسعود: أما حديث ابن عباس: فرواه أحمد (1/ 316)، وعبد بن حميد (686)، والطبراني في "الكبير" (12976)، وابن حبان (5356)، والحاكم (4/ 145) من طريق مالك بن خير الزبادي عن مالك بن سعد التُّجيبي عن ابن عباس مرفوعًا أنه لعن الخمر ومعتصريها وشاربها وحاملها. . .، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وإسناده حسن. وأما حديث ابن عمر: فرواه أحمد (2/ 25 و 71 و 97) وابن أبي شيبة (6/ 447) والطيالسي (1957) وسعيد بن منصور (816 - ط الصميعي) والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 172 - مختصرًا) وأبو داود (3674) في (الأشربة): باب العنب يعصر للخمر، وابن ماجه (3380) في الأشربة باب العنب يعصر للخمر، وأبو يعلى (5583، 5591)، والحاكم (2/ 31 - 32 و 4/ 144 - 145)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3343)، والطبراني في "الصغير" (740) و"الأوسط" (4962) والبيهقي (5/ 327 و 6/ 12، 8/ 287) وفي الشعب (5583، 5584) والمزي في "تهذيب الكمال" (17/ 245) من طرق عن ابن عمر، وبعض طرقه صحيحة. وأما حديث أنس: فرواه الترمذي (1295) في (البيوع): باب النهي أن يتخذ الخمر خلًا، وابن ماجه (3381) في (الأشربة): باب لعنت الخمر على عشرة أوجه والطبراني في "الأوسط" (1355). وقال الترمذي: غرب من حديث أنس. وأما حديث ابن مسعود: فرواه البزار في "مسنده" (1601)، والطبراني في "الكبير" (10056)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1888). وقال الهيثمي في "المجمع" (5/ 72 - 73): فيه عيسى بن أبي عيسى الخياط، وهو ضعيف. وعزاه الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 264) لأحمد، ولم أجده فيه، ولا في "أطراف المسند" لابن حجر وفي الباب عن عثمان بن أبي العاص عند الطبراني في "الأوسط" (4090).

[المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات]

نيتُه إنما هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره، ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده، فعُلِمَ أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها. ومَنْ لم يراع القُصُودَ في العقود وجَرَى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوّزَ له عَصْر العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر، وأن يقضي له بالأجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده، ولقد صَرَّحُوا [له] (¬1) بذلك، وجوَّزوا له العصر، وقَضَوا له بالأجرة، وقد رُوي في أثر مرفوع من حديث ابن بُريدة عن أبيه: "من حَبَسَ العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو مَنْ يتخذه خمرًا فقد تقَحَّمَ النار على بصيرة" (¬2) ذكره [أبو] (¬3) عبد اللَّه بن بطَّة، ومَنْ لم يراع القصد (¬4) في العقد لم ير بذلك بأسًا. [المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرّفات] وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هَدْمُها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات (¬5)؛ فالقصد والنية ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) رواه ابن حبان في "المجروحين" (1/ 236) -ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (رقم 1126) - والطبراني في "الأوسط" (5356)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (ص 241) من طريق عبد الكريم عن الحسن بن مسلم التاجر عن الحسين بن واقد عن ابن بريدة عن أبيه مرفوعًا به. وعزاه لابن بطة ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 133). قال ابن حبان: "لا أصل له من حديث حسين بن واقد؛ فينبغي أن يعدل بالحسن عن سنن العدول بروايته هذا الخبر المنكر". وقال أبو حاتم -كما في "علل ابنه" (1/ 389) - "هذا حديث كذب باطل". قلت "القائل ابنه": تعرف عبد الكريم هذا؟ قال: لا، قلت: فتعرف الحسن بن مسلم؟ قال: لا، ولكن تدل روايتهم على الكذب. وعبد الكريم هذا وقع اسمه عند ابن حبان: عبد الكريم بن عبد اللَّه، وعند الطبراني في "الأوسط": عبد الكريم بن أبي عبد الكريم. وترجمه السهمي عبد الكريم بن عبد الكريم، ولم يذكر فبه جرحًا ولا تعديلًا. أما الحافظ ابن حجر فذكر هذا الحديث في "التلخيص الحبير" (3/ 19)، وسكت عليه، وذكره في "بلوغ المرام"، وقال: إسناده حسن!! مع أنه في "اللسان" (2/ 316) أقر الذهبي على قوله عنه: "خبر موضوع" فسبحان من لا يسهو!! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) في (ق): "القصود". (¬5) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 377).

[دلائل القول السابق]

والاعتقاد يجعل الشئ حلالًا أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وطاعةً أو (¬1) معصيةً، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبةً أو مستحبةً أو محرمةً أو صحيحةً أو فاسدةً. [دلائل القول السابق] ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر، فمنها قوله تعالى في حق الأزواج إذا طلَّقوا أزواجهم طلاقًا رجعيًا: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وذلك نصٌّ في أن الرجعة إنما ملَّكها اللَّه تعالى لمن قصد الصلاح دون من قصد الضرَار. وقوله في الخُلع: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] فبيَّن تعالى أن الخُلعَ المأذون فيه والنكاح المأذون فيه إنما يُبَاح إذا ظنَّا أن يقيما حدود اللَّه، وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] فإنَّما قدم اللَّه الوصية على الميراث إذا لم يَقْصد بها المُوصِي الضرار (¬2)؛ فإن قَصَده فللورثة إبطالها [وعدم تنفيذها] (¬3)، وكذلك قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] فرفع الإثمَ عمن أبطل الجَنَفَ والإثم من وصية الموصي، ولم يجعلها بمنزلة نصِّ الشارع الذي تحرم مخالفته. [شروط الواقفين] وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحًا، وما كان فيه جنَفَ أو إثم، ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب اللَّه بمنزلة نص الشارع (¬4)، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام (¬5). بل قد قال إمام الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله: "كُل شرطٍ ليس في كتاب اللَّه فهو باطلٌ وإن كان مئة شرط، كتابُ اللَّه أحقُّ، وشَرْطُ اللَّه أوثق" (¬6) ¬

_ (¬1) في (و) و (ك): "و" بدلًا من "أو". (¬2) في (ك): "الضرر". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬4) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 378). (¬5) انظر: "أحكام الأوقاف" (143) لشيخنا مصطفى الزرقا رحمه اللَّه، "محاضرات في الوقف" (136) لمحمد أبو زهرة، "أحكام الوقف في الشريعة الأسلامية" (1/ 261). (¬6) رواه البخاري (2155) في (البيوع): باب الشراء والبيع مع النساء، و (2168) باب إذا =

فإنما ينفذُ من شروط الواقفين ما كان للَّه طاعةً، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك فلا حُرمةَ له كشرط التعزُّب والترفُب المضاد لشرع اللَّه ودينه؛ فإنه تعالى فتح للأمة باب النكاح بكل طريق، وسدَّ عنهم باب السِّفاح بكل طريق، وهذا الشرط [باطِلٌ مُضَادّ] (¬1) لذلك؛ فإنه يسدُّ على من التزمه باب النكاح، ويفتحُ له باب الفجور، فإن لوازم البشرية تتقاضاها الطّباع أتمَّ تقاضٍ، فإذا سد عنها مشروعها فتحت لها (¬2) ممنوعا ولا بد. والمقصود أن اللَّه تعالى رفع الإِثْمَ عمَّن أبطل الوصية الجانفة الآثمة، وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك، فإذا شَرَط الواقف القراءة على (¬3) القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى اللَّه ورسوله وأنفع للميت (¬4)، فلا يجوز تعطيل الأحب إلى اللَّه الأنفع لعبده واعتباره ضده، وقد رَامَ بعضُهم الانفصال عن هذا بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الأجر له باستماعه للقرآن في قبره، وهذا غلط؛ فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة فإنه عمل اختياري وقد انقطع بموته، ومن ذلك اشتراطه أن يصلّي الصلوات الخمس في المسجد الذي بناه على قبره، فإنه شرطٌ باطلٌ [لا يجب بل] (¬5) لا يحلُّ الوفاء به، وصلاتُه في المسجد الذي لم يوضع على قبر (¬6) أحب إلى اللَّه ورسوله، فكيف يُفتى أو يُقضى بتعطيل الأحب إلى اللَّه والقيام بالأكْرَه إليه اتباعًا لشرط الواقف الجانف الآثم؟ ومن ذلك أن يشرط عليهم (¬7) إيقاد قنديل على قبره أو بناء مسجد عليه؛ فإنه لا يحل تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به، وكيف ينفذ (¬8) شرط لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعله؟ (¬9) ¬

_ = اشترط شروطًا في البيع لا تحل، و (2561) في (المكاتب): باب ما يجوز من شروط المكاتب، و (2563) باب استعانة المكاتب وسؤاله الناس، و (2717) في (الشروط): باب الشروط في البيع، و (2729) باب الشروط في الولاء، ومسلم (1504) (6)، و (7)، و (8)، و (9) في (العتق): باب إنما الولاء لمن أعتق، من حديث عائشة. (¬1) في (و): "الباطل معتاد"، وفي (ك) و (ق): "الباطل مضاد". (¬2) في المطبوع: "فتحت له". (¬3) في (ق) و (ك): "عند". (¬4) مسألة إهداء القرب للميت بحثها ابن القيم في عدة مواضع من كتبه، لكن تغير اختياره فيها؛ ففي "الروح" (ص 117 - 143) قرر وصولها إلى الميت عامة، وفي "تهذيب السنن" (3/ 279) قرر وصول ما ورد به النصُّ فقط. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬6) في المطبوع: "قبره". (¬7) في المطبوع: "عليه". (¬8) في المطبوع: "فكيف ينقله". (¬9) يشير إلى قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: لعن اللَّه اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد" أخرجه=

[أنواع شروط الواقفين وحكمها]

[أنواع شروط الواقفين وحكمها] وبالجملة فشروط الواقفين أربعة أقسام: شروط محرمة في الشرع. وشروط مكروهة للَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله. وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى اللَّه تعالى ورسوله. فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمة لها ولا اعتبار، والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار، وباللَّه التوفيق (¬1). [إبطال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكلِّ شرط يخالف القرآن] وقد أبطل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الشروط كلها بقوله: "مَنْ عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" (¬2) وما رده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يجز لأحد اعتباره ولا الإلزام (¬3) به وتنفيذه، ومن تفطَّن لتفاصيل هذه الجملة التي هي من لوازم الإيمان تخلَّص بها من آصارٍ وأغلالٍ في الدنيا، وإثمٍ وعقوبةٍ ونقصِ ثواب في الآخرة، وباللَّه التوفيق. فصل [من فروع اعتبار الشرع قصد المكلف دون الصورة] وتأمَّل قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَيْدُ البرِّ لكم حلالٌ وأنتم حُرُم ما لم تصيدوه أو ¬

_ = البخاري (4441)، ومسلم (529)، عن عائشة ويشير أيضًا إلى حديث: "لعن رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسُّرُج" وهو مخرج في مكان آخر من هذا الكتاب مفصلًا. (¬1) انظر ما سبق عند (شروط الواقفين). (¬2) رواه البخاري (2697) في (الصلح): باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، ومسلم (1718) (17)، و (18) في (الأقضية): باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور، من حديث عائشة. ولفظ البخاري؛ "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". وكذا لفظ مسلم في الموطن الأول، وفي الموطن الثاني لفظه كما هو هنا. (¬3) كذا في الأصول، ولعل الصواب: "الالتزام".

يُصَدْ لكم" (¬1) كيف حرَّم على المحرِمِ الأكلَ مما صاده الحلال إذا كان قد صاده ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 362)، والشافعي (1/ 322 - 323 أو رقم 839 - ترتيبه)، وعبد الرزاق (8349)، وأبو داود (1851) في (المناسك)؛ باب لحم الصيد للمحرم، والترمذي (846) في الحج، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، والنسائي (5/ 187) في (المناسك): باب إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 171)، وابن خزيمة في "صحيحه" (2641)، وابن حبان (3971)، والدارقطني (2/ 290)، وتمام في "الفوائد" (2/ 236 رقم 629 - ترتيبه) والحاكم (1/ 452 و 476)، والبغوي (7/ 1989)، والبيهقي (5/ 190)، وفي "المعرفة" (7/ 429 رقم 10579) وا بن عبد البر (9/ 62) وأبن الجوزي في "التحقيق" (6/ 165 - 166 رقم 1485) من طرق عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب بن حنطب عن جابر به مرفوعًا. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ورواه أحمد (3/ 387 و 389)، والشافعي (1/ 323)، والطحاوي (2/ 171)، والدارقطني (2/ 290 - 291)، والحاكم (1/ 476) والبيهقي في "المعرفة" (7/ 430 رقم 10582) وابن الجوزي في "التحقيق" (6/ 165 رقم 1484) من طرق عن عمرو بن أبي عمرو عن المطلب عن رجل من بني سلمة (وعند بعضهم عن رجل من الأنصار) عن جابر. قال الحاكم: هذا لا يعلل حديث من وصله وهم ثقات. أقول: علة الحديث هو المطلب وهو ابن عبد اللَّه بن حنطب فقد قال البخاري: لا أعرف له سماعًا من أحد الصحابة إلا قوله: حدثني من شهد خطبة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونحو هذا قال الدارمي والترمذي، وأبو حاتم في "المراسيل" (ص 210). وقال ابن سعد: كان كثير الحديث، وليس يحتج بحديثه لأنه يرسل. وقال الحافظ في "التلخيص" (2/ 276): مختلف فيه وإن كان من رجال "الصحيحين". وعزاه لـ"السنن" وهو ليس عند ابن ماجه. وقال ابن التركماني في تعليقه على "سنن البيهقي" (5/ 191): فالحديث في نفسه معلول، عمرو بن أبي عمرو مع اضطرابه في هذا الحديث -متكلم فيه-، وقال النسائي: عمرو ابن أبي عمرو متكلم فيه، وإن كان روى له مالك. ورواه الطحاوي (2/ 171) من طريق إبراهيم بن سويد قال: حدثني عمرو عن المطلب عن أبي موسى. وإبراهيم هذا خالف الثقات من أصحاب عمرو وهم أحفظ منه وأوثق، كما قال الحافظ في "التلخيص" وتابع إبراهيم هذا يوسف بن خالد السمتي رواه ابن عدي (7/ 2617)، والطبراني في "الكبير" -كما في "المجمع" (3/ 231) -، وقال: "يوسف ضعيف"، قلت: بل هو أشد من ذلك، فقد كذبه غير واحد. ورواه ابن عدي (5/ 1823)، والخطيب في "الرواة عن مالك" -كما في "التلخيص" =

لأجله؟ فانظر كيف أثرَّ القصدُ في التحريم ولم يرفعه ظاهرُ الفِعْل، ومن ذلك الأثر المرفوع من حديث أبي هريرة: "مَنْ تزوج امرأة بصَدَاق ينوي أن لا يؤدّيه إليها فهو زانٍ، ومن ادَّانَ دينًا ينوي أن لا يقضيه فهو سارق" (¬1) ذكره أبو حفص بإسناده؛ فجعل المشتري والناكح إذا قصدا أن لا يؤدّيا العِوَضَ بمنزلة مَنِ استحل الفرج والمال بغير عوض، فيكون كالزاني والسارق في المعنى وإن خالفهما في الصورة، ويؤيد ذلك ما في "صحيح البخاري" مرفوعًا: "مَنْ أخذ أموالَ الناس يريد أداءَها أدَّاها اللَّه عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه اللَّه" (¬2). فهذه النصوص وأضعافها تدل على أن المقاصد تغيّر أحكام التصرفات من العقود وغيرها، وأحكام الشريعة تقتضي ذلك أيضًا؛ فإن الرجل إذا اشترى أو ¬

_ = (2/ 276) - من طريق عثمان بن خالد عن مالك عن نافع عن ابن عمر به مرفوعًا نحوه. وعثمان هذا قال فيه ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وضعفه البخاري، وانظر لزامًا تعليقي علي "الموافقات" (3/ 10 - 12) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 2706 - 2710). و"بيان الوهم والإيهام" (3/ 83 رقم 777) و"التحقيق" (6/ 165 رقم 1484). (¬1) حديث أبي هريرة هذا ذكره الغزالي في "إحياء علوم الدين" (4/ 353)، ولم يعزه العراقي لأحد، بل ذكر له شاهدًا من حديث صهيب الرومي. ثم وجدت حديث أبي هريرة هذا، رواه البزار في "مسنده" (1429 و 1430) والبيهقي (7/ 241) وابن الجوزي في "الواهيات" (1029) -وعزاه ابن تيمية في "بيان الدليل" (137) إلى ابن بطة- والأول اقتصر على الزواج. قال الهيثمي في "المجمع": (4/ 131) رواه البزار من طريقين: الأول: فيه محمد بن الحصين الجزري، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، والثاني: فيه محمد بن أبان الكلبي، وهو ضعيف. وله شاهد من حديث صهيب بلفظه: رواه أحمد في "مسنده" (4/ 332)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 154) والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 242)، وفي "شعب الإيمان" (5159)، و (5160) وابن الجوزي في "الواهيات" (1027، 1028). ورواه ابن ماجه في (الصدقات): (2410)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 230)، والطبراني في "الكبير" (7301)، والخطيب في "التاريخ" (6/ 312 - 313)، قال العراقي: وفي سنده اضطراب. وفي الباب أيضًا عن ميمون الكردي عن أبيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: رواه الطبراني في "الأوسط" (1851 و 6213)، وفي "الصغير" (111) قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 132 و 284): رجاله ثقات. (¬2) رواه البخاري (2387) في (الاستقراض): باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها، من حديث أبي هريرة.

[للنية تأثير في العقود]

استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكِّله أو لمولّيه كان له وإن لم يتكلَّم به في العقد، وإن لم ينوه له وقع الملك للعاقد، وكذلك لو تملَّك المباحات من الصَّيد والحشيش وغيرها ونواه لموكِّله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء، نعم لا بد في النكاح من تسمية الموكِّل؛ لأنه معقود عليه، فهو بمنزلة السلعة في البيع، فافتقر العقد إلى تعيينه لذلك، [لا أنه معقود له] (¬1). [للنيَّة تأثير في العقود] وإذا كان القول والفعل الواحد يُوجبُ الملكَ لمالِكَيْن مختلفين عند تغيّر النية ثبت أن للنية تأثيرًا في العقود والتصرفات، ومن ذلك أنه لو قضى عن غيره دَيْنًا أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبدل، وإن لم ينو فله الرجوع إن كان بإذنه اتفاقًا، وإن كان بغير إذنه ففيه النزاع المعروف (¬2)؛ فصورة العقد واحدة، وإنما اختلف الحكم بالنية والقصد، ومن ذلك أن اللَّه تعالى حرم أن يدفع الرجلُ إلى غيره مالًا رِبَويًا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقايضا (¬3)، وجوَّز دفعه بمثله على وجه القَرْضِ؛ وقد اشتركا في أن كلًا منهما يدفع ربويًا ويأخذ نظيره، وإنما فرَّق بينهما القصد؛ فإن مقصود المُقْرِضِ إرفاقُ المقترض ونفعه (¬4)، وليس مقصوده المعاوضة والربح، ولهذا كان القرضُ شقيقَ العارية كما سماه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "مَنِيحَةَ (¬5) الورِقِ" (¬6) فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين (ن) و (ك) و (ق): "لأنه معقود عليه". (¬2) فمن قال لا يرجع: الحنفية والشافعية ورواية عند الحنابلة، وهو اختيار أبي محمد الجوزي المعروف بأبي المحاسن، وبه قال ابن المنذر. انظر: "تبيين الحقائق" (3/ 155)، و"فتح القدير" (7/ 188 - 189)، و"الدر المختار" (5/ 314 - 315)، و"المهذب" (1/ 342)، و"روضة الطالبين" (4/ 266)، و"أسنى المطالب" (2/ 247)، و"المغني" (7/ 90)، "الإنصاف" (5/ 204، 205)، "المذهب الأحمد" (95)، و"الإشراف" (1/ 124) لابن المنذر، و"أحكام إذن الإنسان" (1/ 341 - 342). (¬3) في (د)، و (ط): "يتقابضا". (¬4) في (ق): "فإن مقصود القرض ارفاق المقرض ونحوه. . . " (¬5) في (ق) و (ك): "منحة". (¬6) يريد حديث: "من منح منيحة لبن أو وَرِق". رواه أحمد (4/ 285 و 286 - 287، و 296 و 300 و 304)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (125) والترمذي (1957) في (البر والصلة): باب ما جاء في المنحة، =

فصل [اعتراض بأن الأحكام تجري على الظواهر]

منه، لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل، وكذلك لو باعه درهمًا بدرهمين كان ربًا صريحًا، ولو باعه إياه بدرهم ثم وهبه درهمًا آخر جاز، والصورة واحدة وإنما فرَّق بينهما القصد، فكيف يمكن أحدٌ (¬1) أن يلغي القُصُودَ في العقود ولا يجعل لها اعتبارًا؟ (¬2). فصل [اعتراض بأن الأحكام تجري على الظواهر] فإن قيل: قد أطلتم الكلامَ في مسألة القصود في العقود، ونحن نحاكمكم إلى القرآن والسنة وأقوال الأئمة، قال اللَّه تعالى حكاية عن نبيه نوح: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] فرتب الحكم على ظاهر إيمانهم، ورَدَّ علم ما في أنفسهم إلى العالم (¬3) بالسرائر تعالى المنفرد بعلم ذات الصدور وعلم ما في النفوس من علم الغيب، وقد قال تعالى لرسوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: 31] وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لم أومر أن أُنِّقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" (¬4) وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللَّه، فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه" (¬5) فاكتفى منهم ¬

_ = والخطابي في "غريب الحديث" (1/ 728)، وابن حبان (5096)، والبخاري في "الأدب المفرد" (890)، و"خلق أفعال العباد" (ص 33)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (7/ 31)، والعقيلي (4/ 86)، والطبراني في "الأوسط" (2611، 7202) وفي "مسند الشاميين" (767)، و"الدعاء" (1715 - 1724) والروياني (353، 360)، والبغوي (1663)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 27)، والمزي في "تهذيب الكمال" (17/ 323) من طريق عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء، وسنده قوي. وفي الباب عن النعمان بن بشير وابن مسعود. (¬1) في (د) و (ن) و (ط): "أحدًا"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 279)، و"الطرق الحكمية" (ص 20)، وللأستاذ سعد السلمي دراسة مطبوعة بعنوان: "أثر النيات والمقاصد في الأقوال والتصرفات". (¬3) في (ك) و (ق): "العليم". (¬4) هو جزء من حديث: رواه البخاري (4351) في (المغازي): باب بعث علي بن أبي طالب عليه السلام، وخالد بن الوليد إلى اليمن قبل حجة الوداع، ومسلم (1064) في (الزكاة): باب ذكر الخوارج وصفاتهم، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬5) رواه البخاري (1399) في (الزكاة): باب وجوب الزكاة، و (6924) في (استتابة =

بالظاهر، ووكل سرائرهم إلى اللَّه، وكذلك فَعَل بالذين تخلَّفوا عنه واعتذروا إليه، قَبِلَ منهم عَلَانيتهم، ووَكَلَ سرائرهم إلى اللَّه عز وجل، وكذلك كانت سيرته في المنافقين: قبول ظاهر إسلامهم، ويَكِلُ سرائرهم إلى اللَّه عز وجل، وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ولم يجعل لنا علمًا بالنيَّات والمقاصد تتعلق الأحكام الدنيوية بها، فقولنا لا علم لنا به، قال الشافعي (¬1): "فرض اللَّه تعالى على خلقه طاعة أنبيائه (¬2)، ولم يجعل لهم من الأمر شيئًا، فأولى (¬3) ألا يتعاطوا حكمًا على غَيْب أحد بدلالة ولا ظنّ؛ لقصور علمهم عن علم أنبيائه الذين فَرَضَ عليهم الوقوفَ عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره؛ فإنه تعالى ظاهَرَ عليهم الحُجَجَ، فما جعل إليهم الحكم في الدنيا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، فَفرضَ على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان حتى يُسْلِمُوا فَتُحْقنَ دماؤهم إذا أظهروا الإسلام، وأُعلم أنه لا يعلم صدقهم بالإسلام إلا اللَّه؛ ثم أطْلَعَ اللَّهُ رسوله على قوم يُظهرون الإسلام ويُسِرُّون غيره، فلم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا؛ فقال لنبيه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يعني أسلمنا بالقول مخافَةَ القتل والسبي، ثم أخبر (¬4) أنه يجزيهم إن أطاعوا اللَّه ورسوله، يعني إن أحدثوا طاعة اللَّه ورسوله (¬5)، وقال في المنافقين وهم صنف ثانٍ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} (¬6) [المنافقون: 1 - 2] يعني جُنَّةً من القتل، وقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 59] فأمر بقبول ما أظهروا، ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإيمان، ¬

_ = المرتدين): باب مثل من أبى قبول الفرائض، و (7284 و 7285) في (الاعتصام): باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (20) في (الإيمان): باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه، من حديث أبي هريرة عن عمر بن الخطاب، وهو فيهما أيضًا من حديث أبي هريرة. (¬1) في "الأم" (7/ 295 - 298 - تحقيق النجار) وانظر "معرفة السنن" (12/ 242 - 258 ط قلعجي). (¬2) في المطبوع: "نبيه". (¬3) في (ك) و (ق): "وأولى". (¬4) في المطبوع: "ثم أخبرهم". (¬5) في (ن) و (ك): "طاعة رسوله". (¬6) "تمام الآيتين: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2)} الآيتان من أول سورة (المنافقون) (ط) ".

وقد أعلم اللَّه نبيه أنهم في الدرْكِ الأسفل من النار؛ فجعل حكمه تعالى عليهم على سرائرهم، وحكم نبيه عليهم في الدنيا على عَلَانيتهم بإظهار التوبة وما قامت عليه بينة من المسلمين وبما أقرَّوا بقوله وما جَحدوا من قول الكفر ما لم يُقِّروا به ولم يقم به بيّنة عليهم، وقد كذَّبهم في قولهم في كل ذلك، وكذلك أخبر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن اللَّه، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن عُبيد اللَّه بن عَدِي (¬1) بن الخِيَار: "أن رجلًا سارَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم ندر ما سارَّه (¬2) حتى جَهَرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا هو يُشَاوره في قتل رجل من المنافقين، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أليس يشهد أن لا إلهَ إلا اللَّه؟ قال: بلى، ولا شَهادَة له، فقال: أليس يصلي؟ قال: بلى، ولا صلاة له، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أولئك الذين نهاني اللَّه عن قتلهم" (¬3) ثم ذكَر حديث "أمِرْتُ أن أقاتل الناس" (¬4) ثم قال: فحسابهم على اللَّه بصدقهم ¬

_ (¬1) في جميع الأصول: "عن عبيد اللَّه بن بزيد عن عدي. . . " وهو خطأ، والتصويب من مصادر التخريج. (¬2) في (ك): "سراره". (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 171) ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (1/ 13)، ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (رقم 955، 957) والبيهقي في "الكبرى" (8/ 196) عن الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد اللَّه بن عدي بن الخيار فذكره مرسلًا. قال ابن عبد البر: "هكذا رواه سائر رواة "الموطأ"، وعبيد اللَّه لم يدرك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". ورواه أحمد (5/ 432): وابن نصر (959) ثنا عبد الرزاق: أخبرنا ابن جريج: أخبرني ابن شهاب عن عطاء عن عبيد اللَّه بن عدي به مرسلًا وكذلك رواه الليث بن سعد عن ابن شهاب به، وزاد: (عن رجل من الأنصار)، أخرجه ابن نصر (956)، وإسناده صحيح، ورواه (960) من طريق آخر عن ابن شهاب، وزاد (أن نفرًا من الأنصار أخبروه) به. ووصله عبد الرزاق في "مصنفه" (10/ 163 رقم 18688)، ومن طريقه رواه أحمد (5/ 433)، وابن حبان (5971)، وابن نصر (958) وابن قانع في "معجم الصحابة" (9/ 2416 رقم 1574) وأبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" (ق 209/ أ) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (9/ 1723 رقم 4377) والبيهقي في "سننه الكبرى" (3/ 367 و 8/ 196) عن عمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن عبيد اللَّه بن عدي بن الخيار عن عبد اللَّه بن عدي الأنصاري به. وهذا إسناد صحيح، كما قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (2/ 337) والذهبي في "التجريد" (1/ 324). أقول: وشاهده حديث عتبان بن مالك في "صحيح مسلم" (33)، وفي (ك) و (ق): "نهاني اللَّه عنهم". (¬4) هو المتقدم قبل قليل.

وكذبهم، وسرائرهم إلى اللَّه العالم بسرائرهم المتولي الحكم عليهم دون أنبيائه وحُكَّام خلقه. وبذلك مَضَتْ أحكام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، أعلمهم أن جميع أحكامه على ما يُظْهِرُون، واللَّه يدين بالسرائر، ثم ذكر حديث عُويمر العَجْلاني في لعانه امرأتَهُ، ثم قال: فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما بلغنا: "لولا ما قضَى اللَّه لكان لي فيها قضاءٌ غيره" (¬1) يعني: لولا ما قضى اللَّه مِنْ ألا يحكم على أحد إلا باعتراف على نفسه أو بينة، ولم يعرض لشَريك ولا للمرأة، وأنفذ الحكم وهو يعلَم أن أحدهما كاذب، ثم علم بعدُ أن الزوج هو الصادق. ثم ذكر حديث رُكانة أنه طلق امرأته البتة، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استحلفه ما أردتُ إلا واحدة، فحلف له، فردَّها [إليه] (¬2)، قال: وفي ذلك وغيره دليل على أن حَرَامًا على الحاكم أن يقضي أبدًا على أحد من عباد اللَّه إلا بأحسن ما يُظهر، وإن احتمل ما يظهر غير أحسنه وكانت عليه دلالة على ما يخالف أحسنه. ومن قوله (¬3): بلى، لما حكم اللَّه في الأعراب الذين قالوا: {آمَنَّا} [الحجرات: 14]، وعلم اللَّه أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم لما أظهروا من الإسلام، ولما حكم في المنافقين الذين علم أنهم آمنوا ثم كفروا وأنهم كاذبون بما أظهروا من الإيمان بحكم الإسلام، وقال في المُتَلاعِنين: "أبْصِروها، فإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا قد صدق عليها" (¬4) فجاءت به كذلك، ولم يجعل له إليها سبيلًا؛ إذ لم تُقر ولم تَقُم عليها بينة. وأبطل في حكم الدنيا عنهما استعمال الدلالة التي لا توجد في الدنيا دلالة بعد دلالة اللَّه على المنافقين والأعراب أقوى مما أخبر ¬

_ (¬1) قصة عويمر العجلاني الذي لاعن من زوجته ثابتة في "الصحيحين"، رواها البخاري (423)، وأطرافه هناك، ومسلم (1492) في (اللعان)، من حديث سهل بن سعد. وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لولا ما قضى اللَّه لكان لي فيها. . . " حديث آخر، وهو ثابت في حديث أنس بن مالك في قصة شريك بن سحماء، رواها مسلم (1496) في (اللعان): باب كيف اللعان. ومن حديث ابن عباس: رواه البخاري (4747) في (التفسير) باب: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ. . .}، وفيه: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه،. . . " وانظر "الموافقات" (2/ 470 - بتحقيقي). (¬2) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ن) و (ق): "وقوله". (¬4) قطعة من الحديث المتقدم في قوله: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه. . . "، وتخريجه هناك.

[به] (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله في امرأة العَجْلَاني على أن يكون، ثم كان -كما أخبر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والأغلب على من سمع الفزاري يقول للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود" (¬2) وعَرَّضَ بالقذف أنه يريد القذف ثم لم يحده النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ لم يكن التعريض ظاهرَ قذفٍ، فلم يحكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بحكم القذف، والأغلب على مَنْ سمع قول ركانة لامرأته: "أنت طالق البتة" (3) أنه قد أوقع الطلاق بقوله: أنت طالق وأن البتَّة إرادة شيء غير الأول أنه أراد الإبتات بثلاث، ولكنه لما كان ظاهرًا في قوله واحتمل غيره لم يحكم النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بظَاهِر الطلاق واحدة. فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالًا على أن ما أظهروا خلاف ما أبطنوا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة، وذلك [مثل] (¬4) أن يقول قائل: مَنْ رجع عن الإسلام ممن ولد عليه قَتَلْتُه ولم أسْتَتِبْهُ، ومن رجع عنه ممن لم يولد عليه أسْتَتِبْه (¬5)، ولم يحكم اللَّه على عباده إلا حكمًا واحدًا، ومثله أن يقول: مَنْ رجع عن الإسلام ممن أظهر نصرانية أو يهودية أو دينًا يُظهره كالمجوسية أسْتَتِبْه فإن أظهر التوبة قبلت منه، ومَنْ رجع إلى دين خِفْية لم أستتبه، وكلٌّ قد بدَّل دين الحق ورجع إلى الكفر، فكيف يُستتاب بعضُهم ولا يستتاب بعض؟ فإن قال: لا أعرف توبة الذي يُسِرُّ دينه؟ قيل: ولا يعرفها إلا اللَّه، وهذا -مع خلافه حكم اللَّه ثم رسوله- كلام محال، يُسْأل من قال هذا: هل تدري لعلَّ الذي كان أخفى الشرك يَصْدُق بالتوبة والذي كان أظهر الشرك يَكْذب بالتوبة؟ فإن قال؟ نعم، قيل: فتدري لعلك قتلت المؤمن الصادق الإيمان واستحييت الكاذب بإظهار الإيمان؟ فإن قال: ليس عليّ إلا الظاهر، قيل: فالظاهر فيهما واحد وقد جعلته اثنين بعلة مُحَالة، والمنافقون على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُظهروا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية بل كانوا يستسِّرون بدينهم فيُقبل منهم ما يُظهرون من الإيمان! فلو كان قائل هذا القول حين خالف ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ك) و (ق). (¬2) رواه البخاري (5305) في (الطلاق)؛ باب إذا عَرَّض بنفي الولد، و (6847) في (الحدود): باب ما جاء في التعريض، و (7314) في (الاعتصام): باب مَنْ شَبَّه أصلًا معلومًا بأصل مبين، ومسلم (1500) في (اللعان)، من حديث أبي هريرة. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) في (ك): "استبته".

السنة أحْسنَ أن يقول شيئًا له وجه، ولكنه يخالفها ويعتلُّ بما لا وجه له، كأنه يرى أن اليهودية والنصرانية لا تكون إلا بإتيان الكنائس، أرأيت إن كانوا ببلاد لا كنائس فيها أما يصلّون في بيوتهم فتخفى صلاتهم على غيرهم؟ قال: وما وصفت من حكم اللَّه ثم حكم رسوله في المتلاعنين يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، وإذا بطل الأقوى من الدلائل بطل الأضعف من الذرائع كلها، وبطل الحد في التعريض بالقذف، فإن من الناس مَنْ يقول: إذا تشاتَمَ الرجلان فقال أحدهما: "ما أنا بزانٍ ولا أمي بزانية" حُدَّ؛ لأنه إذا قاله على المشاتمة (¬1) فالأغلب أنه إنما يريد به قذف الذي يُشاتم وأمَّه، وإن قاله على غير المشاتمة لم أحُدَّه إذا قال: "لم أرد القذف" مع إبطال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم التعريض في حديث الفَزَاري الذي ولدت امرأته غلامًا أسود (¬2)، فإن قال قائل: فإن عمر حدَّ في التعريض في مثل هذا (¬3)، قيل: استشار أصحابه، فخالفه بعضُهم، ومع مَنْ خالفه ما وصفنا من الدلالة (¬4)، ويَبْطُل مِثْلُه قول الرجل لامرأته: "أنت طالق البتة" لأن الطلاق إيقاعُ طلاقِ ظاهر، والبتة تحتملُ زيادةً في عدد الطلاق وغير زيادة، والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر، حتى لا يحكم عليه أبدًا إلا بظاهر، ويجعل القول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر، فهذا يدل على أنه لا يفسد عقدٌ إلا بالعقد نفسه، ولا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهم، ولا بالأغلب، وكذلك كل شيء لا يفسد إلا بعقده، ولا تفسد البيوع بأن يقول: هذه ذَرِيعة، وهذه نية سوء، ولو كان أن يبطل البيوع بأن تكون ذريعة إلى الربا كان اليقين في ¬

_ (¬1) بعدها في (ق): "حد". (¬2) سبق تخريجه قريبًا. (¬3) أي في الرجل الذي قال: ما أبي بزانٍ، وما أُمّي بزانية، روى ذلك مالك في "الموطأ" (2/ 829)، -ومن طريقه البيهقي في "سننه الكبرى" (8/ 252) - والدارقطني (3/ 209) عن محمد بن عبد الرحمن أبي الرِّجال عن أمة عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين استبَّا في زمن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فقال أحدهما للآخر: ما أبي بزانٍ ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر فقال قائل: مدح أباه وأمه، وقال آخرون: كان لأبيه وأمه مدح سوى هذا، نرى أن تجلده الحد، فجلده عمر بن الخطاب الحد ثمانين. وعمرة بنت عبد الرحمن ثقة حجة، كما قال ابن معين لكنها لم تدرك أيام عمر بن الخطاب فإنها ماتت في حدود المئة. وروى البيهقي (8/ 252) من طريق ابن أبي ذئب عن ابن شهاب الزهري عن سالم عن ابن عمر أن عمر -رضي اللَّه عنه- كان يضرب في التعريض الحدَّ، وإسناده صحيح. (¬4) في (و): "الدلائل".

[دعوى أنه قد دل الكتاب والسنة على ثبوت العقود بظاهرها]

البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يريد به من الظن، ألا ترى أنَّ رجلًا لو اشترى سيفًا ونوى بشرائه أن يقتل به مسلمًا كان الشراء حلالًا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وكذلك لو باع سيفًا من رجل يريد أن يقتل به رجلًا كان هذا هكذا، ولو أن رجلًا شريفًا نكح دَنِيَّةً أعجميةً، أو شريفةً نكحت دَنِيًّا أعجميًا فتصادقا في الوجهين على إن لم ينو واحدٌ منهما أن يثبت على النكاح أكثر من ليلة لم يحرم النكاح بهذه النية، لأن ظاهر عقده كان صحيحًا إن شاء الزوج حبسها وإن شاء طلقها. [دعوى أنّه قد دَلَّ الكتاب والسنة على ثبوت العقود بظاهرها] فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما تثبت بظاهر عقدها لا تفسدها نية العاقدين كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة، ولا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ولا سيما (¬1) إذا كان توهمًا ضعيفًا" انتهى كلام الشافعي (¬2). وقد جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الهازلَ (¬3) بالنكاح والطلاق والرجعة كالجادِّ بها، مع أنه ¬

_ (¬1) كذا في (د)، و (ط) وفي (و) و (ق): "سيما". (¬2) انظر: "الأم" للشافعي -رحمه اللَّه- (7/ 295 - 298 - تحقيق النجار). (¬3) أخرج أبو داود في "السنن" (كتاب الطلاق): باب في الطلاق على الهزل (2/ 664/ رقم 2194)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الطلاق): باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق (3/ 490/ رقم 1184)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الطلاق): باب من طلق أو نكح أو راجع لاعبًا (1/ 658 رقم 2039)، وسعيد بن منصور في سننه (رقم 1603)، والدارقطني في "السنن" (3/ 256، 257 و 4/ 18 - 19)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 98)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 198)، وابن الجارود في المنتقى (رقم 712)، وابن خزيمة في "حديث علي بن حُجر" (4/ رقم 54)، والبغوي في "تفسيره " (1/ 275)، و"شرح السنة" (9/ 219 رقم 2356) من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أردك عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة مرفوعًا: "ثلاث جدهن وهزلهن جد: الطلاق والنكاح والرجعة". قال الترمذي: "حديث حسن غريب"، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، وعبد الرحمن من ثقات المدنيين"، وتعقبه الذهبي؛ فقال: "فيه لين". قلت: قال النسائي فيه: "منكر الحديث"، ووثقه ابن حبان، قال ابن حجر في "التلخيص" (3/ 210) عن عبد الرحمن بن حبيب: "وهو مختلف فيه، وقال النسائي: منكر الحديث، ووثقه غيره؛ فهو على هذا حسن". قلت؛ قوله: "غيره" المراد به هو ابن حبان، وهو متساهل كما هو معروف؛ فإسناد =

[القول الفصل في هذه المسألة]

لم يقصد حقائق هذه العقود، وأبلغ من هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قَضَيْتُ له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" (¬1) فأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه يحكم بالظاهر وإن كان في نفس الأمر لا يَحلُّ للمحكوم له ما حكم له به، وفي هذا كله دلالة على إلغاء المقاصد والنيات في العقود، وإبطال سد الذرائع، واتِّباع ظواهر عقود الناس وألفاظهم، وباللَّه التوفيق. [القول الفصل في هذه المسألة] فانظر ملتقى البحرين، ومُعْتَرَكَ الفريقين، فقد أبرز كل منهما حجته، وخاض بحر العلم فبلغ منه لُجَّتَه، وأدْلى من الحجج والبراهين بما لا يُدفع، وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم: قل: يُسْمَعْ، وحُججُ اللَّه لا تتعارض، وأدلة الشرع لا تتناقض، والحق يُصدِّق بعضه بعضًا، ولا يقبل معارضة ولا نقضًا، وحرامٌ على المقلد المتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول، أو يكون على قوله وبحثه إذا حقَّت الحقائق المُعَوَّل، فليجرب المدعي ما ليس له والمدعي في قوم ليس منهم نفسه وعلمه وما حصَّله في الحكم بين الفريقين، والقضاء للفصل (¬2) بين المتغالِبَيْن، وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين، ليسلم له قول إحدى ¬

_ = الحديث ضعيف؛ إلا أنه صالح للشواهد، والحديث له شواهد كثيرة يجبر بها، ويصل إن شاء اللَّه تعالى إلى درجة الحسن، منها: ما أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (6/ 135/ رقم 10250) عن ابن جريج؛ قال: أخبرت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "من طلق أو نكح لاعبًا؛ فقد أجاز"، وإسناده معضل. وأخرجه أيضًا برقم (10249) عن إبراهيم بن محمد عن صفوان بن سليم؛ أن أبا ذر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من طلق وهو لاعب؛ فطلاقه جائز، ومن أعتق وهو لاعب، فعتاقه جائز، ومن أنكح وهو لاعب، فنكاحه جائز"، وإسناده واهٍ بمرة، إبراهيم هو الأسلمي، متروك، وفيه انقطاع. وانظر: "نصب الراية" (3/ 293 - 294)، و"التلخيص الحبير" (3/ 209)، و"الإرواء" (1826). (¬1) رواه البخاري (2458) في (المظالم): باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، و (2680) في (الشهادات): باب من أقام البينة بعد اليمين، و (7169) في (الأحكام): باب موعظة الإمام للخصوم، و (7181) باب من قضي له بحق أخيه فلا يأخذه، و (7185) باب القضاء في كثير المال وقليله، ومسلم (1713) في (الأقضية): باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، من حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-. (¬2) في (ك) و (ق): "الفصل".

[قاعدة شرعية هي مقدمة للفصل بين الفريقين]

الطائفتين، وإلا فليلزم (¬1) حدَّه، ولا يتعدى طَوْرَه، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعًا يقصر عن الوصول إليه، ولا يَتَجر بنقدٍ زائفٍ لا يروج عليه، ولا يتمكن من الفصل بين المقالين (¬2) إلا من تجرد للَّه مسافرًا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي، مُنْزِلًا نفسَه منزلَةَ من يتلقاه غضًّا طريًا مِنْ في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها. [قاعدة شرعية هي مقدمة للفصل بين الفريقين] فنقول وباللَّه التوفيق: إن اللَّه تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئًا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامَهَا بواسطة الألفاظ، ولم يرتِّب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يُرِد معانيها ولم يُحِطْ بها علمًا، بل تجاوز للأمة عما حَدَّثَتْ به أنفُسَها ما لم تعمل به أو تكلَّم به (¬3)، وتجاوز لها عما تكلَّمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة (¬4) أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلَّمت به أو قاصدة ¬

_ (¬1) في المطبوع: "فيلزم". (¬2) في (و)، و (ن): "المقاتلين". (¬3) رواه البخاري (2528) في (العتق)؛ باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق. . .، و (5269) في (النكاح): باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران، و (6664) في الأيمان والنذور: باب إذا حَنِثَ ناسيًا في الأيمان، ومسلم (127) في (الإيمان): باب تجاوز اللَّه عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر من حديث أبي هريرة. (¬4) أخرجه ابن ماجه في "السنن" (كتاب الطلاق): باب طلاق المكره والناسي (1/ 659/ رقم 2045) من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس رفعه بلفظ: "إن اللَّه تجاوز لي عن أمتي. . . "، وسيذكره المؤلف بعد قليل. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 95)، والدارقطني في "سننه" (4/ 170 - 171)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 198)، والطبراني في "الصغير" (765)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 356) وابن حبان في "صحيحه" (رقم 2045) وابن حزم في "الإحكام" (5/ 149) من طريق الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس مرفوعًا. وهذا إسناد صحيح، وقد أعله أحمد في "العلل" (1/ 227) بالنكرة، وأبو حاتم في "العلل" (1/ 431) بالانقطاع؛ فقال: "لم يسمع الأوزاعي هذا الحديث من عطاء!! ورجح شيخنا الألباني في "الإرواء" (رقم 82) صحة هذا الطريق. وأخرجه الفضل بن جعفر التيمي المعروف بـ"أخي عاصم" في "فوائده" -كما في =

[الأشياء التي لا يؤاخذ الله المكلف بها]

إليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتَّب الحكم. هذه قاعدة الشريعة، وهي من مقتضيات عدل اللَّه وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار، فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حَرَج ومشقة على الأمة، ورحمةُ اللَّه تعالى وحكمته تأبى ذلك. [الأشياء التي لا يؤاخذ اللَّه المكلف بها] والغلط والنسيان والسهو وسَبْقُ اللسان بما لا يريده العبدُ بل يريد خلافه والتكلم به مكرهًا وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه؛ فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب (¬1) والمشقة؛ فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده، وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولَغْو اليمين؛ فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ اللَّه بها عبدَه بالتكلّم في حال منها؛ لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به. ¬

_ = "التلخيص الحبير" (1/ 283) - من حديث ابن عباس: "رفع اللَّه عن أمتي. . . " , وعزاه بلفظ المصنّف السيوطي في "الجامع الصغير" (2/ 16) إلى الطبراني من حديث ثوبان، وهو خطأ، ولفظ الطبراني في "الكبير" (2/ 94/ رقم 1430): "إن اللَّه تجاوز عن أمتي الخطأ. . . "، وتابع السيوطي على هذا الوهم: المناوي في "الفيض" (4/ 35)، وأقر السيوطي شيخنا الألباني في "صحيح الجامع" (رقم 3515)، ولكنه نبه في "الإرواء" (رقم 82) أنه منكر بلفظ: "رفع عن أمتي. . . ". وعلى كل فالحديث له شواهد عديدة، ولحديث ابن عباس طرق كثيرة يصل معها إلى درجة الصحة، وحسنه النووي في "أربعينه" (رقم 39). وأخرجه ابن عدي في "الكامل" (2/ 573)، وأبو نعيم في "تاريخ أصبهان" (1/ 90 - 91) من طريق جعفر بن جسر عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة مرفوعًا: "رفع اللَّه عز وجل عن هذه الأمة الخطأ والنسيان والأمر يكرّهون عليه"، وإسناده ضعيف، فيه جعفر بن جسر في حفظه اضطراب شديد، كان يذهب إلى القدر، وحدث بمناكير، وأبوه مضعف. انظر "الميزان" (1/ 430 - 404)، ولأحمد الغماري جزء بعنوان: "شهود العيان بثبوت حديث رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"، وصححه ابن حبان والضياء المقدسي والذهبي والسخاوي في "المقاصد" (ص 229) وجماعة. وانظر -مفصلًا- "نصب الراية" (2/ 65). (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "العنت".

[العفو عن خطأ الإنسان عند شدة الفرح وشدة الغضب]

[العفو عن خطأ الإنسان عند شدّة الفرح وشدّة الغضب] أما الخطأ من شدة الفرح فكما في الحديث الصحيح حديث فَرَحَ الرب بتوبة عبده وقول الرجل: " [اللهم] (¬1) أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" (¬2). وأما الخطأ من شدة الغضب فكما في قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله حال الغضب، لو أجابه اللَّه تعالى لأهلك الداعي ومن دُعي عليه، فقضى إليهم أجلهم (¬3)، وقد قال جماعة من الأئمة: الإغلاق الذي منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وقوع الطلاق والعَتَاق فيه هو الغضب (¬4). وهذا (¬5) كما قالوه؛ فإن للغضب سكرًا كسكر الخمر أو أشد (¬6). [لا يترتب على كلام السكران حكم] وأما السكران فقد قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فلم يرتب على كلام السكران حكمًا حتى يكون عالمًا بما يقول؛ ولذلك أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا يستنكه (¬7) المقر بالزنا ليعلم هل هو عالم بما يقول أو غير عالم بما يقول (¬8)، ولم يؤاخذ حمزة بقوله في حال السكر: "هل أنتم إلا عبيد لأبي" (¬9) ولم يكفر من قرأ في حال سُكْرِه في الصلاة: "أعبد (¬10) ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون" (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "إليه أجله" والمذكور قول مجاهد في "تفسيره" ومضى. ونقله عنه المصنف في "إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" (ص 8). (¬4) حديث "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق" سبق تخريجه. (¬5) في (و): "هذا". (¬6) انظر كلام ابن القيم عن (طلاق الغضبان) في: "زاد المعاد" (4/ 41 - 42)، و"مدارج السالكين" (3/ 307 - 308) و"شفاء العليل" (ص 394) و"إغاثة اللهفان" (ص 11 وما بعد). (¬7) كذا في (ك) و (ق) وهو الصواب، وفي بقية الأصول: "يشكك". (¬8) روى مسلم في "صحيحه" (1695) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر رجلًا فاستنكه المعترف بالزنا ليعلم هل هو شارب للخمر أم لا؟. (¬9) سبق تخريجه. (¬10) قبلها في (ك) و (ق): "لا"!! (¬11) سبق تخريجه.

[العفو عن الخطأ والنسيان]

[العفو عن الخطأ والنسيان] وأما الخطأ والنسيان فقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وقال اللَّه تعالى: "قد فعلت" (¬1) وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه قد تجاوز لي عن أمتي الخَطَأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه" (¬2). [حكم المكره واللغو وسبق اللسان] وأما المكره فقد قال اللَّه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] والإكراه داخل في حكم الإغلاق (¬3). وأما اللغو فقد رفع اللَّه تعالى المؤاخذة به حتى يحصل عَقْدُ القلبِ. وأما سَبْقُ اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد؛ فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين، وقد نص الأئمة على مسائل من ذلك تقدم (¬4) ذكر بعضها. [حكم الإغلاق] وأما الإغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع، والواجب حَمْلُ كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي؛ فكل مَنْ اغلق عليه بابُ قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلَّم في الإغلاق، ومن فسَّره بالجنون أو بالسكر أو بالغضب أو بالإكراه فإنما قَصَدَ التمثيلَ لا التخصيص، ولو قُدِّر أن اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجَبَ تعميمُ الحكم بعموم العلة؛ فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدّى بتعديها وانتفى بانتفائها. فصل [الألفاظ على ثلاثة أقسام] فإذا تمهَّدَتْ هذه القاعدة فنقول: الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونيّاتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه قبل قليل. (¬3) انظر (أحكام الإكراه) في: "الإغاثة الصغرى" (19 - 25)، و"مدارج السالكين" (2/ 360). (¬4) في (ك): "فقد تقدم".

فصل [القسم الثاني من الألفاظ]

أحدها: أن تظهر مطابقة القصد للفظ، وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقَطْع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحاليّة واللفظية وحال المتكلِّم به وغير ذلك، كما إذا سمع العاقلُ والعارف (¬1) باللغة قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنكم سَتَرَوْنَ ربكم عيانًا، كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صَحْوًا ليس دونها سحاب، لا تُضارُّون في رؤيته إلا كما تضارُّون في رؤيتها" (¬2) فإنه لا يستريب ولا يشك في مراد المتكلم وأنه رؤية البصر حقيقة، وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنص من هذا، ولو اقْتُرِح على أبلغ الناس أن يعبِّر (¬3) عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارة أوضح ولا أنص من هذه، وعامة كلام اللَّه ورسوله من هذا القبيل؛ فإنه مستولٍ على الأمَدِ الأقصى من البيان. فصل [القسم الثاني من الألفاظ] القسم الثاني: ما يَظْهر بأن المتكلم لم يرد معناه، وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه، وهذا القسم نوعان: أحدهما: أن لا يكون مريدًا لمقتضاه ولا لغيره. والثاني: أن يكون مريدًا لمعنًى يخالفه؛ فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران، والثاني: كالمعرَّض والموَرِّي والمُلْغِزِ والمتأوِّل. فصل [القسم الثالث] القسم الثالث: ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم (¬4) له ويحتمل ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "العارف". (¬2) رواه البخاري (7439) في (التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)}، ومسلم (182) في "الإيمان": باب معرفة طريق الرؤية، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (7518) في "التوحيد": باب كلام الرب مع أهل الجنة، ومسلم (183) في "الإيمان"، من حديث أبي سعيد الخدري. وهو عند البخاري مختصرًا ليس فيه ذِكْر الرؤية. (¬3) في (ن) و (ق): "أن يعبروا"!. (¬4) في (ك) و (ق): "ويحتمل عدم إرادة"!

[متى يحمل الكلام على ظاهره؟]

إرادته لغيره (¬1)، ولا دلالة على واحد من الأمرين، واللفظ دال على المعنى الموضوع له، وقد أَتَى به اختيارًا. فهذه أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها. [متى يحمل الكلام على ظاهره؟] وعند هذا يقال: إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قَصْدٌ يخالف كلامه وجَبَ حملُ كلامه على ظاهره، والأدلة التي ذكرها الشافعي -رضي اللَّه عنه- وأضعافُهَا كلها إنما تدل على ذلك، وهذا حق لا يُنازعُ فيه عالمٌ، والنزاع إنما هو في غيره. إذا عُرف هذا فالواجب حمل كلام اللَّه تعالى ورسوله وحمل كلام المكلَّف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يُقْصَدُ من اللفظ عند التخاطب، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك. ومُدَّعِي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذبٌ عليه. قال الشافعي: "وحديثُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ظاهره بَتٌّ" ومن (¬2) ادَّعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمرادِ المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشر أشياء فهو ملبوس عليه ملبِّس على الناس؛ فإن هذا لو صح لم يحصل لأحدٍ العلمُ بكلام المتكلم قط، وبطلت فائدة التخاطب، وانتفت خاصية الإنسان (¬3)، وصار الناس كالبهائم، بل أسوأ حالًا، ولَمَا عُلِم غرض هذا المصنف من تصنيفه، وهذا باطل بضرورة الحس والعقل، وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجهًا مذكورة في غير هذا الموضع، ولكن حَمْلُ كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي (¬4) صَرْفه عن ذلك لدلالة تدل عليه كالتعريض ولَحْنِ الخطاب والتورية وغير ذلك، وهذا أيضًا مما لا يُنازع فيه العقلاء. [متى يحمل لكلام على غير ظاهره؟] وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكمًا بعد ظهور مراد المتكلّم والفاعل ¬

_ (¬1) في (د) و (ط): "غيره". (¬2) يعرِّض المصنف بجماعة من الأصوليين -على رأسهم الفخر الرازي- وفصَّل ابن تيمية في أوائل "درء العقل والنقل" الرد عليه، كما فعل المصنف، واللَّه الموفق. وذكر ناسخ (ق) عندها في الهامش قوله: "هو ابن الخطيب". (¬3) في (ك) و (ق): "خاصة الانسانية". (¬4) في هامش (ق): "ظ: لا ينفي ".

[القصود في العقود معتبرة ولا شك والأمثلة على ذلك]

بخلاف ما أظهره؛ فهذا هو الذي وقع فيه النزاع، وهو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصدُ والنيَّاتُ بخلافها أم للقصود والنياتِ تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها (¬1)؟ [القصود في العقود معتبرة ولا شَكَّ والأمثلة على ذلك] وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصُود في العقود معتبرةٌ، وأنها تؤثّر في صحة العقد وفساده وفي حِلِّه و [حرمته، بل أبْلَغُ من ذلك، وهي أنها تؤثر في] (¬2) الفعل الذي ليس بعقد تحليلًا وتحريمًا فيصير حلالًا تارة وحرامًا تارة باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحًا تارة وفاسدًا تارة باختلافها، وهذا كالذبح فإن الحيوان يَحلُّ إذا ذُبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير اللَّه، وكذلك الحَلَالُ يصيدُ الصيد للمحرِمِ فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم، وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشترى وينوي أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة (¬3)، وإنما اختلفت النية والقصد، وكذلك صورة القَرْض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية ملعون فاعله على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) وعصره بنية أن يكون (¬5) خلًا أو دِبْسًا (¬6) جائز وصورة الفعل واحدة، وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعُدْوَان وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل اللَّه فهو طاعة وقُرْبة، وكذلك عقد النَّذر المعلَّق على شرط ينوي به التقرب والطاعة فيلزمه الوفاء بما نذره وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينًا مُكَفَّرة، وكذلك تعليق الكُفْر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك وينوي به وقوع الشرط فيَكْفُر [عند وجود الشرط ولا يكفر إن نوى به اليمين] (¬7) وصورة اللفظ واحدة، وكذلك ألفاظُ الطلاق صريحها وكنايتها (¬8) ينوي بها الطلاقَ ¬

_ (¬1) انظر لزامًا "الموافقات" (3/ 249 - 250) للشاطبي، وتعليقي عليه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (و) و (ن): "وصورة الفعل العقد واحدة". (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (ك): "وعصره بأن يكون". (¬6) دبسًا أي: "عسلًا" (و). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬8) في (ك): "وكناياتها".

[اعتبار القصود في العبادات]

فيكون ما نواه وينوي به غيره فلا تطلق، وكذلك قوله: "أنتِ عندي مثل أمي" ينوي بها الظهار فتحرم وينوي به أنها في الكرامة فلا تحرم عليه، وكذلك مَنْ أدّى عن غيره واجبًا ينوي به الرجوع مَلكه وإن نوى به التبرع لم يرجع. وهذه كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمَثوبات والعقوبات؛ فقد اطّردت سنته بذلك في شرعه وقدره. [اعتبار القصود في العبادات] أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره (¬1)؛ فإن القُرُبات كلها مَبْنَاها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقَصْد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سَبَحَ للتبرُّد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى، ولو أمْسَكَ عن المُفْطِرات عادة واشتغالًا ولم ينو القربة لم يكن صائمًا (¬2)، ولو دار حول البيت يلتمس شيئًا سقط منه لم يكن طائفًا، ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم تحتسب (¬3) زكاة، ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له [ثواب] (¬4). وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والإمتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب؛ ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته [أو أمَتُه] (¬5) لم يأثم بذلك وقد يُثاب بنيته، ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجتُه أو أمَتُه أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام، ولو أكل طعامًا حرامًا يظنه حلالًا لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حرامًا وقد أقدم عليه أثِم بنيته، وكذلك لو قتل مَنْ يظنه مسلمًا معصومًا فَبَانَ كافرًا حربيًا أثم بنيته، ولو رمى صيدًا فأصاب معصومًا لم يأثم، ولو رمى معصومًا فأخطأه وأصاب صيدًا أثم، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار (¬6) لنية كل واحد منهما قتل صاحبه. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 48)، و"بدائع الفوائد" (3/ 186 - 193) مهم جدًا، و"الطهور" (ص 200 - بتحقيقي). (¬2) (مبحث النية في الصيام) انظره في: "زاد المعاد" (1/ 218)، و"تهذيب السنن" (3/ 327 - 328، 331 - 333). (¬3) في المطبوع: "لم يحسب". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬6) يشير إلى حديث: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". رواه البخاري (31) في "الإيمان": باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا =

[الحيل]

[النية روح العمل ولبه] فالنية روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قال كلمتين كَفَتَا وشَفَتَا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬1) فبيّن في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بيّن في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعمُّ العبادات والمعاملات والأيمَان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن مَنْ نَوَى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وأنَّ من نوى بعقد النكاح التحليل كان محلِّلًا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى؛ فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنص، وعلى هذا فإذا نوى بالعَصْر حصولَ الخمر كان له ما نواه، ولذلك استحق اللعنة، وإذا نوى بالفعل التحيُّلَ على ما حرَّمه اللَّه ورسوله كان له ما نواه؛ فإنه قَصدَ المُحرَّم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على المحرَّم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جُعِل ذَرِيعة له، لا في عقلَ ولا في شرع؛ ولهذا لو نهى الطبيبُ المريضَ عما يؤذيه وَحَماه منه فتحيل على تناوله عُدَّ متناولًا لنفس ما نهى عنه، ولهذا مسخ اللَّه اليهود قِرَدَةً لما تَحيَّلُوا على فعل ما حرمه اللَّه [عليهم] (¬2)، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حَرَمَهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مُصْبِحين (¬3) إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا لعن اليهود لما أكَلُوا ثمن ما حرم اللَّه عليهم أكله (¬4)، ولم يعصمهم التوسل ¬

_ = بَيْنَهُمَا. . .}، و (6875) في "الديات": باب قول اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا}، و (7083) في "الفتن": باب إذا التقى المسلمان بسيفيهما، ومسلم (2888) في "الفتن": باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، من حديث أبي بكرة. (¬1) الحديث في "الصحيحين"، وقد تقدم تخريجه، وفي (ك) و (ق): "وإنما لامرئ ما نوى". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) "أي: قطع ثمارها وقت الصبح" (و). (¬4) هذا والذي بعده إشارة إلى حديث: "لعن اللَّه اليهود، حُرِّمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها. . . ". رواه البخاري (2223) في "البيوع" باب: لا يذاب شحم الميتة ولا يباع، و (3460) في "أحاديث الأنبياء": باب ذكر بني إسرائيل، ومسلم (1582) في "المساقاة" باب: تحريم الخمر والميتة والخنزير والأصنام، من حديث عمر بن الخطاب. ورواه البخاري (2224)، ومسلم (1583)، من حديث أبي هريرة.

[الدلالة على تحريم الحيل]

إلى ذلك بصورة البيع. وأيضًا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسمُ (¬1) وتنتقل إلى اسم الوَدَك (¬2)، فلمَّا تحيَّلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك. [الدلالة على تحريم الحيل] قال الخطابي: "في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى الحرام؛ (¬3) فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه" (¬4). قال شيخنا -رضي اللَّه عنه-: ووجه الدلالة ما أشار إليه أحمد [من] (¬5) أن اليهود لما حرم اللَّه عليهم الشحُومَ أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم فَجَمَلُوه (¬6) وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يكون (¬7) الانتفاع [في الظاهر] (¬8) بعين المحرَّم، ثم مع كونهم (¬9) احتالوا حيلة (¬10) خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم اللَّه على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذا الاستحلال، نظرًا إلى [هذا] (¬11) المقصود، وأن حكمة التحريم لا تختلف (¬12) سواء كان جامدًا أو مائعًا، وبدل الشيء يقوم مقامه ويسد مَسَدَّه، فإذا حرم اللَّه الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة، [وأما] (¬13) ما أبيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالحمير (¬14) مثلًا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرمة، ¬

_ (¬1) في (و): "الإثم". (¬2) "دسم اللحم" (و). (¬3) في المطبوع و (ك): "المتوسل إلى المحرم". (¬4) انظر: "أعلام الحديث" (2/ 1101) و"بيان الدليل" (ص 91). (¬5) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬6) قال: (و): "أذابوه". قلت: وفيه لغتان، يقال: جملت بالشحم وأجملته إذا أذبته، واجتملته -أيضًا-، انظر: "غريب الحديث" (3/ 407) لأبي عبيد -رحمه اللَّه-. (¬7) في "بيان الدليل": "لئلا يحصل". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬9) في "بيان الدليل": "أنهم". (¬10) في "الأصول": "بحيلة". (¬11) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬12) في مطبوع "بيان الدليل": "فإنما حكمه التحريم لا يختلف". (¬13) بدلها في "بيان الدليل": "ولهذا". (¬14) كذا في "بيان الدليل"، وفي جميع نسخ "الإعلام" "كالخمر"!!

[صورة محرمة من الربا بحيلة شراء سلعة وبيعها]

وهذا معنى [حديث ابن عباس الذي رَوَاه أبو داود وصححه الحاكم وغيره] (¬1): "لعن اللَّه اليهود! حرِّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن اللَّه إذا حرَّم على قوم أكْلَ شيء حرم عليهم ثمنه" (¬2) يعني ثمنه المقابل لمنفعة الأكل، فأما إن كانت (¬3) فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلتها لم يدخل في هذا. إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقًا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء (¬4) المحرم ومعناهُ [وحقيقته لم يستحق اليهود] (¬5) اللعنة لوجهين: أحدهما: أن الشحم خرج بجَمْله (¬6) عن أن يكون شحمًا، وصار وَدَكًا، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعًا عند من يستحل ذلك (¬7). [صورة محرمة من الربا بحيلة شراء سلعة وبيعها] فإنَّ مَنْ أراد أن يبيع مئة بمئة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحالّ، ولا غرض لواحد منهما في السلعة (¬8) بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة: دَرَاهم بدراهم ودخلت بينهما حَرِيرة (¬9)؛ فلا فرق بين ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث رواه أبو داود عن ابن عباس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:. . . " (¬2) حديث ابن عباس، رواه أحمد (1/ 247) و (293) و (322)، والبخاري في "التاريخ" تعليقًا (2/ 247)، وأبو داود (3488) في "البيوع" باب: ثمن الخمر والميتة، وابن حبان (4938)، والطبراني في "الكبير" (12378)، و (12887)، والبيهقي (6/ 13 و 13 - 14) و (9/ 353) وإسناده صحيح. ولم أجده في "مستدرك الحاكم"، كما ذكر المؤلف، وقد وجدت فيه حديثًا لكن من مسند أسامة بن زيد، وتقدم -قريبًا- في "الصحيحين" من حديث عمر وأبي هريرة. (¬3) في الأصول والمطبوع: "فإذا كان"، والمثبت من "بيان الدليل". (¬4) في "بيان الدليل": "دون رعاية لمعقود الشيء"! وفي (ق): "المقصود الشيء". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في الأصول: "وكيفيته لم يستحقوا"، والمثبت من "بيان الدليل". (¬6) "إذابته" (و). (¬7) انظر: "بيان الدليل" (ص 91 - 92)، وبدل قوله الآتي: "فإن من أراد أن يبيع" إلى آخر الوجه الأول هذا في "بيان الدليل" هكذا: "فإن من أراد أن يعطي ألفًا بالف ومئة إلى أجل، فأعطاه "حريرة" بألف ومئة مؤجلة، ثم أخذها منه بألف حالة فإن معناه معنى من أعطى ألفًا بألف ومئة لا فرق بينهما من حيث الحقيقة والمقصود إلا ما بين الشحم والودك" اهـ. (¬8) في (و): "بالسلعة". (¬9) في (و): "جريرة".

[لا تزول مفسدة التحليل بتسبيق شرط]

ذلك وبين مئة [بمئة] (¬1) وعشرين [درهمًا] (¬2) بلا حيلة ألبتة، لا في شرع ولا [في] (2) عقل ولا عُرْف، بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص؛ فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يُحرِّم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويُؤْذِنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيُّل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعةِ اللَّهِ ورسوله. هذا لا يأتي به شرع؛ فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسُلَّم طويلٍ صَعْبِ التراقي يَتَرابى المُتَرابيان على رأسه. فياللَّه العجب! أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع؟ فهل صار هذا الذنب العظيم عند اللَّه الذي هو أكبر الكبائر حسنةً وطاعةً بالخداع والاحتيال؟ وياللَّه! كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث إلى الطبيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبًا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطًا له؟ ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند اللَّه ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عُرَاه وأجل أصوله!! [لا تزول مفسدة التحليل بتسبيق شرط] وياللَّه العجب! كيف تزول مفسدة التحليل الذي أشار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بلَعْن فاعله (¬3) مرة بعد أخرى بتسبيق (¬4) شَرْطه وتقديمه على صُلْب العقد وخَلَاء (¬5) صلب العقد من لفظه وقد وقع التواطؤ والتوافق (¬6) عليه؟ وأي غرض للشارع؟ وأي حكمة في تقديم الشرط وتسبيقه (¬7) حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خَمْرة هذا العقد خلًا؟ وهل كان عقد التحليل مسخوطًا للَّه ورسوله لحقيقته ومعناه، أم لعدم مقارنة الشرط له وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول حقيقة نكاح التحليل؟ ¬

_ = وهذا الأثر عند مطيّن والقاضي أبي يعلى وأبي محمد النخشبي الحافظ، أفاده ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 112 - 113). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) مضى تخريجه. (¬4) في (ك) و (ق): "بتسليف". (¬5) في (و): "خلا"، وفي (ن) و (ك) و (ق): "إخلاء". (¬6) في (ك) و (ق): "والإتفاق". (¬7) في (ك): "وتسليفه".

[تحريم الحيل الربوية وكل وسيلة إلى الحرام]

[تحريم الحيل الربوية وكُلِّ وسيلة إلى الحرام] وهكذا الحيل الربوية؛ فإن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع؛ فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة رُكِّبت وبأي لفظ عُبِّر عنها؛ فليس الشأن في الأسماء وصُوَر العقود، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عُقِدَتْ له. الوجه الثاني (¬1): أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه، ويلزم مَنْ راعى الصُّوَر والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك، فلما لُعنوا على استحلال الثمن -وإن لم ينص لهم على تحريمه- علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة، ونظير هذا أن يُقال لرجل: لا تَقْرب مال اليتيم، فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول: لم أَقْرب ماله، وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر، فيأخذ بيديه ويشرب من كفيه (¬2) ويقول: لم أشرب منه، وبمنزلة من يقول: لا تضرب زيدًا، فيضربه فوق ثيابه ويقول: إنما ضربتُ ثيابه، وبمنزلة من يقول: لا تأكل [من] (¬3) مال هذا الرجل فإنه حرام، فيشتري به سلعةً ولا يُعيِّنه ثم ينقده للبائع ويقول: لم آكل ماله إنما أكلت ما اشتريته وقد ملكت (¬4) ظاهرًا وباطنًا، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيبُ في معالجة المرضى لزاد مرضُهم، ولو استعملها المريضُ لكان مرتكبًا لنفس ما نهاه عنه الطبيب، كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض، فيدقه ويعمل منه هريسة ويقول: لم آكل اللحم، وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطِلة في الدين. وياللَّه العجب! أي فرق بين بيع مئة بمئة وعشرين درهمًا صريحًا (¬5) وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلًا بل دخولها كخروجها؟ ولهذا لا يَسْأل العاقدُ عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يُبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة مقطّعة أو أذن شاة (¬6) أو عودًا من حطب أدخلوه محللًا للربا (¬7)، ولما تفطَّن ¬

_ (¬1) من هنا يستكمل المصنف النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 92) بشيء من الاختصار والتصرف. (¬2) في المطبوع: "ويشرب بكفيه". (¬3) ما بين المعقوفتين من (و). (¬4) في (ك) و (ق): "ملكته". (¬5) في (ك): "صحيحًا". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "أذن جدي". (¬7) في (ن) و (ق): "مْحْرِمًا للربا" ولعل الصواب كما ذكرناه.

[مثل لمن وقف مع الظواهر والألفاظ]

المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه، وأن دخولها كخروجها، [تهاونوا بها] (¬1)، ولم يبالوا بكونها مما يتموَّل عادةً أو لا يتمول، ولم يُبَالِ بعضُهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة، بل لم يبالِ بعضهم بكونها مما يُباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا وَقَع من أرباب الحيل، وهذا (¬2) لما عَلِموا أن المشتري لا غَرَضَ له في السلعة فقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل، كأي تيس اتفق في باب محلل النكاح. [مثل لمن وقف مع الظواهر والألفاظ] وما مَثَلُ من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يُرَاعِ المقاصدَ والمعاني إلا كمَثَل رجل قيل له: لا تُسلم على صاحب بِدْعَةٍ، فقبَّلَ يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له: اذهب فاملأ هذه الجرة، فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال: لم تقل: ايتني بها، وكمن قال لوكيله: بع هذه السلعة، فباعها بدرهم وهي تساوي مئة، ويلزم مَنْ وقف مع الظواهر أن يصحِّحَ هذا البيع ويُلزم به المُوكِّل، وإنْ نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألغاها (¬3) في غير موضع، وكمن أعطاه رجل ثوبًا فقال: واللَّه لا ألبسه لما له فيه من المِنَّة، فباعه وأعطاه ثمنه فقبله، وكمن قال: واللَّه لا أشرب هذا الشراب، فجعله عقيدًا أو ثَرَدَ فيه خبزًا وأكله، ويلزم مَنْ وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد مَنْ فعل ذلك بالخمر، وقد أشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أن من الأُمّة مَنْ يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال؛ "ليشربَنَّ ناسٌ من أمتي الخمر يسمُّونها بغير اسمها، يُعْزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف اللَّه بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" (¬4) رواه أحمد وأبو داود، وفي "مسند ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) كذا في الأصول، ولعلها: "ولهذا". (¬3) في المطبوع: "ألقاها"!! (¬4) رواه بتمامه: ابن أبي شيبة (8/ 107) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (9/ 57) -، والبخاري في "التاريخ" (1/ 305)، وابن حبان (6758)، والطبراني في "الكبير" (3419)، وابن ماجه (4020) في "الفتن" باب: (العقوبات)، والبيهقي (8/ 295) و (10/ 221)، و"الآداب" (922)، ورواه مختصرًا بأوله أحمد (5/ 432)، وأبو داود (3688) في "الأشربة": باب في الدَّاذي، والبخاري في "التاريخ" (7/ 222)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (ص 115 - 116)، والذهبي في "السير" (20/ 271)، وابن حجر في "التغليق" (5/ 20 - 21) من طريق حاتم بن حريث عن مالك بن أبي مريم عن =

الإمام أحمد" مرفوعًا: "يشربُ ناسٌ من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" (¬1)، وفيه عن عُبَادة بن الصامت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يشرب ناسٌ من أمتي الخمر باسم يُسمُّونها إياه" (¬2)، وفي "سنن ابن ماجه" من حديث أبي أمامة يرفعه: "لا تذهب الليالي ¬

_ = عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري مرفوعًا به. وهذا إسناد ضعيف: مالك بن أبي مريم، قال فيه ابن حزم: لا يُدْرى مَنْ هو، وقال الذهبي: لا يُعرف. وصححه ابن القيم في "إغاثة اللهفان"، (1/ 261)! وقد علقه البخاري (5590) في "الأشربة": باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، ووصله ابن حبان (6719)، والطبراني (3417) وفي "مسند الشاميين" (588)، وأبو أحمد الحاكم -كما في "التغليق" (5/ 18) - وابن الدبيثي في "التاريخ" -كما في "السير" (23/ 7) - وأبو ذر الهروي -كما في "الفتح" (10/ 53) - ودعلج في "مسند المقلين" (رقم 8)، والحسن بن سفيان في "مسنده" وأبو نعيم في "المستخرج" -كما في "التغليق" (5/ 18) -، والبرقاني في "صحيحه"، وأبو بكر الإسماعيلي في "صحيحه" -كما في "نصب الراية" (4/ 231) -، والذهبي في "السير" (21/ 581) و (23/ 7)، و"تذكرة الحفاظ" (4/ 1337)، والمزي في "تهذيب الكمال" (2/ ق 941)، وابن حجر في "التغليق" (5/ 18) جميعهم عن هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر -أو أبو مالك- الأشعري رفعه بنحوه. وضعفه ابن حزم في "المحلى" (9/ 59)، و"رسائله" (1/ 433) وهو من أوهامه وقد رد عليه بتصحيحه إياه شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 294، 366) و (2/ 187)، و"مجموع الفتاوى" (11/ 576)، و"بيان الدليل" (94 - 96) وابن الصلاح في "معرفة أنواع الحديث" (ص 61)، و"صيانة صحيح مسلم" (82 - 83)، وابن رجب في "نزهة الأسماع" (ص 44)، وابن حجر في "الفتح" (10/ 54)، و"النكت على ابن الصلاح" (2/ 603). وانظر رد ابن القيم على ابن حزم تضعيفه هذا الحديث في "تهذيب السنن" (5/ 270 - 272)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 258) و"روضة المحبين" (ص 130). (¬1) هو نفسه المذكور سابقًا؛ إذ لم أجد في "مسند أحمد" إلا الحديث السابق والآتي. (¬2) رواه أحمد (5/ 318)، وابن ماجه (3385) في "الأشربة": باب الخمر يسمونها بغير اسمها، وابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" (8) والشاشي (1308) والبزار (2/ 50، 53) من طريق سعد بن أوس عن بلال بن يحيى العنسي عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن ثابت بن السمط عنه مرفوعًا. ولفظ ابن ماجه "يشرب"، ولفظ أحمد وابن أبي الدنيا: "ليستحلن"، قال الهيثمي (5/ 75): وفيه ثابت بن السميط وهو مستور وبقية رجاله ثقات. أقول: ثابت بن السَّمط لم يوثقه إلا ابن حبان كما ذكر الحافظ في "التهذيب" ومع هذا قال في "التقريب": صدوق!! =

والأيام حتى تشربَ طائفةٌ من أمتي الخَمْرَ يسمّونها بغير اسمها" (¬1) قال شيخنا (¬2): وقد جاء حديث آخر يوافق هذا [مرفوعًا وموقوفًا من حديث ابن عباس] (¬3): "يأتي على الناس زمانٌ يستحلُّ فيه خمسة أشياء [بخمسة أشياء] (¬4): يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه (¬5)، والسُّحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع" (¬6) وهذا حق؛ فإن استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا، ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه، فَهَبْ أن المرابي لم يسمه ربًا وسمَّاه بيعًا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها. ¬

_ = وقال في "الفتح" (10/ 51): وسنده جيد. أقول: وقد رواه شعبة فقال: عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز عن رجل من الصحابة. رواه النسائي (8/ 213)، وأحمد (4/ 237)، والطيالسي (586) وابن أبي شيبة في "مسنده" (ق 97/ أ) وهذا إسناد صحيح. لكن رواه سليمان التيمي عن أبي بكر بن حفص عن ابن محيريز مرسلًا. أخرجه الحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (548 - زوائده) ولكن هذا لا يعل الموصول لأن الذي وصله شعبة. (¬1) رواه ابن ماجه (3384) في "الأشربة": باب الخمر يسمونها بغير اسمها، وابن عدي (5/ 1967)، والطبراني في "الكبير" (7474)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 97) من طريق عبد السلام بن عبد القدوس عن ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عنه مرفوعًا به (ووقع عند الطبراني: عبد الصمد بن عبد القدوس وهو خطأ). قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 104): وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف عبد السلام. أقول: وأما الحافظ فسكت عليه في "الفتح" (10/ 51)، وعبد السلام هذا ضعفه أبو حاتم، وقال أبو داود: ليس بشيء، وقال ابن حبان: يروي الموضوعات، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. (¬2) في "بيان الدليل" (ص 105). (¬3) في "بيان الدليل": "روي موقوفًا عن ابن عباس ومرفوعًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال" وهذه العبارة أصح وأدق. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (و) و (ق). (¬5) في "بيان الدليل": "بأسماء يسمونها بها". (¬6) أما المرفوع، فقد أخرجه الخطابي في "غريب الحديث" (1/ 218): ثنا عبد العزيز بن محمد المسكي نا ابن الجنيد نا سويد عن ابن المبارك عن الأوزاعي رفعه. وإسناده ضعيف؛ لأنه معضل، الأوزاعي ثقة من أتباع التابعين رحمه اللَّه تعالى.

[استحلال الخمر باسم آخر]

[استحلال الخمر باسم آخر] وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحلَّ مَنْ استحل المسكر من غير عصير العنب وقال: لا أسميه خمرًا وإنما هو نبيذ، وكما يستحلها طائفة من المجَّان إذا مُزِجت ويقولون: خرجت [بالمزج] (¬1) عن اسم الخمر، كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق، وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدًا ويقول؛ هذه عقيد (¬2) لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة؛ فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر اللَّه وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور [عن ذلك] (¬3)، وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن اللَّه ورسوله؟ [استحلال السحت باسم الهدية] وأما استحلال السُّحت باسم الهدية -وهو (¬4) أظهر من أن يذكر- كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما، فإن المرتشي ملعونٌ هو والراشي (¬5)؛ لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعًا أنهما لا يخرجان عن الحقيقة، وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية (¬6)، وقد عَلِمنا وعلم اللَّهُ وملائكتهُ ومَنْ له اطلاع على الحيل أنها رِشْوَة. وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه وُلَاة الجور سياسة وهيبة (¬7) وناموسًا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) "هي الخمر غليظة" (و). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) في (ك) و (ق): "فهو". (¬5) ورد ذلك في حديث رواه أحمد (2/ 164 و 190 و 194 و 212)، وأبو داود (3580) في "الأقضية": باب في كراهية الرشوة، والترمذي (1337) في "الإحكام": باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم، وابن ماجه (2313) في "الإحكام" باب: التغليظ في الحيف والرشوة، والطيالسي (2276)، وابن الجارود (586)، وابن حبان (5077) والحاكم (4/ 102 و 103) والبيهقي (10/ 138 - 139) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وفي الباب عن جماعة من الصحابة. انظر "التلخيص الحبير" (4/ 189). (¬6) انظر "إغاثة اللهفان" (1/ 363) و"بدائع الفوائد" (1/ 6 و 3/ 145، 146). (¬7) في (و): "رهيبة" براء في أوله! (¬8) انظر: "ببان الدليل" (ص 107)، و"زاد المعاد" (3/ 202)، و"تهذيب السنن" (6/ 266)، و"الطرق الحكمية" (ص 108، 306 - 307)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 484 - 486). (تنبيه) نقل الشاطبي في "الاعتصام" (2/ 437 - بتحقيقي) هذا الكلام بتصرف يسير.

[استحلال الزنا باسم النكاح]

[استحلال الزنا باسم النكاح] وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غَرَضَ له أن يقيم معها ولا أن تكون زوجته، وإنما غرضه أن يقضي منها وَطَرَه أو يأخذ جُعْلًا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد علم اللَّه ورسوله والملائكة والزوج والمرأة أنه محلل لا ناكح، وأنه ليس بزوج، وإنما هو تيس مستعار للضِّرَاب بمنزلة حمار العشريين. فياللَّه العجب! أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا؟ نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرَّح به أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقالوا (¬1): "لا يزالان زانيين وإن مكَثَا عشرين سنة إذا علم اللَّه أنه إنما يريد أن يحللها" والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له: هذا زنا، قال: ليس بزنا بل نكاح، كما أن المرابي إذا قيل له: هذا ربًا، قال: بل هو بيع. [استحلال المحرّم بتغيير اسمه وصورته] وكذلك كل من استحلّ محرمًا بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم لقيمة الراحة (¬2)، ويستحل المعازف كالطنبور والعود والبربط (¬3) باسم يسميها به، وكما يسمي بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقَوَّال، وكما يسمي الديوث (¬4) بالمصلح والموفق والمحسن، ورأيت من يسجد لغير اللَّه من الأحياء والأموات ويسمي ذلك وَضْعَ الرأس للشيخ؟ قال: ولا أقول هذا سجود، وهكذا الحيل سواء؛ فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام فيعلّقونها بمجرد اللفظ، ويزعمون أن الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم، مع القطع بأن معناه معنى الشيء المحرم؛ فإن الرجل إذا قال لمن له عليه ألف: اجعلها ألفًا ومئة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورةً لا معنى، لم يكن فرق بين توسطها وعدمه، وكذلك إذا قال: مكنيني من نفسك أقْضِ منك وَطَرًا يومًا أو ¬

_ (¬1) أورده الأثرم في "مسائل أحمد" من قول ابن عمر على لسان أحمد جازمًا به، أفاده ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 42). (¬2) انظر: "زاد المعاد" (4/ 240). (¬3) "البربط": العود، معرَّب، والطنبور: آلة من آلات اللعب واللهو والطرب ذات عنق وأوتار، معرب" (و). (¬4) "القواد على أهله، والذي لا يغار عليهن" (و).

[ذكر أسماء ما أنزل الله بها من سلطان]

ساعة بكذا وكذا، لم يكن فرق بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان. [ذكر أسماء ما أنزل اللَّه بها من سلطان] ولو أوْجَبَ تبديلُ الأسماء والصور تبدُّلَ الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبُدلت الشرائع (¬1)، واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَعَ المشركين تسميتهم أصنامَهم (¬2) آلهةً وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نَفَعهم تسمية الإشراك باللَّه تقربًا إلى اللَّه؟ وأي شيء نَفَع المعطِّلين لحقائق أسماء اللَّه وصفاته تسميةُ ذلك تنزيهًا؟ وأي شيء نفع الغلاةَ من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها (¬3) من دون اللَّه تسمية ذلك تعظيمًا وأحترامًا؟ وأي شيء نفع نُفَاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعة (¬4) أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلًا؟ وأي شيء نَفَعهم نفيهم لصفات كماله تسمية ذلك توحيدًا؟ وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن اللَّه لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيى الموتى ولا يبعث مَنْ في القبور ولا يعلم شيئًا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلًا يأمرونهم بطاعته (¬5) تسمية ذلك حكمة؟ وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلًا معيشيًا وقَدْحَهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويُدَاهن في دين اللَّه؟ وأي شيء نفع المَكَسَة (¬6) تسمية ما يأخذونه ظلمًا وعدوانًا حقوقًا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع اللَّه ودينه شرع الديوان؟ وأي شيء نفع أهل البِدَعِ والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم وعند أهل العلم والدين والإيمان عقليات وبراهين؟ وتسمية كثير من المتصوفة (¬7) الخيالاتِ الفاسدةَ والشطحات حقائق؟ فهؤلاء كلهم حقيق أن يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]. ¬

_ (¬1) "في نسخة: "وبطلت الشرائع" [انظر: "إعلام الموقعين" ط فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 107] " (د) و (ط): وما بين المعقوفتين زيادة (ط) على (د). (¬2) في (ك) و (ق): "أوثانهم". (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "يعبدونهم". (¬4) في المطبوع: "طاعات". (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "ولا أرسل رسولًا إلى الناس أمرهم بطاعته". (¬6) "الماكس": من يأخذ المكس من التجار وهي ضريبة تؤخذ ممن يدخل البلد منهم" (و). (¬7) في (ن) و (ك): "الصوفية".

فصل [صيغ العقود إخبار عما في النفس من المعنى الذي أراده الشارع]

فصل [صيغ العقود إخبار عما في النفس من المعنى الذي أراده الشارع] ومما يوضح ما ذكرناه -من أن القصود في العقود معتبرة دون (¬1) الألفاظ المجردة التي لم يقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها- أن صيغ العقود كبعتُ واشتريتُ وتزوَّجتُ وَأجَّرتُ إما إخباراتٌ وإما إنشاءاتٌ، وإما أنها متضمنة للأمرين فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج؛ فلفظَها موجِبٌ لمعناه في الخارج؛ وهي إخبار عمَّا في النفس من تلك المعاني، [ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها، فإذا لم تكن تلك المعاني] (¬2) في النفس كانت خَبَرًا كاذبًا، وكانت بمنزلة قول المنافقِ: أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، وبمنزلة قوله: آمنت باللَّه وباليوم الآخر، وكذلك المُحلِّل إذا قال: "تزوجت" وهو لا يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جعله اللَّه في الشرع كان إخبارًا كاذبًا وإنشاءً باطلًا؛ فإنا نعلم أن هذه اللفظة لم تُوضَعْ في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصد رَدَّ المطلقة إلى زوجها، وليس له قصد في النكاح الذي وضعه اللَّه بين عباده وجعله سببًا للمودة (¬3) والرحمة بين الزوجين، وليس له قصد في توابعه حقيقة ولا حكمًا، فمَنْ ليس له قصد في الصحبة ولا في العشرة ولا [في] (4) المصاهرة ولا [في] (¬4) الولد ولا [في] (4) المواصلة ولا المعاشرة ولا الإيواء، بل قصده أن يفارق لتعود إلى غيره؛ فاللَّه جعل النكاح سببًا للمواصلة والمصاحبة والمحلل جعله سببًا للمفارقة، فإنه تزوج ليطلق؛ فهو مناقض لشرع اللَّه ودينه وحكمته، فهو كاذب في قوله: "تزوجت"، بإظهار خلاف ما في قلبه، وبمنزلة من قال لغيره: وكَّلْتُكَ أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك وهو يقصد رَفْعَ هذه العقود وفَسْخَها. [العقود إخبارات وإنشاءات] وقد تقدم أن صيغ العقود إخبارات عمَّا في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلامًا معتبرًا؛ فإنها لا تصير كلامًا ¬

_ (¬1) تحرفت في (ن) و (ك) و (ق) إلى: "وأن"! (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ك): "سبب للمودة". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

[تقسيم جامع يبين حقيقة صيغ العقود]

معتبرًا إلا إذا قرنت بمعانيها، فتصير إنشاءً للعقود والتصرفات من حيث أنها هي التي أثبتت الحكم وبها وُجِد، وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس؛ فهي تشبه في اللفظ أحببتُ أو أبغضتُ وكرهتُ، وتشبه في المعنى قم واقعد، وهذه الأقوال (¬1) إنما تفيد الأحكام إذا قَصَد المتكلم بها -حقيقة أو حكمًا- ما جُعلت له، وإذا لم يقصد به ما يناقض معناها، وهذا فيما بينه وبين اللَّه تعالى؛ فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة، وإلا لَمَا تم عقد ولا تَصَرُّفٌ، فإذا قال: بِعتُ أو تزوجتُ كان هذا اللفظ دليلًا على أنه قصد معناه المقصودَ به، وجعله الشارع بمنزلة القاصد وإن كان هازلًا، وباللفظ والمعنى جميعًا يتمُّ الحكم؛ فكلُّ منهما جزء السبب، وهما مجموعه، وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى واللفظُ دليلٌ؛ ولهذا يُصار إلى غيره عند تعذره، وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق، لا سيما الأحكام الشرعية التي علَّق الشارع بها أحكامها، فإن المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدًا لغيرها أبطل الشارعُ عليه قصده، فإن كان هازلًا أو لاعبًا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هَزَل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة، بل لو تكلم الكافرُ بكلمة الإسلام هازلًا لألْزِم به وجرت عليه أحكامه ظاهرًا، وإن تكلم بها مخادعًا ماكرًا محتالًا مُظْهِرًا خلافَ ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده كالمحلّل والمرابي بعقد العِينة وكل من احتال على إسقاط واجب أو فعل محرِّم بعقد أو قول أظهره وأبطن الأمر الباطل. وبهذا يخرج الجواب عن الإلزام بنكاح الهازل وطلاقه ورجعته وإن لم يقصد حقائق هذه الصيغ ومعانيها. [تقسيم جامع يبين حقيقة صيغ العقود] ونحن نذكر تقسيمًا جامعًا نافعًا في هذا الباب نبين (¬2) به حقيقة الأمر فنقول: المتكلم بصيغ العقود إما أن يكون قاصدًا للتكلم بها أو لا يكون قاصدًا؛ فإن لم يقصد التكلم بها كالمكره والنائم والمجنون والسكران والمغلوب على عقله لم يترتب عليها شيء، وإن كان في بعض ذلك نزاع وتفصيل فالصواب أن أقوال ¬

_ (¬1) في نسخة: وهذه الأفعال إنما تفيد. . . إلخ" (د) و (و). (¬2) في (ك) و (ق): "يتبين".

[لا يجوز أن يحصل المحتال على مقصوده]

هؤلاء كلها هَدَر كما دل عليه الكتاب والسنة والميزان وأقوال الصحابة، وإن كان قاصدًا للتكلم بها فإما أن يكون عالمًا بغاياتها (¬1) متصورًا لها أو لا يدري معانيها (¬2) ألبتة بل هي عنده كأصوات يَنْعَقُ بها؛ فإن لم يكن عالمًا بمعناها ولا متصورًا له لم يترتب عليه (¬3) أحكامها أيضًا، ولا نزاع بين أئمة الإسلام في ذلك، وإن كان متصورًا لمعانيها عالمًا بمدلولها فإما أن يكون قاصدًا لها أو لا؛ فإن كان قاصدًا لها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته، وإن لم يكن قاصدًا لها فإما أن يقصد خلافها أو لا يقصد لا معناها ولا غيرَ معناها؛ فإن لم يقصد غيرَ التكلم به فهو الهازل ونذكر حكمه، وإن قصد غير معناها فإما أن يقصد ما يجوز له قصده أو لا؛ فإن قصد ما يجوز له قصده نحو أن يقصد بقوله: "أنت طالق" من زوج كان قبلي، أو يقصد بقوله: "أمتي -أو عبدي حر" أنه عفيفٌ عن الفاحشة، أو يقصد بقوله: "امرأتي عندي مثل أمي" في الكرامة والمنزلة، ونحو ذلك، لم تلزمه أحكام هذه الصيغ فيما بينه وبين اللَّه تعالى، وأما في الحكم فإن اقترَنَ بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضًا؛ لأن السياق والقرينة بيّنة تدل على صدقه، وإن لم يقترن بكلامه قرينة أصلًا وادعى ذلك دَعوَى مجردة لم تُقبل منه، وإن قصد بها ما لا يجوز قَصْدُه، كالتكلّم (¬4) بنكحتُ وتزوجتُ بقصد التحليل، وبعتُ واشتريتُ بقصد الربا، وبخالعتها بقصد الحيلة على فعل المحلوفِ عليه، وبملكتُ بقصد الحيلة على إسقاط الزكاة أو الشفعة، وما أشبه ذلك. [لا يجوز أن يحصل المحتال على مقصوده] فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده وجعل ظاهر اللفظ والفعل وسيلة إليه؛ فإن في تحصيل مقصوده تنفيذًا للمُحرّم، وإسقاطًا للواجب، وإعانة على معصية اللَّه ومناقضة لدينه وشرعه، فإعانتُهُ على ذلك إعانةٌ على الإثم والعدوان، ولا فرق بين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مُفْضِية إليه وبين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إلى غيره؛ فالمقصود إذا كان واحدًا لم يكن اختلاف الطرق الموصلة إليه بموجب لاختلافِ حُكمهِ فيَحْرُم من طريق وَيحِل بعينه من طريق أخرى، والطرق وسائل وهي مقصودة لغيرها، فأي فرق بين التوسل إلى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "بغايتها". (¬2) في (ك) و (ق): "معناها". (¬3) في (ن) و (ك): "لم تترتب عليها". (¬4) في (ك) و (ق): "كالمتكلم".

فصل [الكلام على المكره]

فيها السرُّ الإعلانَ والظاهرُ الباطنَ والقصدُ اللفظ، بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة، كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس أمْقَتُ وفي قلوبهم أوْضَعُ وهم عنه أشد نَفْرة ممن أتى الأمر على وَجْهه ودخَلَه من بابه؛ ولهذا قال أيوب السختياني -وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم- في هؤلاء: يُخادعون اللَّه كما يُخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم (¬1). فصل [الكلام على المكره] إذا عرف هذا فنقول: المكرَهُ (¬2) قد أتى باللفظ المُقتضي للحكم، ولم يثبت عليه حكمه؛ لكونه غيرَ قاصدِ له، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم لانتفاء قصده وإرادته لموجَب اللفظ؛ فعلم أن نفس اللفظ ليس مقتضيًا للحكم اقتضاء الفعل لأثره، فإنه لوَ قَتَل أو غَصَب أو أتْلَفَ أو نجَّس المائع مكرهًا لم يمكن أن يقال: إن ذلك القتل أو الإتلاف أو التنجيس فاسد وباطل، كما لو أكل أو شرب أو سكر لم يقل: إن ذلك فاسد، بخلاف ما لو حلف أو نذر أو طلق أو عقد عقدًا حكميًّا. [الموازنة بين المكره والمحتال] وهكذا المحتال الماكر المخادع؛ فإنه لم يقصد الحكم المقصود بذلك اللفظ الذي احتال به، وإنما قصد معنى آخر فقصد الربا بالبيع والتحليل بالنكاح والحنث بالخلع، بل المكره قد قَصَد دفع الظلم عن نفسه، وهذا قَصْدُه التوسل إلى غرض رديء؛ فالمحتال والمكره يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ ¬

_ (¬1) علقه البخاري في "صحيحه": (كتاب الحيل): باب ما ينهى من الخداع في البيوع (قبل رقم 6964) بلفظ: "يخادعون اللَّه كما يخادعون آدميًا، لو أتو الأمر عيانًا كان أهون علي" وكذا أورده ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 64) وعنده "صبيانًا" بدل "آدميًا". ووصله وكيع في "مصنفه" ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب به، أفاده ابن حجر في "الفتح" (12/ 336) و"تغليق التعليق" (5/ 264). (¬2) انظر: "الإكراه وأثره في التصرفات الشرعية "لمحمد سعود المعيني، و"الإكراه في الشريعة الإسلامية" لفخري أبو صفية، وما علقناه على "الموافقات" (3/ 12) للشاطبي.

فصل [حقيقة الهازل وحكم عقوده]

معناه، وإنما قَصَدًا التوسَّل بذلك اللفظ وبظاهر ذلك السبب إلى شيء آخر غير حكم السبب، لكن أحدهما راهبٌ قَصْدُه دفعُ الضرر عن نفسه، ولهذا يحمد أو يعذر على ذلك، والآخر راغب قصده إبطال حق وإيثار باطل، ولهذا يذم على ذلك فالمكره يبطل حكم السبب فيما عليه وفيما له لأنه لم يقصد واحدًا منهما، والمحتال يبطل حكم السبب فيما احتال عليه، وأما فيما سِوَاه فيجب فيه التفصيل. وهاهنا أمر لا بد منه، وهو أنَّ من ظهر لنا أنه محتال فهو كمن (¬1) ظهر لنا أنه مكره، ومن ادَّعى أنه إنما قصد الاحتيال فكمن ادعى أنه مكره، وإن كان ظهور أمر المكره أَبيْن من ظهور أمر المحتال. فصل [حقيقة الهازل وحكم عقوده] وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجِبَه وحقيقته، بل على وجه اللعب، ونقيضُه الجادُّ فاعل من الجِدِّ -بكسر الجيم- وهو نقيض الهزل، وهو مأخوذ من "جَدَّ فلان" إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ، والهزل: من هَزَلَ إذا ضعف وضؤل، نُزِّلَ الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغنى، والذي لم يرد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك؛ إذ قوام الكلام بمعناه، وقوام الرجل بحظه وماله، وقد جاء فيه حديث أبي هريرة المشهور عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاثٌ جَدُّهنَّ جَدٌّ وهَزْلُهنَّ جَدٌّ: النكاحُ، والطلاقُ، والرَّجعة" (¬2) رواه أهل "السنن"، وحَسَّنه الترمذي، وفي مَرَاسيل الحسن عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ نكَحَ لاعبًا أو طلق لاعبًا أو أعتق لاعبًا فقد جاز" (¬3). وقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: أربعٌ جائزات إذا تكلم بهن: الطَّلاقُ، والعِتاقُ، والنِّكاحُ، والنَّذُر (¬4). وقال [أميرُ ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "فكمن". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 106) عن عيسى بن يونس عن عمرو عنه، وإسناده صحيح. ورواه الطبري في "تفسيره" (1/ 482) من طريق آخر عن الحسن فيه سليمان بن أرقم وهو ضعيف جدًا. وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 683) لابن أبي حاتم في "تفسيره". (¬4) رواه ابن أبي شيبة (4/ 81) وسعيد بن منصور (1610) من طريق حجاج عن سليمان بن سحيم عن سعيد بن المسيب عنه. وحجاج هو ابن أرطاة مدلس وقد عنعن، وسعيد لم يسمع من عمر. ورواه سعيد =

فصل [أقوال الفقهاء والحكمة في نفاذ حكم العقود على الهازل]

المؤمنين] (1) عليٌّ [كرم اللَّه وجهه] (¬1): ثلاثةٌ لا لعِبَ فيهن: الطلاقُ، والعتاقُ، والنكاحُ (¬2). وقال أبو الدرداء: ثلاثٌ اللعبُ فيهن كالجدِّ: الطلاقُ، والعتاقُ، والنكاحُ (¬3). وقال ابن مسعود: النكاح جده ولعبه سواء (¬4)، ذكر ذلك أبو حفص العَكْبَري (¬5). فصل [أقوال الفقهاء والحكمة في نفاذ حكم العقود على الهازل] فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور (¬6)، وكذلك نكاحه صحيح كما صرَّح ¬

_ = (1609) من طريق حجاج به وأسقط عمر فجعله من قول سعيد. وروى البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 502) ومن طريقه البيهقي (7/ 341)، عن عبد اللَّه بن صالح حدثني الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن محمد بن إسحاق عن عمارة بن عبد اللَّه عن سعيد عن عمر بن الخطاب قال: أربع مقفلات فذكرها. وهذا إسناد فيه مقال: عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث في حديثه شيء إلا من رواية المتقنين عنه، وهنا روى عنه البخاري. ومحمد بن إسحاق مدلس وقد عنعن، وعمارة هذا لم يذكر البخاري فيه شيئًا. لكنه إسناد لا بأس به في الشواهد. وروى عبد الرزاق (10248) بإسناد ضعيف جدًا عن عمر أنه قال: ثلاث اللاعب فيهن والجاد سواء: الطلاق والصدقة والعتاق. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) رواه عبد الرزاق (10247، 16594) عن الثوري، وأبو حفص العطار في "حديثه" (ق 19/ 2) عن أبي معاوية كلاهما عن جابر عن عبد اللَّه بن نجي عنه وذكر الراوي أربعة لأنه شك في واحدة. وهذا إسناد ضعيف، جابر هو الجعفي ضعيف الحديث وعبد اللَّه بن نجي وثقه النسائي وتكلم فيه ابن عدي والشافعي. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (4/ 81) وسعيد بن منصور (1604) و (1605) من طريق يونس، ورواه عبد الرزاق (10245) و (10246) من طريق قتادة كلاهما عن الحسن عنه. والحسن هو البصري مدلس وقد عنعن، وقال أبو زرعة لم يسمع من أبي الدرداء. وفي (ك): "الطلاق، والنكاح، والعتق". (¬4) رواه عبد الرزاق (9707) ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9707) عن ابن جريج أخبرني عبد الكريم أن ابن مسعود فذكره، قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 288): وهو معضل، ورجاله رجال الصحيح. (¬5) عزى ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 144) جميع هذه الآثار إلى أبي حفص العكبري أيضًا. (¬6) انظر: "زاد المعاد" (4/ 38)، و"تهذيب السنن" (3/ 119).

[الهازل يقصد السبب لا الحكم]

به النصُّ (1)، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين (¬1)، وهو قول الجمهور (¬2)، وحكاه أبو حفص نصًا (¬3) عن أحمد، وهو قول أصحابه، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضُهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم، بخلاف البيع، وروى عنه علي بن زياد أن نكاح الهازل لا يجوز، قال بعض أصحابه: فإن قام دليلُ الهزل لم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق، ولا شيء عليه من الصَّدَاق، وأما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، وهو قول الحنفية والمالكية. وقال أبو الخطاب [في "انتصاره"] (4): يصح بيعه كطلاقه، وخَرَّجها بعض الشافعية على وجهين، ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة. [الهازل يقصد السبب لا الحكم] والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غيرَ ملتزِم لحكمه، وترتيبُ الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره، وذلك أن الهازل قاصدٌ للقول مريدٌ له مع علمه بمعناه وموجبه، وقَصْدُ اللفظ المتضمن للمعنى قَصْدٌ لذلك المعنى لتلازمهما، إلا أن يعارضه قصدٌ آخر كالمكره والمخادع المحتال؛ فإنهما قَصَدا شيئًا آخر غير معنى القول وموجبه، ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداءً. والمحلِّل قصد إعادتها إلى المطلق، وذلك منافٍ لقصده موجب السبب، وأما الهازل فقَصَد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه فترتب عليه أثره. فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين فإنه لا يترتب عليه حُكْمُه. قيل: اللاغي لم بقصد السبب، وإنما جَرَى على لسانه من غير قصد؛ فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله، وأيضًا فالهزل أمر باطن لا يُعْرَف إلا من جهة الهازل، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد [الآخر] (¬4)، ومَنْ فرَّق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال: الحديثُ والآثارُ تدل على أن من العقود ما يكون جده ¬

_ (¬1) انظر التخريجات السابقة قريبًا. (¬2) انظر: "معالم السنن" للخطابي (2/ 643)، و"المغني" (9/ 463 و 10/ 373)، و"زاد المعاد" (5/ 204)، و"تكملة المجموع" (15/ 418). (¬3) تحرفت في المطبوع إلى: "أيضًا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

وهزله سواء، ومنها ما لا يكون كذلك، وإلا لقال: العقود كلها أو الكلام كله جده وهزله سواء، وأما من جهة المعنى فإن النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حقُّ للَّه تعالى؛ أما العتق فظاهر، وأما الطلاق فإنه يوجب تحريم البُضْع، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وإن لم تطلبها الزوجة، وكذلك في النكاح فإنه يفيدُ حِلَّ ما كان حرامًا وحرمة ما كان حلالًا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة؛ ولهذا لا يُستباح إلا بالمهر، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد -مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام- أن لا يرتب عليها موجباتها، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هَزَل بها كما صرَّح به القرآن؛ فإن الكلام المتضمن لحق اللَّه لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق؛ إذ ليس للعبد أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته ولا يتلاعب بحدوده، وفي حديث أبي موسى: "ما بالُ أقوامٍ يلعبون بحدود اللَّه ويستهزئون بآياته" (¬1) [وذلك في الهازلين، و] (¬2) يعني -واللَّه أعلم-: يقولونها لعبًا غير ملتزمين لأحكامها وحكمُها لازمٌ لهم، وهذا بخلاف البيع وبابه؛ فإنه تصرّفٌ في المال الذي هو محضُ حق الآدمي، ولهذا يملك بَذْلَه بعوض وغير عوض، والإنسان قد يلعب مع الإنسان وينبسط معه، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجادِّ؛ لأن المزاح معه جائز. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2017) في "الطلاق"، أوله، وابن حبان (4265)، والبيهقي (7/ 322) من طريق مؤمل بن إسماعيل قال: حدثنا سفيان عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى به وليس عندهم كلهم "ويستهزئون بآياته" وإنما تكملة الحديث: "يقول: قد طلقتُ قد راجعتُ". وقد أورده بهذه التتمة مع "ويستهزئون بآياته": ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 163). وهذا إسناد ضعيف، مؤمل بن إسماعيل قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال أبو زرعة: في حديثه خطأ كثير وقال أبو حاتم: صدوق شديد في السنة كثير الخطأ، ووثقه ابن معين. ويظهر أنه ثقة في دينه، أما في حديثه فهو ضعيف، أما البوصيري فقال في "زوائده" (1/ 351): هذا إسناد حسن!! وتابعه موسى بن مسعود، أخرجه البيهقي (7/ 322)، وموسى هذا قال فيه أحمد: كأنَّ سفيان الذي يحدث عنه أبو حذيفة ليس هو سفيان الذي يحدث عنه الناس. ورواه البيهقي (7/ 322) من طريق الطيالسي عن زهير عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. وانظر: "التلخيص الحبير" (3/ 205). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[الهزل في حقوق الله غير جائز بخلاف جانب العباد]

[الهزل في حقوق اللَّه غير جائز بخلاف جانب العباد] وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق اللَّه تعالى غير جائز، فيكون جد القول وهزله سواء، بخلاف جانب العباد، ألا ترى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يمزح مع أصحابه (¬1) ويباسطهم، وأما مع ربه تعالى فيجدُّ كلَّ الجد، ولهذا قال للأعرابي يمازحه: "مَنْ يشتري مني العَبْدَ؟ فقال: تجدُني رخيصًا يا رسول اللَّه؟ فقال: بل أنت عند اللَّه غالٍ" (¬2) وقصد -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه عبد اللَّه، والصيغة صيغة استفهام، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يمزح ولا يقول إلا حقًا (¬3)، ولو أن رجلًا قال: "من يتزوج أمي أو ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الصحابة". (¬2) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (19688) ومن طريقه رواه أحمد في "مسنده" (3/ 161)، والترمذي في "الشمائل" (239)، وأبو يعلى (3456)، والبزار (2735)، وابن حبان (5790)، والبيهقي (6/ 169) و (10/ 248)، والبغوي (3604) عن معمر عن ثابت عن أنس، قال الهيثمي في "المجمع" (9/ 368): ". . . ورجال أحمد رجال الصحيح"، وقال الحافظ بن حجر في "الإصابة" (5231): "حديث صحيح" ثم قال: "وخالفه حماد -أي خالف معمرًا- فقال: عن ثابت عن إسحاق بن عبد اللَّه بن الحارث مرسلًا، وحماد في ثابت أقوى من معمر، ولكن للحديث شاهد من رواية سالم بن أبي الجعد الأشجعي عن رجل من أشجع يقال له: زاهر بن حكيم. . . ". أقول: وهذا الشاهد الذي أشار إليه الحافظ رواه البزار (2734)، والطبراني في "الكبير" (5310)، قال الهيثمي في "المجمع" (9/ 369): رجاله موثقون. (¬3) ورد ذلك في حديث قالوا: يا رسول اللَّه إنك تداعبنا قال: نعم غير أني لا أقول إلا حقًا. رواه الترمذي في "سننه" (1991) (كتاب البر والصلة)، وفي "الشمائل" رقم (202 - مختصره)، وأحمد (3602)، والبغوي في "شرح السنة" (3602) من طريق ابن المبارك عن أسامة بن زيد عن سعيد المقبري عن أبي هريرة به، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي "تحفة الأشراف" (9/ 469): "حسن"، وهو اللائق؛ فإن أسامة بن زيد هو الليثي كما جزم المزي في "تحفة الأشراف" حيث أنه هو الذي يروي عن سعيد المقبري، وهو حسن الحديث. وتابع أسامة بن زيد محمد بن عجلان، رواه أحمد في "مسنده" (2/ 340) وهي متابعة قوية. ورواه البخاري في "الأدب المفرد" (267): حدثنا عبد اللَّه بن صالح: حدثني الليث قال: حدثني ابن عجلان عن أبيه أو سعيد عن أبي هريرة، وهذا التردد كأنه من عبد اللَّه بن صالح فإن في حفظه شيئًا. وله شاهد من حديث عائشة رواه أبو الشيخ في "أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 77 - 78)، والبغوي في "الشمائل" (رقم 311) وفيه من يحتاج إلى الكشف عن حاله.

[عقد النكاح يشبه العبادات]

أختي" لكان من أقبح الكلام، وقد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يضرب من يدعو امرأته أخته، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود "أن رجلًا قال لامرأته: يا أخته، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أُخْتُكَ هي؟ إنما جَعَلَ إبراهيمُ ذلك حاجةً لا مُزَاحًا" (¬1). [عقد النكاح يشبه العبادات] ومما يوضحه أن عقد النكاح يُشْبِه العبادات في نفسه، بل هو مقدَّم على نفلها، ولهذا يستحب عقده في المساجد، ويُنهى عن البيع فيها، ومن يشترط له لفظًا بالعربية راعى فيه ذلك إلحاقًا له بالأذكار المشروعة، ومثل هذا لا يجوز الهزل به، فإذا تكلم به رتَّبَ الشارعُ عليه حكمه وإن لم يقصده، بحكم ولاية الشارع على العبد؛ فالمكلفُ قَصَد السببَ، والشَّارعُ قصد الحكَم، فصارا مقصودين كليهما (¬2). فصل [ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة] وقد ظهر بهذا أن ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة؛ فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أن يُقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة اللَّه ورسوله (¬3)، ولم يُؤمر أن يُنقِّب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم، بل يُجْرِي عليهم أحكام اللَّه في الدنيا إذا دخلوا في دينه، ويجري أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونيّاتهم؛ فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان، ولهذا قبل إسلام ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2210) في "الطلاق": باب الرجل يقول لامرأته: "يا أختي" ومن طريقه البيهقي (7/ 366) من طريق حماد وعبد الواحد بن زياد وخالد الطحان كلهم عن خالد الحذاء عن أبي تميمة الهجيمي فذكره. وأبو تميمة الهجيمي اسمه طريف بن مجالد تابعي ثقة فالحديث مرسل. ووصله عبد السلام بن حرب، رواه من طريقه أبو داود (2211) ومن طريقه البيهقي (7/ 366) عن خالد الحذاء عن أبي تميمة عن رجل من قومه سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أقول: وعبد السلام بن حرب مع أنه ثقة حافظ إلا أن عنده بعض المناكير. قال أبو داود: ورواه عبد العزيز بن المختار عن خالد عن أبي عثمان عن أبي تميمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواه شعبة عن خالد عن رجل عن أبي تميمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬2) في المطبوع: "كلاهما"!. (¬3) يشير المصنف إلى حديث: "أمرت أن أقاتل الناس حتى. . . "، وهو في "الصحيحين"، وقد سبق تخريجه.

[الأحكام جارية على ما يظهر العباد]

الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، وأخبر أنه لا ينقصُهُم مع ذلك من ثواب طاعتهم للَّه ورسوله شيئًا، وقبل إسلام المنافقين ظاهرًا، وأخبر أنه (¬1) لا ينفعهم يوم القيامة شيئًا، وأنهم في الدَّرْكِ الأسفل من النار. [الأحكام جارية على ما يُظْهر العباد] فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر العباد، ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله، وأما قصة الملاعِنِ فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما قال بعد أن وَلَدت الغُلامَ على شبه الذي رُميت به: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه لكان لي ولها شأن" (¬2) فهذا -واللَّه أعلم- إنما أراد به لولا حكم اللَّه بينهما باللِّعان لكان شبه الولد بمن رُميت به يقتضي حكمًا آخر غيره، ولكن حكم اللَّه باللعان ألغى حكم هذا الشَّبَه، فإنهما دليلان وأحَدُهما أقوى من الآخر؛ فكان العمل به واجبًا، وهذا كما لو تعارض دليل الفِرَاش ودليل الشبه، فإنا نُعْمِلُ دليل الفراش، ولا نلتفت إلى الشبه بالنص (¬3) والإجماع، فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا مُعارِض لها؟ وهل (¬4) يلزم من بُطلان الحكم بقرينةٍ قد عارضها ما هو أقوى منها بطلانُ الحكم بجميع القرائن؟ وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام. وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعًا غير هذا، وهذا شأن عامة المتداعيين، لا بد أن يكون أحدهم محقًا والآخر مبطلًا، وينفذ حكم اللَّه عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل، وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل. وأما حديث رُكَانة لما طلَّق امرأته البتة وأحلفه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه إنما أراد واحدة (¬5) فمِنْ أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة، وأن الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإنْ خَالَفت ظواهر ألفاظهم؛ فإن لفظ البتة يقتضي أنها قد بانت منه (¬6) وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح، وأنه لم يبق له عليها رجعة، بل بانت منه البتة كما يدل عليه لفظ البتة لغةً وعرفًا، ومع هذا فردَّهَا ¬

_ (¬1) في (ك): "انهم". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) يشير إلى ما ثبت في "الصحيحين" من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر". (¬4) في (ق): "ولا يلزم" وفي (ك): "يلزم" دون "وهل". (¬5) سبق تخريجه. (¬6) في (ن) و (ق): "بتت منه".

[الرد على من زعم إبطال استعمال الدلالة في حكم الدنيا]

عليه، وقبل قوله أنها واحدة مع مخالفة الظاهر (¬1) اعتمادًا على قصده ونيته، فلولا اعتبار القُصُود في العقود لما نَفَعه قصدُه الذي يُخالف ظاهر لفظه مخالفة ظاهرةً بينة؛ فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة، وقد قبل منه في الحكم، ودَيَّنه فيما بينه وبين اللَّه، فلم يَقْضِ عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك. [الردّ على من زعم إبطال استعمال الدلالة في حكم الدنيا] وأما قوله (¬2): "إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبطل في حكم الدنيا استعمالَ الدلالة التي لا يُوجدُ أقوى منها" يعني دلالة الشَّبَه (¬3) فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان، كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش، واعتبرها حيث لم يعارضها مثلُها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقَافَةِ وهي دلالة الشبه، فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقًا؟ [أحكام الدنيا تجري على الأسباب] وأما قوله (¬4): "إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منه، وهي خبر اللَّه تعالى عنهم وشهادته عليهم". فجوابه: أن اللَّه تعالى لم يُجرِ أحكام الدنيا على علمه في عباده، وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلةً عليها وإن علم سبحانه وتعالى أنهم مُبطلون فيها مُظهرون لخلاف ما يبطنون، وإذا أطلَعَ اللَّه رسولَه على ذلك لم يكن ذلك مناقضًا لحكمه الذي شَرَعه ورتبه على تلك الأسباب كما رتَّبَ على المتكلِّم بالشهادتين حُكمَه وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتمادهم، وهذا كما أجرى حكمه على المتلاعنين [ظاهرًا] (¬5) ثم أطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رُميت به، وكما قال: "إنما أقضي بنحو ما (¬6) أسمع، فمن قضيتُ له بشيء من حَقِّ أخيه ¬

_ (¬1) في المطبوع: "الظواهر". (¬2) أي قول الإمام الشافعي -رحمه اللَّه- الذي أورده ابن القيم -رحمه اللَّه- قبل. (¬3) في (ك): "البينة". (¬4) أي قول الإمام الشافعي -رحمه اللَّه- الذي أورده ابن القيم -رحمه اللَّه- قبل. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ك) و (ق): "مما".

[عمر يحد بالتعريض بالقذف]

فإنما أقطعُ له قطعةً من النار" (¬1)، وقد يُطْلِعه اللَّه على حال آخذ ما لا يحل له أخذه، ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم، وأما الذي قال: "يا رسول اللَّه إنَّ امرأتي وَلَدت غلامًا أسود" (¬2) فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحًا ولا كناية، وإنما أخبره (¬3) بالواقع مستفتيًا عن حكم هذا الولد: أيستلحقُهُ مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقرَّب له الحُكمَ بالشبه الذي ذكره؛ ليكون أذْعَنَ (¬4) لقبوله، وانشراح الصدر له، ولا يقبله على إغماض، فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقَوْلِ مَنْ يشاتم غيره: أما أنا فلستُ بزانٍ، وليست أمي بزانية، ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وأنكى من التصريح، وأبلغ في الأذى، وظهورهُ عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، فهذا لونٌ وذلك لون. [عمر يحدُّ بالتعريض بالقذف] وقد حَدَّ عمر بالتعريض [في القذف] (¬5)، ووافقه الصحابة رضي اللَّه عنهم [أجمعين] (¬6)، وأما قوله (¬7) رحمه اللَّه: "إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم" فإنه يريد ما رواه عن مالك، عن أبي الرِّجال، عن أُمِّه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين اسْتَبَّا في زمن عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: واللَّه ما أنا بزانٍ ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فقال قائل: مَدَحَ أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مَدْحٌ غير هذا، نرى أن تجلده الحد، فجلده عمر الحد ثمانين (¬8)، وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر؛ فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مَدْح غير هذا فَهِمَ أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة، وقد صح عن عمر من وجوه أنه حَدَّ في التعريض، فروى معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن عمر كان يحد ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ك): "أخبر". (¬4) في (ق): "أدعى". (¬5) سيأتي قريبًا. (¬6) انظر: "زاد المعاد" (2/ 113 - 115 و 3/ 210)، و"الحدود والتعزيرات" (ص: 116 - 244)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) أي: الإمام الشافعي. (¬8) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 829 - 830)، وانظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 499)، و"مصنف عبد الرزاق" (7/ 425)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 252)، و"المحلى" لابن حزم (11/ 276) وما مضى.

[القول بأن الحكم بخلاف ما ظهر يؤدي إلى خلاف التنزيل والسنة]

في التعريض بالفاحشة (¬1)، وروى ابنُ جُرَيج، عن ابن أبي مُليكة، عن صَفْوَان وأيوب عن عمر أنه حد في التعريض (¬2)، وذكر أبو عمر (¬3) أن عثمان كان يحد في التعريض، وذكره ابن أبي شَيْبة (¬4)، وكان عمر بن عبد العزيز (¬5) يرى الحد في التعريض، وهو قول أهل المدينة (¬6) والأوزاعي (¬7)، وهو محض القياس، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية (¬8)، واللفظ إنما وُضع لدلالته على المعنى؛ فإذا ظهر المعنى غايَةَ الظهورِ لم يكن في تغيير اللفظ كبير فائدة. [القول بأن الحكم بخلاف ما ظهر يؤدّي إلى خلاف التنزيل والسنة] وأما قوله (¬9): "من حكم عَلَى الناس بخلاف ما ظهر عليهم لم يَسْلَم من خلاف التنزيل والسنة" فإنه يشير بذلك إلى قبول توبة الزنديق، وحَقْن دمه بإسلامه وقبول توبة المرتد وإن ولد على الإسلام، وهاتان مسألتان فيهما نزاع بين الأمة مشهور. ¬

_ (¬1) إسناده صحيح على شرط الشيخين وهو في "مصنف عبد الرزاق" (7/ 421 رقم 13703) -ومن طريقه ابن حزم (11/ 276) - عن معمر به، ورواه البيهقي (8/ 252) من طريق ابن أبي ذئب عن الزهري به. (¬2) رواته ثقات لكنه منقطع، وهو في مصنف عبد الرزاق (13705) ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (11/ 276). (¬3) "الاستذكار" (24/ 127 رقم 35714). (¬4) روى ابن أبي شيبة (6/ 499) من طريق خالد بن أيوب عن معاوية بن قرة أن رجلًا قال لرجل: يا ابن شامة الوذر، فاستعدى عليه عثمان بن عفان فقال: إنما عنيت كذا وكذا، فأمر به عثمان فجلد الحد، ومعاوية لم يدرك عثمان، قلت: قوله: "شامة الوذر" أي: ذكور الرجال. (¬5) رواه عنه عبد الرزاق (13718، 13719، 13720، 13721)، وابن حزم (11/ 277). (¬6) "لمدونة" (4/ 391)، "التفريع" (2/ 226)، "الرسالة" (242)، "الكافي" (576)، "المعونة" (3/ 1407)، "جامع الأمهات" (517)، "بداية المجتهد" (2/ 330)، "الجامع لأحكام القرآن" (12/ 173)، "الخرشي" (8/ 87)، "حاشية الدسوقي" (4/ 328)، "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 314)، "الذخيرة" (12/ 90)، "الإشراف" (3/ 253 مسألة 1595) وتعليقي عليه. (¬7) "المحلى" (11/ 334)، "المغنى" (10/ 213)، "الحدود والتعزيرات عند ابن القيم" (ص 216 - 224)، و"فقه الأوزاعي" (1/ 316). (¬8) في (ن): "بالتصريح والكناية". (¬9) أي الإمام الشافعي.

[الرأي في توبة الزنديق والمرتد]

[الرأي في توبة الزنديق والمرتد] وقد ذكر الشافعي الحجة على قبول توبتهما، ومن لم يقبل توبتهما يقول: إنه لا سبيل إلى العلم بها؛ فإن الزنديق قد عُلم أنه لم يزل مُظهرًا للإسلام، فلم يتجدَّد له بإسلامه الثاني حالٌ مخالفةٌ لِما كان عليه، بخلاف الكافر الأصلي؛ فإنه إذا أسلم فقد تجدد له بالإسلام حالٌ لم يكن عليها، والزنديق إنما رجع إلى إظهار الإسلام، وأيضًا فالكافر كان مُعلنًا لكفره غير مُسْتتر به ولا مُخْفٍ له، فإذا أسلم تيقَّنا أنه أتى بالإسلام رغبةً فيه لا خوفًا من القتل، والزنديق بالعكس فإنه كان مُخْفيًا لكفره مستترًا به، فلم نؤاخذه بما في قلبه إذا لم يَظْهر عليه فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع عنه لم يرجع عن أمر كان مظهرًا له غير خائفٍ من إظهاره وإنما رجع خوفًا من القتل، وأيضًا فإن اللَّه تعالى سَنَّ في عباده أنهم إذا رأوا بأسه لم ينفعهم الإسلام، وهذا إنما أسلم عند معاينة البأس، ولهذا لو جاء (¬1) من تلقاء نفسه وأقر بأنه قال كذا وكذا وهو تائبٌ منه قبلنا توبته ولم نقتله، وأيضًا فإن اللَّه تعالى سَنَّ في المحاربين أنهم إنْ تابوا من قبل القدرة عليهم قُبلت توبتهم، ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم، ومحاربةُ الزِّنديقِ للإسلام بلسانه أعظمُ من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه؛ فإن فتنةَ هذا في الأموال والأبدان وفتنة الزنديق في القلوب والإيمان، فهو أولى ألا تُقبل توبتُه بعد القدرة عليه (¬2)، وهذا بخلاف الكافر الأصلي؛ فإن أمره كان معلومًا، وكان مظهرًا لكفره غير كاتمٍ له، والمسلمون قد أخذوا حِذْرَهم منه، وجاهروه بالعداوة والمحاربة، وأيضًا فإن الزنديق هذا دأبه دائمًا، فلو قبلت توبته لكان تسليطًا له على بقاء نفسه بالزندقة والإلحاد وكلما قُدِرَ عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه، ولا سيما وقد علم أنه أمِنَ بإظهار الإسلام من القتل، فلا يَزَعُهُ خوفه من المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومَسَبة اللَّه ورسوله فلا ينكفُّ عدوانه عن الإسلام إلا بقتله (¬3)، وأيضًا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "جاءنا". (¬2) انظر: "فتح الباري" (12/ 273) و"نيل الأوطار" (7/ 205) و"الحدود والتعزيرات" (ص 444 - 454) للشيخ بكر أبو زيد، واعتنى بكلام ابن القيم، هذا عناية جيدة، فانظره غير مأمور. (¬3) انظر أدلة جواز قتل الزنديق والمنافق من غير استتابة في: "الصارم المسلول" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- (3/ 653 - فما بعدها ط دار ابن حزم)، و"المجموع" للإمام النووي (1/ 207)، و"أحكام القرآن" للإمام الجصاص (3/ 274).

[قاعدة في بيان متى يعمل بالظاهر]

فإن مَنْ سبَّ اللَّه ورسوله فقد حارب اللَّه ورسوله وسعَى في الأرض فسادًا، فجزاؤه القتل حدًا، والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقًا، ولا ريب أن محاربة هذا الزنديق للَّه ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادًا، فكيف تأتي الشريعة بقتل مَنْ صال على عشرة دراهم لذمي أو على بدنه ولا تَقْبَل توبتَه ولا تأتي بقتل مَنْ دأبُهُ الصَّوْل (¬1) على كتاب اللَّه وسنة رسوله والطعن في دينه وتقبل توبته بعد القدرة عليه؟ وأيضًا فالحدود بحسب الجرائم والمفاسد، وجريمة هذا أغلظ الجرائم، ومفسدة بقائه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد. [قاعدة في بيان متى يُعمل بالظاهر] وهاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهِرٌ لم يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به؛ لأنه مقتضٍ لحقن الدم والمعارضُ منتفٍ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية لا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، وأما انتفاء الظن؛ فلأن الظاهر إنما يكون دليلًا صحيحًا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يُلتفت إلى ظاهرِ قد عُلِم أن الباطنَ بخلافه (¬2)، ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه، وإن شهد عنده بذلك العدول (¬3)، وإنما يَحْكم بشهادتهم إذا لم يَعْلم خلافها، وكذلك لو أقرَّ إقرارًا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أسَنُّ منه: "هذا ابني" لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقًا (¬4)، وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العَدْل والأمر والنهي والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليلٌ أقوى منها يخالف ظاهرها. [عود إلى حكم توبة الزنديق؟] وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "التصول". (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "يخالفه". (¬3) انظر: "المغني" (11/ 401 - 404 - "الشرح الكبير")، و"المبسوط للسرخسي (16/ 104، 105). وفي (ك) و (ق): "وإن شهد بذلك العدول عنده". (¬4) انظر: "المغني" (5/ 327 - 328 - مع "الشرح الكبير").

واستهانته بالدين، وقدحه فيه؛ فإظهارُه الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة؛ فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته، ولا يخفى على المُنْصِف قوةَ هذا النظر وصحة هذا المأخذ، وهذا مذهب أهل المدينة، ومالك وأصحابه (¬1)، والليث بن سعد (¬2)، وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة (¬3)، وهو إحدى الروايات عن أحمد (¬4) نَصَرَهَا كثير من أصحابه، بل هي أَنصُّ الروايات عنه، وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يستتاب، وهو قول الشافعي (¬5)، وعن أبي يوسف روايتان؛ إحداهما: أنه يستتاب، وهي الرواية الأولى عنه، ثم قال آخرًا (¬6): أقتله من غير استتابة، لكن إن تاب قبل ¬

_ (¬1) "المعونة" (3/ 1363)، "التفريع" (2/ 231)، "الرسالة" (240)، "الكافي" (585)، "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 298)، "الخرشي" (8/ 76)، "الشرح الكبير" (4/ 306)، "جواهر الإكليل" (2/ 281)، "حاشية الدسوقي" (4/ 302). وانظر: "الصارم المسلول" (ص 340 وما بعد)، "عمدة القاري" (24/ 77)، "شرح فتح القدير" (6/ 98)، "أدب القضاء" (425)، "نيل الأوطار" (7/ 204 - 205)، "حاشية ابن عابدين" (4/ 236، 242). وهو رواية سحنون وابن المواز عن مالك وأصحابه، انظر: "المنتقى" (5/ 282). وفي (ك) و (ق): "مالك وأصحابه". (¬2) كما في "الإشراف" لابن المنذر (2/ 247 - تحقيق محمد نجيب) وذكر -أيضًا- أنه قول الإمام إسحاق بن راهويه. (¬3) هذه رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة -رحمه اللَّه- في كتاب (النوادر). انظر: "أحكام القرآن" للجصاص (3/ 274)، وفيه أيضًا الرواية الثانية في استتابة الزنديق مطلقًا. ووقع في (ن): "وهو المنصوص. . "!. (¬4) انظر: "المسائل الفقهية في كتاب الروايتين والوجهين" لأبي يعلى (2/ 305). (¬5) "الأم" (6/ 165)، "مختصر المزني" (259)، "الحاوي الكبير" (16/ 408)، "المهذب" (2/ 223)، "مغني المحتاج" (4/ 140 - 141)، "السراج الوهاج" (520)، "نهاية المحتاج" (7/ 399). وانظر: "حلية العلماء" (7/ 626، 635)، "فتح الباري" (12/ 272 - 273)، "إرشاد الساري" (10/ 75)، "كتاب المرتد من الحاوي الكبير" للماوردي (ص 36 - تحقيق صندقجي). (¬6) قاله أبو يوسف في "كتاب الإملاء". انظر: "شرح معاني الآثار" للطحاوي (3/ 210 - ط دار الكتب العلمية)، و"أحكام القرآن" للجصاص (3/ 274 - ط دار إحياء التراث العربي).

[متى تقبل توبة الزنديق؟]

أن يقدر عليه قبلت توبته، وهذا هو الرواية الثالثة عن أحمد (¬1). وياللَّه العجب! كيف يقاوِمُ دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقَدْح في الدين والطعن فيه في كل مجمع؟ مع استهانته بحرمات اللَّه واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة؟ ولا ينبغي لعالم قَطُّ أن يتوقف في قتل مثل هذا، ولا تُتْرك الأدِلة القطعية لظاهرٍ قد تبين عدمُ دلالته وبطلانها، ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب. [متى تقبل توبة الزنديق؟] نعم لو أنه قَبْلَ رفعه إلى السلطان ظَهَر منه من الأقوال والأعمال ما يَدُل على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوحة، وتكرر ذلك منه، لم يُقْتل كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات، وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة. [توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه] ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] قال السلف في هذه الآية: {أَوْ بِأَيْدِينَا} بالقتل إن أظْهَرتم ما في قلوبكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل؛ فلو قُبلَتْ توبتهم بعد ما ظَهَرت زندقتُهُم لم يمكن المؤمنين أن يتربَّصوا بالزنادقة أن يُصيبهم اللَّه بأيديهم؛ لأنهم كلما أرادوا أن يعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يُصابوا بأيديهم قط، والأدلة على ذلك كثيرة جدًا، وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون: نحن أسعدُ بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنّعين علينا بخلافها، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" (8/ 345 - الشرح الكبير) لابن قدامة، و"الكافي" له (3/ 159)، و"الصارم المسلول" لابن تيمية (3/ 651 - ط دار ابن حزم)، و"روضة القضاة" (2/ 1227) للسمناني، و"تبصرة الحكام" (2/ 193) لابن فرحون، و"مواهب الجليل لشرح مختصر خليل" (6/ 282) للحطَّاب، وانظر: "فتح الباري" (12/ 240 - 241 - ط بولاق) للحافظ ابن حجر، وانظر: "كتاب العقوبة" (ص: 196 - 197) لأبي زهرة، و"التشريع الجنائي" (2/ 724) لعبد القادر عودة.

[الشرط المتقدم والمقارن]

[الشرط المتقدم والمقارن] وأما قوله: "ولا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه، ولا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهم، ولا أمارة عليه" يريد أن الشرط المتقدم لا يُفسد العقد إذا عَرِيَ صلبُ العقد عن مقارنته (¬1)، وهذا أصلٌ قد خالفه فيه جمهور أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن؛ إذ مَفْسَدة الشرط المتقدم (¬2) لم تَزُل بتقدمه وإسلافه، بل مفسدته مقارنًا كمفسدته متقدمًا، وأي مَفْسدةٍ زالت بتقدم الشرط إذا كانا قد عَلِما وعَلِم اللَّه تعالى والحاضرون أنهما إنما عَقَدا على ذلك الشرط الباطل المُحرَّم وأظهروا صورة العقد مطلقًا؟ وهو مقيَّد في نفس الأمر بذلك الشرط المحرَّم، فإذا اشترطا قبل العقد أن النكاح نكاحُ تحليلٍ أو متعة أو شِغَار، وتعاهدا على ذلك، وتواطئا عليه، ثم عقدا على ما اتفقا عليه، وسَكَتا عن إعادة الشرط في صُلب العقد اعتمادًا على [ما] (¬3) تقدم ذكره والتزامه، لم يخرج العقد بذلك عن كونه عقدَ تحليل ومُتعة وشغار حقيقة. وكيف يعجز المتعاقدان اللَّذان يريدان عقدًا قد حرَّمه اللَّه ورسوله لوصفٍ أن يشترطا قبل العقد إرادة ذلك الوصف وأنه هو المقصود ثم يسكتا عن ذكره في صلب العقد ليتم غرضهما؟ وهل إتمام غرضهما إلا عيبن تفويت مقصود الشارع؟ وهل هذه القاعدة -وهي أن الشرط المتقدم لا يؤثر شيئًا- إلا فتح لباب الحِيَل؟ بل هي أصلُ الحيلِ وأساسها، وكيف تفرِّق الشريعة بين مُتماثِلَين من كلِّ وجه لافتراقهما في تقدم لفظ أو تأخره مع استواء العقدين في الحقيقة والمعنى والقَصْد؟ وهل هذا إلا من أقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عَدَمَه وإبْطَالَه؟ وأين هذه القاعدة من قاعدة سَدِّ الذرائع إلى المحرَّمات؟ ولهذا صرَّح أصحابُها ببطلان [قاعدة] (¬4) سد الذرائع لما علموا أنها مناقضة لتلك؛ فالشارع سد الذرائع إلى المحرمات بكل طريق، وهذه القاعدةُ تُوسِّع الطرق إليها وتنهجها، وإذا تأمل اللبيب هذه القاعدة وجدها ترفع التحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضي لهما حقيقة، وفي ذلك تأكيد للتحريم من وجهين: * من جهة أن فيها فعل المُحرَّم وترك الواجب. ¬

_ (¬1) انظر مباحث الشروط في: "البدائع" (1/ 43 - 60 و 345)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 180). (¬2) في (ن) و (ق): "المقارن". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.

فصل [قاعدتان في الذرائع والقصود]

* ومن جهة اشتمالها على التدليس والمكر والخداع والتوسل بشرع اللَّه الذي أحبَّه ورضيه لعباده إلى نفس ما حرَّمه ونهى عنه، ومن المعلوم (¬1) أنه لا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق بَيِّنٌ في الحقيقة، بحيث يظهر للعقول مُضَادَّة أحدهما للآخر، والفرق في الصورة غير معتبر ولا مؤثر؛ إذ الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال؛ فإن الألفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد؛ كان حكمها واحدًا، ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفًا، وكذلك الأعمال، ومن تأمل الشريعة حَقَّ التأملِ علم صحة هذا بالاضطرار؛ فالأمر المحتال عليه بتقدم الشرط دون مقارنة صورتُه صورةُ الحلالِ المشروع ومقصودُه مقصودُ الحرام الباطل، فلا تراعى الصورةُ وتلغى الحقيقةُ والمقصود، بل مشاركة هذا للحرام صورةً ومعنًى وإلحاقه به لاشتراكهما في القصد والحقيقة أولى من إلحاقه بالحلال المأذون فيه بمشاركته له في مجرد الصورة (¬2). فصل [قاعدتان في الذرائع والقصود] وقوله: "ولا تفسد العقود (¬3) بأن يقال: هذه ذريعة وهذه نية سوء -إلى آخره" فإشارة منه إلى قاعدتين. إحداهما: أنْ (¬4) لا اعتبار بالذرائع ولا يُراعى سَدُّها. والثانية: أن القُصُود غير معتبرة في العقود. والقاعدة المتقدمة أن الشرط المتقدم لا يؤثر، وإنما التأثير للشرط الواقع في صُلب العقد، وهذه القواعد متلازمة؛ فَمَنْ سَدَّ الذرائع اعتبر المقاصد وقال: يؤثر الشرط متقدمًا مقارنًا، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة، ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها، ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها. ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "ومعلوم". (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (1/ 9 - 15). (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "البيوع". (¬4) في (ك): "أنه".

فصل في سد الذرائع

فصل في سد الذرائع (¬1) لما كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطُرُق تُفْضِي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها مُعْتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقُرُبَات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها (¬2)؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصودٌ قصدَ الغاياتِ، وهي مقصودة قصد الوسائل (¬3)؛ فإذا حَرَّمَ الربُّ تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تُفْضِي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حِمَاه، ولو أباح الوسائل والذرائع المُفْضِية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه تأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تابى ذلك؛ فإن أحدَهم إذا منع جُنْدَه أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصِّلة إليه لعدَّ متناقضًا، ولحصل من رعيته وجنده ضدّ مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حَسْمَ الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصَّلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومَنْ تأمل مصادرها ومواردها علم أن اللَّه تعالى ورسوله سد الذرائع المُفْضِية إلى المحارم بأن حرَّمها ونهى عنها، والذريعةُ ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء. ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه، فنقول: ¬

_ (¬1) انظر: "مسألة سد الذرائع"؛ حجيتها والخلاف فيها في: "الإحكام في أصول الإحكام" (6/ 2 - 16 - شاكر) لابن حزم، و"الموافقات" (3/ 85 - بتحقيقي) للشاطبي، و"شرح تنقيح الفصول" (ص: 200 - 201)، و"البحر المحيط" (6/ 82 - 86) للزركشي، و"إحكام الفصول" (ص: 689 - 694) للباجي، و"إرشاد الفحول" (ص: 246 - 248) للشوكاني، و"أثر الأدلة المختلف فيها" (ص: 565 - 630)، و"أصول الفقه الإسلامي" (2/ 873 - 914) للزحيلي، و"قاعدة سد الذرائع وأثرها في الفقه الإسلامي"، الدكتور محمود عثمان، ط دار الحديث، القاهرة. وانظر: "إغاثة اللهفان" للمؤلف (1/ 531 - 557)، و"المدخل" (ص: 296 - 299) لابن بدران. (¬2) في المطبوع: "غايتها". (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 361 - 376).

[أنواع الوسائل وحكم كل نوع منها]

[أنواع الوسائل وحكم كل نوع منها] الفعل أو القول المُفْضِي إلى المفسدة قسمان: أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشُرب المسكر المُفْضي إلى مفسدة السكر (¬1)، وكالقَذْف المُفْضِي إلى مفسدة الفِرْيَة، والزنا المُفْضِي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش (¬2)، ونحو ذلك؛ فهذه أفعال وأقوال وُضِعَت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها. والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائزٍ أو مستحب، فيتخذها (¬3) وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه. فالأول كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو يخالع قاصدًا به الحنث، ونحو ذلك، والثاني كمن يُصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر للَّه، ونحو ذلك. ثم هذا القسمُ من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجَحَ من مفسدته. والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته؛ فههنا أربعة أقسام: الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمُبَاح قُصِد بها التوسلُ إلى المفسدة. [الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يُقْصَد بها التوسل إلى المفسدة لكنها] (¬4) مُفْضِية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تُفْضِي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها. فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم، ومثال الثالث الصلاةُ في أوقات النهي، ومَسَبَّة آلهة المشركين بين ظَهْرَانيهم، وتزيُّن المتوفَّى عنها في زمن عَدَّتِها، ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (1/ 312، 361، 362، 376)، و"زاد المعاد" (3/ 30، 141)، و"بدائع الفوائد" (3/ 140)، و"الحدود والتعزيرات" (ص: 272 - 291). (¬2) في (ن): "الفرش". (¬3) في المطبوع: "فيتخذ". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وسقط من (ق): "لكنها".

وأمثال ذلك، ومثال الرابع النظر إلى المخطوبة والمُسْتَامَة والمشهود عليها ومَنْ يطبها (¬1) ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائرِ ونحو ذلك؛ فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة، بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ فنقول: ¬

_ (¬1) كذا في (ن) وفي (ك): "يطئها" وبدلها في سائر النسخ "يطؤه"!! وهو تحريف.

سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الخامس] دار ابن الجوزي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [5]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339

[لا يجوز الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزا]

[لا يجوز الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزًا] الدلالة على المنع من وجوه (¬1): الوجه الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فحرم اللَّه تعالى سَبَّ آلهة المشركين -مع كون السبِّ غيظًا وحمية للَّه وإهانة لآلهتهم- لكونه ذريعةً إلى سبِّهم (¬2) اللَّه تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز. الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فمنعهن من الضرب بالأرجُلِ وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سَمْع الرجال صوتَ الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهنَّ (¬3). والوجه الثالث: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]-[لأنه] (¬4) أمر سبحانه مماليكَ المؤمنين ومَنْ لم يبلغ منهم [الحلم] (¬5) أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجمًا بغير استئذان فيها ذريعةً إلى اطِّلاعهم على عَوْرَاتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وان أمكن في تركه هذه المفسدة لنُدُورها وقلة الإفضاء إليها فجُعِلت كالمقدمة (¬6). ¬

_ (¬1) هذه الوجوه وقعت في (ن) و (ق) على غير هذا الترتيب. (¬2) في (ك): "سب" والمثبت من سائر النسخ. (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 48، 49، 362 - 364)، و"مدارج السالكين" (1/ 118، 369)، و"بدائع الفوائد" (3/ 151، 271، 272)، و"الداء والدواء" (ص: 142، 221 - 223، 262)، و"الطرق الحكمية" (ص: 324 - 327)، و"الحدود والتعزيرات" (ص: 106 - 114)، وهذا الوجه وقع في (ق) و (ن) مكان الوجه التاسع والثلاثين. (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك) وسقط من سائر الأصول. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) جاء هذا الوجه مكان الوجه الخمسين من (ق) و (ن).

الوجه الرابع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة -مع قصدهم بها الخير- لئلا يكون قولهم (¬1) ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم؛ فإنهم كانوا يخاطبون بها النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقصدون بها السبَّ، يقصدون فاعلًا من الرعونة (¬2)، فَنُهِيَ المسلمون عن قولها؛ سدًا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تشبهًا بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون. [ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدًا] (¬3). الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] فأمر سبحانه أن يُلِينَا القولَ لأعظم أعدائه وأشدهم كفرًا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظُ القول له مع أنه حقيق به ذريعةً إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه سبحانه (¬4). الوجه السادس: أنه سبحانه نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذَرِيعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدةً من مفسدة الإغضاء واحتمال الضَّيْم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة (¬5). الوجه السابع: أنه سبحانه نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يُتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها (¬6). والوجه الثامن: (¬7) ما رواه حُمَيْد بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن عمرو أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مِنَ الكبائرِ شَتْمُ الرجل والديه، قالوا: يا رسول اللَّه وهل ¬

_ (¬1) في (ق): "قولها". (¬2) انظر: "الدر المنثور" (1/ 252 - 253) ففيه آثار عن السلف. (¬3) ما بين المعقوفتين من (و)، وعلق قائلًا: "عن ابن تيمية (ص: 263 ج: 3) فتاوى". قلت: هي "مجموع الفتاوى الصغرى" نشر دار الكتب الحديثة. وجاء هذا مكان الوجه العشرين في (ق) و (ن). (¬4) وجاء هذا الوجه مكان الوجه السادس والخمسين في (ق) و (ن). (¬5) وجاء هذا الوجه مكان الوجه السابع والخمسين في (ق) و (ن). (¬6) وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثامن والخمسين في (ق) و (ن). (¬7) من بداية هذا الوجه قارن بـ "بيان الدليل على بطلان التحليل" (ص: 353 - 373 - تحقيق فيحان المطيري)؛ فهي الأمثلة نفسها، إن لم تكن بلفظها.

يشتمُ الرَّجلُ والديه؟ قال: نعم، يسبُّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" متفق عليه (¬1)، ولفظ البخاري: "إن مِنْ أكبر الكبائر أن يَلعنَ الرَّجلُ والديه، قيل: يا رسول اللَّه كيف يَلعنُ الرجلُ والديه؟ قال: يسبُّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل سابًا لاعنًا لأبويه بتسبّبه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده (¬2). الوجه التاسع: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يكف عن قتل المنافقين (¬3) -مع كونه مصلحة- لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدًا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن (¬4) لم يدخل [فيه]، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل (¬5). الوجه العاشر: أن اللَّه سبحانه حرَّم الخمر لما فيها من المفاسد (¬6) الكثيرة المترتبة (¬7) على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القَطْرة الواحدة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الأدب)، باب: لا يسب الرجل والديه، (10/ 403/ رقم 5973)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الأيمان)، باب: بيان الكبائر وأكبرها، (1/ 92/ رقم 90) وغيرهما، عن عبد اللَّه بن عمرو، ووقع في النسخ المطبوعة من "الإعلام" "عبد اللَّه بن عمر"! -رضي اللَّه عن الجميع-. (¬2) قال (و): "فرق شيخ الإسلام ابن تيمية بين هذا الوجه، والوجه الأول: وهو سب المشركين بقوله: "إن سب آباء الناس هنا حرام، لكن قد جعله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أكبر الكبائر؛ لكونه شتمًا لوالديه؛ لما فيه من العقوق، وإن كان فيه إثم من جهة إيذاء غيره". (ص: 258 فتاوى ج: 3)، نشر الكتب الحديثة. ونلحظ أن الإمام ابن القيم ينقل عن أستاذه هنا ما يكاد يكون متشابه اللفظ، فضلًا عن المعنى" اهـ. وجاء هذا الوجه مكان الوجه السادس والعشرين في (ق) و (ن). (¬3) هو في حديث يرويه البخاري (3518) في "مناقب الأنصار": باب ما ينهى من دعوى الجاهلية و (4905) في تفسير سورة المنافقون. باب: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} و (4907) باب: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}، ومسلم (2584) (63) في (البر والصلة): باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، من حديث جابر. (¬4) في المطبوع: "ومن". (¬5) جاء هذا الوجه مكان الوجه الثامن عشر في (ق) و (ن) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ك): "المفسدة". (¬7) في (ق): "المرتبة".

منها (¬1)، وحرم إمساكها للتخليل ونجَّسها (¬2)، لئلا تتخذ القَطْرة ذريعة إلى الحُسْوَة (¬3) ويُتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب (¬4)، ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخَلِيطين (¬5)، وعن شرب العصير بعد ثلاث (¬6)، وعن الانتباذ في الأوْعِية التي قد يتخمَّر النبيذ فيها ولا يعلم به (¬7)، حَسْمًا لمادة قربان المسكر، وقد صرح -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعلة في تحريم القليل فقال: "ولو رخَّصتُ لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه" (¬8). ¬

_ (¬1) كما في حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" وهو مخرج في موطن آخر. (¬2) روى مسلم في "صحيحه" (1983) في الأشربة: باب تحريم تخليل الخمر عن أنس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سُئل عن الخمر تتخذ خلًا؟ فقال: لا. (¬3) "الحُسوة -بضم الحاء-: الجرعة من الشراب بقدر ما يحسى مرة واحدة، والحسوة -بفتحها-: المرة" (و). (¬4) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 140). (¬5) انطر: "صحيح البخاري" (كتاب الأشربة): باب من رأى أن لا يخلط البسر والتمر، (5601)، و"صحيح مسلم" (كتاب الأشربة) (1986)، و"سنن أبي داود" (كتاب الأشربة)، باب: في الخليطين، 3703 - وما بعده، و"سنن الترمذي" (كتاب الأشربة: باب ما جاء في خليط البسر والتمر 1876)، و"سنن النسائي" (كتاب الأشربة: باب خليط البسر والزبيب)، (8/ 291)، و"سنن ابن ماجه" (كتاب الأشربة، باب النهي عن الخليطين، 3395). (¬6) روى مسلم في "صحيحه" (2004) عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينبذ له الزبيب في السِّقاء، فيشربه يومه الغد وبعد الغد، فإذا كان مساءُ الثالثة شربه وسقاه، فإن فضل شيء أهراقه. وانظر: "المجتبى" (8/ 738) للنسائي. (¬7) نهيُّ النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الانتباذ في عدد من الأوعية كالحنتم والدباء والنقير والمزفت ثابت في أحاديث منها حديث ابن عباس في قصة وفد عبد القيس في "صحيح البخاري" (53) و"صحيح مسلم" (17) وفي الأشربة 3/ 1579، وحديث أنس رواه البخاري (5587)، ومسلم (1992). وحديث علي، وراه البخاري (5594)، ومسلم (1994). وحديث أبي هريرة، رواه مسلم (1993). وحديث عائشة رواه مسلم (1995). لكن ثبت نسخ ذلك في "صحيح مسلم" (977) عن بُريدة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "نهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ولا تشربوا مسكرًا" وفي "صحيح البخاري" (5592) عن جابر بن عبد اللَّه قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الظروف، فقالت الأنصار: إنه لا بُدَّ لنا منها، قال: فلا إذن". (¬8) أخرج النسائي في "المجتبى" (كتاب الأشربة، باب الأذن في الانتباذ، 8/ 309) بسند =

الوجه الحادي عشر: [أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حرم] (¬1) الخَلْوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين (¬2)، سدًا لذريعة ما يُحاذر من الفتنة وغَلَبات الطِّباع (¬3). الوجه الثاني عشر: أن اللَّه سبحانه أمر بغضِّ البصر -وإن كان إنما يقع على محاسن الخِلْقة والتفكر في صنع اللَّه- سدًا لذريعة الإرادة والشهوة المُفْضِية إلى المحظور (¬4). ¬

_ = صحيح على شرط الشيخين عن أبي هريرة؛ قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفد عبد القيس حين قدموا عليه عن الدَّباء، وعن النقير وعن المزفَّت والمزاد والمجبوبة، وقال: "انتبذ في سقائك أوكِهِ واشربه حلوًا. قال بعضهم: ائذن لي يا رسول اللَّه في مثل هذا. قال: "إذًا، تجعلها مثل هذه"، وأشار بيده يصف ذلك. وأصله في "صحيح مسلم" (كتاب الأشربة)، باب: النهي عن الانتباذ في المزفت، 3/ 1577 - 1578/ رقم 1993) دون ذكر الإشارة. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 226 - 227) بألفاظ في بعضها: "فقال له رجل: أتأذن لي في مثل هذه؟ وأشار بيده وفرج بينهما؛ فقال: "إذًا، تجعلها مثل هذه" وأشار بيديه أكثر من ذلك. وأخرجه ابن حبان في "الصحيح" (12/ 222 - 223/ رقم 5401 - الإحسان)، وفي آخره: "فقال رجل: يا رسول اللَّه! ائذن لي في مثل هذه -وأشار النضر بن شميل (أحد رواته) بكفه-. فقال: "إذًا تجعلها مثل هذه"، وأشار النضر بباعه، قال ابن حبان عقبه: "قول السائل: "ائذن لي في مثل هذا" أراد به إباحة اليسير في الانتباذ في الدّباء والحنتم وما أشبهها؛ فلم يأذن له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مخافة أن يتعدى ذلك باعًا؛ فيرتقي إلى المسكر فيشربه". وانظر: "مدارج السالكين" (3/ 306)، و"مفتاح دار السعادة" (ص: 337)، و"زاد المعاد" (3/ 115)، وانظر: "الحدود والتعزيرات" (ص: 266). وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه التاسع والخمسين. (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "نهيه عن". (¬2) ورد في ذلك عدة أحاديث، منها ما أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الجهاد، باب من اكتتب في جيش المسلمين، 6/ 142 - 143/ رقم 3006)، و (كتاب النكاح): باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم (9/ 330 - 331/ رقم 5233)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الحج): باب سفر المرأة مع محرم إلى حج وغيره، (2/ 978/ رقم 1341) عن ابن عباس مرفوعًا: "لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم، ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم، فقام رجل فقال: يا رسول اللَّه! اكتتبت في غزوة كذا، وخرجت امرأتي حاجَّة؟ قال: اذهب، فاحجج مع امرأتك". (¬3) جاء هذا الوجه مكان الوجه الحادي والثلاثين في (ق) و (ن). (¬4) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 364)، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثاني والثلاثين في (ق).

الوجه الثالث عشر: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن مَنْ فعل ذلك (¬1)، ونهى عن تجصيص القبور، وتشريفها (¬2)، واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها (¬3)، وعن إيقاد المصابيح عليها (¬4)، وأمر بتسويتها (¬5)، ¬

_ (¬1) أخرج مسلم في "صحيحه" (كتاب المساجد ومواضع الصلاة)، باب: النهي عن بناء المساجد على القبور (1/ 377 - 378/ رقم 532) ضمن حديث جُندب بن عبد اللَّه البَجَلي مرفوعًا: ". . . وإن مَنْ كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد؛ فإني أنهاكم عن ذلك". وأخرج البخاري في "صحيحه" (كتاب الصلاة)، باب منه (1/ 532/ رقم 435، 436)، و (كتاب الجنائز)، باب: ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور، (3/ 200/ رقم 1330)، باب: ما جاء في قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (3/ 255/ رقم 1390)، وكتاب (أحاديث الأنبياء)، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل، (6/ 494 - 495/ رقم 3453، 3454)، وكتاب (المغازي) باب: مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته، (8/ 140/ رقم 4441، 4443، 4444)، وكتاب (اللباس) باب: الأكسية والخمائص (10/ 277/ رقم 5815، 5816)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساجد ومواضع الصلاة) باب: النهي عن بناء المساجد على القبور، (1/ 377/ رقم 531) عن عائشة وابن عباس رفعاه: "لعنة اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"؛ يُحذِّر مما صنعوا. وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 362)، و"تهذيب السنن" (4/ 341 - 342). (¬2) أما النهي عن تجصيص القبور فهذا ثابت في "صحيح مسلم" (970) في (الجنائز): باب النهي عن تجصيص القبر والبناء عليه، من حديث جابر. والنهي عن تشريف القبور وهو البناء عليها ثابت في الحديث نفسه، وفي "صحيح مسلم" أيضًا (968) في باب: الأمر بتسوية القبر عن علي بن أبي طالب قال: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسولا اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . ولا قبرًا مُشْرِفًا إلا سَوّيته. "قوله: "تشريفها" المراد به رفعها عن وجه الأرض" (و). (¬3) أما النهي عن الصلاة إليها؛ فقد ورد في "صحيح مسلم" (كتاب الجنائز): باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، (98/ 972) من حديث أبي مرثد الغنوي -رضي اللَّه عنه-، قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها". وأما النهي عن الصلاة عندها؛ فقد ورد في "سنن أبي داود" (كتاب الصلاة): باب المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة (492)، و"سنن الترمذي" (كتاب الصلاة): باب ما جاء أن الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام، (317)، و"سنن ابن ماجه" (كتاب المساجد): باب المواضع التي تكره فيها الصلاة (745) و"مسند أحمد" (3/ 83) من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". (¬4) يشير إلى الحديث: "لعن رسول اللَّه زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرج". وسيأتي تخريجه -إن شاء اللَّه تعالى- مفصلًا. (¬5) رواه مسلم (969) في (الجنائز): باب تسوية القبر من حديث علي بن أبي طالب قال: =

ونهى عن اتخاذها عيدًا (¬1) وعن شَدِّ الرحال إليها (¬2)، [لئلا يكون] (¬3) ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك [بها] (¬4)، وحرَّم ذلك على مَنْ قَصَدَه ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدًا للذريعة (¬5). الوجه الرابع عشر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها (¬6)، وكان من حكمة ذلك أنهما وَقْتُ سجود المشركين للشمس، وكان ¬

_ = ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا تدع تمثالًا إلا طمسته ولا قبرًا مشرفًا إلا سوّيته". وروى مسلم أيضًا (970) من حديث جابر بن عبد اللَّه قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يجَّصص القبر وأن يقعد عليه وأن يُبنى علبه. (¬1) روى أحمد (2/ 367)، وأبو داود في "المناسك" (2042): باب زيارة القبور -ومن طريقه البيهقي في "حياة الأنبياء" (رقم 15) -، وإسماعيل الفاضي في "فضل الصلاة على النبي" (رقم 20) من حديث أبي هريرة مرفوعًا: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر ولا تجعلوا قبري عيدًا. . . " وحسّنه ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 321 - ط الافتاء)، وابن حجر في "تخريج الأذكار" كما في "الفتوحات الربانية" (3/ 311)، وصححه النووي في "المجموع" (8/ 275)، و"الأذكار" (ص 93) وله شواهد، تكلمت عليها في تعليقي على "جلاء الأفهام" (رقم 30، 84، 85). (¬2) لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قصر شد الرحال إلى المساجد الثلاثة في قوله: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا". وهو حديث مشهور مستفيض مروي عن جمع من الصحابة، منهم: أبو سعيد الخدري رواه البخاري (1197) و (1995)، ومسلم (827) (415) في "الحج" (2/ 975). ومنهم: أبو هريرة رواه البخاري (1189)، ومسلم (1397). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ليكون". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) انظر: "تحذير الساجد في اتخاذ القبور مساجد" (ص: 83 - 84، 105، 107) لشيخنا العلامة الألباني -رحمه اللَّه تعالى-، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثاني. وقال (و): "انظر ص 259 ج 3 فتاوى ابن تيمية" اهـ. (¬6) رواه البخاري (582) في "مواقيت الصلاة": باب الصلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس، و (585) في باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس، و (589): باب من لم يكره الصلاة إلا بعد العصر والفجر و (1192) في (فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة): باب مسجد قباء و (1629) في "الحج": باب الطواف بعد الصبح والعصر و (3273) في بدء الخلق: باب صفة إبليس وجنوده، ومسلم (828) في "صلاة المسافرين": باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، من حديث ابن عمر.

النهي عن الصلاة للَّه في ذلك الوقت سدًا لذريعة المشابهة الظاهرة، التي هي ذريعة إلى المشابهة في القَصْد مع بُعْد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة (¬1)؟ الوجه الخامس عشر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن التشبَّه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يَصْبِغُونَ فخالفوهم" (¬2). وقوله: "إن اليهود لا يُصَلّون في نعالهم فخالفوهم" (¬3)، وقوله في عاشوراء: "خالفوا اليهود صُومُوا يومًا قبله ويومًا بعده" (¬4) وقوله (¬5): "لا تَشَبَّهُوا بالأعاجم" (¬6). ¬

_ (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 185، 362)، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثالث. (¬2) رواه البخاري (3462) في (أحاديث الأنبياء): باب ما ذكر عن بني إسرائيل و (5899) في (اللباس): باب الخضاب، ومسلم (2103) في (اللباس والزينة): باب في مخالفة اليهود في الصبغ، من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه أبو داود (652) في (الصلاة): باب الصلاة في النعل -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (534) - وابن حبان (2816)، والحاكم (1/ 260) -ومن طريقه البيهقي (2/ 432) - والطبراني في "الكبير" (7164)، و (7165) من حديث شداد بن أوس، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ولفظه: "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في خفافهم ولا في نعالهم" وزاد ابن حبان: "والنصارى"، وحسن إسناده العراقي. وفي الباب عن أنس رواه البزار (597) قال الهيثمي (2/ 54): فيه عمر بن نبهان وهو ضعيف. (¬4) رواه أحمد (1/ 241)، وابن خزيمة (2095)، والبزار (1052)، والطحاوي في "معاني الآثار" (2/ 78)، وابن عدي (3/ 956)، والبيهقي (4/ 287) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن دا اود بن علي عن أبيه عن جده ابن عباس به. وهذا إسناد ضعيف، ابن أبي ليلى سيء الحفظ وداود بن علي ذكره ابن حبان في الثقات" وقال: "يخطئ"، وقال الذهبي: ليس حديثه بحجة. ورواه الحميدي (485) ومن طريقه البيهقي (4/ 287) من نفس الطريق بلفظ: "لئن بقيت لآمرن بصيام يوم قبله أو يوم بعده -يعني يوم عاشوراء". ورواه عبد الرزاق (7839) -ومن طريقه البيهقي (4/ 287) - من طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: صوموا التاسع والعاشر وخالفوا اليهود. موقوف وهو صحيح الإسناد. أقول: والمعنى الذي يريده المؤلف من مخالفة اليهود في صيام عاشوراء وعدم إفراده، وارد إشارة في حديث ابن عباس في "صحيح مسلم" (1134). . . قالوا: يا رسول اللَّه إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإذا كان العام المقبل إن شاء اللَّه صمنا اليوم التاسع". والأحاديث في هذا تشير إلى ما قبله، أما ما بعده فالظاهر أنه فيها مقال. (¬5) في (ق): "وقال". (¬6) رواه البزار (2979)، وابن عدي (3/ 1008) من طريق رشدين بن كريب عن أبيه عن =

وروى الترمذي عنه: "ليس مِنَّا من تشبَّه بغيرنا" (¬1)، وروى الإمام أحمد عنه: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬2) وسر ذلك أن المشابهة في الهَدْي الظاهِرِ ذريعةٌ إلى ¬

_ = ابن عباس مرفوعًا: "لا تتشبهوا بالأعاجم، غيِّروا اللحى" قال الهيثمي (5/ 160): "فيه رشدين بن كريب وهو ضعيف". (¬1) رواه الترمذي (2695) في "الاستئذان": باب ما جاء في كراهية إشارة اليد بالسلام، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1190)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 74)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 721) من طريق ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا به وعندهم زيادة. قال الترمذي: هذا حديث إسناده ضعيف. وروى ابن المبارك هذا الحديث عن ابن لهيعة فلم يرفعه. (¬2) ورد من حديث عدد من الصحابة، منها: أولًا: حديث ابن عمر رواه أحمد (2/ 50 و 92)، وأبو داود (4031) في "اللباس": باب في ليس الشهرة، وابن أبي شيبة (5/ 313)، وابن الأعرابي في "معجمه" (1137)، وعبد بن حميد في "المنتخب" (846)، من طريق عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان عن حسان بن عطية عن أبي منيب الجُرشي عن ابن عمر مرفوعًا ولفظه: "بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد اللَّه وحده لا شريك له ... وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ومن تشبه بقوم فهو منهم". وعبد الرحمن بن ثابت صدوق يخطئ بأخرة كما قال الحافظ في "التقريب". لكنه توبع، تابعه الأوزاعي، أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (231) من طريق الوليد بن مسلم حدثنا الأوزاعي به، وإسناده قوي، رجاله ثقات، إلا أن شيخ الطحاوي قال فيه ابن حجر: صدوق صاحب حديث يهم. وقد اختلف فيه على الأوزاعي، فقد روي كما مر، ورواه عبد اللَّه بن المبارك عنه عن سعيد بن جبلة قال: حدثني طاوس، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . فذكره مرسلًا، رواه ابن المبارك في "الجهاد" (105) ومن طريقه القضاعي في "مسند الشهاب" (رقم 390)، وتابعه عيسى بن يونس، رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 322). أقول: سعيد بن جبلة هذا ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 10) ولم يذكر فيه شيئًا. وذكره في "لسان الميزان" ونقل عن محمد بن خفيف الشيرازي أنه قال: ليس هو عندهم بذاك. أقول: ومع هذا فقد صحح هذا الحديث الحافظ العراقي في تعليقه على "الإحياء" (1/ 270) وحسنه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 274). ثانيًا: حديث حذيفة، رواه البزار (2966)، والطبراني في "الأوسط" (8327) من حديث علي بن غراب عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي عبيدة بن حذيفة عنه وقال الطبراني: وهذا الحديث لا نعلمه يُروى عن حذيفة مسندًا إلا من هذا الوجه وقد =

الموافقة في القصد والعمل (¬1). الوجه السادس عشر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حَرَّمَ الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطَعْتم أرحامكم" (¬2) حتى لو رضيت المرأة بذلك لم ¬

_ = رواه علي بن غراب عن هشام عن أبي عبيدة عن أبيه موقوفًا. وقال الهيثمي في "المجمع" (4/ 271): وفيه علي بن غراب، وقد وثقه غير واحد وضعفه بعضهم، وبقية رجاله ثقات. ثالثًا: حديث أبي هريرة، عزاه الزيلعي للبزار (4/ 347) -ولم أجده في "كشف الأستار"- من طريق صدقة بن عبد اللَّه عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه مرفوعًا، وقال: ولم يتابع صدقه على روأيته هذه وغيره يرويه عن الأوزاعي مرسلًا. أقول: صدقة هذا ضعيف. وقد تقدم من رواه مرسلًا. رابعًا: حديث أنس، رواه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 129) من طريق بشر بن الحسين الأصبهاني حدثنا الزبير بن عدي عنه. وبشر هذا متروك. (¬1) يقول ابن تيمية: "لأن المشابهة في بعض الهدي الظاهر يوجب المقاربة ونوعًا من المناسبة يفضي إلى المشاركة في خصائصهم التي انفردوا بها عن المسلمين والعرب، وذلك يجر إلى فساد عريض" (ص 259، ج 3 فتاوى) (و)، وهذا الوجه جاء مكان الوجه التاسع عشر في (ق) و (ن). (¬2) رواه أحمد (1/ 372)، والترمذي (1125) في "النكاح": باب ما جاء لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، وابن حبان (4116)، وابن عدي (4/ 1476)، والطبراني في "الكبير" (11/ 11930) و (11931)، من طريق أبي حريز (عبد اللَّه بن الحسين) عن عكرمة عن ابن عباس به. وقال الترمذي: حسن صحيح!! وقال الحافظ في "التلخيص" (3/ 168) حسن. وعبد اللَّه بن الحسين أبو حريز هذا وثقه أبو زرعة، وابن معين مرة وضعفه في الأخرى، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. وقال أبو داود: ليس حديثه بشيء. وضعفه النسائي وابن عدي والجوزجاني والدارقطني. فالرجل ضعيف في الحديث ثقة في دينه، فيحتاج إلى متابعة. وقد توبع، تابعه خصيف عند أحمد (1/ 217)، وأبو داود (2067) في (النكاح): باب ما يكره أن يجمع بينهن من النساء. وخُصيف هذا قال فيه الحافظ: "صدوق سيء الحفظ خلط بأخرة". وتابعه جابر الجعفي، رواه الطبراني في "الكبير" (11/ 11805) وجابر هذا ضعيف. وليس في هاتين المتابعتين آخر الحديث وهي "إنكم إذا فعلتم ذلك. . . " فتبقى هذه الزيادة ضعيفة بحاجة إلى متابع أو شاهد، وهذا لم أجده. ثم وجدت للحديث شاهدًا مرسلًا، رواه أبو داود في "المراسيل" (208) من حديث =

يجز (¬1)؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع (¬3) لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المُفْضِية إلى أكل الحرام، وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع. وأباح الأربع -وإن كان لا يؤمن الجورُ في اجتماعهن- لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن؛ فكانت مصلحة الإباحة أرجَحَ من مفسدة الجور [المتوقعة] (¬4). الوجه الثامن عشر: أن اللَّه سبحانه حرم خِطْبَةَ المعتدة صريحًا، حتى حرَّم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجعُ في انقضائها ليس إلى المرأة؛ فإن إباحة الخِطْبَة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها (¬5). الوجه التاسع عشر: أن اللَّه سبحانه حرَّم عقد النكاح في حال العدة وفي [حال] الإحرام وإن تأخَّر الوطء إلى وقت الحل لئلا يُتخذ العقد ذريعة إلى الوطء، ولا ينتقض هذا بالصيام؛ فإن زمنه قريب جدًا، فليس عليه كُلْفة في صبره بعضَ يوم إلى الليل (¬6). الوجه العشرون: أن الشارع حَرَّمَ الطِّيبَ على المحرِمِ (¬7) لكونه من أسباب ¬

_ = عيسى بن طلحة قال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة. وإسناده حسن، فلعله يتقوى بهذا واللَّه أعلم. وأحاديث التحريم في الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها صحيحة بل متواترة، رويت عن جمع من الصحابة، انظر: "السنن الكبرى" (7/ 166) و"أحكام القرآن" (2/ 134) للجصاص، و"التلخيص" (3/ 169). و"موسوعة الحديث النبوي" (ص 101 وما بعد/ النكاح) للشيخ عبد الملك القاضي. (¬1) عند ابن تيمية زيادة، وهي قوله: "حتى لو رضيت المرأة أن تنكح عليها أختها، كما رضيت بذلك أم حبيبة لما طلبت من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يتزوج أختها درة لم يجز ذلك" (ص 280 ج 3 فتاوى) (و)، وفي (ك): "تجبر". (¬2) جاء هذا الوجه مكان الوجه السابع والأربعين في (ق) و (ن). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط (ن) و (ق)، وجاء هذا الوجه فيهما مكان الوجه الثامن والأربعين. (¬5) جاء هذا الوجه مكان الوجه الثاني والأربعين في (ق) و (ن). (¬6) جاء هذا الوجه مكان الوجه الثالث والأربعين في (ق) و (ن) وما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬7) سبق تخريجه.

دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة (¬1). الوجه الحادي والعشرون: أن الشارع اشترط للنكاح شروطًا زائدة على العقد تَقْطَع عنه شَبَهَ السِّفَاح، كالإعلان (¬2)، والوليّ (¬3)، ومَنَعَ المرأة أن تليه بنفسها، وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة (¬4)؛ ["وكان أصل ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" (1/ 244، 242 - 243)، و"مدارج السالكين" (1/ 117، 120)، و"تهذيب السنن" (2/ 345)، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الرابع والأربعين في (ق) و (ن) وفي (ق): "الذرائع" بدل "الذريعة". (¬2) في المطبوع: "كالإعلام". (¬3) أما إعلان النكاح، ففيه حديث عبد اللَّه بن الزبير: "علنوا النكاح". رواه أحمد وابنه في "المسند" (4/ 5)، والبزار (1433 - كشف)، وابن حبان (4066)، والحاكم (2/ 183)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 328)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 288)، و"السنن الصغير" (2591) من طريق ابن وهب حدثني عبد اللَّه بن الأسود عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير عن أبيه مرفوعًا به، ورجاله ثقات غير عبد اللَّه بن الأسود فقال عنه أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وذكره الهيثمي في "المجمع" (4/ 289) وعزاه للطبراني في "الكبير" و"الأوسط" وقال: ورجال أحمد ثقات!. وفي الباب عن عائشة، رواه ابن ماجه (1895) في النكاح: باب إِعلان النكاح، وسعيد بن منصور (635) وابن أبي حاتم في "العلل" (رقم 1280) والإسماعيلي في "معجمه" (رقم 271) وإسحاق في "مسنده" (رقم 945)، والبيهقي (7/ 290)، وابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 1033) وفيه زيادة: "واضربوا عليه بالغربال". وقال البيهقي: خالد بن إلياس ضعيف. أقول بل هو أشد؛ قال أحمد: منكر الحديث. وله طريق آخر عن عائشة رواه الترمذي (1089) في النكاح: باب ما جاء في إِعلان النكاح، وابن أبي حاتم في "العلل" (1280)، والبيهقي (7/ 290)، وابن الجوزي في "الواهيات" (رقم 1034)، وقال: وفيه عيسى بن ميمون يضعف في الحديث. وانظر: "العلل" لابن أبي حاتم (1191، 1280). وفي الباب أيضًا عن محمد بن حاطب انظر تخريجه في الهامش الآتي وأما الولي فقد تقدمت الأحاديث فيه. (¬4) أما الدف والصوت، فأصح ما ورد فيه حديث محمد بن حاطب الذي يرويه سعيد بن منصور (629) وأحمد في "مسنده" (3/ 418) و (4/ 259)، والترمذي (1088)، والنسائي (6/ 127) في النكاح: باب إعلان النكاح بالصوت وضرب الدف، وفي "الكبرى" (رقم 5562، 5564) وابن ماجه (1896)، وبحشل في "تاريخ واسط" (20) والطبراني في "الكبير" (19/ 542)، والحاكم (2/ 184)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (13/ 4557 رقم 1703)، والبيهقي (7/ 289) وفي "السنن الصغير" (2593)، والبغوي في "شرح =

ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5] و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] "] (¬1). لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السِّفَاح بصورة النكاح، وزوال بعض مقاصد النكاح من جَحْد الفراش، ثم أكَّد ذلك بأن جعل للنكاح حريمًا من العِدَّة تزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكامًا من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدةً على مجرد الاستمتاع؛ فعلم أن الشارع جعله سببًا ووُصْلَة بين الناس بمنزلة الرحم كما جمع بينهما في قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] (¬2) وهذه المقاصد تمنع شبهه بالسفاح، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشْبَهُ منه بالنكاح. [حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه] (¬3). الوجه الثاني والعشرون: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى أن يَجْمَع الرجل بين سَلَفِ وبيع" (¬4) ¬

_ = السنة" (2266)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 171 رقم 647) من طرق عن أَبي بَلج عنه مرفوعًا: "فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت في النكاح". قال الترمذي: "حديث حسن وأبو بلج: اسمه يحيى بن أبي سليم ويقال: ابن سليم أيضًا، ومحمد بن حاطب قد رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو غلام صغير". وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي. أقول: أبو بلج هذا ذكره الذهبي في "الميزان" وذكر توثيقه عن ابن معين وابن سعد والنسائي والدارقطني. وقال البخاري: فيه نظر، وقال أحمد: روى حديثًا منكرًا، وقال ابن حبان: كان يخطئ. ثم ذكر بعض مناكيره وبلاياه. فهو بالجملة حسن الحديث إلا ما أنكر عليه. وأما الوليمة ففيها حديث: "أولم ولو بشاة". وسيأتي تخريجه. (¬1) ما بين المعقوفتين من (و) فقط. (¬2) في (و) و (د) و (ك): "وجعله". (¬3) ما بين المعقوفتين من (و)، وقال: ما بين القوسين من "فتاوى ابن تيمية"، فهو مصدر ابن القيم (ص 261 ج 3 فتاوى) اهـ. قلت: ونصه في "بيان الدليل" (ص: 362): "حيث كانت هذه الخصائص (منتفية) فيه". قال محققه: "في (ق) متيقنة" اهـ. وجاء هذا الوجه مكان الوجه الخامس والأربعين في (ق) و (ن). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 178 - 179) و (205)، والطيالسي (2257)، وأبو داود (3554): في (البيوع): باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، والترمذي (1234) في (البيوع): باب كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي (7/ 288) في (البيوع) باب بيع ما ليس عندك و (7/ 295) باب سلف وبيع، وفي "الكبرى" (6226) و (6227) في البيوع باب سلف وبيع وباب شرطان في بيع، وابن ماجه (2188) في (التجارات): باب النهي عن بيع ما ليس عندك، وابن الجارود (601)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 46)، والدارمي (2/ 253)، والدارقطني (3/ 75)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 678) =

[وهو حديث صحيح] (¬1) ومعلوم أنه لو أفرد أحدَهما عن الآخر صح، وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يُقْرِضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي ثمان مئة بألف أخرى؛ فيكون قد أعطاه ألفًا و [سلعة] بثمان مئة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا (¬2)، فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق، وقد احتج بعض المانعين لمسألة مُدِّ عَجْوة (¬3) بأن قال: إن مَنْ جَوزها يجوّز أن يبيع الرجل ألف دينار في منديل بألف وخمس مئة مفردة، قال: وهذا ذريعة إلى الربا، ثم قال: يجوز أن يقرضه ألفًا ويبيعه المنديل بخمس مئة، وهذا هو بعينه الذي نَهَى عنه رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أقرب الذرائع إلى الربا، ويلزم مَنْ لم يسدَّ الذرائَع أن يخالف النصوص ويجيز ذلك، فيكف يترك أمرًا ويرتكب نظيره من كل وجه؟ (¬4) الوجه الثالث والعشرون: أن الآثار المتظاهرة في تحريم العِينَةِ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5) وعن الصحابة تدل على المنع من عَوْدِ السلعة إلى البائع وإن لم ¬

_ = و (5/ 1736 و 1767)، والطبراني في "الأوسط" (1554)، والبيهقي في "الكبرى" (5/ 267، و 313 و 336 و.34 و 343 و 348) ومن طرق كثيرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا "لا يحل سلف وبيع ولا شرط في بيع. . . ". وإسناده جيد. . . وانظر: تعليقي على "قواعد ابن رجب" (1/ 378 - 379) و"الموافقات" (1/ 469) و"سنن الدارقطني" (رقم 3037). (¬1) ما بين المعقوفتين من (و): "وقال: "عن المصدر السابق". قلت: انظر "بيان الدليل" (ص: 363). (¬2) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 144 - 159) و"زاد المعاد" (4/ 264)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) قال في "المغني" (6/ 92 - 95 - ط هجر): "مد عجوة: هو أن يبيع شيئًا فيه الربا بعضه ببعض، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسه كمد ودرهم بمد ودرهم أو بمدين أو بدرهمين". (¬4) جاء في (ق) و (ن) هذا الوجه مكان الوجه الخامس والسبعون. (¬5) ورد في هذا حديث ابن عمر وله طرق: الأولى: إسحاق أبي عبد الرحمن عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر. رواه أبو داود (3462) في (البيوع): باب النهي عن العينة، والدولابي في "الكنى" (2/ 65)، وابن عدي في "الكامل" (15/ 998)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 316). وإسحاق أبو عبد الرحمن هذا هو ابن أسيد قال فيه أبو حاتم: شيخ ليس بالمشهور ولا يُشتغل به. وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ. وقال يحيى بن بكير: لا أدري حاله. وقال أبو أحمد الحاكم في "الكنى": مجهول. وقال الأزدي: منكر الحديث تركوه. =

يتواطئا على الربا، وما ذاك إلا سدًا للذريعة (¬1). الوجه الرابع والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنَعَ المُقْرِضَ من قبول الهدية (¬2)، ¬

_ = ونقل الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 17) عن البزار أنه قال عن إِسحاق هذا: هو ابن أبي فروة المتروك ثم نقل رد ابن القطان عليه. الثانية: أبو بكر بن عياش عن الأعمش عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر. رواه أحمد (2/ 28)، وفي "الزهد" (كما ذكره الزيلعي وغيره ولم أجده فيه، ومطبوعه ناقص)، والطبراني في "الكبير" (13583)، وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 487 رقم 2711) وفيما نقله عنه الزيلعي: هذا حديث صحيح رجاله ثقات. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (11/ 45) معلًا هذا الطريق: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا؛ لأن الأعمش مدلس ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون عطاء الخراساني،، فيكون فيه تدليس التسوية بإِسقاط نافع بين عطاء وابن عمر، فرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو المشهور. أقول: أخشى أن يكون في السند وهمٌ وذلك لأن أبا بكر بن عياش هذا وإن كان من رجال البخاري إلا أنه يهم ويغلط. قال أبو نعيم: لم يكن في شيوخنا أحد أكثر غلطًا منه. وقال أحمد: ثقة ربما غلط، وكان يحيى بن سعيد لا يعبأ به، وقال أيضًا: كثير الغلط جدًا، وكتبه ليس فيها خطأ فأخشى أن يكون وَهِمَ، وأن الصواب كما قال ابن حجر: عطاء الخراساني فنرجع إلى الإِسناد الأول. الثالثة: عطاء عن ابن عمر: يرويه الليث بن أبي سُليم، فمرة يقول: عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء رواه أبو يعلى الموصلي (رقم 5659)، والطبراني في "الكبير" (13585). ومرة يرويه عن عطاء مباشرة رواه من طريقه الروياني في "مسنده" (1422) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 313 - 314، 319). وليث ضعيف، وهذا من تخاليطه. الرابعة: أبو جناب الكلبي عن شهر بن حوشب عن ابن عمر. رواه أحمد في "مسنده" (2/ 42 و 84)، وأبو جناب وشهر ضعيفان. الخامسة: ورواه بشبر بن زياد عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعًا. رواه ابن عدي (2/ 455) وقال: وبشير بن زياد هذا ليس بالمعروف. ثم هو خالف في إسناده. (¬1) جاء في (ق) و (ن) هذا الوجه مكان الوجه السادس والسبعون. (¬2) يشير إلى حديث: "إذا أقرض أحدكم قرضًا فأهدى إليه أو حمله على الدابة. . فلا يركبها ولا يقبله. . . ". ورواه ابن ماجه (2432) في "الصدقات": باب القرض، والبيهقي في "السنن الكبرى" =

وكذلك الصحابة (¬1)، حتى يحسبها من دَيْنه، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا؛ فإنه يعود إليه مالُه وأخذ الفَضْل الذي استفاده بسبب القرض (¬2). الوجه الخامس والعشرون: أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية، وهو أصل فسادِ العالم، وإسنادِ الأمر إلى غير أهله، وتولية الخَوَنة والضعفاء والعاجزين، وقد دخل بذلك من الفساد ما لا يحصيه إلا اللَّه، وما ذاك إلا لأن قبوق الهدية ممن (¬3) لم تجر عادته بمُهَاداته ذريعة إلى قَضَاء حاجته، وحُبُّكَ الشيء يُعْمِي ويُصِمُّ، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له مقرونة بشره (¬4) وإغماض عن كونه لا يصلح (¬5). الوجه السادس والعشرون: أن السنة مَضَتْ بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء (¬6)، إما عمدًا كما قال مالك (¬7)، وإما مباشرة كما قال أبو حنيفة (¬8)، وإما ¬

_ = (5/ 350)، وابن الجوزي في "التحقيق" رقم (1504) من طريق إسماعيل بن عياش عن عتبة بن حميد الضبي عن يحيى بن أبي إِسحاق النهائي (وعند البيهقي وابن الجوزي: يزيد بن أبي إِسحاق) فال: سألت أنس بن مالك. . فذكره. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 253): هذا إسناد فيه مقال؛ عتبة بن حميد ضعّفه أحمد، وقال أبو حاتم: صالح، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ويحيى بن أبي إِسحاق الهنائي لا يعرف حاله. . . وقال هشام بن عمار: يحيى بن أبي إِسحاق الهنائي لا أراه إلا وهم، وهذا حديث يحيى بن يزيد الهنائي ورواه شعبة ومحمد بن دينار فوقفاه. أقول: وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين وهذه منها. وفي الباب آثار صحيحة عن عدد من الصحابة انظرها مفصلة في "إرواء الغليل" (5/ 234). وانظر تعليقي على "الموافقات" (3/ 117)، وفي (ك) وحدها: "المقترض". (¬1) في المطبوع: "أصحابه". (¬2) انظر: (حكمة منع المقرض من قبول هدية المقترض) في: "إغاثة اللهفان" (1/ 363)، و"تهذيب السنن" (5/ 150 - 152)، وجاء هذا الوجه مكان الوجه السابع والسبعين في (ق) و (ن). (¬3) في (ق): "هدية من". (¬4) كذا في الأصول، وفي (ك): "يثير به" وفي (ق): "بشرط به". (¬5) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 145، 146)، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الحادي والخمسين في (ق) و (ن). (¬6) الحديث تقدم تخريجه وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 373). (¬7) انظر: "الإشراف" (5/ 191 مسألة 1947 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب. (¬8) انظر: "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" (7/ 251)، و"المغني" (9/ 151).

قتلًا مضمونًا بقصاص أو دية أو كفارة، وإما قتلًا بغير حق، وإما قتلًا مطلقًا كما هي أقوال في مذهب الشافعي وأحمد (¬1)، [والمذهب الأول] (¬2)، وسواء قصد القاتل أن يتعجَّل الميراث أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقًا، وما ذاك إلا لأنَّ توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل؛ فسدَّ الشارعُ الذريعةَ بالمنع (¬3). الوجه السابع والعشرون: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وَرَّثُوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت (¬4) حيث يُتَّهم بقصد حرمانها الميراثَ بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة، وأما إذا لم يُتهم؛ ففيه خلاف معروف مأخذه أن المرض أوجب تَعلّقَ حقها بماله؛ فلا يمكَّنُ من قطعه أو سدًا للذريعة بالكلية وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين (¬5). الوجه الثامن والعشرون: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجميع بالواحد (¬6) وإن كان أصلُ (¬7) القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدمُ القصاص ذريعةً إلى التعاون على سَفْكِ الدماء (¬8). الوجه التاسع والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن تُقْطَع الأيدي في الغَزْوِ (¬9) ¬

_ (¬1) انظر: "مغني المحتاج" (3/ 25)، و"المغني" (9/ 151). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬3) وجاء هذا الوجه مكان الوجه السادس والعشرين في (ق) و (ن). (¬4) سيذكرهم المؤلف فيما بعد، ونخرج مروياتهم بالتفصيل إن شاء اللَّه. (¬5) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الخامس والخمسين. (¬6) نعم هذا مرويٌّ عن عمر وعلي وابن عباس وغيرهم، وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في المشهور عنهم، لكن هذا مشروط بأن يكون كل واحد من هؤلاء لو انفرد بفعله لوجب عليه القصاص. وانظر: "الأم" (6/ 24 - دار الفكر)، و"المغني" (11/ 490 - مطبعة الرياض)، و"نتائج الأفكار" (10/ 243 - دار المعرفة)، و"المدونة الكبرى" (6/ 427 - دار صادر) و"الإشراف" (4/ 88 مسألة رقم 1433) وتعليقي عليه. (¬7) قال (و): "عند ابن تيمية: قياس". قلت: وهو كذلك في "بيان الدليل" (ص: 365). (¬8) مسألة مشروعية قتل الجماعة بالواحد تكلم عليها ابن القيم -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (3/ 78)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 363)، وانظر كتاب: "أحكام الجناية" (ص 103 - 123) للشيخ بكر أبو زيد فإنه مهم، وجاء هذا الوجه مكان الوجه السابع والعشرين في (ق). (¬9) الحديث سبق تخريجه (2/ 499)، وقال (و) معلقًا: "عند ابن تيمية: نهى عن إقامة الحدود بدار الحرب" اهـ. قلت: وهو كذلك في "بيان الدليل" (ص 365).

لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفَّار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو كما تقدم (¬1). الوجه الثلاثون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن تقدُّم رمضان بصوم يوم (¬2) أو يومين، إلا أن تكون له عادة توافق ذلك اليوم (¬3)، ونهى عن صوم يوم الشك (¬4)، وما ذاك إلا لئلا يُتَّخذ ذريعةَ إلى أن يُلحق بالفرض ما ليس منه (¬5)، وكذلك حرَّم صوم يوم العيد (¬6) تمييزًا لوقت العبادة عن (¬7) غيره لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب ¬

_ (¬1) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الخامس. (¬2) في (ق): "صوم رمضان بيوم". (¬3) رواه البخاري (1914) في (الصوم): باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، ومسلم (1082) في (الصيام): باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، من حديث أبي هريرة. (¬4) رواه الدارمي (2/ 2) وعبد الرزاق (7318) وابن أبي شيبة (3/ 72)، وأبو داود (2334) في (الصوم): باب كراهية صوم يوم الشك، وعلقه البخاري (4/ 119 - مع "الفتح") في (الصيام): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رأيتم الهلال فصوموا"، ورواه الترمذي (686) في (الصوم): باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك، والنسائي (4/ 153) في (الصيام): باب صيام يوم الشك، وابن ماجه (1645) في (الصيام): باب ما جاء في صيام يوم الشك، وأبو يعلى (1644)، وابن خزيمة (1914)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 111)، وابن حبان (3585 و 3595 و 3596)، والدارقطني (2/ 157)، والحاكم (1/ 423 - 424)، والبيهقي (4/ 208) من حديث عمار بن ياسر مرفوعًا قال: "من صام اليوم الذي يشك فيه، فقد عصى أبا القاسم -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي مع أن أحد رواته (عمرو بن قيس) من رواة مسلم فقط. وانظر: "تغليق التعليق" (4/ 140 - 141)، و"فتح الباري" (4/ 120)، و"إقامة البرهان على عدم وجوب صوم يوم الثلاثين من شعبان" (ص 29 - 30). (¬5) انظر: "زاد المعاد" (1/ 157 - 160)، "وبدائع الفوائد" (3/ 96 - 97)، "وتهذيب السنن" (3/ 214 - 222). (¬6) النهي عن صيام العيدين ثابت في أحاديث منها: ما رواه البخاري (1993) في (الصوم): باب صوم النحر، ومسلم (1138) في "الصيام": باب النهي عن صوم يوم الفطر ويوم الأضحى، من حديث أبي هريرة. ومنها حديث أبي سعيد الخدري، ولفظه: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن صيام يوم الفطر ويوم النحر". رواه البخاري (1197 و 1864 و 1991 و 1995)، ومسلم (140) (2/ 799). ومنها حديث عمر بن الخطاب، رواه البخاري (1990 و 5571)، ومسلم (1137). (¬7) في (ك): "من".

كما فعلت النصارى، ثم أكَّد هذا الغرض باستحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور (¬1)، واستحباب تعجيل الفطر [في] يوم العيد قبل الصلاة (¬2)، وكذلك نَدَب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها؛ فكره للإمام أن يتطوع في مكانه (¬3)، وأن يستديم جلوسَهُ مستقبل القبلة (¬4)، كل هذا سدًا للباب المُفْضِي إلى أن يُزاد في ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في "صحيحه" (كتاب الصيام): باب تعجيل الإفطار (4/ 198/ رقم 1957)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيام): باب فضل السحور وتأكيد استحبابه، واستحباب تأخيره وتعجيل الفطر (2/ 771/ رقم 1098) عن سهل بن سعد مرفوعًا: "لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفطر". وأخرجه أحمد في "المسند" (5/ 147) عن أبي ذر مرفوعًا: "لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخّروا السحور"، وإسناده ضعيف؛ فيه سليمان بن أبي عثمان مجهول، وابن لهيعة ضعيف. ويدل على استحباب تأخير السحور أحاديث كثيرة، منها: ما أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الصوم): باب قدر كم بين السحور وصلاة الفجر (4/ 138/ رقم 1921) عن زيد بن ثابت، قال: "تسحرنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم قام إلى الصلاة، قلت (القائل أنس بن مالك): كم بين الأذان والسحور؟ قال: "قدر خمسين آية". وهذا الفعل منه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدل على الاستحباب. وانظر: "الصيام" للفريابي (ص 59 وما بعد). (¬2) روى ذلك البخاري (953) في (العيدين): باب في الأكل يوم الفطر قبل الخروج، من حديث أنس قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات". وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه أبو داود (616) في "الصلاة": باب الإمام يتطوع مكانه، ومن طريقه البيهقي (2/ 190)، وابن ماجه (1428) في "إقامة الصلاة": باب ما جاء في صلاة النافلة حيث تصلى المكتوبة من طريقين عن عطاء الخراساني عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يصلي الإمام في مقامه الذي صلى فيه المكتوبة حتى يتنحى عنه. . . ". قال أبو داود: عطاء الخراساني لم يدرك المغيرة. وبمعناه أيضًا ما رواه ابن أبي شيبة -كما عزاه ابن حجر في "الفتح" (2/ 335) - عن علي قال: "من السنة أن لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكانه". وبمعناه ما رواه أحمد (2/ 425)، وأبو داود (1006)، وابن ماجه (1427)، والبيهقي (2/ 190) من طريق الليث بن أبي سُليم عن حجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة مرفوعًا: "أيعجز أحدكم إذا صلى أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينه أو عن شماله ". وضعفه البخاري عند رقم (848)، وقال: ولم يصح. قال الحافظ ابن حجر (2/ 335): "وذلك لضعف إسناده واضطرابه، تفرد به ليث بن أبي سُليم، واختلف عليه فيه". قلت: وحجاج وشيخه مجهولان. (¬4) قد يدل على هذا حديث ابن مسعود في أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان ينصرف بعد الصلاة عن يساره ويمينه. =

الفرض ما ليس منه (¬1). الوجه الحادي والثلاثون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كره الصلاة إلى ما قد عُبِدَ من دون اللَّه تعالى (¬2)، وأحَب لمن صلى إلى عود أو عمود أو شجرة أو نحوه (¬3) أن يجعله على أحد حاجبيه (¬4)، ولا يصْمُدُ إليه صَمْدًا (¬5)، قطعًا لذريعة التشبه بالسجود إلى ¬

_ = رواه البخاري (852) في (الأذان): باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال، ومسلم (707) في (صلاة المسافرين): باب جواز الانصراف من الصلاة عن اليمين والشمال. وأصرح منه ما رواه مسلم (709) عن البراء قال: كنا إذا صلينا خلف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحببنا أن نكون عن يمينه يقبل علينا بوجهه. وكذلك حديث عائشة الذي رواه مسلم أيضًا (592) كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقعد بعد التسليم إلا قدر ما يقول: "اللهم أنت السلام. . . ". وانظر: "مجمع الزوائد" (2/ 146 - 147). (¬1) وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثاني والعشرين في (ق) و (ن). (¬2) لم أجد حديثًا في هذا، وقد وجدت البخاري ترجم في "صحيحه" قبل حديث (431) (باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يعبد فأراد به اللَّه). ثم ذكر حديث ابن عباس قال: انخسفت الشمس فصلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم قال: أُريت النار. وذكر معلقًا حديث أنس قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عُرضت علي النار وأنا أصلي". ولم يذكر ابن حجر أحاديث في هذا سوى أثر عن ابن سيرين أنه كره الصلاة إلى التنور، وقال: هو بيت النار. وأخرجه ابن أبي شيبة (2/ 156 - ط دار الفكر) وتحرف فبه "التنور" إلى "القبور": فلتصوب. أقول: ظاهر صنيع البخاري أنه لا يرى بأسًا في الصلاة إلى النار. والصواب التفرقة، وحكى ابن حبان في "ثقاته" (8/ 74) عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يكرهون للمجوسي إذا أسلم أن يصلي نحو القنديل. انظر: "المحلى" (4/ 81)، و"شرح الكرماني على صحيح البخاري" (4/ 93)، و"الفتح" (1/ 528)، و"شرح تراجم أبواب التراجم" (ص 52) للدهلوي، "الأبواب والتراجم لصحيح البخاري" (2/ 215 - 216) للكاندهلوي، و"عمدة القاري" (3/ 444)، و"المغني" (2/ 72) مع "الشرح الكبير"، و"إصلاح المساجد" (226 - 228)، و"فيض الباري" (2/ 45)، وانظر في تقرير الكراهة: "مجموع الأجوبة المفيدة" (ص 47 - 49) للشيخ عبد اللَّه القرعاوي، و"حاشية ابن عابدين" (1/ 438 - 439)، و"الفقه الإسلامي وأدلته" (1/ 757). (¬3) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "أو نحو ذلك". (¬4) تحرفت في المطبوع إلى: "جانبيه"! (¬5) أخرجه أحمد في "مسنده" (6/ 4)، وأبو داود في "سننه" (كتاب الصلاة): باب إذا صلى =

غير اللَّه تعالى (¬1). الوجه الثاني والثلاثون (¬2): أنه شرع الشُّفْعة (¬3) وسَلَّط الشريك على انتزاع الشقْص (¬4) من يد المشترِي (¬5) سدًّا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة والقسمة. الوجه الثالث والثلاثون: أن الحاكم منهِي عن رفع أحد الخَصْمين على الآخر وعن الإقبال عليه دونه، وعن مشاورته والقيام له دون خصمه (¬6)، لئلا يكون ذريعة ¬

_ = إلى سارية ونحوها، (رقم 693) من حديث المقداد -رضي اللَّه عنه- قال: "ما رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلى إلى عود، ولا عمود، ولا شجرة إلا جعله عن حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد إليه صمدًا". والحديث ضعفه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "ضعيف سنن أبي داود" (برقم 136). (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 367)، و"تهذيب السنن" (1/ 341)، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان "الوجه الرابع". (¬2) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثالث والثمانين. (¬3) قال (و): "عند ابن تيمية بعد هذا: لما فيه من رفع الشركة". قلت: انظر "بيان الدليل" (ص 368). (¬4) "السهم والنصيب والشركة" (و). (¬5) تقدمت بعض أحاديث الشفعة، وهي كثيرة. (¬6) أخرج أبو يعلى في "مسنده" (5867) و (6924)، والدارقطني في "سننه" (4/ 205)، والبيهقي (10/ 135) من طريق عباد بن كثير الثقفي عن أبي عبد اللَّه عن عطاء بن يسار عن أم سلمة قالت: فال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا ابتُلي أحدكم بالقضاء بين المسلمين فلا يقضِ وهو غضبان فليسو بينهم بالنظر والمجلس والإشارة ولا يرفع صوته على أحد الخصمين". هذا لفظ أبي يعلى، قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 197): "رواه أبو يعلى والطبراني في "الكبير" باختصار وفيه عباد بن كثير وهو ضعيف" وكذا قال الحافظ في "التلخيص" (4/ 193) وسبقهما البيهقي فقال: "في إسناده ضعف". أقول: عباد بن كثير سبقت ترجمته وإنه تَرَكه أكثر من واحد وقال الحافظ ابن حجر في "التقريب": متروك الحديث واتهمه أحمد بالكذب! وفيه أيضًا أبو عبد اللَّه قال الذهبي في "الميزان": لا يُعرف. وكلام الهيثمي -رحمه اللَّه- يشعر بأنه في "معجم الطبراني" بالإسناد نفسه، وليس هو كذلك، فقد أخرجه في (23/ رقم 2923) وعزاه الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 73 - 74) لإسحاق بن راهويه في "مسنده" من طريق بقية بن الوليد عن إسماعيل بن عياش عن أبي بكر التميمي عن عطاء بن يسار عنها به، دون ذكر الغضب فقط، ووجدته في "مسنده" (4/ 82 - 83 رقم 1846) وكنّى إسماعيل بأبي محمد! وقال محققه: "لم يتبين لي من هو"!! وكذا قال عن أبي بكر الآتي! =

إلى انكسار قلب الآخر وضعفه عن قيامه بحجته (¬1) وثقل لسانه بها. الوجه الرابع والثلاثون: أنه ممنوع من الحكم بعلمه (¬2)؛ لئلا يكون [ذلك] ذريعة إلى حكمه بالباطل ويقول: حكمت بعلمي (¬3). الوجه الخامس والثلاثون: أن الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه (¬4) لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غَرَضِه من عدوه بالشهادة الباطلة (¬5). الوجه السادس والثلاثون: أن اللَّه تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجَهْرِ بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبّون القرآن ومَنْ أنزله ومَنْ جاء به ومَنْ أُنزل عليه (¬6). ¬

_ = وهذا فيه علتان: الأولى: بقية بن الوليد مدلس وقد عنعن. الثاني: إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وأبو بكر هو ابن المنكدر بن عبد اللَّه بن الهدير مدني. ومما يدخل في أدلة النهي، قوله تعالي: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)} [النساء: 135]. قال ابن عباس في معنى (اللي) و (الإعراض): "هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر" رواه ابن جرير (9/ 307). وفي (ق): "مساررته" بدل "مشاورته". (¬1) في المطبوع: "القيام بحجته"، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثاني والخمسين. (¬2) لم يحكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنافقين بعلمه، وقد أعلمه اللَّه تعالى نفاقهم، ولا على الأعرابي حتى شهد له خزيمة، ومضى تخريت ذلك، وللَّه الحمد، وانظر: "أدب القاضي" (1/ 147 - 148) لابن القاص الطبري. (¬3) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثالث والخمسين، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) هذا قول جمهور العلماء ولم يخالف في ذلك إلا الحنفية، وانظر تفصيل أقوال الأئمة والتعليق عليها في "الإشراف" (5/ 76 مسألة رقم 1829 - بتحقيقي). (¬5) يشير ابن القيم -رحمه اللَّه- إلى قوله تعالى في سورة الإسراء [الآية 110]: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110)}، وانظر: "تفسير ابن كثير" (3/ 73)، و"تفسير الطبري" (15/ 186). وجاء هذا الوجه في (ق) مكان الوجه السابع. (¬6) جاء هذا الوجه مكان الوجه الرابع والخمسين في (ق) و (ن).

الوجه السابع والثلاثون: أن اللَّه سبحانه أوجَبَ الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع (¬1) وليس عليها وازع طبعي، والحدودُ عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذَنْبَ له (¬2)؛ فمن لقيه تائبًا توبة نصوحًا لم يعذبه مما تاب منه، وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحًا قبل رَفعه إلى الإمام سقط عنه الحد في أصح قولي العلماء، فإذا رفع إلى الإمام لم تُسقط توبتهُ عنه الحدَّ [وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها] (¬3) لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود اللَّه؛ إذ لا يعجز كل من وجب عليه حدُّ اللَّه تعالى (¬4) أن يُظهر التوبة ليتخلَّص من العقوبة وإن تاب توبة نصوحًا سدًا لذريعة السقوط (¬5) بالكلية. الوجه الثامن والثلاثون: أن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى (¬6)، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف (¬7)، مع كون صلاة ¬

_ (¬1) قال (و): "يريد ابن تيمية قوله: كالزنا والشرب والسرقة والقذف دون أكل الميتة والرمي بالكفر ونحو ذلك؛ فإنه اكتفى فيه [منه] بالعزيز". قلت: هو في "بيان الدليل" (ص 370). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين من (و)، وعلق قائلًا: "عن ابن تيمية ص 262 ج 3 فتاوى" اهـ. (¬4) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "الحد". (¬5) في المطبوع: "السكوت"! وجاء هذا الوجه في (ق) و (ك) مكان الوجه الثاني والثمانين. (¬6) إن كان يقصد بالإمامة الكبرى "إمارة المؤمنين" ففي هذا حديث: "إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما"، رواه مسلم (1853) في "الإمارة": باب إذا بويع لخليفتين، من حديث أبي سعيد الخدري، وإن أراد بها إمامة الصلاة -وهو الظاهر- ففي هذا أحاديث كثيرة جدًا قولية وفعلية، منها حديث مالك بن الحويرث حيث قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولصاحب له: "إذا حضرت الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما". رواه البخاري (628) في "الأذان": باب ليؤذن في السفر مُؤذن واحد -وأطرافه كثيرة انظرها هناك-، ومسلم (674) في "المساجد": باب من أحق بالإمامة. (¬7) أما في الجمعة فقد تواتر عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يخطب بأصحابه ويصلِّي بهم، منها حديث أنس بن مالك: رواه البخاري (905 و 940)، وحديث سهل بن سعد: رواه البخاري (939)، ومسلم (859)، وحديث أبي هريرة: رواه مسلم (877)، وحديث النعمان بن بشير: رواه مسلم (878). وأما صلاة العيدين: فصلاته أيضًا -صلى اللَّه عليه وسلم- بأصحابه وإمامته بهم ثابت في أحاديث: منها حديث ابن عباس: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرَجَ يوم فِطرِ أو أضحى فصلّى بالناس ركعتين ثم انصرف. =

الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن، وذلك سدًا لذريعة التفرق (¬1) والاختلاف والتنازع، وطلبًا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد سد الذريعة إلى ما يُنَاقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة (¬2)؛ لئلا تختلف القلوبُ، وشواهِدُ ذلك أكثر من أن تُذْكَر (¬3). الوجه التاسع والثلاثون: أن السنة مَضَتْ بكراهة إفراد رجب بالصوم (¬4)، ¬

_ = رواه البخاري (964) في "العيدين": باب الخطبة بعد العيد، و (989): باب الصلاة قبل العيد وبعدها، ومسلم (884) في "العيدين": باب ترك الصلاة قبل العيد وبعدها في المصلى. وحديث أبي واقد الليثي في قراءة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة العيد: رواه مسلم (891) في "العيدين": باب ما يقرأ به في صلاة العيدين، وحديث النعمان بن بشير: رواه مسلم أيضًا (878). وحديث ابن عمر: رواه البخاري (963)، ومسلم (888). وأما صلاة الاستسقاء؛ فقد ثبت أيضًا صلاته -عليه السلام- بأصحابه، منها حديث عبد اللَّه بن زيد: رواه البخاري (1012) في "الاستسقاء": باب تحويل الرداء في الاستسقاء، ومسلم (894) (2) أول الاستسقاء، وحديث عائشة -رضي اللَّه عنها-، رواه أبو داود في (الصلاة) (1173) في باب رفع اليدين في الاستسقاء، والطحاوي (1/ 325)، والحاكم (1/ 328)، والبيهقي (3/ 349) قال أبو داود: هذا حديث غريب إسناده جَيّد. وأما صلاة الخوف فقد ثبت من طرق عديدة عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- صلاته بأصحابه وإمامته بهم، منها حديث جابر الذي رواه مسلم (840) في (صلاة المسافرين): باب صلاة الخوف. وحديث ابن عمر: رواه البخاري (942) في "الخوف": باب صلاة الخوف. (¬1) كذا في (ن) و (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "التفريق". (¬2) رواه مسلم (432) في "الصلاة": باب تسوية الصفوف وإقامتها، من حديث أبي مسعود. (¬3) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الرابع عشر. (¬4) الذي وجدته في هذا حديث ابن عباس: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن صوم رجب كُلِّه". رواه ابن ماجه (1743) في "الصيام": باب صيام أشهر الحُرُم، والبيهقي في "فضائل الأوقات" (رقم 15)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10681) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (10/ 85) -. وأعله البيهقي بداود بن عطاء، وكذا أعله الجورقاني في "الأباطيل"، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (رقم 913)، والذهبي في "الميزان" في ترجمة داود، والبوصيري، وداود هذا قال فيه أحمد: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، ضعيف الحديث، منكر الحديث، فهو على هذا ضعيف جدًا، وذكره أيضًا ابن حجر في "تبيين العجب" (ص 47) (الحديث الثلاثون)، وذكره ابن القيم أيضًا في "المنار المنيف" (ص 97). وانظر: "زاد المعاد" (1/ 163 - 164)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 368).

وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم وليلتها بالقيام (¬1)، سدًا لذريعة اتخاذ شَرْع لم يأذن به اللَّه من تخصيص زمانٍ أو مكان بما لم يخصه به؛ ففي ذلك وقوعٌ فيما وقع فيه أهلُ الكتاب (¬2). الوجه الأربعون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تُفْضِي مشابهتهم إلى أن يعامَلَ الكافر معاملة المسلم، فسُدَّت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين (¬3). الوجه الحادي والأربعون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ ناجية بن كعب الأسلمي وقد أرسل معه هَدْيَهُ إذا عَطِبَ منه شيء دون المَحلّ أن ينحره ويصبغ نعله التي قَلَّده بها في دمه ويخلّي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته (¬4)، قالوا: وما ذاك إلا لأنه لو جاز أن يَأكلَ منه أو يُطْعم أهل رفقته قبل ¬

_ (¬1) أخرج البخاري في "صحيحه" (كتاب الصوم): باب صوم يوم الجمعة (4/ 232/ رقم 1985)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الصيام): باب كراهية صوم يوم الجمعة منفردًا (2/ 801/ رقم 1144)، والترمذي في "الجامع" (أبواب القيام): باب ما جاء في كراهية صوم يوم الجمعة وحده (2/ 123/ رقم 740)، والنسائي في "الكبرى" (كتاب الصيام)، كما في "تحفة الأشراف" (10/ 351)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب الصيام): باب في صيام يوم الجمعة (1/ 549/ رقم 1723)، وأحمد في "المسند" (2/ 495)، عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام؛ إلا أن يكون في صوم يصومه أحدكم"، لفظ مسلم. (¬2) وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثالث والعشرين في (ق) و (ن). (¬3) انظر هذه الشروط بتفصيل عند المصنف في كتاب "أحكام أهل الذمة" (735 - فما بعد - تحقيق صبحي الصالح). وجاء هذا الوجه مكان الوجه الحادي والعشرين في (ق) و (ن). (¬4) روى هذا مسلم في "صحيحه" (1325) في (الحج): باب ما يفعل بالهدي إذا عطب في الطريق، وأبهم ذكر اسم الرجل، ورواه أحمد (4/ 225)، ومسلم (1326)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 262)، وابن أبي شيبة (4/ 33 - 34)، وابن ماجه (3105)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ رقم 2037) من طريق آخر، وقال: إن ذؤيبًا أبا قبيصة حَدثه. وروى مالك في "الموطأ" (1/ 380)، وابن أبي شيبة (4/ 33)، وأحمد (4/ 334)، وأبو داود (1762) في (المناسك): باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ، والترمذي (910) في (الحج): باب ما جاء إذا عطب الهدي ما يصنع به، والنسائي في "الكبرى" (4137)، وابن ماجه (3106) في "المناسك": باب في الهدي إذا عطب، =

[في حسم مادة الشريك]

بلوغ المحل فربما دعاه ذلك إلى أن يُقصِّر في عَلَفها وحِفْظِها لحصول (¬1) غرضه من (¬2) عَطَبِها [دون المحل كحصوله بعد بلوغ المحل من أكله هو ورفقته وإهدائهم إلى أصحابهم، فإذا أيِسَ من حصول غرضه في عَطبها] (¬3) كان ذلك أدعى إلى حفظها حتى تبلغ محلها وأَحْسَمَ لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف أنواع سد الذرائع. الوجه الثاني والأربعون (¬4): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ الملتقط أن يُشْهِدَ على اللُّقطَةِ (¬5)، وقد علم أنه أمين، وما ذاك إلا سدًا لذريعة الطمع والكتمان، فإذا بادر وأشهد كان أحْسَمَ لمادة الطمع والكتمان، وهذا أيضًا من ألطف أنواعها (¬6). [في حسم مادة الشريك] (¬7) الوجه الثالث والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تَقُولُوا ما شاء اللَّه وشاء ¬

_ = والحميدي (880)، وابن خزيمة (2577)، والحاكم (1/ 447)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ رقم 2308)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (3/ 161 - ط دار الغرباء)، والبيهقي (5/ 243) من حديث ناجية بن كعب الخزاعي، وكان صاحب بُدْن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: قلت: يا رسول اللَّه، كيف أصنع بما عطب من البُدنِ؟ قال: "انحرها، ثم ألق نعلها في دَمِها، ثم خلِّ بينها وبين الناس، فليأكلوها". وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 368). (¬1) في (ك): "لحصولها". (¬2) في (ك) و (ق): "في". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الرابع والثمانين. (¬5) رواه أبو داود (1709) في (اللقطة): أوله، وابن ماجه (2505) في (الأحكام): باب اللقطة، وأحمد (4/ 162)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 456)، والطيالسي (رقم 1081)، والنسائي في "الكبرى" (رقم 5808/ 1)، (اللقطة): باب الإشهاد على اللقطة وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 671)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 136)، و"شرح مشكل الآثار" (رقم 4916)، والطبراني في "الكبير" (17/ 985 و 986 و 988 و 989)، وابن حبان في "صحيحه" (رقم 4894 - الإحسان)، والبيهقي (6/ 187، 193) من طريق أبي العلاء يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير عن مطرف عن عياض بن حمار عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من وجد ضالة فليُشهد ذَوي عَدل ولا يكتم، فإن لم يجد صاحبه فهو مال اللَّه يؤتيه من يشاء". وهذا إسناد صحيح، ورواه الطبراني (17/ 990) من طريق أيوب فأسقط مطرفًا من إسناده. (¬6) جاء في (ق) و (ن) هذا الوجه مكان الوجه الخامس والثمانين. (¬7) ما بين المعقوفتين من هامش (ك)

محمد" (¬1)، وذمَّ الخطيب الذي قال: "مَنْ يُطِعِ اللَّه ورسولَه فقد رَشَدَ، ومن عصاهما فقد غوى" (¬2)، سدًا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحَسْمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له: "ما شاء اللَّه وشئت": أجَعَلْتَنِي للَّه نِدًّا (¬3)؟ فحسَمَ مادة الشرك وسد الذريعة إليه في اللفظ كما ¬

_ (¬1) الحديث يرويه عبد الملك بن عمير إلا أنه قد اختلف عليه فيه، وهو وإن كان ثقة إلا أنّ حفظه تغير. فرواه معمر عنه عن جابر بن سَمرة: أخرجه عبد الرزاق (1983) (11/ 28)، وابن حبان (5725)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (237). ورواه سفيان بن عيينة عنه عن رِبْعي عن حذيفة بن اليمان. أخرجه ابن ماجه (2118) في "الكفارات": باب النهي أن يقال: ما شاء اللَّه وشئت، وأحمد (5/ 393)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (رقم 984)، والبزار (2830)، والبخاري في "التاريخ" (4/ 363). قال البوصيري (2/ 151): هذا إسناد رجاله ثقات على شرط البخاري؛ لكنه منقطع بين سفيان وعبد الملك بن عمير. ورواه أبو عوانة، وشعبة وحماد بن سلمة عنه عن الطُّفيل بن سَخْبَرة أخو عائشة. أما رواية أبي عوانة فأخرجها ابن ماجه (2118)، ورواية شعبة أخرجها البخاري في "التاريخ" (4/ 363)، والدارمي (2/ 295)، والطبراني في "الكبير" (8214)، وأحمد في "مسنده" (5/ 399)، ورواية حماد بن سلمة أخرجها أحمد (5/ 72)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2743)، والطبراني في "الكبير" (8214)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 463)، وابن أبي شيبة في "مسنده" كما ذكر البوصيري (2/ 151 - 152). ورواه الطبراني في "الكبير" (8215) من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عبد الملك مثل رواية الجماعة. قال البوصيري عن رواية أبي عوانة عن عبد الملك: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات على شرط مسلم. وقد رجّح البخاري والبزار والحاكم رواية من روى الحديث فجعله من مسند الطفيل. وفي الباب بلفظ: "لا تقولوا ما شاء اللَّه وشاء فلان" عن حذيفة مرفوعًا، رواه أحمد (5/ 384 و 394 و 398)، وأبو داود (4980)، والنسائي في "اليوم والليلة" (985)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (236)، والبيهقي (3/ 216). (¬2) رواه مسلم (870) في (الجمعة): باب تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث عدي بن حاتم. (¬3) رواه أحمد (2/ 214 و 224 و 347)، وابن ماجه (2117) في (الكفارات)، وابن أبي شيبة (9/ 118 و 10/ 346)، والبخاري في "الأدب المفرد" (783)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (345)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (988)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (235)، وابن عدي (1/ 419)، والطبراني في "الكبير" (13005 و 13006)،=

سدَّها في الفعل والقَصد، فصلوات اللَّه وسلامُه عليه وعلى آله أكْمَلَ صلاة وأزكاها وأتمها [وأعمها] (¬1). الوجه الرابع والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر المأمومين أن يُصَلّوا قعودًا إذا صلى إمامهم قاعدًا (¬2)، وقد تواتر عنه ذلك، ولم يجيء عنه ما ينسخه، وما ذاك إلا سدًّا لذريعة مُشَابهة الكفار حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود كما علَّله (¬3) صلوات اللَّه وسلامه عليه [وعلى آله] (¬4)، وهذا التعليل منه يبطل قول من قال: إنه منسوخ، مع أن ذلك دعوى لا دليلَ عليها (¬5). الوجه الخامس والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر المصلي [بالليل] إذا نعس أن يذهب فليرقد، وقال: لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه (¬6)، فأمره بالنوم لئلا تكون صلاته ¬

_ = وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (667)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 99)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 105)، والبيهقي (3/ 217) من طرق عن الأجلح -يحيى بن عبد اللَّه- عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس مرفوعًا به. قال البوصيري (2/ 150): هذا إسناد فيه الأجلح مختلف فيه، ضعفه أحمد وأبو حاتم والنسائي وأبو داود وابن سعد، ووثقه ابن معين والعجلي ويعقوب بن سفيان. وقد حسنه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (139). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك) والمثبت من سائر الأصول. وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثامن في (ق) و (ن). (¬2) ورد من حديث أبي هريرة: رواه البخاري (732) في (الأذان): باب إقامة الصّف من تمام الصلاة، و (734) في باب إيجاب التكبير وافتتاح الصلاة، ومسلم (414) في (الصلاة): باب ائتمام المأموم بالإمام، و (415) في باب النهي عن مبادرة الإمام بالتكبير وغيره. ومن حديث عائشة رواه البخاري (688) و (1113) و (1236) و (5658)، ومسلم (412)، ومن حديث أنس بن مالك: رواه البخاري (378)، وأطرافه هناك، ومسلم (411). وعن جمع من الصحابة أيضًا كلها فيها: "وإذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا. . . ". وفي (ك): "الإمام" بدل "إمامهم". (¬3) في (ن) و (ق) و (ك): "علل به". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) انظر: "زاد المعاد" (2/ 97)، وإغاثة اللهفان" (1/ 367)، وهذا الوجه جاء في (ق) و (ن) مكان الوجه الثاني عشر. (¬6) رواه البخاري (212) في "الوضوء": باب الوضوء من النوم، ومسلم (786) في (صلاة المسافرين): باب أمر من نعس في صلاته بأن يرقد، من حديث عائشة، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

في تلك الحال ذريعة إلى سبِّه لنفسه، وهو لا يشعر لغلبة النوم (¬1). الوجه السادس والأربعون: أن الشارع نَهَى أن يَخْطب الرجل على خِطْبة أخيه (¬2) [أو يَسْتَام على سَوْم أخيه] (¬3) أو يبيع على بيع أخيه (¬4)، وما ذاك إلا أنه (¬5) ذريعة إلى التباغض والتعادي؛ فقياسُ هذا أنه لا يستأجر على إجارته ولا يخطب ولاية ولا (¬6) منصبًا على خطبته، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه (¬7). الوجه السابع والأربعون: أنه نهى عن البَوْل في الجُحْر (¬8)، وما ذاك إلا لأنه ¬

_ (¬1) وجاء في (ق) و (ن) هذا الوجه مكان الوجه الثامن والثمانين. (¬2) ورد من حديث ابن عمر: رواه البخاري (5142) في (النكاح): باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، ومسلم (1412) في (النكاح)، و (ص 1154) في "البيوع": باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. ومن حديث أبي هريرة: رواه البخاري (2140) في (البيوع): باب لا يبيع على بيع أخيه، و (2723) في (الشروط): باب ما لا يجوز من الشروط في النكاح، و (5144) في (النكاح): باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، ومسلم (1430) في (النكاح): باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه حتى يأذن أو يترك و (1515) في (البيوع): باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه. وفي الباب أيضًا عن عقبة بن عامر: رواه مسلم (1414). (¬3) هو جزء من حديث أبي هريرة السابق، ورد في بعض طرقه عند البخاري (2727) في (الشروط): باب الشروط في الطلاق، ومسلم (1413) (54) في (النكاح)، و (1515) (9) و (10) في (البيوع). وقال (و): "المساومة: المجاذبة بين البائع والمشتري على السلعة، وفصل ثمنها، يقال: سام يسوم سومًا، ومساوم واستام، والنهي عنه أن يتساوم المتبايعان في السلعة ويتقارب الانعقاد، فيجيء رجل آخر يريد أن يشتري تلك السلعة، ويخرج من يد المشتري الأول بزيادة على ما استقر عليه الأمر بين المتساومين، ورضيا به قبل الانعقاد" اهـ. وما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬4) هو جزء من حديث أبي هريرة السابق: ورد في بعض طرقه في "صحيح البخاري" (2140) (2160) في "البيوع": باب لا يشتري حاضر لباد بالسَمْسَرة، و (2723)، ومسلم (1413) و (1515). وفي الباب عن عقبة بن عامر: رواه مسلم (1414). (¬5) في (ك): "لأنه". (¬6) في (ق): "أو". (¬7) انظر: "تهذيب السنن" (3/ 25، 194)، و"زاد المعاد" (4/ 163) فإنه مهم، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الخامس عشر. (¬8) رواه أحمد (5/ 82). وأبو داود (29) في (الطهارة): باب النهي عن البول في الجُحْر، =

قد يكون ذريعة إلى خروج حيوانٍ يؤذيه (¬1)، وقد يكون من مساكن الجِنِّ فيؤذيهم بالبول، فربما آذوه (¬2). الوجه الثامن والأربعون: أنه نهى عن البراز في قارعة الطريق والظل والمَوارِدِ؛ لأنه ذريعة لاستجلاب اللعن كما علل به -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "اتَّقُوا المَلَاعِنَ الثلاث"، وفي لفظ: "اتقوا اللَّاعِنَيْنِ، قالوا: وما اللاعنان يا رسول اللَّه؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس، و [في] ظلِّهم" (¬3). الوجه التاسع والأربعون: أنه نهاهم إذا أُقيمت الصلاة أن يقوموا حتى يَرَوْه ¬

_ = والنسائي (1/ 33) في (الطهارة): باب كراهية البول في الجحر، والحاكم (1/ 186)، والبيهقي (1/ 99) من طريق قتادة عن عبد اللَّه بن سرجس. قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولعل متوهمًا يتوهم أن قتادة لم يذكر سماعه من عبد اللَّه بن سرجس، وليس هذا بمستبعد فقد سمع قتادة من جماعة من الصحابة لم يسمع منهم عاصم بن سليمان الأحول، وقد احتج مسلم بحديث عاصم عن عبد اللَّه بن سرجس، وهو من ساكني البصرة"، ووافقه الذهبي. أقول: اختلف في سماع قتادة من عبد اللَّه بن سرجس. قال أحمد بن حنبل: ما أعلم قتادة سمع من أحد من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا من أنس بن مالك، قيل له: فعبد اللَّه بن سرجس فكأنه لم يرَ سماعًا. وأما أبو زرعة فقد أثبت سماعه من عبد اللَّه بن سرجس. (¬1) في (ق): "إلى خروج الحيوان الذي يؤذيه". (¬2) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (19/ 40 - 43)، و"إيضاح الدلالة" (2/ 128 - ضمن "مجموعة الرسائل المنيرية") وكتابي "فتح المنان" (1/ 34 - 35). وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه السابع والثمانين. (¬3) قوله: "اتقوا الملاعن الثلاث"، ورد من حديث ابن عباس، رواه أحمد (1/ 299)، وأعله الحافظ في "التلخيص" (1/ 105)، والهيثمي في "المجمع" (1/ 204) بابن لهيعة، وفيه راو لم يسم. ومن حديث معاذ بن جبل: رواه أبو داود (26)، وابن ماجه (328)، والحاكم (1/ 167)، والبيهقي (1/ 97)، والمزي في "تهذيب الكمال" (33/ 354)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وكذا صححه ابن السكن، قال ابن حجر (1/ 105): وفيه نظر، لأن أبا سعيد الحميري لم يسمع من معاذ، وأبو سعيد هذا نفسه مجهول. رواه مسلم (269) في (الطهارة): باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال، من حديث أبي هريرة ولفظه: "اتقوا اللَّعَّانَيْن. . . ". وانظر مفصلًا: "التلخيص" (1/ 105)، و"إرواء الغليل" (1/ 100 - 102)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق)، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه السادس والثمانين.

قد خرج (¬1)؛ لئلا يكون [ذلك] (¬2) ذريعة إلى قيامهم لغير اللَّه، وإن (¬3) كانوا إنما يقصدون القيامَ للصلاة، لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة ولا مصلحة فيها فنهاهم عنه (¬4). الوجه الخمسون: أنه نَهَى أن تُوصَلَ صلاة بصلاة الجمعة حتى يتكلَّم أو يخرج لئلا يتخذ ذريعة إلى تغيير الفَرْض، وأن يُزاد فيه ما ليس منه، قال السائب بن يزيد: صلَّيتُ الجمعة في المَقْصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصلَّيت، فلما دخل معاوية أرسل إليّ، فقال: لا تَعُد لما فعلت، إذا صليتَ الجمعةَ فلا تَصِلْهَا بصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بذلك؛ ألَّا توصل الصلاة حتى يتكلم أو يخرج (¬5). الوجه الحادي والخمسون: أنه أمر من صلى في رَحْله ثم جاء إلى المسجد أن يصلي مع الإمام وتكون له نافلة (¬6)؛ لئلا يتخذ قعوده والناس يصلون ذريعة إلى ¬

_ (¬1) رواه البخاري (637) في (الأذان): باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة، و (638) باب لا يسعى إلى الصلاة مستعجلًا، وليقم بالسكينة والوقار، و (909) في (الجمعة): باب المشي إلى الجمعة، ومسلم (604) في (المساجد): باب متى يقوم الناس للصلاة، من حديث أبي قتادة. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط في (ك). (¬3) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "ولو". (¬4) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 80 و 4/ 90 - 91)، وفي المطبوع: "فَنُهُوا عنه" و (ك)، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثالث عشر. (¬5) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الجمعة): باب الصلاة بعد الجمعة (رقم 883). (¬6) رواه الطيالسي (1247)، وأحمد (4/ 160 و 161)، وأبو داود (575 و 576) في (الصلاة): باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم، والترمذي (219) في (الصلاة): باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة، والنسائي (2/ 112 - 113) في (الإمامة): باب إعادة الفجر مع الجماعة لمن صلى وحده، وعبد الرزاق (3934)، وابن أبي شيبة (2/ 272)، والدارقطني (1/ 413 - 414 و 414)، وابن حبان (1564) و (2395)، والطبراني (22) (608 - 617)، وابن خزيمة (1279)، والطحاوي (1/ 363)، والحاكم (1/ 244 - 245)، والبيهقي في "الخلافيات" (2/ ق 55/ ب) من طرق عن يعلى عن عطاء عن جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقال الحاكم: هذا حديث رواه شعبة وهشام بن حسّان. . . عن يعلى بن عطاء، وقد احتج مسلم بيعلى بن عطاء. . . ووافقه الذهبي. ونقل الحافظ في "التلخيص" (2/ 29) إعلاله عن الشافعي، والبيهقي وأجاب عن ذلك. وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه التاسع والثمانين.

إساءة الظن به، وأنه ليس من المصلين (¬1). الوجه الثاني والخمسون: أنه نهى أن يسمر بعد العشاء الآخرة إلا لمصلٍّ أو مسافر (¬2). ¬

_ (¬1) وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه التسعين. (¬2) الحديث يرويه خيثمة بن عبد الرحمن، وقد اختلف عليه. رواه عنه منصور، واختلف عنه أيضًا. فقد رواه شعبة عن منصور عن خيثمة عن ابن مسعود: أخرجه الطيالسي في "مسنده" (294 - منحة أو رقم 365 - ط الأخرى) -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 121) - وأحمد (1/ 412 و 463)، والشاشي (820، 821)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده" (864 - زوائده)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 121) من طرق عنه به. وتابع شعبة عمرو بن أبي قيس، أخرجه الخطيب البغدادي (14/ 286) عن منصور به. وهذا إسناد منقطع؛ خيثمة لم يسمع من ابن مسعود. ورواه جرير عن منصور عن خيثمة عن رجل عن ابن مسعود، أخرجه أحمد (1/ 379)، وأبو يعلى (5378)، وتابعه سفيان الثوري، أخرجه أحمد (1/ 379، 444)، وعبد الرزاق (2135)، والبيهقي (1/ 452)، وأبو نعيم في "تسمية ما انتهى إلينا من الرواة عن أبي نعيم الفضل بن دكين عاليًا" (رقم 55)، وتابعه أبو عوانة. رواه ابن نصر في "قيام الليل" (115)، وهذا إسناد ضعيف لإبهام هذا الرجل. وله طريق آخر عن منصور موصول. رواه الطبراني في "معجمه الكبير" (10519)، و"الأوسط" (5721)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 198) من طريق إبراهيم بن يوسف عن سفيان بن عيينة عن منصور عن حبيب بن أبي ثابت عن زياد بن حُدَير عن ابن مسعود به. قال الهيثمي (1/ 314 - 315): ورجال الجميع ثقات. أقول: إبراهيم بن يوسف هذا تكلم فيه النسائي، وقال موسى بن إسحاق: ثقة، وقال محمد الحضرمي: (صدوق)، وحبيب بن أبي ثابت مدلس، وعلى كل حال فهذا يقوي الطريق السابق. والحديث رمز السيوطي لحسنه في "الجامع الصغير". وصححه شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" رقم (2435)، وله شاهد موقوف على عائشة قالت: السمر لثلاثة: لعروسٍ أو مسافرٍ أو متهجدٍ بالليل. رواه أبو يعلى (4879) قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 314): ورجاله رجال الصحيح. ويجوز السمر في أمر المسلمين، انظر "الصحيحة" (2781). وأما النهي عن السمر بعد العشاء مطلقًا دون استثناء فهذا ثابت في "الصحيح" من حديث أبي برزة الأسلمي، رواه البخاري (547 و 568 و 599 و 771)، ومسلم (647)، وانظر: "مجمع الزوائد" (1/ 314 - 315).

وكان يكره النوم قبلها والحديثَ بعدها (¬1)، وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعة إلى تفويتها، والسمر بعدها ذريعة إلى تفويت قيام الليل، فإن عارَضَهُ مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره (¬2). الوجه الثالث والخمسون: [أنه نهى] (¬3) النساء إذا صَلَّيْنَ مع الرجال أن يرفعن رءوسهن قبل الرجال (¬4)؛ لئلا يكون ذريعة منهن إلى رؤية عَوْرات الرجال من وراء الأزر كما جاء التعليل بذلك في الحديث (¬5). الوجه الرابع والخمسون: أنه نهى الرجل أن يتخطَّى المسجد الذي يليه إلى غيره كما رواه بقية عن المجاشع بن عمرو، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتخطاه إلى غيره" (¬6)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (547) في (مواقيت الصلاة): باب وقت العصر، و (568) في باب ما يكره من النوم قبل العشاء، و (599) في ما يكره من السمر بعد العشاء، و (771) في (الأذان): باب القراءة في الفجر، ومسلم (647) في (المساجد ومواضع الصلاة): باب استحباب التكبير بالصبح. . . من حديث أبي برزة الأسلمي. (¬2) وجاء هذا الوجه مكان الوجه الحادي والتسعين في (ق) و (ن). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "نهيه". (¬4) رواه البخاري (362) في (الصلاة): باب إذا كان الثوب ضيِّقًا، و (814) في (الأذان): باب عقد الثياب وشدها، و (1215) في (العمل في الصلاة): باب إذا قيل للمصلي: تقدم أو انتظر فانتظر؛ فلا بأس، ومسلم (441) في "الصلاة": باب أمر النساء المصليات وراء الرجال أن لا يرفعن رؤوسهنّ من السجود حتى يرفع الرجال، من حديث سهل بن سعد، لكن لفظه يوهم أن القائل قد يكون غير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬5) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثالث والتسعون. وقد ورد الحديث صريحًا من قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرفوعًا من حديث أسماء: رواه عبد الرزاق (5109)، وأحمد (6/ 348)، وأبو داود (836)، والطبراني في "الكبير" (24/ 260 و 261 و 262 و 263)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 217). (¬6) رواه ابن عدي في "الكامل" (6/ 2450) من الطريق الذي ذكره المصنف. ورواه ابن عدي أيضًا، وتمام في "فوائده" (280) من طريق آخر عن بقية عن مجاشع: حدثني منصور عن عبيد اللَّه بن عمر به، فزاد "منصور" في إسناده. وإسناده ضعيف جدًا بل أشد، مجاشع بن عمرو هذا قال فيه ابن معين: "أحد الكذابين". وقال البخاري: منكر مجهول، وقال العقيلي: حديثه منكر غير محفوظ. قلت: ومجاشع هذا توبع، فقد رواه الطبراني في "الكبير" (13373) و"الأوسط" (5176): حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الترمذي: حدثنا عبادة بن زياد الأسدي: حدثنا زهير بن معاوية عن عبيد اللَّه بن عمر به. =

وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه وإيحاش صدر الإمام، فإن كان الإمام لا يتم الصلاة أو يُرمى ببدعة [أو يُعلن بفجور] فلا بأس بتخطيه إلى غيره (¬1). الوجه الخامس والخمسون: أنه نهى الرجل بعد الأذان أن يخرج من المسجد حتى يصلي لئلا يكون خروجه ذريعة إلى اشتغاله عن الصلاة جماعةً، كما قال عمار لرجل رآه قد خرج بعد الأذان: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم" (¬2). الوجه السادس والخمسون: أنه نهى عن الاحتباء يوم الجمعة (¬3) كما رواه أحمد في "مسنده" من حديث سهل بن معاذ عن أبيه: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الاحتباء يوم الجمعة (¬4) "،. . . . . . ¬

_ = قال الهيثمي (2/ 24): ورجاله موثقون إلا شيخ الطبراني لم أجد له ترجمة. قلت: بل ترجمه الخطيب في "تاريخه" (1/ 365 - 366)، ووثقه الخطيب، والدارقطني، وقال أحمد بن كامل القاضي: كان قد اختلط في آخر عمره اختلاطًا عظيمًا. وله إسناد آخر عن ابن عمر، رواه العقيلي في "الضعفاء" (3/ 432) من طريق حبيب بن غالب عن العوام بن حوشب عن إبراهيم التيمي عن ابن عمر، كذا سمّاه العقيلي "حبيب"، وسمّاه البخاري في "التاريخ الصغير" (184) "غالب بن حبيب"، وقال: منكر الحديث. قال العقيلي: ولا أحسب الخطأ إلا في البخاري وقد روي هذا الحديث من وجه أصلح من هذا. والحديث ذكره شيخنا الألباني في "الصحيحة" (2200)!! (¬1) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 82 - 83) في حكم هذا الفعل، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) وجاء هذا الوجه مكان الوجه السادس عشر في (ق) و (ن). (¬2) رواه مسلم (655) في (المساجد): باب النهي عن الخروج من المسجد إذا أذن المؤذن، من حديث أبي هريرة، وليس عن عمار (!!) كما قال المصنف. وجاء في هامش (ق): "لعله أبو هريرة". وهذا الوجه في (ق) و (ن) جاء مكان الوجه الثاني والتسعين. (¬3) "الاحتباء: هو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره أو يشده عليهما، وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب" (و). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 438)، وأبو داود (1110) في (الجمعة): باب الاحتباء يوم الجمعة، والترمذي (514) في (أبواب الجمعة): باب ما جاء في كراهية الاحتباء والإمام يخطب، وأبو يعلى في "مسنده" (1492) و (1496)، وابن خزيمة (1815)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2905)، والحاكم (1/ 289)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (13/ 4604 رقم 1730)، والطبراني في "الكبير" (20/ 384)، والبيهقي (3/ 235) كلهم =

وما ذاك إلا [أنه] ذريعة إلى النوم (1). الوجه السابع والخمسون: أنه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا (¬2)، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتَشَوُّفهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها؛ فأمرها أن تخرج تَفِلةً (¬3)، ¬

_ = من طريق أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون عن سهل بن معاذ عن أبيه به. قال الترمذي: "حديث حسن" أقول: وهذا إسناد فيه مقال، عبد الرحيم بن ميمون: ضعفه ابن معين، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وتابع عبد الرحيم بن ميمون زَبَّانُ بن فائد، رواه ابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص 297)، وزبان ضعيف، وفي سنده أيضًا رشدين بن سعد وهو ضعيف أيضًا. وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. رواه ابن ماجه (1134) من طريق بقية بن الوليد عن عبد اللَّه بن واقد عن محمد بن عجلان عنه به. قال البوصيري: "هذا إسناد ضعيف؛ بقية هو ابن الوليد مدلس، وشيخه، إن كان الهروي فقد وثق، وإلا فهو مجهول، وله شاهد من حديث أنس بن مالك". أقول: عبد اللَّه بن واقد هذا ترجمه الحافظ ابن حجر في "التهذيب"، وذكر حديثه هذا، وقال: "عبد اللَّه بن واقد يحتمل أن يكون الهروي أو أبا قتادة الحراني أو غيرهما". قلت: -القائل ابن حجر-: أما الحراني فيصغر عن إدراك محمد بن عجلان، فبقي الهروي على الاحتمال. (تنبيه): نقل محمد فؤاد عبد الباقي في تعليقه على "سنن ابن ماجه" كلام البوصيري هكذا. . . وشيخه وإن كان الترمذي (!!) قد وثقه وإلا فهو مجهول" وهذا تحريف قبيح، ويقع له كثيرًا مثل هذا. وقول البوصيري: له شاهد من حديث أنس بن مالك وَهْمٌ، وإنما هو من حديث معاذ المذكور قبل. وله شاهد أيضًا؛ لكنه لا يفرح به: رواه ابن عدي (4/ 1505) من حديث جابر، وفي إسناده عبد اللَّه بن ميمون القداح، قال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الرابع والتسعين، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) روى ذلك مسلم (443) في (الصلاة): باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة، من حديث زينب الثقفية امرأة ابن مسعود. ونحوه أيضًا ما رواه مسلم (444) من حديث أبي هريرة. (¬3) روى عبد الرزاق (5121)، وابن أبي شيبة (2/ 276)، وأحمد في "مسنده" (2/ 438 و 475 و 528)، والحميدي (978)، والدارمي (1/ 293)، وأبو داود (565) في الصلاة: باب ما جاء في خروج النساء إلى المسجد، وابن الجارود (332)، وابن خزيمة =

وأن لا تتطيب، وأن تقف خلف الرجال (¬1)، وأن لا تسبح في الصلاة إذا نابها شيء، بل تصفّق ببطن كفها على ظهر الأخرى (¬2)، كل ذلك سدًا للذريعة وحماية عن المفسدة (¬3). الوجه الثامن والخمسون: أنه نهى أن تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظرُ إليها (¬4)، ولا يخفى أنَّ ذلك [سدٌ للذريعة وحماية عن مفسدة] (¬5) وقوعها في قلبه ومَيْله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحَبَّ غيره بالوصف قبل الرؤية. الوجه التاسع والخمسون: أنه نهى عن الجلوس بالطرقات، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر [إلى] (¬6) المحرم، فلما أخبروه أنه لا بد لهم من ذلك، قال: أعْطُوا الطريقَ حقّه، قالوا: وما حقّه؟ قال: غضُّ البَصَر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام (¬7). ¬

_ = (1679)، وابن حبان (2214)، والبيهقي (3/ 134) من طرق عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تمنعوا إماء اللَّه مساجد اللَّه، وليخرُجن تَفِلات" وهذا إسناد حَسَن، وله شاهد من حديث زيد بن ثابت. وتفلة: "تاركة للطيب" (و). (¬1) وقوف المرأة خلف الرجال ثابت في أحاديث كثيرة، منها حديث أنس رواه البخاري (380) في الصلاة: باب الصلاة على الحصير -وأطرافه هناك- ومسلم (658) في الصلاة: باب جواز الجماعة في النافلة. (¬2) ورد التصفيق للنساء في أحاديث منها: حديث أبي هريرة: رواه البخاري (1203) في (العمل في الصلاة): باب التصفيق للنساء، ومسلم (422) في (الصلاة): باب تسبيح الرجل وتصفيق المرأة. وحديث سهل بن سعد: رواه البخاري (684) في (الأذان): باب من دخل ليؤم الناس، فجاء الإمام الأول، ومسلم (421) في (الصلاة): باب تقديم الجماعة من يصلي بهم إذا تأخر الإمام. وليس في الأحاديث وصف التصفيق، وإنما هو من أحد الرواة. (¬3) جاء هذا الوجه مكان الوجه السابع والثلاثين في (ق) و (ن). (¬4) رواه البخاري (5240 و 5241) في (النكاح): باب لا تباشر المرأة المرأة فتنعتها لزوجها، من حديث ابن مسعود. وفي الباب عن جابر، خرجته في "المجالسة" (رقم 3524)، وعن أبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، خرجتهما في تعليقي على "تالي التلخيص" (268). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ن) و (ق): "سدًا للذريعة"، وبدلها في (ك): "سدًا لذريعة المفسدة"، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثامن والثلاثين في (ق) و (ن). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) ورد من حديث أبي سعيد الخدري: رواه البخاري (3465) في (المظالم): باب أفنية =

الوجه الستون: أنه نهى أن يبيت الرجلُ عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا [رَحِمٍ] مَحْرَم (¬1)، وما ذاك إلا لأن المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى المحرَّم. الوجه الحادي والستون: أنه نهى أن تُبَاع السَّلعُ حيث تباع حتى تنقل عن مكانها (¬2)، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جَحْد البائع البيعَ وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها، فيغرُّه (¬3) الطمع، وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع. وأكد هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يُضْمَن (¬4)، وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسدِّ الذرائع (¬5). ¬

_ = الدور والجلوس فيها، و (6229) في (الاستئذان): باب قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}، ومسلم (2121) في (اللباس والزينة): باب النهي عن الجلوس في الطرقات، وإعطاء الطريق حقه. وفي الباب عن أبي هريرة أيضًا: رواه أبو داود (4816)، وعن البراء بن عازب: رواه أحمد (4/ 282 و 296 و 301)، والترمذي (2726)، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الأربعين. (¬1) رواه مسلم (2171) في (السلام): باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها، من حديث أبي الزبير عن جابر، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا لا يبيتنّ رجل عند امرأة ثيِّب، إلا أن يكون ناكحًا أو ذا مَحْرَم"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثالث والثلاثين في (ق) و (ن). (¬2) رواه البخاري (2123) في (البيوع): باب ما ذكر في الأسواق، و (2131) باب ما يذكر في بيع الطعام والحُكرة، و (2137) باب من رأى إذا اشترى طعامًا جُزافًا أن لا يبيعه حتى يؤويه إلى رحله، و (2166 و 2167) باب منتهى التلقي، و (6852) في الحدود: باب كم التعزير والأدب، ومسلم (1527) (37) و (38) في (البيوع): باب بطلان المبيع قبل القبض، من حديث ابن عمر، وفي (ق): "من مكانها". (¬3) في (ك): "فيغيره"، وفي (ق): "فيغريه". (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 178 - 179 و 205)، والطيالسي (2257)، وأبو داود (3504) في (البيوع): باب في الرجل يبيع ما ليس عنده، والترمذي (1237) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي في "المجتبى" (7/ 295)، وفي "الكبرى" (6226) و (6227) في (البيوع): باب سلف وبيع، وباب شرط في بيع، وابن ماجه (2188) في (التجارات): باب النهي عن بيع ما ليس عندك، والدارمي (2/ 253)، وابن الجارود (601)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 46)، والدارقطني (3/ 75)، وابن عدي في "الكامل" (678/ 2) و (5/ 1736 و 1767)، والطبراني في "الأوسط" (1554)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (5/ 313 و 343 و 348) من طرق كثيرة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو حديث جيد. (¬5) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 130 - 137)، و"بدائع الفوائد" (4/ 56). =

الوجه الثاني والستون: أنه نهى عن بَيْعتين في بيعة (¬1)، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر، وهو الذي لعاقده أوْكَسُ (¬2) البيعتين أو الربا في الحديث الثالث، وذلك سدًا لذريعة الرِّبا؛ فإنه إذا باعه السلعة بمئتين مؤجّلة ثم اشتراها منه بمئة حالَّة (¬3) فقد باع بيعتين في بيعة، فإنْ أَخَذَ بالثمن الزائد أخذ بالربا (¬4)، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، وأبعد (¬5) كلَّ البُعد من حمل الحديث على البيع بمئة مؤجلة أو خمسين حالَّة (¬6)، وليس هنا (¬7) ربا ولا جهالة ولا غَرَر ولا قِمار ولا شيء من المفاسد؛ فإنه خَيَّره بين أي الثمنين شاء، وليس هذا بأبعدَ من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام (¬8)، ¬

_ = وفي (ق) و (ك): "سد الذرائع"، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثمانين. (¬1) بهذا اللفظ رواه أحمد في "مسنده" (2/ 432 و 475 و 503)، والدارمي (1379)، والترمذي (1231) في (البيوع): باب النهي عن بيعتين في بيعة، والنسائي (7/ 295 - 296) في (البيوع): باب بيعتين في بيعة، وفي "الكبرى" (6228)، وأبو يعلى (6124)، وابن الجارود (600)، وابن حبان (4973)، والبيهقي (5/ 343)، والبغوي (2111) من طرق عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده حسن. ورواه محمد بن عمير عن أبي هريرة، كما عند البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 194 - 195)، والنسائي في "الكبرى" (9750) و (9752) -لكن ليس عنده موطن الشاهد من الحديث-، والخطيب في "تالي التلخيص" (305)، وقال النسائي: وهذا منكر، ابن عمير مجهول، كما في "تحفة الأشراف" (10/ 365)، وسقط في مطبوع النسائي. وله لفظ آخر: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا"، رواه ابن أبي شيبة (6/ 120)، وأبو داود (3461) في (البيوع)، وابن حبان (4974)، والحاكم (2/ 45)، والبيهقي (3/ 343) من الطريق السابق. وبمعناه: "ولا شرطان في بيع"، وقد تقدم تخريجه. وانظر: "تهذيب السنن" (5/ 106 مهم، 144 - 149)، وقد خرج الحديث وتكلم على فقهه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (5/ رقم 2326)، فراجعها. (¬2) قال (و): ". . . وأوكس من الوكس كالوعد: النقصان، والتنقيص لازم ومتعد. . . " اهـ. (¬3) كذا في (ق) وهو الصواب، وفي سائر الأصول: "فإنه إذا باعه السلعة بمئة مؤجلة ثم اشتراها منه بمئتين حالة"!! (¬4) في (ق): "الربا". (¬5) في (ق): "وَبَعُد" مجودة. (¬6) هذا تصريح من الإمام ابن القيم بمشروعية (بيع التقسيط) المشهور اليوم، وعليه جماهير العلماء، وعليه مآخذ ومناقشات، انظرها في "السلسلة الصحيحة" (تحت حديث رقم 2326). (¬7) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "ههنا". (¬8) انظر: النص الوارد في ذلك وتخريجه.

وأيضًا فإنه فرق بين عقدين كل منهما ذريعة ظاهرة جدًا إلى الربا -وهما السلف والبيع، والشرطان في البيع (¬1) - وهذان (¬2) العقدان بينهما من النَّسَب والإخاء والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضي الجمع بينهما في التحريم، فصلوات اللَّه وسلامه على مَنْ كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور (¬3). الوجه الثالث والستون: أنه أمر أن يُفرَّق بين الأولاد في المَضَاجَع، وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فِرَاشٍ واحد (¬4)؛ لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نَسْج الشيطان بينهما المُواصَلَة المُحرَّمة بواسطة (¬5) اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول، والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضًا من ألطف سد الذرائع (¬6). الوجه الرابع والستون: أنه نهى أن يقول الرجل: خَبُثَتْ نَفْسي، ولكن ليقُلْ: لَقِسَتْ نفسي (¬7)، سدًا لذريعة اعتياد اللسان للكلام الفاحش، وسدًا لذريعة اتصاف ¬

_ (¬1) النهي عن سلف وبيع، وعن شرطين في بيع ثابت في الحديث السابق المخرج في الصفحة الماضية في النهي عن ربح ما لم يضمن. (¬2) في (و): "ولهذان"! (¬3) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 105، 144 - 159)، و"زاد المعاد" (4/ 262)، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثامن والسبعين. (¬4) هو جزء من حديث رواه أحمد (2/ 180 و 187)، وفي "العلل" رواية ابنه عبد اللَّه (1/ 48 - 49)، وابن أبي شيبة (1/ 347)، وأبو داود (495) في (الصلاة): باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، والعقيلي (2/ 167 - 168)، والدولابي في "الكنى" (1/ 159)، والدارقطني (1/ 230)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 197)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 26)، والبيهقي في "سننه" (2/ 229) و (3/ 84)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 278) من طرق عن سَوَّار بن حمزة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا، وسوار بن حمزة، قال فيه أحمد: لا بأس به، ووثقه ابن معين، وتكلم فيه الدارقطني والعقيلي وابن حبان، وقال العقيلي بعد روايته للحديث: لا يتابع عليهما جميعًا بهذا الإسناد. أقول: قد توبع سوّر على هذا. فرواه ابن عدي في "الكامل" (3/ 929)، والبيهقي (2/ 229) من طريق ليث بن أبي سُليم عن عمرو به، وليث ضعيف، لكنهما يقويان بعضهما بعضًا. (¬5) في (ك): "بواصلة". (¬6) وجاء هذا الوجه مكان الوجه الرابع والثلاثين في (ق) و (ن). (¬7) رواه البخاري (6179) في (الأدب): باب لا يقل خبثت نفسي، ومسلم (2250) في (الألفاظ من الأدب): باب كراهية قول الإنسان: خبثت نفسي، من حديث عائشة. وقوله: "لقست: غثت، واللقس: الغثيان" (و).

النفس بمعنى هذا اللفظ؛ فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى، ولهذا قل من تجده يعتاد لفظًا إلا ومعناه غالبٌ عليه، فسدّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذريعة الخبث لفظًا ومعنى وهذا أيضًا من ألطف الباب (¬1). الوجه الخامس والستون: أنه نهى أن يقول الرجل لغلامه وجاريته: عبدي، وأمَتِي، ولكن يقول: فَتَاي، وفتاتي (¬2)، ونهى أن يقول لغلامه: وَضِّيء ربك، أطعم ربك (¬3)، سدًا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى، وإن كان الربُّ هاهنا هو المالك كرب الدار ورب الإبل؛ فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفَتَى والفَتَاة، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد، حماية لجانب التوحيد (¬4) وسدًا لذريعة الشرك (¬5). الوجه السادس والستون: أنه نهى المرأة أن تسافر بغير مَحْرَم (¬6)، وما ذلك إلا لأن سَفَرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطَّمعِ فيها والفجورِ بها (¬7). الوجه السابع والستون: أنه نهى عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم فيما يُحدِّثون به (¬8)؛ لأن تصديقهم قد يكون ذريعة إلى التصديق بالباطل وتكذيبهم قد ¬

_ (¬1) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الخامس والتسعين. (¬2) قطعة من الحديث الآتي. (¬3) رواه البخاري (2552) في (العتق): باب كراهية التطاول على الرقيق، وقوله: عبدي أو أمتي، ومسلم (2249) في (الألفاظ من الأدب): باب حكم إطلاق لفظ العبد والأمة، من حديث أبي هريرة رفعه: "لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، اسق ربك، وليقل: سيدي، ومولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي". (¬4) في (ق): "لجنا". (¬5) وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه التاسع. (¬6) سبق تخريجه بلفظ: "لا يحل لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر. . . إلخ". (¬7) جاء هذا الوجه مكان الوجه الخامس والثلاثين في (ق) و (ن). (¬8) رواه البخاري (4485) في (التفسير): باب {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا}، و (7362) في (الاعتصام): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تسألوا أهل الكتاب عن شي"، و (7542) في (التوحيد): باب ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وروايته عن ربه، من حديث أبي هريرة. ولعل أصرح من حديث أبي هريرة ويوافق ما قاله المؤلف من التعليل في الحديث نفسه، حديث أبي نملة الأنصاري، الذي رواه عبد الرزاق (20059)، وأحمد (4/ 136)، وأبو داود (3644) في (العلم): باب في رواية حديث أهل الكتاب، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (4/ 140 - 141 رقم 2121)، والدولابي في "الكنى =

يكون ذريعة إلى التكذيب بالحق، كما عَلَّل به في نفس الحديث (¬1). الوجه الثامن والستون: أنه نهى أن يُسمِّي [عبده] بأفْلَح ونَافع وَرَبَاح وَيسَار (¬2)؛ لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى ما يكره من الطيرة بأن يقال: ليس هاهنا يسار، ولا رباح، ولا أفلح، وإن كان إنما قصد اسمَ الغلام، ولكن سدًا لذريعة (¬3) اللفظ المكروه الذي يستوحشُ منه السامعُ. الوجه التاسع والستون: [أنه نهى] الرِّجال عن الدخول على النِّساء (¬4) لأنه ذريعة ظاهرة. الوجه السبعون: أنه نهى أن يسمى باسم بَرَّة (¬5)؛ لأنه ذريعة إلى تزكية النفس بهذا الاسم، وإن كان إنما قصد العَلَميَّة (¬6). ¬

_ = والأسماء" (1/ 58)، وابن منده وابن السكن والحارث بن أبي أسامة -كما في "الإصابة" (7/ 417) -، وابن حبان (6257)، والطبراني في "الكبير" (22) (874 - 879)، والبيهقي (2/ 10)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ 3036 رقم 7033، 7034)، وفيه: "فإن كان حقًا لم تكذبوهم، دمان كان باطلًا لم تصدِّقوهم"، وإسناده جَيِّد، وفي (ك): "تحدثونا به". (¬1) جاء هذا الوجه مكان الوجه الرابع والعشرين في (ق) و (ن). (¬2) رواه مسلم (2136 و 2137) في "الآداب": باب كراهية التسمية بالأسماء القبيحة وبنافع ونحوه، من حديث سَمُرَة بن جندب، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق) و (ك): "سد ذريعة" وجاء هذا الوجه مكان الوجه السادس والستين في (ق) و (ن). (¬4) رواه البخاري (5232) في (النكاح): باب لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا ذو محرم، ومسلم (2172) في (السلام) باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها من حديث عقبة بن عامر. وفي الباب أيضًا عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: رواه مسلم (2173)، وعن جابر وقد تقدم، وعن ابن عباس: رواه البخاري (1862)، و (3006)، و (5233)، ومسلم (1341)، وبدل ما بين المعقوفتين في (ق): "نهيه" وجاء هذا الوجه مكان الوجه السادس والثلاثين في (ق) و (ن). (¬5) ورد هذا من حديث أبي هريرة: رواه البخاري (6192) في (الأدب): باب تحويل الاسم إلى اسم أحسن منه، ومسلم (2141) في (الآداب): باب استحباب تغيير الاسم القبيح إلى حسن. ومن حديث ابن عباس: رواه مسلم (2140)، ومن حديث زينب بنت أم سلمة: رواه مسلم أيضًا (2142). (¬6) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه السابع والتسعين.

الوجه الحادي والسبعون: أنه نهى عن التداوي بالخَمْر (¬1) وإن كانت مصلحة التداوي راجحة على مفسدة ملابستها، سدًا لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها، فحَسَمَ عليها المادة حتى في تناولها على وجه التداوي (¬2) وهذا من أبلغ سد الذرائع (¬3). الوجه الثاني والسبعون: أنه نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث (¬4)؛ لأن ذلك ذريعة إلى حزنه وكسر قلبه وظنِّه السُّوء (¬5). الوجه الثالث والسبعون: [أن اللَّه] (¬6) حرَّم نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة إذا لم يخش العَنَت؛ لأن ذلك ذريعة إلى إرقاق ولده، حتى لو كانت الأمة من الآيسات من الحَبَل والولادة لم تحلُّ له سدًا للذريعة، ولهذا (¬7) منع الإمام أحمد الأسير والتاجر أن يتزوج (¬8) في دار الحرب خشية تعرض (¬9) ولده للرق، وعللَّه [هو] بعلة أخرى، وهي أنه قد لا يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته (¬10). الوجه الرابع والسبعون: أنه نهى أن يوردَ ممرضٌ على مُصِحّ (¬11)؛ لأن ذلك ¬

_ (¬1) في هذا أحاديث منها حديث سويد بن طارق: رواه مسلم (1984) في (الأشربة): باب تحريم التداوي بالخمر، ولفظه: "إنها ليست بدواء، ولكنها داء". وانظر: "التلخيص الحبير" (4/ 74). (¬2) في (ن) و (ق) و (ك): "الدواء". (¬3) انظر: كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- في النهي عن التداوي بالخمر، وعلة ذلك في "زاد المعاد" (3/ 114)، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الستين في (ق) و (ن). (¬4) رواه البخاري (6288) في (الاستئذان): باب لا يتناجى اثنان دون الثالث، ومسلم (2183) في (السلام): باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه، من حديث ابن عمر. ورواه البخاري (6290)، ومسلم (2184)، من حديث ابن مسعود. (¬5) جاء هذا الوجه مكان الوجه السابع عشر في (ق) و (ن). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "أنه". (¬7) في (ك): "من هذا". (¬8) في (ق): "يتزوجا". (¬9) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "تعويض". (¬10) جاء هذا الوجه مكان الوجه التاسع والأربعين في (ق) و (ن) وما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬11) رواه البخاري (5771) في (الطب): باب لا هامة، و (5774) في باب لا عدوى. ومسلم (2221) في (السلام): باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر. وقال (و): "الممرض: الذي له إبل مرضى، فنهى أن يسقي إبله المرضى مع إبل المصح".

قد يكون ذريعة إما إلى إعْدَائِه وإما إلى تأذِّيه بالتوهم والخوف، وذلك سببٌ إلى إصابةِ المكروه له (¬1). الوجه الخامس والسبعون: أنه نهى [أصحابه] (¬2) عن دخول ديار ثمود [إلا أن يكونوا] (¬3) باكين خشية أن يصيبهم [مثل] (3) ما أصابهم (¬4)، فجعل الدخول من غير بكاء ذريعة إلى إصابة المكروه (¬5). الوجه السادس والسبعون: أنه نهى الرجل أن ينظر إلى من فُضِّلَ عليه في المال واللباس (¬6)، فإنه ذريعة إلى ازدرائِه نعمةَ اللَّه عليه واحتقارِه لها، وذلك سببُ الهَلاكِ (¬7). الوجه السابع والسبعون: أنه نهى عن إنزاء الحُمُرِ (¬8) على الخيل (¬9)؛ لأن ¬

_ (¬1) جاء هذا الوجه مكان الوجه الخامس والستون في (ق) و (ن). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) رواه البخاري (433) في (الصلاة): باب الصلاة في مواضع الخَسْف والعذاب، و (3380)، و (3381) في (الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} , و (4419، 4420) في (المغازي): باب نزول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الحِجْر، و (4702) في (تفسير سورة الحجر): باب {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ}، ومسلم (2980) في (الزهد)، باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين، من حديث ابن عمر. (¬5) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه السادس والستين. (¬6) رواه البخاري (6490) في (الرقاق): باب لينظر إلى من هو أسفل منه، ومسلم (2963) في (الزهد): من حديث أبي هريرة وفي لفظه اختلاف. (¬7) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه السابع والستين. (¬8) "حملها عليها للنسل" (و). (¬9) هو حديث علي وله عنه طرق: الأولى: عبد اللَّه بن زُرَير عن علي: رواه أحمد (1/ 100)، وابنه (1/ 158)، وأبو داود (2565) في (الجهاد): باب كراهية الحمر تنزي على الخيل، والنسائي (6/ 224) في (الخيل): باب التشديد في حمل الحمير على الخيل، وابن سعد (1/ 491)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 271)، وفي "مشكل الآثار" (214)، و (215)، والبزار (889)، وابن حبان (4682)، والبيهقي (10/ 22)، كلهم من طرق عن الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عنه به، وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. وتابع الليث: ابنُ لهيعة، رواه أحمد (1/ 158). ورواه محمد بن إسحاق عن يزيد فخالف في إسناده، رواه ابن أبي شيبة (12/ 540)، والبيهقي (10/ 23) من طريق يزيد عن عبد العزيز بن أبي الصعبة عن أبي أفلح الهمداني =

ذلك (¬1) ذريعة إلى قَطْع نَسْل الخيل أو تقليلها، ومن هذا نهيهُ عن أكل لحومها إنْ صح الحديث فيه (¬2)، إنما كان لأنه ذريعة إلى تقليلها، كما نهاهم في بعض ¬

_ = عن ابن زُرير به. وكذلك رواه شعيب بن أيوب عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك ثنا الليث مثله، رواه البيهقي (10/ 22). الثانية: علي بن علقمة عن علي: رواه الطيالسي (156)، وأحمد (1/ 98)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 271)، وفي "المشكل" (رقم 221)، والبزار (669)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1847)، والبيهقي (1/ 230) كلهم من طريق شريك القاضي عن عثمان بن أبي زرعة عن سالم عنه به. وهذا إسناد ضعيف لحال شريك، وعلي بن علقمة ضعّفه البخاري والعقيلي وابن الجارود، وقال ابن عدي: ما أرى بحديثه بأسًا. الثالثة: سالم عن علي بإسقاط علي بن علقمة: رواه أحمد في "مسنده" (1/ 95 و 132)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1/ 83)، وأبو طاهر السلفي "المشيخة البغدادية" (ق 23 أ). والحديث له شاهد من حديث ابن عباس: رواه أحمد في "مسنده" (1/ 225)، و (234 - 235 و 249)، وأبو داود (808)، والترمذي (1701)، والنسائي (1/ 89 و 6/ 224 و 225)، وفي "الكبرى" (137)، وابن أبي شيبة (10/ 541)، وابن خزيمة (175)، والطحاوي في "شرح المعاني" (3/ 271)، وفي "المشكل" (216 و 217 و 218)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10642، 10643)، والبيهقي (10/ 23)، والمزي في "تهذيب الكمال" (15/ 253)، وإسناده صحيح. وانظر: "العلل" لابن أبي حاتم (رقم 44)، وآخر من حديث دحية الكلبي رواه أحمد (4/ 311)، وابن أبي شيبة (10/ 541). (¬1) في (ك) و (ق): "وذلك لأن". (¬2) رواه أحمد (4/ 89 و 89 - 90)، وأبو داود (3790) في (الأطعمة): باب أكل لحوم الخيل، و (3806): باب في النهي عن أكل السباع، والنسائي (7/ 202) في (الأطعمة): باب تحريم أكل لحوم الخيل، وفي "الكبرى" (6640)، وابن ماجه (3198) في (الذبائح): باب لحوم الحمر الأهلية، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (703 و 704)، والطبراني في "الكبير" (3826 و 3827)، والدارقطني (4/ 287)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (9/ 328)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (95)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3066)، وفي "معاني الآثار" (4/ 210)، وابن عبد البر في "التمهيد" (10/ 128)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 932 رقم 2408) من طرق عن صالح بن يحيى بن المقدام بن معدي كرب عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد به مطولًا ومختصرًا. وفيه: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم خيبر عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير". وعند بعضهم عن صالح عن جده المقدام بإسقاط أبيه. وهذا حديث فيه علل: =

الغزوات عن نحر ظهورهم (¬1) لما كان ذريعة إلى لحوق الضرر بهم بفَقْد الظّهر (¬2). الوجه الثامن والسبعون: أنه نهى مَنْ رأى رؤيا يكرهها أن يتحدث بها (¬3)؛ فإنه ذريعة إلى انتقالها من مَرْتَبة (¬4) الوجود اللفظي إلى [مرتبة الوجود] (¬5) الخارجي كما انتقلت من الوجود الذهني إلى اللفظي، وهكذا عامة الأمور تكون في الذهن أولًا ثم تنتقل إلى الذِّكر ثم تنتقل إلى الحس، وهذا من ألطف سد الذرائع ¬

_ = الأولى: صالح بن يحيى هذا قال فيه البخاري: فيه نظر، وقال موسى بن هارون: لا يعرت هو ولا أبوه، ولا جده، وهذا ضعيف، وقال ابن حبان في "الثقات": يخطئ وقال البيهقي في "المعرفة" (7/ 262): "هذا حديث إسناده مضطرب، ومع اضطرابه فهو مخالف لحديث الثقات". الثانية: قال أبو داود: لا بأس بلحوم الخيل، وليس العمل عليه، وهذا منسوخ قد أكل لحوم الخيل جماعة من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم ابن الزبير. . . ونحوه قال النسائي. الثالثة: قال الواقدي: إن خالد بن الوليد لم يشهد خيبر، وأسلم قبل الفتح، ذكره الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 196)، وأحاديث الأذن في لحوم الخيل أكثر وأشهر وأصح. (¬1) رواه البخاري (2484) في (الشركة): باب الشركة في الطعام والنَّهد والعُرُوض، و (2982) في (الجهاد والسير): باب حمل الزَّاد في الغزو، ومسلم (رقم 1728) في "اللقطة": باب استحباب خلط الأزواد إذا قلَّت، والمؤاساة فيها، عن سلمة بن الأكوع. ورواه مسلم (27) (كتاب الإيمان) باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، وأبو عوانة (1/ 8)، والبغوي (1/ 98)، من حديث أبي هريرة. وفي الباب عن ابن عباس عند أحمد (1/ 305)، وابن حبان (3812، 3845). وعن عمر، عند إسحاق -كما في "المطالب العالية" (2/ 452) -، وأبي يعلى -كما في "المجمع" (8/ 304) -. وانظر: أوائل "دلائل النبوة" للفريابي. (¬2) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثامن والستين. (¬3) رواه البخاري (3292) في (بدء الخلق): باب صفة إبليس وجنوده، و (5747) في (الطب): باب النفث في الرقية، و (6984) في (التعبير): باب الرؤيا من اللَّه، و (6986): باب الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، و (6995): باب من رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، و (7005) في باب الحلم من الشيطان، فإذا حلم فليبصق عن يساره، و (7044): باب إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها، ومسلم (2261) (3)، و (4) في (الرؤيا)، من حديث أبي قتادة. وفي الباب عن أبي هريرة أيضًا: رواه البخاري (7017) في (التعبير): باب القيد في المنام، ومسلم (2263)، وفي (ق): "يحدث بها". (¬4) في (ق): "نية" وفي هامشها: "لعله رتبة" والمثبت من سائر الأصول. (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الوجود" وفي (ك): "مرتبة" والمثبت من سائر الأصول.

وأنفعها، ومن تأمل عامة الشر رآه متنقلًا في درجات الظهور طَبَقًا بعد طَبَق من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج (¬1). الوجه التاسع والسبعون: أنه سُئِل عن الخمر تتخذ خلًّا، فقال: لا (¬2)، مع إنه في خَلِّ الخمر الذي حَصَل بغير التخليل، وما ذاك إلا سدًا لذريعة إمساكها بكل طريق، إذ لو أذن في تخليلها لحبسها أصحابها لذلك وكان ذريعة إلى المحذور (¬3). الوجه الثمانون: أنه نهى أن يتعاطى السيفَ مسلولًا (¬4)، وما ذاك إلا لأنه (¬5) ¬

_ (¬1) جاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه التاسع والستين. (¬2) رواه مسلم (1983) في (الأشربة): باب تحريم تخليل الخمر، من حديث أنس. (¬3) جاء هذا الوجه مكان الوجه الحادي والستين في (ق) و (ن). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 299 و 360)، وأبو داود (2588) في (الجهاد): باب النهي أن يتعاطى السيف مسلولًا، والترمذي (2163) في (الفتن): باب ما جاء في النهي عن تعاطي السيف مسلولًا، والحاكم (4/ 290)، وابن أبي شيبة (8/ 583) من طريق حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب من حديث حماد بن سلمة. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. ورواه ابن لهيعة عن أبي الزبير عن جابر عن بَنَّة الجهني، فذكر نحوه وفيه قصة. أخرجه أحمد (3/ 347)، وابن سعد (4/ 353)، والطبراني في "الكبير" (1190)، وفي "الأوسط" (2570)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (2/ 809 رقم 177)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1/ 443 - 444 رقم 1281، 1282)، ويظهر أن هذا من تخاليط ابن لهيعة. وقد رواه أحمد (3/ 369) من طريق ابن إسحاق قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا ذكره مع قصة. ورواه أيضًا من طريق ابن جريج عن سليمان بن موسى عن جابر به. وله شاهد من حديث أبي بكرة: رواه أحمد (5/ 41)، والطبراني في "الكبير" -كما في "المجمع" (7/ 290) -، والحاكم (4/ 290) من طريق مبارك بن فضالة: حدثنا الحسن: حدثنا أبو بكرة قال: أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على قوم يتعاطون سيفًا مسلولًا فقال: لعن اللَّه من فعل هذا. . . ". قال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني، وفيه مبارك بن فضالة، وهو ثقة لكنه مدلس، وبقية رجال أحمد، رجال الصحيح. أقول: ولكنه صَرّح بالتحديث كما في "مسند أحمد". ورواه ابن أبي شيبة (8/ 583)، عن علي بن زيد بن جدعان عن الحسن مرسلًا. أقول: وعلي ضعيف. والحديث صحيح بهذه الشواهد والطرق، واللَّه أعلم. (¬5) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "أنه".

ذريعة إلى الإصابة بمكروه، ولعل الشيطان يُعينهُ وينزع في يده فيقع المحذور أو يُقَرّب منه (¬1). الوجه الحادي والثمانون: أنه أمر المارَّ في المسجد بنبال أن يُمسك على نَصْالها (¬2) بيده (¬3) لئلا يكون ذريعة إلى تأذّي رجل مسلم بالنِّصال (¬4). الوجه الثاني والثمانون: أنه حَرَّم الشِّياع (¬5)، وهو المفاخرة بالجماع؛ لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتَّشبه، وقد لا يكون عند الرجل مَنْ يغنيه من الحلال فيتخطَّى إلى الحرام، ومن هذا كان المُجاهِرُون خارجين من عافية اللَّه، وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي؛ فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعمله إلا اللَّه (¬6). ¬

_ (¬1) جاء هذا الوجه مكان الوجه الثامن والعشرين في (ق) و (ن). (¬2) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "نصلها". (¬3) رواه البخاري (452) في (الصلاة): باب المرور في المسجد، و (7075) في (الفتن): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حمل علينا السلاح فليس منا"، ومسلم (2615) في (البر والصلة): باب أمر من مرّ بسلاح في مسجد أو سوف أو غيرهما أن يمسك بنصالها، من حديث أبي موسى الأشعري. وفي الباب أيضًا عن جابر: رواه البخاري (451)، و (7073 و 7074)، ومسلم (2614). (¬4) جاء هذا الوجه مكان الوجه التاسع والعشرين في (ق) و (ن). (¬5) رواه أحمد (3/ 29 و 4/ 259)، وأبو يعلى (1396)، والدولابي (2/ 157)، والعقيلي (2/ 43)، وابن عدي (3/ 980)، والبيهقي (7/ 194)، والخطيب البغدادي (5/ 162)، من طريق دَرَّاج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "الشياع حرام". قال الهيثمي (4/ 295): رواه أبو يعلى، وفيه دَرَّاج، وثقه ابن معين، وضعفه جماعة، وقال العقيلي: لا يعرف إلا به. أقول: دَرَّاج أبو السمح قال فيه أحمد: أحاديثه مناكير، وقال النسائي: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال ابن عدي بعد أن ذكر طائفة من أحاديثه -هذا منها-: وعامة هذه الأحاديث التي أمليتها مما لا يتابع دراج عليه، وفيها ما قد روي عن غيره. . . ثم ختم كلامه بما حاصله أن له مناكير، وسائر أحاديثه لا بأس بها. والشياع يقال له أيضًا: السباع. وانظر: "مجمع الزوائد" (4/ 295). وقال (و): "قال ابن عبد البر: إنه [أي: الشياع] تصحيف، وهو بالسين المهملة والباء الموحدة". (¬6) جاء هذا الوجه مكان الوجه الحادي والأربعين في (ن) و (ق).

الوجه الثالث والثمانون: أنه نهى عن البَوْل في الماء الدائم (¬1)، وما ذاك إلا لأن (¬2) تواتر البول فيه ذريعة إلى تنجيسه، وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير وبول الواحد والعدد، وهذا أولى من تفسيره (¬3) بما دون القلتين أو بما يمكن نزحه؛ فإن الشارع الحكيم لا يأذن للناس أن يبولوا في المياه الدائمة إذا جاوزت القلتين أو لم يمكن نزحها، فإن في ذلك من إفساد مياه الناس ومواردهم ما لا تأتي به شريعة، فحكمة شريعته (¬4) اقتضت المنع من البول فيه قلَّ أو كثر سدًا لذريعة إفساده. الوجه الرابع والثمانون: أنه نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬5)؛ فإنه ذريعة إلى أن تناله أيديهم كما علل به في نفس الحديث (¬6). الوجه الخامس والثمانون: أنه نهى عن الاحتكار، وقال: "لا يحتكر إلا خاطئ" (¬7) فإنه ذريعة إلى أن يضيق على الناس أقواتهم، ولهذا لا يمنع من احتكار ما لا يضرُّ الناس (¬8). الوجه السادس والثمانون: أنه نهى عن بيع فَضْل الماء (¬9)؛ لئلا يكون ذريعة ¬

_ (¬1) رواه البخاري (238) في (الوضوء): باب البول في الماء الدائم، ومسلم (282) في (الطهارة): باب النهي عن البول في الماء الراكد، من حديث أبي هريرة. (¬2) في (د): "أن". (¬3) في (ن) و (ق) و (ك): "من تقييده". (¬4) في (ق): "الشريعة". (¬5) رواه البخاري (2990) في (الجهاد): باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو، ومسلم (1869) في (الإمارة): باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم، من حديث ابن عمر. وانظره في: "تالي تلخيص المتشابه" (346)، و"جزء القاضي الأشناني" (2) وتعليقي عليهما. (¬6) وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه العاشر. (¬7) رواه مسلم (1605) في (المساقاة): باب تحريم الاحتكار في الأقوات، من حديث معمر بن عبد اللَّه بن نضلة. (¬8) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 279 - 280)، و"بدائع الفوائد" (4/ 49، 94)، في (ق) و (ك): "بالناس"، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثاني والثمانين من (ق) و (ن). (¬9) رواه البخاري (2353 و 2354) في (الحرث والمزارعة): باب من قال: إن صاحب الماء أحق بالماء حتى يروي، و (6962) في (الحيل): باب ما يكره من الاحتيال، ومسلم (1566) في (المساقاة): باب تحريم فضل بغ الماء الذي يكون بالفلاة، من حديث أبي هريرة. =

إلى منع فضل الكلأ؛ كما علل به في نفس الحديث فجعله بمنعه [من] (¬1) الماء مانعًا من الكلأ لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب (¬2) من ذلك الماء لم يتمكن من المَرْعَى الذي حوله (¬3). الوجه السابع والثمانون: أنه نهى عن إقامة حد الزنا على الحامل حتى تَضَع (¬4)، لئلا يكون [ذلك] ذريعة إلى قتل ما في بطنها، كما قال في الحديث الآخر: "لولا ما في البيوت من النِّساء والذرية لأمرتُ فتياني أن يحملوا معهم حُزَمًا من حطب فاخالف إلى قوم (¬5) لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأُحرِّق عليهم بيوتهم بالنار" (¬6) فمنعه من تحريق بيوتهم التي عَصَوُا اللَّه فيها بتخلفهم عن الجماعة كونُ ذلك ذريعةً إلى عقوبة مَنْ لم يجب عليه حضور الجماعة من النساء ¬

_ = ورواه مسلم (1565) في (المساقاة)، من حديث جابر، وفي سائر الأصول: "منع فضل الماء" والمثبت من (ق) و (ك). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "الشراب". (¬3) انظر: "زاد المعاد" (4/ 259 - 260)، وجاء هذا الوجه مكان الوجه الثالث والستين في (ق) و (ن). (¬4) لم أجد حديثًا قوليًا ينهى عن إقامة الحد على الحامل، وإنما الحديث من فعله، وهو حديث الغامدية التي زنت ثم جاءت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهي حامل فأجّلها حتى تضع، وهو حديث رواه مسلم (1695) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، من حديث بريدة. و (1696) من حديث عمران بن حصين. (¬5) "آتيهم من خلفهم، أو أخالف ما أظهرت من إقامة الصلاة، وأرجع إليهم، فآخذهم على غفلة، أو يكون بمعنى أتخلف عن الصلاة بمعاقبتهم" (و). (¬6) بهذا اللفظ لم أجده، وإنما لفظه: "لولا ما في البيوت من النساء والذرية أقمت صلاة العشاء، وأمرت فتياتي يحرقون ما في البيوت بالنار". ولعله دخل عليه حديث في حديث: وهذا رواه أحمد (2/ 367) من طريق أبي معشر نجيح عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا به، قال الهيثمي (2/ 42): أبو معشر ضعيف. ومع هذا فقد ذكره الحافظ في "الفتح" (2/ 126) وسكت عنه. وهو في "صحيح مسلم" (652) عن ابن مسعود أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس، ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم". وفيه (651) (252) عن أبي هريرة: ". . . ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتُقام، ثم آمر رجلًا فيُصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حُزَمٌ من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار". ولم يرد فيه ذكر للنساء والذرية.

والأطفال (¬1). الوجه الثامن والثمانون: (¬2) أنه نهى عن إدامة النَّظر إلى المجذومين (¬3)، وهذا ¬

_ (¬1) جاء هذا الوجه مكان الوجه الثلاثين في (ق) و (ن) وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) في (ك): "الوجه التسعون"، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الرابع والستين. (¬3) الحديث يرويه محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، واختلف عنه، فرواه عبد اللَّه بن سعيد بن أبي هند عنه عن أمه فاطمة بنت الحسين عن ابن عباس. أخرجه من طريقه ابن أبي شيبة (8/ 320 و 9/ 44)، وفي "الأدب" (رقم 178)، وابن معين في "فوائده" (رقم 108)، وأحمد (1/ 233) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (35/ 258) -، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 138)، وفي "الصغير" (2/ 82)، وابن ماجه (3543) في (الطب): باب الجذام، والحربي في "غريب الحديث" (2/ 428)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (ص 19 - مسند علي)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2224)، والبيهقي في "السنن" (7/ 218 - 219). وتابع عبد اللَّه بن سعيد، ابنُ أبي الزناد. أخرجه الطيالسي (1601)، وابن ماجه (3543) -ومن طريقه ابن عساكر (272 - 273 النساء) -، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (ص 19 - مسند علي)، ولوين في "جزئه" (رقم 67) -ومن طريقه ابن عساكر (273 - النساء)، والمزي في "تهذيب الكمال" (35/ 259) -، وابن وهب في "الجامع" (رقم 35). ورواه عبد اللَّه بن عامر من رواية الفرج بن فضالة عنه عن أمه فاطمة بنت الحسين عن حسين عن أبيه علي بن أبي طالب. أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائده على المسند" (1/ 78)، ووقع في سنده خطأ، إذ ورد هكذا: الفرج بن فضالة عن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان، وهو كذلك في "إتحاف المهرة" (ج 7/ ق 135/ ب)، و"مصباح الزجاجة" (3/ 142)، وكذلك أخرجه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (273 - النساء) وقال: "كذا قال: والصواب محمد بن عبد اللَّه" وهو على الجادة عند ابن جرير في "تهذيب الآثار" (4/ 20)، وهذا خطا قطعًا كما بيّنه أحمد شاكر. ورواه عبد اللَّه بن عامر من رواية الفرج بن فضالة أيضًا عنه عن أمه عن أبيها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أخرجه أبو يعلى (6774)، والدولابي في "الذرية الطاهرة" (رقم 161)، والفرج ضعيف، ضغفه ابن المديني وابن معين والنسائي والدارقطني وغيرهم، وتابع الفرج على هذه الرواية عبد اللَّه بن الحارث: أخرجه ابن عدي في "الكامل" (14/ 473)، وعبد اللَّه بن عامر الأسلمي ضعيف. لكن تابعه عبد اللَّه بن المبارك: أخرجه الطبراني في "الكبير" (2897)، وعلقه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 139)، وفي "الصغير" (2/ 77) من رواية يحيى الحماني عنه، ويحيى ضعيف. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه ضرار بن صرد عن المبارك، عند الدولابي (163) وضرار كذبه ابن معين، وقال البخاري والنسائي: متروك الحديث. ورواه عبد اللَّه بن عامر الأسلمي من رواية الفرج بن فضالة عنه عن أمه فاطمة عن أبيها الحسين بن علي عن أمه فاطمة: رواه الطبري في "تهذيب الآثار" في "مسند علي" (ص 20). ورواه الدولابي (160) عن أبي ضرة عن عبد اللَّه بن عامر عن محمد بن عبد اللَّه، حدثتني أمي فاطمة عن حسين بن علي وابن عباس به. وهذا اضطراب من الفرج بن فضالة وعبد اللَّه بن عامر الأسلمي، وكلاهما ضعيف يقبل منهما هذا. بقي النظر في الإسناد الأول، وهو من مسند ابن عباس: فقد قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/ 142): إسناد رجاله ثقات. أقول: مدار الحديث كله إنْ سلَّمنا أنه سالم من الاضطراب على محمد بن عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان. قال البخاري: عنده عجائب، وقال ابن الجارود: لا يكاد يتابع على حديث، وقال النسائي: ليس بالقوي، وقال مرة: ثقة! وقال ابن عدي: ومقدار ما له يكتب. ووثقه ابن حبان والعجليّ. أقول: توثيق ابن حبان والعجلي معروف، والذي يظهر أن الرجل لا يقبل حديثه إلا بالمتابعات والشواهد. أما قول الحافظ في "التقريب": صدوق فهذا عجيب؛ لأن أمثال هذا الراوي يقول فيهم: صدوق له أوهام، أو صدوق يخطئ، أما هكذا صدوق -أي أن حديثه في مرتبة الحسن- فهذا بعيد، وقد ضعَّفه من ذكرنا. ثم وجدت الحافظ ذكر الحديث في "الفتح" (10/ 159)، وعزاه لابن ماجه، وقال: سنده ضعيف، وليس في إسناده من فيه كلام إلا محمد بن عبد اللَّه بن عمرو! قلت: أورد الذهبي في "الميزان" (3/ 593) هذا الحديث في ترجمة (محمد بن عبد اللَّه) هذا وقال في "ديوان الضعفاء" (ص 360): "حديثه منكر". وله طريق آخر عن ابن عباس رواه الطبراني في "الكبير" (11193) من طريق عثمان بن صالح عن ابن لهيعة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس، قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 101): وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن! وبقية رجاله ثقات. أقول: ابن لهيعة معروف بتخليطه في غير رواية العبادلة عنه!! وأين أصحاب عمرو بن دينار من هذا الحديث، وانظر عنه رواية عثمان بن صالح عن ابن لهيعة "سؤالات البرذعي" (ص 417). وله شاهد من حديث معاذ بن جبل: رواه الطبراني في "الكبير" (18/ 222)، قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 101): وشيخه الوليد بن حماد الرملي، لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات. =

واللَّه أعلم لأنه ذريعة إلى أن يصابوا بدائهم (¬1)، وهي من ألطف الذرائع، وأهل الطبيعة يعترفون به، وهو جارٍ على قاعدة الأسباب، وأخبرني رجل من علمائهم أنه أجلس (¬2) قرابة له يكحل الناس فرمِدَ ثم برئ، فجلس يكحلهم فرمد مرارًا، قال: فعلمت أن الطبيعة تنقل (¬3)، وأنه من كثرة ما يفتح عينيه في أعين الرُّمْدِ نقلت الطبيعة الرمَدَ إلى عينيه (¬4)، وهذا لا بُدَّ معه من نوع استعداد، وقد جبَلت الطبيعة والنفس على التشبه والمحاكاة. الوجه التاسع والثمانون: (¬5) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى الرجل أن ينحني للرجل (¬6) إذا لقيه (¬7) ¬

_ = أقول: ترجمة الذهبي في "تاريخ الإسلام" (22/ 320)، وابن حجر في "اللسان" (6/ 221)، ولم يذكرا فيه شيئًا. قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (1064): "وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه وشواهده صحيح"!! مع أنه ليس له إلا طريق واحد اضطرب فيه راويه، ولم يذكر له إلا شاهدًا واحدًا، وهو حديث معاذ!! وفي (ك): "الحذمين"!! (¬1) في (ن) و (ك): "بأبدانهم"، وفي باقي الأصول عدا (ق): "بإيذائهم" والمثبت من (ق). (¬2) كذا في (و) و (ن) و (ق) وفي سائر الأصول: "جلس". (¬3) في المطبوع و (ك): "تنتقل". (¬4) "بتغير العلم الآن: انتقل ميكروب الرمد إلى عينيه" (و). (¬5) جاء هذا الوجه في (ك) الوجه الحادي والتسعون وفي (ق) و (ن) مكان الوجه السابع. (¬6) في (ك): "لرجل" والمثبت من سائر النسخ. (¬7) رواه الترمذي في (الاستئذان) (2728) في باب ما جاء في المصافحة، وابن ماجه (3702) في (الأدب): باب المصافحة، وأحمد (3/ 198)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 281)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 828)، والبيهقي (7/ 100)، وفي "شعب الإيمان" (8162)، و (8963) من طرق عن حنظلة بن عبيد اللَّه السدوسي عن أنس قال: أينحني بعضنا لبعض إذا التقينا؟ قال: لا. . . ثم ذكر التقبيل والمصافحة. قال الترمذي: حديث حسن. قلت: حنظلة هذا تكلموا فيه. قال أحمد بن حنبل: ضعيف، وقال مرة: منكر الحديث يحدث بأعاجيب، ثم ذكر حديثه هذا، وقال يحيى بن القطان: قد رأيته وتركته على عمد، وكان قد اختلط، ومثله قال ابن معين، وقال ابن معين أيضًا: ليس حديثه بشيء، وقال ابن عدي: وإنما أنكر من أنكر رواياته لأنه كان قد اختلط في آخر عمره فوقع الإنكار في حديثه بعد اختلاطه. أقول: فمثله لا يُحسن له حديث والعجب أن الحافظ في التلخيص (4/ 95) ذكر تحسين الترمذي ساكتًا عليه. =

كما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا عِلْم [له] (¬1) بالسنة، بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغةً في خلاف السنة جهلًا حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات؛ فهؤلاء أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها، وطائفة ثالثة قيامها يقومون (¬2) عليهم الناسُ وهم قعود كما يقومون في الصلاة، فتقاسمت الفرقُ الثلاثُ أجْزَاء الصلاة، والمقصود أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن انحناء الرجل لأخيه سدًا لذريعة الشرك، كما نهى عن السجود لغير اللَّه (¬3)، وكما نهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الإمام وهو جالس (¬4) مع أن قيامهم عبادة للَّه تعالى، فما الظن إذا كان القيام تعظيمًا للمخلوق وعبودية له؟ فاللَّه المستعان. الوجه التسعون: (¬5) أنه حرم التفرق في الصَّرْفِ (¬6) وبيع الربوي بمثله قبل ¬

_ = وقد ذكر شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (160) لحنظلة ثلاثة متابعين، لكن في هذه المتابعات نظر فالأولى فيها راويان متكلّم فيهما، وفي اللفظ مغايرة، والثانية متابعة قاصرة، وفيها راو ضعيف، وآخران لم يجد لهما ترجمة، والثالثة فيها متروك، فكيف يصح بها الحديث!! (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "يقوم". (¬3) لم أجده بهذا اللفظ حديثًا، وقد يصدق عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما ينبغي لأحد أن يسجد لآخر، ولو كان أحد ينبغي أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، رواه الترمذي (1159) في (الرضاعة): باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، وابن حبان (4162)، والبيهقي (7/ 291) من طريقين عن محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة وحسنه الترمذي. ورواه الحاكم (4/ 171)، والبزار (1466) من طريق آخر عن أبي هريرة، وفيه راوٍ ضعيف. وله شواهد عن عدد من الصحابة انظر: "إرواء الغليل" (7/ 54)، وما بعدها. (¬4) يريد حديث: "إذا صلى قاعدًا فصلوا قعودًا أجمعين"، ورد من حديث جمع من الصحابة. منهم أنس بن مالك: رواه البخاري (689)، و (732) و (733)، و (805)، و (1114)، و (1911) و (2469)، و (5289)، و (5289)، و (6684)، ومسلم (411). وعائشة: رواه البخاري (688)، و (1113)، و (1236)، و (5658)، ومسلم (412). وجابر: رواه مسلم (413)، وهذا أصرحها على ما يريد المؤلف. (¬5) في (ك): "الوجه الثاني والتسعون" وجاء في (ن) و (ق) هذا الوجه مكان الوجه التاسع والسبعين. (¬6) "بيع الذهب بالفضة. . . " (و) وفي سائر النسخ: "التفريق في الصرف" والمثبت في (ك) و (ق).

[حكمة تحريم ربا الفضل]

القبض (¬1)؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا، فحماهم من قُربانه باشتراط التقابض في الحال، ثم أوجب عليهم فيه التماثُلَ، وأن لا يزيد أحد العَوَضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد حتى لا يُباع مدُّ جيّد بمدين رديئين وإن كانا يساويانه (¬2)، سدًا لذريعة ربا النّسَاء الذي هو حقيقة الربا، وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في مقابلة جَوْدَة أو صفة أو سكة أو نحوها (¬3)، فمنعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى. [حكمة تحريم ربا الفضل] فهذه هي حكمة تحريم ربا الفَضْل التي خفيت على كثير من الناس، حتى قال بعض المتأخرين: لا يتبين لي حكمة تحريم ربا الفضل، وقد ذكر الشارع هذه الحكمة بعينها؛ فإنه حرَّمه سدًا لذريعة ربا النساء، فقال في [حديث] (¬4) تحريم ربا الفضل: "فإنّي أخاف عليكم الرَّمَاء (¬5) والرَّمَاء [هو] (¬6) الربا". [نوعا تحريم الربا] فتحريم الربا نوعان: نوع حُرِّم لما فيه من المفسدة وهو ربا النسيئة، ونوع حرم تحريم الوسائل وسدًا للذرائع؛ فظهرت حكمة الشارع الحكيم وكمال شريعته الباهرة في تحريم النوعين، ويلزم من لم يعتبر الذرائع ولم يأمر بسدها أن يجعل تحريم ربا الفضل تعبُّدًا محضًا لا يُعقل معناه كما صرَّح بذلك كثير منهم. ¬

_ (¬1) يدل عليه حديث عمر بن الخطاب الذي رواه البخاري (2134) في (البيوع): باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، و (2170) في باب بيع التمر بالتمر و (2174) باب بيع الشعير بالشعير، ومسلم (1986) في (المساقاة): باب الصرف، وغيره. (¬2) يدل عليه ما رواه البخاري (2201)، و (2202)، و (2302)، و (2303)، و (4244)، و (4245)، و (7350)، و (7351)، ومسلم (1593) من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة. وما رواه البخاري (2312)، ومسلم (1594) من حديث أبي سعبد. (¬3) في (د)، و (ط): "أو نحوهما". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬5) في (و): "الرمّاء". والمذكور قطعة من حديث عند أحمد (2/ 109) عن أبي هريرة مرفوعًا، ومالك في "الموطأ": (كتاب البيوع): (2/ 634) عن عمر قوله: وإسناده صحيح، وسبق تخريجه مفصلًا. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

[أنكحة محرمة]

[أنكحة محرمة] الوجه الحادي والتسعون: أنه أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدًا لذريعة الزنا؛ فمنها النكاح بلا وليٍّ (¬1)؛ فإنه أبطله سدًا لذريعة الزنا؛ فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة: "أنكحيني نفسك بعشرة [دراهم] " ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سدًا لذريعة الزنا، ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجةً بل له وَطَر فيما يقضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة (¬2)، ومن ذلك تحريم نكاح المُتعة الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدة يقضي وطَرَه منها فيها (¬3)؛ فحرَّم هذه الأنواع كلها سدًا لذريعة السِّفاح، ولم يبح إلا عقدًا مؤبدًا يقصد فيه كل من الزوجين المُقَامَ مع صاحبه ويكون بإذن الولي وحضور الشاهدين أو ما يقوم (¬4) مقامهما من الإعلان؛ فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها (¬5). [منع المتصدِّق من شراء صدقته] الوجه الثاني والتسعون (¬6): أنه منع المتصدق من شراء صدقته ولو وجدها تُباع في السوق (¬7) سدًا لذريعة العَوْد فيما خرج عنه للَّه ولو بعِوَضِه؛ فإن المتصدق ¬

_ (¬1) سبق لفظه، وانظر: "القواعد" لابن رجب (1/ 343)، وتعليقي عليه. (¬2) الأحاديث في نكاح التحليل تقدمت مفصلة وانظر: "زاد المعاد" (4/ 5 - 6، 66، 212)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 97)، و"تهذيب السنن" (3/ 22 - 23). وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) انظر نكاح المتعة، ومذاهب الناس فيه، والوقت الذي حُرِّم فيه في "زاد المعاد" (2/ 142 - 143، 183 - 185 و 4/ 6)، و"تهذيب السنن" (3/ 19) فإنه مهم جدًا. (¬4) مضروب عليها في (ق) ومثبت بدلها: "يقاوم". (¬5) جاء هذا الوجه مكان الوجه السادس والأربعين في (ق) و (ن)، وفي (ك): "الوجه الثالث والتسعون". (¬6) في (ك): "الوجه الرابع والتسعون"، وجاء هذا الوجه في (ق) و (ن) مكان الوجه الثالث والسبعون. (¬7) رواه البخاري (1489)، و (1490) في (الزكاة): باب هل يشتري صدقته، و (2623) في (الهبة): باب لا يحل لأحد أن يرجع في هبته وصدقته، و (2636) باب إذا حمل رجل على فرس فهو كالعمرى والصدقة، و (2775) في (الوصايا): باب وقف الدواب =

[النهي عن قول لو]

إذا مُنع من تملُّك صدقته بعوضها فتملّكه إياها بغير عوض أشد منعًا وأفْطَمُ للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه للَّه، والصواب ما حكم به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المنع من شرائها مطلقًا، ولا رَيْبَ أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها، ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء -مع حاجته- فتسمح نفسه بالبيع، واللَّه عالم بالأسرار؛ فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سد الذريعة ومنع المتصدق من شراء صدقته، وباللَّه التوفيق. الوجه الثالث والتسعون (¬1): أنه نهى عن بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها (¬2)، لئلا يكون ذريعة إلى أكل مال المشتري بغير حق إذا كانت (¬3) معرَّضة للتلف، وقد يمنعها اللَّه، وأكد هذا الغرض بأن حَكَم للمشتري بالجائحة إذا تلفت بعد الشراء الجائز، كل هذا لئلا يُظلم المشتري ويُؤكل ماله بغير حق (¬4). [النهي عن قول لو] الوجه الرابع والتسعون: أنه نهى الرجل بعد إصابة ما قدر له (¬5) أن يقول: لو ¬

_ = والكراع، و (2970) و (2971) في (الجهاد): باب الجعائل والحملان في السبيل، و (3002)، و (3003) باب إذا حمل على فرس فرآها تباع، ومسلم (1620)، و (1621) في (الهبات): باب كراهة شراء الإنسان ما تصدَّق به ممن تصدَّق عليه، من حديث عمر بن الخطاب. (¬1) في (ك): "الوجه الخامس والتسعون"، وجاء في (ق) و (ك) هذا الوجه مكان الوجه الرابع والسبعين. (¬2) رواه البخاري (1486) في (الزكاة): باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه، و (2183) في (البيوع): باب بيع المزابنة، و (2194) باب بيع الثمار قبل بدو صلاحها، و (2199) باب إذا باع الثمار قبل بدو صلاحها معلقًا، و (2247) و (2249) في (السلم): باب السلم في النخل، ومسلم (1534) في (البيوع): باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، من حديث ابن عمر رفعه: "لا تبتاعوا الثمرة حتى يبدو صلاحها". وفي الباب عن أنس: رواه البخاري (2195)، و (2197) و (2198)، و (2208)، ومسلم (1555)، ولفظه "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، وعن النخل حتى يزهو، قيل: وما الزهو، قال: يحمارّ أو يَصْفارّ". وعن جابر: رواه البخاري (2189)، و (2196)، و (2381)، ومسلم (1536). (¬3) في (ك) و (ق): "إذ كانت". (¬4) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 154 - 155) و"زاد المعاد" (4/ 262). (¬5) في (ن) و (ق): "إذا أصابه ما قدر له".

[النهي عن طعام المتباريين]

أني فعلت لكان كذا وكذا، وأخبر أن ذلك ذريعة إلى عمل الشيطان (¬1)، فإنه لا يُجْدي عليه إلا الحُزْن والنَّدَم وضيقة الصدر والتسخط (¬2) على المقدور واعتقاد أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك، وذلك يُضعف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا أعرض القلب عن هذا انفتح له عملُ الشَيطان، وما ذاك لمجرد لفظ "لو"، بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه المنافية لكمال الإيمان الفاتحة لعمل الشيطان، بل أرشد العبد في هذه الحال إلى ما هو أنفع له وهو الإيمان بالقَدَر والتفويض والتسليم للمشيئة الإلهية وأنه ما شاء اللَّه كان ولا بد؛ فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط، فصلوات اللَّه وسلامه على مَنْ كلامه شفاء للصدور ونور للبصائر وحياة للقلوب وغذاء للأرواح، [وعلى آله] (¬3)؛ فلقد أنعم به على عباده أتم نعمة، ومَنَّ عليهم به أعظم منة؛ فلله النعمة وله المنة وله الفضل وله الثناء الحسن (¬4). [النهي عن طعام المتبارِيَيْن] الوجه الخامس والتسعون (¬5): أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن طعام المُتبَارِيَيْنِ (¬6)، وهما ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" (2664) في (القدر): باب في الأمر بالقوة وترك العجز، من حديث أبي هريرة. (¬2) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "والسخط". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "والفضل" بدل "وله الفضل" وجاء هذا الوجه مكان الوجه الحادي عشر في (ن) و (ق)، وفي (ك): "الوجه السادس والتسعون". (¬5) في (ك): "الوجه السابع والتسعون" وجاء هذا الوجه مكان الوجه السبعين في (ق) و (ن). (¬6) الحديث يرويه الزبير بن خِرِّيت قال: سمعت عكرمة عن ابن عباس، ورواه عن الزبير جريرُ بن حازم، واختلف عنه. فرواه زيد بن أبي الزرقاء عنه به مرفوعًا: أخرجه أبو داود (3754) في (الأطعمة): باب في طعام المتباريين، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 274). وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. وتابعه ابن المبارك. أخرجه: ابن عدي (2/ 509 و 551)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (6067) من طريق بقية: حدثني ابن المبارك به. وبقية صرح بالتحديث، قال ابن عدي: وهذا الحديث الأصل فيه مرسل، وما أقل من أوصله، وممن أوصله بقية عن ابن المبارك عن جرير بن حازم. وقد أعله بالإرسال أيضًا =

[أهل السبت]

الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته، إما في التبرعات كالرجلين يصنعُ كلٌّ منهما دعوة يفتخر بها على الآخر ويباريه بها، وإما في المعاوضات كالبائعين (¬1) يُرْخِصُ كل منهما سلعته لمنع الناس من الشراء من صاحبه، ونص الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء، وهذا النهي يتضمن سد الذريعة من وجهين: أحدهما: أن تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريحٌ لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كره اللَّه ورسوله. والثاني: أن تَرْك الأكل من طعامهما ذريعة إلى امتناعهما وكفِّهما عن ذلك. [أهل السبت] الوجه السادس والتسعون: (¬2) أنه تعالى عاقب الذين حفروا الحفائر يوم الجمعة فوقع فيها السمك يوم السبت فأخذوه يوم الأحد ومَسَخَهم [اللَّه] (¬3) قَرَدة ¬

_ = أبو داود حيث قال: أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس. قلت: عرفت من وصله وهما ثقتان. وقد تابع جرير بن حازم هارون بن موسى النحوي: أخرجه الطبراني في "الكبير" (11942)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 128 - 129)، من طريقين عنه به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو كما قالا، فإن رجاله كلهم ثقات. وهذا يؤيد رواية الوصل، ويؤكد صحتها، وتابعه أيضًا عبد اللَّه بن عبد اللَّه: وأخرجه أبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 222) به. وخالف الزبير بن خريت، عاصمُ بن هلال فرواه عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس. أخرجه من طريقه ابن عدي (5/ 1874)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 240). وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث عن أيوب بهذا الإسناد ليست محفوظة. وقال عن عاصم: وعامة ما يرويه ليس يتابعه عليه الثقات. وله شاهد من حديث أبي هريرة: رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6068) من طريق معلّى بن أسد عن علي بن الحسن عن أبي حمزة السكري عن الأعمش عن أبي صالح عنه مرفوعًا: "المتباريان لا يجابان، ولا يؤكل طعامهما"، قال الإمام أحمد: يعني المتعارضين بالضيافة فخرًا أو رياءً، وسنده صحيح. (¬1) في (ن) و (ك): "كالمتبايعين"! (¬2) في (ك): "الوجه الثامن والتسعون" وفي (ق) و (ن) جاء مكان الوجه الحادي والسبعين. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[النهي عن كل بيع يعين على معصية]

وخنازير، وقيل: إنهم نَصَبُوا الشباك يوم الجمعة وأخذوا الصيد يوم الأحد، وصورة الفعل الذي فعلوه مخالف لما نُهُوا عنه، ولكنهم لما جعلوا الشباك والحفائر ذريعةً إلى أخذ ما يقع فيها من الصيد يوم السبت نُزلُوا منزلة من اصطاد (¬1) فيه؛ إذ صورة الفعل لا اعتبار بها، بل بحقيقته (¬2) وقَصْد فاعله، ويلزم من لم يسدَّ الذرائع أن لا يحرم مثل هذا كما صرحوا به في نظيره سواء، وهو لو نصب قبل الإحرام شَبَكة فوقع فيها صيدٌ وهو مُحرم جاز له أخذه بعد الحل، وهذا جارٍ على قواعد من لم يعتبر المقاصد ولم يسد الذرائع. [النهي عن كلِّ بيع يعين على معصية] الوجه السابع والتسعون (¬3): قال الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع السلاح في الفتنة (¬4)، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة ¬

_ (¬1) في (ق): "صاد" وفي (ك): "أصاد". (¬2) في (ن) و (ق): "الحقيقة". (¬3) في (ك): "الوجه التاسع والتسعون" وجاء في (ق) و (ن) مكان الوجه الثاني والسبعين. (¬4) رواه العقيلي في "الضعفاء" (4/ 139)، والبزار (3333 - زوائده)، والطبراني في "الكبير" (18/ رقم 286)، وابن عدي (2/ 483) والداني في "الفتن" (رقم 150)، والبيهقي (5/ 327) وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 89) من طريق بحر بن كنيز السقاء عن عبد اللَّه اللقيطي عن أبي رجاء عن عمران بن حصين مرفوعًا به. وعزاه في "المطالب العالية" (4/ 274 رقم 4424) إلى أحمد بن منيع في "مسنده". وقال البزار: لا نعلمه يروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا عمران، وبحر بن كنيز ليس بالقوي، واللقيطي ليس بمعروف، وقد رواه سلم (وفي مطبوعه: (مسلم) وهو خطأ، وتصويبه من "تهذيب الكمال" (11/ 222) و"تبصير المنتبه" (2/ 642)) ابن زرير عن أبي رجاء عن عمران موقوفًا. وبحر بن كنيز قال يحيى: ليس بشيء لا يكتب حديثه، وقال البخاري: ليس بقوي عندهم، وقال النسائي والدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: والضعف على حديث بيّن، وقال البيهقي بعد روايته: ضعيف لا يحتج به، وقال الهيثمي (4/ 87 و 108 و 7/ 290): بحر بن كنيز متروك. ورواه محمد بن مصعب القَرْقَساني عن أبي: الأشهب عن أبي رجاء عن عمران مرفوعًا به. أخرجه ابن عدي (6/ 2269)، -ومن طريقه البيهقي (5/ 327) وابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 225) - والعقيلي (4/ 139)، والخطيب (3/ 278)، نقل العقيلي، وابن عدي عن ابن معين إنكاره على القرقساني هذا الحديث، وقال: أنّى لمحمد بن مصعب هذا يروونه عن أبي رجاء قوله: ثم قال: لم يكن من أصحاب الحديث. =

[النهي عن الخروج على الأئمة]

على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوِّز هذا البيع كما صرحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تُعين على معصية اللَّه تعالى كبيع السلاح للكفار والبُغَاة وقُطَّاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي اللَّه عليه، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه اللَّه ويسخطه، ومن هذا عَصْر (¬1) العنب لمن يتخذه خمرًا وقد لعنه رسول اللَّه هو والمعتصر معًا (¬2)، ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يُجوِّز له أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة، ونحن مطالبون بالظواهر (¬3)، واللَّه يتولى السرائر، وقد صرَّحوا بهذا، ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. [النهي عن الخروج على الأئمة] الوجه الثامن والتسعون: نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة -وإن ظلموا أو جاروا- ما أقاموا الصلاة (¬4)، سدًا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حَصَل بسبب قتالهم والخروج عليهم [من الشرور] (¬5) أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمةُ في بقايا تلك الشرور إلى الآن، وقال: "إذا ¬

_ = وقال البيهقي: "رفعه وهم والموقوف أصح ويروى ذلك عن أبي رجاء من قوله"، وكذا قال ابن معين نقله عنه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (8/ 103)، وعلّق البخاري في "صحيحه" - (4/ 322 - مع الفتح) الموقوف، في (البيوع): باب بيع السلاح في الفتنة وغيرها. وضعفه ابن حجر في "الفتح" (4/ 323) وقال في "التلخيص" (4/ 18): وهو ضعيف، والصواب وقفه، وكذا في "التغليق" (3/ 226 - 227) وعزاه لابن أبي عاصم في "البيوع" مرفوعًا وأسنده من طريق زاهر بن طاهر مرفوعًا. (¬1) في (ك): "عصير". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) كذا في (ق) وفي سائر الأصول: "في الظواهر". (¬4) في هذا الباب أحاديث منها: حديث أم سلمة: رواه مسلم (1854) في (الإمارة): باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع، وترك قتالهم ما صلوا. وحديث عوف بن مالك: رواه مسلم أيضًا (1855) في باب خيار الأئمة وشرارهم. (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.

[لم جمع عثمان المصحف على حرف واحد]

بُويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما" (¬1) سدًا لذريعة الفتنة (¬2). [لِمَ جمع عثمان المصحفَ على حرف واحد] الوجه التاسع والتسعون: جَمْع عثمان المصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة (¬3) لئلا يكُون ذريعة إلى اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (¬4). ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء اللَّه الحسنى التي مَنْ أحصاها دخل الجنة (¬5)، تفاؤلًا بأنه من أحصى هذه الوجوه وعلم أنها من الدين وعمل بها دخل الجنة؛ إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب تعالى ومعرفة أحكامه، وللَّه وراء ذلك أسماء وأحكام (¬6). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1853) في (الإمارة): باب إذا بويع لخليفتين، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) سقط هذا الوجه بتمامه من (ك). (¬3) في هذا حديث أنس بن مالك، وفي قول عثمان للَّجنة التي كُلِّفت بجمع القرآن: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزَلَ بلسانهم" رواه البخاري (4984) في فضائل القرآن: باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، و (4987) باب جمع القرآن. (¬4) سقط هذا الوجه بتمامه من (ك). (¬5) يشير إلى حديث: "إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة". رواه مسلم (2677) في (الذكر والدعاء): باب في أسماء اللَّه تعالى وفضل من أحصاها، من حديث أبي هريرة. وفصلت في تخريج طرقه على وجه يكاد يكون فيه استيعاب في تعليقي على جزء أبي نعيم المفرد في طرق هذا الحديث. قال (و): "إن للَّه أسماء حسنى أكثر من التسعة والتسعين، ومعنى الحديث: أن هذه تختص بذلك، ومعنى إحصائها: تدبرها والعمل بما توجبه، لا كما يزعم نعقة المقابر والموالد والدروشة من أن ترديدها يدخل الجنة، ولم يذكر ابن تيمية غير ثلاثين مثالًا لسد الذرائع دخلت هنا كلها ما عدا مسألة واحدة هي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحة لئلا يكون من ذريعة إلى قول الناس: إن محمدا -صلى اللَّه عليه وسلم- يقتل أصحابه؛ لأن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه، وهذا النفور حرام. (ص 258 ج 3 فتاوى) " اهـ. (¬6) نعم، للَّه تعالى أسماء أكثر من هذه التسعة والتسعين، فإنها لا تعد ولا تحصى، لا يعلمها إلا اللَّه تعالى؛ دليل ذلك ما صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. . . ". =

[باب قيمة سد الذرائع]

[باب قيمة سدّ الذرائع] وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان (¬1)؛ أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المَفْسَدة، فصار (¬2) سد الذرائع المُفْضِية إلى الحرام (¬3) أحد أرباع الدين. فصل [تجويز الحيل يناقض سد الذريعة] وتجويزُ الحِيَل (¬4) يُنَاقض سدَّ الذرائع مُنَاقَضَةً ظاهرةً؛ فإن الشارع يَسُدُّ الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة (¬5)، فأين مَنْ يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرَّم إلى مَنْ يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ فهذه الوجوه الذي ذكرناها وأضعافُها تدل على تحريم الحِيَل والعمل بها والإفتاء بها في دين اللَّه (¬6)، ومن تأمل أحاديث اللَّعْن وجد عامتها لمن استحل ¬

_ = والحديث أخرجه أحمد (1/ 391)، وصححه شيخنا الألباني في "تخريج الكلم الطيب" (ص 73)، والشاهد: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر أن أسماءه سبحانه ثلاثة أقسام: الأول: ما علَّمه اللَّه تعالى لمن شاء من خلقه؛ سواء الملائكة أو غيرهم، ولم ينزله اللَّه تعالى في كتابه الكريم. والثاني: قسم أنزله اللَّه سبحانه في كتابه فعرفناه به. والثالث: قسم استأثر اللَّه عز وجل به عنده في علم غيبه، لم يطلع عليه أحدًا من خلقه، فهذا القسم الأخير انفرد اللَّه تعالى بعلمه، فدل الحديث على أن أسماء اللَّه تعالى أكثر من التسعة والتسعين اسمًا. وانظر -إن شئت-: "مجموع الفتاوى" (6/ 379 - 382) لشيخ الإسلام، و"بدائع الفوائد" (1/ 166 - 167) للمؤلف، وتقديمي لجزء أبي نعيم "طرق حديث إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا". (¬1) في تسمية الأوامر تكليف انظر: "مدارج السالكين" (1/ 91)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 132) مهم جدًا. (¬2) في (ن): "فكان". (¬3) في (ق) و (ك): "المحرم". (¬4) "عرّف ابن تيمية الحيلة بقوله: أن يسقط الواجب أو يحل الحرام بفعل لم يقصد به ما جُعل ذلك الفعل له أو شُرع" (و). (¬5) في (ك): "بكل حيلة". (¬6) في (ك) و (ق): "والافتاء في دين اللَّه بها".

محارم اللَّه، أو أسقط (¬1) فرائضه بالحيل، كقوله: "لَعَن اللَّه المحلل والمحلل له" (¬2)، "لعن اللَّه اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشحومُ فَجَمَلَوها وباعوها وأكلوا ثمنها" (¬3)، "لعن اللَّه الراشي والمرتشي" (¬4)، "لعن اللَّه آكل الربا ومُوكِلَه وكاتبه وشاهده" (¬5)، ومعلوم أن الكاتب والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر (¬6)، ولعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها (¬7)، ومعلوم أنه إنما عصر عنبًا، ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (¬8)، وقَرَنَ بينهما وبين آكل الربا وموكله، والمحلل والمحلل له (¬9)، في ¬

_ (¬1) في (د): "وأسقط". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه قريبًا. (¬4) أخرجه الترمذي في "الجامع" (أبواب الأحكام): باب ما جاء في الراشي والمرتشي في الحكم (3/ 623/ رقم 1337)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الأقضية): باب كراهية الرشوة (3/ 300/ رقم 3580) وابن ماجه في "السنن" (كتاب الأحكام): باب التغليظ في الحيف والرشوة (2/ 775/ رقم 2313)، وأحمد في "المسند" (2/ 164، 190، 194، 212) والطيالسي في "المسند" (رقم 2276)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 102 - 103)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 585)، والطبراني في "الصغير" (1/ 28)، والدارقطني في "العلل" (4/ 275)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 138 - 139)، والبغوي في "شرح السنة" (1/ 87 - 88/ رقم 2493) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بإسناد صحيح. وفي الباب عن أبي هريرة، أخرجه الترمذي في "الجامع" (3/ 622/ رقم 1336)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 103)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 1196 - موارد)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 585). وعن أم سلمة عند الطبراني بلفظ: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن الراشي والمرتشي في الحكم، وإسناده جيد؛ كما في "الترغيب والترهيب" (3/ 143). (¬5) سبق تخريجه. (¬6) في (و) و (ق) و (ك): "ربا المجاوره الظاهر"، وقال (د): "في عامة الأصول: "ربا المجاورة الظاهر" ونعتقد أنه تحريف ما أثبتناه". (¬7) سبق تخريجه. (¬8) "الواصلة: التي تصل شعرها بشعر آخر زور، والمستوصلة: التي تأمر من يفعل بها ذلك، وروي عن عائشة أنها قالت: ليست الواصلة بالتي تعنون، ولا بأس أن تعري المرأة عن الشعر، فتصل قرنًا من قرونها بصوف أسود، وإنما الواصلة التي تكون بغيًا في شبيبتها، فإذا أسنَّتْ وصلتها بالقيادة. والواشمة: صانعة الوشم، والمستوشمة أو الموتشمة: هي التي يفعل بها ذلك" (و). (¬9) مسألة التحليل في النكاح انظرها في "زاد المعاد" (4/ 5 - 6، 66، 212)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 97)، و"تهذيب السنن" (3/ 22 - 23).

حديث ابن مسعود (¬1)، وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الأصناف وهو التدليس والتلبيس؛ فإن هذه تُظْهر من الخِلقْة ما ليس فيها، والمحلل يظهر من الرَّغْبة ما ليس عنده، وآكل الربا يستحله بالتدليس والمخادعة فيُظهر من عَقْد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يستحل الربا بالبيع، وذاك يستحل الزنا باسم النكاح، فهذا يفسد الأموال، وذاك يفسد الأنساب، وابن مسعود هو راوي هذا الحديث، وهو راوي حديث: "ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلّوا بانفسهم العقاب" (¬2) واللَّه تعالى مسخ الذين استحلَّوا محارمه بالحيل قردَةً وخنازير جزاء من جنس عملهم؛ فإنهم لما مسخوا شَرْعه وغيَّروه عن وجهه مسخ وجوههم وغيرها عن خلقتها، واللَّه سبحانه وتعالى ذم أهل الخِدَاع والمكر، ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وأخبر أن المنافقين يُخادعون اللَّه (¬3) وهو خادعُهم، وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم وأقوالهم لأفعالهم، وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة، وهذه الأوصاف منطبقة عليهم؛ فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 402)، وأبو يعلى (4981)، ومن طريقه ابن حبان (4409) من طريق شربك عن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه مرفوعًا به، وعند أحمد وأبي يعلى زيادة في أوله. قال الهيثمي (4/ 118): "وإسناده جَيِّد"! قلت: أنّى له الجودة، وفيه شريك، وهو القاضي سيء الحفظ، وقد اختلف فيه. فرواه سلام بن سليم عن سماك عن عبد الرحمن عن أبيه قوله: "إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن بهلاكها". أخرجه ابن أبي الدنيا في "العقوبات" (9)، وهذا أشبه. ورواه عمرو بن أبي قيس عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. أخرجه الطبراني في "الكبير" (460) من طريق علي بن هاشم بن مروزق عن أبيه عنه به. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 118): هاشم بن مروزق لم أجد من ترجمه، وبقية رجاله ثقات. وهاشم هذا وثقه أبو حاتم. ورواه عمرو بن أبى قيس أيضًا عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس. أخرجه الحاكم (2/ 37) من طريق محمد بن سعيد بن سابق عنه به مرفوعًا، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، مع أن رواية سماك عن عكرمة مضطربة! (¬3) في (ك) و (ق): "يخادعونه".

بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه (¬1)، ولهذا يقال: "طريق خَيْدَع" إذا كان مخالفًا للقصد لا يُفطن له، ويقال للسراب: "الخيدع" لأنه يخدع من يَرَاه ويغرّه وظاهره خلاف باطنه، ويقال للضب: "خادع" وفي المثل: "أخدَعُ من ضَبٍّ" لمراوغته (¬2)، ويقال: "سوق خادعة" أي متلونة، وأصله الاختفاء والستر، ومنه "المَخْدَع" في البيت؛ فوزان بين قول القائل: آمنا باللَّه وباليوم الآخر، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه، إنشاءًا للإيمان وإخبارًا به، وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصدٍ له ولا مطمئنٍ به، وإنما قاله متوصلًا به (¬3) إلى أمْنه وحَقْن دمه أو نَيْل غرض دنيوي، وبين قول المرابي: بعتك هذه السلعة بمئة، وليس لواحدٍ منهما غرض فيها بوجه [من الوجوه] (¬4)، وليس مبطنًا لحقيقة هذه اللفظة، ولا قاصدًا له ولا مطمئنًا به، وإنما تكلم بها متوسلًا (¬5) إلى الربا، وكذلك قول المحلِّل: تزوجتُ هذه المرأة، أو قَبِلتُ هذا النكاح، وهو غير مبطن لحقيقة النكاح، ولا قاصدٍ له ولا مريدٍ أن تكون زوجَتَه بوجه، ولا هي مريدة لذلك ولا الولي، هل تجد بينهما فرقًا في الحقيقة أو العُرْفِ؟ فكيف يُسمَّى أحدهما مخادعًا دون الآخر، مع أن قوله: بعتُ واشتريتُ واقترضتُ وأنكحتُ وتزوجتُ غير قاصد به انتقالَ الملك الذي وُضِعتْ له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت (¬6) له هذه الكلمة بل قَصْدُه ما ينافي مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد -وهو عود المرأة إلى زوجها المطلِّق، وعود السلعة إلى البائع- بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جُعلت لها حقائق ومقاصد مظهرًا لإرادة حقائقها ومقاصدها ومبطنًا لخلافه؛ فالأول نفاق في أصل الدين، وهذا نفاق في فروعه، يوضح ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه جاءه رجل فقال: إن ¬

_ (¬1) انظر: "لسان العرب" (2/ 1113) مادة (خ د ع)، و"معجم مقاييس اللغة" (1/ 279) لابن فارس. (¬2) قال (و): "يضرب لمن تطلب إليه شيئًا وهو يروغ إلى غيره. قال الشاعر: وأخدع من ضب إذا جاء حارش ... أعد له عند الذنابة عقربا وذلك أن بيت الضب لا يخلو من عقرب لما بينهما من الألفة". اهـ. قلت: انظر: "مجمع الأمثال" (1/ 260/ 1373) للميداني. (¬3) في المطبوع: "متوسلًا به". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "متوصلًا". (¬6) في (ن) و (ق): "وضعت".

[دليل تحريم الحيل]

عمِّي طلق امرأته ثلاثًا، أيحلها له رجل؟ فقال: مَنْ يخادع اللَّه يخدعه (¬1)، وصح عن أنس و [عن] (¬2) ابن عباس أنهما سُئلا عن العِينَةِ، فقالا: إن اللَّه لا يُخْدَع، هذا مما حرَّم اللَّه ورسوله (¬3)، فسمَّيا ذلك خِداعًا، كما سَمَّى عثمان وابن عمر نكاحَ المحلِّل [نِكاح] (¬4) دلسة (¬5)، وقال أيوب السختياني في أهل الحِيل: يُخادعون اللَّه كأنما يُخادِعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانًا كان أهون عليَّ (¬6)، وقال شريك بن عبد اللَّه القاضي في "كتاب الحيل" (¬7): هو كتاب المخادعة. [دليل تحريم الحيل] وتلخيص هذا أن الحيل المحرَّمة مُخَادعة للَّه، ومخادعة اللَّه حرام: أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين -وهم أعلم الأمة بكلام اللَّه ورسوله ومعانيه- سَمَّوْا ذلك خداعًا، وأما الثانية فإن اللَّه ذم أهل الخداع، وأخبر أن ¬

_ (¬1) مضى تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ذكره المؤلف -رحمه اللَّه- وعزاه لمُطَيَّن في كتابه "البيوع". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) أما تسمية عثمان لنكاح التحليل نكاح دلسة فقد رواه البيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 208 - 209) من طريق أبي الأسود ومُعَلّى عن ابن لهيعة عن بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار عنه. وسليمان بن يسار الهلالي لم يسمع من عثمان بن عفان. وأبو الأسود هو النضر بن عبد الجبار، ذكر بعضهم أن حديثه عن ابن لهيعة قبل اختلاطه، وذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 181) من طريق آخر عن عثمان وفيه انقطاع أيضًا، وأبو مرزوق التجيبي، لم يسمع من عثمان، وفيه راوٍ لم يعرف بجرح ولا تعديل. وأما ابن عمر فلم أجد أنه سماه نكاح دلسة. وقد وجدت عنه أنه سمّاه سفاحًا كما تقدم في قوله: كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانظر "المستدرك" (2/ 199). وروى عبد الرزاق (10776)، والبيهقي (7/ 208) من طريق معمر عن الزهري عن عبد الملك بن المغيرة قال: سئل ابن عمر عن تحليل المرأة لزوجها فقال: ذاك السفاح، ورواته ثقات. قال (و): "والمؤلف ينقل عن شيخه ابن تيمية، انظر (ص 110 وما بعدها ج 3 فتاوى) " اهـ. قلت: وانظر: "بيان الدليل" (ص 62 - 64, 283 فما بعدها) لشيخ الإسلام رحمه اللَّه تعالى. (¬6) مضى تخريجه، وهو عند البخاري في "صحيحه" تعليقًا. (¬7) انظر عنه لزامًا كتابي: "كتب حذر منها العلماء" (1/ 179 - فما بعد).

[عن أصحاب السبت]

خداعهم إنما هو لأنفسهم، وأن في قلوبهم مرضًا، وأنه سبحانه خادعُهم، وكل هذا عقوبة لهم، ومدار الخداع على أصلين: أحدهما: إظهار فعل لغير مقصوده الذي جُعِلَ له. الثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له، وهذا منطبق على الحيل المحرمة، وقد عاقب اللَّه سبحانه المتحيّلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد (¬1) جنَّتهم (¬2) عليهم وإهلاك ثمارهم، فكيف بالمتحيّل على إسقاط فرائض اللَّه وحقوق خلقه؟ ولَعَن أصحاب السَّبْت ومَسَخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم. [عن أصحاب السبت] قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] قال: رَمَوُا الحيتان في السبت، ثم أرجؤوها في الماء، فاستخرجوها بعد ذلك، فطبخوها فأكلوها (¬3) واللهِ أوْخَمَ أكلَةٍ، أكلَةً أسْرَعُهُ (¬4) في الدنيا عقوبة وأسرعه عذابًا في الآخرة، واللَّه ما كانت لحوم الحيتان تلك أعظم (¬5) عند اللَّه من دماء قوم مسلمين، [إلا] أنه عَجَّلَ لهؤلاء وأخَّر لهؤلاء (¬6). وقوله: "رموها في السبت" يعني احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت كما بيَّن غيرُه أنهم حَفَرُوا لها حياضًا ثم فتحوها عشية الجمعة، [أو أنه أراد أنهم رموا الحبايل يوم السبت، ثم أخروها في الماء إلى يوم الأحد، فاستخرجوها بالحيتان يوم الأحد] (¬7) ولم يرد أنهم باشَرُوا رميها يوم السبت؛ إذ لو اجترءوا على ذلك ¬

_ (¬1) في (د)، و (ط) و (ك): "بحد" بحاء. (¬2) في (ق): "جهنم" وفوقها "كذا". (¬3) في (و): "فأكلوها [فأكلوا] وقال: "عن ابن تيمية الذي ينقل عنه المؤلف (ص 711 ج 3 فتاوى). قلت: في "بيان الدليل" (ص 74 - تحقيق فيحان المطيري): "فأكلوها"، وقال المعلق عليها: في (م) فأكلوا، وفي (ق) فأكلوها فأكلوا". (¬4) كذا في (ك) و (ق) في هذا الموطن والذي يليه وهي مجودة في الأخيرة، وفي سائر الأصول: "أسرعت". (¬5) في (ك) و (ق): "تلك الحيتان باعظم". (¬6) انظر: "جامع البيان" (2/ 171) للطبري، "التفسير الكبير" (3/ 117، 15/ 39، 42)، "الجامع لأحكام القرآن" (7/ 306) (1/ 439)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل" (ص 74)، والمصنف -رحمه اللَّه- ينقل نقلًا حرفيًا عن ابن تيمية، ويتصرف أحيانًا.

لاستخرجوها، قال شيخنا (¬1) رضي اللَّه عنه: وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى (¬2)، وإنما فعلوا ذلك تأويلًا واحتيالًا ظاهرُهُ ظاهرُ الاتقاء وحقيقتُه حقيقةُ الاعتداء، ولهذا -واللَّه أعلم- مُسِخوا قِردةً لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مَسَخَ أولئك المعتدون دينَ اللَّه بحيث لم يتمسكوا إلا بما (¬3) يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مَسَخهم اللَّه قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة، جزاءً وفاقًا. يقوي ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا و [أكلوا] (¬4) أموالَ الناس بالباطل [كما قصَّهُ اللَّه في كتابه] (¬5)، وهو أعظم من أكل الصيد [المحرَّم] (4) في يوم بعينه، [ألا ترى أن ذلك حرام في شريعتنا -أيضًا- والصيد في السبت ليس حرامًا علينا؟ ثم إن أَكَلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا] (¬6) بالمسخ كما عُوقب به من استحلَّ الحرام بالحيلة [وإنما عوقبوا بشيء آخر من جنس عقوبات غيرهم، فيشبه -واللَّه أعلم- أن يكون هؤلاء] (¬7) لما كانوا أعظم جرمًا [كانت عقوبتهم أعظم] (¬8)، فإنهم بمنزلة المنافقين [يفعلون ما يفعلون] (¬9) و [هم] (¬10) لا يعترفون ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل" (ص 76)، ونقل منه بشيء من التصرف في بعض الألفاظ، غضضت الطرف عنها لكثرتها، وأثبتُّ كل ما سقط، واللَّه المستعان. (¬2) الذي في "بيان الدليل": "ومعلوم أنهم لم يستحلوا تكذيبًا لموسى -عليه السلام-، وكفرًا بالتوراة، وإنما هو استحلال تأويل واحتيال. . . إلخ"، وكذا علّق (و)، وعزاه إلى "الفتاوى الصغرى" (3/ 81)، وفي (ك): "وموسى" بدل "وبموسى". (¬3) في (ق): "ببعض ما". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام"، عدا (و) فأثبته، وقال: "ما بين القوسين عن المصدر السابق؛ فهو ينقل عنه بلفظه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام"، عدا (و) فأثبته، وعلّق عليه التعليق السابق، وابن القيم -رحمه اللَّه- لشير إلى قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160، 161]. (¬6) بدل ما بين المعقوفتين من نسخ "الإعلام" جميعها: "ولم يعاقب أولئك"، وعلق عليها (و) قائلًا: "يعني أكلة الربا وأكلة أموال الناس بالباطل" اهـ. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في جميع نسخ الإعلام: "لأن هؤلاء". (¬8) ما بين المعقوفتين سقطت من نسخة "بيان الدليل" المحققة!! (¬9) ما بين المعقوفات سقطت من نسخة "بيان الدليل" المحققة!! (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام".

بالذنب بل [قد] (¬1) فسدت عقيدتهم وأعمالهم، [كما قال أيوب السختياني: "لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون عليّ"، كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن] (¬2) مَنْ أكل الربا [وأموال الناس (بالباطل)] (¬3) والصيد المحرم عالمًا [بأنه حرام فقد اقترن] (¬4) بمعصيته اعترافُه بالتحريم (¬5) وخشيته للَّه واستغفاره وتوبته يومًا ما، واعترافه بأنه مذنب عاصٍ، وانكسار قلبه من ذل المعصية، وازدراؤه (¬6) على نفسه، ورجاؤه لمغفرة ربه له، وعد نفسه من (¬7) المذنبين الخاطئين، وهذا كله إيمان يُفْضِي بصاحبه إلى خير، بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين اللَّه، ولهذا حَذَّر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمته من ارتكاب الحيل فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم اللَّه بأدنى الحيل" (¬8) وقد أخبر اللَّه تعالى أنه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها: {نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] (¬9). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في جميع نسخ "الإعلام": "بخلاف". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة "بيان الدليل" المحققة وما بين القوسين سقط من (ك) و (ق). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في جميع نسخ "الإعلام" و (ن): "بتحريمه فإنه يقترن". (¬5) إلى هنا كان نقل ابن القيم بتصرف يسير كما رأيت، وبعد ذلك نقل بالمعنى عن شيخه، فانظر: "بيان الدليل" (ص 77 - 78). (¬6) في (ن) و (ق): "إزراؤه". (¬7) في (ن) و (ك) و (ق): "مع". (¬8) رواه ابن بطة في جزء "إبطال الحيل" (ص 46 - 47): حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن سلم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني: حدثنا يزيد بن هارون: حدثنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا به. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (1/ 111 - دار المعرفة): هذا إسناد جيّد، وأحمد بن مسلم هذا وثقه الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي، وباقي رجاله مشهورون على شرط الصحيح، وذكر مثله (2/ 268) وزاد: ويصحح الترمذي بهذا الإسناد كثيرًا. قلت: أحمد بن محمد هذا في المطبوع ابن سلم وسواء ابن سلم أو ابن مسلم فلم أعثر على ترجمته، لا في "تاريخ الإسلام" للذهبي، ولا في غيره. والحديث قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في إبطال الحيل، (3/ 23 - 24 - من مجموع الفتاوى): "وهذا إسناد جيّد، يصحح مثله الترمذي وغيره تارة، ويحسنه تارة", وحسنه أيضًا (3/ 287)، وجوّده المصنف في "إغاثة اللهفان" (1/ 384). وانظر: "غاية المرام" (رقم 11)، و"إرواء الغليل" (5/ 375/ رقم 1535). (¬9) قال (و): "انظر ص 118 وما بعدها المصدر السابق، وقد تصرف ابن القيم في بعض ما نقل" اهـ.

[التحذير من استحلال محارم الله بالحيل]

[التحذير من استحلال محارم اللَّه بالحيل] فحقيقٌ بمن اتقى اللَّه وخاف نَكَالَه أن يَحْذَر استحلالَ محارم اللَّه بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من اللَّه ما أظهره مكرًا وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن للَّه يومًا تَكَعُّ فيه الرجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السرائر، وتظهر فيه الضمائر، ويصير الباطل فيه ظاهرًا، والسر علانية، المستور مكشوفًا، والمجهول معروفًا، [ويُحَصَّل] (¬1) ويبدو ما في الصدور، كما يُبَعْثرُ ويُخْرَجُ ما في القبور، وتجري أحكامُ الربِّ جل جلاله هنالك على القصود والنيات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة للَّه ورسوله وكتابه وما فيها من البر [والصدق] (1) والإخلاص للكبير المتعال، وتَسْوَدُّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر والاحتيال، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123] (¬2). [الأعمال تابعة لمقاصد عاملها] وقد فصل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ (¬3) ما نوى" (¬4) الأمْرَ في هذه الحيل وأنواعها، فأخبر أن الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها (¬5)، وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره، وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللًا، ومَنْ نوى الربا بعقد التبايع كان مُرَابيًا، ومن نوى المكر والخداع كان ماكرًا مخادعًا، ويكفي هذا الحديث وحده في إبطال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) للمزيد في مسألة تحريم الحيل، انظر: "سد الذرائع" (ص 85 - 95، 627 - 629، 644)، و"الموافقات" للشاطبي (3/ 8، 108 - 110 - بتحقيقى)، و"الأشباه والنظائر" (ص 406 - 416) لابن نجيم، و"المغني" (4/ 49 - 50 - الشرح الكبير)، و"بيان الدليل" (ص 61، 351)، و"تاريخ التشريع الإسلامي" (ص 333 - 337) لمناع القطان، و"إغاثة اللهفان" (1/ 498، 583 و 2/ 3، 162)، و"ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية" (255، 282) للبوطي. (¬3) في (د) و (ط) و (ك) و (ق): "وإنما لامرئ ما نوى". (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (ن) و (ق): "ونهاياتها".

الحيل، ولهذا صدَّر به حافظ الأمة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل (¬1)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبطل ظاهر هجرة مهاجر أم قيس بما أبطنه ونَوَاه من إرادة أم قيس (¬2)، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا (¬3)، إلا أن تكونَ صَفْقَة خيار، ولا يحلُّ له أن يفارقه خشيةَ أن يسْتقيله" (¬4) فاستدل به الإمام أحمد وقال: فيه إبطال الحيل، وقد أشكل هذا على كثير من الفقهاء بفعل ابن عمر؛ فإنه كان إذا أراد (¬5) أن يلزم البيع مشى خُطَوَات (¬6)، ولا إشكال بحمد اللَّه تعالى في الحديث، وهو مِنْ أظهر (¬7) الأدلة على بطلان التحيل لإسقاط حق مَنْ له حق؛ فإن الشارع ¬

_ (¬1) قال (د): "كذا ولعل أصل الحبارة: "صدر به. . . صحيحه". وقال (و) -وكأنه يرد عليه-: "صدر المؤلف بالحديث "صحيحه" في (باب بدء الوحي)، وأخرجه في (الإيمان) و (العتق) و (الهجرة) و (الإيمان والنذور) و (ترك الحيل)، فقال في أوله: "باب في ترك الحيل، وأن لكل امرئ ما نوى من الأعمال وغيرها" ثم ذكر الحديث، فتعبير ابن القيم مستقيم، لا كما ظن بعض محققي الكتاب" اهـ. (¬2) جعل قصة مهاجر أم قيس سببًا لورود حديث عمر "إنما الأعمال. . . " من الأوهام، ووقع في هذا الغلط ابن دقيق العيد في "إحكام الأحكام" (1/ 79 - 82)، وأنكر ذلك ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (ص 9)، وابن حجر في "الفتح" (1/ 10)، وانظر: "شرح أحمد شاكر لألفية السيوطي" (ص 214)، و"التأصيل" (ص 73). (¬3) في المطبوع: "حتى يتفرقا". (¬4) رواه أحمد (4/ 183)، وأبو داود (3456) في (البيوع): باب خيار المتبايعين، والترمذي (1247) في (البيوع): باب ما جاء في البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، والنسائي (7/ 251 - 252) في (البيوع): باب وجوب الخيار للمتبايعين قبل افتراقهما بأبدانهما، وابن الجارود (620)، والدارقطني (3/ 6)، والبيهقي (5/ 271) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وأصل الحديث ثابت في "صحيح البخاري" (2107)، و (2109) و (2111)، و (2113) و (2116)، ومسلم (1531) من حديث ابن عمر دون قوله: "ولا يحل له أن. . . "، وهذه الزيادة تكلم فيها بعض العلماء انظر مفصلًا "فتح الباري" (4/ 331 - 332) وتعليقي على "الموافقات" (1/ 425). وقال (و): ". . . يستقيله: يفسخ بيعه". وفي (ق): "أن يفارق صاحبه". (¬5) في (ك): "إذا كان أراد"!! (¬6) رواه البخاري (2107) في (البيوع): باب كم يجوز الخيار؟ و (2116) باب إذا اشترى شيئًا فوهب من ساعته قبل أن يتفرقا، ومسلم (1531) (45) في (البيوع): باب ثبوت خيار المجلس للمتبايعين. (¬7) في (ق): "أعظم".

صلواتَ اللَّه وسلامه عليه وعلى آله أثبت خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه اللَّه سبحانه [فيه] (¬1)؛ فإن العقد قد يقع بغتة من غير تروٍّ ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريمًا يتروَّى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما عيبًا كان خفيًا، فلا أحسن من هذا الحكم، ولا أرفق (¬2) لمصلحة الخلق؛ فلو مكّن أحد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض في الحال والمبادرة إلى التفرق لفاتت مصلحة الآخر، ومقصود الخيار بالنسبة إليه، وهب أنك أنت اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروَّى، فنهوضك حيلة على (¬3) إسقاط حقه من الخيار، فلا يجوز حتى يخيره؛ فلو فارق المجلس لغير هذه الحاجة (¬4) أو صلاة أو غير ذلك ولم يقصد إبطال حَقِّ الآخر (¬5) من الخيار لم يدخل في هذا التحريم، ولا يُقال: هو ذريعة إلى إسقاط حق الآخر من الخيار؛ لأن باب [سدّ] (¬6) الذرائع متى فاتت به مصلحةٌ راجحة أو تضمَّن مفسدة راجحة لم يُلتفت إليه؛ فلو مُنع العاقد من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرارٌ به ومفسدة راجحة؛ فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء وأوفَقُه للحكمة والمصلحة وللَّه الحمد. وتأمل قوله: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم اللَّه بأدنى الحيل" (¬7) أي أسهلها وأقربها، وإنما ذكر أدنى الحيل لأنَّ المطلِّقَ ثلاثًا مثلًا من أسهل الحيل (¬8) عليه أن يعطي بعضَ التيوس المستعارة عشرةَ دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوة وقد طيَّبها له، بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة؛ فإنها يصعب معها عَوْدُها إلى الأول جدًا، وكذلك من أراد أن يقرض ألفًا بألف وخمس مئة، فمن أدنى الحيل أن يعطيه ألفًا إلا درهمًا باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوي [درهمًا] (¬9) بخمس مئة، ولو أراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذّر عليه، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "رافق" وفي (ق): "اوفق" والمثبت من سائر الأصول. (¬3) في (ق): "في". (¬4) في (ك) و (ق): "لغير هذا لحاجة". (¬5) قال (د): في نسخة: "إبطال حق أخيه"، قلت: هو كما قال في: (ن) و (ك) و (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) سبق تخريجه قريبًا. (¬8) في (ق): "الأشياء". (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "أربع مئة".

وكذلك حيلة اليهود بنصب الشباك يوم الجمعة وأخذ ما وقع فيها يوم السبت من أسهل الحيل، وكذلك إذابتهم الشَّحْم وبيعه وأكل ثمنه. وقال الإمام أحمد في "مسنده": ثنا أسود بن عامر: ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا ضَنَّ (¬1) الناسُ بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينَة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل اللَّه؛ أنزل اللَّه بهم (¬2) بلَاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم" (¬3) ورواه ¬

_ (¬1) أي: بخلو بإنفاقهما في سبيل اللَّه، وقوله: "وتبايعوا بالعينة" فسرت بأن تبيع الشيء بثمن لأجل ثم تشتريه نقدًا بثمن أقل؛ فآلت المسألة إلى نقد عاجل قليل في نقد آجل كبير، وهو الربا بعينه، وذلك هو الواقع في قصة زيد بن أرقم. (¬2) في المطبوع: "عليهم". (¬3) أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 28)، وأبو أمية الطرسوسي في "مسند ابن عمر" (رقم 22)، والطبراني في "الكبير" (رقم 13583) من طريق أبي بكر بن عياش به. ونقل ابن التركماني في "الجوهر النقي" (3/ 316 - 317)، والزيلعي في "نصب الراية" (4/ 17) عن ابن القطان قوله في هذا الطريق -وعزاه لأحمد في "الزهد"-: "وهذا حديث صحيح، ورجاله ثقات"، ثم وقفت على كلامه في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 295). وتعقب ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 19) ابن القطان بقوله: "قلتُ: وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول؛ لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا؛ لأن الأعمش مدلس، ولم ينكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو عطاء الخراساني، فيكون فيه تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر؛ فرجع الحديث إلى الإسناد الأول، وهو المشهور". قلت: العجب من الحافظ فإنه القائل عنه في "بلوغ المرام" (رقم 860): "رجاله ثقات"، وقد جعل الأعمش في الطبقة الثانية من المدلسين (الذين احتمل أئمة الحديث تدليسهم وتجاوزوا لهم عنه)، ولم يقل أحد: إن الأعمش يدلس تدليس التسوية، ولماذا يفعل ذلك وهو قد رواه عن نافع أيضًا؟ كما قال أبو نعيم في "الحلية" (1/ 314)، وفي آخر كلام ابن حجر السابق إشارة إلى ما أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب البيوع): باب النهي عن العينة (3/ 274 - 275/ رقم 3462)، والدولابي في "الكنى والأسماء" (2/ 65)، والبيهقي في "الكبرى" (5/ 316)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 208 - 209)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1998) من طريق إسحاق أبي عبد الرحمن الخراساني عن عطاء الخراساني عن نافع عن ابن عمر. وإسناده ضعيف، قال المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (5/ 102 - 103): "في إسناده إسحاق بن أسيد أبو عبد الرحمن الخراساني، نزيل مصر، لا يحتج بحديثه، وفيه أيضًا عطاء الخراساني، وفيه مقال". وتابع عطاء الخراساني: فضالة بن حصين عن أيوب عن نافع؛ كما قال أبو نعيم في =

أبو داود بإسناد صحيح إلى حَيْوَةَ بن شُرَيْح [المصري] (¬1) عن إسحاق أبي (¬2) الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حَدَّثه أن نافعًا حَدَّثه عن ابن عمر (¬3)، شيخنا (¬4) -رضي اللَّه عنه-: وهذان إسنادان حَسَنانِ؛ أحدهما يشد الآخر ويقويه، فأما رجالُ الأول فأئمة مشاهير، ولكن يخاف (¬5) أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو ¬

_ = "الحلية" (3/ 319)، ومتابعته هذه أخرجها ابن شاهين في "الأفراد". وفضالة لا يصلح للمتابعة، قال أبو حاتم عنه: "مضطرب الحديث". وللحديث طرق أخرى يتقوى بها، منها: ما أخرجه أحمد في "المسند" (2/ 42، 84) من طريق شهر بن حوشب عن ابن عمر، وشهر حديثه حسن، ولا سيما في الشواهد. وما أخرجه أبو يعلى في "المسند" (10/ 29/ رقم 5659)، والطبراني في "الكبير" (رقم 13585)، والروياني في "المسند" (2/ 414 رقم 1422)، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" (رقم 317)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 313 - 314 و 3/ 318 - 319) من طريق ليث بن أبي سُليم عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر به، وبعضهم أسقط ابن أبي سليمان، كابن أبي الدنيا. وليث ضعيف. والخلاصة: الحديث صحيح بمجموع طرقه، وإلى هذا أشار ابن القيم في "تهذيب السنن" (5/ 103 - 104)، فقال بعد أن سرد بعض طرقه: "وهذا يبيّن أن للحديث أصلًا، وأنه محفوظ"، وساق له الشاطبي في "الاعتصام" (2/ 576 - ط ابن عفان) شاهدًا مرفوعًا، وهو حديث: "إذا تبايعتم بالعينة. . . "، وأثرًا لعلي عند أبي داود في "السنن" (3382) و"مسند أحمد" (1/ 116)، وقال: "وهذه الأحاديث الثلاثة -وإن كانت أسانيدها ليست هناك -مما يعضد بعضه بعضًا وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع". وقد وقع المسلمون في هذه العلل؛ حتى أفضت بهم إلى أشد بلاء يصبه اللَّه على رؤوس الأمم، وهو استيلاء العدو على أوطانهم والقبض على زمام أمورهم؛ فهل لهم أن يغيروا ما بهم ويعطفوا على تعاليم دينهم؟ فنراهم كيف ينهضون لإعادة شرفهم المسلوب المغتصب بنفوس سخية وعزائم لا تفتر. شعور فعلم فاتحاد فقوّة ... فعزم فإقدام فإحراز آمال (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك) و (ق): "ابن". (¬3) ولفظه: "قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سقط اللَّه عليكم ذلًا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم"، وهو في "سنن أبي داود" (كتاب البيوع): باب النهي عن العينة (3/ 3462)، وقد مضى تخريجه في الذي قبله. (¬4) في "فتاويه" (3/ 133) (و). قلت: وهو أيضًا في "بيان الدليل" (ص 110). (¬5) في "بيان الدليل": "تخاف".

[العينة]

أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر؛ فالإسناد (¬1) الثاني يبين أن للحديث أصلًا محفوظًا عن ابن عمر؛ فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور، وحَيْوَة بن شريح كذلك وأفضل، وأما إسحاق أبو (¬2) عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حَيْوة بن شُريح والليث بن سعد ويحيى بن أيوب وغيرهم، قال (¬3): فقد روينا (¬4) من طريق ثالثٍ من حديث السَّرِيّ بن سهل الجند يسابوري (¬5) بإسناد مشهور إليه [قال] (¬6): ثنا عبد اللَّه بن رشيد: ثنا عبد الرحمن [بن محمد] (¬7)، عن ليث عن عطاء، عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمانٌ وما مِنَّا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا ضَنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينَة، وتركوا الجهاد، واتبعوا أذناب البقر، أدخل اللَّه عليهم ذلًا لا ينزعه (¬8) [عنهم] (¬9) حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم" (¬10) وهذا يبين أن للحديث أصلًا عن عطاء (¬11). [العينة] وروى (¬12) محمد بن عبد اللَّه الحافظ المعروف بمطيَّن (¬13) في كتاب "البيوع" ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "والإسناد"، وقال المعلق عليه: "في الأصل -فالإسناد". (¬2) هذا هو الصواب، وكذا في أصل "بيان الدليل"، و"سنن أبي داود"، وفي جميع نسخ "الإعلام": "بن". (¬3) "أي شيخ الإسلام في "فتاويه"، المصدر السابق" (و). (¬4) في "بيان الدليل": "وقد رويناه"، وقال المعلق: "في ق، وقد روينا". (¬5) انظر: "حديث السري" (ق 164/ أ). (¬6) ما بين المعقوفتين ليس في نسخ "الإعلام"، وسقطت من إحدى مخطوطتي "بيان الدليل" كما أفاد محققه. (¬7) ما بين المعقوفتين من (و)، و"بيان الدليل". (¬8) في (ق) و (ك): "يرفعه". (¬9) ما بين المعقوفتين ليس في "بيان الدليل". (¬10) في إحدى مخطوطتي "بيان الدليل": و"يرجعوا إلى دينهم". والحديث سبق ذكر طرقه قبل قليل. (¬11) إلى هنا ينقل عن شيخه -رحمهما اللَّه- في "بيان الدليل (ص 109 - 110)، أما ما بعد فقد تصرف فيه واختصره من "بيان الدليل" (ص 112 - 119) أيضًا فراجعه -إن شئت-. (¬12) في (ق): "وعن". (¬13) هو محمد بن عبد اللَّه بن سليمان، أبو جعفر الحضرمي الكوفي -مُطَيِّن-، أحد الأئمة والحفاظ، توفي سنة 297. وانظر ترجمته في: "سير إعلام النبلاء" (14/ 41)، و"الميزان" (3/ 607)، و"طبقات الحنابلة" (1/ 300).

له عن أنس أنه سُئِل عن العِينة (¬1)، فقال: إن اللَّه لا يُخْدَع، هذا مما حرم اللَّه ورسوله (¬2)، وروَى (¬3) أيضًا في "كتابه" عن ابن عباس قال: اتَّقُوا هذه العِينة، لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حَرِيرة، وفي رواية أن رجلًا باع من رجل حريرة بمئة ثم اشتراها بخمسين فَسُئل (¬4) ابن عباس عن ذلك، فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة (¬5)، وسُئل ابن عباس عن العينة -يعني بيع الحريرة- فقال: إن اللَّه لا يُخْدَع، هذا مما حرم اللَّه ورسوله (¬6)، وروى ابن بَطَّة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع" (¬7) يعني العِينَةَ، وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد، وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد. وقال (¬8) الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن امرأته "أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت لها أم ولد زيد: إني بعْتُ من زيد غلامًا بثمان مئة نسيئةً، واشتريته بست مئة نقدًا، فقالت: "أبْلغِي زيدًا أنَّه (¬9) قد أبطل جهاده مع رسول للَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا أن يتوب، بئسما شَرَيْتِ (¬10)، وبئسما اشتريت" (¬11) رواه الإمام أحمد وعمل به، ¬

_ (¬1) "يقول ابن تيمية: العينة في الأصل: السلف، والسلف يعم تعجيل الثمن وتعجيل المثمن، وهو الغالب هنا، يقال: اعتان الرجل وتعين إذا اشترى الشيء بنسيئته، كأنها مأخوذة من العين، وهو المعجل، وصيغت على فعلة، لأنها نوع منه، وقال الجوزجاني: إنها من العين لحاجة الرجل إلى العين من الذهب والورق" (و). (¬2) ذكره المؤلف أيضًا، ولم أجد من رواه غيره. (¬3) في (ن): "وعن". (¬4) في (د)، و (ط): "فسأل". (¬5) و (¬6) هذا والذي قبله عن ابن عباس في بيع العينة لم أجدهما بهذا اللفظ، وقد وجدت في "المحلى" (9/ 48 - 49) قال: روينا عن وكيع عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن حيان بن عمير القيسي عن ابن عباس في الرجل يبيع الجريرة -هكذا بالجيم- إلى رجل فكره أن يشتريها يعني دون ما باعها، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وقد ذكره ابن حزم، ولم يتكلم على رواته بشيء إلا أنه روى من طريق عبد الرزاق عن سفيان عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر ما يدل على الجواز، فجعله مما اختلف فيه الصحابة. مع أن ليثًا الذي في الإسناد هو ابن أبي سُليم الضعيف! ولو أنه جاء في خبر يخالف ما ذهب إليه ابن حزم -رحمه اللَّه- لشنَّع عليه -كعادته- عفا اللَّه عنه. (¬7) أخرجه الخطابى في "غريب الحديث" (1/ 218) بإسناد معضل، فهو ضعيف. (¬8) كذا في (ن)، وفي غيرها: "قال". (¬9) في (د)، و (ط): "أن". (¬10) "شريت: أي بعت، ومنه قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} " (د). (¬11) رواه أحمد وسعيد بن منصور -كما في "نصب الراية" (4/ 16) - ورواه البيهقي (5/ 330) =

وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشْدُد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين اللَّه فقد استوثق لدينه. وأيضًا فهذه امرأة أبي إسحاق -وهو أحد أئمة الإسلام الكبار- وهو أعلم بامرأته وبعدالتها، فلم يكن ليروِيَ عنها سنة يُحرِّم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة، بل يحابيها في دين اللَّه، هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق. وأيضًا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت ¬

_ = من طريق علي بن الجعد عن شعبة عن أبي إسحاق قال: دخلت امرأتي على عائشة. وقال: كذا جاء به شعبة عن طريق الإرسال، أي لم يقل: عن أبي إسحاق، عن امرأته كما هو في الروايات. ورواه عبد الرزاق (14812، 14813)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (1/ 376 - 377)، والدارقطني (3/ 52)، والبيهقي (5/ 330 - 331 و 331) و"معرفة السنن" (8/ 136 رقم 11396)، من طرق عن أبي إسحاق عن امرأته العالية به، ووقع عند عبد الرزاق (14813) تسمية أم ولد زيد أنها امرأة أبي السفر. وعند البيهقي وقع اسمها أُم مُحِبَّة، فالظاهر أنها أم محبة امرأة أبي السفر. ورواه الدارقطني (3/ 52)، وابن سعد (8/ 487) من طريق يونس بن أبي إسحاق عن أمه العالية قالت: خرجتُ أنا وأم محبة إلى مكة، فدخلنا على عائشة، وقال الدارقطني: وأم محبة والعالية مجهولتان لا يحتج بهما. وهو عند ابن سعد أوله. أقول: العالية هذه هي بنت أيفع، رد حديثها الدارقطني والشافعي في "الأم" (3/ 33 - ط الشعب)، وابن حزم في "المحلى" (9/ 60)، وقال ابن الجوزي في "التحقيق" قالوا: العالية مجهولة لا يقبل خبرها، قلنا: بل هي معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في "الطبقات" فقال: العالية بنت أيفع بن شراحيل امرأة أبي إسحاق السبيعي، سمعت من عائشة. أقول: كلامه في "طبقات ابن سعد" (8/ 487). وقال ابن التركماني في "الجوهر النقي" (5/ 330): قلت: "العالية" معروفة، روى عنها زوجها، وابنها، وهما إمامان، وذكرها ابن حبان في "الثقات"، وذهب إلى حديثها هذا الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه ومالك وابن حنبل والحسن بن صالح. ورد ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" -كما في "نصب الراية" (4/ 16) - القول بجهالتها ثم قال: "ولولا أن عند أم المؤمنين علمًا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد". قلت: ولذا جوّده المصنف فيما يأتي، وسبقه شيخه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (20/ 259 - 260)، وانظر "الموافقات" (1/ 456 - 457)، وتعليقي عليه.

عنها، ولا يعرف أحد قَدَحَ فيها بكلمة، وأيضًا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرًا في التابعين بحيث ترد به روايتهم (¬1). وأيضًا فإن هذه المرأة معروفة (¬2)، واسمها العالية، وهي جدة إسرائيل، كما رواه حرب من حديث إسرائيل: حدثني أبو إسحاق، عن جَدَته [العالية] (¬3) -يعني جدة إسرائيل؛ فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، والعالية امرأة أبي إسحاق، وجدة يونس، وقد حملا عنها هذه السنة، وإسرائيل أعلم بجدته وأبو إسحاق أعلم بامرأته. وأيضًا فلم يُعرف أحدٌ قطُّ من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قَدحَ فيها من أجله، ويستحيل في العادة أن تروي حديثا باطلًا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر (¬4). وأيضًا فإن في الحديث قصة، وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلّهم على أنه محفوظ، قال أبو إسحاق؛ حدثتني امرأتي العالية، قالت: دخلتُ على عائشة في نسوة، فقالت: [ما] (¬5) حاجتُكنَّ؟ فكان أول من سألها أم محبة، فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بِعْتُهُ جارية لي بثمان مئة درهم إلى العَطاء، وإنه أراد بيعها فابتعتُها منه بست مئة درهم نَقْدًا، فأقبلَتْ عليها وهي غَضبَى، فقالت: بئسما شَرَيْتِ، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جِهَادَه إلا أن يتوب، وأفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلًا، ثمَّ إنها سهل عليها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فَتَلَتْ عليها: ¬

_ (¬1) مذهب بعض المحدثين -كابن رجب وابن كثير- تحسين حديث المستور من التابعين، أفاده شيخنا الألباني في "الصحيحة" (1/ 555 - ط القديمة)، وفصّل في هذا الذهبي، فقال في آخر "ديوان الضعفاء" (ص 478): "وأما المجهولون من الرواة، فإن كان الرجل من كبار التابعين أو أوساطهم، احتمل حديثه، وتلقّي بحسن الظن إذا سلم من مخالفة الأصول، أو ركاكة الألفاظ، وإن كان الرجل منهم من صغار التابعين، فيتأنى في رواية خبره، ويختلف ذلك باختلاف جلالة الراوي عنه وتحريه، وعدم ذلك" وهذا تفصيل حسن مليح. ويؤكد ما قاله المصنف قول الذهبي أيضًا في "الميزان" (4/ 604) عند تراجم النساء (فصل في النسوة المجهولات)، قال: "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها"، وفي (ك): "روايتهم به"، وفي (ق): "رواياتهم به"، والمثبت من سائر الأصول. (¬2) في (ق): "فإن لهذه المرأة معرفة". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) جاءت بعدها في (د) الفقرة الموضوعة بين معقوفتين في الصفحة التالية. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] (¬1). وأيضًا فهذا الحديث إذا انضمَّ إلى تلك الأحاديث والآثار أفادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين. وأيضًا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث، مشتقة منه، مُفَسِّرة له. [وأيضًا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا؛ فإنها ربًا مُسْتَحل بأدنى الحيل] (¬2). وأيضًا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكِلَ الربا ومُوكِلَه، وبالغت في تحريمه، وآذنَتْ صاحبه بحرب من اللَّه ورسوله، [أن] (¬3) تبيحه بأدنى الحِيَل مع استواء المفسدة؟ ولولا أن عند أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها- علمًا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العِينَةِ لَمَا أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة، واستحلال الربا ردة، ولكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، كما عُذِر ابن عباس بإباحته بيعَ الدرهمِ بالدرهمين (¬4)، وإن لم يكنْ قَصْدُها هذا، بل قَصَدت أن هذا من الكبائر التي يقاوِم إثمُها ثوابَ الجهاد ويصير بمنزلة مَنْ عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئًا، ولو كان هذا اجتهادًا منها لم تمنع زيدًا منه، ولم تحكم ببطلان جهاده، ولم تَدعُه إلى التوبة؛ فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد، ولا يحكم بطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره، والصحابةُ -ولا سيما أم المؤمنين- أعلم باللَّه ورسوله، وأفْقَهُ في دينه من ذلك. وأيضًا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس أفْتَوْا بتحريم مسألة العِينَةِ (¬5)، وغَلَّظوا فيها هذا التغليظ في أوقات ووقائع مختلفة؛ [فلم] (¬6) يجيء عن واحد من الصحابة [ولا التابعين] (¬7) الرخصة في ذلك (¬8)، فيكون إجماعًا. ¬

_ (¬1) انظر التخريج السابق. (¬2) ما بين المعقوفتين تقدّمت في (د) في الصفحة السابقة وأثبتناهاهنا كما في (ن) و (ك) و (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) هذا هو المتقدم عنهم، (70، 79، 80) وقارن هذا الكلام وما بعده بـ"بيان الدليل" (ص 115 - 119) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه-. (¬6) في (ك) و (ق): "ولم". (¬7) في (ك) و (ق): "والتابعين". (¬8) في (ن) و (ك) و (ق): "الرخصة فيها"، وأشار إليها في هامش (د).

فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومَنْ ذكرتم، فغاية الأمر أنها مسألة [ذات] (¬1) قولين للصحابة، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد. قيل: لم يُقل زيد قط إن هذا حلال، ولا أفتى بها يومًا [ما] (1)، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله؛ إذ لعله فعله ناسيًا أو ذاهلًا أو غير مُتأمِّل ولا ناظر أو متأولًا أو ذنبًا يستغفر [اللَّه] (¬2) منه ويتوب أو يُصِرُّ عليه وله حسنات تقاومه، فلا يُؤثِّر شيئًا، قال بعض السلف (¬3): "العلم علم الرواية (¬4)، يعني أنه يقول: رأيت فلانًا يفعل كذا وكذا؛ [إذ لعله] (¬5) قد فعله ساهيًا" وقال إياس بن معاوية (¬6): "لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سَلْه يَصدُقْك" (¬7)، ولم يُذكر عن زيد أنه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة، وكثيرًا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نُبِّهَ انتبه، وإذا كان الفعل محتملًا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يُقَدَّمَ على الحكم، ولم يجُز أن يقال: مذهب زيد بن أرقم جواز العِينة، لا سيما وأم ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها (¬8) بأخذ رأس مالها (¬9)، وهذا كله يدل على أنهما لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه، وأنه مما أباحه اللَّه ورسوله. وأيضًا فبيع العِينَة إنما يقع غالبًا من مضطر إليها، وإلَّا فالمُسْتغني عنها لا يشغل ذمته بألف وخمس مئة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعو إلى ذلك، وقد روى أبو داود من حديث علي: "نَهَى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع المضطر، وبيع الغَرَر، وبيع الثمرة قبل أن تُدْركَ" (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) هو عطاء، وأورد نحوه عنه، ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (2/ 778 رقم 1448). (¬4) في (ق): "الرؤية". (¬5) في (ق) و (ك): "ولعله". (¬6) هو إياس بن معاوية بن قرة بن إياس المزني، أبو واثلة البصري، توفي سنة 122، انظر ترجمته في "تهذيب التهذيب" (1/ 390). (¬7) أخرجه وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 350)، وابن أبي شيبة كما في "تهذيب الكمال" (3/ 433)، وانظر: "الموافقات" للشاطبي (5/ 315 - بتحقيقي)، (¬8) في (ك) و (ق): "وافتتها". (¬9) في (ك): "ماله". (¬10) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 116)، وأبو داود في "سننه" (3382) في (البيوع): باب بيع المضطر، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (356)، والبيهقي (6/ 17)، وابن حزم =

وفي "مسند الإمام أحمد" عنه قال: "سيأتي على الناس زمان عَضُوض، يعضُّ الموسر على ما في يَدَيه، ولم يؤثر (¬1) بذلك، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وينهر (¬2) الأشرار، ويُسْتذلُّ الأخيار، ويُبايَعُ (¬3) المُضْطَّرون، وقد نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع المضطر، وعن بيع الغَرَر، وبيع الثمر قبل أن يطعم" (¬4). وله شاهد من حديث حذيفة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه سعيد، عن هُشَيْم، عن كَوْثر بن حَكيم، عن مكحول: [بَلَغَنِي] (¬5) عن حذيفة أنه حدث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن بعد زمانكم هذا زمانًا عَضُوضًا، يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤثر بذلك قال اللَّه تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وينهر (¬6) شِرارُ خلق اللَّه، يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطر حرام، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، إن كان عندك خير فَعُد به على أخيك ولا تَزِدْه هلاكًا إلى هلاكه" (¬7) وهذا من دلائل النبوة، فإن عامة العِينَة إنما تقع من ¬

_ = (9/ 22) من طرق عن هشيم: أخبرنا أبو عامر المزني صالح بن رستم: حدثنا شيخ من بني تميم قال: خطبنا علي. . . فذكر كلامًا له ثم ذكر الحديث في النهي عن بيع المضطر،. . مرفوعًا. ووقع في "سنن أبي داود": صالح بن عامر، وهو خطأ نبه عليه أبو داود حيث قال: كذا قال محمد، أي شيخه: محمد بن عيسى، وفصَّل ذلك الحافظ في "تهذيب التهذيب" في ترجمة صالح بن عامر، وبين وهم المزي في "تهذيب الكمال" حيث قال المزي: الصواب صالح عن عامر، فصالح هو ابن حي أو ابن رستم بن عامر، وعامر هو الشعبي. قال الحافظ: بل الصواب صالح أبو عامر، والشعبي ليس له مدخل في هذا الحديث، والحديث إسناده ضعيف؛ صالح بن رستم ضعيف، ولجهالة الشيخ من بني تميم. وقال البيهقي: وقد روي من أوجه عن علي وابن عمر وكلها غير قوية. (¬1) كذا في جميع النسخ، وفي "المسند": "يؤمر". (¬2) "يصيب فيه الناس عسف وظلم" (و) قلت: في جميع نسخ "الإعلام" هكذا براء آخره، وفي "المسند" بدال، وفي (ك) و (ق): "ينهك". (¬3) في (ق): "يباع". (¬4) هو الحديث السابق نفسه. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ك): "وينهار"، وفي (ق): "وينهك". (¬7) رواه أبو يعلى -كما في "تفسير ابن كثير" (3/ 549)، وليس هو في المطبوع منه- من طريق روح بن حاتم حدثنا هشيم به. وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 707) لابن أبي حاتم -وسقط من مطبوع =

[مسألة التورق]

رجل مضطر إلى نَفَقة يضنُّ بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح [عليه] (¬1) في المئة ما أحَبَّ. [مسألة التورّق] وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العِينة، وإن باعها لغيره فهو التورّق (¬2)، وإن رَجَعتْ إلى ثالث يدخل بينهما فهو مُحَلل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال هو أخِيةُ الربا (¬3)، وعن أحمد فيه روايتان (¬4)، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطَر (¬5) وهذا من فقهه -رضي اللَّه عنه-، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا رحمه اللَّه يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها وأنا حاضر مرارًا (¬6)، فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود [فيها] (¬7) بعينه مع زيادة الكلفة ¬

_ = "تفسيره" ولفظه وسنده عند ابن كثير- وابن مردويه، وضعَّفه. وقال ابن كثير: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، وفي إسناده ضعف". أقول: هذا فيه علتان. الأولى: جهالة من حَدَّث عن حذيفة. الثانية: كوثر بن حكيم، ضعفوه، قال أبو زرعة: ضعيف، وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال أحمد بن حنبل: أحاديثه بواطيل ليس بشيء، وقال الدارقطني وغيره: متروك. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه غير محفوظ. وقال البخاري: كوثر بن حكيم عن نافع منكر الحديث. فهذا حديث ضعيف جدًا واللَّه أعلم. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) نص ابن تيمية: "إن باعها لغيره بيعًا ثابتًا، ولم تعد إلى الأول بحال، فقد اختلف السلف في كراهيته، ويسمونه: التورق؛ لأن مقصوده الورق" (ص 138، ج 3 الفتاوى)، وبهذا يظهر معنى التورق" (و). قلت: وهو بنصه في "بيان الدليل" (ص 119)، وعبارة (و) فيها استدراك على (د) لما قال: "التورق: هكذا وقع هذا اللفظ في عامة الأصول، ولم يظهر لي وجهه". (¬3) الأخية -بوزن قضية-: عروة تربط إلى وتد مدقوق، تشد فيه الدابة" (د). وقال (و): "في المصدر السابق: أخبث الربا". (¬4) انظر: "الفروع" (4/ 171) لابن مفلح، و"المغني" (6/ 262 - جامعة الإمام) لابن قدامة. (¬5) انظر: "بيان الدليل" (ص 119). (¬6) كذا في (ق) و (ك)، وفي سائر الأصول: "مرارًا وأنا حاضر". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك).

[من الأدلة على تحريم الحيل]

بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرِّم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه (¬1). وقد تقدم الاستدلال على تحريم العينَةِ بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يحل سَلَف وبيع، ولا شرطان في بيع" (¬2)، وبقوله: "مَنْ باعَ بيعتين في بيعة فله أوْكَسُهُما أو الربا" (¬3) وأن ذلك لا يمكن وقوعه [إلا على العِينة] (¬4). [من الأدلة على تحريم الحيل] ومما يدل على تحريم الحيل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَيْدُ البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم" (¬5) رواه أهل "السنن"، ومما يدل على تحريمها ما رواه ابن ماجه في "سننه" عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سألت أنَسَ بن مالك: الرجلُ منا يُقْرِضُ أخاه المال فيُهدي إليه؟ فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أقرض أحدكم قَرضًا فأهْدَى إليه أو حَمَلَه على الدابة فلا يَركَبها ولا يَقْبَله إلا أن يكون جَرَى بينه وبينه قبل ذلك" (¬6) رواه من حديث إسماعيل بن عياش عن عُتْبة بن حُميد الضَبيّ عن يحيى. قال شيخنا (¬7) -رضي اللَّه عنه-: [وهذا] (¬8) يحيى بن يزيد الهُنَائيّ من رجال مسلم، ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (29/ 30)، "تهذيب السنن" (5/ 108 - 109). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه ابن أبي شيبة (5/ 55 - دار الفكر)، ومن طريقه أبو داود (3461) في (البيوع): باب من باع بيعتين في بيعة، وابن حبان (4974)، والحاكم (2/ 45)، والبيهقي (3/ 343) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. ومحمد بن عمرو هذا هو ابن علقمة، أخرج له مسلم في المتابعات فقط، وهو حسن الحديث. وانظر: "تهذيب السنن" لابن القيم (5/ 105)، و"السلسلة الصحيحة" (2362). (¬4) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 340 - 353، 363)، و"تهذيب السنن" (5/ 99 - 109) لبيان صورة العينة، ومناقشة الخلاف وأدلته، وبيان معناها لغة (ص 108)، وانظره -أيضًا- (5/ 148 - 149)، و"بدائع الفوائد" (4/ 84)، و"الوابل الصيب" (ص 14)، وما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وبياض في (ق). (¬5) سبق تخريجه. (¬6) سبق تخريجه (ص 19 - 20). (¬7) في "بيان الدليل" (ص 327 - 330)، والمذكور باختصار وتصرف يسير. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

وعتبة بن حميد معروف بالرواية عن الهنائي، قال [فيه] (¬1) أبو حاتم (¬2) مع تشدده: هو صالح الحديث، وقال أحمد (¬3): ليس بالقويّ، وإسماعيل بن عياش ثقة في حديثه عن الشاميين [وغيرهم، وإنما يضعّف حديثه عن الحجازيين، وليس هذا عن الحجازيين، فثبت أنه حديث حسن. لكن في حديثه عن غيرهم نظر] (¬4)، ورواه سعيد في "سننه" عن إسماعيل بن عيَّاش، لكن قال: عن يزيد بن أبي إسحاق (¬5) الهُنَائيّ عن أنس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك رواه البخاري في "تاريخه" عن يزيد بن [أبي] (¬6) يحيى الهنائي عن أنس يرفعه: "إذا أقْرَضَ أحدكم فلا يأخذ هدية" (¬7) قال شيخنا (¬8): وأظنه هو ذاك انْقَلَبَ اسمه. وفي "صحيح البخاري" عن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمْتُ المدينة، فلقيت عبد اللَّه بن سَلَام، فقال لي: إنك بأرضٍ الربا فيها فاش، فإذا كان لك على رجل حَقٌّ فأهدى إليك حَمْل تِبْن أو حَمل شعير أو حمل قَتٍّ (¬9) فلا تأخذه فإنه ربا (¬10)، وفي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬2) في "الجرح والتعديل" (6/ 370). (¬3) انظر: "الميزان" (3/ 28). (¬4) ما بين المعقوفتين أثبته من "بيان الدليل" لزيادة الفائدة، وانظر في رواية ابن عياش "التهذيب" (1/ 321) لابن حجر، و"الميزان" (1/ 240)، و"الخلافيات" للبيهقي (1/ 353 - بتحقيقي). (¬5) كذا وقع في نسخ "الإعلام"، وكذا نقله ابن حجر في "التهذيب" (11/ 157) منه، والصواب (يحيى) بدل (إسحاق)، وفي "الميزان" (4/ 361): "يحيى بن أبي إسحاق الهنائي، عداده في التابعين، لا يعرف تفرد عنه عتبة بن حميد". وانظر: "السنن الكبرى" (5/ 350)، وتعليقي على "الموافقات" (3/ 117). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬7) نقل ابن حجر في "تهذيبه" (11/ 157) كلام المصنف من قوله: "ورواه سعيد. . . إلى هنا، وقال: "هكذا رأيت في "الإعلام" لابن قيم الجوزية" والذي في "التاريخ الكبير" (8/ 310) في ترجمة يحيى بن يزيد أبو يزيد الهنائي، ما نصه: "قال لنا آدم بن شعبة سمع يحيى بن يزيد، قلت لأنس: في الرجل يكون له الدين، قال: لا يرتدف خلف دابته قال: وقال أبو معاوية عن أبي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو خطأ". (¬8) الكلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان الدليل" (327). (¬9) في "المصباح المنير" (2/ 489): "القتُّ: حب بري لا ينبته الآدمي، فإذا كان عام قحط، وفقد أهل البادية ما يقتاتون به من لبن وتمر ونحوه، دقوه وطبخوه واجتزؤوا به على ما فيه من الخشونة". (¬10) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب مناقب الأنصار): باب مناقب عبد اللَّه بن سلام (3814).

"سنن سعيد" هذا المعنى عن أبيّ بن كعب (¬1)، وجاء عن ابن مسعود أيضًا (¬2)، وأتى رجل عبد اللَّه بن عمر فقال: إني أقرضت رجلًا بغير معرفة فأهدى إليّ هدية جَزْلَةً، فقال: رُدُّ إليه هديته أو احسبها له (¬3)، وقال سالم بن أبي الجعد: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أقرضت رجلًا يبيع السمك عشرين درهمًا فأهدى إليّ سمكة قومتها بثلاثة عشر درهمًا، فقال: خذ منه سبعة دراهم (¬4)، ذكرهما سعيد، وذكر حرب عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: إذا أسْلَفْتَ رجلًا سلفًا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة (¬5)؛ فنهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو وأصحابه المُقْرِض عن قبول ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (14652)، والبيهقي (5/ 349) عن الثوري عن الأسود بن قيس عن كلثوم بن الأقمر عن زر بن حبيش قال: أتيت أبي بن كعب. . . فذكره. ورجاله ثقات إلا أن كلثوم بن الأقمر ترجمه ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، ولم أجد من روى عنه إلا الأسود بن قيس فقط، فهو في عداد المجهولين، وهو على شرط ابن حبان في "ثقاته". وروى عبد الرزاق (14647 و 14648)، والبيهقي (5/ 349) من طريق ابن سيرين، أنّ أُبي بن كعب تسلف من عمر عشرة آلاف فبعث إليه أُبي من تمرته، وكان من أطيب أهل المدينة تمرة، وكانت تمرته تُبَكر فردَّها عليه عمر، فقال أُبي: لا حاجة لي في شيء منعك تمرتي، فقبلها عمر فقال: إنما الربا على من أراد أن يربي وينسئ. (¬2) رواه البيهقي (5/ 350) من طريق هشيم أنا يونس وخالد عن ابن سيرين عنه، وقال: هذا منقطع (أي ابن سيرين لم يدرك ابن مسعود). (¬3) رواه عبد الرزاق (14654) عن الثوري عن أبي إسحاق قال: جاء رجل إلى ابن عمر فقال:. . . فذكره، إلا أنه قال: أردد عليه هديته أو أَثِبْهُ. وهذا منقطع؛ ويبيّنه أن عبد الرزاق، رواه (14655) عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن رجل عن ابن عمر. . . وزاد: أو أحسُبها له مما عليه أو ارددها عليه. قال (د): "في نسخة: "أو احبسها له" بتقديم الباء على السين". (¬4) وروى البيهقي (5/ 349) نحوه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي صالح عن ابن عباس لكن لم يذكر أن الرجل كان سَمَّاكًا، وروى عبد الرزاق (14651)، والبيهقي (5/ 350) من طريق شعبة والثوري عن عمّار الدُّهني عن سالم بن أبي الجعد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إنه كان جار سَمّاك فأقرضته خمسين درهمًا، وكان يبعث إليّ من سمكه فقال ابن عباس: حاسبه فإنْ كان فضلًا فردّ عليه، إن كان كفافًا فقاصصه، وهذا لفظ عبد الرزاق. ورواته ثقات، رجال الشيخين. (¬5) رواه عبد الرزاق (14650) من طريق يحيى بن أبي كثير، وابن أبي شيبة (5/ 78) من طريق أيوب كلاهما عن عكرمة عن ابن عباس به، وإسناده صحيح. وعزاه ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 329 - 330) لحرب الكرماني أيضًا.

[دليل آخر على تحريم الحيل]

هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن (¬1) المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء -وإن كان لم يشترط ذلك- سدًا لذريعة الربا، فكيف تجوز الحيلة على الربا؟ ومن لم يَسُدَّ الذرائع ولم يراع المقاصد ولم يُحرِّم الحيل يبيح ذلك كلَّهُ، وسنةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهدْيُ أصحابه أحق أن يُتَبع، وقد تقدم تحريم السلف والبيع لأنه يُتَّخذ حيلة إلى الربا. [دليل آخر على تحريم الحيل] ويدل عَلَى تحريم الحيل الحديثُ الصحيح، وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُجمع بين مُتفرِّق ولا يُفرَّق بين مُجْتَمع خَشْيَةَ الصدقة" (¬2)، وهذا نصٌ في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق، فإذا باع بعضَ النصابِ قبل تمام الحول تحيُّلًا على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع، فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها، ومما يدل على تحريمها قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قال المفسرون من السلف ومَنْ بعدهم: لا تعط عطاءً تطلب أكثر منه، وهو أن تهدي ليُهدى إليك أكثر من هديتك (¬3). وهذا كله يدل على أن صُوَر العقود غير كافية في حِلِّها وحصول أحكامها إلا إذا لم يُقصد بها قصدًا فاسدًا، [وكل ما لو شرطه في العقد كان حرامًا فاسدًا] (¬4) فقصده حرام فاسد، واشتراطه إعلانٌ وإظهارٌ للفساد، وقصده ونيَّته غِشٌّ وخداعٌ ومكر؛ فقد يكون أشد فسادًا من الاشتراط ظاهرًا من هذه الجهة، والاشتراط الظاهر أشد فسادًا منه من جهة إعلان المحرم وإظهاره. [إجماع الصحابة على تحريم الحيل] (¬5) ومما يدل على التحريم أن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجمعوا على تحريم هذه ¬

_ (¬1) في نسخ "الإعلام": "فإن"، وما أثبتناه من "بيان الدليل". (¬2) رواه البخاري (1450) في (الزكاة): باب لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، و (6955) في (الحيل): باب في الزكاة، من حديث أبي بكر. (¬3) في (ن) و (ق): "مما أهديت"، وانظر جملة من آثار السلف في المعنى الذي أورده المصنف في "تفسير ابن جرير" (29/ 142 - 143)، و"الدر المنثور" (8/ 324). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) الكلام الآتي مع المقدمة الأولى اختصره المصنف بتصرف من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من "بيان الدليل" (ص 334 - 335)، وكذلك المقدمة الثانية (ص 339 - 340).

الحيل وإبطالها، وإجماعهم حجة قاطعة، بل هي من أقوى الحجج وآكدها، ومَنْ جَعَلهم بينه وبين اللَّه فقد استوثق لدينه. بيان المقدمة الأولى أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه خَطَبَ الناسَ على منبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: لا أُوتي بمحلّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما (¬1)، وأقرَّه سائرُ الصحابة على ذلك، وأفتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر أن المرأة لا تحلُّ بنكاح التحليل (¬2)، وقد تقدم (¬3) عن غير واحد من أعيانهم كأُبيّ وابن مسعود وعبد اللَّه بن سَلَام وابن عُمر وابن عباس أنهم نَهَوُا المُقْرِض عن قبول هدية المقترض، وجعلوا قبولها ربًا. وقد تقدم (¬4) عن عائشة وابن عباس وأنس تحريم مسألة العِينة، والتغليظ فيها، وأفتى عمر وعثمان وعلي وأبيّ بن كعب وغيرهم من الصحابة أن المبتوتة في مرض الموت تَرِثُ (¬5)، ووافقهم سائر المهاجرين ¬

_ (¬1) مضى تخريجه، وقال فيه ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 481): "وهو مشهور محفوظ عن عمر، رووه بالأسانيد الثابتة" وعزاه زيادة على ما تقدم إلى الجوزجاني وحرب الكرماني وأبي بكر الأثرم. (¬2) أما عثمان فقد تقدم عنه، وروى البيهقي أيضًا (7/ 208) من طريق معلي بن منصور عن الليث بن سعد: حدثني محمد بن عبد الرحمن عن أبي مروزق التجيبي، وذكر قصة رجل أتى عثمان ليتزوج امرأة رجل ليحلها له، فقال له عثمان: "لا تنكحها إلا نكاح رغبة". وأبو مرزوق لم يسمع من عثمان، مات سنة مئة وسبع. وأما ابن عباس فتقدم عنه أيضًا. وأما ابن عمر فتقدم أيضًا، وروى عبد الرزاق (10776)، والبيهقي (7/ 208)، وابن أبي شيبة (3/ 390) من طريق معمر عن الزهري عن عبد اللَّه بن المغيرة قال: سئل ابن عمر عن تحليل المرأة لزوجها، فقال: ذلك السفاح. وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. وأما علي، فقد روى عبد الرزاق (10803) عن هشيم عن خالد الحذاء عن مروان الأصفر (في المطبوع: الأصغر وهو خطأ) عن أبي رافع قال: سئل عثمان بن عفان وزيد بن ثابت -وعلي بن أبي طالب شاهد- عن الأمة هل يُحلّها سيدها لزوجها، إذا كان لا يريد التحليل؟ قالا: نعم، قال: فكره علي قولهما، وقام غضبانًا. وهذا إسناد رواته ثقات من رجال الصحيح، أبو رافع هو نفيع الصائغ. لكن فيه عنعنة هشيم فإنه مدلس. وقد ورد عن الحارث الأعور -وهو ضعيف- عن علي: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المُحلل والمحلَّل له" ومضى تخريجه. (¬3) مضى بيان ذلك مع تخريجه قريبًا. (¬4) مضى بيان ذلك مع تخريجه قريبًا. (¬5) أما عمر -رضي اللَّه عنه-، فقد رواه عنه عبد الرزاق (12201)، وسعيد بن منصور (1960) من طريق الثوري، وشريك عن مغيرة عن إبراهيم قال: كتب عمر -رضي اللَّه عنه- إلى شريح في الذي =

والأنصار من أهل بدر وبيعة الرضوان ومَنْ عداهم. ¬

_ = طلق امرأته ثلاثًا في مرضه: ترثه ولا يرثها. قال البيهقي: وهذا منقطع، ولم يسمعه مغيرة من إبراهيم، إنما قال: ذكر عبيدة عن إبراهيم عن عمر، وعببدة الضبي ضعيف، ولم يرفعه عبيدة إلى عمر في رواية يحيى القطان عنه. أقول: إبراهيم هو النخعي لم يدرك عمر. ثم وجدته موصولًا بين إبراهيم وعمر، فقد أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 151) عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة عن إبراهيم عن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر. . . فذكره. ورواه أيضًا سعيد بن منصور (1196 و 1962) من طريقين عن مغيرة عن إبراهيم قال: كان فيما جاء به عروة البارقي من عند عمر إلى شريح. . . وهذا ظاهره الانقطاع. وعلى كل حال فالأسانيد الثلاثة مدارها على مغيرة، وهو ابن مقسم الضبي عن إبراهيم النخعي، وفي سماعه منه نظر. قال ابن فضيل: كان يدلس، وكنا لا نكتب عنه إلا ما قال: حدثنا إبراهيم، وقال أبو حاتم، عن أحمد: حديث مغيرة مدخول عامة ما روى عن إبراهيم إنما سمعه من حماد، ومن يزيد بن الوليد، والحارث العكلي، وعبيدة وغيرهم قال: وجعل يضعف حديث مغيرة عن إبراهيم وحده. وأما عثمان: فقد رواه مالك (2/ 572) عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن بلاغًا أن عثمان وَرَّث امرأة عبد الرحمن بن عوف. ورواه موصولًا: مالك (2/ 571)، وسعيد بن منصور (1958 و 1959 و 1970)، وعبد الرزاق (12195)، والبيهقي (7/ 362) من طرق عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عثمان وَرّث امرأة عبد الرحمن وكان طلقها مريضًا. وأبو سلمة بن عبد الرحمن إن كان سمع من عثمان فالإسناد صحيح. ولم أجد من صرح بعدم السماع منه، وإدراكه ممكن حيث إنه ولد بعد سنة عشرين. ورواه عبد الرزاق (12192)، والبيهقي (7/ 162) من طريق ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة أنه سأل ابن الزبير عن رجل يطلق المرأة. . . فذكر توريث عثمان لزوجة عبد الرحمن بن عوف، وهذا إسناد صحيح موصول، رجاله رجال الصحيح. ورواه ابن أبي شيبة (4/ 151)، وعبد الرزاق (12194) من طريقين آخرين عنه أيضًا. وأما علي بن أبي طالب، فقد رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 152) عن عباد بن العوام عن أشعث عن الشعبي عنه أنه ورّث أم البنين بنت عيينة بن حصن زوجة عثمان -رضي اللَّه عنه-. وأشعث هو ابن سوّار ضعيف. وروى مالك في "الموطأ" (2/ 572) عن يحيى بن سعيد عن محمد بن يحيى بن حبان قال: كانت عند جدي امرأتان،. . . فذكر توريث عثمان وعلي لإحدى زوجات جدّه. ومحمد بن يحيى هذا لم يدرك القصة. وأما أبيّ بن كعب، فقد رواه عنه ابن أبي شيبة (4/ 151)، والبيهقي (7/ 363) من طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن رجل من قريش عنه، وفيه رجل مبهم. وأما غيرهم، قد ورد عن الحسن بن علي وعائشة، كما في "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 151 و 152).

وهذه وقائع متعددة لأشخاص متعددة في أزمان متعددة، والعادة تُوجب اشتهارها وظهورها بينهم، لا سيما وهؤلاء أعيان المُفتين من الصحابة الذين كانت تُضْبَطُ أقوالهم، وتنتهي إليهم فتاويهم، والناس عنقٌ واحد إليهم متلقُّون لفتاويهم، ومع هذا فلم يُحفظ عن واحدٍ منهم إلا الإنكار (¬1) ولا إباحة الحيل مع تباعد الأوقات وزوال أسباب السكوت، وإذا كان هذا قولهم في التحليل والعِينة وهدية المُقْترض إلى المقرض فماذا يقولون في التحيُّل لإسقاط حقوق المسلمين، بل لإسقاط حقوق رب العالمين، وإخراج الأبْضاع والأموال عن ملك أربابها، وتصحيح العقود الفاسدة والتلاعب بالدين؟ وقد صانهم اللَّه تعالى أن يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يُفتي به، كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة والحلولية والاتّحادية (¬2) وأضرابهم، وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها. وأما المقدمة الثانية فكل مَنْ له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصف لم يَشُك أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعُهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك. فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت، وانضم إلى هذا أن التابعين موافقون لهم على ذلك؛ فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد اللَّه بن مسعود من أهل الكوفة، وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشَّعْثاء والحسن وابن سيرين، وكذلك أصحاب ابن عباس. وهذا في غاية القوة من الاستدلال، فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انصرم، ورقعة الإسلام متسعة (¬3)، وقد ¬

_ (¬1) كذا في (ن) و (ك) و (ق)، وفي سائر النسخ: "فلم يحفظ عن أحد منهم الإنكار"!! (¬2) "الحلولية: هم الذين يزعمون أن اللَّه يحل في كل كائن، أو أن اللَّه روح الكائنات، والاتحادية: الذين يزعمون أن العبد يتحد بربه بضروب من العبادات والمجاهدات. وكلاهما ملعون بلعنة اللَّه، فاللَّه بائن عن خلقه، ومن لم يعتقد بهذا فهو نافٍ لوجود اللَّه، جاحد به" (و). (¬3) في المطبوع: "وبقعة الإسلام متسعة". قلت: وهي كذلك في "بيان الدليل" (ص 340).

دخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع، وكثُر من كان يتعدى الحدود، وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودًا فلم يُحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر (¬1) بها أو دلَّ عليها، بل المحفوظ عنهم النهي والزجر عنها؛ فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجلٌ منهم، ولكانت مسألة نزاع كغيرها. بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها، ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار، قال الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد الدِّنْدانيّ (¬2): لا يجوز شيء من الحيل (¬3)، وقال في رواية الميموني وقد سأله عَمَّن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها، فقال: نحن لا نرى الحيلة (¬4) وقال في رواية بكر (¬5) بن محمد: إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها فقد صَارَ إلى ذلك الذي حَلفَ عليه بعينه، وقال: [بَلَغني عن مالك، أو قال: قال مالك] (¬6): من احتال بحيلة فهو حانث، وقال في رواية صالح (¬7) وأبي الحارث وقد ذُكر له قول أصحاب الحيل فأنكره (¬8)، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد (¬9) وقد سئل ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "وأمر". (¬2) في (ق) و (ك) و (د)، و (ط): "الديداني" وقال (و): "في الأصل وفي كل طبعاته: الديداني بالياء بدلًا من النون الأولى، والتصويب من "خلاصة تذهيب الكمال"، ومن "اللباب" لابن الأثير، وهو موسى بن سعيد بن النعمان بن حيان، وضبط في. "التقريب" بفتح الدالين، ويضبط بكسر الأولى" اهـ. قلت: انظر ترجمته في "تهذيب الكمال" (29/ 70)، و"تهذيب التهذيب" (10/ 345). (¬3) نقلها ابن تيمية في "بيان الدليل" (60). (¬4) نقلها ابن تيمية في "بيان الدليل" (60). (¬5) كذا في جميع الأصول، وهو بكر بن محمد النسائي أبو أحمد، له "مسائل أحمد"، ونقل منها ابن رجب في "قواعده" (1/ 394 - بتحقيقي)، ولكن الكلام المذكور هنا معزو في "بيان الدليل" (60) لأحمد من رواية ابن الحكم، وهو جعفر بن محمد بن أحمد بن الحكم الواسطي، ترجمته في "السير" (16/ 30)، وله "مسائل أحمد"، ونقل ابن رجب منها أيضًا، انظر على سبيل المثال: (2/ 107، 236 و 3/ 5، 221، 343 - بتحقيقي). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من جميع الأصول، وهو فقط من "بيان الدليل" (60). (¬7) انظر: "مسائل صالح" (2/ 486/ 1210)، (¬8) في "بيان الدليل" (ص 90): "قال الإمام أحمد في رواية صالح وأبي الحارث: هذه الحيل التي وضعها هؤلاء: فلان وأصحابه، عمدوا إلى السنن، فاحتالوا في نقضها، والشيء الذي قيل لهم: إنه حرام احتالوا فيه حتى أحلّوه". (¬9) في (ن): "سعيد بن إسماعيل"!

[من ذكروا الحيل لم يذكروا أنها كلها جائزة]

عمن احتال في إبطال الشفعة، فقال: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق امرئ مسلم (¬1)، وقال في رواية أبي طالب وغيره في الرجل يحلف وينوي غير ذلك: فاليمين على نية ما يُحلّفه عليه صاحبه إذا لم يكن مظلومًا، فإذا كان مظلومًا حلف على نيته، ولم يكن عليه من نية الذي حلَّفه شيء، وقال في رواية عبد الخالق بن منصور: من كان عنده "كتاب الحيل" في بيته يُفتي به فهو كافر بما أنزل اللَّه على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). [من ذكروا الحيل لم يذكروا أنها كلها جائزة] قلت: والذين ذكروا الحيل لم يقولوا أنها كلها جائزة، وإنما أخبروا أن كذا حيلة وطريق إلى كذا، ثم قد تكون الطريق محرَّمة، [وقد تكون مكروهة] (¬3)، وقد يُختلف فيها، فإذا قالوا: [إن] (¬4) الحيلة في فَسْخ المرأة النكاح أن ترتدَّ ثم تُسْلِم، والحيلة في سقوط القصاص عمن قتل أم امرأته أن يقتل امرأته إذا كان لها ولد منه، والحيلة في سقوط الكفارة عمن أراد الوطء في رمضان أن يتغدَّى ثم يطأ بعد الغداء، والحيلة لمن أرادت أن تفسخ نكاح زوجها أن تمكن ابنه من الوقوع عليها، والحيلة لمن أراد أن يفسخ نكاح امرأته ويحرمها عليه على التأبيد أن يطأ حماته أو يقبِّلها، والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه أن يَسْكر ثم يزني، والحيلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته عليه أن يملك ماله لابنه أو زوجته عند خروج الركب فإذا بعد استردَّ ماله، والحيلة لمن أراد حرمان وارثه ميراثه أن يقرَّ بماله كله لغيره عند الموت، والحيلة لمن أراد إبطال الزكاة وإسقاط فَرضها عنه بالكلية أن يملك ماله عند الحَوْل لابنه أو امرأته أو أجنبي ساعة من زمان ثم يسترده منه، ويفعل هكذا كل عام، فيبطل فرض الزكاة عنه أبدًا، والحيلة لمن أراد أن يملك مال غيره بغير رضاه أن يُفْسِدَه عليه أو يغير صورته فيملكه، فيذبح شاته، ¬

_ (¬1) ذكره ابن تيمية في "بيان الدليل" (60). (¬2) نقلها ابن تيمية في "بيان الدليل" (187)، وقال: "رواه أبو عبد اللَّه السدوسي في "مناقب الإمام أحمد"، وذكره القاضي أبو يعلى". وقد تكلمت على تحريم الحيل، وحذرت من بعض ما صنف في تجويزها، في كتابي: "كتب حذر منها العلماء" (1/ 179 - 185)، وانظر: "إبطال الحيل" (ص 54 - 55) لابن بطة. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

[تكفير من يستحل الفتوى بهذه الحيل]

ويشق قميصه، ويَطْحَن حبَّه ويخبزه، ونحو ذلك، والحيلة لمن أراد قتل غيره ولا يُقْتَل به أن يضربه بدبوس أو مرزبة حديد ينثر دماغه فلا يجب عليه قصاص، والحيلة لمن أراد أن يزني بامرأة ولا يجب عليه الحد أن يستأجرها لكنس بيته أو لطيِّ ثيابه أو لغسلها أو لنقل متاع من مكان إلى مكان ثم يزني بها ما شاء مجانًا بلا حد ولا غرامة، أو يستأجرها لنفس الزنا، والحيلة لمن أراد أن يسقط عنه حد السرقة أن يَدَّعي أن المال له (¬1) أو أن له فيه شركة فيسقط القطع عنه (¬2) بمجرد دعواه، أو ينقب الدار ثم يَدَع غلامه أو ابنه أو شريكه يدخل ويخْرِج متاعه (¬3)، أو يَدَعه (¬4) على ظهر دابة تخرج به، ونحو ذلك، والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه بعد أن يشهد به عليه أربعة عدول غير متهمين أن يصدقهم فيسقط عنه الحد بمجرد تصديقهم، والحيلة لمن أراد قَطْع يد غيره ولا يُقْطَع بها أن يمسك هو وآخر السكين أو السيف ويقطعانها معًا، والحيلة لمن أرادت التخلَّف عن زوجها في السفر أن تقرَّ لغيره بدين، والحيلة لمن أراد الصيد في الإحرام أن ينصب الشِّبَاك قبل أن يُحْرم ثم يأخذ ما وقع فيها حال إحرامه بعد أن يحل. [تكفير من يستحل الفتوى بهذه الحيل] (¬5) فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم أن يُفتي بها في دين اللَّه تعالى، ومن استحل الفتوى بهذه (¬6) فهو الذي كَفَّره الإمام أحمد وغيره من الأئمة، حتى قالوا: إن مَنْ أفتى بهذه الحيل فقد قلب الإسلام ظَهْرًا لبطن، ونَقَضَ عُرَى الإسلام عُرْوة عروة، وقال بعض أهل الحيل: ما نقموا علينا من أنَّا عَمَدنا إلى أشياء كانت حرامًا عليهم فاحتلنا فيها حتى صارت حلالًا، وقال آخرُ منهم: إنّا نحتال للناس منذ كذا وكذا سنة في تحليل ما حرَّم اللَّه عليهم، قال أحمد بن زهير بن مروان: كانت امرأة هاهنا بمرو أرادت أن تختلع من زوجها، فأبى زوجها عليها، فقيل لها: لو ارتددت عن الإسلام لَبِنْتِ منه، فَفَعَلت، فذكرت ذلك لعبد اللَّه بن ¬

_ (¬1) في المطبوع: "و". (¬2) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "عنه القطع". (¬3) في (ك) و (ق): "المتاع" والمثبت من سائر الأصول. (¬4) في (ك): "يدع". (¬5) ما تحته بطوله -بتصرف يسير- في "بيان الدليل" (ص 183 - 190). (¬6) في (ك) و (ق): "الفتيا بها".

المبارك، فقال: من وَضَعَ هذا الكتاب فهو كافر، ومن سَمِعَ به ورضي به فهو كافر، ومن حَمَله من كورة إلى كورة فهو كافر، ومن كان عنده فرضي به فهو كافر، وقال إسحاق بن [إبراهيم بن] (¬1) راهويه عن شقيق بن عبد الملك: إن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أُمرت بالارتداد، وذلك في أيام أبي غسان، فذَكَر شيئًا، ثم قال ابن المبارك وهو مُغضب: أحدثوا في الإسلام، ومَنْ كان أَمَر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو هويه ولم يأمر به فهو كافر، ثم قال ابن المبارك: ما أرى الشيطان كان يحسن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ، أو كان يحسنها ولم يجد من يُمضيها فيهم حتى جاءا مؤلاء، وقال إسحاق الطالقاني: قيل: يا أبا عبد الرحمن إن هذا الكتاب وضعه إلى ليس، قال: إبليسٌ من الأبالسة، وقال النضر بن شُمَيْل: في "كتاب الحيل" ثلاث مئة وعشرون أو ثلاثون مسألة كلها كفر، وقال أبو حاتم الرازي: قال شَرَيك، يعني: ابن عبد اللَّه قاضي الكوفة وذكر له "كتاب الحيل"، فقال: مَنْ يخادع اللَّه يَخْدَعْه، وقال حفص بن غِياث: ينبغي أن يُكتب عليه كتاب الفجور، وقال إسماعيل بن حماد: قال القاسم بن مَعْن يعني: ابن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود قاضي الكوفة: كتابكم هذا الذي كتبتموه (¬2) في الحيل كتاب الفجور، وقال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: وَيْلَهم! مَنْ يخدعون (¬3)؟ يعني: أصحاب الحيل، وقال [عبد اللَّه بن] (¬4) عبد الرحمن الدَّارمي: سمعت يزيد بن هارون يقول: لقد أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهودي والنصراني كان قبيحًا، فقال: إني (¬5) حافتُ [أني لا] (¬6) أطلق امرأتي بوجه من الوجوه، وإنهم قد بذلوا لي مالًا كثيرًا، فة، ل له: قَبِّل أمها، فقال يزيد بن هارون: وَيْله! يأمره أن يقبل امرأة أجنبية؟ وقال حبيش بن سندي (¬7): سئل أبو عبد اللَّه -يعني الإمام ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬2) في (ن) و (ق) و (ك)، و"بيان الدليل" (ص 184): "الذي وضعتموه"، وأشار إليها (د) في الهامش بقوله: "في نسخة: الذي وضعتموه". (¬3) في (ك): "يخادعون". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) في (ق) و (ك): "إن". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "ألا". (¬7) وقع في نسخ "الإعلام" المطبوعة كلها: "حبيش بن مبشر"، وقال (د): "في نسخة: جيش بن سيدي"! وفي "بيان الدليل" (ص 186): حبيش بن سندي"! وكلاهما تصحيف، وما أثبتناه من (ن)، وهو الصواب. انظر ترجمته في: "المقصد الأرشد" (1/ 356/ 383)، و"طبقات الحنابلة" (1/ 146)، =

[لماذا حكم الأئمة بما سبق؟]

أحمد- عن الرجل يشتري جارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها، أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها من يومه وقد وطئها ذاك بالأمس؟ هذا من طريق الحيلة، وغضب، وقال: هذا أخبث قول، وقال رجل للفُضَيلِ بن عياض: يا أبا علي استفتيتُ رجلًا في يمين حلفتُ بها، فقال لي: إن فعلتَ كذا حنثتَ، وأنا أحتال لك حتى تفعل ولا تحنث (¬1)، فقال له الفُضَيل: تعرف الرجل؟ [قال: نعم،] (¬2) قال: ارجع إليه فاسْتَثْبِتهُ فإني أحسبه شيطانًا شبِّه لك في صورة إنسان. [لماذا حكم الأئمة بما سبق؟] وإنما قال هؤلاء الأئمة وأمثالهم هذا الكلام في هذه الحيل لأن فيها الاحتيال على تأخير صوم رمضان، وإسقاط فرائض اللَّه تعالى من الحج والزكاة، وإسقاط حقوق المسلمين، واستحلال ما حرم اللَّه من الربا والزنا، وأخذ أموال الناس وسَفك دمائهم، وفَسْخ العقود اللازمة، والكذب وشهادة الزور وإباحة الكفر، وهذه الحيل دائرة بين الكفر والفسوق، ولا يجوز أن تُنْسَب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة، ومن نَسَبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم من الإسلام، وإن كان بعضُ هذه الحيل قد تنفذ على أصول إمام بحيث إذا فعلها المتحيل نفذ حكمها عنده، ولكن هذا أَمرٌ غير الإذن فيها وإباحتها وتعليمها فإن إباحَتَها شيءٌ ونفوذها إذا فعلت شيء، ولا يلزم من كون الفقيه والمفتي لا يبطلها أن يبيحها ويأذن فيها، وكثير من العقود يحرمها الفقيه ثم ينفذها ولا يبطلها، ولكن الذي نَدينُ اللَّه به تحريمها وإبطالها وعدم تنفيذها، ومقابلة أربابها بنقيض مقصودهم (¬3) موافقة لشرع اللَّه تعالى وحكمته وقدرته. [لا يجوز أن ينسب القول بجواز الحيل إلى إمام] والمقصود أن هذه الحيل لا تجوز أن تنسب إلى إمام؛ فإن ذلك قَدْح في إمامته، وذلك يتضمن القَدْحَ في الأمة حيث ائتمت بمن لا يصلح للإمامة [وفي ¬

_ = و"مختصره" (ص 104، 105)، و"المنهج الأحمد" (1/ 395)، و"تاريخ بغداد" (8/ 272)، و"الإكمال" (2/ 331). (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "حتى لا تفعل ولا تحنث". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ك) و (ق): "قصودهم".

[الأئمة برءاء مما نسب إليهم]

ذلك نسبة لبعض الأئمة إلى تكفير أو تفسيق] (¬1)، وهذا غيرُ جائز، ولو فرض أنه حُكي عن واحد من الأئمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما أن تكون الحكاية باطلة، أو يكون الحاكي لم يضبط [لفظه] (¬2) فاشتبه عليه فتواه بنفوذها بفتواه بإباحتها مع بُعْد ما بينهما، ولو فُرض وقوعها منه في وقت ما فلا بد أن يكون قد رجع عن ذلك، وإن لم يُحْمَل الأمر على ذلك لزم القدح في الإمام وفي جماعة المسلمين المؤتمين به، وكلاهما غير جائز، ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذنُ في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض، إلا المكره إذا اطمأنَ قلبُهُ بالإيمان. ثم إن هذا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه أشد؛ فإنهم لا يأذنون في كلمات وأفعال دون ذلك بكثير، ويقولون: إنها كفر، حتى قالوا: لو قال الكافر لرجل: "إني أريد أن أسلم" فقال له: "اصبر ساعة" فقد كفر (¬3)، فكيف بالأمر بإنشاء الكفر؟ وقالوا: لو قال: "مُسَيْجِد" أو صغَّر لفظ المصحف كَفَر (¬4). [الأئمة برءاء مما نسب إليهم] فعلمت أن هؤلاء المحتالين الذين يُفْتُونَ بالحيل التي هي كفر أو حرام ليسوا بمقتدين (¬5) بمذهب أحد من الأئمة (¬6)، وأن الأئمة أعلم باللَّه ورسوله ودينه وأتْقَى له من أن يُفْتُوا بهذه الحيل، وقد قال أبو داود في "مسائله": سمعت أحمد وذكر أصحاب الحيل: يحتالون لنقض سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)! وقال في رواية أبي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (و): وقال: "ما بين القوسين من فتاوى ابن تيمية" (ص 170 ج 3) اهـ. قلت: انظره في "بيان الدليل" (ص 188). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في "الخلاصة" كافر قال لمسلم: اعرض عليّ الإسلام، فقال: اذهب إلى فلان العالم، كفر، أي: لأنه رضي ببقائه في الكفر إلى حين ملازمة العالم ولقائه، قاله القاري في "شرح ألفاظ الكفر" (رقم 51 - بترقيمي) وزاد: "وقال أبو الليث: إن بعثه إلى عالم لا يكفر، لأن العالم ربما يحسن ما لا يحسنه الجاهل، فلم يكن راضيًا بكفره ساعة، بل كان راضيًا بإسلام أتمّ وأكمل"، وقارن بما في "بيان الدليل" (ص 189). (¬4) انظر: كلام الحنفية في "شرح ألفاظ الكفر" (رقم 15 - بترقيمي). (¬5) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "مقتدين". (¬6) إلى هنا انتهى النقل عن شيخ الإسلام الذي أشرف إليه سابقًا. (¬7) انظر: "مسائل أبي داود" (ص 276)، ونقلها عنه ابن بطة في "إبطال الحيل" (54) وابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 344).

الحارث الصانع: هذه الحيل التي وضعوها عمدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها، والشيء الذي قيل لهم: إنه حرام احتالوا فيه حتى أحَلُّوه، قالوا: الرهن لا يحل أن يُسْتعمل، ثم قالوا: يُحتال له حتى يستعمل، فكيف يحل بحيلة ما حرَّم اللَّه ورسوله؟ وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن اللَّه اليهود حرِّمت عليهم الشحوم فأذابوها فباعوها وأكلوا أثمانها" (¬1) أذابوها حتى أزالوا عنها اسمَ الشَّحم، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المحلل والمحلل له (¬2)، وقال في رواية ابنه صالح: عجبتُ مما يقول أرباب الحيل في الحيل [في الأَيْمان، يبطلون الأيمان بالحيل] (¬3) وقد قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وكان ابنُ عُيَيْنة يشتد عليه أمر هذه الحيل (¬4)، وقال في رواية الميموني وقد سأله: إنهم يقولون في رجل حَلَفَ على امرأته وهي على دَرَجة إن صَعَدتِ أو نَزَلْتِ فأنت طالق، قالوا: تُحمَلُ حَمْلًا، فقال: هذا هو الحنث بعينه، ليست هذه حيلة، هذا هو الحنث، وقالوا: إذا حلف لا يطأ بساطًا يطأ بساطين، وإذا حلف لا يدخل دارًا يُحمَل، فأقبل أبو عبد اللَّه يعجب (¬5)، وقال أبو طالب (¬6): "سمعت أبا عبد اللَّه قال له رجل: في "كتاب الحيل": إذا اشترى الرجل الأمة فأراد أن يقع بها يعتقها ثم يتزوجها، فقال أبو عبد اللَّه: سبحان اللَّه! ما أعجب هذا! أبطلوا كتاب اللَّه والسنة، جعل اللَّه العدة على الحرائر (¬7) من أجل الحَمْل، فليس من امرأة تُطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل، فَفَرجٌ يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملًا كيف يصنع؟ يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدًا؟ [هذا] (¬8) نقض للكتاب والسنة، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُوطَأ الحامل حتى ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه، وفي (ق): "الحال والمحلل له". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر: "مسائل صالح" (2/ 486/ 1210)، وفيها هذا الكلام حكايةً لصالح عن أبيه، فيقول: "والعجب مما يقولون في الحيل. . . "، والمسألة اختصرها ابن القيم، وحذف منها قول ابن عيينة في أبي حنيفة. (¬5) نقلها ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 60 - 61) بنحوه. (¬6) ذكره ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 344). (¬7) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "على الحرائر العدة". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

فصل [من الأدلة العقلية على تحريم الحيل]

تضع، ولا غير الحامل حتى تحيض" (¬1) ولا يدري هي (¬2) حاملٌ أم لا؟ سبحان اللَّه! ما أسْمَجَ هذا! " (¬3) وقال محمد بن الهيثم: سمعت أبا عبد اللَّه -يعني أحمد بن حنبل- يحكي عن محمد بن مقاتل (¬4) قال: شهدت هشامًا وهو يقرئ كتابًا، فانتهى بيده إلى مسألة فجازها، فقيل له في ذلك، فقال: دَعُوه، وكره مكاني، فتطلَّعتُ في الكتاب، فإذا فيه: لو أن رجلًا لَفَّ على ذكره (¬5) حَرِيرَةً في شهر رمضان ثم جامع امرأته نهارًا فلا قضاء عليه ولا كفارة. فصل (¬6) [من الأدلة العقلية على تحريم الحيل] ومما يدل على بطلان الحيل وتحريمها أن اللَّه سبحانه إنما أوجب الواجبات وحرَّم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومَعَادهم؛ فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لا بد لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به، فإذا احتال العبدُ على تحليل ما حرم اللَّه وإسقاط ما فرض اللَّه وتعطيل ما شرع اللَّه كان ساعيًا في دين اللَّه بالفساد من وجوه: أحدها: إبطاله (¬7) ما في الأمر المحتال عليه من حكمة الشارع ونقض حكمته فيه ومناقضته له. والثاني: أن الأمر المحتال به ليس له عنده حقيقة، ولا هو مقصوده، وهو (¬8) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) زاد (د): قبلها: "هل" ووضعها بين معقوفتين، ولا وجود لها في سائر الأصول، ولا في "بيان الدليل". (¬3) في "بيان الدليل" (ص 344): "ما أسمج هذه"!. (¬4) كذا في (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ: "مقاتل بن محمد"!! والصحيح ما أثبتناه، وهو المروزي، أبو الحسن الكسائي، لقبه (رُخ)، روى عنه أحمد في "المسند" (4/ 352، 391)، ترجمته في: "الجرح والتعديل" (8/ 105)، و"تاريخ بغداد" (3/ 275)، و"ثقات ابن حبان" (9/ 81). (¬5) في (ك): "ذكر فرجه". (¬6) بدايات هذا الفصل أخذها ابن القيم من "بيان الدليل" (ص 341 - فما بعدها)، بشيء من التصرف. (¬7) في المطبوع: "إبطالها". (¬8) في (د) و (ط): "بل هو"، وقال (د): "نسخة: وهو ظاهر المشروع". قلت: وفي "بيان الدليل": "بحيث يكون ذلك محصلًا لحكمة الشارع فيه ومقصودًا به".

[الإشارة إلى الحكمة في تحريم ما حرم الله]

ظاهر المشروع؛ فالمشروع ليس مقصودًا له، والمقصود له هو المحرم نفسه، وهذا ظاهرٌ كلَّ الظهور فيما يقصد الشارع؛ فإن المرابي مثلًا مقصوده الربا المحرم، وصورة البيع الجائز غير مقصودة له، وكذلك المتحيِّل على إسقاط الفرائض بتمليك ماله لمن لا يهبه درهمًا واحدًا حقيقة [بل] (¬1) حقيقة مقصودِهِ إسقاطُ الفرض، وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودة له. الثالث: نسبته ذلك إلى الشارع الحكيم وإلى شريعته التي هي غذاء القلوب ودواؤها وشفاؤها، ولو أن رجلًا تحيل حتى (¬2) قلب الغذاء والدواء (¬3) إلى ضده، فجَعل الغذاء دواءً والدواء غذاءً، إما بتغيير اسمه أو صورته مع بقاء حقيقته؛ لأهلَكَ الناس، فمن عمد إلى الأدوية المسهلة فغيَّر صورتها أو أسماءها وجعلها غذاءً للناس، أو عمد إلى السموم القاتلة فغيَّر أسماءها (¬4) وصورتها وجعلها أدوية، أو إلى الأغذية الصالحة فغيَّر أسماءها (4) وصورها؛ كان ساعيًا بالفساد في الطبيعة، كما أن هذا ساع بالفساد في الشريعة؛ فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان، وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصورها. [الإشارة إلى الحكمة في تحريم ما حَرَّم اللَّه] وبيان ذلك على وجه الإشارة أن اللَّه سبحانه وتعالى [إنما] (¬5) حرم الربا والزنا وتوابعهما ووسائلهما؛ لما في ذلك من الفساد، وأبَاحَ البيع والنكاح وتوابعهما؛ لأن ذلك مصلحة محضة، ولا بد أن يكون بين الحلال والحرام فَرْق في الحقيقة، وإلا لكان البيع مثل الربا والنكاح مثل الزنا، ومعلوم أن الفرق في الصورة دون الحقيقة مُلْغى عند اللَّه ورسوله و [في] (¬6) فِطَر عباده؛ فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال، فإن الألفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدًا، فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني كان حكمها مختلفًا، وكذلك الأعمال إذا اختلفت صورها واتفقت مقاصدها، وعلى هذه القاعدة ينبني (¬7) الأمر والنهي والثواب والعقاب، ومَنْ تأمل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا؛ فالأمر المُحْتال به على المُحرَّم صورتُه صورةُ الحلالِ، وحقيقتُه ومقصودُه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) في (ن) و (ق): "تحيل على". (¬3) في (ك) و (ق): "الدواء والغذاء". (¬4) في (ق): "اسمها". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق) (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "يبني".

[لا نعلق الأحكام إلا على المعاني]

حقيقة الحرام؛ فلا يكون حلالًا فلا يترتب عليه أحكامُ الحَلالِ فيقع باطلًا، والأمر المحتال عليه حقيقته حقيقة الأمر الحرام وإن لم تكن صورتُه صورتَه، فيجب أن يكون حرامًا لمشاركته للحرام في الحقيقة. [لا نعلّق الأحكام إلّا على المعاني] وياللَّه العجب! أين القياس والنظر في المعاني المؤثرة وغير المؤثرة فرقًا وجمعًا؟ والكلام في المناسبات ورعاية المصالح وتحقيق المَنَاطِ وتنقيحه وتخريجه (¬1) وإبطال قول مَنْ عَلّقَ الأحكام بالأوصاف الطَّرْدية التي لا مناسبة بينها وبين الحكم، فكيف يعلّقه بالأوصاف المناسبة لضد الحكم؟ وكيف تُعلّق الأحكام على مجرد الألفاظ والصُّور الظاهرة التي لا مناسبة بينها وبينها وَيدَع المعاني المناسبة المقتضية (¬2) لها التي ارتباطُها بها كارتباط العلل العقلية بمعلولاتها؟ والعجب منه كيف ينكر مع ذلك على أهل الظاهر (¬3) المتمسكين بظواهر كتاب ربهم وسنة نبيهم حيث لا يقوم دليل يخالف الظاهر ثم يتمسك بظواهر أفعال المكلفين وأقوالهم (¬4) حيث يعلم أن الباطنَ والقصدَ بخلافِ ذلك؟ ويعلم لو تأمل حق التأمل أن مقصودَ الشارعِ غير ذلك، كما يقطع بأن مقصوده ومن إيجاب الزكاة سد خَلّة المساكين وذوي الحاجات وحصول المصالح التي أرادها بتخصيص هذه الأوصاف (¬5) من حماية المسلمين والذَّبِّ عن حَوْزة الإسلام، فإذا أسقطها بالتحيل فقد خالف مقصود الشارع وحَصَّل مقصود المتحيل. [الواجب هو أن يحصل مقصود اللَّه ورسوله] والواجب الذي لا يجوز غيره أن يحصل مقصود اللَّه ورسوله وتبطل مقاصد ¬

_ (¬1) كتب الناسخ في هامش (ق): "تنقيح المناط: تلخيص الوصف الذي أناط الشارع الحكم به وربطه به، وتنقيح المناط وتحقيق المناط وتخريج المناط متقاربة في اللفظ وقد تشتبه معانيها، وتحقيق المناط هو إثبات العلة المتفق عليها في الصورة المتنازع فيها، وتخريج المناط هو الاجتهاد في استخراج علة الحكم بطريق دالة على ذلك فكأنه أخرج العلة من معان كنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع البر بالبر إلا مثلًا بمثل وتنقيح المناط أن العلة مذكورة في النص فلم يستخرجها بل نقح النص وأخذ منه ما يصلح للعلية وترك ما لا يصلح كأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي جامع أهله في رمضان بالكفارة فالعلة الجماع في رمضان وأما كون المجامع جامع زوجته أو كونه أعرابيًا فهذا وصف طردي لا يلتفت إليه ولا يعلل به". (¬2) في المطبوع: "المفضية". (¬3) في (ق): "الظاهرية". (¬4) في (ق): "أقوال المكلفين وأفعالهم". (¬5) في (ن) و (ك): "الأصناف".

[عود إلى الأدلة العقلية على بطلان الحيل]

المُتحيلين المخادعين، وكذلك يعلم قطعًا أنه إنما حرَّم الربا لما فيه من الضرر بالمحاويج، وأن مقصوده إزالة هذه المفسدة؛ فإذا أبيح التحيل على ذلك كان سَعْيًا في إبطال مقصود الشارع وتحصيلًا لمقصود المرابي، وهذه سبيل جميع الحيل المتوسَّل بها إلى تحليل الحرام وإسقاط الواجب، وبهذه الطريق تبطل جميعًا (¬1)، ألا ترى أن المتحيل لإسقاط الاستبراء مُبْطِل لمقصود الشارع من حكمة الاستبراء ومصلحته؛ فالمعينُ له على ذلك مُفوت لمقصود الشارع مُحصِّل (¬2) لمقصود المتحيل، وكذلك التحيل على إبطال حقوق المسلمين التي ملَّكهم إياها الشَّارع وجعله أحق بها من غيرهم إزالة لضررهم وتحصيلًا لمصالحهم. [عود إلى الأدلة العقلية على بطلان الحيل] فلو أباحَ التحيل لإسقاطها لكان عدم إثباتها للمستحقين أولى وأقل ضررًا من أن يثبتها ويوصي بها ويبالِغ في تحصيلها ثم يشرع التحيُّل (¬3) لإبطالها وإسقاطها، وهل ذلك إلا بمنزلة من بَنى بناءً مشيدًا وبالغ في إحهامه وإتقانه، ثم عاد فَنَقَضَه، وبمنزلة من أمر بإكرام رجل والمبالغة في برِّه والإحسان إليه وأداء حقوقه، ثم أباح لمن أمره أن يتحَيل بأنواع الحيل لإهانته وترك حقوقه، ولهذا يسيء الكُفّار والمنافقون ومَنْ في قلوبهم مرض (¬4) الظّنَّ بالإسلام والشرع الذي بعث [اللَّه] (¬5) به رسوله حيث ظنوا أن هذه الحيل مما جاء به الرسول وعَلِموا مناقضتها للمصالح مناقضةً ظاهرة ومنافاتها لحكمة الرب وعدله ورحمته وحمايته وصيانته لعباده؛ فإنه نهاهم عما نهاهم عنه حميةً وصيانةً، فكيف يبيح لهم الحيل على ما حماهم عنه؟ وكيف يبيح لهم التحيل على إسقاط ما فَرَضه عليهم وعلى إضاعة الحقوق التي أحقَّها عليهم لبعضهم بعضًا لقيام مصالح النوع الإنساني التي لا تتم إلا بما شرعه؟ فهذه الشريعة شَرَعَها [اللَّه] (¬6) الذي علم ما في ضمنها من المصالح والحكم والغايات المحمودة وما في خلافها من ضد ذلك، وهذا أمرٌ ثابتٌ لها لذاتها وبائن من أمر الرب تبارك وتعالى بها ونهيه عنها، فالمأمور به مصلحةٌ وحَسَنٌ في نفسه، و [اكتسى] (5) بأمر الرب تعالى مصلحة وحسنًا آخر، فازداد حُسنًا بالأمر ومحبة الرب وطَلَبِه له إلى حُسنه في نفسه، وكذلك المنهي عنه مَفْسَدة ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "جميعها". (¬2) في (ن): "محلل". (¬3) في (ك): "التحليل". (¬4) في المطبوع و (ك): "المرض". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.

[وقبيح] (¬1) في نفسه، وازداد بنهي الرب تعالى عنه وبغْضه له وكراهيته له قبحًا إلى قبحه، وما كان هكذا لم يجز أن ينقلب حُسْنه قبحًا بتغير الاسم والصورة مع بقاء الماهية والحقيقة، ألا ترى أن الشارع صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله حَرَّم بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها (¬2) لما فيه من مفسدة التشاحن والتشاجر (¬3)، ولما يؤدي إليه -إن منع اللَّه الثمرة- من أكل مال أخيه بغير حق ظلمًا وعدوانًا، ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالتحيل على البيع قبل بدوّ الصلاح؛ فإن الحيلة لا تؤثر في زوال هذه المفسدة، ولا في تخفيفها، ولا في زوال ذرَّة منها؛ فمفسدة هذا العقد أمر ثابت له لنفسه، فالحيلة إن لم تَزِدْه فسادًا لم تُزِل فسادًا، وكذلك شرع اللَّه تعالى الاستبراء لإزالة مفسدة اختلاط المياه وفساد الأنساب وسَقي الإنسان بمائه (¬4) زَرْع غيره، وفي ذلك من المفاسد (¬5) ما تُوجِبُ العقولُ تحريمه [و] (¬6) لو لم تأت به شريعة، ولهذا فَطَرَ اللَّه الناس (¬7) على استهجانه واستقباحه، وَيرَوْن من أعظم الهجن أن يقوم هذا عن المرأة ويخلفه الآخر عليها، ولهذا حرم نكاح الزانية وأوجب العِدَدَ والاستبراء، ومن المعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراءِ، ومن المعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراء (¬8)، ولا تخِفّ، وكذلك شرع الحجَّ إلى بيته لأنه قوام للناس في معاشهم ومعادهم، ولو عُطِّل البيت الحرام عامًا واحدًا عن الحج لما أمهل الناس، ولَعُوجلوا بالعقوبة، وتوعَّد من ملك الزاد والراحلة ولم يحج بالموت على غير الإسلام (¬9)، ومعلوم أن التحيل لإسقاطه لا يزيل مفسدة الترك، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ك) و (ق): "التشاجر والتشاحن". (¬4) في (ك) و (ق): "مائه". (¬5) في (ق): "الفساد". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬7) في (ق): "العباد". (¬8) انظر الاستبراء، وحكمة مشروعيته وحرمة الخيل لإسقاطه في "زاد المعاد" (4/ 189). (¬9) ورد هذا في حديث يرويه علي بن أبي طالب مرفوعًا: "من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديًا أو نصرانيًا". رواه الترمذي (812) في الحج: باب إيجاب الحج بالزاد والراحلة وابن أبي حاتم في "التفسير" (ق 48/ أ) وابن جرير (4/ 12) والعقيلي (4/ 348) وابن عدي (7/ 2580)، ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 209) والسهمي في "تاريخ جرجان" (434) وابن مردويه -وأورد إسناده ابن كثير (2/ 70) - والتيمي في "الترغيب" (رقم 1050) والبيهقي في "الشعب" (رقم 3978) وابن حزم في "المحلى" (7/ 53) من طريق =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = هلال بن عبد اللَّه حدثني أبو إسحاق الهمداني عن الحارث عنه. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد اللَّه مجهول، والحارث يضعف في الحديث. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه فقد روى عن علي موقوفًا ولم يرو مرفوعًا من طريق أحسن من هذا. وقال ابن عدي: هلال لم ينسب وهو مولى ربيعة بن عمرو وهو يعرف بهذا الحديث، وليس الحديث بمحفوظ ونقل عن البخاري قوله فيه: منكر الحديث. وأما ابن الجوزي فقد نقل عن الشعبي تكذيب الحارث الأعور. وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه ابن عدي في "الكامل" (4/ 1620) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 209) من طريق عبد الرحمن القطامي حدثنا أبو المهزم عنه مرفوعًا: "من مات ولم يحج حجة الإسلام في غير وجع حابس أو حجة ظاهرة أو سلطان جائر فليمت أي الميتتين إما يهوديًا أو نصرانيًا". قال ابن الجوزي: فيه أبو المهزم يزيد بن سفيان قال يحيى: ليس حديثه بشيء وقال النسائي: متروك الحديث وفيه عبد الرحمن القطامي قال عمرو بن علي: كان كذابًا، وقال ابن حبان: يجب تنكب رواياته. وله شاهد أيضًا من حديث أبي أمامة، وله عنه طريقان: الطريق الأول: شريك عن ليث عن عبد الرحمن بن سابط عنه مرفوعًا. أخرجه الدارمي في مسنده (2/ 28 - 29) والبيهقي (4/ 334)، وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 210) وسعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى -كما في "التلخيص الحبير" (2/ 222) و"نصب الراية" (4/ 411) -. قال الحافظ ابن حجر: وليث ضعيف، وشريك سيء الحفظ، ومما يدل على سوء حفظ شريك أن سفيان الثوري رواه عن ليث فجعله عن عبد الرحمن بن سابط مرسلًا دون ذكر أبي أمامة. أخرجه أحمد في كتاب "الإيمان" -كما في "نصب الراية" (4/ 412) - نقلًا عن "تنقيح التحقيق" لابن عبد الهادي وليس هو في المطبوع منه (2/ 395) - وقد رواه أيضًا مرسلًا ابن علية كما عند أحمد أيضًا، وأبو الأحوص كما عند ابن أبي شيبة. الطريق الثاني: عمار بن مطر عن شريك عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عنه. أخرجه ابن عدي (5/ 1728) ومن طريقه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 209). قال ابن عدي عن مطر: متروك الحديث، وختم ترجمته بقوله: الضعف على رواياته بيّن وقال العقيلي: يحدث عن الثقات بالمناكير. وقد ورد موقوفًا على عمر، أخرجه سعيد بن منصور -كما في "التلخيص" (2/ 223) - والبيهقي (4/ 334) قال الحافظ ابن حجر بعد أن ذكر طرقه (2/ 223): وإذا انضم هذا الموقوف إلى مرسل ابن سابط علم أن لهذا الحديث أصلًا. . . وتبين بذلك خطأ من ادعى أنه موضوع. =

[طرف مما كان عليه أهل المدينة]

ولو أن الناس كلهم تحيَّلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين، وارتفع من الأرض حُكمهما بالكُليَّة، وقيل للناس: إن شئتم كُلُّكم أن تتحيلوا لإسقاطهما فافعلوا، فليتصور العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضاد لشرع اللَّه وإحسانه وحكمته، وكذلك الحدود جعلها اللَّه تعالى زَواجَر للنفوس وعقوبة ونكالًا وتطهيرًا، فَشَرْعُهَا من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة مَلِك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمت أن لها طريقًا إلى إبطال عقوباتها فيها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل؛ فإنه لا فرق عندها البتة بين أن تعلم أنه لا عقوبة عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبة وأن لها إسقاطها بأدنى الحيل، ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة والٍ أو أمير يأخذ على يَدِ الجُناة ويكفّ شرهم عن الناس إذا لم يمكن أرباب الحيل أن يقوموا بذلك، وهذا بخلاف الأزمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائق ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أميرٍ ولا والٍ. [طرف مما كان عليه أهل المدينة] كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإنهم كانوا يحدّون بالرائحة وبالقَيْء وبالحبَل وبظهور المسروق عند السارق (¬1)، ويقتلون في القسامة، ويعاقبون أهل التهم، ولا يَقْبَلُون الدعوى التي تكذّبها العادة والعرف، ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون أربابها، ويحبسون (¬2) في التهم حتى يتبين حال المتهم، فإن ظهرت براءته خلّوا سبيله، وإن ظهر فجورُه قرَّروه بالعقوبة اقتداء بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عقوبة المتهمين وحبسهم؛ فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حبس في تهمة وعاقب في تهمة، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى (¬3) مِنْ ذِكْر ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاءٌ وكفاية وبيان لإغناء ما جاء به عن كل وال وسائس، وأن ¬

_ = أقول: قد لا يحكم على الحديث بالوضع، لكن يبقى الحديث ضعيفًا كما قال العقيلي والدارقطني: لا يصح فيه شيء، ومرسل ابن سابط فيه ليث وهو ضعيف، وطرقه الباقية ضعيفة جدًا، ويظهر أن الصحيح فيه الوقف، واللَّه أعلم، وانظر: "التعقبات على الموضوعات" (رقم 110 - بتحقيقي). (¬1) مضى تخريج ذلك مسهبًا، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬2) في (ق): "ويحبسونهم". (¬3) وتخريجه هناك.

[ما في ضمن المحرمات من المفاسد يمنع أن يشرع إليها التحيل]

شريعته التي هي شريعته لا يحتاج معها إلى غيرها، وإنما يحتاج إلى غيرها مَنْ لم يُحِطْ بها علمًا أو لم يقم بها (¬1) عملًا. [ما في ضمن المحرمات من المفاسد يمنع أن يشرع إليها التحيل] والمقصود أن ما في ضمن المحرمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع أن يشرع إليها التحيل بما يبيحها ويسقطها، وأن ذلك مناقضة ظاهرة، ألا ترى أنه بالَغَ في لعن المحلِّل للمفاسد الظاهرة والباطنة التي في التحليل التي يعجز البشر عن الإحاطة بتفاصيلها؛ فالتحيل على صحة هذا النكاح بتقديم اشتراط التحيل عليه وإخلاء صُلْبه عنه إن لم يَزدْ مفسدتَه فإنه لا يُزِيلها ولا يخّففها، وليس تحريمه والمبالغة في لعن فاعله تعبدًا لا يُعْقَل معناه، بل هو معقول المعنى من محاسن الشريعة، بل لا يمكن شريعة الإسلام ولا غيرها من شرائع الأنبياء (¬2) أن تأتي بحيلة؛ فالتحيّل على وقوعه وصحته إبطال لغرض الشارع وتصحيح لغرض المتحيل المخادع. [لِمَ حرم الصيد في الإحرام] وكذلك الشارع حَرَّم الصيد في الإحرام وتوعَّدَ بالانتقام على مَنْ عاد إليه بعد التحريم (¬3)، لما فيه من المفسدة الموجبة لتحريمه وانتقام الرب من فاعله، ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بنصب الشِّباك له قبل الإحرام بلحظة، [فإذا وقع فيها حال الإحرام أخذه بعد الحِلّ بلحظة] (¬4)، فإباحته لمن فعل هذا إبطال لغرض الشارع الحكيم وتصحيح لغرض المخادع. [حكمة إيجاب الكفّارة على من وطئ نهار رمضان] وكذلك إيجاب الشارع الكفارة على مَنْ وطئ في نهار رمضان فيه من المصلحة جَبْر وَهن الصوم، وزجر الواطئ، وتكفير جُرمه، واستدراك فرطه، وغير ذلك من المصالح التي علمها مَنْ شرَع الكفارة وأحبها ورضيها، فإباحةُ التحيل لإسقاطها بأن يتغدَّى قبل الجماع ثم يجامع نقضٌ لغرض الشارع، وإبطالٌ له، ¬

_ (¬1) في المطبوع: "به". (¬2) في (ك): "الإسلام". (¬3) في (ك) و (ق): "تحريمه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق).

[حكمة تشريع حدود الجرائم]

وإعمال لغرض الجاني المتحيل وتصحيح له، ثم إن ذلك جناية على حق اللَّه وحق العبيد؛ فهو إضاعة للحقين وتفويت لهما. [حكمة تشريع حدود الجرائم] وكذلك الشارع شَرَعَ حدود الجرائم التي تتقاضاها الطباع أشَدَّ تَقاضٍ لما في إهمال عقوباتها من مفاسد الدنيا والآخرة، بحيث لا يمكن سياسة ملكٍ ما من الملوك أن يخلو من عقوباتها ألبتة، ولا يقوم ملكه بذلك، فالإذن في التحيل لإسقاطها بصورة العقد وغيره مع وجود تلك المفاسد بعينها أو أعظم منها نَقْضٌ وإبطال لمقصود الشارع، وتصحيح لمقصود الجاني، وإغراء بالمفاسد، وتسليط للنفوس على الشر. [عود مرة أخرى إلى إبطال الحيل] وياللَّه العجب! كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه وقتل فاعله شر القتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها ثم يسقط بالتحيل عليه بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضه منها؟ وهل يعجز عن ذلك زانٍ أبدًا؟ وهل في طباع وُلاة الأمران يقبلوا قول الزاني: أنا استأجرتها للزنا، أو استأجرتها لتَطويَ ثيابي ثم قضيت غرضي منها (¬1)، فلا يحل لك أن ¬

_ (¬1) هذا مذهب الشيعة الإمامية. انظر: "اللمعة الدمشقية" (9/ 57)، "شرح شرائع الإسلام" (4/ 15). ونقل ابن حزم في "المحلى" عن ابن الماجشون أن المخدمة سنين كثيرة لا حد على المخدم إن وطئها!! وبه قال أبو حنيفة والمعتمد في المذهب قول أبي يوسف ومحمد، وهو وجوب الحد. "مجمع الأنهر" (1/ 595)، "شرح فتح القدير" (4/ 150)، "المبسوط" (9/ 58)، "الدر المختار" (4/ 29). وذهب المالكية والشافعية والحنابلة وابن حزم إلى وجوب الحد أيضًا، انظر: "جامع الأمهات" (ص 515)، "حاشية الدسوقي" (4/ 314)، "بداية المجتهد" (2/ 324)، "شرح الخرشي" (8/ 76)، "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 307)، "الذخيرة" (12/ 67)، "الإشراف" (4/ 233 رقم 1587 - بتحقيقي)، "المحلى" (11/ 150)، "حلية العلماء" (8/ 15)، "المقنع" (3/ 462)، "المغني" (10/ 194). والحق في هذا كله وجوب الحد، إذ عدمه فيه معنى يعارضه كتاب اللَّه، قال اللَّه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2]، قاله ابن الهمام في "شرح فتح القدير" (4/ 150).=

تقيم (¬1) عليّ الحد؟ وهل ركَّبَ اللَّه في فِطَرِ الناس سقوطَ الحد عن هذه الجريمة التي هي من أعظم الجرائم إفسادًا للفراش والإنساب بمثل هذا؟ وهل يسقط الشارع الحكيم الحد عمن أراد أن ينكح أمه أو ابنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك (¬2)؟ وهل زادهُ صورة العقد المحرم إلا فجورًا ¬

_ = ويتأيد هذا: بما ورد "مهر البغي سحت"، ولأن الزنى مع الإجارة يدل على غاية الرضى والاختيار، والعقوبة الشرعية تزداد مع كمال الرضى، وتقلل أو تخفف مع نقصانها، ولأن أغلب جرائم الزنى تقع لقاء أجور، فاعتبار الأجور شبهة لإسقاط الحد، يعني فسح المجال أمام الفسقة لارتكاب هذه الجريمة، وبذلك تذهب الحكمة من تشريع الحدود المشرعة للزجر، واللَّه أعلم. وانظر: "بدائع الفوائد" للمصنف (3/ 130). (¬1) في (ق): "فلا يحل لكم أن تقيموا". (¬2) مذهب الحنفية إن كان عالمًا بحرمة العقد عليها عوقب بأبعد ما يكون عن التعزير سياسة، وان لم يكن عالمًا؛ فلا تعزير عليه، وهو رأي زفر والثوري. انظر: "المبسوط" (9/ 85)، "مختصر اختلاف العلماء" (3/ 296/ رقم 1414)، "البناية" (5/ 396 - 405)، "اللباب" (1/ 300)، "الهداية" (4/ 147)، "الدر المختار" (4/ 24)، "بدائع الصنائع" (9/ 4154)، "الفتاوى البزازية" (6/ 428)، "فتح القدير" (4/ 202). ومذهب الشافعية أن من نكح ذات محرم حد، سواء كان عالمًا أم جاهلًا. انظر: "المهذب" (2/ 269)، "معالم السنن" (6/ 269)، "أسنى المطالب" (4/ 127)، "المنهاج" (ص 132)، "مغني المحتاج" (4/ 146)، "حلية العلماء" (8/ 15)، "مختصر الخلافيات" (4/ 429/ رقم 296)، "روضة الطالبين" (10/ 94)، "المجموع" (22/ 56). ومذهب المالكية: لزمه الحد إن كان عالمًا بالتحريم، انظر: "المدونة" (4/ 383 أو 6/ 209 - ط دار صادر)، "الكافي" (574)، "أسهل المدارك" (3/ 162)، "مواهب الجليل" (6/ 291)، "جامع الأمهات" (ص 515)، "التاج والإكليل" (6/ 293)، "عقد الجواهر الثمينة" (3/ 206)، "الإشراف" (4/ 231 رقم 1586 - بتحقيقي)، "الذخيرة" (12/ 50) وهذا مذهب أبي يوسف ومحمد، وإليه ذهب ابن حزم. انظر: "الدر المختار" (4/ 24)، "الفتاوى البزازية" (6/ 428)، "المحلى" (8/ 310). ومذهب أحمد عليه الحد وفي الأرجح هو القتل. انظر: "المغني" (12/ 341)، "الإنصاف" (10/ 183، 185)، "تنقيح التحقيق" (3/ 304)، "منتهى الإرادات" (3/ 348)، "كشاف القناع" (6/ 98)، "الكافي" (4/ 202). وهذا مذهب جابر بن زيد وإسحاق بن راهويه وأيوب السختياني وابن أبي خيثمة، أفاده ابن قدامة، وعزاه ابن القيم في "الداء والدواء" (ص 256) لأحمد وإسحاق وجماعة من أهل الحديث.

فصل [أكثر الحيل تناقض أصول الأئمة]

وإثمًا واستهزاء بدين اللَّه وشرعه ولعبًا بآياته؟ فهل يليق به مع ذلك رفع هذه العقوبة عنه وإسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومة إلى فعلها الفاحشة بأمه [وأخته] (¬1) وابنته؟ فأين القياسُ وذكر المناسبات والعلل المؤثرة والإنكار على الظاهرية؟ فهل بلغوا بالتمسك بالظاهر عُشْرَ مِعْشار هذا؟ والذي يقضي منه العجب أن يقال: لا يعتد بخلاف المتمسكين بظاهر القرآن والسنة، ويعتد بخلاف هؤلاء، واللَّه ورسوله منزَّه عن هذا الحكم. وياللَّه العجب! كيف يَسقطُ القطعُ عمن اعتاد سرقة أموال الناس وكلما أمسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي، والدار التي دخلتها داري، والرجل الذي دخلت داره عبدي؟ قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك، فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عادلة، فضْلًا عن شريعة نبي من الأنبياء، فضْلًا عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم؟ وكذلك الشارع أوجب الإنفاق على الأقارب؛ لما في ذلك من قيام مصالحهم ومصالح المنفق، ولما في تَرْكهم من إضاعتهم؛ فالتحيل لإسقاط الواجب بالتمليك في الصورة مناقضة لغرض الشارع وتتميم لغرض الماكر المحتال، وعَوْدٌ إلى نفس الفساد الذي قصد الشارع إعدامَه بأقرب الطرق، ولو تحيل هذا المخادع على إسقاط نفقة دَوابه لهلكوا، وكذلك ما فرضه اللَّه تعالى للوارث من الميراث هو حق له جعله أولى من سائر الناس به، فإباحةُ التحيل لإسقاطه بالإقرار بماله كله للأجنبي وإخراج الوارث مُضادَّة لشرع اللَّه ودينه ونقض لغرضه وإتمام لغرض المحتال، وكذلك تعليم المرأة أن تقر بدَيْنٍ لأجنبي إذا أراد زوجُهَا السفر بها. فصل [أكثر الحيل تناقض أصول الأئمة] وأكثر هذه الحيل لا تمشي على أصول الأئمة، بل تناقضها أعظم مناقضة. وبيانه أن الشافعي -رضي اللَّه عنه- يحرم مسألة مُدِّ عجوة ودرهم بمد ودرهم (¬2)، ويبالغ في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬2) في (د): "بمدين ودرهمين"، وقال (د): "في نسخة: "بمد ودرهم"، وهو يوافق ما يذكر بعد" اهـ. قلت: عند الشافعية: ما حرم فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض ومع أحد =

[الحيل تقتضي رفع التحريم]

تحريمها بكل طريق خوفًا أن يُتَّخذ حيلة على نوع ما من ربا الفَضْل، فتحريمُهُ للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النساء أولى من تحريم مد عجوة بكثير؛ فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل أخف من التحيل بالعِينَةِ على ربا النساء، وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك؟ وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك؟ وأبو حنيفة يحرِّم مسألة العِينة (¬1)، وتحريمه لها يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد عجوة بأن يبيعه خمسة عشر درهمًا بعشرة في خرقة؛ فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة، وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة، ويتوسع فيها، وأصل كل من الإمامين -رضي اللَّه عنهما- في أحد البابين يستلزم إبطال الحيلة في الباب الآخر، وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم، وكثير من الأقوال المُخَرَّجة دون هذا. [الحيل تقتضي رفع التحريم] فقد ظهر أن الحيل المحرمة في الدين تقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه ومقتضيه وإسقاط الوجوب مع قيام سببه، وذلك حرامٌ من وجوه: أحدها: استلزامها فعل المحرم وترك الواجب. والثاني: ما تتضمنه (¬2) من المَكْر والخِداع والتلبيس. والثالث: الإغراء بها والدلالة عليها وتعليمها مَنْ لا يحسنها. والرابع: إضافتها إلى الشارع وأن أصول شرعه ودينه تقتضيها. والخامس: أن صاحبها لا يتوب منها ولا يعدّها ذنبًا. والسادس: أنه يُخادع اللَّه كما يخادع المخلوق. والسابع: أنه يسلِّط أعداء الدين على القَدْح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه. والثامن: أنه يُعْمِلُ فكره واجتهاده في نقض ما أبرمه الرسولُ وإبطال ما أوجبه وتحليل ما حرمه. ¬

_ = العوضين جنس آخر يخالفه في القيمة، كبيع ثوب ودرهم بدرهمين، ومد عجوة ودرهم بدرهمين، انظر: "المهذب" (1/ 273) و"المغني في الإنباء عن غريب المهذب والأسماء" (1/ 323) و"الزاهر" (121 - ط دار فكر عمان)، و"الموافقات" (3/ 127 - 130 - بتحقيقي)، و"الحيل الفقهية في المعاملات المالية" (144). (¬1) انظر: "الهداية" (3/ 85)، "حاشية ابن عابدين" (4/ 265). (¬2) في (د): "يتضمن"، وفي (ك): "تضمنه".

فصل [حجج الذين جوزوا الحيل]

والتاسع: أنه إعانة ظاهرة على الإثم والعُدْوان، وإنما اختلفت الطريقُ؛ فهذا يعين عليه بحيلة ظاهرُهَا صحيح مشروع يتوصل بها إليه، وذاك يعين عليه بطريقه المفْضية إليه بنفسها، فكيف كان هذا معينًا على الإثم والعدوان والمتحيّل المخادع يعين على البر والتقوى. العاشر: أن هذا ظلمٌ في حقِّ اللَّه، وحق رسوله، وحق دينه، وحق نفسه، وحق العبد المُعيَّن، وحق (¬1) عموم المؤمنين؛ فإنه يُغْرِي به ويعلمه ويدل عليه، والمتوصل إليه بطريق المعصية لا يظلم إلا نفسه، ومَنْ تعلق به ظلمه من المعيَّنين فإنه لا يزعم أنَّ ذلك دينٌ وشرع ولا يقتدي به الناس. فأين فسادُ أحدهما من الآخر وضرره من ضرره؟ وباللَّه التوفيق. فصل [حجج الذين جوَّزوا الحيل] قال أرباب (¬2) الحيل: قد أكثرتم من ذم الحيل، وأجلبتم بخَيْل الأدلة ورَجْلها وسمينها ومهزولها، فاسمعوا (¬3) الآن تقريرها واشتقاقها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام، وأنه لا يمكن أحدًا إنكارها. [أدلتهم من القرآن] قال اللَّه تعالى لنبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فأذن لنبيه أيوب أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضِّغْث، وقد كان نَذَر أن يضربها ضرباتٍ متعددة (¬4)، وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقةً؛ فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين، فنقيس عليه سائر الباب، ونسميه وجوه المخارج من المضائق، ولا نسمّيه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها. وأخبر اللَّه تعالى عن نبيه يوسف -عليه السلام- أنه جعل صُواعَه في رَحْل أخيه ليَتوَّصل بذلك إلى أخذه من إخوته، ومَدَحَه بذلك، وأخبر أنه برضاه وإذنه، كما قال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ¬

_ (¬1) كذا في (ن) و (ك) و (ق) وفي سائر النسخ: "حقوق". (¬2) في (ك): "أصحاب". (¬3) كذا في (ك) و (ق)، وفي سائر النسخ: "فاستمعوا". (¬4) في المطبوع و (ك): "معدودة".

[أدلتهم من السنة]

[نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (¬1)} [يوسف: 76] فأخبر أن هذا كيده لنبيه، وأنه بمشيئته، وأنه يرفع درجة عبده بلطيف العلم ودقيقه الذي لا يهتدي إليه سواه، وأن ذلك من علمه وحكمته. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] فأخبر تعالى أنه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله، وكثير من الحيل هذا شأنها، يمكر بها على الظالم والفاجر ومن يعسر تخليص الحق منه؛ فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم وقهر ظالم ونصر حق وإبطال باطل. واللَّه تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن، ولكن جازاهم بجنس عملهم، وليعلّم عباده أن المكر الذي يتوصَّلُ به إلى إظهار الحق ويكون عقوبة للماكر ليس قبيحًا. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وخداعه لهم أن يظهر لهم أمرًا ويبطن لهم خلافه. فما تُنكرون على أرباب الحيل الذين يظهرون أمرًا يتوصلون به إلى باطن غيره اقتداءً (¬2) بفعل اللَّه تعالى؟ [أدلتهم من السنة] وقد روى البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة وأبي سعيد "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمرٍ جَنيبٍ (¬3)، فقال: أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصالح من هذا بالصَّاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" (¬4) وقال في الميزان مثل (¬5) ذلك، فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر، وهذا أصل في جواز العِينَةِ. وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وِزان (¬6) المعاريض في القَوْل؟ وإذا كان في المعاريض مَنْدوحة عن الكذب ففي معاريض الفعل مَنْدُوحة عن المحرمات وتخلّص من المضايق. ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية". (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "أفتوا"، وقال (د)، و (ط): في نسخة: "اقتدوا"، وزاد (ط): "انظر: "أعلام الموقعين" (ط فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 157) ". (¬3) "نوع جيد من أنواع التمر" (و). (¬4) سبق تخريجه، وفي النسخ المطبوعة: "الجميع" بدل "الجمع". (¬5) في (ك): "القرآن بمثل". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "وزن".

ولقد لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طائفةً من المشركين وهو في نَفَرٍ من أصحابه، فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نحن مِنْ ماء" فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياء اليمن كثير، فلعلهم منهم، وانصرفوا (¬1). و [قد] (¬2) جاء رجل إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: احملني، فقال: "ما عندي (¬3) إلا ولد ناقة" فقال: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وهل يلد الإِبلَ إلا النوقُ؟ " (¬4). وقد رأت امرأةُ عبدِ اللَّه بن رواحة عبدَ اللَّه على جارية له، فذهبت وجاءت بسكين، فصادفته وقد قضى حاجته، فقالت: لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوَجَأتك، فأنكر، فقالت: فاقرأ إن كنت صادقًا، فقال: شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللَّه حقٌّ ... وأن النار مَثْوَى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طَافٍ (¬5) ... وفوق العرش رَبُّ العالمينا وتحملُه ملائكة كِرَام (¬6) ... ملائكة الإلهِ مُسَوَّمينا قالت (¬7): آمنت بكتاب اللَّه وكذَّبت بصري، فبلغ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فضحك ولم ¬

_ (¬1) رواه ابن هشام عن شيخه ابن إسحاق (2/ 306) قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبان، فذكر قصته. . . ثم ذكره. ورواه من طريقه الواقدي في "المغازي" (1/ 50)، والطبري في "تاريخه" (2/ 436)، ونقله ابن كثير في "البداية والنهاية" (3/ 264)، وابن سيد الناس في "عيون الأثر" (1/ 298)، وابن الجوزي في "الأذكياء" (140 - 141)، وابن القيم في "الطرق الحكمية" (ص 41)، عن ابن إسحاق، وهو مرسل؛ محمد بن يحيى هذا تابعي. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "عندنا". (¬4) رواه أحمد (3/ 267)، والبخاري في "الأدب المفرد" (268)، وأبو داود (4998) في (الأدب): باب المزاح، والترمذي (1991) في (البر): باب ما جاء في المزاح، وفي "الشمائل المحمدية" (238)، وأبو يعلى (3776)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي" (ص 78)، والبيهقي (10/ 248)، والبغوي في "شرح السنة" (13/ 181 - 182) (رقم 3605) من طريق خالد بن عبد اللَّه عن حميد عن أنس. وهذا إسناد صحيح. (¬5) في "الاستيعاب": "حق". (¬6) قال (د)، و (ط): "في نسخة: وتحمله ملائكة شداد"، وزاد (ط) "انظر: "أعلام الموقعين" (ط فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 158) ". قلت: والنسخة المشار إليها هي (ن) و (ق)، وفي "الاستيعاب" (غلاظ)، وما أثبتاه هنا موافق لما في "الرد على الجهمية". (¬7) في (ك) و (ق): "فقالت".

ينكر عليه (¬1)، وهذا تحيل منه بإظهار القراءة لما أوهم أنه قرآن ليتخلص به من مكروه المغيرة. ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (1/ 120)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 259)، وابن أبي الدنيا -ومن طريقه ابن عساكر (346 - 347 - تراجم عبد اللَّه بن جابر- عبد اللَّه بن زيد) - والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 322 - بتحقيقي) عن أبي نعيم، والدارقطني (1/ 121) والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 323 - بتحقيقي) عن عمر بن زُريق كلاهما عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة (زاد ابن زريق: عن ابن عباس) قال: كان ابن رواحة مضطجعًا. . . وذكر نحوه. وأخرجه ابن عساكر (ص 344) عن سعيد بن زكريا عن زمعة به، دون ذكر ابن عباس. وهذا إسناد ضعيف ومنقطع، عكرمة لم يلق ابن رواحة، وزمعة ضعيف عن سلمة، ضعّفه أحمد ويحيى وأبو حاتم وغيرهم، وقال أبو زرعة: واهي الحديث، وقال البخاري: يخالف في حديثه، تركه ابن مهدي أخيرًا، انظر: "التاريخ الكبير" (3/ 451)، و"الجرح والتعديل" (3/ 624) حتى من تساهل فيه كابن حبان، قال في "الثقات" (6/ 399): "يعتبر بحديثه من غير رواية زمعة بن صالح عنه". وأخرجه محمد بن العباس اليزيدي في "أماليه" (رقم 57)، ومن طريقه ابن عساكر (340)، والذهبي في "السير" (1/ 237 - 238)، قال: نا محمد بن حرب، وأبو طاهر المخلص في "فوائده" -ومن طريقه ابن عساكر (342) - والسبكي في "طبقات الشافعية" (1/ 264)، من طريق موسى بن جعفر بن أبي كثير كلاهما قال: نا عبد العزيز بن أخي الماجشون. . . وذكره، وإسناده معضل. وأخرج نحو هذه القصة: ابن أبي شيبة في "الأدب" (رقم 388) وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهمية" (رقم 82) وابن أبي شيبة (8/ 905) -ومن طريقه ابن قدامة في "إثبات صفة العلو" (رقم 68) - وابن أبي الدنيا في "الإشراف" (رقم 239، 240) و"العيال" (رقم 572، 573) ومحمد بن الحسن في "المخارج في الحيل" (ص 8 - 9)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 341، 342) من طرق ضعيفة ومعضلة والقصة فيها نكرة ظاهرة، وضعفها عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (1/ 174) وأقره ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 10) وضعفها النووي في "المجموع" (2/ 159) ومحمد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 426)، وأتيتُ على أسانيدها وذكر ما فيها في كتابي "قصص لا تثبت" (2/ 21 - 44)، فانظره وكذا "فتاوى رشيد رضا" (3/ 970 - 973). (تنبيه): أخرج البخاري (1155) في (التهجد): فضل من تعارّ من الليل فصلى، بسنده إلى الهيثم بن أبي سنان أنه سمع أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- وهو يقص في قصصه- وهو يذكر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن أخًا لكم لا يقول الرفث، يعني بذلك عبد اللَّه بن رواحة، وساق الأبيات وانظر تعليقي على "الخلافيات" (2/ 32 - 38) و"سنن الدارقطني" (رقم 425، 426).

[أدلة من عمل السلف]

[أدلة من عمل السَّلف] وكان بعض السلف إذا أراد أن لا يطعم طعامًا لرجل (¬1) قال: أصبحت صائمًا، يريد أن أصبح فيما سلف [صائمًا] (¬2) قبل ذلك اليوم، وكان محمد ابن سيرين إذا اقتضاه بَعْضُ غُرَمائه وليس عنده ما يعطيه قال: أعطيك في أَحدِ اليومين إن شاء اللَّه، يريد بذلك يومي الدنيا والآخرة، وسأل رجل عن المروزي وهو في دار أحمد بن حنبل، فكره الخروج إليه، فوضع [أحمد] (¬3) أصبعه في كفّه، فقال: ليس المروزي هاهنا، وما يصنع المروزي هاهنا (¬4)؟ وحضر سفيان الثوري مجلسًا، فلما أراد النهوض منعوه، فحلف أن (¬5) يعود، ثم خرج وترك نَعْله كالناسي لها، فلما خرج عاد وأخذها وانصرف، وقد كان لشُرَيح في هذا الباب فقه دقيق كما أعجب رجلًا فرسُه وأراد أخذها منه، فقال له شريح: إنها إذا ربضت (¬6) لم تقم حتى تقام، فقال الرجل: أف أف (¬7)، إنما أراد شريح أن اللَّه هو الذي يُقيمها، وباع من رجل ناقة، فقال له المشتري: كم تحمل؟ فقال: احمل على الحائط ما شئت، فقال: كم تَحْلِب؟ قال: احلب في أي إناء شئت، فقال: كيف سيْرُها؟ قال: الريح لا تُلْحَقُ، فلما قبضها المشتري لم يجد شيئًا من ذلك، فجاء إليه وقال: ما وجدتُ شيئًا من ذلك، فقال: ما كذَبتك. [أدلة أخرى لأصحاب الحيل] قالوا: ومن المعلوم أن الشارع جعل العُقُود وسائلَ وطرقًا إلى إسقاط الحدود والمأثم، ولهذا لو وطئ الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شُبهة لزمه الحد، فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحد، وكان العقد حيلة على إسقاط الحد، بل قد جعل اللَّه سبحانه الأكل والشرب واللباس حيلة على دفع أذى الجوع والعطش والبرد، والاكتفاء حيلة إلى (¬8) دفع [أذى] (¬9) الصائل من ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "طعام رجل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) أورده ابن الجوزي في "الأذكياء" (144)، وفيها: فوضع مهنا بن يحيى إصبعيه في راحته، وقال: ليس المروزي هاهنا، فضحك أحمد، ولم ينكر عليه. (¬5) في (ك): "أنه". (¬6) في المطبوع: "أربضت". (¬7) رواه الخصاف في "الحيل" (ص 2) وهو في "المخارج في الحيل" (ص 10) المنسوب لمحمد بن الحسن. (¬8) في (ن) و (ك): "على". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[كتاب الخصاف في الحيل]

الحيوان وغيره، وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك الغير (¬1)، وسائر العقود حيلة على التوصل إلى ما لا يباح إلا بها، وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدَّيْن في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذَّر الاستيفاء منه. وقد روى سلمة بن صالح (¬2)، عن يزيد الواسطي، عن عبد الكريم، عن عبد اللَّه بن [أبي] (¬3) بريدة قال: سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أعظم آية في كتاب اللَّه، فقال: لا أخرج من المسجد حتى أخبرك، فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من مجلسه، فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية قبل أن يخرج رجله الأخرى (¬4). [كتاب الخصاف في الحيل] وقد بني الخصاف (¬5) كتابه في الحيل على هذا الحديث، ووجَّه الاستدلال به أن من حلف [أن] (¬6) لا يفعل شيئًا فأراد التخلص من الحِنْثِ بفعل بعضه لم يكن حانثًا، فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فليَدَعْ بعضَه ويأخذ الباقي ولا يحنث، وهذا أصل في بابه في التخلص من الأيمان (¬7). [عود إلى الاستدلال بعمل السلف في جواز الحيل] وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب، ونهجوا لنا هذا الطريق، ¬

_ (¬1) في (ك): "العين". (¬2) في (ن) و (ق): "سلمة بن أبي صالح"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬4) رواه محمد بن الحسن في "المخارج في الحيل" (ص 8) والخصاف في "الحيل" (2). حدثنا سلمة بن صالح به هكذا!! ورواه الدارقطني في "سننه" (1/ 310)، والبيهقي (10/ 62) من طريق سلمة بن صالح عن أبي خالد عن عبد الكريم بن أمية عن ابن بريدة عن أبيه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا أخرج من المسجد حتى أخبرك بآية. . . ثم ذكر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. وقال الدارقطني في "الغرائب" (2/ 329 رقم 1520 - أطرافه): "تفرد به سلمة بن صالح عن أبي خالد الدالاني عن عبد الكريم بن أبي أمية عن أبي بريدة". قال البيهقي: إسناده ضعيف. أقول: سَلمة وعبد الكريم كلاهما ضعيف. وانظر: "تنقيح التحقيق" (2/ 805، 807 - ط عامر صبري) وعزاه في "الدر المنثور" (1/ 19) لابن أبي حاتم. (¬5) هو الإمام الفقيه الحنفي أبو بكر أحمد بن عمرو الشيباني المتوفى سنة 261 هـ ببغداد. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) انظر كتابه "الحيل" (ص 107) (باب في الأيمان).

فروى قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال: إني (¬1) لي معك حقًا، [فقال: لا] (¬2)، فقال: احلف لي بالمشي إلى بيت اللَّه، فقال: يحلف له بالمشي إلى بيت اللَّه، ويعني به مسجد حَيِّهِ (¬3). وبهذا الإسناد أنه قال له رجل: إن فلانًا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدرُ على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ قال: يقول: واللَّه ما أُبصرُ إلا ما سدَّدني غيري (¬4). وذكر عبد الملك بن مَيْسرة عن النَّزَّال بن سَبْرة قال: جعل حذيفة يحلف لعثمان بن عفان على أشياء باللَّه ما قالها، وقد سمعناه يقولها، [فقلنا: يا أبا عبد اللَّه، سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها، وقد سمعناك قلتها، فقال:] (¬5) إني أشتري (¬6) ديني بعضه ببعضٍ مخالفَةَ أن يذهب كله (¬7)، وذكر قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم أن رجلًا قال له: [إني] (¬8) أنال من رجل شيئًا فيبلغه عني، فكيف أعتذر إليه؟ فقال له إبراهيم: قل: واللَّه إن اللَّه ليعلم ما قلت من ذلك من شيء (¬9)، وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مُستخفٍ من الحجَّاج: إن سُئلتم عني [وحلّفتم] فاحلفوا باللَّه لا تدرون أين أنا، ولا في أي موضع أنا، واعْنُوا [أنكم] لا تدرون أين أنا من البيت، وفي أي ¬

_ (¬1) في (ق): "فقال له: إن". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) الخبر في "الحيل" للخصاف (ص 2) وفيه: "حدثنا قيس عن حماد الأعمش"! وفي "المخارج في الحيل" (9 - 10) المنسوب لمحمد بن الحسن: "حدثنا يعقوب عن قيس بن الربيع عن حماد عن إبراهيم. . . ". (¬4) الخبر في "الحيل" (ص 2) للخصاف، و"المخارج في الحيل" (ص 10)، وزادا: "يعني: إلا ما بصرني ربي"، وفي (ك): "سدني". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ن) و (ق): "اشتريت"، وفي (ك): "اشترى". (¬7) رواه الخصاف في "الحيل" (ص 2) حدثنا مسعر بن كدام عن عبد الملك بن ميسرة به، وهو من هذا الطريق في "المخارج في الحيل" (ص 10). ورواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 279) في ترجمة حذيفة بن اليمان من طريق إبراهيم بن منويه: حدثنا عبيد بن أسباط: حدثنا عن الأعمش عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة به. ورواته كلهم ثقات، لكن إبراهيم هذا ينظر فيه فإني لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المصادر. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬9) رواه الخصاف في "الحيل" (ص 2) وهو في "المخارج" (ص 10).

[الأدلة من الحديث]

موضع منه، وأنتم صادقون (¬1). وقال مجاهد عن ابن عباس: ما يسرُّني بمعاريض الكلام حُمُرُ النِّعَمِ (¬2). [الأدلة من الحديث] قد ثبت في "الصحيح" من حديث حُميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلْثُوم بنت عُقْبَة بن أبي مُعَيْط -وكانت من المهاجرات الأول- "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رخَّصَ في الكذب في ثلاث: في الرجل يُصْلِحُ بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الخصاف في "الحيل" (ص 2 - 3) وهو في "المخارج" (ص 10 - 11). (¬2) رواه الخصاف في "الحيل" (ص 3) ومحمد بن الحسن في "المخارج" (10) من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه به، وإسناده ضعيف جدًا، الحسن بن عمارة متروك. وفي "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 185) من طريق جرير عن منصور قال: بلغني عن ابن عباس أنه قال: ما أحب لي بالمعاريض كذا وكذا، وفيه انقطاع. (¬3) رواه أحمد (6/ 403 و 404)، ومسلم (2605) (101 وما بعده) وأبو داود في (الأدب): (4921) باب في إصلاح ذات البين، والنسائي في "الكبرى" (8642) في السير، باب الرخصة في الكذب في الحرب، وفي عشرة النساء (رقم 238)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3175)، والطبراني في "الكبير" (25/ 193)، و (194)، وفي "الصغير" (189)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 197 و 198) من طرق (صالح بن كيسان، ويزيد بن الهاد، وعبد الوهاب بن رفيع) عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أمه أم كلثوم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرفوعًا به، وعند بعضهم زيادة: "ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا". لكن رواه مسلم (2605) من طريق يونس عن الزهري قال: لم يُرخص في الكذب. . . وكذا رواه النسائي في "عشرة النساء" (239)، ورواه النسائي في "عشرة النساء" (237) من طريق الزبيدي عن الزهري. . . وفيه: لم يرخص في شيء، فهل القائل الزهري أم أم كلثوم؟! وقد أعل هذا الحديث بأنه مدرج من كلام الزهري، وصنيع النسائي يشير إلى ذلك، وكذا قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (5/ 300) حيث إن البخاري روى الحديث: "ليس الكذاب، لذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا" من رواية صالح بن كيسان دون ذكر: ولم يرخص في الكذب إلا في ثلاث، مع أن رواية صالح ثابتة في "صحيح مسلم" وفي غيره بإثباتها من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس من كلام الزهري، وكون يونس بن يزيد من أثبت الناس في الزهري لا يعني إعلال هذه الزيادة بالإدراج، وقد رواها ثلاثة من الثقات غيره. وبعد كتابة ما قلت، وجدت شيخنا الألباني سبقني إلى هذا في "السلسلة الصحيحة" =

وقال مُعْتمر بن سُليمان التَّيميّ، عن أبيه: حدثني نُعيم بن أبي هِنْد، عن سُويد بن غَفَلَةَ أن عليًا كرم اللَّه وجهه في الجنة لما قتل الزنادقة نظر في الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: صدق اللَّه ورسوله، ثم قام فدخل بيته، فأكثر الناس في ذلك، فدخلْتُ عليه فقلتُ: يا أمير المؤمنين أشيء عَهِدَ إليك رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أم شيء رأيته؟ فقال: هل عليّ من بأس أن أنظر إلى السماء؟ قلت: لا، قال: فهل عليّ من بأس أن انظر إلى [السماء أو إلى] الأرض؟ قلت: لا، قال: فهل عليّ من بأس أن أقول صدق اللَّه ورسوله؟ قلت: لا، قال: فإني رجلٌ مُكائِد (¬1). وقال حجاج بن مِنْهال: ثنا أبو عَوَانة، عن أبي مِسْكين قال: كنت عند إبراهيم وامرأتُه تعاتبه في جاريته وبيدها (¬2) مروحة، فقال: أشهدكم أنها (¬3) لها، ¬

_ = (رقم 545) ثم ذكر شاهدين، شاهد تام من لفظه، وشاهد في الكذب على الزوجة، مما يدل على أن الحديث أصلًا من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وللَّه الحمد. (تنبيه): الحديث نقله المصنف من "الحيل" (ص 3) للخصاف، وهو في "المخارج في الحيل" (ص 12). (¬1) رواه الخصاف في "الحيل" (ص 3) ثنا عبد اللَّه بن الفضل وأبو عمر بن سليمان التيمي عن أبيه به، وما بين المعقوفتين منه. ورواه أحمد بن منيع -كما في "إتحاف المهرة" (3/ ق 134/ ب) - ثنا يزيد بن هارون ثنا سليمان التيمي عن نعيم به، وقال البوصيري: "هذا الإسناد رجاله ثقات". ورواه الطبراني في "الأوسط" (7/ 140 رقم 7101) من طريق الحسن بن زياد عن إسرائيل عن سماك بن حرب عن سويد بن غفلة به مطولًا، وإسناده ضعيف جدًا، فيه الحسن بن زياد اللؤلؤي متروك، انظر: "مجمع الزوائد" (6/ 262). وروى أوله فقط: ابن أبي شيبة (6/ 586 و 7/ 659 - ط دار الفكر و 10/ 141 و 12/ 391 - ط الهندية)، والشافعي في "الأم" (7/ 168)، والبزار (570 - البحر الزخار)، وعثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على بشر المريسي" (ص 113 - تحقيق الشاويش و 1/ 579 - تحقيق رشيد الألمعي/ مختصرًا)، عن أبي بكر بن عياش عن أبي حصين، والطيالسي (168 - مختصرًا) عن شمر بن عطية كلاههما عن سويد بن غفلة به. ورواه البخاري (3017) في (الجهاد): لا يُعذب بعذاب اللَّه، و (6922) في (استتابة المرتد) بسنده إلى عكرمة أن عليًا حرق قومًا. وفي رواية: "أتي علي بزنادقة فأحرقهم"، وانظر: "فتح الباري" (6/ 151 و 12/ 270). وانظر: "مصنف عبد الرزاق" (20971). (¬2) كذا في جميع النسخ، وفي "الحيل": "وبيده". (¬3) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر النسخ: "بأنها".

[قولهم لا بأس بالحيل]

فلما خرجنا قال: علامَ شهدتم؟ قلنا: أشْهَدْتَنا أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة؟ (¬1). [قولهم لا بأسَ بالحيل] وقال محمد بن الحسن، عن عمرو بن ذر (¬2) عن الشعبي: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلَّص به الرجل من [المآثم و] الحرام (¬3)، ويخرج به (¬4) إلى الحلال، فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به، وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يُبْطله، أو يحتال في باطل حتى يُوهم أنه حق (¬5)، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة، وأما ما كان على السبيل (¬6) الذي قلنا فلا بأس بذلك (¬7). [استدلالهم بالقرآن] قالوا: وقد قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وقال غير واحد من المفسرين: مخرجًا مما ضاق على الناس، ولا ريب أن هذه الحيلَ مخارجُ مما ضاق على الناس، ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام (¬8) ما حلف عليه، فيكون له بالحيلة مخرج منه، وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد مَنْ يُقْرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعِينة والتورق (¬9) ونحوهما، فلو لم يفعل ذلك لهلك ولهلكت عياله، واللَّه تعالى لا يشرع ذلك، ولا يضيق عليه (¬10) شرعه الذي وسع جميع خلقه؛ فقد دار أمره بين ثلاثة لا بد له من واحد منها: إما إضاعة نفسه وعياله، وإما الربا صريحًا، وإما المخرج من هذا الضيق [بهذه ¬

_ (¬1) أخرجه الخصات في "الحيل" (ص 4) من طريق حجاج به. (¬2) كذا في (ن) و (ك) و (ق) و (ح)، وفي باقي النسخ: "بن دينار"!! وهو أعلى طبقة من هذا، وترجم الخطيب في "المتفق" (3/ 1688 - 1690) لثلاثة ممن يتسمى بهذا الاسم، ليس من بينهم أحد يروي عن الشعبي وفي مطبوع "الحيل" للخصاف: "عمرو بن زر"!! (¬3) في (ن): "الجرائم"، وفي (ق): "يتخلص به من الجرائم". (¬4) كذا في المطبوع و"الحيل"، وفي النسخ الخطية: "بها". (¬5) في مطبوع "الحيل": "حتى يموهه". (¬6) في مطبوع "الحيل": "فأسا ما كان على هذا القبيل". (¬7) الحيل (ص 4). (¬8) كذا في الأصول، ولعل الصواب: "التزام". (¬9) مضى التعريف به. (¬10) في (ك) و (ق): "عنه".

[استدلالهم بعمل السلف وقولهم]

الحيلة] (¬1)، فأوجدونا أمرًا رابعًا نصير إليه، وكذلك الرجل ينزغه (¬2) الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدًا مفارقةُ امرأته وأولاده وخراب بيته، فكيف ينكر في حكمة اللَّه ورحمته أن نتحيل له بحيلة تُخْرجه من هذا الإصر والغل؟ وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم (¬3) وأبو ثور (¬4) وبعض أصحاب أبي حنيفة (¬5)، وحملوا أحاديثَ التحريم على ما إذا شرط في صلب العقد أنه نكاح تحليل؟ [استدلالهم بعمل السلف وقولهم] قالوا: وقد روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن محمد ابن سيرين قال: أرْسَلَت امرأة إلى رجل، فزوَّجته نفسها ليحلها لزوجها، فأمره عمر [بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-] أن يُقيمَ معها ولا يطلقها، وأوْعَده إن يعاقبه أن طلَّقها (¬6)؛ فهذا أمير المؤمنين قد صحح نكاحه، ولم يأمره باستئنافه، وهو حجة في صحة نكاح المحلل والنكاح بلا ولي. وذكر عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان لا يرى بأسًا بالتحليل، إذا لم يعلم أحد الزوجين (¬7)، قال ابن حزم (¬8): "وهو قول سالم بن عبد اللَّه والقاسم بن محمد". وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محلِّلًا ثم رَغِبَ فيها فأمسكها، قال: لا بأس بذلك (¬9). ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "بالحيلة". (¬2) في المطبوع: "ينزعه" بالعين المهملة. (¬3) انظر: "المحلى" (10/ 181 - 185) لابن حزم -رحمه اللَّه-. (¬4) انظر: "المحلى" (11/ 487) و"نيل الأوطار" (7/ 312)، "فقه الإمام أبي ثور" (ص 471). (¬5) هذه رواية بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، وانظر: "اللباب (3/ 58)، "المبسوط" (6/ 9، 10)، وهو قول عند الشافعية انظر: "مغني المحتاج" (3/ 183)، "نيل الأوطار" (7/ 312). (¬6) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (10786)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 182) ورواه عبد الرزاق أيضًا (10787) عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين به، وابن سيرين لم يدرك عمر، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) رواه عبد الرزاق (10782)، ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 182)، ورواته ثقات. (¬8) في "المحلى" (10/ 182). (¬9) رواه عبد الرزاق (10784)، وذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 182).

وقال الشعبي: لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج (¬1). وقال الليث بن سعد: إن تزوَّجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلِّق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك إحسانًا منه (¬2) فلا بأس أن ترجع إلى الأول، فإن بيَّن الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضرُّه. وقال الشافعي وأبو ثور: المحلِّل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح أنه يتزوجها (¬3) ليحلها ثم يطلقها، فأما من لم يشترط ذلك [عليه] في عقد النكاح فعقده (¬4) صحيحٌ لا داخلة فيه، سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشرط (¬5)، نوى ذلك [في نفسه] أو لم ينوه، قال أبو ثور: وهو مأجور (¬6). وروى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عن (¬7) أبي حنيفة مثل هذا سواء. وروى أيضًا محمد وأبو يوسف (¬8) عن أبي حنيفة: إذا نوى الثاني تحليلها (¬9) للأول لم تحل له بذلك. وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة (¬10): "أنه [و] إن اشترط (¬11) عليه في نفس العقد أنه إنما يتزوجها (¬12) ليحلها للأول فإنه نكاحٌ صحيح [ويحصنان به]، ويبطل الشرط، وله أن يقيم معها" (¬13). فهذه ثلاث روايات عن أبي حنيفة. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (10789)، وذكره ابن حزم في "المحلى" (10/ 182). (¬2) كذا في الأصول كلها، وفي "المحلى" (10/ 182): "منه احتسابًا"، وفي (ك): "منه إِحسانًا". (¬3) في (ق): "إنما تزوجها". (¬4) في (ن) و (ك) و (ق): "فنكاحه"، وفي مطبوع "المحلى": "فهو عقد". (¬5) في مطبوع "المحلى": "يشترط". (¬6) "المحلى" (10/ 182)، وما بين المعقوفتين منه وسقط من سائر الأصول. (¬7) في المطبوع: "وعن". (¬8) في مطبوع "المحلى" و (ك): "عن أبي يوسف"، وفي (ق): "عن محمد عن أبي يوسف". (¬9) في جميع النسخ: "وهي تحليلها"، ولا وجود لـ "وهي" في "المحلى". (¬10) في النسخ الخطية: "عن زفر عن أبي حنيفة"، وما أثبتناه من المطبوع، و"المحلى". (¬11) في (ق): "شرط". (¬12) في جميع النسخ "تزوجها"، وما أثبتناه من "المحلى". (¬13) في مطبوع "المحلى": "وله أن يمسكها، فإن طلقها حلت للأول"، وما بين المعقوفات من "المحلى".

قالوا: وقد قال اللَّه تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وهذا زوج، قد (¬1) عقد بمهر وولي ورضاها وخلوّها من الموانع الشرعية، وهو راغب في رَدِّها إلى الأول؛ فيدخل في حديث ابن عباس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا نكاح إلا نكاح رغبة" (¬2) وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم كما أمر اللَّه تعالى بقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما شرط في عَوْدها إلى الأول مجردَ ذَوْق العُسَيْلة بينهما، وغيَّى (¬3) الحلَّ بذلك فقال: "لا، حتى تذوق عُسَيْلته ويذوق عسيلتها" (¬4) فإذا تذاوقا العسيلة حَلَّتْ له بالنص (¬5). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وقد". (¬2) رواه الطبراني في "الكبير" (11567)، وابن حزم في "المحلى" (10/ 184) من طريق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس به مرفوعًا وزاد: "ولا مستهزئ بكتاب اللَّه لم يذق العُسَيْلة". وهذا إسناد ضعيف، إبراهيم بن إسماعيل ضعفه البخاري والنسائي وابن معين والدارقطني وغيرهم، وقوّاه أحمد، وداود بن الحصين، ثقة إلا في روايته عن عكرمة والحديث لم يذكره الهيثمي في "المجمع"! وقال ابن حزم عقبه: "فهذا حديث موضوع، لأن إسحاق بن محمد الفروي ضعيف جدًا، متروك الحديث، ثم عن إبراهيم بن إسماعيل، وهو بلا شك، إما ابن مجمع، وإما ابن حبيبة، وكلاهما أنصاري مدني، ضعيف لا يحتج بهما". وله شاهد من حديث ابن عمر: رواه الطبراني في "الأوسط" (6246)، والحاكم (2/ 199)، ومن طريقه البيهقي (7/ 208)، وقال فيه: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وعزاه الهيثمي في "المجمع" (4/ 267) للطبراني في "الأوسط"، وقال: ورجاله رجال الصحيح. وقال (و): "سبق نسبة هذا إلى عثمان، وابن عمر، وقلت: إنه يُروى موقوفًا ومرفوعًا" اهـ. (¬3) في (د)، و (ط) و (ق): "وغيًا"، وقال (د): "هكذا، والصواب أن ذوق العسيلة غاية لعدم الحل؛ فإذا حصل ذوق العسيلة؛ فقد حلت" اهـ. (¬4) رواه البخاري (2639) في (الشهادات): باب شهادة المختبئ و (5260 و 5261) في (الطلاق): باب من جوز طلاق الثلاث، و (5265) من قال لامرأته: أنت علي حرام، و (5317) باب إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة زوجًا غيره، فلم يمسّها، و (5792) في (اللباس): باب الإزار المهذب، و (5825) باب الثياب الخضر، و (6084) في (الأدب): باب التبسم والضحك، ومسلم (1433) في النكاح، باب لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، من حديث عائشة. (¬5) في (ق): "بالنص له".

[لم يلعن كل محلل]

قالوا: وأما نكاح الدُّلْسَة فنعم هو باطل، ولكن ما هو نكاح الدُّلْسَة (¬1)؟ فلعله أراد به أن تدلَّسَ له المرأة بغيرها، أو تدلِّسَ له أنها انقضت (¬2) عدتها ولم تنقض لتستعجل عَوْدَهَا إلى الأول. [لم يلعن كل مُحلِّل] وأما لعنة للمحلِّل فلا ريب أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُرِد كل محلل ومحلل له؛ فإن الولي مُحلّل لما كان حرامًا قبل العقد، والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار، والبائع لأَمَتَه محلل للمشتري وَطْأها، فإن قلنا: "العام إذا خُصَّ صار مجملًا" بطل الاحتجاج بالحديث، وإن قلنا: "هو حجة فيما عدا محل التخصيص" فذلك مشروط ببيان المراد منه (¬3)، ولسنا ندري المحلِّل المراد من هذا النص، أهو الذي نَوَى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه في صُلْب العقد؟ أو الذي أحلَّ ما حرمه اللَّه ورسوله؟ ووجدنا كُلَّ من تزوج مطلقة ثلاثًا فإنه محلل، ولو لم يشترط التحليل ولم ينوه؛ فإن الحل حصل بوطئه وعقده (¬4)، ومعلوم قطعًا أنه لم يدخل في النص، فعُلِمَ أن النص إنما أراد به مَنْ أحل الحرام بفعله أو عَقْده، ونحن وكلُّ مسلم لا نشك في أنه أهل للعنة اللَّه، وأما مَنْ قصد الإحسان إلى أخيه المسلم ورَغِب في جمع شمله بزوجته، ولمَّ شَعَثِهِ وشَعَثِ أولاده وعياله؛ فهو محسن، و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فضلًا عن أن تلحقهم لعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. [قواعد الفقه لا تحرم الحيل] ثم قواعد الفقه وأدلَّته لا تحرم مثل ذلك (¬5)؛ فإن هذه العقود التي لم يشترط ¬

_ (¬1) "الدلسة -بالضم- أصلها: الظلمة، ويراد الخديعة والخيانة والمكر" (د)، ونحوه باختصار في (ط). (¬2) في (ك): "نقضت". (¬3) الذي نراه -واللَّه أعلم- أن العام إذا خصَّ بمبين سواء كان متصلًا أم منفصلًا؛ أنه يكون حجة في باقي أفراده، وهذا مذهب الجمهور من المحققين، واختاره الآمدي في "الأحكام في أصول الأحكام" (2/ 407)، والشوكاني في "الإرشاد" (ص 137 - 138)، وانظر بسط المسألة هناك، وفي "البحر المحيط " (3/ 266 - 271) للزركشي، و"الموافقات" للشاطبي (4/ 26) مع تعليقي عليه. (¬4) في (ق) و (ك): "بعقده ووطئه". (¬5) في (ق): "ثم أدلة الفقه وقواعده لا تحرمه".

[الفرق بين القصد والإكراه والشرط المقارن]

المُحرَّم في صُلْبها عقود صدرت من أهلها في محلِّها مقرونة بشروطها (¬1)، فيجبُ الحكم بصحتها؛ لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما تامَّان، وأهلية العاقد لا نِزاعَ فيها، ومحليَّةُ العقد قابلة، فلم يبق إِلا القصد المقرون بالعقد، ولا تأثير له في بطلان الأسباب الظاهرة، لوجوه: أحدها: أن المعتان (¬2) مثلًا إنما قصد الربح الذي وُضِعت له التجارة، "وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬3) فإذا حصل له الربح حصل له مقصوده، وقد سلك الطريق المُفْضِية إليه في ظاهر الشرع، والمحلِّلُ غايتُه أنه قصد الطلاق ونواه إذا وطئ المرأة، وهو مما ملَّكه الشارع إياه، فهو كما [لو] (¬4) نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه إذا اشتراه، وسرُّ ذلك أن السببَ مقتضٍ لتأبُّد الملك، والنية لا تُغيّر موجب السبب حتى يقال: إن النية توجبُ تأقيت العقد، وليست (¬5) هي منافيةً لموجب العقد، فإن له أن يطلِّق. ولو نوى بعقد الشراء إتلاف المبيع وإحراقه أو إغراقه لم يقدح في صحة البيع، فنيّةُ الطلاق أولى، وأيضًا فالقصدُ لا يقدح في اقتضاءِ السبب لحكْمِه؛ لأنه خارج عما يتم به العقد، ولهذا لو اشترى عصيرًا ومن نيّته أن يتخِذَه خمرًا أو جاريةً ومن نيته أن يكرهها على البِغَاء أو يجعلها مغنية أو سلاحًا ومن نيته أن يقتل به معصومًا؛ فكلُّ ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة أنه منقطع عن السبب؛ فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه. [الفرق بين القصد والإكراه والشرط المقارن] وقد ظهر بهذا الفرقُ بين هذا القصد وبين الإكراه؛ فإن الرضا شرطٌ في صحة العقد، والإكراه ينافي الرضا، وظهر أيضًا الفرقُ بينه وبين الشرط المقارِن؛ فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد؛ فغاية الأمر أن العاقد قصد محرَّمًا، لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك، كما لو تزوجها ليضارّ بها امرأة له أخرى، ومما يؤيد ما ذكرناه أن النية إنما تعملُ في اللفظ المُحتملِ للمنويِّ وغيره، مثل الكنايات، ومثل أن يقول: اشتريتُ كذا؛ فإنه يحتمل أن يشتريه لنفسه ولموكِّله، فإذا نوى أحدهما صح، فإذا كان السبب ظاهرًا متعينًا لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه. ¬

_ (¬1) في (ق): "بشرطها". (¬2) كذا في (ق) وفي سائر الأصول: "المحتال". (¬3) مضى تخريجه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "وليس".

[عن النية]

[عن النية] يوضّحه أن النية لا تؤثِّر في اقتضاء الأسباب الحسّيّة والعقلية المستلزمة لمسبِّباتها ولا تؤثر النية في تغييرها، يوضحه أن النية إمّا أن تكون (¬1) بمنزلة الشرط أو لا تكون، فإن كانت منزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يَبيعَ ما اشتراه ولا يَهبَه ولا يتصرف فيه، أو نوى أن يخرجه عن ملكه، أو نوى أن لا يطلِّق (¬2) الزوجة أو يبيت عندها [كل ليلة] (¬3) أو لا يسافر عنها، بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد، وهو خلاف الإجماع، وإن لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذ. [لنا الظواهر وللَّه السرائر] وأيضًا فنحن لنا ظواهر الأمور، وإلى اللَّه سرائرها وبواطنها؛ ولهذا يقول الرسُلُ لربهم تعالى [يوم القيامة] (¬4) إذا سألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيقولون: {لَا عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أنت عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] كان لنا ظواهرهم، وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به. [زعمهم أنه ظهر عذرهم في الأخذ بالحيل] قالوا: فقد ظَهَر عذرُنا، وقامت حجتنا، فتبين أنا لم نخرج فيما أصَّلْناه -من اعتبار الظّاهر (¬5)، وعدم الالتفات إلى القُصُود في العقود، وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقدُ، والتحيُّل على التخلّص من مضايق الأيْمان وما حرَّمه اللَّه ورسوله من الربا وغيره- عن كتاب رَبَّنَا وسنة نبيّنا وأقوال السلف الطيب. [ادعاء أن في مذاهب الأئمة فروعًا ينبنى عليها تجويز الحيل] ولنا بهذه الأصول رهنٌ عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا. [الحيل عند الشافعية] [فلنا] (¬6) عند الشافعية رُهُون كثيرة في عدة مواضع، وقد سلَّموا لنا أن ¬

_ (¬1) في (ن): "إنما تكون". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ط)، و (و)، و (ق). (¬4) في (ق) و (ك): "تطلق". (¬5) في (ك): "المظاهر". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[الحيل عند المالكية]

الشرط المتقدم على العقد مُلْغَى، وسلموا لنا أن القصود غير معتبرة في العقود، وسلموا لنا جواز التحيّل على إسقاط الشُّفعة، وقالوا: يجوز (¬1) التحيل على بيع المعدوم من الثمار فضلًا عما لم يَبْدُ صلاحه بأن يؤجِّره الأرض ويُسَاقيه على الثمر من كل ألف جُزْء على جزء، وهذا نفسُ الحِيلة على بيع الثمار قبل وجودها، فكيف تنكرون علينا التحيل على بيعها قبل بدوّ صلاحها؟ وهل مسألة العِينَة إِلا مَلِك باب الحيل؟ وهم يبطلون الشرك (¬2) بالعروض ثم يقولون: الحيلَة في جوازها أن يبيعَ كلُّ منهما نصف عَرَضِه لصاحبه، فيصيران شريكين حينئذ بالفعل، ويقولون: لا يصح تعليق الوكالة بالشرط، والحيلة على جوازها أن يوكله الآن ويعلق تصرفه بالشرط، وقولهم في الحيل على عدم الحنث بالمسألة السُّرَيجية (¬3) معروف. وكل حيلة سواه (¬4) محلل بالنسبة إليه؛ فإن هذه المسألة حيلة على أن يحلف دائمًا بالطلاق ويحنث ولا يقع عليه الطلاق أبدًا. [الحيل عند المالكية] وأما المالكية فهم من أشد الناس إنكارًا علينا للحيل، وأصولهم تخالف أصولنا في ذلك؛ إذ عندهم أن الشرط المتقدِّم كالمقارِن، والشرط العُرْفي كاللفظي، والقُصُود في العقود معتبرة، والذرائع يجب سدها، والتغرير الفعلي كالتغرير القولي، وهذه الأصول تسد باب الحيل سدًا محكمًا. ولكن قد عِلِقْنا لهم برهون نطالبهم بفكاكها أو بموافقتهم لنا على ما أنكروه علينا، فجوَّزوا التحيل على إسقاط الشُّفعة، وقالواة لو تزوَّجها ومن نيته أن يقيم معها سنةً صح ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "بجواز". (¬2) في (ك) و (ق): "الشركة". (¬3) المسألةُ السُّريْجيَّة: هي ما إذا قال الرجل لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي؛ فأنت طالق قبله ثلاثًا، وهي نسبة إلى ابن سريج، القاضي الشافعي. وهذه المسألة قد اختلف فيها الشافعية، وصحح الشيرازي في "المهذب" (2/ 100) قول أبي العباس بن سريج فيها أنه لا يقع الطلاق عليها، وعللوا ذلك بأنه متى طلقها وقع الطلاق قبله ثلاثًا ومتى وقع ثلاثًا كان الطلاق الصادر منه لم يصادف محلًا. ولا شك أن هذا خطأ جلي وقد نقل الرملي الشافعي في "نهاية المحتاج" (7/ 30) رجوع ابن سريج عن هذه المسألة، وسيرد ابن القيم على هذه المسألةُ كما سيأتي -إن شاء اللَّه- ردًا شافيًا. (¬4) في (و): "سواء".

[الحيل عند الحنابلة]

النكاح، ولم تعمل هذه النية في فساده (¬1). [الحيل عند الحنابلة] وأما الحنابلة فبيننا وبينهم مُعْتَرك النزال في هذه المسائل؛ فإنهم هم الذين شنَّوا علينا الغارات، ورَمَوْنا بكل سلاح من الأثر والنظر، ولم يُراعوا (¬2) لنا حُرمة، ولم يرقبوا فينا إِلا ولا ذمَّة. وقالوا: لو نَصَب شِباكًا للصيد قبل الإحرام ثم أخذ ما وقع فيها حال الإحرام بعد الحِلِّ جَاز. وياللَّه العجب! أي فرق بين هذه الحيلة وحيلة أصحاب السَّبتِ على الحيتان؟ وقالوا: لو نوى الزوج الثاني أن يحلّها للأول ولم يشترط ذلك جاز وحلَّت له؛ لأنه لم يشترط ذلك في العقد، وهذا تصريح بأن النية لا تؤثر في العقد. وقالوا: لو تزوجها ومن نيته أن يقيم معها شهرًا ثم يطلقها صح العقد، ولم تكن نيّة التوقيت مؤثِّرة فيه، وكلامهم في باب المخارج من الأَيْمان بأنواع الحيل معروف، وعنَّا تلقوه، ومنا أخذوه (¬3). وقالوا: لو حلف أن لا يشتري [منه] ثوبًا فاتهبه (¬4) منه وشرط له العوض لا يحنث. وقالوا بجواز مسألة التورّق (¬5) وهي شقيقة مسألة العِينة؛ فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره؟ بل قد يكون عَوْدُها إلى البائع أرْفَقَ بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع لخسارته وتعنيه (¬6). فكيف تحرِّمون الضرر اليسير وتبيحون ما هو أعظم منه والحقيقة في الموضوعين (¬7) واحدة وهي عشرة بخمسة عشر وبينهما حَرِيرة رجعت في إحدى الصورتين إلى مالكها وفي الثانية إلى غيره؟ وقالوا: لو حلف بالطلاق لا يزوج عبده بأَمَته أبدًا ثم أراد تزويجه بها ولا يحنث فإنه يبيع العبد والجارية من رجل ثم يزوجها المشتري ثم يستردّهما منه، قال القاضي: وهذا غيرُ مُمتنعٍ على أصلنا؛ لأن عقد النكاح قد وجد في حال ¬

_ (¬1) انظر: "الإشراف" (3/ 344 مسألة 1180) وتعليقى عليه. (¬2) في (ق): "يرعوا". (¬3) انظر: مسألة الزواج بنية الطلاق في: "المحرر" (2/ 23) و"التنقيح المشبع" (220) و"الإنصاف" (8/ 161)، و"منتهى الإرادات" (2/ 181) و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (32/ 149) و"بيان الدليل" (46 - 47) و"الاختيارات الفقهية" (ص 220 - ط الفقي). (¬4) في جميع النسخ: "فانتهبه" والمثبت من (د)، و (ق) وما بين المعقوفتين سقط منها. (¬5) مضى معناها. (¬6) في "نسخة: وأوفه لخسارته وتعيينه" (د). قلت: والنسخة المشار إليها هي (ن). (¬7) في (ك) و (ق): "الموضعين".

زوال ملكه عنهما، ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد أن ملكهما؛ لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقي حكمه فلم يحنث باستدامة حكمه. وقالوا: لو كان له عليه مال وهو محتاج فأحب أن يَدَعَه له من زكاته فالحيلة أن يتصدَّق عليه بذلك القدر ثم يقبضه منه، ثم قالوا: فإن كان له شريكٌ فيه فخاف أن يخاصمه فيه فالحيلة أن يهب المطلوب للطالب مالًا بقدر حصة الطالب مما له عليه (¬1) ويقبضه منه للطالب ثم يتصدَّق الطالب على المطلوب بما وهبه له ويحتسب بذلك من زكاته ثم يهب المطلوب ما له عليه من الدَّين ولا يضمن الطالب لشريكه شيئًا؛ لأن هبةَ الدين لمن في ذمته براءة، وإذا أبرأ أحدُ الشريكين الغريم من نصيبه لم يضمن لشريكه شيئًا، وإنَّما يضمن إذا حصل الدَّين في ضمانه. وقالوا (¬2): لو أجَّره الأرض بأُجرة معلومة وشَرَط عليه أن يؤدّي خَرَاجها لم يجز؛ لأن الخراج على المالك لا على المستأجر، والحيلة في جوازه أن يؤجِّره إياها بمبلغ يكون زيادته بقدر الخراج ثم يأذن له أن يدفعَ في خراجها ذلك القدر الزائد على أجرتها. قالوا: لأنه متى زاد مقدار الخراج على الأجرة حصل ذلك دَيْنًا على المستأجر، وقد أمره أن يدفعه إلى مستحق الخراج وهو جائز. وقالوا (¬3): ونظير هذا أن يؤجره دابة ويشترط عَلَفها على المستأجر لم يجز، والحيلة في جوازه هكذا سواء، يزيد في الأجرة ويوكّله أن يعلف الدابة بذلك القدر الزائد. وقالوا: لا يصح استئجار الشجرة المثمرة (¬4)، والحيلة في ذلك أن يؤجِّره الأرض ويُسَاقيه على الثمرة من كل ألف جزء جزء مثلًا. وقالوا: لو وكله أن يشتري له جارية معيَّنة بثمن معين دفعه إليه، فلما رآها أراد شراءها لنفسه، وخاف أن يحلفه أنه إنما اشتراها بمال الموكِّل له، وهو وكيله، فالوجه أن يعزل نفسه عن الوكالة، ثم يشتريها بثمن في ذمته، ثم ينقد ما معه من الثمن، ويصير لموكله في ذمته نظيره. قالوا: وأما نحن فلا تأتي (¬5) هذه الحيلة على أصولنا؛ لأن الوكيل لا يملك عَزل نفسه إِلا بحضرة موكله. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "مما عليه له". (¬2) "أي الحنابلة" (و). (¬3) في (ك) و (ق): "قالوا". (¬4) في (ك): [الشجر للثمرة]. (¬5) في (ق): "تتأتى".

قالوا: وقد قالت (¬1) الحنابلة أيضًا: لو أراد إجارة أرض له فيها زرع [لم يجز، والحيلة] (¬2) في جوازه أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض، فإن أراد بعد ذلك أن يشتري منه الزرع جاز. وقالوا: لو شَرَط رب المال على المضارب ضمان مال المضاربة لم يصح، والحيلة في صحته أن يقرضه المال في ذمته ثم يقبضه المضارب منه، فإذا قبضه دفعه إلى مالكه الأول مضاربة ثم يدفعه رب المال إلى المضاربِ بضَاعةً فإن توى (¬3) فهو من ضمان المضارب؛ لأنه قد صار مضمونًا عليه بالقَرْض فتسليمه إلى رب المال مضاربة كتسليم مال له آخر. وحيلة أخرى، وهي أن يُقْرِضَ ربُّ المال المضاربَ ما يريد دفعه إليه، ثم يخرج من عنده درهمًا واحدًا، فيشاركه على أن يعملا بالمالين جميعًا على أن ما رزقه اللَّه فهو بينهما نصفين، فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الرِّبح بينهما على ما شرطاه، وإن خسر كان الخسران على قدر المالين، على رب المال بقدر الدرهم وعلى المضارب بقدر رأس المال، وإنما جاز ذلك لأن المضارب هو الملزِمُ نفسَه الضمان بدخوله في القرض. وقالوا: لا تجوز المضاربة على العرض، فإن كان عنده عرض فأراد أن يضارب عليه فالحيلة في جوازه أن يبيعه العرض ويقبض ثمنه فيدفعه إليه مضاربة ثم يشتري المضارب ذلك المتاع بالمال. وقالوا (¬4): لو حلفته امرأته أن كل جارية يشتريها فهي حرة، فالحيلة في جواز الشراء ولا تُعتق أن يعني بالجارية السفينة ولا تعتق، وإن لم تحضره هذه النية وقت اليمين فالحيلة أن يشتريها صاحبه ويهبه إياها ثم يهبه نظير الثمن. وقالوا: لو حلَّفته أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق، وخاف من هذه اليمين عند من يصحح هذا التعليق فالحيلة أن ينوي كل امرأة أتزوجها على طلاقك: أي يكون طلاقُكِ صداقَهَا، أو كل امرأة أتزوجها على رقبتك: أن تكون ¬

_ (¬1) في (ك): "قال". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فالحيلة". (¬3) "توى -بالتاء المثناة-؛ أي هلك، وفي عامة الأصول عدا (ق): "نوى" -بالنون- ونعتقد أنه تصحيف ما أثبتناه" (د) وقال (و): "هلك، وأصلها نوى، ولكن تقدم ذكرها في الكتاب توى". (¬4) في (ك) و (ق): "قالوا".

رقبتُك صداقها فهي طالق، فلا يحنث بالتزويج على غير هذه الصفة. وقالوا: لو أراد أن يصرف دنانير بدراهم ولم يكن عند الصيرفي مبلغ الدراهم وأراد أن يصير عليه بالباقي لم يجز، والحيلة فيه أن يأخذ ما عنده من الدراهم بقدر صَرْفه ثم يقْرِضه إياها فيصرف بها الباقي، فإن لم يوف (¬1) فعل ذلك مرارًا حتى يستوفي صرفه، ويصير ما أقرضه دينًا عليه، لا أنه عوض الصرف. وقالوا: لو أراد أن يبيعه دراهم بدنانير إلى أجل لم يجز، والحيلة في ذلك أن يشتري منه متاعًا وينقده ثمنه ويقبض المتاع، ثم يشتري البائع منه ذلك المتاع بدنانير إلى أجل، والتأجيل جائز في ثمن المتاع. وقالوا: لو مات رب المال بعد أن قبض المضارب المال انتقل إلى ورثته، فلو اشترى المضارب به بعد ذلك متاعًا ضمن؛ لأنه تصرف بعد بطلان الشركة، والحيلة في تخلص المضارب من ذلك أن يشهد رب المال أن حِصَّته من المال الذي دفعه إليه مضاربة لولده، وأنه مقارض إلى هذا الشريك بجميع ما تركه، وأمره أن يشتري لولده ما أحب في حياته، وبعد وفاته، فيجوز ذلك؛ لأن المانع منه كونه متصرفًا في ملك الغير بغير وكالة ولا ولاية، فإذا أذن له في التصرف بريء من الضمان، وإن (¬2) كانت هذه الحيلة إنما تتم إذا كان الورثة أولادًا صغارًا. وقالوا: لو صالح عن المؤجل ببعضه حالًا لم يصح، والحيلة في تصحيحه أن يفسخا العقد الذي وقع على المؤجل ويجعلاه بذلك القدر الحال. وقالوا: لو لبس المتوضئ أحد الخفين قبل غسل [الرجل] (¬3) الأخرى ثم غسل الأخرى ولبس عليها لم يجز المسح؛ لأنه لم يلبس على كمال الطهارة، والحيلة في جواز المسح أن يخلع هذه الفردة الثانية ثم يلبسها (¬4). قالوا: ولو أوصى لرجل بخدمة عبدِه أو بما في بطن أمته جاز، فلو أراد الورثة شراء خدمة العبد أو ما في بطن الأمة من الموصى له لم يجز، والحيلة في جوازه أن يصالحوه عن (¬5) الموصى به على ما يبذلونه له فيجوز، وإن لم يجز البيع فإن الصلح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع. ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "فإن لم يعرف". (¬2) في (ك) و (ق): "فإن". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظم بسط المسألةُ وأدلتها في "الخلافيات" (3/ 235 - بتحقيقي). (¬5) في (ن) و (ك): "من".

قالوا: ولا (¬1) تجوز الشركة بالعروض، فإن كان لأحدهما عرض يساوي خمسة آلاف درهم وللآخر عرض يساوي ألفًا فأحَبَّا أن يشتركا في العرضين، فالحيلة أن يشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف [من الآخر خمسَةَ أسداس عرضه بسدس عرضه هو؛ فيصير للذي يساوي عرضه ألفًا سدس جميع المال، وللآخر خمسة أسداسه] (¬2)؛ لأن جميع ماليهما ستة آلاف، وقد حصل كل واحد من العرضين بهذه الشركة بينهما أسداسًا، خمسة أسداسه لأحدهما وسدسه للآخر، فإذا هلك أحدهما هلك على الشركة. قالوا: ولا تقبل شهادة الموكل لموكله فيما هو وكيل (¬3) فيه، فلو لم يكن [له] (¬4) شاهد غيره وخاف ضياع حقه فالحيلة أن يَعْزِلَه حتى يشهد له ثم يوكله بعد ذلك إن أراد. قالوا: ولو أعتق عبده في مرضه، وثلثه يحتمله، وخاف عليه من الورثة أن يجحدوا المال ويرثوا ثلثيه؛ فالحيلة أن يدفع إليه مالًا يشتري (¬5) نفسه منه بحضرة شهود، ويشهدون أنه قد أَقْبضه الماله، وصار العبد حرًا. قالوا: وكذلك الحيلة لو كان لأحد الورثة دَيْن على الموروث (¬6)، وليست له به بينة، فاراد بيعه (¬7) العبد بَدْينه الذي له عليه فعل مثل ذلك [سواء] (¬8). قالوا: ولو قال: "أوصيتُ إلى فلان، وإن (¬9) لم يقبل فإلى فلان" وخاف أن تبطل الوصية على مذهب مَنْ لا يرى جواز تعليق الوصية (¬10) بالشرط، [فالحيلة] (¬11) أن يقول: "فلانٌ وفلانٌ وصيّان، فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل هو الوصي" فيجوز على قول الجميع؛ لأنه لم يعلّق الولاية بالشرط. قالوا: ولو أراد ذمي أن يُسْلِم وعنده خمرٌ كثير، فخاف أن يذهب عليه ¬

_ (¬1) في (ق): "فلا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وبدله في (ق): "درهم أسداسه"!! (¬3) في المطبوع: "وكيله". (¬4) سقط من (ك). (¬5) في (ق): "يشري". (¬6) في (ق): "لأحد الورثة على الموروث بين". (¬7) في (ن) و (ق): "أن يبيعه". (¬8) سقط من (ق). (¬9) في (ق): "فان". (¬10) كذا في (ق)، وفي سائر الأصول: "الولاية". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

[جواب الذين أبطلوا الحيل]

بالإسلام؛ فالحيلة أن يبادر ببيعها من ذمي آخر ثم يسلم، فإنه يملك تقاضيه بعد الإسلام، فإن بادر الآخر وأسلم لم يسقط عنه ذلك، وقد نصّ عليه الإمام أحمد (¬1) في مجوسي باع مجوسيًا خمرًا ثم أسلما يأخذ الثمن، قد وجب له يوم باعه. قال أرباب الحيل: فهذا رهن الفرق عندنا بأنهم قالوا بالحيل وأفتوا بها، فماذا ينكرون علينا بعد ذلك ويشنّعون (¬2)؟ ومثالنا ومثالهم في ذلك كقوم وَجَدُوا كنزًا فأصاب كل منهم طائفة منه في يديه، فمستقل ومستكثر، ثم أقبل بعضُ الآخذين ينقم (¬3) على بقيتهم، وما أخذه من الكنز في يديه (¬4)، فليَرْم بما أخذ منه ثم ليُنكر على الباقين. [جواب الذين أبطلوا الحيل] قال المبطلون للحيل: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إلهَ إِلَّا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حولَ ولا قوة إِلَّا باللَّه [العلي العظيم] (¬5)، فسبحان [اللَّه] (5) الذي فرَضَ الفرائض [وحرَّم المحارم] (5) وأوجب الحقوق رعاية لمصالح العباد في المعاش والمعاد، وجعل شريعته الكاملة قيامًا للناس وغذاءً لحفظ حياتهم، ودواءً لدفعِ أدوائهم، وظله الظليل الذي من استظلَّ به أَمِنَ من الحَرَور، وحِصْنه الحصين الذي من دخله نجا من الشُّرور، فتعالى شارعُ هذه الشريعة الفائقة لكل شريعة أن يشرع (¬6) فيها الحيل التي تُسْقِطُ فرائضه، وتحل محارمه، وتبطل حقوق عباده، ويفتح للناس أبواب الاحتيال وأنواع المكر والخداع، وأن يحيى التوصل بالأسباب المشروعة، إلى الأمور المحرمة الممنوعة، وأن يجعلها مُضْغة (¬7) لأفواه المحتالين، عرضه لأغراض المخادعين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويُظهرون خلاف ما يبطنون، ويرتكبون العَبَثَ الذي لا فائدة فيه سوى ضحكة الضاحكين ¬

_ (¬1) في "مسائل الكوسج" (332/ 207): "قلت: قال الثوري في نصراني أسلف نصرانيًا في الخمر ثم أسلم أحدهما، قال: له رأس ماله. قال أحمد: له رأس ماله. قال إسحاق: "إذا كان الثمن دراهم أو شيئًا يحل"، وانظر: "أحكام أهل الملل" للخلال (110 - 111)، و"مصنف عبد الرزاق" (8/ 196). (¬2) في (ن) و (د): "تنكرون. . . وتشنعون؟ ". (¬3) في (ن): "ينمم". (¬4) في (ك): "يداه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ن) و (ق): "يحل". (¬7) في (ق): "مصبغة".

[كمال الشريعة الإلهية وعظمتها وأثرها]

وسخرية الساخرين، فيخادعون اللَّه كما يخادعون الصبيان، ويتلاعبون بحدودِه كتلاعب المُجَّان، فيحرمون الشيء ثم يستحلّونه [إياه] (¬1) بعينه بأدنى الحيل، ويسلكون إليه نفسه طريقًا توهم أن المراد غيره [وقد علموا أنه هو المراد لا غيره] (¬2)، ويسقطون الحقوق التي وصَّى اللَّه بحفظها وأدائها بأدنى شيء، ويفرقون بين متماثلين [من كل] (¬3) وجه لاختلافهما في الصورة أو الاسم أو الطريق الموصل إليهما، ويستحلون بالحيل ما هو أعظم فسادًا مما يحرمونه ويسقطون بها ما هو أعظم وجوبًا مما يوجبونه. [كمال الشريعة الإلهية وعظمتها وأثرها] والحمد للَّه الذي نزَّه شريعته عن هذا التناقض والفساد، وجعلها كفيّة (¬4) وافية (¬5) بمصالح خلقه في المعاش والمَعَاد، وجعلها من أعظم آياته الدالة عليه، ونَصَبها طريقًا مرشدًا لمن سلكه إليه؛ فهو نورُه المبين، وحِصْنُه الحصين، وظله الظليل، وميزانه الذي لا يَعُولُ، لقد تعرَّف بها إلى ألِبَّاء عباده غاية التعرف (¬6)، وتحبب بها إليهم غاية التحبب، فأنِسُوا [بها] (¬7) منه حكمته البالغة، وتمت بها عليهم منه نعمُه السابغة، ولا إله إلّا اللَّه الذي في شرعه أعظم آية تدل على تفرده بالإلهية وتوحده بالربوبية، وأنه الموصوف بصفات الكمال، المستحق لنعوت الجلال، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى وله المَثَلُ الأعلى، فلا يدخل السوء في أسمائه ولا النقص والعيب في صفاته، ولا العبث ولا الجور في أفعاله، بل هو منزَّه في ذاته وأوصافه وأفعاله وأسمائه عما يضاد كماله بوجه من الوجوه، وتبارك اسمه، وتعالى جَدُّه، وبهرت حكمته، وتمت نعمتُه، وقامت على عباده حجتُه، واللَّه أكبر كبيرًا أن يكون في شرعه تناقض واختلاف، فلو {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] بل هي شريعة مؤتلفة النظام، متعادلة الأقسام، مبّرأة من كل نقص، ومطهَّرة من كل دَنَس، {مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71]، مؤسسة على العدل والحكمة، والمصلحة والرحمة، قواعِدُها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بكل". (¬4) كذا في (ك) و (ق) و (ن) وفي سائر النسخ: "كفيلة". (¬5) في (ق) و (ك): "وفيّه". (¬6) في (ق) و (ك): "التعريف". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

ومبانيها، إذا حَرَّمت فسادًا حرمت ما هو أولى منه أو نظيره، وإذا رَعَت صلاحًا رَعَتْ ما هو فوقه أو شبهه؛ فهي (¬1) صراطه المستقيم الذي لا أمْتَ فيه ولا عِوَج، ومِلّته الحنيفية السَّمْحَة التي لا ضيق فيها ولا حرج، بل هي حنيفية التوحيد سمحة العمل، لم تأمر بشيء فيقول العقل: لو نهت عنه لكان أوفق، ولم تَنْهَ عن شيء فيقول الحِجَى: لو أباحته لكان أرفق، بل أمرت بكل صلاح، ونهت عن كل فساد، وأباحت كل طيب، وحرمت كل خبيث، فأوامرها غذاءٌ ودواء، ونواهيها حِمْيَة وصيانة، وظاهرُها زينةٌ لباطنها، وباطنُها أجملُ من ظاهرها، شعارُهَا الصدق، وقوامها الحق، وميزانها العدل، وحكمها الفَصْل، لا حاجة بها البتة إلى أن تكمل بسياسة ملك أو رَأي ذي رأي أو قياس فقيه أو ذوق ذي رياضة أو منام ذي دين وصلاح، بل بهؤلاء (¬2) كلهم أعظم الحاجة إليها، ومَنْ وفق منهم للصواب فلاعتماده وتعويله عليها، لقد أكملَهَا الذي أتم نعمته علينا بشرعها قبل سياسات الملوك، وحيل المتحيلين، وأقيسه القياسيين، وطرائق الخلافيين، وأين كانت هذه الحيل والأقْيسَة والقواعد المتناقضة والطرائق القِدَدُ وقتَ نزول قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وأين كانت يوم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد تركتكم على المَحَجَّةِ البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها [بعدي] إِلَّا هالك" (¬3) ويوم ¬

_ (¬1) في (ق): "شبيهه، فهو". (¬2) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "لهؤلاء". (¬3) رواه أحمد (4/ 126)، وابن ماجة (43) في (المقدمة): باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وابن أبي عاصم في "السنة" (48)، والطبراني في "المعجم الكبير" (18) (619 و 620)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 96)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 176)، والبيهقي في "المدخل" (51)، وابن عبد البر في "الجامع" (2303 و 2304) كلهم من طريق عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية به، وفيه عندهم الزيادة المعروفة: "من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا. . . ". ورجاله ثقات، وعبد الرحمن بن عمرو هذا روى عنه جمع من الثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وصحح له الترمذي وابن حبان والحاكم. وتابعه على هذه الفقرة أيضًا جبير بن نفير: رواه ابن أبي عاصم (49)، والطبراني في "الكبير" (18/ 642)، ورجاله ثقات إِلا شَعْوَذ الأزدي ذكره ابن أبي حاتم (4/ 390) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 451). وله شاهد من حديث أبي الدرداء: رواه ابن ماجة (5)، وابن أبي عاصم (47). قال شيخنا الألباني: رجاله ثقات على ضعف في إبراهيم بن سليمان الأفطس، وهشام بن عمار. =

قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما تركت من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن (¬1) النار إِلا أعلمتكموه" (¬2)؟ وأين كانت عند قول أبي ذر: لقد توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وما طائر يقلِّبُ جناحيه في السَّماء إِلا ذكَرَ لَنَا منه علمًا (¬3)، وعند قول القائل لسَلْمَان: لقد ¬

_ = أقول: وقد ذكره البوصيري في "زوائده" ولم يتكلم عليه!! وما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬1) في (ك) و (ق): "من"، و"علمتكموه" بدل "أعلمتكموه". (¬2) أخرجه الشافعي في "المسند" (7 - بدائع المنن)، وابن خزيمة في "حديث علي بن حجر" (3/ رقم 100) -كما في "السلسلة الصحيحة" رقم (1803) -، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 92 - 93)، وعلقه ابن عبد البر في "الجامع" (2345) عن المطلب بن حنطب مرفوعًا بلفظ: ما تركت شيئًا مما أمركم اللَّه به إِلا وقد أمرتكم به، وما تركت شيئًا مما نهاكم عنه إِلا نهيتكم عنه"، وهو مرسل حسن. وله شاهد، أخرجه أحمد في "المسند" (5/ 153، 162)، والطبراني في "الكبير" (1647)، والبزار في "المسند" رقم (147 - زوائده) من حديث أبي ذر -رضي اللَّه عنه- مرفوعًا: "ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إِلا وقد بيَّن لكم". وإسناد أحمد صحيح، وهو جزء من الحديث الآتي فانظره. وقال (د) و (ط): "في نسخة: إِلا أخبرتكم به"، زاد (ط): "انظر: "إعلام الموقعين" ط فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 169". قلت: النسخة المشار إليها هي (ن). (¬3) رواه البزار (147)، والطبراني في "الكبير" (1647) من طريق سفيان بن عيينة عن فطر عن أبي الطفيل عن أبي ذر به، وعند الطبراني زيادة مرفوعة. وتابع ابن عيينة كذلك سفيان الثوري، رواه الدارقطني في "علله" (6/ 290)، وقال: ليس بصحيح عنه. قال البزار: "رواه بعضهم عن فطر عن منذر قال أبو ذر. . .، ومنذر لم يدرك أبا ذر". أقول: وقد رجح الدارقطني في "علله" هذه الرواية المرسلة، ومما يؤيد كلام الدارقطني أن شعبة والثوري وابن نمير رووه عن الأعمش عن منذر الثوري عن أشياخ لهم عن أبي ذر. وأما رواية شعبة فهي في "مسند الطيالسي" (479)، وأحمد (5/ 162)، وأما رواية ابن نمير فهي في "مسند أحمد" (5/ 153 - 154)، ورواية الثوري تقدّمت. أما الهيثمي فقال (8/ 264): "ورواه الطبراني ورجال الطبراني رجال الصحيح، غير محمد بن عبد اللَّه بن يزيد المُقرئ وهو ثقة". وبلفظه شاهد من حديث أبي الدرداء، رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، كما في "المجمع" (8/ 264). وقال (د) و (ط): "في نسخة: إِلا أذكرنا منه علمًا"، وزاد (ط): انظر "أعلام الموقعين" (ط المطبعة المنيرية ج 3 ص 181). قلت: النسخة المشار إليها هي (ن)، وفي (ق): "ذكرنا".

علَّمكم نبيكم كلَّ شيء حتى الخِرَاءَة، فقال: أجل (¬1)؟ فأين علَّمهم الحيل والمخادعة والمكر وأرشدهم إليه ودلهم عليه؟ كلا واللَّه! بل حَذَّرهم (¬2) أشد التحذير، وأوعدهم عليه أشد الوعيد، وجعله منافيًا للإيمان، وأخبر عن لعنة اليهود لما ارتكبوه، وقال لأمَّته: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم اللَّه تعالى بأدنى الحيل" (¬3)، وأغلق أبواب المكر والاحتيال، وسَدّ الذرائع، وفصل الحلال من الحرام، وبَيَّنَ الحدودَ، وقسم شريعته إلى حلال بَيِّن وحرام بَيِّن وبَرْزَخ بينهما، فأباح الأول، وحرم الثاني، وحض الأمة على اتقاء الثالث خشية الوقوع في الحرام (¬4)، وقد أخبر اللَّه تعالى عن عقوبة المحتالين على حِلِّ ما حرَّمه عليهم وإسقاط ما فرضه (¬5) عليهم في غير موضع من كتابه. قال أبو بكر الآجري (¬6)، وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها [بعض] (¬7) الناس: لقد مسخ اليهود قِرَدَة بدون هذا. وصدق واللَّه لآكِلُ حوتٍ صِيدَ يوم السبت أهونُ عند اللَّه وأقل جرمًا من آكل الربا الذي حرمه اللَّه بالحيل والمخادعة! ولكن كما قال الحسن: عُجِّل لأولئك عقوبة تلك الأكْلَة الوخيمة وأرجِئَت عقوبة هؤلاء (¬8). وقال الإمام أبو يعقوب الجُوْزجَاني: وهل أصاب الطائفة من بني إسرائيل المسخُ إِلا باحتيالهم على أمر اللَّه بأن حفروا الحفائر (¬9) على الحيتان في يوم سبتهم فمنعوها الانتشار يومها إلى الأحد فأخذوها؟ وكذلك السلسلة التي كانت ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الطهارة): باب الاستطابة (/ 223/ 262). (¬2) في (ق): "حذرهموه". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) يشير إلى حديث النعمان بن بشير: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات. . . ". "أخرجه البخاري (52) في (الإيمان): باب فضل من استبرأ لدينه، و (2051) في (البيوع): باب الحلال بيِّن والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات، ومسلم (1599) في (المساقاة): باب أخذ الحلال وترك الشبهات. (¬5) في (ق): "فرض". (¬6) لعل هذا النقل من كتاب "الشبهات" للآجري ذكره له ابن خير في "فهرسته" (6/ 97) وهو في عداد المفقود، ثم رأيتُ هذا النقل عن الآجري في "بيان الدليل" (ص 71 - 72) لشيخ المصنف ابن تيمية. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬8) رواه ابن جرير (13/ 196 - 197، 197 - 198 رقم 15284، 15285)، وابن أبي حاتم (5/ 1599 رقم 8450) كلاهما في "التفسير"، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو الشيخ، كما في "الدر المنثور" (3/ 591). (¬9) في (ن) و (ق): "حظروا الحضائر".

تأخذ بعنق الظالم فاحتال لها صاحب الدُّرَّة إذ صيَّرها [في قصبة] (¬1) ثم دفع القصبة إلى خصمه وتقدم إلى السلسلة ليأخذها فرُفِعت (¬2). وقال بعض الأئمة: في هذه القصة (¬3) مزجرة عظيمة للمتعاطين الحيل على المَنَاهي الشرعية ممن تَلَبَّسَ بعلم الفقه وليس بفقيه؛ إذ الفقيه مَنْ يخشى اللَّه عز وجل في الربويّات، واستعارة التيس الملعون لتحليل المطلَّقات، وغير ذلك من العظائم والمصايب الفاضحات، التي لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح، فكيف بمن يعلم السر وأخفى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (¬4)؟ وقال: وإذا وازَنَ اللبيبُ بين حيلة أصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الأبواب ظَهَر له التفاوت ومراتب المفسدة التي بَيْنها وبين هذه الحيل، فإذا عرف قدر الشرع وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح العباد تبيّنَ له حقيقة الحال، وقطع بأن اللَّه تعالى يتنزه ويتعالى أن يسوغ (¬5) لعباده نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال (¬6). ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "بالقصبة": والمثبت من (ق) و (ك). (¬2) نقل كلام الجوزجاني: ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 72). وذكر خبر السلسلة أُسامة بن منقذ في كتابه "العصا" (1/ 195 - 196، ضمن "نوادر المخطوطات") قال: "زرت المقدس في سنة اثنتين وثلاثين وخمس مئة، وكان معي من أهله من يعرِّفني المواضع التي يصلَّى فيها ويتبرك بها!! فدخل بي إلى بيت جانب قبَّة الصخرة فيه قناديلُ وستور، فقال لي: هذا بيت السلسلة. فاستخبرته عن السلسلة فقال لي: هذا بيتٌ كانت فيه على عهد بني إسرائيل سلسلة إذا كان بين اثنين من بني إسرائيل محاكمة ووجبت اليمينُ على أحدِهما دخلا هذا البيت، فوقفا تحت السلسلة، واستُحلِف المُدَّعَى عليه، ثم يمد يده فإن كان صادقًا أمسك السلسلة، وان كان كاذبًا طالت عن يده فلا يصل إليها. فأودَعَ رَجُلٌ من بني إسرائيل جوهرًا عند رجل، ثم طلبه منه فقال: أعطيتك إياه. فقال: تحاكمني إلى السلسلة، فمضى المستودع فأخذ عصًا فشقها وحفر فيها للجوهر وتركه فيها، ثم ألصقها عليه ودهنها، أخذها في يده ودخل مع خصمه بيت السلسلة فقال للخصم: أمسِك عني هذه العصا. فَمَسَكَها ثم حلف له أنه سلّم الجَوهرة إليه ومدَّ يده فأمسك السلسلة ثم عاد أخذ العصا وخَرَجا، فارتفعت السلسلة من ذلك اليوم. ولم أر هذا الحديث مسطورًا، وإنما أوردته كما سمعته". قلت رأيته مسندًا من خبر وهب عند ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (17/ 103) ومن كلا علي عند ابن العديم في "بغية الطلب" (7/ 3410). وهو في "البداية والنهاية" (2/ 21 - 22)، و"أداب القضاء" للسروجي (106 - 107)، و"شرح أداب القاضي" (1/ 373 - 375) للصدر الشهيد. (¬3) في (ق): "الآية". (¬4) قارن بـ "بيان الدليل" (ص 72). (¬5) كذا في (ن) و (ك) و (ق) وفي سائر النسخ: "يشرع". (¬6) قارن بـ "بيان الدليل" (ص 76 - 77).

فصل [الجواب على شبه الذين جوزوا الحيل تفصيلا]

فصل [الجواب على شبه الذين جوزوا الحيل تفصيلًا] قالوا: ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها، ونبيِّن ما فيه، مُتَحَرِّينَ للعدل والإنصاف، منزهين لشريعة اللَّه وكتابه وسنة رسوله عن المَكْر (¬1) والخِدَاع والاحتيال المحرَّم، ونبيِّن انقسام الحيل والطرقِ إلى ما هو كفر محض، وفسق ظاهر، ومكروه، وجائز، ومستحب، وواجب عقلًا أو شرعًا، ثم نذكر فصلًا نبيِّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة، فنقول وباللَّه التوفيق و [هو] (¬2) المستعان وعليه التكلان: [الكلام على قصة أيوب] أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فقال شيخنا رحمه اللَّه (¬3): الجواب أن هذا ليس مما نحن فيه؛ فإن للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين، يعني إذا حلف ليضربَنَّ عبده أو امرأته مئة ضربة: أحدهما: قول من يقول موجبها الضرب مجموعًا أو مُفَرَّقًا، ثم منهم من يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب؛ فعلى هذا تكون [هذه] (¬4) الفُتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق، وليس هذا (¬5) بحيلة، إنما الحيلة أن يُصْرَفَ اللفظُ عن موجبَه عند الإطلاق. والقول الثاني: إن موجبه الضرب المفرَّق (¬6)، وإذا كان هذا موجبه في شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا؛ لأنَّا إن قلنا: "ليس شرعًا لنا مطلقًا" فظاهر، وإن قلنا: "هو شرع لنا" فهو مشروطٌ بعدم مخالفته لشرعنا، وقد انتفى الشرط. وأيضًا؛ فمن تأمَّل الآية علم أن هذه الفُتْيَا خاصة الحكم؛ فإنها لو كانت ¬

_ (¬1) في (د) و (ط) و (و): "المنكر"! (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) هو شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- ونقل ابن القيم عنه إلى آخر هذا الفصل من "بيان الدليل" (ص: 384 - 390) بتصرف واختصار وزيادة، فأشرنا إلى المهم من ذلك. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) في (ك): "وهذا ليس". (¬6) في نسخ "الإعلام": "المعروف".

[متى شرعت كفارة اليمين؟]

عامة الحكم في حق كل أحد لم يَخْفَ على نبيٍ كريم موجَبُ يمينِهِ، ولم يكن في اقتصاصها علينا كبير عبرة؛ فإنما يقص ما خرج عن نظائره [لنعتبر به ونستدل به على حكمة اللَّه فيما قَصَّه علينا] (1)، أما ما كان [هو] (¬1) مقتضى العادة والقياس فلا يقص، ويدل على الاختصاص قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَهُ صَابِرًا} [ص: 44] وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل كما في نظائرها؛ فعلم أن اللَّه [سبحانه وتعالى] (1) إنما أفْتَاه بهذا جزاءً له على صبره، وتخفيفًا عن امرأته، ورحمةً بها، لا أن هذا [هو] (¬2) موجب هذا اليمين، [وأيضًا فإن اللَّه سبحانه وتعالى] (¬3) إنما أفْتَاه بهذه الفُتْيَا لئلا يحنث، كما أخبر تعالى (¬4). [متى شرعت كفارة اليمين؟] وهذا يدل على أن كفارة الأَيمْان لم تكن مشروعة بتلك الشريعة، بل ليس في اليمين إِلا البر [أو] (¬5) الحنث، كما هو ثابت في نذر التبرُّر في شريعتنا؛ وكما [كان في أول الإسلام] (¬6) قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: لم يكن أبو بكر يحنث في يمين، حتى أنزل اللَّه كفارة اليمين (¬7)، فدلَّ على أنها لم تكن مشروعة في أول الإسلام. وإذا كان كذلك صار كأنه قد نذر ضربها، وهو نذر لا يجب الوفاء به؛ لما فيه من الضَّرر عليها، ولا يغني عنه كفارة اليمين (¬8)؛ لأن تكفير النذر فرع عن (¬9) تكفير اليمين، فإذا لم يكن كفارة النذر إذ ذاك مشروعة فكفارة اليمين أولى، وقد علم أن الواجب بالنذر يحتذى به حَذْوَ الواجب بالشرع، وإذا كان الضرب الواجب بالشرع يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحًا ويجوز جَمْعه إذا كان المضروب مريضًا مأيوسًا منه عند الكل أو مريضًا على الإطلاق عند بعضهم، كما ثبتت بذلك السنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬10)، جاز أن يقام الواجب بالنذر مقام ذلك ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفات ليس في "بيان الدليل". (¬2) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬3) ما بين المعقوفتين ليس في "بيان الدليل". (¬4) هنا زيادة في "بيان الدليل" وهي: "وكما قد نقل أهل التفسير أنه كان قد حلف ثمن شفاه اللَّه ليضربنها مئة سوط لما تمثل لها الشيطان وأمرها بنوع من الشرك لم تتفطن له لتأمر به أيوب" اهـ. (¬5) في نسخ "الإعلام": "و". (¬6) ما بين المعقوفتين ليس في "بيان الدليل". (¬7) أخرجه البخاري (6621): في (الأيمان): باب {لَّا يُؤَاخِذُبهُمُ اللَّه بالْلَغْوِ فِىَ أَيَمَنِكُمْ}. (¬8) في (ق) و (ك): "يمين". (¬9) في (ن) و (ك) و (ق): "على". (¬10) يشير إلى حديث الرجل المقعد الذي زنا بامرأة وكان ضعيفًا فأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُجلد =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = بِـ (عثكال) فيه مئة شمراخ ضربة واحدة. وهذا الحديث مداره على أبي أمامة بن سهل بن حنيف وقد اختلف عليه على أوجه: الأول: رواه أبو الزناد ويحيى بن سعيد عنه عن أبي سعيد الخدري، أخرجه الطبراني (5446)، والدارقطني (3/ 105)، من طريق داود بن مهران وعمرو بن عون عن سفيان عنهما به. قال الهيثمي بعد أن عزاه للطبراني (6/ 252): رجاله رجال الصحيح. لكن رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 79 - 80) من طريقه البيهقي (8/ 230) عن سفيان به، لم يذكر أبا سعيد، جعله عن أبي أمامة بن سهل مرسلًا. قال البيهقي: هذا هو المحفوظ عن سفيان مرسلًا. أقول: ورواه أيضًا عن أبي أمامة مرسلًا الزهري. أخرجه الطبراني (5568) من طريق أحمد بن أبي شعيب عن موسى بن أعين عن إسحاق بن راشد عنه به. إسحاق بن راشد هذا ثقة إِلا أن في حديثه عن الزهري وهم. ومما يدل على ذلك أن الطبراني رواه بالإسناد نفسه (5587) (عدا شيخ الطبراني) فوقع فيه عن أبي أمامة بن سهل عن أبيه. أقول: قد ذكرت أن أبا الزناد قد رواه من قبل تارة عن أبي أمامة عن أبي سعيد وتارة مرسلًا. وقد رواه المغيرة بن عبد الرحمن عنه فجعله عن أبي أمامة عن أبيه، أخرجه الطبراني (5565) من طريق عبد الملك بن مسلمة عنه، ورواته ثقات، لكن عبد الملك بن مسلمة، هذا أظنه هو المترجم في "الميزان" و"الجرح والتعديل" فإنه من نفس الطبقة، قال أبو حاتم: كتبت عنه وهو مضطرب الحديث ليس بقوي حدثني بحديث موضوع. وقال أبو زرعة: ليس بالقوي وهو منكر الحديث. وتابع المغيرة أيضًا عبد الرحمن بن أبي الزناد. أخرجه الدارقطني (3/ 100) من طريق عبد العزيز بن محمد الأزدي عنه، وعبد العزيز هذا ينظر في حاله. الثاني: يعقوب بن عبد اللَّه بن الأشج عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد بن عبادة. رواه أحمد في "مسنده" (5/ 222)، وابن ماجة (2574)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2524)، والطبراني (5521) و (5522)، والنسائي في "الكبرى" (4/ 311)، وأحمد بن منيع وأبي أبي شيبة في "مسنديهما"، كما في "زوائد البوصيري" (2/ 74) من طرق عن ابن إسحاق عن يعقوب به. قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف لأن مدار الإسناد على محمد بن إسحاق وهو مدلس. =

[عن النذر في الإسلام]

عند العذر، وقد كانت امرأة أيوب -عليه السلام- ضعيفة عن احتمال مئة ضربة (¬1) التي حلف أن يضربها إياها، وكانت كريمةً على ربها، فخفف عنها برحمته الواجب باليمين بأنْ أفْتَاه بجمع الضربات بالضِّغْثِ كما خفف عن المريض. [عن النذر في الإسلام] ألا ترى أن (¬2) السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث (¬3). ¬

_ = أقول: وقد اختلف فيه على ابن إسحاق أيضًا. فرواه ابن ماجة بعد (2574) بلا رقم عن سفيان بن وكيع عن المحاربي عنه عن يعقوب عن أبي أمامة عن سعد بن عبادة. وهذا فيه عنعنة ابن إسحاق، وضعف سفيان بن وكيع. الثالث: ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل أنه أخبره بعض أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. أخرجه أبو داود (4472) من طريق ابن وهب عن يونس عنه، وهذا إسناد صحيح. الرابع: وقد رواه غير أبي أمامة بن سهل. فقد أخرجه الدارقطني (3/ 99) ومن طريقه البيهقي عن عثمان بن عمر عن فليح عن أبي حازم عن سهل بن سعد به. وقال الدارقطني: كذا قال، والصواب عن أبي حازم عن أبي أمامة بن سهل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أقول: وتابع فُلَيْحًا أبو بكر بن أبي سبرة. أخرجه الطبراني (5820) من طريق عامر العقدي عنه. قال الهيثمي (6/ 252): فيه أبو بكر بن أبي سبرة وهو متروك. وبعد هذا التلخيص لطرق الحديث قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4/ 59) عن طرق حديث أبي أمامة: فإن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة قد حمله عن جماعة من الصحابة، وأرسله مرة وقال في "بلوغ المرام" (رقم 1264): إسناده حسن إِلا أنه اختلف في وصله وإرساله. (¬1) في المطبوع: "الضربة". (¬2) في "بيان الدليل": "الأثري إن"!! (¬3) ورد في هذا حديث أبي لبابة: رواه مالك (2/ 481) عن عثمان بن حفص بن عمر وعبد الرزاق (16397) عن ابن جريج، ومعمر، ثلاثهم عن الزهري، أن أبا لبابة، وذكره. ووصله عن الزهري محمد بن الوليد الزبيدي، رواه عنه عن حُسين بن السائب بن أبي لبابة عن جدّه أبي لبابة فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يجزئك من ذلك الثلث". أخرجه من طريقه ابن حبان (3371)، والبيهقي (4/ 181)، وأشار إليه أبو داود بعد (3320)، وتابعه أيضًا ابن جريج. أخرجه من طريقه أحمد (3/ 452 - 453، و 502) قال: أخبرني الزهري به. والزبيدي من ثقات أصحاب الزهري. =

فأقام الثلث في النذر مقام الجميع رحمة بالناذر وتخفيفًا عنه (¬1)، كما أُقيم مقامه في الوصية رحمة بالوارث ونظرًا له، وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشيةً أن تركب وتُهْدِيَ (¬2)، إقامةً لترك بعض الواجب بالنَّذر مقام ترك [بعض] (¬3) الواجب ¬

_ = ورواه محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن الحسين بن السائب عن أبيه، قال: لما تاب اللَّه على أبي لبابة، قال أبو لبابة. أخرجه الطبراني في "الكبير" (4509)، والبخاري في "التاريخ" (2/ 385 - 386)، ومحمد هذا ضعيف. ورواه محمد هذا على وجه آخر فقال: عن الزهري عن حسين بن السائب بن أبي لبابة أو غيره به، ذكره البخاري أيضًا. ورواه أسامة بن زيد عن ابن شهاب: حدثني بعض ابن السائب بن أبي لبابة عن أبي لبابة. أخرجه الطبراني في "الكبير" (4510)، وأسامة لا بأس به، لكن الزبيدي أوثق منه، وقوله: بعض ابن السائب لعله حسين. وتابع أسامة يونسُ أيضًا. علقه البخاري في "التاريخ" (2/ 386) وأبو داود بعد (3320). ورواه البيهقي (10/ 67) من طريق ابن وهب -وهو في "موطئه" كما في "التمهيد" (20/ 82) - عن يونس به. أقول: وحسين بن السائب هذا لم يوثقه إِلا ابن حبان، وقال: يروي عن أبيه المراسيل. وخالف هؤلاء جميعًا إسماعيل بن أمية، فرواه عن الزهري عن عبد الرحمن بن أبي لبابة عن أبيه أبي لبابة. أخرجه الدارمي (1/ 390 - 391)، وإسماعيل من الثقات. وعبد الرحمن بن أبي لبابة لم أظفر بترجمته، وهو من اضطراب الزهري في تسميته. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (20/ 83): "ولا يتصل حديث أبي لبابة فيما علمت ولا يستند، وقصته في السير محفوظة". وفي الباب عن كعب بن مالك: رواه أبو داود (3319 و 3320)، ومن طريقه البيهقي (10/ 67 - 68)، والطبراني (18/ 104)، وفي سنده اختلاف. وحديث كعب بن مالك، ثابت في "الصحيح" لكن رواه بلفظ: "أمسك بعض مالك"، وخرجته في تعليقي على "الموافقات" للشاطبي (3/ 71)، وانظر: "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 1010). (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (4/ 384 - 385)، و"زاد المعاد" (3/ 23)، و"بدائع الفوائد" (4/ 83). (¬2) هو يشير إلى حديث ابن عباس في نذر أخت عقبة بن عامر، وتقدم تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ن)، و"بيان الدليل".

بالشرع في المناسك عند العجز عنه كطواف الوداع عن الحائض. وأفتى ابن عباس وغيره [في] (¬1) مَنْ نذر ذَبْح ابنه بشاة (¬2)، إقامةً لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شُرع ذلك للخليل [صلوات اللَّه وسلامه عليه] (1)، وأفْتَى أيضًا مَنْ نَذَر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعَيْن (¬3)، إقامة لأحد الأسبوعين مقام طواف اليدين، [وأفْتَى أيضًا هو وغيره من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- المريضَ الميئوسَ منه والشيخَ الكبيرَ الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطرًا ويطعما كل يوم مسكينًا (¬4)، إقامة للإطعام مقام الصيام. وأفْتَى أيضًا هو وغيره من الصحابة الحاملَ والمرضعَ إذا خافتا على ولديهما أن تُفطرا وتُطعما كل يوم مسكينًا (¬5)، إقامة للإطعام مقام ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ن)، و"بيان الدليل". (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 502)، وعبد الرزاق (15906)، والبيهقي (10/ 73)، وابن حزم (8/ 16) من طرق عن عكرمة عنه. وله طرق أخرى في المصادر المذكورة، وانظر: "موطأ مالك" (2/ 476) و"جامع الأصول" (1955) و"أحكام القرآن" (3/ 378) للجصاص. وفي (ق): "ولده" بدل "ابنه". (¬3) رواه عبد الرزاق (15895) أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: رجل نذر أن يطوف على ركبتيه سبعًا، فقال: قال ابن عباس: لم يؤمروا أن يطوفوا حبوًا، ولكن ليطف سُبْعَين، سبعًا لرجليه، وسبعًا ليديه. قلت: ولم يأمره بكفارة، قال: لا. ولم يعزه في "كنز العمال" (16/ 734 رقم 46570) إِلا لعبد الرزاق. (¬4) روى البخاري في "صحيحه" (4505) في (التفسير): باب {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا. . .} عن عطاء سمع ابن عباس يقرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال ابن عباس: ليست بمنسوخة، هو الشيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فليطعمان مكان كل يومٍ مسكينًا". وله ألفاظ وطرق عن ابن عباس، وعن غيره من الصحابة انظر "مصنف عبد الرزاق" (4/ 220 - 224)، و"سنن البيهقي" (4/ 270 - 272). (¬5) روى أبو داود (2318)، ومن طريقه البيهقي (4/ 230) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عزرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: والحبلى والمرضع إذا خافتا. قال أبو داود: يعني: على أولادهما أفطرتا وأطعمتا. وهذا إسناد رجاله ثقات رجال مسلم، وعزرة هو ابن عبد الرحمن تحرّف في المطبوع من "سنن أبي داود" إلى "عروة"، ووقع على الصواب في "سنن البيهقي"، و"تحفة الأشراف" أيضًا "عزرة". وروى أبو داود أيضًا (2317) عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} قال: أثبتت للحامل والمرضع. رواه من طريق أبان عن قتادة أن عكرمة حدثه عن ابن عباس وهذا إسناد صحيح أيضًا. =

فصل [الكلام عن حيلة يوسف]

الصيام (¬1)، وهذا كثير جدًا] (¬2)، وغير مستنكر في واجبات الشريعة أن يخفف اللَّه تعالى الشيء منها عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الإبدال وغيرها، لكن مثل قصة أيوب لا يحتاج إليها في شرعنا؛ لأن الرجل لو حَلَفَ ليضربَنَّ أمته (¬3) أو امرأته مئة ضربة أمكنه أن يكفِّر عن يمينه من غير احتياج إلى حيلة وتخفيف (¬4) الضرب بجَمْعه، ولو نذر ذلك فهو نذر معصية فلا شيء عليه عند طائفة، وعند طائفة عليه كفارة يمين (¬5)، وأيضًا فإن المُطْلَق من كلام الآدميين محمولٌ على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصًا في الأيمان؛ فإن الرجوع فيها إلى عُرف الخطاب شرعًا أو عادة أولى من الرجوع [فيها] (¬6) إلى موجب اللفظ في أصل اللُّغة، واللَّه سبحانه وتعالى قد قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]} (¬7) [النور: 4] وفهم الصحابة والتابعون ومَنْ بعدهم من ذلك أنه ضربات متعددة متفرقة لا مجموعة، إِلا أن يكون المضروب معذورًا عذرًا لا يُرْجى زواله؛ فإنه يُضرب؛ ضربًا مجموعًا، وإن كان يُرْجى زواله فهل يُؤخَّر إلى الزَّوال، أو يقام عليه مجموعًا؟ فيه خلاف بين الفقهاء، فكيف يقال: إن الحالف ليضربن موجَبُ يمينه هو الضربُ المجموع مع صحة المضروب وقوته؟ فهذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه أرباب الحيل، وعليها بنوا حيلهم، وقد ظهر بحمد اللَّه تعالى أنه لا متمسك لهم فيها البتَّة. فصل [الكلام عن حيلة يوسف] وأما إخباره سبحانه وتعالى عن يوسف -عليه السلام- أنه جعل صُوَاعه في رَحْل أخيه ¬

_ = رواه مالك في "الموطأ" (1/ 308) بلاغًا عن ابن عمر في الحامل إذا خافت على ولدها قال: تفطر وتطعم مكان كل يوم مسكينًا. هكذا هو في "الموطأ" بلاغًا، ورواه البيهقي في "سننه الكبرى" (4/ 230) من طريق الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر موصولًا. (¬1) انظر: "زاد المعاد" (1/ 154)، و"بدائع الفوائد" (4/ 45، 101). (¬2) ما بين المعقوفتين ليس في "بيان الدليل". (¬3) في (ن) و (ق): "عبده". (¬4) في "بيان الدليل": "أن يخفف". (¬5) فصل المصنف الخلاف في "إغاثة اللهفان" (2/ 97 - 99)، وانظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (4/ 322 مسألة رقم 1673)، وتعليقي عليه. (¬6) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط في (ق).

[جعل بضاعتهم في رحالهم]

ليتوصل بذلك إلى أخذه وَكَيْد إخوته، فنقول لأرباب الحيل: أولًا: هل تجوِّزون أنتم مثل هذا حتى يكون حجةً لكم؟ وإلا فكيف تحتجون بما لا تجوِّزون فعله؟! فإن قلتم: فقد كان جائزًا في شريعته، قلنا: وما ينفعكم إذا لم يكن جائزًا في شرعنا؟ قال شيخنا (¬1) -رضي اللَّه عنه-: و [من هذا الباب] (2) مما قد يُظنُّ أنه من جنس الحيل التي بيَّنا تحريمها وليس من جنسها قصةُ يوسف [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) حين كاد اللَّه له في أخذ أخيه كما قَصَّ ذلك سبحانَه (¬3) في كتابه، فإن فيه ضروبًا من الحيل الحسنة: [جعل بضاعتهم في رحالهم] أحدها: قوله لفتيانه (¬4): {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] فإنه تسبَّبَ بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا في ذلك معاني: منها: أنه تخوَّف أن لا يكون عندهم وَرِق يرجعون بها. ومنها: أنه خشي أن يضرَّ أخذ الثمن بهم. ومنها: أنه رأى لومًا [إذا] (¬5) أخذ الثمن منهم. ومنها: أنه أراهم كرمه في رد البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العَوْد، [وقد قيل] (¬6)؛ إنه علم أن أمانتهم تُحْوجهم إلى العَوْد ليردوها إليه (¬7)؛ فهذا المحتالُ به عملٌ صالح، والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم [وله] (¬8)، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرِّفهم نفسه لأسباب أُخر فيها أيضًا منفعة له ولهم (¬9) ولأبيهم وتمام لما أراده اللَّه بهم من الخير في البلاء. [جعله السقاية في رحل أخيه] الضرب الثاني: أنه في المرة الثانية لما {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي ¬

_ (¬1) قال (و): "هو شيخ الإسلام في فتاويه" (ص 209 ج 3 فتاوى نشر دار الكتب الحديثية). قلت: والكلام بطوله في "بيان الدليل" (ص 263 - 267)، وعليه قابلت. (¬2) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬3) في نسخ "الإعلام": "تعالى". (¬4) في (ك) و (ق): "لفتيته". (¬5) ما بين المعقوفتين من (و) فقط. (¬6) ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام": "ومنها". (¬7) في "بيان الدليل": "الرجعة ليؤدوه إليه". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في نسخ "الإعلام": "لهم وله".

رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70]، وهذا القدر تضمن إيهام أن أخاه سارق، وقد ذكروا أن هذا كان بمواطأة من أخيه ورضًا منه بذلك، والحق له فيم ذلك (¬1)، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ [قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]} (¬2) [يوسف: 69] [وفيه قولان: أحدهما: أنه عرَّفه أنه يوسُفُ ووطَّنه عَلَى عدم الابتئاس بالحيلة التي فعلها في أخذه منهم. والثاني: أنه] (¬3) لم يصرِّح له بأنه يوسف، وإنما أراد إني (¬4) مكان أخيك المفقود [فلا تبتئس بما يعاملك به إخوتك من الجفاء] (¬5). ومَنْ قال هذا قال: إنه وضع السقاية في رَحْل أخيه والأخ لا يشعر، ولكن هذا (¬6) خلاف المفهوم من القرآن وخلاف ما عليه الأكثرون، وفيه ترويعٌ لمن لم يستوجب الترويع (¬7). وأما على القول الأول [فقد قال] (¬8) كعب [وغيره] (¬9): لما قال له: إني أنا أخوك، قال [بنيامين] (¬10): فأنا لا أفارقك، قال يوسف [عليه السلام] (¬11): فقد علمتَ اغتمام -والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمُّه (¬12)، ولا يمكنني هذا إِلا بعد أن أُشْهِرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يُحْتمل، قال: لا أبالي، فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك، قال: فإني أدسُّ صُوَاعي (¬13) هذا في ¬

_ (¬1) انظر: "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 229) للقرطبي، و"التفسير الكبير" (18/ 183) للفخر الرازي. (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "فإن هذا يدل على أنه عرف أخاه بنفسه، وقد قيل إنه". (¬4) في "بيان الدليل": "أنا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬6) في "بيان الدليل": "فهذا". (¬7) في "بيان الدليل": "الترويح"!! (¬8) في "بيان الدليل": "فقال". (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "الأحبار"، وانظر ترجمته في "الجرح والتعديل" (7/ 161)، و"السير" (3/ 489)، و"تهذيب التهذيب" (8/ 438). (¬10) ما بين المعقوفتين من (و)، و"بيان الدليل". (¬11) ما بين المعقوفتين من (و)، و"بيان الدليل". (¬12) في "بيان الدليل": "ازداد غمه بي". (¬13) في "بيان الدليل": "صاعي"، وقال (ط): "في بعض الأصول "صاعي"، والصحيح "صواعي" قال تعالى في سورة يوسف: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} اهـ، وقال (و): "في =

[موقف عدي بن حاتم حين هم قومه بالردة]

رَحْلك، ثم أنادي عليك بالسّرقة ليتهيأ لي ردك [بعد تسريحك] (¬1)، قال: فافعل (¬2)؛ [وعلى هذا فهذا التصرف إنما كان بإذن الأخ ورضاه] (¬3). [موقف عدي بن حاتم حين هَمَّ قومُه بالرّدة] ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير عن عديّ بن حاتم [-رضي اللَّه عنه-] (¬4) أنه لما همَّ قومُه بالردة بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كَفَّهم عن ذلك، وأمرهم بالتربص (¬5)، وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة أن يبعد، فإذا جاء خاصَمَه بين يدي قومه وَهمَّ بضربه، فيقومون فيشفعون إليه فيه؛ ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدًا، فلما [تكرر ذلك؛ أمره ذات ليلة] (¬6) أن يبعد بها [جدًا] (¬7)، وجعل ينتظره بعد ما دخل (¬8) الليل وهو يَلُوم قومه على شفاعتهم [فيه] (¬9) ومَنْعِهم إياه من ضربه (¬10)، وهم يعتذرون [إليه] (¬11) عن ابنه، ولا ينكرون إبطاءه، حتى إذا أبهار الليل (¬12) ركب في طلبه [فلحقه] (¬13)، واستاق الإبل حتى قدم بها عَلَى أبي بكر -رضي اللَّه عنه-؛ فكانت صدقات طيء مما استعان بها أبو بكر في قتال أهل الردة (¬14). وكذلك في الحديث [الصحيح] (11) أن عديًا قال لعمر -رضي اللَّه عنه-: [في بعض الأمراء] (¬15) أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، ¬

_ = الأصل وفي "فتاوى" شيخ الإسلام ابن تيمية: "صاع"، والذي أثبته كلمة القرآن" اهـ. وقال (د): "في الأصول: "صاعي" وهو تحريف ما أثبتناه"، وهي كذلك في (ق). (¬1) ما بين المعقوفتين أثبته من (و)، و"بيان الدليل". (¬2) انظر: "الجامع" للقرطبي (9/ 229)، و"التفسير الكبير" للرازي (18/ 183). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل" (ص 265): "فذلك قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} الآية، فهذا التصرف في ملك الغير فيه أذى له في الظاهر إنما كان بإذن المالك" اهـ. وعلق (و) على ما أثبتناه هنا قائلًا: "من أين هذا الكلام؟. . . " وبنحو المذكور هنا عند المصنف في "إغاثة اللهفان" (2/ 108 - 119). (¬4) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬5) في "بيان الدليل": "وأمرهم بالتربث"!! (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام": "كان ذات ليلة أمره". (¬7) ما بين المعقوفتين ليس في "بيان الدليل"، وسقط من (ق) و (ك). (¬8) في "بيان الدليل": "بعدما ذهب". (¬9) ما بين المعقوفتين من (و) و"بيان الدليل". (¬10) في "بيان الدليل": "من عقوبته". (¬11) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬12) في "نسخ الإعلام": "حتى إذا انهار الليل". (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬14) قال الحافظ ابن حجر بعد أن أشار إلى هذه القصة في "الفتح" (8/ 103): "وذلك مشهور عند أهل العلم بالفتوح". قلت: وأشار إليها عمر في قوله لعدي الآتي وهو في "صحيح البخاري". (¬15) ما بين المعقوفتين من (و)، وفي "بيان الدليل": "في بعض الأمر".

[عود إلى قصة يوسف]

أعرفك، أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذا غدروا، وأقبلت إذ أدبروا (¬1)، وعرفت إذ أنكروا (¬2). ومثل هذا ما أذن [فيه] (¬3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للوفدِ الذين أرادوا قتل كعب بن الأشْرَف أن يقولوا (¬4)، وأذن للحجَّاج بن عِلاط عام خيبر أن يقول (¬5)، و [في] (¬6) هذا كله [من الاحتيال المُبَاح؛ لكون صاحب الحق قد أذن فيه ورضي به] (¬7)، والأمر المحتال عليه طاعة للَّه وأمر مباح. [عود إلى قصة يوسف] الضرب الثالث: أنه أذَّنَ مؤذنٌ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "وأقبلت إذا أدبروا"! (¬2) رواه البخاري في "صحيحه" (4394) في (المغازي): باب قصة وفد طيء. (¬3) ما بين المعقوفتين ليس في "بيان الدليل"، وبدله في (ق): "به". (¬4) مقتل كعب بن الأشرف، وإذن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم أن يقولوا: رواه البخاري (2510) في (الرهن): باب رهن السلاح، و (3031) في (الجهاد): باب الكذب في الحرب و (3032)، باب الفتك بأهل الحرب، و (4037) في (المغازي) باب قتل كعب بن الأشرف، ومسلم (1801) في (الجهاد): باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود، من حديث جابر. (¬5) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (9771)، ومن طريقه أحمد في "مسنده" (3/ 138 - 139)، والنسائي في "سننه الكبرى" (8646)، والبزار (1816)، وأبو يعلى (3479)، وابن حبان (4531) وابن قانع في "معجم الصحابة" (4/ 1494 رقم 397)، والطبراني في "الكبير" (3196)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 150 - 151)، وفي "دلائل النبوة" (4/ 268) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 728 - 729 رقم 1942) وابن كثير في "البداية والنهاية" (4/ 206). عن معمر عن ثابت عن أنس أن الحجاج بن عِلاط استأذن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند فتح خيبر في إتيان مكة، فأذن له في القول. . . وذكر حديثًا طويلًا. ورواه يعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 507 - 509)، ومن طريقه البيهقي في "الدلائل" (4/ 266 - 267) من طريق محمد بن ثور عن معمر به. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 154): "ورجاله رجال الصحيح" قلت: نعم، ولكن معمر ضعيف في روايته عن ثابت، قاله ابن معين، وقال يحيى: حديث معمر عن ثابت مضطرب كثير الأوهام، انظر: "التهذيب" (10/ 244، 245) ومدار الحديث عليه. قال البزار: "لا نعلم رواه هكذا إِلا معمر". (¬6) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "الأمر المحتال عليه مباح لكونه الذي قد أوذي قد أذن فيه".

مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) [قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} إلى قوله: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ] (¬1) أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 70 - 76]، وقد ذَكَروا في تسميتهم سارقين وجهين (¬2): أحدهما: أنه من باب المعاريض وأن يوسف نَوَى بذلك أنهم سرقوه من أبيه (¬3) حيث غَيَّبوه [عنه] (¬4) [في الجبِّ] (¬5) بالحيلة التي احتالوها (¬6) عليه، وخانوه فيه، والخائن يسمى سارقًا، وهو من الكلام [المرموز، ولهذا يُسمَّى خونة الدواوين] (¬7) لصوصًا. افثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف، قال القاضي أبو يعلى وغيره: أمر يوسفُ بعضَ أصحابه أن يجعل الصواع (¬8) في رَحْل أخيه، ثم قال بعضُ الموكَّلين [بالصيعان] (¬9) وقد فقدوه ولم يدر (¬10) [من] (¬11) أخذه [منهم] (9): {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] على ظنٍّ منهم أنهم كذلك، [من غير أمر يوسف لهم] (¬12) بذلك، [فلم يكن قول هذا القائل كذبًا إذ كان في حقه وغالب ظنه ما هو عنده، و] (¬13) لعل يوسف قد قال للمنادي: هؤلاء [قد] (9) سرقوا، وعَنَى [أنهم سرقوه] (¬14) من أبيه، [والمنادي فهم سَرِقَةَ الصُّوَاع (¬15)، فصَدَق يوسف في قوله، وصَدَق المنادي، وتأمل حذف المفعول ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬2) انظر: "الجامع" للقرطبي (9/ 231)، و"التفسير الكبير" للرازي (18/ 183). (¬3) في (ن): "أخيه"! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬6) في نسخ "الإعلام": "احتالوا". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "المشهور حتى أن الخونة من ذوي الديوان يسمون". (¬8) في (ن) و (ك) و (ق): "الصاع". (¬9) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬10) في "بيان الدليل": "لم يدروا"، وفي (ك) و (ق): "فلم يدري". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬12) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "ولم يأمرهم يوسف". (¬13) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام": "أو"، وما أثبتناه من "بيان الدليل". (¬14) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "سرقته". (¬15) في (ق): "الصاع".

في قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ليصح أن يضمن سرقتهم ليوسف فيتم التعريض، ويكون الكلام صِدْقًا، وذكر المفعول في قوله: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72] وهو صادقٌ في ذلك (¬1)، فصَدَقَ في الجملتين معًا تعريضًا وتصريحًا، وتأَمَّل قول يوسف: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] ولم يقل: إِلا مَنْ سرق، وهو أخصر لفظًا، تحريًا للصدق، فإن الأخ لم يكن سارقًا بوجه، وكان المتاع عنده (¬2) حقًا؛ فالكلام من أحسن المعاريض وأصدقها] (¬3). ومثل هذا قول المَلَكين (¬4) لداود -عليه السلام-: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 22 - 23] أي: غَلَبني في الخطاب، ولكن تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتَّى، وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال: أي إذا كان كذلك فكيف الحكمُ بيننا. ونظير هذا (¬5) قول المَلَك للثلاثة الذين أراد اللَّه أن يبتليهم: "مسكينٌ وغريبٌ وعابرُ سبيل، وقد تقطَّعت بي الحبال، ولا بلاغ لي اليوم إِلا باللَّه ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرًا أتبلَّغ به في سَفرِي هذا" (¬6) وهذا ليس بتعريض، وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال وإيهام أني أنا صاحب [هذه] (¬7) القضية كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة ليتم الامتحان. ¬

_ (¬1) قال شيخ الإسلام: "فإن يوسف لعله لم يطلعه على أن الصواع في رحالتهم ليتم الأمر إنكم لسارقون بناءً على ما أخبره به يوسف، وكذلك لم يقل: سرقتم صاع الملك، وإنما قال: (نفقده)؛ لأنه لم يكن يعلم أنهم سرقوه، أو أنه اطلع على ما صنعه يوسف -عليه السلام-، فاحترز في قوله: فقال: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ}. (¬2) في (ك): "عند المتاع"، وفي (ق): "عنده الكلام". (¬3) ما بين المعقوفتين من كلام المصنف، وتصرف كثيرًا في النقل من شيخه إذ كلامه هو الوارد في الهامش قبل السابق. (¬4) قال (و): "لم يردّ في القرآن أنهما ملكان، وإنما ورد {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} " اهـ. (¬5) قال (و): "هذا الكلام إلى قوله: "ليتم الامتحان" لا يوجد في الفتاوى" اهـ. قلت: وفي (ق): "ومثل هذا" بدل "ونظير هذا". (¬6) رواه البخاري (3464) في "أحاديث الأنبياء": باب أبرص وأعمى وأقرع في بني إسرائيل و (6653) في "الأيمان والنذور": باب لا يقول: ما شاء اللَّه وشئت، وهل يقول: أنا باللَّه ثم بك؟ ومسلم (2964) في "الزهد": أوله، من حديث أبي هريرة وقد ذكرتُه مع فوائده المستفادة منه في كتابي "من قصص الماضين" (ص 189 - 195). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [استنباط من قصة يوسف وتعقيب عليه]

ولهذا قال نَصرُ بن حاجب (¬1): سُئل ابنُ عُيَيْنة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرِّف القول فيه ليرضيه، لم يأثم (¬2) في ذلك؛ فقال: ألم تسمع قوله: "ليس بكاذب مَنْ أصلح بين الناس فكذب فيه" (¬3)؛ فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم في (¬4) بعض، وذلك إذا (¬5) أراد به مرضاة اللَّه، وكره أذى المؤمن (¬6)، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعًا (¬7) في شيء يصيب منهم؛ فإنه لم يرخص في ذلك ورخص (¬8) له إذا كره مَوْجِدَتهم وخاف عداوتهم. قال حذيفة: إني أشتري ديني بعضَه ببعض مخافة أن أُقدم (¬9) على ما هو أعظم منه (¬10). [وكره -أيضًا- أن يتغير قلبه عليه] (¬11)، قال سفيان: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] أرادا معنى شيء ولم يكونا خَصْمين فلم يصيرا بذلك كَاذِبَيْن، وقال إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال يوسف: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] [أراد معنى أمرهم] (¬12)، فبيَّن سفيان أن هذا [كله] (¬13) من المعاريض المباحة [مع تسميته كذبًا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبًا كما تقدم التنبيه على ذلك] (13). فصل [استنباط من قصة يوسف وتعقيب عليه] وقد احتجَّ بعضُ الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصُّلُ إلى ¬

_ (¬1) من هنا يستأنف ابن القيم النقل عن شيخ الإسلام، فانظر: "بيان الدليل" (ص 267 - 277)، وفي (ق): "الحاجب". (¬2) في "بيان الدليل ": "أياثم". (¬3) في نسخ "الإعلام": "يكذب فيه"، ومضى تخريج الحديث. (¬4) في نسخ "الإعلام": "من". (¬5) في "بيان الدليل": "أنه". (¬6) في "بيان الدليل": "وكراهته أذى المؤمن"، وفي (ك): "وكره أذى المؤمنين". (¬7) في "بيان الدليل": "ولا لطمع". (¬8) في (ق): "وأرخص". (¬9) في "بيان الدليل": "أتقدم"، وقال محققه: "في الأصل أهدم". (¬10) مضى تخريجه. (¬11) و (¬12) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل" إذ إن ابن القيم ينقل عنه حرفيًا. (¬13) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل".

أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا مَنْ عليه الحق. قال شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬1): وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظَلَم يوسف حتى يقال: [إنه] (¬2) قد اقتصَّ منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم تخلّفه عنده كان (¬3) يؤذيهم من أجل تأذّي أبيهم والميثاقِ الذي أخذه عليهم، وقد استثنى (¬4) في الميثاق [بقوله] (¬5): {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقد أُحيط بهم، ويوسف -عليه السلام- لم يكن قصده (¬6) باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكْرَمَ من هذا، وكان في ذلك (¬7) من الإيذاء لأبيه (¬8) أعظم مما فيه من إيذاء إخوته، وإنما هو أمرٌ أمره اللَّه به ليبلغَ الكتابُ أجَلَه ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف [عليه السلام] (¬9) كمالَ الجزاء، وتبلغ حكمة اللَّه التي قضاها لهم نهايتها. ولو كان يوسف قصد القصاص (¬10) منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به (¬11)، وإنما مَوْضِع الخِلاف: هل يجوز له أن يسرق أو يخون مَنْ سرقه أو خانه (¬12) مثل ما سرق منه (¬13) أو خانه إياه (¬14)؟ ¬

_ (¬1) الكلام كله متواصلًا كما ذكرت آنفًا لشيخ الإسلام -رحمه اللَّه-. وقال (و): "في نفس الموضع من فتاويه" (ص 212 ج 3) اهـ. (¬2) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬3) في "بيان الدليل": "نعم كان تخلفه عنده" بتقديم وتأخير. (¬4) في (ن) و (ق): "استثنوا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬6) في نسخ "الإعلام": "ولم يكن قصد يوسف". (¬7) في "بيان الدليل": "وكان في ضمن هذا"، وأثبت (و) كلمة "ضمن" بين معقوفتين قبل "ذلك"، وقال: "الزيادة هذه من الفتاوى ص 213 ج 3". (¬8) قال (د): "في نسخة: من الإيذاء له أعظم مما. . . إلخ" اهـ. (¬9) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬10) في "بيان الدليل": "الاقتصاص". (¬11) لا شك في ذلك، لكن معلوم أن العفو والصفح أفضل؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقوله سبحانه: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]. (¬12) في "بيان الدليل" و (ك): "أو يخون سرقة أو خيانة"! (¬13) في "بيان الدليل": "مثل ما سرقه إياه". (¬14) انظر: "تهذيب السنن" (6/ 338، 342)، و"زاد المعاد" (3/ 205)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 432)، و"أحكام الجناية" (ص 189 - 202) مهم فراجعه.

[كيد الله]

وقصة يوسف لم تكن (¬1) من هذا الضرب، نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضًا؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، [وهو] (¬2) أن يُحبس رجل بريء ويُعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جُرْم، [ولو قدر أن ذلك وقع من يوسف فلا بد أن يكون بوحي من اللَّه ابتلاءً منه] (¬3) لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم -عليه السلام- (¬4) بذَبْح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيًا خاصًا كالوحي الذي جاء إبراهيم بذبح ابنه، وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم اللَّه والرضا بقضائه، فيكون (¬5) حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه. [كيد اللَّه] وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها (¬6) ومن حال يوسف، ولهذا قال تعالى (¬7): {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (8)} [يوسف: 76] فنسب اللَّه تعالى هذا الكيد إلى نفسه كما نَسَبَه إلى نفسه في قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16] و [في] (¬8) قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] وفي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬9) [الأنفال: 30]. وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرًا وكيدًا واستهزاءً وخِداعًا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ونحو قوله: {فَمَنِ ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "ولم تكن قصة يوسف". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "وقد بينا ضعف هذا القول فيما مضى، كان كان حقًا؛ فيوشك أن يكون اللَّه سبحانه أمر باعتقاله، وكان هذا ابتلاء من اللَّه. . . ". (¬4) في نسخ "الإعلام": "كما ابتلى إبراهيم". (¬5) في إحدى مخطوطتي "بيان الدليل": "ويكون"، وهو المثبت في المطبوع منه، وفي الأخرى ما أثبتناه، كما أفاده محققه، وفي نسخ "الإعلام" كلها: "وتكون". (¬6) في "بيان الدليل": "وهذا الذي ذكرناه بيّن يعلم من سياق الكلام". (¬7) في "بيان الدليل": "وقد دل عليه قوله سبحانه". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية". (¬9) في (ق): {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ} الآية [آل عمران: 54].

[ما كيد به ليوسف]

اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقيل وهو أصوب: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإن المكر إيصالُ الشر (¬1) إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: * قبيحٌ، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه. * وحَسَن، وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له؛ فالأول مذموم والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يُحمد عليه عدلًا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب [لا] (¬2) كما يفعل الظلمة بعباده، وأما السيئة فهي فعيلة مما يسوء، ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها؛ فهي سيئة له حسنة من الحَكَمِ العَدْل. [ما كيد به ليوسف] وإذا عرفت ذلك] (¬3) فيوسف الصديق كان قد كِيد غير مرة: أولها أن إخوته كادوا به كيدًا حيث احتالوا [به] (¬4) في التفريق بينه وبين أبيه [كما دل عليه قوله: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}] (¬5)، ثم إن امرأة العزيز كادَتْهُ بما (¬6) أظهرت أنه راوَدَهَا عن نفسه (¬7) [(¬8) ثم أودع السجن، ثم إن النسوة كادوه حتى استجار (¬9) باللَّه من كيدهن فصرفه عنه، وقال (¬10) له يعقوب: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] وقال الشاهد لأمرأة العزيز: {إِنَّهُ ¬

_ (¬1) في نسخ "الأعلام": "الشيء". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) كل ما بين المعقوفتين تصرف فيه ابن القيم مع شيء من الاختصار، فآثرتُ الإبقاء على ما هو عليه، مكتفيًا بالإشارة هنا، وفي (ك): "وإذا أن ذلك" وفي (ق): "وإذا عرف ذلك". (¬4) ما بين المعقوفتين ليس في (ك) ولا "بيان الدليل". (¬5) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬6) في "بيان الدليل": "كادت به بأن"، وفي (ق): "كادته لما". (¬7) كذا في إحدى مخطوطتي "بيان الدليل"، والذي أثبته محققه! في أصل طبعته: "نفسها"، وكذا في نسخ "الإعلام"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬8) من هنا إلى آخر الفصل تصرف فيه ابن القيم كثيرًا مع زياداته على كلام شيخه، فاقتضى التنويه والتنبيه، وفي (ك) و (ق): "حتى" بدل "ثم". (¬9) في المطبوع: "استعاذ"، وأشار إلى ما أثبتُّه: (د) في الهامش، وهو المثبت في (ن)، و"بيان الدليل" (ص 273)، وفي (ق): "حين" بدل "حتى". (¬10) في (ك) و (ق): "فقال".

فصل [مكر الله تعالى على ضربين]

مِنْ كَيْدِكُنَّ [إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ] (1)} [يوسف: 28]، وقال تعالى في حق النسوة: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34] وقال للرسول: {[وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ] (¬1) ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] فكادَ اللَّه سبحانه له أحسنَ كيدٍ وألطفه وأعدله، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره، وكاد له عوض كيد المرأة بأن أخرجه من ضِيق السِّجن إلى فضاء المُلْك، ومكَّنه في الأرض يتبوَّأ منها حيث يشاء، وكاد له في تصديق النسوة اللاتي كذَّبنه وراودنه حتى شهدن ببراءته وعفَّته، وكاد له في تكذيب امرأة العزيز لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وأنه من الصادقين؛ فهذه عاقبة مَنْ صبر على كيد الكائد له بَغْيًا وعُدْوانًا]. فصل [مكر اللَّه تعالى على ضربين] وكيد اللَّه تعالى (¬2) لا يخرج عن نوعين: أحدهما -وهو الأغلب-: أن يفعل تعالى (¬3) فعلًا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الكيد قَدَرًا مَحْضًا (¬4) ليس هو من باب الشرع (¬5)، كما كاد [الذين كفروا بأن انتقم] (¬6) منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصة يوسف؛ فإن [يوسف] (¬7) أكثر ما قَدِر (¬8) أن يفعل: أن ألقى الصُّواعَ في رَحْل أخيه، وأن أذَّنَ مؤذن (¬9) بسرقتهم، فلما أنكروا قال: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] أي جزاء السارق أو جزاء السُّرَّقِ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) في "بيان الدليل" و (ك): "سبحانه". (¬3) في "بيان الدليل": "سبحانه"، وفي (و): "سبحانه وتعالى". (¬4) في (د)، و (ط): "قدرًا [زائدًا] محضًا". (¬5) في (ك) و (ق) و (د) و (و)، و (ط): "من باب لا يسوغ"، وقال (و) معلقًا: "في الفتاوى" (ص 215 ج 3): الشرع، بدلًا من: يسوغ"، قلت: وهي كذلك في "بيان الدليل" (ص 273). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام": "أعداء الرسل بانتقامه". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ط)، و (د) و (ك). (¬8) في نسخ "الإعلام": "ما أمكنه"، وما أثبتناه من: "بيان الدليل". (¬9) في "بيان الدليل": و"أذى المؤمن"، وفي (ن): "وأن أذن المؤذن".

[إعراب جملة في قصة يوسف]

[يوسف: 75] أي جزاؤه نفس السارق، يستعبده المسروق منه إمّا مطلقًا [وإما] (¬1) إلى مدة، وهذه كانت شريعة آل يعقوب. [إعراب جملة في قصة يوسف] ثم في إعراب هذا الكلام وجهان (¬2): أحدهما: أن قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] جملة مستقلة قائمة من مبتدأ وخبر، وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جملة ثانية كذلك مؤكدة للأولى مُقَررة لها (¬3)، والفرق بين الجملتين أن الأولى إخبارٌ عن استحقاق المسروق لرقبة السارق، والثانية إخبار أن هذا جزاؤه في شرعنا وحكمنا؛ فالأولى إخبار عن المحكوم عليه، والثانية إخبار عن الحكم، وإن كانا متلازِمَيْن، وإن أفادت الثانية معنى الحصر فإنه لا جزاءَ له غيره. والقول (¬4) الثاني: أن {جَزَاؤُهُ} الأول مبتدأ وخبرُه الجملة الشرطية، والمعنى: جزاءُ السارق (¬5) أن مَنْ وُجِد المسروق في رَحْله كان هو الجزاء، كما تقول: جزاء السرقة مَنْ سرق قطعَت يدهُ، وجزاء الأعمال مَنْ عمل حسنة فبعشر أو سيئة فبواحدة، ونظائره. قال شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬6): وإنما احتمل الوجهين لأن الجَزَاء قد يراد به نفس ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "أو". (¬2) انظرهما في "معاني القرآن وإعرابه" (3/ 121) للزجاج، "الجدول في إعراب القرآن" (7/ 36)، "الإعراب المفصل" (5/ 348). (¬3) قال (و): "الذي في "الفتاوى" عن إعراب الكلام هو ما يأتي: "وقوله: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} فيه وجهان، أحدهما: أنه هو خبر المبتدأ، وقوله بعد ذلك: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جملة ثانية مؤكدة للأولى، والتقدير: في جزاء هذا الفعل نفس من وجد في رحله فإن ذلك هو الجزاء في ديننا، كذلك نجزي الظالمين. والثاني: أن قوله {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75]، جملة شرطية هي خبر المبتدأ والتقدير: جزاء السارق هو أنه من وجد الصاع في رحله، كان هو الجزاء، كما تقول: جزاء السرقة ممن سرق قطع يده" (ص 315 ج 3) فتاوى ابن تيمية، وبعد هذا مباشرة: وإنما احتمل الوجهين إلخ". اهـ. قلت: وهو في "بيان الدليل" (ص 274) كذلك، ثم قال (و): "وهذا يؤكد أن "الفتاوى" حدث فيها تعديل أو تغيير بالحذف أو بالزيادة"!! (¬4) في (ق): "والوجه الثاني". (¬5) في (ك) و (ق): "السرق". (¬6) الكلام ما زال متواصلًا وحدة واحدة؛ سابقًا ولاحقًا، وتابع مع "بيان الدليل" (ص 274 - فما بعد).

الحكم باستحقاق العقوبة، وقد يراد به نفس فعل العقوبة، وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المُعاقَب؛ [والمقصود أن إلهام اللَّه سبحانه [لهم هذا الكلام] (¬1) كيدٌ كاده ليوسف خارج] (¬2) عن قدرته؛ إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا: لا (¬3) جزاءَ عليه حتى يثبت أنه هو الذي سَرَقَ؛ فإن مجرد وجوده في رَحْله لا يوجب ثبوت السرقة (¬4)، وقد كان يوسف عادلًا لا [يمكنه أن] (¬5) يأخذهم بغير حجَّة، [وقد كان يمكنهم أن] (¬6) يقولوا: [جزاؤُه أن] يُفعل (¬7) به ما يُفعل بالسَّراق في دينكم، وقد كان في (¬8) دين ملك مصر -كما قاله أهل التفسير- أن يُضرب السارق (¬9) ويُغرَّم قيمة المسروق مرتين، ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يلزمهم ما لا يلزمه غيرهم (¬10)، ولهذا قال تعالى (¬11): {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، أي: ما كان يمكنه أخذه في دين ملك بمصر؛ إذ لم يكن في دينه طريقٌ له إلى أخذه (¬12)، [وعلى هذا فقوله:] (¬13) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع، [أي] (¬14) لكن إن شاء اللَّه أَخَذَه بطريق آخر، أو يكون متصلًا على بابه؛ أي إِلا أن يشاء اللَّه ذلك فيهيئ له سببًا (¬15) يُؤخذ به في دين الملك من ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "هذا الكلام لهم". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "فلما تكلموا بهذا الكلام كان إلهام اللَّه لهم هذا كيدًا ليوسف خارجًا". (¬3) في (ق): "ما"!! (¬4) في "بيان الدليل": "لا يوجب حكم السارق". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (د)، و (ط) و (ق). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "أو". (¬7) في "بيان الدليل": "يقولوا: جزاؤه أن نفعل"، وما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام". (¬8) في "بيان الدليل" و (ق): "من". (¬9) في "بيان الدليل": "فيما ذكره المفسرون أن السارق ليضرب"، وانظر: "الجامع لأحكام القرآن" (9/ 22 - 23)، و"التفسير الكبير" (18/ 184)، و"المحرر الوجيز" (8/ 31). (¬10) كذا في (ق) و (ك) و"بيان الدليل"، وفي سائر النسخ: "يلزمهم بما لا يلزم به غيرهم". (¬11) في "بيان الدليل" و (ك) و (ق): "سبحانه". (¬12) في "بيان الدليل": "لأن دينه لم يكن فيه طريق إلى أخذه". (¬13) ما بين المعقوفات سقط من مطبوع "بيان الدليل"!! (¬14) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬15) في "بيان الدليل": "أو يكون مصلًا بأن يهيئ اللَّه سبحانه سببًا آخر طريق".

[ما تدل عليه قصة يوسف]

الأسباب التي كان الرجل [في دين الملك] (¬1) يُعتقل بها، فإذا كان المراد بالكَيْد (¬2) فعلًا من اللَّه -بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورًا يحصل بها مقصودُه من الانتقام (¬3) من الظالم- و [وغير ذلك؛ فإذا هذا خارج] (¬4) عن الحيل الفقهية؛ فإن كلامنا في الحيل التي (¬5) يفعلها العبد، لا فيما يفعله اللَّه تعالى (¬6)، بل في قصة يوسف تنبيهٌ على [بطلان الحيل و] (¬7) أن مَنْ كاد كيدًا محرَّمًا؛ فإن اللَّه يكيده [ويعامله بنقيض قصده وبمثل عمله] (7)، وهذه (¬8) سنة اللَّه في أرباب الحيل (¬9) المحرمة أنه لا يبارك لهم فيما نالوه بهذه الحيل (¬10)، [كما هو الواقع] (¬11) ويهيء لهم كيدًا على يد من يشاء من خلقه يُجْزَوْنَ به من جنس كيدهم وحيلهم] (7). [ما تدل عليه قصة يوسف] وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على اللَّه إذا كاده الخلقُ فإن اللَّه يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة. (¬12) وفيها دليلٌ على أن وجود المسروق بيد السارق كافٍ في إقامة الحد عليه، بل هو بمنزلة إقراره، وهو أقوى من البينة (¬13)، وغاية البينة أن يستفاد منها ظن، وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين وبهذا جاءت السنة في وجوب الحد بالحَبَلِ (¬14) والرائحة في الخمر (¬15) كما اتفق عليه الصحابة، والاحتجاج بقصة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من مطبوع "بيان الدليل". (¬2) في نسخ "الإعلام": "من الكيد". (¬3) في "بيان الدليل": "بالانتقام". (¬4) في نسخ "الإعلام": "كان هذا خارجًا". (¬5) في "بيان الدليل": "فإنا إنما تكلمنا في حيل". (¬6) في "بيان الدليل" و (ك): "اللَّه سبحانه". (¬7) ما بين المعقوفات سقط من مطبوع "بيان الدليل"!! (¬8) في (ن) و (ك) و (ق): "وهو". (¬9) في "بيان الدليل": "مرتكب الحيل". (¬10) في "بيان الدليل": "فإنه لا يبارك له في هذه الحيل". (¬11) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬12) من هنا إلى آخر الفصل تصرف فيه كثيرًا ابن القيم، وزاد على ما في "بيان الدليل". (¬13) انظر مبحث إقامة الحد بالقرينة الظاهرة في "الطرق الحكمية" (ص 4، 6 مهم)، وبدائع الفوائد" (4/ 13)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 417 - 419). (¬14) يشير إلى حديث الغامدية الذي رواه مسلم (1695) في الحدود: باب من اعترف على نفسه بالزنا حيث اعترفت أنها حُبلى من الزنا. لكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجمها بعد الاعتراف. (¬15) ورد في صحيح مسلم في حديث ماعز (1695) لما جاء واعترف بالزنا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أشرب خمرًا؟ فقام رجل فاستَنْكهه فلم يجد منه ريح خمر. لكن ليس فيه ما يدل على أن ريح الخمر فيها الحد. =

فصل [النوع الثاني من كيد الله تعالى لعبده]

يوسف على هذا أحسن وأوضح (¬1) من الاحتجاج بها على الحيل (¬2). وفيها تنبيه على أن العِلَم الخفيّ [الذي] (¬3) يُتوصَّل به إلى المقاصد الحسنة مما يرفع اللَّه به درجات العبد؛ لقوله بعد ذلك: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم (¬4). وقد أخبر تعالى عن رفعه درجات أهل العلم في ثلاثة مواضع من كتابه: أحدها: قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بعلم الحجة. وقال في قصة يوسف: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] [فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء] (¬5) بالعلم الخفي الذي يتوصل به صاحبه إلى المقاصد المحمودة. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فأخبر أنه يرفع درجات أهل العلم والإيمان (¬6). فصل (¬7) [النوع الثاني من كيد اللَّه تعالى لعبده] النوع الثاني من كيده لعبده [المؤمن] (¬8): هو أن يُلْهمه سبحانه (¬9) أمرًا مباحًا ¬

_ = وقد ذكر المؤلف من قبل أن الخلفاء الراشدين والصحابة جلدوا في الرائحة في الخمر، فانظر ما خرجناه هناك. (¬1) في (ك) و (ق): "وأصح". (¬2) في (ن): "أحسن وأصح من الاحتيال بها على الحيل". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1901) بإسناد ضعيف. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬6) قال (و): "يوجد اختلاف كثير عما في "الفتاوى"، وهذا من أول: "عبر عن قصة يوسف". إلى قوله: "العلم والإيمان" اهـ. قلت: وقد أشرنا إلى ذلك أيضًا. (¬7) قال (و): "هو من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في "فتاويه"، ينقله ابن القيم في الأعلام" اهـ. قلت: الكلام كله سابقًا ولاحقًا هو عن "بيان الدليل" متواصلًا. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬9) في (د) و (ط): "تعالى"، وفي (و): "سبحانه وتعالى".

فصل [الجواب عن حديث أبي هريرة في تمر خيبر من صور النزاع]

أو مستحبًا أو واجبًا يوَصِّله به إلى المقصود الحسن؛ فيكون على هذا إلهامه ليوسف أن يفعل ما فعل هو من كيده تعالى (¬1) أيضًا، وقد دل على ذلك قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فإن فيه (¬2) تنبيهًا على أن العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح، كما أن العلم الذي يخصم به المبطَل صفةُ مدحٍ [حيث قال في قصة إبراهيم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83].] (¬3)؛ وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، لكن لا يجوز أن يُراد به الكيد الذي تُستحلُّ به المحرمات أو تسقط به الواجبات؛ فإن هذا كيدٌ للَّه، واللَّه هو الذي يكيدُ الكائدَ، ومحال (¬4) أن يشرع اللَّه تعالى أن يُكاد دينُه، وأيضًا فإن هذا الكيد لا يتم إِلا بفعل يُقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحال أن يشرع اللَّه لعبده أن يقصدَ بفعله ما لم يشرع اللَّه ذلك الفِعَل له (¬5). فهذا هو الجواب عن احتجاج المتحيلين بقصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقد تبين أنها من أعظم الحجج عليهم، وباللَّه التوفيق (¬6). فصل [الجواب عن حديث أبي هريرة في تمر خيبر من صور النزاع] وأما حديث أبي هريرة وأبي سعيد "بع الجَمْع (¬7) بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" (¬8) فما أصحه من حديث، ونحن نتلقاه بالقبول والتسليم، والكلام معكم فيه من (¬9) مقامين: ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل" و (ك) و (ق): "سبحانه". (¬2) في نسخ "الإعلام": "فيها"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام" كلها. (¬4) في "بيان الدليل": "واللَّه هو المكيد في مثل هذا، فمحال". (¬5) إلى هنا انتهى نقله عن شيخ الإسلام، مع وجود زيادة في "بيان الدليل" (ص 277 - 287)، أولها "وأيضًا فإن الأمر المشروع هو عام لا يختص به شخص دون شخص، فالشيء إذا كان مباحًا لشخص؛ كان مباحًا لكل من كان مثل حاله،. . . " فانظرها هناك. (¬6) قال (و): "هناك بعد هذا كلام ذكره ابن تيمية عن القصة (ص 217) ج 3 فتاوى" اهـ. قلت: وهو الذي أشرت إليه آنفًا. (¬7) في بعض الطبعات [ط، د]: "الجميع" وهو خطأ؛ فالجمع: كل لون من النخيل لا يعرف اسمه، أو هو تمر رديء مختلط من أنواع متفرقة، ولا يرغب فيه" قاله (و)، وما بين المعقوفتين منِّي، والتعريف الثاني هو المراد، وهو عكس الجنيب، فانظر: "لسان العرب" (1/ 695، 862) لابن منظور. (¬8) سبق تخريجه. (¬9) في (ك) و (ق): "في".

[بحث في دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام]

أحدهما: إبطال استدلالكم به على جواز الحيل (¬1). وثانيهما (¬2): بيان دلالته على نقيض مطلوبكم؛ إذ هذا شأن كل دليل صحيح احتج به محتج على باطل؛ فإنه لا بد أن يكون فيه ما يدل على بطلان قوله ظاهرًا أو إيماءً، مع عدم دلالته على قوله. [بحث في دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام] فأمَّا المقام الأول فنقول: غاية ما دل الحديث [عليه] (¬3) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره أن يبيع سلعته الأولى بثمنٍ ثم يبتاع بثمنها تمرًا آخر، ومعلوم قطعًا أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يأذن في العقد الباطل؛ فلا بد أن يكون العقد الذي أذن فيه صحيحًا، والشأن كل الشأن في العقد المتنازع فيه؛ فلو سلم لكم المنارعُ صحته لاستغنيتم عن الاستدلال بالحديث، ولا يمكن الاستدلال [بالحديث] (¬4) على صحته؛ لأنه ليس بعام؛ فإن قوله: "بع" مطلق لا عام؛ فهذا البيع لو كان صحيحًا متفقًا على صحته لم يكن هناك لفظ عام يحتج به على تناوله، فكيف وهذا البيع مما قد دلت السنة الصحيحة وأقوالُ الصحابة والقياسُ الصحيح على بطلانه كما تقدم؟ ولو اختلف رجلان في بيعٍ هل هو صحيح أو فاسد، وأراد كل واحد منهما إدخاله في هذا اللفظ؛ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا المطلق؛ فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع ألبتة. ونكتة الجواب أن يقال: الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ومَنْ سلَّم لكم أن هذه الصورة التي تَوَاطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعلا (¬5) السلعة الدخيلة محللًا له غير مقصودة بالبيع بيعٌ صحيح؟ واذا كان الحديث ليس فيه عموم، وإنما هو مطلق، والأمر بالحقيقة المطلقة لشى أمرًا بشيء من صُورَها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد، والقَدْر المشترك ليس هو ما (¬6) يميز به كل واحد من الأفراد عن (¬7) الآخر، ولا هو مستلزمًا له؛ فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال، وإن كان مستلزمًا لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون ¬

_ (¬1) في (ك): "التحيل". (¬2) في (ك) و (ق): "والثاني". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "وجعل". (¬6) في (ك) و (ق): "مما". (¬7) في (ك): "على".

عامًا لها على سبيل البَدَل، لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع (¬1)، وهو المطلق (¬2) في قوله: "بع هذا الثوب" لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا أو كذا، ولا بهذه السوق أو هذه؛ فإن اللفظ لا دلالة له على شيء [من شيء] (¬3) من ذلك، إذا أتى بالمسمَّى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة [وجود] (¬4) تلك القيود، وهذا الأمر لا خلاف فيه، لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إِلا بقرينة وهو خطأ، والصواب أن القيود لا تنافي الأمر ولا تستلزمه، وإن كان لزوم بعضها لزومًا عقليًا ضرورة وقوع القدر المشترك في ضمنِ قيدٍ من تلك القيود، وإذا تبين هذا فليس في الحديث أمره أن يبيع التمر لبائع النوع الآخر ولا لغيره ولا بحلولٍ ولا بأجلٍ (¬5) ولا بنقدِ البلد ولا غيره (¬6) ولا بثمن المثل أو غيره، وكل هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعمٌ أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها، وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بثمن مؤجَّل أو بغير نقد البلد من العُرْفِ الذي ثبت للبيع المطلق، وكذلك ليس في اللفظ ما يدل على أنه يبيعه من البائع بعينه ولا غيره، كما ليس فيه ما يمنعه، بل كل واحد من الطرفين يحتاج إلى دليل خارج عن اللفظ المُطْلق؛ فما (¬7) قام الدليل على إباحته أبيح فعله بالدليل الدال على جوازه لا بهذا اللفظ وما قام دليل على المنع منه لم يُعارَض دليلُ المنع بهذا اللفظ المطلق حتى يطلب الترجيح، بل يكون دليل المنع سالمًا عن المعارضة بهذا، فإن عورض بلفظ عام متناول لإباحته بوضع اللفظ له أو بدليل خاص صحت المعارضة؛ فتأمل هذا الموضع (¬8) الذي كثيرًا ما يغلط فيه الناظر والمناظر، وباللَّه التوفيق. وقد ظهر بهذا جواب مَنْ قال: "لو كان الابتياع من المشتري حرامًا لنهى ¬

_ (¬1) انظر في الفرق بين المطلق والعام: "كشف الأسرار" (1/ 312 - وما بعده) و"المدخل إلى علم أصول الفقه" (192 وما بعدها) للدواليبي، و"المناهج الأصولية في الاجتهاد بالرأي" (573) للدريني، وتعليقي على "الخلافيات" (1/ 494). (¬2) في هامش (ق): "لعله: كالمطلق". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬5) في المطبوع: "ولا تأجيل". (¬6) في (ك) و (ق): "بغيره". (¬7) في (ك): "فيما". (¬8) كذا في (ك) و (ق)، وفي سائر الأصول: "الوضع".

عنه" فإن مقصوده -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كان لبيان (¬1) الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع (¬2) وموانعه؛ لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة، أو لأن المخاطب أحِيلَ على فهمه وعلمه بأنه إنما أُذِن له في بيعٍ يتعارفه الناس، وهو البيع المقصود في نفسه، ولم يُؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربًا صريح، وكان القوم أعلم باللَّه ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه أذِنَ لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيعٌ وباطنها ربًا، ونحن نشهد باللَّه أنه كما لم يأذن فيها بوجه لم يفهمها عنه أصحابه بخطابه بوجه، وما نظير هذا الاستدلال إِلا استدلال بعضهم على جواز أكل [كل] (¬3) ذي الناب والمخْلَب بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، واستدلال آخر بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] على جواز نكاح الزانية المُصِرَّة على الزنا، واستدلال آخَرَ على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ]} (¬4) [النور: 32]، واستدلال غيره به على صحة نكاح التحليل بذلك (¬5)، وعلى صحة نكاح المتعة، واستدلال آخر (¬6) على جواز نكاح المخلوقة من مائهِ إذا كان زانيًا، ولو أن رجلًا استدل بذلك على [جواز] (¬7) نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأخَذَ يُعَارض به السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال، بل لو استدل به على كل نكاح حرَّمته السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال، وكذلك قوله: "بع الجمع" (¬8) لو استدل به مستدلٌ على بيع من البيوع المتنازع فيها لم يكن فيه حجة، وليس الغالب (¬9) أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يُقال: هذه الصورة غالبة فيُحمل اللفظ عليها، ولا هو المتعارف عند الإطلاق عرفًا وشرعًا. وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها من اللفظ ممتنع، وإرادتها مع غيرها فرعٌ على عمومه، ولا عُمُومَ له، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفًا وشرعًا، وعلى التقديرات كلها لا تدخل هذه الصورة. ¬

_ (¬1) في (ق): "بيان". (¬2) في (ك): "المبيع". (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ن) و (ق): "نكاح المحلل". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "آخرين". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (د) و (ط): "بع الجميع"! وهو خطأ كما تقدم. (¬9) في المطبوع: "بالغالب".

ومما يدل على ذلك أن هذه الصورة لا تدخل في أمر الرجل لعبده وولده ووكيله أن يشتري له كذا، فلو قال: "بع هذه الحنطة العتيقة واشْتَرِ لنا جديدة" لم يفهم السامع إِلا بيعًا مقصودًا، وشراءً (¬1) مقصودًا، فثبت أن الحديث ليس فيه إشعار بالحيلة الربوية البتة. يوضحه أن قوله: "بع كذا، واشتر كذا" أو "بعت، واشتريت" لا يفهم [منه] (¬2) إِلا البيع الذي يُقْصَد به نَقلُ ملك المبيع نقلًا مستقرًا؛ ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المكرِه، ولا بيع الحيلة، ولا بيع العِينَةِ، ولا يعدُّ الناسُ من اتخذ خرزةً أو عرضًا يحلل به الرِّبا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصوده تاجرًا، وإنما يسمونه مرابيًا ومتحيلًا، فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ يزيدهُ إيضاحًا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوْكسُهُما أو الربا" (¬3) و"نهى عن بيعتين في بيعة" (¬4)، ومعلومٌ أنهما متى تواطَئَا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون ما نهى عنه داخلًا تحت ما أذن فيه (¬5). يوضحه أيضًا أنه قال: "لا يحل سَلَفٌ وبيع، ولا شَرْطان في بيع" (¬6) وتواطؤهما على أن يبيعه السلعة بثمن ثم يشتري منه غيرها بذلك الثمن منطبق على لفظ الحديث؛ فلا يدخل ما أخبر أنه لا يحل تحت ما أذن فيه. يوضحه أيضًا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" (¬7) وهذا يقتضي بيعًا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معًا؛ فلا يكون الثاني عقدًا مستقلًا مبتدأ، بل هو من تتمّة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهرُ الحديثِ أنه أمر بعقدين مستقلين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه. ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "أو شراء". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) قال في (د) و (ط): "في نسخة: "داخلًا فيما أذن فيه" (انظر: "إعلام الموقعين" ط المنيرية ج 3 ص 197) ". وما بين المعقوفتين زيادة (ط) على (د)، والنسخ المشار إليها هي (ن) و (ك) و (ق). (¬6) سبق تخريجه. (¬7) الحديث سبق تخريجه قريبًا، وفي (د) و (ط) و (ح): "بع الجميع"!!

فصل [حكمة مشروعية البيع تمنع من صورة الحيلة]

ولو نَزَلنا عن ذلك كله وسلمنا أن الحديث عام عمومًا لفظيًا يدخل تحته صورة الحيلة فهو لا ريب مخصوص بصور كثيرة؛ فنخص منه هذه الصورة المذكورة بالأدلة المتقدمة على بطلان الحيل وأضعافها، والعام يُخص بدون مثلها بكثير، فكم قد خَصَّ العمومَ المفهومُ وخبرُ الواحد والقياسُ (¬1) وغيرُ ذلك، فتخصيصه (¬2) -لو فرض عمومه- بالنصوص والأقيسة وإجماع الصحابة على تحريم الحيل أولى وأحرى، بل واحد من تلك الأدلة التي ذكرناها على المنع من الحيل وتحريمها كاف في التخصيص، وإذا كنتم قد خصصتم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن اللَّه المحلل والمحلل له" (¬3) مع أنه عام عمومًا لفظيًا فخصصتموه بصورة واحدة وهي ما اشترطا في صُلْب العقد أنه إنما تزوجَّها ليحلها ومتى أحلَّها فهي طالق، مع أن هذه الصورة نادرة جدًا لا يفعلها محلل (¬4)، والصور الواقعة في التحليل أضعاف [أضعاف] (¬5) هذه، فحملتم اللفظ العام عمومًا لفظيًا ومعنويًا على أنْدَرِ صورة تكون لو قدر وقوعها، وأخليتموه عن الصور الواقعة المستعملة بين المحللين؛ فقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بع الجمع بالدراهم" (¬6) أولى بالتقييد بالنصوص الكثيرة والآثار والأقيسة الصحيحة التي هي في معنى الأصل وحمله على البيع المتعارف المعهود عُرفًا وشرعًا، وهذا بحمد اللَّه تعالى في غاية الوضوح، ولا يخفى على منصف يريد اللَّه ورسوله والدار الآخرة، وباللَّه التوفيق. فصل [حكمة مشروعية البيع تمنع من صورة الحيلة] ومما يوضح فساد حمل الحديث على صورة الحيلة وأن كلام الرسول ومنصبه العالي منزَّه (¬7) عن ذلك أن المقصود الذي شرع اللَّه تعالى له البيع وأحلّه لأجله هو أن يحصل ملك الثمن للبائع ويحصل ملك المبيع للمشتري؛ فيكون كلٌّ منهما قد حصل له مقصوده بالبيع، هذا ينتفع بالثمن وهذا بالسلعة، ولهذا إنما ¬

_ (¬1) انظر في هذه المباحث "الموافقات" للشاطبي (4/ 9، 15، 18، 19)، والتعليق عليه، وفي (ق): "بالمفهوم". (¬2) في (ك) و (ق): "فنخصه". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في المطبوع: "المحلل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬6) الحديث سبق تخريجه قريبًا، وفي (د) و (ط) و (ح): "بع الجميع"!! (¬7) في (ك): "بمنزلة".

يكون إذا قَصَد المشتري نفسَ السِّلعة للانتفاع بها أو التجارة فيها وقَصَد البائع نفس الثمن، ولهذا يحتاط كل واحد منهما فيما يصير إليه من العرض هذا في وزن الثمن ونقده ورواجه وهذا في سلامة السلعة من العيب وأنها تساوي الثمن الذي بَذله فيها، فإذا كان مقصود كل منهما ذلك فقد قصدا بالسبب ما شرعه اللَّه له (¬1)، وأتى بالسبب حقيقة وحكمًا، وسواء حصل مقصوده بعقد أو توقَّف على عقود مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لا تباع [سلعته بها لمانعٍ] (¬2) شرعيٍّ أو عرفي أو غيرهما فيبيع سلعته ليملك ثمنها وهذا بيعٌ مقصود وعوضه مقصود ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى، وهذه قصة بلال في تمر خيبر سواء، فإنه إذا ابتاع الجميع (¬3) بالدراهم فقد أراد بالبيع ملك الثمن وهذا مقصود مشروع، ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبًا فقد عقد عقدًا ([مقصودًا مشروعًا] (¬4)؛ فلما كان بائعًا قصد [تملك الثمن حقيقة، ولما كان مبتاعًا قصد] (4) تملك) (¬5) السلعة حقيقة، فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري [منه] (¬6) فهذا لا محذور فيه؛ إذ كل من العقدين مقصود مشروع، ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض وغيرهما، وأما إذا أبتاع بالثمن من مبتاعه من جنس ما باعه فهذا يخشى منه أن لا يكون العقد الأول مقصودًا لهما، بل قصدهما بيع السلعة الأولى بالثانية فيكون ربًا بعينه، ويظهر هذا القصد بأنهما يتفقان على صاع بصاعين أولًا ثم يتوصلان (¬7) إلى ذلك ببيع الصاع بدرهم ويشتري به صاعين (¬8) ولا يبالي البائع بنقد ذلك الثمن ولا بقَبْضه ولا بعيب فيه ولا بعدم رواجه ولا يحتاط (¬9) لنفسه فيه احتياطَ مَنْ قَصْدُه تملكُ الثمن؛ إذ قد علم هو والآخر أن الثمن بعينه خارج منه عائد إليه، فنقدُهُ وقبضُه والاحتياط فيه يكون عبثًا، وتأمل حالَ باعةِ الحلي عِينة (¬10) كيف يخرج كل حلقة من غير جنسه ¬

_ (¬1) في (ق): "ما شرع له". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بسلعته بمانع". (¬3) في (ك) و (ق): "باع الجمع". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬5) بدل ما بين القوسين في (ق): "مبتدأ قصد تلك". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ك) و (ق): "يتوصلا". (¬8) في (ن): "بيع السلعة بدرهم، ويشتري بالصاعين". (¬9) في (ن): "ولا يحتاج". (¬10) كذا في (ط) و (و) و (ك) وقال (و): "في الأصل: عنه. وهو تحريف ظاهر". ونحوه في (د)، وقال (ط): "في الأصول: "عنه" ولا معنى لها. والصحيح ما أثبتناه؛ فصورة العينة: أن يشتري السلعة بألف مؤجلة، ثم يبيعها لبائعها بثمان مئة حالة مثلًا" اهـ.

أو قطعة ما ويبيعك إياها بذلك الثمن ثم يبتاعها منك؟ فكيف لا تسأل عن قيمتها ولا عن وزنها ولا مساواتها للثمن؟ بل قد تساوي أضعافه وقد تساوي بعضه؛ إذ ليست هي القصد، وإنما القصدُ أمرٌ وراءها وجعلت هي محللًا لذلك المقصود، وإذا عرف هذا فهو إنما عقد معه العقد الأول ليعيد إليه الثمن بعينه ويأخذ العوض الآخر، وهذا تواطؤ منهما حين عَقَداه على فسخه، والعقد إذا قصد به فسخه لم يكن مقصودًا، وإذا لم يكن مقصودًا كان وجوده كعدمه، وكان توسطه عبثًا. ومما يوضح الأمر في ذلك أنه إذا جاءه بتمر أو زبيب أو حنطة ليبتاعه (¬1) به من جنسه فإنهما يتشارطان ويتراضيان (¬2) على سعر أحدهما من الآخر، وأنه مد بمد ونصف مثلًا، ثم بعد ذلك يقول: بعتك هذا بكذا وكذا درهمًا، ثم يقول: بعني بهذه الدراهم كذا وكذا صاعًا من النوع الآخر، وكذلك في الصرف، وليس للبائع ولا للمشتري غرض في الدراهم، والغَرَضُ معروفٌ، فأين من يبيعه السلعة بثمن ليشتري به منه من جنسها إلى من (¬3) يبيعه إياها بثمن له غرض في تملكه وقبضه؟ وتوسطُ الثمن في الأول عبثٌ محض لا فائدة فيه، فكيف يأمر به الشارع الحكيم مع زيادة التعب والكلفة فيه. ولو (¬4) كان هذا سائغًا لم يكن في تحريم الربا حكمة -سوى تضييع الزّمان وإتعاب النفوس بما لا فائدة فيه (¬5)؛ فإنه لا يشاء أحد أن يبتاع ربويًا بأكثر منه من جنسه [الأول] (¬6) إِلا قال: بعتك هذا بكذا، وابتعت منك هذا بهذا الثمن؛ فلا يعجز أحد عن استحلال ما حرمه اللَّه قط بأدنى الحيل. يوضحه أن الربا نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة، فأمَّا ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوي أن يقول: بعتك هذا المال بكذا، ويُسَمَّي ما شاء، ثم يقول: اشتريت منك هذا -للذي هو من جنسه- بذلك الذي سمَّاه، ولا حقيقة له مقصودة، وأما ربا النسيئة فيمكنه أن يقول: بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعًا إلى سنة، وابتعتها منك بخمس مئة حالَّة أو خمسة عشر صاعًا، ويمكنه ربا الفضل، فلا يشاء مُرَابٍ (¬7) إِلا أقرضه ثم حاباه في بيع أو إجارة أو غيرهما، ويحصل ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "ليبتاع". (¬2) في (ن) و (ق): "ويتراوضان". (¬3) في (ك) و (ق): "أن". (¬4) من هنا إلى نهاية هذا الفصل في "بيان الدليل" (ص 282 - وما بعد). (¬5) في المطبوع: "بلا فائدة فإنه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ك) و (ق): "مرب".

فصل [الحكم إذا باع ربويا بثمن]

مقصوده من الزيادة، فيا سبحان اللَّه! أيعود الربا -الذي قد عَظم اللَّه شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله (¬1)، ولعن آكله وموكله وشاهديه (¬2) وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجيء في غيره- إلى أن يُسْتَحل نوعاه بأدنى حيلة لا كلفْةَ فيها أصلًا إِلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها؟ فكيف يستحسن أن ينسب إلى نبي من الأنبياء فضلًا عن سيد الأنبياء، بل أن يَنسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحرمات العظيمة ويوعد عليها بأغلظ العقوبات وأنواع الوعيد، ثم يبيحها بضرَبٍ من الحيل والعبث والخداع الذي ليس له حقيقة مقصودة [البتّة] (¬3) في نفسه للمتعاقدين؟ وترى كثيرًا من المرابين (¬4) -لمَّا علم أن هذا العقد ليس له حقيقة مقصودة البتة- قد جعل عنده خَرزَة ذهب، فكل من جاءه يريد أن يبيعه جنسًا بجنسه أكثر منه أو أقلَّ ابتاع منه ذلك [الجنس] (3) بتلك الخرزة، ثم ابتاع الخرزة بالجنس الذي يريد أن يعطيه إياه، أفيستجيز عاقلٌ أن يقول: إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلًا أحلَّها بهذه الخرزة؟ وكذلك كثير من الفجَّار (¬5) قد أعَدَّ سلعة لتحليل ربا النساء، فإذا جاءه مَنْ يريد ألفًا بألف ومئتين أدْخَلَ تلك السلعة محللًا، ولهذا كانت أكثر حيل الربا في بابها أغْلَظَ من حيل التحليل، ولهذا حرمها أو بعضَهَا من لم يحرم التحليل؛ لأن القصد في البيع معتبرٌ في فِطَرِ الناس؛ ولأن الاحتيال في الربا غالبًا إنما يتم بالمُوَاطأة اللفظية أو العرفية، ولا يفتقر إلى شهادة، ولكن يتعاقدان ثم يشهد (¬6) أن له في ذمته دينًا، ولهذا إنما لُعن شاهداه إذا عَلِما به، والتحليل لا يمكن إظهاره (¬7) وقت العقد؛ لكون الشهادة شرطًا فيه، والشروط المتقدمة تؤثر كالمقارِنَةِ كما تقدم تقريره؛ إذ تقديم الشرط ومقارنته لا يخرجه عن كونه عقدَ تحليلٍ ويدخله في نكاح الرغبة، والقصود معتبرة في العقود. فصل (¬8) [الحكم إذا بَاع ربويًا بثمن] وجماع الأمر أنه إذا باعه رِبَويًا بثمنٍ وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من ¬

_ (¬1) في (ق): "مستحليه". (¬2) في (ق): "وشاهده". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "المترابين". (¬5) في (ق): "التجار". (¬6) في المطبوع: "يشهدان". (¬7) في هامش (ق): "لعله: إِلا اظهاره". (¬8) ما تحته في "بيان الدليل" (ص 284 وما بعد) بتصرف واختصار.

جنسه، فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظًا، أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك أو لا يكون، فإن كان الأول فهو باطلٌ كما تقدم تقريره؛ فإن هذا لم يقصد ملك الثمن ولا قصد هذا تمليكه، وإنما قصد تمليك المُثْمن بالمثمن (¬1)، وجعلا تسمية الثمن تلبيسًا وخداعًا ووسيلة إلى الربا؛ فهو في هذا العقد بمنزلة التّيْسِ الملعون في عقد التحليل، وإن لم تَجْرِ بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه ربويًا بربوي فكذلك؛ لأن عِلْمه بذلك ضرب من المواطأة، وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان (¬2) به عن قصد الربا، وإن قَصَد البائعُ الشراءَ منه بعد البيع ولم يعلم المشتري؛ فقد قال الإمام أحمد: هاهنا لو باع من رجل دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبًا إِلا أن يمضي ويبتاع بالورِقِ من غيره ذهبًا، فلا يستقيم فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبًا (¬3)، وكذلك (¬4) كره مالك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير، ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك في الوقت أو بعد يوم أو يومين، قال ابن القاسم: فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به (¬5)؛ فوجه ما منعه الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- أنه متى قصد المشتري منه تلك الدنانير لم يقصد تملك الثمن، ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن، ولهذا يقول: إنه متى بَدَا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه -بأن يطلب من غيره فلا يجد- لم يكن في العقد الأول خَلَلٌ -والمتقدمون من أصحابه حملوا هذا المنع منه على التحريم (¬6). وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إذا لم يكن شرطٌ (¬7) ومواطأة بينهما لم يحرم (¬8)، وقد أوما إليه الإمام أحمد في رواية حرب؛ فإنه قال: قلت لأحمد: أشتري من رجل ذهبًا ثم أبتاعه (¬9) منه، قال: بَيْعُه من غيره أحَبُّ إليَّ (¬10)، وذكر ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "الثمن بالثمن". (¬2) في (ك): "يخرج". (¬3) انظر: "المغنى" (6/ 114 - جامعة الإمام)، و"الإنصاف" (5/ 50 - دار إحياء التراث العربي)، و"الفروع" (4/ 167). (¬4) في (ك): "ولذلك". (¬5) انظر: "المدونة الكبرى" (3/ 403 - دار صادر بيروت). (¬6) في (ك): "منه هذا المنع على التحريم"، وفي (ق): "هذا المنع على التحريم". (¬7) في (ن) و (ك) و (ق): "غرض". (¬8) انظر: "المغني" (6/ 114 - جامعة الإمام)، و"الفروع" (4/ 167). (¬9) في (ك): "باعه". (¬10) في (ن) و (ك) و (ق): "يبيعه من غيره أعجب إلي".

[حكم بيع الدراهم بالدنانير، ثم شراء هذه الدراهم بالدنانير]

ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى (¬1). [حكم بيع الدراهم بالدنانير، ثم شراء هذه الدراهم بالدنانير] وكره ابن سيرين للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير (¬2)، وهذه المسألة في ربا الفضل كمسائل العِينَةِ في النساء، ولهذا عدَّها من الربا الفقهاء السبعةُ وأكثر العلماء، وهو قول أهل المدينة كمالك وأصحابه (¬3)، وأهل الحديث كأحمد وأصحابه، وهو مأثور عن ابن عمر (¬4)؛ ففي هذه المسألة (¬5) قد عاد الثمن إلى المشتري (¬6)، وحصلا على ربا الفضل أو النساء، وفي العِينَة قد عاد المبيع إلى البائع وأفْضى إلى ربا الفضل والنساء جميعًا، ثم إن كان في الموضعين (¬7) لم يقصد الثمن ولا المبيع، وإنما جعل وُصْلَة إلى الربا؛ فهذا الذي لا ريب في تحريمه، والعقد الأول [هاهنا] (¬8) باطل بلا توقف عند من يبطل الحيل، وقد صرح به القاضي في مسألة العِينَة في غير موضع، وحكى أبو الخطاب في صحته وجهين. [من أحكام العينة] قال شيخنا (¬9): والأول هو الصواب، وإنما تردد مَنْ تردد من الأصحاب (¬10) في العقد الأول في مسألة العينة؛ لأن هذه المسألة إنما ينصب (¬11) الخلاف فيها في العقد الثاني بناءً على أن الأول صحيح، وعلى هذا التقدير فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسائل الذرائع، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي ¬

_ (¬1) انظر الرواية المشار إلبها في "الفروع" لابن مفلح (4/ 167). (¬2) انظر: "مصنف عبد الرزاق" (8/ 129). (¬3) انظر: "المحلى" (8/ 512)، و"الكافي" لابن عبد البر (2/ 637). (¬4) انظره في "مصنف عبد الرزاق" (8/ 126). (¬5) قال (و): في "الفتاوى": ففي هذين الموضعين" اهـ. قلت: وهو كذلك في "بيان الدليل" (ص 286). (¬6) في (ن): "على المشتري". (¬7) في (ك) و (ق): "الوصفين" وفي هامش (ق): "لعله الموضعين". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) قال (و): "ص 223 ج 3 فتاوى" اهـ. قلت: وهو في "بيان الدليل" (286). (¬10) في "بيان الدليل": "أصحابنا". (¬11) في نسخ "الإعلام": "ينسب"، وما أثبتناه من "بيان الدليل"، و (ن).

فصل [عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية]

حنيفة وأصحابه؛ [فإنهم لا يحرِّمون الحيل ويحرمون مسألة العينة] (¬1)، وهو أن الثمن (¬2) إذا لم يُسْتَوْفَ لم يتم العقد الأول؛ فيصير الثاني مَبنيًا عليه، وهذا تعليلٌ خارجٌ عن قاعدة الحيل والذرائع، فصار للمسألة (¬3) ثلاثة مآخذ، فلما لم يتمحض تحريمها على قاعدة الحيل توقَّف في العقد الأول مَنْ توقف، قال شيخنا رضي اللَّه عنه (¬4): والتحقيق أنها إذا كانت من (¬5) الحيل أعطيت حكم الحيل، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران، هذا إذا لم يقصد العقد الأول، فإن قصد حقيقته فهو صحيح (¬6)، لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه، ولا يجوز أن يبتاع منه بالثمن ربويًا لا يُباع بالأول نساء؛ لأن أحكام العقد الأول لا تتم (¬7) إِلا بالتقابض؛ فمتى لم يحصل التقابض كان ذريعةً إلى الربا (¬8)، وإن تقابضا وكان العقد مقصودًا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره، وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خِدَاع فيها ولا تحريم لم يصح أن تلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته (¬9) [من ملك الثمن والمثمن] (¬10) وإنما قصد [التوصل] (11) به [إلى] (¬11) استحلال ما حرَّمه اللَّه [من الربا] (10)، واللَّه الموفق. وإنما أطلنا الكلام على هذه الحجة لأنها عمدة أرباب الحيل من السنة، كما [أن] (¬12) عمدتهم من الكتاب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44]. فصل [عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية] فهذا تمام الكلام على المقام الأول، وهو عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية بوجهٍ من الوجوه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل"! (¬2) في "بيان الدليل": "وهو كون الثمن". (¬3) في "بيان الدليل": "فصار لها". (¬4) قال (و): "نفس المصدر السابق" اهـ. قلت: انظر: "بيان الدليل" (ص 287). (¬5) في "بيان الدليل": "في". (¬6) في "بيان الدليل": "فإن كانت العقد الأول مقصودًا فهو صحيح". (¬7) في "بيان الدليل": "لا تستوفي"، وفي (ك): "يتم". (¬8) في نسخ "الإعلام": "فإذا لم يحصل كان ذريعة إلى الربا". (¬9) في "بيان الدليل": "لم تقتصد حقيقته". (¬10) ما بين المعقوفتين أثبته من "بيان الدليل". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل"!! (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ن).

وأما المقام الثاني -وهو دلالته على تحريمها وفسادها- فلأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهاه أن يشتري الصاع بالصاعين، ومن المعلوم أن الصفة التي في الحيل مقصودة يرتفع سعره لأجلها، والعاقل لا يخرج صاعين ويأخذ صاعًا إِلا لتميز ما يأخذه بصفة أو لغرضٍ له في المأخوذ ليس في المبذول، والشارع حكيمٌ لا يمنع المكلف مما هو مصلحة له ويحتاج إليه إِلا لتضمنه أو لاستلزامه مفسدةً أرجح من تلك المصلحة، وقد خفيت هذه المفسدة على كثير من الناس حتى قال بعض المتأخرين: لا يتبين لي وجه تحريم ربا الفضل والحكمة فيه، وقد تقدم أن هذا من أعظم حكمة الشريعة ومراعاة مصالح الخلق، وأن الربا نوعان: ربا نسيئة، وتحريمه تحريم المقاصد، وربا فضل، وتحريمه تحريم الذرائع والوسائل؛ فإن النفوس متى ذاقت الربح فيه عاجلًا تسوَّرت منه إلى الربح الآجل، فسدَّت عليها الذريعة (¬1) وحمى جانب الحمى، وأي حكمة وحكم أحسن من ذلك؟ وإذا كان كذلك فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منع بلالًا من أخذ مدّ بمدِّين لئلا يقع في الربا (¬2)، ومعلوم أنه لو جوَّز له ذلك بحيلة لم يكن في منعه من بيع مدين بمد فائدة أصلًا، بل كان بيعه كذلك أسهل وأقل مفسدة من توسط (¬3) الحيلة الباردة التي لا تغني من المفسدة شيئًا، وقد نبه على هذا بقوله في الحديث: "لا تفعل" أوه (¬4)، عين الربا" (¬5) فنهاه عن الفعل، والنَّهي يقتضي المنع بحيلة أو غير (¬6) حيلة؛ لأن المنهي عنه لا بد أن يشتمل على مفسدة لأجلها يُنهى عنه، وتلك المفسدة لا تزول بالتحيُّل [عليها] (¬7)، بل تزيد، وأشار إلى المنع بقوله: " [أوه] (7) عين الربا" فدل على أن المنع إنما كان لوجود حقيقة الربا وعينه، وأنه لا تأثير للصورة المجردة مع قيام الحقيقة؛ فلا يهمل قوله: "عين الربا" فَتَحْتَ هذه اللفظة ما يشير إلى أن الاعتبار بالحقائق، وأنها هي ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بالذريعة". (¬2) رواه البخاري (2312) في (الوكالة): باب إذا باع الوكيل شيئًا فاسدًا فبيعه مردود، ومسلم (1594) في (المساقاة): باب بيع الطعام مثلًا بمثل، من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-. (¬3) في (ن) و (ق): "تربط". (¬4) "كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجع، وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء، وربما قلبوا الواو ألفًا فقالوا آه من كذا، وربما شددوا الواو وكسروها وسكنوا الهاء، وربما حذفوا الهاء" (و). (¬5) قطعة من حديث بلال السابق. (¬6) في (ق): "بغير". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [الجواب عن قولهم: إن الحيل معاريض فعلية]

التي عليها المعوَّل، وهي محل التحليل والتحريم، واللَّه تعالى لا ينظر إلى صُورَها وعباراتها التي يكسوها إياها العبد، وإنما ينظر إلى حقائقها وذواتها، واللَّه الموفق (¬1). فصل [الجواب عن قولهم: إن الحيل معاريض فعلية] وأما تمسكهم بجواز المَعَاريض وقولهم: "إن الحيل معاريضٌ فِعْلية على وزان المعاريض القولية" فالجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: ومَنْ سلَّم لكم أن المعاريض إذا تضمنت استباحَةَ الحرام وإسقاطَ الواجبات وإبطالَ الحقوق كانت جائزة؛ بل هي من الحيل القولية، وإنما تجوز المَعَاريض إذا كان فيها تخلُّص من ظالم، كما عَرَّضَ الخليل بقوله: "هذه أختي" (¬2)، فإذا تضمنت نصر الحق أو إبطال باطل كما عرَّض الخليل بقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وكما عرض المَلَكَان (¬3) لداود بما ضرباه له من المثال الذي نسباه إلى أنفسهما، وكما ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "وباللَّه التوفيق". (¬2) قطعة من حديث: "لم يكذب إبراهيم إِلا ثلاث كذبات": رواه البخاري (3357) في "أحاديث الأنبياء": باب قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} و (5084) في "النكاح": باب اتخاذ السراري مختصرًا، ومسلم (2371) في "الفضائل": باب من فضائل إبراهيم الخليل -صلى اللَّه عليه وسلم- مطولًا من طريق جرير بن حازم عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن أبي هريرة مرفوعًا به. ورواه البخاري (3358)، و (5084) من طريق حماد بن زيد عن أيوب به موقوفًا على أبى هريرة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 391): والحديث في الأصل مرفوع كما في رواية جرير بن حازم وكما في رواية هشام بن حسان عن ابن سيرين. . . وكذا تقدم في البيوع من رواية الأعرج عن أبي هريرة مرفوعًا، ولكن ابن سيرين كان غالبًا لا يصرح برفع كثير من حديثه. أقول: رواية هشام بن حسان عند أبي داود (2212)، وأبي يعلى (6039)، وابن حبان (5737)، ورواية الأعرج هي عند البخاري (2217، و 2635 و 6950) وهي في قصة سارة فقط لم يتعرض للكذبات الأخرى، وانظر كتابي "من قصص الماضين" (ص 90). (¬3) "هما خصمان، لا ملكان" (و).

عرَّض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "نحن من ماء" (¬1)، وكما كان يُوَرِّي عن الغزوة بغيرها (¬2) لمصلحة الإسلام والمسلمين إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا، كما عرَّض -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "إنا حاملوك على ولد الناقة" (¬3)، وبقوله: "إن الجنة لا تدخلها العُجُزُ" (¬4)، ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الجهاد): باب من أراد غزوة فورّى بغيرها، (رقم 2948)، وفي (كتاب المغازي): باب غزوة تبوك، (رقم 3951)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب التوبة): باب من حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه (2769/ 54)، من حديث كعب بن مالك -رضي اللَّه عنه-، وفي (ق): "يوري بالغزوة بغيرها". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مسنده" -كما في "النهاية" لابن كثير (ص 378) - والطبراني في "الأوسط" (5545)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (391) من طريق مسعدة بن اليسع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة مرفوعًا وفيه قصة. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 419): "وفيه مسعدة بن اليسع وهو ضعيف". أقول: مسعدة هذا أمره أشد، فقد قال أحمد: خرقنا حديثه منذ دهر. وكذَّبه أبو داود. وخالفه خارجة بن مصعب، فرواه عن سعيد عن قتادة عن أنس، فأسقط سعيد بن المسيب، وجعله من مسند أنس، أخرجه ابن الجوزي في "كتابه الوفا" (2/ 445 - ط المعرفة) - وهو مطبوع دون أسانيد!! -كما في "تخريج الزيلعي على الكشاف" (3/ 407). وخارجة هذا قال ابن معين: ليس بثقة، وقال أيضًا كذاب، وقال البخاري: تركه ابن المبارك ووكيع. وضعَّفه غير واحد. ومما يدل على وهمهما في هذا الحديث أن عبدة بن سليمان وهو من الثقات، بل أوثق الناس في سعيد وله عنه كتاب وروى عنه قبل الاختلاط وبعده، وكان يميز ذلك. رواه عن سعيد عن قتادة عن سعيد بن المسيب مرسلًا، أخرجه هناد في "الزهد" (24)، وله طريق آخر عن عائشة، رواه أبو الشيخ في "أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 78) أو (1/ 493 رقم 185 ط الونيان)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 142)، والبيهقي في "البعث والنشور" (343)، وفيه ليث بن أبي سُليم وهو ضعيف. ورواه الترمذي في "الشمائل" (230)، والبيهقي في "البعث" (346)، والبغوي في "تفسيره" (8/ 14)، وفي "الشمائل" (رقم 320)، وابن المنذر كما في "الدر المنثور" (8/ 15) من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري مرسلًا. ومبارك مدلس وقد عنعن. وهذه طرق موصولة ومرسلة، لعلها تجعل للحديث أصلًا. وروى الترمذي (3296)، والطبري (27/ 186)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (390)، =

[ما قيست عليه الحيل الربوية نوعان]

وبقوله: "مَنْ يشتري مني هذا العبد" (¬1) يريد عبد اللَّه، وبقوله لتلك المرأة: "زوجُك الذي في عينيه بياض" (¬2) إنما أراد به البياض الذي خلقه اللَّه في عيون بني آدم، وهذه (¬3) المعاريض ونحوها من أصدق الكلام، فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة؟ [ما قيست عليه الحيل الربوية نوعان] وقال شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬4): والذي قيست عليه الحيل الربوية وليست مثله نوعان: أحدهما: المعاريض، وهي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا، ويوهم غيره أنه يقصد به (¬5) معنًى آخر؛ فيكون سبب ذلك الوهم (¬6) كون اللفظ مشتركًا بين حقيقتين لغويتين أو عُرْفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع إحداهما (¬7)، فيعني (¬8) أحدَ معنييه ويوهم السامع [له] (¬9) أنه إنما عنى الآخر: إما لكونه لم يعرف إلا ذلك، وإما لكون دلالة الحال ¬

_ = والبغوي (8/ 14) من طريق موسى بن عبيدة عن يزيد الرقاشي عن أنس مرفوعًا "عجائزكُنّ في الدنيا عمشًا رمصًا. . " وليس فيه مزاحه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع المرأة العجوز. وضعفه الترمذي بموسى بن عبيدة، ويزيد بن أبان. (¬1) سبق تخريجه. (¬2) أخرج أبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (796) ومن طريقه ابن عساكر (4/ 43 - ط دار الفكر)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1400) عن يحيى بن سعيد العطار عن الصلت بن الحجاج عن عاصم الأحول عن أنس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لعائشة ذات يوم: "ما أكثر بياض عينيك". وإسناده ضعيف، فيه يحيى العطار، والصلت بن الحجاج، وهما ضعيفان، وانفردوا به. قال ابن عدي: "لا أعلم يرويه عن عاصم غير الصلت، ولا عنه غير يحيى العطار، وقال في الصلت -وأورد الحديث في ترجمته-، وفي بعض أحاديثه ما ينكر عليه، بل عامته كذلك، ولم أجد للمتقدمين فيه كلامًا"، وانظر "الميزان" (2/ 318)، و"اللسان" (3/ 194). (¬3) في (ق) و (ك): "فهذه". (¬4) في "بيان الدليل" (ص 255 - 260). (¬5) في "بيان الدليل": "قصد به". (¬6) في "بيان الدليل": "التوهم"، وفي (ق): "ويكون بسبب ذلك الوهم". (¬7) في "بيان الدليل": "أو لغوية مع أحدهما، أو عرفية مع شرعية". (¬8) في (ق): "فيعنيه". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل" و (ق) و (ك)، وبدله في (ن): "غير"!!

تقتضيه (¬1)، [وإما لقرينة حالية أو مقالية يضمها إلى اللفظ] (¬2)، أو يكون سبب التوهم كونَ اللفظ ظاهرًا في معنى فينوي به (¬3) معنى يحتمله باطنًا [فيه] (¬4)؛ بأن ينوي مَجَازَ اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاصَّ أو بالمطلق المقيدَ، أو يكون سببُ التوهم كونَ المخاطب إنما يفهم من (¬5) اللفظ غير حقيقته لعرفٍ خاصٍ به (¬6) أو غفلة منه أو جهل [منه] (¬7) أو غير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته؛ فهذا [كله] (¬8) إذا كان المقصود به دفع (¬9) ضرر غير مستحق [فهو] (8) جائز، كقول الخليل [صلوات اللَّه وسلامه عليه] (7): "هذه أختي" (¬10)، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نحن من ماء" (¬11)، وقول الصدِّيق -رضي اللَّه عنه-: "هادٍ يهديني السبيل" (¬12)، [وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أراد غزوة ورّى بغيرها (¬13)، وكان يقول: "الحرب خدعة" (¬14)، وكإنشاد عبد اللَّه بن رواحة (¬15): شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللَّه حقٌّ ... وأن النار مَثْوَى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طَافٍ ... وفوق العرش رَبُّ العالمينا لما استقرأته امرأته القرآن، حيث اتهمته إصابة جاريته] (¬16)، وقد يكون ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل" تقديم وتأخير بين الجملتين. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬3) في المطبوع و (ك): "فيعني به". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من "الإعلام". (¬5) في "بيان الدليل": "في"! (¬6) في "بيان الدليل" و (ك) و (ق): "لعرف خاص له"! (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من "الإعلام". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬9) في "الإعلام": "رفع". (¬10) سبق تخريجه. (¬11) سبق تخريجه. (¬12) سبق تخريجه. (¬13) سبق تخريجه. (¬14) رواه البخاري (3028) و (3029) في (الجهاد): باب الحرب خدعة، ومسلم (1739) في (الجهاد): باب جواز الخداع في الحرب، من حديث أبي هريرة، ورواه البخاري (3030)، ومسلم (1740)، من حديث جابر. (¬15) الشعر معزو لابن رواحة في "صحيح البخاري" (1155) في (التهجد): باب فضل من تعار من الليل فصلى و (1651) في (الأدب): باب هجاء المشركين و"التاريخ الصغير" (1/ 49 - 50)، وأحمد (3/ 451) والبيهقي (10/ 239)، وانظر: "جزء أحاديث الشعر" (رقم 19) لعبد الغني المقدسي. (¬16) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام" و (ك): "ومنه قول عبد اللَّه بن رواحة: شهدت بأن وعد اللَّه حق -إلى آخر الأبيات- أوهم امرأته القرآن"، ومضى بيان ضعف ذلك وللَّه الحمد والمنة.

[ضابط عن التعريض]

واجبًا إذا [تضمن دَفْعَ ضررٍ يجب دفعه] (¬1) ولا يندفع إلا بذلك (¬2). وهذا الضرب [وإن كان نوع حيلة] (¬3) في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرَّمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به؛ أما الأول فلكونه (¬4) دفع ضرر غير مستحق، [فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار أو علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفةِ معقودٍ عليه في بيع أو نكاح أو إجارة فإنه غشٌّ محرم بالنص. قال مثنى الأنباري: قلت لأحمد بن حنبل: كيف الحديث الذي جاء في المعاريض؟ فقال: المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، تكون في الرجل يُصْلِح بين الناس أو نحو هذا] (¬5). [ضابط عن التعريض] قال شيخنا رضي اللَّه عنه (¬6): والضابط أن كُلَّ ما وجب بيانه فالتعريضُ فيه حرامٌ؛ لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق، والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على [الإنسان و] (7) العقود [بأسرها] (7)، ووصف المعقود عليه، والفُتيا والحديث والقضاء [إلى غير ذلك] (¬7)، وكل ما حَرُم بيانه فالتعريضُ فيه جائزٌ، بل واجب [إن اضطر إلى الخطاب، وأمكن التعريض فيه] (¬8)، كالتعريض لمسائل [عن مال معصوم أو نفسه يريد أن يعتدي عليه] (¬9)، وإن كان بيانه جائزًا أو ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "كان دفع الفرد واجبًا"! (¬2) بعدها في مطبوع "بيان الدليل": "مثل التعريض عن دم معصوم وغير ذلك، وتعريض أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه قد يكون في هذا القبيل، وهذا الضرب. . . "، وبدل قوله (رضي اللَّه عنه) في طبعة فيحان (ص 257): (نص اللَّه) والمثبت من طبعة حمدي السلفي (ص 179). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "نوع من الحيل". (¬4) في "بيان الدليل": "أما المحتال عليه هنا فهو". (¬5) ما بين المعقوفتين تصرف فيه واختصره ابن القيم -رحمه اللَّه-، وانظر: "بدائع الفوائد" (4/ 55). (¬6) في "بيان الدليل" (ص 258). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام" وأثبتناه في "بيان الدليل". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في نسخ "الإعلام": "إذا أمكن ووجب الخطاب". (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "عن معصوم يريد قتله".

كتمانه (¬1) جائزًا؛ فإما (¬2) أن تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة؛ فإن كان الأول فالتعريضُ مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده (¬3)، وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصدُّه عن طاعة أو مصلحة راجحة كتورية أحمد عن المروزي (¬4)، وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينًا لا تجب عليه ونحو ذلك، وإن كان الثاني فالتورية فيه مكروهة، والإظهار مستحب، وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبًا، وإن تساوى الأمران وكان كل منهما طريقًا إلى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريضُ والتصريحُ بالنسبة إليه سواء جاز الأمران، كما لو كان يَعْرف بعدة ألسن وخطابه بكل لسان منها يحصل مقصوده، ومثل هذا ما لو كان له غرضٌ مباح في التعريض ولا حَذَرَ (¬5) عليه في التصريح، والمخاطب لا يفهم مقصوده، وفي هذا ثلاثة أقوال للفقهاء وهي في مذهب الإمام أحمد: أحدها: له التعريض؛ إذ لا يتضمن كتمان الحق (¬6) ولا إضرارًا بغير مستحق. والثاني: ليس له ذلك، فإنه إيهامٌ للمخاطب من غير حاجة إليه، وذلك تغريرٌ، وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب، وقد يترتب عليه ضرر به. والثالث: له التعريض في غير اليمين. وقال الفضل (¬7) بن زياد: سألت أحمد عن الرجل يُعرِّض (¬8) في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به، قال: إذا لم يكن يمينًا (¬9) فلا بأس، في ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "وكتمانه". (¬2) من هنا إلى آخر الفصل نقله المصنف بتصرف من ابن تيمية في "بيان الدليل"، فانظر (ص 258 - 260). (¬3) في (ك) و (ق): "يريد". (¬4) مضى توثيق ذلك (ص 117)، وانظر تعليقنا هناك. (¬5) في (ق): "ضرر". (¬6) في (ق) و (ك): "حق". (¬7) كذا في (ق) وهو الصواب وفي سائر النسخ: "الفضيل"!، وهو أبو العباس القطان البغدادي، ذكره أبو بكر الخلال، فقال: "كان من المتقدّمين عند أبي عبد اللَّه، وكان أبو عبد اللَّه يعرف قدره ويكرمه، وكان يصلّي بأبي عبد اللَّه، وكان له مسائل كثيرة عن أحمد" ترجمته في "طبقات الحنابلة" (1/ 251)، و"تاريخ بغداد" (12/ 363)، و"المنهج الأحمد" (1/ 439)، و"المقصد الأرشد" (2/ 312). (¬8) في نسخ "الإعلام"، وإحدى مخطوطتي "بيان الدليل": "يعارض". (¬9) في "بيان الدليل": "يمين"!!

[المقصود بالمعاريض]

المعاريضِ مندوحةٌ عن الكذب، وهذا عند الحاجة إلى الجواب (¬1)، فأما الابتداء [فالمنع فيه ظاهر] (¬2)، كما دل عليه حديث أم كلثوم أنه لم يُرخِّص فيما يقول الناس: [إنه كذب] (¬3) إلا في ثلاث (¬4)، وكلها مما يحتاج إليه المتكلم، وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يُرِده بكلامه، وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته، وقد تكون مفسدتُه أرجح من مصلحته، وقد يتعارض الأمران، ولا ريب أن مَنْ كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه اللَّه ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه أصلح له وللمتكلم، وكذلك ما كان (¬5) في علمه مضرة على القائل أو تفوت عليه مصلحة هي أرجح من مصلحة البيان فله أن يكتمه عن السامع؛ فإن أبى إلا استنطاقه فله أن يعرض له. [المقصود بالمعاريض] فالمقصود بالمعاريض فعل واجب أو مستحب أو مباح أباح الشارع السعي في حصوله ونصب له سببًا يُفْضِي إليه؛ فلا يقاس بهذه الحيل التي تتضمن سقوط ما أوجبه الشارع وتحليل ما حرمه، فأين أحد البابين من الآخر؟ وهل هذا إلا من أفسد القياس؟ وهو كقياس الربا على البيع والميتة على المذَكَّى. فصل (¬6) فهذا [الفرق] (7) من جهة المحتال عليه، وأما [الفرق] (¬7) من جهة المحتال به فإن المُعرِّض إنما تكلم بحق، ونطق بصدق فيما بينه وبين اللَّه تعالى، لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه، وإنما كان [علم] (¬8) الظهور من ضَعْف فهم السامع وقصوره في فهم (¬9) دلالة اللفظ، ومعاريض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومُزَاحه كانت ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "وهذا إذا احتاج إلى الخطاب". (¬2) في "بيان الدليل": "فهو أشد، ومن رخص في الجواب قد لا يرخص في ابتداء الخطاب". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "إن كان". (¬6) هذا الفصل نقله ابن القيم من "بيان الدليل" (ص 260 - 263) أحيانًا بنصه وأخرى بتقديم وتأخير وتصرف، وسأشير إلى ذلك إن شاء اللَّه تعالى. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل" و (ك). (¬9) في "بيان الدليل": "في معرفة".

[المعاريض على نوعين]

من هذا النوع، كقوله: "نحن من ماء" (¬1)، وقوله: " [إنَّا] حاملوك على ولد الناقة" (¬2)، و"لا يدخل الجنة العُجُز" (¬3)، و"زوجك الذي [في] عينيه بياض" (¬4) وأكثر معاريض السلف كانت من هذا، ومن هذا الباب التدليس في الإسناد، لكن هذا مكروه (¬5) لتعلقه بأمر الدين (¬6) وكون البيان في العلم واجبًا (¬7)، بخلاف ما قصد به دفع ظالم [أو دفع ضرر عن المتكلم] (¬8). [المعاريض على نوعين] والمعاريض نوعان: أحدهما: أن يستعمل اللفظ في حقيقته وما وُضع له فلا يخرج به عن ظاهره، ويقصد فردًا من أفراد حقيقته، فيتوهم السامع أنه قصد غيره: إما لقصور فهمه، وإما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره، وإما لشاهد الحال عنده، وإما لكيفية المخبر وقت التكلم من ضحك أو غضب أو إشارة ونحو ذلك، وإذا تأملت المعاريض النبوية والسلفية وجدت عامَّتَها من هذا النوع. الثاني: أن يستعمل العام في الخاص والمطلق في المقيد، وهو الذي يسميه المتأخرون الحقيقة والمجاز، وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد؛ فإن لفظ الأسد والبحر والشمس عند الإطلاق له معنى، وعند التقييد له معنى يسمّونه المجاز، ولم يفرقوا بين مقيد ومقيد ولا بين قيد وقيد، فإن قالوا: "كل مقيد مجاز" لزمهم أن يكون كل كلام مركب مجازًا؛ فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق، وإن قالوا: "بعض القيود يجعله مجازًا دون بعض" سُئِلوا عن ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "مثل قوله: نحن من ماء" اهـ والحديث سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) سبق تخريجه، وذكره في "بيان الدليل" قبل الحديث السابق، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في "بيان الدليل": "كان مكروهًا". (¬6) انظر: "النكت على كتاب ابن الصلاح" (2/ 627 - 634) و"توضيح الأفكار" (1/ 372). وفي نسخ "الإعلام": "لتعلقه بالدين". (¬7) في "بيان الدليل": "وكون بيان العلم واجبًا". (¬8) في "بيان الدليل": "ونحو ذلك"، وما بعد ذلك تصرف فيه كثيرًا ابن القيم، وقدم فيه وأخّر، فآثرت الإبقاء والإشارة هنا، منعًا من تثقيل الحاشية.

الضابط ما هو؟ ولن يجدوا إليه سبيلًا، وإن قالوا: "يُعتبرُ اللفظ المفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب، وهناك يُحكم عليه بالحقيقة والمجاز". قيل لهم: هذا أبعد وأشدُّ فسادًا؛ فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الأصوات التي ينعق بها ولا تفيد شيئًا، وإنما إفادتها بعد تركيبها، وأنتم قلتم: الحقيقة هي اللفظ المستعمل، وأكثركم يقول: استعمال اللفظ فيما وضع له أولًا، والمجاز بالعكس؛ فلا بد في الحقيقة والمجاز من استعمال اللفظ فيما وُضع له، وهو إنما يستعمل بعد تركيبه، وحينئذ فتركيبه بعدة بقيود يُفهم منها مراد المتكلم، فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقة ومع بعضها مجازًا؟ وليس الغرض إبطال هذا التقسيم الحادث المبتَدَع المتناقض فإنه باطل من أكثر من أربعين وجهًا (¬1)، وإنما الغرض التنبيه على نَوْعي التعريض، وأنه تارة يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره وتارة يكون بإخراجه عن ظاهره، ولا يذكر المُعرِّض قرينة تبين مراده، ومن هذا النوع عامة التعريض في الأَيْمان والطلاق، كقوله: "كل امرأة له فهي طالق" وينوي في بلد كذا وكذا، أو ينوي (¬2) فلانة، أو قوله: "أنت طالق" وينوي من زوجٍ كان قبله ونحو ذلك؛ فهذا القسم شيء والذي قبله شيء، فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد أو صورته ما لم (¬3) يجعله الشارع مقتضيًا له بوجه بل جعله مقتضيًا لضدِّه؟ ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارًا صلاحيته له إنشاءً؛ فإنه لو قال: "تزوَّجت" في المعاريض وعَنَى نكاحًا فاسدًا كان صادقًا كما لو بيَّنه، ولو قال: "تزوجت" إنشاءً وكان فاسدًا لم ينعقد، وكذلك في جميع الحيل؛ فإن الشارع لمْ يشرع القَرْضَ إلا لمن قصد أن يسترجع مثل قرضه، ولم يشرعه لمن قصد أن يأخذ أكثر منه لا بحيلةٍ ولا بغيرها، وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرضٌ في تمليك الثمن وتملك (¬4) السلعة، ولم يشرعه قطٌّ لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن [ولا في المُثْمن] (¬5) ولا في السلعة، وإنما غرضهما الربا، وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة، لم يشرعه ¬

_ (¬1) انظرها في "الصواعق المرسلة". (¬2) في (ق): "سوى". (¬3) في (د)، و (ن): "ما لم"، وقال (د): "في عامة الأصول: مما لم يجعله الشارع -إلخ، وما أثبتناه هو الصحيح، و"ما" مفعول للمصدر المضاف إلى فاعله، وهو قوله: "قصد المحتال"" اهـ. (¬4) كذا في (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ: "وتمليك". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ولا في الثمن" وسقطت من (ق).

[متى تباح المعاريض؟]

للمحلِّل (¬1)، وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمُفْتَديةِ (¬2) نفسَها من الزوج تتخلص (¬3) منه من سوء العشرة، ولم يشرعه للتحيل (¬4) على الحنث قط، وكذلك التمليك لم يشرعه اللَّه سبحانه وتعالى إلا لمن قصد نفع الغير والإحسان إليه بتمليكه سواء كان محتاجًا أو غير محتاج، ولم يشرعه لإسقاط فرض من زكاة أو حج أو غيرهما قط، وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها أو لمن لا يُسْقِط بها حقًا ولا يَضُرُّ بها أحدًا، ولم يشرعها إذا تضمنت إسقاط حق أو إضرارًا لغير مستحق. [متى تباح المعاريض؟] فثبت أن التعريض المباح ليس من المخادعة للَّه في شيء، وغايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه، ولا يلزم من جواز مُخَادعة الظَّالمِ المُبْطل جواز مخادعة المحق؛ فما كان من التعريض مخالفًا لظاهر اللفظ كان قبيحًا إلا عند الحاجة وما لم يكن منها مخالفًا لظاهر اللفظ كان جائزًا إلا عند تضمن مفسدة. [بمَ تكون المعاريض] والمعاريض كما تكون بالقول تكون الفعل، وتكون بالقول والفعل معًا، مثال ذلك أن يُظْهِر المحاربُ أنه يريد وجهًا من الوجوه ويسافر إليه ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكرُّ عليه وهو آمن من قصده، أو يستطرد المُبارز بين يدي خَصْمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه، وهذا من خداعات الحرب. فصل [النوع الثاني من المعاريض] فهذا أحد النوعين الذي قيست عليه (¬5) الحيل المحرَّمة. والنوع الثاني: الكيدُ الذي شرعه اللَّه للمظلوم أن يكيد به ظَالِمه وبخدعه به، إما للتوصّل إلى أخذ حقه منه، أو عقوبة له، أو لكف شره وعُدْوانه عنه، كما روى (¬6) ¬

_ (¬1) في (ق): "لمحلل". (¬2) في (ق): "لمفتدية". (¬3) في (ق): "فتخلص". (¬4) في (ن): "للمتحيل". (¬5) في (ن): "عليهما"، وفي (ق): "اللذين قيست عليهما". (¬6) في (ق): "رواه"

فصل [الجواب على أن العقود حيل]

الإمام أحمد في "مسنده" "أن رجلًا شكا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من جاره أنه يؤذيه، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَطْرَحَ متاعه في الطريق، ففعل، فجعل كل مَنْ مرّ يسأل عن شأن المتاع، فيُخْبَر بأن جار صاحبه يؤذيه، فيسبّه ويلعنه، فجاء إليه وقال: "رُدَّ متاعك إلى مكانه فواللَّه لا أوذيك بعد ذلك أبدًا" (¬1) فهذا من أحسن المعاريض الفعلية، وألطف الحيل التي يتوصل بها إلى دفع ظلم الظالم. ونحن لا ننكر هذا الجنس، وإنما الكلام في الحيل على استحلال مَحَارم اللَّه، وإسقاط فرائضه، وإبطال حقوق عباده؛ فهذا النوع هو الذي يفوت أفرادُ الأدلة على تحريمه الحَصْرَ (¬2). فصل [الجواب على أنَّ العقود حيل] وأما قولكم: "جعل العقود حِيَلًا على التوصل إلى ما لا يباح إلا بها إلى آخره" فهذا موضع الكلام في الحيل، وانقسامها إلى الأحكام الخمسة (¬3)، فنقول: ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (5153) في (الأدب): باب حق الجوار، والبخاري في "الأدب المفرد" (124)، وأبو يعلى (6630) ومن طريقه ابن حبان (520)، والحاكم (4/ 165) والبيهقي في "الشعب" (9547) من طريقين عن محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وجود ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 16) إسناده. تنبيه: لم أجو الحديث في "المسند" عن أبي هريرة، ولا عزاه له ابن حجر في "أطراف المسند" (7/ 406 - 407) ولا في "إتحاف المهرة" (15/ 348 رقم 19447). وللحديث شاهد من حديث أبي جحيفة رواه البخاري في "الأدب المفرد" (125) والبزار (1903 - زوائده) والطبراني -كما في "المجمع" (8/ 170) - والحاكم (4/ 166) والبيهقي في "الشعب" (9548) من طريق شريك عن أبي عمر الأودي -كذا في "إتحاف المهرة" (13/ 696) وفي مطبوع "المستدرك": "الأزدي"!! وأهمل في سائر المواضع- تفرد به شريك، وهو صدوق يخطئ كثيرًا وأبو عمر مجهول. وفي الباب عن محمد بن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام، رواه ابن أبي شيبة (8/ 546) والحاكم (4/ 165 - 166) وابن أبي الدنيا في "مكارم الأخلاق" (ص 81) والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (رقم 394)، وفيه شهر بن حوشب، وهو مرسل. وحسنه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "صحيح الأدب المفرد" (رقم 92، 93)، وذكره الذهبي في "جزء حق الجار" (ص 17 - 18) وعزاه لابن الجعد عن محمد بن يوسف ومن حديث ابن عباس. (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 105). (¬3) في المطبوع: "أحكامها الخمس"، وفي (ك) و (ق): "وأقسامها".

ليس كل ما يُسمى حيلة [يُسمَّى] (¬1) حرامًا، قال اللَّه تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً [وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا] (¬2)} [النساء: 98] أراد بالحيلة التحيُّل على التخلص من بين الكفار، وهذه حيلة محمودة يُثَاب عليها، وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار، كما فعل نُعيم بن مسعود يوم الخندق (¬3)، أو على تخليص ماله منهم كما فعل الحَجَّاج بن عِلاط بامرأته (¬4)، وكذلك الحيلة على قتل رأسٍ من رؤوس أعداء اللَّه كما فعل الذين قتلوا ابن أبي الحُقَيقِ اليهودي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) روى قصته ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" (3/ 247) دون إسناد، ونقله عنه الطبري في "تاريخه" (2/ 578 - 579). ورواها من طريق ابن إسحاق البيهقي في "دلائل النبوة" (3/ 445) فذكر له إسنادًا فقال ابن إسحاق: حدثني رجل عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك قال: جاء نُعيم بن مسعود. وهذا إسناد جيد لولا جهالة الرجل الذي روى عنه ابن إسحاق، وقد رواها أيضًا البيهقي في "الدلائل" (3/ 398) من طريق موسى بن عقبة في "مغازيه" لكن دون إسناد من موسى بن عقبة. ورواها مفصلةً أيضًا ابن سعد في "الطبقات" (4/ 277) في ترجمة نعيم قال: أخبرنا محمد بن عمر: قال حدثنا عبد اللَّه بن عاصم الأشجعي عن أبيه قال: قال نعيم بن مسعود فذكر القصة. ومحمد بن عمر هو الواقدي المعروف، متروك على سعة علمه، وعاصم وإن كان هو المترجم في "التهذيب" فهو عاصم بن عبد العزيز الأشجعي لم يدرك نعيم بن مسعود أيضًا. وروى البيهقي في "دلائل النبوة" (3/ 447) من طريق ابن إسحاق: حدثنا يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة قالت: كان نعيم رجلًا نحومًا فدعاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إن يهود قد بعثت إليّ. . . ولكنه مختصر جدًا، وإسناده حسن، رواته ثقات، إلا محمد بن إسحاق فهو حسن الحديث. وبنحو رواية البيهقي الأخيرة هذه: رواه ابن أبي شيبة (8/ 499) من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلًا، وسمى الرجل "مسعود". وأخرجه الخصاف في "الحيل" (ص 3 - 4) من مرسل الزهري، ووصله مختصرًا ابن قانع في "معجم الصحابة" (14/ 5101 رقم 2025) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2668 رقم 6393) بإسناد مظلم. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (3/ 539) خبره، وأنه هو الذي أوقع الخلاف بين قريظة وغطفان بصيغة الجزم. (¬4) مضى تخريجه.

[اشتقاق الحيلة وبيان معناها]

وكعب بن الأشرف وأبا رافع وغيرهم (¬1)؛ فكل هذه حيل محمودة محبوبة للَّه ومرضية له. [اشتقاق الحيلة وبيان معناها] والحِيلَة: مشتقة من التحوَّل، وهي النوع والحالة كالجِلْسَة والقِعْدَة والرِّكبَة فإنها بالكسر للحالة، وبالفتح للمرة، كما قيل: الفَعْلَة للمرة (¬2)، والفِعْلَة للحالة، والمَفْعَل للموضع، والمِفْعَل للآلة، وهي من ذوات الواو، فإنها من التحول من حَالَ يَحُولُ، وإنما انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهو قلب مَقِيس مُطّرد في كلامهم، نجو مِيزان وميقات وميعاد؛ فإنها مِفْعَال من الوَزْن والوَقْت والوَعْد (¬3)، فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحوَّلُ به فاعلُه من حال إلى حال، ثمْ غلب عليها بالعُرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصَّل بها الرجلُ إلى حصول غرضه، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة؛ فهذا أخص من موضوعها في أصل اللغة، وسواء كان المقصود أمرًا جائزًا أو محرمًا، وأخَصُّ من هذا استعمالُها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعًا أو عقلًا أو عادة فهذا (¬4) هو الغالب عليها في عُرْف الناس؛ فإنهم يقولون: فلان من أرباب الحيل، ولا تُعَاملوه فإنه مُتَحَيِّل (¬5)، وفلان يُعَلّمَ الناسَ الحيلَ، وهذا من استعمال المطلق في بعض أنواعه كالدابة والحيوان وغيرهما. [انقسام الحيلة إلى الأحكام الخمسة وأمثلتها] وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة؛ فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها؛ فالأكل والشرب واللبس والسفر ¬

_ (¬1) أما قصة مقتل ابن أبي الحقيق، وهو أبو رافع -حيث ذكره المؤلف مرتين- فقد رواها البخاري في (الجهاد) (3022 و 3023) باب قتل النائم المشرك، وفي (المغازي): (4038 و 4039 و 4040) في (المغازي): باب قتل أبي رافع عبد اللَّه بن أبي الحقيق، ويقال: سلامة بن أبي الحقيق، من حديث البراء بن عازب. وأما قصة مقتل كعب بن الأشرف، فقد تقدمت. (¬2) تحرفت في (ن) إلى: "للمرأة"! (¬3) انظر: "لسان العرب" لابن منظور، و"القاموس المحيط" للفيروزآبادي (ص 1278 - 1280) مادة حول. (¬4) في (ق) و (ك): "وهذا". (¬5) في (ق) و (ك): "يتحيل".

الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومُبَاحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها، وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مَوْرد التقسيم إلى مباح ومحظور؛ فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب، وترك المحرَّم (¬1)، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات، ولما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهودُ فتستحلوا محارمَ اللَّه بأدنى الحيل" (¬2) غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء علي النوع المذموم، وكما يذم الناسُ أربابَ الحيل فهم يذمُّون أيضًا العاجزَ الذي لا حِيلَةَ عنده لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه، فالأول ماكرٌ مخادع، والثاني عاجزٌ مفرِّط، والممدوح غيرهما، وهو مَنْ له خبرة بطرق الخير والشر خَفِيِّها وظاهرها فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبُّها اللَّه ورسوله بأنواع الحيل، ويعرف طرقَ الشر الظاهرة والخفيِّة التي يتوصل بها إلى خِدَاعه والمكر به فيحترز منها ولا (¬3) يفعلها ولا يدل عليها، وهذه كانت حال سادات الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، فإنهم كانوا أبَرِّ الناس قلوبًا، وأعلم الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع، وأتقَى للَّه من أن يرتكبوا منها شيئًا أو يُدْخلوه في الدين، كما قال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: لست بخَبٍّ ولا يخدعني الخب (¬4)، وكان حذيفة أعلم الناس بالشر والفتن، وكان الناس يسألون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخير، وكان هو يسأله عن الشر (¬5)، والقلبُ السليم ليس هو الجاهل بالشر الذي لا يعرفه، بل الذي يعرفه ولا يريده، بل يريد الخير والبر، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد سمَّى الحرب خُدْعَة (¬6)، ولا ريبَ في انقسام الخِداع إلى ما يحبه اللَّه ¬

_ (¬1) في (ن): "وترك المحظور". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (ق) و (ك)؛ "أوْلا". (¬4) أسنده المزي في "تهذيب الكمال" (3/ 417 - 418) عن إياس بن معاوية قوله، وكذا في "عيون الأخبار" (1/ 225). (¬5) رواه البخاري (3606) في (المناقب): باب علامات النبوة في الإسلام و (7084) في (الفتن): باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة، ومسلم (1847) (51) في (الإمارة): باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن وفي كل حال، من حديث حذيفة بن اليمان. (¬6) رواه البخاري (3030) في (الجهاد): باب الحرب خدعة، ومسلم (1739) في (الجهاد): باب جواز الخداع في الحرب من حديث جابر.

فصل [الحيل التي تعد من الكبائر]

ورسوله وإلى ما يبُغضه ويَنهى عنه، وكذلك المكر ينقسمَ إلى قسمين: محمودٍ، ومذموم؛ فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم إلى محمود ومذموم؛ فالحيل (¬1) منها ما هو كفرٌ، ومنها ما هو كبيرةٌ، ومنها ما هو صغيرة، وغير المحرمة منها ما هو مكروه، ومنها ما هو جائز، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو واجب؛ فالحيلة بالرَّدة على فسخ النكاح كفر، ثم إنها لا تتأتى إلا على قول من يقول بتعجيل (¬2) الفسخ بالردة، فأما مَنْ وقَفَه على انقضاء العدة فإنها لا يتم لها غرضها حتى تنقضي عدتها؛ فإنها متى عُلم بردتها قتلت إلا على قول [من يقول: لا تُقتل] (¬3) المرتدَّة، بل يحبسها حتى تُسْلِمَ أو تموت، وكذلك التحيل بالردة على حرمان الوارث كفرٌ، والإفتاء بها كفر، ولا تتم إلا على قول مَنْ يرى أن مال المرتد لبيت المال، فأما على القول الراجح أنه لورثته من المسلمين فلا تتم الحيلة، وهذا القول هو الصواب (¬4)؛ فإن ارتداده أعظم من مرض الموت المَخُوف، وهو في هذه الحال قد تعلق حق الورثة مسألة، فليس له أن يُسْقط هذا التعليق (¬5) بتبرع، فهكذا المرتدُّ بردته تعلق حق الورثة مسألة إذ صار مستحقًا للقتل. فصل [الحيل التي تعد من الكبائر] وأما الحيل التي هي من الكبائر فمثل قتل امرأته إذا قتل حماته وله من امرأته ولد، والصواب أن هذه الحيلة لا تُسْقط عنه القَوَد، وقولُهم: "إنه ورث ابنه ¬

_ (¬1) في (ق): "فالحيل المحرمة". (¬2) في (ن): "بتعجل". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "من لا يقتل". (¬4) هذا قول الأوزاعي، وهو أحد الأقوال عن أحمد، وروي عن أبي بكر وابن مسعود وهو قول أبي يوسف ومحمد، انظر: "الإنصاف" (7/ 352 و 10/ 339) و"المغني" (6/ 300)، و"الإقناع" (4/ 305)، و"الكافي" (3/ 161) و"رحمة الأمة" (191). و"فقه الإمام الأوزاعي" (2/ 510). وأما القول بأنّ ماله لبيت المال فهو مذهب المالكية والشافعية، ومذهب أبي حنيفة يورث عنه ما اكتسبه قبل ردته، ولا يورثه ما اكتسبه حال ارتداده، انظر: "المبسوط" (10/ 104) و"عمدة القاري" (23/ 260)، "وجمل الأحكام" (2/ 232) و"التفريع" (2/ 232) و"تفسير القرطبي" (3/ 49) و"الإشراف" (4/ 179 رقم 1535 - بتحقيقي) و"الأم" (6/ 151 و 7/ 330) و"المحلى" (11/ 239). (¬5) في (ك): "التعلق".

فصل [حيل محرمة]

بعض دم أبيه فسقط عنه القَوَد" ممنوعٌ؛ فإن القَوَد وجب [عليه] (¬1) أولًا بقتل أم المرأة، وكان لها أن تستوفيه، ولها أن تسقطه، فلما قتلها قام وليها في هذه الحال مقامها بالنسبة إليها وبالنسبة إلى أمها، ولو كان ابن القاتل؛ فإنه لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ميزان عادل على أن الولد لا يستوفي القصاصَ من والده لغيره، وغاية ما يدل عليه الحديث أنه لا يُقَاد الوالد بولده (¬2)، على ما فيه من الضَّعْف وفي حكمه من النزاع، ولم يدل على أنه لا يُقَاد بالأجنبي إذا كان الولد هو مستحق [القَوَد] (¬3)، والفرق بينهما ظاهر؛ فإنه في مسألة المنع قد أُقِيدَ بابنه (¬4)، وفي هذه الصورة إنما أقيد بالأجنبي، وكيف تأتي شريعةٌ أو سِياسة عادلة بوجوب القَوَدِ على من قتل نفسًا بغير حق فإن عاد فقتل نفسًا أخرى بغير حق وتضاعف إثمُه وجرمه سقط عنه القود، بل لو قيل بتحتم قَتْله ولا بد إذا قصد هذا كان أقرب إلى المعقول والقياس (¬5). فصل [حيل محرّمة] ومن الحيل المحرَّمة التي يكفر مَنْ أفتى بها تمكينُ المرأة ابنَ زوجها من نفسها لينفسخَ نكاحُها حيث صارت موطوءة ابنه، وكذا العكس (¬6)، أو وطئه حماته لينفسخ نكاح امرأته، مع أن هذه الحيلة لا تتمشى إلا على قول من يرى أن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا كما تثبت بالنكاح كما يقوله أبو حنيفة (¬7) وأحمد في المشهور من مذهبه (¬8)، والقول الراجح أن ذلك لا يحرم كما هو قول ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "بأبيه". (¬5) انظر: "مفتاح دار السعادة" (ص 435)، و"أحكام الجناية" (ص 152 - 166)، وفي (ق): "العقول". (¬6) في (ق): "بالعكس". (¬7) انظر: "المبسوط" (4/ 204)، "الاختيار" (3/ 88)، "فتح القدير" (3/ 219)، "بدائع الصنائع" (3/ 1385)، "تحفة الفقهاء" (2/ 184)، "تبيين الحقائق" (2/ 106)، "البحر الرائق" (3/ 105)، "إيثار الإنصاف" (105)، "شرح العيني" (1/ 116)، "طريقة الخلاف في الفقه" (53) للأسمندي، "حاشية ابن عابدين" (3/ 32)، "رؤوس المسائل" (381). (¬8) انظر: "مسائل أحمد" (1/ 209 رقم 1028) لابن هاني، "المغني" (9/ 526)، "الإنصاف" (8/ 166)، "تنقيح التحقيق" (3/ 180 - 182)، "كشاف القناع" (5/ 72)، "منتهى الإرادات" (2/ 652)، "تقرير القواعد" (3/ 137 - بتحقيقي).

[مناظرة بين الشافعي ومن قال: إن الزنا يوجب حرمة المصاهرة]

الشافعي (¬1) وإحدى الروايتين عن مالك (¬2)؛ فإن التحريم بذلك موقوف على الدليل، ولا دليلَ من كتابٍ ولا سنةٍ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ صحيح، وقياسُ السفاحِ على النكاح [في ذلك لا يصح] (3) لما بينهما من الفروق، واللَّه تعالى جعل الصِّهْرَ قَسيمَ النسب، وجعل ذلك من نعمهِ التي امتنَّ بها على عباده، فكلاهما من نعمه وإحسانه؛ فلا يكون الصهر من آثار الحرام وموجباته كما لا يكون النسب من آثاره، بل إذا كان النسب الذي هو أصلٌ لا يحصل بوطء الحرام [فالصِّهْرُ الذي هو فرعٌ عليه ومُشَبَّه به أولى ألا يحصل بوطء الحرام،] (¬3) وأيضًا فإنه لو ثبت تحريم المصاهرة لا تثبت المحرمية التي هي من أحكامه، فإذا لم تثبت المحرمية لم تثبت الحرمة، وأيضًا فإن اللَّه تعالى [إنما] (3) قال: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ [الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ]} (¬4) [النساء: 23] ومن زَنَا بها الابن لا تُسمَّى حليلة لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، وكذلك قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [مِنَ النِّسَاءِ (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)]} (¬5) [النساء: 22] إنما المراد به النكاح الذي هو ضد السفاح، ولم يأتِ في القرآن أن النكاح المراد به الزنا قط، ولا الوطء المجرد عن عقد. [مناظرة بين الشافعي ومن قال: إن الزنا يُوجب حرمة المصاهرة] وقد تناظر الشافعي هو وبعض العراقيين في هذه المسألة ونحن نذكر مناظرته بلفظها. قال الشافعي: الزنا لا يُحرِّم الحلال، وقال به ابن عباس (¬6)، قال الشافعي: ¬

_ (¬1) انظر: "الأم" (5/ 25)، "مختصر المزني" (169)، "الحاوي الكبير" (11/ 294)، "المهذب" (2/ 44)، "المجموع" (17/ 324)، "روضة الطالبين" (7/ 113)، "حلية العلماء" (6/ 377)، "مختصر الخلافيات" (4/ 139 رقم 201). (¬2) انظر: "المدونة" (2/ 202)، "الكافي" (244)،"بداية المجتهد" (2/ 34)، "الخرشي" (3/ 209)، "الإشراف" (3/ 323 - 324 مسألة 1161) وتعليقي عليه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وما بين القوسين سقط من (ك). (¬6) روى عبد الرزاق (12769) عن معمر عن قتادة: سئل ابن عباس عن الرجل يزني بأم امرأته؟ قال: تخطّى بحرمة إلى حرمة ولم تحرم عليه امرأته. وهو منقطع، قتادة لم يسمع ابن عباس، وبينهما واسطة، رواه البيهقي (7/ 168) -بإسنادين- من طريق يحيى بن معمر وعن قتادة وعن عكرمة كلاهما عن ابن عباس ورواه عبد الرزاق (12781) عن عطاء عن ابن عباس بنحوه، وفي (ك) و (ق): "وقاله ابن عباس".

[أحكام النكاح لا يتعلق منها شيء بالزنا]

لأن الحرام ضد الحلال، ولا يقاس شيء على ضِدِّه، فقال في قائل: ما تقول لو قبَّلت امرأةُ الرجل ابنَه بشهوة حرمت على زوجها أبدًا، فقلت [له] (¬1): لم قلت ذا واللَّه تعالى إنما حرم أمهات نسائكم ونحو هذا بالنكاح فلم يجز أن يُقَاس الحرامُ بالحلال؟ فقال: أجد جماعًا وجماعًا، قلت: جماعًا حُمِدَت به وأحصنت (¬2) وجماعًا رُجِمت به، أحدُهما نقمة والآخر نعمة، وجعله اللَّه سبحانه نسبًا وصهرًا وأوجب به حقوقًا، وجعلك مَحْرَمًا لأم امرأتك (¬3) وابنتها تسافر بهما، وجعل على الزنا نقمة في الدنيا بالحدِّ (¬4) وفي الآخرة بالنار، إلا أن يعفو اللَّه، فتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة؟ [وقلت له: فلو قال لك] (¬5): وجدت المطلقة ثلاثًا تحل بجماع زوج وإصابة فأحلّها بالزنا لأنه جماع كجماع، قال: إذا أخطأ؛ لأن اللَّه تعالى أحلّها بنكاح زوج، قلت: وكذلك ما حرم اللَّه في كتابه بنكاح زوج وإصابة زوج، قال: أفيكون شيء يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام أقول به؟ قلت: نعم ينكح أربعًا فيحرم عليه أن ينكح من النساء خامسة، أفيحرمُ عليه إذا زنا بأربع شيء من النساء؟ قال: لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال، قال: فقد ترتد فتحرم على زوجها، قلت: نعم، وعلى جميع الخلق، وأقتلها وأجعل مالها فَيْئًا، قال: فقد نجد الحرام يُحرِّم الحلال، قلت: أما في مثل ما اختلفنا فيه من أمر النساء فلا (¬6)، انتهى. [أحكام النكاح لا يتعلق منها شيء بالزنا] ومما يدل على صحة هذا القول أن أحكام النكاح التي رتَّبها اللَّه تعالى عليه من العِدة والإحدَاد والميراث والحل والحرْمة ولحوق النسب ووجوب النفقة والمهر وصحة الخُلع والطلاق والظهار والإيلاء والقصر على أربع ووجوب القَسْم والعَدْل بين الزوجات وملك الرجعة وثبوت الإحصان والإحلال للزوج الأول وغير ذلك من الأحكام لا يتعلق شيء منها بالزنا، وإن اختلف في العدة والمهر، والصواب أنه لا مَهْر لبغي كما دلت عليه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)، وكما فَطَرَ اللَّه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) في (ك) و (ق): "وحصنت". (¬3) في (ن) و (ق): "مَحْرَمًا لامرأتك"!. (¬4) في (ق): "بالحدود". (¬5) في (ق): "وقلت: فلو قال لك" وعندها في الهامش: "لعله: قائل". (¬6) انظر نحوها في "الأم" (6/ 164 - 165) و"معرفة السنن والآثار" (10/ 115 - 116). (¬7) في هذا حديث: "نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي"، رواه البخاري (2237) في =

[إبطال حيلة لإسقاط حد السرقة]

سبحانه عقول الناس على استقباحه، فكيف يثبت تحريم [هذه] (¬1) المصاهرة من بين هذه الأحكام؟ والمقصود أن هذه الحيلة باطلة شرعًا كما هي محرمة في الدين (¬2). [إبطال حيلة لإسقاط حد السرقة] وكذلك الحيلة على إسقاط حد السرقة يقول السارق: هذا مُلْكي، وهذه داري، وصاحبها عبدي، من الحيل التي هي إلى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع، ونحن نقول: معاذ اللَّه أن يجعل في فطر الناس وعقولهم قبول [مثل] (¬3) هذا الهَذَيان البارد المناقض للعقول والمصالح، فضلًا عن أن يشرع لهم قبوله، وكيف يُظَنّ باللَّه وشَرْعِه ظن السوء أنه شرع ردَّ الحق بالباطل الذي يقطع كلُّ أحدٍ ببطلانه، وبالبهتان الذي يجزم كلُّ حاضر (¬4) ببهتانه، ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولًا في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة أحد من الناس؟ ومن له مسكة من عقل وإن بُلي بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور، وياللَّه و [يا] (¬5) للعقول! أيعجز سارقٌ قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلَّص من قطع اليد؟ فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان؟! [إبطال حيلة إسقاط اليمين عن الغاصب] وكذلك إذا غَصَبَ شيئًا فادعاه المغصوب منه، فأنكر، فطلب تحليفه. قالوا: فالحيلة في إسقاط اليمين عنه أن يُقِرَّ به لولده الصغير فيسقط عنه اليمين ويفوز بالمغصوب، وهذه حيلة باطلة في الشرع كما هي محرمة في الدين، بل المُقَر له إن كان كبيرًا صار هو الخصم في ذلك، وتوجهت عليه اليمين، وإن ¬

_ = (البيوع): باب ثمن الكلب، و (2282) في (الإجارة): باب كسب البغي والإماء، و (5346) في (الطلاق): باب مهر البغي والنكاح الفاسد، و (5761) في (الطب): باب الكهانة، ومسلم (1567) في (المساقاة): باب تحريم ثمن الكلب وحلوان الكاهن. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 196) و"الإشراف" (3/ 323 - 324 مسألة 1161) وتعليقي عليه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬4) في (ن) و (ق): "ظاهر". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

[إبطال حيلة لإسقاط القصاص]

كان صغيرًا توجَّهَت اليمين على المُدَّعى عليه فإن نكلَ قُضي به للمدَّعِي، وغرم قيمته لمن أقر له به؛ لأنه بنكوله قد فوَّته عليه. [إبطال حيلة لإسقاط القصاص] وكذلك إذا جرح رجلًا، فخشيَ أن يموت من الجرح، فدفع إليه دواء مسمومًا فقتله. قال أرباب الحيل: يسقط عنه القصاصُ، وهذا خطأ عظيم، بل يجب عليه القصاصُ بقتله بالسُّم، كما يجب عليه بقتله بالسيف، ولو أسقط الشارعُ القتلَ عمن قَتَل بالسم لما عجز قاتل عن قتل من يريد قتله به آمنًا؛ إذ قد علم أنه لا يجبُ عليه القَوَد، وفي هذا من فساد العالم ما لا تأتي به شريعة. [إبطال حيلة لإخراج الزوجة من الميراث] وكذلك وإذا أراد إخراج زوجته من الميراث في مرضه، وخاف أن الحاكم يُورِّث المبتوتة، قالوا: فالحيلة أن يقر أنه كانْ طلَّقها (¬1) ثلاثًا، وهذه حيلة مُحَرمة باطلة لا يحل تعليمها، ويفسق من علَّمها المريض، ويستحق عقوبة اللَّه ومع ذلك فلا تنفذ، فإنه كما هو متَّهم بطلاقها فهو متهم بالإقرار بتقدّم الطلاق على المرض، وإذا كان الطلاق لا يمنع الميراث بالتهمة (¬2) فالإقرار لا يمنعه للتهمة، ولا فرق بينهما؛ فالحيلة باطلة محرَّمة. [إبطال حيلة لإسقاط الزكاة] وكذلك إذا كان في يده نصاب فباعه أو وهبه قبل الحَوْلِ، ثم استردَّه، قال أرباب الحيل: تسقط عنه الزكاة، بل لو ادّعى ذلك لم يأخذ العامل زكاته، وهذه حيلة محرمة باطلة، ولا يُسْقِط ذلك عنه فَرْضَ اللَّه الذي فرضه وأوعده (¬3) بالعقوبة الشديدة مَنْ ضيَّعه وأهْمَلَه، فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة. وقد استقرت سنة اللَّه في خلقه شرعًا وقدرًا على معاقبة العبد بنقيض قصده، ¬

_ (¬1) في (ن): "مطلقًا". (¬2) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "للتهمة". (¬3) في (ك) و (ق): "وأوعد"

[إبطال حيلة لإسقاط الكفارة]

كما حَرَم القاتلُ الميراثَ، وورَّث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفارُّ من الزكاة لا يسقطها عنه فِرَاره ولا يُعَان على قصده الباطل فيتم مقصوده ويسقط مقصود الرب تَعَالى، وكذلك عامة الحيل إنما يُساعدُ فيها المتحيَّل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع (¬1). [إبطال حيلة لإسقاط الكفارة] وكذلك المُجَامع في نهار رمضان إذا تغدَّى أو شرب الخمر أولًا ثم جامع، قالوا: لا تجب عليه الكفارة، وهذا ليس بصحيح؛ فإن إضمامه إلى إثم الجماع إثمَ الأكل والشرب لا يناسب التخفيف عنه، بل يناسب تغليظ الكفارة عليه، ولو كان هذا يسقط الكفارة لم تجب كفارة على واطئ اهتدى لجرعة ماء أو ابتلاع لُبَابة أو أكل زبيبة، فسبحان اللَّه! هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مُفطِر قبله أو للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله اللَّه محلًا للوطء؟ أفَترى بالأكل والشرب قبله صار الزمان محلًّا للوطء فانقلبت (¬2) كراهة الشارع له محبة ومَنْعُه إذنًا؟ هذا من المحال، وأفسَدُ من هذا قولهم: إن الحيلة في إسقاط الكفارة أن ينوي قبل الجماع قَطْعَ الصوم، فإذا أتى بهذه النية فليجامع آمنًا من وجوب الكفارة، ولازم [على] (¬3) هذا القولِ الباطل أنه لا تجب كفارة على مُجَامع أبدًا، وإبطال هذه الشريعة رأسًا؛ فإن المجامع لا بد أن يعزم على الجماع قبل فعله، وإذا عزم على الجماع فقد تضمنت نيتُه قطعَ الصوم فأفطر قبل الفعل بالنية الجازمة للإفطار فصادفه الجماع وهو مفطر بنيّة الإفطار السابقة على الفعل، فلم يفطر به، فلا تجب الكفارة (¬4)، فتأمل كيف تتضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع (¬5)؟ [إبطال حيلة لإسقاط وجوب قضاء الحج] وكذلك قالوا: لو أن مُحْرمًا خاف الفوت وخشي القضاء من قابل فالحيلة في ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" (1/ 147 - 148)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 329)، و"الوابل الصيب" (ص 49 - 60). (¬2) في (ك) و (ق): "وانقلبت". (¬3) ما بين المعقوفتين في (ق) فقط. (¬4) في (ك) و (ق): "كفارة". (¬5) انظر: "تهذيب السنن" (3/ 268 - 273)، و"كتاب الصلاة" (ص 61 - 63).

[إبطال حيلة لإسقاط حق صاحب الحق]

إسقاط القضاء أن يكفر باللَّه ورسوله في حال (¬1) إحرامه فيبطل إحرامه، فإذا عاد إلى الإسلام لم يلزمه القضاء من قابل، بناءً على أن المرتد كالكافر الأصلي، فقد أسلم إسلامًا مستأنفًا لا يجب عليه فيه قضاء ما مضى، ومن له مسكة من علم ودين يعلم أن هذه الحيلة مناقضة لدين الإسلام أشد مناقضة، فهي (¬2) في شق والإسلام في شق. [إبطال حيلة لإسقاط حق صاحب الحق] وكذلك لو وكَّلَ رجلًا في استيفاء حقه فرفعه إلى الحاكم فأراد أن يحلّفه بالطلاق أنه لا حقَّ لوكيله قِبَله، فالحيلة في حَلْفه صادقًا أن يُحضر الموكل إلى منزله ويدفع إليه حقه ثم يغلق عليه الباب ويمضي مع الوكيل، فإذا حلف أنه لا حق لوكيله قبله حَلَفَ صادقًا، فإذا رجع إلى البيت فشأنه وشأن صاحب الحق. وهذه شرٌّ من حيلة اليهود أصحاب الحيتان، وهذه وأمثالها إنما هي من حيل اللصوص وقطاع الطريق، فما لدين اللَّه ورسوله وإدخالها فيه؟ ولا يجدي عليه هذا الفعل في بره باليمين شيئًا، بل هو حانث كل الحنث؛ إذ لم يتمكن صاحب الحق من الظفر بحقه فهو في ذمة الحالف كما هو، وإنما يبرأ منه إذا تمكَّن صاحبه من قبضه، وعدَّ نفسه مستوفيًا لحقه (¬3). [إبطال حيلة لإسقاط زكاة عروض التجارة] وكذلك لو كان له عروض (¬4) للتجارة فأراد أن يُسْقِطَ زكاتها، قالوا: فالحيلة ¬

_ (¬1) في (ك): "خلال". (¬2) كذا في (ن)، وفي سائر النسخ: "فهو". (¬3) وإن تعجب فاعجب لكثير من تجار اليوم، فإنك تجد أحدهم يحلف في سوقه عشرات الأيمان كذبًا؛ ليبيع سلعته، ولئن قلت له: هذا حرام ولا يجوز، يقول لك: إنني عند خروجي من بيتي إلى السوق أحلف يمينًا أن كل أيماني اليوم تكون كذبًا!! فيا سبحان اللَّه! هل يا مُسَيْكين حَلْفُكَ ويمينك أن تفعل الحرام يُسوِّغ ويجوّز لك فعل الحرام؟!! إذًا -على قولكم- لو أراد إنسان أن يقتل أو يسرق أو يزني، فليحلف أولًا لَيَفْعل كذا وكذا، ثم يفعل هذا الحرام، ولا شيء عليه!! وهذا من أعجب العجب!! ولقد صدق رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ قال: "إن التجار هم الفجار، قيل: يا رسول اللَّه! أوليس قد أحل اللَّه البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يُحدِّثون فيكذبون، ويحلفون فيأثمون" صحيح رواه أحمد (3/ 428) وغيره، وفي "صحيح مسلم" (1/ 71) قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. . . والمنفق سلعته بالحلف الكاذب". (¬4) في (ك): "غرض".

[إبطال حيلة أخرى لإبطال الزكاة]

أن ينوي بها القُنْيَة (1) في آخر الحول يومًا أو أقل، ثم ينقض هذه النية ويعيدها للتجارة، فيستأنف بها حولًا، ثم يفعل هكذا في آخر كل حول، فلا تجب عليه زكاتها أبدًا. فياللَّه العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]؟ ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة للَّه، ومكر بدين الإسلام، فهي باطلة في نفسها، فإنها إنما تصير للقُنْية (¬1) إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة، فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها البتة ولا له حاجة باقتنائها، وإنما أعَدَّها للتجارة، فكيف تتصور منه النية الجازمة للقنية (¬2) وهو يعلم قطعًا أنه لا يقتنيها ولا يريد اقتناءَها، وإنما هو مجرد حديث [النفس أو] (¬3) خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من يقول (¬4) بلسانه: "أعددتها للقنية" وليس ذلك في قلبه؟ أفلا يستحيي من اللَّه مَنْ يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس؟ [إبطال حيلة أخرى لإبطال الزكاة] وأعجب من هذا أنه لو كان عنده عَيْنٌ من الذهب والفضة (¬5) فأراد إسقاط زكاتها في جميع عمره، فالحيلة أن يدفعها إلى محتال مثله أو غيره في آخر الحول ويأخذ منه نظيرها فيستأنف له الحول، [ثم (في) آخره] (¬6) يعود فيستبدل بها مثلها، فإذا هو فعل [مثل] (¬7) ذلك لم تجب عليه زكاته ما عاش، وأعظم من هذه البلية إضافة هذا المكر والخداع إلى الرسول، وأن هذا من الدين الذي جاء به. ومثل هذا وأمثاله مَنَع كثيرًا من أهل الكتاب من الدخول في الإسلام، وقالوا: كيف يأتي رسول بمثل هذه الحيل؟ وأساءوا ظنهم به وبدينه، وتواصوا بالتمسك بما هم عليه، وظنوا أن هذا هو الشرع الذي جاء به، وقالوا: كيف تأتي بهذا شريعة أو تقوم به مصلحة أو يكون من عند اللَّه؟ ولو أن ملكًا من الملوك ساس رعيته بهذه السياسة لقدح ذلك في ملكه، قالوا: وكيف يشرعُ الحكيمُ الشيءَ ¬

_ (¬1) "القنية -بضم القاف أو كسرها، مع سكون النون فيهما-: ما اكتسبه الإنسان، واتخذه لنفسه لا للتجارة، [والنشب] " (د)، و (و)، وما بين المعقوفتين زيادة من (و) على (د). (¬2) انظر الهامش السابق. (¬3) في (ك) و (ق): "نفس و". (¬4) في (ن) و (ك) و (ق): "أن يقول". (¬5) في (ق): "والورق". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وما بين القوسين سقط من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[إبطال حيلة لإبطال الشهادة]

لما في شرعه من المصلحة ويحرِّم (¬1) لما في فعله من المفسدة ثم يبيح [إبطال] (¬2) ذلك بأدنى حيلة تكون؟ وترى الواحد منهم إذا ناظره المسلم في صحة دين الإسلام إنما يحتج عليه بهذه الحيل، كما هو في كتبهم، وكما نسمعه من لفظهم عند المناظرة، فاللَّه المستعان. وكذلك قالوا: لو كان له نصاب من السائمة فأراد إسقاط زكاتها فالحيلة في ذلك أن يعلفها يومًا واحدًا ثم تعود إلى السَّوْم، وكذلك يفعل في كل حول، وهذه حيلة باطلة لا تسقط عنه وجوب الزكاة، بل وكل حيلة (¬3) يتحيَّل بها على إسقاط فرض من فرائض اللَّه أو حق من حقوق عباده لا يزيد ذلك الفرض إلا تأكيدًا وذلك الحق إلا إثباتًا. [إبطال حيلة لإبطال الشهادة] وكذلك قالوا: إذا علم أن شاهدين يشهدان عليه فأراد [أن] (2) يبطل شهادتهما فليخاصمهما قبل الرفع إلى الحاكم، وهذه الحيلة حسنة إذا كانا يشهدان عليه بالباطل، فإذا علم أنهما يشهدان بحق لم تحل له مخاصمتهما (¬4)، ولا تُسقط هذه المخاصمة شهادتهما. [إبطال حيلة لضمان البساتين] وكذلك قالوا: لا يجوز ضمان البساتين، والحيلة على ذلك أن يؤجِّره الأرض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزءٍ على جزء، وهذه الحيلة لا تتم إذا كان البستان وَقْفًا وهو ناظِرُه أو كان ليتيم، فإن هذه المحاباة في المساقاة تقدح في نَظَره ووصيّته. فإن (¬5) قيل: إنها تُغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة (¬6) المستأجر له، فهذا لا يجوز له أن يحابي في المساقاة لما حصل للوقف واليتيم من محاباة أخرى، وهو نظير أن يبيع له سلعة بربح ثم يشتري له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح، هذا إذا لم يُبْنَ (¬7) أحد العقدين على الآخر، فإن بُني عليه كانا عقدين في ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "يحرمه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع و (ك): "بل وكذلك كل حيلة". (¬4) بعدها في (ك): "له". (¬5) في (ك) و (ق): "وإن". (¬6) في (ك) و (ق): "المحاباة". (¬7) في (ق): "يَنْبَنِ" مجودة.

عقد، وكانا بمنزلة (سَلَف وبيع، وشَرْطين في بيع)، وإن شرط أحد العقدين في الآخر فَسَدا، مع (¬1) أن هذه الحيلة لا تتم إلا على أصل مَنْ لم ير جواز المساقاة أو مَنْ خصَّها بالتحيّل (¬2) وحده، ثم فيها مفسدة أخرى، وهي أن المساقاة عقد جائز، فمتى أراد أحدهما فَسْخَها فَسَخها وتضرر (¬3) الآخر، ومفسدة ثانية، وهي أنه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من أنواعه، وقد يتعذَّر عليه ذلك أو يتعسَّر، إما بأن يأكل الثمرة أو يهديها كلها أو يبيعها على أصولها، فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء، وهذا (¬4) يقع سواء، ثم قد يكون ذلك الجزء من الألف يسيرًا جدًا، فلا يطالب به عادة، فيبقى في ذمته لليتيم وجهة (¬5) الوقف، إلى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة، وأصحابُ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كانوا أفقَهَ من ذلك، وأعْمَقَ علمًا، وأقل تكلفًا، وأبَرَّ قلوبًا، فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة، كما فعله عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بحديقة أسيد بن حضير (¬6)، ووافقه عليه جميع الصحابة، ¬

_ (¬1) في (ك): "من". (¬2) في (ق): "بالنخل". (¬3) في المطبوع: "تضر". (¬4) في المطبوع و (ك): "وهكذا". (¬5) في (ك) و (ق): "ولجهة". (¬6) أخرج ابن أبي شيبة (5/ 400)، حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن سعيد مولى عمر، أن أسيد بن حضير مات وعليه دين، فباع عمر ثمرة أرضه سنتين. أقول: كذا هنا في الإسناد سعيد مولى عمر، وصوابه سعد، ذكره البخاري في "تاريخه الكبير" (4/ 66) قال: سعد بن نوفل أن عمر استعمله على الجار، روى عنه ابنه عبد اللَّه، قال البخاري: أراه الذي روى: "أبو سلمة كذا، (وصوابه أبو أسامة) عن هشام بن عروة عن سعد مولى ابن عمر". ولم يذكر فيه شيئًا. أما ابن أبي حاتم فقد ذكر "سعد بن نوفل" الجاري مديني مولى عمر بن الخطاب، روى عن عمر وعبد اللَّه بن عمرو روى عنه زيد بن أسلم (4/ 96). وذكر في (4/ 99) سعد مولى عمر أن أسيد بن حضير أوصى إلى عمر -رضي اللَّه عنه- قاله أبو أسامة عن هشام، ونراه والد عبد الرحمن بن سعد مولى ابن عمر، وذكره الحسيني في "التذكرة" (1/ 572 رقم 2236) تحت اسم: سعد القلح، أو ابن سعد القلحة مولى عمر، روى عنه عبد اللَّه بن دينار: مجهول. قال الحافظ في "التعجيل" (150): قلت: بل هو معروف، وهو الذي يقال له: الجاري، ثم نقل عن ابن السمعاني في "الأنساب" (2/ 9 - 10): ينسب إليه أبو عبد اللَّه سعد بن نوفل الجاري، وكان عامل عمر على الجار، روى عنه ابنه عبد اللَّه بن سعد. ثم ذكر حديثه من رواية مالك عن عبد اللَّه بن دينار عنه. =

فصل [الحيلة السريجية لعدم وقوع الطلاق أصلا]

فلم ينكره منهم رجل واحد، وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مُقتَضى القياس الصحيح، كما تضمن الأرض لمغلّ الزرع فكذلك تضمن الشجر لمغل الثمر، ولا فرق بينهما البتة؛ إذ الأصل هنا كالأرض (¬1) هناك، والمغل يحصل بخدمة المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الأرض، ولو استأجر أرضًا ليحرثها ويسقيها ويستغل ما ينبته اللَّه تعالى فيها من غير بَذر (¬2) منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه، لا فرق بينهما البتة، فهذا أفقه من هذه الحيلة، وأبعد من (¬3) الفساد، وأصلح للناس، وأوفق للقياس، وهو اختيار أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الإسلام ابن تيمية -رضي اللَّه عنهما-، وهو الصواب (¬4). فصل [الحيلة السريجية لعدم وقوع الطلاق أصلًا] ومن هذا الباب الحيلة السُّرَيْجية (¬5) التي حدثت في الإسلام بعد المئة الثالثة، وهي تمنع الرجل من القدرة على الطلاق ألبتَّة، بل تسد عليه [باب] (¬6) الطلاق بكل وجه، فلا يبقى له سبيل إلى التخلص منها، ولا يمكنه مخالعتها عند مَنْ يجعل الخلع طلاقًا (¬7)، وهي نظير سد الإنسان على نفسه باب النكاح بقوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فهو لو صح تعليقه لم يمكنهُ في الإسلام أن يتزوج امرأة ما عاش، وذلك لو صح شرعه لم يمكنه أن يطلق امرأة أبدًا. وصورة هذه الحيلة أن يقول: كما طلقتك -أو كما وقع عليك طلاقي- فأنت طالق قبله ثلاثًا، قالوا: فلا يتصور وقوع الطلاق بعد ذلك؛ إذ لو وقع لزم ¬

_ = أقول: الحافظ لم يصنع شيئًا، فالحسيني -رحمه اللَّه- يريد أن الرجل لم يعرف بجرح ولا تعديل. (¬1) في (ن) و (ق): "كالأصل". (¬2) في (ق): "بذل". (¬3) في (ك): "عن". (¬4) انظر: "الاختيارات الفقهية" (ص 155)، "تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية" (2/ 1098)، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (30/ 110). (¬5) هي نسبة إلى القاضي ابن سريج الشافعي، وقد سبق تعريفها. (¬6) سقط في (ق). (¬7) والصواب أنه فسخ، وهذا اختيار المصنف وشيخه ابن تيمية، انظر "مجموع فتاوى ابن تيمية" (32/ 289، 290، 309)، "الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 659، 662).

فيه وقوع ما علَّق به وهو الثلاث، وإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجَّز، فوقوعه يُفضي إلى عدم وقوعه، وما أفضى وجودُه إلى عدم وجوده لم يوجد، هذا اختيار أبي العباس بن سُريج، ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشافعي (¬1)، وأبى ذلك جمهور الفقهاء من المالكية (¬2) والحنفية (¬3) والحنبلية (¬4) وكثير من الشافعية (¬5)، ثم اختلفوا في وجه إبطال هذا التعليق؛ فقال الأكثرون: هذا التعليق لغوٌ وباطلٌ من القول؛ فإنه يتضمن المحال، وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، وهذا محال، فما تضمنه فهو باطلٌ من القول، فهو بمنزلة قوله: إذا وقع عليك طلاقي لم يقع، وإذا طلقتك لم يقع عليك طلاقي، ونحو هذا من الكلام الباطل، بل قوله: "وإذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" أدْخَلُ في الإحالة والتناقض؛ فإنه في الكلام الأول جَعَلَ وقوع الطلاق [مانعًا من وقوعه] (¬6) مع قيام الطلاق، وهنا جعل وقوعه مانعًا من وقوعه مع زيادة محال عقلًا وعادةً، فالمتكلم به يتكلم بالمحال قاصدًا للمحال، فوجودُ هذا التعليق وعدمُه سواء، فإذا طلقها بعد ذلك نَفذَ طلاقه (¬7) ولم يمنع منه مانعٌ، وهذا اختيار [أبي الوفاء] (¬8) ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد وأبي العباس بن القاص (¬9) من أصحاب الشافعي. وقالت فرقة أخرى: بل المحال إنما جاء من تعليق الثلاث على المنجَّز، وهذا المحال (¬10) أن يقع المنجز ويقع جميع ما علق به؛ فالصواب أن يقع المنجَّز ويقع [جميع ما علق به] (¬11) أو تمام الثلاث من المعلق، وهذا اختيار القاضي ¬

_ (¬1) وصححه الشيرازي في "المهذب" (2/ 100)، وانظر "روضة الطالبين" (7/ 417، 8/ 162)، و"فتاوى السبكي" (2/ 297 - 301)، و"الفتاوى الكبرى" لابن حجر الهيتمي (4/ 183)، و"شرح البجيرمي على الخطيب" (3/ 440)، و"أسنى المطالب" (3/ 257) (¬2) انظر: "الشرح الكبير" (2/ 360، 387) للدردير، و"حاشية الخرشي" (4/ 26، 52)، و"حاشية العدوي على الخرشي" (4/ 26). (¬3) انظر: "رد المحتار" (3/ 229). (¬4) انظر: "المغني" (8/ 322)، و"المبدع" (7/ 346). (¬5) انظر: "فتاوى السبكي" (2/ 297 - 301)، و"الفتاوى الكبرى" (4/ 183) لابن حجر الهيتمي. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في المطبوع: "طلاقها". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ك): "العاص". (¬10) في (ك) و (ق): "محال". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[مسائل عديدة من الدور الحكمي]

وأبي بكر وبعض الشافعية [ومذهب أبي حنيفة] (¬1). والذين منعوا وقوع الطلاق جملة قالوا: هو ظاهر كلام الشافعي، فهذا تلخيص الأقوال في هذا التعليق. قال المصححون للتعليق (¬2): صَدَرَ من هذا الزوج طلاقان منجَّز ومعلّق، والمحل قابلٌ، وهو ممن يملك التنجيز والتعليق، والجمعُ بينهما ممتنعٌ، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فتمانعا وتساقطا، وبقيت الزوجية بحالها، وصار كما لو تزوج أختين في عقد واحد فإنه يبطل نكاحهما لهذا الدليل بعينه. وكذلك إذا أَعتقَ أمَتَه في مرض موته وزوَّجها عبده (¬3) ولم يدخل بها وقيمتها مئة ومهرها مئة وباقي التركة مئة لم يثبت لها الخيار؛ لأن إثبات الخيار يقتضي سقوط المهر، وسقوط المهر يقتضي نفي الخيار، والجمع بينهما لا يمكن، وليس أحدهما أولى من الآخر؛ لأن طريق ثبوتهما الشَّرعُ، فأبقينا النكاح ورفضنا الخيار ولم يسقط المهر، وكل ما أفضى وقوعُه إلى عدم وقوعه فهذه سبيلُه. ومثاله في الحس إذا تشاحَّ اثنان في دخول دار، وهما سواء في القوة، وليس لأحدهما على الآخر مزية توجب تقديمه؛ فإنهما يتمانعان فلا يدخل واحدٌ منهما، وهذا مشتق من دليل التمانع على التوحيد، وهو [أنه] (¬4) يستحيل أن يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل؛ فإن استقلالَ كل منهما ينفي استقلال الآخر، فاستقلالهما يمنع استقلالهما، ووِزَانُه (¬5) في هذه المسألة أن وقوعهما يمنع وقوعهما. [مسائل عديدة من الدور الحكمي] قالوا: وغاية ما في هذا الباب استلزام هذا التعليق لدَوْرٍ حكمي يمنع وقوع المعلَّق والمنجَّز، ونحن نريكم من مسائل الدور التي يُفْضي وقوعها إلى عدم وقوعها كثيرًا، منها ما ذكرناه (¬6)، ومنها ما لو وجد من أحدهما ريح وشكَّ كل واحد منهما هل هي منه أو من صاحبه، لم يجز اقتداء أحدهما بالآخر؛ لأن ¬

_ (¬1) انظر: "الهداية" (2/ 15)، "الدر المختار مع حاشية رد المحتار" (3/ 229)، وما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬2) في هامش (ق): "يعني ابن سريج". (¬3) في (ك): "عبد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ق): "ووازنه" وفي الهامش: "لعله: وازنه". (¬6) انظر: "بدائع الصنائع" (1/ 186 - 187).

اقتداءه به يبطل اقتداءه، وكذلك لو كان معهما (¬1) إناءان أحدهما نجس [فاجتهد] (¬2) فأدَّى اجتهاد كل منهما إلى إناء لم تجز القدوة بينهما؛ لأنها تُفْضي إلى إبطال القُدوَة. وكذلك إذا اجتهدا في الثَّوْبين والمَكَانَين. ومنها لو زوج عبدَه حرة وضمن السيد مهرها ثم باعها زوجَها (¬3) قبل الدخول بها (¬4) فالبيع باطل؛ لأن صحته تؤدي إلى فساده، إذ لو صح لبطل النكاح؛ لأنها إذا ملكت زوجها بطل نكاحها، وإذا بطل سقط مهرها؛ لأن الفُرقة من جهتها، وإذا سقط مهرُها وهو الثمن بطل البيع (¬5) والعتق البتة، بل إما أن يصحّ البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع، وإذا بطل بطل العتق؛ فوقوعه يؤدي إلى عدم وقوعه، وهذا قول المزني، وقال ابن سُرَيج: لا يصح بيعه؛ لأنه لو صح لوقع العتق قبله، ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع، فصحة البيع تمنع صِحَّته. وكذلك لو قال له: "إذا رهنتك فأنت حر قبله بساعة". وكذلك لو قال لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس: "إنْ حَجَر الحاكم عليّ فأنتم أحرار قبل الحجر بيوم" لم يصح الحَجْر؛ لأن صحته تمنع صحته. ومثله لو قال لعبده: "متى صالحت عليك فأنت حر قبل الصلح"، ومثله لو قال لامرأته: "إن صالحت فلانًا وأنتِ امرأتي فأنتِ طالقٌ قبله بساعة" لم يصح الصلح؛ لأن صحته تمنع صحته. ومثله لو قال لعبده: "متى ضمنتُ عنك صداقَ امرأتك فأنت حرٌّ قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي" ثمن ضمن عنه الصداق لم يصح؛ لأنه لو صح لعتق قبله، وإذا عتق [قبله] (¬6) لم يصادت الضمان شرطه، وهو كونه مملوكه وقت الضمان، وكذلك لا يقع العتق؛ لأن وقوعه يؤدي إلى أن لا يصح الضمان عنه، وإذا لم يصح الضمان [عنه] (6) لم يصح العتق، فكل من الضمان والعتق تؤدي صحتُه إلى بطلانه (¬7)؛ فلا يصح واحدٌ منهما. ¬

_ (¬1) في (ق): "معه". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) في المطبوع: "ثم باعه"، وفي هامش (ق): "يعني اشترى زوجها من سيده". (¬4) في (ك) و (ق): "بمهرها". (¬5) جاء عندها في (ق): "سقط هنا شيء" والعبارة كما هي في سائر الأصول. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ق): "إبطاله".

[مسائل يفضي ثبوتها إلى إبطالها]

ومثله [ما] (¬1) لو قال: "إن شاركني في هذا العبد شريك فهو حرٌّ قبله بساعة" لم تصح الشركة فيه بعد ذلك؛ لأنها لو صحت لعتق العبد وبطلت الشركة، فصحتها تُفْضي إلى بطلانها (¬2). ومثله [ما] (¬3) لو قال: "إن وكَّلتُ إنسانًا ببيع هذا العبد أو رَهْنِه أو هبته وكالةً صحيحة فهو قَبْلها بساعة حر" لم تصح الوكالة؛ لأن صحتها تؤدي إلى بطلانها. ومثله [ما] (3) لو قال لامرأته: "إن وكَّلت وكيلًا في طلاقك فأنت طالق قبله أو معه ثلاثًا" لم يصح توكيله في طلاقها؛ إذ لو صحت الوكالة [لطلقت في حال الوكالة أو قبلها، فتبطل الوكالة،] (¬4) فصحتُها تؤدي إلى بطلانها. وكذلك لو خلَّف الميت ابنًا، فأقَّر بابن آخر للميت، فقال المُقَر به: "أنا ابنه، وأما أنت فلستَ بابنه" لم يقبل إنكار المقر به؛ لأن قبول قوله يبطل قوله، ومن هاهنا قال الشافعي: لو ترك أخًا لأب وأم فأقرَّ الأخ بابن للميت ثبت نسبه ولم يرث؛ لأنه لو ورث لخرج المُقِر عن أن يكون وارثًا، وإذا لم يكن وارثًا لم يقبل إقراره بوارث آخر، فتوريث الابن يُفْضي إلى عدم توريثه، ونازعه الجمهور في ذلك، وقالوا: إذا ثبت نسبه ترتيب عليه أحكام النسب. ومنها الميراث، ولا يُفْضي توريثه إلى عدم توريثه؛ لأنه بمجرد الإقرار يثبت النسب ويترتب عليه الميراث والأخ كان وارثًا في الظاهر، فحين أقر كان هو كل الورثة، وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب؛ فلم يكن توريث الابن مبطلًا لكون [ابن] (¬5) المقر وارثًا حين الإقرار، وإن بطل كونه وارثًا بعد الإقرار وثبوت النسب، وأيضًا فالميراث تابع لثبوت النسب، والتابع أضعف من المتبوع، فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى، ألا ترى أن النِّساء تقبل شهادتهن منفردات في الولادة ثم في النسب (¬6)، ونظائر ذلك كثيرة. [مسائل يفضي ثبوتها إلى إبطالها] ومن المسائل التي يفضي ثبوتها إلى إبطالها لو أَعْتقت المرأة في مَرَضها عبدًا فتزوَّجها وقيمته تخرج من الثلث صح النكاح ولا ميراث له؛ إذ لو ورثها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬2) في (ن) و (ق): "بطلانه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين من (ن) فقط. (¬6) انظر: "الطرق الحكمية" (78 - ط المكتبة الأثرية).

فصل [مسائل يؤدي ثبوتها إلى نفيها]

لبطل تبرعها له بالعتق؛ لأنه يكون تبرعًا لوارث، وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل بطل الميراث، وكان توريثه يؤدي إلى إبطال توريثه، وهذا [على] (¬1) أصل الشافعي، وأما على قول الجمهور فلا يبطل ميراثه ولا عتقه ولا نكاحه؛ لأنه حين العتق لم يكن وارثًا، فالتبرع نَزَل في غير وارث، والعتق المنجَّز يتنجز (¬2) من حينه، ثم صار وارثًا بعد ثبوت عتقه، وذلك لا يضره شيئًا. ومن ذلك لو أوصى له بابنه، فمات قبل قبول الوصية، وخَلَّف إخوة لأبيه، فقبلوا الوصية، عَتَقَ على الموصى له ولم يصح ميراثه منه؛ إذ لو ورث لأسقط ميراثَ الإخوة، وإذا سقط ميراثُهم بطل قبولهم للوصية، فيبطل عتقه؛ لأنه مرتب على القبول، وكان توريثه مُفْضيًا إلى عدم توريثه. والصواب قول الجمهور أنه يرث، ولا دَور؛ لأن العتق حصل حال القبول وهم وَرَثة، ثم ترتيب على العتق تابعه وهو الميراث، وذلك بعد القبول، فلم يكن الميراث مع القبول ليلزم (¬3) الدور، وإنما ترتيب على القبول العتقُ وعلى العتق الميراثُ؛ فهو مترتب عليه بدرجتين. ومن المسائل التي يُفْضي ثبوتها إلى بطلانها لو زوج عبده امرأةً ولجعل رقبته صداقها لم يصح؛ إذ لو صح لملكته وانفسخ النكاح. ومنها لو قال لأمته: "متى أكرهتك فأنت حرة حال النكاح أو قبله" فأكرهها على النكاح لم يصح؛ إذ لو صح النكاح عَتَقَت، ولو عتقت بطل إكراهها، فيبطل نكاحها. ومنها لو قال لامرأته قبل الدخول: "متى استقر مهرك عليّ فأنت طالق قبله ثلاثًا" ثم وطئها لم يستقر مهرها بالوطء؛ لأنه لو استقرّ لبطل النكاح قبله، ولو بطل النكاح قبله لكان المستقر نصفَ المهر لا جميعه؛ فاستقرارُه يؤدي إلى بطلان استقراره، هذا على قول ابن سريج، وأما على قول المُزَني فإنه يستقر المهر بالوطء، ولا يقع الطلاق؛ لأنه مُعَلَّق على صفة تقتضي حكمًا مستحيلًا. فصل [مسائل يؤدي ثبوتها إلى نفيها] ومن المسائل التي يؤدي ثبوتُها إلى نفيها لو قال لامرأته: "إن لم أطلّقك ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): " ينجز". (¬3) في (ق): "لئلا يلزم".

اليوم فأنت طالق اليوم" ومضى اليوم [ولم يطلقها] (¬1) لم تطلق؛ إذ لو طلقت بمضي اليوم لكان طلاقها مستندًا إلى وجود الصفة وهي عدم طلاقها اليوم، وإذا مضى اليوم ولم يطلقها لم يقع الطلاق المعلَّق باليوم. ومنها: [ما] (¬2) لو تزوج أمَةً [ثم قال لها] (¬3): "إن مات مولاك وورِثْتُك فأنت طالق" أو قال: "إن ملكتك فأنت طالق" ثم ورثها أو ملكها بغير إرث لا يقع الطلاق؛ إذ لو وقع لم تكن الزوجة في حال وقوعه ملكًا له؛ لاستحالة وقوع الطلاق في ملكه، فكان وقوعه مُفْضيًا إلى عدم وقوعه. ومنها: [ما] (¬4) لو كان العبد بين مُوسِرَين فقال كل منهما لصاحبه: "متى أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل ذلك" فأعتق أحدهما نصيبه لم ينفذ عتقه؛ لأنه لو نفذ لوجب عتق نصيب صاحبه قبله، وذلك يوجب السّرَاية إلى نصيبه، فلا يصادف إعتاقه محلًا، فنفوذ عتقه يؤدي إلى عدم نفوذه. والصواب في هذه المسألة بطلان هذا التعليق لتضمنه المحال، وأيهما عتق نصيبه صح وسَرَى إلى نصيب شريكه. ومنها لو قال لعبده: "إن دَبَّرتك فأنت حر قبله" ثم دَبَّره صح التدبير ولم يقع العتق؛ لأن وقوعه يمنع صحة التدبير، وعدم صحته يمنع وقوع العتق، وكانت صحته تُفْضي إلى بطلانه، هذا على قول المزني، وعلى قول ابن سريج لا يصح التدبير؛ لأنه لو صح لوقع العتق قبله، وذلك يمنع التدبير، وكان وقوعه يمنع وقوعه. ونظيره أن يقول لمدبَّره: "متى أبطلت تدبيرك فأنت حرٌّ قبله" ثم أبطله بطل ولم يقع العتق. على قول المزني؛ إذ لو وقع لم يصادف إبطال التدبير محلًا، وعلى قول ابن سريج لا يصح إبطال التدبير؛ لأنه لو صَحَّ إبطاله لوقع العتق، ولو وقع العتق لم يصح إبطال التدبير. ومثله لو قال لمدبره: "إن بعتك فأنت حر قبله" ومثله لو قال لعبده: "إن كاتبتك غدًا فأنت اليوم حر". ثم كاتبه من الغد. ومثله لو قال لمكاتبه: "إن عجزت عن (¬5) كتابتك (¬6) فأنت [حر] (¬7) قبله". ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين من (ن) و (ق) و (ك). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فقال لها". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬5) في (و): "على"، وفي (ق): "عجزتك". (¬6) في (ك): "كتابك". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

ومثله لو قال: "متى زنيتَ أو سرقتَ أو وجبَ عليك حدٌّ وأنت مملوك فأنت حرٌّ قبله" ثم وجد الوصف وجب الحد ولم يقع العتق المعلَّق به؛ إذ لو وقع لم توجد الصفة، فلم يصح، وكان مستلزمًا لعدم وقوعه. ومثله أو يقول له: "متى جنيتَ جنايةً وأنت مملوكي فأنت حرٌّ قبله" ثم جنى لم يعتق. ومثله لو قال (¬1): "متى بعتك وتم البيع فأنت حر قبله" ثم باعه، فعلى قول المزني: يصح البيع ولا يقع العتق؛ لأن وقوعه يستلزم عدم (¬2) وقوعه، وعلى قول ابن سريج لا يصح البيع؛ لأنه يعتق قبله، وعتقه [له] (¬3) يمنع صحة بيعه. ومثله لو قال لأمته: "إن صلَّيتِ ركعتين مكشوفةَ الرأس فأنت حرة قبل ذلك" فصلت مكشوفة الرأس، فعلى قول المزني تصح الصلاة دون العتق، وعلى قول ابن سريج لا تصح الصلاة لأنها لو صحت عتقت قبل ذلك، وإذا عتقت بطلت صلاتها، وكانت صحة صلاتها مستلزمة لبطلانها. ومنها لو زوَّج أمته بحُرٍّ، وادعى عليه مَهْرَها قبل الدخول، وادعى الزوج الإعسار، وادعى سيدُ الأمة يَسارَه قبل نكاحه (¬4) الأمة بميراثٍ أو غيره، لم تُسمع دعواه؛ إذ لو ثبتت دعواه لبطل النكاح؛ لأنه لا يصح نكاح الأمة مع وجود الطَّول، وإذا بطل النكاح بطل دعوى المهر. وكذلك لو تزوج بأمَةٍ فادعت أن الزوج عِنين لم تُسمع دعواها؛ إذ لو ثبتت دعواها لزال خوف العنت الذي هو شرط في نكاح الأمة، وذلك يبطل النكاح، وبطلانه يوجب بطلان الدعوى منها، فلما كانت صحة دعواها تؤدي إلى إفسادها أفسدناها. وكذلك المرأة إذا اذعَتْ على سيِّد زوجها أنه باعه إياها بمهرها (¬5) قبل الدخول لم تصح دعواها؛ لأنها لو صحَّت لسقط نصف المهر وبطل البيع في العبد. وكذلك لو شهد شاهدان على عتق عبد فحُكِمَ بعتقه، ثم ادعى العبدُ بعد ¬

_ (¬1) كذا في (ن) و (ق) و (ك)، وفي سائر الأصول: "ومثله: لو أن يقول له". (¬2) في (ك) و (ق): "مستلزم لعدم". (¬3) ما بين المعقوفتين من (ن) و (ق)، وسقط من سائر الأصول. (¬4) في (ق) و (ك): "نكاح". (¬5) في (ك): "بمهر".

[الرد على المسألة السريجية]

الحكم بحرِّيته على أحد الشاهدين أنه مملوكه؛ لم تسمع دعواه؛ لأن تحقيقها يؤدي إلى بطلان الشهادة على العتق، فتبطل دعوى ملكه للشاهد. وكذلك لو سُبِيَ مراهق من أهل الحرب ولم يُعلم بلوغه، فأنكر البلوغ، لم يُستحلف؛ لأن إحلافه يؤدي إلى إبطال استحلافه، فإنا لو حلَّفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يمنع الاستحلاف. ونظيره لو ادعى على مُرَاهق (¬1) ما يوجب القصاص أو قذفًا يوجب الحد أو مالًا من مبايعة أو ضمان أو غير ذلك، وادَّعى أنه بالغ، وأنه يلزمه الحكم بذلك فأنكر الغلام ذلك، فالقول قوله، ولا يمين عليه؛ إذ لو حلفناه لحكمنا بصغره، والحكم بالصغر يُسْقِطَ اليمين عنه، وإذا لم يكن هنا يمين لم يكن رد يمين؛ لأن رَدَّ اليمين إنما يكونَ عند نكول مَن هو من أهلها. وكذلك لو أعتق المريض جارية له قيمتها مئة، وتزوَّج بها في مرض موته، ومَهَرَهَا مئة وترك مئتي درهم، فالنكاح صحيحٌ، ولا مَهرَ لها، ولا ميراث، أما الميراث فلأنها لو ورثت لبطلت الوصية بعتقها؛ لأن العتق في المرض وصية، وفي بطلان الوصية بطلان الحرية، وفيها (¬2) بطلان الميراث. وأما سقوط المهر فلأنه لو ثبت لركب السيدَ دَيْنٌ، ولم تخرج قيمتها من الثلث، فيبطل عتقها كلها، فلم يكن للزوج أن ينكحها وبعضها رقيق؛ فيبطل المهر، فكان ثبوت المهر مؤديًا إلى بطلانه. فالحكم بإبطالها مستفاد من قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] فعيَّر تعالى مَنْ نقض شيئًا بعد أن أثبته؛ فدل على أن كل ما كان إثباته مؤديًا إلى نفيه وإبطاله كان باطلًا، فهذا ما احتجَّ به السُّرَيْجِيُّونَ (¬3). [الرد على المسألة السريجية] قال الآخرون: لقد أطلتم الخَطْب في هذه المسألة، ولم تأتوا بطائل، وقلتم ولكن [كم] (¬4) تركتم مقالًا لقائل، وتأبى قواعد اللغة والشرع والعقل لهذه المسائل ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "أم مراهق" وضرب على (أم) في (ق)، وهو الصواب. (¬2) في المطبوع و (ك): "وفيه". (¬3) في (ك) و (ق): "المسرجون" وفي هامش (ق): "أي أتباع ابن سريج". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ن) و (ك) و (ق).

[مناقضة السريجية للعقل والشرع واللغة]

تصحيحًا، والميزان العادل لها عند الوزن ترجيحًا، وهيهات أن تكون شريعتنا في هذه المسألة مشابهة لشريعة أهل الكتاب؛ إذ يستحيل وقوعُ الطلاق وتُسَدُّ دونه الأبواب، وهل هذا إلا تغييرٌ لما عُلِمَ بالضرورة من الشريعة (¬1)، وإلزام لها بالأقوال الشنيعة؟ وهذا أشنع من سد باب النكاح بتصحيح تعليق [وقوع] (¬2) الطلاق لكل مَنْ تزوجها في مدة عمره (¬3)؛ فإنه وإن كان نظيره (¬4) سَدَّ باب الطلاق، لكن قد ذهب إليه بعض السلف، وأما هذه المسألة فمما حدث في الإسلام بعد انقراض الأعصار المفضلة. [مناقضة السريجية للعقل والشرع واللغة] ونحن نبين مناقضة هذه المسألة للشرع واللغة والعقل، ثم نجيب عن شبهكم شبهة شبهة. أما مناقضتها للشرع فإن اللَّه تعالى شرع للأزواج -إذا أرادوا استبدال زوج مكان زوج والتخلص (¬5) من المرأة- الطلاقَ- وجعله بحكمته ثلاثًا توسعة (¬6) على الزوج؛ إذ لعله يبدو له ويندم فيراجعها، وهذا من تمام حكمته ورأفته ورحمته بهذه الأمة، ولم يجعل أنكحتهم كأنكحة النصارى تكون المرأة غلًا في عُنُقِ الرجل (¬7) إلى الموت، ولا يخفى ما بين الشريعتين من التفاوت، وأن هذه المسألة منافية لإحداهما منافاة ظاهرة، ومشتقة من الأخرى اشتقاقًا ظاهرًا، ولكفي هذا الوجه وحده في إبطالها. [مناقضتها للغة] وأما مناقضتها للغة فإنها تضمنت كلامًا ينقض بعضه بعضًا، ومضمونه إذا وُجد الشيء لم يوجد، وإذا وجد الشيء اليوم فهو موجود قبل اليوم، وإذا فعلتُ الشيء اليوم فقد وقع مني قبل اليوم، ونحو هذا من الكلام المتناقض في نفسه الذي هو إلى المحال أقرب منه إلى الصحيح من المقال. ¬

_ (¬1) قال (د): "في عامة أصول هذا الكتاب: لما علم بالضرورة من الشريف"، وفي (ك): "لما علم اللَّه بالضرورة من الشريعة". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ن) فقط. (¬3) في (ك): "عمر". (¬4) في (ك) و (ق): "نظير". (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "أو التخلص". (¬6) في (و): "توسعًا"، وفي (ك) و (ق): "للزوج" بدل "على الزوج". (¬7) في (ن) و (ك) و (ق): "الزوج".

[مناقضتها لقضايا العقول]

[مناقضتها لقضايا العقول] وأما مناقضتها لقضايا العقول فلأن الشرط يستحيل أن يتأخر وجوده عن وجود المشروط، ويتقدم المشروط عليه في الوجود، هذا مما لا يُعقل عند أحد من العقلاء؛ فإن رتبة الشرط التقدم أو المقارنة، والفقهاء وسائرُ العقلاء معهم مجمعون على ذلك؛ فلو صح تعليق المشروط بشرطٍ متأخر بعده لكان ذلك إخراجًا له عن كونه شرطًا أو جزء شرط أو علة أو سببًا؛ فإن الحكم لا يسبق شَرْطَه ولا سببه ولا علَّته؛ إذ في ذلك إخراج الشروط والأسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها، ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجَازَ تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه؛ فإن الإيقاعَ سبب، والأسباب تتقدم مسبباتها، كما أن الشروط رتبتها التقدم؛ فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته، فجوَّزوا حينئذٍ تقدمَ الطلاق على التطليق والعتق على الإعتاق والملك على البيع، وحِل المنكوحة على عقد النكاح. وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدم (¬1) الانكسار على الكَسْر والسيل على المطر والشبع على الأكل والولد على الوطء وأمثال ذلك؟ ولا سيما على أصل منْ يجعل هذه العلل والأسباب علاماتٍ محضةً، ولا تأثير لها، بل هي معرِّفات، والمعرِّف يجوز تأخيره عن المعرَّف (¬2). وبهذا يخرج الجواب عن قولكم: إن الشروط الشرعية مُعَرِّفات وأمارات وعلامات، والعلامة يجوز تأخرها؛ فإن هذا وهم وإيهام من وجهين: أحدهما: أن الفقهاء مجمعون على أن الشرائط الشرعية لا يجوز تأخرها عن المشروط، ولو تأخرت لم تكن شروطًا. [أنواع الشروط وأحكام أنواعها] الثاني: أن هذا شرط لغوي كقوله: "إن كلَّمتِ زيدًا فأنت طالق" ونحو ذلك، و"إن خرجت بغير إذني فأنت طالق" ونحو ذلك، والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لأحكامها اقتضاء المسببات لأسبابها، ألا ترى أن قوله: "إن دخلت الدار فأنت طالق" سبب ومسبب ومؤثر وأثر، ولهذا يقع جوابًا عن العلة، فإذا قال: "لم أطلقها؟ " قال: لوجود الشرط الذي علقت عليه الطلاق، فلولا أن وجوده مؤثر في الإيقاع لما صح هذا الجواب، ولهذا يصح أن يخرجه بصيغة ¬

_ (¬1) في (ق): "تقديم". (¬2) في (ك): "العرف".

القسم فيقول: الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار؛ فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببًا عن دخولها الدار بالقسم والشرط، وقد غلط في هذا طائفة من الناس حيث قَسَّموا الشرط إلى شرعي ولغوي وعقلي، ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا: الشرط يجب تقديمه على المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط كالطهارة للصلاة والحياة للعلم. ثم أوردوا على نفسهم (¬1) الشرطَ اللغوي؛ فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط، ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه؛ لجواز وقوعه بسبب آخر، ولم يجيبوا عن هذا الإيراد بطائل، والتحقيق أن الشروط اللغوية أسباب عقلية، والسبب إذا تم لزم من وجوده وجود مسببه، وإذا انتفى لم يلزم نفي المسبب مطلقًا؛ لجواز خلف سبب آخر، بل يلزم انتفاء السبب المعين عن هذا المسبب (¬2). وأما قولكم: "إنه صَدَرَ من هذا الزوج طلاقان مُنَجز ومُعَلق، والمحل قابل لهما" فجوابه بالمنع، فإن المحل ليس بقابل للمعلق؛ فإنه يتضمن المحال، والمحل لا يقبل المحال، نعم هو قابل للمنجز وحده، فلا مانع من وقوعه، وكيف تصح دعواكم أن المحلَّ قابل للمعلق، ومنازعكم إنما نازَعَكم فيه، وقال: ليس المحل بقابل للمعلق، فجعلتم نفس الدعوى مقدمة في الدليل. وقولكم: "إن الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق" جوابه أنه إنما يملك (¬3) التعليق الممكن، فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعًا ولا عرفًا ولا عادةً، وقولكم: "لا مزية لأحدهما على الآخر" باطلٌ، بل المزية كل المزية لأحدهما على الآخر؛ فإن المنجَّزَ له مزية الإمكان في نفسه، والمعلق له مزية الاستحالة والامتناع، فلم يتمانعا ولم يتساقطا، فلم يمنع من وقوع المنجز مانعٌ (¬4)، وقولكم: "إنه نظير ما لو تزوج أختين في عقد" جوابه أنه تنظير باطل؛ فإنه ليس نكاح إحداهما شرطًا في نكاح الأخرى، بخلاف مسألتنا، فإن المنجز شرط في وقوع المعلق، وذلك عين المحال. وقولكم: "إنه لا مزية لأحد الطلاقين على الآخر" باطل، [بل للمنجز مزية] (¬5) من عدة وجوه: ¬

_ (¬1) في (ق): "نفوسهم". (¬2) في (ق): "السبب". (¬3) في (ك) و (ق): "ملك". (¬4) سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

أحدها: قول التنجيز على التعليق. الثاني: أن التنجيز لا خلاف في وقوع الطلاق به. وأما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء (¬1)، والموقِعُون لم يقيموا (¬2) على المانعين حجةً توجب المصير إليها مع تناقضهم فيما يَقْبل التعليق وما لا يقبله، فمنازعوهم يقولون: الطلاق لا يقبل التعليق كما قلتم أنتم في الإسقاط والوقف والنكاح والبيع، ولم يفرق هؤلاء بفرقِ صحيح، وليس الغرض ذكر تناقضهم، بل الغرض أن للمنجَّز مزية على المعلَّق. الثالث: أن المشروط هو المقصود لذاته والشرط تابع ووسيلة. الرابع: أن المنجز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحل، والتعليق المحال لا يصلح أن يكون مانعًا من اقتضاءِ السببِ الصحيح أثره. الخامس: أن صحة التعليق فرع على ملك التنجيز، فإذا انتفى ملكه للمنجز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق، فصحة التعليق تمنع من صحته، وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأملها. السادس: أنه لو قال في مرضه: "إذا أعتقتُ سالمًا فغانمٌ حرٌّ" ثم أعتق سالمًا ولا يخرجان من الثلث قدم المُعْتَق (¬3) المنجَّز على المعلق لقوته؛ يوضحه: الوجه السابع: أنه لو قال لغيره: "ادخل الدار فإذا دخلت [فقد] (¬4) أخرجتك" وهو نظيره في القوة؛ فإذا دخل لم يمكنه إخراجه، وهذا المثال وزان ¬

_ (¬1) قال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع إلا عند مجيء الأجل، وعن مالك روايتان، والراجح أن الطلاق يقع إذا جاء الأجل. انظر للحنفية: "مختصر الطحاوي" (198 - 199)، "المبسوط" (6/ 114)، "مختصر اختلاف العلماء" (2/ 438 رقم 949)، "بدائع الصنائع" (5/ 91). وللشافعية "الأم" (5/ 184)، "حلية العلماء" (7/ 91)، "إخلاص الناوي" (3/ 215). وللمالكية: "المدونة" (2/ 375، 389 - ط دار صادر)، "التفريع" (2/ 83 - 84)، "الكافي" (226 - 227)، "المعونة" (2/ 844)، "جامع الأمهات" (ص 300)، "حاشية الصاوي على الشرح الصغير" (1/ 348)، "الخرشي" (4/ 54)، "الإشراف" (3/ 432 رقم 1247) وتعليقي عليه. و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (33/ 44 - 46)، "السنن الكبرى" (7/ 356) للبيهقي و"الدرة المضية" (13 - 16) للسبكي. (¬2) في (ق): "يجيئوا". (¬3) في (د)، و (ط) و (ك) و (ق): "قدم عتق". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.

فصل [عود إلى صور الدور التي يفضي ثبوتها إلى إبطالها]

مسألتنا، فإن المعلق هو الإخراج والمنجز هو الدخول. الثامن: أن المنجز في حيز الإمكان والمعلق قد قارنه ما جعله مستحيلًا. التاسع: أن وقوع المنجز يتوقف على أمر واحد وهو التكلم باللفظ [اختيارًا، ووقوع المعلق يتوقف على التكلم باللفظ،] (¬1) ووجودِ الشرط، وما توقف على شيء (¬2) واحد أقرب وجودًا مما توقف على أمرين. العاشر: أن وقوع المنجز موافق لتصرف الشارع وملك المالك، ووقوعُ المعلق بخلافه؛ لأن الزوج لم يملكه الشارع ذلك. فهذه عشرة أوجه تدل على مزية المنجز وتبطل قولكم إنه لا مزية له، واللَّه أعلم. فصل [عود إلى صور الدور التي يفضي ثبوتها إلى إبطالها] وأما سائر الصور التي ذكرتموها من صُوَر الدَّوْر التي يُفضِي ثبوتها إلى إبطالها فمنها ما هو ممنوع الحكم لا يسلّمه لكم منازعكم، وإنما هي مسائل مذهبية يحتج لها ولا يحتج بها، وهم يفكون الدور تارة بوقوع الحُكْمين معًا وعدم إبطال أحدهما للآخر ويجعلونهما معلولَيْ علة واحدة ولا دَوْر، وتارة يسبق (¬3) أحد الحكمين للآخر سبق السبب لمسببه ثم يترتب الآخر عليه، ومنها ما هو مسلم الحكم وثبوت الشيء فيه يقتضي إبطاله. ولكن هذا حجة لهم في إبطال هذا التعليق؛ فإنه لو صح لأفضى ثبوته إلى بُطْلانه، فإنه لو صح لزم منه وقوع طَلْقة مسبوقة بثلاث، وسَبْقها بثلاث يمنع وقوعها، فبطل (¬4) التعليق من أصله [للزوم المحال] (¬5)؛ فهذه الصور التي استشهدتم بها من أقوى حججهم [عليكم] (¬6) على بطلان التعليق. وأدلتكم في هذه المسألة نوعان: أدلة صحيحة وهي إنما تقتضي (¬7) بطلان التعليق. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ق): "شرط". (¬3) في (ق) و (ك): "سبق". (¬4) في (ك): "فيبطل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق) و (ن). (¬7) في (ك): "تفضي إلى".

[أدلتهم التي تقتضي بطلان المنجز]

[أدلتهم التي تقتضي بطلان المنجز] وأما الأدلة التي تقتضي بطلان المنجز فليس منها دليل صحيح؛ فإنه طلاق صَدَر من أهله في محله؛ فوجب الحكم بوقوعه؛ أما أهلية المطلِّق فلأنَّه زوج مكلف مختار، وأما محلية المطلقة فلأنها زوجة والنكاحُ صحيحٌ فتدخل (¬1) في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وفي سائر نصوص الطلاق؛ إذ لو لم يلحقها (¬2) طلاقٌ لزم واحد من ثلاثة، وكلها منتفية: • إما عدم أهلية المطلِّق. • وإما عدم قبول المحلّ. • وإما قيامُ مانعٍ يمنع من نفوذ الطلاق، والمانعُ مفقودٌ؛ إذ ليس مع مدعي قيامه إلا التعليق المحال الباطل شرعًا وعقلًا، وذلك لا يصح أن يكون مانعًا. يوضِّحه: أن المانع من اقتضاء السبب لمسببه إنما هو وصف ثابت يعارض سببيته فيوقفها عن اقتضائها، فأما المستحيل فلا يصح أن يكون مانعًا معارضًا للوصف الثابت، وهذا في غاية الوضوح، وللَّه الحمد. فصل [رد السريجيين] قال السريجيون (¬3): لقد ارتقيتم مرتَقًى صعبًا، وأسأتم الظن بمن قال بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يُشَقّ غبارُهم، ولا تُغْمَز قناتُهم، كيف وقد أخذوها من نص الشافعي رحمه اللَّه تعالى، وبَنَوْها على أصوله، ونَظّرُوا لها النظائر، وأتوا لها بالشواهد؟ فنص الشافعي على أنه إذا قال: "أنت طالق قبل موتي بشهر" ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق؛ وقع الطلاق قبل موته بشهر وهذا إيقاعُ طلاقٍ في زمن ماض سابق لوجود الشرط وهو موته، فإذا وجد الشرط تبيَّنا وقوع الطلاق قبله، وإيضاح ذلك بإخراج الكلام يخرج الشرط، كقوله: "إن مت -أو إذا متُّ- فأنت طالق قبل موتي بشهر" ونحن نلزمكم بهذه المسألة على هذا الأصل، فإنكم ¬

_ (¬1) في المطبوع: "فيدخل". (¬2) في (ق): "يلحق". (¬3) في (ك) و (ق): "المسرجون" وفي هامش (ق): "أي أتباع ابن سريج".

موافقون عليه، وكذا قوله قبل دخوله: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" فإنه يقع بها طلقتان وإحداهما وقعت في زمن ماض سابق على التطليق، وبهذا خرج الجواب عن قوله: "إن الوقوعَ كما لم يسبق الإيقاع فلا يسبق الطلاقُ التطليق فكذا لا يسبق شرطُه فإن الحكم لا يتقدم عليه، ويجوز تقدمُه على شرطه وأحد سببيه أو أسبابه" فإن الشرط مُعَرِّف محض، ولا يمتنع تقديم المعرف عليه، وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقديم الكفارة على الحِنْث بعد اليمين، وتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب، وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق، ونظائره. وأما قولكم: "إن الشرط يجب تقدمه (¬1) على المشروط" فممنوعٌ بل مُقتضى الشرط (¬2) توقفُ المشروطِ على وجوده، وأنه لا يوجد بدونه، وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه، وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع، ولا سبيل لكم إلى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا إلى دليل شرعي ولا عقلي، فدعواه غير مسموعة، ونحن لا ننكر أن من الشروط ما يتقدم مشروطَه، ولكن دعوى أن ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطًا دعوى لا دليل عليها، وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في الأحكام الشرعية؛ لأن الشروط في كلامهم تتعلق بالأفعال كقوله: "إن رزتني أكرمتك" و"إذا طلعت الشمس جئتك" فيقتضي الشرط ارتباطًا بين الأول والثاني: فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم، وأما الأحكام فتقبل التقدم والتأخر والانتقال، كما لو قال: "إذا متُّ فأنت طالق قبل موتي بشهر" ومعلوم أنه لو قال مثل هذا في الحسيات كان محالًا، فلو قال: "إذا زُرْتني أكرمتك قبل أن تزورني بشهر" كان محالًا، إلا أن يحمل كلامه على معنى صحيح، وهو إذا أردت أو عزمت على زيارتي أكرمتك قبلها. وسر المسألة: أن نقَل الحقائق عن مواضعها ممتنعٌ، والأحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير، ولهذا لو قال: "أعْتِق عبدك عني" ففعل؛ وقع العتق عن القائل، وجعل الملك متقدمًا على العتق (¬3) حكمًا، وإن لم يتقدم عليه حقيقة. وقولكم: "يلزمنا تجويز تقديم الطلاق على التطليق" فذلك غيرُ لازمٍ؛ فإنه إنما يقع بإيقاعه؛ فلا يسبق إيقاعه، بخلاف الشرط، فإنه لا يوجب وجود ¬

_ (¬1) في المطبوع: "تقديمه". (¬2) في المطبوع: "الشرع". (¬3) في (ك): "الملك".

[طلاقان يسبق أحدهما الآخر]

المشروط، وإنما يرتبط به، والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر، والأعم لا يستلزم الأخص. ونكتة الفرق: أن الإيقاع موجِبٌ للوقوع؛ فلا يجوز أن يسبقه أثره وموجبه، والشرط علامة على المشروط؛ فيجوز أن يكون قبله وبعده، فوِزانُ الشرط وزِانُ الدليل، ووزانُ الإيقاع وزانُ العلة، فافترقا. وأما قولكم: "إن هذا التعليق يتضمن المُحَالَ إلى آخره" فجوابه أن هذا التعليق تضمن شرطًا ومشروطًا، وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع، وقد تعقد للإبطال؛ فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء، بل تعليق (¬1) ممتنع بممتنع، فتصدق الشرطية وإن انتفى كلٌّ من جزئيها، كما تقول: "لو كان مع اللَّه إلهٌ آخر لفسد العالم"، وكما في قوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] ومعلوم أنه لم يقله ولم يعلمه اللَّه، وهكذا قوله: "إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" فقضيةٌ عقدت لامتناع وقوع طرفيها، وهما المنجز والمعلق. [طلاقان يسبق أحدهما الآخر] ثم نذكر في ذلك قياسًا [آخر] (¬2) حَرَّره الشيخ أبو إسحاق رحمه اللَّه تعالى، فقال: طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر؛ فوجب أن ينفي السابقُ منهما المتأخر. نظيره أن يقول لامرأته: "إن قَدِم زيد فأنت طالق ثلاثًا (¬3)، وإن قدم عمرو (¬4) فأنت طالقٌ طلقة، فقدم زيد بُكرةً وعمرو عشيةً (¬5). ونكتة المسألة أنَّا لو أوقعنا الطلاق المباشر لزمنا أن نوقع قبله ثلاثًا ولو أوقعنا قبله ثلاثًا لامتنع وقوعه في نفسه؛ فقد أدى الحكم بوقوعه إلى الحكم بعدم وقوعه، فلا يقع. [عود إلى رد السُّريجيين] وقولكم: "إن هذه اليمين تُفْضِي إلى سد باب الطلاق، وذلك تغيير [لشرع اللَّه] (¬6)؛ فإن اللَّه مَلكَ الزوجَ الطلاق رحمة به -إلى آخره" جوابه أن هذا ليس فيه تغيير للشرع، وإنما هو إتيانٌ بالسبب الذي ضيَّق به على نفسه ما وسعه اللَّه عليه، وهو هذه اليمين، وهذا ليس تغييرًا للشرع. ألا ترى أن اللَّه تعالى وَسَّع عليه ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "تعلق". (¬2) سقط من (ق). (¬3) في (ن) و (ق): "فأنت طالق قبله ثلاثًا". (¬4) في (ك) و (ق): "عمر". (¬5) انظر: "المهذب" (2/ 92 - 93). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

أمر الطلاق فجعله واحدة بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم، فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفمٍ واحدٍ حصر نفسه وضيّق عليها ومنعها ما كان حلالًا لها، وربما لم يبق له سبيل إلى عَوْدها إليه، ولذلك جعل اللَّه تعالى الطلاق إلى الرجال، ولم يجعل للنساء فيه حظًا؛ لنقصان عقولهن وأديانهن، فلو جعله إليهن لكان فيه فسادُ كبيرٌ تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده، فكانت المرأة لا تشاء أن تستبدل بالزوج إلا استبدلت به، بخلاف الرجال؛ فإنهم أكمل عقولًا وأثبت، فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عِيلَ صبره، ثم إن الزوج (¬1) قد يجعل طلاق امرأته (¬2) بيدها، بأن يملّكها ذلك أو يحلف عليها أن (¬3) لا تفعل كذا، فتختار طلاقه متى شاءت، ويبقى الطلاق بيدها، وليس في هذا تغيير للشرع؛ لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه، ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديمًا وحديثًا: إنه لو قال: "كل امرأة أتزوجها فهي طالق" لم يمكنه أن يتزوج بعد ذلك امرأة، حتى قيل: إن أهل الكوفة أطبقوا (¬4) على هذا القول، ولم يكن [في] (5) ذلك تغيير للشريعة؛ فإنه هو الذي ضيَّق على نفسه ما وَسَّع اللَّه عليه، ونظير هذا لو قال: "كل عبد وأمة أملكهما فهما حُرَّان" لم يكن [له] (¬5) سبيل بعد هذا إلى ملك رقيق أصلًا، وليس في هذا تغيير للشرع، بل هو المضيق على نفسه، والضيق والحرج الذي يُدْخِله المكلف على نفسه لا يلزم أن يكون الشارع قد شَرَعه له، وإن ألزمه به بعد أن ألزم نفسه، ألا ترى أن مَنْ كان معه ألف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق إلى الاستبدال بها، وعليه ضررٌ في إعتاقها أو تزويجها أو إمساكها ولا بد له من أحَدِها. ثم نقول في معارضة ما ذكرتم: قد (¬6) يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح، بأن يكون محبًا لزوجته شديدَ الإلفِ بها، وهو مشفقٌ من أن ينزغ الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة أو موجدة، أو يحلف يمينًا بالطلاق أو يُبْلَى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر إلى الحنث، أو يُبْلَى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه إلى حاكم ينفذه، أو يُبْلَى بشاهدَيْ زورٍ يشهدان عليه بالطلاق، وفي ذلك ضرر عظيم به، وكان من محاسن الشريعة أن يُجعل له طريقًا إلى الأمن من ذلك كله، ولا طريق أحسن من هذه؛ فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن ¬

_ (¬1) في (ك): "الرجل". (¬2) في (ق): "المرأة". (¬3) في (ق): "فإن". (¬4) في (ق): "اتفقوا". (¬5) سقط من (ق). (¬6) في المطبوع: "بل".

فصل [الجواب على شبه أصحاب الحيلة السريجية]

تأتي بمثل ذلك، ونحن لا ننكر أن في ذلك نوع ضرر عليه، لكن رأى احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء، وما يُنكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما؟ فصل [الجواب على شبه أصحاب الحيلة السريجية] قال الموقّعون: لقد دعوتم الشُّبَهَ الجَفَلَى (¬1) إلى وليمة هذه المسألة، فلم تَدَعُوا منها داعيًا ولا مجيبًا، واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابةَ الاجتهاد، وليس كل مجتهد مصيبًا، ونثرتم عليها ما لا يصلح مثلها (¬2) للنثار، وزيّنتموها بأنواع الحلي، ولكنه حُلىٌّ مستعار؛ فإذا استردت العارية زال الالتباس والاشتباه، وهناك (تسمع بالمُعَيْدِيِّ خير من أن تراه) (¬3). فأما قولكم: "أنا ارتقينا مرتقى صعبًا، وأسأنا الظن بمن قال بهذه المسألة" فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيمًا أو تبديعًا فمعاذ اللَّه! بل أنتم أسأتم بنا الظن، وإن أردتم بإساءة الظن أنَّا لم نصوبهم في هذه المسألة، ورأينا الصواب في خلافهم فيها؛ فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تَنَازَعْنا فيه، بل سائر المتنازعين بهذه المثابة، وقد صرح الأربعة الأئمة (¬4) بأن الحق في واحد من الأقوال المختلفة، وليست كلها صوابًا (¬5). ¬

_ (¬1) قال (و): "الجفلى: أي دعاها بجماعتها وعافتها"، ونحوه في (ط) وزاد: "وقد أخذ هذا التعبير من قول الشاعر: نحن في المشتاة ندعو الجفلى ... لا ترى الآداب فينا ينتقر" قلت: وانظر: "لسان العرب" (1/ 643). (¬2) في (د) و (ك) و (ق): "مثله". (¬3) مثل يضرب فيمن شهر ذكره، وتزدري مرآته. ومعيدي: تصغير مَعَدِّي -بفتح الميم والعين وكسر الدال مع تشديدها-" (و). وانظر: "جمهرة الأمثال" (1/ 266)، "الأمثال" (9) للضبي، "الفاخر" (65)، "فصل المقال" (121) "مجمع الأمثال" (1/ 86)، "المستصفى" (148) "اللسان" (معد). (¬4) في (ق): "الأئمة الأربعة". (¬5) وهذا هو الحق، فالمجتهدون منهم المصيب وله أجران، ومنهم المخطئ, وله أجر واحد، فالحق أن الحق واحد لا يتعدد، وانظر هذه المسألة في "الإحكام في أصول الأحكام" (4/ 189)، و"المستصفى" (2/ 363)، و"المحصول" (6/ 33 - 65)،=

وأما قولكم: "إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي" فجوابه من وجهين: أحدهما: أنها لو كانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الأئمة يحتج له ولا يحتج به، وقد نازعه الجمهور فيها، والحجة تفصل ما بين المتنازعين. الثاني: أن الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه لم ينصَّ عليها ولا على ما يستلزمها. وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله: "أنت طالق قبل موتي بشهر" (¬1) فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينَّا وقوع الطلاق، وهذا [قد] (¬2) وافقه عليه مَنْ يبطل هذه المسألة، وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها، وليس فيه سبق الطلاق لشرطه، ولا هو متضمن للمُحَال؛ إذ حقيقتُه؛ إذا بَقي من حياتي شهر فأنت طالق. وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه، وإنما نظير المسألة المتنازع فيها أن يقول: "إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر" وهذا المحال بعينه، وهو نظير قوله: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" أو يقول: "أنت طالق عامَ الأول" فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سريج شيء، ويدل عليه أن الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق؛ فلو مات عقيب اليمين لم تطلق، وكانت بمنزلة قوله: "أنت طالق في الشهر الماضي" وبمنزلة قوله: "أنت طالق قبل أن أنكحك" فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق؛ لأنها في أحدهما لم تكن محلًا، وفي الثاني لم تكن فيه طالقًا قطعًا، فقوله: "أنت طالق في وقت قد مضى" ولم تكن فيه طالقًا إما إخبارٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل، وقد قيل: يقعُ عليه الطلاق ويلغو قوله: "أمس" لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وَصَلَ به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصح (¬3) ويقع لغوًا، وكذلك قوله: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" ليس فيه إيقاع ¬

_ = و"الإحكام" (5/ 70) لابن حزم، و"روضة الناظر" (ص 324 - 334)، و"المسودة" (ص 497 - 506)، و"شرح اللمع" (43/ 102)، و"البحر المحيط" (6/ 241 - 253)، و"إرشاد الفحول" (ص 260 - دار الفكر). (¬1) انظر: "الأم" (5/ 198) و"معرفة السنن" (11/ 67 - 68)، و"مغني المحتاج" (3/ 302، 333، 334)، و"المهذب" (2/ 86). (¬2) سقط من (ق). (¬3) كذا في (ن) و (ق) و (ك) وفي سائر النسخ: "فلا يصلح".

الطلقة (¬1) الموصوفة بالقَبْلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الإيقاع، وإنما فيه إيقاع طلقتين إحداهما قبل الأخرى؛ فمن ضرورة قوله: "قبلها طلقة" إيقاعُ هذه السابقة أولًا ثم إيقاع الثانية بعدها؛ فالطلقتان إنما وقعتا بقوله: "أنت طالق" لم تتقدم إحداهما على زمن الإيقاع، وإن تقدمت على الأخرى تقديرًا، فأين هذا من التعليق المستحيل؟ فإن أبيتم وقلتم: قد وصل (¬2) الطلقة المنجّزة بتقدّم مثلها عليها، والسبب هو قوله: أنت طالق؛ فقد تقدم وقوع الطلقة المعلَّقة بالقَبْلية على المنجزة، ولما كان هذا نكاحًا صح، وهكذا قوله: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبلها ثلاثًا" أكثَرُ ما فيه تقدم الطلاقِ السابق على المنجز، ولكن المحل لا يحتملهما؛ فتدافعا وبقيت الزوجية بحالها، ولهذا لو قال: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قَبْله واحدة" صح لاحتمال المحل لهما. فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة، ولم تسبق إحداهما إيقاعه، ولم يتقدم شرط الإيقاع؛ فلا محذور، وهو كما لو قال: "بعدها طلقة، أو معها طلقة" وكأنه قال: "أنت طالق طلقتين معًا، أو واحدة (¬3) بعد واحدة" ويلزم من تأخر واحدة (¬4) عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى، فلا إحالة، أما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقَصْدُه باطل، والتعبير عنه إن كان خبرًا فهو كذبٌ، وإن كان إنشاءً فهو منكرٌ؛ فالتكلّمُ به منكرٌ من القول وزور (¬5) في إخباره، منكر في إنشائه، وأما كون المعلق تمام الثلاث فههنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما وهما وجهان في مذهب أحمد (¬6) والشافعي رضي اللَّه عنهما (¬7): أحدهما: يصح هذا التعليق ويقع المنجز والمعلق، وتصير المسألة على وزان ما نص عليه الشافعي من قوله: "إذا مات زيد فأنت طالق قبله بشهر" فمات بعد شهر، فهكذا إذا قال: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة" ثم مضى زمن تمكن فيه القَبْلية ثم طلقها تبينَّا وقوع المعلق في ذلك الزمان وهو متأخر عن الإيقاع؛ فكأنه قال: "أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقًا" فهو تطليق في زمن متأخر. ¬

_ (¬1) في (ق): "للطلقة". (¬2) في (ك) و (ق): "وصف". (¬3) في (ك) و (ق): "وواحدة". (¬4) في (د): "واحدًا". (¬5) في (ق): "وزور زور". (¬6) "المغني" (7/ 164)،"كشاف القناع" (5/ 333). (¬7) انظر ما مضى قريبًا.

والقول الثاني: أن هذا محال أيضًا، ولا يقع المعلق؛ إذ حقيقته أنت طالق في الزمن السابق على تطليقك تنجيزًا أو تعليقًا فيعود إلى (¬1) سبق الطلاق للتطليق، وسبق الوقوع للإيقاع (¬2)، وهو حكمٌ بتقديم (¬3) المعلول على علَّته. يوضحه أن قوله: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله" إما أن يريد طالق قبله بهذا الإيقاع أو بإيقاعٍ متقدم. والثاني ممتنع، لأنه لم يسبق هذا الكلام منه شيء. والثاني لأنه يتضمن (¬4): "أنت طالق قبل أن أطلقك" وهذا عين المحال. فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر مأخذها، وقد تبين أن مسألة الشافعي هذه لون وهي لون آخر (¬5). وأما قولكم: "إن الحُكمَ لا يجوز تقدمه على علّته، ويجوز تقدمه على شرطه (¬6) كما يجوز تقدمه على أحد سببيه -إلى آخره" فجوابه أن الشرط إما أن يوجد جزءًا من المُقْتضى أو يوجد خارجًا عنه، وهما قولان للنُّظار، والنزاع لَفْظِيٌّ؛ فإن أريد بالمقتضى التام فالشرط جزءٌ منه، وإن أريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرط وعدم مانعه فالشرطُ ليس جزءًا منه، ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه، والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة، والأولى (¬7) طريقة المانعين من التخصيص، وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط؛ لأنه يستلزم وقوع الحكم بدون سببه التام؛ فإن الشرط إن كان جزءًا من المقتضى فظاهرٌ، وإن كان شرطًا لاقتضائه فالمعقق على الشرط [لا] (¬8) يوجد (¬9) عند عدمه، وإلا لم يكن شرطًا؛ فإنه لو كان يوجد بدونه لم يكن شرطًا، فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام، فإن سببه لا يتم إلا بالشرط، فعاد الأمر إلى سبق الأثر لمؤثره والمعلول لعلته، وهذا محال، ولهذا لما لم يكن لكم حيلةَ في دَفْعه وعلمتم لزومه فررتم إلى ما لا يُجْدِي عليكم شيئًا، وهو جَعلُ ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "على". (¬2) في (ق): "الإيقاع للوقوع". (¬3) في (ك) و (ق): "بتقدم". (¬4) كذا في (ن) و (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ: "والثاني كذلك؛ لأنه لا يتضمن". (¬5) كذا في (ن) و (ق) و (ك). وفي سائر النسخ: "أن مسألة الشافعي لون وهذه لون آخر". (¬6) في (ن): "على أحد شرطه"، وفي (ق): "على أحد شرطيه". (¬7) في (ك) و (ق): "الأول". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك)، وفي هامش (ق): "لعله: لا". (¬9) في (ك): "يوجده".

الشرط مجرد علامة ودليل ومعرِّف، وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطًا وإبطال لحقيقته؛ فإن العلامة والدليل والمعرف ليست شروطًا في المدلول المعرَّف، ولا يلزم من نفيها نفيه، فإن الشيء يثبت بدون علامةٍ ومعرِّف له، والمشروط ينتفي لانتفاء شرطه وإن لم يوجد لوجوده. وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والأمارة المَحْضَة وأن حقيقة أحدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه، وإن كان قد يقال: إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول، فذاك أمر وراء الشرط في الوجود الخارجي، فهذا شيء وذاك (¬1) شيءٌ آخر، وهذا حقٌّ، ولهذا ينتفي العلم بالمدلول عند انتفاء دليله، ولكن هل يقول أحد: إن المدلول ينتفي لانتفاء دليله؟ فإن قيل: نعم، قد قاله غير واحد، وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله. قيل: نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله، فدليلُه موجِبٌ لثبوته، فإذا انتفى الموجِب انتفى الموجَب، ولهذا [يقال:] (¬2) لا موجِبَ فلا موجَبَ، أما شرط (¬3) اقتضاء السبب لحكمه فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه، ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيًا بدون شرطه، وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته، وهو محال. وأما تقديم الحكم على أحد سببيه في الصورة التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين، أو تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الأخرى؛ فالتنظير به مَغْلَطة (¬4)؛ فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه، وهذا محال، وإن وقع تسامحٌ في عبارة الفقهاء، فإن انقضاء الحول مثلًا والحنثُ والموتُ بعد الجرح شرطٌ للوجوب (¬5)، ونحن لم نقدِّم الوجوبَ على شرطه ولا سببه، وإنما قدَّمنا فعلَ الواجب. والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب، وبين تقدم أداء الواجب، فظهر أن هذا وهم أو إيهام (¬6)، وقد ظهر أن تقديمَ شَرْط علة الحكم وموجبه على (¬7) الحكم أمرٌ ثابت عقلًا وشرعًا، ونحن لم نأخذ ذلك عن نصِّ أهل اللغة حتى تطالبونا بنقله، بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من أحكامه. وليس ذلك متلقَّى من [أهل] (¬8) ¬

_ (¬1) كذا في (ن)، وفي غيرها: "وذلك". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "لشرط" بدل "أما شرط". (¬4) في (ق): "مغالطة". (¬5) في (ق): "بشرط الوجوب". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "وهم وإيهام". (¬7) في (ق): "وموجب علة الحكم". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك).

[عن القضية الشرطية]

اللغة، بل هو ثابت في نفس الأمر لا يختلف بتقدم لفظ (¬1) ولا تأخره، حتى لو قال: "أنتِ طالقٌ إن دخلت الدار" أو قال: "يبعثك اللَّه إذا متِّ" أو (¬2) "تجب عليك الصلاة إذا دخل وقتها" ونحو ذلك فالشرط متقدم عقلًا وطبعًا وشرعًا وإن تأخر لفظًا. وأما قولكم: "إن الأحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر" فتطويلٌ بلا تحصيل، وتهويل بلا تفصيل، فهل تقبل النقل عن ترتيبها على (¬3) أسبابها وموجباتها بحيث يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه؟ نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضي ذلك فيكون مرتبًا على سببه الثاني بعد انتقاله كما كان مرتبًا على الأول قبل انتقاله، وفي كل من الموضعين هو مرتب (¬4) على سببه هذا في حكمه وذاك في محله، وأما تنظيركم بنقل الأحكام وتقدمها على أسبابها بقوله: "أنت طالق قبل موتي بشهر" وقولكم: "إن نظيره في الحسيّات أن تقول: إن زُرتني أكرمتُك قبل زيارتك بشهر" فوهم أيضًا أو إيهام (¬5)، فإن قوله: "أنت طالق قبل موتي بشهر" إنما تطلق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه، فلو مات قبل مضي شهر لم تطلق على الصحيح؛ لأنه يصير بمنزلة: أنت طالق عام الأول؛ وليس كذلك قوله: "إن زرتنى أكرمتُك قبله بشهر" (¬6) فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت، والإكرام فعل حسي (¬7) لا يكون إكرامًا بالتقدير، وإنما يكون إكرامًا بالوقوع، وأما استشهادكم بقوله: "أعتق عبدك [عنّي] (¬8) " فهو حجة عليكم؛ فإنه يستلزم تقدم الملك التقديري على العتق الذي هو أثره وموجَبُه، والملك شرطه، ولو جاز تأخر الشرط القدر الملك له بعد العتق، وهذا محالٌ، فعلم أن الأسباب والشروط يجب تقدمها، سواء كانت محققة أو مقدرة. [عن القضية الشرطيّة] وقولكم: "إن هذا التعليق يتضمن (¬9) شرطًا ومشروطًا، والقضية الشرطية قد ¬

_ (¬1) في (ق): "لفظه". (¬2) في (ك) و (ق): "و". (¬3) في (ق): "ترتبها عن" وفي الهامش: "لعله: على". (¬4) في (ق): "مترتب". (¬5) في (ك) و (ق): "وإيهام". (¬6) في (ق): "قبل زيارتك بشهر". (¬7) في (ق): "حتى". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬9) في (ق): "تضمن".

[عن الطلاقين المتعارضين]

تعقد للوقوع وقد تعقد لنفي الشرط والجزاء- إلى آخره " فجوابه [أيضًا أن هذا] (¬1) من الوهم أو الإيهام (¬2)؛ فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزءيها، سواء كانا ممكنين أو ممتنعين، ولا يلزم من صدقها شرطية صدق جزءيها جملتين؛ فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها؛ ولهذا كان قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] من أَصْدق الكلام وجُزءا الشرطية ممتنعان، لكن أحدهما ملزومٌ للآخر، فقامت القضية الشرطية من التلازم الذي بينهما؛ فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السماوات والأرض، فوجودُ آلهةٍ مع اللَّه ملزومٌ لفساد السموات والأرض، والفساد لازم، فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه، فصَدَقت الشرطية دون مفردَيْها، وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها؛ لأنها عُقدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجز وسبق الطلاق الثلاث عليه، وهذا كذب في الإخبار باطل في الإنشاء؛ فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه؛ فظهر أن تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزءين وهم أو إيهام (¬3) ظاهر لا خفاء به. [عن الطلاقين المتعارضين] وأما قياسكم المحرر، وهو قولكم: "طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر، فوجب أن ينفي (¬4) السابق منهما [المتأخر] (¬5) كقوله: "إن قدم زيد -إلى آخره " فجوابه أنه لما قدم زيد طلقت ثلاثًا، فقدم عمرو بعده وهي أجنبية، فلم يصادف الطلاق الثاني محلًا، فهذا معقول شرعًا ولغةً وعرفًا، فأين هذا من تعلق (¬6) مستحيل شرعًا وعرفًا؛ ولقد وهَنَتْ كلَّ الوهنِ مسألة إلى مثل هذا القياس استنادُهَا، وعليه اعتمادها (¬7). وأما قولكم: "نكتة المسألة أنا لو أوقعنا المنجّز لزمنا أن نوقع قبله ثلاثًا -إلى آخره" فجوابه أن يقال: هذا كلام باطل في نفسه، فلا يلزم من إيقاع المنجز إيقاع الثلاث (¬8) قبله، لا لغةً ولا عقلًا ولا شرعًا ولا عرفًا، فإن قلتم: لأنه شرط ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "أن هذا أيضًا". (¬2) في (ك) و (ق): "والإيهام". (¬3) في (ك) و (ق): "وايهام". (¬4) في (ك): "يبقى". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ق) و (ك): "تعليق". (¬7) انظر: "زاد المعاد" (4/ 51 - 63)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 283 - 338)، و"الطرق الحكمية" (ص 13 - 14)، و"تهذيب السنن" (3/ 120 - 122، 134). (¬8) في (ق): "ثلاث".

[عن الطلاق الثلاث جملة]

للمعلق قبله (¬1)، فقد تبين فساد المعلق بما فيه كفاية، ثم نقلب عليكم هذه النكتة (¬2) قلبًا أصح منها شرعًا وعقلًا ولغةً، فنقول: إذا أوقعنا المنجَّز لم يمكنا (¬3) أن نوقع قبله ثلاثًا قطعًا (¬4)، وقد وُجد سببُ وقوع المنجز وهو الإيقاع، فيستلزم موجبه وهو الوقوع، وإذا وقع موجبه استحال وقوع الثلاث؛ فهذه (¬5) النكتة أصح وأقرب إلى الشرع والعقل واللغة، وباللَّه التوفيق. وأما (¬6) قولكم: "إن المكلف أتى بالسبب الذي ضيق به على نفسه فألزمناه حكمه -إلى آخره" فجوابه أن هذا إنما يصح فيما يملكه من الأسباب شرعًا، فلا بد أن يكون السبب مقدورًا ومشروعًا، وهذا السبب الذي أتى به غير مقدورٍ ولا مشروع؛ فإن اللَّه تعالى لم يملّكه طلاقًا ينجزه تسبقه ثلاث قبله، ولا ذلك مقدور له؛ فالسبب لا مقدور ولا مأمور، بل هو كلام متناقض فاسد؛ فلا يترتب عليه تغيير (¬7) أحكام الشرع، وبهذا خرج الجواب عما نظرتم به من المسائل، أما: [عن الطلاق الثلاث جملة] المسألة الأولى -وهي إذا طلَّق امرأته ثلاثًا جملة- فهذه مما يحتجُّ لها، ولا يحتج بها -وللناس فيها أربعة أقوال: أحدهما الإلزام بها. والثاني: إلغاؤها جملة وإن كان هذا إنما يعرف عن فقهاء الشيعة (¬8). والثالث: أنها واحدة، وهذا (¬9) قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه (¬10)، ¬

_ (¬1) في (ق): "قيل". (¬2) في (ق): "هذه النكتة عليكم". (¬3) في (ق) و (ك): "يمكننا". (¬4) سقط من (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "وهذه". (¬6) سقط من (ق). (¬7) في (ن): "تغير". (¬8) انظر "حلية العلماء" (7/ 22)، و"أحكام القرآن" (1/ 388)، وفي المطبوع: "الفقهاء الشيعة"، وفي (ك): "الفقهاء السبعة". (¬9) في (ك): "وهو". (¬10) روى مسلم (1472) في (الطلاق): باب طلاق الثلاث عن ابن عباس قال: كان الطلاق على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. وهو في "مصنف عبد الرزاق" (11336، 11337، و 11338)، و"سنن أبي داود" (2199)، و"المحلى" (10/ 168).

وجميع الصحابة في زمانه، وإحدى الروايتين عن ابن عباس (¬1)، واختيار أعلم الناس بسيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- محمد بن إسحاق والحارث العكلي وغيره، وهو أحد القولين في مذهب مالك حكاه التلمساني في "شرح تفريع ابن الجلاب" (¬2)، وأحد القولين في مذهب الإمام أحمد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رضي اللَّه عنه (¬3). والرابع: أنها واحدة في حق التي لم يدخل بها، وثلاث (¬4) في حق المدخول بها، وهذا مذهب إمام أهل خراسان في وقته إسحاق بن راهويه نظير الإمام أحمد والشافعي ومذهب جماعة من السلف. وفيها مذهب خامس، وهو أنها إن كانت منجَّزة وقعت، وإن كانت معلَّقة لم تقع، وهو مذهب حافظ الغرب وإمام أهل الظاهر في وقته أبو محمد بن حزم (¬5)، ولو طولبتم بإبطال هذه الأقوال وتصحيح قولكم بالدليل الذي يركن إليه العالم لم يمكنكم ذلك، والمقصود أنكم تستدلون بما يحتاج إلى إقامة الدليل عليه، والذين يَسَلِّمون لكم وقوع الثلاث جملة واحدة فريقان: * فريق يقول بجواز إيقاع الثلاث فقد أتى المكلف عنده بالسبب المشروع المقدور فترتب عليه سبَبُه. * وفريق يقول: تقع وإن كان إيقاعها محرمًا كما يقع الطلاق في الحيض والطُّهر الذي أصابها فيه وإن كان محرمًا لأنه ممكن، بخلاف وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فإنه محال، فأين أحدهما من الآخر؟ ¬

_ (¬1) رواه البيهقي (7/ 339) من طريق مسلم بن عصام: أخبرنا عبد اللَّه بن سعد: أخبرنا عمي: أخبرنا أبي عن ابن إسحاق: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة عنه. وهذا إسناد رواته ثقات من رجال الصحيح، غير ابن إسحاق فهو حسن الحديث، وغير مسلم بن عصام، فإني لم أجد له ترجمة فيما بين يدي. ولكن رواية داود عن عكرمة فيها اضطراب، كما قال غير واحد من أهل الجرح والتعديل. قال البيهقي -رحمه اللَّه-: وهذا إسناد لا تقوم الحجة به، مع ثمانية رووا عن ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-، فتياه بخلاف ذلك، أي أن الثلاث تقع ثلاثًا، وقد وردت عنه بأسانيد صحيحة مخرجة فيما مضى. (¬2) مضى التعريف به في التعليق على (3/ 388). (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" لإمام الأئمة شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه وغفر له- (32/ 311 - 312). (¬4) في (ق) و (ك): "ثلاث". (¬5) انظر: "المحلى" (10/ 167 - 173)، وفي سائر النسخ: "محمد بن حزم" والمثبت من (ك).

[فصل] [عن تمليك الرجل امرأته الطلاق]

[فصل] (¬1) [عن تمليك الرجل امرأته الطلاق] وأما نقضكم الثاني بتمليك الرجل امرأتَه الطلاقَ وتضييقه على نفسه بما وَسّع اللَّه سبحانه عليه مِنْ جَعْله بيده، فجوابه من وجوه: أحدها: أنه بالتمليك لم يخرج الطلاق عن يده، بل هو في يده كما هو، هذا إن قيل: إنه تمليك، وإن قيل: إنه توكيل فله عَزْلُهَا متى شاء. الثاني: أن هذه المسألة (¬2) فيها نزاع معروف بين السلف والخلف؛ فمنهم من قال: لا يصح تمليك المرأةِ الطلاقَ ولا توكيلها فيه، ولا يقع الطلاق إلا ممن أخذ بالساق، وهذا مذهب أهل الظاهر، وهو مأثور عن بعض السلف؛ فالنقض بهذه الصورة يستلزم إقامة الدليل عليها، والأدنى (¬3) لا يكون دليلًا. ومن هنا قال بعض أصحاب مالك: إنه إذا علَّق اليمين بفعل الزوجة لم تطلق إذا حنث؛ لأن (¬4) اللَّه تعالى مَلَّكَ الزوجَ الطلاقَ، وجعله بيده رحمةً منه، ولم يجعله إلى المرأة؛ فلو وقع الطلاق بفعلها لكان إليها إن شاءت أن تفارِقَه وإن شاءت أن تقيمَ معه، وهذا خلاف شَرْع اللَّه، وهذا أحد الأقوال في مسألة تعليق الطلاق بالشرط كما تقدم (¬5). والثاني: أنه لغو وباطل، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن ابن بنت (¬6) الشافعي ومذهَبُ أهل الظاهر والثالث: أنه موجب لوقوع الطلاق عند وقوع الصفة، سواء كان يمينًا أو تعليقًا محضًا، وهذا المشهور عند الأئمة الأربعة وأتباعهم. والرابع: أنه إن كان بصيغة التعليق لزم، وإن كان بصيغة القسَم والالتزام لم يلزم إلا أن ينويه، وهذا اختيار أبي المحاسن الروياني وغيره. والخامس: أنه إن كان بصيغة التعليق وقع، وإن كان بصيغة القَسَم والالتزام لم يقع وإن نواه، وهذا اختيار القَفَّال في "فتاويه". ¬

_ (¬1) سقط من (ق). (¬2) أفردها ابن عظوم في رسالة "التمليك"، وهي مطبوعة. (¬3) في المطبوع: "والأول"، وفي (ك): "والأوهن". (¬4) في المطبوع: "قال: لأن". (¬5) انظر: "رسالة التمليك" (38 - 39). (¬6) في (ق): "بدر"!!

فصل [إذا علق عتق عبده على ملكه]

والسادس: أنه إن كان الشرط والجزاء مقصُودَيْن وقع، وإن كانا غير مقصودين -وإنما حلف به قاصدًا منع الشرط والجزاء- لم يقع، ولا كفارة فيه، وهذا اختيارُ بعض أصحاب أحمد. والسابع: كذلك (¬1)، إلا أن فيه الكفارة إذا خرج مخرج اليمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رضي اللَّه عنه (¬2)، والذي قبله اختيار أخيه. وقد تقدَّم حكاية قول مَنْ حكى إجماع الصحابة أنه إذا حنث فيه لم يلزمه الطلاق (¬3)، وحكينا لفظه. والمقصود الجواب عن النقض بتمليك المرأة الطلاق أو توكيلها فيه. وأما قولكم في النقض الثالث: "إن فقهاء الكوفة صحَّحوا تعليق الطلاق بالنكاح، وهو يسد باب النكاح" فهذا القول مما أنكره عليهم سائر الفقهاء، وقالوا: هو سَدّ لباب النكاح، حتى الشافعي (¬4) نفسه أنكره عليهم بذلك وبغيره من الأدلة. ومن العجب أنكم قلتم في الرد عليهم؛ لا يصح هذا التعليق؛ لأنه لم يصادف محلًا، وهو لا يملك الطلاق المنجَّز فلا يملك المعلق؛ إذ كلاهما مُسْتَدْعٍ لقيام محله، ولا محل، فهلا قبلتم منهم احتجاجَهم عليكم في [هذه] (¬5) المسألة السُّرَيجية بمثل هذه الحجة، وهي أن المحل غير قابِلٍ لطلقة مسبوقة بثلاث، وكان هذا الكلام لغوًا وباطلًا فلا ينعقد، كما قلتم أنتم في تعليق النكاح بالطلاق: إنه لغوٌ وباطلٌ فلا ينعقد (¬6). فصل [إذا علق عتق عبده على ملكه] وأما النقض الرابع بقوله: "كلُّ عبدٍ أو أمة أملكه فهو حرٌّ" فهذا للفقهاء فيه قولان، وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: أنه لا يصح كتعليق الطلاق. والثاني: أنه يصح، والفرق بينه وبين تعليق الطلاق أن ملك العبد قد شرع ¬

_ (¬1) في (ك): "وكذلك". (¬2) انظر: "الإختيارات الفقهية" (ص 286). (¬3) في (ق): "طلاق". (¬4) في المطبوع "حتى قال الشافعي". (¬5) من (ق) فقط. (¬6) انظر: "زاد المعاد" (4/ 42 - 43).

فصل [النقض بمن معه ألف دينار]

طريقًا إلى زوال ملكه عنه بالعتق، إما بنفس الملك كمن ملك ذا رَحِم مَحْرَم، وإما باختيار الإعتاق كمن اشترى عبدًا ليعتقه عن كفارته أو ليتقرب به إلى اللَّه عز وجل، ولم يشرع اللَّه النكاح طريقًا إلى زوال ملك البُضْع ووقوعِ الطلاق، بل هذا يترتب عليه ضد مقصوده شرعًا وعقلًا وعرفًا، [والعتق المترتب] (¬1) على الشراء ترتيب لمقصوده عليه شرعًا وعرفًا، فأين أحدهما من الآخر؟ وكونه قد سَدَّ على نفسه باب ملك الرقيق فلا يخلو إما أن يعلق ذلك تعليقًا مقصودًا أو تعليقًا قسميًا؛ فإن كان مقصودًا فهو قد قصد التقرب إلى اللَّه بذلك، فهو كما لو التزم صَوْم الدهر وسدَّ على نفسه باب الفطر. وإن كان تعليقًا قسَميًا فله سَعَة بما وسَّع اللَّه عليه من الكفارة كما أفتى به الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وقد تقدم. فصل [النقض بمن معه ألف دينار] وأما النقض الخامس بمن معه ألف دينار فاشترى بها جاريةً وأوْلَدها (¬2)، فهذا أيضًا نقض فاسد؛ فإنه بمنزلة مَنْ أنفقها في شهواته وملاذه، وقعد مَلُومًا محسورًا، أو تزوج بها امرأة وقَضَى وطره منها نحو ذلك. فأين هذا من سد باب الطلاق وبقاء المرأة كالغل في عنقه إلى أن يموت أحدهما؟ فصل [لم تبن الشرائع على الصور النادرة] وقولكم: قد يكون له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح، بأن يكون محبًا لزوجته ويخشى وقوع الطلاق بالحلف أو غيره فيسرّحها" جوابه أن الشرائع العامة لم تُبْنَ على الصور النادرة، ولو كان لعموم المطلِّقين في هذا مصلحة لكانت حكمة أحكم الحاكمين تمنع الرجالَ من الطلاق بالكليّة، وتجعل الزوج (¬3) في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها. ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم، وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات (¬4) أدناهما، ودفع أعلى ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "والمرتب". (¬2) في (ق): "فأولدها". (¬3) في (ق): "ويجعل الرجل". (¬4) في (ق): "فاتت".

فصل [بطلان الحيلة بالخلع لفعل المحلوف عليه]

المفسدتين وإن وقع أدناهما (¬1)، وهكذا ما نحن فيه سواء؛ فإن مصلحة تمليك الرجالِ الطلاقَ أعلى وأكبَرُ من مصلحة سده عليهم، ومفسدةُ سدِّه عليهم أكبر من مفسدة فتحه لهم المُفْضِية إلى ما ذكرتم. وشرائع الرب سبحانه وتعالى كلها حِكمٌ ومصالح وعدل ورحمة، وإنما العبث والجور والشِّدة في خلافها، وباللَّه التوفيق. وإنما أطلنا الكلام في هذه المسألة لأنها من أمهات الحيل وقواعدها، والمقصود بيان بطلان الحيل؛ فإنها (¬2) لا تتمشَّى على قواعد الشريعة ولا أصول الأئمة، وكثير منها -بل أكثرها- من توليدات المنتسبين إلى الأئمة وتفريعهم، والأئمة بَرَاء منها. فصل [بطلان الحيلة بالخلع لفعل المحلوف عليه] ومن الحيل الباطلة الحيلة على التخلص من الحنث بالخُلْع، ثم يفعل المحلوف عليه في حال البينونة، ثم يعود إلى النكاح، وهذه الحيلة باطلة شرعًا، وباطلة على أصول أئمة الأمصار: أما بطلانها شرعًا فإن هذا خُلع لم يشرعه اللَّه ولا رسوله، وهو تعالى لم يمكِّن الزوج من فسخ النكاح متى شاء؛ فإنه لازمٌ، وإنما مكَّنه من الطلاق، ولم يجعل له فَسْخَه إلا عند التشاحن (¬3) والتباغض إذا خافا أن لا يقيما حدود اللَّه، فشرع لهما التخلص بالافتداء؛ وبذلك جاءت السنة (¬4)، ولم يقع في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا زمن أصحابه قط خلع حيلة، ولا في زمن التابعين، ولا تابعيهم، ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة وجعله طريقًا للتخلص من الحنث، وهذا من كمال فقههم -رضي اللَّه عنهم-؛ فإن الخلع إنما جعله الشارع مقتضيًا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من الافتداء من زوجها، وإنما يكون ذلك مقصودها إذا قصدت أن تفارقه على وجه لا يكون له عليها سبيل، فإذا حصل هذا ثم فعل المحلوف عليه وَقعَ وليست زوجته فلا يحنث، وهذا إنما حصل تبعًا ¬

_ (¬1) انظر: "مفتاح دار السعادة" (ص 341) فإنه مهم، و (ص 348)، و"الداء والدواء" (ص 225 - 226) و (ص 309 - 310)، و"روضة المحبين" (ص 132)، و"الموافقات" (3/ 53) وتعليقي عليه. (¬2) في (ن) و (ق): "وإنها". (¬3) في المطبوع: "التشاجر". (¬4) في هذا حديث امرأة ثابت بن قيس: رواه البخاري (5273) (5277) في (الطلاق): باب الخلع وكيف الطلاق؟ من حديث ابن عباس.

فصل [المتأخرون هم الذين أحدثوا الحيل ونسبوها إلى الأئمة]

للبينونة التابعة لقصدهما، فإذا خالعها ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البينونة، بل حلّ اليمين، وحلُّ اليمين إنما يحصل تبعًا للبينونة لا أنه المقصود بالخلع الذي شرعه اللَّه ورسوله (¬1)، وأما خلع الحيلة فجاءت البينونة فيه لأجل حل اليمين، وحل اليمين جاء لأجل البينونة؛ فليس عقد الخلع بمقصود (¬2) في نفسه للرجل ولا للمرأة، واللَّه تعالى لا يشرع عقدًا لا يقصد واحد من المتعاقدين حقيقته، وإنما يقصدان به ضد ما شرعه [اللَّه] (¬3) له؛ فإنّه شُرِع لتخلُّص المرأة من الزوج، والمتحيّل يفعله لبقاء النكاح؛ فالشَّارع شرعه لقطع النكاح، والمتحيّل يفعله لدوام النِّكاح. فصل [المتأخرون هم الذين أحدثوا الحيل ونسبوها إلى الأئمة] والمتأخرون (¬4) أحْدَثوا حيلًا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إلى الأئمة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم، ولهم مع الأئمة موقفٌ بين يدي اللَّه عز وجل، ومن عَرَف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشيرُ على مسلمٍ بها. [تبرئة الشافعي من تهمة الحيل] وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم، تَلَقّوْها عن المشرقيين، وأدخلوها في مذهبه، وان كان رحمه اللَّه تعالى يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، كما تقدم حكاية كلامه، فحاشاه ثم حاشاه أن يأمر الناس بالكذب والخداع والمكر والاحتيال وما لا ¬

_ (¬1) في (ق): "الذي شرعه اللَّه سبحانه" دون قوله: "ورسوله". (¬2) في (ق): "مقصودًا". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، ومضروب عليها في (ق). (¬4) قال (و): "يقول شيخ الإسلام في "فتاويه": "إن هذه الحيل أول ما ظهر الإفتاء بها في أواخر عصر التابعين" (ص 167 ج 3 الفتاوى) اهـ. قلت: وهذا القول في "بيان الدليل" (ص 182)، وتمامه: "وأنكر ذلك علماء ذلك الزمان مثل أيوب السختياني، وحماد بن زيد، ومالك بن أنس، وسفيان بن عيينة، ويزيد بن هارون، وعبد الرحمن بن مهدي، وعبد اللَّه بن المبارك، والفضيل بن عياض، ومثل شريك بن عبد اللَّه، والقاسم بن معن، وحفص بن غياث. . . ".

حقيقةَ له، بل ما يتيقن (¬1) أن باطنه خلاف ظاهره، ولا يُظن بمن دون الشافعي من أهل العلم والدين أنه يأمر أو يبيح ذلك؛ فالفرق [ظاهرٌ] (¬2) بين أن لا يعتبر القصد في العقد ويجريه على ظاهره وبين (¬3) أن يُسِّوغ عقدًا قد علم بناؤه على المكر والخداع وقد علم أن باطنه خلاف ظاهره. فواللَّه ما سَوَّغ الشافعي ولا إمام من الأئمة هذا العقد قط، ومن نسب ذلك إليهم فهم خصماؤه عند اللَّه؛ فالذي سوغه الأئمة بمنزلة الحاكم يُجْرِي الأحكام على ظاهر عدالة الشهود وإن كانوا في الباطن شهودَ زورٍ، والذي سوغه أصحاب الحيل بمنزلة الحاكم يعلم أنهم في الباطن شهود زور كَذَبة وأنَّ ما شهدوا به لا حقيقةَ له (¬4) ثم يحكم بظاهر عدالتهم. وهكذا في مسألة العِينة: إنما جوَّز الشافعي أن يبيع السلعة ممن اشتراها منه جَرْيًا على ظاهر عقود المسلمين وسلامتها من المكر والخداع، ولو قيل للشافعي: "إن المتعاقدين قد تواطئا على ألفٍ بالفٍ ومئتين، وتراوضا على ذلك، وجعلا السلعة محللًا للربا" [لم] (¬5) يجوَّز ذلك، ولأنكره غاية الإنكار. ولقد كان الأئمة من أصحاب الشافعي (¬6) ينكرون على مَنْ يحكي عنه الإفتاء بالحيل، قال الإمام أبو عبد اللَّه بن بطة (¬7): "سألت أبا بكر الآجري وأنا وهو بمنزله بمكة (¬8) عن هذا الخلع الذي يفتي به [بعض] (¬9) الناس، وهو أن يحلف رجل أن [لا] (¬10) يفعل شيئًا، ولا بد له من فعله، فيقال له: اخلع زوجتك وافعل ما حَلَفْتَ عليه ثم راجعها، واليمين بالطلاق ثلاثًا، وقلت له: إن قومًا يفتون [هذا] (¬11) الرجل الذي يحلف بأيمان البيعة ويحنث أن لا شيء عليه، ويذكرون أن ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "ما يتبين". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "وأما". (¬4) في (و): "لا حقيقة لا به"! (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (و). (¬6) قال (و): "انظر (ص 183 ج 3) "فتاوى ابن تيمية"، فعنه يأخذ هنا أيضًا" اهـ. قلت: وهو في "بيان الدليل" (ص 215 - 216). (¬7) في كتاب "إبطال الحيل" (ص 69 - 71 - المكتب الإسلامي). وفيه بعض الاختلاف أشرت إلى المهم منه. (¬8) في (ك): "في منزله"، وفي (ق): "بمنزله في مكة". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من "إبطال الحيل"، وفي (ق): "ألا". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق).

فصل [أمران لا بد من معرفتهما]

الشافعي لم ير على من حلف بأيمان البيعة شيئًا، فجعل أبو بكر يعجب من سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد، ثم قال [لي] (1): [أعلم أني] (¬1) منذ كتبتُ العلم وجلست للكلام فيه وللفتوى ما أفتيت في هاتين المسألتين بحرف، ولقد سألت أبا عبد اللَّه الزبيري [الضرير -رحمه اللَّه-] (1) عن هاتين المسألتين كما سألتني عن (¬2) التعجب ممن يقدم (¬3) على الفتوى (¬4) فيهما، فأجابني فيهما بجواب كتبته عنه، ثم قام فأخرج لي كتاب "أحكام الرجعة والنشوز" من كتاب الشافعي، وإذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر [-رحمه اللَّه-] (1): سألت أبا عبد اللَّه الزبيري، [فقلت له: الرجل يحلف بالطلاق ثلاثًا أن لا يفعل شيئًا، ثم يريد أن يفعله] (¬5)، وقلت له: إن أصحاب الشافعي [رحمه اللَّه] (¬6) يفتون فيها بالخلع، [يخالع] (6) ثم يفعل، فقال الزبيري: ما أعرف هذا من قول الشافعي، ولا بلغني أن له في هذا قولًا معروفًا، ولا أرى من يذكر هذا عنه [إلا مُحِيلًا] " (¬7). والزبيري أحد الأئمة الكبار من الشافعية، فإذا كان هذا قوله وتنزيهه للشافعي عن خلع اليمين فكيف بحيل الربا الصريح وحيل التَّحليل وحيل إسقاط الزكاة والحقوق وغيرها من الحيل المحرمة؟ فصل (¬8) [أمران لا بُدَّ من معرفتهما] [تنزيه الشَّريعة] ولا بد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر، وهو: * النصيحة للَّه ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث اللَّه به رسوله من الهدى والبيِّنات، التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه، وان أدخلها فيه مَنْ أدخلها بنوع تأويل. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ "الإعلام". (¬2) في "إبطال الحيل": "كما سألته على". (¬3) في (ك): "مما تقدم". (¬4) في (ق): "الفتيا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من "إبطال الحيل". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من نسخ الإعلام. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في "إبطال الحيل": "صادقًا". (¬8) ما تحته مأخوذ من "بيان الدليل" (ص 203 وما بعد) بتصرف واختصار.

[من فضل الأئمة]

[من فضل الأئمة] * والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يُوجب اطَّراح أقوالهم جملة وتنّقصهم والوقيعة فيهم. فهذان طرفان جائران عن القصد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثّم ولا نَعْصم، ولا (¬1) نسلك بهم مسلك الرافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك [بهم] (¬2) مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثّمونهم [ولا يعصمونهم] (¬3)، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: * جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم. * أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله. ومن له علم بالشرع والواقع؛ يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهَفْوَة والزَّلَّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين (¬4). قال عبد اللَّه بن المبارك: كنتُ بالكوفة فناظروني في النَّبيذ المختلف فيه، فقلت لهم: تعالَوْا فليحتج المحتج منكم عمَّن شاء من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرخصة، فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة (¬5) صحَّت عنه، فاحتجُّوا. فلما (¬6) [جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة (¬7)، فلما] (¬8) لم يبق في يد أحد ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فلا". (¬2) ما بين المعقوفتين في (ق) فقط. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) انظر في هذا "الموافقات" (5/ 136 - 137، بتحقيقي). (¬5) كذا في "الموافقات" (5/ 137) و (ق) وفي سائر الأصول: "بسند". (¬6) في (ك): "فما". (¬7) كذا في (ق) و (ك) و (ن)، و"الموافقات"، وفي سائر الأصول: "بسند". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

منهم إلا عبد اللَّه بن مسعود (¬1)، وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه، إنما يصح عنه أنه لم ينتبذ له في الجرِّ (¬2) الأخضر، قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمقٌ عُدَّ (¬3) أن ابن مسعود لو كان هاهنا جالسًا فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى، فقال قائل (¬4): يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي -وسَمَّى عدة معهما- كانوا يشربون الحرام (¬5)؟ فقلت [لهم] (¬6): دعوا عند المناظرة تسميه الرجال، فربّ رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن تكون منه زَلَّة، أفيجوز لأحد أن يَحتجَّ بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارًا، قلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدًا بيد؟ قالوا: حرام، فقلت: إن هؤلاء رأوه حلالًا، أفماتوا وهم ياكلون الحرام؟ فبُهتوا وانقطعت حجتهم (¬7). قال ابن المبارك: "ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أُنشد الشِّعرَ، فقال: يا بنيَّ لا تنشد الشعر، فقلت: يا أبت كان الحسن ينشد الشعر، وكان ابن سيرين ينشد، فقال: أي بُنَيَّ إن أخذت بشرِّ ما في الحسن وبشرِّ ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشَّرُّ كلُّه! " (¬8). قال شيخ الإسلام: "وهذا الذي ذكره (¬9) ابن المبارك متَّفقٌ عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من (¬10) السابقين الأولين ومَنْ بعدهم إلا وله ¬

_ (¬1) انظر ما ورد عنه في "الأشربة" لابن قتيبة (ص 21 - 22 ط محمد كردعلي). (¬2) "جمع جَرَّة، وهو الإناء المعروف من الفخار" (و). (¬3) بضم أوله، وتشديد ثانيه، أي: هب أن ابن مسعود. (¬4) في (ن) و (ك) و (ق): "فقال قائلهم". (¬5) في (و): "حرام"! وقال (د)، و (ط): "في نسخة: يشربون الخمر". (¬6) سقط من (ك). (¬7) أسند هذه المناظرة باختصار البيهقي (8/ 298 - 299)، ونقلها المصنف عن ابن تيمية في "بيان الدليل" (203 - 204)، وعنه أيضًا الشاطبي في "الموافقات" (5/ 137 - 138 - بتحقيقي). (¬8) أخرجه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1766، 1767) بإسناد صحيح، ونقل الشاطبي في "الموافقات" (5/ 134 - بتحقيقي) عن ابن تيمية في "بيان الدليل" (204) هذه القطعة. (¬9) في (ق): "قاله". (¬10) في "بيان الدليل": "أعيان الأمة"، وسقط من (ق): "من".

أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة" (¬1). قلت: وقد قاله (¬2) أبو عمر بن عبد البر في أول "استذكاره" (¬3). قال شيخ الإسلام (¬4): "وهذا باب واسع لا يُحصى، مع أن ذلك لا يغضُّ من أقدارهم، ولا يسوغ اتباعهم فيها، [كما] (¬5) قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، قال مجاهد (¬6) والحكم بن عُتيبة (¬7) ومالك (¬8) وغيرهم (¬9): ليس أحد من خَلْق اللَّه إلا يُؤخذ من قوله وبترك إلا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشرُّ كله (¬10)، قال ابن عبد البر (¬11): هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا، وقد روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله، فروى كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف المُزنيّ، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إني لأخاف (¬12) على أمتي من بعدي من أعمالٍ ثلاثة، قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؛ قال: إني أخاف عليهم من زلَّةِ العالم، ومن ¬

_ (¬1) انظر: "بيان الدليل" (ص 204 - 205). (¬2) كذا في (ن) و (ك)، وفي غيره: "قال"، وكذا علق (ط): "هنا بياض في كل الأصول التي بين أيدينا" ونحوه في (د)، و (و)، و (ح)! (¬3) وقد أفرد هذا البحث شيخ الإسلام في رسالة سماها: "رفع الملام" (ح). قلت: وقول ابن عبد البر الذي أشار إليه المصنف هو: "وقد جاز على كثير منهم -أي العلماء- جهل كثير من السنن الواردة على ألسنة خاصة العلماء، ولا أعلم أحدًا من الصحابة إلا وقد شذ عنه بين علم الخاصة واردة بنقل الآحاد أشياء حفظها غيره، وذلك على من بعدهم أجوز، والإحاطة ممتنعة على كل أحد". انظره في "الاستذكار" (1/ 36، ط المصرية و 1/ 188 رقم 84، ط قلعجي). (¬4) في "بيان الدليل" (ص 205). (¬5) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬6) أسنده عنه أبو نعيم (3/ 300)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 176)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 857)، وابن عبد البر في "الجامع" (1762 - 1795)، وإسناده صحيح. (¬7) أسنده عنه ابن عبد البر (1761)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 883)، وإسناده صحيح، وفي (ك): "عتبة". (¬8) ذكرها أحمد في "مسائل أبي داود" (ص 276)، وصححها ابن ناصر الدين في "إتحاف السالك" (ق 227/ أ). (¬9) كابن عباس والشعبي، كما بيّنته في تعليقي على "الموافقات" (5/ 135) والحمد للَّه. (¬10) مضى تخريجه قريبًا. (¬11) في "جامع بيان العلم" (2/ 827). (¬12) في (ك): "لا أخاف".

حكم الجائر (¬1)، ومن هَوًى متبع" (¬2). وقال زياد بن حُدَير (¬3): قال عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬4): ثلاثٌ يهدِمْنَ الدين: زلةُ عالم، وجدالُ مناقٍ بالقرآن، وأئمةٌ مضلِّون (¬5). وقال الحسن: قال أبو الدرداء: إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منارٌ كأعلام الطريق (¬6). وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم، قلما يخطئه (¬7) أن يقول ذلك: اللَّه حَكَمٌ قسط، هلك المرتابون، إن وراءكم فِتَنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها (¬8) القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصَّبي والأسود والأحمر، فيوشك ¬

_ (¬1) في "جامع بيان العلم" (2/ 978/ 1865)، وإحدى مخطوطتي "بيان الدليل": "ومن حكم جائر". (¬2) إسناده ضعيف جدًا، وقد سبق تخريجه. (¬3) في "بيان الدليل": "زياد بن جدير" وفي (ق): "زياد بن جرير"! والتصويب من "الجامع"، و"الجرح والتعديل" (3/ 529). (¬4) ما بين المعقوفات من "بيان الدليل"، و"جامع بيان العلم". (¬5) أخرجه الدارمي في "السنن" (1/ 71)، والآجري في "تحريم النرد والشطرنج" (رقم 48)، والفريابي في "صفة المنافق" (ص 71)، وابن المبارك في "الزهد" (ص 520)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 234)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 833)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (رقم 641، 643)، وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1867، 1869، 1870)، وآدم بن أبي إياس في "العلم"، والعسكري في "المواعظ"، والبغوي والإسماعيلي، ونصر المقدسي في "الحجة" -كما في "كنز العمال" (10/ رقم 29405، 29412)، و"مسند الفاروق" (2/ 660 - 661) - من طرق عن عمر، بعضها إسناده صحيح، قال ابن كثير في "مسند الفاروق" (2/ 662) بعد أن ساق طرقه: "فهذه طرق يشدُّ القويُّ منها الضَّعيف، فهي صحيحة من قول عمر -رضي اللَّه عنه-، وفي رفع الحديث نظر، واللَّه أعلم". (¬6) رواه أحمد في "الزهد" (2/ 64)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 219) من طريق أبي الأشهب، ورواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (1868) من طريق جعفر بن حَيَّان كلاهما عن الحسن عن أبي الدرداء به. ورجاله ثقات، لكن الحسن البصري مدلِّس، ولم يسمع من أبي الدرداء. (¬7) كذا في "الإعلام"، و"الجامع"، وهو الصواب، وقد أثبته محقق "بيان الدليل": "قلما يخطبه"!! (¬8) سقطت الواو من "بيان الدليل"، وأثبت محقق "الجامع" في متن الكتاب: "ويفتح فيه" مع أنه أشار -حفظه اللَّه- إلى أنه في بعض المخطوطات لديه: "ويفتح فيها"، وهو الصواب كما في نسخ "الإعلام".

أحدهم [أن يقول] (¬1): قد قرأت القرآن فما أظنّ أن يتّبعوني حتى ابتدع لهم غيره، فإيّاكم وما ابتدع، فإن كل بدعة ضلالة، وإيّاكم وزيغةَ الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورًا، قالوا: [و] (¬2) كيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمةٌ تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه، فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء (¬3) و [أن] (2) يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما (¬4). وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاثٍ: زلةِ عالمٍ، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم [وتقولون نصنع مثل ما يصنع فُلَان [وننتهي عمّا ينتهي عنه فلان] (¬5)، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان] (¬6)، وأما مجادلة منافق (¬7) بالقرآن فإن للقرآن مَنَارًا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فَخُذُوه (¬8) وما لم تعرفوا فَكِلُوا (¬9) إلى اللَّه [تعالى] (¬10)، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم (¬11). وعن ابن عباس: "ويلٌ للأتباعِ من عَثَرات العالم، قيل: كيف ذلك (¬12)؟ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل" و"جامع بيان العلم". (¬3) في "بيان الدليل": "أن يضيء"!! (¬4) هو صحيح عنه، ومضى (1/ 112، 194 و 2/ 455). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (د)، و (ط) و (ق) و (ك) وأثبته من "بيان الدليل" (ص 260)، وأثبته (و) بلفظ: "وننهى عما ينهى عنه فلان"، وقال معلقًا: "ص 179 ج 3 فتاوى، وابن القيم ينقل كل ما فات بلفظه من هذا المصدر" اهـ. (¬6) كل ما بين هاتين المعقوفتين سقط من "جامع بيان العلم"، فليتنبه. (¬7) في "بيان الدليل": "المنافق". (¬8) في (ق) و (ك): "فخذوا". (¬9) في (ق) و (ك): "فكلوه". (¬10) في "بيان الدليل" و (ك): "سبحانه"، وقد سقط هذا وذاك من "جامع بيان العلم". (¬11) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1873) من طريق حسين الجعفي عن زائدة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عنه. وهذا إسناد فيه مقال؛ عطاء بن السائب اختلط، ولم يُذكر زائدة هل سمع منه قبل الاختلاط أو بعده، ورواية عطاء عن أبي البختري فيها مقال، قال شعبة: "ما حدّثك عطاء عن رجاله زاذان وميسرة وأبي البختري فلا تكتبه". (¬12) كذا في نسخ "الإعلام"، و"جامع بيان العلم"، و"بيان الدليل": "كيف ذاك".

قال: يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد مَنْ هو أعلم منه برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) فيترك قوله [ذلك] (¬2) ثم يمضي الأتْباعُ" (¬3). ذكر أبو عمر هذه الآثار كلها وغيره (¬4). فإذا كنا قد حُذِّرْنَا [من] (¬5) زلة العالم وقيل لنا: إنها من أخوف ما يُخاف علينا، وأمِرْنا مع ذلك أن لا نرجع عنه، فالواجب على من شرح اللَّه صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلَّدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقَّن صحتها (¬6)، وإلا توقف في قبولها؛ [فكثيرًا] (¬7) ما يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يخرِّجها بعضُ الأتباع على قاعدة متبوعِهِ (¬8) مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تفْضِي إلى ذلك لما التزَمها، [وأيضًا فلازِمُ المذهبِ ليس بمذهب، وإن كان لازم النص حقًا (¬9)؛ لأن الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما مَنْ عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمُهُ، ولو علم أن هذا لازمه لما قاله؛ فلا يجوز أن يقال: هذا مذهبه، ويُقوَّل ما لم يقله، وكل مَنْ له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الأئمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدِّين تيقن أنهم لو شاهدوا أمر هذه الحيل وما أفْضَتْ إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها] (¬10). ¬

_ (¬1) في "الجامع"، و"بيان الدليل": "أعلم برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منه". (¬2) ما بين المعقوفتين أثبته من "الجامع"، و (و)، و"بيان الدليل". (¬3) أخرجه البيهقي في "المدخل" (835، 836)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 14)، وابن عبد البر في "الجامع" (1877)، وإسناده صحيح. (¬4) في "بيان الدليل": "وهذه آثار مشهورة رواها ابن عبد البر وغيره". (¬5) ما بين المعقوفتين أثبتها محقق "بيان الدليل" من إحدى مخطوطتيه، وفي (ك): "وجدنا" بدل "حذرنا". (¬6) قال (و): "في فتاوى ابن تيمية: إلى أن يتيقن من صحتها" اهـ. قلت: وكذا في "بيان الدليل". (¬7) في "بيان الدليل": "فما أكثر". (¬8) في إحدى مخطوطتي "بيان الدليل" -وأثبته محققه-: "مسوغة"! (¬9) انظر: "مجموع الفتاوى" (16/ 461، 20/ 217، 29/ 42)، "الإعتصام" (2/ 388 - بتحقيقي). (¬10) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل" (ص 208): "والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، ومن علم فقه الأئمة وورعهم، علم أنهم لو رأوا هذه الحيل، وما أفضت إليه من التلاعب بالدين لقطع بتحريمها من لم يقطع به أولًا" اهـ. =

ومما يوضح ذلك أن الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل وأخذوا (¬1) ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه لرجَعُوا عن ذلك يقينًا؛ فإنهم كانوا في غاية الإنصاف، وكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ذلك، وقد صرَّح بذلك غير واحد منهم وإن كانوا كلهم مُجْمِعين على ذلك، قال الشافعي [-رضي اللَّه عنه-] (¬2): إذا صح الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاضربوا بقولي الحائط (¬3)، وهذا وإن كان لسانَ (¬4) الشافعي فإنه لسان (4) الجماعة كلهم (¬5)، [ومن الأصول التي أتفق عليها الأئمة] (¬6) أن أقوال أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المنتشرة لا تُترك إلا بمثلها، [وقد ذكرنا في التحليل والعِينة، وغيرهما من الأحاديث والآثار ما يقطع معه اللبيب أن لا حجَّةَ لأحد في مخالفتها، ولم تشتمل كتب من خالفها من الأئمة عليها حتى يقال: إنهم تأولوها، فعُلم أنها لم تبلغهم] (¬7). يوضح ذلك أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسالك الاجتهاد (¬8). إذ لو كان من مسالك (¬9) الاجتهاد لم يتكلم الصحابة والتابعون والأئمة في أرباب (¬10) الحيل بذلك الكلام الغليظ الذي ذكرنا منه اليسير من الكثير، وقد اتفق السلف على أنها بدعة مُحْدَثة؛ فلا يجوز تقليد مَنْ يفتي بها، ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة للمقلِّد على مَنْ يفتي بها، وقد نص الإمام أحمد رحمه اللَّه على ذلك كله، ولا خلاف في ذلك بين الأئمة، كما أن المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المُتْعَة والصرف والنَّبيذ، ولا يجوز تقليد بعض المدنيين في ¬

_ = وقال (و): "أكثر هذا الكلام القادم حتى قوله: "وكل من له علم. . . " ساقط من الفتاوى". (¬1) في "بيان الدليل": "أو أخذ". (¬2) ما بين المعقوفتين من "بيان الدليل". (¬3) ذكره النووي في "المجموع" (1/ 108)، وشيخه أبو شامة في "مختصر المؤمل" (58)، ومضى عند المصنف نحوه، وخرجناه هناك. (¬4) في (ق): "بلسان". (¬5) في "بيان الدليل": "وهذا قول لسان حال الجماعة"، وانظر ما مضى. (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": "ومن أصولهم". (¬7) ما بين المعقوفتين أثبته من "بيان الدليل" (ص 208)، وأثبته (و)، وقال: "عن ص 180 ج 3 فتاوى ابن نيمية، فعنه ينقل ابن القيم" اهـ. (¬8) من هنا إلى آخر الفصل فيه تصرف وزيادة من ابن القيم، فانظره في "بيان الدليل" (ص 208 - 213)، وفي (ك): "مسائل" بدل "مسالك". (¬9) في (ك): "مسائل". (¬10) في (ك): "باب".

[خطأ من زعم أن مسائل الخلاف لا إنكار فيها]

مسألة الحشوس وإتيان النساء (¬1) في أدبارهن بل عند فقهاء الحديث أن مَن شرب النبيذ المخْتَلَف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللسان، بل عند فقهاء أهل المدينة يفسَّق، ولا تقبل شهادته. [خطأ من زعم أنّ مسائل الخلاف لا إنكار فيها] وهذا يرد قول مَنْ قال: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وهذا [خلاف] (¬2) إجماع الأئمة، ولا يُعلم إمام من أئمة الإسلام قال ذلك، وقد نص الإمام أحمد على أن من تزوج ابنته من الزنا يُقتل، والشافعي (¬3) وأحمد (¬4) ومالك (¬5) لا يَرَوْن خلاف أبي حنيفة (¬6) فيمن تزوج أمه وابنته أن يُدْرَأ عنه الحد بشبهة دارئة للحد، بل عند الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- يقتل، وعند الشافعي ومالك يحد حد الزنا [في] (¬7) هذا، مع أن القائلين بالمتعة والصَّرْف معهم سُنَّةٌ وإن كانت منسوخة (¬8)، وأرباب الحيل ليس معهم سنة، ولا أثر عن صاحب ولا قياس صحيح. [خطأ قول من قال: لا إنكار في المسائل الخلافية] وقولهم: "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل (¬9)، أما الأول فإذا كان القولُ يخالف سنةً ¬

_ (¬1) قال (د): "مسألة الحشوش هي مسألة إتيان النساء في أدبارهن، فالعطف للتفسير"، وقال (و): "في"النهاية" لابن الأثير: "ومنه حديث جابر: نهى عن إتيان النساء في حشوشهن أي أدبارهن-"، وبهذا يكون تفسيرًا لما قبله" اهـ. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬3) "المهذب" (2/ 44)، "حلية العلماء" (6/ 376، 379 - 380)، "تكملة المجموع" (16/ 219 - 221)، "روضة الطالبين" (7/ 112). (¬4) "المغني" (7/ 485). (¬5) "المدونة" (2/ 202)، "جامع الأمهات" (262)، "الخرشي" (3/ 209)، "الذخيرة" (4/ 258)، وانظر "الإشراف" (3/ 325 مسألة 1162) وتعليقي عليه. (¬6) "المبسوط" (4/ 206)، "بدائع الصنائع" (3/ 1385)، "فتح القدير" (3/ 219). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) قال (و): "في الفتاوى": "لكن سنة المتعة منسوخة، وحديث الصرف يفسره سائر الأحاديث" (ص 181 ج 3 فتاوى) اهـ. (¬9) قال (و): "نص ابن تيمية: "إلى القول بالحكم والعمل"، ولعله الأصوب؛ إذ لم يرد للفتوى ذكر بعد هذا". قلت: وهو كذلك في "بيان الدليل" (ص 210).

[متى يسوغ الاجتهاد؟]

أو إجماعًا شائعًا (¬1) وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقولُ فقيهٌ: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاءُ من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقضِ حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنةً وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماعٌ وللاجتهاد فيها مَسَاغٌ لم يُنكر (¬2) على مَنْ عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا. وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم. [متى يسوّغ الاجتهاد؟] والصواب ما عليه الأئمة (¬3) أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب (¬4) العمل به وجوبًا ظاهرًا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها -إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: "إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا (¬5) يسوغ فيها الاجتهاد" طَعْنٌ على مَنْ خالفها، ولا نسبة له إلى تعمّد (¬6) خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقَّنا صحة أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل (¬7)، وأن إصابة الزوج ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "أو إجماعًا قديمًا" وفي (ن) و (ق): "أو أجماعًا سابقًا"، وفي (ك): "أو إجماعًا سائغًا". (¬2) في المطبوع: "لم تنكر". (¬3) في (ق): "الأمة". (¬4) في (ق): "يثبت". (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "أولا". (¬6) في (ق): "بعد". (¬7) يشير إلى قصة سبيعة الأسلمية مع زوجها الذي مات فأنكحها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعد وضع حملها الذي كان في بعض الروايات بعد أربعين يومًا. روى قصتها البخاري (3991) في (المغازي): باب رقم (10) تعليقًا، و (5319) في (الطلاق): باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ومسلم (1484) في (الطلاق): باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل من حديثها. ورواه البخاري (4909) و (5318)، ومسلم (1485)، من حديث أم سلمة. ورواه البخاري (5320)، من حديث المسور بن مخرمة.

الثاني شرط في حلِّها للأول (¬1)، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم يُنْزِل (¬2)، وإن ربا الفَضْل حَرَام (¬3)، وأن المتعة حرام (¬4)، وأن النَّبيذ المُسْكر حرام (¬5)، وأن المسلم لا يقتل بكافر (¬6)، وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفرًا (¬7)، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق (¬8)، وأن رفع اليدين عند ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2639) في (الشهادات): باب شهادة المختبئ، و (5260) في (الطلاق): باب من جَوَّز طلاق الثلاث، و (5265) باب من قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، و (5317) باب إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة، و (5792) في (اللباس): باب الإزار المهذب، و (5825): باب الثياب الخضر، و (6084) في (الأدب): باب التبسم والضحك، ومسلم (1433) في (النكاح): باب لا تحل المطلقة ثلاثًا لمطلقها حتى تنكح زوجًا غيره، من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي اللَّه عنهما-. (¬2) في هذا أحاديث منها: حديث أبي هريرة: رواه البخاري (291) في (الغسل): باب إذا التقى الختانان، ومسلم (348) في (الحيض): باب نسخ الماء من الماء، وحديث عائشة: رواه مسلم (349)، وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 134)، و"إرواء الغليل" (1/ 121). (¬3) فيه أحاديث منها حديث عمر: "الذهب بالورق ربًا إلا هاءً وهاء، والبر بالبر ربًا إلا هاءً وهاء، والتمر بالتمر". . . رواه البخاري (2134) في (البيوع): باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة، و (2170) في باب بيع التمر بالتمر، و (2174) في بيان بيع الشعير بالشعير، ومسلم (1586) في (المساقاة): باب الصرف. وحديث أبي بكرة: رواه البخاري (2175 و 2182)، ومسلم (1590). وحديث أبي سعيد الخدري: رواه البخاري (2176 و 2177)، ومسلم (1584)، وغيرهم. (¬4) هذا ثابت في أحاديث منها: حديث علي: رواه البخاري (4216) في (المغازي): باب غزوة خيبر، و (5115) في (النكاح): باب نهي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نكاح المتعة أخيرًا، و (5523) في (الذبائح والصيد): باب لحوم الحمر الإنسية، و (6961) في (الحيل): باب الحيلة في النكاح، ومسلم (1407) في (النكاح): باب نكاح المتعة. وحديث سَبْرَة الجهني: رواه مسلم (1406) وحديث سلمة بن الأكوع رواه مسلم أيضًا (1404). (¬5) يدل على هذا حديث: "كل مسكر حرام"، ورد عن جمع من الصحابة، وقد تقدم تخريجه. (¬6) سبق تخريجه، وفي (ق): "بالكافر"، وفي (ك): "الكافر". (¬7) أحاديث المسح على الخفين كثيرة جدًا: منها حديث علي الذي جمع المسح على الخفين في السفر والحضر، وهو حديث: رواه مسلم (276) في (الطهارة): باب التوقيت في المسح على الخفين، وانظر مفصلًا: "نصب الراية" (1/ 162 - 191)، و"التلخيص الحبير" (1/ 157) ومضت أحاديث أخر. (¬8) في هذا حديث سعد بن أبي وقاص: رواه البخاري (790) في (الأذان): باب وضع الأكف على الركب في الركوع، ومسلم (535) في (المساجد): باب الندب إلى وضع الأيدي على الركب في الركوع ونسخ التطبيق.

الركوع والرفع منه سنة (¬1)، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعَقَار (¬2)، وأن الوقف صحيح لازم (¬3)، وأن دية الأصابع سواء (¬4)، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم (¬5)، وأن الخاتم من حديد (¬6) يجوز أن يكون صُدَاقًا (¬7)، وأن التيمم إلى ¬

_ (¬1) في هذا حديث ابن عمر: رواه البخاري (735) في (الأذان): باب رفع اليدين في التكبيرة الأولى مع الافتتاح سواء، و (736) في رفع اليدين إذا كبَّر، وإذا ركع رفع، و (738) باب إلى أين يرفع يديه، و (739) باب رفع اليدين إذا قام من الركعتين، ومسلم (390) في (الصلاة): باب استحباب رفع اليدين حذو المنكبين مع تكبيرة الإحرام. . . وحديث مالك بن الحويرث: رواه مسلم (391). وانظر في هذا جزء البخاري "رفع اليدين" مع تخريجه "قرة العينين" للشيخ السندي، فإنه ذكر هذا عن سبعة عشر صحابيًا. (¬2) أحاديث الشفعة تقدم غير واحد منها. (¬3) يشير إلى حديث عمر في الوقف حين أصاب أرضًا بخيبر؛ فأتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يستأمره فيها فقال: يا رسول اللَّه، إني أصبت أرضًا بخيبر لم أصب مالًا قط أنفس عندي منه فما تأمر به؟ قال: "إن شئت حَبَست أصلها، وتصدّقت بها" قال: فتصدق بها عمر أنّه لا يُباع، ولا يوهب ولا يورث. رواه البخاري في "صحيحه" (2737) في (الشروط): باب الشروط في الوقف، و (2772) في (الوصايا): باب الوقف كيف يكتب، و (2773) باب الوقف للغني والفقير والضيف. واعتنى النجاد في "مسند عمر" بطرق هذا الحديث وألفاظه، فانظره غير مأمور. (¬4) رواه البخاري (6895) في (الديات): باب دية الأصابع من حديث شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا: "هذه وهذه سواء، يعني الخنصر والإبهام". ورواه من نفس الطريق، وبلفظ صريح، أبو داود (4559)، ولفظه: "الأصابع سواء، والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء هذه وهذه سواء". وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، رواه أحمد (2/ 207)، وأبو دا ود (4562)، والنسائي (8/ 57)، وابن ماجه (2653). (¬5) رواه البخاري (6795)، و (6796)، و (6797) و (6798) في (الحدود): باب قول اللَّه تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، ومسلم (1686) في (الحدود): باب حد السرقة ونصابها، من حديث ابن عمر. (¬6) في (ك) و (ق): "الحديد". (¬7) رواه البخاري (5029) في (فضائل القرآن): باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه، و (5030) باب القراءة عن ظهر قلب، و (5087) في (النكاح): باب تزويج المعسر، و (5121) باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح، و (5126) باب النظر إلى المرأة قبل التزويج، و (5132) باب إذا كان الولي هو الخاطب، و (5135) باب السلطان ولي، و (5141) باب إذا قال الخاطب للولي: زوجني فلانة، و (5149) باب التزويج على =

الكُوعين بضربة واحدة جائز (¬1)، وأن صيام الوليّ عن الميت يُجزئ عنه (¬2)، وأن الحاج يلبّي حتى يرمي جمرة العقبة (¬3)، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه (¬4)، وأن السنة أن يسلّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه (¬5)، وأن خِيَارَ المجلس ثابتٌ في البيع (¬6)، وأن المُصَرَّاة يرد معها عوض اللبن صاعًا من تمر (¬7)، وأن صلاة الكسوف ¬

_ = القرآن وبغير صداق، و (5150) باب المهر بالعروض وخاتم الحديد، و (5871) في (اللباس): باب خاتم الحديد و (7417) في (التوحيد): باب {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} ومسلم (1425) في (النكاح): باب الصداق، وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد، من حديث سهل بن سعد. (¬1) في هذا حديث عمار بن ياسر في (التيمم)، وهو في "الصحيحين"، وقد مضى تخريجه. (¬2) في هذا حديث: "من مات وعليه صيام، صام عنه وليه". أخرجه البخاري (1952) (كتاب الصيام): باب من مات وعليه صوم، ومسلم (1147) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت، عن عائشة -رضي اللَّه عنه-. وانظر: "تهذيب السنن" (3/ 278 - 282)، و"الروح" (ص 120)، فقد قرر هناك أن الصحيح أنه يجزئ عنه في صيام النذر دون صيام الفرض، وبيّن سر الفرق في "تهذيب السنن". (¬3) رواه البخاري (1544) في (الحج): باب الركوب والارتداف في الحج، و (1670) في النزول بين عرفة وجمع، و (1685)، و (1687) باب التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة، ومسلم (1281) (266 و 267) في (الحج): باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة. من حديث الفضل بن عباس. (¬4) سبق تخريجه. (¬5) رواه الطيالسي (279)، و (308)، وابن أبي شيبة (1/ 332)، وعبد الرزاق (3130)، وأحمد (1/ 386 و 395 و 394 و 406، و 408، و 409، و 418، و 441، و 444)، وأبو داود (996) في (الصلاة) باب في السلام، والترمذي (295) في (الصلاة): باب ما جاء في التسليم في الصلاة، والنسائي (2/ 230) في (التطبيق): باب التكبير عند الرفع من الركوع، و (3/ 62) في (السهو): باب كيف السلام على اليمين، و (3/ 63 و 64) في كيف السلام على الشمال، وابن ماجه (914) في (الإقامة): باب التسليم، وابن الجارود (209)، وابن خزيمة (728)، وابن حبان (1990 و 1991 و 1993 و 1994)، والبيهقي (2/ 177) من حديث عبد اللَّه بن مسعود، وإسناده صحيح. (¬6) يريد حديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا"، وهو في "الصحيح"، وقد تقدم تخريجه، وفي (ك): "المبيع". (¬7) سبق تخريجه.

[لا عذر يوم القيامة للمقلد]

بركوعين في كل ركعة (¬1)، وأن القضاء جائزٌ بشاهد ويمين (¬2)، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح (¬3) الأئمة بنقض حكم مَنْ حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها. [لا عذر يوم القيامة للمقلِّد] وعلى كل حال فلا عذر عند اللَّه يوم القيامة (¬4) لمن بلغه [ما] (¬5) في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نَبَذَها وراء ظهره، وقلَّد مَنْ نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحلُّ لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتى لو لم يقل له ذلك لكان (¬6) هذا هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة [له] (5) فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يَسَعْه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتة (¬7) فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يُعلِّم أصحابه هذه الحيل، ولا يدلّهم عليها، ولو بلغه عن أحد فعل شيئًا منها لأنكر عليه، ولم يكن أحد من أصحابه (¬8) يفتي بها ولا يعلمها، وذلك مما يَقطع به كل مَنْ له أدنى اطلاع على أحوال القوم وسيرتهم وفتاويهم، وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة [الدين] (5) الذي بعث اللَّه به رسوله. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1044) في (الكسوف): باب الصدقة في الكسوف، وأطرافه كثيرة جدًا انظرها هناك، ومسلم (901) في (الكسوف): باب صلاة الكسوف، من حديث عائشة. ورواه البخاري (1052) في (الكسوف): باب صلاة الكسوف جماعة، و (1597) في (النكاح): باب كفران العشير، ومسلم (902 و 907) في الكسوف من حديث عباس. (¬2) رواه مسلم (1712) في (الأقضية): باب القضاء باليمين والشاهد، من حديث ابن عباس. وقد تكلم بعض أهل العلم في هذا الحديث وأعلُّوه فانظر ذلك، والرد عليه في "نصب الراية" (4/ 98)، و"إرواء الغليل" (8/ 297)، وله شواهد كثيرة عن عدد من الصحابة انظرها هناك مفصلة. وفي القضاء بالشاهد واليمين، وأنه لا يختص بالأموال، انظر: "الطرق الحكمية" (ص 63 - 75 و 141 - 161 و 350 الطريق السابع)، و"تهذيب السنن" (5/ 225 - 230) فقد حشد هناك الأحاديث وردّ على من أعلها. (¬3) في (ق): "يصرح". (¬4) في (ك): "لقائه". (¬5) سقط من (ك). (¬6) في المطبوع: "كان". (¬7) في (ك): "من الأحاديث والآثار شيء البتة". (¬8) في (ك): "الصحابة".

فصل [بيان بطلان الحيل على التفصيل]

فصل [بيان بطلان الحيل على التفصيل] فلنرجع إلى المقصود، وهو بيان (¬1) بطلان هذه الحيل على التفصيل، وأنها لا تتمشى لا (¬2) على قواعد الشرع ومصالحه وحكمه ولا على أصول الأئمة. [إبطال حيلة تصحيح وقف الإنسان على نفسه] قال شيخنا (¬3): "ومن الحيل الجديدة (¬4) التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافًا في تحريمها أن يريد الرجل أن يقف على نفسه وبعد (¬5) موته على جهات متصلة، [فيقول أرباب الحيل] (¬6): أقِرَّ أن هذا المكان (¬7) الذي بيدك وَقْفٌ عليك من غيرك، ويعلِّمونه الشروط التي يريد إنشاءها، فيجعلها إقرارًا؛ فيعلّمونه الكذب في الإقرار، [ويشهدون على الكذب وهم يعلمون] (¬8)، ويحكمون بصحته، ولا يستريب مسلم في (1) أن هذا حرام؛ فإن الإقرار شهادة (¬9) [من] (¬10) الإنسان على نفسه، فكيف يلقّن شهادة الزور ويشهد عليه بصحتها؟ ثم (¬11) إن كان وقف الإنسان على نفسه باطلًا في دين اللَّه فقد علَّمتموه (¬12) حقيقة الباطل؛ فإن اللَّه تعالى (¬13) قد علم أن هذا لم يكن وقفًا قبل الإقرار، ولا صار وقفًا والإقرار الكاذب (¬14)، فيصير المال حرامًا على مَنْ يتناوله (¬15) إلى يوم القيامة، وإن كان وقف الإنسان ¬

_ (¬1) سقط من (ق). (¬2) سقط من (ك) و (ق). (¬3) في "بيان الدليل" (197 - 198). (¬4) في "بيان الدليل": "الجديرة". (¬5) كذا في (ن)، و"بيان الدليل"، وفي باقي النسخ: "بعد" دون واو. (¬6) في (ك): "المكان". (¬7) بدلها في "بيان الدليل": "فيقولون للرجل"، وفي (ق) و (ك): "فيقول له أرباب الحيل". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ن) و (ق): "ويعلمونه الكذب"، وفي "بيان الدليل": "ويشهدون عليه به". (¬9) في (ك): "بشهادة". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬11) في "بيان الدليل": "شهادة زور ثم". (¬12) في "بيان الدليل": "علمناه"، وسقط من (ق): "فقد". (¬13) في "بيان الدليل": "لأن اللَّه سبحانه". (¬14) في "بيان الدليل" و (ق): "بالإقرار بالكذب". (¬15) في "بيان الدليل": "تناوله".

فصل [حيلة في الوقف]

على نفسه صحيحًا (¬1) فقد أغنى اللَّه تعالى عن تكلف الكذب". قلت: ولو (¬2) قيل: إنه مسألة خلاف يسوغ فيها الاجتهاد فإذا وقفه على نفسه كان لصحته مَسَاغ لما فيه من الاختلاف السائغ (¬3)، وأما الإقرار بوقفه من غير إنشاء متقدم فكذب بَحْت، ولا يجعله ذلك وقفًا اتفاقًا إذا أخذ الإقرار على حقيقته، ومعلوم قطعًا أن تقليد الإنسان لمن يفتي بهذا القول ويذهب إليه أقربُ إلى الشرع والعقل من توصله إليه بالكذب والزور والإقرار الباطل؛ فتقليد عالم من علماء المسلمين أعْذرُ عند اللَّه من تلقين الكذب والشهادة عليه. فصل (¬4) [حيلة في الوقف] ولهم حيلة أخرى -وهي أن الذي يريد الوقف يملّكه لبعض مَنْ يثق به (¬5) ثم يَقِفُه ذلك المملَّكُ عليه بحسب اقتراحه- وهذا لا شك في قبحه وبطلانه؛ فإنَّ [حد] التمليك [المشروع المعقول] (¬6) أن يرضى المملِّك بنقل الملك إلى المملَّك بحيث يتصرف فيه بما يُحِب (¬7) من وجوه التصرفات، وهنا قد علم اللَّه تعالى [والحفَظَة الموكلون بالعبد ومن يشاهدهم (¬8) من بني آدم] (¬9) من هذا (¬10) [المملِّك] (6) أنه لم يرض بنقل الملك إلى هذا، ولا خَطَر له على بال، ولو سأله درهمًا واحدًا فلعله كان لم يسمح به عليه (¬11)، ولم يرض بتصرفه فيه إلا بوقفه على المملك خاصة، بل قد ملَّكه إياه بشرط أن يتبرع عليه به وقفًا إما بشرط (¬12) مذكور وإما بشرط (12) معهود متواطأ عليه، وهذا تمليكٌ فاسدٌ قطعًا، وليس بهبة ولا صدقة ولا هدية ولا وصية ولا إباحة، وليس هذا بمنزلة العُمْرَى والرُّقْبَى ¬

_ (¬1) في "بيان الدليل": "وقفه صحيحًا". (¬2) في (ك) و (ق): "وإن". (¬3) في المطبوع: "لساغ". (¬4) ما تحته من "بيان الدليل" (ص 198 - 199) باختصار، وما بين المعقوفتين منه. (¬5) في "بيان الدليل": "لبعض ثقاته". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من "بيان الدليل". (¬7) في (ن): "يجب". (¬8) في (ك): "شاهدهم". (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في "بيان الدليل": و"خلقه". (¬10) في (ك): "هنا" وفي (ق): "بهذا". (¬11) في (ك): "يسمح عليه" وفي (ق): "يسمح عليه به". (¬12) في (ك): "شرط".

فصل [إبطال حيلة لتأجير الوقف مدة طويلة]

المشروط فيها [العَوْد] (¬1) إلى المعمر، فإنه (¬2) هناك مَلَّكه التصرف فيه، وشَرَطَ العود، وهنا لم يملكه شيئًا [قط]، إنما تكلم بلفظ التمليك غيرَ قاصد معناه، والموهوب له يصدقه أنهما لم يقصدا حقيقة الملك، بل هو استهزاء بآيات اللَّه وتلاعب بحدوده، وسنذكر إن شاء اللَّه تعالى في الفصل الذي بعد هذا الطريق [الشرعية] (¬3) المُغْنية عن هذه الحيلة الباطلة. فصل [إبطال حيلة لتأجير الوقف مدة طويلة] ومن الحيل الباطلة: تحيّلهم على إيجار الوقف مئة سنة مثلًا، وقد شرط الواقف ألا يؤجّر أكثر من سنتين أو ثلاثًا؛ فيؤجره المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد، وهذه الحيلة باطلة قطعًا؛ فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الإجارة، فإنها مفاسد كثيرة جدًا، وكم قد ملك من الوقف بهذه الطريق (¬4)، وخرج عن الوقفيّة بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنينًا بعد سنين؟ وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقفما [بالإيجار الطويل؟ وكم أوجر الوقف] (¬5) بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الأجرة؟ وكم زادت أجرة الأرض أو العَقَار (¬6) أضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها؟ وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العَدَّ، والواقف إنما قصد دفعها، وخشي منها بالإجارة (¬7) الطويلة، فصرَّح بأنه لا يؤجّر أكثر من تلك المدة التي شرطها، فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقد أو عقودٍ مخالفةٍ صريحة لشرطه، مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة. وياللَّه العجب! هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد؟ وأي غرضٍ للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدة ثم يجوّزها في ساعة واحدة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وفي (ق): "الرجوع". (¬2) في المطبوع: "فإن"، وما أثبتناه من المخطوط، و"بيان الدليل". (¬3) سقط من (ك). (¬4) في المطبوع و (ك): "وكم قد ملك من الوقوف بهذه الطرق"، وفي (ق): "وكم قد ملك من وقف بهذه الطريق". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ك) و (ق): "والعقار". (¬7) في (ك): "بالأجرة".

في عقود متفرقة؟ وإذا أخره في عقوده متفرقة أكثر من ثلاث سنين، أيصحُّ أن يقال: وَفَّى بشرط الواقف ولم يخالفه؟ هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل، وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه، وتعريض لإبطال هذه الصدقة، وأن لا يستمر نفعها، وألا (¬1) يصل إلى من بعد الطبقة الأولى وما قاربها، فلا يحل لمُفْتٍ أن يفتي بذلك، ولا لحاكم أن يحكم به، ومتى حكم به نقض حكمه، اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة الوقف (¬2)، بأن يخرب ويتعطل (¬3) نفعه فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة، فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحًا لوقفه واستمرارًا لصدقته، وقد يكون هذا خيرًا من بيعه والاستبدال به، وقد يكون البيع أو الاستبدال (¬4) خيرًا من الإجارة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. والذي يُقضى منه العجب التحيّل على مخالفة شرط الواقف وقصدِه الذي يقطع بأنه قَصْدُه مع ظهور المفسدة، والوقوفُ مع ظاهر شرطه ولفظِهِ المخالفِ لقصده وللكتاب والسنة ومصلحة الموقوف عليه، بحيث يكون مرضَاةَ للَّه ورسوله ومصلحة الواقف وزيادة أجره ومصلحة الموقوف عليه وحصول الرفق به مع كون العمل أحبَّ إلى اللَّه ورسوله، لا يغير شرط الواقف، وبجري مع ظاهر لفظه، وإن ظهر قصده بخلافه، وهل هذا إلا من قلَّة الفقه؟ بل من عدمه، فإذا تحيلتم على إبطال مقصود الواقف حيث يتضمن المفاسدَ العظيمةَ فهلا تحيَّلتم على مقصوده ومقصود الشارع حيث يتضمن المصالح العظيمة (¬5) بتخصيص لفظه أو تقييده أو تقديم شرط اللَّه عليه؟ فإن شرط اللَّه أحق وأوثق، بل يقولون هاهنا: نصوص الواقف كنصوص الشارع، وهذه جملة من أبطل الكلام، وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدًا، بل نصوص الواقف يتطرق إليها (¬6) التناقض والاختلاف، وبجب إبطالها إذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها، ولا حرمة لها حينئذ البتة، ويجوز -بل يترجح- مخالفتها إلى ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله منها وأنفع للواقف والموقوف عليه، ويجوز اعتبارها والعدول عنها مع تساوي الأمرين، ولا يتعيّن الوقوف معها، وسنذكر إن شاء اللَّه تعالى فيما بعد، ونبين ما يحل الإفتاء به وما ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "ولا". (¬2) في (ق): "للوقف". (¬3) في (ق): "أو يتعطل". (¬4) في (ق): "والاستبدال". (¬5) في المطبوع و (ك): "الراجحة". (¬6) في (ق): "عليها".

فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف ألا يفعل ما لا يفعله بنفسه عادة]

لا يحل من شروط الواقفين؛ إذ القصد بيان بطلان هذه الحيلة شرعًا وعرفًا ولغةً. فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف ألا يفعل ما لا يفعله بنفسه عادة] ومن الحيل الباطلة ما لو حلف أن لا يفعل شيئًا، ومثله لا يفعله نفسه أصلًا، كما لو حلف السلطان أن لا يبيع كذا، ولا يحرث هذه الأرض ولا يزرعها، ولا يُخرج هذا من بلده، ونحو ذلك، فالحيلة أن يأمر غيره أن يفعل ذلك، ويبر في يمينه، إذا لم يفعله بنفسه، وهذا من أبرد الحيل وأسمجها وأقبحها، وفعل ذلك هو الحنث الذي حلف عليه بعينه، ولا يشك في أنه حانث، ولا أحد من العقلاء، وقد علم اللَّه ورسوله والحَفَظَة -بل والحالف نفسه (¬1) - أنه إنما حلف على نفي الأمر والتمكين من ذلك، لا على مباشرته، والحيل إذا أفْضَتْ إلى مثل هذا سمجت غاية السماجة، ويلزم أرباب الحيل والظاهر أنهم يقولون: إنه إذا حلف أن لا يكتب لفلان توقيعًا ولا عهدًا ثم أمر كُتَابه أن يكتبوه له، فإنه لا يحنث، سواء كان أميًا أو كاتبًا، وكذلك إذا حلف أن لا يحفر هذا (¬2) البئر، ولا يَكْرِيَ هذا النهر، فأمر غيره بحَفْره وإكرائه أنه لا يحنث. فصل [إبطال حيلة لمن حلف لا يفعل شيئًا ففعل بعضه] ومن الحيل الباطلة لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يسكن في [هذه] (¬3) الدار هذه السنة، أو لا يأكل هذا الطعام، [قالوا: يأكل] (¬4) الرغيف ويدع [منه] (¬5) لقمة واحدة، ويسكن السنة كلها إلا يومًا واحدًا، ويأكل الطعام كله إلا القَدْرَ اليسير منه ولو أنه لقمة. وهذه الحيلة باطلة باردة (¬6)، ومتى فعل ذلك فقد أتى بحقيقة الحِنْث، وفَعَلَ ¬

_ (¬1) في (ق): "بل هو نفسه". (¬2) في (ق): "هذا". (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "فليأكل". (¬5) سقط من (ق). (¬6) في (ق): "وهذه حيلة باردة باطلة" وفي (ك): "وهذه حيلة باطلة باردة".

فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الحضانة]

نَفْسَ ما حلف عليه، وهذه الحيلة لا تتأتى على قول من يقول: يحنث بفعل (¬1) بعض المحلوف عليه (¬2) ولا على قول من يقول: لا يحنث، لأنه لم يرد مثل هذه الصورة قطعًا، وإنما أراد به إذا أكل لقمة مثلًا من الطعام الذي حلف أنه لا (¬3) يأكله أو حبة من القِطْفِ الذي حلف على تركه، ولم يرد أنه يأكل القِطْفَ إلا حبَّة واحدة منه، وعالم لا يقول هذا. ثم يلزم هذا المتحيل أن يجوِّز للمكلف فعل [كل] (¬4) ما نهى الشارع عن جملته فيفعله إلا القدر اليسير منه؛ فإن البر والحنث في الأيمان نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، ولذلك (¬5) لا يبر إلا بفعل المحلوف عليه جميعِهِ، لا بفعل بعضه، كما لا يكون مطيعًا إلا بفعله جميعِهِ، ويحنث بفعل بعضه كما يعصي بفعل بعضه، فيلزم هذا القائل أن يجوِّز للمحرم في الأحرام حَلْقَ (¬6) تسعة أعشار رأسه، بل وتسعة أعشار العشر الباقي؛ لأن اللَّه تعالى إنما نهاه عن حَلْق رأسه كله، لا عن بعضه، كما يُفتي لمن حلف لا يحلق رأسَه أن يحلقه إلا القدر اليسير منه. وتأمل لو فعل المريض هذا فيما نهاه الطبيب عن تناوله، هل يُعَدُّ قابلًا منه؟ أو لو فعل مملوكُ الرجلِ أو زوجته أو ولده ذلك فيما نهاهم عنه، هل يكونون مطيعين له أم مخالفين؟ وإذا تحيل أحدهم على نقض غرض الآمر وإبطاله بأدنى الحيل، هل كان يقبل ذلك منه ويحمده عليه أو يعذره؟ وهل يعذر أحدًا من الناس يعامله بهذه الحيل؟ فكيف يُعامِل هو بهذا مَنْ لا تخفى عليه خافية؟ فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الحضانة] ومن الحيل الباطلة المحرمة ما لو أراد الأب إسقاط حَضَانة الأم أن يسافر إلى غير بلدها، فيتبعه الولد. وهذه الحيلة مُنَاقِضة لما قصده الشارع؛ فإنه جعل الأم أحق بالولد من الأب مع ¬

_ (¬1) في (ق): "على فعل". (¬2) في (ن): "يحنث على فعل المحلوف عليه". (¬3) في (ق): "ألّا". (¬4) سقط من "ق". (¬5) في (ن) و (ق): "وكذلك". (¬6) في (ق): "أن يحلق".

قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت لو قضى به للأب، وقضى أن لا تولَّه والدة على ولدها، وأخبر أن مَنْ فَرَّق بين والدة وولدها فرّق اللَّه بينه وبين أحبته يوم القيامة (¬1)، ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 412 - 413 و 414)، والترمذي (1283) في (البيوع): باب ما جاء في كراهية أن يفرق بين الأخوين، و (1566) في (السير): باب في كراهية التفريق بين السبي، والدارقطني (3/ 67)، والطبراني في "الكبير" (4080)، والحاكم (2/ 55)، والقضاعي (456)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 126)، والخطيب في "تالي التلخيص" (212 - بتحقيقي) من طريق حُيي بن عبد اللَّه المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن أبي أيوب الأنصاري رفعه. وقال الترمذي: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. قال الزيلعي -رحمه اللَّه- (4/ 23 - 24): وفيما قاله نظر؛ لأن حيي بن عبد اللَّه لم يخرج له في "الصحيح" شيء، بل تكلم فيه بعضهم، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 521): "قال البخاري: فيه نظر، وقال أحمد: أحاديثه مناكير، وقال ابن معين: ليس به بأس، وقال النسائي: ليس بالقوي، قال: ولأجل الاختلاف فيه لم يصححه الترمذي. أقول: وقد وجدت له متابعًا، فقد رواه الدارمي (2/ 227 - 228) من طريق الليث بن سعد قراءةً عن عبد الرحمن، وفي "نصب الراية": "عبد اللَّه بن جنادة" عن أبي عبد الرحمن الحبلي به، وهو كذلك في النسخ الخطية من "السنن"، انظر: "فتح المنان" (9/ 143 رقم 2636). وعبد الرحمن بن جنادة هذا لم أجد له ترجمة، وهو خطأ لا وجود له، صوابه (عبد اللَّه بن جنادة) أحد أفراد الدارمي، ترجمة البخاري وابن أبي حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، ووثقه الهيثمي في "المجمع" (9/ 289) ويقع هذا غالبًا له فيمن وثقه ابن حبان، ثم وجدته في "ثقاته" (7/ 23). وله طريق آخر عن أيوب: رواه البيهقي في "الشعب" (11081) من طريق بقية: حدثنا خالد بن حميد عن العلاء بن كثير عنه. أقول: هذا إسناد رواته ثقات، ما عدا خالد بن حميد، فقد قال ابن أبي حاتم: لا بأس به. والعلاء بن كثير هو الإسكندراني، وهو ثقة لكنه لم يدرك أبا أيوب الأنصاري، وإنما يروي عن أبي عبد الرحمن الحُبلي، فأخشى أن يكون في الإسناد سقْطٌ. فإن كان بإثبات أبي عبد الرحمن فتكون متابعة قوية لحيي بن عبد اللَّه المعافري، لكن أخشى من تدليس بقية، فيكون قد صنع شيئًا في الإسناد فانه يدلس تدليس التسوية. وبعد أن كتبت هذا الكلام على الإسناد، وجدت الزيلعي قد عزا الحديث للبيهقي في "الشعب" بإسناد "السنن" نفسه، ثم نقل عن صاحب "التنقيح" أنه أعله بالانقطاع بين العلاء وأبي أيوب، كما قلت، فالحمد للَّه على توفيقه. وأخرجه الفزاري في "السير" (109) عن معاوية بن يحيى عمن حدثه أن أبا أيوب به. وللحديث شواهد. فقد رواه الدارقطني (3/ 68) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1369 رقم 3455) =

ومنع أن تباع (¬1) الأم (¬2) دون ولدها والولد دونها، وان كانا في بلد واحد (¬3)، فكيف يجوز مع هذا التحيلُ على (¬4) التفريق بينها وبين ولدها تفريقًا تعزُّ معه رؤيته ولقاؤه ويعز عليها الصبر عنه وفقده؟ وهذا (¬5) من أمحل المحال، بل قضاء اللَّه ورسوله أحق أن الولد للأم: سافر الأب أو أقام، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للأم: "أنتِ أحَقُّ به ما لم تنكحي" (¬6) ¬

_ = من حديث حريث بن سليم العذري عن أبيه، وعزاه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (1/ 74) لابن منده. وفي إسناده الواقدي، كما قال الحافظ ابن حجر، والزيلعي في "نصب الراية" (4/ 24). وله شواهد عن أبي موسى: رواه ابن أبي شيبة (7/ 193)، وابن ماجه (2250)، والدارقطني (3/ 67) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (7/ 174 رقم 1717) - والقطيعي في "جزء الألف دينار" (رقم 307)، والمزي في "تهذيب الكمال" (13/ 462)، وإسناده ضعيف؛ فيه إبراهيم بن إسماعيل، وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (2/ 223)، و"تنقيح التحقيق" للذهبي (7/ 174 و 10/ 181). وله شاهد أيضًا من حديث عمران بن حصين: رواه الدارقطني (3/ 66 - 67)، والحاكم (2/ 55)، وتمام في "الفوائد" (رقم 729 - ترتيبه) والبيهقي (9/ 128)، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو منقطع، طليق بن محمد -مع ما قيل فيه- لم يسمع من عمران، قاله الدارقطني في "أسئلة البرقاني" له (رقم 240) وبه جزم المنذري في "الترغيب" (5/ 51) والذهبي في "الميزان" (2/ 345) ووقع خلاف فيه على (طليق) فرواه عنه مرسلًا سعيد بن منصور (رقم 2658) وانظر: "نصب الراية" (4/ 25) و"علل الدارقطني" (7/ 217 - 218)، و"بيان الوهم والإيهام" (2/ 323). (¬1) في (ك): "تبتاع". (¬2) في (ق): "الأمة". (¬3) مضى تخريجه مفصلًا، وانظر تعليقي على "الموافقات" (3/ 471 - 472). (¬4) سقط من (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "هذا". (¬6) رواه أبو داود (2276)، والحاكم (2/ 207)، والبيهقي (8/ 4 - 5)، من طريق الوليد بن مسلم: حدثني الأوزاعي: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا به. وهذا إسناد جيّد، رجاله ثقات، والوليد بن مسلم مدلس صرّح بالسماع. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. ورواه عبد الرزاق (12597)، وأحمد (2/ 182)، والدارقطني (3/ 305) من طريق ابن جريج عن عمرو به، وابن جريج مدلس، ورواه أحمد (2/ 203)، وعبد الرزاق (12596)، وإسحاق بن راهويه -كما في "نصب الراية" (3/ 266) -، والدارقطني (3/ 304) من طريق المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب به، والمثنى ضعيف. قال المصنف رحمه اللَّه في "زاد المعاد" (5/ 432): "فهو حديث احتاج الناس فيه إلى عمرو بن شعيب، ولم يجدوا أبدًا من الاحتجاج هنا به، ومدار الحديث عليه، وليس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث في سقوط الحضانة بالتزويج غير هذا، وقد ذهب إليه الأئمة الأربعة وغيرهم".

فصل [إبطال حيلة لجعل تصرفات المريض نافذة]

فكيف يقال: أنت أحق به ما لم يسافر الأب (¬1)؟ وأين هذا في كتاب اللَّه عز وجل أو سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فتاوى أصحابه رضي اللَّه عنهم أو القياس الصحيح؟ فلا نص ولا قياس ولا مصلحة. فصل [إبطال حيلة لجعل تصرفات المريض نافذة] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد حِرْمَان امرأته من الميراث، أو كانت (¬2) ترِكَتُه كلها عبيدًا وإماءً فأراد جَعْلَ تدبيرهم (¬3) من رأس المال، أن يقول في الصورة الأولى: إذا مُتُّ من مرضي هذا فأنت طالق قبل مرضي بساعةٍ ثلاثًا، ويقول في الصورة الثانية: إذا متُّ في (¬4) مرضي هذا فأنتم عُتَقَاء قبله بساعة، وحينئذ فيقع الطلاق والعتق في الصحة. وهذه حيلة باطلة؛ فإن التعليق إنما وقع منه في حال مرض موته، ولم يقارنه أثره، وهو في هذه الحال لو نَجَّزَ العتق والطلاق لكان العتق من الثلث والطلاق غير مانع للميراث (¬5)، مع مقارنة أثره [له] (¬6)، وقوة المنجَّز وضعف المعلَّق، وأيضًا فالشرط هو موته في (¬7) مرضه، والجزاء المعلق عليه هو العتق والطلاق، والجزاء يستحيل (¬8) أن يسبق شرطه؛ إذ في ذلك إخراج الشرط عن حقيقته وحكمه، وقد تقدم تقرير ذلك في الحيلة السُّرَيْجية. فصل [إبطال حيلة لتأخير رأس مال السلم] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا كان مع أحدهما دينار رديء ومع الآخر نصف دينار جيد، فأراد بيع أحدهما بالآخر، قال أرباب الحيل: الحَيلةُ أن يبيعه دينارًا بدينار في الذمّة، ثم يأخذ البائع الدينارَ الذي يريد شراءه بالنصف، فيريد الآخر دينارًا عوضه، فيدفع إليه نصف الدينار وفاءً، ثم يستقرضه منه، فيبقى له في ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "مع الأب"، وفي (ق): "ما لم تسافري مع الأب". (¬2) في (ق): "وكانت". (¬3) في (ك): "مدبريهم". (¬4) في (ق): "من". (¬5) في (ق): "من الميراث". (¬6) سقط من (ق). (¬7) في (ق) و (ك): "من". (¬8) في (ق): "مستحيل".

[تحيل في السلم]

ذمته نصف دينار، ثم يعيده إليه وفاءً عن قرضه، فيبرأ منه (¬1)، ويفوز كل منهما بما كان مع الآخر. [تحيل في السلم] ومثل هذه الحيلة لو أراد أن يجعل بعض رأس مال السَّلَم دينارًا (¬2) يوفيه إياه في وقت آخر، بأن يكون معه نصف دينار [ويريد أن يُسلم إليه دينارًا] (¬3) في كَرِّ حنطةٍ، فالحيلة أن يسلم إليه دينارًا غير معين، ثم يوفيه نصف الدينار، ثم يعود فيستقرضه منه، ثم يوفيه إياه عمَّا له عليه من دين، فيتفرَّقان وقد بقي له في ذمته نصف دينار. وهذه الحيلة من أقبح الحيل؛ فإنهما لا يخرجان بها عن بيع دينار بنصف دينار (¬4)، ولا عن تأخير رأس مال السلم عن مجلس العقد، ولكن توصَّلَا إلى ذلك بالقَرْض الذي جعلا صورته مبيحة لصريح الربا، ولتأخير قبض رأس مال السلم، وهذا غير القرض الذي جاءت به الشريعة، وهو قَرْضٌ لم يشرعه اللَّه، وإنما اتخذه المتعاقدان تلاعبًا بحدود اللَّه وأحكامه، واتخاذًا لآياته هزوًا، وإذا كان القرض الذي يجر النفع ربًا عند صاحب الشرع، فكيف بالقرض الذي يجر صريح الربا وتأخير قبض رأس مال السلم؟ فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الشفعة] ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على إسقاط ما جَعله اللَّه سبحانه حقًا للشريك على شريكه من استحقاق الشفعة دفعًا للضرر، والتحيل لإبطالها مناقض لهذا الغرض، وإبطال لهذا الحكم بطريق التحيل (¬5). وقد ذكروا وجوهًا من الحيل: منها: أن يتفقا على مقدار الثمن، ثم عند العقد يصبره صُبْرة غير موزونة، فلا يعرف الشفيع ما يدفع، فإذا فَعَلَا ذلك فللشفيع أن يستحلف (¬6) المشتري أنه لا ¬

_ (¬1) في هامش (ق): "لعله يريد: من قرضه". (¬2) في (ك): "دينًا". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) في (ق): "نصف دينار بدينار". (¬5) انظر: "إغاثة اللهفان" (368/ 1)، و"تهذيب السنن" (2/ 194 و 5/ 165 - 167)، و"الطرق الحكمية" (ص 282). (¬6) في (ق): "يُحَلّف".

يعرف قدر الثمن، فإن نكل قضى عليه بنكوله، وإن حلف فللشفيع أخذ الشَّقْصِ بقيمته. ومنها: أن يَهَبَ الشقص للمشتري، ثم يهبه المشتري ما يرضيه، وهذا لا يسقط الشفعة، وهذا بيع وإن لم يتلفظَّا به، فله أن يأخذ الشقص بنظير الموهوب. ومنها: أن يشتري الشقص، ويضم إليه سكينًا أو منديلًا بألف درهم، فيصير حصة الشقص من الثمن مجهولة، وهذا لا يُسقط الشفعة، بل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته كما لو اسْتُحِق أحد العوضين وأراد المشتري أخذ الآخر، فإنه يأخذه بحصته من الثمن إن انقسم الثمن عليهما بالأجزاء، وإلا فبقيمته، وهذا الشقص مستحق شرعًا؛ فإن الشارع جعل الشفيع أحق به من المشتري بثمنه، فلا يسقط حقه منه بالحيلة والمكر والخداع. ومنها: أن يشتري الشقص بألف دينار، ثم يصارفه عن كل دينار بدرهمين فإذا أراد أخْذَه أخَذَه بالثمن الذي وقع عليه العقد. وهذه الحيلة لا تسقط الشفعة، وإذا أراد أخْذَه أخَذَه بالثمن الذي استقر عليه العقد وتواطأ عليه البائع والمشتري؛ فإنه هو الذي انعقد به العقد، ولا عبرة بما أظهراه من الكذب والزور والبهتان الذي لا حقيقة له؛ ولهذا لو استحق المبيع فإن المشتري لا يرجع على البائع بألف دينار، وإنما يرجع عليه بالثمن الذي تواطآ عليه واستقر عليه العقد؛ فالذي يرجع به عند الاستحقاق هو الذي يدفعه الشفيع عند الأخذ، هذا محض العَدْلِ الذي أرسل اللَّه سبحانه به رسله وأنزل به كتبه ولا تحصل (¬1) الشريعة سواه. ومنها: أن يشتري بائعُ الشّقْص [من المشتري عبدًا قيمته مئة درهم بألف درهم في ذمته، ثم يبيعه الشقص بالألف (¬2)، وهذه الحيلة لا تبطل الشفعة، ويأخذ الشفيع الشقص] (¬3) بالثمن الذي يرجع به المشتري على البائع إذا استحق المبيع، وهو قيمة العبد. ومنها: أن يشتري الشَّقْصَ بألف وهو يساوي مئة، ثم يبرئه البائع من تسع مئة، وهذا لا يسقط الشفعة، ويأخذه الشفيع بما بقي من الثمن بعد الإسقاط، وهو الذي يرجع به إذا استحق المبيع. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "تحتمل". (¬2) في (ك): "بألف". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

ومنها: أن يشتري جزءًا من الشقص بالثمن كله، ثم يهب له بقية الشقص. وهذا لا يُسْقِطها، ويأخذ الشفيع الشقص كلَّه بالثمن؛ فإن هذه الهبة لا حقيقة لها، والموهوب هو المبيع بعينه، ولا تغيّر حقائق العقود وأحكامها التي شرعت فيها بتغيّر العبارة. وليس للمكلَّف أنْ يغيّر حكم العقد بتغيير عبارته فقط مع قيام حقيقته، وهذا لو أراد من البائع أن يهبه جزءًا من ألف جزء من الشَّقْص بغير عوض لما سمحتْ نفسُه بذلك البتة، فكيف يَهَبهُ ما يساوي مئة ألف بلا عوض؟ وكيف يشتري منه (¬1) الآخر مئة درهم بمئة ألف [درهم] (¬2)؟ وهل هذا إلا سَفَهٌ يقدح في صحة العقد؟ قال الإمام أحمد رضي اللَّه عنه في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة، فقال: لا يجوز شيء من الحيل في ذلك، ولا في إبطال حق مسلم (¬3). وقال عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه- في هذه الحيل (¬4) وأشباهها: مَنْ يخدع اللَّه يخدعه، والحيلة خديعة (¬5). وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تحلُّ الخَدِيعَةُ لمسلم" (¬6)، واللَّه تعالى ذم المخادعين، والمتحيل مخادع؛ لأن (¬7) الشفعة شُرعت لدفع الضرر، فلو شرع ¬

_ (¬1) قال (د)، و (ط): "في نسخة: وكيف يشتري من الآخر"، وزاد (ط): "انظر: "إعلام الموقعين" ط فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 320". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) ذكرها ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 60)، وهي في (ك). (¬4) في (ق): "الحيلة". (¬5) أخرجه سعيد بن منصور في "سننه" (1/ 300)، والبيهقي (7/ 337)، ومضى نحوه وهناك تفصيل تخريجه. (¬6) رواه أبو داود الطيالسي (1345) -ومن طريقه البيهقي (5/ 317) - وأحمد في "مسنده" (1/ 433)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (5/ 95)، وابن ماجه (2241) في (التجارات): باب بيع المصراة من طريق المسعودي عن جابر الجعفي عن أبي الضحى عن مسروق عن ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بيع المحفَّلات خِلابةٌ، ولا تحلَّ الخِلابة لمسلم". قال البوصيري (2/ 19): "هذا إسناد فيه جابر الجعفي وقد اتهموه". وكذا ضعفه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 367)، ورجّحا الوقف، وقد رجح الوقف أيضًا البيهقي. رواه موقوفًا ابن أبي شيبة (5/ 94)، والبيهقي (5/ 317) وقال: إسناده صحيح. (¬7) في (ق) و (ك): "ولأن".

فصل [إبطال حيلة لتفويت حق القسمة]

التحيل لإبطالها لكان عَوْدًا على مقصود الشريعة بالإبطال، ولَلَحِقَ الضرر الذي قصد إبطاله. فصل [إبطال حيلة لتفويت حق القسمة] ومن الحيل الباطلة التحيلُ على إبطال القسمة في الأرض القابله لها، بأن يقف الشريك منها سَهْمًا من مئة ألف سهم مثلًا على [مَنْ يريد] (¬1)، فيصير الشريك شريكًا في الوقف، والقسمة بيع (¬2)؛ فتبطل. وهذه حيلة (¬3) فاسدة باردة لا تبطل حق الشريك من القسمة، وتجوز القسمة ولو وقف حصته كلها؛ فإن القسمة إفراز حق وإن تضمنت مُعَاوضة، وهي غير البيع حقيقة واسمًا وحكمًا وعرفًا، ولا يُسمَّى القاسم بائعًا لا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، ولا يقال للشريكين إذا تقاسما: تَبَايَعا، ولا يقال لواحد منهما: إنه قد باع ملكه، ولا يدخل المتقاسمان تحت نص واحد من النصوص المتناولة للبيع، ولا يقال لناظر الوقف إذا أفرز الوقف وقسمه من غيره: إنه قد باع الوقف، وللآخر إنه قد اشترى الوقف، وكيف ينعقد البيع بلفظ القسمة؟ ولو كانت بيعًا لوجَبَتْ فيها الشفعة، ولو كانت بيعًا لما أُجبر الشريك عليها إذا طلبها شريكه؛ فإن أحدًا لا يُجْبَر على بيع ماله، ويلزم (¬4) بإخراج القرعة، بخلاف البيع، ويتقدَّر أحد النصيبين فيها بقدر النصيب الآخر إذا تساويا، وبالجملة فهي منفردة عن البيع باسمها وحقيقتها وحكمها. فصل [إبطال حيلة لتصحيح المزارعة مع القول بفسادها] ومن الحيل الباطلة التحيل على تصحيح المزارعة لمن يعتقد فسادها، بأن يدفع الأرض إلى المزارع ويؤجّره نصفها مشاعًا مدة معلومة يزرعها ببذره على أن يزرع للمؤجر النصف الآخر ببذره تلك المُدَّة، ويحفظه ويسقيه ويحصده ويذريه، فإذا فعلا ذلك أخرج البذر منهما نصفين نصفًا من المالك ونصفًا من المزارع، ثم ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "زيد". (¬2) في (ك): "تبع". (¬3) في (ق): "الحيلة". (¬4) في (ن): "ولا يلزم".

خَلَطاه، فتكون الغلة بينهما نصفين، فإذا أراد صاحب الأرض أن يعود إليه ثلثا الغلة آجَرَه ثلث الأرض مدة معلومة على أن يزرع له مدة الإجارة ثلثي الأرض ويخرجان البذر منهما أثلاثًا ويخلطانه، وإن أراد المزارع أن يكون له ثلثا البذر استأجر ثلثي الأرض بِزَرع (¬1) الثلث الآخر كما تقدم (¬2). فتأمل هذه الحيلة الطويلة الباردة المتعبة، وترك الطريق المشروعة التي فعلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى كأنها رأي عين، واتفق عليها الصحابة، وصَحَّ فعلها عن الخلفاء الراشدين صحةً لا يشك فيها، كما حكاه البخاري في "صحيحه" (¬3)، فما مثل هذا (¬4) العدول عن طريقة القوم إلى هذه الحيلة الطويلة السمجة إلا بمنزلة مَنْ أراد الحجّ (¬5) من المدينة على الطريق التي حجّ فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، فقيل له: هذه الطريق مسدودة، وإذا أردت أن تحج فاذهب إلى الشام ثم منها إلى العراق، ثم حج على دَرْب العراق وقد وصلت. فياللَّه العجب! كيف تُسدُّ عليه الطَّريقُ القريبة السهلة القليلة الخطر التي سلكها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه ويُدل على الطرق (¬6) الطويلة الصعبة المشقة الخطرة التي لم يسلكها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه؟ فلله العظيمِ عظيمُ حمدٍ ... كما أهدى لنا نعمًا غزارًا وهذا شأن جميع الحيل إذا كانت صحيحة جائزة، وأما إذا كانت باطلة (4) محرمة فتلك لها شأن آخر، وهي طريق إلى مقصد آخر (¬7) غير الكعبة البيت الحرام، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) في (ق): "ويزرع". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (2/ 77، 143)، و"الطرق الحكمية" (ص 286 - 290) و"تهذيب السنن" (5/ 56 - 66). (¬3) "يقول الشوكاني: وقد ساق البخاري في "صحيحه" عن السلف غير هذه الآثار، ولعله أراد بذكرها الإشارة إلى أن الصحابة لم ينقل عنهم الخلاف في الجواز خصوصًا أهل المدينة، وقال طاوس وطائفة قليلة: لا يجوز كراء الأرض مطلقًا؛ لا بجزء من الثمر والطعام، ولا بذهب، ولا بفضة، ولا بغير ذلك، وذهب إليه ابن حزم، وقواه، واحتج له بالأحاديث المطلقة" (و). قلت: فقد تقدمت هذه الآثار عنهم مفصلة مخرجة انظرها (4/ 200). (¬4) سقط من (ق). (¬5) في (ك): "أن يحج". (¬6) في (ن) و (ق): "الطريق". (¬7) في (ن) و (ق): "مقصود آخر".

فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الأب في الرجوع في الهبة ونحو ذلك]

فصل [إبطال حيلة لإسقاط حقّ الأب في الرجوع في الهبة ونحو ذلك] ومن الحيل الباطلة التي لا تُسقط الحقَّ [إذا أراد الابنُ] (¬1) مَنْعَ الأب الرجوعَ فيما وهبه إياه أن يبيعه لغيره، ثم يستقيله إياه، وكذلك المرأة إذا أرادت منع الزوج من الرجوع في نصف الصداق باعته ثم استقالته. وهذا لا يمنع الرجوع؛ فإن المحذور إبطال حق الغير من العين، وهذا لا يبطل للغير حقًا، والزائل العَائد كالذي لم يزل ولا سيما (¬2) إذا كان زواله إنما جُعل ذَرِيعة وصورة إلى إبطال حق الغير؛ فإنه لا يبطل بذلك. يوضحه أن الحق كان متعلّقًا بالعين تعلقًا قَدَّمَ الشارعُ مستحقَّه على المالك لقوته، ولا يكون صورة إخراجه عن يد المالك إخراجًا لا حقيقة له أقوى من الاستحقاق الذي أثبت الشارع به انتزاعه من يد المالك، بل لو كان الإخراج حقيقةً ثم عاد لعاد حَقُّ الأول من الأخذ لوجود مقتضيه وزوال مانعه، والحكم إذا كان له مقتضٍ فمنعَ مانعٌ من إعماله ثم زال المانعُ اقتضى المُقتضى عمله. فصل [إبطال حيلة لتجويز الوصية للوارث] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد أن يخص بعض ورثته ببعض الميراث، وقد علم أن الوصية لا تجوز، وأن عطيّته في مرضه وصية؛ فالحيلة أن يقول: كنت وهبت له كذا وكذا في صحتي، أو يقرّ له بدَيْن، فيتقدم به. وهذا باطل، والإقرار للوارث في مرض الموت لا يصح للتهمة عند الجمهور (¬3)، بل مالك يرده للأجنبي إذا ظهرت التهمة (¬4)، وقوله هو الصحيح، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ق): "ولأنه". (¬3) انظر: "اللباب" (2/ 85)، "تحفة الفقهاء" (3/ 202)، "العناية" (8/ 7)، "مختصر الطحاوي" (116)، "مختصر اختلاف العلماء" (4/ 210 رقم 1906)، "المغني" (5/ 342 - مع الشرح الكبير)، "مختصر المزني" (111)، "المهذب" (2/ 344)، "فتح العزيز" (11/ 96). "روضة الطالبين" (4/ 353 - 354)، "مختصر الخلافيات" (3/ 405 رقم 130)، "المحلى" (8/ 254). (¬4) انظر: "الإشراف" (3/ 97 مسألة رقم 955) وتعليقي عليه.

فصل [تحيل لمحاباة وارثه في مرضه]

وأما إقراره أنه كان وهَبَه إياه في صحته فلا يقبل أيضًا كما لا يقبل (¬1) إقراره له بالدَّيْن، ولا فرق بين إقراره له بالدين أو بالعين، وأيضًا فهذا المريض لا يملك إنشاء عقد التبرع المذكور؛ فلا يملك الإقرار به، لاتحاد المعنى الموجب لبطلان الإنشاء، فإنه بعينه قائم في الإقرار، وبهذا يزول (¬2) النقض بالصور التي يملك فيها الإقرارَ دون الإنشاء، فإن المعنى الذي منع من الإنشاء هناك لم يوجد في الإقرار، فتأمل هذا الفرق. فصل [تحيل لمحاباة وارثه في مرضه] ومن الحيل الباطلة [المحرمة] (¬3) إذا أراد أن يحابي وارثَه في مرضه أن يبيع أجنبيًا شفيعُه وارثُه شِقْصًا بدون ثمنه، ليأخذه وارثه بالشفعة. فمتى قصد ذلك حرمت المحاباة المذكورة، وكان للورثة إبطالها إذا كانت حيلة على محاباة الوارث، وهذا كما يبطل الإقرار له؛ لأنه [قد] (¬4) يتخذ حيلة لتخصيصه. وقال أصحابنا: له الأخذ بالشفعة، وهذا لا يستقيم على أصول المذهب، إلا إذا لم يكن حيلة، فأما إذا كان حيلة فأصولُ المذهب تقتضي ما ذكرناه، ومن اعتبر سَدَّ الذرائع فأصله يقتضي عدم الأخذ بها وإن لمَ يقصد الحيلة، فإن قصد التحيل امتنع الأخذ لذلك، وإن لم يقصده امتنع سَدًّا للذريعة. فصل [تحيلهم لإسقاط الأرش (¬5) في الموضحة] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أوْضَحَ رأسَه في موضعين وجب عليه عشرة [أبْعِرَةٍ] (¬6) من الإبل، فإذا أراد جعلها خمسة فليوضحه ثالثة تخرق ما بينهما. ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "كما لا يصلح". (¬2) في (ك): "نزول". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك)، وفي (ك): "يتخذه" بدل "يتخذ". (¬5) "سميت أرشًا من قولهم: أرشت بين القوم إذا وقعت بينهم، والأرش يجبر الجراحة والجناية" (و). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق) و (ك).

فصل [إبطال حيل لإسقاط حد السرقة]

وهذه الحيلة مع أنها محرمة فإنها لا تُسْقِطُ ما وجب عليه، فإن العَشْرَ لا تجب عليه إلا بالاندمال، فإذا فعل ذلك بعد الاندمال فهي موضحة (¬1) ثالثة، وعليه ديتها، فإن كان قبل الاندمال ولم (¬2) يستقر أرْشُ الموضحتين الأوليين حتى صار الكل واحدة من جَانب (¬3)، واحد فهو كما لو سَرَتِ الجناية حتى خرقت ما بينهما فإنها تصير واحدة. وهكذا لو قطع أصبعًا بعد أصبع من امرأة حتى قطع أربعًا؛ فإنه يجب عشرون، ولو اقتصر على الثلاث وجب ثلاثون، وهذا بخلاف ما لو قطع الرابعة بعد الاندمال؛ فإنه يجب فيها عَشْر، كما لو تعدد الجاني فإنه يجب على كل واحد أرْشُ جنايته قبل الاندمال وبعده، وكذلك لو قطع أطراف رجل وجب عليه دِيَّاتٌ، فإن اندملت ثم قتله بعد ذلك فعليه مع تلك الديات دية نفس، ولو قتله قبل الاندمال فدية واحدة، كما لو قطَّعه عضوًا عضوًا حتى مات. فصل [إبطال حيل لإسقاط حد السرقة] ومن الحيل الباطلة الحيلُ التي فتحت للسُّرَّاق واللصوص التي لو صحت لم تقطع يد سارق أبدًا، ولعمَّ الفساد، وتتابع السراق في السرقة. فمنها: أن ينقب أحدهما [السطح] (¬4) ولا يدخل، ثم يُدخل عبده أو شريكه فيُخْرِجُ المتاع [من السَّطح] (¬5). ومنها: أن ينزل أحدهما من السطح، فيفتح الباب من داخل، ويدخل الآخر فيخرج المتاع. ومنها: أن يدعي أنه ملكه، وأن رب البيت عَبْده، فبمجرد ما يدعي ذلك ¬

_ (¬1) "شجة تبدي العظم" (و). (¬2) في (ك) و (ق): "لم". (¬3) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "جانٍ". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬5) مذهب المالكية والشافعية وزفر من الحنفية أن تقطع يد المخرج، ورجَّح هذا ابن المنذر وأبي ثور، وقال أبو حنيفة: القياس هذا، ولكن المتاع إن بلغ ما يقسط على كل واحد نصابًا قطعت يد كل واحدًا استحسانًا، وانظر تفصيل المسألة في، "الإشراف" (4/ 473 - 474 مسألة 1770) وتعليقي عليه. وما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

فصل [إبطال حيلة لإسقاط حد الزنا]

يسقط عنه القطع، ولو كان رب البيت معروفَ النسب، والناس تعرف (¬1) أن المالَ ماله، وأبلغ من هذا أنه لو ادعى العبدُ السارقُ أن المسروق لسيده وكذَّبه السيد، قالوا: فلا قطع عليه، بل يسقط عنه [القطع] بهذه الدعوى (¬2). ومنها: أن يَبْلَعَ الجوهرة أو الدنانير ويخرج بها. ومنها: أن يغير هيئة المسروق بالحِرْزِ (¬3) ثم يخرج به. ومنها: أن يدعي أن ربَّ الدار أدخله داره، وفتح له باب داره، فيسقط عنه القطع، وإن كذبه، إلى أمثال ذلك من الأقوال التي حقيقتُها أنه لا يجب القطع على سارق البتة. وكل هذه حيل باطلة لا تُسْقِطُ القطع، ولا تُثِيرُ أدنى شبهة، ومحال أن تأتي شريعة بإسقاط عقوبة هذه الجريمة بها، بل ولا سياسة عادلة؛ فإن الشرائع مبنية على مصالح العباد، وفي هذه الحيل أعْظَمُ الفساد، ولو أن ملكًا من الملوك وَضَع عقوبة على جريمة من الجَرَائم لمصلحة رعيته ثم أسقطها بأمثال (¬4) هذه الحيل عُدَّ متلاعبًا. فصل [إبطال حيلة لإسقاط حد الزنا] ومن الحيل الباطلة الحيلَةُ التي تتضمن إسقاط حد الزنا بالكلية، وترفع هذه الشريعة من الأرض، بأن يستأجر المرأة لتطوي له ثيابه، أو تحوِّل له متاعًا من جانب الدار إلى جانب آخر، أو يستأجرها لنفس الزنا، ثم يزني بها؛ فلا يجب عليه الحد (¬5). ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "يعرفون". (¬2) قال القاضي عبد الوهاب في "الإشراف" (4/ 500 مسألة 1790): "ولأن القطع شرع لصيانة الأموال وحفظها وفي قبول دعوى السارق ذريعة إلى إسقاط هذا المعنى لأن كل سارق يمكن أن يدعي المسروق لنفسه ليتخلص من القطع". وانظر تعليقي على المسألة فيه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ن): "بالقطع". (¬4) في (ن) و (ق): "بمثل". (¬5) هذا قول أبي حنيفة وأما المذهب المعتمد عند الحنفية فهو قول أبي يوسف محمد وهو وجوب الحد، وانظر "مجمع الأنهر" (1/ 595)، "شرح فتح القدير" (4/ 150)، "المبسوط" (9/ 58)، "الدر المختار" (4/ 29). وهو أيضًا مذهب الشيعة الإمامية: انظر: "اللمعة الدمشقية" (9/ 57)، "شرح شرائع =

فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف لا يأكل شيئا ثم غيره عن حاله الأول]

وأعظم من هذا كله أنه إذا أراد أن يزني بأمُّه أو أخته (¬1) أو ابنته أو خالته أو عمته ولا يجب عليه الحد فليعقد عليها عقد النكاح بشهادة فاسِقَين، ثم يطؤها ولا حد عليه (¬2). وأعظم من ذلك أن الرجلَ المحصَنَ إذا أراد أن يزني ولا يُحدّ فليرتدّ ثم يسلم فإنه إذا زنَى بعد ذلك فلا حَدَّ عليه أبدًا حتى يستأنف نكاحًا أو وطئًا جديدًا. وأعظم من هذا كله أنه إذا زنى بأمُّه وخاف من إقامة الحد عليه فليقتلها، فإذا فعل ذلك سقط عنه الحد، وإذا شهد عليه الشهود بالزنا ولم يمكنه القَدْح فيهم فليصدقهم (¬3)، فإذا صدقهم سقط عنه الحد. ولا يخفى أمر هذه الحيل ونسبتها إلى دين الإسلام، وهل (¬4) هي نسبة موافقة أو هي نسبة مناقضة؟! (¬5) فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف لا يأكل شيئًا ثم غيَّره عن حاله الأول] ومن الحيل الباطلة أنه إذا حلف لا يأكل من هذا القمح، فالحيلة أن يطحنه ويعجنه ويأكله خبزًا، وطَرْدُ هذه الحيلة الباردة أنه إذا حلف لا يأكل هذه الشاة فليذبحها وليطبخها ثم يأكلها، وإذا حلف أنه (¬6) لا يأكل من هذه النخلة فليجدَّ ثمرها ثم يأكله (¬7)، فإن طردوا ذلك فمن الفضائح الشنيعة، وإن فرَّقوا تناقضوا، ¬

_ = الإسلام" (4/ 15)، ونقله ابن حزم في "المحلى" (11/ 150) عن ابن الماجشون وانظر تفصيل ذلك والكلام عليه في "الإشراف" (4/ 233 - مسألة 1587) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. (¬1) في (ك) و (ق): "وأخته". (¬2) "المبسوط" (9/ 85)، "مختصر اختلاف العلماء" (3/ 296 رقم 1414) وانظر تفصيل المسألة في "الإشراف" (4/ 231 مسألة 1586) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. (¬3) "زعم المتحيلون أن تصديقه إقرار الزنا، فلا يحتاج إلى شهادة الشهود، ولا يكون ثبوته عليه بالشهادة، ثم بعد ذلك يرجع هذا الإقرار، فيسقط عنه الحد" (د). (¬4) في (ك) و (ق): "هل". (¬5) انظر: "الداء والدواء" (ص 256)، و"بدائع الفوائد" (3/ 130)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 157 - 158). وفي (ن): "أو هي نسبة متناقضة"! (¬6) سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "يأكلها".

فصل [حيلة اليهود في الشحوم وإبطالها]

فإن قالوا: "الحنطة يمكن أكلها صحاحًا بخلاف الشاة والنخلة، فإنه لا يمكن فيها ذلك" قيل: والعادة أن الحنطة لا يأكلها صحاحًا إلا الدواب والطير، وإنما تؤكل خبزًا، فكلاهما سواء عند الحالف وكل عاقل. فصل [حيلة اليهود في الشحوم وإبطالها] ومن الحيل الباطلة المحرمة المضاهية [للحيلة اليهودية] (¬1) ما لو حلف أنه لا يأكل هذا الشحم فالحيلة أن يُذِيبه ثم يأكله (¬2). وهذا كله تصديق لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لتتبعُنَّ سنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذْوَ القُذْةِ بالقذة (¬3)، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فَمنْ؟ " (¬4) وتصديق قوله: "لتأخذن أمتي ما أخذ الأمم قبلها شبرًا بشبر (¬5)، وذراعًا بذراع، حتى لو كان منهم مَنْ أتى أمه علانية لكان فيهم مَنْ يفعله" (¬6). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬2) في المطبوع: "ثم يأكل". (¬3) "القذة: ريش السهم، والمعنى: كما تقدر كل واحدة منهما على قدر صاحبتها وتقطع، يضرب مثلًا للشيئين يستويان، ولا يتفاوتان" (و). (¬4) رواه البخاري (3456) في (أحاديث الأنبياء): باب ما ذكر عن بني إسرائيل، و (7320) في (الاعتصام): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لتتبعن سنن مش كان قبلكم"، ومسلم (2669) في (العلم): باب اتباع سنن اليهود والنصارى، من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا: "لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع حتى لو دخلوا في جحر ضب لا تبعتموهم، قلنا: يا رسول اللَّه آليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ (¬5) في (د): "شبرًا شبرًا"! وفي (ك) و (ق): "لتأخذ" بدل "لتأخذن". (¬6) رواه الترمذي (2641) في (الإيمان): باب ما جاء في افتراق هذه الأمة، والحاكم (1/ 129 والآجريّ في "الشريعة" (رقم 24 - ط الدميجي) و"الأربعين" (رقم 13)، وابن وضاح في "البدع" (رقم 270)، وابن نصر (62)، واللالكائي (146، 147) كلاهما في "السنة"، والتميمي في "الحجة" (17،16)، والعقيلي في "الضعفاء الكبير" (2/ 262)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 16) من طريق عبد الرحمن بن زياد الإفريقي عن عبد اللَّه بن يزيد عن عبد اللَّه بن عمرو. وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا مش هذا الوجه. قال المناوي في "فيض القدير" (5/ 347): "فيه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، قال الذهبي: ضعفوه". لكن له شاهد من حديث ابن عباس: رواه الدولابي في "الكنى" (2/ 30)، والحاكم (4/ 455) من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن أبي عروة موسى بن ميسرة =

[فصل] [إبطال حيلة لتجويز نكاح الأمة مع الطول]

وهذه الحيلة في الشحوم هي حيلة اليهود (¬1) بعينها، بل أبلغ منها (¬2) فإن أولئك لم يأكلوا الشحم بعد إذابته وإنما أكلوا ثمنه. [فصل] [إبطال حيلة لتجويز نكاح الأمة مع الطَّوْل] ومن الحيل الباطلة المحرمة لمن أراد أن يتزوج بأمةٍ وهو قادر على نكاح حرة أن يُمَلِّكَ ماله لولده ثم يعقد على الأمة ثم يسترد المال منه. وهذه الحيلة لا ترفعٍ المفسدة التي حُرِّم (¬3) لأجلها نكاح الأمة، ولا تخففها، ولا تجعله عادمًا للطَّوْلِ، فلا تدخل في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ [يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ] (¬4)} [النساء: 25] وهذه الحيلة حيلة على استباحة نفس ما حرم اللَّه تعالى. فصل [تحيلهم لتعلية الكافر بناءَه على مسلم وإبطاله] ومنها لو علَّا (¬5) كافر بناءه على مسلم مُنِعَ من ذلك، فالحيلة على جوازه أن ¬

_ = الديلمي، وابن أخيه ثور الديلمي بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعًا: "لتركبن سنن من كان قبلكم. . . وحتى لو أحدهم ضاجع أمه بالطريق لفعلتم". ولفظه عند الحاكم: "حتى لو أن أحدهم جامع امرأته". ويظهر أن فيه تحريفًا، إذا إن البزار وغيره رووه بلفظ: "ضاجع أمه" كما يأتي. زاد الدولابي في إسناده: قال (أي: أبو أويس): ولا أعلمهما إلا حدثاني مثل ذلك سواء عن أبي الغيث سالم مولى ابن مطيع عن أبي هريرة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الحاكم: صحيح، ووافقه الذهبي. ورواه ابن نصر في "السنة" (43)، والبزار (3285 - زوائده) من طريقين عن أبي أويس عن ثور بن زيد عن عكرمة به. قال البزار: "لا نعلمه إلا بهذا الإسناد، وثور مدني ثقة مشهور"، زاد ابن نصر: ثور بن زيد، وموسى بن ميسرة. وقال الهيثمي في "المجمع" بعد أن عزاه للبزار (7/ 261): رجاله ثقات. فهذا شاهد جيد لحديث الباب فيتقوى به، وانظر تعليقي على "الاعتصام" (3/ 157 - 158). (¬1) في (ق) و (ك): "الحيلة اليهودية". (¬2) في (ق): "بل هي أبلغ منها". (¬3) في (ق): "حرم اللَّه". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "أعلى".

فصل [إسقاط حيلة لإبراء الغاصب من الضمان]

يعليها مسلم ما شاء ثم يشتريها الكافر منه فيسكنها. وهذه الحيلة وإن ذكرها بعض الأصحاب فهي مما أدخلت في المذهب غلطًا محضًا، ولا توافق أصوله ولا فروعه؛ فالصواب المقطوع به عدم تمكينه من سكناها؛ فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء، وإنما كانت في ترّفعه على المسلمين. ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة في الموضعين واحدة. فصل [إسقاط حيلة لإبراء الغاصب من الضمان] ومن الحيل الباطلة إذا غَصَبَه (¬1) طعامًا ثم أراد أن يبرأ منه ولا يعلمه به، فليَدْعُه إلى داره، ثم يقدم له ذلك الطعام، فإذا أكله برئ الغاصب. وهذه الحيلة باطلة، فإنه لم يملكه إياه، ولا مكَّنه من التصرف فيه، فلم يكن بذلك رادًا لعين ماله [إليه] (¬2). فإن قيل: فما تقولون لو أهداه إليه فقَبله وتصرَّف فيه وهو لا يعلم أنه ماله؟ قيل: إن خاف من إعلامه به ضررًا يلحقه منه برئ بذلك، وإن لم يخف ضررًا وإنما أراد المنة عليه ونحو ذلك لم يبرأ، ولا سيما إن كافأه على الهدية فقبل، فهذا لا يبرأ قَطْعًا. فصل [إبطال حيل في الأيمان] ومن الحيل الباطلة بلا شك الحيلُ التي يُفتى بها مَنْ حلف لا يفعل الشيء ثم حلف ليفعلنه، فيتحيل له حتى يفعله بلا حنث، وذكروا لها صورًا: أحدها: أن يحلف لا يأكل هذا الطعام، ثم يحلف هو أو غيره ليأكلنَّه، فالحيلة أن يأكل إلا لقمة منه، فلا يحنث. ومنها لو حلف أن لا يأكل هذا الجبن (¬3)، ثم حلف ليأكلنه، قالوا (¬4): فالحيلة أن يأكله بالخبز، ويبر ولا يحنث. ومنها: لو حلف لا يلبسُ هذا الثوب، ثم حلف هو أو غيره ليلبسنَّه، ¬

_ (¬1) في (ن): "أغصبه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ن) و (ق): "هذا الخبز"! (¬4) سقط من (ق).

فصل [إبطال حيل في الظهار والإيلاء ونحوهما]

فالحيلة أن يقطع منه شيئًا يسيرًا ثم (¬1) يلبسه، فلا يحنث. وطَرْدُ قولهم أن ينسل (¬2) منه خيطًا ثم يلبسه. ولا يخفى أمر هذه الحيلة وبطلانها، وأنها من أقبح الخداع وأسمجه، ولا يتمشَّى على قواعد الفقه ولا فروعه ولا أصول الأئمة؛ فإنه إن كان بِتَرْك البعض لا يُعَدُّ آكلًا ولا لابسًا فإنه لا يبرأ بالحلف ليفعلن فإنه إن عدَّ فاعلًا وجب أن يحنث في جانب النفي، وإن لم يعد فاعلًا وجب أن يحنث في جانب الثبوت، فأما أن يُعد فاعلًا بالنسبة إلى الثبوت وغيرَ فاعلٍ بالنسبة إلى النفي فتلَاعُبٌ. فصل [إبطال حيل في الظهار والإيلاء ونحوهما] ومنها الحيل التي تُبْطِل الظهار والإيلاء والطلاق والعتق بالكلية، وهي مشتقة من الحيلة السريجية، كقوله: إن تَظَاهَرْتُ منك أو آليتُ منك فأنتِ طالق [قبله] (¬3) ثلاثًا، فلا يمكنه بعد ذلك ظهار ولا إيلاء، وكذلك يقول: إن أعتقتكَ فأنتَ حرٌّ قبل الإعتاق، وكذلك لو قال: إن بعتك فأنت حر قبل البيع، وقد تقدم بطلان هذه الحيل كلها. فصل [إبطال حيلة لحسبان الدَّيْن من الزكاة] ومن الحيل الباطلة [المحرمة] (¬4) أن يكون له على رجل مال، وقد أفْلَسَ غريمُه وأيس من أخذه منه، وأراد أن يحسبه من الزكاة، فالحيلة أن يعطيه من الزكاة بقدر ما عليه، فيصير مالكًا للوفاء، فيطالبه حينئذ بالوفاء، فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع (¬5). [بطلان الحيلة السابقة] وهذه حيلة باطلة، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه ¬

_ (¬1) سقط من (ك). (¬2) في (ق): "يسل" دون نون. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) يرى ابن تيمية جواز إسقاط الدين في الزكاة كما في "مجموع الفتاوى" (25/ 84).

أو مَلَّكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه، فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة، ولا يُعد مخرجًا لها لا شرعًا ولا عرفًا كما لو أسقط دينه وحَسَبه من الزكاة. قال مهَّنأ (¬1): سألت أبا عبد اللَّه عن رجل له على رجل دين برَهْنٍ، وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مال، قال: يفرقه (¬2) على المساكين، فيدفع إليه رهنه، ويقول له: الدَّين الذي لي عليك هو لك، ويحسبه من زكاة ماله، قال: لا يجزئه ذلك؟ فقلت له: فيدفع إليه (¬3) زكاته فإن رده إليه قضى مما أخذه [من ماله] (¬4)؟ قال: نعم. وقال في موضع آخر -وقيل له: فإن أعطاه ثم رده إليه؟ - قال: إذا كان بحيلة فلا يعجبني، قيل له: فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها (¬5) عليه وحَسَبها من الزكاة؟ قال: إذا أراد بهذا إحياءَ ماله فلا يجوز. ومطلقُ كلامه ينصرف إلى هذا المقيد (¬6)؛ فيحصل (¬7) من مذهبه أن دَفْعَ الزكاة إلى الغريم (¬8) جائز، سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه، وإلا أنه متى قَصَد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز؛ لأن الزكاة حق للَّه وللمستحق، فلا يجوز صَرْفها إلى الدافع، ويفوز بنفعها العاجل (¬9). ومما يوضح ذلك أن الشارع مَنَعه من أخْذِها من المستحق بعوضها، فقال عليه السلام: "لا تشتَرِها (¬10) ولا تَعُدْ في صدقتك" (¬11) فجعله بشرائها منه [بثمنها] (¬12) عائدًا فيها، فكيف إذا دفعها إليه بنية أخذها منه؟ قال جابر بن ¬

_ (¬1) ذكر روايته ابن قدامة في "المغني" (2/ 516، 517). (¬2) في سائر الأصول: "قال: يفرقه" والمثبت في (ق) و (ك). (¬3) سقط من (ك) و (ق). (¬4) في (ك): "كما أخذه" وما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي هامشها: "لعله: أيأخذه". (¬5) في هامش (ق): "قوله: ردها عليه أي ليوفي بها القرض الذي اقترض لو. . . ". (¬6) كذا في الأصول، ولعل الصواب: "القيد". (¬7) في (ك): "فتحصل". (¬8) في حاشية (ك): "لعله: غير". (¬9) في (ك): "العامل". (¬10) في (ق): "تشتريها". (¬11) رواه البخاري (1489) في (الزكاة): باب هل يشتري صدقته؟ و (2775) في (الوصايا): باب وقف الدواب والكراع والعروض والصامت، و (2971) في (الجهاد والسير): باب الجعائل والحملان في السبيل، و (3002) باب إذا حمل فرص فرآها تباع، ومسلم (1621) في (الهبات): باب كراهية شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه، من حديث ابن عمر عن عمر، فبعضهم يجعله من مسند ابن عمر، وبعضهم يجعله من مسند عمر. (¬12) سقط من (ق).

[المنع من شراء ما أخرجه من الزكاة]

عبد اللَّه: إذا جاء المصَّدِّق فادفع إليه صدقتك، ولا تشترِها، فإنهم كانوا يقولون: "ابتعها" فأقول: إنما هي للَّه سبحانه (¬1). وقال ابن عمر: لا تشترِ طهورَ مالك (¬2). [المنع من شراء ما أخرجه من الزكاة] وللمنع من شراءه (¬3) علتان: إحداهما: أنه يتخذ ذَرِيعَةَ وحيلة إلى استرجاع شيء منها؛ لأن الفقير يستحي منه فلا يُمَاكسه في ثمنها، وربما أرْخَصَها ليطمع أن يدفع إليه صدقة أخرى، وربما علم أو توهم أنه إن لم يَبِعْهُ إياها استرجعها (¬4) منه فيقول: ظَفَرِي بهذا الثمن خير من الحرمان. العلة الثانية: قطع طمع (¬5) نفسه عن العَوْد في شيء أخرجه للَّه سبحانه بكل طريق، فإن النفس متى طمعت في عوده بوجه ما فآمالُهَا بعدُ متعلقةٌ به، فلم تطب به نفسًا للَّه وهي متعلقة به، فقطع عليها طمعها (¬6) في العَوْد، ولو بالثمن، ليتمحص الإخراج للَّه سبحانه، وهذا شأن النفوس الشريفة (¬7) ذوات الأقدار والهمم، وأنها إذا أعطت عطاءً لم تسمح بالعود فيه بوجه لا بشراء ولا بغيره (¬8)، وتعد ذلك دناءة، ولهذا مثل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العائدَ في هبته بالكلب يعود في قيئه (¬9) لخسته ودناءة نفسه وشحه بما قاءه أن يفوته. فمن محاسن الشريعة منع المتصدق من شراء صدقته (¬10)، ولهذا منع من ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (3/ 78)، وعبد الرزاق (6896) من طريق ابن جريج: قال أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرًا يقول: فذكره، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 78)، وعبد الرزاق (6897) من طريق يعلى بن عطاء عن مسلم بن جبير عنه، إلا أن لفظه: "لا تشتر طهرة مالك". ورجاله ثقات رجال الصحيح إلا مسلم بن جبير هذا، فقد ترجمه البخاري، وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وفي "تهذيب التهذيب" راوٍ اسمه مسلم بن جبير يروي عن أبي سفيان طلحة بن نافع، ويروي عنه يزيد بن أبي حبيب في إسناد حديثه اختلاف، فقد يكون هذا، قال عنه الذهبي: لا يُدرى مَنْ هو. (¬3) في (ق): "شرائها". (¬4) في (ق): "أن يسترجعها". (¬5) في (ك): "ثمره". (¬6) في (ن): "طمعًا". (¬7) سقط من (ك). (¬8) في (ق): "غيره". (¬9) رواه مسلم (1622) في (الهبات): باب تحريم الرجوع في الصدقة والهبة بعد القبض، من حديث ابن عباس. (¬10) هو حديث عمر في ذلك، وقد تقدم قريبًا.

[اعتراض ورده]

سُكنى بلاده التي هاجر منها للَّه وإن صارت بعد ذلك دار إسلام، كما منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المهاجرين بعد الفتح من الإقامة بمكة فوق ثلاثة أيام (¬1)؛ لأنهم خرجوا عن ديارهم للَّه؛ فلا ينبغي أن يعودوا في شيء تركوه للَّه، وإن زال المعنى الذي تركوها لأجله. [اعتراض وردّه] فإن قيل: فأنتم تجوّزون له (2) أن يقضي بها دين المدين، إذا كان المستحقُّ له (2) غيره، فما الفرق بين (2) أن يكون الدين له أو لغيره؟ ويحصل للغريم براءة ذمته وراحة من ثقل الدَّين في الدنيا ومن حمله في الآخرة؟ فمنفعته ببراءة ذمته خيرٌ له من منفعة الأكل والشرب واللباس؟ فقد انتفع هو بخلاصه من رق الدين، وانتفع رب المال بتوصله إلى أخذ حقه، وصار هذا كما لو أقرضه مالًا ليعمل فيه ويوفيه دينه من كسبه. قيل: هذه المسألة فيها روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه اللَّه: إحداهما: أنه لا يجوز [له] (¬2) أن يقضي دينه من زكاته، بل يدفع إليه الزكاة ويؤديها هو عن نفسه. والثانية: يجوز له أن يقضي (¬3) دينه من الزكاة، قال أبو الحارث: قلت للإمام أحمد: رجل عليه ألف، وكان على رجل زكاة ماله ألف، فأداها عن هذا الذي عليه الدَّيْن، أيجوز هذا من زكاته؟ قال: نعم، ما أرى بذلك بأسًا (¬4). وعلى هذا فالفرق ظاهر؛ لأن الدافع لم ينتفع هاهنا بما دفعه إلى الغريم، ولم يرجع إليه، بخلاف ما إذا دفعه إليه ليستوفيه منه؛ فإنه قد أحْيا ماله بماله، ووَجْه القول بالمنع أنه قد يُتخذ ذريعةً إلى انتفاعه بالقضاء، مثل أن يكون الدين لولده أو لامرأته أو لمن (¬5) يلزمه نفقته فيستغني عن الإنفاق عليه؛ فلهذا (¬6) قال ¬

_ (¬1) روى البخاري (3933) في (مناقب الأنصار): باب إقامة المهاجر بعد قضاء نسكه، ومسلم (1353) في (الحج): باب جواز الإقامة بمكة للمهاجر منها بعد فراغ الحج والعمرة ثلاثة أيام بلا زيادة، من حديث العلاء بن الحضرمي قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصَّدر"، وانظر: "فتح الباري" (7/ 267). (¬2) سقط من (ق). (¬3) في (ن) و (ق): "أن يقضي له". (¬4) انظر ما مضى قبل قليل. (¬5) في (ك): "ولمن". (¬6) في (ك): "فهذا".

فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها]

الإمام أحمد: أحَبُّ إليَّ أن يدفعه إليه حتى يقضي هو عن نفسه، قيل: هو محتاجٌ يخاف أن يدفع إليه فيأكله ولا يقضي دينه، قال: فقيل له: يوكله حتى يقضيه (¬1). والمقصود أنه متى فعل ذلك حيلةً لم تسقط عنه الزكاة [بما دفعه] (¬2)؛ فإنه لا يحل له مطالبة المعسر، وقد أسقط اللَّه عنه المطالبة، فإذا توصَّل إلى وجوبها بما يدفعه إليه فقد دفع إليه شيئًا ثم أخذه، فلم يخرج [منه شيء] (¬3)، فإنه لو أراد الآخذُ التصرفَ في المأخوذ وسد خَلَّته منه لما أمكنه (¬4)، فهذا هو الذي لا تسقط (¬5) عنه الزكاة، فأما لو أعطاه عطاءً قطع طمعه من عَوْده إليه ومَلَّكه ظاهرًا وباطنًا (¬6) ثم دفع إليه الآخذ دينه من الزكاة فهذا جائزٌ كما لو أخذ الزكاة من غيره ثم دفعها إليه، واللَّه أعلم. فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها] ومن الحيل الباطلة التحيل على نفس ما نهى عنه الشارع من بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها والحب قبل اشتداده (¬7)، بأن يبيعه ولا يذكر تبقيته ثم يخلّيه إلى وقت كماله فيصح البيع ويأخذه وقت إدراكه، وهذا هو نفس ما نهَى عنه الشارع إن لم يكن فعله بأدنى الحيل، ووجه هذه الحيلة أن موجَبَ العقد القطع، فيصح وينصرف إلى موجبه، كما لو باعها بشرط القطع، ثم القطع حقٌّ لهما [لا يَعْدُوهما] (¬8)، فإذا اتفقا على تركه جاز. [بطلان الحيلة] ووجه بطلان هذه الحيلة أن هذا هو الذي نهى عنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعينه للمفسدة التي يُفضي إليها من التشاجر والتشاحن (¬9)، فإن الثمار تصيبها العاهات كثيرًا، فيُفْضِي بيعها قبل كمالها إلى أكْلِ مال المشتري بالباطل، كما علَّل به ¬

_ (¬1) في هامش (ق): "لعله: قال: نعم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "شيئًا". (¬4) في (ك) و (ق): "مكنه". (¬5) في (ك) و (ق): "يسقط". (¬6) في (ك): "باطنا وظاهرا". (¬7) سبق تخريجه. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ك) و (ق): "التشاحن والتشاجر".

فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع شيء حلف ألا يبيعه]

صاحب الشرع، ومن المعلوم قطعًا أن هذه الحيلة لا ترفع (¬1) المفسدة، ولا تزيل (¬2) بعضها، وأيضًا فإن اللَّه سبحانه وملائكته والناس قد علموا أن من اشترى الثمار وهي شِيصٌ (¬3) لم يمكن أحدًا أن يأكل منها، فإنه لا يشتريها للقطع، ولو اشتراها لهذا الغرض لكان سفهًا وبيعه مردود، وكذلك الجوز والخوخ والإجاص وما أشبهها من الثمار التي لا ينتفع بها قبل إدراكها، لا يشتريها أحد إلا بشرط التبقية، وإن سكت عن ذكر (¬4) الشرط بلسانه فهو قائمٌ بقلبه (¬5) وقلب البائع، وفي هذا تعطيل للنص وللحكمة التي نهى الشارع لأجلها؛ أما تعطيل الحكمة فظاهر، وأما تعطيل النص فإنه إنما (¬6) يحمله على ما إذا باعها بشرط التبقية لفظًا، فلو سكت عن التلفظ بذلك وهو مراده ومراد البائع [جاز] (¬7)، وهذا تعطيل لما دل عليه النص وإسقاط لحكمته. فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع شيء حلف ألا يبيعه] ومن الحيل الباطلة أنه إذا حلف لا يبيعه هذه الجارية، ثم أراد أن يبيعها منه فليبعه منها تسع مئة وتسعة وتسعين سهمًا، ثم يهبه السهم الباقي (¬8)، وقد تقدم نظير هذه الحيلة الباطلة، وكذلك لو حلف لا يبيعه ولا يهبه (¬9) إياها ففعل ذلك لم يحنث. ولو وقعت هذه الحيلة في جارية قد وطئها الحالف اليوم فأراد المالك أن يطأها بلا استبراء فله حيلتان على إسقاط الاستبراء: إحداهما: أن يعتقها ثم يتزوجها. والثانية: أن يملّكها لرجل [ثم] (¬10) يزوجه إياها، فإذا قضى وطَرَه منها ثم ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "لا تدفع". (¬2) في (ق) و (ك): "يزيل". (¬3) قال (ط): "الشيص في الأصل: التمر الذي لم يشتد نواه، ويقصد بالشيص هنا: الثمر قبل بدو صلاحه" اهـ. قلت: والكلمة فارسية معرَّبة، وانظر: "لسان العرب" (4/ 2375). (¬4) في (ق): "ذلك". (¬5) في (ك): "في قلبه". (¬6) سقط من (ق). (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ن) و (ق): "لم يكن ذلك جائزًا". (¬8) انظر خبرًا فيه نحو هذه الحيلة عند الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1188). (¬9) في (ك): "لا يبيعه إياها ولا يهبه". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

فصل [إبطال حيلة في الأيمان]

أراد بيعها أو وطأها بملك اليمين فليشترها من المملَّك فينفسخ نكاحه، فإن شاء باعها وإن شاء أقام على وطئها. وتقدم أن نظير هذه الحيلة لو حلف أن لا يلبس هذا الثوب فلينسل (¬1) منه خيطًا ثم يلبسه، أو لا يأكل هذا الرغيف فليخرج منه لُبَابَةً (¬2) ثم يأكله. قال غير واحد من السلف (¬3): لو فعل المحلوف عليه على وجه لكان أخفَّ وأسهل من هذا الخداع، ولو قابل العبدُ أمْرَ اللَّه ونهيه بهذه المقابلة لعُدَّ عاصيًا مخادعًا، بل لو قابل أحدُ الرعية أمْرَ الملكِ ونهيه أو العبدُ أمر سيده ونهيه أو المريضُ أمر الطبيب ونهيه بهذه المقابلة لما عذره أحد قَطُّ، ولعدَّهُ كل أحد عاصيًا، وإذا تدبر العالم في الشريعة أمر هذه الحيل لم يَخْفَ عليه نسبتها إليها ومحلها منها، واللَّه المستعان. فصل [إبطال حيلة في الأيمان] ومن الحيل الباطلة: لو حلف لا يبيع هذه السلعة بمئة دينار أو زاد عليها؛ فلم يجد مَنْ يشتريها بذلك فليبعها بتسعة وتسعين دينارًا، أو مئة جزء من دينار، أو أقل من ذلك، أو يبيعها بدراهم تساوي ذلك، أو يبيعها بتسعين دينارًا ومنديلًا أو ثوبًا أو نحو ذلك. وكل هذه حيل باطلة، فإنها تتضمن نفس مخالفته لما نواه وقصده وعقد قلبه عليه، وإذا كانت يمين الحالف على ما يُصدَّقه عليه صاحبه، -كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) فيمينه على ما يعلمه اللَّه من قلبه كائنًا من (¬5) كان؛ فلْيَقُلْ ما شاء، ولْيتحيَّل ما شاء، فليست يمينه إلا على ما عَلِمه اللَّه من قلبه، قال اللَّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فأخبر تعالى أنه إنما يُعْتَبر في الأيمان قَصْدُ القلب وكَسْبُه، لا مجرد اللفظ الذي لم يقصده أو لم يقصد معناه، على التفسيرين في اللغو (¬6)، فكيف إذا كان ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "فليسل". (¬2) في (ك): "لبابته". (¬3) نحو المذكور مأثور عن أيوب السختياني، أفاده ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 343). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) في (د)، و (ط) و (ق): "ما"، وقال (د) في عامة الأصول: "كائنًا من كان". (¬6) ذكرهما المصنف في كتابه: "شفاء العليل" (ص 120)، وهذا نص كلامه: "والكسب قد وقع في القرآن على ثلاثة أوجه: =

فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع أم الولد]

قاصدًا لضد ما يتحيل (¬1) عليه؟ فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع أم الولد] ومن الحيل الباطلة على أن يطا أمَتَهُ وإذا حبلت منه لم تَصِرْ أمَّ ولدٍ، فله بيعها: أن يُمَلكها لولده الصغير، ثم يتزوجها ويطؤها، فإذا ولدت منه عَتق الأولاد على الولد؛ لأنهم إخوته، ومن مَلَكَ أخاه عَتَقَ عليه. قالوا: فإن خاف أن لا تتمشى هذه الحيلة على قول الجمهور الذين لا يجوِّزون للرجل أن يتزوج بجارية ابنه -وهو قول الإمام أحمد (¬2) ومالك (¬3) والشافعي (¬4) - فالحيلة أن يملِّكها لذي رَحِم محرم منه، ثم يزوِّجه إياها، فإذا ولدت عتق الولد على ملك ذي الرَّحِمِ؛ فإذا أراد بيع الجارية فليهبها له، فينفسخ النكاح، وإن لم يكن [له ذو] (¬5) رَحِم مَحْرَم فليملكها أجنبيًا، ثم يزوجها به (¬6)، فإن خاف من رِقِّ الولد فَلْيُعلِّق الأجنبي عتقهم بشرط الولادة، فيقول: كل ولد تلدينه فهو حر، فيكون الأولاد كلهم أحرارًا؛ فإذا أراد بيعها [بعد ذلك] (¬7) فليتّهِبْهَا من الأجنبي ثم يبيعها. ¬

_ = أحدها: عقد القلب وعزمه كقوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] أي: بما عزمتم عليه وقصدتموه. وقال الزجاج: أي: يؤاخذكم بعزمكم على أن لا تبروا، وأن لا تتقوا، وأن تعتلوا في ذلك بأنكم حلفتم وكأنه التفت إلى لفظ المؤاخذة، وأنها تقتضي تعذيبًا، فجعل كسب قلوبهم عزمهم على ترك البر والتقوى لمكان اليمين، والقول الأول أصح، وهو قول جمهور أهل التفسير؛ فإنه قابل به لغو اليمين، وهو أن لا يقصد اليمين؛ فكسب القلب المقابل للغو اليمين هو: عقده وعزمه. كما قال في الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فتعقيد الأيمان: هو كسب القلب". (¬1) في (ق) و (ك): "يحيل". (¬2) "الإنصاف" (8/ 147)، "المغني" (9/ 575 - ط هجر). (¬3) "المعونة" (2/ 801)، "الإشراف" (3/ 333 مسألة 1171) وتعليقي عليه، "جامع الأمهات" (266). (¬4) "المهذب" (2/ 46)، "روضة الطالبين" (7/ 208)، "المنهاج" (ص 101). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ذا". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "ثم يزوجه بها". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[بطلان هذه الحيلة]

[بطلان هذه الحيلة] وهذه الحيلة أيضًا باطلة؛ فإن حقيقة التمليك لم توجد، إذ حقيقتُه نَقْلُ الملك إلى المملَّكِ يتصرف فيه كما أحب، هذا هو الملك المشروع المعقول المتعارف، فأما تمليكٌ لا يتمكن فيه المملَّك من التصرف إلا بالتزويج وحده؛ فهو تلبيسٌ لا تمليك؛ فإن المملَّك لو أراد وطأها أو الخلوة بها أو النّظَر إليها بشهوة (¬1) أو التصرفَ فيها كما يتصرف المالكُ في مملوكه لما أمكنه ذلك؛ فإن هذا تمليكُ تلبيسٍ وخِدَاع ومكر، لا تمليك حقيقة، بل قد علم اللَّه والمملِّكُ والمملَّكُ أن الجارية لسيدها ظاهرًا وباطنًا (¬2)، وأنه لم يَطِبْ قلبه بإخراجها عن ملكه بوجه من الوجوه، وهذا التمليك بمنزلة تمليك الأجنبي ماله كله ليسقط عنه زكاته ثم يسترده منه، ومعلوم قطعًا أنه لا حقيقة لهذا التمليك عُرْفًا ولا شرعًا، ولا يُعّد المملَّك له على هذا الوجه غنيًا به، ولا يجب عليه به الحج والزكاة والنفقة وأداء الديون، ولا يكون به واجدًا للطَّوْل معدودًا في جملة الأغنياء؛ فهذا هو الحقيقة، لا التمليك الباطل الذي هو مكر وخِدَاع وتلبيس. فصل [إبطال حيلة للتمكّن من رجعة البائن بغير علمها] ومن الحيل الباطلة التَّحيلُ على ردّ امرأته بعد أن بانت منه وهي لا تشعر بذلك، وقد ذكر أرباب الحيل وجوهًا كلها باطلة؛ فمنها: أن يقول لها: حلفْتُ يمينًا واستفتيت فقيل لي: جَدِّد نكاحك؛ فإن كان الطلاق قد وقع وإلا لم يضرُّك، فإذا أجابته قال: اجعلي الأمر إليّ في تزويجك، ثم يحضر الولي والشهود ويتزوّجها، فتصير امرأته بعد البينونة وهي لا تشع؛ فإن لم يتمكن من هذا الوجه فلينتقل إلى وجه ثان، وهو أن يظهر أنه يريد سَفَرًا ويقول: لا آمن الموت وأنا أريد أن (3) أكتب لك هذه الدار وأجعل لك هذا المتاع صَدَاقًا بحيث لا يمكن إبطاله وأريد أن أشهد على ذلك، فاجعلي أمْرَكِ إليَّ حتى أجعله صداقًا؛ فإذا فعلت عَقَدَ نكاحها على ذلك وتم الأمر؛ فإن لم يرد السفر فليُظهر أنه مريض، ثم يقول لها (¬3): أريد أن أجعل لك ذلك، وأخاف أن أقر لك به فلا يقبل؛ فاجعلي ¬

_ (¬1) في (ك): "لشهوة". (¬2) في (ك): "باطنًا وظاهرًا". (¬3) سقط من (ك).

[بطلان هذه الحيل]

أمرك إليَّ حتى أجعله صداقًا، فإذا فعلت أحْضَرَ وليها وتزوَّجها؛ فإن حذرت المرأة من ذلك كله ولم يتمكن منه لم يبق له إلا حيلة واحدة، وهي أن يحلف بطلاقها، أو يقول: قد حلفت بطلاقك أن (¬1) أتزوج عليك في هذا اليوم أو هذا الأسبوع، أو أسافر بك، وأنا أريد أن أتمسك بك ولا أدخل عليك ضرة ولا تسافرين، فاجعلي أمرك إليَّ حتى أخالعك وأردك بعد انقضاء اليوم وتتخلصي من الضرة والسفر، فإذا فعلت أحْضَرَ الشهود والولي (¬2) ثم يردها (¬3). [بطلان هذه الحيل] وهذه الحيلة باطلة؛ فإن المرأة إذا بانت صارت أجنبية منه؛ فلا يجوز نكاحها إلا بإذنها ورضاها، وهي لم تأذن في هذا النكاح الثاني، ولا رضيت به، ولو علمت أنها قد مَلَكت نفسها وبانت منه فلعلها لا ترغب في نكاحه، فليس له أن يَخدَعها على نفسها ويجعلها له زوجة (¬4) بغير رضاها. [الاعتراض بجعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جد النكاح كهزله] فإن قيل: إن النبي (¬5) -صلى اللَّه عليه وسلم- قد جعل جِدَّ النكاح كهْزله (¬6)، وغاية هذا أنه هازل. قيل: هذا ليس بصحيح، وليس هذا كالهازل؛ فإن الهازل لم يظهر أمرًا يريد خلافه، بل تكلم باللفظ قاصدًا [أنه لا] (¬7) يلزمه موجبه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، وأما هذا فماكرٌ مخادعٌ للمرأة على نفسها، مظهر أنها زوجته وأن الزوجية بينهما باقية وهي أجنبية محضة؛ فهو يمكر (¬8) بها ويخادعها بإظهار أنها زوجته وهي في الباطن أجنبية؛ فهو كمن يمكر برجل ويخادعه على أخذ ماله بإظهار أنه يحفظه له ويَصُونه ممن يذهب به، بل هذا أفحشُ؛ لأن حرمة البُضْع أعظم من حرمة المال، والمخادعة عليه (¬9) أعظم من المخادعة على المال، [واللَّه أعلم] (¬10). ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "أني". (¬2) في (ك): "الولي والشهود". (¬3) في (ك) و (ق): "ردها" وكتب الناسخ في هامش (ق): "ظاهر "إغاثة اللهفان" خلاف قوله هنا". (¬4) في (ك) و (ق): "زوجة له". (¬5) في (ك): "فالنبي"، وفي (ق): "فإن النبي". (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "ألا". (¬8) في (ق): "يماكر". (¬9) في (ن) و (ق): "والمخادعة فيه". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [إبطال حيلة لوطء المكاتبة]

فصل [إبطال حيلة لوطء المكاتبة] ومن الحيل الباطلة الحيلةُ على وَطء مكاتبته بعد عقد الكتابة، قال أرباب الحيل: الحيلة في ذلك أن يهبها لولده الصغير، ثم يتزوجها وهي على ملك ابنه ثم يكاتبها لابنه، ثم يطؤها بحكم النكاح، فإن أتت بولد كانوا أحرارًا؛ إذ ولده قد ملكهم، فإن عجزت عن الكتابة عادت قِنًّا لولده والنكاح بحاله. [بطلان هذه الحيلة] وهذه الحيلة باطلة على قول الجمهور، وهي باطلة في نفسها؛ لأنه لم يملِّكها لولده تمليكًا حقيقيًا، ولا كاتبها له حقيقة، بل خداعًا ومكرًا، وهو يعلم أنها أَمَتُه ومكاتبته في الباطن وحقيقة الأمر، وإنما أظهر خلاف ذلك توصُّلًا إلى وطء الفرج الذي حرم عليه بعقد [الكتابة، فاظهر تمليكًا لا حقيقة له، وكتابةً عن غيره، وفي الحقيقة إنما هي عن] (¬1) نفسه، واللَّه يعلم ما تخفي الصدور. فصل [بيان حيلة العقارب وإبطالها] ومن الحيل المحرمة الباطلة (¬2) الحيلةُ التي تسمى حيلة العقارب، ولها صور: منها: أن يُوقِف داره أو أرضه ويُشهد على وقفه (¬3) ويكتمه ثم يبيحها، فإذا علم أن المشتري قد سكنها أو استغلها بمقدار ثمنها أظهرَ كتابَ الوقف وادَّعى على المشتري بأجرة المنفعة، فإذا قال له المشتري: أنا وزنت الثمن، قال: و [أنت] (1) انتفعتَ بالدار والأرض فلا تذهب المنفعة مجانًا. ومنها: أن يملِّكها لولده أو امرأته، ويكتم ذلك، ثم يبيعها، ثم يدعي بعد ذلك من ملكها على المشتري، ويعامله تلك المعاملة وضمنه المنافع تضمين الغاصب (¬4). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬2) في (ك): "الباطلة المحرمة". (¬3) في (ك): "وقفها". (¬4) في (ن) و (ق): "تضمين الغصب".

ومنها: أن يؤجِّرها لولده أو امرأته، [ويكتم ذلك] (¬1)، ثم يؤجرها من شخص آخر، فإن ارتفع الكِرَى أخرج الإجارة الأولى، وفسخ إجارة الثاني، وإن نقص الكِرَى أو استمر أبقاها. ومنها: أن يرهن داره أو أرضه، ثم يبيعها ويأخذ الثمن فينتفع به مدة، فمتى أراد فسخ البيع واسترجاع المبيع أظهر كتاب الرَّهْن. وأمثال هذه العقارب التي يأكل بها أشباهُ العقارب أموالَ الناس بالباطل، ويمشيها لهم مَنْ رَق علمه ودينه ولم يراقب اللَّه تعالى ولَم يَخف مقامه تقليدًا لمن قلد قوله في تضمين المقبوض بالعقد الفاسد تضمين الغاصب [تقليدًا لمن يقلده] (¬2)؛ فيجعل قوله إعانة لهذا الظالم المعتدي على الإثم والعدوان، ولا يجعل القول الذي قاله غيره إعانة للمظلوم على البر والتقوى، وكأنه أخذ بشق الحديث وهو: "انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (¬3) واكتفى بهذه الكلمة دون ما بعدها، وقد أعاذ اللَّه أحدًا من الأئمة من تجويز الإعانة على الإثم والعدوان، ونَصْر الظالم، وإضاعة حق المظلوم جهارًا. وذلك الإمام وإن قال: "إن المقبوضَ بالعقد الفاسدِ يُضمن ضمان المغصوب" فإنه لم يقل: إن المقبوض به على هذا الوجه -الذي هو حيلة (¬4) ومكر وخداع وظلم محض للمشتري وغرور له- يوجب تضمينه وضياع حقه وأخذ ماله كله وإيداعه في الحبس على ما بقي وإخراج الملك من يده، فإن الرجل قد يشتري (¬5) الأرض أو العَقَار وتبقى في يده مدة طويلة تزيد أجرتها على ثمنها (¬6) أضعافًا مضاعفة، فيؤخذ منه العقار، ويُحْسَب عليه ثمنه من الأجرة، ويبقى الباقي بقدر الثمن مرارًا، فربما أخذ ما فوقه وما تحته وفضلت عليه فَضْلة فيجتاح الظالمُ الماكرُ ماله ويَدَعُه على الأرض الخالية، فحاشا إمامًا واحدًا من أئمة الإسلام أن يكون عَوْنًا لهذا العقرب الخبيث على هذا الظلم والعدوان، والواجبُ عقوبةُ مثل هذا العقوبَةَ التي تَرْدَعه عن لَدْغ الناس والتحيل على استهلاك أموال الناس، وأن لا يمكَّن مِنْ طَلَبِ عوض المنفعة. أما على أصل مَنْ لا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬3) رواه البخاري (2443 و 2444) في (المظالم): باب أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا و (6952) في (الإكراه): باب يمين الرجل لصاحبه أنه أخوه. . .، من حديث أنس بن مالك. ورواه مسلم (2584) في (البر): باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا، من حديث جابر. (¬4) سقط من (ق). (¬5) في (ك): "شرى". (¬6) في (ن): "ثمنه".

[اعتراض ورده]

يضُمِّن منافع الغصب -وهم الجمهور كأبي حنيفة (¬1) ومالك (¬2) وأحمد (¬3) في إحدى الروايتين عنه وهي أصحهما دليلًا- فظاهر، وأما مَنْ يُضَمِّنُ الغاصبَ كالشافعي (¬4) وأحمد (¬5) في الرواية الثانية فلا يتأتى تضمين هذا على قاعدته؛ فإنه ليس بغاصب، وإنما استوفى المنفعة بحكم العقد، فإذا تبين أن العقد باطل وأن البائع غَرَّه لم يجب عليه ضمان، فإنه إنما دخل على أن ينتفع بلا عوض، وأن يضمن المبيع بثمنه لا بقيمته؛ فإذا تلف المبيع بعد القبض تلف من ضمانه بثمنه، فإذا انتفع به انتفع [به] (¬6) بلا عوض؛ لأنه على ذلك دَخَلَ، ولو قُدِّر وجوب الضمان فإن الغارّ هو الذي يضمن؛ لأنه تسبب إلى إتلاف مال الغير بغروره، وكل من أتلف مال غيره بمباشرة أو سبب فإنه يضمنه [ولا بد] (¬7). ولا يقال: المشتري هو الذي باشر الإتلاف، وقد وُجِدَ متسبب ومباشر، فيحال الحكم على المباشر؛ فإن هذا غلط محض هاهنا؛ فإن المضمون هو مال المشتري الذي تلف عليه بالتضمين، وإنما تلف بتسبب الغارِّ، وليس هاهنا مباشر يحال عليه الضمان. [اعتراض وردُّه] فإن قيل: فهذا (¬8) إنما يدل على أنَّا إذا ضمنا المغرور رجع على الغارّ (¬9)، ¬

_ (¬1) "تبيين الحقائق" (5/ 234)، "المبسوط" (11/ 79)، "مجمع الضمانات" (129)، "الأشباه والنظائر" (284)، "تخريج الفروع على الأصول" (110) للزنجاني، "التلويح على التوضيح" (2/ 98)، "تأسيس النظر" (62، 63)، "إعلاء السنن" (16/ 337)، "درر الحكام" (2/ 267 - 268)، "ضمان المنافع" (7) للخفيف، "ضمان المنافع" (255)، للدبو، "التعويض عن الضرر" (180). (¬2) "المدونة" (4/ 185)، "التفريع" (2/ 276)، "الرسالة" (233)، "بداية المجتهد" (2/ 319)، "الكافي" (435)، "الذخيرة" (8/ 294 - 296)، "الإشراف" (3/ 124 مسألة 980 - بتحقيقي) وتعليقي عليه. (¬3) "المغني" (5/ 195)، "الإنصاف" (6/ 170). (¬4) "الأم" (3/ 222)، "مختصر المزني" (117)، "المهذب" (1/ 367، 374)، "الوجيز" (1/ 214)، "المنهاج" (71)، "حلية العلماء" (5/ 210)، "روضة الطالبين" (5/ 14)، "قواعد الأحكام" (1/ 155)، للعز، "مغني المحتاج" (2/ 2، 286)، "إخلاص الناوي" (2/ 321 - 322). (¬5) انظر مصادر الحنابلة السابقة. (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬8) في (ق): "وهذا". (¬9) في المطبوع: "فهو يرجع على الغار".

ولا (¬1) يدل على تضمين الغار أبدًا (¬2). قيل: هذا فيه قولان للسلف والخلف، وقد نص الإمام أحمد رحمه اللَّه على أن من اشترى أرضًا فبنى فيها أو غَرَسَ ثم استحقَّتْ؛ فللمستحق قَلْعُ ذلك، ثم يرجع المشتري على البائع بما نقص، ونص في موضع آخر أنه ليس للمستحق قلعه إلا أن يضمن نقصه ثم يرجع به على البائع، وهذا أفقه النصين وأقربهما إلى العدل؛ فإن المشتري غَرَسَ وبنى غراسًا وبناءً مأذونًا فيه، [وليس] (¬3) ظالمًا به، فالعرق ليس بظالم، فلا يجوز للمستحقّ قلعه حتى يضمن له نقصه، والبائع هو الذي ظلم المستحق ببيعه ماله وغرَّ المشتري ببنائه وغراسه؛ فإذا أراد المستحق الرجوع في عين ماله ضمن المغرور ما نقصَ بقلعه ثم رجع (¬4) به على الظالم، وكان تضمينه له أولى من تضمين المغرور ثم تمكينه من الرجوع على الغار. ونظير هذه المسألة ما لو قبض مغصوبًا من غاصبه ببيع أو عارية أو اتهاب أو إجارة وهو يظن أنه مالك لذلك أو مأذون له فيه ففيه قولان: أحدهما: أن المالك مخيَّر بين تضمين أيهما شاء، وهذا المشهور عند أصحاب الشافعي (¬5) وأحمد (¬6)، ثم قال أصحاب الشافعي: إن ضمن المشتري وكان عالمًا بالغصب لم يرجع بما ضمن على الغاصب، وإن لم يعلم نظرت فيما ضمن فإن التزم ضمانه بالعقد كبدَل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب؛ لأن الغاصب لم يغره، بل دخل معه على أن يضمنه، وهذا التعليل يوجب أن يرجع بما زاد على ثمن المبيع إذا ضمنه؛ لأنه إنما التزم ضمانه بالثمن لا بالقيمة، فإذا ضمنه إياه بقيمته رجع بما بينهما من التفاوت. قالوا: وإن لم يلتزم ضمانه نظرت: فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع به على الغاصب لأنه غَرَّه ودخل معه على أنه لا يضمنه، ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "لا". (¬2) أثبت (د)، و (ط) في المتن: "ابتداء"، وقالا: "في نسخة: "ولا يدل على قضمين الغار أبدًا" وزاد (ط): "انظر: "إعلام الموقعين" ط فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 242". وجاء في (ك) و (ق): "ابتداءً". (¬3) في (ك) و (ق): "ليس". (¬4) في المطبوع: "يرجع". (¬5) "الأم" (3/ 224)، "مختصر المزني" (117)، "المهذب" (1/ 369). (¬6) "المغني" (5/ 195)، "الإنصاف" (6/ 190).

وإن حصلت له به في [مقابلته] (¬1) منفعة كالأجرة والمهر وأرْشِ البكَارة ففيه قولان: أحدهما: يرجع به؛ لأنه غرَّه ولم يدخل معه على أن يضمنه. والثاني: لا يرجع؛ لأنه حصل (¬2) له في مقابلته منفعة، وهذا التعليل أيضًا يوجب على هذا القول أن يرجع بالتفاوت (¬3) الذي بين المسمَّى ومهر المثل وأجرة المثل اللذين ضمنهما؛ فإنه إنما دخل على الضمان بالمسمى، لا بعوض المثل، والمنفعة التي حصلت له إنما هي بما التزمه من المسمَّى (¬4)، ومذهب الإمام أحمد وأصحابه نحو ذلك. وعَقْد الباب عندهم أنه يرجع إذا غُرم (¬5) على الغاصب بما [لم] (¬6) يلتزم ضمانه خاصة، فإذا غرم وهو مُودعٌ أو مُتَّهب قيمة العين والمنفعة رجع بهما؛ لأنه لم يلتزم ضمانًا (¬7)، وإنْ ضَمن وهو مستأجر قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة العين والقدر الزائد على ما بذله من (¬8) عوض المنفعة، وقال أصحابنا: لا يرجع بما ضمنه من عِوَض المنفعة؛ لأنه دخل على ضمانه، فيقال لهم: نعم دخل على ضمانه بالمسمَّى لا بعوض المثل، وإنْ كان مشتريًا، وضمن قيمة العين [والمنفعة؟] (¬9) فقالوا: يرجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين؛ لأنه التزم ضمان العين ودخل على استيفاء المنفعة بلا عوض والصحيح أنه يرجع بما زاد من قيمة العين على الثمن الذي بذله، وإن كان مستعيرًا وضمن قيمة العين والمنفعة [رجع بما غرمه من ضمان المنفعة؛ لأنه دخل على استيفائها مجانًا، ولم يرجع بما ضمنه من قيمة العين؛ لأنه دخل على ضمانها بقيمتها] (¬10). وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن ما حصل له منفعة تقابل ما غرم كالمهر والأجرة في المبيع وفي الهبة وفي العارية، وكقيمة الطعام إذا (¬11) قدم له أو وهب منه (¬12) فأكله ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ق): "حصلت". (¬3) في هامش (ك): "التفاوت". (¬4) في (ن) و (ق): "إنما هي بالتزامه من المسمى". (¬5) في المطبوع: "غره". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬7) في (ق): "ضمانهما". (¬8) في (و): "ممن". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "لأنه دخل على ضمانها بقيمتها". (¬11) في (ق): "الذي". (¬12) في (ق): "له".

فإنه لا يرجع به؛ لأنه استوفى العوض، فإذا غرم عوضه لم يرجع به، والصحيح قوله (¬1) الأول؛ لأنه لم يدخل على استيفائه بعوض، ولو علم أنه يستوفيه بعوضه لم يدخل على ذلك، ولو علم الضيف أن صاحب البيت أو غيره يغرمه الطعام لم يأكله، ولو ضمّن المالك ذلك كله للغاصب جاز، ولم يرجع على القابض إلا بما (¬2) يرجع به عليه، فيرجع عليه إذا كان مستأجرًا بما غرمه من الأجرة. وعلى القول الذي اخترناه إنما يرجع عليه بما التزمه من الأجرة خاصة، ويرجع عليه إذا كان مشتريًا بما غرمه من قيمة العين، وعلى القول الآخر إنما يرجع عليه (¬3) بما بذله (¬4) من الثمن، ويرجع عليه إذا كان مستعيرًا بما غرمه من قيمة العين؛ إذ لا مسمى هناك، وإذا كان مُتَّهِبًا أو مودعًا لم يرجع عليه بشيء، فإن كان القابض من الغاصب هو المالك فلا شيء له بما استقر عليه (¬5) لو كان أجنبيًا، وما سواه فعلى الغاصب؛ لأنه لا يجب له على نفسه شيء، وأما ما لا يستقر عليه لو كان أجنبيًا بل يكون قراره على الغاصب فهو على الغاصب أيضًا هاهنا. والقول الثاني: أنه ليس للمالك مطالبة المغرور ابتداءً، كما ليس له مطالبته قرارًا، وهذا هو الصحيح، ونص عليه الإمام أحمد رحمه اللَّه في المُودِع إذا أودعها -يعني الوديعة- عند غيره من غير حاجة (¬6) فتلِفَت فإنه لا يضمن الثاني إذا لم يعلم، وذلك لأنه مغرور (¬7). وطَرْد هذا النص أنه لا يطالب (¬8) المغرور في جميع هذه الصور، وهو الصحيح؛ فإنه مغرور (¬9) ولم يدخل على أنه مطالب، فلا هو التزم المطالبة ولا الشارع ألزمه بها، وكيف يُطالب المظلوم المغرور ويُترك الظالم الغارّ؟ ولا سيما إن كان محسنًا بأخْذِهِ الوديعة {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] (¬10) {إِنَّمَا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "القول". (¬2) في (ك): "إلا بما لا". (¬3) في (و): "إليه". (¬4) في (ن) و (ق): "بما بذل له". (¬5) في (ن) و (ق): "كما يستقر عليه"، وفي (ك): "لما استقر عليه". (¬6) في (ق): "عنده من غير حاجة". (¬7) انظر: "منتهى الإرادات" (2/ 453 - 454)،"كشاف القناع" (4/ 193)، "الفنون" (1/ 12) لابن عقيل، "المغني" (9/ 261)، وفي (ق): "أنه مغرور". (¬8) في (ن) و (ك) و (ق): "لا يضمن". (¬9) في (ن) و (ك) و (ق): "معذور". (¬10) هنا خطأ وقع في (ط) و (ن) و (د)، وصوبه (و)، و (ح)، وقال (و): "هذا أحد الأخطاء التي تكررت كثيرًا في آيات القرآن، ففي الأصل وصل بين قوله: {وما على المحسنين =

السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] وهذا شأن الغار الظالم. وقد قضى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أن المشتري المغرور بالأمة إذا وطئها ثم خرجت مستَحَقَّة، وأخذ منه سيدها المهر، رجع به على البائع لأنه غَرَّه (¬1). وقضى علي رضي اللَّه عنه أنه لا يرجع به لأنه استوفى عوضه (¬2). وهاتان الروايتان عن الصحابة هما قولان للشافعي [وروايتان عن الإمام أحمد] (¬3)، ومالك (¬4) أخذ بقول عمر، وأبو حنيفة (¬5) أخذ بقول علي رضي اللَّه عنه. وقولُ عمر أفقه لأنه لم يدخل على أنه يستمتع بالمهر، وإنما دخل على الاستمتاع بالثمن وقد بَذَله. وأيضًا فالبائع ضمن له بعقد البيع سلامَةَ الوطء كما ضمن له سلامة الولد، فكما يرجع عليه بقيمة الولد يرجع عليه بالمهر. فإن قيل: فما تقولون في أجرة الاستخدام إذا ضمنه إياها المستحق، هل يرجع بها على الغارِّ؟ قلنا: نعم يرجع بها، وقد صرح بذلك القاضي وأصحابه، وقد قضى أمير المؤمنين [عليٌّ كرم اللَّه وجهه] (¬6) أيضًا بأن الرجل إذا وجد امرأته بَرْصَاء أو عَمْيَاء أو مجنونة فدخل بها فلها الصداق، ويرجع به على مَنْ غرَّه (¬7). وهذا محضُ ¬

_ = من سبيل إنما السبيل} إلخ، والصواب ما أثبتناه، وقد تكرر هذا الخطأ وغيره في كل الطبعات السابقة، وآية الشورى {فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ} إلخ" اهـ. (¬1) روى مالك في "الموطأ" (2/ 526)، عبد الرزاق (10679)، وسعيد بن منصور (818)، والبيهقي (7/ 214) من طريق يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قال: أيما رجل تزوج امرأة فدخل بها، فوجد بها برصًا أو مجنونة أو مجذومة، فلها الصداق بمسيسه إياها، وهو له على من غَرَّه منها. (¬2) سيأتي قريبًا. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) "المعونة" (2/ 1059)، "التفريع" (2/ 174 - 175)، "الكافي" (347 - 348)، "التلقين" (2/ 388 - 389)، "جامع الأمهات" (360)، "بداية المجتهد" (2/ 181)، "الإشراف" (2/ 486 مسألة 806) وتعليقي عليه. (¬5) "مختصر الطحاوي" (85)، "المبسوط" (13/ 95)، "تحفة الفقهاء" (2/ 90)، "إيثار الإنصاف" (315). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬7) الذي وجدته عن علي -رضي اللَّه عنه- ما رواه عبد الرزاق (16077 و 10668)، وسعيد بن منصور (820 و 821) -ومن طريقه البيهقي (7/ 215) وابن حزم في "المحلى" (10/ 110، 113) - =

القياسِ والميزان الصحيح؛ لأن الولي لما لم يعدمه وأتلف عليه المهر لزمه (¬1) غرمه. فإن قيل: هو الذي أتلفه على نفسه بالدخول. قيل: لو علم أنها كذلك لم يدخل بها، وإنما دخل بها بناءً على السلامة التي غرَّه بها الولي، ولهذا لو علم العيبَ ورضي به ودخل بها لم يكن هناك فسخ ولا رجوع، ولو كانت المرأة هي التي غرَّته سقط مهرها. ونكتة المسألة أن المغرور إما محسن، وإما معذور (¬2)، وكلاهما لا سبيل عليه، بل ما يلزم المغرور (¬3) باستلزامه له (¬4) لا يسقط عنه كالثمن في المبيع والأجرة في عقد الإجارة. فإن قيل: فالمهر قد التزمه، فكيف يرجع به؟ قيل: إنما التزمه في محل سليم، ولم يلتزمه في مَعِيبة ولا أمَةٍ مستحقة؛ فلا يجوز أن يُلْزَمَ به. فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بالنكاح الفاسد؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ألزمه فيه بالصداق بما استحل من فَرْجها (¬5)، وهو لم يلتزمه (¬6) إلا في نكاح صحيح. قيل: لما أقدم على الباطل لم يكن هناك مَنْ غَرَّه، بل كان هو الغار لنفسه، فلا يذهب استيفاء المنفعة فيه مجانًا، وليس هناك مَنْ يرجع عليه، بل لو فسد النكاح بغرور المرأة سقط مهرها، أو بغرور الولي رجع عليه. ¬

_ = والدارقطني (3/ 267) وابن المنذر في "الأوسط" (3/ ق 208/ ب)، من طريق إسماعيل بن أبي خالد، ومطرف عن الشعبي قال: قال علي: أيما رجل تزوج امرأة فوجدها مجنونة أو برصاء، فهي امرأته إن شاء طلق، وإن شاء أمسك، وان مسها فلها المهر بما استحلّ من فرجها. ورواه الشافعي في "الأم" (7/ 158) عن سفيان عن رجل عن الشعبي به. (¬1) في (د)، و (ط): "ألزمه". (¬2) في (ن): "وإما مغرور". (¬3) في (ك): "المعذور". (¬4) في (ن) و (ك): "بالتزامه له"، وسقطت "له" من (ق). (¬5) الذي وجدته في هذا صداق الملاعنة: رواه البخاري (5311) في (الطلاق): باب صداق الملاعنة، و (5312) في باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب، و (5349، 5350) في المهر للمدخول بها، ومسلم (1493) (5) في (اللعان): أو له من حديث ابن عمر. (¬6) في (ق): "يلزمه".

فصل [التحيل لتجويز بيع العينة]

فصل [التحيل لتجويز بيع العينة] (¬1) ومن الحيل المحرمة الباطلة التحيلُ على جواز مسألة العِينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة (¬2) على تحريمها. وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل (¬3): منها: أن يُحْدث المشتري في السِّلْعة حدثًا ما تنقص به أو تتعيَّبُ؛ فحينئذ يجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها [به] (¬4). ومنها: أن تكون السلعة قابلةً للتجزئ فيمسك منها جزءًا ما ويبيعه بقيتها. ومنها: أن يضمَّ البائع إلى السلعة سكينًا أو منديلًا أو حلقة حديدًا أو نحو ذلك، فيمسكه (¬5) المشتري ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن. ومنها: أن يهبها المشتري لولده أو زوجته أو مَنْ يثق به، فيبيعها الموهوب له من بائعها، فإذا قبض الثمن أعطاه للواهب. ومنها: أن يبيعه إياها نفسه (¬6) من غير إحداث شيء ولا هبة لغيره، لكن يضم إلى ثمنها خاتمًا من حديد أو منديلًا أو سكينًا ونحو ذلك. ولا ريب أن العِينَةَ على وجهها أسْهَلُ من هذا التكلف (¬7)، وأقل مفسدة، وإن كان الشارع قد حرم مسألة العِينَةِ لمفسدة فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة، بل هي بحالها، وانضم إليها مفسدة أخرى أعظم منها، وهي مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام اللَّه هُزُوًا وهي أعظم المفسدتين. وكذلك سائر الحيل، لا تزيل المفسدة التي حرم لأجلها، وإنما يضم إليها مفسدة الخداع والمكر، وإن كانت العينة لا مفسدة فيها فلا حاجة إلى الاحتيال عليها. ثم إن العِينَة في نفسها من أدنى الحيل إلى الربا، فإذا تحيل عليها المحتال صارت حيلًا متضاعفة، ¬

_ (¬1) قال (و): "قال الذهبي. . . والعينة: السلف، وقال الرافعي: وبيع العينة: هو أن يبيع شيئًا من غيره بثمن مؤجل، ويسلمه إلى المشتري، ثم يشتريه قبل قبض الثمن بثمن نقد أقل من ذلك القدر. . . ". (¬2) في (ق) و (ك): "الأمة". (¬3) انظرها في "الحيل" (ص 12) للخصاف، ففيه نحو المذكور. (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬5) في المطبوع: "فيملكه". (¬6) في (ق): "نفسها". (¬7) في (ن): "أسهل من التكليف".

فصل [تحيلهم لبيع المعيب دون بيان عيبه]

ومفاسد متنوعة، والحقيقة والقصد معلومان للَّه وللملائكة وللمتعاقِدَيْن ولمن حضرهما من الناس، فليَصْنَعْ أربابُ الحيل ما شاءوا، وليسلكوا أية طريق سلكوا؛ فإنهم لا يخرجون بذلك عن بيع مئة بمئة وخمسين إلى سنة، فليدخلوا محلِّل الربا (¬1) أو يُخْرجُوه فليس هو المقصود، والمقصود معلومٌ، واللَّه سبحانه وتعالى لا يخادع ولا تروج عليه الحيل ولا تلبس عليه الأمور. فصل [تحيلهم لبيع المعيب دون بيان عيبه] ومن الحيل المحرمة الباطلة -إذا أراد أن يبيع سلعةً بالبراءة من كل عيب، ولم يأمن أن يردها عليه المشتري، ويقول: لم يعين لي عيب كذا وكذا؛ أن يوكل رجلًا غريبًا لا يعرف في بيعها، ويضمن للمشتري درك المبيع، فإذا باعها قبض منه ربُّ السلعة الثمن، فلا يجد المشتري مَنْ يرد عليه السلعة. وهذا غش حرام، وحيلة لا تسقط المأثم، فإن علم المشتري بصورة [الحال] (¬2) فله الرد، وإن لم يعلم فهو المُفَرِّطُ، حيث لم يضمن الدرك المعروف [الذي] (3) يتمكن من مخاصمته، فالتفريط من هذا والمكر والخداع من ذلك. فصل [إبطال حيلة لإسقاط الاستبراء] ومن الحيل المحرمة الباطلة أن يشتري جارية ويريد وطأها بملك اليمين في الحال من غير استبراء فله عدة حيل: منها: أن يزوِّجه إياها البائع قبل أن يبيعها منه، فتصير زوجته، [ثم يبيعه إياها فينفسخ النكاح، ولا يجب عليه استبراء؛ لأنه مَلَك زوجته] (¬3)، وقد كان وطؤها حلالًا له بعقد النكاح؛ فصار حلالًا بملك اليمين. ومنها: أن يزوجها غيره، ثم يبيعها من الرجل الذي يريد شراءها، فيملكها [مزوجة] (¬4) وفرجها عليه حرام؛ فيؤمر الزوج بطلاقها، فإذا فعل حلت للمشتري. ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "فيدخلوا محل الربا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) وبياض في (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬4) في (ن) و (ق): "من وجه".

[أعاجيب متناقضات أرباب الحيل]

ومنها: أن مشتريها لا يقبضها حتى يزوجها من عَبْده أو غيره، ثم يقبضها بعد التزويج، فإذا قبضها طلقها الزوج، فيطؤها سيده بلا استبراء. قالوا: فإن خاف المشتري أن لا يطلقها الزوج استوثق بأن يجعل الزوجُ أمْرَها بيد السيد، فإذا فعل طلقها [هو] (¬1) ثم وطئها بلا استبراء. ولا يخفى نسبة هذه الحيل (¬2) إلى الشرع، ومحلها منه، وتضمنها أن بائعها يطؤها (3) بكرةً ويطؤها (¬3) المشتري عشيةً، وأن هذا مناقض لما قصده الشارع من الاستبراء، ومبطل لفائدة الاستبراء بالكلية. ثم إن هذه الحيل كما هي محرمة فهي باطلة قطعًا؛ فإن السيد لا يحل له أن يزوج موطوءته حتى يستبرئها، وإلا فكيف يُزَوِّجها لمن يطؤها ورحِمُها مشغول بمائِهِ؟ وكذلك إن أراد بَيْعَها وجب عليه استبراؤها على أصح القولين، صيانةً لمائِهِ، ولا سيما إن لم يأمن من وطء المشتري لها بلا استبراء، فههنا يتعين عليه الاستبراء قطعًا، فإذا [أراد] (¬4) زوجها حيلة على إسقاط حكم اللَّه تعالى وتعطيل أمره كان نكاحًا باطلًا لإسقاط ما أوجبه اللَّه من الاستبراء، وإذا طلَّقها الزوج بناءً على صحَّة هذا النكاح الذي هو مكر وخداع واتخاذٌ لآيات اللَّه هزوًا لم يحل للسيد أن يطأها بدون الاستبراء: [فإن الاستبراء] (¬5) وجب عليه بحكم المِلْك المتجدد، والنكاح العارض حال بينه وبينه، لأنه لم [يكن] (4) يحل له وطؤها، فإذا زال المانع عَمِل المُقتضى عَمَله، وزوالُ المانع لا يزيل اقتضاء المقتضى مع قيام سبب الاقتضاء منه. وأيضًا فلا يجوز تعطيل الوصف عن موجبه ومقتضاه من غير فواتِ شرطٍ أو قيامِ مانعٍ. وبالجملة فالمفسدة التي منع الشارع المشتري لأجلها من الوطء بدون الاستبراء لم تزل بالتحيل والمكر، بل انضمَّ إليها مفاسد المَكْرِ والخداع والتحيل. [أعاجيب متناقضات أرباب الحيل] فياللَّه العجب من شيء حرم لمفسدة فإذا انضم إليه مفسدة أخرى هي أكبر من مفسدته بكثير صار حلالًا، فهو بمنزلة لحم الخنزير إذا ذبح كان حرامًا، فإن ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "الحيلة". (¬3) في (ن) و (ق): "يطأ". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) وبدلها في (ق): "الذي".

مات حَتفَ أنْفِه أو خُنِقَ حتى يموت صار حلالًا؛ لأنه لم يذبح، قال الإمام أحمد: هو حرام من وجهين، وهكذا هذه المحرمات إذا احتيل عليها صارت حرامًا من وجهين وتأكد تحريمها (¬1). والذي يقضى منه العجب أنهم يَجْمَعون بين سقوط الاستبراء بهذه الحيل وبين جوب استبراء الصغيرة التي لم توطأ ولا يوطأ مثلها، وبين استبراء البكر التي لم يقرعها (¬2) فحل، واستبراء العجوز الهرمة التي قد أيست من الحبل والولادة، واستبراء الأمة التي يقطع ببراءة رحمها، ثم يسقطونه (¬3) مع العلم بأن رحمها مشغول، فأوجبتموه حيث لم يوجبه الشارع، وأسقطتموه حيث أوجبه. قالوا: وليس هذا بعجيب (¬4) من تناقضكم، بل وأعجب منه إنكار كون القرعة طريقًا لإثبات الحكم مع ورود السنة الصحيحة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن أصحابه رضي اللَّه عنهم بها (¬5)، وإثبات حل الوطء بشهادة شاهدي زورٍ يعلم الزوج الواطئ أنهما شهدا بالزور على طلاقها حتى يجوز لأحد الشاهدين أن يتزوجها فيثبت الحل بشهادتهما. وأعجب من ذلك أنه لو كان له أمة هي سُرِّية يطؤها كل وقت لم تكن فراشًا له، ولو ولدت [ولدًا] (¬6) لم يلحقه الولد، ولو تزوج امرأة ثم قال بحضرة الحاكم والشهود في مجلس العقد: "هي طالق ثلاثًا" وكانت (¬7) بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب صارت فراشًا بالعقد؛ فلو أتت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر لحقه نسبه. وأعجب من ذلك قولكم: لو منع الذميُّ دينارًا واحدًا [من الجزية، وقال:] (¬8) "لا أؤديه" انتقض عَهْدُه وحَل ماله ودمه، ولو سَبَّ اللَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وكتابه على رؤوسنا أقبحَ سب وحَرَق أفضل المساجد على الإطلاق ¬

_ (¬1) انظر: "الفروسية" (307 - بتحقيقي). (¬2) قال (ط): "ربما قرئت: "التي لن يفرعها فحل" بالفاء في "يفرعها" اهـ. (¬3) في المطبوع: "ثم يسقطون". (¬4) في (ن) و (ق): "بعجب". (¬5) مضى تخريج ذلك وسقطت: "بها" من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬7) في (ق) و (ك): "أو كانت". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (د) بياض ثم لفظة: "ول"! وقد أثبتناه من النسخ الأخرى، و (ن).

واستهان بالمصحف بين أيدينا أعظم استهانة وبذلَ ذلك الدينارَ فعهدُه باقٍ ودمه معصوم. ومن العجب (¬1) تجويز قراءة القرآن بالفارسية، ومنع رواية الحديث بالمعنى. ومن العجب إخراجُ الأعمال عن مُسَمَّى الإيمان وأنه مجرد التصديق، والناس فيه سواء، وتكفير من يقول مُسَيْجد أو فُقَيْه (¬2)، أو يُصلّي بلا وضوء (¬3)، أو يلتذ بآلات الملاهي (¬4)، ونحو ذلك. ومن العجب إسقاط الحد عَمَّنْ استأجر امرأة للزنا أو لكنس بيته فزنا بها، وإيجابه على مَنْ وجد امرأة أجنبية على فراشه في الظلمة فجامعها يظنها امرأته. ومن العجب التشديد في المياه حتى تنجس القناطير المقنطرة منها بقطرة بَوْل أو قطرة دم، وتجويز الصلاة في ثوب رُبْعُه مُضَمّخ بالنجاسة، فإن كانت مغلظة فبقدر راحة الكف. ومن العجب أنه لو شهد عليه أربعة [شهود] (¬5) بالزنا فكذب الشهود حُدَّ، وإن صدقهم سقط عنه الحد (¬6). ومن العجب [أنه] (¬7) لا يصح استئجار دار لتتَّخذَ مسجدًا يعبد اللَّه سبحانه فيه، ويصح استئجارها [كي] (¬8) تجعل كنيسة يعبد فيها الصليب أو بيت نار تعبد فيها النار. ومن العجب أنه لو ضحك في صلاة فقهقهَ بطل وضوءهُ (¬9)، ولو غَنّى في ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ومن العجيب". (¬2) انظر: "شرح ألفاظ الكفر" للقاري (رقم 15 - بترقيمي). (¬3) نقله القاري في "شرح ألفاظ الكفر" (رقم 35 - بترقيمي) عن،"اليتيمة" و"الفتاوى الصغرى" و"الجواهر"، ثم قال: "الصلاة بغير طهارة معصية، فلا ينبغي أن يقال بكفره إلا إذا استحلها". (¬4) انظر: "شرح ألفاظ الكف" للقاري (رقم 89 - بترقيمي). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق). (¬6) إن كذَّبهم كان المعتمد في ثبوت الزنا: الشهادة، ونصابها: أربعة شهود، وإن صدقهم كان ثبوته بالإقرار، وبطل الاعتماد على الشهادة، وحينئذٍ لابد من إقراره أربع مرات، فلو رجع بعد ما صدقهم كان مقرًا مرة واحدة، كذا قال المتحيلون!! (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، و (ك) وفي (ق): "استئجارها كنيسة". (¬9) انظر: "تهذيب السنن" (6/ 50)، و"بدائع الفوائد" (3/ 131)، و"الخلافيات" (مسألة رقم 22)، وفي (ك) و (ق): "قهقه".

صلاة (¬1) أو قَذَف المحصنات أو شهد الزور (¬2) ونحو ذلك فوضوءه بحاله. ومن العجب [أنه] (¬3) لو وقع في البئر نجاسة نزح منها (¬4) أدْلَاء معدودة، فإذا حصل الدلو في البئر تنجَّس وغرف الماء نجسًا، وما أصاب حيطان البئر من ذلك الماء نجسها، وكذلك ما بعده من الدلاء إلى أن تنتهي النوبة إلى الدلو الأخير فإنه ينزل نجسًا ثم يصعد طاهرًا فيقشقش النجاسة كلها من قَعْر البئر إلى رأسه، قال بعض المتكلمين: ما رأيت أكرم من هذا الدلو ولا أعقل (¬5). ومن العجب أنه لو حلف لا يأكل فاكهة (¬6) حنث بأكل الجوز واللوز والفستق، ولو كان يابسًا قد أتت عليه السنون، ولا يحنث بأكل الرطب والعنب والرُّمان. وأعجب من ذلك تعليل هذا بأن هذه الثلاثة من خيار الفاكهة وأعلى أنواعها، فلا تدخل في الاسم المطلق. ومن العجب أنه لو حلف أن لا يشرب من النيل أو الفرات أو دِجْلَةَ فشرب بكفَّيه (¬7) أو بكوز أو دَلْو من هذه الأنهار لم يحنث، فإذا شرب بفيه مثل البهائم حنث. ومن العجب أنه لو نام في المسجد وأغلقت عليه الأبواب ودَعَتْه الضرورة إلى الخلاء فطاقُ القبلةِ ومحراب المسجد أولى بذلك من مؤخر المسجد. ومن العجب أمر هذه الحيل التي لا يزداد بها المنهي عنه إلا فسادًا مضاعفًا، كيف تباح مع تلك المفسدة الزائدة بالمكر والخداع وتحرم بدونها؟ وكيف تنقلب مفاسدُهَا بالحيل صلاحًا (¬8)، وتصير خمرتها خلًا، وخبثها طيبًا؟ قالوا: فهذا فصل في الإشارة إلى بيان فساد هذه الحيل على وجه التفصيل، كما تقدم الإشارة إلى فسادها وتحريمها على وجه الإجمال، ولو تتبعناها حيلة حيلة لطال الكتاب، ولكن هذه أمثلة يُحْتَذَى عليها، واللَّه الموفق للصواب (¬9). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "صلاته". (¬2) في (ق) و (ك): "بالزور". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) سقط من (ق) و (ك). (¬5) قال (د)، و (ط): "في نسخة: ولا أعقد"، وزاد (ط): "انظر: "إعلام الموقعين" ط: فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 248" اهـ. (¬6) في المطبوع: "لو حلف أنه لا يأكل فاكهة". (¬7) في المطبوع و (ك): "بكفه". (¬8) في (ق): "حلالًا". (¬9) هنا انتهى الجزء الثاني من (ك) وجاء في نهاينه: "والحمد للَّه الملك الوهاب، وإياه أسأل المسامحة يوم الحساب. =

فصل [قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها]

فصل [قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها] قال أرباب الحيل: قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] والحيل مخارج من المضايق. والجواب إنما يتبين بذكر قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها، فنقول [وباللَّه التوفيق] (¬1): هي أقسامٌ: [القسم الأول من الحيل طرق يتوصل بها إلى ما هو حرام] القسم الأول: الطرق الخفية التي يُتَوَصَّل بها إلى ما هو محرم في نفسه، بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال، فمتى كان المقصود بها محرَّمًا في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، وكذلك (¬2) كالحيل على أخذ أموال الناس وظُلْمهم في نفوسهم وسَفْك دمائهم وإبطال حقوقهم وإفساد ذات بَيْنهم، وهي من جنس حيل الشياطين على إغواء بني آدم بكل طريق. [تحيل الشياطين على الناس] وهم يتحيّلون عليهم [ليوقعوهم في واحدة من] (¬3) ستة ولابد؛ فيتحيلون عليهم بكل طريق [أن يوقعوهم في الكفر والنفاق] (3) على اختلاف أنواعه، فإذا عملت (¬4) حيلهم في ذلك قرَّت عيونُهم، فإن عجزت حيلهم عن مَنْ صحت فطرته وتلاها شاهد الإيمان من ربه بالوحي الذي أنزله على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْمَلوا الحيلَةَ في إلقائه (¬5) في البِدْعة على اختلاف أنواعها وقبول القلب لها وتهيئته (¬6) واستعداده، ¬

_ = آخر الجزء الثاني في كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" يتلوه الجزء الثالث إن شاء اللَّه تعالى. فصل: قال أرباب الحيل. . . والحمد للَّه رب العالمين". أنهاه كتابة الفقير إلى ربه الرحيم المنان، عبده سليمان بن سحمان وذلك ضحى يوم الثلاثاء لخمس وعشرين خلت من رمضان المشرف من سنة 1305، والحمد للَّه على التمام، وصلى اللَّه على سيد الأنام محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "وذلك". (¬3) ما بين المعقوفتين مطموسة في (ك). (¬4) في (ن): "علمنا". (¬5) في (ن) و (ق): "في إلقائهم". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "وتهيؤه".

فإن تَمت حِيَلهم كان ذلك أحَبَّ إليهم من المعصية، وإن كانت كبيرة، [ثم ينظرون في حال] (¬1) مَنِ استجاب (¬2) لهم إلى البدعة؛ فإن كان مُطَاعًا مَتْبُوعًا في الناس [أمَرُوه] (1) بالزهد والتعبد ومحاسن الأخلاق والشيم، ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومَنْ لا علم عنده بالسنة (¬3)، وإنْ لم يكن كذلك جَعَلُوا بدعته عَوْنًا له على ظلمه أهلَ السنةِ وأذاهم والنيل منهم، وزَيَّنُوا له أن هذا انتصار لما هم عليه من الحق، فإن أَعجزتهم هذه الحيلة ومَنَّ اللَّه تعالى على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقوه في الكبائر، وزيَّنوا له فعلها بكل طريق، وقالوا له: أنت على السُّنَّة، وفُسَّاقُ أهل السنة أولياء اللَّه، وعُبَّاد أهل البدعة أعداء اللَّه، وقبورُ فساق أهل السنة رَوْضَة من رياض الجنة، وقبور عُبَّاد أهل البدع حُفْرة من حفر النار، والتمسك بالسنة يُكفِّر الكبائر، كما أن مخالفة السنة تحبط الحسنات، وأهل السنة إن قَعَدَتْ بهم أعمالُهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدعة (¬4) إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم، وأهل السنة [هم] (¬5) الذين أحسنوا الظن بربهم إذ وصَفُوه بما وصَفَ به نفسَه ووصفه به رسوله ووصفوه بكل كمال وجلال ونَزَّهُوه عن كل نقص، واللَّه تعالى عند ظن عبده به، وأهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظَنَّ السَّوء؛ إذ يُعَطِّلُونه عن صفات كمالِه وينزهونه عنها، وإذا عَطَّلوه عنها لزم اتصافه بأضدادها ضرورة؛ ولهذا قال اللَّه تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العلم ببعض الجزئيَّات: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23]، وأخبر (¬6) عن الظانين باللَّه ظن السَّوْء أن {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6] (¬7) فلم يتوعَّدْ بالعقاب أحدًا أعظم ممن ظن به [ظن] (¬8) السوء، وأنت لا تظن به ظن السوء، فمالك وللعقاب؟ وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وُصْلَة لهم، وحيلة إلى الاستهانة (¬9) بالكبائر، وأخذه الأمنَ لنفسه. وهذه حيلة لا ينجو منها إلا الراسخ في العلم، العارف (¬10) بأسماء اللَّه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين مطموسة في (ك). (¬2) في (ق): "المستجيب". (¬3) في (ن): "ومن لا علم له بالسنة". (¬4) في المطبوع: "وأهل البدع". (¬5) سقط من (ق). (¬6) في المطبوع: "وأخبرهم". (¬7) ذكرت الآية في (ن): {. . . وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}! (¬8) سقط من (ك). (¬9) في (ن): "استهانته". (¬10) في (ن) و (ق): "العالم".

وصفاته، فإنه كلما (¬1) كان باللَّه أعرف كان له أشد خشية، وكلما (¬2) كان به أجْهَلَ كان أشد غرورًا به وأقل خشية. فإن أعجزتهم هذه الحيلة وعَظُم وقار اللَّه في قلب العبد هَوَّنُوا عليه الصغائر، وقالوا له: إنها تقع مُكَفَّرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن، وربما مَنَّوه أنه إذا تاب منها -[كبائر كانت أو صغائر] (3) - كتِبَ له مكانَ كل سيئة حسنة، فيقولون [له] (¬3): كثِّر منها ما استطعت، ثم اربح مكان كل سيئة حسنةً بالتوبة، ولو قَبْلَ الموت بساعة؛ فإن أعجزتهم هذه الحيلة وخلَّصَ اللَّه عبده منها نَقَلوه إلى الفُضُول من أنواع المُبَاحات والتوسُّعِ فيها، وقالوا له: قد كان لداود مئة امرأة إلا واحدة ثم أراد تكميلها بالمئة، وكان لسليمان ابنه مئة امرأة، وكان للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي اللَّه عنهم من الأموال ما هو معروف (¬4) وكان لعبد اللَّه بن المبارك والليث بن سعد من الدنيا وسَعَة المال ما لا يجهل، ويُنْسُوه ما كان هؤلاء من الفضل، وأنهم لم ينقطعوا عن اللَّه بدنياهم، بل ساروا بها إليه، فكانت طريقًا لهم إلى اللَّه عز وجل؛ فإن أعجزتهم هذه الحيلة -بأن تفتح بصيرة قلب العبد (¬5) حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما أعد اللَّه فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، فأخذ حذره، وتأهب للقاء ربه تعالى، [واستقصر مدة هذه الحياة] (6) [في] الدنيا في جَنْب الحياة الباقية الدائمة- نقلوه إلى الطاعات [المفضولة الصغيرة] (¬6) الثواب ليشغلوهُ بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب، [فيعمل] (¬7) حيلته في تركه كل طاعةٍ كبيرة إلى ما هو دونها، [فيعمل] (7) حيلَتَه في تفويت الفضيلة عليه؛ فإن أعجزتهم هذه الحيلة -وهيهات- لم يبق لهم إلا حيلة واحدة، وهي تسليط أهل الباطل والبِدَع والظّلَمة عليه يؤذونه، ويُنَفِّرون الناسَ عنه، ويمنعونهم من الاقتداء به؛ ليفوِّتوا عليه مصلحة ¬

_ (¬1) في (ق): "فإن كل من". (¬2) في (ق): "وكل من". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬4) انظر في أموال الزبير: "صحيح البخاري" (3129) في (فرض الخمس): باب بركة الغازي في ماله حيًا وميتًا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وولاة الأمر، وكذا "فتح الباري" (6/ 232 - 234) و"المجالسة" (رقم 2200 - بتحقيقي) وما علقناه عليه، وفي أموال عبد الرحمن بن عوف "المجالسة" أيضًا (رقم 2199 - بتحقيقي). (¬5) في (ق): "بأن يفتح اللَّه بصيرة العبد". (¬6) ما بين المعقوفتين مطموسة في (ك) وما بعدها من (ك). (¬7) في (ك): "فيعملوا".

[من حيل شياطين الإنس]

الدعوة إلى اللَّه سبحانه [وعليهم] (¬1) مصلحة الإجابة. فهذه مجامع أنواع حيل الشيطان، ولا يُحصي أفرادها إلا اللَّه، ومن له مسكة من العقل يعرف الحيلة التي تمت عليه [من هذه الحيل، فإن كانت له همة إلى التخلص منها، وإلا فيسأل (¬2) من تمت عليه] (¬3)، واللَّه المستعان. [من حيل شياطين الإنس] وهذه الحيل من شياطين الجن نظيرُ حيل شياطين الإنس المجادِلين بالباطل ليدحضوا به الحق ويتوصلوا به إلى أغراضهم الفاسدة في الأمور الدينية والدنيوية وذلك كحيل القَرَامطة الباطنية على إفساد الشرائع، وحيل الرُّهْبَان على أشباه الحمير من عابدي الصليب (¬4) بما يموّهون به عليهم من المخاريق والحيل كالنور المصنوع وغيره مما هو معروف عند الناس، وكحيل أرباب الإشارات من اللاذن والتيسير والتغبير (¬5) وإمساك الحيَّات ودخول النار في الدنيا قبل الآخرة، وأمثال ذلك من حيل أشباه النصارى التي تروجُ على أشباه الأنعام، وكحيل أرباب الدك وخفة اليد التي تخفى على الناظرين أسبابها ولا يتفطَّنون لها (¬6). [السحر وحيل السحرة] وكحيل السَّحرة على اختلاف أنواع السحر؛ فإن سحر البيان هو من أنواع التحيل: إما لكونه بلغ في اللطف والحسن (¬7) إلى حد استمالة القلوب فأشبه السحر من هذا الوجه، وإما لكَوْن القادر على البيان يكون قادرًا على تحسين ¬

_ (¬1) سقط من (ق). (¬2) في (ك): "فبسبيل". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "عابد الصليب". (¬5) في المطبوع: "من الأذن والتسيير والتغيير"، وقال (د) و (ط)، في نسخة: "من اللاذن والتعسير والتيسير -إلخ" [وكلا العبارتبن غير مستقيم، (انظر: "إعلام الموقعين" ط: فرج اللَّه زكي الكردي ج 3 ص 250) اهـ. وما بين المعقوفتين زيادة (د) على (ط) وما بين القوسين زيادة (ط) على (د). وفي (ق): "من اللاذن ومن الستر والتغبير". (¬6) في (ق): "يفطنون"، وكشف هذه الحيل جمع، ومن أحسنهم عبد الرحيم بن عمر الجُوَبري (المتوفى في القرن السابع الهجري) في كتابه: "المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار" وهو مطبوع، ولنبيل البرباري من المعاصرين: "كشف حيل الألعاب السحرية". (¬7) في (ن) و (ق): "اللفظ والحسن".

[حيل أرباب الملاهي وغيرهم]

القبيح وتقبيح الحسن فهو أيضًا يشبه السحر من هذا الوجه أيضًا، وكذلك سحر الوَهْم أيضًا هو حيلة وهمية (¬1)، والواقع شاهد بتأثير الوهم والإيهام (¬2)، ألا ترى أن الخشبة التي يتمكَّن الإنسان من المشي عليها إذا كانت قريبة من الأرض لا يمكن (¬3) المشي عليها إذا كانت على مَهْوَاة بعيدة القَعْر، والأطباء تنهى صاحِبَ الرُّعَاف عن (4) النظر إلى الشيء الأحمر، وتنهى المصروع عن (¬4) النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، فإن النفوس خلقت مطية الأوهام (¬5)، والطَّبيعة فعَّالة (¬6)، والأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية، وكذلك السحر بالاستعانة بالأرواح الخبيثة إنما هو بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها والاتصاف بهيآتها الخبيثة، ولهذا لا يعمل السحر إلا مع الأنفس الخبيثة المناسبة لتلك الأرواح، وكلما كانت النفس أخْبَثَ كان سحرها أقوى، وكذلك سحر التمزيجات -وهو أقوى ما يكون من السحر- أن يمزج بين (¬7) القوى النفسانية الخبيثة الفعالة والقوى الطبيعية المنفعلة، والمقصود أن السحر من أعظم أنواع الحيل [التي ينال بها الساحِرُ غرضَه، وحيل الساحر من أصعب (¬8) الحيل] (¬9) وأقواها، ولكن لا تؤثر تأثيرًا مستقرًا إلا في الأنفس البطالة (¬10) المنفعلة للشهوات الضعيفة تعلقُهَا بفاطر الأرض والسموات المنقطعة عن التوجه إليه والإقبال عليه؛ فهذه النفوس محل تأثير السحر. [حيل أرباب الملاهي وغيرهم] وكحِيَلِ أرباب الملاهي والطرب على استمالة النفوس إلى محبة الصُّوَر والوصول إلى الالتذاذ بها؛ فحيلة السماع الشيطاني على ذلك من أدنى الحيل عليه، حتى قيل: أولُ ما وقع الزنا في العالم فإنما كان بحيلة اليَرَاع (¬11) والغِناء، لمَّا أراد الشيطانُ ذلك لم يجد عليه حيلة أدنى من الملاهي، وكحِيَلِ اللصوص ¬

_ (¬1) في (ك): "وهيمية". (¬2) رأيت لنيكولاس ويد كتابًا بعنوان: "الأوهام البصرية، فنّها وعلمها". ترجمة منى مظفر للعربية، أكّد فيه وفصّل ما ذكره المصنف. (¬3) في (ك): "يتمكن من". (¬4) في (ق): "إلى". (¬5) في (ن) و (ق): "مظنة الأوهام". (¬6) في (ق): "نقاله". (¬7) في (ن): "أن تمزج". (¬8) كذا في (ك)، وفي المطبوع: "أضعفَ". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬10) في المطبوع: "الباطلة". (¬11) "اليراع -بزنة السحاب-: قصبة مجوفة يزمر بها" (د).

[أرباب الحيل نوعان]

والسُّرَّاق على أخذ أموال الناس، وهم أنواع لا تُحصى؛ فمنهم السراق بأيديهم، ومنهم السراق بأقلامهم، ومنهم السراق بأمانتهم (¬1)، ومنهم السراق بما يظهرونه من الدِّين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن بخلافه، ومنهم السراق بمَكْرِهم وخِداعهم وغشهم (¬2)، وبالجملة فحيل هذا الضرب من الناس من أكثر الحيل، وتليها حيلُ عُشَّاق الصُّوَر على الوصول إلى أغراضهم فإنها تقع في الغالب خفية، وإنما تتم غالبًا على النفوس القابلة المنفعلة الشهوانية، وكحِيلَ التتار التي ملكوا بها البلاد وقهروا بها العباد وسفكوا بها الدماء واستباحوا بها الأموال، وكحِيلَ اليهود وإخوانهم من الرافضة فإنهم بيت المكر والاحتيال، ولهذا ضُرِبَت على الطائفتين الذِّلَّةُ، وهذه سنة اللَّه تعالى في كل [مكار] (¬3) مخادع محتال بالباطل. [أرباب الحيل نوعان] ثم أرباب هذه الحيل نوعان: * نوع يقصد به حصول مقصوده، ولا يظهر أنه حلال، كحيل اللصوص وعشَّاق الصُّور المحرمة ونحوهما. ¬

_ (¬1) في (ك): "بأمَاناتهم". (¬2) إن من ينظر في هذا الكلام دون نسبته لابن القيم، يحسبه لكاتب حديث مقتدر يصور به حالة المجتمع الإسلامي الآن، حيث كثر فيه السراق بأقلامهم، وألسنتهم وأمانتهم وتدينهم الكاذب وتظاهرهم بالصلاح والزهد المفتعلين، وبصفة أخص بالخداع والمكر والغش في كل معاملة تقريبًا إلا من عصم ربك، وقليل ما هم، حتى أصبح الشخص المستقيم الذي لا يتحيل ولا يتمسح، ولا يداهن ولا ينافق في المجتمع الفاسد متهمًا بالبله أو الغباء، أو عدم الفهم لمنطق الحياة في أحسن افتراضاتهم. وهكذا عم البلاء وطم في غفلة من الشعور الديني الصادق السليم، أو تخديره حتى أمسى عند الأكثرية في شبه غيبوبة طويلة لا صحو بعدها، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم. والمتحيلون بالدين أخطر على مجتمعاتهم من اللصوص بأيديهم، لأن هؤلاء أتوا البيوت من أبوابها، أما أولئك فقد قلبوا مقاصد الشرع والدين، وعظم بهم الخطب وصعب الاحتراز منهم. ويليهم في الخطورة السراق بأقلامهم لأن تأثيرهم على مجتمعاتهم أوسع وأعمق، بحكم سيطرتهم على وسائل الإعلام من كتب ومجلات وصحافة وإذاعة مسموعة ومرئية، وأفلام وتمثيل، وغير ذلك من شعر وغناء ورقص ونحت ورسم، قاله محمد بن إبراهيم في كتابه "الحيل الفقهية" (ص 170 - 171). (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط.

* ونوع يظهر صاحبه أن مقصوده خير وصلاح ويُبْطِن خلافه. وأرباب النوع الأول أسلم عاقبةَ من هؤلاء؛ فإنهم أتوا البيوت من أبوابها والأمر من طريقه ووجهه، وأما هؤلاء فقَلَبوا مواضع (¬1) الشرع والدين، ولما كان أرباب هذا النوع إنما يباشرون الأسباب الجائزة ولا يظهرون مقاصدهم أعْضلَ أمرُهم، وعظم الخَطْبُ بهم، وصعب الاحتراز منهم، وعزَّ على العالم استنقاذ قتلاهم، فاسْتبِيحت بحيلهم الفرُوج، وأُخِذت بها الأموال من أربابها فأعطيت لغير أهلها، وعُطِّلت بها الواجبات، وضُيِّعت بها الحقوق، وعَجَّت الفرُوج والأموال والحقوق إلى ربها عجيجًا، وضجَّت مما حل بها إليه ضجيجًا، ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام، والإفتاء بها حرام، والشهادة على مضمونها حرام، والحكم بها مع العلم بحالها حرام، والذين جَوَّزوا منها ما جوَّزه (¬2) من الأئمة لا يجوز أن يظن بهم أنهم جوّزوه على وجه الحيلة إلى المحرم وإنما جوزوا صورة ذلك الفعل، ثم إن المتحيل المخادع المكَّار (¬3) أخذ صورة ما أفتوا به فتوسَّل به إلى ما منعوا منه، وركَّبَ ذلك على أقوالهم وفتاواهم، وهذا فيه الكذب عليهم وعلى الشارع، مثالُه أن الشافعي رحمه اللَّه تعالى يجوّز إقرار المريض لوارثه (¬4)؛ فيتخذه مَنْ يريد أن يوصي لوارثه وسيلةً إلى الوصية له بصورة الإقرار ويقول: هذا جائز عند الشافعي، وهذا كذب على الشافعي؛ فإنه لا يجوّز الوصية للوارث بالتحيل عليها بالإقرار؛ فكذلك (¬5) الشافعي رحمه اللَّه يجوز للرجل إذا اشترى من غيره سِلْعة بثمن أن يبيعه إياها بأقلَّ مما اشتراها منه بناء على ظاهر السلامة (¬6). ولا يجوز ذلك حيلة على بيع مئة بمئة وخمسين إلى سنة؛ فالذي يسدُّ الذرائع يمنع ذلك وبقول: هو يُتَّخذ حيلة إلى (¬7) ما حرمه اللَّه تعالى ورسوله، فلا ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "موضوع". (¬2) في المطبوع: "ما جوزوا"، وفي (ك) و (ق): "جوزوه". (¬3) في (ق): "الماكر". (¬4) مختصر المزني" (111)، "المهذب" (2/ 344)، "فتح العزيز" (11/ 96)، "روضة الطالبين" (4/ 353 - 354)، "مغني المحتاج" (2/ 240)، "نهاية المحتاج" (5/ 64)، "مختصر الخلافيات" (3/ 405 رقم 130). (¬5) في (ك) و (ق): "وكذلك". (¬6) "الأم" (3/ 78 - 80) "مختصر المزني" (85)، "الحاوي الكبير" (6/ 350)، "المجموع" (10/ 141)، "روضة الطالبين" (3/ 416 - 417)،"مختصر الخلافيات" (3/ 332 رقم 104). (¬7) في (ك) و (ق): "على".

[الحيل المحرمة على ثلاثة أنواع]

يقبل إقرار المريض لوارثه، ولا يصح هذا البيع؛ ولا سيما (¬1) فإن إقرار المرء شهادة على نفسه، فإذا تطرق إليها التهمة بطلت كالشهادة على غيره. والشافعي رحمه اللَّه يقول: أقبل إقراره إحسانًا للظن بالمقر، وحَمْلًا لإقراره على السلامة، ولا سيما عند الخاتمة. ومن هذا الباب احتيال المرأة على فَسْخِ نكاح الزوج بما يُعلمه إياها أربابُ المكر والاحتيال، بأن تنكر أن تكون أذِنَتْ للوليّ، أو بأن النكاح لم يصح لأن الولي أو الشهودَ [جلسوا] (¬2) وقت العقد على فراش حرير، أو استندوا إلى وسادة حرير. وقد رأيتُ مَنْ يستعمل هذه الحيلة إذا طلق الزوجُ امرأته ثلاثًا، وأراد تخليصه من عار التحليل وشَنَاره أرشده إلى القدْح في صحة النكاح بفسق الولي أو الشهود، فلا يصح (¬3) الطلاق في النكاح الفاسد، وقد كان النكاح صحيحًا لما كان مقيمًا معها عدة سنين، فلما أوقع الطلاق الثلاث فسد النكاح. ومن هذا احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه لم يكن بالغًا وقت العقد، أو لم يكن رشيدًا، أو كان محجورًا عليه، أو لم يكن المبيع ملكًا له ولا مأذونًا له في بيعه. فهذه الحيل وأمثالها لا يستريب مُسْلم في أنها من كبائر الإثم وأقبح المحرَّمات، وهي من التلاعب بدين اللَّه، واتخاذ آياته هزوًا، وهي حرام من جهتها في نفسها لكونها كذبًا وزورًا، وحرام من جهة المقصود بها، وهو إبطال حق وإثبات باطل. [الحيل المحرمة على ثلاثة أنواع] فهذه ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون الحيلة مُحرَّمة ويُقصد بها المحرَّم. الثاني: أن تكون مباحة في نفسها ويُقصد بها المحرم؛ فتصير حرامًا تحريمَ الوسائلِ كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة. وهذان القسمان تكون الحيلة فيهما موضوعة للمقصود الباطل المحرم، ومُفْضِية إليه، كما هي موضوعة للمقصود الصحيح الجائز ومفضية إليه؛ فإن السفر طريق صالح لهذا وهذا. ¬

_ (¬1) في (و): "لا سيما". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ن) و (ك): "فلا يقع".

[نوع رابع من الحيل ينقسم إلى ثلاثة أقسام يقصد بها أخذ حق]

الثالث: أن تكون الطريق لم توضع للإفضاء إلى المحرم، وإنما وضعت مُفْضِية إلى المشروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك، فيتخذها المتحيل سُلَّمًا وطريقًا إلى الحرام، وهذا معترك الكلام في هذا الباب، وهو الذي قصدنا الكلام فيه بالقصد الأول (¬1). [نوع رابع من الحيل ينقسم إلى ثلاثة أقسام يقصد بها أخذ حق] القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حقٍ أو دفع باطلٍ، وهذا القسم ينقسم إلى ثلاثة أقسام أيضًا [القسم الأول من القسم الرابع] أحدها: أن يكون الطريق محرَّمًا في نفسه، وإن كان المقصود به حقًّا، مثل أن يكون له على رجل جق فيجحده، ولا بيّنة له، فيقيم صاحبه شاهدي زور يشهدان به، ولا يعلمان ثبوتَ (¬2) ذلك الحق، ومثل أن يطلق الرجل امرأته ثلاثًا، ويجحد الطلاق، ولا بينة لها، فتقيم (¬3) شاهدين يشهدان أنه طلقها، ولم يسمعا الطلاق منه، ومثل أن يكون له على رجل دَيْن، وله عنده وديعة، فيجحد الوديعة، فيجحد هو الدين، أو بالعكس، ويحلف ما له عندي حق، أو ما أودعني شيئًا، وإن كان يجيز هذا من يجيز مسألةَ الظَّفر، ومثل أن تدعي عليه المرأة كسوة أو نفقة ماضية كذبًا وباطلًا، فينكر أن تكون مَكَّنته من نفسها أو سَلّمت نفسها إليه، أو يقيم شاهدي زور أنها كانت ناشزًا؛ فلا نفقة لها ولا كسوة، ومثل أن يقتل رجل وليه فيقيم شاهدي زور ولم يشهدا القتل فيشهدا أنه قَتَله، ومثل أن يموت موروثه (¬4) فيقيم شاهدي زور أنه مات وأنه وارثه، وهما لا يعلمان ذلك، ونظائره ممن له حق لا شاهد له به فيقيم شاهدي (¬5) زور يشهدان له به؛ فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود، وفي مثل هذا جاء الحديث: "أدِّ الأمانة إلى مَنِ ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك" (¬6). ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "بالفصل الأول". (¬2) في (ك): "بثبوت". (¬3) في (ك): "له فيقيم". (¬4) في (ن): "مورثة". (¬5) في (ق): "شاهد". (¬6) رواه الدارمي (2/ 264)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 360)، وأبو داود (3535) في (البيوع): باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، والترمذي (1264) في (البيوع): =

فصل [القسم الثاني: أن تكون الطريق مشروعة]

فصل [القسم الثاني: أن تكون الطريق مشروعة] القسم الثاني: أن تكون الطريق مشروعة، وما تُفْضي إليه مشروع، وهذه هي الأسباب التي نصبها الشارع مُفْضِية إلى مسبَّباتها كالبيع والإجارة والمُسَاقاة والمزارعة والوكالة، بل الأسباب محل حكم (¬1) اللَّه ورسوله، وهي في اقتضائها ¬

_ = باب ما جاء أن العارية مؤداة، والدارقطني (3/ 35)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (رقم 1831 و 1832)، وتمام في "فوائده" (رقم 707 - ترتيبه) والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص 30) والقضاعي في "مسند الشهاب" (رقم 742)، والبيهقي (10/ 271) وفي "معرفة السنن والآثار" (14/ 380 رقم 20376)، والحاكم (2/ 46)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (1/ 269)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (973 و 974) من طريق طلق بن غنام عن شريك، وقيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة مرفوعًا به. وقال الترمذي: حسن غريب. وقال الحاكم: حديث شريك عن أبي حصين على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وشريك إنما أخرج له مسلم متابعة فقط، وهو سيء الحفظ، وقد تابعه قيس بن الربيع، وهو ضعيف أيضًا لكنهما يقويان بعضهما بعضًا، فيحسَّن الحديث كما قال الترمذي. أما أبو حاتم فقال -كما في "علل ابنه" (1/ 375) -: روى طلق بن غنام حديثًا منكرًا عن شريك وقيس. ولا أدري ما وجه النكارة فلعله أراد قوله: "ولا تخن من خانك"، ولعله لهذا قال الشافعي: هذا الحديث ليس بثابت، وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح. ذكر هذا عن أحمد: ابنُ حجر في "التلخيص" (3/ 97) عن ابن الجوزي في "العلل المتناهية" وليس هو فيه. ونقله عن الشافعي البيهقي في "السنن". أقول: لكن قوله: "لا تخن من خانك"، قد تفسر على معنى لا يتنافى مع قواعد الشريعة. والحديث له شواهد، وان كانت ضعيفة، إلا أنها لا شك تجعل للحديث أصلًا. فانظرها في: "نصب الراية" (4/ 119) و"التلخيص الحبير" (3/ 97)، وفي "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (رقم (423). وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 2879، 2898، 2899)، وتعليقي على "قواعد ابن رجب" (1/ 102 - 103). (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "حكمة".

لمسبباتها شرعًا على وزان الأسباب الحِسِّية في اقتضائها لمسبباتها قدرًا؛ فهذا شرع الرب تعالى وذلك قدره، وهما خلقه وأمره، واللَّه له الخلق والأمر، ولا تبديل لخلق اللَّه، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامها بل يُجْريها على أسبابها (¬1) وما خُلِقت له؛ فهكذا الأسباب الشرعية لا يُخْرجها عن سببها وما شرعت له، بل هذه سنته شرعًا وأمرًا (¬2)، وتلك سنته قضاءً وقدرًا وسنته الأمرية قد تبدل وتتغير كما يُعْصَى أمره ويخالف، وأما سنته القدرية {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، كما لا يُعصى أمره الكوني القدري. ويدخل في هذا القسم التحيل على جلب المنافع و [على] (¬3) دفع المضار، وقد ألهم اللَّه تعالى ذلك لكل حيوان، فلأنواع الحيوانات من أنواع الحيل والمكر ما لا يهتدي إليه بنو آدم. وليس كلامنا ولا كلام السلف في ذم الحيل متناولًا لهذا القسم، بل العاجز مَنْ عجز عنه، والكَيَّسُ من كان به أفْطَنَ وعليه أقْدَرَ، ولا سيما في الحرب فإنها خدعة (¬4) والعجز كل العجز في ترك هذه الحيلة، والإنسان مندوب إلى الاستعاذة (¬5) باللَّه تعالى من العجز والكسل؛ فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة، والكسل عدم الإرادة لفعلها؛ فالعاجز لا يستطيع الحيلة، والكسلان لا يريدها، ومن لم يَحْتَلْ وقد أمكنته هذه الحيلة أضاع فرصته وفَرَّطَ في مصالحه، كما قال (¬6): إذا المرء لم يَحْتَلْ وقد جَدَّ جِدَّه ... أضاع، وقَاسَى أمَرُه، وَهْوَ مُدْبِرُ وفي هذا قال بعض السلف: الأمرُ أمران: أمرٌ فيه حيلة فلا يعجز عنه (¬7)، وأمر لا حيلة فيه فلا يجزع منه (¬8). ¬

_ (¬1) في (ق): "سببها". (¬2) في (ك) و (ق): "أمرًا وشرعًا". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) "بفتح الخاء وضمِّها، بوزن همزة" (و). (¬5) في المطبوع: "استعاذته". (¬6) القائل هو تأبط شرًا، والمذكور من قصيدة طويلة له، انظرها وروايتها في "الاختيارين" (295) للأخفش الصغير، و"شرح الحماسة" للتبريزي (1/ 82)، و"شرح شواهد المغني" (330)، و"خزانة الأدب" (3/ 542). (¬7) في (ن) و (ق): "فلا تعجز عنه" (¬8) في (ن): "فلا تخرج منه"، وفي (ق): "فلا تجزع منه".

فصل [الاحتيال على الوصول إلى الحق بطريق مباحة لكنها لم تشرع له]

فصل [الاحتيال على الوصول إلى الحق بطريق مباحة لكنها لم تشرع له] القسم الثالث: أن يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع مُوصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها هو طريقًا إلى هذا المقصود الصحيح، أو تكون (¬1) قد وضعت له لكن تكون خفيّة ولا يفطن لها، والفرق بين هذا القسم والذي قبله أن الطريق في الذي قبله نُصبَتْ مُفْضِية إلى مقصودها ظاهرًا، فسالكها سالك للطريق المعهود، والطريق في هذا القسم نصبت مفضية إلى غيره فيتوصل بها إلى ما لم توضع له؛ فهي في الفعال كالتعريض الجائز في المقَال، أو تكون مُفْضِية إليه لكن بخَفَاء، ونذكر لذلك أمثلةً ينتفع بها في هذا الباب. [أمثلة للقسم الثالث] المثال الأول: إذا استأجر منه دارًا مدة سنين بأجرة معلومة، فخاف أن يَغدُر به المكري في آخر المدة ويتسبب إلى فسخ الإجارة بأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإيجار أو أن المؤجَّرَ ملكٌ لابنه أو امرأته أو أنه كان مؤجرًا قبل إيجارِه، ويتبين أن المقبوض أجرة المثل لما استوفاه من المدة وينتزع المؤجر [له] (¬2) منه؛ فالحيلة في التخلّص من هذه الحيلة أن يُضَمنه المستاجر درك العين المؤجرة له أو لغيره، فإذا استحقت أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه، أو يأخذ إقرار مَنْ يخاف منه بأنه لا حق له في العين وأن كل دعوى يدعيها بسببها فهي باطلة، أو يستأجرها منه بمئة دينار مثلًا ثم يُصَارفه كل دينار بعشرة دراهم، فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقعَ عليها العقد، فإنه لم (¬3) يخف من ذلك، ولكن يخاف (¬4) أن يغدر به في آخر المدة، فليقسط (¬5) مبلغ الأجرة على عدد السنين، ويجعل معظمها للسنة التي يخشى غدره فيها، وكذلك إذا خاف المؤجِّرُ أن يغدر المستأجر ويرحل في آخر المدة، فليجعل معظم الأجرة على المدة التي يامن فيها [من] (¬6) رحيلِهِ، والقدر اليسير منها لآخر المدة. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أو قد يكون". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ن): "فإن لم"! (¬4) في (ك) و (ق): "خاف". (¬5) في (ك): "فليسقط". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[مذهب أحمد في صور المضاربة بالدين]

المثال الثاني: أن يخاف ربُّ الدار غيبة المستأجر، ويحتاج إلى داره فلا يسلمها أهله إليه، فالحيلة في التخلص من ذلك أن يؤجرها ربها من امرأة المستأجر، ويضمن الزوج أن ترد إليه المرأة الدار وتفرغها متى انقضت المُدَّة، أو تضمن المرأة ذلك إذا استاجر الزوج، فمتى استأجر أحدهما وضمن الآخر الرد لم يتمكن أحدهما من الامتناع، وكذلك إن مات المستاجر فجحَدَ ورثته الإجارة وادّعوا أن الدار لهم نَفَع ربَّ الدار كفالةُ الورثة وضمانُهم رد الدار إلى المؤجِّر، فإن خاف المؤجر إفلاس المستأجر وعدم تمكنه من قبض الأجرة؛ فالحيلة أن يأخذ منه كفيلًا (¬1) بأجرة ما سكن أبدًا، ويسمي أجرة كل شهر للضمين، ويشهد عليه بضمانه. المثال الثالث: أن يأذن رب الدار للمستأجر أن يكون في الدار ما يحتاج إليه أو يعلف الدابة بقدر حاجتها، وخاف أن لا يحتسب له ذلك من الأجرة؛ فالحيلة في اعتداده به عليه أن يقدِّر ما تحتاج إليه الدابة أو الدار (¬2)، ويسمى له قدرًا معلومًا، ويحسبه من الأجرة، ويُشهد على المؤجِّر أنه قد وكله في صَرْف ذلك القدر فيما تحتاج إليه الدار أو الدابة. فإن قيل: فهل تجَوِّزون لمن له دَيْن على رجل أن يوكله في المضاربة به أو الصدقة به أو إبراء نفسه منه أو أن يشتري له شيئًا (¬3)، ويبرأ المدين إذا فعل ذلك؟ [مذهب أحمد في صور المضاربة بالدَّين] قيل: هذا مما اختلف فيه، وفي صورة المضاربة بالدَّين قولان في مذهب الإمام أحمد: أحدهما: أنه لا يجوز ذلك، وهو المشهور، لأنه يتضمن قبض الإنسان من نفسه وإبراءه لنفسه من دَيْن الغريم بفعل نفسه، لأنه متى أخرج الدين وضارب به فقد صار [المال] (¬4) أمانة وبرئ منه؛ وكذلك إذا اشترى به شيئًا أو تصدق به (¬5). والقول الثاني: أنه يجوز (¬6)، وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة ¬

_ (¬1) في (ك): "كفيلة". (¬2) في (ك) و (ق): "الدار أو الدابة". (¬3) سقط من (ك). (¬4) سقط من (ق). (¬5) هذا مذهب جمهور العلماء، انظر: "بدائع الصنائع" (6/ 60) و"شرح الزرقاني على مختصر خليل" (6/ 42) و"الشركات في الشريعة" (1/ 148 - 151). (¬6) في المطبوع: "لا يجوز"!

الشرعية ما يمنع من جواز ذلك، ولا يقتضي تجويزُه مخالفةَ قاعدة من قواعد الشرع، ولا وقوعًا في محظورٍ من ربا ولا قمار ولا بيع غَرَرٍ، ولا مفسدة في ذلك بوجه ما؛ فلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه، وتجويزه من محاسنها ومقتضاها (¬1). وقولهم: "إنه يتضمن إبراءَ الإنسان لنفسه بفعل نفسه" كلامٌ فيه إجمال يوهم أنه هو المستقل بإبراء نفسه، وبالفعل الذي به يبرأ، وهذا إيهامٌ؛ فإنه إنما برئ بما أذن له ربُّ الدَّيْن من مُبَاشرة الفعل الذي تضمن براءَته من الدَّيْن، فأي محذور في أن يفعل فعلًا أذن له فيه ربُّ الدَّيْن، ومستحقه يتضمن براءته؟ فكيف ينكر أن يقع في الأحكام الضمنية التبعية (¬2) ما لا يقع مثله في المتبوعات (¬3)، ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر؟ حتى لو وكَّله أو أذن له أن يبرئ نفسه من الدين جاز وملك ذلك، كما لو وكل المرأة أن تُطَلِّق نفسها؛ فأي فرق بين أن يقول: طلقي نفسك إن شئت (¬4)، أو يقول لغريمه: أبرئ نفسك إن شئت، وقد قالوا: لو أذن لعبده في التكفير بالمال ملك ذلك على الصحيح، فلو أذن له في الإعتاق ملكه، فلو أعتق نفسه صح على أحد القولين، والقول الآخر لا يصح لمانع آخر، وهو أن الولاء للمعْتِق، والعبد ليس من أهل الولاء، نعم المحذور أن يملك إبراء نفسه من الدين بغير رضا ربه وبغير إذنه؛ فهذا هو المخالف لقواعد الشرع. فإن قيل: فالدين لا يتعين، بل هو مطلق كلي ثابت في الذمة، فإذا أخرج مالًا واشترى به أو تصدق به لم يتعين أن يكون هو الدين، ورب الدَّين لم يعينه، فهو باقٍ على إطلاقه. قيل: هو في الذمة مطلق، وكل فرد من أفراده طابقه صح أن يعيَّن عنه ويجزئ، وهذا كإيجاب الرب تعالى الرقبة المطلقة في الكفارة فإنها غير مُعيَّنةٍ، ولكن أي رقبة عيَّنها المكلف وكانت مُطَابقة لذلك المطلق تأدى بها الواجب. ونظيره ههُنَا أن أيَّ فرد عيَّنه، وكان مطابقًا لما في الذمة تعين وتأدَّى به الواجب. وهذا كما يتعين عند الأداء إلى ربه، وكما يتعين عند التوكيل في قبضه؛ فهكذا يتعين عند توكيله لمن هو في ذمته أن يعينه ثم يضارب به أو يتصدق أو يشتري به ¬

_ (¬1) "كشاف القناع" (2/ 263) و"المغني" (5/ 16). (¬2) في (ن) و (ق): "النفعية". (¬3) في (ن) و (ق): "المسموعات". (¬4) وهذا قول الجمهور انظر: "تبيين الحقائق" (4/ 257) و"بدائع الصنائع" (6/ 23) و"الروض المربع" (2/ 242)، و"الوكالة في الفقه الإسلامي" (151).

[شرط صحة النقض]

شيئًا؛ وهذا محض الفقه وموجب القياس، وإلا فما الفرق بين تعينه (¬1) إذا وكل الغير في قبضه والشراء أو التصدق به وبين تعيينه إذا وكَّل مَنْ هو في ذمته أن يعينه ويضارب أو يتصدق به؟ فهل يوجب (¬2) التفريقَ فقهٌ أو مصلحة لهما أو لأحدهما أو حكمةٌ للشارع فيجب مراعاتها؟ فإن قيل: فجوِّزوا (¬3) على هذا أن يقول له: اجْعَلِ الدَّيْنَ الذي عليك رأس مال السَّلم في كذا وكذا. [شرط صحة النقض] قيل: شرط صحة النقض (¬4) أمران: أحدهما: أن تكون الصورة التي تنقض بها (¬5) مُسَاوية لسائر الصور في المعنى الموجب للحكم. الثاني: أن يكون الحكم فيها معلومًا بنص أو إجماع، وكلا الأمرين مُنْتَفٍ هاهنا، فلا إجماع معلوم في المسألة وإن كان قد حُكي وليست (¬6) مما نحن فيه؛ فإن المانع من جوازها رأى أنها من باب بيع الدَّيْن بالدَّيْن، بخلاف ما نحن فيه، والمجوِّز لها يقول: ليس عن الشارع نص عامِ في المنع من بيع الدَّيْن بالدَّيْن، وغاية ما ورد فيه حديث وفيه ما فيه: "أنه نَهَى عن بيع الكالئ بالكالئ" (¬7) والكالئ: هو المؤخَّر، وهذا كما إذا كان رأس مال السَّلم دَيْنًا في ذمة المسلم، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما، وأما ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "تعيينه". (¬2) في (ك): "وهل تحت" وفي (ق): "وهل يوجب". (¬3) في المطبوع: "تجوزا"، وفي (ك): "يجوز". (¬4) النقض هو: "تخلف الحكم عما علل به من الوصف"، وانظر شروطه في: "المحصول" للرازي (5/ 237 - 259)، و"لأحكام للآمدي" (4/ 92)، و"روضة الناظر" (ص 309 - 311) لابن قدامة، و"المسودة" (ص 415 - 416 و 430 - 438) لآل تيمية، و"البرهان" (2/ 977) للجويني، و"الكافي في الجدل" (ص 172 - 216) له، "وشرح اللمع" (2/ 881) للشيرازي، و"علم الجذل في علم الجدل" (ص 63 - 66) للطوفي، و"المعونة في الجدل" (ص 242 - 245) للشيرازي، و"إرشاد الفحول" (ص 224 - 226) للشوكاني، و"البحر المحيط" (5/ 261 - 278) للزركشي. (¬5) في (ن) و (ق): "التي نقض بها". (¬6) في المطبوع و (ك): "وليس". (¬7) تقدم تخريجه.

[هل ينفع إشهاد رب الدار على نفسه أنه مصدق]

إذا كان الدين في ذمة المسلّم إليه فاشترى به شيئًا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب فهذا من باب بيع الساقط بالواجب، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المُقَاصَّة، فإن بَنَى المستأجر أو أنفق على الدابة وقال: أنفقت كذا وكذا، وأنكر المؤجِّر، فالقول قول المؤجر؛ لأن المستأجر يدعي براءة نفسه من الحق الثابت عليه، والقول قول المنكر (¬1). [هل ينفع إشهاد رَبِّ الدار على نفسه أنه مصدق] فإن قيل: فهل ينفعه إشْهَادُ ربِّ الدار (¬2) أو الدابة على نفسه أنه مُصَدَّق فيما يدعي إنفاقه؟ قيل: لا ينفعه ذلك، وليس بشيء، ولا يُصَدَّق أنه أنفق شيئًا إلا ببينة؛ لأن مقتضى العقد ألا يقبل قوله في الإنفاق، ولكن ينتفع بعد الإنفاق بإشهاد المؤجر أنه صادق فيما يدعي أنه أنفقه، والفرق بين الموضعين أنه بعد الإنفاق مُدَّعٍ، فإذا صدقه المدَّعى عليه نفعه ذلك، وقبل الإنفاق ليس مدعيًا، فلا ينفعه (¬3) شهاد المؤجر بتصديقه فيما سوف يدعيه في المستقبل؛ فهذا شيء وذاك شيء آخر. [الحيلة على أن يصدق المؤجِّر المستأجر] فإن قيل: فما الحيلة على أن يصدق المؤجر (¬4) المستأجر فيما يدعيه من النفقة؟ قيل: الحيلة أن يُسْلِف المستأجر رب الدار أو الحيوان من الأجرة ما يعلم أنه بقدر الحاجة (¬5)، ويشهد عليه بقبضه، ثم يدفع رب الدار إلى المستأجر ذلك الذي قبضه منه، ويوكّله في الإنفاق على داره أو دابته، فيصير أمينه فيصدَّق على ما يدَّعيه إذا كان ذلك نفقة مثله عرفًا، فإن خرج عن العادة لم يصدق به، وهذه حيلة لا يدفع بها حقًا، ولا يتوصل بها لمحرَّم (¬6)، ولا يقيم بها باطلًا. ¬

_ (¬1) فصل الدكتور نزيه حماد أحكام بيع الكالئ بالكالئ في كتابه: "دراسات في أصول المداينات" (ص 246 - 247)، انظره فإنه مفيد. (¬2) في (ن) و (ق): "رب المال". (¬3) في المطبوع: "لا ينفعه"، وفي (ك): "ولا ينفعه". (¬4) سقط من (ك) و (ق). (¬5) في (ن) و (ك): "بقدر حاجته". (¬6) في (ق) و (ك): "إلى محرم".

[خوف رب الدار من أن يؤخر المستأجر تسليمها]

[خوف رب الدار من أن يؤخر المستأجر تسليمها] المثال الرابع: إذا خاف رب الدار أو الدابة أن يُعَوّقها عليه المستأجر بعد المدة، فالحيلة في أمْنِه من ذلك أن يقول: متى حبستها بعد انقضاء المدة فأجرتها كل يوم كذا وكذا، فإنه يخاف من حَبْسها أن يلزمه بذلك (¬1). [استئجار الشمع ليشعله] المثال الخامس: لا يجوز استئجار الشَّمْع ليُشْعله، لذهاب عين المستأجر، والحيلة في تجويز هذا العقد أن يبيعه من الشمعة أوَاقِيَ معلومة، ثم يؤجّره إياها، فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر، وإلا احتسب له بما أذهبه منها، وأحْسَنُ من هذه الحيلة أن يقول: بعتك من هذه الشمعة كل أوقية منها بدرهم، قلّ المأخوذ منها أو كثر، وهذا جائز على أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا (¬2)، وهو الصواب المقطوع به، وهو مُخَرَّجٌ على نَصِّ الإمام أحمد في جواز إجارة الدار كل شهر بدرهم (¬3)، وقد أخر علي كرم اللَّه وجهه في الجنة نفسه كل دلو بتمرة (¬4)، ولا محذور في هذا أصلًا، ولا يُفْضِي إلى تنازع ولا تشاحن، بل عملُ الناس في أكثر بياعاتهم عليه، ولا يضره جهالة كَمِّية المعقود عليه عند البيع؛ لأن الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدّي إلى القمار والغَرَر، ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل، وهذه لا تؤدي إلى شيء من ذلك، بل إن أراد قليلًا أخذ والبائع راضٍ، وإن أراد كثيرًا أخذ والبائعُ راضٍ، والشريعة لا تحرم مثل هذا ولا تمنع منه، بل هي أسمح من ذلك وأحكم. [اعتراض وردّه] فإن قيل: لكن في العقد على هذا الوجه محذوران: أحدهما: تضمنه للجمع بين البيع والإجارة. والثاني (¬5): أن مورد عقد الإجارة يذهب عينه أو بعضه بالإشعال. قيل: لا محذور في الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده، كما لو باعه ¬

_ (¬1) في (ك): "ذلك". (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" (20/ 531 و 230)، وفي (ك) و (ق): "اختاره" دون واو. (¬3) "المغني" (6/ 18 - 19 مع "الشرح الكبير"). (¬4) مضى تخريجه. (¬5) في (ك) و (ق): "الثاني".

[اشتراط الزوجة دارها أو بلدها ونحو ذلك]

سلعة وأجَّره دارًا (¬1) شهرًا بمئة درهم، وأما ذهاب أجزاء المستأجر بالانتفاع فإنما لم يجز لأنه لم يتعوض عنه المؤجر، وعقد الإجارة يقتضي رد العين بعد الانتفاع، وأما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضي ضمان المتلف بثمنه الذي قدر له وأجرة انتفاعه بالعين قبل الإتلاف، فالأجرة في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها، والثمن في مقابلة ما أذهب منها، فدعونا من تقليد آراء الرجال، ما الذي حرَّم هذا؟ وأين هو في كتاب اللَّه وسنة رسوله أو أقوال الصحابة أو القياس الصحيح الذي يكون فيه الفرع (¬2) مساويًا للأصل ويكون حكم الأصل ثابتًا بالكتاب أو السنة أو الإجماع؟ وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلِّد المتعصب المقرّ على نفسه بما شهد عليه به جميعُ أهل العلم أنه ليس من جملته (¬3) فذاك وما اختار لنفسه، وباللَّه التوفيق. [اشتراط الزوجة دارها أو بلدها ونحو ذلك] المثال السادس: أن تشترط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوَّج عليها، ولا يكون هناك حاكم يصحح هذا الشرط، أو تخاف أن يرفعها إلى حاكم يبطله (¬4)، فالحيلة في تصحيحه أن تلزمه عند العقد بأن يقول: إن تزوَّجتُ عليك امرأة فهي طالق، وهذا (¬5) الشرط يصح وإن قلنا: "لا يصح تعليق الطلاق بالنكاح" نص عليه أحمد؛ لأن هذا الشرط لما وجَبَ الوفاء به من (¬6) منع التزويج بحيث لو تزوج فلها الخيار بين المقام معه ومفارقته جاز اشتراط طلاق من يتزوَّجها (¬7) عليها، كما جاز اشتراط عدم نكاحها (¬8)، فإن لم تتم لها هذه الحيلة فلتأخذ شرطه أنه إن تزوج عليها فأمْرُها بيدها، أو أمرُ الضرة بيدها، ويصح تعليق ذلك بالشرط (¬9)؛ لأنه توكيلٌ على الصحيح، ويصح تعليق الوكالة على الشرط على الصحيح من قولي العلماء، وهو قول الجمهور ومالك (¬10) وأبي حنيفة (¬11) وأحمد (¬12) رضي اللَّه عنهم كما يصح تعليق الولاية على الشرط بالسنة الصحيحة ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "وأجره داره". (¬2) في (ق): "يكون الفرع فيه". (¬3) في (ق): "جملتهم". (¬4) انظر: "زاد المعاد" (4/ 4 - 5، 8)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 20). (¬5) في (ك) و (ق): "فهذا". (¬6) سقط من (ك). (¬7) في (ق): "يتزوج". (¬8) في (ق): "نكاحه". (¬9) في (ق): "ويصح التعليق بذلك الشرط". (¬10) "رسالة التمليك" (56)، وفي (ك) و (ق): "ملك" دون واو. (¬11) "بدائع الصنائع" (7/ 3445). (¬12) "المغني" (5/ 68).

[تزوج المرأة بشرط ألا يتزوج عليها]

الصريحة (¬1)، ولو قيل: "لا يصح تعليق الوكالة بالشرط" لصَحَّ تعليق هذا التوكيل الخاص؛ لأنه يتضمن الإسقاط، فهو كتعليق الطلاق والعتق بالشرط، ولا ينتقض هذا بالبراءة فإنه يصح تعليقها بالشرط، وقد فعله الإمام أحمد، وأصولُه تقتضي صحته، وليس عنه نص بالمنع، ولو سلم أنه تمليك لم يمنع تعليقه بالشرط كما تعلق الوصية، وأولى [بالجواز] (¬2)؛ فإن الوصية تمليك مال وهذا ليس كذلك؛ فإن لم تتم لها هذه الحيلة فلتتزوجه (¬3) على مَهْر مسمَّى على أنه إن أخرجها من دارها فلها مهرُ مثلها وهو أضعاف ذلك المسمى، ويقر الزوج بأنه مهر مثلها، وهذا الشرط صحيح؛ لأنها لم ترض بالمسمى، إلا بناء على قرارها (¬4) في دارها، فإذا لم يَسْلم لها ذلك وقد شرطت في مقابلته زيادةً جاز، وتكون تلك الزيادة في مقابلة ما فاتها من الغرض (¬5) الذي إنما أرخصت المهر ليَسْلَم لها، فإذا لم يسلم لها (¬6) انتقلت إلى المهر الزائد، وقد صرح [أصحاب أبي حنيفة] (¬7) بجواز مثل ذلك مع قولهم بأنه لا يصح اشتراط دارها ولا أن يتزوج عليها، وقد أغنى اللَّه سبحانه عن هذه الحيلة بوجوب الوفاء بهذا الشرط الذي هو أحق الشروط أن يُوفى به وهو مقتضى الشرع والعقل والقياس الصحيح، فإن المرأة لم ترض ببذل بُضْعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تَرَاضٍ، وكان إلزامًا لها بما لم تلتزمه وبما لم يلزمها (¬8) اللَّه تعالى ورسوله [به] (¬9)، فلا نص ولا قياس واللَّه الموفق. [تزوج المرأة بشرط ألا يتزوج عليها] المثال السابع: إذا خاصمته امرأته وقالت: قل: "كلُّ جارية أشتريها فهي حرة، وكل امرأة أتزوجها فهي طالق" فالحيلة (¬10) في خلاصه أن يقول ذلك ويعني ¬

_ (¬1) يشير المصنف إلى تأمير النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زيدًا على الناس في مؤتة، وقوله: "إنْ أصيب زيد فجعفر بن أبي طالب، فإن أُصيب جعفر فعبد اللَّه بن رواحة"، أخرجه البخاري (4261) في (المغازي): باب غزوة مؤتة من حديث ابن عمر. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬3) في المطبوع: "فليتزوجها". (¬4) في المطبوع و (ك): "إقرارها". (¬5) في (ك): "العوض". (¬6) سقط من (ك). (¬7) في (ق): "أبو حنيفة رحمه اللَّه". (¬8) في (ق): "يلزمه". (¬9) سقط من (ق). (¬10) ذكرها محمد بن الحسن في كتابه "المخارج من الحيل" (48).

بالجارية السفينة لقوله تعالى (¬1): {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] ويمسك بيده حَصَاة أو خرقة ويقول: "فهي (¬2) طالق" فيرد الكناية إليها، فإن تفقَّهت عليه الزوجة وقالت: بل قل (¬3): "كل رقيقة أو أمة" فليقل ذلك وليَعْنِ فهي حُرَّةُ الخصال غير فاجرة، فإنه لو قال ذلك لم تعتق كما لو قال له رجل: "غلامك فاجر زانٍ" فقال: ما أعرفه إلا حرًا عفيفًا، ولم يرد العتق، لم يعتق. وإن تفقَّهت عليه وقالت: قل: "فهي (¬4) عتيقة" فليقل ذلك ولْيَنْوِ (¬5) ضد الجديدة، أي عتيقة في الرق، فإن تفقَّهت وقالت: قل: "فهي معتوقة" أو: "قد أعتقتها إن ملكتها" فليردَّ الكناية إلى حَصَاة في يده (¬6) أو خرقة، فإن لم تَدَعْه أن يمسك شيئًا فليردّها إلى نفسه، ويعني أن قد أعتقها من النار بالإسلام، أو فهي حرة ليست رقيقة لأحد، ويجعل الكلام جملتين، فإن حصرته وقالت: قل: "فالجارية التي أشتريها معتوقة" فليقيّد ذلك بزمَن معين، أو مكان معين في نيته (¬7) ولا يحنث بغيره، فإن حصرته وقالت: من غير تورية ولا كناية ولا نية تخالف قولي، وهذا (¬8) آخر التشديد، فلا يمنعه ذلك من التورية والكناية، وإن قال بلسانه: "لا أوري ولا أكني" والتورية والكناية في قلبه، كما لو قال: "لا أستثني" بلسانه ومن نيته الاستثناء [بقلبه] (¬9)، ثم استثنى فإنه ينفعه، حتى لو لم ينو الاستثناء ثم عزم عليه واستثنى نَفعه ذلك بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بوجه في غير حديث، كقول المَلَكِ لسليمان: قل إن شاء اللَّه (¬10)، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إلا الإذْخِرَ" (¬11) بعد أن ذَكَّره به ¬

_ (¬1) في (ن): "كقوله تعالى". (¬2) في (ق): "هي". (¬3) في (ك): "بل" فقط، وفي سائر النسخ: "قل"، والمثبت من (ق). (¬4) سقط من (ك). (¬5) في (ق): "وليتأول". (¬6) في (ق): "بيده". (¬7) في (ك): "بيته". (¬8) في (ك) و (ق): "فهذا". (¬9) ما بين المعقوفتين من (ن). (¬10) حديث سليمان عليه السلام تقدم، والذي في تلك الروايات، فقال له صاحبه أو الملك: قل: إن شاء اللَّه. وفي رواية أخرى: فقيل له: قل: إن شاء اللَّه. وانظر: "فتح الباري" (6/ 461) في شرح حديث (3424). (¬11) في هذا حديث ابن عباس، رواه البخاري (1349) في (الجنائز): باب الإذخر والحشيش في القبر، وأطرافه هناك وهي كثيرة جدًّا، ومسلم (1353) في (الحج): باب تحريم مكة وصيدها. وحديث أبي هريرة الذي يرويه البخاري (112) في (العلم): باب كتابة العلم و (2434) في (اللقطة): باب كيف تعرَّف لقطة أهل مكة، و (6880) في (الديات): باب من قتل له قتيلًا فهو بخير النظرين، ومسلم (1355).

العباس، وقوله عليه السلام: ["إن شاء اللَّه" بعد أن قال] (¬1): "لأغْزُوَنَّ قريشًا، ثلاث مرات" ثم قال بعد الثلاثة وسكوته: "إن شاء اللَّه" (¬2) والقرآن صريح في نفع الاستثناء إذا نسيه أو لم ينوه في أول كلامه ولا أثناءه في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24]، وهذا إما أن يختصَّ بالاستثناء إذا نسيه كما فسرَّه به جمهور المفسرين، أو يعمَّه ويعم غيره وهو الصواب (¬3)؛ فأما أن يخرج منه الاستثناء الذي سِيقَ الكلامُ لأجله ويرد إلى غيره فلا يجوز، ولأن الكلام الواحد لا يعتبر في صحته نية كل جملة من جُمَله وبعضٍ من أبعاضه؛ فالنص والقياس يقتضي نفع الاستثناء، وإن خطر له بعد انقضاء الكلام، وهذا هو الصواب المقطوع به (¬4). ¬

_ (¬1) سقط من (ق). (¬2) رواه أبو يعلى (2675)، ومن طريقه ابن حبان (4343)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1928)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 404) عن مِسْعِر عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس. ورواه أبو يعلى (2674)، والطحاوي (1935 و 1931)، والطبراني (11742)، وابن عدي (2/ 743)، والبيهقي (10/ 47) من طرق عن شريك عن سماك به موصولًا. ورواه أيضًا موصولًا سفيان الثوري على ما ذكر الخطيب في "تاريخ بغداد" (7/ 404) لكن لم يسق سنده، وشريك هذا هو القاضي سيء الحفظ. ورواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب، وقد ورد الحديث عن مسعر وشريك مرسلًا. فرواه أبو داود (3286) في (الأيمان والنذور): باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت، وعبد الرزاق (11306)، و (16123)، والطحاوي (1929)، والبيهقي (10/ 48) من طرق (سفيان بن عيينة، ومحمد بن بشر، وأبو نعيم) عن مسعر عن سماك عن عكرمة مرسلًا. ورواه أبو داود (3285)، ومن طريقه البيهقي (10/ 47 - 48)، وابن عدي (2/ 743)، من طريقين عن شريك عن سماك به مرسلًا. وقد رجح الإرسال أبو حاتم كما ذكره عنه ابنه في "العلل" (1/ 440)، وهو ظاهر صنيع أبي داود، والخطيب والبيهقي. أما الهيثمي فقال في "المجمع" (4/ 182): ورجاله رجال الصحيح! (¬3) انظر: "زاد المعاد" (2/ 182)، و"بدائع الفوائد" (3/ 56). (¬4) في مباحث الاستثناء انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 56 - 76) فإنه مهم، و"شفاء العليل" (ص 103)، و"مدارج السالكين" (2/ 431)، و"زاد المعاد" (2/ 182) و"الإشراف" (4/ 283 مسألة 1623 - بتحقيقي) وتعليقي عليه.

[إجارة الأرض المشغولة بالزرع]

[إجارة الأرض المشغولة بالزرع] المثال الثامن: لا تصح إجارة الأرض المشغولة بالزرع (¬1)، فإن أراد ذلك فله حيلتان جائزتان: إحداهما: أن يبيعه الزرع ثم يؤجِّره الأرض، فتكون الأرض مشغولة بملك المستأجر، فلا يقدح في صحة الإجارة، فإن لم يتمكن من هذه الحيلة لكون الزرع لم يَشْتَدَّ أو كان زرعًا للغير انتقل إلى. . . الحيلة الثانية: وهي أن يؤجره إياها لمدة تكون بعد أخذ الزرع، ويصح هذا بناء على صحة الإجارة المضافة. [استئجار الأرض بخراجها مع الأجرة] المثال التاسع: لا تصح إجارة الأرض على أن يقوم المستأجر بالخَرَاج مع الأجرة، أو يكون قيامه به هو أجرتها، ذكره القاضي؛ لأن الخراج مؤنة تلزم المالك بسبب تمكّنه من الانتفاع؛ فلا يجوز نقله إلى المستأجر. والحيلة في جوازه أن يُسَمِّي مقدار الخراج، ويضيفه إلى الأجرة -قلت: ولا يمنع أن يؤجره الأرض بما عليها من الخراج إذا كان مقدارًا معلومًا لا جهالة فيه- فيقول: أجرتكها بخراجها تقوم به عني، فلا محذور في ذلك، ولا جهالة، ولا غَرَر، وأي فرق بين أن يقول: آجرتك كل سنة بمئة أو بالمئة التي عليها كل سنة خراجًا؟ فإن قيل: الأجرة تدفع إلى المؤجِّر والخراج إلى السلطان. قيل: بل تدفع الأجرة إلى المؤجر أو إلى مَن أذن له بالدفع إليه، فيصير وكيله في الدفع (¬2). [استئجار الدابة بعلفها] المثال العاشر: لا يصح أن يستأجر الدابة بعَلَفها لأنه مجهول. والحيلة في جوازه أن يسمّي ما يعلم أنها تحتاج إليه من العلف فيجعله أجرة ثم يوكّله في إنفاق ذلك عليها. وهذه الحيلة غير محتاج إليها على أصلنا؛ فإنا نجوِّز أن يستأجر الظِّئرَ (¬3) بطعامها وكسوتها والأجيرَ بطعامه وكسوته، فكذلك إجارة الدابة ¬

_ (¬1) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 6). (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 6). (¬3) "الظئر -[بكسر الظاء وسكون الهمزة]- المرأة ترضع غير ولدها" (د)، وكذا (ط) بدون ما بين المعقوفتين.

[الإجارة مع عدم معرفة المدة]

بعلفها وسقيها (¬1). فإن قيل: عَلَفُ الدابة على مالكها، فإذا شرطه على المستأجر فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فأشبه ما لو شرط في عقد النكاح أن تكون نفقة الزوجة على نفسها. قيل: هذا من أفسد القياس؛ لأن العلف قد جعل في مقابلة الانتفاع فهو نفسه أجرة مغتفرة جهالتها اليسيرة للحاجة، بل الحاجة إلى ذلك أعظم من حاجة استئجار الأجير بطعامه وكسوته؛ إذ يمكن الأجير أن يشتري له بالأجرة، ذلك، فأما الدابة فإن كَّلف ربَّها أن يصحبها ليعلفها شق عليه ذلك فتدعو الحاجة إلى قيام المستأجر عليها، ولا يظن به تفريطه في علفها لحاجته إلى ظهرها، فهو يعلفها لحاجته وإن لم يمكنها مخاصمته (¬2). [الإجارة مع عدم معرفة المدة] المثال الحادي عشر: إذا أراد أن يستأجر دارًا أو حانوتًا، ولا يَدْرِي مدة مقامه، فإن استأجره سنة فقد يحتاج إلى التحول قبلها. فالحيلة أن يستاجر كل شهر بكذا وكذا، فتصح الإجارة وتلزم في الشهر الأول، وتصير جائزة فيما بعده من الشهور، فلكل واحد منهما الفسخ عقيب كل شهر إلى تمام يوم، وهذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: الإجارة فاسدة، وعن أحمد نحوه، والصحيح الأول؛ فإذا خاف المستأجر أن يتحول قبل تمام الشهر الثاني فيلزمه أجرته فالحيلة أن يستأجرها كل أسبوع بكذا، فإن خاف التحول قبل الأسبوع استأجرها كل يوم بكذا، ويصح ويكون حكم اليوم كحكم الشهر. [شراء الوكيل ما وُكِّل فيه لنفسه] المثال الثاني عشر: لو وكله أن يشتري له جارية معينة، فلما رآها الوكيل أعجبته وأراد شراءها لنفسه من غير إثم يدخل عليه ولا غدر بالموكِّل جاز ذلك ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" (8/ 72)، "الإنصاف" (6/ 12)، "المقنع" (2/ 197)، "الشرح الكبير" (6/ 68)، "تنقيح التحقيق" (3/ 71)، "منتهى الإرادات" (2/ 250)،"كشاف القناع" (3/ 551)، "تقرير القواعد" (2/ 56 - بتحقيقي) "الروض المربع" (5/ 299 - 301 - مع حاشية ابن قاسم). وانظر "الإشراف" (3/ 213 مسألة 1060) وتعليقي عليه. (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 7).

لأن شراءه لنفسه عَزْل لنفسه وإخراج لها من الوكالة، والوكيل يملك عزل نفسه في حضور الموكِّل وغيبته، وإذا عزل نفسَه واشترى الجارية لنفسه بماله ملكها، وليس ذلك بيع على بيع أخيه ولا شراء على شراء أخيه (¬1)، إلا أن يكون سيَّدها قد ركن إلى الموكل وعزم على إمضاء البيع له؛ فيكون شراء الوكيل لنفسه حينئذ حرامًا لأنه شراء على شراء أخيه، ولا يقال: "العقد لم يتم والشراء على شرائه هو أن يطلب من البائع فَسْخَ العقد في مدة الخيار ويعقد معه هو" لعدة أوجه: أحدها: أن هذا حمل الحديث على الصورة النادرة، والأكثر خلافها. الثاني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرَن ذلك بخطبته على خطبة أخيه (¬2)، وذلك إنما يكون قبل عقد النكاح. الثالث: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن يَسُومَ على سَوْم أخيه (¬3)، وذلك أيضًا قبل العقد. الرابع: أن المعنى الذي حَرَّم الشارع لأجله ذلك لا يختص بحالة الخيار، بل هو قائم بعد الركون والتراضي وإن لم يعقداه كما هو قائم بعد العقد. الخامس: إن هذا تخصيص لعموم الحديث بلا موجب، فيكون فاسدًا، فإن شراءه على شراء أخيه متناول لحال الشراء وما بعدهُ، والذي غَرَّ من خَصَّه بحالة الخيار ظنه أن هذا اللفظ إنما يصدق على من اشترى بعد شراء أخيه، وليس كذلك، بل اللفظ صادق على القسمين. السادس: أنه لو اختص اللفظ بما بعد الشراء لوجب تعديته بتعدية علته إلى حالة السَّوْم. أما (¬4) على أصل أبي حنيفة فلا يتأتَّى ذلك؛ لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه في غيبة الموكل، فلو اشتراها لنفسه لكان عزلًا لنفسه في غيبة موكله، وهو لا يملكه (¬5). قالوا: فالحيلة في شرائها لنفسه أن يشتريها بغير جنس الثمن الذي وكِّل أن يشتري به، وحينئذ فيملكها (¬6)؛ لأن هذا العقد غير الذي وُكل فيه، فهو بمنزلة ما لو وكله في شراء شاة فاشترى فرسًا؛ فإن العقد يكون للوكيل دون الموكِّل؛ فإن أراد الموكل الاحتراز من هذه الحيلة وأنْ لا يمكنَ الوكيلَ من شرائها لنفسه ¬

_ (¬1) في المطبوع: "وليس في ذلك بيع على بيع أخيه أو شراء على شراء أخيه". (¬2) الحديث المشار إليه صحيح، وقد سبق تخريجه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ك) و (ق): "وأما". (¬5) انظر: "بدائع الصنائع" (6/ 37 - 39). (¬6) في (ق): "يملكها".

فليشهد عليه أنه متى اشتراها لنفسه فهي حرة؛ فإن وكل الوكيل من يشتريها له انبنى ذلك على أصلين: أحدهما: أن الوكيل هل له أن يوكل أم لا؟ والثاني: أن مَنْ حلف لا يفعل شيئًا؛ فوكَّل في فعله هل يحنث أم لا؟ وفي الأصلين نزاع معروف، فإن وكله رجل في بيع جارية ووكله آخر في شرائها، وأراد هو شراءها لنفسه فالحكم على ما تقدم، غير أن هاهنا أصلًا، آخر، وهو أن الوكيل في بيع الشيء هل يملك بيعه لنفسه؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد (¬1): إحداهما: لا يملك ذلك سَدًّا للذريعة؛ لأنه لا يَستقصي في الثمن. والثانية: يجوز إذا زاد على ثمنها في النداء لتزول التهمة؛ فعلى هذه الرواية يفعل ذلك من غير [حاجة إلى] (¬2) حيلة، والثانية لا يجوز فعل هذا، وهل يجوز (¬3) له التحيل على ذلك؟ فقيل: له أن يتحيل عليه بأن يدفع إلى غيره دراهم ويقول له: اشْتَرِها لنفسك، ثم يتملَّكها منه، والذي تقتضيه قواعد المذهب أن هذا لا يجوز؛ لأنه تحيل على التوصل إلى فعل محرم، ولأن ذلك ذريعة إلى عدم استقصائه واحتياطه في البيع، بل يسامح في ذلك لعلمه أنَّها تصيرُ إليه، وأنه هو الذي يزن الثمن، ولأنه يعرض نفسه للتهمة، ولأن الناس يرون ذلك نوع غَدْر ومكر؛ فمحاسن الشريعة تأبى الجواز. فإن قيل: فلو وكله أحدهما في بيعها والآخر في شرائها ولم يُرد أن يشتريها لنفسه؛ فهل يجوز ذلك؟ قيل: هذا ينبني على شراء الوكيل في البيع لنفسه؛ فإن أجزناه هناك جاز هاهنا بطريق الأولى، وإن منعناه هناك، فقال القاضي: لا يجوز أيضًا هاهنا؛ لتضاد الغرضين؛ لأن وكيل البيع يستقصي في زيادة الثمن، ووكيل الشراء يستقصي في نقصانه؛ فيتضادان، ولم يذكر غير ذلك، ويتخرَّج الجواز -وإن منعنا الوكيل من الشراء لنفسه من نص أحمد- على جواز كون الوكيل في النكاح وكيلًا من الطرفين، وكونه أيضًا وليّا من الطرفين، وأن يَلِي بذلك على إيجاب العقد وقَبُوله، ولا ريب أن التهمة التي تلحقه في الشِّرَاء لنفسه أظهر من التهمة التي تلحقه في الشراء لموكله. ¬

_ (¬1) انظر: "المغني" (5/ 86). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬3) في (ك): "هل يجوز"، وفي (ق): "وهل".

[حيلة في التخلص من طلاق امرأته]

والحيلة الصحيحة. في ذلك كله أن يبيعها بيعًا بتاتًا ظاهرًا لأجنبي يثق به، ثم يشتريها منه شراء مستقلًا؛ فهذا لا بأس به، واللَّه أعلم. [حيلة في التخلص من طلاق امرأته] المثال الثالث عشر: إذا قال الرجل لامرأته: "الطلاق يلزمني لا تقولين لي شيئًا إلا قلتُ لك مثله"، فقالت له: أنت طالق ثلاثًا. فالحيلة في التخلّص من أن يقول لها مثل ذلك أن يقول لها: قلتِ لي: أنتَ طالق ثلاثًا. قال أصحاب الشافعي: وفي هذه الحيلة نظر لا يخفى؛ لأنه لم يقل لها مثل ما قالت له، وإنما حكَى كلامَها من غير أن يقول لها نظيره. ولو أن رجلًا سبَّ رجلًا فقال له المسبوب: "أنت قلت لي: كذا وكذا" لم يكن قد ردّ عليه عند أحد، [لا] (¬1) لغةً ولا عرفًا؛ فهذه الحيلة ليست بشيء. وقالت طائفة أخرى: الحيلة أن يقول لها: "أنْتَ طالق ثلاثًا" -بفتح التاء- فلا تطلق، وهذا نظير ما قالت له سواء، وهذه وإن كانت أقْرَبَ من الأولى؛ فإن المفهوم المتعارف لغةً وعقلًا وعُرْفًا من الرد على المرأة أن يخاطبها خطاب المؤنث؛ فإذا خاطبها خطاب المذكر لم يكن ذلك ردًا ولا جوابًا، ولو فرض أنه ردّ لم يمنع وقوع الطلاق بالمُوَاجهة وإن فتح التاء، كأنه قال: [أيها] (¬2) الشخص أو الإنسان. وقالت طائفة أخرى: الحيلة في ذلك أن يقول: أنْتِ طالق ثلاثًا إن شاء اللَّه، أو إن كلمتِ السلطان، أو إن سافرت، ونحو ذلك؛ فيكون قد قال لها نظير ما قالت، ولا يضر زيادة الشرط، وهذه الحيلة أقرب من التي قبلها، ولكن في كون المتكلم بها رادًا أو مجيبًا نظر لا يخفى؛ لأن الشرط وإن تضمن زيادة في الكلام لكنه يخرجه عن كونه نظيرًا لكلامها، ومِثْلًا له، وهو إنما حلف أن يقول لها مثل ما قالت له، والجملة الشرطية ليست مثل الجملة الخبرية، بل الشرط يدخل على الكلام التام فيصيّره ناقصًا يحتاج إلى الجواب، ويدخل على الخبر فيقلبه إنْشَاءً، ويغير صورة الجملة الخبرية ومعناها، ولو قال رجل لغيره: "لعنك اللَّه"، فقال له: "لعنك اللَّه إن بَدَّلْتَ دينك أو ارتددت عن الإسلام" لم يكن سابًا له، ولو قال له: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط في (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط في (ك)، وفي (ق): "أيتها".

[الإحرام وقد ضاق الوقت]

"يا زان (¬1) " فقال: "بل أنت زانٍ إن وطئت فرجًا حرامًا" لم يكن الثاني قاذفًا [له] (¬2). ولو بذلَتْ له مالًا على أن يطلقها، فقال: أنتِ طالق إن كلَّمتِ السلطان، لم يستحق المال، ولم يكن مُطَلقًا. وقالت طائفة أخرى: لا حاجة إلى شيء من ذلك، والحالف لم تدخل هذه الصورة في عموم كلامه، وإن دخلت فهي من المخصوص بالعرف والعادة والعقل؛ فإنه لم يرد هذه الصورة قطعًا، ولا خطرت بباله، ولا تناولها لفظه؛ فإنه إنما تناول لفظه القول الذي يصح أن يُقال له، وقولُها: "أنْتَ طالق ثلاثًا" ليس من القول الذي يصح أن يواجَهَ به؛ فهو لغو محضٌ وباطل، وهو بمنزلة قوله (¬3): "أنت امرأتي" وبمنزلة قول الأمة لسيدها: "أنتَ أمتي وجاريتي" ونحو هذا من الكلام اللغو الذي لم يدخل تحت لفظ الحالف ولا إرادته، أما عدم دخوله تحت إرادته فلا إشكال فيه، وأما عدم تناول لفظه له؛ فإن اللفظ العام إنما يكون عامًا فيما يصلح له وفيما سيق لأجله. وهذا أقوى من جميع ما تقدم، وغايته تخصيص العام بالعُرْف والعادة، وهذا أقرب لغةً [وعرفًا] (¬4) وعقلًا وشرعًا من جعل ما تقدم مطابقًا ومماثلًا لكلامها مثله، [فتأمله] (¬5)، واللَّه الموفق. [الإحرام وقد ضاق الوقت] المثال الرابع عشر: إذا خاف الرجل لضيق الوقت أن يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات؛ فالحيلة أن يحرم إحرامًا مطلقًا ولا يعيّنه؛ فإن اتسع له الوقت جعله حجًا أو قِرانًا أو تمتعًا، وإن ضاق عليه الوقت جعله عمرة، ولا يلزمه غيرها. [من جاوز الميقات غير محرم] المثال الخامس عشر: إذا جاوز الميقات غير محرم لزمه الإحرام ودم لمجاوزته للميقات غير محرم. فالحيلة في سقوط الدم عنه أن لا يحرم من ¬

_ (¬1) في (ق): "يا زاني". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في المطبوع: "قولها"! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

[حيلة للبر في يمين]

موضعه، بل يرجع إلى الميقات فيحرم منه؛ فإن أحرم من موضعه لزمه الدم، وإلا (¬1)؛ فيسقط برجوعه إلى الميقات. [حيلة للبر في يمين] المثال السادس عشر: إذا سُرق له متاع، فقال لامرأته: إن لم تخبريني مَنْ أخذه فأنت طالق ثلاثًا، والمرأة لا تعلم مَنْ أخذه، فالحيلة في التخلص من هذه اليمين أن تذكر الأشخاص التي لا يخرج المأخوذ عنهم [وهذا لا يتأتى إلا فيما إذا علم أن السارق أحدهم واشتبه وجهلت عينه] (¬2)، ثم تفرد كل واحد واحد، وتقول: هو أخذه؛ فإنها تكون مُخْبرة عن الآخذ وعن غيره فيبرّ في يمينه ولا تطلق. [ادعاء المرأة نفقة ماضية] المثال السابع عشر: إذا ادَّعَتِ المرأة النفقة والكسوة لمدة ماضية، فقد اختلف في قبول دعواها، فمالك وأبو حنيفة (¬3) [لا يقبلان (¬4) دعواها، ثم اختلفا في مأخذ الرد؛ فأبو حنيفة] (¬5) يسقطها بمضي الزمان، كما يقوله منازعوه في نفقة القريب، ومالك لا يسمع الدعوى التي يكذّبها العرف والعادة، ولا يُحلف [عنده] (¬6) فيها، ولا يُقبل فيها بينة (¬7)، كما لو كان رجل حائزًا دارًا متصرفًا (¬8) فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهَدْم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ومع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقًا، ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث، ونحو ذلك، ثم جاء بعد تلك المدة فادّعاها لنفسه، فدعواه غير مسموعة فضلًا عن إقامة بينته (¬9). قالوا: وكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناسُ والجيرانُ داخلًا ببيته بالطعام والفاكهة واللحم والخبز، ثم ادعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها [في] (¬10) هذه المدة؛ فدعواها غير مسموعة، فضلًا عن أن ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "ولا". (¬2) ما بين المعقوفتين من هامش (ق). (¬3) في هامش (ق): "لعله أبو حنيفة وحده". (¬4) في (ك): "يقبلون". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬7) انظر: "حلية العلماء" (7/ 408)، "المهذب" (2/ 165)، "المغني" (8/ 210). (¬8) في (ق): "يتصرف". (¬9) في (ك): "بينة". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

يحلف لها، أو يسمع لها بينة. قالوا: وكل دعوى ينفيها (¬1) العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة. وهذا المذهب هو الذي نَدينُ اللَّه به، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه، وكيف يليق بالشريعة أن تسمع مثلَ هذه الدعوى التي قد علم اللَّه وملائكته والناس أنها كذب وزور؟ وكيف تَدَّعي المرأة أنها أقامت مع الزوج ستين سنة أو أكثر لم ينفق عليها فيها يومًا واحدًا ولا كساها فيها ثوبًا، ويقبل قولها عليه، ويُلزم بذلك كله؟ ويقال: الأصل معها! وكيف يعتمد على أصل يكذّبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة إلى حد القطع؟ والمسائل التي يقدَّمُ فيها الظاهر القوي على الأصل أكثر من أن تحصى (¬2)، ومثل هذا المذهب في القوة مذهب أبي حنيفة، وهو سقوطها بمضي الزمان؛ فإن البيّنة قد قامت بدونها؛ فهي كحق المبيت والوطء. ولا يعرف أحد من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أنهم أئمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم- قضى لامرأة بنفقة ماضية، أو استحلّ امرأة منها، ولا أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك امرأة واحدة منهن، ولا قال لها: ما مضى من النفقة حق لك عند الزوج؛ [فإنْ شئتِ فطالبيهِ (¬3)، وإنْ شئتِ حللتيه (¬4)، وقد] (¬5) كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يتعذَّر عليه نفقة أهله أيامًا حتى سألنه إياها (¬6)، ولم يقل لهن (¬7): هي باقية في ذمتي حتى يوسِّع اللَّه وأقضيكنَّ، ولما وَّسع اللَّه عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك، ولا قال لها: هذا عِوَض عمَّا فاتك من الإنفاق، ولا سمع الصحابة رضي اللَّه عنهم لهذه المسألة خبرًا؛ وقول عمر -رضي اللَّه عنه- للغياب: "إما أن تطلِّقوا وإما أن تَبْعثوا بنفقة ما مضى" (¬8) في ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "يلغيها". (¬2) انظر كثيرًا منها في "قواعد ابن رجب" (1/ 117 - بتحقيقي). (¬3) في (ك): "تطالبيه". (¬4) في (ك): "تحالليه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) رواه مسلم في "صحيحه" (1478) في (الطلاق): باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقًا إلا بالنية، من حديث أبي الزبير عن جابر. (¬7) في (ك): "ليس". (¬8) رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 65)، ومن طريقه البيهقي (7/ 469) عن مسلم بن خالد عن عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم فأمرهم أن يأخذوهم بأن ينفقوا أو يطلّقوا فإنْ طلّقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا. ورجاله ثقات غير مسلم بن خالد، وهو الزنجي أحد الضعفاء، ومع هذا فقد جوّده ابن كثير في "مسند الفاروق" (1/ 438)!! =

ثبوته نظر، وإن (¬1) قال ابنُ المنذر: "ثبت عن عمر" (¬2) فإنَّ في إسناده ما يمنع ثبوته. ولو قدر صحته فهو حُجَّة عليهم، ودليل على أنهم إذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى. فإن قيل: وحجة عليكم في إلزامه لهم بها، وأنتم لا تقولون بذلك. قيل: بل نقول به، وإن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك، وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دَيْنًا في ذمته أبدًا، وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة. والمقصود أن على هذين المذهبين لا تُسمع [هذه] (¬3) الدعوى، ويسمعها الشافعي وأحمد (¬4) رحمهما اللَّه بناءً على قاعدة الدعاوى، وأن الحق قد ثبت ومستحقه ينكر قبضه فلا يقبل قول الدافع عليه إلا ببينة؛ فعلى قولهما يحتاج الزوج إلى طريق تخلّصه من هذه الدعوى، ولا ينفعه دعوى النشوز، فإن القول فيه قول المرأة، ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للإنفاق لتمكّن المرأة من إقامة البينة عليه، فله حيلتان: ¬

_ = ولكنه توبع، فقد رواه عبد الرزاق (12346) عن عبيد اللَّه بن عمر به، وهذه متابعة قوية من عبد الرزاق لكن أخشى أن يكون قد وَهِمَ. فقد رواه ابن أبي شيبة (4/ 149) عن عبد اللَّه بن نمير عن عبيد اللَّه بن عمر عن نافع قال: كتب عمر،. . . فأسقط ابن عمر من الإسناد. وعبد اللَّه بن نمير من الثقات. ورواه أيضًا أيوب عن نافع قال: كتب عمر. أخرجه عبد الرزاق (12347) عن معمر عنه، وهذا دليل آخر على وهم عبد الرزاق، أو أن يكون في الإسناد زيادة من الناسخ، واللَّه أعلم. ثم وجدت ابن حزم نقله في "المحلى" (10/ 93) عن عبد الرزاق كما نقلته آنفًا بإثبات (ابن عمر) (¬1) في الأصول: "فإن". (¬2) "الإشراف على مذاهب أهل العلم" (1/ 123 - ط المكتبة التجارية). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) نسبه ابن المنذر في "الإشراف" (1/ 123) إلى الحسن البصري والشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق، وأيّده ونصره بقوله: "نفقة الزوجة واجبة بالكتاب والسنة والاتفاق، ولا يزول ما وجب بالحجج التي ذكرناها إلا بسنة أو اتفاق، ولا نعلم شيئًا يدل على سقوط نفقة الزوجة، إلا الناشز الممتنعة، فنفقة الزوجة واجبة على الزوج غائبًا كان الزوج أو حاضرًا".

[شراء معيب ثم تعيبه عند المشتري]

إحداهما: أن يقيم البيِّنة على نفقته وكسوته لتلك المدة، وللبينة أن تشهد على ذلك بناء على ما علمته وتحققته بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع؛ فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه، وليس على الحاكم أن يسأل البينة عن مستند التحمل، ولا يجب على الشاهد أن يبين مستنده في الشهادة. والحيلة (¬1) الثانية: أن ينكر التمكين الموجب لثبوت المُدَّعى به في ذمته، ويكون صادقًا في هذا الإنكار؛ فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة إذا كان قد أداه إليها، والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له؛ فهو صادق في إنكاره. [شراء معيب ثم تعيّبه عند المشتري] المثال الثامن عشر: إذا اشترى رِبَوِيًا بمثله فتعيَّب عنده ثم وجد به عيبًا، فإنه لا يمكنه رده للعيب الحادث، ولا يمكنه أخذ الأرْش لدخول التفاضل فالحيلة في استدراك ظُلَامته أن يدفع إلى البائع ربويًا معيبًا (¬2) بنظير العيب الذي وجده (¬3) بالمبيع ثم يسترجع منه الذي دفعه إليه فإن استهلكه استرد منه نظيره، وهذه الحيلة على أصل الشافعي، وأما على أصل أبي حنيفة فالحيلة في الاستدراك أن يأخذ [عوض العيب] (¬4) من غير جنسه، بناءً على أصله في تجويز مسألة مُدِّ عَجْوة، وأما على أصل الإمام أحمد فإن كان البائع عَلِم بالعيب فكتمه لم يمنع العيبُ الحادثُ عند المشتري ردّه عليه، بل لو تلَف جميعُه رجع عليه بالثمن عنده. وإن لم يكن من البائع تدليس فإنه يرد عليه المبيع ومعه أرش العيب الحادث عنده، ويسترد العوض، وليس في ذلك محذور، فإنه يبطل العقد؛ فالزيادة ليست زيادة في عوض، فلا يكون رِبًا (¬5). [إبراء الغريم في مرض الموت] المثال التاسع عشر: إذا أبرأ الغريم من دَيْنه في مرض موته ودينه يخرج من الثلث وهو غير وارث فخاف المبرأ (¬6) أن تقول الورثة: "لم يخلّف مالًا سوى ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الحيلة" دون واو. (¬2) في (ن): "معينًا". (¬3) في (ك): "وجد". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "عوضه". (¬5) انظر لمسألة حدوث عيب عند المشتري ثم ظهور عيب كان عند البائع: "الإشراف" (2/ 482 مسألة 802 - بتحقيقي) وتعليقي عليه. (¬6) في (ن) و (ق): "الميت".

[حيلة لنفاذ عتق عبده مع خوفه جحد الورثة]

الدين" ويطالبون (¬1) بثلثيه، فالحيلة أن يخرج المريض إلى الغريم مالًا بقدر دَيْنه فيهبه إياه، ثم يستوفيه منه من دينه، فإن عجز عن ذلك ولم تغب عنه الورثة فالحيلة أن يقر بأنه شريكه بقدر الدَّيْن الذي عليه. فإن عَجَزَ عن ذلك فالحيلة أن يقر بأنه كان قَبَضَه منه أو أبرأه منه في صحته، فإن خاف أن يتعذر عليه مطالبته به إذا توفي (¬2) فالحيلة أن يُشهد عليه أنه إن ادّعى عليه أو أي وقت ادعى عليه أو متى ادعى عليه بكذا وكذا فهو صادق في دعواه، فإن (¬3) لم يدّع عليه بذلك لم يلزمه، وليس لوارثه بعده أن يدعي به، فإنه إنما صدق الموروث إن ادعى، ولم تحصل دعواه، وإنما ينتقل إلى الورثة ما ادعى به الموروث وصدقه المُدَّعى عليه (¬4)، ولم يتحقق ذلك. [حيلة لنفاذ عتق عبده مع خوفه جحد الورثة] المثال العشرون: إذا أراد أن يعتق عبده وخاف أن يَجْحَدَ الورثة المال ويُرِقّوا ثلثيه (¬5)، فالحيلة أن يبيعه لأجنبي، ويقبض ثمنه منه، ثم يهب الثمن للمشتري، ويسأله إعتاق العبد، ولا ينفعه أن يأخذ إقرار الورثة أن العبد يخرج من الثلث؛ لأن الثلث إنما يُعتبر عند الموت لا قبله، فإن لم يرد تنجيز عتقه وأحَبَّ تدبيره وخاف عليه من ذلك فالحيلة أن يملكه لرجل يثق به، ويعلّق المشتري عتقه بموت السيد المملك، فلا يجد الورثة إليه سبيلًا (¬6). [حيلة لمن يريد إثبات دين على الموروث] المثال الحادي والعشرون: إذا كان لأحد الورثة دين على الموروث وأحَبَّ أن يوفيه إياه ولا بيّنة له به، فإن أقر له به أبطلنا إقراره، وإن أعطاه عوضه كان تبرعًا في الظاهر فلباقي الورثة رده، فالحيلة في (¬7) خلاصه من دَيْنِه أن يقبض الوارث ماله عليه [من الدين] (¬8) في السر، ثم يبيعه سلعة أو دارًا أو عبدًا بذلك الثمن، فيسترد منه المال، ويدفع إليه تلك السلعة التي هي بقدر دينه. فإن قيل: وأي حاجة له إلى ذلك إذا أمكنه أن يعطيه ما له عليه في السر؟ ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "ويطالبونه". (¬2) في (ن) و (ك) و (ق) "عوفي". (¬3) في (ك): "فما". (¬4) في (ن) و (ك): "وصدقه عليه المدعي". (¬5) في (ن): "ثلثه". (¬6) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 83). (¬7) في (ق): "من". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) فقط.

[حيلة لمن خاف انفساخ نكاح بموته]

قيل: بل في ذلك خلاص الوارث من دعوى بقية الورثة واتهامهم [له] (¬1) وشكواهم إياه أنه استولى على مال موروثنا أو صار إليه بغير الحق (¬2)، فإذا لم يخرج المال الذي عاينوه عند الموروث عن التركة سَلِمَ من تطرق التهمة والأذى والشكوى. [حيلة لمن خاف انفساخ نكاح بموته] المثال الثاني والعشرون (¬3): إذا زوج عبده من ابنته صح، فإن خاف من انفساخ النكاح بموته حيث تملَّكه أو بعضه، فالحيلة في إبقاء (¬4) النكاح أن يبيعه من أجنبي ويقبض ثمنه أو يهبه إياه، فإن مات بعد ذلك هو أو الأجنبي لم ينفسخ النكاح. المثال الثالث والعشرون: إذا كان مولاه (¬5) سفيهًا إن زوَّجه طلَّق وإن سَرَّاه أعتق وإن أهمله فسق، فالحيلة أن يشتري جارية من مال نفسه ويزوجه إياها فإن أعتقها لم ينفذ عتقه وإن طلقها رجعت إلى سيدها فلا يطالبه بمهرها. [تزويج عبده جاريته بعد أن حلف لا يزوجه إياها] المثال الرابع والعشرون: إذا طَلب عبده منه أن يزوجه جاريته فحلف بالطلاق لا يزوجه إياها، فالحيلة على جواز تزويجه بها ولا يحنث أن يبيعهما جميعًا أو يملّكهما لمن يُثق به، ثم يزوّجهما المشتري، فإذا فعل ذلك استردهما ولا يحنث؛ لأنه لم يزوج أحدهما الآخر، وإنما فعل ذلك غيره، قال (¬6) القاضي أبو يعلى: وهذا غير ممتنع على أصلنا؛ لأن الصفة قد وُجِدتْ في حال زوال ملكه، فلا يتعلّق به حنثٌ ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد أن ملكهما؛ لأنّ التّزوبجَ عبارة عن العقد وقد تَقَضَّي، وإنما بقي حكمه فلم يحنث باستدامته، قال: ويفارق هذا إذا حلف على عبده لا أدخل هذه الدار فباعه ودخلها ثم ملكه ودخلها بعد ذلك فإنه يحنث لأن الدخول عبارة عن الكون، وذلك موجود بعد الملك كما كان ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك) و (ق): "وصار إليه بغير حق". (¬3) في (ق): "المثال الحادي والعشرون" وفي هامشها: "غلط"، استمر الترقيم خطأ حتى المثال السابع والعشرون. (¬4) في (ك) و (ق): "بقاء". (¬5) في (د)، و (ط) و (ك) و (ق): "مَوْليه". (¬6) في المطبوع: "وقال".

[الشركة بالعروض والفلوس]

موجودًا في الملك الأول، قال: وقد علَّق أحمد القول في رواية مهنَّأ في رجل قال لامرأته: "أنت طالق إن رهنت كذا [وكذا"، فإذا هي] (¬1) قد رهنته قبل اليمين، فقال: أخاف أن يكون [قد] (¬2) حنث، قال: وهذا محمول على أنه قال: "إن كنت رهنتيه" فيحنث لأنه حلف على ماض. ولا يخفى ما في هذا الحمل من مخالفة ظاهر كلام السائل وكلام الإمام أحمد؛ أما كلام السائل فظاهر في أنه إنما أراد رهنًا تنشئه بعد اليمين فإن أداة الشرط تخلّص الفعل الماضي للاستقبال، فهذا الفعل مستقبل بوضع اللغة والعرف والاستعمال. وأما كلام الإمام أحمد فإنه لو فهم من السائل ما حمله عليه القاضي لجزم بالحنث، ولم يقل: "أخاف" فهو إنما يطلق هذه اللفظة فيما عنده فيه نوع توقف. واستقراء أجوبته يدل على ذلك، وإنما وجه هذا أنه جعل استدامة الرهن رهنًا كاستدامة اللبس والركوب والسكنى والجماع والأكل والشرب ونحو ذلك. ولما كان لها شبه بهذا وشبه باستدامة النكاح والطيب ونحوهما لم يجزم بالحنث، بل قال: أخاف أن يكون قد حنث، واللَّه أعلم. [الشركة بالعروض والفلوس] المثال الخامس والعشرون: هل تصحُّ الشركة بالعروض والفلوس -إنْ قلنا: هي عروض- والنقود المغشوشة؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد (¬3)، فإن جوَّزنا الشركة بها لم يحتج إلى حيلة، بل يكون رأس المال قيمتها وقت العقد، وإن لم نجوز الشركة بها (¬4) فالحيلة على أن يصيرا (¬5) شريكين فيها أن يبيع كلُّ واحدٍ منهما صاحبه نصف عرضه بنصف عرضه مشاعًا، فيصير كل منهما شريكًا لصاحبه في عرضه، ويصير عرض كل واحد منهما بينهما نصفين، ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، هذا إذا كان قيمة العرضين سواء، فإذا كانا متفاوتين -بأن يساوي أحدهما مئة والآخر مئتين- فالحيلة أن يبيع صاحب العرض ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ن) و (ق): "فوجدها". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) انظر: "المغني" (5/ 125) و"حلية العلماء" (5/ 93)، و"مختصر اختلاف العلماء" (4/ 5 رقم 1664)، و"الشركات" (1/ 108، 120) للخياط و"الشركات" (36، 38) للخفيف. وانظر: "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (3/ 66 - 67 رقم 925) وتعليقي عليه. (¬4) سقط من (ق). (¬5) في (ق): "يكونا".

[الصلح عن الدين ببعضه]

الأدنى ثلثي عرضه بثلث عرض صاحبه كما تقدم، فيكون العرضان بينهما أثلاثًا، والربح على قدر الملكين عند الشافعي (¬1) وعند أحمد (¬2) على ما شَرَطَاه، ولا تمتنع هذه الحيلة على أصلنا فإنها لا تبطل حقًا، ولا تثبت باطلًا، ولا توقع في محرَّم. [الصلح عن الدين ببعضه] المثال السادس والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم فأراد أن يصالحه على بعضها فلها ثمان صور، فإنه إما يكون مقرًا أو منكرًا، وعلى التقديرين فإما أن تكون حالّةً أو مؤجلة، ثم الحلول والتأجيل إما أن يقع في المُصَالحَ عنه أو في المصالح به، وإنما تتبين أحكام هذه المسائل بذكر صورها وأصولها (¬3): الصورة الأولى: أن يصالحه عن (¬4) ألف حالّةٍ قد أقرَّ بها على خمس مئة حالَّة؛ فهذا صُلْح على الإقرار، وهو صحيح على أحد القولين، باطل على القول الآخر، فإن الشافعي لا يصحح الصلح إلا على الإقرار (¬5)، والخرقي ومن وافقه من أصحاب الإمام أحمد لا يصححه إلا على الإنكار (¬6)، وابن أبي موسى وغيره يصححونه على الإقرار والإنكار (¬7)، وهو ظاهر النص، وهو الصحيح، فالمبطلون له مع الإقرار يقولون: هو هَضْم للحق؛ لأنه إذا أقر له فقد لزمه ما أقر به، فإذا بَذَل (¬8) له دونه فقد هَضَمه حقه، بخلاف المنكر فإنه يقول: إنما افتديت يميني والدعوى عليَّ بما بذلته، والآخذ يقول: أخذتُ بعضَ حقي، والمصححون له يقولون: إنما يمكن الصلح مع الإقرار لثبوت الحق به، فتمكن المصالحة على بعضه، وأما مع الإنكار فأي شيء ثبت حتى يصالح عليه؟ فإن قلتم: "صالحه عن الدعوى واليمين وتوابعهما، فإن هذا لا تجوز المعاوضة عليه، ولا هو مما يقابل بالأعواض، فهذا أصل، والصواب جواز الأمرين للنص والقياس والمصلحة، ¬

_ (¬1) انظر: "مختصر المزني" (109)، "الإقناع" (107) و"حاشية الشرقاوي على التحرير" (2/ 11)، و"نهاية المحتاج" (5/ 6 - 7). (¬2) انظر: "المبدع" (4/ 279) و"كشاف القناع" (3/ 379). (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 26). (¬4) في (ك): "من". (¬5) انظر: "كفاية الأخيار" (1/ 167)، و"روضة الطالبين" (4/ 193)، و"أسنى المطالب" (2/ 215)، و"نهاية المحتاج" (4/ 372). (¬6) انظر: "المبدع" (4/ 279)، و"كشاف القناع" (3/ 379). (¬7) انظر: "الإرشاد" (ص 191). (¬8) في المطبوع "بدل" بالدال المهملة!

فإن اللَّه تعالى أمرنا (¬1) بالوفاء بالعقود ومراعاة العهود، وأخبر النبي (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أن المسلمين على شروطهم (¬3)، وأخبر أنَّ "الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا" (¬4)، وقول مَنْ منع الصلح على الإقرار [به] (¬5) "إنه هَضْم ¬

_ (¬1) في (ك): "أمر". (¬2) في (ن): "ومراعاة بالعقود، وأمر النبي"! (¬3) مضى لفظه وتخريجه. (¬4) رواه أبو داود (3594) في (الأقضية): باب في الصلح، وابن حبان (5091)، والحاكم (2/ 49)، والبيهقي (6/ 65) من طريق سليمان بن بلال عن كثير بن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة مرفوعًا به بتمامه. ورواه أحمد (2/ 366)، وابن الجاورد (638)، وابن عدي (6/ 2088)، والدارقطني (3/ 27)، والبيهقي (6/ 63 و 64)، من طريق كثير بن زيد عن الوليد به، بأوّله فقط: "الصلح جائز بين المسلمين". ولم يذكر الحاكم فيه شيئًا، وقال الذهبي: لم يصححه، وكثير ضعَّفه النسائي، ومَشَّاه غيره. أقول: كثير بن زيد هذا قال فيه أحمد: ما أرى به بأسًا ونحوه قال ابن معين، وقال ابن معين أيضًا: صالح، وقال: ليس بذاك، وقال ابن عمار: ثقة، وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط وإلى الضعف ما هو، وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين. . . ولينه أبو حاتم، وقال ابن عدي: وأرجو أنه لا بأس به. وهذه عبارة فضفاضة لابن عدي، ففي القلب من حديث هذا الرجل شيء. وروى أوله الدارقطني (3/ 27)، والحاكم (2/ 50) من طريق عبد اللَّه بن الحسين المصيصي عن عفان عن حماد بن زيد عن ثابت عن أبي رافع عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، وقال: وهو معروف بعبد اللَّه بن الحسين المصيصي وهو ثقة، وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: قال ابن حبان: يسرق الحديث. وذكر ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 44) لحديث أبي هريرة طريقًا آخر عند أحمد، وهو من حديث سليمان بن بلال عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، وانتقل نظره من سند حديث الباب إلى سند الحديث قبله، فتنبه لذاك. وفي الباب حديث كئير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعًا. رواه الترمذي (1352)، وابن ماجه (2353) في (الأحكام): باب الصلح، وابن عدي (6/ 2081)، والدارقطني (3/ 27)، والحاكم (4/ 101)، والبيهقي (6/ 65)، وكثير هذا وإن قال الترمذي في حديثه: "حسن صحيح" إلا أن المشهور عند المحدثين ضعفه، بل قال الشافعي: من أركان الكذب، فلعل هذا الشاهد يدل على أن للحديث أصلًا. (تنبيه): عزا المجد في "المنتقى" (5/ 254 مع "النيل") حديث عمرو هذا إلى أبي داود، وهو ليس فيه. وذكر الشوكاني شواهد أخرى من حديث أنس وعائشة ومرسل عطاء، وليس فيها ذكر للصلح. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ق).

للحق" ليس كذلك، وإنما الهَضْم أن يقول: لا أقر لك حتى تهَبَ لي كذا وتَضَعَ عني كذا وأما إذا أقرَّ له ثم صالحه ببعض ما أقر به فأي هضم هناك؟ وقول مَن منع الصلح على الإنكار: "إنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه" فجوابه أنه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البينة كما تفتدي المرأة نفسَها من الزوج بما (¬1) تبذله له، وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع، بل حكم (¬2) الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك. فهاتان (¬3) صورتان: صُلحٌ عن الدَّيْن الحال [وصلح] (¬4) ببعضه حالًّا مع الإقرار ومع الإنكار. الصورة الثالثة (¬5): أن يصالح عنه ببعضه مؤجلًا مع الإقرار والإنكار، فهاتان صورتان أيضًا، فإن كان مع الإنكار ثبت التأجيل، ولم تكن له المطالبة به قبل الأجل؛ لأنه لم يثبت له قبله دينٌ [حالّ] (¬6) فيقال: لا يقبل التأجيل، وإن كان مع الإقرار ففيه ثلاثة أقوال للعلماء، وهي في مذهب الإمام أحمد رحمه اللَّه (¬7): أحدها: لا يصح الإسقاط ولا التأجيل، بناءً على أن الصلح لا يصح مع الإقرار وعلى أن الحال لا يتأجل. والثاني: أنه يصح الإسقاط دون التأجيل، بناءً على صحة الصلح مع الإقرار. والثالث: أنه يصح الإسقاط والتأجيل، وهو الصواب، بناءً على تأجيل القَرْض والعارية، وهو مذهب أهل المدينة، واختيار شيخنا (¬8). وإن كان الدَّين مؤجلًا فتارة يصالحه على بعضه مؤجَّلًا مع الإقرار والإنكار (¬9)، فحكمه ما تقدم، وتارة يصالحه ببعضه حالًا مع الإقرار والإنكار، فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال أيضًا: ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "بمال". (¬2) في (ك) و (ق): "بحكمة". (¬3) في (ق): "وهاتان". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ن) و (ك) و (ق). (¬5) في (ك): "الثانية". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬7) "المغني" (5/ 9 - مع "الشرح الكبير")، "شرح الزركشي" (4/ 104)، "الروض المربع" (2/ 283)، "الإفصاح" (1/ 378)، "منتهى الإرادات" (2/ 263)، "المبدع" (4/ 285)، "كشاف القناع" (3/ 385). (¬8) انظر: "الاختيارات الفقهية" (ص 134)، "الجامع للاختيارات الفقهية" (3/ 1167)، "مجموع فتاوى ابن تيمية" (30/ 72). (¬9) في (ك): "والإمكان".

أحدها: أنه (¬1) لا يصح مطلقًا، وهو المشهور عن مالك (¬2)؛ لأنه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالًا، وهو عين الربا، وفي الإنكار المُدَّعي يقول: هذه المئة الحالة عوض عن مئتين مؤجلة، وذلك لا يجوز، وهذا قول ابن عمر (¬3). [والقول الثاني: أنه يجوز] (¬4)، وهو قول ابن عباس (¬5)، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى (¬6) وغيره، واختاره شيخنا (¬7)؛ لأن هذا عكس الربا، فإن (¬8) الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، [وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل] (¬9)، [فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل] (¬10)، فانتفع (¬11) به كل واحد منهما، ¬

_ (¬1) سقط من (ك). (¬2) انظر: "المنتقى" (4/ 65) للباجي، و"بداية المجتهد" (2/ 143). (¬3) روى مالك في "الموطأ" (2/ 672)، ومن طريقه البيهقي (6/ 28) عن عثمان بن حفص بن عمر بن خلدة عن ابن شهاب عن سالم بن عبد اللَّه أن ابن عمر سئل عن رجل يكون له الدين على رجل إلى أجل فيضع عنه صاحبه، ويعجَّل له الآخر قال: فكره ذلك ابن عمر ونهى عنه. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أن عثمان بن حفص ذكره ابن حبان في "الثقات" وروى عنه مالك وعبد العزيز بن أبي سلمة. ورواه عبد الرزاق (14354) عن معمر عن الزهري عن ابن المسيب، وابن عمر قالا، ورواه عبد الرزاق (14359)، وسعيد بن منصور، ومن طريقه البيهقي (6/ 28) عن ابن عيينة قال: أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم قال: سألت ابن عمر. . . فذكر نحوه، وقال: قال ابن عمر: نهانا أمير المؤمنين أن نبيع العين بالدين. وهذا إسناد على شرط الشيخين، وانظر: "مجمع الزوائد" (4/ 130). (¬4) ما بين المعقوفتين في (ق): "والثاني" وسقطت: "أنه" من (ك). (¬5) روى عبد الرزاق (14360) عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عنه، وهذا إسناد على شرط الشيخين. ورواه عبد الرزاق (14361) عن سفيان الثوري، ورواه أيضًا (14362)، وسعيد بن منصور، ومن طريقه البيهقي (6/ 28)، عن سفيان بن عيينة، كلاهما (السفيانان) عن عمرو بن دينار عن ابن عباس به، وهذا إسناد على شرطهما أيضًا. وعند عبد الرزاق قال ابن عيينة: وأخبرني غير عمرو قال: قال ابن عباس: إنما الربا أَخِّر لي، وأنا أزيدك، وليس عجِّل لي وأضع عنك. (¬6) في "الإرشاد" (ص 191)، وانظر: "المغني" (4/ 489)، و"إغاثة اللهفان" (ص 218). (¬7) انظر: "الاختيارات الفقهية" (134)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 13)، وفي (ق): "واختارها". (¬8) في (ق): "لأن". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬11) في (ق): "فينتفع".

فصل [الحيلة على الصلح على الإنكار والإقرار]

ولم يكن هنا ربًا لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفًا، فإن الربا الزيادة وهي منتفية هاهنا، والذين حرَّموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: "إما أن تُرْبي وإما أن تَقْضِي" وبين قوله: عَجِّلْ لي وأهَبُ لك مئة، فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح. والقول الثالث: يجوز ذلك في دَينِ الكتابة، ولا يجوز في غيره، وهو قول الشافعي (¬1) وأبي حنيفة (¬2)، قالوا: لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى اللَّه، "والمكاتبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم" (¬3)، ولا ربا بين العبد وبين سيده، فالمكاتب وكسبه للسيد، فكأنه أخذ بعض كسبه وترك له بعضه، ثم تناقضوا فقالوا: لا يجوز أن يبيعه درهمًا بدرهمين؛ لأنه في المعاملات معه كالأجنبي سواء (¬4). فياللَّه العجب! ما الذي جَعَله معه كالأجنبي في هذا الباب من أبواب الربا وجعله معه بمنزلة العبد القِنِّ في [هذا] (¬5) الباب الآخر؟ فهذه صورة هذ المسائل وأصولها ومذاهب العلماء فيها، وقد تبين أن الصواب جوازها كلها، فالحيلة على التوصل إليها حيلة على أمر جائز ليست على حرام. فصل [الحيلة على الصلح على الإنكار والإقرار] فالحيلة على الصلح على الإنكار عند من يمنعه أن يجيء رجل أجنبي فيقول للمدَّعي: أنا أعلم أن ما في يد المدَّعى عليه لك، وهو يعلم أنك صادق في ¬

_ (¬1) انظر: "روضة الطالبين" (4/ 196). (¬2) انظر: "المبسوط" (21/ 31)، و"حاشية ابن عابدين" (5/ 160). (¬3) هذا أثر عن عائشة، علَّقه البخاري في (العتق): باب بيع المكاتب إذا رضي (5/ 194 - مع الفتح)، ووصله ابن سعد (5/ 74)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 112)، وعبد الغني بن سعيد الأزدي في "أوهام الحاكم" (ص 102 - بتحقيقي). وورد موقوفًا عن زيد بن ثابت وابن عمر، انظر: "فتح الباري" (5/ 194)، و"تغليق التعليق" (3/ 350 - 351). (¬4) انظر بسط المسألة وأدلتها في "الربا والمعاملات المصرفية" (231 - 241) للشيخ الدكتور عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى، وفي (ق): "كالأجنبي معه سواء". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.

فصل

دعواك، وأنا وكيلُه، فصالحني على كذا، فينقلب حينئذ صلحًا على الإنكار (¬1)، ثم ينظر فإن كان فعل ذلك بإذن المدعى عليه رجَع بما دفعه إلى المدعي، وإن كان بغير إذنه لم يرجع عليه. وإن دفع المدعي عليه المال إلى الأجنبي وقال: "صالِح عني بذلك" جاز أيضًا (¬2). فصل (¬3) والحيلة في جواز الصلح على الإقرار عند من يمنعه أن يبيعه سلعة ويحابيه فيها بالقدر الذي اتفقا على إسقاطه بالصلح. فصل [الحيلة في الصلح عن الحال ببعضه مؤجَّلًا] والحيلة في الصلح عن الحالِّ ببعضه مؤجلًا حتى يلزمه التأجيل أن يبرئه من الحالِّ، ويُقِرُّ أنه لا يستحق عليه إلا المؤجل، والحيلة في الصلح عن المؤجَّل ببعضه حالًا أن يتفاسخا العقدَ الأول، ثم يجعلانه بذلك القدر الحال، فإذا اشترى منه سلعة أو استأجر منه دابة أو خالَعَتْه على عوض مؤجل فسَخا العقد [ثم جعلا] (¬4) عوضه ذلك القدر الحال، فإن لم يكن فيه الفسخ كالدِّية وغيرها فالحيلة في جواز ذلك أن يعاوض على الدَّيْن بسلعة أو بشيء (¬5) غير جنسه، وذلك جائز لأن غاية ما فيه بيع الدين ممن هو في ذمته، فإن أتلف له مثليًا لزمُه مثله دينًا عليه، فإن صالح عليه بأكثر من جنسه لم يجز؛ لأنه ربا، وإن كان المتلف متقومًا لزمه قيمته، فإن صالح عليه بأكثر من قيمته فإن كان من جنسها لم يجز ذلك (¬6)، وإن كان من غير جنسها جاز، إذ هو بيعٌ للقيمة، وهي دَيْن بذلك العوض، وهو جائز. [اختلاف الوكيل والموكل في ثمن ما وكَّله في شرائه] المثال السابع والعشرون: إذا وكله في شراء جارية بألف، فاشتراها الوكيل، ¬

_ (¬1) في هامش (ق): "ط. على الإقرار". (¬2) انظر بسط المسألة وأدلتها في "الربا والمعاملات المصرفية" (231 - 241) للشيخ الدكتور عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى. (¬3) هذا الفصل سقط من (ن) و (ق). (¬4) في (ق): "وجعلا". (¬5) في (ك): "شيء". (¬6) في (ك): "لذلك".

[الحيلة في سقوط الضمان عن المودع]

وقال: أذنْتَ لي في شرائها بألفين وقد فعْلتُ، فالقول قول الوكيل، ولا يلزمه الألفان، ولا يملك الجارية والوكيل مقرٌّ أنها للموكِّل، فإنه (¬1) لا يحل له وطؤها، والألف الزائدة دين عليه، ولا يمكن الوكيل بيعها ولا التصرف فيها؛ لأنه معترف أنها ملك للموكل، وأن الألف الأخرى في ذمته والوكيل ضامنٌ لها، فالحيلة في ملك الوكيل لها أن يقول له الموكل: إن كنتُ أذنت لك في شرائها (¬2) بألفين فقد بعتكها بالألفين (¬3)، فيقول: قد اشتريتها منك، فيملكها حينئذ، ويتصرف فيها، وهذا قول المزني وأكثر أصحاب الشافعي (¬4)، ولا يضر تعليق البيع بصورة الشرط، فإنه لا يملك (¬5) صحته إلا على هذا الشرط، فهو كما لو قال: "إن كانت ملكي فقد بعتكها بألفين" ولا يلتفت إلى نصف فقيه يقول: هذا تعليقٌ للبيع بالشرط فيبطل، كما لو قال: إن قدم زيد فقد بعتك كذا [بكذا، بل هذا نظيرُ قوله: إن كنت جائز التصرف فقد بعتك كذا] (¬6)، وإن أعطيتني ثمن هذا المبيع (¬7) فقد بعتكه، [ونحو ذلك] (¬8). [الحيلة في سقوط الضمان عن المودع] المثال الثامن والعشرون (¬9): إذا أودَعه وديعة وأشهد عليها (¬10) فتَلِفت من غير تفريطه لم يضمن، فإن ادَّعى عليه قبض الوديعة فأنكر فأقام البينة عليه ضمن، فإن ادعى التلف بعد ذلك لم يُقبل منه لأنه معترف أنه غير أمين له، وقد قامت البينة على قبضه ماله فيضمنه، ولا ينفعه تكذيب البينة، فالحيلة في سقوط الضمان أن يقول: مالك عندي شيء، فإن حلَّفه حلف حلفًا صادقًا، فإن أقام البيِّنة بالوديعة فليصدق البينة، ويقول: صدقت فيما شهدت به، ويدعي التلف بغير تفريط؛ فإن كذَّب البينة لزمه الضمان، ولا ينفعه دعوى التلف. [الحيلة في تضمين الراهن تلف المرهون] المثال التاسع والعشرون: إذا رهن عنده رهنًا، ولم يثق بأمانته، وخاف أن ¬

_ (¬1) في (ق): "وانه". (¬2) في (ق): "اشتراءها". (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "بألفين". (¬4) انظر: "حلية العلماء" (5/ 136). (¬5) في (ن) و (ك) و (ق): "لا يمكن". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬7) في (و): "البيع". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) عاد الترقيم من هنا صحيحًا في (ق). (¬10) في (ق): "عليه".

[الحيلة في سقوط ضمان المستعير عند من يقول ربه]

يدعي هلاكه ويذهب به، فالحيلة في أن يجعله مضمونًا عليه أن يعيره إياه أولًا، فإذا قبضه رهنه منه بعد ذلك، فإذا تلف كان في (¬1) ضمانه؛ لأن طَرَيان الرهن على العارلة لا يبطل حكمها؛ لأن المرتهن يجوز له الانتفاع بها بعد الرهن بهما كان ينتفع بها قبله، ولو بطل لم يجز له الانتفاع. [الحيلة في سقوط ضمان المستعير عند من يقول ربه] المثال الثلاثون: اختلف الناس في العارية: هل توجب الضمان إذا لم يفرّط المستعير؟ على أربعة أقوال: أحدها: يوجب الضمان مطلقًا، وهو قول الشافعي (¬2) وأحمد [مطلقًا] (¬3) في المشهور عنه (¬4). الثاني: لا يوجب الضمان، وَيدُ المستعيرِ يَدُ أمانة، وهو قول أبي حنيفة (¬5). الثالث: [أنه] (¬6) إن كان التلف بأمر ظاهر كالحريق وأخذ السَّيْل (¬7) وموت الحيوان وخراب الدار لم يضمن، وإن كان بأمر لا يطلع عليه كدَعْوَى سرقة الجوهرة والمنديل والسكين ونحو ذلك ضمن، وهو قول مالك (¬8). الرابع: أنه إن شرط نفي ضمانها لم يضمن، وإن أطلق ضمن، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد (¬9). ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "من". (¬2) انظر: "الأم" (3/ 344)، و"المجموع" (15/ 51 - 52)، "روضة الطالبين" (4/ 431)، "شرح المنهج" (3/ 458 - 459 مع "حاشية الجمل")، و"مختصر المزني" (116)، و"المهذب" (1/ 370). (¬3) ما بين المعقوفتين من (ن) و (ق) و (ك). (¬4) انظر: "المغني" (5/ 355 - 356، 7/ 340، 342)، "الإنصاف" (6/ 112 - 113)، "تنقيح التحقيق" (3/ 45)، "كشاف القناع" (4/ 70). (¬5) انظر: "مختصر الطحاوي" (116)، "مختصر اختلاف العلماء" (4/ 185 رقم 1876)، "المبسوط" (11/ 134)، و"القدوري" (63)، "البدائع" (8/ 3904)، "رؤوس المسائل"، (342)، "الاختيار" (3/ 56)، "تحفة الفقهاء" (3/ 284)، "فتح القدير شرح الهداية" (7/ 469). (¬6) سقط من (ق). (¬7) في (ك): "السبيل". (¬8) انظر: "حاشية الدسوقي" (3/ 436)، و"القوانين الفقهية" (245)، "الإشراف" (3/ 104 مسألة 963) وتعليقي عليه. (¬9) في هامش (ق): "والذي عليه الحنابلة تُضمن إن تلفت في غير ما استعيرت له، قالوا: ولو لم يفرط أو شرط نفي الضمان".

[حيلة في لزوم تأجيل قرض أو عارية]

والقول بعدم الضمان قويٌّ متَّجه، وإن كنا لا نقبل قوله في دعوى التلف لأنه ليس بأمينِه، لكن إذا صدقه المالك في التلف بأمر لا يُنْسَب فيه إلى تفريط فعدم التضمين أقوى (¬1). فالحيلة في سقوط الضمان أن يشترط نفيه، فإن خاف أن لا يفي له بالشرط فله حيلة أخرى وهي أن يُشْهد عليه أنه متى ادعى عليه بسبب هذه العين ما يوجب الضمان فدعواك باطلة. فإن لم تسعد (¬2) معه هذه الحيلة أو خاف من ورثته بعده الدعوى فله حيلة ثالثة، وهي أن يستأجر العين منه بأقل شيء للمدة التي يريد الانتفاع بها، أو يستأجرها منه بأجرة مثلها ويشهد عليه أنه قبض الأجرة أو أبرأه منها، فإن تلفت بعد ذلك لم يضمنها، وليست هذه الحيلة مما تحلل حرامًا [أو] تحرم حلالًا (¬3). [حيلة في لزوم تأجيل قرض أو عارية] المثال الحادي والثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القَرْض والعارية إذا أجَّلها؛ فقال الشافعي (¬4) وأحمد (¬5) في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة (¬6): لا يتأجَّل شيء من ذلك بالتأجيل، وله المطالبة به متى شاء، وقال مالك (¬7): يتأجَّل بالتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجّل ضرب له أجل مثله، وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في موضعها. [الحيلة في لزوم تأجيل القرض والعارية] وعلى هذا القول فالمستقرض والمستعير آمن من غَدْر المقرض غني عن ¬

_ (¬1) انظر: بسط المسألة في "نظرية الضمان في الفقه الإسلامي" (ص 53 - 55)، "الإشراف" (3/ 104 مسألة 963) وتعليقي عليه. (¬2) في (د) و (ق) و (ك): "تصعد". (¬3) في (ق): "مما تحرم حلالًا ولا تحل حرامًا"، وبدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ولا". (¬4) انظر: "أسنى المطالب" (2/ 124)، و"نهاية المحتاج" (4/ 184)، و"حاشية الشرقاوي" (2/ 17). (¬5) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 512 و 29/ 472) و"نظرية العقد" لابن تيمية (ص 235). (¬6) انظر: "أحكام القرآن" (1/ 466، 483) للجصاص، و"بدائع الصنائع" (6/ 11). (¬7) انظر: "الذخيرة" (6/ 212) و"الإشراف" (مسألة 965 - بتحقيقي).

[حيلة في جواز بيع الرهن عند حلول الأجل]

الحيلة للزوم الأجل، وعلى القول الأول فالحيلة في لزوم التأجيل أن يشهد عليه أنه لا يستحق ما عليه (¬1) من الدين إلى مدة كذا وكذا، ولا يستحق المطالبة بتسليم العين إلى مدة كذا وكذا، فإن أراد حيلة غير هذه فليستأجر منه العينَ إلى تلك المدة ثم يبرئه من الأجرة كما تقدم، وأما القرض فالحيلة في تأجيله أن يشتري من المقرض شيئًا ما بمبلغ (¬2) القرض ثم يكتبه مؤجلًا من ثمن مبيع قبضه المشتري، فإنه لا يتمكن من المطالبة به قبل الأجل، وهذه حيلة (¬3) على أمر جائر لا يبطل بها حقٌّ فلا تكره. [حيلة في جواز بيع الرهن عند حلول الأجل] المثال الثاني والثلاثون: إذا رهنه رهنًا بدين، وقال: "إنْ وفَّيتُك الدين إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك بما عليه" صح ذلك، وفعله الإمام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح (¬4)، وهو المشهور من مذهب الأئمة الثلاثة (¬5)، واحتجوا بقوله: "لا يغلق الرهن" (¬6) ولا حجة لهم فيه، فإن هذا كان موجبهُ في الجاهلية أن ¬

_ (¬1) في (ك): "ماله عليه". (¬2) في (ك): "يبلغ". (¬3) في (ك): "الحيلة". (¬4) انظر: "المغني" (4/ 287 - ط المنار). (¬5) انظر: "العناية" (10/ 175 - 176) و"المهذب" (1/ 409)، "حاشية الدسوقي" (3/ 288)، وفي (ك): "مذاهب". (¬6) الحديث يرويه ابن شهاب الزهري، وقد اختلف عنه فمنهم من يرويه عنه عن سعيد بن المسيب مرسلًا، ومنهم من يرويه عنه عن سعيد عن أبي هريرة مرفوعًا. ونحن نذكر من رواه مرسلًا أولًا ثم نذكر من وصله، فممن أرسله: أولًا: مالك: رواه في "الموطأ" (2/ 728)، ومن طريقه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 100)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 242)، والكلابي في "جزئه" (رقم 12 - بتحقيقي)، وقد وصله بعضهم عنه كما يأتي. ثانيًا: معمر: رواه عبد الرزاق (15033)، ومن طريقه الدارقطني في "سننه" (3/ 33)، وفي "علله" (9/ 169)، وأبو داود في "المراسيل" (186)، ومن طريقه البيهقي (6/ 40) عن محمد بن ثور كلاهما "عبد الرزاق ومحمد بن ثور" عنه "أي عن معمر" به. ثالثًا: ابن أبي ذئب: رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 163 - 164)، ومن طريقه البيهقي (6/ 39)، والبغوي (2132) من طريق ابن أبي فديك، وعبد الرزاق (15034)، وابن عدي (6/ 2284)، من طريق الثوري، وأبو داود في "المراسيل" (187) من طريق أحمد بن يونس، والطحاوي (4/ 100) من طريق ابن وهب، وعبد اللَّه بن نمير، ووهيب كما قال الدارقطني في "علله" (9/ 167)، ورواه ابن أبي شيبة (7/ 187) عن وكيع جميعهم عنه (أي عن ابن أبي ذئب) به. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = رابعًا: شعيب أخرجه الطحاوي (4/ 102)، والبيهقي (6/ 44) من طريق أبي اليمان عنه. خامسًا: يونس بن يزيد: أخرجه الطحاوي (4/ 100) من طريق ابن وهب عنه. سادسًا وسابعًا: عقيل والأوزاعي، ذكر روايتهما الدارقطني في "علله" (9/ 168)، وهذه الطرق التي ذكرت في روايته مرسلًا طرق صحيحة، ومنها رواته على شرط الشيخين. وأما من وصله، فإني أذكر روايتهم وانظر فيها: أولًا: زياد بن سعد: فقد رواه الدارقطني (3/ 32)، وفي "علله" (9/ 168) -ومن طريقه البيهقي في "المعرفة" (8/ 232 رقم 11747) وابن الجوزي في "التحقيق" (7/ 212 رقم 1737 - ط قلعجي) - والحاكم (2/ 51)، والبيهقي (6/ 39) وأبو نعيم في "الحلية" (7/ 315) وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 427، 428). قال أبو نعيم: "غريب من حديث ابن عيينة عن زياد عن الزهري، تفرد به عبد اللَّه العابدي (عن أبيه، كذا فيه، والصواب حذفها) عن ابن عيينة به من طريق عبد اللَّه بن عمران العابدي عن سفيان بن عيينة به. وقال الدارقطني: زياد بن سعد من الحفاظ الثقات، وهذا إسناد حسن متصل. قال البيهقي معقبًا عليه: وقد رواه غيره عن سفيان عن زياد مرسلًا، وهو المحفوظ. أقول: أما هذا الغير الراوي عن سفيان فلم أجده. وعبد اللَّه بن عمران العابدي الراوي عن سفيان قال فيه أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: يخطئ ويخالف. نعم الرجل صدوق، لكنه خالف هنا أصحاب الزهري في الروايات الصحيحة رووه بالإرسال، فخالف العابدي هنا فوصله، وكلام البيهقي بيَّن أن غيره من أصحاب سفيان رووه على الإرسال، قال ابن عبد البر: "الأثبات من أصحاب ابن عيينة يروونه عن ابن عيينة لا يذكرون فيه أبا هريرة، ويجعلونه عن سعيد مرسلًا". وقد وجدت له متابعًا. فقد رواه ابن حبان في "صحيحه" (5934): أخبرنا آدم بن موسى: حدثنا الحسين بن عيسى البسطامي: حدثنا إسحاق بن الطباع عن ابن عيينة عن زياد بن سعد به. وقال المعلق عليه: رجاله ثقات رجال الشيخين غير إسحاق، وهو ابن عيسى بن نجيح البغدادي، ابن الطباع فمن رجال مسلم. أقول: ولم يبين لنا حال شيخ ابن حبان، وهذا الشيخ لم يرو عنه ابن حبان في "صحيحه" إلا هذا الحديث فقط (كما في فهرس شيوخ ابن حبان)، وقد قال فيه شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (5/ 242): وآدم بن موسى لم أجد له ترجمة الآن. والعجب كيف قال الحافظ الدارقطني عن طريق زياد بن سعد: إسناده حسن متصل مع أنه رجح في "علله" الإرسال لا الاتصال. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أما الحاكم فقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه لخلاف فيه على أصحاب الزهري! وقد عرفت ما فيه. ثانيًا: إسحاق بن راشد: رواه ابن ماجه (2441) في (الرهون): باب لا يغلق الرهن، من طريق محمد بن حميد عن إبراهيم بن المختار به عنه. قال البوصيري (2/ 51): "هذا إسناد ضعيف محمد بن حميد الرازي وإن وثقه ابن معين فقد ضعفه في أخرى، وضعفه أحمد والنسائي والجوزجاني، وقال ابن حبان: يروي عن الثقات المقلوبات، وقال ابن وارة: كذّاب". أقول: وإسحاق بن راشد في روايته عن الزهري مقال. ثالثًا: محمد بن الوليد الزبيدي: رواه الدارقطني (3/ 33)، وفي "علله" (9/ 169)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 51) وتمام في "فوائده" (697 - ترتيبه) من طريق عبد اللَّه بن عبد الجبار عن إسماعيل بن عياش عنه. وهذا إسناد جيِّد رواته ثقات، وإسماعيل بن عياش حَسَن الحديث إذا روى عن أهل بلده، والزبيدي حِمصي. لكن ابن عياش اضطرب فيه فرواه عن ابن أبي ذئب، ورواه عن عباد بن كثير عن ابن أبي ذئب -كما يأتي- قال ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 429): "لو صح عن إسماعيل لكان حسنًا، لكن أهل العلم بالحديث يقولون: إنه إنما رواه عن ابن أبي ذئب ولم يروه عن الزبيدي". رابعًا: معمر: رواه الدارقطني (3/ 33)، والحاكم (3/ 51) من طريق محمد بن يزيد بن الرواس عن كُدير أبي يحيى عنه. وكدير هذا ترجمه في "اللسان" (4/ 487) وقال: "أشار ابن عدي إلى لينه في ترجمة نصر بن طريف" قلت: وقع محرفًا في ترجمة (نصر) إلى (كزيد) فليصحح، ورواه ابن عدي (7/ 2499) عن نصر بن طريف عن معمر به موصولًا، وقال: "هذا الأصل فيه مرسل، وليس في إسناده أبو هريرة"، والراوي عنه ينظر في حاله، وأصحاب معمر رووه عنه مرسلًا كما سبق. خامسًا: سليمان بن أبي داود: رواه ابن عدي (1/ 180) والدارقطني (3/ 33)، والحاكم (2/ 51) من طريق أحمد بن عبد اللَّه بن ميسرة عنه. وسليمان وقع اسمه في "سنن الدارقطني" سليمان بن داود الرقي، والصواب سليمان بن أبي داود ترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 115 - 116)، وذكر أنه يروي عن الزهري، ثم نقل عن أبيه أنه قال: ضعيف الحديث جدًا، وقال أبو زرعة: ليّن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الحديث. وأحمد بن عبد اللَّه، قال فيه ابن عدي: "حدث عن الثقات بالمناكير، ويحدث عمّن لا يعرف، ويسرق حديث الناس، وقال: "والحديث رواه عن الزهري جماعة مرسلًا وموصولًا". سادسًا: مالك: فقد أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 51) وأبو أحمد الحاكم في "عوالي مالك" (ص 64) وأبو بكر بن المقرئ في "المنتخب من غرائب مالك" (رقم 12) وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 425) من طريق علي بن عبد الحميد الغضائري عن مجاهد بن موسى عن معن عنه (سقط من "المستدرك" معن)، وقد أثبته من "علل الدارقطني" (9/ 167)، وسائر المصادر، وقال ابن عبد البر: "هكذا رواه كل من روى "الموطأ" عن مالك فيما علمت إلا معن بن عيسى، فإنه وصله فجعله عن سعيد عن أبي هريرة، ومعن ثقة، إلا أني أخشى أن يكون الخطأ فيه من علي بن عبد الحميد". قلت: ويشوش عليه أنه أسنده مرة أخرى وقرن عبد الحميد بأبي بكر بن جعفر، فالوهم من معن واللَّه أعلم، ولذا قال في "التجريد" (ص 122): "من وصل هذا الحديث عن مالك فقد وهم". ورواه ابن جميع الصيداوي في "معجم شيوخه" (ص 210) -ومن طريقه الخطيب (6/ 165)، وابن المظفر البزاز في "غرائب حديث مالك" (رقم 92) من طريق أحمد بن بكر البالسي نا محمد بن كثير المصيصي عن مالك به، ولفظه: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يغلق الرهن". وسنده ضعيف، لضعف أحمد بن بكر البالسي، ومحمد بن كثير المصيصي وعزاه ابن حجر في "اللسان" (1/ 141) للدارقطني في "غرائب مالك"، وقال عن البالسي "أخطأ في سنده". ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 303 - 304)، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 428) من طريق أحمد بن إبراهيم بن أبي سكينة عن مالك به. وأحمد هذا قال فيه أبو حاتم: "لا أعرفه وأحاديثه باطلة موضوعة، كلها ليس لها أصول، يدل حديثه على أنه كذاب"، انظر: "الجرح والتعديل" (2/ 40)، ورواه عنه سعيد بن عبد العزيز الحلبي ولم يوصله، رواه الكلابي في "جزئه" (رقم 15). ورواه الخطيب في "الرواة عن مالك" -كما في "لسان الميزان" (1/ 30) - وابن حيان في "جزء من حديثه" (رقم 139) من طريق إبراهيم بن إسحاق الصيني عنه به. وإبراهيم هذا، قال عنه الدارقطني في "الضعفاء والمتروكين" (31): "متروك"، وأورده ابن حبان في "الثقات" (8/ 78) وقال: "ربما خالف وأخطأ"، ولذا قال الخطيب: "كذا رواه إبراهيم، ووهم فيه، وصوابه عن مالك عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا". ورواه النضر بن سلمة عن يحيى بن أبي قتيلة عن مالك به، ذكره الدارقطني في "علله" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (9/ 168)، والنضر هذا كان يفتعل الحديث، كما قال أبو حاتم. قال الدارقطني: "وأما القعنبي وأصحاب الموطأ، فرووه عن مالك عن الزهري عن سعيد مرسلًا، وهو الصواب عن مالك". سابعًا: ابن أبي ذئب: رواه ابن عدي في "الكامل" (4/ 1546)، والدارقطني في "سننه" (3/ 33)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 51)، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 430)، من طريق عبد اللَّه بن نصر عن شبابة عنه عن الزهري عن سعيد، وأبي سلمة عن أبي هريرة. وعبد اللَّه بن نصر هذا ذكر له ابن عدي مناكير، وقال: وله غير ما ذكرت مما أنكرت عليه، وتحرف على ابن حزم في "المحلى" (8/ 99) إلى (نضر بن عاصم) وتعقبه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 37). ومما يدل على ضعفه أنه جعله عن سعيد وأبي سلمة كما قال ابن عدي. وذكر الدارقطني في "علله" (9/ 165)، أنه رواه عبد الحميد بن سليمان عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد عن أبي هريرة. وعبد الحميد هذا ضعيف. ورواه الدارقطني (3/ 33) والحاكم (2/ 51)، والبيهقي (6/ 39)، من طريق عثمان بن سعيد بن كثير عن إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب به. وإسماعيل مُخَلِّط في روايته عن غير أهل بلده، وهذه منها. وتابع إسماعيل بن عياش عبد اللَّه بن واقد، ذكره الدارقطني في "علله" (9/ 165)، وعبد اللَّه بن واقد متروك الحديث. ورواه المعافى بن عمران عن إسماعيل بن عياش عن عباد بن كثير عن ابن أبي ذئب به. رواه الدارقطني في "علله" (9/ 168 - 169) والمعافى بن عمران قال فيه الحافظ: مقبول، وكذلك رواه بقية بن الوليد، رواه ابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 428 - 249). وعباد بن كثير ضعيف وهذا التخليط من إسماعيل بن عياش، قال ابن عبد البر عند رواية عباد بن كثير: "أما حديث إسماعيل بن عياش فهذا أصله، وقد روي عن إسماعيل بن عياش عن ابن أبي ذئب ولم يسمعه إسماعيل من ابن أبي ذئب، وإنما سمعه من عباد بن كثير عن ابن أبي ذئب، وعباد بن كثير عندهم ضعيف لا يحتج، به وإسماعيل بن عياش عندهم أيضًا غير مقبول الحديث إذا حدث عن غير أهل بلده. . .". وثقات أصحاب ابن أبي ذئب يروونه عنه مرسلًا. ثامنًا: يحيى بن أبي أنيسة: رواه الشافعي في "مسنده" (3/ 164)، ومن طريقه البيهقي (6/ 39): أخبرنا الثقة عنه، ويحيى ضعيف، وبه ضعّفه ابن عبد البر (6/ 427)، وشيخ الشافعي لا يعرف، وهذا توثيق غير مقبول. =

المرتهن يتملك الرهن بغير إذن المالك إذا لم يوفه؛ فهذا هو غلق الرهن الذي أبطله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فلم يُبْطِله كتاب ولا سنة ¬

_ = هذا ملخص ما وجدته، والناظر في هذه الطرق يجد أن مَنْ أرسله أكثر وأوثق، وأن من وصله في حديثهم مقال. قال ابن عبد البر (6/ 430): "هذا الحديث عند أهل العلم بالنقل مرسل، وإن كان قد وُصل من جهات كثيرة، فإنهم يعللونها، وهو مع هذا حديث لا يرفعه أحد منهم، وإن اختلفوا في تأويله ومعناه وباللَّه التوفيق". وقال ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 36): "وصحح أبو داود والبزار والدارقطني وابن القطان إرساله، وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة". قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" كما في "نصب الراية" (4/ 321): وقد صحح اتصال هذا الحديث الدارقطني، وابن عبد البر وعبد الحق. وقد رواه أبو داود في "المراسيل" من رواية مالك، وابن أبي ذئب والأوزاعي وغيرهم، عن الزهري عن سعد مرسلًا، وكذلك رواه الثوري وغيره عن ابن أبي ذئب مرسلًا، وهو المحفوظ" وهو الظاهر. وأنبه هنا على أن الدارقطني رجح الاتصال في "سننه" أما في "علله" فقد رجح الإرسال. وممن رجح الإرسال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "إرواء الغليل" (5/ 243). والحديث له شاهد من حديث ابن عمر: رواه ابن عدي (6/ 2237) من طريق محمد بن زياد عن مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا -لكن لا يفرح به- قال ابن عدي: "هذا حديث منكر بهذا الإسناد، وإنما يروي مالك هذا الحديث في "الموطأ" عن الزهري عن سعيد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، ومحمد بن زياد منكر الحديث عن "الثقات" ولا أعرفه إلا في هذا الحديث، وليس بالمعروف". وله شاهد مرسل: رواه البيهقي (6/ 44) من طريق إبراهيم بن عامر بن مسعود القرشي عن معاوية بن عبد اللَّه بن جعفر رفعه: "لا يغلق الرهن". وقال: هذا مرسل. ومعاوية هذا قال فيه الحافظ: مقبول أي لم يوثقه إلا ابن حبان، ومن مثله في التساهل في توثيق المجاهيل. فهو شاهد قصر، واللَّه أعلم. "ويقال: غلق: -كفرح- الرهن غلوقًا إذا بقي في يد المرتهن، لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى أنه لا يستحق إذا لم يستغله صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية، أن الراهن إذا لم يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن" (و). وانظر في تفسيره: "جزء الكلابي" (رقم 15، 17 - بتحقيقي) و"مجرد أسماء الرواة عن مالك" لرشيد الدين العطار (ص 143).

[حيلة للخلاص إذا أقر بدين مؤجل]

ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة ظاهرة، وغاية ما فيه أنه بيع عُلِّق على شرط، ونعَمْ فكان ماذا؟ وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المرتهنين (¬1)، ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه اللَّه ورسوله، ولا ريب أن هذا خيرٌ للراهن والمرتهن من تكليفه (¬2) الرفْعَ إلى الحاكم، وإثباته الرهن، واستئذانه في بيعه والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه سوى الخسارة والمشقة، فإذا اتفقا على أنه له بالدين عند الحلول كان أصلح لهما وأنفع وأبعد من الضرر والمشقة والخسارة، فالحيلة (¬3) في جواز ذلك بحيث لا يحتاج إلى حاكم أن يملكه العين التي يريد أن يرهنها منه، ثم يشتريها منه بالمبلغ الذي يريد استدانته، ثم يقول: إن وفيتك الثمن إلى كذا وكذا وإلا فلا بيع بيننا، فإن وفاه وإلا انفسخ البيع وعادت السلعة إلى (¬4) ملكه. وهذه حيلة حسنة محصِّلة (¬5) لغرضهما من غير مفسدةٍ ولا تضمُّن لتحريم ما أحل اللَّه، ولا لتحليل ما حرم اللَّه. [حيلة للخلاص إذا أقرَّ بدين مؤجل] المثال الثالث والثلاثون: إذ كان عليه دَيْن مؤجل فادعى به صاحبه وأقر (¬6) به فالصحيح المقطوع به أنه لا يؤخذ به قبل أجله؛ لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فإلزامه به على غير ما أقر به إلزامٍ بما لم يقر به (¬7)، وقال بعض أصحاب أحمد والشافعي: يكون مقرًا بالحق مدِّعيًا للتأجيل، فيؤاخذ (¬8) بما أقر به، ولا تُسمع منه دعواه (¬9) الأجل إلا ببينة، وهذا في غاية الضعف، فإنه إنما أقر به إقرارًا مقيدًا لا مطلقًا، فلا (¬10) يجوز أن يلغي التقييد ويحكم عليه بحكم الإقرار المطلق كما لو قال: له عليَّ ألف إلا خمسين أو له عليَّ ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو له عليّ ألف من نقد كذا وكذا (¬11) أو معاملة كذا وكذا، فيلزمهم في هذا ونحوه أن يبطلوا هذه التقييدات كلها ويلزموه بألف (¬12) كاملة من النقد الغالب، ولا يقبل قوله: إنها ¬

_ (¬1) في (ك): "المتراهنين". (¬2) في (ك): "تعليقه". (¬3) في (ك): "والحيلة". (¬4) في (ق): "في". (¬5) في المطبوع: "مخلصة". (¬6) في (ق): "فأقر". (¬7) انظر: "الطرف الحكمية" (ص 28). (¬8) في (ك): "لتأجيله فيؤخذ" وفي (ق): "لتأجيله فيؤاخذ". (¬9) في (ق) و (ك): "دعوى". (¬10) في (ق): "ولا". (¬11) في (ك) و (ق): "كذا وكذا ومعاملة كذا وكذا". (¬12) في (ن): "ويلزمه مؤنة بألف".

من ثمن مبيع لم أقبضه، ومما يبين بطلان هذا القول أن إقرار المرء على نفسه شهادة منه على نفسه كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ولو شهد عليه شاهدان بألف مؤجلة لم يحكم عليه بها (¬1) قبل الأجل اتفاقًا، فهكذا إذا أقر بها مؤجلة فالحيلة في خلاصه من الإلزام بهذا القول الباطل أن يقول: لا يلزمني توفية [ما يدعيه عليّ أو أداؤه] (¬2) إليك (¬3) إلى مدة كذا وكذا، ولا يزيد على هذا، فإن ألح عليه وقال: "لي عليك كذا أم ليس لي عليك شيء؟ " ولا بد من أن يجيب (¬4) بأحد الجوابين، فالحيلة في خلاصه أن يقول: إن ادعيتها مؤجلة فأنا مقرٌّ بها، وإن ادعيتها حالَّة فأنا منكر. وكذلك لو كان قد قضاه الدين وخاف أن يقول: كان له عليّ وقضيته، فيجعله الحاكم مقرًا بالحق مدعيًا لقضائه، فالحيلة أن يقول: ليس له عليَّ شيء، ولا (¬5) يلزمني أداء ما يدعيه، فإن ألح عليه لم يكن له جواب غير هذا، على أن القول الصحيح أنه لا يكون مقرًا بالحق مدعيًا لقضائه، بل منكرًا الآن لثبوته في ذمته فكيف يلزم به؟ فإن قيل: هو أقر بثبوت سابق وادعى قضاءً طارئًا عليه. قيل: لم يقر بثبوت مطلق، بل بثبوت مقيد بقيد وهو الزمن الماضي، ولم يقر بأنه ثابت الآن في ذمته، فلا يجوز إلزامه به الآن استنادًا إلى إقراره به في الزمن الماضي؛ لأنه غير منكر ثبوته في الماضي، وإنما هو منكر لثبوته الآن، فكيف يجعل مقرًا بما هو منكر له؟ وقياسهم هذا الإقرار على قوله: "له عليَّ ألف لا يلزمني أو لا يثبت (¬6) في ذمتي" قياس باطل، فإنه كلام متناقض لا يعقل، وأما هذا فكلام معقول، وصِدْقه فيه ممكن، ولم يقر بشغل ذمته الآن بالمدَّعَى به، فلا يجوز شَغْل ذمته به بناء على إقراره بشغلها في الماضي، وما نظير هذا إلا قول الزوج: "كنت طلقت امرأتي وراجعتها" فهل يُجعل بهذا الكلام مطلقًا الآن (¬7)؟ وقول القائل: كنت فيما مضى كافرًا ثم أسلمت، فهل يجعل بهذا الكلام كافرًا ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "بها عليه". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "ما تدعي عليّ أداءه". (¬3) في (ق): "إليه". (¬4) في (ك): "يحنث". (¬5) في (ك) و (ق): "أو لا". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "لا تلزمني ولا تثبت". (¬7) في (ق): "فهل يجعل هذا مطلقًا الآن".

[حيلة في تأجيل الدين على المعسر]

الآن؟ وقول القائل: كنت عبدًا فأعتقني مولاي، هل يجعل بهذا الكلام رقيقًا؟ فإن طَرَدوا الحكم في هذا كله وطلَّقوا [على] (¬1) الزوج وكفَّروا المعترف بنعمة اللَّه عليه وأنه كان كافرًا فَهَدَاه اللَّه وأمروه أن يجدد إسلامه وجعلوا هذا قنًّا، قيل لهم: فاطردوا ذلك فيمن قال: كانت هذه الدار أو هذا البستان أو هذه الأرض أو هذه الدابة لفلان ثم اشتريتها منه، فأخرجوها من ملكه بهذا الكلام، وقولوا: قد أقر بها لفلان ثم ادعى [أنه] (¬2) اشتراها فيُقبل إقراره ولا تقبل دعواه فمن جَرَتْ هذه الكلمة على لسانه وقال الواقعَ فأخرجوا ملكه من يده، وكذلك إذا قالت المرأة: كنت مزوجة بفلان ثم طلقني، اجعلوها بمجرد هذا الكلام زوجته، والكلام بآخره، فلا يجوز أن يؤخذ منه بعضه ويلغى بعضه، ويقال: قد لزمك (¬3) حكم ذلك البعض، وليس علينا من بقية كلامك، فإن هذا يرفع حكم الاستثناء والتقييدات جميعها، وهذا لا يخفى فساده، ثم إن هذا على أصل مَنْ لا يقبل الجواب إلا على وَفق الدعوى يحول بين الرجل وبين التخلُّص من ظلم المدعي، ويلجئه إلى أن يقر له بما يتوصل به إلى الإضرار به وظلمه، أو إلى أن يكذب بيانه أنه إذا استدان منه ووفاه، فإن قال: "فليس له عليَّ شيء" لم يقبلوا منه؛ لأنه لم يُجِبْ على نفي الدعوى، وإن قال: "كنت استدنت منه ووفيته" لم تسمعوا منه آخر كلامه وسمعتم منه أوله، وإن قال: "لم أستدن منه" وكان (¬4) كاذبًا فقد ألجأتموه إلى أن يظلم أو يكذب ولا بد، فالحيلة لمن بُلي بهذا القول أن يستعمل التورية، ويحلف ما استدان منه، وينوي أن تكون ما موصولة، فإذا قال: "واللَّه إني ما استدنت منه" أي إني الذي استدنت منه، وينفعه (¬5) تأويله بالاتفاق إذا كان مظلومًا، كما لا ينفعه إذا كان ظالمًا بالاتفاق. [حيلة في تأجيل الدين على المعسر] المثال الرابع والثلاثون: إذا كان عليه دين فأعْسَرَ به فادَّعى عليه به، فإن أنكره كان كاذبًا، وإن أقر له به ألزمه إياه، وإن جحده أقام به البينة، فإن ادَّعى الإعسار بعد ذلك فإن المدعي قد ظهر للحاكم كذبه في جَحْده الحق فهكذا هو كاذب في دعوى الإعسار، فالحيلة في تخليصه أن يقول: لا يلزمني توفية ما يدعيه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) في (ن) و (ق): "قد لزمكم". (¬4) في (ك) و (ق): "كان". (¬5) في (ك): "ونفعه".

[حيلة في تقديم بينة الخارج]

عليَّ ولا أداؤه، فإن طالبه الحاكم بجواب يطابق السؤال فله أن يورِّي بما تقدم (¬1)، ويحلف على ذلك، فإن خشي من إقامة البينة فهنا تعز عليه الحيلة، ولم يبق له إلا تحليف المدعي أنه لا يعلم عجزه عن الوفاء (¬2) أو إقامة البينة بأنه (¬3) عاجز عن الوفاء، فإن حلف المدعي ولم تقم له بينة بالعجز لم يبق له حيلة غير الصبر. [حيلة في تقديم بينة الخارج] المثال الخامس والثلاثون: إذا تداعَيَا عينًا هي في يد أحدهما فهي لصاحب اليد، فإن أقام الآخر بينة حكم له ببينته؛ فإن أقام كل واحد منهما بينة، فقال الشافعي (¬4): بينة صاحب اليد أولى؛ لأن البينتين قد تعارضتا، وسلمت اليدُ عن معارض، وقال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه: بينة الخارج أولى (¬5)؛ لأن معها زيادة علمٍ خفَيت على بينة صاحب اليد فإنها تستند إلى ظاهر اليد (¬6)، وبينة الخارج تستند أيضًا إلى سبب خفي على بينة الداخل فتكون أولى، فالحيلة في تقديم بينة الخارج عند من يقدم بينة الداخل أن يدعي الخارج أنه في يد الداخل غصْبًا أو عارية أو وديعة أو ببيع فاسد. ثم تشهد البينة على وَفق ما ادعاه، فحينئذ تقدَّم بينة الخارج على الصحيح عندهم (¬7). [حيلة في التخلص من لدغ المخادع] المثال السادس والثلاثون: الحيلة المخلصة من لَدْغ العقارب، وذلك إذا اشترى الماكر المخادع [من رجل] (¬8) دارًا أو بستانًا أو سلعة، وأشهد عليه بالبيع، ثم مضى إلى البيت (¬9) أو الحانوت ليأتيه بالثمن، فأقر بجميع ما في يَدِه لولده أو ¬

_ (¬1) في (ط)، و (د): "ما تقدم"، وقال (د): "في نسخة: بما تقدم" اهـ. قلت: وفي (ك) و (ق): "كما تقدم". (¬2) مطموسة في (ق). (¬3) في (ق): "أنه". (¬4) انظر: "الأم" (6/ 235) و"التنبيه" (ص 158)، "مختصر المزني" (312 - 313) و"المهذب" (2/ 334) و"حلية العلماء" (8/ 190) و"نهاية المحتاج" (8/ 362). (¬5) انظر: "المغني" (14/ 279) - ط هجر) وفي (د)، و (ط): "أول"، وفي (ق): "إلى اليد". (¬6) قال (د): "في نسخة: إلى صاحب اليد"، قلت: والنسخة المشار إليها هي (ن). (¬7) انظر: "زاد المعاد" (1/ 208) و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (5/ 97 - 99/ بتحقيقي). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ق): "الدار".

لامرأته، فلا يصل البائع إلى أخذ الثمن، فالحيلة له أن يبيعه بحضرة الحاكم أو يمضي بعد البيع معه إليه ليثبت له التبايع، ثم يسأله قبل مفارقته أن يحجر على المشتري في ماله، ويقفه حتى يسلم إليه الثمن؛ لئلا يتلف ماله أو يتبرع به فيتعذر عليه الوصول إلى حقه. ويلزم الحاكم إجابته إذا خشي ذلك من المشتري؛ لأن فيه إعانة لصاحب الحق على التوصل إلى حقه، فإن تعذرت عليه هذه الحيلة ولدغته العقرب وادعى الإعسار [فللبائع الفسخ إذا لم يكن عالمًا بعسرته وقت العقد ولا راضيًا بها فإن الإعسار عيب في محل الحق، فيثبت له خيار الفسخ كما لو كان العيب بالعوض ولهذا إذا احتال على من يظنه موسرًا فبان معسرًا فله فسخ الحوالة والرجوع على المحيل لوجود العيب في محل الحق الذي لم يرضى به المحتال، وإذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ملك البائع الرجوع في عين ماله إذا أفلس المشتري، فكذلك إذا بأن مفلسًا مع أن الحديث نص في تمليكه الفسخ إذا عرض له الإفلاس، وليس فيه اشتراط حجر الحاكم ولا دل عليه بوجه ولا له أصل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة للناس، فمن أين لكم أنه لا يملك الفسخ حتى يحجر عليه الحاكم، وحكم سيد الحكام بالرجوع في عين المال وفسخ البيع أولى بالاعتبار والمراعاة من آحاد الناس، فإذا كان سيد الحكام قد حكم له بالفسخ والرجوع لم يجز أن يقال: لا رجوع لك حتى يحكم حاكم بالفلس والإعسار، فإن قيل: إنما شرطنا ذلك ليتحقق ثبوت فلسه، قيل: لو تحقق ثبوت فلسه بحيث ألا يشك فيه، ولم يحكم به حاكم لم تمكنوه من الفسخ، وهذا مخالف للسنة، والقياس المحض كما تقدم إذ العيب في محل العوض كالعيب في العوض فإن سأل الحاكم الحجر عليه، وفعل ذلك رجع عليه في عين ماله عند الجمهور] (¬1) فإن كانت العقرب داهيةً بأن غيَّر العين المبيعة أو مَلّكها لولده أو زوجته أو كان الحاكم لا يرى رجوعَ البائع في عين المبيع إذا أفلس المشتري؛ فالحيلة أن يتوصل إلى إبطال العقد بإقرار سابق على المبيع [أن] (¬2) المبيع لولده أو لزوجته أو يرهنه أو يبيعه لمن يثق به، ويقدم تاريخ ذلك على بيع العقرب، وله أن يتوصل بهذه الحيلة فإن كانت مكرًا وخداعًا؛ فإن المكر والخداع حَسَنٌ إذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط، وبدلها في سائر النسخ: "عند الجمهور سأل الحاكم الحجر عليه فإن فعل ذلك رجع عليه في عين ماله". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[حيلة في عدم سقوط نفقة القريب بمضي الزمان]

كان على وجه المقابلة لا على وجه الظلم، كما قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] (¬1)} [النمل: 50]، وقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وأخبر تعالى أنه كادَ ليوسف في مقابلة كيد إخوته وقد تقدم ذلك. [حيلة في عدم سقوط نفقة القريب بمضي الزمان] المثال السابع (¬2) والثلاثون: إذا تحيَّل المكَّار المخادع على سقوط نفقة القريب بالمماطلة وقال: إنها تسقط بمضي الزمان فلا يبقى دينًا عليّ، فتركها آمنًا من إلزامه بها لما مضى، فالحيلة للمنفَقِ عليه أن يرفعه إلى الحاكم ليفرضها عليه، ثم يستأذنه في الاستدانة عليه بقدرها، فإذا فعل ألزمه الحاكم بقضاء ما استدانه المنفَقُ عليه، فإن فرضها عليه ولم يستأذنه في الاستدانة ومَضَى الزمان فهل تستقر عليه بذلك؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي (¬3)، والأكثرون منهم صرَّحُوا بسقوطها مطلقًا فرضت أو لم تفرض، ومنهم من قال: إن فرضت لم تسقط، فإن لم يمكنه الرفع إلى الحاكم فليقل له: اشفع لي إلى فلان لينفق (¬4) عليّ أو يعطيني ما أحتاج [إليه] (1)، فإذا فعل فقد لزم الشافع؛ لأن ذلك حق أدَّاه إلى المشفوع عنده عن الشفيع بإذنه، فإن أنفق عليه الغيرُ بغير إذنه ناويًا للرجوع فله الرجوع في أصح المذهبين، وهو مذهب مالك (¬5) وأحمد في إحدى الروايتين (¬6)، وهكذا كل من أذى عن غيره واجبًا بغير إذنه [بشرط] (¬7) أن يكون واجبًا على المنصوص من مذهب مالك وأحمد، فإن أحمد رحمه اللَّه نصَّ في رواية الجرجرائي (¬8) على رجوع من عَمَّر قناة غيره بغير إذنه، وهو مذهب مالك، ولو أن القريب استدان ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "الخامس". (¬3) انظر: "المهذب" (1/ 342)، "روضة الطالبين" (4/ 266)، "أسنى المطالب" (2/ 248)، "حلية العلماء" (5/ 62). (¬4) في (ك) و (ق): "ينفق". (¬5) "الإشراف" (3/ 62 مسألة 919) وتعليقي عليه، "جامع الأمهات" (391)، "التفريع" (2/ 285 - 286)، "الكافي" (2/ 895). (¬6) "المغني" (7/ 90)، "الإنصاف" (5/ 204)، "كشاف القناع" (3/ 359). (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "بل لا يشترط". (¬8) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "الجوزجاني".

[حيلة في جواز بيع الماء]

وأنفق على نفسه ثم أحال بالدين على مَنْ تلزمه نفقته لزمه أن يقوم له به؛ لأنه أحال على مَنْ له عليه حق، ولا يُقال: قد سقطت بمضي الزمان فلم تصادف الحوالة محلًا؛ لأنها إنما تسقط بمضي الزمان إذا لم يكن المنفَقُ عليه قد استدان على المنفِقِ، بل تبَّرع له غيره أو تكلف أو صبر، فأما إذا استدان عليه بقدر نفقته الواجبة عليه فهنا لا وَجْهَ لسقوطها، وإن كان الأصحاب وغيرهم قد أطلقوا السقوط فتعليلهم يدل على ما قلناه، فتأمله. [حيلة في جواز بيع الماء] المثال الثامن (¬1) والثلاثون: إذا استنبط في ملكه أو أرض استأجرها عينَ ماء مَلكَه ولم يملك بيعه لمن [يسوقه إلى] (¬2) أرضه أو [يسقي به] (3) بهائِمَه، بل يكون أولى به من كل أحد، وما فَضَلَ [منه] (¬3) لزمه بَذلُه لبهائم غيره وزرعه، فالحيلة (¬4) على جواز المعاوضة أن يبيعه نصف العين أو ثلثها أو يؤخره ذلك، فيكون الماء بينه وبينه على حسب ذلك، ويدخل الماء تبعًا لملك العين أو منفعتها، ولا تدخل هذه الحيلة تحت النهي عن بيع الماء (¬5)، فإنه لم يبعه، وإنما باع العين، ودخل الماء تبعًا، والشيء قد يستتبع ما لا يجوز أن يُفرد وحده. [حيلة في عدم تسويغ بيع المشتري إلا لمن باعه] المئال التاسع (¬6) والثلاثون: إذا باعَ عبدَه من رجل وله غَرضٌ أن لا يكون إلا عنده أو عند بائعه، فالحيلة في ذلك أن يشهد عليه أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن، وهذا (¬7) يجوز على نص أحمد، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود (¬8)، ولا محذور في ذلك، وقول المانعين: "إنه يخالف مقتضى العقد" فنعم يخالف مقتضى ¬

_ (¬1) في (ك): "السادس". (¬2) في (ق): "يسق به". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ك) و (ق): "الحيلة". (¬5) حديث النهي عن بيع الماء رواه مسلم (1565) بعد (35) في المساقاة: باب تحريم بيع فضل الماء عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللَّه يقول: نهى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع ضِرَاب الجَمَل وعن بيع الماء والأرض لتحرث وفي صحيح البخاري (2353) و (2354) في الحرث والمزارعة ومسلم (1566) عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يُمنع فضل الماء ليمنع به الكلأ". (¬6) في (ك): "السابع". (¬7) في (ك) و (ق): "فهذا". (¬8) سيأتي لفظه وتخريجه عنه.

[حيلة في تجويز شهادة الوكيل لموكله]

العقد المطلق، وجميع الشروط اللازمة تخالف مقتضى العقد المطلق، ولا تخالف مقتضى العقد المقيَّد، بل هي مقتضاه، فإن لم تسعد (¬1) معه هذه الحيلة فله حيلة أخرى، وهي أن يقول له في مدة الخيار: إما أن تقول: "متى بعته فهو حر" وإلا فسخت البيع، فإذا قال ذلك فمتى باعه عَتقَ عليه بمجرد الإيجاب قبل قبول (¬2) المشتري على ظاهر المذهب؛ فإن الذي علَّق عليه العتق هو الذي يملكه البائع وهو الإيجاب، وذلك بيع حقيقة، ولهذا يقال: "بعته العبد فاشتراه" فكما أن الشراء هو قبول المشتري، فكذلك البيع هو إيجاب البائع، ولهذا يقال: البائع والمشتري، قال الشاعر: وإذا تُبَاع كريمةٌ أو تُشْتَرَى ... فسواك بائعُهَا وأنت المشتري هذا منصوص أحمد، فإن لم تسعد (¬3) معه هذه الحيلة فليقل له في مدة الخيار: "إما أن تقول: متى بعتك فأنت حر قبله بساعة، وإما أن أفسخ" فمتى قال ذلك لم يمكنه بيعه البتة. [حيلة في تجويز شهادة الوكيل لموكله] المثال الأربعون (¬4): إذا كان للموكل عند وكيله شهادة تتعلق بما هو وكيله (¬5) فيه لم تُقبل، فإن أراد قبولها فليعزِله أو ليعزل نفسه قبل الخصومة ثم يقيم الشهادة، فإذا تمت عاد توكله به (¬6)، وليس في هذه الحيلة محذور؛ فلا تكون محرَّمة. [حيلة في تجويز المسح على الخفين] المثال الحادي والأربعون (¬7): إذا توضأ ولبس أحد (¬8) خفيه قبل غسل رجله الأخرى، ثم غسل رجله الأخرى وأدخلها [في] (¬9) الخف، جاز له المسحُ على ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "تصعد". (¬2) في (ن): "قول". (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "تصعد". (¬4) في (ك) و (ق): "الثامن والثلاثون" وصححه في هامش (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "وكيل". (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "عاد فوكله". (¬7) في (ك) و (ق): "التاسع والثلاثون". (¬8) كذا في (ك) و (ق) وفي سائر الأصول: "إحدى". (¬9) سقط من (ك) و (ق).

[حيلة في عدم حنث الحالف]

أصح القولين، وفيه قول آخر أنه لا يجوز؛ لأنه لم يلبس الأُولى على طهارة كاملة؛ فالحيلة في جواز المسح أن ينزعَ خُفَّ الرِّجل الأولى ثم يلبسه، وهذا نوع عَبَث لا غرض للشارع فيه، ولا مصلحة للمكلَّف؛ فالشرع لا يأمره به (¬1). [حيلة في عدم حنث الحالف] المثال الثاني والأربعون (¬2): إذا (¬3) اسْتُحْلِفَ على شيء، فأحب أن يحلف ولا يحنث؛ فالحيلة أن يحرك لسانه بقوله: "إن شاء اللَّه"، وهل يشترط أن يسمعها نفسه؟ فقيل: لا بد أن يُسمع نفسه، وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه، بل متى حرَّك لسانه بذلك كان متكلمًا، وإن لم يسمع نفسه، وهكذا حكم الأقوال الواجبة والقراءة الواجبة (¬4)، قلت: وكان بعض السلف يطبق شفتيه ويحرك لسانه بلا إله إلا اللَّه ذاكرًا، وإن لم يسمع نفسه، فإنه لا حَظَّ للشفتين في حروف هذه الكلمة، بل كلها حلقية [لسانية] (¬5)؛ فيمكن الذاكر أن يحرِّك لسانه بها ولا يسمع نفسه ولا أحدًا من الناس، ولا تراه العين يتكلم، [وهكذا التكلم بقول] (¬6): "إن شاء اللَّه" يمكن مع إطباق الفم؛ فلا يسمعه أحدٌ ولا يراه، وإن أطبق أسنانه (¬7) وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته. [حيلة في سقوط القصاص عمن قتل زوجته التي لاعنها أو قتل ولدها] المثال الثالث (¬8) والأربعون: إذا لاعَنَ امرأته وانتفى من ولدها، ثم قتل الولد لزمه القصاص، وكذلك إن قتلها فلولدها القصاص إذا بلغ، فإن أراد إسقاط القصاص عن نفسه؛ فالحيلة أن يكذب نفسه، ويقر بأنه ابنه؛ فيسقط القصاص في الموضعين، وفي جواز هذه الحيلة نظر. ¬

_ (¬1) انظر بسط المسألة وأدلتها في "الخلافيات" للبيهقي (3/ 235 - بتحقيقي) و"الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (1/ 64 مسألة 31)، وفي (ق): "يأمر به". (¬2) في (ك) و (ق): "المثال الأربعون". (¬3) في (و): "فإذا". (¬4) في (و): "والقراءات الواجبة"، وانظر في المسألة كتابي: "القول المبين" (ص 100 - فما بعد). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وكذلك يقول". (¬7) في (ق): "بأسنانه". (¬8) في (ق) و (ك): "الحادي".

[حيلة في التخلص من المطالبة بدين كان أداه]

[حيلة في التخلص من المطالبة بدين كان أدَّاه] المثال الرابع (¬1) والأربعون: إذا كان له عليه حق وقد أبرأه منه ولا بينة له بالإبراء ثم عاد فادّعاه؛ فإن قال: "قد أبرأني منه" لم يكن مقرًا به كما لو قال: "كان له عليّ [وقَضَيْتُه] (¬2) " وعلى القول الآخر يكون مقرًا [به] (¬3) مدَّعيًا للإبراء، فيكلّف (¬4) البينة؛ فالحيلة على التخلص أن يقول: قد أبرأني (¬5) من هذه الدعوى؛ فإذا قال ذلك لم يكن مقرًا بالمدَّعى به؛ فإذا سأل إحلاف خَصْمه أنه لم يُبْرئه من الدعوى مَلَكَ ذلك؛ فإن لم يحلف صرفها (¬6) [الحاكم] (¬7)، وإن حلف طولب بالجواب، ولا يسمع منه بعد ذلك أنه أبرأه من الدعوى؛ فإن قال: "أبرأني (5) من الحق" ففيه الخلاف المذكور، وإن قال: "لا شيء عندي" اكتفى منه بهذا الجواب عند الجمهور؛ فإن طالبه الحاكم بالجواب على وفقِ الدعوى فالحيلة أن يُجِيبَ (¬8) ويُوَرِّيَ كما تقدم. [حيلة في المضاربة] المثال الخامس (¬9) والأربعون: إذا خاف المضارب أن يسترجع ربُّ المالِ منه المال فقال: "قد ربحت ألفًا" لم يكن له الاسترجاع؛ لأنه قد صار شريكًا؛ فإن (¬10) قال: "ذلك حيلة، ولم يربح" فقال بعد ذلك: "كذبت" لم يسمع منه؛ فالحيلة في تخلصه أن يدعي خسارتها بعد ذلك أو تَلَفَهَا فيقبل قوله مع يمينه. [حيلة في تجويز نظر الواقف على وقفه] المثال السادس (¬11) والأربعون: إذا وقف وَقْفًا وجعل النظر فيه لنفسه مدة حياته ثم من بعده لغيره، صح ذلك عند الجمهور، وهو اتفاقٌ من الصحابة؛ فإن عمر -رضي اللَّه عنه- كان يلي صَدَقته (¬12)، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "الثاني". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬3) بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ك): "فيتكلف". (¬5) المطبوع و (ك): "أبرأتني". (¬6) في (ك) و (ق): "صرفهما". (¬7) بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬8) (ن): "أن يحنث"!، وفي (ق): "أن يحلف". (¬9) (ك) و (ق): "الثالث". (¬10) في (ك): "كان". (¬11) (ك) و (ق): "الرابع". (¬12) رواه أبو داود (2879) في (الوصايا): باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف، والبيهقي =

رضي اللَّه عنهم، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أشار على عمر بوقف أرضه (¬1) لم يقل له: "لا يصح ذلك حتى تخرجها عن يدك ولا تلي نظرها" وأي غرض للشارع في ذلك؟ وأي مصلحة للواقف أو الموقوف عليه؟ بل المصلحة خلاف ذلك؛ لأنه أخبَرُ بماله، وأقْوَمُ بعمارته ومصالحه وحفظه من الغريب الذي ليست خبرته وشفقته كخبرة صاحبه وشفقته، ويكفي في صحة الوقف إخراجه عن ملكه وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الأجنبي ويده، ولا سيما إن كان متبرعًا، فأي مصلحة في أن يقال له: "لا يصح وقفك حتى تجعله في يد مَنْ لست على ثقة من حفظه والقيام بمصالحه وإخراج نظرك عنه"؟ فإن قيل: إخراجه للَّه يقتضي رفع يده عنه بالكلية كالعتق. قيل: بالعتق خرج العبد [عن] (¬2) أن يكون مالًا، وصار محرَّرًا (¬3) محضًا، فلا تثبت عليه يد أحد. وأما الوقف فإنه لا بد من ثبوت اليد عليه لحفظه والقيام بمصالحه، وأحق ما يثبت عليه يدُ أشفَقِ الناس عليه وأقومهم بمصالحه، وثبوتُ يدهِ ونظره لا ينافي وقفه للَّه، [فإنه وَقَفه للَّه] (¬4) وجعل نظره عليه ويده للَّه فكلاهما قربة وطاعة، فكيف يُحرم ثواب هذه القربة ويقال له: لا [يصح لك] (¬5) قربة ¬

_ = (6/ 160) من طريق ابن وهب: أخبرني الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد عن صدقة عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذا ما أوصى به عبد اللَّه عمر أمير المؤمنين أن ثمغًا وصِرمة. . . تليه حفصة ثم يليه ذو الرأي من أهلها لا يباع ولا يشترى ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم. وانظر: "سنن الدارقطني" (4/ 189)، وينظر الحديث المرفوع الذي بعده فإنه يدل على ذلك أيضًا، وفي "صحيح البخاري" (2777) في (الوصايا): باب نفقة القيّم للوقف بسنده إلى ابن عمر: أن عمر اشترط في وقفه: "أن يأكل من وَليَه ويُؤكل صديقه، غير متموّل مالًا". ونحوه في "صحيح مسلم" (رقم 1632) (كتاب الوصية): باب الوقف، وانظر -غير مأمور-: "مسند الفاروق" لابن كثير (1/ 365 - 366). و"تحرير القواعد" (2/ 50 - بتحقيقي) لابن رجب، وفي (ك): "وكان". (¬1) رواه البخاري (2737) في "الشروط": باب الشروط في الوقف، و (2772) في "الوصايا": باب الوقف كيف يكتب، و (2773) باب الوقف للغني والفقير والضيف، ومسلم (1632) في "الوصية": باب الوقف، من حديث ابن عمر. وانظر: "المجالسة" (رقم 2623 - بتحقيقي). (¬2) سقط من (ق). (¬3) في (ن) و (ك): "محرمًا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "يصلح لك"، وفي (ق): "يصلح".

[حيلة لتجويز وقف الإنسان على نفسه]

الوقف إلا بحرمان قربة النظر والقيام بمصالح الوقف؟ فأي نص وأي قياس. وأي مصلحة وأي غرض للشارع أوْجَبَ ذلك؟ بل أي صاحب قال ذلك؟ فإن احتاج الواقف إلى ذلك في موضع لا يُحْكم فيه إلا بقول مَنْ يبطل الوقف إذا لم يخرجه عن يده وإذا شرط النظر لنفسه، فالحيلة في ذلك أن يفوض النظر إلى مَنْ يثق به ويجعل إليه تفويض النظر لمن شاء، فيقبل الناظر ذلك، ويصح الوقف ويلزم، ثم يفوضه الناظر إليه؛ فإنه قد صار أجنبيًا بمنزلة سائر الناس، فهذه حيلة صحيحة يتوصل بها إلى حق، فهي (¬1) جائزة، وكذلك لو جعل النظر فيه للحاكم ثم فوَّضه الحاكم إليه، فإنْ خاف أن لا يفوضه الحاكم إليه فليملّكه لمن يثق به، ويقفه (¬2) ذلك على ما يريد المملِّكُ، ويشترط أن يكون نظره له، وأن يكون تحت يده. [حيلة لتجويز وقف الإنسان على نفسه] المثال السابع (¬3) والأربعون: إذا وقف على نفسه ثم على غيره صح في إحدى (¬4) الروايتين عن الإمام أحمد (¬5)، وهو قول أبي يوسف (¬6)، [وعليه عمل الحنفية] (¬7)، وقول (¬8) بعض الشافعية، وممن اختاره أبو عبد اللَّه الزبيري (¬9)، وعند الفقهاء الثلاثة (¬10) لا يصح. ¬

_ (¬1) في (ق): "وهي". (¬2) تحرفت في (ن) إلى: "ونفقة"، وفي (ك): "ويعقد". (¬3) في (ك) و (ق): "الخامس". (¬4) في (ك) و (ق): "أصح". (¬5) انظر: "مطالب أولي النهى" (4/ 284 - 285) و"منتهى الإرادات" (2/ 5) و"الشرح الكبير" (6/ 193). (¬6) وقال (ط): "في نسخة: صح في أصح الروايتين -إلخ". (¬7) انظر: "البحر الرائق" (5/ 213)، و"فتح القدير" (5/ 56)، "المبسوط" (13/ 41) و"الفتاوى الهندية" (2/ 371) و"فتح القدير" (5/ 75) و"الإسعاف" (1079) و"الفتاوى الخانية" (2/ 323). وما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬8) في (ق) و (ك): "وهو قول". (¬9) هو قول أبي عبد اللَّه الزبيري وابن سريج، انظر المراجع الآتية. (¬10) انظر: لمذهب المالكية: "مواهب الجليل" (6/ 24 - 25) و"حاشية الدسوقي" (4/ 80 - 81)، ولمذهب الشافعية: "مغني المحتاج" (2/ 380)، و"المهذب" (1/ 441)، وفي (و): "وعن الفقهاء"، وأشار إليها (ط) في الهامش.

[قول المانعين من صحة الوقف على نفسه]

[قول المانعين من صحة الوقف على نفسه] والمانعون من صحته قالوا: يمتنع كون الإنسان معطيًا من نفسه لنفسه؛ ولهذا لا يصح أن يبيع نفسه ولا يهب نفسه ولا يؤجر ماله من نفسه، فكذا لا يصح وقفه على نفسه. [قول المجوزين لصحة وقف الإنسان على نفسه] قال المجوِّزون: الوقف شبيه العتق والتحرير من حيث إنه يمتنع نقل الملك في رقبته، ولهذا لا يفتقر إلى قبول إذا كان على غير معيَّن اتفاقًا، ولا إذا كان على معين على أحد القولين، وأشْبَهُ شيء به أم الولد. وإذا كان مثل التحرير لم يكن الواقف مملكًا لنفسه، بل يكون مخرجًا للملك عن نفسه، ومانعًا لها من التصرف في رقبته مع انتفاعه بالعين كام الولد. وهذا إذا قلنا بانتقال رقبة الوَقْف إلى اللَّه تعالى ظاهر؛ فإن الواقف أخرج رقبة الوقف للَّه وجعل نفسه أحق المستحقين (¬1) للمنفعة مدة حياته فإن لم يكن أولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم، فهذا محض القياس. وإن قلنا: الوَقْفُ ينتقل إلى الموقوف عليهم بطنًا بعد بطن يتلقونه من الواقف، فالطبقةُ الأولى أحد الموقوف عليهم، ومعلوم أن أحد الشريكين إذا اشترى لنفسه أو باع من مال الشركة جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين، فلأن (¬2) يجوز أن ينقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها [هو أحدها] (¬3) أولى؛ لأنه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص إلى ملك مشترك اسه فيه نصيبٌ، بل في الشركة الملكُ الثاني من جنس الأول يملك به التصرف في الرقبة، وفي الوقف ليس من جنسه فيكون أولى بالجواز. يؤيده أنه لو وقف على جهة عامة جاز أن يكون كواحد من تلك الجهة، كما وقف عثمان بئر رُومَة (¬4) وجعل دَلْوَه فيها كدِلاء المسلمين (¬5)، وكما يصلي المرء ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق) و (د): "أحد المستحقين"، وأشار (د) في الهامش إلى المثبت هنا. (¬2) في (ن) و (ق): "فلا"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) "بئر بالمدينة اشتراها عثمان وسبلها، ورومة أرض بالمدينة بين الجرف ورعانة نزلها المشركون عام الخندق" (و). قلت: وهي، بئر قديمة جاهلية في أسفل وادي العقيق (غربي المدينة) قريبة من مجتمع الأسيال في براح واسع من الأرض، قاله السمهوري في "وفاء الوفا" (2/ 138). (¬5) رواه ابن أبي شيبة (12/ 39 - 40)، وأحمد (1/ 70)، وابنه في "زوائد المسند" (1/ 74)، =

في المسجد الذي وقفه، ويشرب من السِّقاية التي وقفها، ويُدفن في المقبرة التي سَبَّلها، ويمر (¬1) في الطريق التي فتحها، وينتفع بالكتاب الذي وقفه، ويجلس على البساط والحصير اللذين وقفهما، وأمثال ذلك، فإذا جاز للواقف أن يكون موقوفًا عليه في الجهة العامة جاز مثله في الجهة الخاصة؛ لاتفاقهما في المعنى، بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين، وهناك دَخَلَ في الوقف بشمول الاسم له. وتقليد هذا القول خير [له] (¬2) من الحيلة الباردة التي يملِّك الرجل فيها ماله لمن لا تطيب له نفسه أن يعطيه درهمًا ثم يقفه (¬3) ذلك المملَّك على المملِّك؛ فإن هذه الحيلة تضمنت أمرين: أحدهما: لا حقيقة له، وهو انتقال الملك إلى المملِّك. والثاني: اشتراطه عليه أن يقف على هذا الوجه، أو إذنه له فيه (¬4)، وهذا في المعنى توكيل [له] (5) في الوقف، كما أن اشتراطه حَجْر عليه في التصرف بغير الوقف؛ فصار وجود هذا التمليك وعدمه سواء لم يملكه المملَّك ولا يمكنه [وجود] (¬5) التصرف فيه، ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته أخذه، ولو أنه أخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده إليه عُدَّ ظالمًا غاصبًا (¬6)، ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذًا كنفوذه قبله، هذا فيما (¬7) بينه وبين اللَّه ¬

_ = و"زوائد فضائل الصحابة" (827)، والترمذي (3703) في "المناقب": باب في مناقب عثمان، والنسائي (6/ 46 - 47) في "الجهاد": باب فضل من جهز غازيًا و (6/ 235، 236) في "الأحباس": باب وقف المساجد، وابن أبي عاصم في "السنة" (1303، 1305، 1306)، وابن خزيمة (2492)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (5019)، والدارقطني (4/ 196)، وأبو الشيخ في "طبقات أصبهان" (2/ 237 - 238)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 188)، والبيهقي (6/ 168)، وابن عساكر (239 - ترجمة عثمان) من طرق، وهو حسن. وانظر: "علل الدارقطني" (3/ 16، 17)، "الغرائب" (1/ 173 - أطرافه) و"المجالسة" (رقم 240 - بتحقيقي)، وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4347، 4348). (¬1) في المطبوع: "أو يمر. . .". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) في (ق): "يوقفه". (¬4) في (ن) و (ق): "وأذن له فيه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬6) "في نسخة: عاصيًا" (د). قلت: هي هكذا في: (ن) و (ق). (¬7) سقط من (ق) و (ك).

تعالى، وكذلك في الحكم إن قامت بينة بأنهما تواطئَا على ذلك وأنه إنما وهبه إياه بشرط أن يقفه (¬1) عليه أو أقرَّ له بذلك. فإن قيل: فهل عندكم أحسن من هذه الحيلة؟ قيل: نعم، أن يقفه على الجهات التي يريد، ويستثني غلَّته ومنفعته لنفسه مدة حياته أو مدة معلومة، وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيحَ، وهو مذهب فقهاء أهل الحديث؛ فإنهم يجوِّزون أن يبيع الرجل الشيء أو يهبه أو يعتق العبد ويستثني بعض منفعة ذلك مدة. ويجوزون أن يقف الشيء على غيره ويستثني بعض منفعته مدة معلومة أو إلى حين موته (¬2). ويستدلون بحديث جابر (¬3)، وبحديث عتقِ (¬4) أمِ سلمة سفينةَ (¬5)، وبحديث عتق صفيَّة (¬6)، وبآثار صحاح كثيرة عن الصحابة رضي اللَّه عنهم لم يُعلم فيهم مَنْ خالفها، ولهذا القول قوَّة في القياس. فإن قيل: فلو عدل إلى الحيلة الأولى فما حكمها في نفس الأمر؟ وما حكم الموقوف عليه إذا علم بالحال، هل يطيب له تناول الوقف أم لا؟ قيل: لا يمنع ذلك صحة الوقف ونفوذه، ويطيب للموقوف عليه تناولُ ¬

_ (¬1) في (ن): "نفقته". (¬2) انظر: "بدائع الفوائد" (4/ 4). (¬3) هو حديث شراء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لبعير جابر، وقد تقدم تخريجه. (¬4) في (ك): "عتيق". (¬5) رواه أحمد (5/ 221)، وأبو داود (3932) في "العتق": باب في العتق على الشرط، والنسائي في "الكبرى" (4995 و 4996 و 4997) في "العتق": باب ذكر العتق على الشرط، وعزاه في "التحفة" (4/ 221) له في الشروط، وابن ماجه (2526) في "العتق": باب من أعتق عبدًا واشترط خدمته، وابن الجارود (976)، والطبراني في "الكبير" (6447)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (6/ 2134 رقم 612)، والحاكم (2/ 213 - 214 و 3/ 606)، والبيهقي (10/ 291) من طرق عن سعيد بن جُمهان عن سفينة مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "كنت مملوكًا لأم سلمة فقالت: أعتقك وأشرط عليك أن تخدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". قال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 366): "رجال أحمد والطبراني ثقات". أقول: سعيد بن جُمهان، وثقه ابن معين، وأبو داود، وأحمد، وتكلَّم فيه أبو حاتم والبخاري وقال ابن معين: يروي عن سفينة أحاديث لا يرويها غيره، وأرجو أنه لا بأس به. وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق له أفراد"، فمثله حسن إن شاء اللَّه تعالى. (¬6) سبق تخريجه، وفي (ك): "عتيق".

الوقف؛ فإن المقصود مقصود صحيح شرعي وإن كانت الطريق إليه غير مشروعة وهذا كما إذا أعتق العبد أو طلق المرأة وجَحَد ذلك فأقام العبد أو المرأة شاهدين لم يعلما ذلك فشهدا به وسعَ العبد أن يتصرف لنفسه والمرأة أن تتزوج. وفِقْهُ المسألة: أن هذا الإذن والتوكيل في الوقف وإن حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد، كما لو فسدت الشركة أو المضاربة لم يفسد تصرف الشريك والعامل لما تضمنه العقد الفاسد من الإذن، بل هذا أولى من وجهين: أحدهما: أن الاتفاق يلزمهما قبل التمليك إذنٌ صحيح ووكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما ينافيها. وأيضًا [فإنما بطل] (¬1) عقد الهبة لكونه شَرَط على الموهوب له أن لا يتصرف فيه إلا بالوقف على الواهب، ومعلوم أن التصرف في العين لا يتوقف على الملك بل يصح بالوكالة (¬2) وبطريق الولاية؛ فلا يلزم من إبطال الملك بطلان الإذن الذي تضمنه الشرط لأن الإذن مستند (¬3) غير الملك. فإن قيل: فإذا (¬4) بطل الملك ينبغي أن يبطل التصرف الذي هو من توابعه. قيل: لا يلزم ذلك؛ لأن التصرف في مثل هذه الصورة ليس من توابع الملك الحقيقي، وإنما هو من توابع (¬5) الإذن والتوكيل. يوضِّحه أن هذه الحيل التي لا حقيقة لها يجب أن تسلب الأسماء التي أعيرتها وتُعطى الأسماء الحقيقية، كما سُلب منها ما يسمَّى بيعًا ونكاحًا وهدية هذه الأسماء وأعطي اسم الربا (¬6) والسفاح والرشوة؛ فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمَّى إذنًا وتوكيلًا، ولا سيما فإن صحة الوكالة لا تتوقف على لفظ مخصوص، بل تصح بكل لفظ يدل على الوكالة؛ فهذه الحيلة في الحقيقة توكيل للغير أن يوقف (¬7) على الموكل، فمن اعتقد صحة وقف الإنسان (¬8) على نفسه ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فإنه أبطل". (¬2) في (ق) و (ك): "بطريق الوكالة". (¬3) في (ك): "مستندًا". (¬4) في (ق) و (ك): "إذًا". (¬5) في (ن): "موانع"! (¬6) في (ن): "الزنا"، وهو تصحيف. (¬7) في المطبوع وفي (ك) و (ق): "في أن يقف". (¬8) "في أولى المطبوعتين: "وقف الإنشاء" وهو تحريف" (و).

اعتقد جواز هذا الوقف، ومن اعتقد بطلانه وبطلان الحيل المُفْضِية إلى الباطل فإنه عنده يكون منقطع الابتداء، وفيه من الخلاف ما هو مشهور، فَمَنْ أبطله رأى أن الطبقة الثانية ومَنْ بعدها تبع للأولى (¬1)، فإذا لم يصح في المتبوع ففي التابع أولى أن لا يصح، ولأن الواقف لم يَرْضَ أن تصير الثانية (¬2) إلا بعد الأولى، فلا يجوز أن يُلزم بما لم يَرضَ به، إذ لا بد في صحَّة التصرف من رضا المتصرف ومُوَافقة الشرع؛ فعلى هذا هو باقٍ على ملك الواقف، فإذا مات فهل يصح الوقف حينئذ؟ يحتمل وجهين، ويكون مأخذهما [أن] (¬3) ذلك كما لو قال: "هو وقف بعد موتي" فيصح، أو أنه وقْفٌ معلّق على شرط، وفيه وجهان: فإن قيل بصحته كان من الثُلثِ وفي الزائد يقف على إجازة الورثة، وإن قيل ببطلانه كان ميراثًا، ومَنْ رأى صحته قال: قد أمكن تصحيح تصرف العاقل الرشيد بأن يصحح الوقف ويصرفه في الحال إلى جهته (¬4) التي يصح الوقف عليها، وتلغى الجهة التي لا يصح فتجعل كالمعدومة. وقيل على هذا القول: بل تصرف مصرفَ الوقفِ المنقطع، فإذا مات الواقف صرف مصرف الجهة الصحيحة. فإن قيل: فما تقولون لو سلك حيلة غير هذا كله، وأسهل منه وأقرب؟ وهي أن يقرَّ أن ما في يده من العقار وقف عليه انتقل إليه من جائز الملك جائز الوقف، ثم بعده على كذا وكذا، فما حكم هذه الحيلة في الباطن وحكم مَنْ علم بها من الموقوف عليهم؟ قيل: هذه الحيلة إنما قَصَدَ المتكلم بها إنشاءَ الوقف، وإن أظهر أنه قصد بها الإخبار، فهي إنشاءٌ في الباطن إخبارٌ في الظاهر، فهي كمن أقر بطلاق أو عتاق ينوي به الإنشاء، والوقف ينعقد بالصريح وبالكناية مع النية [وبالفعل مع النية] (¬5) عند الأكثرين، وإذا كان مقصودُه الوقف على نفسه وتكلم بقوله: "هذا وقف عليّ" وميّزه بفعله عن ملكه صار وقفًا، فإن الإقرار يصح أن يكون كنايةً عن الإنشاء مع النية، فإذا قصده به صح كما أن لفظ الإنشاء يجوز أن يقصد به الإخبار، وإذا أراد به الإخبار دُيِّنَ، فكل من الأمرين صالح لاستعماله في الآخر، فقد يقصد بالإقرار الإخبار عما مضى، وقد يقصد به الإنشاء، وإنما ذكر بصيغة الإخبار لغرض من الأغراض. ¬

_ (¬1) في (ك): "مع الأولى". (¬2) في (ق): "يصير إلى الثانية". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) في (ق) و (ك): "الجهة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق).

[صيغ العقود إنشاءات وإخبارات]

[صيغ العقود إنشاءات وإخبارات] يوضح ذلك أن صيغ العقود قد قيل هي إنشاءاتٌ وقيل إخباراتٌ؛ والتحقيق أنها متضمنة للأمرين؛ فهي إخبار عن المعاني التي في القلب، وقصد تلك المعاني إنشاء؛ فاللفظ خبر والمعنى إنشاء (¬1)، فإذا أخبر أن هذا وقف عليه وهو يعلم أن غيره لم يقفه (¬2) عليه وإنما مقصوده أن يصير وقفًا بهذا الإخبار فقد اجتمع لفظ الإخبار وإرادة الإنشاء، فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن هناك ريب أنه أنشأ الوقف، لكن لما كان لفظه إخبارًا عن غير ما عَنَاه، والذي عَنَاه لم ينشئ له لفظًا صارت المسألة محتملة، ونشات الشبهة؛ ولكن هذه النية مع هذا اللفظ الصالح [يقوم مقام التكلم باللفظ الذي ينشأ به الوقف] (¬3)، للكناية مع الفعل الدال على الوقف واللَّه أعلم. [بيع الشيء مع استثناء منفعته مدة] المثال الثامن (¬4) والأربعون: لو باع غيره دارًا أو عبدًا أو سلعة؛ واستثنى منفعة المبيع مدة معلومة جاز كما دلّتْ عليه النصوصُ والآثار والمصلحة والقياس الصحيح؛ فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا الشرط فيبطله عليه، فالحيلة في تخليصه (¬5) من ذلك أن يُوَاطئه قبل البيع على أن يؤجره إياه تلك المدة بمبلغ معين، ويقر بقبض الأجرة، ثم يبيعه إياه، ثم يستأجره كما اتفقا عليه، ويقر له بقبض الأجرة، وهذه حيلة صحيحة جائزة لا تتضمن تحليل حرام ولا تحريم حلال. [حيلة في إسقاط نفقة المطلقة البائنة] المثال التاسع (¬6) والأربعون: المطلقة البائنة لا نَفَقَةَ لها ولا سكنى بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها (¬7)، بل هي موافقة ¬

_ (¬1) انظر: "الفروق" (1/ 18، 61 - دار المعرفة) للإمام القرافي -رحمه اللَّه-. (¬2) في (ك): "يعقد". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق)، والمثبت من (ك) وفي سائر الأصول: "الصالح للكناية مع الفعل الدال على الوقف" وبعده فيها ما بين المعقوفتين. (¬4) في (ك) و (ق): "السادس". (¬5) في (ن) و (ق): "تخلصه". (¬6) في (ك) و (ق): "السابع". (¬7) هو في حديث فاطمة بنت قيس -رضي اللَّه عنهما-، وقد تقدم تخريجه.

[حيلة في الشراء]

لكتاب اللَّه، وهي مقتضى القياس، وهي مذهب فقهاء أهل الحديث (¬1)، فإن خاف المطلِّق أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوب النفقة والسكنى أو السكنى وحدها فالحيلة في تخليصه أن يعلق طلاقَهَا على البراءة الصحيحة من ذلك، فيقول: إن صحت براءتك لي من النفقة والسكنى أو من دعوى ذلك فأنت طالق، فلا يمكنها بعد ذلك أن تدعي بهما البتة. وله حيلة أخرى وهي أن يخالعها على نظير ما يعلم أنه يُفْرَضُ عليه للنفقة والسكنى أو أكثر منه، فإذا ادعت بذلك وفَرَضَه عليه الحاكم صار لها عليه مثل الذي له عليها، فإما أن يأخذ منها ويعطيها وإما أن يتقاصَّا. [حيلة في الشراء] المثال الخمسون (¬2): إذا اشترى سلعة من رجل غريب فخاف أن تستحق أو تظهر معيبة ولا يعرفه فالحيلة أن يقيم له وكيلًا يخاصمه إن ظهر ذلك، فإن خاف أن يعزل البائع الوكيل فالحيلة أن يشتريها من الوكيل نفسه ويضمنه درك المبيع. [حيلة في الوكالة والوديعة] المثال الحادي والخمسون (¬3): إذا دفع إليه مالًا يشتري به متاعًا من [بلد] (¬4) غير بلده فاشتراه وأراد تسليمه إليه وإقامته في تلك البلدة فإن أوْدَعه غيره ضمن لأنه لم يأذن له ربُّه، وإن وكل غيره في دفعه إليه ضمن أيضًا، وإن استأجر من يوصله إليه ضمن؛ لأنه لم [يكن يأمن] (¬5) غيره عليه، فالحيلة في إيصاله إلى ربه أن يشهد عليه قبل الشراء أو بعده أن يعمل في المال برأيه، وأن يوكِّل فيه أو أن يودع (¬6) إذا رأى المصلحة في ذلك كله، فإن أبى ذلك الموكل وقال: "لا يوافيني به غيرُك" فقد ضاقت عليه الحيلة، فليخرج نفسه من الوكالة، فتصير يده يد مودع، فلا يلزمه مؤنة رد الوديعة، بل مؤنة ردها على صاحبها، فإن أحب أخذ ماله أرسل مَنْ يأخذه أو جاء هو في طلبه. ¬

_ (¬1) انظر: "تهذيب السنن" (3/ 190 - 195) فإنه مهم، و"زاد المعاد" (6/ 154 - 163) مهم جدًا، و (4/ 111، 213، 223)، وفي (ق): "فقهاء الحديث". (¬2) في (ك) و (ق): "المثال الثامن والأربعون". (¬3) في (ك) و (ق): "المثال التاسع والأربعون". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "يأتمن" وفي (ق): "يأمن". (¬6) في (ك): "وأن يودع"، وفي (ق): "أو يودع".

[إسلام ذمي وعنده خمر]

فإن قيل: فلو لم يعزل نفسه كان (¬1) مؤنة الرد عليه؟ قيل: لما دخل معه في عقد الوكالة فقد التزم [له أن يسلم إليه المال، فيلزمه ما التزم] (¬2) به، فإذا أخرج نفسه من الوكالة بقي كالمودع المحض، فإن كان وكيلًا بجُعْل فهو كالأجير فمؤنة الرد عليه، ولا يملك إخراج نفسه من الوكالة قبل توفية العمل كالأجير (¬3). [إسلام ذمي وعنده خمر] المثال الثاني والخمسون (¬4): إذا أراد الذمي أن يسلم وعنده خمر، فخاف إن أسلم يجب عليه إراقتها ولا يجوز له بيعها، فالحيلة أن يبيعها من ذمي آخر بثمن معين أو في ذمته، ثم يسلم، ويتقاضاه الثمن، ولا حَرَج عليه في ذلك؛ فإن تحريمها عليه بالإسلام كتحريمها بالكتاب بعد أن لم تكن حرامًا، وفي الحديث: "إن اللَّه تعالى يُعَرِّضُ بالخمر، فمن كان عنده منها شيء فليَبِعْهُ" (¬5). فإن قيل: فلو أسلم من اشتراها ولم يؤدِّ ثمنها هل يسقط عنه؟ قيل: لا يسقط، لثبوته في ذمته قبل الإسلام. فإن قيل: فلو أسلم إليه في خمر ثم أسْلَمَا أو أحدهما. قيل: ينفسخ العقد، ويرد إليه رأس ماله. فإن قيل: فلو أراد أن يشتري [منه] (¬6) خمرًا ثم عزم على الإسلام، وخاف أن يلزمه بثمنها، فهل له حيلة في التخلص من ذلك؟ قيل: الحيلة أن لا يملكها بالشراء، بل بالقَرْض، فإذا اقترضها منه ثم [أسلما أو أحدهما] (¬7) لم يجب عليه رد بدل القرض، فإن موجَبَ القرضِ [ردُّ] (¬8) المثل، وقد تعذَّر بالإسلام. ¬

_ (¬1) في (ك): "أكان" وفي (ق): "أكانت". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ن) و (ك) و (ق): "قبل توفية الأجر". (¬4) في (ك) و (ق): "المثال الخمسون". (¬5) رواه مسلم (1578) في (المساقاة): باب تحريم بيع الخمر، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "أسلم أحدهما". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[حيل في الشفعة]

[حيل في الشفعة] المثال الثالث (¬1) والخمسون: إذا اشترى دارًا أو أرضًا وقد وقعت الحدود وصُرِفَتِ الطرق بينه (¬2) وبين جاره فلا شفعةَ فيها، وإن كانت الحدود لم تقع ولم تصرف الطرق بل طريقهما (¬3) واحدة ففيها (¬4) الشفعة، هذا أصح الأقوال في شفعة الجوار، وهو (¬5) مذهب أهل البصرة، وأحَدُ الوجهين في مذهب الإمام أحمد (¬6)، واختاره شيخ الإسلام (¬7) وغيره، فإن خاف المشتري أن يرفعه الجار إلى حاكم يرى الشفعة وإن صرفت الطرق فله التحيّل على إبطالها بضروب من الحيل: أحدها: أن يشتريها منه بألف دينار ويكاتبه على ذلك، ثم يعطيه عِوَضَ كل دينار درهمين أو نحو ذلك (¬8). وثانيها: أن يهب (¬9) منه الدار والأرض (¬10) ثم يهبه ثمنها. وثالثها: أن يقول المشتري للشفيع: إن شئت بعتكها بما اشتريتها به أو أقل (¬11) من ذلك أو أَصْبر عليك بالثمن، فيجيبه إلى ذلك فتسقط شفعته. ورابعها: أن يتصادق البائع والمشتري على شرط أو صفة تفسد البيع كأجلٍ مجهول أو خيار مجهول أو إكراه أو تَلْجئه ونحو ذلك، ثم يقرّها البائع في يد المشتري، ولا يكون للشفيع سبيل عليها. وخامسها: أن يشترط الخيار مدة طويلة، فإن صح لم يكن له أن يأخذ قبل انقضائه، وإن بطل لم يكن له أن يأخذ ببيع فاسد. وسادسها: أن يهب له تسعة أعشار الدار أو الأرض، ويبيعه العشر الباقي بجميع الثمن. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الحادي". (¬2) في (ق): "بينها". (¬3) في المطبوع: "طريقها". (¬4) في (ق): "ففيهما". (¬5) في (ق): "وهذا". (¬6) انظر: "المحرر" (1/ 365)، "المغني" (7/ 438)، "الفروع" (4/ 529 - 530)، "شرح منتهى الإرادات" (2/ 434)، وتعليقي على "الإشراف" (3/ 131 - مسألة 988) للقاضي عبد الوهاب المالكي. (¬7) في "مجموع الفتاوي" (30/ 381 - 383) وفي (ك) و (ق): "اختاره" دون واو. (¬8) نحوه في "المخارج من الحيل" (84 - 85). (¬9) في (ق): "يتهب". (¬10) في (ك) و (ق): "أو الأرض". (¬11) في (ك) و (ق): "بأقل".

[اعتراض ورده]

وسابعها: أن يوكِّل الشفيع في بيع داره أو أرضه، فيقبل الوكالة [فيبيع] (¬1)، أو يوكله المشتري في الشراء له. وثامنها: أن يَزِنَ له الثمن الذي اتفقا عليه سرًا ثم يجعله صُبْرة غير معلومة ويبيعه الدار بها. وتاسعها: أن يقر البائع بسهم من ألف سهم للمشتري فيصير شريكه، ثم يبيعه باقي الدار، فلا يجد جاره إليها سبيلًا؛ لأن حق الشريك مقدَّم على حق الجار. وعاشرها: أن يتصدق عليه ببيت من الدار، ثم يبيعه باقيها بجميع الثمن، فيصير شريكًا، فلا شفعة لجاره. وحادي عشرها: أن يأمر غريبًا أو مسافرًا بشرائها، فإذا فعل دفعها إليه ثم وكله بحفظها، ثم يُشْهد (¬2) على الدفع إليه وتوكيله حتى لا يخاصمه الشفيع. وثاني عشرها: أن يجيء المشتري إلى الجار قبل البيع فيشتري منه داره ويرغبه في الثمن أضعاف ما تساوي، ويشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام، ثم في مدة الخيار يمضي ويشتري تلك الدار التي يريد شراءها، فإذا تم العقد بينهما فسخ البيع الأول، ولا يستحق جاره عليه شفعة؛ لأنه حين البيع لم يكن جارًا، وإنما طرأ له الجوار بعد البيع. وثالث عشرها: أن يؤجر المشتري لبائع الدار عَبْدَه أو ثوبه شهرًا بسهم من الدار، فيصير شريكه، ثم بعد يومين أو ثلاثة يشتري منه بقيتها، فلا يكون لجاره عليه سبيل. ورابع عشرها: أن يشتريها بثمن مؤجل أضعاف ما تساوي، فإن الجار لا يأخذها بذلك الثمن، فإذا رغب عنها صالحه من ذلك الثمن على ما يساويه حالًا من غير جنسه (¬3). [اعتراض وردّه] فإن قيل: فأنتم قد بالغتم في الإنكار على من احتال ببعض هذه الوجوه على ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق)، وفي (ك): "ويبيع". (¬2) في (ك) و (ق): "ويشهد". (¬3) انظر: "تهذيب السنن" (2/ 194 و 5/ 167).

[صحة تعليق الوكالة والولاية بالشرط]

إسقاط الشفعة، وذكرتم تلك الآثار، فنكيل لكم بالكيل الذي كلتم به لنا. قلنا: لا سواء (¬1) نحن وأنتم في ذلك، فإنا ذكرنا هذه الوجوه تحيلًا على إبطال ما أبطله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (¬2) فلما أبطل الشفعة تحيلنا على تنفيذ حكمه وأمره بكل طريق فكنا في هذه الحيل منفذين لأمره، وأما أنتم فأبطلتم بها ما أثبته بحكمه وقضائه بالشفعة فيما لم يقسم [للبيع] (¬3)، وأنه لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (¬4)، فإذا حرم عليه البيع قبل استئذانه فما الظن بالتحيل على إسقاط شفعته؟ فتوصلتم أنتم بهذه الحيل إلى إسقاط ما أثبته، وتوصلنا نحن بها إلى إسقاط ما أسقطه وأبطله، فأي الفريقين أحق بالصواب، وأتْبَعُ لمقصود الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ واللَّه المستعان. [صحة تعليق الوكالة والولاية بالشرط] المثال الرابع (¬5) والخمسون: يصح تعليق الوكالة بالشرط، كما يصح تعليق الولاية بالشرط، كما صحت به السنة، بل تعليق الوكالة أولى بالجواز (¬6)؛ فإن الولي وكيل وكالة عامة، فإنه إنما يتصرف نيابة عن المولى، فوكالته أعم من وكالة الوكيل في الشيء المعين، فإذا صح تعليقها فتعليق الوكالة الخاصة أولى بالصحة، وقال الشافعي رحمه اللَّه (¬7): لا تصح؛ فإذا دعت الحاجة إلى ذلك فالحيلة في جوازه أن يوكله مطلقًا ثم يعلق التصرف على شرط فيصح، ولا يظهر فرق فقهي بين امتناع هذا وجواز هذا، والمقصود من التوكيل التصرف، والتوكيل وسيلة إليه، فإذا صح تعليق الغاية فتعليق الوسيلة أولى بالصحة. [حيلة لإبطال الشهادة على الزنى] المثال الخامس (¬8) والخمسون: إذا رفع إلى الإمام وادعى عليه أنه زنى، فخاف إن أنكر أن تقوم عليه البينة فيحد؛ فالحيلة في إبطال شهادتهم أن يقر إذا سُئل مرة واحدة، ولا يزيد عليها؛ فلا تسمع البينة مع الإقرار، وليس للحاكم ولا ¬

_ (¬1) في (ق): "نستوي". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ق). (¬4) مضى تخريجه. (¬5) في (ك) و (ق): "الثاني". (¬6) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 15). (¬7) "المجموع" (13/ 549)، "نهاية المحتاج" (5/ 27، 29). (¬8) في (ك) و (ق): "الثالث".

[حيلة في الخلاص من الحنث بيمين]

للإمام أن يقرره تمام النصاب، بل إذا سكت لم يتعرض له (¬1)؛ فإن كان الإمام ممن يَرَى وجوب الحد بالمرة الواحدة؛ فالحيلة أن يرجع عن إقراره فيسقط عنه الحد؛ فإذا خاف من إقامة البينة عليه أقر أيضًا ثم رجع، وهكذا أبدًا، وهذه الحيلة جائزة؛ فإنه يجوز له دَفْعُ الحد عن نفسه، وأن يُخْلِد إلى التوبة، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للصحابة لما فَرَّ ماعز من الحد: "هَلَّا تركتموه يتوب فيتوب اللَّه عليه" (¬2) فإذا فر من الحد إلى التوبة فقد أحسن (¬3). [حيلة في الخلاص من الحنث بيمين] المثال السادس (¬4) والخمسون: إذا حَلَفَ لغادر أو جاسوس أو سارق أن لا يخبر به أحدًا، ولا يدل عليه، فأراد التخلص من هذه اليمين وأن لا يخفيه، فالحيلة أن يسأل عن أقوام هو من جملتهم؛ فإذا سُئل عن غيره قال: لا، فإذا انتهت النوبة إليه سكت؛ فإنه لا يحنث ولا يأثم بالسَّتْر عليه وإيوائه، وسئل أبو حنيفة رحمه اللَّه عن هذه المسألة بعينها، قال له السائل: نزل بي اللصوص؛ فأخذوا مالي واستحلفوني (¬5) بالطلاق ألا أخبر أحدًا بهم، فخرجت فرأيتهم يبيعون مَتَاعي في السوق جَهْرة، فقال له: اذهب إلى الوالي فقل له يجمع أهل المحلة أو السكة الذين هم فيهم ثم يحضرهم ثم يسألك عنهم واحدًا واحدًا؛ فإذا سالك عمن ليس منهم، فقل: ليس منهم، وإذا سألت عمن هو منهم فاسكت؛ ففعل الرجل، فأخذ الوالي متاعه منهم، وسلمه إليه (¬6). فلو عملت هذه الحيلة مع مظلوم لم تنفع، وحنث الحالف؛ فإن المقصود الدفع عنه، وبالسكوت قد أعان عليه، ولم يدفع عنه. [حيلة لأبي حنيفة في الطلاق] المثال السابع (¬7) والخمسون: ما سئل عنه أبو حنيفة رحمه اللَّه عن امرأة قال لها زوجها: أنت طالق إذا (¬8) سألتيني الخلع إن لم أخلعك؛ وقالت المرأة: كل ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك) و (ق): "لم يعرض له". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) انظر: "الحدود والتعزيرات" (ص 159 - 160) للشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬4) في (ك) و (ق): "الرابع". (¬5) في (ق): "وأحلفوني". (¬6) ذكرها محمد بن الحسن في كتابه "المخارج في الحيل" (ص 47). (¬7) في (ك) و (ق): "الخامس". (¬8) في (ك) و (ق): "إن".

[حيلة لأخوين زفت زوجة كل منهما إلى الآخر]

مملوك لي حر إن لم أسألك الخلع اليوم، فجاء الزوج إلى أبي حنيفة رحمه اللَّه فقال: أحضر المرأة؛ فأحضرها، فقال لها أبو حنيفة: سليه الخلع، فقالت: سألتك أن تخلعني (¬1)، فقال له [أبو حنيفة] (¬2): قل لها قد خلعتك على ألف درهم تعطينيها، فقال لها ذلك، فقال لها قولي: لا أقبل، فقالت [: لا أقبل] (¬3)، فقال [لها] (¬4): قومي مع زوجك فقد بَرَّ كل واحد منكما ولم يحنث في شيء، ذكرها محمد بن الحسن في كتاب "الحيل" (¬5) له، وإنما تتم هذه الحيلة على الوجه الذي ذكره، فلو قالت له: "أسألك الخلع على ألف درهم حالة، أو إلى شهر" فقال: "قد خلعتك على ذلك" وقع الخلع؛ بخلاف ما إذا قالت له: "أخلعني" قال: "خلعتك على ألف" فإن هذا لا يكون خلعًا حتى تقبل وترضى، وهي لم ترض بالألف؛ فلا يقع الخلع. فإن قيل: فكيف يبرأ إذا لم (¬6) يقع الخلع؟ قيل: هو إنما حلف على فعله لا على قبولها، فإذا قال: "قد خلعتك على ألفٍ" فقد وجد الخلع من جهته، فانحلت يمينه، ولم يقف حل اليمين على قبولها، كما إذا حلف لا يبيع، فباع، ولم يقبل المشتري، ولا نية له (¬7)؛ فإنه يحنث. [حيلة لأخوين زفت زوجة كل منهما إلى الآخر] المثال الثامن (¬8) والخمسون: ما ذكره محمد (¬9) في كتابه (¬10) أيضًا عنه [أنه] (¬11) أتاه أخَوَان قد تزوجا بأختين؛ فزفت كل امرأة منهما إلى زوج أختها؛ فدخل بها ولم يعلم، ثم على الحال لما أصبحا؛ فذكرا له ذلك، وسألاه ¬

_ (¬1) في (ن) و (ق): "سألتك الخلع أن تخلعني". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "ذلك". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬5) وهو المطبوع بعنوان: "المخارج من الحيل" والمذكور فيه (ص 51). (¬6) في (ق): "فكيف يَبِرُّ إذا لم" وفي المطبوع: "فكيف إذا لم"! (¬7) في المطبوع و (ك): "ولا بينة له". (¬8) في (ك) و (ق): "السادس". (¬9) "هو محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة" (ط). (¬10) المطبوع بعنوان "المخارج من الحيل" (ص 51)، وذكر المزبور عند المصنف: الكردري في "مناقب أبي حنيفة" (1/ 191). (¬11) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).

[حيلة للمرأة تريد الخلاص من زوج لا ترضى به]

المخرج، فقال لهما: كل منكما راضٍ بالتي دخل بها؟ فقالا: نعم، فقال: ليطلق كل منكما امرأته التي عَقَدَ عليها تطليقة؛ ففعلا، فقال: ليعقد كل منكما على المرأة التي دخل بها، ففعلا، فقال: ليمض كل منكما إلى أهله، وهذه الحيلة في غاية اللطف؛ فإن المرأة التي دخل بها كل منهما قد وَطِئها بشبهة؛ فله أن ينكحها في عدَّتها؛ فإنه لا يصان ماؤها (¬1) عن مائه، وأمره أن يطلق واحدة فإنه لم يدخل بالتي طلقها فالواحدة تُبينها، ولا عدة عليها منه، فللآخر أن يتزوجها (¬2). [حيلة للمرأة تريد الخلاص من زوج لا ترضى به] المثال التاسع (¬3) والخمسون: إذا تزوجت المرأة وخافت (¬4) أن يسافر عنها الزوج ويَدَعها أو يسافر بها ولا تريد الخروج من دارها أو أن يتزوج عليها أو يتسرَّى أو يشرب المسكر أو يضربها من غير جُرْم أو يتبين (¬5) فقيرًا وقد ظنته غنيًا أو مَعيبًا وقد ظنته سليمًا أو أميًا وقد ظنته قارئًا أو جاهلًا وقد ظنته عالمًا أو نحو (¬6) ذلك، فلا (¬7) يمكنها التخلص، فالحيلة لها في ذلك كله أن تشترط عليه أنه متى وُجِدَ (¬8) شيء من ذلك فأمرها بيدها، إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته، وتشهد عليه بذلك، فإن خافت أن [لا] (¬9) تشترط ذلك بعد لزوم العقد فلا يمكنها إلزامه بالشرط فلا تأذن لوليها أن يزوجها منه إلا على هذا الشرط، فيقول: زوجتكها (¬10) على أن أمرها بيدها إن كان الأمرُ كيت وكيت؛ فمتى كان الأمر كذلك ملكت تطليق نفسها، ولا بأس بهذه الحيلة؛ فإن المرأة تتخلص بها من نكاح مَنْ لم ترض بنكاحه، وتستغني بها عن رفع أمرها إلى الحاكم ليفسخ [نكاحها] (¬11) بالغيبة والإعسار [وغيرهما واللَّه أعلم] (¬12). [عن صحة ضمان ما لا يجب ضمانه] المثال الستون (¬13): يصح ضمان ما لا يجب كقوله: "ما أعطيتَ لفلان فهو ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك) و (ق): "ماؤه". (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 23). (¬3) في (ك) و (ق): "السابع". (¬4) في (ك) و (ق): "فخافت". (¬5) في (ق): "يبين". (¬6) في (ق): "ونحو". (¬7) في (ق): "ولا". (¬8) في (ق): "وجدت". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في المطبوع: "زوجتكما". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬12) في المطبوع: "ونحوهما". (¬13) في (ك) و (ق): "المثال الثامن والخمسون".

عليَّ" عند الأكثرين، كما دل عليه القرآن في قول مؤذن يوسف: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] والمصلحة تقتضي ذلك، بل قد تدعو إليه الحاجة أو الضرورة (¬1)، وعند الشافعي لا يجوز (¬2)، وسلم جوازه إذا تبين سبب وجوبه كدرك المبيع. والحيلة في جوازه على هذا القول أنه إذا رضي بأن يلتزم عنه مقدارًا له لم يجب عليه بعد أن يقر المضمون عنه به للدافع ثم يضمنه عنه الضامن، فإن خشي المقر أن يطالبه المقر له بذلك ولا يدفعه إليه فالحيلة أن يقول: هو عليَّ من ثمن مبيع لم أقبضه، فإن تحرج من الإخبار بالكذب فالحيلة أن يبيعه ما يريد أخذه منه بالمبلغ الذي التزم الضامن أداءه، فإذا صار في ذمته ضمنه عنه، وهذا الحكم إذا زوج ابنه أو عبده أو أجيره وضمن للمرأة نفقتها وكسوتها فالصحيحُ في هذا كله جواز الضمان، والحاجة تدعو إليه، ولا محذور فيه، وليس بعقد معاوضة فتؤثر فيه الجهالة، وعقود الالتزام لا تؤثر فيها الجهالة كالنذر، ثم يمكن رفع الجهالة بأن يحد له حدًا فيقول: من درهم إلى كذا وكذا (¬3). فإن قيل: ما بين الدرهم والغاية مجهول لا يدري كم يلزمه منه! قيل: لا يقدح ذلك في جواز الالتزام؛ لأنه يتبين في الآخر (¬4) كم هو الواجب منه، [ثم] (¬5) لو أقر بذلك فقال: "له علي ما بين درهم إلى ألف" صح؛ فهكذا إذا قال: "ضمنت عنه ما بين درهم إلى ألف". فإن قيل: الضامن فرع على المضمون عنه، فإذا كان الأصل لم يثبت في ذمته شيء فعلى أي شيء ينبني الضمان ويتفرع؟ قيل: إنما يصير ضامنًا إذا ثبت في ذمة المضمون عنه، وإلا في الحال فليس هو ضامنًا. وإن صح أن يقال: "هو ضامن بالقوة" ففي الحقيقة هو ضمان مُعَلق على شرط، وذلك جائز، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) هذا مذهب المالكية والحنفية أيضًا وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (29/ 549) و"الإشراف" (3/ 63 مسألة 920) للقاضي عبد الوهاب المالكي وتعليقي عليه. (¬2) "الأم" (3/ 229)، "الإقناع" (102)، "المهذب" (1/ 347). (¬3) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 209 و 4/ 4، 5، 23، 51)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 164، 167، 176، 177، 178). (¬4) في (ن) و (ق): "الأجرة"، وأشار في (ق): إليها إشارة تصحيح. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي هامشها: "لعله: كما لو أقر".

[حيلة في الخلاص مما سبق به اللسان]

[حيلة في الخلاص مما سبق به اللسان] المثال الحادي (¬1) والستون: إذا سبق لسانُه بما يؤاخذ به في الظاهر ولم يرد معناه، أو أراده ثم رجع عنه وتاب منه، أو خاف أن يشهد عليه به شهود زور ولم يتكلم به، فرفع إلى الحاكم وادعى عليه به، فإن أنكر شهدوا عليه. وإن أقرَّ حكم عليه، ولا سيما إن كان لا يرى قبول التوبة من ذلك، فالحيلة في الخلاص أن لا يقر به ولا ينكر، فيشهد عليه الشهود، بل يكفيه في الجواب أن يقول: "إن كنت قلته فقد رجعت عنه، وأنا تائب إلى اللَّه منه" وليس للحاكم بعد ذلك أن يقول: لا أكتفي منك بهذا الجواب، بل لا بد من الإقرار أو الإنكار، فإن هذا جواب كافٍ في مثل هذه الدعوى، وتكليفه بعد ذلك [خطة الخسف] (¬2) بالإقرار -وقد يكون كاذبًا فيه، أو الإنكار وقد تاب منه بينه وبين اللَّه تعالى، فيشهد عليه الشهود- ظلم (¬3) وباطل؛ فلا يحل للحاكم أن يسأله بعد هذا هل وقع منك (¬4) ذلك أو لم يقع، بل أبلغ من هذا لو شهد عليه بالردة فقال: "لم أزل أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه منذ عَقَلْت وإلى الآن" لم يُسْتَكْشف عن شيء، ولم يسأل لا هو ولا الشهود عن سبب ردته، كما ذكره الخرقي في "مختصره" (¬5) وغيرُهُ من أصحاب الشافعي، فإذا ادعى عليه بأنه قال كذا وكذا فقال: "إن كنت قلته فأنا تائب إلى اللَّه منه" أو: "قد (¬6) تبت منه" فقد اكتفى منه بهذا الجواب، ولم يكشف عن شيء منه (¬7) بعد ذلك. [هل يجوز تعليق التوبة بالشرط؟] فإن قيل: هذا تعليق للتوبة أو الإسلام بالشرط، ولا يصح تعليقه بشرط. قيل: هذا من قلَّة فقه مُورِدِه؛ فإن التوبة لا تصح إلا على هذا الشرط، تلفظ به أو لم يتلفَّظ به، وكذلك تجديدُ الإسلام لا يصح إلا بشرط أن يوجَدَ ما يناقضه فتلفظه بالشرط تأكيد لمقتضى عقد التوبة والإسلام، وهذا كما إذا (¬8) قال: "إن ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "التاسع والخمسون". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين بياض في (ق)، وفى (ك): "حَظه الحسف". (¬3) قبلها في (ق) بياض ثم: "وظلم". (¬4) في (ق) و (ك): "منه". (¬5) (12/ 286 - 287، مع "المغني" - ط هجر). (¬6) في (ك) و (ق): "فقد". (¬7) سقط من (ك) و (ق). (¬8) في (ق): "لو".

كان هذا ملكي فقد بعتك إياه" فهل يقول أحد: إن هذا بيع معلق بشرط فلا يصح؟ وكذلك إذا قال: "إن كانت هذه امرأتي فهي طالق" لا يقول أحد: إنه طلاق معلق، ونظائره أكثر من أن تذكر، وقد شرع اللَّه سبحانه لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد، حتى بينه وبين ربه كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لضباعة بنت الزبير وقد شَكَتْ إليه وقت الإحرام، فقال: "حُجِّي واشترطي على ربك فقولي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن لك ما اشترطت على ربك" (¬1) فهذا شرط مع اللَّه في العبادة، وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الأمة إليه، ويفيد شيئين: جواز التحلل (¬2)، وسقوط الهَدْي، وكذلك الداعي بالخيرة يشترط على ربه في دعائه، فيقول: اللهم إن كان هذا الأمر خيرًا لي في ديني ومَعَاشي وعاقبة أمري [عاجله وآجله] (¬3) فاقْدُرْهُ لي ويسره لي (¬4)، فيعلق طلب الإجابة بالشرط لحاجته إلى ذلك لخفاء المصلحة عليه. وكذلك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اشترط على ربه أيما رجل سَبَّهُ أو لعنه وليس لذلك بأهل أن يجعلها كفارة له وقربة يقربه بها إليه (¬5)، وهذا تعليق للمدعو به بشرط الاستحقاق. وكذلك المصلِّي على الميت شرع له تعليق الدعاء بالشرط، فيقول: اللهم أنت أعلم بسره وعلانيته، وإن كان محسنًا فتقبل حسناته، وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته (¬6)؛ فهذا طلب للتجاوز عنه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (5089) في "النكاح": باب الإكفاء في الدين، ومسلم (1207) في "الحج": باب جواز اشتراط المحرم التحلل، من حديث عائشة. ورواه مسلم (1208) من حديث ابن عباس. (¬2) في (ن): "جواز التحليل"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك). (¬4) هو جزء من حديث الاستخارة، أخرجه البخاري (6382) "كتاب الدعوات": باب الدعاء عند الاستخارة وطرفاه في (1162، 7390). (¬5) ورد هذا من حديث عدد من الصحابة: منها حديث أبي هريرة: رواه البخاري (6361) في (الدعوات): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من آذيته فاجعله له زكاة ورحمة"، ومسلم (2601) بعد (89) و (90) في (البر والصلة): باب من لعنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو سبّه. . . ومن حديث عائشة: رواه مسلم (2600)، ومن حديث جابر رواه مسلم أيضًا (2602)، ومن حديث أنس رواه مسلم (2603)، وفي (ك): "تقربها إليه". (¬6) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 256 و 345 و 363 و 459)، وأبو داود (3200) في (الجنائز): باب الدعاء للميت وابن أبي شيبة (3/ 292 و 10/ 410)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (1076 و 1078)، والطبراني في "الدعاء" (1178 و 1179 و 1180 و 1182 - 1185)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 42)، وقد وقع في إسناده اضطراب لكن قال =

بشرط، فكيف يمنع تعليق التوبة بالشرط؟ وقال شيخنا: كان يشكل عليَّ أحيانًا حالُ مَنْ أصلِّي عليه [من] (¬1) الجنائز، هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: يا أحمد الشرط الشرط، أو قال: علق الدعاء بالشرط، وكذلك أرشد أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط فقال: "لا يتمنى (¬3) أحدكم الموتَ لضر نزل به، ولكن ليَقُلْ: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" (¬4). وكذلك قوله في الحديث الآخر: "وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفني إليك غيرَ مفتون" (¬5) ¬

_ = الطبراني بعد (1184): لم يضبط أبو بلج ولا شعبة إسناد هذا الحديث وأثبته عبد الوارث. أقول: طريق عبد الوارث الذي أشار إليه: رواه عن أبي الجلاس عقبة بن سيار: حدثني علي بن شماخ قال: شهدت مروان سأل أبا هريرة: كيف سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي على الجنازة؟. . . فذكره. ورجاله ثقات غير علي بن شماخ، قال فيه الحافظ في "التقريب": مقبول: وهو لم يوثقه إلا ابن حبان وهو متابع، لكن في أسانيده اضطراب كما ذكرت، ومع هذا فقد حسنه الحافظ ابن حجر كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 176). وقد صح عن أبي هريرة قوله، أخرجه مالك (1/ 228 - رواية يحيى و 1016 - رواية أبي مصعب و 164 - 165 رواية محمد بن الحسن) -ومن طريقه عبد الرزاق (6425) والقاضي إسماعيل في "فضل الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (رقم 93) - وله حكم الرفع، وانظر "جلاء الأفهام" (518 - 519/ بتحقيقي) وللحديث شواهد عديدة، انظرها في "أحكام الجنائز" (ص 158 - 159). (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬2) في (ق): "أرشد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمته". (¬3) في (ق): "يتمنين". (¬4) رواه البخاري (5671) في "الرضى": باب تمني المريض للموت، و (6351) في "الدعوات": باب الدعاء بالموت والحياة، و (7233) في "التمني" باب ما يكره من التمني، ومسلم (2680) في (الذكر والدعاء): باب كراهة تمني الموت لضر نزل به من حديث أنس -رضي اللَّه عنه-. (¬5) هو جزء من حديث اختصام الملأ الأعلى، اختلف في أسانيده اختلافًا كثيرًا، لا أريد الإطالة بذكره، ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 25)، وقال محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" -كما في "النكت الظراف" (4/ 382) -: هذا حديث اضطرب الرواة في إسناده، وليس يثبت عن أهل المعرفة. وقال الدارقطني في "علله" (6/ 75): ليس فيها صحيح، وكلها مضطربة، ونحوه قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 34). ولابن رجب رسالة مفردة في طرقه وشرحه، وهي مطبوعة. وورد هذا الجزء في حديث أوله: "اللهم إني أسألك الطيبات، وترك المنكرات. . .". =

[تعليق العقود والفسوخ بالشروط]

وقال: "المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا (¬1) ". [تعليق العقود والفسوخ بالشروط] وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة؛ فلا يستغني عنه المكلف، وقد صح تعليق النذر (¬2) بالشرط بالإجماع ونص الكتاب، وتعليق الضمان بالشرط بنص القرآن، وتعليق النكاح بالشرط في تزويج موسى عليه السلام بابنة صاحب مَدْين وهو من أصح نكاح على وجه الأرض، ولم يأت في شريعتنا ما ينسخه، بل أتَتْ مقررة له كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬3) فهذا صريح في أن حل الفروج (¬4) بالنكاح قد يعلق على شرط، ونص الإمام أحمد رحمه اللَّه على جواز تعليق النكاح بالشرط، وهذا هو الصحيح، كما يُعَلَّق الطلاق والجعالة والنذر وغيرها من العقود، وعلق أمير المؤمنين عمر -رضي اللَّه عنه- عقد المزارعة بالشرط، فكان يدفع أرضه إلى مَنْ يعمل عليها على أنه إن جاء عمر بالبذر فله كذا وإن جاء العامل بالبذر فله كذا، وذكره البخاري (¬5)، ولم يخالفه صاحب، ونص الإمام أحمد (¬6) على جواز تعليق البيع بالشرط في قوله: إن بعْتَ هذه الجارية فأنا أحق بها بالثمن، واحتج بأنه قول ابن مسعود رضي اللَّه عنه (¬7)، ورهن ¬

_ = أخرجه أحمد (4/ 66 و 5/ 378) وابنه عبد اللَّه في "السنة" (رقم 1121) وابن خزيمة في "التوحيد" (رقم 55) عن عبد الرحمن بن عايش عن بعض أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وورد من حديث معاذ، رواه الترمذي (3235) وأحمد (5/ 243)، وابن خزيمة في "التوحيد" (رقم 321) وهذا إسناد متصل رجاله ثقات، وقد صححه أحمد وابن خزيمة، وقال الترمذي: حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: "هذا حديث حسن صحيح". (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في المطبوع: "النظر"! (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ك) و (ق): "الفرج". (¬5) في "صحيحه" (كتاب الحرث والمزارعة: باب المزارعة بالشطر ونحوه قبل حديث (2328)، وقد ذكرت من وصله في مكان آخر، وفي (ك): "كذا البخاري". (¬6) في رواية مهنأ، كما في "القواعد النورانية" (ص 191)، وانظر "مسائل عبد اللَّه" (278/ 1038)، و"قواعد ابن رجب" (3/ 26 - بتحقيقي). (¬7) هي قصة وقعت لابن مسعود مع زوجته، أسوقها لتنظر: فقد روى مالك في "الموطأ" (2/ 616)، ومن طريقه البيهقي في "السنن" (5/ 336)، وعبد الرزاق (14291)، وأبو يوسف في "الآثار" (رقم 844)، وسعيد بن منصور =

الإمام أحمد نَعْلَه وقال للمرتهن: إن جئتك بالحق إلى كذا وإلا فهو لك، وهذا (¬1) بيع بشرط، فقد (¬2) فعله وأفتى به. وكذلك تعليق الإبراء بالشرط (¬3)، نص على جوازه فِعْلًا منه، فقال لمن اغتابه ثم اسْتَحَله: "أنت في حل إن لم تعد" فقال له الميموني: قد اغتابك وتحلله؟ فقال: ألم ترني قد اشترطت عليه أن لا يعود؟ والمتأخرون من أصحابه يقولون. لا يصح تعليق الإبراء بالشرط وليس ذلك موافقًا لنصوصه ولا لأصوله، وقد علق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولاية الإمارة بالشرط (¬4)، وهذا تنبيه على تعليق الحكم في كل ولاية، وعلى تعليق الوكالة الخاصة والعامة، وقد علق أبو بكر تولية عمر -رضي اللَّه عنه- بالشرط (¬5)، ووافقه عليه سائر الصحابة رضي اللَّه عنهم فلم ينكره منهم رجل واحد، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ باع نخلًا قد أُبِّرَتْ فثمرتُها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع" (¬6) فهذا الشرط (¬7) خلاف مقتضى العقد المطلق، وقد جوزه الشارع، وقال: "مَنْ أعتق (¬8) عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع" (¬9) وفي "السنن" عنه: "مَنْ أعتق عبدًا وله مال فمال العبد له إلا أن يشترطه السيد" (¬10) وفي "المسند" و"السنن" عن سفينة قال: "كنت مملوكًا لأم ¬

_ = (2251)، وحنبل في "مسائل أحمد" -كما في "القواعد النورانية" (ص 191) - من طرق عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أن عبد اللَّه بن مسعود ابتاع جارية من امرأته زينب الثقفية، واشترطت عليه: أنّك إنْ بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به، فسأل عبد اللَّه بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر: لا تقربها، وفيها شرط لأحد. ورواية عبيد اللَّه عن ابن مسعود مرسلة. وفي (ن) و (ق): "واحتج بقول ابن مسعود". (¬1) في (ق) و (ك): "فهذا". (¬2) في (ق): "وقد". (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 16)، و"بدائع الفوائد" (4/ 79)، و"أحكام أهل الذمة" (1/ 385). (¬4) يريد حديث: "أميركم زيد فإن قتل فجعفر، حيث صرح بهذا" فيما يأتي. والحديث رواه البخاري (4261) في (المغازي): باب غزوة مؤتة من أرض الشام، من حديث ابن عمر قال: "أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة مؤتة زيد بن حارثة وقال: "إن قتل زيد فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اللَّه بن رواحة. . .". (¬5) انظر: "تاريخ المدينة" (2/ 665 - 673) لابن شبة و"أنساب الأشراف" (ص 163 - 164)، و"طبقات ابن سعد" (3/ 274) و"مناقب عمر" (53) لابن الجوزي. (¬6) ورد في حديث تقدم تخريجه. (¬7) في (ن) و (ك) و (ق): "فهذا اشتراط". (¬8) في (ك): "باع". (¬9) ورد في حديث تقدم تخريجه. (¬10) رواه أبو داود (3962) في "العتق": باب من أعتق عبدًا وله مال، وابن ماجه (2529) في "العتق": والنسائي في "الكبرى" (4981) في "العتق": باب من أعتق عبدًا =

سلمة، فقالت: أعتقتك، واشترطت (¬1) عليك أن تخدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عِشْتَ، فقلت: إن (¬2) لم تشترطي عليَّ ما فَارَقْتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عِشْتُ، فأعتقتْنِي واشترطت علي" (¬3)، وذكر البخاري في "صحيحه" عن عمر [بن الخطاب] (¬4) -رضي اللَّه عنه- قال: مَقَاطعُ الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت (¬5)، وقال البخاري في باب الشروط في القرض: "وقال ابن عمر وعطاء: إذا أجَّله في القرض جاز" (¬6) وقال ¬

_ = والدارقطني (4/ 133 - 134)، والبيهقي (5/ 324) من طرق عن الليث بن سعد عن عبيد اللَّه بن جعفر عن بكير بن الأشج عن نافع عن ابن عمر به. وعند بعضهم: عن الليث وابن لهيعة. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. لكن رواه النسائي في "الكبرى" (4985): أخبرنا محمد بن عبد اللَّه بن الحكم عن أشهب عن الليث عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر عن نافع عن ابن عمر به. وأشهب هذا هو ابن عبد العزيز من الثقات، وعبيد اللَّه بن أبي جعفر أدرك نافعًا، فيمكن أن يكون روى الحديث على الوجهين، وعلى كل حال فلا إعلال ما دام أن ابن وهب ذكره على الجادة. (¬1) في هامش (ف): "لعله: اعتقك واشترط". (¬2) في المطبوع: "ولو لم". (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 221)، وأبو داود (3932) في "العتق": باب في العتق على الشرط، والنسائي في "الكبرى" (4995 و 4996) في "العتق": باب ذكر العتق على الشرط -وعزاه في "تحفة الأشراف" له في (الشروط): (4/ 22) - وابن ماجه (2526) في "العتق": باب من أعتق عبدًا، واشترط خدمته، وابن الجارود (976)، والطبراني في "الكبير" (6447)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (6/ 2134 رقم 612)، والحاكم (2/ 213 - 214 و 3/ 606)، والبيهقي (10/ 291) من طرق عن سعيد بن جُمهان عنه. أقول هذا إسناد فيه سعيد بن جُمهان، وثقه ابن معين، وأحمد، وأبو داود، وقال النسائي: لا بأس به، وقال البخاري: في حديثه عجائب، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال ابن معين: روى عن سفينة أحاديث لا يرويها غيره، وأرجو أنه لا بأس به، وقال ابن حجر: "صدوق له أفراد"، فمثله حسن إن شاء اللَّه تعالى. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) (كتاب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة): باب الشروط في المهر عند النكاح (3/ 249)، ووصله ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور وابن حجر في "التغليق" (3/ 408 - 409)، وانظر "فتح الباري" (5/ 323 و 9/ 217). (¬6) في "صحيحه" (كتاب ما يجوز من الشروط): باب الشروط في القرض (3/ 259). وقد وقع في جميع النسخ المطبوعة: "فإذا أحله. . ." ووصله عن ابن عمر ابن أبي شيبة (6/ 480)، ورواه عبد الرزاق عن عطاء، وانظر: "تغليق التعليق" (3/ 414) و"الفتح" (5/ 66 و 353).

في باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا (¬1) في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم (¬2): "قال ابن عون (¬3) عن ابن سيرين قال: قال رجل لِكَرِيِّه: أدْخِل (¬4) ركابكَ فإن لم أرحل معك [في] (¬5) يوم كذا وكذا فلك مئة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: مَنْ شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين: إن رجلًا باع طعامًا فقال (¬6): إنْ لم آتِكَ الأربعاء فليس بيني وبينك بيْع، فقال للمشتري: أنتَ أخلفْتَه، فقضى عليه". وقال في باب الشروط في المهر [عند عُقْدَةِ النكاح] (¬7): وقال المسور سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر صهرًا له فأثْنَى عليه في مصاهرته فأحسن، فقال: "حدثني فصَدَقَني، ووعدني فوفاني" (¬8) ثم ذكر فيه حديث "أحَقُّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬9). وقال في كتاب الحَرْث [والمزارعة] (¬10): وعامَلَ عمرُ الناسَ على [أنه إن] (¬11) جاء عمرُ بالبَذْر من عنده فلهم الشَّطْر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا (¬12). وهذا صريح في جواز "إن خطْتَه اليوم فَلك كذا، وإن خِطْتَه ¬

_ (¬1) "الثنيا -بضم الثاء وسكون النون-: هي يستثنى في عقد البيع شيء مجهول، فيفسده، وقيل: هو أن يباع شيء جزافًا، فلا يجوز أن يستثنى منه شيء قل أو كثر، وتكون في المزارعة أن يستثنى بعد النصف أو الثلث كيل معلوم" (و). (¬2) (5/ 354 - من "فتح الباري") وأثر ابن سيرين الأول وصله سعيد بن منصور من طريق هشيم عن ابن عون عنه، ووصل الثاني أيضًا عن سفيان عن أيوب به، أفاده ابن حجر، وانظر "تغليق التعليق" (3/ 415). (¬3) في المطبوع: "ابن عوف". (¬4) في جميع الأصول: "ارحل" والتصويب من "صحيح البخاري". (¬5) سقط من (ك). (¬6) في (ك) و (ق): "وقال". (¬7) هو في "صحيحه" (5/ 322/ الباب السادس)، وما بين المعقوفتين زيادة من "الصحيح". (¬8) رواه البخاري (3110) في (فرض الخمس): باب ما ذكر من درع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعصاه وسيفه، و (3729) في (فضائل الصحابة): باب ذكر أصهار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (2449) بعد (95) و (96). وانظر: كتاب الشروط: الشروط في المهر عند عقدة النكاح (5/ 322 - مع "الفتح") و"تغليق التعليق" (3/ 408 - 409). (¬9) مضى تخريجه، وقال (و): ". . . يقصد بالصهر عثمان بن عفان، وكان هذا تعريضًا بعلي حين هم بالزواج من ابنة أبي جهل" اهـ. (¬10) من "صحيحه" باب المزارعة بالشطر ونحوه (5/ 10)، وما بين المعقوفتين زيادة من "الصحيح"، وفي (ق): "باب" بدل "كتاب". (¬11) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "أن". (¬12) رواه البخاري تعليقًا في كتاب "الحرث والمزارعة": باب المزارعة بالشطر ونحوه، قبل =

غدًا فلك كذا" (¬1) وفي جواز "بعتكه بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة" فالصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس. وقال جابر: بِعْتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعيرًا، واشترطت حملانه إلى أهلي (¬2). وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ عن نافع بن عبد الحارث عامل عمر على مكة أنه اشترى من صَفْوَان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم، واشترط عليه نافع إن رضي عمر فالبيع له، كان لم يَرْضَ فلصفوان أربع مئة درهم (¬3)، ومن هاهنا قال الإمام أحمد: لا بأس ببيع العُربون (¬4) لأن عمر فعله، وأجاز هذا البيع والشرطَ فيه مجاهد ومحمد ابن سيرين وزيد بن أسلم ونافع بن عبد الحارث، وقال أبو عمر (¬5): وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وذكر الإمام أحمد ¬

_ = رقم (2328)، ومضى بيان من وصله. (¬1) "المغني" (6/ 8، 9 - مع "الشرح الكبير")، "الإنصاف" (6/ 45). وانظر: "الإشراف" (3/ 209 - 210 مسألة 1056) للقاضي عبد الوهاب وتعليقي عليه. (¬2) أخرجه البخاري في "الصحيح" في عدة مواضع منها: "كتاب الشروط": باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة (رقم 2718)، ومسلم في "الصحيح" "كتاب المساقاة": باب بيع البعير واستثناء ركوبه (رقم 715). (¬3) علقه البخاري في "صحيحه" في (الخصومات): باب الربط والحبس في الحرم قبل الحديث (2423) قال: واشترى نافع بن عبد الحارث دارًا للسجن من صفوان بن أمية. . . فذكره. ووصله ابن أبي شيبة (5/ 392)، وعبد اللَّه بن أحمد في "مسائله" (1044، أو 1229 ط مكتبة الدار)، والبيهقي (6/ 34) وابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 326 - 327)، من طريق ابن عيينة به، ورجاله ثقات إلا عبد الرحمن بن فروخ لم يوثقه إلا ابن حبان، ولم يرو عنه إلا عمرو بن دينار. وانظر: "فتح الباري" (5/ 76) و"عمدة القارئ" (10/ 276). (¬4) "بضم العين وسكون الراء وبفتح العين" (و). وانظر عن بيع العربون: "المقنع" (2/ 31 - 32) "الإنصاف" (4/ 358)، "المغني" (4/ 175)، "المبدع" (4/ 59)، وللدكتور ماجد أبو رخية رسالة مفردة فيه، مطبوعة عن مكتبة الأقصى، عمان، وبحثه المصنف في "بدائع الفوائد" (4/ 84) وفيه ذكر من أجازه وأدلتهم. (¬5) هو ابن عبد البر، وكلامه في "التمهيد" (24/ 179)، وفي (ك) و (ق): "قال" دون واو. (¬6) رواه ابن أبي شيبة (5/ 391) من طريق هشام بن سعد عن زيد بن أسلم أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أحل العربان في البيع. ورواه أيضًا (5/ 392) من طريق معتمر بن سليمان عنه. وهذه أسانيد فيها إعضال بين هشام ومعتمر، وزيد بن أسلم مفاوز. ورواه عبد الرزاق أنا الأسلمي، عن زيد بن أسلم به. =

[شأن الشروط عند الشارع]

أن محمد بن مسلمة الأنصاري اشترى من نَبَطِي حزمة حطب، واشترط عليه حملَها إلى قصر سعد (¬1)، واشترى عبدُ اللَّه بن مسعود جاريةً من امرأته وشَرَطَتْ عليه أنه إن باعها فهي لها بالثمن (¬2)، وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط، ذكره الإمام أحمد (¬3) وأفتى به. [شأن الشروط عند الشارع] والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء؛ فإنهم يُلْغُونَ شروطًا لم يُلْغِها الشارعُ، ويفسدون بها العقدَ من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله؛ فليس (¬4) لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل؛ فالصواب الضابط الشرعي الذي دلّ عليه النصُّ أن كل شرط خالف حكم اللَّه تعالى وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف (¬5) حكمه فهو لازم. يوضحه أن الالتزام بالشرط كالالتزام بالنذر، والنذر لا يبطل منه إلا ما ¬

_ = والأسلمي هو إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى ضعيف، وبين الأسلمي، وزيد مفاوز، وانظر "التلخيص" (3/ 17)، و"التمهيد" (24/ 179). ووردت أحاديث في منع بيع العربون، لم تثبت، منها: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع العربان رواه مالك (377) وأحمد (2/ 183) وأبو داود (3502) وابن ماجه (2192، 2193). (¬1) أخرجه أحمد (1/ 54) وابن جرير في "التاريخ" (4/ 47) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (55/ 279 - 281) وفيه قصة طويلة، ولا يوجد فيه الشاهد المذكور عند المصنف، ثم وجدته في "مسند إسحاق" -كما في "المطالب العالية" (2/ 384 - 385 رقم 2137) - ولفظ الشاهد منه: "وانطلق (محمد بن مسلمة) حتى قدم جبانة الكوفة، فرأى نبطيًا يدخل الكوفة بقصب على حمار يبيعه، فابتاعه منه، وشرط عليه أن يلقيه عند باب الأمير" رجاله ثقات، لكن فيه انقطاع، قاله ابن حجر. (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 616)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 336)، ورواه عبد الرزاق (14291) عن معمر (كلاهما مالك ومعمر) عن الزهري عن عببد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة أن عبد اللَّه بن مسعود ابتاع جارية من امرأته زينب الثقفية، واشترطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن الذي تبيعها به، فسأل عبد اللَّه بن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال عمر: لا تقربها، وفيها شرط لأحد، ورواته ثقات لكن رواية عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن مسعود مرسلة، كما نص على ذلك غير واحد. (¬3) في "مسائل الكوسج" (ص 249). (¬4) في (ق): "ليس". (¬5) كذا في (ق) و (ك)، وفي سائر الأصول: (يخالفه).

[الشرط الباطل والشرط الحق]

خالف حكم اللَّه وكتابه، بل الشروط (¬1) في حقوق العباد أوْسَعُ من النذر في حق اللَّه، والالتزام به أوفى (¬2) من الالتزام بالنذر. وإنما بسطتُ (¬3) القولَ في هذا لأن باب الشروط يدفع حيل أكثر المتحيلين، ويجعل للرجل مخرجًا مما يخاف منه ومما يضيق عليه؛ فالشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد، وقد قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]. [الشرط الباطل والشرط الحق] وهاهنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث اللَّه سبحانه به [رسوله] (¬4): إحداهما: أن كل شرط خالف حكم اللَّه وناقض كتابه فهو باطل كائنًا ما كان. والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه -وهو ما يجوز بذله (¬5) وفعله بدون الشرط- فهو لازم بالشرط، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب اللَّه عز وجل وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- واتفاق الصحابة رضي اللَّه عنهم، ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية [فإنها لا تهدم] (¬6) قاعدة من قواعد الشرع؛ فالشروط في حق المكلفين كالنذر في حقوق رب العالمين، فكل طاعة جاز فعلها قبل النذر لزمت (¬7) بالنذر، وكذلك كل شرط قد جاز بَذْله بدون الاشتراط لزم بالشرط، فمقاطع الحقوق عند الشروط. وإذا كان من علامات النفاق إخلاف الوعد وليس بمشروط فكيف الوعد المؤكد بالشرط؟ بل تَرْكُ الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخلف والخيانة والغدر، وباللَّه التوفيق. [حيلة لمن خاف رد جارية معيبة باعها] المثال الثائي والستون (¬8): إذا باعه جاريةً مَعِييةً وخاف [من] (¬9) ردها عليه ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الشرط". (¬2) في (ن) و (ك) و (ق): "أوسع". (¬3) في (ك) و (ق): "بسط". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬5) كذا في (ن) و (ق)، وفي النسخ الأخرى: "تركه". (¬6) في (ق) و (ك): "فإنه لا يهدم". (¬7) في (ك): "لزمته". (¬8) في (ق) و (ك): "المثال الستون". (¬9) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط.

بالعيب فليبين له [من] (¬1) عيبها ويشهد أنه دخل عليه، فإن خاف رَدَّها بعيب آخر لا يعلمه البائع فلْيعيِّن له عيوبًا يدخل في جملتها (¬2) وأنه رضي بها كذلك. فإن كان العيب غير متصور ولا يدخل (¬3) في جملة تلك العيوب فليقل: "وأنت رضيتَ بها بجملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد" مقتصرًا على ذلك. ولا يقل: "وأنك [إن] (¬4) أسقطْتَ حقك من الرد" ولا (¬5) "أبرأتني من كل دعوى توجب الرد" ولا يبيعها بشرط البراءة من كل عيب؛ فإن هذا لا يسقط الرد عند كثير من الفقهاء، وهي مسألة البيع بالبراءة من العيوب. وللشافعي رحمه اللَّه فيها ثلاثة أقوال (¬6): أحدها: صحة البيع والشرط. والثاني: صحة البيع وفساد الشرط وأنه لا يبرأ من شيء من العيوب. والثالث: أنه يبرأ من العيوب الباطنة في الحيوان خاصة دون غيرها (¬7). والمشهور من مذهب مالك جواز العقد والشرط وأنه يبرأ من جميع العيوب (¬8). وهل يعمُّ ذلك جميعَ المبيعات أو يخص بعضها؟ فذكر ابن حبيب عن مالك وابن وهب أنه يعم جميع المبيعات عَزضًا كان المبيع أو حيوانًا. وعنه أنه يختص ببعض المبيعات. واختلف عنه في تعيينه فالذي في "المُوَطّأ" (¬9) عنه أنه يختص بالحيوان ناطقًا كان أو بهيمًا (¬10). والذي في "التهذيب" اختصاصه بناطق الحيوان (¬11). قالوا: وعلى [هذا] (¬12) المذهب في صحة ذلك مطلقًا، كبيع (¬13) السلطان وبيع ¬

_ (¬1) سقط من (ك) و (ق). (¬2) في (ن): "حكمها". (¬3) في (ق): "داخل". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬5) في (ك): "داخل". (¬6) انظرها في: "روضة الطالبين" (3/ 272 - 273)، "مختصر المزني" (84)، "السنن الكبرى" (5/ 328)، "السنن الصغير"، (2/ 265) كلاهما للبيهقي، "المهذب" (1/ 295)، "المنهاج" (46)، "الحاوي الكبير" (6/ 329 - 330)، "المجموع" (9/ 446 - 448). (¬7) في (ق): "غيره". (¬8) "الموطأ" (2/ 613)، "شرح الزرقاني على الموطأ" (4/ 193)، "المدونة" (3/ 335 - 337 ط دار الفكر)، "الإشراف" (2/ 493 مسألة 881 - بتحقيقي) وانظر تعليقي عليه. (¬9) انظره (2/ 613). (¬10) في (ك): "بهما". (¬11) انظره في "المدونة" (3/ 366 - ط دار الكلتب العلمية)، ولم يطبع غاية كتابة هذه السطور من "تهذيب المدونة" للبراذعي إلا مجلد واحد ليس فيه المذكور. (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ك) و (ق). (¬13) كذا في (ن)، وفي (ق): "وكبيع"، وفي باب النسخ: "فبيع".

الميراث إذا علم أنه ميراث جارٍ مجرى بيع البراءة كان لم يشترط، وعلى هذا فإذا قال أبيعك بيع الميراث لا قيام بعيب صح ذلك ويكون بيع براءة (¬1)؛ وفي الميراث لا يحتاج إلى ذكره. قالوا: وإذا قلنا إن البراءة تنفع فإنما منفعتها في امتناع الرد بعيب لم يعلم به البائع؛ وأما ما علم به البائع فإن شرط البراءة لا يمنع رد المشتري به إذا لم يكن عالمًا به وقت العقد؛ فإذا ادعى المشتري علم البائع فأقرَّ أو نَكَلَ بعد توجه اليمين عليه توجَّهَ الرد عليه. قالوا: ولو ملك شيئًا ثم باعه قبل أن يستعمله بشرط البراءة لم ينفعه ذلك حتى يستعمله ويستبرئه ثم يبيعه بشرط البراءة، قال في "التهذيب" في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامة الرقيق عندهم: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلًا، لا تنفعهم البراءة. وقال (¬2) عبد الملك وغيره: لا يشترط استعماله (¬3)، ولا طول مقامه عنده، بل تنفعه البراءة كما تنفعه مع الطول والاستعمال (¬4). قالوا: وإذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فادخله في جملة عيوب ليست موجودة، وتبرأ منها كلها، لم يبرأ منه حتى يفرده بالبراءة ويعين موضعه وجنسه ومقداره بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول. قالوا: وكذلك لو أراه العيبَ وشاهده لم يبرأ منه إذا كان ظاهره لا يستلزم الإحاطة بباطنه وباطنه فيه فساد آخر كما إذا أراه دَبَرَةَ البعير (¬5) وشاهدها وهي مُنغِلة مفسدة (¬6) فلم يذكر له ما فيها من نَغَل وغيره، ونظائر ذلك. قالوا: وكذلك لو أخبره أن به إباقًا أو سرقةً وهو (¬7) إباق بعيد أو سرقة عظيمة والمشتري يظنه يسيرًا لم يبرأ حتى يبين له ذلك، قال أبو القاسم ابن الكاتب: لا يختلف قول مالك في أن بيع (¬8) السلطان بيع براءة على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميت بيع براءة أيضًا كان لم يشترطها، قال: وإنما كان كذلك لأنه حكم منه بالبيع وبيعُ البراءَة مختلف فيه، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء لم تردَّ قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به (¬9)، وردَّ ذلك عليه المازريُّ وغيره، وقالوا: ¬

_ (¬1) في (ق): "بيعًا ببراءة". (¬2) في (ق): "قال" دون واو. (¬3) في (ك): "استعلامه". (¬4) في (ق) و (ك): "والاستعلام". (¬5) هي قرحة الدابة والبعير، كما في "لسان العرب" (2/ 1321 - دار المعارف). (¬6) قال في "اللسان" (6/ 4490 - دار المعارف): "منغلة من النغل، يقال: نغل نغلًا إذا فسد". (¬7) في (ق): "وهي". (¬8) في (ق): "يبيع". (¬9) ما مضى من "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 482 - 483)، وكذلك كلام المازري الآتي، بتصرف يسير.

السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ولا وِفاق، ولا قصد إلى حكم به يرفع النزاع، وقد حكى بعض الشيوخ الخلاف في بيع البراءة ولو تولاه السلطان بنفسه، قال: وذلك لأن سحنون قال: وكان قول مالك القديم أن بيع السلطان وبيع المواريث لا قيام فيه بعيب ولا بعهدة، قال: وهذا يدل على أن له قولاً آخر خلاف هذا، قال (¬1): ويدل عليه أن (¬2) ابن القاسم قال: إذا بيع عبد على مُفلِس فإن للمشتري أن يرده بالعيب، قال: فالصواب (¬3) أن بيع السلطان وبيع الورثة كغيرهما، قال المازري: أما بيع الورثة لقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه فإن فيه الخلاف المشهور، قال: وأما ما باعوه لأنفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فملتحق (¬4) ببيع الرجل مال نفسه بالبراءة، وكذلك من باع للإنفاق على من في ولايته. قلت: وقول المازري: "إن بيع السلطان لا تعرض فيه لحكم (¬5) " مبني على أصل، وهو أن الحاكم إذا عقد بنفسه عقدًا مختلفًا فيه هل يكون بمنزلة حكمه به [فيسوغ تنفيذه، ولا يسوغ رده أو لا يكون حكمًا منه به] (¬6) فيسوغ لحاكم آخر خلافه؟ وفي هذا الأصل قولان للفقهاء، وهما في مذهب الإمام أحمد (¬7) وغيره، فهذا تقرير مذهب مالك في هذه المسألة (¬8). وأما مذهب أبي حنيفة: فإنه يصحح البيع والشرط (¬9)، ولا يمكن المشتري من الرد بعد اشتراط البراءة العامة، سواء علم البائع العيبَ أو لم يعلمه (¬10)، حيوانًا كان المبيع أو غيره، وتناظر في هذه المسألة أبو حنيفة وابن أبي ليلى، فقال ابن أبي ليلى: لا يبرأ إلا من عيب أشار إليه ووضع يَدَه عليه، فقال أبو ¬

_ (¬1) في (ق): "قالوا". (¬2) في (ك): "قول". (¬3) في (ق): "والصواب". (¬4) في (ق): "فملحق" وعند ابن شاس: "فلا حقّ". (¬5) في (ق): "بحكم". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن)، وبدلها في (ق): "فلا". (¬7) انظر: "مسائل عبد اللَّه" (3/ 904 وما بعد) و"مسائل أبي داود" (ص 202) و"المغني" (4/ 169) و"الإنصاف" (4/ 347 - 348) و"المقنع" (2/ 28). (¬8) مضى توثيقه قريبًا، وهو عند ابن شاس في "الجواهر" (2/ 482 - 484). (¬9) انظر: "مختصر الطحاوي" (81)، "اللباب" (2/ 20 - 21)، "القدوري" (36) "المبسوط" (13/ 91)، "البدائع" (7/ 3324)، "شرح فتح القدير" (6/ 396 - 397)، وقال (د): "في نسخة: لا يصح البيع والشرط" اهـ. (¬10) في المطبوع: "أولو يعلمه"!

[الصحيح في هذه المسألة والنكول ورد اليمين]

حنيفة: فلو أن امرأة من قريش باعمت عبدًا زنجيًا على ذكره عيب أفتضَعُ أصبعها على ذكره؟ فسكت ابن أبي ليلى (¬1). وأما مذهب الإمام أحمد فعنه ثلاث روايات (¬2): إحداهن: [أنه] (¬3) لا يبرأ بذلك ولا يسقط حق المشتري من الرد بالعيب إلا من عيب عينه وعلم به المشتري. والثانية: أنه يبرأ مطلقًا. والثالثة: أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من كل عيب علمه حتى يعلم به المشتري. فإن صححنا البيع والشرط فلا إشكال، كان أبطلنا الشرط فهل يبطل البيع أو يصح ويثبت الرد فيه؟ وجهان، فإذا (¬4) أثبتنا الرد وأبطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له؛ فإنه إنما باعها بذلك الثمن بناء على أن المشتري لا يردها عليه بعيب، ولو علم أن المشتري يتمكن من ردها لم يبعها بذلك الثمن؛ فله الرجوع بالتفاوت، وهذا هو العدل وقياس أصول االشريعة؛ فإن المشتري كما يرجع بالأرْشِ عند فوات غرضه من سلامة المبيع فهكذا البائع يرجع بالتفاوت عند فوات غرضه من الشرط الذي أبطلناه عليه. [الصحيح في هذه المسألة والنكول ورد اليمين] والصحيح في هذه المسألة ما جاء عن الصحابة رضي اللَّه عنهم؛ فإن عبد اللَّه بن عمر باع زيد بن ثابت عبدًا بشرط البراءة بثمان مئة درهم، فأصاب به زيدٌ عيبًا، فأراد رده على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان رضي اللَّه عنه، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا (¬5) العيب، فقال: لا، فرده عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم (¬6)،. . . . . . ¬

_ (¬1) انظر: "اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى" (ص 15). (¬2) انظرها في: "المغني" (2/ 53)، "الإنصاف" (4/ 359)، "كشاف القناع" (3/ 196)، "تنقيح التحقيق" (2/ 552 - 553). (¬3) سقط من (ق). (¬4) في (ق) و (ك): "وإذا". (¬5) في (ق): "هذا". (¬6) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 613) -ومن طريقه البيهقي (5/ 328) - وعبد اللَّه بن أحمد =

ذكره (¬1) الإمام أحمد وغيره، وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة، واتفاق من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة، وعلى أن المدعى عليه متى نَكَلَ عن اليمين قضى عليه بالنكول، ولم ترد اليمين على المدعي، لكن هذا فيما إذا كان المدعى عليه منفردًا بمعرفة الحال، فإذا لم يحلف مع كونه عالمًا بصورة الحال قضى عليه بالنكول، وأما إذا كان المدعى هو المنفرد بالعلم بالحال أو كان مما لا يخفى عليه علمها ردت عليه اليمين؛ فمثال الأول: قضية ابن عمر هذه (¬2)، فإنه هو العالم بأنه هل كان يعلم العيب أو لا يعلمه، بخلاف زيد بن ثابت، فإنه لا يعلم علم ابن عمر بذلك، ولا عدم علمه، فلا يشرع رد اليمين عليه. ومثال الثاني: إذا ادعى على وارثِ ميتٍ أنه أقرض مورثه مئة درهم أو باعه سلعة ولم يقبضه ثمنها أو أودعه وديعة والوارث غائب لا يعلم ذلك، وسأل إحلافه، فنكل عن اليمين، لم يقض عليه بالنكول، وردت اليمين على المدعي؛ لأنه منفرد بعلم ذلك، فإذا لم يحلف لم يقض له. ومثال الثالث: إذا ادعى عليه أنه باعه أو أجره فنكل عن اليمين، حلف المدعي وقضي له، فإن لم يحلف لم يقض له بنكول المدعى عليه؛ لأنه عالم بصحة ما ادعاه، فإذا لم يحلف ولم يقم له بينة لم يكن مجردُ نكولِ خصمه مصححًا لدعواه. فهذا التحقيق أحسنُ ما قيل في مسألة النكول ورد اليمين، وعليه تدل آثار ¬

_ = في "مسائل أبيه" (3/ 903 - 904 رقم 1219) وصالح في: "مسائل أبيه" أيضًا (2/ 39 - 40 رقم 582) عن يحيى بن سعيد عن سالم بن عبد اللَّه أن عبد اللَّه بن عمر باع غلامًا له. . . فذكره، إلا إنه لم يذكر اسم الذي بيع له: "زيد بن ثابت"، وقال في آخره: فباعه ابن عمر بألف وخمس مئة درهم. ورواه عبد الرزاق (14722) عن مالك والأسلمي عن يحيى بن سعيد به، وفيه مغايرة في الأرقام، ورواه عبد الرزاق (14721) عن معمر عن عبد اللَّه بن عبد الرحمن الأنصاري عن سالم به نحوه أيضًا. وعزاه المصنف في "الطرق الحكمية" (ص 173) إلى أبي عبيد، واستدل به أحمد في "مسائل صالح" (3/ 116 و 206). (¬1) في (ك): "ذكرها". (¬2) قال (د): "في نسخة: قصة ابن عمر هذه". قلت: هذه النسخة هي (ن)، و (ق).

[متى يثبت تحليف المدعي]

الصحابة ويزول عنها الاختلاف، [ويكون هذا في موضعه وهذا في موضعه] (¬1). وعرف حذيفة جملًا له فادعاه، فنكل المدعَى عليه، وتوجهت اليمين على حذيفة، فقال: أتراني أترك جَمَلِي؟ فحلف (¬2) باللَّه أنه ما باع ولا وهبَ (¬3). [متى يثبت تحليف المدعي] فقد (¬4) ثبت تحليف المدعي إذا أقام شاهدًا واحدًا، والشاهد أقوى من النكول، فتحليفهُ مع النكول أولى، وقد شرع اللَّه سبحانه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- تحليف المدعي في أيمان القَسَامة؛ لقوة جانبه باللّوْث، فتحليفه مع النكول أولى، وكذلك شَرَع تحليفَ الزوج في اللِّعَان، وكذلك شرع تحليف المدعي إذا كان شاهدُ الحال يصدقه كما إذا تداعَيَا متاع البيت أو تداعى النجار والخياط آلة كل منهما فإنه يُقْضَى لمن تدل الحال على صحة دعواه مع يمينه، وقد روي في حديث مرفوع أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رَدَّ اليمين على طالب الحق (¬5)، ذكره الدارقطني وغيره، وهذا محض ¬

_ (¬1) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 82، 122 - 135 الطريق الرابع)، وبدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ويكون هذا في موضوعه". (¬2) "في نسخة: فحلف عليه أنه. . . إلخ" (د). (¬3) رواه ابن أبي شيبة (5/ 70) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 179) من طريق حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن الحسن بن صالح عن الأسود بن قيس عن حسّان بن ثمامة قال: زعموا أن حذيفة عرف جملًا له سرق فخاصم. . . فذكره، وهو أطول مما ذكر المؤلف. وحَسَّان بن ثمامة ينظر فإني لم أجد له ترجمة، والظاهر أنه لم يدرك حذيفة لأنه يقول: زعموا. (¬4) في (ق) و (ك): "وقد". (¬5) رواه الدارقطني (4/ 213)، وتمام في "فوائده" (933 - 934 - الروض البسام)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 100)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 184) من طريق محمد بن مسروف عن إسحاق بن الفراث عن ليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر به. قال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. قال الذهبي: لا أعرف محمدًا، وأخشى أن لا يكون الحديث باطلًا، وكلمة "لا" جزمًا خطأ هنا، والعبارة ذكرها ابن حجر في "اللسان" (5/ 379) بدونها، وهي موجودة في "مختصر استدراك الذهبي على المستدرك" لابن الملقن (5/ 2532)، وقال ابن حجر في "التلخيص" (4/ 209): محمد بن مسروق لا يعرف، وإسحاق بن الفراث مختلف فيه، ورواه تمام في "فوائده" من "طريق أخرى عن نافع" أقول: هو في "فوائد تمام" من الطريق نفسه!! ومحمد بن مسروق، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 219): =

الفقه والقياس؛ فإنه إذا نكل قَوِيَ جانبُ المدعي فظُنَّ (¬1) صدقه، فشرع اليمين في حقه؛ فإن اليمين إنما شرعت في جانب المدعى عليه لقوة جانبه بالأصل، فإذا شهد الشاهدُ الواحدُ ضعف هذا الأصل ولم يتمكن قوته من الاستقلال، وقوى (¬2) جانب المدعي باليمين، وهكذا إذا نَكَلَ ضعف أصل البراءة (¬3)، ولم يكن النكول مستقلًا بإثبات الدعوى؛ لجواز أن يكون لجهله بالحال، أو لتورعه عن اليمين، أو للخوف من عاقبة اليمين، أو لموافقة قضاء وقدر؛ فظن الظانُّ أنه بسبب اليمين، أو لترفعه (¬4) عن ابتذاله باستحلاف خصمه له مع علمه بأنه لو حلف كان صادقًا، وإذا احتمل نكولُه هذه الوجوه لم يكن مستقلًا؛ بل غايته أن يكون مقويًا لجنبة المدعي فترد اليمين عليه، ولم تكن هذه المسألة مقصودة، وإنما جر إليها الكلام في أثر ابن عمر وزيد في مسألة البراءة (¬5). وقد علم حكم هذا الشرط، وأين ينتفع به البار، وأين لا ينتفع به. وإن (¬6) قيل: فهل ينفعه أن يشترط على المشتري أنه متى رده فهو حر أم لا ينفعه وإذا خاف توكيله في الرد استوثق منه بقوله: "متى رددته أو وكلت في رده" فإن خاف من رد الحاكم عليه حيث يرده بالشرع فلا يكون المشتري هو الراد ولا وكيله بل الحاكم المنفذ للشرع فاستوثق منه بقوله: "إذا ادعيت رده فهو حر" فهنا تصعب الحيلة على الرد، إلا على مذهب أبي ثور (¬7) وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد (¬8)، وهو إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم أن تعليق العتق متى قصد به الحَضُّ أو المنع (¬9) فهو يمين جكمه حكم اليمين بالحج والصوم والصدقة، وحكم ما لو قال: "إن رددته فعليَّ أن أعتقه" بل أولى بعدم العتق، فإن هذا نذر قربة، ¬

_ = "لا تعرف له حال" وذكره ابن حبان في "ثقاته" (9/ 68) كعادته! وضعّفه عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (6/ 288) بإسحاق! وتعقبه ابن القطان بأنه ثقة، وأن علته ابن مسروق. (¬1) في (ك): "وظن". (¬2) في (ك) و (ق): "فقوي". (¬3) انظر: في مسألة الحكم بالشاهد واليمين "الإشراف" (5/ 44 مسألة 1808) وتعليقي عليه، وفي (و): "البراء"! (¬4) في (ك): "لرفعه". (¬5) تقدم تخريجه قريبًا جدًا. (¬6) في (ك) و (ق): "فإن". (¬7) نقل مذهبه: ابن حزم في "المحلى" (8/ 335) وابن رشد في "بداية المجتهد" (1/ 503)، وانظر: "فقه الإمام أبي ثور" (437 - 438). (¬8) انظر: "المغني" (8/ 696) وهذا قول محمد بن الحسن. انظر: "البحر الرائق" (4/ 320). (¬9) قال (د): "في نسخة: "الخطر أو المنع" في الموضعين".

ولكن إخراجه مخرج اليمين منع لزوم الوفاء به، مع أن الالتزام به أكثر من الالتزام بقوله: "فهو حر" فكل ما في التزام قوله: "فهو [حر] (¬1) " فهو داخل في التزام (¬2): "فعليَّ أن أعتقه" ولا ينعكس، فإن قوله: "فعليّ أن أعتقه" يتضمن وجوبَ الإعتاق وفعل العتق ووقوع الحرية، فإذا منَعَ قصدَ الحض (¬3) أو المنع وقوع ثلاثَةِ [أشياء] (4) فلأن يمنع وقوع واحد منها أولى وأحْرَى، وهذا لا جواب عنه، وهو مما يبين [فضل] (¬4) فقه الصحابة رضي اللَّه عنهم، وأن بين فقههم وفقه من بعدهم كما بينهم (¬5) وبينهم، وحتى لو لم يصح ذلك عنهم لكان هذا مَحْضَ القياس ومقتضى قواعد الشرع وأصوله من أكثر من عشرين وجهًا لا تخفى على متبحّر (¬6) تتبعها، ويكفي قولُ فقيه الأمة وحَبْرِهَا وترجمان القرآن ابن عباس رضي اللَّه عنه: "العتق ما ابتغي به وجه اللَّه، والطلاق ما كان عن وطر" (¬7). فتأمل هاتين الكلمتين الشريفتين الصادرتين عن علم قد رسخ أسفلُه، وبَسَقَ أعلاه، وأينعت ثمرتُه، وذللت للطالب قطوفُه، ثم احكم بالكلمتين (¬8) على أيمان الحالفين بالعتق والطلاق، هل تجد الحالفَ بهذا ممن يبتغي به (¬9) وجه اللَّه والتقربَ إليه بإعتاق هذا العبد؟ وهل تجد (¬10) الحالفَ بالطلاق ممن له وطر في طلاق زوجته؟ فرضي اللَّه عن [حَبْرِ هذه الأمة] (¬11) لقد شَفَتْ كلمتاه هاتان الصدورَ، وطبقتا المفصلَ (¬12)، وأصابَتَا المحزَّ (¬13)، وكانتا برهانًا على استجابة دعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[له] (¬14) أن يعلمه اللَّه التأويل ويفقهه في ¬

_ (¬1) بياض في (ق). (¬2) في (ك): "الالتزام". (¬3) قال (د): "في نسخة: "الخطر أو المنع" في الموضعين". (¬4) سقط من (ق). (¬5) في المطبوع: "بينه". (¬6) في (ن) و (ق): "متحرٍ". (¬7) علقه البخاري في "صحيحه" في (الطلاق): باب الطلاق في الإغلاق والكره والسكران والمجنون. . . قبل حديث (5269) تعليقًا مجزومًا به، ولم يذكر الحافظ في "الفتح" وصْلًا، وانظر: "تغليق التعليق" (4/ 455)، وقارنه بما علقناه سابقًا. (¬8) في (ق) و (ك): "قد حكم الكلمتين" وأشار في (ق) إلى تصحيحها. (¬9) سقط من (ك) و (ق). (¬10) سقط من (ك). (¬11) في (ك): "خير الأمة" وفي (ق): "حبر الأمة". (¬12) في (ك) و (ق): "الفصل". (¬13) في (ق): "وأضاءتا المحن" وأشار إلى تصحيحها. (¬14) ما بين المعقوفتين من (ق).

[العالم صاحب الحق]

الدين (¬1)، ولا يوحشنَّك (¬2) مَنْ قد أقرَّ على نفسه هو وجميع أهل العلم أنه ليس من أولي العلم، فإذا ظفرتَ برجل [واحد] (¬3) من أولي العلم طالبٍ للدليل مُحَكم له متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة، ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجّة ويكفّرك أو يُبَدِّعُكَ بلا حجة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة، وسيرته الذميمة، فلا تغتر بكثرة هذا الضرب، فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم يعدل بملء الأرض منهم. [العالم صاحب الحق] واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض، قال عمرو بن ميمون الأوْدِيُّ: صحبت معاذًا باليمين، فما فارقتُه حتى واريتُه في التُّراب بالشَّام، ثم صحبتُ [من] (3) بعده أفقه الناس عبد اللَّه بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد اللَّه على الجماعة (¬4)، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيولى (¬5) عليكم ولاة يؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها؛ فهي الفريضة، وصلَّوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدّثون (¬6)، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي: صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة، قال: يا عمرو بنَ ميمون: قد كنتُ أظنُّكَ من أفقه أهل هذه القرية، أتدري (¬7) ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحقَّ وإنْ كنتَ وحدَك، وفي لفظ آخر: فضربَ على فخذي وقال: ويحك! إنَّ جمهورَ الناس ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ق): "يوحشك". (¬3) سقط من (ك) و (ق). (¬4) قال (د)، و (ط) و (ج): "فإن يد اللَّه مع الجماعة". قلت: وأشار إلى ما أثبتناه (د) في الهامش، وهي هكذا فِي (ك) و (ق). وفي (و) زيادة: "اتبعوا السواد الأعظم، فإنه من شذَّ شذَّ في النار"، وقال (و) معلقًا عليها: "بقية الحديث من كتاب كشف الإلباس". (¬5) في (ك) و (ق): "سيلي" (¬6) في (ك) و (ق): "تحدثوه". (¬7) في (ك) و (ق): "تدري".

فارقوا الجماعة، كان الجماعة ما وافق طاعة اللَّه تعالى (¬1). وقال نُعيم بن حمَّاد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ، ذكرهما البيهقي (¬2) وغيره. وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم، فقال: أتدري (¬3) ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه (¬4). فمسخ المختلفون (¬5) الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور، وجعلوهم عيارًا على السنة (¬6)، وجعلوا السنة بدعة، والمعروف منكرًا لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار، وقالوا: مَنْ شَذَّ شَذَّ اللَّه به في النار، وما عرف المختلفون (3) أنَّ الشَّاذَّ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه (¬7) إلا واحدًا منهم فهم الشاذون، وقد شَذَّ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفرًا (¬8) يسيرًا؛ فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه [كلهم] (¬9) هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم تحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقُضَاتك ووُلاتَك والفقهاء والمفتون كلهم ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 231 - مختصرًا) -ومن طريقه ابن عساكر (46/ 408) والذهبي في "السير" (4/ 158 - 159) - وأبو داود (432) وابن حبان (1481 - االإحسان) والبيهقي (3/ 124 - 125) وابن عساكر (46/ 408 - 409) والمزي في "تهذيب الكمال" (14/ 351). واللالكائي في "شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة" (رقم 160) من طرق عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن عبد الرحمن بن سابط عن عمرو بن ميمون قال: فذكره، ورواته ثقات. (¬2) رواه البيهقي في "المدخل" ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 409) والمزي في "تهذيب الكمال" (14/ 352) -عقب الحديث السابق. وفي (ق): "ذكرها". (¬3) في (ق): "وقال: تدري"، وفي (ك): "فقال: تدري". (¬4) قاله ابن المبارك وإسحاق بن راهويه، كما في "الحلية" (9/ 239) و"الأربعين" لأبي الفتوح الطائي (163 - 164)، وانظر: "السير" (12/ 196 - 197) و"الإعتصام" (2/ 403 و 3/ 314 - 315/ بتحقيقي). (¬5) في (ق) و (ك): "المتخلفون". (¬6) في (ق): "وجعلهم عيار السنة". (¬7) في (ك) و (ق): "وإن كان عليه الناس كلهم". (¬8) سقط من (ق). (¬9) سقط من (ق) وفي (ك) و (ق): "وأتباعهم" بدل "وأتباعه".

[حيلة للتخلص من نفقة المبتوتة وسكناها]

على الباطل وأحمد وحده [هو] (¬1) على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك؛ فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل؛ فلا إله إلا اللَّه، ما أشبه الليلة بالبارحة، وهي السبيل المَهْيَع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] [ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم] (¬2). [حيلة للتخلص من نفقة المبتوتة وسكناها] المثال الثالث (¬3) والستون: إذا وقعت الفرقة البائنة بين الزوجين لم تجب لها عليه نفقة ولا سكنى بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة الصريحة (¬4)، فإن خاف أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوب ذلك (5) عليه فالحيلة أن يتغيب مدة العدة. فإذا رفعته بعد ذلك لم يحكم بها عليه؛ لأنها تسقط عنه بمضي الزمان، كما يقوله الأكثرون في نفقة القريب، وكما هو متفق عليه في نفقة العبد والحيوان البهيم، ولا كراهة في هذه الحيلة لأنها وسيلة إلى إسقاط ما أسقطه اللَّه تعالى ورسوله، بخلاف الحيلة على إسقاط ما أوجبه اللَّه ورسوله (¬5)، فهذه لون وتلك لون، فإن لم تمكنه الغيبة وأمكنه أن يرفعها إلى حاكم يحكم بسقوط ذلك فَعَلَ. والحيلة في أن يتوصل إلى حكم حاكم (¬6) بذلك أن ينشئ الطلاق أو يقر (¬7) به بحضرته ثم يسأله الحكم (¬8) بما يراه من سقوط النفقة والسكنى بهذه الفرقة، مع علمه باختلاف العلماء في ذلك، فإن بَدَرَتْه إلى حاكم يرى وجوبها فقد ضاقت عليه وجوه الحيل، ولم يبق له إلا حيلة واحدة، وهي دعواه أنها كانت بانت منه قبل ذلك بمدة تزيد على انقضاء عدتها وأنه نسي سبب البينونة. وهذه الحيلة تدخل في قسم التوصل إلى الجائز بالمحظور كما تقدم [نظائره] (¬9). ¬

_ (¬1) سقط من (ك) و (ق). (¬2) قلت: فهذا مبحثٌ قويٌ من عالم سلفي، فعض عليه بالنواجذ، وانظر تتميمًا للفائدة كلام شيخنا العلامة الألباني-رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (1/ 411 - 414/ 204 طبعة دار المعارف)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ك) و (ق): "الحادي". (¬4) سبق تخريجه. (¬5) سقط من (ك). (¬6) في (ق) و (ك): "الحاكم". (¬7) في (ن) و (ق): "ويقر". (¬8) في نسخة: "ثم يسأل الحاكم. . . إلخ" تحريف" (د). (¬9) سقط من (ك).

[اختلاف الفقهاء في الضمان]

[اختلاف الفقهاء في الضمان] المثال الرابع (¬1) والستون: اختلف الفقهاء في الضمان (¬2)، هل هو تعدد لمحل الحق وقيام للضمين مقام المضمون عنه أو هو استيثاق بمنزلة الرهن؟ على قولين، وهما روايتان عن مالك (¬3)، يظهر أثرهما في مطالبة الضامن مع التمكن من مطالبة المضمون عنه، فمن قال بالقول الأول -وهم الجمهور- قالوا: لصاحب الحق مطالبة مَنْ شاء منهما على السواء، ومن قال بالقول الثاني (¬4) قال: ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر عليه مطالبة المضمون عنه، واحتج هؤلاء بثلاث حجج: إحداها (¬5): أن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول كالتراب (¬6) في الطهارة والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل. [وقد اطرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث] (¬7) لا يلي فرع (¬8) مع أصله ولا يرث معه. الحجة (¬9) الثانية: أن الكفالة توثقه وحفظ للحق، فهي جارية مجرى الرهن، ولكن ذاك رهن عين وهي رهن ذمة أقامها الشارع (¬10) مقام رهن الأعيان للحاجة إليها واستدعاء المصلحة لها. والرهن لا يستوفى منه إلا مع تعذر الاستيفاء من الراهن، فكذا الضمين. ولهذا كثيرًا ما يقترن الرهن والضمين لتواخيهما وتشابههما وحصول الاستيثاق بكل منهما. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الثاني". (¬2) الضمان هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق. قال الماوردي: غير أن العرف جار بأن الضمين مستعمل في الأموال والحميل في الديات والزعيم في الأموال العظام والكفيل في النفوس والصبير في الجميع. انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" (203)،، أنيس الفقهاء" (223)، "مغني المحتاج" (2/ 298). (¬3) "المعونة" (2/ 11231)، "التفريع" (2/ 286)، "الكافي" (398 - 399)، "جامع الأمهات" (391)، "الإشراف" (3/ 61 مسألة 918)، وتعليقي عليه، وفي (ق): "هما" دون واو. (¬4) وهو قول ابن أبي ليلى وداود وابن شبرمة وأبي ثور انظر "الإشراف" (3/ 61 مسألة 918) و"المحلى" (8/ 113)، "تنقيح التحقيق" (3/ 35 مسألة 535)، "حلية العلماء" (5/ 58). (¬5) في (ك) و (ن): "أحدها". (¬6) في (ك): "كتراب". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ك): "فرعًا". (¬9) في (ق): "والحجة". (¬10) في (ن) و (ق): "الشرع".

الحجة الثالثة: أن الضامن في الأصل لم يوضع لتعدد محل الحق كما لم يوضع لنقله، وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق حقه من التّوَى (¬1) والهلاك، ويكون له محل يرجع إليه عند تعذر الاستيفاء من محله الأصلي، ولم ينصب الضامن نفسه لأن يطالبه المضمون له مع وجود الأصيل ويُسْرَته والتمكن [من مطالبته] (¬2). والناسُ يستقبحون هذا، ويعدون فاعله متعديًا، ولا يعذرونه بالمطالبة، حتى إذا تعذر عليه مطالبة الأصيل عذروه بمطالبة الضامن وكانوا عَوْنًا له عليه، وهذا أمر مستقر في فطر الناس ومعاملاتهم بحيث لو طالب الضامن والمضمون عنه إلى جانبه والدراهم في كمه وهو متمكن من مطالبته لاستقبحوا ذلك غاية الاستقباح. وهذا القول في القوة كما ترى، وهو رواية ابن القاسم في الكتاب عن مالك (¬3). ولا ينافي هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الزعيم غارم" (¬4) فإنه لا عموم له، ولا يدل على ¬

_ (¬1) "التوى: [هو] الهلاك، [فالعطف في كلام المؤلف للتفسير]، كذا في (ط)، و (د)، وما بين المعقوفتين من (د)، وانظر: "لسان العرب" (1/ 458 - دار المعارف). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "منه". (¬3) "المدونة" (5/ 262)، "عقد الجواهر" (2/ 663). (¬4) رواه أحمد (5/ 267)، وعبد الرزاق (14796 و 16308)، وابن أبي شيبة في "مصنفه" (6/ 154)، وسعيد بن منصور في "سننه" (427)، والطيالسي (1128)، وأبو داود (3565) في (البيوع والإجارات)، باب ما جاء في تضمين العارية، والترمذي (1265) في (البيوع): باب ما جاء في أن العارية مؤداة، و (2120) في (الوصايا): باب ما جاء لا وصية لوراث، وابن ماجه (2398) في (الصدقات): باب العارية، وابن الجارود في "المنتقى" (1023)، والطبراني في "الكبير" (7615 و 7621)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (50)، وابن عدي (1/ 290)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 72 و 88)، والدارقطني (3/ 41) من طريق إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن مسلم الخولاني عن أبي أمامة قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: فذكره، وفيه زيادة. وقال الترمذي: "حديث حسن"، وفي الموطن الثاني: حسن صحيح. أقول: إسماعيل بن عياش صحيح الرواية عن الشاميين، وهذه منها، وشرحبيل هذا فيه لين، فهو حسن الحديث. وله شاهد؛ رواه أحمد (5/ 293) من طريق ابن المبارك عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر (في المطبوع: عن جابر) عن سعيد بن أبي سعيد عمن سمع النبي -عليه السلام-. وهذا إسناد رجاله ثقات، كما قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (4/ 145). ثم تبيَّن في أن سعيد هذا هو الساحلي، وهو غير محتج به، كما في "تحفة الأشراف" (1/ 225) و"التهذيب" (4/ 39 - 40)، و"إتحاف المهرة" (2/ 22). لكن رواه الدارقطني (4/ 70) والبيهقي (6/ 264) من طريق عمر (وفي مطبوع "سنن الدارقطني": "عمرو، والتصويب من المخطوط و"إتحاف المهرة" (2/ 22)) بن عبد الواحد =

[ليس الضمان مشتقا من الضم]

أنه غارم في جميع الأحوال، ولهذا لو أدّى الأصيلُ لم يكن غارمًا، ولحديث (¬1) أبي قتادة (¬2) في ضمان دين الميت لتعذر مطالبة الأصيل. [ليس الضمان مشتقًا من الضم] ولا يصح الاحتجاج [بأن] (¬3) الضمان مشتق من الضم فاقتضى لفظه ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى لوجهين: أحدهما: أن الضم من المضاعف، والضمان من الضمين (¬4)، فمادتهما مختلفة ومعناهما مختلف وإن تشابها لفظًا ومعنى في بعض الأمور. الثاني: أنه لو كان مشتقًا من الضم فالضم قدر مشترك بين ضم يطالبُ معه استقلالًا وبدلًا، والأعم لا يستلزم الأخص (¬5). [حيلة بتعليق الضمان بالشرط] وإذا عرف هذا وأراد (¬6) الضامن الدخول [عليه] (¬7) فالحيلة أن يعلق الضمان بالشرط فيقول: إن توِيَ المالُ على الأصيل (¬8) فأنا ضامن له، ولا يمنع تعليق [الضمان] (¬9) بالشرط وقد صرح القرآن بتعليقه بالشرط، وهو محض القياس؛ فإنه ¬

_ = عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن سعيد بن أبي سعيد عن أنس مرفوعًا مطولًا، وعزاه الزيلعي (4/ 58) للطبراني في "مسند الشاميين" -وهو فيه برقم (541، 621) -، من طريق هشام بن عمار عن محمد بن شعيب عن عبد الرحمن به. وهو في "سنن ابن ماجه" (2398) من طريق هشام وعبد الرحمن بن إبراهيم عن محمد بن شعيب به مختصرًا دون ذكر "والزعيم غارم" وصحح إسناده البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 42). (¬1) في (ق): "ولأن حديث". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 297 و 301 و 302 و 304 و 311)، وعبد الرزاق (15258)، والدارمي (2/ 263)، والترمذي (1069) في (الجنائز): باب ما جاء في الصلاة على المديون، والنسائي (4/ 65) في (الجنائز): باب الصلاة على من عليه دين، وابن ماجه (2407) في (الصدقات) باب الكفالة، وابن حبان (3058 و 3059 و 3060)، من طرق عن عبد اللَّه بن أبي قتادة عن أبيه، وقال الترمذي: حسن صحيح. (¬3) في (ق): "يقول أن". (¬4) في (ك): "الضن". (¬5) انظر: ما تقدم في تعريف الضمان. (¬6) في (ك) و (ق): "فأراد". (¬7) في (ن): "هذا"، وفي (ق): "على هذا". (¬8) في (ك): "الأصل". (¬9) سقط من (ك).

[حكم عقد الإجارة المبهم]

التزام، فجاز تعليقه بالشرط كالنذر (¬1)، و"المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" (¬2) وهذا ليس واحدًا منهما، و"مقاطع الحقوق عند الشروط" (¬3)، فإن خاف من قاصر في الفقه (¬4) غير راسخ في حقائقه فَلْيَقل: "ضمنت لك هذا الدين عند تعذر استيفائه ممن هو عليه" فهذا ضمان مخصوص بحالة مخصوصة فلا يجوز إلزامه به في غيرها، كما لو ضمن الحال مؤجلًا أو ضمنه في مكان دون مكان، فإن خاف من إفساد هذا أيضًا فليشهد عليه أنه لا يستحق المطالبة له به إلا عند تعذر مطالبة الأصيل، وأنه متى طالبه أو ادعى عليه به مع قدرته على الأصيل كانت دعواه باطلة، واللَّه أعلم. [حكم عقد الإجارة المبهم] المثال الخامس (¬5) والستون: قد تدعو الحاجة إلى أن يكون عقد الإجارة مبهمًا غير معين، فمثاله أن يقول له: إنْ ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا [فلك عشرة وإن ركبتها إلى أرض كذا فلك] (¬6) خمسة عشر، أو يقول: إن خِطْتَ هذا القميص اليوم فلك درهم، كان خطته غدًا [فلك] (¬7) فنصف درهم، وإن زرغتَ هذه الأرض حنطة فأجرتها مئة، أو شعيرًا فأجرتها خمسون، ونحو ذلك؛ فهذا (¬8) كله جائز صحيح، لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، بل هذه الأدلة تقتضي صحته، كان كان فيه نزاع متأخر (¬9)، فالثابت عن الصحابة رضي اللَّه عنهم الذي لا يُعْلَم عنهم فيه نزاع جوازه كما ذكره البخاري في "صحيحه" عن عمر أنه دفع أرضه إلى مَنْ يزرعها وقال: إن جاء عمر بالبذْرِ من عنده فله كذا، كان جاءوا بالبذر فلهم كذا (¬10)، ولم يخالفه صحابي واحد، ولا محذور في ذلك، ولا خطر، ولا غَرَر، ولا أهل مال بالباطل، ولا جهالة تعود إلى العمل ولا إلى العوض، فإنه لا يقع إلَّا معينًا، والخِيَرَةُ إلى الأجير؛ أيَّ ذلك أحَبَّ أن يستوفي فَعَلَ، فهو كما لو قالماله: أي ثوب أخذته من هذه الثياب فقيمته (¬11) ¬

_ (¬1) في المطبوع: "كالنذور". (¬2) مضى تخريجه. (¬3) هذه قولة لعمر، مضى تخريجها. (¬4) في (ق): "الوقف". (¬5) في (ك) و (ق): "الثالث". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬8) في (ك): "وهذا". (¬9) انظر: تفصيله في "الإشراف" (3/ 209 مسألة 1056) وتعليقي عليه. (¬10) سبق تخريجه قريبًا. (¬11) في (ك): "فثمنه".

[الحيلة على جواز عقد الإجارة المبهم]

كذا، أو أي دابة ركبتها فأجرتها كذا، أو أجرة هذه الفرس كذا أو أجرة (¬1) هذا الحمار كذا، فأيها شئت فخذه، أو ثمن هذا الثوب مئة وثمن هذا مئتان، ونحو ذلك مما ليس فيه غرر ولا جهالة ولا ربا ولا ظلم، فكيف تأتي الشريعة بتحريمه؟ وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على فعله، وكثير من المتأخرين من أتباع الأئمة يبطل [مثل] (¬2) هذا العقد. [الحيلة على جواز عقد الإجارة المبهم] فالحيلة على جوازه أن يقول: استأجرتك لتخيطه اليوم بدرهم، فإن (¬3) خطته غدًا فلك أجرة [مثله] (¬4) نصف درهم، وكذا يقول: أجرتك هذه الدابة إلى أرض كذا بعشرة، [فإن ركبتها إلى أرض كذا] (¬5) وكذا فعليك أجرة مثلها كذا وكذا، فإن خاف أن تكون يده يد عُدوَانٍ ضمنه (¬6) فليقل: فإذا انقضت المسافة الأولى فهي أمانة عندك، هذا عند من لم يصحح الإجارة المضافة، ومن صححها فالحيلة عنده أن يقول: فإذا قطعت هذه المسافة فقد آجرتكها إلى مسافة كذا [وكذا] (4)، فإذا انتهت آجرتكها إلى مسافة [كذا] (4) وكذا، فإن خشي المستأجر أن ينقضي شغله قبل ذلك فيبقي عقد الإجارة لازمًا له وقد فرغ شغْلُه فالحيلة أن يقول: إذا انقضت المسافة أو المدة فقد وكلتك في إجارتها لمن شئت، فليؤجرها لغيره ثم يستأجرها منه، فإن خاف أن لا تتمَّ هذه الحيلة على أصل مَنْ لا يجوز تعليق الوكالة بالشرط فليوكله في الحال وكالة غير معلقة، ثم يعلق تصرفه بالشرط، فيقول: أنت وكيلي في إجارتها، [فإذا انقضَتِ المدة فقد أذنت لك في إجارتها] (¬7). وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال الحيل": إن احتال في إجازة هذا الشرط فقال: استأجرها إلى دمشق بكذا، ومن دمشق إلى الرملة بكذا، ومن الرملة إلى مصر بكذا، جاز [له] (¬8)؛ لأنه إذا سمى لكل من المسافتين أجرة معلومة فكل واحدة منهما كالمعقود عليه على حاله، فلا يمنع صحة العقد. قلت: ولكن لا تنفعه هذه الحيلة إذا انقضى غرضُه عند المسافة الأولى، ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "وأجرة". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) في (ق): "وإن". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وأشار في (ق) إليه. (¬6) في (ن) و (ك) و (ق): "ضامنه". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ن) و (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[بيع المقاثي والباذنجان بعد بدو صلاحها]

ويبقى عقد الإجارة لازمًا له فيما وراءها، فتصير كما لو استأجرها إلى مصر فانقضى غرضه في الرملة، فما الذي أفاده تعددُ العقود؟ فوجود هذه الحيلة وعدمها (¬1) سواء، فالوجه ما ذكرناه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. [بيع المقاثي والباذنجان بعد بدو صلاحها] المثال السادس (¬2) والستون: يجوز بيع المَقَاثي (¬3) والباذنجان ونحوها (¬4) بعد أن يبدو صلاحهما كما تباع الثمار في رؤوس الأشجار (¬5)، ولا يمنع من صحة البيع تلاحُقُ المبيع شيئًا بعد شيء، كما لم يمنع ذلك صحة بيع التوت والتين وسائر ما يخرج شيئًا بعد شيء، هذا محض القياس، وعليه تقوم مصالح بني آدم، ولا بد لهم منه، ومَنْ منع بيع ذلك إلا لقطة لقطة فمع أن ذلك متعذر في الغالب لا سبيل إليه إذ (¬6) هو في غاية الحرج والعسر فهو مجهول لا ينضبط ولا ما هي اللقطة المبيعة أهي الكبار أو الصغار أو المتوسط أو بعض ذلك؟ وتكون المقثأة كبيرة جدًا لا (¬7) يمكن أخذ اللقطة الواحدة إلا في أيام متعددة فيحدث كل يوم لقطة أخرى تختلط بالمبيع ولا يمكن تميزها منه ولا سبيل إلى الاحتراز من ذلك إلا أن يجمع دوابَّ المصر كلها في يوم واحد، ومَنْ أمكنه من القَطَّافين ثم يقطع الجميع في يوم واحد ويعرضه للتلف والضياع، وحاشا أكمل الشرائع -بل غيرها من الشرائع- أن تاتي بمثل هذا، وإنما هذا من الأغلاط الواقعة بالاجتهاد، وأين حرم اللَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- على الأمة ما (¬8) هم أحوج الناس إليه [ثم] (¬9) أباح ¬

_ (¬1) في (ك): "كعدمها". (¬2) في جميع النسخ عدا (ط): "المثال الخامس والستون"، والسابق يحمل الرقم نفسه!! وفي (ك) و (ق): "المثال الرابع والستون". (¬3) "جمع مقثاة، بفتح الميم وسكون القاف، وفتح الثاء، وقد تضم مكان القثاء، وهذا هو المراد هنا، أي: القثاء" (و). وقال (د): "المقاثي: جمع مقثأة، وهي في الأصل: الأرض يكون فيها القثاء ونحوها، ثم يراد به نفس القثاء، من باب إطلاق اسم المحل على الحال فيه" اهـ. (¬4) في (ق): "ونحوهما". (¬5) انظر: "زاد المعاد" (4/ 267)، و"بدائع الفوائد" (4/ 15، 74)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (29/ 227، 486 - 488)، و"الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 987، 993). (¬6) في (ك) و (ق): "أو". (¬7) في (ك): "ولا". (¬8) في (ق): "مما". (¬9) في (ن) و (ق): "و".

[قسمة الدين المشترك]

لهم نظيره؟ فإن كان هذا غَرَرًا (¬1) فبيع الثمار المتلاحقة الأجزاء غرر، وإن [لم] (¬2) يكن ذلك غررًا فهذا مثله، والصواب أن كليهما ليس غررًا [لا] (¬3) لغة ولا عرفًا ولا شرعًا؛ ودعوى أن ذلك غرر دعوى بلا برهان، فإن ادعى ذلك على اللغة طولب بالنقل، ولن يجد إليه سبيلًا، وإن ادعى ذلك على العرف فالعرف شاهد بخلافه، وأهل العرف لا يعدون ذلك غَررًا، وإن ادعاه على الشرع طولب بالدليل الشرعي، فإن بُلي بمن يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا؛ فالحيلة في الجواز أن يشتري ذلك بعروقه، فإذا استوفى ثمرته تصرَّف في العروق بما يريد. والمانعون يُجَوِّزون هذه الحيلة، ومن المعلوم أن العروق غير مقصودة، وإنما المقصود الثمرة، فإن امتنع البيع لأجل الغرر فالغرر لم يزل بملك العروق، وهذا في غاية الظهور، وبيع ذلك كبيع الثمار، وهو قول أهل المدينة (¬4)، وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا (¬5). [قسمة الدين المشترك] المثال السابع والستون (¬6): تجوز قسمة الدَّيْن المشترك بميراث أو عقد [أو] (¬7) إتلافِ فينفرد كل من الشريكين بحصته، ويختص بما قبضه، سواء كان في ذمة واحدة أو في ذمم متعددة، فإنَّ الحق لهما فيجوز أن يتفقا على قسمته أو على (¬8) بقائه مشتركًا ولا محذور في ذلك، بل هذه أولى بالجواز من قسمة المنافع بالمهاياة بالزمان أو بالمكان، ولا سيما فإن المهايأة بالزمان تقتضي تقدم أحدهما على الآخر، وقد تسلم (¬9) المنفعة ¬

_ (¬1) في (ك): "عذرًا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) انظر: "المنتقى" (4/ 222، 223)، و"بداية المجتهد" (2/ 179). (¬5) انظر: "مجموع الفتاوى" (29/ 227، 489) لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه اللَّه- و"الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 987، 993)، وفي (ك) و (ق): "اختاره" دون واو. إلى هنا ينتهي المجلد الثالث من (د) وجاء في آخره: "بحمد اللَّه وعونه قد تم (الجزء الثالث) من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ويليه -إن شاء اللَّه تعالى- (الجزء الرابع) مفتتحًا يقول المؤلف: "المثال السادس والستون". (¬6) كذا ترقيم الأمثلة في (ط)، وفي غيرها ينقص العدد واحدًا، وفي (ك) و (ق): "المثال الخامس والستون". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ك) و (ق): "وعلى". (¬9) في (ن): "وقد تسمى"، وكذا في (ق)، وأشار فوق إلى تصويبها.

إلى نَوْبة الشريك، وقد تتوى (¬1)، والدين في الذمة (¬2) يقوم مقام العين، ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره، وتجب على صاحبه زكاته إذا تمكَّن من قبضه، ويجب عليه الإنفاق على أهله وولده ورقيقه منه، ولا يُعدّ فقيرًا معدمًا، فاقتسامه يجري مجرى اقتسام الأعيان والمنافع، فإذا رضي كل من الشريكين أن يختص بما يخصه من الدين فينفرد هذا برجل يطالبه وهذا برجل يطالبه، أو ينفرد هذا بالمطالبة بحصته وهذا بالمطالبة بحصته، لم يهدما بذلك قاعدة من قواعد الشريعة، ولا استحلا (¬3) ما حرَّم اللَّه، ولا خالفا (¬4) نص كتاب اللَّه ولا سنة رسوله ولا قول صاحب ولا قياسًا (¬5) شهد له الشرع بالاعتبار، وغاية ما يقدر (¬6) عدم تكافؤ الذمم ووقوع التفاوت فيها، وأنَّ (¬7) ما في الذمة لم يتعيَّن فلا يمكن قسمته، وهذا لا يمنع تراضيهما بالقسمة مع التفاوت، فإن الحق لا يعدوهما، وعدم تعين ما في الذمة لا يمنع القسمة فإنه يتعين تقديرًا، ويكفي في إمكان (¬8) القسمة التعين بوجه، فهو معين تقديرًا ويتعين بالقبض تحقيقًا، وأما قول أبي الوفاء ابن عقيل: "لا تختلف الرواية عن أحمد في جواز (¬9) قسمة الدَّين في الذمة الواحدة، واختلفت الرواية [عنه] (10) في جواز قسمته إذا كان في الذمتين، فعنه [فيه] (¬10) روايتان"، فليس كذلك، بل عنه في كل من الصورتين روايتان، وليس في أصوله ما يمنع جواز القسمة، كما ليس في أصول الشريعة ما يمنعها، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على الجواز، وأما من منع من القسمة فقد تشتد الحاجة إليها، فيحتاج إلى التحيّل عليها، فالحيلة أن يأذن لشريكه أن يقبض من الغريم ما يخصه، فإذا فعل لم يكن لشريكه أن يخاصمه (¬11) فيه بعد الإذن، على الصحيح من المذهب ¬

_ (¬1) "توى يتوى: هلك يهلك، وبابه علم يعلم، مثل: رضي يرضى" (د). قلت: انظر: "لسان العرب" لابن منظور (14/ 105،- ط دار الفكر)، وفي (ق): "تتولى"!! (¬2) في (ق): "ذمة". (¬3) في (ق): "استحلال". (¬4) في (ق): "ألغى". (¬5) في (ق): "قياس". (¬6) في (ن) و (ق): "ما يصدر". (¬7) في (ن) و (ق): "ولأن". (¬8) في (ن): "إنكار". (¬9) في المطبوع: "في عدم جواز"، وفي هامش (ق): "لعله في عدم جواز". (¬10) سقط من (ق). (¬11) في (ن): "لم يكن لشربكه مخاصمة"، وفي (ك) و (ق): "لم يكن لشريكه محاصته".

[بيع المغيبات في الأرض]

كما صرَّح به الأصحاب، وكذلك (¬1) لو قبض حصته ثم استهلكها قبل المحاصَّة لم يضمن (¬2) لشريكه شيئًا، وكان المقبوض من ضمانه خاصة، وذلك أنه لما أذن لشريكه في قبض ما يخصه فقد أسقط حقه من المحاصة، فيختص الشريك بالمقبوض، وأما إذا استهلك الشريك ما قبضه فإنه لا يضمن لشريكه حصته منه قبل المحاصة؛ لأنه لم يدخل في ملكه، ولم يتعين له بمجرد قبض الشريك له، ولهذا لو وفَّى شريكه نظيره لم يقل انتقل إلى القابض الأول ما كان ملكًا (¬3) للشريك، فدل على أنه إنما يصير ملكًا له بالمحاصّة لا بمجرد قبض الشريك. ومن الأصحاب من فرق بين كون الدَّين بعقد وبين كونه بإتلاف أو إرث، ووجه الفرق أنه إذا كان بعقد فكأنه عقد مع الشريكين، فلكل منهما أن يطالب بما يخصه، بخلاف دَيْن الإرث والإتلاف، واللَّه أعلم (¬4). [بيع المغيَّبات في الأرض] المثال الثامن (¬5) والستون: اختلف الفقهاء في جواز بيع المغيبات في الأرض من البصل والثوم والجزر (¬6) واللفت والفجل والقلقاس ونحوها على قولين (¬7): أحدهما: المنع من بيعه كذلك لأنه مجهول غير مشاهد، والوَرَق لا يدل على باطنه، بخلاف ظاهر الصُّبرة. وعند أصحاب هذا القول لا يباع حتى يُقلع. والقول الثاني: يجوز بيعه كذلك على ما جَرَت به عادة أصحاب الحقول. وهذا قول أهل المدينة (¬8)، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد (¬9)، اختاره ¬

_ (¬1) في (ك): "وكذا". (¬2) في المطبوع: "يضعن". (¬3) في (ن) و (ق): "مالكًا"، وفي هامش (ق): "لعله ملكًا". (¬4) انظر: "الطرق الحكمية" للمصنف (ص 20). (¬5) في (ك) و (ق): "السادس". (¬6) في (ن): "الجوز" بدل "الجزر"! وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة كذلك. (¬7) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 209 و 4/ 23، 51)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 164، 167، 176، 177، 178)، كلاهما للمصنف. (¬8) نص على ذلك الإمام مالك -رحمه اللَّه- في "الموطأ" فانظره (4/ 222/ - مع "المنتقى")، وانظر: "المنتقى" نفسه (4/ 222 - 223)، و"بداية المجتهد" (2/ 179)، و"القوانين الفقهية" (ص 225)، و"المعونة" (2/ 1009)، و"التفريع" (2/ 143)، و"الكافي" (333)، و"الإشراف" (2/ 474 مسألة 793) وتعليقي عليه. (¬9) كما في "المبدع" (4/ 166).

شيخنا (¬1)، وهو الصواب المقطوع به فإن في المنع من بيع ذلك حتى يقلع أعظم الضرر والحرج والمشقة مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به شريعة، فإنه إن قلعه كله في وقت واحد تعرَّض للتلف والفساد. وإن قيل: "كما أردت بيع شيء منه فاقلعه" كان فيه من الحرج والعُسْر ما هو معلوم. وإن قيل: "اتركه في الأرض [حتى] (¬2) يفسد ولا تبعه فيها" فهذا لا تأتي به شريعة، وبالجملة فالمفتون بهذا القول لو بُلوا بذلك في حقولهم (¬3) أو ما هو وقف عليهم ونحو ذلك لم يمكنهم إلا بيعه في الأرض ولا بد، أو إتلافه وعدم الانتفاع به، وقول القائل: "إن هذا غرر ومجهول" فهذا ليس حظّ الفقيه ولا هو من شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عَدُّوه قمارًا أو غررًا فهم أعلم بذلك، وإنما حظُ الفقيه: يحل كذا لأن اللَّه أباحه ويحرم كذا لأن اللَّه حرمه وقال اللَّه تعالى وقال رسوله وقال الصحابة، وأما أن يرى هذا (¬4) خطرًا وقمارًا أو غررًا فليس من شانه بل أربابه أخبر بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيبًا أم لا، وكون هذا البيع (¬5) مربحًا أم لا، وكون هذه السلعة نافقة في وقف كذا وبلد كذا (¬6)، ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية، فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في (¬7) الأحكام الشرعية. فإن بليت بمن يقول: هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا؛ فالحيلة في الجواز أن تستأجر منه الأرض المشغولة بذلك مدة يعلم فراغه منها، ويقر له إقرارًا مشهودًا [له] (¬8) به أن ما في باطن الأرض [له] (¬9) لا حق للمؤجِّر فيه، ولكن عكس هذه الحيلة (¬10) لو أصابته آفة لم يتمكن من وضع الجائحة عنه، بخلاف ما إذا اشتراه بعد بدوّ صلاحه فإنه كالثمرة على رؤوس الشجر إن (¬11) أصابته آفة وضعت عنه الجائحة، وهذا هو الصواب في المسألتين: جواز بيعه، ووضع الجوائح فيه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (29/ 36 - 37، 85، 484، 485، 489). "الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 987، 993). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في نسخة: "في حقوقهم" (د). (¬4) في (ك) و (ق): "وأما أن هذا يرى" وفى هامش (ق): "لعله. وأما أن يرى هذا خطرًا". (¬5) في (ق): "المبيع". (¬6) في (ن) و (ق): "في وقت كذا وبكذا وكذا". (¬7) في (ن): "إلى مثلها في"، وفي (ق): "إليهم في". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬10) في هامش (ق): "لعله: علة". (¬11) في (ق): "فإن".

[المبايعة يوميا والقبض عند رأس الشهر]

[المبايعة يوميًا والقبض عند رأس الشهر] المثال التاسع (¬1) والستون: اختلف (¬2) الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت العقد (¬3)، وصورتها البيع ممن يعامله من خبّاز أو (4) لحّام أو (¬4) سمّان أو (4) غيرهم، يأخذ منه كل يوم شيئًا معلومًا ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع ويعطيه ثمنه (¬5)، فمنعه الأكثرون وجعلوا القبض به غير ناقل للملك (¬6)، وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغَصْب؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد. هذا، وكلهم إلا من شدَّد على نفسه يفعل ذلك، ولا (¬7) يجد منه بدًا، وهو يفتي ببطلانه، وأنه باقٍ على ملك البائع (¬8)، ولا يمكنه التخلص من ذلك إلا بمساومته له عند كل حاجة يأخذها قلَّ ثمنها أو أكثر، كان كان ممن شَرَطَ الإيجاب والقبول لفظًا، [فلا بد مع المساومة أن يقرن بها الإيجاب والقبول لفظًا] (¬9). والقول الثاني -وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصر ومصر- جواز البيع بما ينقطع به السعر، وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخنا (¬10)، وسمعتُه يقول: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوةٌ بالناس آخذ بما يأخذ به غيري، قال رحمه اللَّه ورضي عنه: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتاب اللَّه تعالى ولا سنة رسوله (¬11) ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرِّمه، وقد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل، وأكثرهم يجوِّز (¬12) عقد الإجارة بأجرة المثل كالنكاح (¬13) والغَسَّال والخبَّاز والملَّاح وقيّم الحَمّام والمكاري (¬14)، والبيع بثمن المثل كبيع ماء الحمام، فغاية البيع بالسعر أن يكون بيعًا (¬15) بثمن ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "السابع". (¬2) في المطبوع: "اختلفت". (¬3) في (ن): "وقت بيع العقد". (¬4) في (ك) و (ق): "و". (¬5) انظر: هذا المبحث في "بداع الفوائد" (4/ 51، 75) للمصنف. (¬6) في (ن) و (ق): "غير ناقل بذلك ". (¬7) في (ك): "لا" دون واو. (¬8) في (ك): "الدافع". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ن). (¬10) انظر: "مجموع الفتاوى" (29/ 232 - 233). (¬11) في (ك): "رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬12) في المطبوع و (ك): "يجوزون". (¬13) في هامش (ق): "لعله: كالطباخ". (¬14) المُكاري: "الذي يكري الدواب" (و). (¬15) في المطبوع: "بيعه".

[توكيل الدائن في استيفاء الدين من غلة الوقف]

المثل، فيجوز، كما تجوز المعاوضة بثمن المثل (¬1) في [مثل] (¬2) هذه الصورة وغيرها، فهذا هو القياس الصحيح، ولا تقوم مصالح الناس إلا به. فإن بليت بالقائل: هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا؛ فالحيلة في الجواز أن يأخذ ذلك قرضًا في ذمته، فيجب عليه للدافع مثله، ثم يعاوضه عليه بثمن معلوم، فإنه بيع للدَّين من الغريم وهو جائز. ولكن في هذه الحيلة آفة، وهو (¬3) أنه قد يرتفع السعر فيطالبه بالمثل فيتضرر الآخذ، وقد ينخفض فيعطيه المثل فيتضرر الأول، فالطريق الشرعية التي لم يحرمها اللَّه و [لا] (2) رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بهما، واللَّه أعلم. [توكيل الدائن في استيفاء الدَّين من غلة الوقف] المثال السبعون (¬4): إذا كان له عليه دين، وله وقف من غلة دار أو بستان، فوكَّل صاحب الدين أن يستوفي ذلك من دينه جاز، فإن خاف أن يحتال عليه ويعزله عن الوكالة، فليجعلها حوالة على من في ذمته عوض ذلك المغل، فإن لم يكن قد آجر الدار أو الأرض لأحد، فالحيلة أن يستأجرها منه صاحب الدين بعوض في ذمته، ثم يعاوضه (¬5) بدينه من ذلك العوض، فإن أراد أن يكون هو وكيله في استيفاء دينه من تلك المنافع لا بطريق الإجارة ولا بطريق الحوالة، بل بطريق الوكالة في قبض ما يصير إليه من غلَّة ذلك الوقف، وخاف عزله، فالحيلة أن يأخذ إقراره أن الواقف شَرَط أن يقضي ما عليه من الدَّين أولًا، ثم يصرف إليه بعد الدين كذا وكذا، وأنه وجب لفلان -وهو الغريم- عليه من الدين كذا وكذا، وأنه يستحقه من مغل هذا الوقف مقدمًا به على سائر مصارف الوقف، وأنه لا ينتقل من الموقوف شيء قبل قضاء الدين، وأن ولاية أمر هذا الوقف إلى فلان حتى يستوفي دينه، فإذا استوفاه فلا ولاية له عليه، كان حكم حاكم بذلك كان أوفق. [تعليق الإبراء بالشرط] المثال الحادي والسبعون (¬6): إذا كان له عليه دين فقال: "إن متَّ قبلي فأنت ¬

_ (¬1) في (ن) و (ك): "بعوض المثل". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) في (ك): "وهي". (¬4) في (ك) و (ق): "الثامن والستون". (¬5) في (ن) و (ق): "ثم يقاصه". (¬6) في (ك) و (ق): "المثال التاسع والستون".

[استدراك الأمين لما غلط فيه]

في حل، كان مت قبلك فأنت في حل" صح وبرئ في الصورتين، فإنَّ إحداهما وصية والأخرى إبراء معلق بالشرط، ويصح تعليق الإبراء بالشرط؛ لأنه إسقاط، كما يصح تعليق العتق والطلاق، وقد نص (¬1) الإمام أحمد رحمه اللَّه في الإحلال من العرض والمال مثله. وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: إذا قال: "إن مت قبلك فأنت في حل" هو إبراء صحيح لأنه وصية، كان قال: "إن مت قبلي فأنت في حل" لم يصح، لأنه تعليق للإبراء بالشرط، ولم يقيموا شبهة فضلًا عن دليل صحيح على امتناع تعليق الإبراء بالشرط، ولا يدفعه نص ولا قياس ولا قول صاحب، فالصواب صحة الإبراء في الموضعين، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة. فإن بلي بمن يقول: هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا؛ فالحيلة أن يشهد عليه أن لا يستحق عليه شيئًا (¬2) بعد موته من هذا الدَّين ولا في تركته، وإن [شاء] (¬3) كتب الفصلين في سجل واحد، وضمَّنه الوصية له به إن مات رب الدين، وإن مات المدين فلا (¬4) حق له به قبله، فيصح حينئذ مستندًا إلى ظاهر الإقرار، وهو إبراء في المعنى واللَّه سبحانه أعلم (¬5). [استدراك الأمين لما غلط فيه] المثال الثاني والسبعون (¬6): لو غَلِط المضارب أو الشريك وقال: "ربحت ألفًا" ثم أراد الرجوع لم يقبل منه؛ لأنه إنكار بعد إقرار، ولو أقام بينة على الغلط فالصحيح أنها تُقبل، وقيل: لا تقبل؛ لأنه مكذب لها؛ فالحيلة في استدراكه ما غلط فيه بحيث تقبل منه أن يقول: خسرتها بعد أن ربحتها، فالقول قوله في ذلك، ولا يلزمه الألف، وهكذا الحيلة في استدراك كل أمين لظلامته كالمودع إذا ردَّ الوديعة التي دفعت إليه ببيِّنة ولم يشهد على ردها، فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك) و (ق): "وقد نص عليه". (¬2) في (ك): "شيء". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ك): "ولا". (¬5) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 16)، و"بدائع الفوائد" (4/ 79)، و"أحكام أهل الذمة" (1/ 385). هنا انتهى المجلد الثاني من (ق) وكتب بعده: "يتلوه في الثالث: "المثال السبعون". (¬6) في (ك) و (ق): "المثال السبعون".

[تصرف المدين الذي استغرقت الديون ماله]

قولان هما روايتان عن الإمام أحمد (¬1)، فإذا خاف أن لا يقبل قوله فالحيلة في تخلّصه أن يدّعي تلفها من غير تفريط، فإن حلَّفه على ذلك فليحلف (¬2) مورِّيًا متأولًا أنَّ تلفها من عنده خروجها من تحت يده ونظائر ذلك، واللَّه أعلم. [تصرف المدين الذي استغرقت الديون ماله] المثال الثالث (¬3) والسبعون: إن (¬4) استغرقت الديون ماله لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حَجَر عليه الحاكم أو لم يحجر [عليه] (¬5)، هذا مذهب مالك واختيار (¬6) شيخنا (¬7). وعند الثلاثة يصح تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف، والصحيح هو القول الأول، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأن حق الغرماء قد تعلَّق بماله؛ ولهذا يحجر عليه الحاكم، ولولا تعلُّق حق الغرماء بماله لم يسع الحاكم الحجر عليه، فصار كالمريض مرض الموت لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرّع بما زاد على الثلث، فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال حق الورثة منه، وفي تمكين هذا المديان من التبرع إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا؛ فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق (¬8) بكل طريق، وسدِّ الطرق المفضية إلى إضاعتها، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّاها اللَّه عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه اللَّه" (¬9)، ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها، فكيف ينفذُ تبرع [من] (¬10) دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فاعله؟ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه ¬

_ (¬1) "المغني" (9/ 273)، "المبدع" (5/ 242)، "منتهى الإرادات" (2/ 455)،"كشاف القناع" (4/ 198)، "تقرير القواعد" (1/ 315 - 326 - بتحقيقي). وانظر: "الإشراف" (3/ 109 مسألة 967) وتعليقي عليه. (¬2) في (ك): "فيحلف". (¬3) في (ك) و (ق): "الحادي". (¬4) في (ك) و (ق): "إذا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ك): "واختاره". (¬7) انظر: "الاختيارات الفقهية" (ص 137). (¬8) في (ك): "الحقوق لأرباب الحقوق". (¬9) رواه البخاري (2387) في (الاستقراض): باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. وعلّقه في (الزكاة) قبل حديث (1426) باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى. (¬10) ما بين المعقوفتين من المطبوع.

يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد أنه كان ينكر هذا المذهب ويضعِّفه، قال: إلى أن بُلي بغريم تبرَّع قبل الحجر عليه فقال: واللَّه مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة، وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدل على اختياره هذا المذهب، فإنه قال (¬1) في باب: (من ردَّ أمر السفيه والضعيف [العقل] وإن لم يكن حجر عليه الإمام): ويُذكر عن جابر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رد على المتصدِّق قبل النهي ثم نهاه، فتأمل هذا الاستدلال، قال عبد الحق (¬2): أراد به -واللَّه أعلم- حديث جابر في بيع المدبر (¬3)، ثم قال البخاري في هذا الباب نفسه: وقال مالك: إذا كان لرجل [على رجل] (¬4) مال وله عبد [و] (¬5) لا شيء [له] (¬6) غيره فأعتقه لم يجز عتقه، ثم ذكر حديث: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها اللَّه عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه اللَّه" (¬7)، وهذا الذي حكاه عن مالك هو في كتب أصحابه، وقال ابن الجلاب (¬8): "ولا تجوز هبة المفلس ولا عتقه ولا صدقته إلا بإذن غرمائه، وكذلك المديان الذي لم يفلسه غرماؤه في عتقه وهبته وصدقته". وهذا القول هو الذي لا نختار غيره، وعلى هذا فالحيلة لمن تبرَّع غريمه بهبة أو صدقة (¬9) أو وقف أو عتق وليس في ماله سعة له ولدائنه (¬10) أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا التبرع، ويسأله الحكم ببطلانه، فإن لم يكن في بلده حاكم يحكم بذلك فالحيلة أن يأخذ عليه إذا خاف منه ذلك الضمين أو الرهن، فإن بادر الغريم وتبرع قبل ذلك فقد ضاقت الحيلة على صاحب الحق، ولم يبق له غير أمر واحد، وهو التوصل إلى إقراره بأنَّ ما في يده أعيان أموال الغرماء فيمتنع التبرع بعد الإقرار، فإن قدَّم تاريخ الإقرار بطل التبرع المتقدم أيضًا، وليست هذه حيلة على إبطال حق ولا تحقيق باطل، بل على [إبطال] (¬11) جور وظلم؛ فلا بأس بها، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) في "صحيحه": (كتاب الخصومات) (5/ 71)، وما بين المعقوفتين منه. (¬2) نقله عنه ابن حجر في "الفتح" (5/ 72) وتعقبه، فانظر كلامه. (¬3) سبق تخريجه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من "صحيح البخاري". (¬5) ما بين المعقوفتين من "صحيح البخاري". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) الحديث لم يذكره البخاري -رحمه اللَّه- في هذا الباب، وإنما ذكره في (كتاب الاستقراض): باب من أخذ أموال الناس يريد أداءها، (رقم 2387)، وقد سبق تخريجه قريبًا. (¬8) في كتابه "التفريع" (2/ 254 رقم 1008). (¬9) في (ق): "بصدقة أو هبة". (¬10) في (ق) و (ك): "ولدينه"، وفي (ك): "بيعه" بدل "سعة". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ط).

[خوف الدائن من جحد المدين]

[خوف الدائن من جحد المدين] المثال الرابع (¬1) والسبعون: إذا كان له [عليه] (¬2) دين ولا بيَّنة له به، ويخاف (¬3) أن يجحده، أو له بينة [به] (¬4) ويخاف أن يمطله فالحيلة أن يستدين منه بقدر دينه إن أمكن، ولا يضره أن يعطيه به رهنًا أو كفيلًا، فإذا ثبت له في ذمته نظير دينه قاصَّه به، كان لم يرض على أصح المذاهب، فإن حذَّر غريمه من ذلك وأمكنه أن يشتري منه سلعة ولا يعين الثمن ويخرج النقد فيضعه بين يديه فإذا قبض السلعة وطلب منه الثمن قاصَّه بالدين الذي عليه، وبكل حال فطريق الحيلة أن يجعل له [عليه] (2) من الدين نظير ماله. [خوف زوج الأمة من رق أولاده] المثال الخامس (¬5) والسبعون: إذا خاف العنت ولم يجد طَوْل حرَّة وكره رق أولاده فالحيلة في عتقهم أن يشترط على السيد أن ما ولدته زوجته منه من الولد (¬6) فهم أحرار، فكل ولد تلده بعد ذلك منه فهو حر، ويصح تعليق العتق بالولادة كما لو قال لأمته: كل ولد تلدينه فهو حر، قال ابن المنذر: لا أحفظ فيه خلافًا (¬7). فإن قيل: فهل تجوّزون نكاح الأمة بدون الشرطين إذا أمن رقَّ ولده بهذا التعليق؟ قيل: هذا محل اجتهاد، ولا تأباه أصول الشريعة، وليس فيه إلا أن الولد يثبت عليه الولاء للسيد، وهو شعبة من الرق، ومثل هذا هل ينتهض سببًا لتحريم نكاح الأمة أو يقال -وهو أظهر-: أن اللَّه تعالى منع من نكاح الإماء لأنهن في الغالب لا يحجبن حجب الحرائر، وهن في مهنة ساداتهن وحوائجهن (¬8)، وهن ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الثاني". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في المطبوع: "وخاف". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "الثالث". (¬6) في نسخة: "من الأولا" (د). (¬7) قال ابن المنذر في كتابه "الإجماع" (ص 77، رقم 732 - دار الكتب العلمية): "وأجمع أهل العلم أن الرجل إذا قال لأمته: كل ولد تلدين فهو حر، فولدت أولادًا، أنهم أحرار". وانظر: "زاد المعاد" (4/ 42 - 43 - ط الرسالة)، "الإنصاف" (8/ 170). ووقع في المطبوع: "ولا أعلم فيه خلافًا". (¬8) في (ق): "وحوائجهم".

[الحيلة في الخلاص من بيع جاريته]

برزات لا مخدرات؟ وهذه كانت عادة العرب في إمائهن (¬1)، وإلى اليوم، فصان اللَّه تعالى الأزواج أن تكون زوجاتهم بهذه المثابة، مع ما يتبع ذلك من رق الولد، وأباحه لهم عند الضرورة إليه كما أباح الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة، وكل هذا منع منه سبحانه وتعالى كنكاح غير المحصنة، ولهذا شرط تعالى في نكاحهن أن يكن {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] أي غير زانية مع من كان، ولا زانية مع خدنها (¬2)، وعشيقها دون غيره، فلم يبح [لهم] (¬3) نكاح الإماء [إلا] (¬4) بأربعة شروط: عدم الطَّوْل، وخوف العنت، وإذن سيدها، وأن تكون عفيفة غير فاجرة فجورًا عامًا ولا خاصًا، واللَّه [تعالى] (¬5) أعلم. المثال السادس (¬6) والسبعون: إذا لم تمكّنه أمته من نفسها حتى يعتقها ويتزوجها، وهو لا يريد إخراجها عن ملكه (¬7)، ولا تصبر نفسُه عنها؛ فالحيلة أن يبيعها أو يهبها لمن يثق به، ويُشهد عليه من حيث لا تعلم هي، والبيع أجود؛ لأنه لا يحتاج إلى قبض، ثم يعتقها، ثم يتزوجها، فإذا فعل [ذلك] (¬8) استردها من المشتري من حيث لا تعلم الجارية، فانفسخ النكاح، فيطؤها بملك اليمين ولا عدة عليها. [الحيلة في الخلاص من بيع جاريته] المثال السابع (¬9) والسبعون: إذا أراده من لا يملك (¬10) ردَّه على بيع جاريته منه فالحيلة في خلاصه أن يفعل ما ذكرناه (¬11) سواء، ويُشهد على عتقها أو نكاحها (¬12)، ثم يستقيله البيع، فيطؤها بملك [اليمين] (¬13) في الباطن وهي زوجته في الظاهر، ويجوز هذا لأنه يدفع به عن نفسه، ولا يسقط به حق ذي حق، كان شاء احتال بحيلة أخرى وهي إقراره بأنها وضعت منه ما يتبين (¬14) به خَلْق الإنسان ¬

_ (¬1) في (ق): "أمتهانهن"! (¬2) في المطبوع و (ك): "خدينها". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬6) في (ك) و (ق): "الرابع". (¬7) في (ق): "عن نفسه". (¬8) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬9) في (ك) و (ق): "الخامس". (¬10) "في نسخة: "من لا يمكن رده"، وأراده: معناه أجبره، وقهره عليه" (د). قلت: النسخة المشار إليها هي (ق) و (ك). (¬11) في (ك): "ذكرنا". (¬12) في (ق): "ونكاحها". (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬14) في (ق): "ما تبين".

فصارت بذلك أم ولد لا يمكن نقل الملك فيها فإن أحبَّ دفع التهمة عنه وأنه قصد بذلك التحيل فيبيعها (¬1) لمن يثق به، ثم يواطئ المشتري على أن يدَّعي عليه أنها وضعت في ملكه ما فيه سورة إنسان، ويقر بذلك فينفسخ البيع، ويكتب بذلك (¬2) محضرًا فإنه يمتنع بيعها بعد ذلك. المثال الثامن (¬3) والسبعون: إذا أراد أن يبيع الجارية من رجل بعينه، ولم تَطْب نفسُه بأنْ (¬4) تكونَ عند غيره، فله في ذلك أنواع من الحيل: إحداها (¬5): أن يشترط عليه أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، كما اشترطت ذلك امرأة عبد اللَّه بن مسعود عليه (¬6)، ونص الإمام أحمد على جواز [هذا] (¬7) البيع والشرط في رواية علي بن سعيد، وهو الصحيح، فإن لم تتم له هذه الحيلة لعدم مَنْ يَنفِّذها [له] (¬8) فليشترط عليه أنَّك إنْ (¬9) بعتها لغيري فهي حرة، ويصح هذا الشرط، وتعتق عليه إنْ باعها لغيره، إما بمجرد الإيجاب عند صاحب "المغني" (¬10)، وغيره، وإما بالقبول فيقع العتق عقيبه وينفسخ البيع عند صاحب "المحرَّر" (¬11)، وهذه طريقة القاضي، [قال] (¬12) في كتاب "إبطال الحيل": إذا قال: "إن بعتك هذا العبد فهو حر"، وقال المشتري: "إن اشتريته فهو حر" فباعه عتق على البائع؛ لأنه ليس له عند دخوله في ملك الآخر (¬13) حال استقرار حتى يعتق عليه بنيته (¬14) التابعة؛ لأن خيار المجلس ثابت للبائع، فملك المشتري غير مستقر، و [هو] (¬15) قول صاحب "المحرر": "وانفسخ البيع " (¬16) تقريرٌ لهذه الطريقة وأنه إنما يعتق بالقبول، ويعتق في مدة الخيار على أحد الوجوه الثلاثة؛ فإن لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح (¬17) هذا التعليق ويقول: إذا اشتراها مَلَكَها ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "فليبعها" (¬2) في (ك) و (ق)، وفي سائر النسخ: "ذلك". (¬3) و (ق): "السادس". (¬4) في (ك) و (ق): "أن". (¬5) في (ك) و (ك): "أحدها". (¬6) مضى لفظه وتخريجه. (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) في (ق): "إذا". (¬10) انظر "المغني" لابن قدامة (4/ 157/ رقم 3118). (¬11) انظر "المحرر" (1/ 277). (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬13) في (ك): "آخر". (¬14) في (ق): "بيمينه"، وفي (ك): "بثمنيته". (¬15) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬16) انظر "المحرر" (1/ 277). (¬17) في (ق): "من لم يصح".

[حيلة في تعليق الطلاق قبل التزويج]

ولا تعتق بالشرط في ملك الغير كما يقوله أبو حنيفة فله حيلة أخرى وهي أن يقول: إذا بعتها فهي حرة قبل البيع، فيصح هذا التعليق، فإذا باعها حكمنا بوقوع العتق قبل البيع على أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد -رضي اللَّه عنهما-، فإذا (¬1) لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح هذا التعليق فله حيلة أخرى وهي أن يقول: إذا اشتريتها فهي [حرة] (¬2) مدبرة، فيصح هذا التعليق، ويمتنع بيعها عند أبي حنيفة رحمه اللَّه فإن التدبير عنده جار مجرى العتق المعلَّق بصفة، فإذا اشتراها صارت مدبرة، ولم يمكنه بيعها عنده، فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من لا يجوز تعليق التدبير بصفة فالحيلة أن يأخذ البائع إقرار المشتري بأنه دبر هذه الجارية بعدما اشتراها، وأنه جعلها حرة بعد موته، فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من يجوز بيع المدبر -وهو الإمام أحمد ومن قال بقوله- فالحيلة أن يُشهد عليه قبل أن يبيعها منه أنه كان تزوجها من سيدها تزويجًا صحيحًا، وأنها ولدت منه ولدًا ثم اشتراها بعد ذلك فصارت أم ولده، فلا (¬3) يمكنه بيعها. فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من يعتبر في كونها أم ولد أن تحمل وتضع في ملكه ولا يكفي أن تلد منه في غير ملكه كما هو ظاهر مذهب أحمد والشافعي -فقد ضاقت عليه وجوه الحيل، ولم يبق له إلا حيلة واحدة وهي أن يتراضى سيد الجارية والمشتري برجل ثقة عدل بينهما فيبيعها هذا العدل بطريق الوكالة عن سيدها بزيادة على ثمنها الذي اتفقا عليه، ويزيد ما شاء، ويقبض منه الثمن الذي اتفقا عليه، فإن أراد المشتري بيعها طَالبَه بباقي الثمن الذي أظهره، ولو لم يدخلا بينهما ثالثًا بل اتفقا على ذلك فقال: "أبيعكها بمئة دينار وآخذ (¬4) منك أربعين، فإن بعتها طالبتك بباقي الثمن، كان لم تبعها لم أطالبك" جاز، لكن في توسط [العدل] (¬5) الذي يثق به المشتري كأبيه (¬6) وصاحبه، تطييب لقلبه وأمان له من مطالبة البائع له بالثمن الكثير. [حيلة في تعليق الطلاق قبل التزويج] المثال التاسع (¬7) والسبعون: إذا طلب منه ولده أو عبده أن يزوجه، وخاف أن يلحقه ضرر بالزوجة ويأمره (¬8) بطلاقها فلا يقبل، فالحيلة أن يقول له: لا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "فإن". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) في (ك): "أولا". (¬4) في (ق): "فآخذ". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ق): "كابنه"، وفي (ك): "كاتبه". (¬7) في (ك) و (ق): "السابع". (¬8) في (ك): "يأمره" دون واو.

[حيلة في جواز بيع المدبر]

أزوجك إلا أن تجعل أمر الزوجة بيدي، فإن وثق منه بذلك الوعد قال له بعد التزويج: أمرها بيدك، كان لم يثق منه به وخاف أنه إذا قبل العقد لا يفي (¬1) له بما وعده، فالحيلة أن لا يأذن له حتى يعلق ذلك بالنكاح، فيقول: إن تزوجتها (¬2) فأمرها بيدك، ويصح هذا التعليق على مذهب أهل المدينة وأهل العراق، فإن أراد أن يكون ذلك مجمعًا عليه فليكتب في كتاب الصداق: "وأقر الزوج المذكور أن أمر الزوجة (¬3) المذكورة بيد السيد أو الأب" فإذا وقع ما يحذره منها تمكن حينئذ من التطليق عليه، واللَّه تعالى أعلم. لكن قد يخرجه عن الوكالة بعد ذلك فلا يتم مراده، فالحيلة أن يشترط عليه أنه متى أخرجه عن الوكالة فهي طالق. [حيلة في جواز بيع المدبر] المثال الثمانون (¬4): إذا دبر عبده أو أمته جاز له بيعه ويبطل تدبيره، فإن خاف أن يرفعه العبد إلى حاكم لا يرى بيع المدبر فيحكم عليه بالمنع من بيعه، فالحيلة أن يقول: إن مت وأنت في ملكي فانت حر بعد موتي، فإذا قال ذلك تم له الأمر كما أراد، فإن أراد بيعه ما دام حيًا فله ذلك، كان مات وهو في ملكه عتق عليه، والفرق بين (¬5) أن يقول: "أنت حر بعد موتي"، [وبين أن يقول: "إن مت وأنت في ملكي فأنت حر بعد موتي"] أن هذا تعليق للعتق بصفة، وذلك (¬6) لا يمنع بيع العبد كما لو قال: "إن دخلت الدار فأنت حر" فله بيعه قبل وجود الصفة، بخلاف قوله: "أنت حر بعد موتي" فإنه جزم بحريته في ذلك الوقت، ونظير هذا أنه لو قال [له] (¬7): "إن مت قبلي فأنت في حل من الدين الذي عليك" فهو إبراء معلق بصفة، ولو قال له: "أنت في حل بعد موتي" (¬8) صح ولم يكن تعليقًا للإبراء بالشرط، ونظيره لو قال: "إن مت فداري وقف" فإنه تعليق للوقف بالشرط، ولو قال: "هي وقف بعد موتي" صح، واللَّه تعالى أعلم. ¬

_ (¬1) في (ق): "لم يفيء"!. (¬2) في (ق): "تزوجها"!. (¬3) في (ق) و (ك): "أمر المرأة المذكورة". (¬4) في (ك) و (ق): "المثال الثامن والسبعون". (¬5) قال في هامش (ق): "لعله بينه وبين"، وما بين المعقوفتين الآتيتين سقط من (ق). (¬6) في (ك): "ذلك" دون واو. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬8) في (ق) و (ك): "بعد موتك".

[براءة أحد الضامنين بتسليم الآخر]

[براءة أحد الضامنين بتسليم الآخر] المثال الحادي (¬1) والثمانون: لو أن رجلين ضمنا رجلًا بنفسه، فدفعه أحدهما إلى الطالب، برئ الذي لم يدفع، وهذا بمنزلة رجلين ضمنا لرجل مالًا فدفعه إليه أحدهما فإنهما يبران جميعًا (¬2)؛ لأن المضمون هو إحضار واحد، فإذا سلَّمه أحدهما فقد وجد الإحضار (¬3) المضمون فبرئا جميعًا، قال القاضي: وربما ألزمه بعض القضاة الضمان بنفس المطلوب (¬4)، ولا يجعل دفع الآخر براءة للذي لم يدفع، فالحيلة أن يضمنا للطالب هذا الرجل بنفسه، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعًا بريئان، فيتخلص على قول الكل، أو يشهد أن (¬5) كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع هذا الرجل إلى الطالب والتبري إليه، فإذا دفعه أحدهما برئا جميعًا منه؛ لأنه إذا كان كل منهما وكيل صاحبه كان تسليمه كتسليم موكله. [زواج أحد دائني المرأة إياها بنصيبه من الدين] المثال الثاني والثمانون (¬6): قال القاضي في كتاب " [إبطال] (¬7) الحيل": إذا كان لرجلين على امرأة مال وهما شريكان، فتزوجها أحدهما على نصيبه من المال الذي عليها، لم يضمن لصاحبه شيئًا من المهر؛ لأنه لم يجعل نصيبه في ضمانه، فصار كما لو أبرأه، وربما ضمَّنه بعض الفقهاء، فالحيلة فيه أن يهب لها نصيبه مما عليها ثم يتزوجها بعد ذلك على مقدار ما وهبها، ثم تهب المرأة للزوج المهر الذي تزوجها عليه؛ لأن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لكونه متبرعًا، فإذا تزوجها بعد ذلك على مهر ووهبته له حصل مقصوده وتخلص من أقاويل المختلفين. [حيلة في عدم الحنث في يمين] المثال الثالث (¬8) والثمانون: لو (¬9) حلف رجل بالطلاق أنه لا يضمن عن أحد ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "التاسع والسبعون". (¬2) كتب في هامش (ق): "المذهب أنه لا يبرأ الذي لم يدفع". (¬3) في (ك): "إحضار". (¬4) في (ك): "بنفس الضمان المطلوب". (¬5) في (ق): "أو يشهد بأن". (¬6) في (ك) و (ق): "المثال الثمانون". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ك) و (ق): "الحادي". (¬9) في (ق): "إذا".

[حيلة في ضمان شريكين]

شيئًا (¬1) فحلف آخر بالطلاق [أن] (¬2) لا بد أن تضمن عني، فالحيلة [في] (2) أن يضمن عنه، ولا يحنث، أن يشاركه ويشتري متاعًا بينه وبين شريكه، قال القاضي: فإنه يضمن عن شريكه نصف الثمن، ولا يحنث الحالف [في يمينه] (¬3)؛ لأن المحلوف عليه (¬4) عقد الضمان، وما يلزمه في مسألتنا لا يلزمه بعقد الضمان، وإنما يلزمه بالوكالة؛ لأن كل واحد من الشريكين وكيل صاحبه فيما يشتريه، فلهذا لم (¬5) يحنث في يمينه، فإن كانت بحالها ولم يكن بينه وبين المحلوف عليه شركة لكنه وكله المحلوف عليه فاشتراها لم يحنث أيضًا لما بيَّنا. [حيلة في ضمان شريكين] المثال الرابع (¬6) والثمانون: شريكان شركة عنان (¬7) ضمنا عن رجل مالًا بأمره على أنه إن أدى المال أحد الشريكين رجع به على شريكه، وإن أداه الآخر فشريكه منه بريء، وللمسألة أربع صور: إحداها (¬8): أن يقولا أينا أداه رجع به على شريكه. الثانية: عكسه. الثالثة: أن يقول: إن أديته أنا رجعت به عليك ولا ترجع به عليَّ إن أديته. الرابعة: عكسه. فالصورة الأولى والثانية لا تحتاج إلى حيلة، وأما الثالثة والرابعة فالحيلة في جوازهما أن يضمن أحد الشريكين عن المدين ما عليه لصاحبه، ثم يجيء شريكه فيضمن ما لصاحب الحق عليهما، فإذا أدَّى هذا الشريك المال رجع به على شريكه والأصيل (¬9)، وإذا أداه شريكه والأصيل لم يرجعا على الشريك بشيء؛ لأن ¬

_ (¬1) في نسحة: "لا يضمن لأحد شيئًا" (د). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ك): "بيمينه". (¬4) في (ق): "عنه". (¬5) في (ق): "ولهذا لم"، وفي (ك): "فلهدا فلم". (¬6) في (ق) و (ك): "الثاني". (¬7) قال ابن بطال: "أجمعوا على أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد منهما مثل ما أخرج صاحبه، ثم يخلط ذلك حتى لا يتميز، ثم يتصرفا جميعًا إلا أن يقيم كل منهما الآخر مقام نفسه، وهذه تسمَّى شركة العنان، ولها تفصيلات في كتب الفقه، انظر مثلًا: "بداية المجتهد" لابن رشد (و). قلت: وانظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" (ص 205) للنووي. (¬8) في (ق) و (ك): "أحدها". (¬9) في (ك): "وأصيل".

[تحيل المظلوم على مسبة الناس للظالم]

شريكه قد صار صاحب الأصل (¬1) هاهنا، فلو رجع عليه لرجع هو عليه، فمن حيث يثبت يسقط، فلا معنى للرجوع عليه. [تحيل المظلوم على مسبة الناس للظالم] المثال الخامس (¬2) والثمانون: لا بأس للمظلوم أن يتحيل على مسبة الناس لظالمه والدعاء عليه والأخذ من عرضه، كان لم يفعل ذلك بنفسه؛ إذ لعل ذلك يردعه ويمنعه من الإقامة على ظلمه، وهذا كما لو أخذ ماله فلبس أرثَّ الثياب بعد أحسنها، وأظهر البكاء والنَّحيب والتأوه، أو اذاه في جواره فخرج من داره وطرح متاعه على الطريق، أو أخذ دابته فطرح حمله على الطريق وجلس يبكي، ونحو ذلك، فكل هذا مما يدعو الناس إلى لعن الظالم له وسبه والدعاء عليه، وقد أرشد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المظلوم بأذى جاره له إلى نحو ذلك، ففي (¬3) "السنن" و"مسند الإمام أحمد" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- "أن رجلًا شكا إلى النبي (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- من جاره، فقال: اذهب فاصبر، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: اذهب فاطرح متاعك في الطريق، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: "فَعَلَ اللَّه به وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئًا تكرهه" (¬5) [هذا لفظ أبي داود] (¬6). [من لطائف حيل أبي حنيفة] المثال السادس (¬7) والثمانون: ما ذكر في "مناقب أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى" أن رجلًا أتاه بالليل فقال: أَدْرِكني قبل الفجر وإلا طلقت امرأتي، فقال: وما ذاك؟ قال: تركت الليلة كلامي، فقلت لها: إن طلع الفجر ولم تكلميني فأنت طالق ثلاثًا، وقد توسلَّت إليها بكل أمران تكلمني فلم تفعل، فقال [له] (¬8): اذهب فمر مؤذن المسجد أن ينزل فيؤذن قبل الفجر، فلعلها إذا سمعته أن تكلمك، واذهب إليها وناشدها أن تكلمك قبل أن يؤذن المؤذن، ففعل الرجل، ¬

_ (¬1) في (ق): "صاحب الأصيل"، ولعل الصواب ما أثبته. (¬2) في (ك) و (ق): "الثالث". (¬3) في (ق): "وفي". (¬4) في (ك): "رسول اللَّه". (¬5) سبق تخريجه مطولًا. (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "لفظ أبي داود"، وفي (ق): "لفظه لأبي داود". (¬7) في (ك) و (ق): "الرابع". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط عن (ق) و (ك).

[حيلة أخرى له]

وجلس يناشدها، وأذَّن المؤذن، فقالت: قد طلع الفجر وتخلصت منك، فقال: قد كلمتيني قبل الفجر وتخلَّصتُ من اليمين (¬1)، وهذا من أحسن الحيل. [حيلة أخرى له] المثال السابع (¬2) والثمانون: قال بشر بن الوليد (¬3): كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلسه، فقال له يومًا: إني أريد التزوج بامرأة، وقد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي، و [قد] (¬4) تعلقت بالمرأة، فقال له: أعطهم ما طلبوا منك، ففعل، فلما عقد العقد جاء إليه فقال: قد طلبوا مني المهر، فقال: احتل واقترض وأعطهم ففعل، فلما دخل بأهله قال: إني أخاف المطالبين بالدين وليس عندي ما أوفيهم (¬5)، فقال: أظْهر أنك تريد سفرًا بعيدًا، وأنك تريد الخروج بأهلك، ففعل، واكترى جمالًا، فاشتد ذلك على المرأة وأوليائها، فجاءوا إلى أبي حنيفة رحمه اللَّه، فسألوه، فقال: له أن يذهب بأهله حيث شاء، فقالوا: نحن نرضيه ونرد إليه ما أخذنا منه ولا يسافر، فلما سمع الزوج طمع وقال (¬6): لا واللَّه حتى يزيدوني، فقال له: إن رضيت بهذا، وإلا أقرَّت المرأة أن عليها دَيْنًا لرجل، فلا يمكنك أن تخرجها حتى توفيه. فقال: باللَّه لا يسمع أهل المرأة ذلك منك (¬7)، أنا أرضى بالذي أعطيتهم (¬8). [تعليق الفسخ والبراءة بالشروط] المثال الثامن (¬9) والثمانون: قال القاضي أبو يعلى: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مئة درهم يؤديها إليه في شهر كذا فإن لم يفعل وأخَّرها إلى شهر (¬10) آخر فعليه مئتان، فهو جائز، وقد أبطله قوم آخرون، ¬

_ (¬1) انظر: "مناقب الإمام أبي حنيفة" للكردري (ص 192 - 193)، أو (ص 114 - 115) للموفق، كلاهما طبع دار الكتاب العربي، ونحوها في "المخارج في الحيل" (49). (¬2) في (ك) و (ق): "الخامس". (¬3) ذكره عنه في "المناقب" (ص 130 - 131) لمكي، وفيه خلف يسير في السياق. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ك): "يوفيهم". (¬6) في المطبوع: "فقال". (¬7) في (ق) و (ك): "منك ذلك". (¬8) ذكره الموفق المكي في "مناقب أبي حنيفة" (ص 130 - 131)، والكردري في "مناقب أبي حنيفة" أيضًا (ص 216). (¬9) في (ك) و (ق): "السادس". (¬10) في (ق): "وأخرها في شهر".

قال (¬1): أما جواز الصلح من ألف على مئة (¬2) فالوجه فيه أن التسع مئة لا يستفيدها بعقد الصلح وإنما استفادها بعقد المداينة وهو العقد السابق؛ فعلم أنها ليست مأخوذة على وجه المعاوضة (¬3)، وإنما هي على طريق الإبراء عن بعض حقه، قال: ويفارق هذا إذا كانت له ألف مؤجلة فصالحه على تسع مئة حالة أنه لا يجوز؛ لأنه استفاد هذه التسع مئة بعقد الصلح؛ لأنه لم يكن مالكًا لها (¬4) حالَّة، وإنما كان يملكها مؤجلة، فلهذا لم يصح. وأما جوازه على الشرط المذكور -وهو أنه إنْ لم يفعل فعليه مئتان- فلأن المصالح إنما علَّق فسخَ البراءة بالشرط، والفسخ يجوز تعليقه بالشرط وإن لم يجز تعليق البراءة بالشرط، ألا ترى أنه لو قال: "أبيعك هذا الثوب بشرط أن تنقدني الثمنَ اليوم، فإن لم تنقدني الثمن اليوم فلا بيعَ بيننا" [أنه] (¬5) إذا لم ينقد الثمن في يومه انفسخ العقد بينهما، كذلك هاهنا، ومَنْ لم يُجِز (¬6) ذلك يقول: هذا تعليق براءة المال بالشرط، وذلك لا يجوز، قال: والوجه في جواز هذا الصلح على مذهب الجميع أن يعجل (¬7) رب المال حطَّ ثمان مئة يحطّها على كل حال، ثم يصالح المطلوب من المئتين الباقيتين على مئة يؤديها إليه في شهر كذا على أنه إنْ أخَّرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما، فإذا فعل هذا فقد استوثق في قول الجميع؛ لأنه متى صالحه على مئتين و [قد] (¬8) حطَّ عنه الباقي يصير كأنه لم يكن عليه من الدَّين إلا مئتا درهم، ثم صالحه عن (¬9) المئتين الباقيتين على مئة يؤدّيها إليه في شهر كذا، فإنْ أخَّرها فلا صلح بينهما، فيكون [على] (¬10) قول الجميع فسخ العقد معلّقًا بترك النقد، وذلك جائز على ما بينّاه في البيع. فإن أراد أن يكاتب عبده على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى، فهي كتابة (¬11) فاسدة؛ لأنه علَّق إيجاب المال بخطر، وتعليق ¬

_ (¬1) في (ق): "قالوا"، وقال في الهامش: لعله: "قال". (¬2) في (ق): "من ألف إلى مئة". (¬3) في (ق) وفي سائر النسخ: "المعارضة". وانظر: "عقد الصلح في الشريعة الإسلامية" (58 - فما بعد) للدكتور نزيه حماد. (¬4) (في): "لم يكن مالكها". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬6) (في) و (ك): "ومن لم يجوز". (¬7) في (ك): "يجعل". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) في (ك) و (ق): "من". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وقال في الهامش: لعلها: "في". (¬11) في (ك): "كتابته".

[صلح الشفيع من الشفعة]

المال بالأخطار لا يجوز، والحيلة في جوازه أن يكاتبه على ألفي درهم، ويكتب عليه بذلك كتابًا، ثم يصالحه بعد ذلك على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون تعليقًا للفسخ بخطر، وذلك جائز على ما قدمناه من مسألة البيع؛ فإن كان السيد كاتب عبده على ألفي درهم إلى سنتين فأراد العبد أن يصالح سيّده على النصف يعجلها له؛ فإن ذلك جائز عندنا، ويبطله غيرنا، انتهى كلامه. [صلح الشفيع من الشفعة] المثال التاسع (¬1) والثمانون: قال القاضي: إذا اشترى رجل من رجل دارًا بالف درهم؛ فجاء الشفيع يطلب الشفعة؛ فصالحه المشتري على أن أعطاه نصف الدار بنصف الثمن، جاز؛ لأن الشفيع صَالحَ على بعض حقه، وذلك جائز كما لو صالح من ألف على خمس مئة؛ فإن صالحه على بيت من الدار بحصته من الثمن لم يجز؛ لأنه صالح على شيء مجهول؛ لأن ما يأخذه الشفيع يأخذه على وجه المعاوضة، وحصة المبيع [من الثمن] (¬2) مجهولة، وجهالة العوض تمنع صحة العقد؛ فالحيلة حتى يسلم البيت للشفيع والدار للمشتري أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمَّى، ثم يسلم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة، ومساومته بالبيت (¬3) تسليم للشفعة؛ لأنه إذا اشتراه بثمن مسمَّى كان عوض البيت معلومًا، ودخوله في شراء البيت تسليم للشفعة فيما بقي من الدار، وذلك جائز؛ فالحيلة (¬4) أن يأخذ البيت بهذا الثمن المسمى من غير أن يكون مسلمًا للشفعة حتى يجب له البيت أن يبدأ المشتري فيقول للشفيع: هذا البيت ابتعتُه لك بكذا وكذا درهمًا، فيقول الشفيع: قد رضيتُ واستوجبتُ؛ لأن المشتري متى ابتدأ بقوله: "هذا البيت لك بكذا" لم يكن الشفيع مسلمًا للشفعة. [مشاركة العامل للمالك وأنواعها] المثال التسعون (¬5): تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره، بأن يدفع ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "السابع". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "ومساومته للبيت". (¬4) في (ك) و (ق): "والحيلة". (¬5) في (ك) و (ق): "المثال الثامن والثمانون".

[كل ما مضى شركة صحيحة]

إليه أرضه ويقول: اغرسها من الأشجار كذا وكذا والغرس بيننا نصفان (¬1)، وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه والربح بينهما نصفان (1)، وكما يدفع إليه أرضه يزرعها والزرع بينهما، وكما يدفع إليه شجرة يقوم عليها والثمر (¬2) بينهما، وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها (¬3) والدَّرُّ والنَّسْل بينهما، وكما يدفع إليه زيتونه يعصره والزيت بينهما، وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها والأجرة بينهما، وكما يدفع إليه فرسه يَغْزُو عليها وسهمها بينهما، وكما يدفع إليه قناة يستنبط ماءها والماء بينهما، ونظائر ذلك. [كل ما مضى شركة صحيحة] فكل (¬4) ذلك شركة صحيحة قد دلَّ على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس، وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة ولا معنى صحيح يوجب فسادها، والذين منعوا ذلك (¬5) عذرهم أنهم ظنوا ذلك كله من باب الإجارة فالعوض مجهول فيفسد (¬6). [حكم المساقاة والمزارعة والمضاربة] ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيها والمضاربة للإجماع (¬7) دون ما عدا ذلك، ومنهم من خص الجواز بالمضاربة، ومنهم من جوَّز بعض أنواع المساقاة والمزارعة، ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطَّحان وجوزه فيما إذا رجعت إليه (¬8) الثمرة مع بقاء الأصل كالدر والنسل، والصواب جواز ذلك كله، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها؛ فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك؛ هذا بماله وهذا بعمله، وما رزق (¬9) اللَّه فهو بينهما، وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الإجارة، [حتى] قال شيخ الإسلام (¬10): هذه المشاركات أحل من ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "نصفين". (¬2) في (ك): "والثمن". (¬3) في (ك): "عليه". (¬4) في (ك): "وكل". (¬5) في (ق): "والذين منعوا من ذلك". (¬6) في (ق): "فتفسد"، وفي (ك): "والعوض". (¬7) في (ك): "بل لاجماع". (¬8) في (ق): "فيه". (¬9) في (ك): " يرزق". (¬10) في "مجموع الفتاوى" (28/ 84 - 85) بنحوه، وانظر أيضًا (20/ 509 - 510، و 25/ 61 و 29/ 100 و 30/ 141، 145).

الإجارة، قال: لأن المستأجر يدفع ماله وقد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل، فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر، إذ قد يكمل الزرع وقد لا يكمل، بخلاف المشاركة؛ فإن الشريكين في الفوز وعدمه (¬1) على السواء، إن رزق اللَّه الفائدة كانت بينهما، وإن منعها استويا في الحرمان وهذا غاية العدل؛ فلا تأتي الشريعة بحل الإجارة وتحريم هذه المشاركات، وقد أقر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام، فضارب (¬2) أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الأمة (¬3)، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (¬4)، وهذا كأنه رأي عين، [ثم] (¬5) لم ينسخه ولم ينه عنه ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره، ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع إلا فيما منع منه النبي (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو ما قال الليث بن سعد: إذا نظر ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز، ولو لم تأت هذه النصوص والآثار فلا حرام إلا ما حرمه اللَّه ورسوله، واللَّه ورسوله لم يحرم شيئًا من ذلك، وكثير من الفقهاء يمنعون [من] (¬7) ذلك، فإذا بلي الرجل بمن يحتج [في التحريم] (¬8) بأنه هكذا في الكتاب وهكذا قالوا، ولا بد له من فعل ذلك، إذ لا تقوم مصلحة الأمة إلا به، فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه (¬9)، فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه اللَّه ورسوله ولم يحرمه على الأمة، وقد تقدم ذكر الحيلة على جواز المساقاة والمزارعة، ونظيرها في الاحتيال على المغارسة أن يؤجّره الأرض يغرس فيها ما شاء من الأشجار لمدة (¬10) كذا وكذا سنة بخدمتها وغرس كذا وكذا من الأشجار فيها، فإن ¬

_ (¬1) في (ك): "وعدمها". (¬2) في (ق) و (ك): "وضارب". (¬3) انظر هذا الإجماع في: "الإجماع" لابن المنذر (ص 58)، و"المغني"، و"شرح صحيح مسلم" للنووي (6/ 420)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 233)، و"نيل الأوطار" (5/ 267 - 268 - الحيل). (¬4) رواه البخاري (2285) في (الإجارة): باب إذا استاجر أرضًا فمات أحدهما -وانظر أطرافه هناك-، ومسلم (3/ 1186) (1551) في (أول كتاب المساقاة): من حديث ابن عمر. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق) و (ك): "رسول اللَّه". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بالتحريم". (¬9) في (ق) و (ك): "تؤديه إليه". (¬10) في (ق): "والمدة".

اتفقا بعد ذلك [على] (¬1) أن يجعلا لكل منها غراسًا معيَّنًا مقررًا (¬2) جاز، كان أحب (¬3) أن يكون [الجميع] (¬4) شائعًا بينهما، فالحيلة أن يقر كل منهما للآخر أن جميع ما في هذه الأرض من الغراس [فهو] (4) بينهما نصفين، أو غير ذلك، والحيلة في جواز المشاركة على البقر والغنم بجزء من درّها ونسلها أن يستأجره للقيام عليها كذا وكذا سنة للمدة التي يتفقان عليها بنصف الماشية أو ثلثها، على حسب ما يجعل له (¬5) من الدرّ والنسل، ويقر له بأن هذه الماشية بينهما نصفين أو أثلاثًا، فيصير درها ونسلها بينهما على حسب ملكيهما (¬6)، فإن خاف رب الماشية أن يدَّعي عليه العامل بملك نصفها حيث أقر له به فالحيلة أن يبيعه ذلك النّصف بثمن في ذمته، ثم يسترهنه على ذلك الثمن، فإن ادعى الملك بعد هذا طالبه بالثمن، فإن ادعى الإعسار اقتضاه من الرهن (¬7). والحيلة في جواز قفيز الطَّحان (¬8) أن يملكه جزءًا من الحبِّ أو الزيتون، إما ربعه أو ثلثه أو نصفه، فيصير شريكه فيه، ثم يطحنه أو يعصره فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه، فإن خاف أن يملكه ذلك فيملكه عليه ولا يحدث [فيه] (¬9) عملًا، فالحيلة أن يبيعه إياه بثمن في ذمته، فيصير شريكه فيه، فإذا عمل فيه سلم إليه بحصته أو أبرأه (¬10) من الثمن، فإن خاف الأجير أن يطالبه بالثمن [ويتسلم الجميع] (4) ولا يعطيه أجرته، فالحيلة في أمنه من ذلك أن يشهد عليه أن الأصل مشترك بينهما قبل العمل، فإذا أحدث فيه العمل فهو على الشركة. وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب، وهي حيلة جائزة، فإنها لا تتضمن إسقاط حق ولا تحريم حلال ولا تحليل حرام [واللَّه تعالى أعلم] (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) في (ك) و (ق): "مفرزًا". (¬3) في (ك) و (ق): "أحبّا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "بحسب ما يحصل له". (¬6) في المطبوع و (ك): "ملكهما". (¬7) انظر: "زاد المعاد" (2/ 77، 143)، و"الطرق الحكمية" (ص 286 - 290)، و"تهذيب السنن" (5/ 56 - 66). (¬8) "قفيز الطحان: أن يستأجر رجلًا ليطحن له حنطة معلومة، بقفيز من دقيقها. والقفيز: مكيال يتواضع الناس عليه، وهو عند العراق ثمانية مكاكيك، والمكوك: طاس يشرب به، ومكيال يسع صاعًا ونصفًا، أو نصف رطل إلى ثمان أواقي، والقفيز من الأرض مئة وأربع وأربعين ذراعًا" (و). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) من (ق): (وبرأه)، وفي (ك): "وأبرأه". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.

[حيلة في إسقاط المحلل في السباق]

[حيلة في إسقاط المحلل في السباق] المثال الحادي والتسعون (¬1): إذا خرج المتسابقان في النِّضَال معًا جاز في أصح القولين، والمشهور من مذهب مالك أنه لا يجوز، وعلى القول بجوازه فأصح القولين أنه لا يحتاج إلى محلل كما هو مقتضى المنقول عن الصِّدِّيق (¬2)، وأبي عبيدة بن الجرَّاح (¬3)، -رضي اللَّه عنهما- واختيار شيخنا (¬4) وغيره. والمشهور من أقوال الأئمة الثلاثة (¬5) أنه لا يجوز إلا بمحلل، على تفاصيل لهم في المحلل وحكمه، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في "الفروسية الشرعية (¬6) "، وذكرنا فيه وفي كتاب ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "المثال التاسع والثمانون". (¬2) يشير المصنف إلى مراهنته مع كفار قريش، ووردت من طرق عديدة، رواها الترمذي (3191، 3193) وابن جرير (21/ 16، 17)، والحاكم (2/ 410)، والحربي في "غريب الحديث"، (2/ 294)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 334) من حديث ابن عباس قال المصنف في كتاب "الفروسية" (ص 207 - بتحقيقي): "وإسناده على شرط الصحيح وقد صححه الترمذي وغيره"، وصرح المصنف فيه (ص 210 - 211) أن مراده بهذا الكلام المراهنة المشار إليها، وتأمل قوله هنا: "مقتضى المنقول". ووردت هذه المراهنة من طرق أخرى، منها: ما رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 128)، والترمذي (5/ 344 - 345)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (14/ 5195 رقم 2085)، وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 166)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2704 رقم 6464)، والواحدي في "الوسيط" (3/ 428) من حديث نيار بن مُكْرم السلمي، ورجال السند ثقات، قاله ابن حجر في "الإصابة" (3/ 579)، وانظر: "تفسير ابن أبي حاتم" (9/ 3086 - 3087). (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (13/ 34 - 35) وأحمد (1/ 49)، وابن حبان (4766)، والبيهقي (10/ 21)، والطبراني ورجاله ثقات، قاله الهيثمي في "المجمع" (5/ 264)، ولم يعزه إلا للطبراني، وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (رقم 344)، ولفظه: "قال أبو عبيدة: من يراهنني؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب. قال فسبقه، قال: فرأيت عقيصتي أبي عببدة تنقزان وهو على فرسه خلفه يجري، قال المصنف في "الفروسية" (ص 166 - بتحقيقي) عقبه: "ولم يذكر محللًا في هذا ولا في غيره". (¬4) انظر: "مجموع الفتاوى" (28/ 22)، و"مختصر الفتاوى المصرية" (ص 577). (¬5) انظر: "الأم" (4/ 148)، و"روضة الطالبين" (10/ 354 - 355)، و"تحفة الفقهاء" (3/ 348)، و"حاشية ابن عابدين" (6/ 403)، و"الإنصاف" (6/ 93)، و"كشاف القناع" (4/ 51)، و"نيل المآرب" (1/ 438)، و"منتهى الإرادات" (1/ 498)، و"الكافي" (2/ 489 - 490)، لابن عبد البر، و"القوانين الفقهية" (137)، و"شرح منح الجليل" (1/ 77)، و"فتاوى ابن رشد" (1/ 476). (¬6) كتب في هامش (ق): كتاب المصنف: "الفروسية الشرعية".

[اشتراط الخيار لأكثر من ثلاثة أيام]

"بيان الاستدلال، على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال" بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا، وبيّنا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه، وكلام الأئمة في ضعفه، وعدم الدلالة منه على تقدير صحته (¬1). والمقصود هنا بيان وجه الحيلة على الاستغناء عنه عند من يقنع بهذا (¬2) قالوا: وهكذا في الكتاب، فالحيلة على تخلّص المتسابقين المخرجين منه أن يملكا العوضين لثالث يثقان به، ويقول الثالث: أيكما سبق فالعوضان له، كان جئتما معًا فالعوضان بينكما، فيجوز هذا العقد، وهذه الحيلة ليست حيلة على جواز [أمر] (¬3) محرَّم، ولا تتضمن إسقاط حق، ولا تدخل في مأثم، فلا بأس بها، واللَّه أعلم. [اشتراط الخيار لأكثر من ثلاثة أيام] المثال الثاني والتسعون (¬4): يجوز اشتراط الخيار في البيع فوق ثلاث على أصح قولي العلماء، وهو منهب الإمام أحمد (¬5) ومالك (6) -رضي اللَّه عنهما-[على تفاصيل عند مالك] (¬6)، وقال الشافعي (¬7) وأبو حنيفة (¬8) -رضي اللَّه عنهما-: لا يجوز، وقد تدعو الحاجة إلى جوازه، لكون (¬9) المبيع لا يمكنه استعلامه في ثلاثة أيام، أو لغيبة من يشاوره ويثق برأيه، أو لغير ذلك، والقياس المحض جوازه كما يجوز تأجيل الثمن فوق ¬

_ = انظر للمصنف: "الفروسية" (ص 211 - 227 - بتحقيقي)، وقد بنى رحمه اللَّه كتابه هذا على هذه المسألة. (¬1) انظر: "الفروسية" للمصنف (ص 228 - 396 - بتحقيقي). (¬2) في (ك) و (ق): "بهكذا"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ك) و (ق): "المثال التسعون". (¬5) "شرح الزركشي" (3/ 401)، "المغني" (3/ 498)، "المحرر" (1/ 262)، الإنصاف (4/ 373)، "كشاف القناع" (3/ 202)، "اختيارات ابن قدامة الفقهية" (2/ 71). (¬6) "المدونة" (3/ 238 - ط دار الفكر)،"التفريع" (2/ 172)، "الرسالة" (214)، "الكافي" (343)، "المعونة" (2/ 1044)، "الإشراف" (2/ 438 مسألة 761) وتعليقي عليه. (¬7) "الأم" (3/ 4)،"مختصر المزني" (76)، "الإقناع" (91)، "المهذب" (1/ 265)، "الوجيز" (1/ 141)، "المجموع" (9/ 204)، "الروضة" (3/ 410)، "المنهاج" (4/ 21)، "مختصر الخلافيات" (3/ 274 رقم 83). (¬8) "مختصر الطحاوي" (75)، "مختصر القدوري" (34)، "المبسوط" (13/ 42)، "تحفة الفقهاء" (2/ 93)، "اللباب"، (2/ 4)، "شرح فتح القدير" (6/ 1300). (¬9) في (ق): "لأن".

[حيل في الرهن]

ثلاث، والشارع لم يمنع من الزيادة على الثلاثة، ولم يجعلها حدًا فاصلًا بين ما يجوز من المدة وما لا يجوز، وإنما ذكرها في حديث حَبَّان بن منقذ (¬1) وجعلها له بمجرد البيع كان لم يشترطه (¬2)؛ لأنه كان يُغلب في البيوع، فجعل له ثلاثًا في كل سلعة يشتريها، سواء شرط ذلك أو لم يشترطه (¬3)، هذا ظاهر الحديث، فلم يتعرض للمنع من الزيادة على الثلاثة (¬4) بوجه من الوجوه، فإن أراد الجواز على قول الجميع، فالمخرج أن يشترط الخيار ثلاثًا، فإذا قارب انقضاء الأجل فسخه ثم اشترط ثلاثًا، وهكذا حتى تنقضي المدة التي اتفقا عليها، وليست هذه الحيلة محرَّمة؛ لأنها لا تدخل في باطل، ولا تخرج من حق، وهذا بخلاف الحيلة على إيجار الوقف مئة سنة وقد شرط الواقف أن لا يؤخِّر أكثر من سنة واحدة فيتحيل (¬5) على إيجاره أكثر منها بعقود متفرقة في ساعة واحدة كما تقدَّم. [حيل في الرهن] المثال الثالث (¬6) والتسعون: إذا أراد أن يقرض رجلًا (¬7) مالًا ويأخذ منه (¬8) رهنًا، فخاف أن يهلك الرهن فيسقط من دينه بقدره عند حاكم يرى ذلك، فالمخرج له أن يشتري العين التي يريد ارتهانها بالمال الذي يقرضه، ويشهد عليه أنه لم يقبضه، فإن وثق بكونه عند البائع تركه عنده، فإن تلف تلف من ضمانه، وإن بقي تمكن من أخذه منه متى شاء، كان رد عليه المال أقاله البائع. وأحسن من هذه الحيلة أن يستودع العين قبل القرض، ثم يقرضه وهي عنده، فهي في الظاهر وديعة، وفي الباطن رهن، فإن تلفت لم يسقط بهلاكها شيء من حقه. فإن خاف الراهن أنه إذا وفاه حقه لم يقله البيع فالمخرج [له] (¬9) أن يشترط عليه الخيار إلى المدة التي يعلم أنه يوفيه فيها على قول أبي يوسف ومحمد ومالك وأحمد. فإن خاف المرتهن أن يستحق الرهن أو بعضه فالمخرج له أن يضمن درك ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) في (ك): "يشرطها" وفي (ق): "يشترطها". (¬3) في (ك): "يشرطه". (¬4) في (ك) و (ق): "الثلاث". (¬5) في المطبوع: "فتحيل". (¬6) في (ك) و (ق): "الحادي". (¬7) في (ك): "الرجل". (¬8) في (ك): "به". (¬9) سقط من (ق).

[بيع الثمر وقد بدا صلاح بعضه دون بعضه الآخر]

الرهن غير الراهن، أو يشهد على من يخشى دعواه الاستحقاق بأنه متى ادعاه كانت دعواه باطلة، أو يضمنه الدرك نفسه. [بيع الثمر وقد بدا صلاح بعضه دون بعضه الآخر] المثال الرابع (¬1) والتسعون: إذا بدا الصَّلاح في بعض الشجرة جاز بيع جميعها وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان، وقال شيخنا (¬2): يجوز بيع البستان كله تبعًا لما بدا صلاحه، سواء كان من نوعه أو لم يكن، تقارب إدراكه وتلاحق (¬3) أم تباعد، وهو مذهب الليث بن سعد (¬4)، وعلى هذا فلا حاجة إلى الاحتيال على الجواز، وقالت الحنفية: إذا خرج (¬5) بعض الثمرة دون بقيتها أو خرج الجميع وبعضه قد بدا صلاحه دون بعض لا يجوز البيع، للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوّم وغيره، فتصير حصة (¬6) الموجود المتقوم مجهولة فيفسد البيع، وبعض الشيوخ كان يفتي بجوازه في الثمار والباذنجان ونحوهما، جعلًا المعدوم (¬7) تبعًا للموجود. وأفتى محمد بن الحسن بجوازه في الورد لسرعة تلاحقه، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح المنع (¬8). قالوا: فالحيلة في الجواز أن يشتري الأصول، وهذا قد لا يتأتى غالبًا، قالوا: فالحيلة أيضًا أن يشتري الموجود الذي بدا صلاحه بجميع الثمن، ويشهد عليه أنه قد أباح له ما يحدث [من] (¬9) بعد، وهذه الحيلة أيضًا قد تتعذر، إذ قد ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الثاني". (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" (29/ 480 - 483)، و"الاختيارات الفقهية" (ص 129 - 130)، و"تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية" (2/ 997 - فما بعد). (¬3) في (ق): "وتلاحقه". (¬4) انظر: "بداية المجتهد" (2/ 173)، و"المنتقى" (4/ 220) للباجي، "حلية العلماء" (4/ 216)، "الإشراف" (2/ 473 مسألة 792 - بتحقيقي)، "فقه الإمام الليث بن سعد في ضوء الفقه المقارن" (222). واختيار شيخ الإسلام، هو قول بعض الظاهرية أيضًا كما في "المحلى" (8/ 457 - 458). (¬5) في (ك): "خرجت". (¬6) في (ق): "جهة"، وقال في الهامش: "لعله: حصة". (¬7) في (ق): "للمعدوم". (¬8) انظر: "المبسوط" (12/ 197)، "مختصر الطحاوي" (78)، "حاشية ابن عابدين" (4/ 559، 5/ 52) "موجبات الأحكام" (262). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[حيلة في بيع الموكل لموكله]

يرجع (¬1) في الإباحة، كان جعلت هبة فهبة المعدوم لا تصح، كان ساقاه على الثمرة من كل ألف جزء (¬2) -مثلًا- لم تصح المساقاة عندهم، وتصح عند أبي يوسف ومحمد (¬3)، وإن آجره الشجرة لأخذ ثمرتها لم تصح (¬4) الإجارة عندهم وعند غيرهم، فالحيلة إذًا أن يبيعه الثمرة الموجودة ويشهد عليه أن ما يحدث بعدها فهو حادث على ملك المشتري، لا حَقَّ للبائع فيه، ولا يذكر سبب الحدوث، ولهم حيلة أخرى فيما إذا بدت الثمار أن يشتريها بشرط القطع، أو يشتريها ويطلق، ويكون القطع [هو] (¬5) موجب العقد ثم يتفقان (¬6) على التبقية إلى وقت الكمال، ولا ريب أن المَخْرج صها إذا بدا صلاح بعضها أو بإجارة الشجر (¬7) أو بالمساقاة أقرب إلى النص والقياس وقواعد الشرع من ذلك كما تقدم تقريره (¬8). [حيلة في بيع الموكل لموكله] المثال الخامس (¬9) والتسعون: إذا وكله أن يشتري له بضاعة، وتلك البضاعة عند الوكيل، وهي رخيصة تساوي أكثر مما اشتراها به، لا تسمح نفسه أن يبيعها بما اشتراها به فالحيلة أن يبيعها بما تساويه (¬10) بيعًا تامًا صحيحًا لأجنبي، ثم إن شاء اشتراها من لموكله، ولكن (¬11) تدخل هذه الحيلة سدًا للذرائع، إذ قد يتخذ ذلك ذريعة إلى أن يبيعها بأكثر مما تساوي فيكون قد غش الموكل، ويظهر هذا إذا اشتراها بعينها دون غيرها، فيكون قد غرَّ الموكل (¬12)، فإن كان الموكل لو اطلع على الحال لم يكره ذلك ولم يره غرورًا فلا بأس به، وإن كان لو اطلع عليه لم يرضه لم يجز، واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) في (ق): "أو يرجع". (¬2) في المطبوع: "جزء على جزء"، وفي (ق): "الثمر" بدل "الثمرة". (¬3) "مختصر الطحاوي" (127)، "اللباب" (2/ 233)، "المبسوط" (9/ 23، 16)، "شرح العيني" (2/ 198)، "الاختيار" (3/ 79 - 80)، "تبيين الحقائق" (5/ 284)، "شرح فتح القدير" (9/ 478)، "رد المحتار" (6/ 285 - 286)، "مختصر اختلاف العلماء" (4/ 21 رقم 1685)، "حاشية ابن عابدين" (5/ 181 - 183). (¬4) في (ق): "وإن أجره الشجر لأخذ ثمرها لم يصح". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "ثم يتفقا". (¬7) في (ك): "الشجرة". (¬8) انظر: ما مضى (2/ 172)، و"تهذيب السنن" (5/ 154 - 155)، و"زاد المعاد" (4/ 262). (¬9) في (ك) و (ق): "الثالث". (¬10) في (ق): "بما تساوي". (¬11) في (ق): "لكن" دون "واو". (¬12) في (ق): "قد غش الموكل".

[مقابلة المكر بالمكر]

[مقابلة المكر بالمكر] المثال السادس (¬1) والتسعون: إذا اشترى منه دارًا وخاف احتيال البائع عليه بأن (¬2) يكون قد ملكها لبعض ولده فيتركها في يده [مدة] (¬3) ثم يدعيها عليه ويحسب سكناها بثمنها كما يفعله المخادعون الماكرون فالحيلة أن يحتاط لنفسه بأنواع من الحيل: منها: أن يضمن من يخاف منه الدرك. ومنها: أن يشهد عليه أنه إن ادّعى هو أو وكيله في الدار كانت دعوى (¬4) باطلة، وكل بينة يقيمها [فهي] (¬5) زور. ومنها: أن يضمن الدرك لرجل معروف يتمكن من مطالبته. ومنها: أن يجعل ثمنها أضعاف ما اشتراها به، فإن استحقت رجع عليه بالثمن الذي أشهد به، مثاله: أن [يتفقا على أن] (¬6) الثمن ألف فيشتريها بعشرة آلاف ثم يبيعه بالعشرة آلاف سلعة (¬7) ثم يشتريها منه بالألف (¬8)، وهي الثمن، فيأخذ الألف، ويشهد عليه أن الثمن عشرة آلاف، وأنه قبضه، وبرئ منه (¬9) المشتري، فإذا (¬10) استحقت رجع عليه بالعشرة آلاف (¬11)، وبالجملة فمقابلة الفاسد بالفاسد (¬12) والمكر بالمكر والخداع بالخداع، [و] (¬13) قد يكون حسنًا، [بل] (¬14) مأمورًا به، وأقل درجاته (¬15) أن يكون جائزًا كما تقدم بيانه. [حيلة في شراء العبد نفسه من سيده] المثال السابع (¬16) والتسعون: إذا اشترى العبد نفسه من سيده بمال يؤديه إليه، فأدى إليه معظمه، ثم جحد السيد أن يكون باعه نفسه، وللسيد في يد العبد مال أذن له في التجارة به، فالحيلة أن يشهد العبد في السر أن المال الذي في يده ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الرابع". (¬2) في (ق): "أن". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) (في) و (ك): "دعوى كانت" بتقديم وتأخير. (¬5) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬6) ما بين المعقوفيتن مكررة في (ك) (¬7) في (ق): "ثم يبيعه العشرة الآلاف بسلعة". (¬8) في (ق) و (ك): "بألف" (¬9) في (ق): "ويبرئ". (¬10) في (ق): "فان" (¬11) في (ق): "الآلاف". (¬12) في (ق): "المفاسد بالمفاسد". (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬14) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬15) في (ق): "الدرجات". (¬16) في (ق) و (ك): "الخامس".

[حيلة في دفع الظلم]

لرجل أجنبي، فإن وفَّى له سيده بما عاقده عليه وفَّى له العبد وسلَّمه ماله، وإن غدر به تمكن العبد من الغدر به وإخراج المال عن يده، وهذه الحيلة لا تتأتى على أصل من يمنع مسألة الظفر، ولا على قول من يجيزها، فإن السيد إذا ظلمه بجحده (¬1) حقه لم يكن له أن يظلمه بمنعه ماله وأن يحول بينه وبينه فيقابل الظلم بالظلم، ولا يرجع إليه منه فائدة، ولكن فائدة هذه الحيلة أن السيد متى علم بصورة الحال وأنه متى جحده البيع حال بينه وبين ماله بالإقرار الذي يظهره منعه ذلك من جحود البيع فيكون بمنزلة رجل أمسك ولد غيره ليقتله فظفر هو بولده قبل القتل فأمسكه وأراه أنه إن قتل ولده قتل هو ولده أيضًا (¬2)، ونظائر ذلك. وكذلك إن (¬3) كان السيد هو الذي يخاف من العبد أن لا يقر له بالمال ويقر به لغيره يتواطآن عليه فالحيلة أن يبدأ السيد فيبيع العبد لأجنبي في السر، ويشهد على بيعه (¬4)، ثم يبيع العبد من نفسه، فإذا قبض المال فاظهر العبد إقرارًا بأن (¬5) ما في يده لأجنبي أظهر السيد أن بيعه (¬6) لنفسه كان باطلًا، وأن فلانًا الأجنبي قد اشتراه، فإذا علم العبد أن عتقه يبطل ولا يحصل [له] (¬7) مقصوده امتنع من التحيل على إخراج مال السيد عنه إلى أجنبي. [حيلة في دفع الظلم] ونظير هذه الحيلة إذا أراد ظالم (¬8) أخذ داره بشراء أو غيره فالحيلة أن يملكها لمن يثق به، ثم يشهد على ذلك، وأنها خرجت عن ملكه، ثم يظهر أنه وقفها على الفقراء والمساكين، ولو كان في بلده حاكم يرى صحة وقف الإنسان على نفسه وصحة استثناء الغلة له [وحده] (¬9) مدة حياته وصحة وقفه لها بعد موته فحكم له بذلك استغنى عن هذه الحيلة. ¬

_ (¬1) في (ق): "بجحد". (¬2) انظر: "زاد المعاد" (4/ 149)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 75). (¬3) في (ك) و (ق): "إذا". (¬4) في (ك): "عليه ببيعه". (¬5) في (ق): "أن". (¬6) في (ك): "يبيعه". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط، وبعدها فيها "مقصود". (¬8) في نسخة: "إذا أراد الحاكم" (د)، قلت وهي كذلك في (ك) و (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[الحيلة على ثلاثة أنواع]

[الحيلة على ثلاثة أنواع] وحيل هذا الباب ثلاثة أنواع: * حيلة (¬1) عل دفع الظلم والمكر حتى لا يقع. * وحيلة على رفعه بعد وقوعه. * وحيلة على مقابلته بمثله حيث لا يمكن رفعه. فالنوعان الأولان جائزان، وفي الثالث تفصيل (¬2)، فلا يمكن القول بجوازه على الإطلاف ولا بالمنع منه على الإطلاق، بل إن كان المتحيَّلُ به حرامًا لحق اللَّه لم يجز مقابلته بمئله، كما لو جرعه الخمر أو زنى بحرمته، وإن كان حرامًا لكونه ظلمًا له في ماله وقدر على ظلمه بمثل ذلك فهي (¬3) مسألة الظفر، وقد توسع فيها قوم حتى أفرطوا وجوزوا قلع الباب ونقب الحائط وخرق السقف (¬4) ونحو ذلك لمقابلته بأخذ (¬5) نظير ماله، ومنعها قوم بالكلية، وقالوا: لو كان [له] (¬6) عنده وديعة أو له عليه دين لم يجز له أن يستوفي منه قدر حقه إلا بإعلامه [به] (¬7)، وتوسط آخرون وقالوا: إن كان سبب الحق ظاهرًا كالزوجية والأبوة والبنوة وملك اليمين الموجب للإنفاف فله أن يأخذ قدر حقه من غير إعلامه، وإن لم يكن ظاهرًا كالقرض وثمن المبيع ونحو ذلك لم يكن له الأخذ إلا بإعلامه، وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وعليه تدل [السنة] (7) دلالة صريحة، والقائلون به أسعد بها، وباللَّه التوفيق. وإن كان بهتًا له أو كذبًا (¬8) عليه أو قذفًا له أو شهادة عليه بالزور لم يجز له مقابلته بمثله (¬9)، وإن كان دعاء عليه أو لعنًا أو مسبَّةً فله مقابلته بمثله على أصح القولين، وإن منعه كثير من الناس، وإن كان إتلاف [مال له] (¬10) فإن كان محترمًا كالعبد والحيوان لم يجز له مقابلته بمثله، وإن كان غير محترم فإن خاف تعديه فيه لم يجز له مقابلته بمثله كما لو حرق داره لم يجز له أن يحرق داره، وإن لم يتعد فيه -بل كان يفعل به نظير ما فعل به سواء كما لو قطع شجرته أو كسر إناءه أو ¬

_ (¬1) في (ق): "أحدها: حيلة". (¬2) في (ق): "والثالث فيه تفصيل". (¬3) في (ق): "وهي". (¬4) في (ك): "الشقق". (¬5) في (ق): "بالأخذ". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في المطبوع و (ك): "وكذبًا". (¬9) في (ك): "بمثل ذلك". (¬10) في (ق): "ماله".

[في الضمان والكفالة]

فتح قفصًا عن طائره أو حَلَّ وكاء مائع له أو أرسل الماء على مِسْطَاحه فذهب بما فيه ونحو ذلك وأمكنه مقابلته بمثل ما فعل سواء- فهذا محل اجتهاد لم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح. بل الأدلة [الصحيحة] (¬1) المذكورة تقتضي جوازه كما تقدم بيانه في أول الكتاب. وكان شيخنا -رضي اللَّه عنه- يرجح هذا ويقول: هو (¬2) أولى بالجواز من إتلاف طرفه بطرفه (¬3)، واللَّه أعلم. [في الضمان والكفالة] المثال (¬4) الثامن والتسعون: الضمان والكفالة من العقود اللازمة، ولا يمكن الضامن والكفيل أن يتخلص متى شاء، ولا سيما عند من يقول إن الكفالة توجب ضمان المال إذا تعذر إحضار المكفول به مع بقائه، كما هو مذهب الإمام أحمد ومن وافقه. وطريق التخلص من وجوه: أحدها (¬5): أن يؤقتها بمدة فيقول: ضمنته، أو تكفلت به شهرًا أو جمعة، أو نحو ذلك، فيصح. الثاني: أن يقيدها بمكان دون مكان فيقول: ضمنته أو تكفَّلْتُ (¬6) به ما دام في هذا البلد أو في هذا السوق. الثالث: أن يعلقها (¬7) على شرط فيقول: ضمنت أو كفلت (¬8) إن رضي فلان، أو يقول: ضمنت ما عليه إن كفل فلان بوجهه، ونحو ذلك. الرابع: أن يشترط في الضمان أنه (¬9) لا يطالبه حتى يتعذر مطالبة الأصيل، فيجوز هذا الشرط، بل هو حكم الضمان في أشهر الروايتين عن مالك، فلا يطالب الضامن حتى يتعذر مطالبة الأصيل، وإن لم يشترطه (¬10)، حتى لو شرط أن يأخذ من أيهما شاء كان [الشرط] (¬11) باطلًا عند ابن القاسم وأصبغ. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) في (ق): "هذا". (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 332 - 333). (¬4) في (ق) و (ك): "السادس". (¬5) في المطبوع: "أحدهما". (¬6) في المطبوع: "أو تكلفت". (¬7) في (ق): "يعلقهما". (¬8) في (ق): "أو تكفلت". (¬9) في (ك): "أن". (¬10) في (ك): "يشرطه". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[تعليق البيع وغيره بالشرط]

الخامس: أن يقول: كفلت بوجهه على أني بريء مما عليه، فلا يلزمه ما عليه إذا لم يحضره، بل يلزم بإحضاره إذا تمكن منه. السادس: أن يطالب المضمون عنه بأداء المال إلى ربه ليبرأ هو من الضمان إذا كان قد ضمن بإذنه، ويكون خصمًا في المطالبة، وهذا مذهب مالك، فإن ضمنه بغير إذنه لم يكن له [عليه] (¬1) مطالبته بأداء المال إلى ربه، فإن أداه عنه (¬2) فله مطالبته به حينئذ. [تعليق البيع وغيره بالشرط] المثال التاسع (¬3) والتسعون: إذا كان له داران فاشترى منه إحديهما (¬4) على [أنه] إن استحقت فالدار الأخرى له بالثمن، فهذا جائز، إذ غايته تعليق البيع بالشرط، وليس في [شيء من] (¬5) الأدلة الشرعية ما يمنع صحته، وقد نصَّ الإمام أحمد على جوازه فيمن باع جارية وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، وفعله بنفسه لما (¬6) رهن نعله وشرط للمرتهن أنه إن جاءه (¬7) بفكاكها إلى وقت كذا وإلا فهي له بما عليها (¬8)، ونص على جواز تعليق النكاح بالشرط فالبيع أولى، ونص على جواز تعليق التولية بالشرط كما نص عليه صاحب الشرع (¬9) نصًا لا يجوز مخالفته وقد تقدم تقرير ذلك، وكثير من الفقهاء يبطل البيع المذكور؛ فالحيلة في جوازه عند الكل أن يشتري منه المشتري الدار الأخرى التي لا يريد شراءها، ويقبضها منه، ثم يشتري بها الدار التي يريد شراءها ويسلمها إليه، ويتسلم داره، فإن استحقت هذه الدار عليه رجع [في ثمنها] (¬10) وهو الدار ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) قال (ط): "في نسخة: "فإن أدّاه عنه"، انظر: "إعلام الموقعين" (ط فرج اللَّه زكي الكردي (ج 3/ ص 318)، وفي نسخة أخرى: "فإن أداءه عنه"، انظر: "إعلام الموقعين" تحقيق الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (ج 4/ ص 28)، وما أثبته من (ق) و (ك). (¬3) في (ك) و (ق): "السابع". (¬4) في المطبوع و (ك): "إحداهما"، وما بين المعقوفتين بعدها سقط منها. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) كذا في (ق) و (ك)، وفي المطبوع: "كما". (¬7) في (ك): "جاء". (¬8) في (ق): "بما عليه". (¬9) مضى لفظه وتخريجه. (¬10) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "بثمنها".

[حيلة في شراء جارية من رجل غريب وخشي أن تكون مستحقة أو معيبة]

الأخرى وهذه حيلة لطيفة جائزة لا تتضمن إبطال حق ولا دخولًا في باطل، وهي مثال لما كان من جنسها من هذا النوع مما يخاف استحقاقه، ويشترط على البائع أخذ ما يقابله من حيوان أو رقيق (¬1) أو غير ذلك. [حيلة في شراء جارية من رجل غريب وخشي أن تكون مستحقة أو معيبة] المثال الموفي المئة (¬2): رجل أراد أن يشتري جارية أو سلعة من رجل غريب، فلم يأمن أن تستحق أو تخرج معيبة فلا يمكنه الرجوع ولا الرد، فإن قال له البائع: "أنا أوكل من تعرفه فيما تدعي به من عيب أو رجوع" لم يأمن أن يحتال عليه ويعزله فيذهب حقه، فالحيلة في التوثق أن يكون الوكيل هو الذي يتولى البيع بنفسه، ويضمن له صاحب السلعة الدرك، ويكون وكيلًا لهذا الذي تولى البيع، فيمكن المشتري حينئذ مطالبة هذا الذي تولَّى البيع بنفسه ويأمن ما يحذره. المثال الحادي بعد المئة (¬3): رجل قال لغيره: "اشتر هذه الدار -أو هذه السلعة من فلان- بكذا وكذا، وأنا أربحك فيها كذا وكذا" فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد، فالحيلة أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام أو أكثر، ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار، فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن يشترط له خيارًا أنقص (¬4) من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه. المثال الثاني بعد المئة (¬5): إذا اشترى منه جارية أو سلعة ثم اطلع على عيب بها فخاف إن ادعى أنه اشتراها بكذا وكذا أن ينكر البائع قبض الثمن ويسأل الحاكم الحكم عليه بإقراره أو ينكر البيع ويسأله تسليم الجارية إليه فالحيلة التي تخلصه أن يردها عليه [أولًا] (¬6) فيما بينه وبينه، ثم يدّعي [عليه] (¬7) عند الحاكم ¬

_ (¬1) في (د): "أوقيق"، وفي (ط): "أو دقيق". (¬2) في (ق) و (ك): "المثال الثامن والتسعون". (¬3) في (ق) و (ك): "المثال التاسع والتسعون"، وسقطت كلمة (رجل) بعدها من (ك). (¬4) في المطبوع: "أو نقص". (¬5) في (ق) و (ك): "المثال الموفي مئة". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[حيلة يتخلص بها من غريم يريد الإنقاص أو التأجيل]

باستحقاق ثمنها، ولا يعين السبب، فإن أقر فلا إشكال، وإن أنكر لم يلزم المشتري الثمن، فإما أن يقيم عليه بينة أو يحلفه. [حيلة يتخلص بها من غريم يريد الإنقاص أو التأجيل] المثال الثالث (¬1) بعد المئة: إذا كان له عليه مال حالٌ فأبى أنْ يُقِرَّ له به حتى يصالحه على بعضه أو يؤجله، ولا بيِّنةَ له، فأراد حيلة يتوصل بها إلى أخذ ماله كله حالًا ويبطل الصلح والتأجيل فالحيلة له أن يواطئ رجلًا يدَّعي عليه بالمال الذي له على فلان عند حاكم، فيقر له به، ويصح إقراره بالدين الذي له على الغير، فإنه قد يكون المال مضاربة فيصير ديونًا على الناس، فلو لم يصح إقرارُه به له لضاع ماله، وأما قول أبي عبد اللَّه بن حمدان في "الرعاية"، ولو قال دَيْني الذي على زيد لعمرو احتمل الصحة (¬2)، والبطلان أظهر، فهذا إنما هو فيما إذا أضاف الدين إليه ثم قال: هو لعمرو، فيصير نظير ما لو قال: ملكي كله لعمرو، أو داري هذه له فإن هذا لا يصح إقرارًا على أحد الوجهين للتناقض ويصح هبة، فأما إذا قال: "هذا الدَّين الذي على زيد لعمرو ويستحقه دوني" صح ذلك قولًا واحدًا، كما لو قال: "هذه الدار له، أو هذا الثوب له" على أن الصحيح صحة الإقرار ولو أضاف الدين أو العين إلى نفسه، ولا تناقض؛ لأن الإضافة تصدق مع كونه ملكًا للمقر له، فإنه يصح أن يقال: هذه دار فلان، إذا كان ساكنها بالأجرة، ويقول [المضارب] (¬3): دَيْني على فلان، وهذا الدين لفلان، يعني أنه يستحق المطالبة به والمخاصمة فيه، فالإضافة تصدق بدون هذا، ثم يأتي صاحب المال إلى من هو في ذمته فيصالحه على بعضه أو يؤجله ثم يجيء المقر له فيدعي على من عليه المال بجملته حالًا، فإذا أظهر كتاب الصلح والتأجيل قال المقر له: هذا باطل، فانه تصرف فيما لا يملك المصالح، فإن كان الغريم إنما أقر باستحقاف غريمه الدين مؤجلًا أو بذلك القدر منه فقط بطلت هذه الحيلة. [إيداع الشهادة] ونظير هذه الحيلة حيلة إيداع الشهادة، وصورتها أن يقول له الخصم: لا أقر لك حتى تبرئني من نصف الدين أو ثلثه، وأشهد (¬4) عليك أنك لا تستحق علي بعد ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الحادي". (¬2) في (ق): "احتمل صحته". (¬3) في (ك): "كونه للمضارب". (¬4) في (ق) و (ك): "وتشهد".

[حيلة تتخلص بها امرأة من رجل عليه حق لها، ويأبى إلا إذا أقرت له بالزوجية]

ذلك شيئًا، فيأتي صاحب الحق إلى رجلين فيقول: اشهدا أني على طلب حقي كله من فلان، وأني لم أبرئه من شيء منه، وأني أريد أن أظهر مصالحته على بعضه لأتوصل (¬1) بالصلح إلى أخذ بعض حقي، وأني إذا أشهدت أني لا أستحق عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهاد باطل، [وأني إنما أشهدت] (¬2) على ذلك توصلًا إلى أخذ بعض حقي، فهذه تُعرف بمسألة إيداع الشهادة، فإذا فعل ذلك جاز له أن يدعي بقاءه على حقه، ويقيم الشهادة بذلك، هذا مذهب مالك، وهو مطرد على قياس مذهب أحمد وجار (¬3) على أصوله، فإن له التوصل إلى حقه بكل طريق جائز (¬4)، بل لا يقتضي المذهب غير ذلك، فإن هذا مظلوم توصل إلى [أخذ] (¬5) حقه بطريق (¬6) لم يسقط بها حقًّا لأحد (¬7)، ولم يأخذ بها ما لا يحل له أخذه، فلا خَرَجَ بها من حق، ولا دخل بها في باطل. [حيلة تتخلص بها امرأة من رجل عليه حق لها، ويأبى إلا إذا أقرت له بالزوجية] ونظير هذا أن يكون للمرأة على رجل حق، فيجحده ويأبى أن يقر به حتى تقر له بالزوجية، فطريق الحيلة أن تشهد على نفسها أنها ليست امرأة فلان، وأني أريد أن أقر له بالزوجية إقرارًا كاذبًا لا حقيقة له لأتوصَّلَ بذلك إلى أخذ مالي عنده، فاشهدوا أن إقراري بالزوجية باطل أتوصل به إلى أخذ حقي. ونظيره أيضًا أن ينكر نسب أخيه، ويأبى أن يقر له به حتى يشهد أنه لا يستحق في تركة أبيه شيئًا، وأنه قد أبرأه من جميع ماله في ذمته منها، أو أنه وهب له جميع ما يخصه منها، أو أنه قبضه أو اعتاض عنه أو (¬8) نحو ذلك، فيودع الشهادة عدلين أنه باق على حقه وأنه يظهر ذلك الإقرار توصلًا إلى إقرار أخيه بنسبه، وأنه لم يأخذ من ميراث أبيه شيئًا، ولا أبرأ أخاه، ولا عاوضه ولا وهبه. [إقرار المضطهد] وهذا يشبه إقرار المضطهد الذي [قد] (5) اضطهد ودفع عن حقه حتى يسقط ¬

_ (¬1) في (ك): "ولأتوصل". (¬2) في (ق): "وإنما أشهد". (¬3) في (ق): "وجوازه"، وفي (ك): "وجاز". (¬4) في (ك): "جائزة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "بكل طريق". (¬7) في (ق): "حق أحد". (¬8) في (ق): "و".

[الفرق بين المضطهد والمكره]

حقًا آخر، والسلف كانوا يسمون مثل هذا مضطهدًا، كما قال (¬1) حماد بن سلمة: حدثنا حميد، عن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة وأراد (¬2) سفرًا، فأخذه أهلها، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، [فلما قدم خاصموه] (¬3) إلى علي -رضي اللَّه عنه- (¬4) فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا، فردها عليه (¬5). ومعلوم أنه لم يكن هناك إكراه بضرب ولا أخذ مال، وإنما طالبوه بما يجب [لها] (¬6) عليه من نفقتها، وذلك ليس بإكراه، ولكن لما تعنتوه باليمين جعله مضطهدًا لأنه عقد اليمين ليتوصل إلى قصده من السفر، فلم يكن حلفه عن اختيار (¬7)، بل هو كالمحمول عليه. [الفرق بين المضطهد والمكره] والفرق بينه وبين المكره أن المكره قاصد لدفع الضرر (¬8) باحتمال ما أكره عليه، وهذا قاصد للوصول إلى حقه بالتزام ما طلب منه، وكلاهما غير راض، ولا مؤثر (¬9) لما التزمه، وليس له وَطَر فيه. فتأمل هذا، ونزله على قواعد الشرع ومقاصده، وهذا ظاهر جدًّا في أن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- (¬10) لم يكن يرى الحلف بالطلاق موقعًا للطلاق إذا حنث به، وهو قول شُرَيْح وطاوس وعكرمة وأهل الظاهر وأبي عبد الرحمن الشافعي (¬11) وهو أجل أصحابه على الإطلاق، قال بعض الحفاظ: ولا يعلم لعلي مخالف من الصحابة (¬12)، وسيأتي الكلام في المسألة، إن شاء اللَّه تعالى، إذ المقصود أن من أقرَّ أو حلف أو وهب أو صالح لا عن رضا منه، ولكن منع حقه إلا بذلك، فهو ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "قاله". (¬2) في (ق): "فأراد". (¬3) في (ق): "فخاصموه". (¬4) في المطبوع: "إلى أمير المؤمنين علي كرم اللَّه وجهه". (¬5) علقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 212) عن حماد بن سلمة به، ومضى تخريجه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) في (ق): "من اختيار". (¬8) في (ق): "لرفع الضرر". (¬9) في المطبوع: "ولا مؤثرًا". (¬10) الكلام في "المحلى" (10/ 213) وفي المطبوع: "أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه". (¬11) نقل ابن حزم في "المحلى" (10/ 213) المذكور عنهم. (¬12) في (ق): "لا نعلم لعلي مخالفًا من الصحابة".

[حبس العين على ثمنها وأجرتها]

بالمكره أشبه منه بالمختار، ومثل هذا لا يلزمه ما عقده من هذه العقود. ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصافُ أحبَّ إليه من التَّعصُّب والهوى، والعلم والحجة آثر عنده من التقليد، لم يكد يخفى عليه وجه الصواب، واللَّه الموفق. وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب، والجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة، ولا الهدى إلا الضلالة: فَقُل للعيون الرُّمَّدِ: للشمس أعينٌ ... سِوَاكِ تراها في مَغِيبٍ ومَطْلَعِ وسامح نفوسًا بالقُشور قد ارتَضَتْ ... وليسَ لها لِلُّبِّ مِنَ مُتَطَلِّعِ [حبس العين على ثمنها وأجرتها] المثال الرابع (¬1) بعد المئة: اختلف الفقهاء هل يملك البائع حبس السلعة على ثمنها؟ وهل يملك المستأجر حبس العين بعد العمل على الأجرة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: يملكه في الموضعين، وهو قول مالك وأبي حنيفة، [وهو المختار] (¬2). الثاني: لا يملكه في الموضعين، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬3) عند أصحابه. والثالث: يملك حبس العين المستأجرة على عملها، ولا يملك حبس المبيع (¬4) على ثمنه، والفرق بينهما أن العمل يجري مجرى الأعيان، ولهذا يقابل بالعوض، فصار كأنه شريك (¬5) لمالك العين بعمله، فأَثَرُ عمله قائم بالعين، فلا يجب [عليه] (¬6) تسليمه قبل أن يأخذ عِوَضَهُ، بخلاف المبيع، فإنه قد دخل في ملك المشتري، وصار الثمن في ذمته ولم يبق للبائع تعلق بالعين، ومن سوَّى بينهما قال: الأجرة قد صارت في الذمة، ولم يشترط رهن العين عليها، فلا (¬7) يملك حبسها. [وعلى هذا] (2) فالحيلة في الحبس في الموضعين حتى يصل إلى حقه أن ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الثاني". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "وهو المشهور عن أحمد". (¬4) في (ك): "العين". (¬5) في (ك): "شريكًا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في (ق): "فلم".

يشترط عليه رهن العين المستأجرة على أجرتها، فيقول: رهنتُك هذا الثَّوبَ على أجرته، وهي كذا وكذا، وهكذا في المبيع يشترط على المشتري رهنه على ثمنه حتى يسلمه إليه، ولا محذور في ذلك أصلًا، ولا معنى، ولا مأخذ قوي يمنع صحة هذا الشرط والرهن، وقد اتفقوا أنه لو شرط عليه رهن عين أخرى على الثمن جاز، فما الذي يمنع جواز رهن المبيع على ثمنه؟ ولا فرق بين أن يقبضه أو لا يقبضه على أصح القولين، وقد نص الإمام أحمد على جواز اشتراط رهن المبيع على ثمنه، وهو الصواب ومقتضى قواعد الشرع وأصوله، وقال القاضي وأصحابه: لا يصح، وعلّله ابن عقيل بأن المشتري رهن ما لا يملك، فلم يصح، كما لو شرط أن يرهنه عبدًا لغيره يشتريه ويرهنه، وهذا تعليل باطل، فإنه إنما حصل الرهن بعد ملكه، واشتراطه قبل الملك لا يكون بمنزلة رهن الملك. والفرق بين هذه المسألة وبين اشتراط (¬1) رهن عبد زيد أن اشتراط [رهن عبد زيد غرر] (¬2) قد يمكن وقد لا يمكن، بخلاف اشتراط رهن المبيع على ثمنه، فإنه إن تم العقد صار المبيع رهنًا، وإن لم يتم تبيَّنا أنه لا ثمن يحبس عليه الرهن، فلا غرر البتة، فالمنصوص أفقه وأصح، وهذا على أصل مَنْ يقول: "للبائع حبس المبيع على ثمنه" ألزمُ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وبعض أصحاب أحمد (¬3)، وهو الصحيح وإن كان خلاف منصوص أحمد؛ لأن عقد البيع (¬4) يقتضي استوائهما (¬5) في [التسلم] (¬6) والتسليم، ففي إجبار البائع على التسليم قبل حضور الثمن وتمكينه من قبضه إضرار به، فإذا [كان] (¬7) ملك حبسه على ثمنه (¬8) من غير شرط فلأن يملكه مع الشرط أولى [وأحرى] (6)، فقول القاضي وأصحابه مخالف لنص أحمد وللقياس (¬9)، [فإن شرط أن يقبض المشتري المبيع ثم يرهنه على ثمنه عند بائعه فأولى بالصحة. ¬

_ (¬1) في (ق): "شرط". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وما قبلها فيها: "أن اشتراطه"، وبعدها في (ك): "فلا" بدل "قد". (¬3) في المطبوع: "أصحاب الإمام أحمد". (¬4) في (ك): "المبيع". (¬5) قال: (د)، و (ط): "في نسخة: "لأنه عقد يقتضي استواءهما. . . إلخ"، وزاد (ط): انظر: "إعلام الموقعين" (ط فرج اللَّه زكي الكردي) (3/ 222). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في (ق): "الثمن". (¬9) في المطبوع و (ك): "والقياس".

وقال ابن عقيل في "الفصول" (¬1): والرهن (¬2) أيضًا باطل؛ لأنهما شرطا رهنه قبل ملكه، وقد عرفت ما فيه، وعلله أيضًا بتعليل آخر فقال: إطلاق البيع يقتضي تسليم الثمن من غير المبيع، والرهن يقتضي استيفاءه من عينه إن كان عينًا أو ثمنه إن كان عرضًا فيتضادا (¬3)، وهذا التعليل أقوى من الأول، وهو الذي أوجب له القول ببطلان الرهن قبل القبض وبعده، فيقال: المحذور من التضاد إنما هو التدافع بحيث يدفع كل من المتضادين (¬4) المتنافيين الآخر، فأما إذا لم يدفع أحدهما الآخر فلا محذور، والبائع إنما يستحق ثمن المبيع، وللمشتري أن يؤديه (¬5) إياه من عين المبيع ومن غيره، فإن له أن يبيعه ويقبضه ثمنه منه، وغاية عقد الرهن أن يوجب ذلك، فأي تدافع و [أي] (¬6) تناف هنا؟ وأما قوله: "إطلاق العقد يقتضي التسليم (¬7) للثمن من غير المبيع" فيقال: بل إطلاقه يقتضي تسليم الثمن من أيِّ جهة شاء المشتري، حتى لو باعه قفيز حنطة بقفيز حنطة وسلّمه إليه مَلَك أن يوفيه إياه ثمنًا كما استوفاه مبيعًا، كما لو اقترض منه ذلك ثم وفاه إياه بعينه. ثم قال ابن عقيل: وقد قال الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه: إذا حَبَسَ السلعة ببقية الثمن فهو غاصب، ولا يكون رهنًا إلا أن يكون شَرَط عليه في نفس البيع الرهن، فظاهرُ هذا أن (¬8) شرط كون المبيع رهنًا [في حال العقد أصح (¬9)، قال: وليس هذا الكلام على ظاهره، ومعناه إلا أن يشترط عليه في نفس البيع رهنًا] (¬10)، غير المبيع؛ لأن اشتراط رهن البيع (¬11) اشتراط تعويق التسليم في المبيع (¬12). ¬

_ (¬1) في عشرة أجزاء، ويسمى: "كفاية المفتي" منه نسخة في شستربيتي، ومنه الجزء الثالث في دار الكتب المصرية، تحت رقم (أصول فقه 13)، ومنتخب منه في الظاهرية (عام 750)، وانظر: "ذيل طبقات الحنابلة" (1/ 156)، و"الدر المنضد" (ص 25) و"قواعد ابن رجب" (1/ 119 - بتحقيقي). (¬2) في (ك): "الرهن" دون واو. (¬3) في (ك): "متضادًا". (¬4) في (ك): "التضادين". (¬5) في (ك): "يوفيه". (¬6) سقط من (ك). (¬7) في (ك): "التسلم". (¬8) في (ط) و (ك): "فظاهر هذا أنه إن". (¬9) في (ك): "صح". (¬10) ما بين المعقوفتين ساقط من أولى المصريتين (د). (¬11) في (ك): "المبيع". (¬12) في (ك): "البيع".

[منافاة كلام ابن عقيل لظاهر كلام أحمد في المسألة]

[منافاة كلام ابن عقيل لظاهر كلام أحمد في المسألة] قلت: ولا يخفى منافاة ما قاله لظاهر كلام الإمام أحمد، فإن كلام أحمد المستثنى والمستثنى منه في صورة حبس المبيع على ثمنه، فقال: "هو غاصب إلا أن يكون شَرَط عليه في نفس البيع الرهن" أي فلا يكون غاصبًا بحبس السلعة بمقتضى شرطه، ولو كان المراد ما حَمَله عليه لكان معنى الكلام إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب إلا أن يكون قد شرط له رهنًا آخر غير المبيع يسلمه إليه، وهذا كلام لا يرتبط أوله بآخره، ولا يتعلق به، فضلًا عن أن يدخل في الأول ثم يستثنى منه، ولهذا جعله أبو البركات ابن تيمية نصًا في صحة هذا الشرط، ثم قال: وقال القاضي لا يصح (¬1). وأما قوله: "إن اشتراط رهن المبيع تعويق للتسليم في المبيع (¬2) " فيقال: واشتراط التعويق إذا كان لمصلحة البائع وله فيه غرض صحيح وقد قدم عليه المشتري فأي محذور فيه؟ ثم هذا يبطل باشتراط الخيار؛ فإن فيه تعويقًا للمشتري عن التصرف في المبيع، وباشتراط المشتري تأجيل الثمن؛ فإنَّ فيه تعويقًا للبائع عن تسلمه أيضًا، ويبطل على أصل الإمام أحمد وأصحابه باشتراط البائع انتفاعه بالمبيع مدة يستثنيها؛ فإن فيه تعويقًا للتسليم، ويبطل أيضًا ببيع العين المؤجرة. فإن قيل: إذا اشترط (¬3) أن يكون رهنًا قبل قبضه تدافع موجب البيع والرهن، فإن موجب الرهن أن يكون تلفه من ضمان مالكه لأنه أمانة في يد المرتهن، وموجب البيع أن يكون تلفه قبل التمكين (¬4) من قبضه من ضمان البائع، فإذا تلف هذا الرهن قبل التمكن من قبضه، فمن ضمان أيهما يكون؟ (¬5). قيل: هذا السؤال أقوى من السؤالين المتقدمين، والتدافع فيه أظهر من التدافع في التعليل الثاني، وجواب هذا السؤال أن الضمان قبل التمكن من القبض كان على البائع [كما كان] (¬6)، ولا يزيل هذا الضمان إلا تمكن المشتري من القبض، فإذا لم يتمكن من قبضه فهو مضمون على البائع كما كان، وحبسه إياه على ثمنه لا يدخله في ضمان المشتري ويجعله مقبوضًا له كما لو حبسه بغير شرط] (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر" (1/ 314) لأبي البركات رحمه اللَّه. (¬2) في (ك): "البيع". (¬3) في (ك): "شرط". (¬4) في (ك): "تمكنه". (¬5) قال: (د)، و (ط): "في نسخة: "في ضمان أيهما يكون"، زاد (ط): انظر: "إعلام الموقعين" (ط فرج اللَّه زكي الكردي) (3/ 223) ". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

[صور حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها]

فإن قيل (¬1): فأحمد رحمه اللَّه [تعالى] (¬2) قد قال: "إنه إذا حبسه على ثمنه كان غاصبًا إلا أن يشترط (¬3) عليه الرهن" وهذا يدل على أنه [قد] (2) فرق في ضمانه بين أن يحبسه بشرط أو [يحبسه] (2) بغير شرط، وعندكم هو مضمون عليه في الحالين، وهو خلاف النص. الجواب أن [الإمام] (2) أحمد رحمه اللَّه [تعالى] (2) إنما جعله غاصبًا بالحبس، والغاصب عنده يضمن العين بقيمتها أو مثلها، ثم يستوفي الثمن أو بقيته من المشتري، وأما إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع، بمعنى أنه ينفسخ العقد فيه، ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن، وإن كان قد قبضه منه أعاده إليه فهذا الضمان شيء وضمان الغاصب شيء آخر. فإن قيل: فكيف (¬4) يكون رهنًا وضمانه على المرتهن؟ قيل: لم يضمنه المرتهن من حيث هو رهن، وإنما ضمنه من حيث كونه مبيعًا لم يتمكن مشتريه من قبضه، فحق توفيته بعد على بائعه. [صور حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها] فإن قيل: فما تقولون لو حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها، وهذا يكون في صور: إحداها (¬5): أن يبيعه دارًا له فيها متاع لا يمكن (¬6) نقله في وقت واحد. والثانية: أن يستثني البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة على أصلكم، أو نحو ذلك (¬7)، فإذا تلفت في يد البائع قبل تمكن المشتري من القبض في هاتين الصورتين هل تكون من ضمانه أو [من] (¬8) ضمان البائع؟ (¬9) ¬

_ (¬1) علّق هنا في هامش (ق) بقوله: "المعروف في المذهب أنه إذا شرط رهن البيع على ثمنه صَحّ الرّهنُ، ولا يضمن البائع". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ك): "شرط". (¬4) في (ق): "وكيف". (¬5) في (ق) و (ك): "أحدها". (¬6) في (ق): "لا يمكنه". (¬7) في (ق): "ونحو ذلك"، وفي (ك): "أو تجوزون ذلك". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) كتب الناسخ في هامش (ق): "قال في "الشرح": "وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه ولم يكن مكيلًا ولا موزونًا فإن تلف أو نقص أو حدث به عيب في مدة الخيار فهو من ضمان المشتري، لأنه ملكه وغلته فكان من ضمانه كما بعد انقضاء الخيار".

[إقرار المريض بدين الورثة]

الثالثة: أن يشترط الخيار ويمنعه من تسليم المبيع قبل انقضاء الخيار. قيل: الضمان في هذا كله على البائع؛ لأنه لم يدخل تحت يد المشتري، ولم يتمكن من قبضه، فلا يكون (¬1) مضمونًا عليه. فإن قيل: فهل يكون من ضمانه بالثمن أو بالقيمة؟ قيل: بل يكون مضمونًا عليه بالثمن؛ بمعنى أن العقد ينفسخ بتلفه؛ فلا يلزم المشتري تسليم الثمن. [إقرار المريض بدين الورثة] المثال الخامس (¬2) بعد المائة: إقرار المريض لوارثه بدَيْن باطل عند الجمهور، للتُّهْمَة، فلو كان له عليه دين ويريد أن تبرأ ذمته منه قبل الموت وقد علم أن إقراره له باطل فكيف الحيلة في براءة ذمته ووصول صاحب الدَّين إلى ماله؟ فههنا وجوه. أحدها: أن يأخذ إقرار باقي الورثة بأن هذا الدين على الميت؛ فإن الإقرار إنما بطل لحقهم (¬3)، فإذا أقروا به لزمهم، فإن لم تتم [له] (¬4) هذه الحيلة فله: وجه ثان: وهو أن يأتي برجل أجنبي يثق به يقر له بالمال فيدفعه الأجنبي إلى ربه، فإن لم تتم له هذه الحيلة فله: وجه ثالث: وهو أن يشتري منه سلعة بقدر دينه، ويقر المريض بقبض الثمن منه، أو يقبض منه [الثمن] (5) بمحضر الشهود ثم يدفعه إليه سرًا، فإن لم تتم [له] (5) هذه الحيلة فليجعل الثمن وديعة عنده فيكون أمانة فيقبل قوله في تلفه، ويتأول أو يدعي رده إليه والقول قوله. وله: وجه آخر: وهو أن يحضر الوارث شيئًا ثم يبيعه [من] (¬5) موروثه (¬6) بحضرة الشهود ويسلمه إليه فيقبضه ويصير ماله، ثم يهبه الموروث لأجنبي ويقبضه منه، ثم يهبه الأجنبي للوارث، فإذا فعلت هذه الحيلة ليصل المريض إلى براءة ذمته والوارث إلى أخذ دينه جاز ذلك، وإلا فلا. ¬

_ (¬1) في (ق): "ولا يكون". (¬2) في (ك) و (ق): "الثالث". (¬3) قال (د)، و (ط): "في نسخة: "لحقوقهم"، وزاد (ط): انظر: "إعلام الموقعين" (ط فرج اللَّه زكي الكردي 3/ 224). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ك): "مورثه".

[الإحالة بالدين وخوف هلاك المحال به]

[الإحالة بالدين وخوف هلاك المحال به] المثال السادس (¬1) بعد المئة: إذا أحاله بدينه على رجل فخاف أن يتوى (¬2) ماله على المحال عليه فلا يتمكن من الرجوع على المحيل؛ لأن الحوالة تحوّل الحق وتنقله، فله ثلاث حيل: إحداها (¬3): أن يقول: [أنا] (4) لا أحتال، ولكن أكون وكيلًا [لك] (4) في قبضه، فإذا قبضه فإن استنفقه ثبت له ذلك في ذمة الوكيل، وله في ذمة الموكل نظيره فيتقاصَّان، فإن خاف الموكل أن يدعي الوكيل ضياع المال من غير تفريط فيعود يطالبه بحقه، فالحيلة له: أن يأخذ إقراره بأنه متى [ثبت] (4) قبضه منه فلا شيء له على الموكل، وما يدعي [عليه] (4) بسبب هذا الحق [أو] (¬4) من جهته (¬5) فدعواه باطلة، وليس هذا إبراء معلقًا بشرط حتى يتوصل إلى إبطاله، بل هو إقرار بأنه لا يستحق عليه شيئًا في هذه الحالة (¬6). الحيلة الثانية: أن يشترط عليه أنه إن توى (¬7) المال [رجع عليه] (¬8) ويصح هذا الشرط على قياس المذهب؛ فإن المحتال إنما قَبِل الحوالة على هذا الشرط، فلا يجوز أن يلزم بها دون (¬9) الشرط، كما لو (¬10) قبل عقد البيع بشرط الرهن أو الضمين أو التأجيل أو الخيار (¬11)، أو قبل عقد الإجارة بشرط الضمين للأجرة أو تأجيلها، أو قبل عقد النكاح بشرط تأجيل الصداق، أو قبل عقد الضمان بشرط تأجيل [الدَّين الحال على المضمون عنه] (¬12)، أو قبل عقد الكفالة بشرط أن لا ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "الرابع". (¬2) التوى -مقصورًا-: "هلاك المال"، ونحوه (د)، و (ح)، و (ط)، وفي (و): "توى يتوي كرضى: هلك". (¬3) في (ك): "أحدها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) قال: (د)، و (ط): "في نسخة: "في جهته"، وزاد (ط): وانظر: "إعلام الموقعين" (ط فرج اللَّه زكي الكردي (3/ 324). (¬6) في (ك) و (ق): "الحال". (¬7) مضى التعريف بها، وسقطت: "أنه" من (ك). (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فله أن يرجع عليه". (¬9) في المطبوع و (ك): "بدون". (¬10) سقط من (ك). (¬11) في (ق): "أو تأجيل أو خيار". (¬12) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "الصداق أو قبل الضمان بشرط تأجيل الدين الحال على الضامن".

[حيلة في لزوم تأجيل الدين الحال]

يلزمه من المال الذي عليه شيء، أو قبل عقد الحوالة بشرط ملاءة المحال عليه وكونه غير محجور (¬1)، ولا مماطل، وأضعاف أضعاف ذلك من الشروط التي لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا، فإنها جائز اشتراطها لازم الوفاء بها كما تقدم تقريره نصًا وقياسًا، وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بصحة هذا الشرط في الحوالة، فقالوا واللفْظُ للخَصَّاف (¬2): "يجوز أن يحتال الطالب بالمال على غريم المطلوب على أن هذا الغريم إن لم يوف الطالب هذا المال إلى كذا وكذا فالمطلوب ضامن لهذا المال على حاله، وللطالب أخذه بذلك، وتقع الحوالة على هذا الشرط، فإن وفّاه الغريم إلى الأجل الذي يشترطه، وإلا رجع إلى المطلوب وأخذه بالمال". ثم حكى عن شيخه قال: قلت: وهذا جائز؟ قال: نعم. الحيلة الثالثة: أن يقول طالب الحق للمُحَال عليه: اضمن لي هذا الدين الذي على غريمي، ويرضى منه بذلك بدَلَ الحوالة، فإذا ضمنه تمكن من مطالبة أيهما شاء، وهذه من أحسن الحيل وألطفها. [حيلة في لزوم تأجيل الدين الحال] المثال السابع (¬3) بعد المئة: إذا كان له عليه دين حالّ، فاتفقا على تأجيله، وخاف مَنْ عليه الدين أن لا يفي له بالتأجيل؛ فالحيلة في لزومه أن يفسخ العقد الذي هو سبب الدين الحال، ثم يعقده عليهم (¬4) مؤجلًا، فإنْ كان عن ضمان أو كان بدل مُتْلفٍ أو عن دية قد حلت (¬5) أو نحو ذلك فالحيلة في لزوم التأجيل أن يبيعه سلعة بمقدار هذا الدين، ويؤجّل عليه ثمنها، ثم يبيعه المدين تلك السلعة بالدين الذي أجَّله عليه أولًا، فيبرأ منه، ويثبت في ذمته نظيرُه مؤجلًا، فإنْ خاف صاحبُ الحقِّ أن لا يفي له مَنْ عليه (¬6) بأدائه عند كل نجم [كما أجله] (¬7) فالحيلة أن يشترط (¬8) عليه أنه إن حل نجم ولم يؤده (¬9) قسطه فجميع المال عليه حال، فإذا ¬

_ (¬1) قال (د): "في كل الأصول: وكونه غير محجوب، تحريف"، والمثبت من (ق). (¬2) في كتابه "الحيل" (ص 30 - 31)، وتحرف "الخصاف" إلى "المضاف" في (ك). (¬3) في (ك) و (ق): "الخامس". (¬4) في (ك): "يعقده عليه"، وفي (ق): "يعقد عليهم". (¬5) في المطبوع: "وقد حلت". (¬6) كذا في الأصول لعل بعدها: "الدين". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ك): "يشرط". (¬9) في (ق): "ولم يوفه".

[وصية المريض الذي لا وارث له بجميع ماله في البر]

نَجَّمَهُ على هذا الشرط جاز، وتمكن من مطالبته به حالًا ومنجمًا عند من يرى لزوم تأجيل الحالِّ ومن لا يراه، أما من لا يراه فظاهر، وأما من يراه فإنه يجوز تأجيله لهذا الشرط (¬1) كما صرح به أصحاب أبي حنيفة، واللَّه أعلم. [وصية المريض الذي لا وارث له بجميع ماله في البر] المثال الثامن (¬2) بعد المئة: إذا أراد المريض الذي لا وارث له أن يُوصِيَ بجميع أمواله (¬3) [في أبواب البر، فهل له ذلك؟ على قولين: أصحهما أنه يملك ذلك، لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث [وكان] (¬4) له ورثة، فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله، فإن خاف أن يبطل ذلك حاكم لا يراه فالحيلة له أن يقر لإنسان يثق بدينه وأمانته بدين يحيط بماله كله، ثم يوصيه إذا أخذ ذلك المال أن يضعه في الجهات التي يريد، فإن خاف المقر له أن يلزم بيمين باستحقاقه لما أقر له به المريض اشترى منه المريض عرضًا من العروض بماله كله، ويسلم العرض فإذا حلف المقر له حلف بارًا، فإن خاف المريض أن يصح فيأخذه البائع بثمن العرض فالحيلة أن يشتريه بشرط الخيار سنة، فإن مات بطل الخيار، وإن عاش فسخ العقد، فإن كان المال أرضًا أو عقارًا أو أراد (¬5) أن يوقفه جميعه على قوم يستغلونه ولا يمكن إبطاله فالحيلة أن يقر أن واقفًا وَقَفَ ذلك جميعه عليه، ومن بعده على الجهات التي يعينها، ويشهد على إقراره بأن هذا العقار في يده على جهة الوقف من واقف كان ذلك العقار ملكًا له إلى حين الوقف أو يقر بأن واقفًا معينًا وقفه على تلك الجهات، وجعله ناظرًا عليه، فهو في يده على هذا الوجه، وكذلك الحيلة إذا كان له بنت أو أم أو وارث بالفرض لا يستغرق ماله ولا عصبة له، ويريد أن لا يتعرض له السلطان فله أنواع من المخارج: منها: أن يبيع الوارث تلك الأعيان، ويقر بقبض الثمن منه، وإن أمكنه أن يشهد على قبضه بأن يحضر الوارث مالًا يقبضه إياه، ثم يعيده إليه سرًا، فهو أولى. ومنها: أن يشتري المريض من الوارث سلعة بمقدار التركة: من الثمن، ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "بهذا الشرط". (¬2) في (ك) و (ق): "السادس". (¬3) في (ق) و (ك): "بجميع ماله". (¬4) في (ك): "إذا كان". (¬5) في (ك): "وأراد".

[أمران مخوفان في هذه الحيلة]

ويشهد على الشراء، ثم يعيد إليه تلك السلعة، ويرهنه المال كله على الثمن، فإذا أراد السلطان مشاركته قال: وفّوني حقّي وخذوا (¬1) ما فَضَل. ومنها: أن يبيع ذلك لأجنبي يثق به، ويقر بقبض الثمن منه، أو يقبض (¬2) بحضرة الشهود، ثم يأذن للأجنبي في تمليكه للوارث أو وقفه عليه. ومنها: أن يقر لأجنبي يثق به بما يريد، ثم يأمره بدفع ذلك إلى الوارث. [أمران مخوفان في هذه الحيلة] ولكن في هذه الحيل وأمثالها أمران مخوفان: أحدهما: أنه قد يصح فيحال بينه وبين ماله. والثاني: أن الأجنبي] (¬3) قد يَدَّعي ذلك لنفسه، ولا يسلمه إلى الوارث، فلا خلاص من (¬4) ذلك إلا بوجه واحد، وهو أن يأخذ إقرار الأجنبي، ويشهد عليه في مكتوب ثان أنه متى أدَّعَى لنفسه أو لمن يخاف أن يواطئه على المريض أو وارثه هذا المال أو شيئًا منه أو حقًا من حقوقه كانت دعواه باطلة وإن أقام به بينة فهي بينة زور، وأنه لا حقَّ له قبل فلان بن فلان ولا وارثه بوجه من الوجوه (¬5)، ويمسك الكتاب عنده، فيأمن هو والوارث ادعاء ذلك لنفسه، واللَّه أعلم. [اقتضاء الدين وتواري المدين] المثال التاسع (¬6) بعد المئة: رجل يكون له الدَّين، ويكون عليه الدين، فيوكل وكيلًا في اقتضاء ديونه، ثم يتوارى عن غريمه، فلا يمكنه اقتضاء دينه منه، فأراد الغريم ممن له الدين على هذا الرجل حيلة يقتضي بها دينه منه، ولا يضره تواري من عليه الدين، فالحيلة أن يأتي هذا الذي له الدين إلى من عليه الدين فيقول له: وكلتك بقبض مالي على فلان وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصًا بمالي عليه، وأجزت أمرك في ذلك وما عملت فيه من شيء فيقبل الوكيل، ويشهد على الوكالة على هذا الوجه شهودًا، ثم يشهدهم الوكيل أنه قد ¬

_ (¬1) في (ك): "ثم خذوا". (¬2) في (ك): "يقبضه". (¬3) بدل بين المعقوفتين في (ق) من بعد السطر الأول من المثال الثامن بعد المئة إلى هنا فراغ يسع كلمة واحدة!. (¬4) في (ق): "إلى". (¬5) في المطبوع و (ك): "بوجه ما". (¬6) في (ق) و (ك): "السابع".

[إثبات المال على غائب]

جعل الألف درهم التي لفلان عليه قصاصًا بالألف التي لموكله على فلان، فيصير الألف قصاصًا، ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل [للرجل] (1) الذي وكله. وهذه الحيلة جائزة؛ لأن الموكل أقام الوكيل مقام نفسه، والوكيل يقول: مطالبتي لك بهذا الدين كمطالبة موكلي [به] (¬1) فانا أطالبك بألف (¬2) وأنت تطالبني به، فاجعل الألف الذي تطالبني به عوضًا عن الألف الذي أطالبك به، ولو كانت الألف لي لحصلت المُقاصَّة، إذ لا معنى لقبضك الألف (¬3) مني ثم أدائها إليَّ، وهذا بعينه فيما إذا طالبتك بها لموكلي؛ أنا أستحق عليك أن تدفع إليّ الألف وأنت تستحق عليَّ [أن أدفع إليك] (¬4) ألفًا، فنتقاص [في] (1) الألفين. [إثبات المال على غائب] المثال العاشر (¬5) بعد المئة: رجل له على رجل مال، فغاب الذي عليه المال، فأراد الرجل أن يثبت ماله عليه، حتى يحكم له الحاكم عليه وهو غائب، فليرفعه إلى حاكم يرى الحكم على الغائب، فإن (¬6) كان حاكم البلد لا يرى الحكم على الغائب فالحيلة أن يجيء رجل فيضمن لهذا الذي له المال جميع ما صحَّ له (¬7) على الرجل الغائب، ويسميه وينسبه، ولا يذكر مبلغ المال، بل يقول: ضمنت له جميع ما صح [أنه] (¬8) له في ذمته، ويُشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي، فيقر الضامن بالضمان، ويقول: لا أعرف له على فلان شيئًا (¬9)، فيسأل القاضي المضمون له: هل لك بينة؟ فيقول: نعم، فيأمره بإقامتها، فإذا شهدت ثبت الحق على الغائب، وحكم على الضمين بالمال، وجعله (¬10) خصمًا على الغائب؛ لأنه قد ضمن ما عليه، ولا ينفذ حكمه على الضامن بثبوت المال على وجه الضمان حتى يحكم على الغائب المضمون عنه بالثبوت؛ لأنه هو الأصل، والضامن فرعه، وثبوت الفرع بدون أصله ممتنع، وهو جائز على أصل أهل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "بالألف". (¬3) في (ق)، و (د): "لقبضك للألف". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ك) و (ق): "الثامن". (¬6) في (ق): "فإذا". (¬7) في المطبوع و (ك): "جميع ماله". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬9) في (ق) و (ك): "شيئًا على فلان"، بتقديم وتأخير. (¬10) في المطبوع: "ويجعله".

العراق، حيث يجوزون الحكم على الغائب إذا اتصل القضاء بحاضر محكوم عليه كوكيل الغائب (¬1)، وكما لو ادعى أنه اشترى من غائب [ما فيه] (¬2) شفعة فإنه يقضي عليه بالبيع وبالشفعة على المدعي (¬3)، وكهذه المسألة ما (¬4) لو ادعت زوجة غائب أن له عند فلان وديعة (¬5)، فإنه يفرض لها مما في يديه (¬6). المثال الحادي عشر (¬7) بعد المئة: ليس للمُرتهن أن ينتفع بالرهن إلا بإذن الراهن، فإن أذن له كان إباحة أو عارية له الرجوع فيها متى شاء، ويقضى له بالأجرة من حين الرجوع في أحد الوجهين، فالحيلة في انتفاع المرتهن بالرهن آمنًا من الرجوع ومن الأجرة أن يستأجره منه للمدة التي يريد الانتفاع به فيها، ثم يبرئه من الأجرة، أو يقر بقبضها، و [يجوز أن] (¬8) يرد عقد الإجارة على عقد الرهن ولا يبطله، كما يجوز أن يرهنه ما استأجره، فيرد كل من العقدين على الآخر، وهو في يده أمانة في الموضعين، وحقه متعلق به فيهما، [إلا] (8) أن الانتفاع بالمرهون مع الإجارة والرهن بحاله. المثال الثاني عشر (¬9) بعد المائة: إذا كان له على رجل مال، وبالمال (¬10) رهن، فادَّعى صاحب الرهن به عند الحاكم، فخاف المرتهنُ أن يقرَّ بالرهن، فيقول الراهن: قد أقررتَ بأنَّ لي رهنًا في يدك، واذَّعيتَ الدَّين، فينزعه من يده، ولا يقر له بالدين، فقد ذكروا له حيلةَ تُحرزُ (¬11) حقَّه، وهي أن لا يقر [له] (¬12) به حتى يقر له صاحبُه بالدين، فإن ادعاه وسأل إحلافه أنكر وحلف، وعَرَّض في يمينه، بأن ينوي أن هذا ليس له قبل ملكه أو إذا باعه أو ليس له عاريًا عن تعلق الحق به، ونحو ذلك. وأحسن من هذه الحيلة أن يفصل في جواب الدعوى فيقول: إن ادعيته (¬13) ¬

_ (¬1) انظر: "زاد المعاد" (3/ 201، و 4/ 122، 149). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) انظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 368)، و"تهذيب السنن" (2/ 194، و 5/ 165 - 167)، و"الطرق الحكمية" (ص 282). (¬4) في (ك): "كما"، وفي (ق): "وكما". (¬5) في (ك): "وديعة عند فلان". (¬6) في (ق): "بما في يده". (¬7) في (ك) و (ق): "المثال التاسع". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ك) و (ق): "المثال العاشر". (¬10) في (ك): "والمال". (¬11) في (ق): "تجود". (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬13) في (ك): "أدعيه".

[حيلة في إبرار زوج وزوجة]

رهنًا في يدي على ألف لي عليك فأنا مقر به، وإن ادعيته على غير هذا الوجه فلا أقر به (¬1)، وينفعه هذا الجواب، كما قالوا فيما إذا ادعى عليه ألفًا، فقال: إن ادعيتها من ثمن مبيع لم أقبضه منك فأنا مقر، وإلا فلا، وهذا مثله سواء. فإن كان الغريم هو المدعي للمال فخاف الراهن أن يقر بالمال فيجحد المرتهن الرهن فيلزم الراهن المال ويذهب رهنه (¬2)، فالحيلة في أمنه من ذلك أن يقول: إن ادعيت هذا المال وأنك تستحقه من غير رهن لي عندك فلا أقر به، وإن ادعيته مع كوني رهنتك به كذا وكذا فأنا مقر به، ولا يزيد على هذا. وقالت الحنفية: الحيلة أن يقر منه بدرهم فيقول: لك عليَّ درهم، ولي عندك رهن كذا وكذا، فإذا سأل الحاكم المدعي عن الرهن، فإما أن يقر به، وإما أن ينكر، فإن أقر به فليقر له خصمه بباقي دينه، وإن أنكره وحلف عليه وسع الآخر أن يجحد باقي الدين ويحلف عليه إن كان الرهن بقدر الدين أو أكثر منه، وإن كان أقل منه لزمه أن يعطيه ما زاد على قيمة الرهن من حقه، قالوا: لأن الرهن إن كان قد تلف بغير تفريطه سقط ما يقابله من الدين (¬3)، وإن كان قد فرط فيه صارت قيمته دينًا عليه، فيكون قصاصًا بالدين الذي له (¬4). وهذا بناء على أصلين لهم: أحدهما (¬5): أن الرهن (¬6) مضمون على المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين. والثاني: جواز الاستيفاء في مسألة الظفر (¬7). [حيلة في إبرار زوج وزوجة] المثال الثالث (¬8) عشر بعد المئة: إذا قال لامرأته: "إن لم أطأك الليلة فأنت ¬

_ (¬1) في (ق): "لك". (¬2) في (ق): "فيذهب رهنه". (¬3) العبارة في (ق) هكذا: "لأن الرهن قد تلف من غير تفريط يسقط ما يقابله من الدين". (¬4) في (ق): "فيكون قصاصًا بالذي له". (¬5) في (ك): "أحدها". (¬6) في (ق) و (ك): "أن الدين". (¬7) انظر هذه المسألة في: "فتح القدير" (4/ 236) لابن الهمام، و"رد المحتار" (3/ 219 - فما بعد)، و"مغني المحتاج" (4/ 112)، "المهذب" (2/ 282) للشيرازي، و"المغني" (8/ 254 - مع "الشرح الكبير"). (¬8) في (ك) و (ق): "الحادي".

طالق ثلاثًا" فقالت: "إن وطئتني الليلة فأمتي حرة" فالمخلص من ذلك أن تبيعه الجارية فإذا وطئها بعد ذلك لم تعتق؛ لأنها خرجت من ملكها ثم تستردها (¬1). فإن خافت أن يطأ الجارية على قول من لا يرى على الرجل استبراء الأمة التي يشتريها من امرأته (¬2) كما ذهب إليه بعض الشافعية والمالكية فالحيلة أن تستردها (¬3) منه عقيب الوطء فإن خافت أن لا يرد إليها الجارية ويقيم على ملكها فلا تصل إليها، فالحيلة لها أن تشترط عليه أنه إن لم يرد الجارية إليها عقيب الوطء فهي حرة. فإن خافت أن يملكها لغيره تلجئة (¬4) فلا يصح تعليق عتقها فالحيلة [لها] (¬5) أن تشترط عليه [أنه] (5) إن لم يردها إليها عقيب الوطء فهي طالق، فهنا تضيق عليه الحيلة (¬6) في استدامة ملكها ولم يجد بدًا من مفارقة إحديهما (¬7). المثال الرابع (¬8) عشر بعد المئة: إذا أراد [الرجل] (5) أن يخالع امرأته الحامل على سكناها ونفقتها جاز ذلك، وبرئ منهما، هذا منصوص أحمد، وقال الشافعي: لا يصح الخلع، ويجب مهر المثل، واحتج له بأن النفقة لم تجب بعد فإنها إنما تجب بعد الإبانة (¬9)، وقد (¬10) خالعها بمعدوم، فلا يصح، كما لو خالعها على عوض شيء يتلفه (¬11) عليها، وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز، وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا خالعها على أن لا سكنى لها ولا نفقة فلا نفقة لها، وتستحق عليه السكنى، قالوا: لأن النفقة حق لها وقد أسقطته (¬12)، والسكنى حق للشارع (¬13) فلا تسقط بإسقاطها، فيلزمه إسكانها قالوا: فالحيلة على سقوط الأجرة عنه أن يشترط (¬14) الزوج في الخلع أن لا يكون عليه مؤنة السكنى، وأن مؤنتها تلزم المرأة في مالها، وتجب أجرة المسكن عليها. فإن قيل: لو أبرأت المرأة زوجها من النفقة (¬15) قبل أن تصير دينًا في ذمته ¬

_ (¬1) قال: (د) و (ط): "في نسخة: "ثم تشتريها""، زاد (ط): "انظر: "إعلام الموقعين" ط فرج اللَّه زكي الكردي (3/ 328) ". قلت: وهي كذلك في (ك)، وفيها "عن ملكها ثم تشتريها منه". (¬2) في (ق): "من امرأة". (¬3) في المطبوع و (ك): "تشتريها". (¬4) في (ق): "بلحظة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "الحيل". (¬7) في المطبوع و (ك): "إحداهما". (¬8) في (ك) و (ق): "الثاني". (¬9) في (ك): "الإيابة". (¬10) في (ك) و (ق): "فقد". (¬11) في (ق): "سلفه". (¬12) في (ك): "أسقطه". (¬13) في المطبوع: "حق الشارع". (¬14) في (ق) و (ك): "يشرط". (¬15) في المطبوع: "عن النفقة".

[للتحليل بعد الطلاق الثلاث]

لم يصح، ولو شرط في عقد الخلع براءة الزوج عن النفقة صح. قيل: الفرق بينهما أن الإبراء إذا شرط في الخلع كان إبراء بعوض، والإبراء (¬1) بعوض استيفاء لما وقعت البراءة عنه؛ لأن العوض قائم مقام ما وقعت البراءة عنه والاستيفاء يجوز قبل الوجوب بدليل ما لو تسلَّفت (¬2) نفقة شهر جملة، وأما الإبراء من النفقة في غير خلع (¬3) قبل ثبوتها فهو إسقاط لما لم يجب فلا يسقط، كما لو أسقطت حقها من القَسْم فإن لها أن ترجع فيه متى شاءت، وأما قول صاحب: "المحرر": "وقيل: إن أوجبنا نفقة الزوجة بالعقد صح، وإلا فهو خلع بمعدوم وقد بينا حكمه" (¬4) يعني: إن قلنا: إنَّ نفقة الحامل نفقة زوجة وإن النفقة لها من أجل الحمل وإنها تجب بالعقد فيكون خلعًا بشيء ثابت، وإن قلنا: إن النفقة إنما تجب بالتمكين فقد زال التمكين بالخلع وصارت النفقة نفقة قريب، فالخلع بنفقة الزوجة حينئذٍ خلع بمعدوم، هذا أقرب ما يتوجه به كلامه، وفيه ما فيه، واللَّه أعلم (¬5). [للتحليل بعد الطلاق الثلاث] المثال الخامس (¬6) عشر بعد المئة: إذا وقع الطلاق الثلاث بالمرأة، وكان دِينها ودِين وليها وزوجها المطلق أعز عليهم من التعرض للعنة اللَّه ومقته بالتحليل الذي لا يحلها ولا يطيبها بل يزيدها خبثًا فلو أنها أخرجت من مالها ثمن مملوك فوهبته لبعض من تثق به فاشترى به مملوكًا ثم خطبها على مملوكه فزوجها منه فدخل بها المملوك ثم وهبها إياه (¬7) انفسخ النكاح ولم يكن هناك تحليلٌ مشروطٌ ولا منويٌّ ممن تؤثر نيَّتُه وشرطه وهو الزوج، فإنه لا أثر لنية الزوجة (¬8) ولا الولي، وإنما التأثير لنية الزوج الثاني، فإنه إذا نوى التحليل كان محللًا فيستحق اللعنة ثم يستحقها الزوج المطلق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في قلب المرأة أو وليها من نية التحليل لم يضر ذلك ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "فالإبراء". (¬2) في (ق): "سلفت". (¬3) في (ق): "الخلع". (¬4) "المحرر" (2/ 46). (¬5) انظر: "زاد المعاد" (4/ 217 - 218). (¬6) في (ك) و (ق): "الثالث". (¬7) قال: (د)، و (ط): "في نسخة": "ثم وهبه إياها"، زاد (ط): "تحريف"، انظر: إعلام الموقعين" (ط - فرج اللَّه زكي الكردي) (3/ 330) ". قلت: وهو المثبت في (ق) و (ك). (¬8) في (ك): "الزوجية".

[الإبرار من حلف بالطلاق]

العقد شيئًا. وقد علم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه ولم يجعل ذلك مانعًا من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال [النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1): "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (¬2)، وقد صرح أصحابنا بأن ذلك يحلها، فقال صاحب "المغني" (¬3) فيه: "فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها، وبذلك قال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم لهم مخالفًا". قلت: هذه (¬4) الصورة غير الصورة التي منع منها الإمام أحمد (¬5)، فإنه منع من حِلِّها إذا كان الزوج المطلق [قد] (¬6) اشترى العبد وزوّجه بها بإذن وليها ليحلها، فهذه حيلة لا تجوز عنده، وأما هذه المسألة فليس للزوج الأول ولا للثاني فيها نية، ومع هذا فيكره؛ لأنها نوع حيلة. [الإبرار من حلف بالطلاق] المثال السادس (¬7) عشر بعد المئة: قال عبد اللَّه بن أحمد [في "مسائله"] (¬8): "سألت أبي عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن لم أجامعك اليوم، وأنت طالق إن اغتسلت منك اليوم، فقال: يصلي العصر ثم يجامعها، فإذا غابت الشمس اغتسل إن لم يكن أراد بقوله: "اغتسلت" المجامعة". ونظير هذا أيضًا ما نص [عليه] (¬9) في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك في رمضان، فسافر مسيرة أربعة أيام أو ثلاثة ثم وطئها، فقال: لا يعجبني؛ لأنها حيلة [ولا يعجبني الحيلة] (¬10) في هذا ولا في غيره. وقال (¬11) القاضي: إنما كره الإمام أحمد هذا لأن السفر الذي يبيح الفطر لا بد أن يكون سفرًا مقصودًا مباحًا، وهذا لا يقصد به غير حل اليمين. قال الشيخ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) (7/ 577 - 578) مع "الشرح الكبير"، و (10/ 530 رقم 1178 - ط هجر). (¬4) في (ق) و (ك): "وهذه" بزيادة الواو. (¬5) في (ق): "النبي منعها الإمام أحمد". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "هو الذي". (¬7) في (ك) و (ق): "الرابع". (¬8) (ص 361/ رقم 1329)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "أحمد". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وقال في الهامش: "الظاهر أنه: "فلا تعجبني الحلية"". (¬11) في (ك): "قال" دون واو.

[المخارج من التحليل في الطلاق]

أبو محمد المقدسي: والصحيح أن هذا تنحلُّ به اليمين، ويباح له الفطر فيه؛ لأنه سفر بعيد مباح لقصد صحيح، وإرادة (¬1) حل يمينه من المقاصد الصحيحة. وقد أبحنا لمن له طريقان قصيرة لا يقصر فيها وبعيدة أن يسلك البعيدة ليقصر فيها الصلاة ويفطر، مع أنه لا قصد له سوى الترخص، فههنا أولى (¬2). قلت: ويؤيد اختيار الشيخ -قدس اللَّه روحه- ما رواه الخطيب في كتابه (¬3) "الفقيه والمتفقه" أخبرنا الأزهريُّ: ثنا سهل (¬4) بن أحمد: ثنا محمد بن محمد [بن] الأشعث (¬5) الكوفي حدثني موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- (¬6)، ثنا أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي (¬7) في رجل حلف فقال: امرأته طالق [ثلاثًا] (¬8) إن لم يطأها في شهر رمضان نهارًا، قال: يسافر ثم يجامعها نهارًا (¬9). [المخارج من التحليل في الطلاق] المثال السابع عشر بعد المئة (¬10): في المخارج من الوقوع في التحليل الذي ¬

_ (¬1) في (ق): "وأرى". (¬2) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 87). (¬3) في (ك): "في كتاب" وفي (ق): "في كتابه في". (¬4) كذا في (ق)، وفي باقي النسخ: "أنبأ الأزهري أنبأ سهيل". (¬5) كذا في (ق) و"الفقيه والمتفقه" وفي سائر النسخ: "محمد الأشعث" بإسقاط (بن). (¬6) في المطبوع: "صلوات اللَّه عليهم". (¬7) كذا في (ق) وسقطت (عن) من باقي النسخ! وفي المطبوع: "عليّ عليه السلام". (¬8) في (ق): "فقال لامرأته طالق"، وما بين المعقوفتين سقط منها. (¬9) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (2/ 411 رقم 1183)، وإسناده ضعيف جدًا بل لعله كذِب، محمد بن محمد بن الأشعث ذكره ابن عدي في "الكامل" (6/ 2303) وقال: كتبتُ عنه بمصر حمله شدة ميله إلى التشيع أن أخرج لنا نسخة قريبًا من ألف حديث عن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده إلى أن ينتهي إلى علي والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كتاب كان يخرجه إلينا بخط طري على كاغد جديد فيها مقاطيع وعامتها مسندة مناكير كلها أو عامتها فذكرنا ذلك للحسين بن علي الحسين العلوي شيخ أهل البيت بمصر فقال: كان موسى هذا جاري بالمدينة أربعين سنة ما ذكر قط أن عنده رواية لا عن أبيه ولا عن غيره. ثم ختم ترجمته بما ذكره أولًا: وقال: وكان متهمًا في هذه النسخة وقال السهمي: سألت الدارقطني عنه فقال: آية من آيات اللَّه، وضع ذلك الكتاب. (¬10) عنون بإزائها في هامش (ق): "مخارج الوقوع في التحليل"، وفيها وفي (ك): "المثال" الخامس عشر. . . ".

[الأول أن يكون زائل العقل]

لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير وجه فاعله المطلق والمحلَّلَ له (¬1)، فأي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أعذر عند اللَّه ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يُلعن عليه ومباءته باللعنة، فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة، بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف (¬2)، أو أفتى به بعضهم، أو هو خارج عن أقوالهم (¬3)، أو هو قول جمهور الأئمة (¬4) أو بعضهم [أو إمام] (¬5) من الأئمة الأربعة أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام، ولا تخرج هذه الآثار (¬6) التي نذكرها عن ذلك، فلا يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر، ولا ريب أن من نصح (¬7) للَّه ورسوله وكتابه ودينه ونصح نفسه ونصح عباده أن أيًا منها ارتكب فهو أولى من التحليل (¬8). [الأول أن يكون زائل العقل] المخرج الأول: أن يكون المطلق أو الحالف زائل العقل إما بجنون أو إغماء أو شرب دواء أو شرب مسكر يعذر به أو لا يعذر أو وسوسة، وهذا المخلص مجمع عليه بين الأمة إلا في شرب (¬9) مسكر لا يعذر به، فإن المتأخرين من الفقهاء اختلفوا فيه، والثابت عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم أنه لا يقع طلاقه. قال البخاري في "صحيحه" (¬10): باب الطلاق في الإغلاق والمكره ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) قال: (د)، و (ط): "في نسخة: "لا يعرف عندهم فيه خلاف"، وزاد (ط): "انظر: "إعلام الموقعين" ط - فرج اللَّه زكي الكردي (3/ 331) "، وهي كذلك في (ك). (¬3) في (ق): "على أقوالهم". (¬4) في المطبوع و (ك): "الأمة". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إما". (¬6) في المطبوع و (ك): "هذه القاعدة". (¬7) "كذا، ولعل أصل العبارة: "ولا ريب عند من نصح. . . إلخ" (د)، وفي (ك): "اللَّه" بدل "للَّه". (¬8) انظر: "إغاثة اللهفان" (2/ 97)، وفيها ستة مخارج، و"زاد المعاد" (4/ 5 - 6، 66، 212)، و"الفروسية" (ص 22)، و"تهذيب السنن" (3/ 22 - 23). (¬9) في (ق): "إلا بشرب". (¬10) (9/ 388) (كتاب النكاح): (باب رقم 11 مع "الفتح" - الطبعة السلفية)، و (3/ 39 - 40 - طبعة مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة، ومكتبة الرياض الحديثة)، ووقع في مطبوع: "الإعلام": و"المكره"، و"الشك" بدل "والكره"، و"الشرك"، وما بين المعقوفتين سقط منه، ووقع في (ق) -أيضًا-: "والمكره" بدل "الكره".

والسكران والمجنون وأمرهما والغَلَط والنسيان في الطلاق والشرك [وغيره] لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى" (¬1)، وتلا الشعبي: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا} [البقرة: 286]، وما لا يجوز من إقرار الموسوس، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للذي أقر على نفسه: "أبك جنون" (¬2)، وقال علي: بقر حمزة [خواصر] شارفي (¬3) فطفق (¬4) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟ فعرف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قد ثمل، فخرج وخرجنا معه. وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق (¬5)، وقال ابن عباس: طلاق ¬

_ (¬1) سبق تخريجه مرارًا. (¬2) رواه البخاري (5271) في (الطلاق): باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران، والمجنون. . .، و (6815) في (الحدود): باب لا يرجم المجنون والمجنونة، و (6825) باب سؤال الإمام المقر: هل أحصنت؟، (7167) في (الأحكام): باب من حكم في المسجد. . ومسلم (1691) بعد (16) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (5272) و (6814)، و (6816)، و (6820)، و (6826)، و (7168)، ومسلم (1691) بعد (16) وما بعده دون رقم، من حديث جابر. (¬3) هو جزء من حديث طويل: رواه البخاري (2375) في (المساقاة): باب بيع الحطب والكلأ، و (3091) في (فرض الخمس أوله)، و (4003) في (المغازي): باب رقم (12)، وعفقه في (الطلاق): باب (11)، ومسلم (1979) في (الأشربة) أوله. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). وفي (د)، و (ح): "قوله: "بقر" بفتح الباء، ونخفيف القاف: أي شق، [خواصر: يقصد جنوبها]، وشارفي، تثنية شارف، وهي المسنّة من النوق، وقوله: "ثَمِل" -بفتح الثاء وكسر الميم-، أي قد أخذه الشراب" اهـ، وباختصار يسير في (ط)، و (و) بنحوه، وما بين المعقوفتين منها. (¬4) في (ق): "فقال". (¬5) رواه أبو بكر بن أبي شيبة (4/ 24 و 31)، -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 209) - وسعيد بن منصور (1112)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 359) من طريق ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبان بن عثمان، عن أبيه، قال العيني: (20/ 252): سنده صحيح، وقال أحمد في رواية صالح (2/ 115): "وهو أرفع شيء فيه" واحتج به في "مسائل عبد اللَّه" (رقم 1331) ونقل في "المغني" (7/ 115) عن ابن المنذر قوله: "هذا ثابت عن عثمان" وانظر: "الإشراف" (1/ 169). ورواه عبد الرزاق (12308) (7/ 84) من الطريق نفسه لكن لم يذكر عثمان، وأخشى أن يكون ساقطًا من المطبوع. وعزاه الحافظ في "تغليق التعليق" (4/ 454) لمسدد في "مسنده".

السكران والمستكره ليس بجائز (¬1). وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس" (¬2)، هذا لفظ الترجمة، ثم ساق بقية الباب، ولا يعرف عن رجل من الصحابة أنه خالف عثمان وابن عباس رضي اللَّه عنهم في ذلك، ولذلك رجع الإمام أحمد إلى هذا القول بعد أن كان يفتي بنفوذ طلاقه؛ فقال أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي"، و"الزاد": قال أبو عبد اللَّه في رواية الميموني: قد كنت أقول: إن (¬3) طلاق السكران يجوز، حتى تبينته (¬4)، فغلب عليَّ أنه لا يجوز طلاقه، لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه، قال: وألزمه الجناية (¬5)، وما كان من غير ذلك فلا يلزمه، قال أبو بكر: وبهذا أقول. وفي "مسائل الميموني"؛ سألت أبا عبد اللَّه عن طلاق السكران، فقال: أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه الطلاق، قلت: أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه؟ قال: بلى، ولكن أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه [الطلاق] (¬6)؛ لأني رأيته ممن لا يعقل، قلت: السكر شيء أدخله ¬

_ (¬1) قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 391 - 392): وصله ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور جميعًا عن هشيم عن عبد اللَّه بن طلحة الخزاعي، عن أبي يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ليس لسكران ولا لمضطهد طلاق"، ونحوه في "التغليق" (4/ 455). أقول: هو في "سنن سعيد بن منصور" (1143)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 38)، ولفظه عندهما: "ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق". ورواه البيهقي (7/ 385)، وابن حزم (10/ 202) من طريق هشيم أخبرنا عبد اللَّه به مقتصرًا على المكره وسقط "عن عكرمة" من "المحلى". وأقول: أبو يزيد المدني تحرف في "الفتح"، و"المصنف" ففي "الفتح": المزني، وفي "مصنف ابن أبي شيبة": ابن أبي يزيد، وصوابه: أبو يزيد المدني أو المديني، قال مالك: لا أعرفه، وقال الآجري: عن أبي داود: سألت أحمد عنه فقال: تسأل عن رجل روى عنه أيوب؟! وقال ابن معين: ثقة، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه. والعجب أن الحافظ قال فيه: مقبول!! وعبد اللَّه بن طلحة الخزاعي: ذكره البخاري، وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، قال البخاري: روى عنه هشيم، منقطع. وانظر: "المحلي" (10/ 209). ورواه عبد الرزاق (11408) -ومن طريقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 202) - عن ابن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن ابن عباس أنه كان لا يرى طلاق المكره شيئًا. (¬2) لم يذكر له الحافظ في "الفتح" وصلًا، وبيّض له أيضًا في "التغليق" (4/ 455) ولم أظفر به. (¬3) في المطبوع: "بأن". (¬4) في (ك): "تبينت". (¬5) في (ق): "بالجناية". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

على نفسه فلذلك يلزمه، قال: قد يشرب رجل البنج (¬1) أو الدواء فيذهب عقله؟ قلت: فبيعه وشراؤه وإقراره؟ قال: لا يجوز وقال في رواية أبي الحارث (¬2): أرفع شيء في حديث الزهري، عن أبان بن عثمان، عن عثمان: "ليس لمجنون ولا سكران طلاق" (¬3). وقال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا وأنا أتقي جميعها (¬4). وممن ذهب إلى القول بعدم نفوذ طلاق السكران من الحنفية أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي، وحكاه صاحب "النهاية" عن أبي يوسف وزفر. ومن الشافعية المزني وابن سُريج وجماعة ممن اتبعهما، وهو الذي اختاره الجويني في "النهاية"، والشافعي [رحمه اللَّه] نص على وقوع طلاقه (¬5)، ونص في أحد قوليه على أنه لا يصح ظهاره، فمن أتباعه من نقل عن (¬6) الظهار قولًا إلى الطلاق، وجعل المسألة على قولين، ومنهم من قرر حُكْمَ النصين ولم يفرق بطائل. والصحيح أنه لا عبرة بأقواله من طلاق ولا عتاق ولا بيع ولا هبة ولا وقف ولا إسلام ولا ردة ولا إقرار، لبضعة عشر دليلًا ليس هذا موضع ذكرها، ويكفي منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باستنكاه (¬7) ما عز لما أقرَّ بالزنا بين يديه (¬8)، وعدم أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حمزة بتجديد إسلامه لما قال في سكره: "أنتم عبيد ¬

_ (¬1) قال (و) في القاموس: "نبت مخبط للعقل، مسكن لأوجاع الأورام والبثور إلخ". ووقع في (ق): "قد يشرب الرجل البنج". (¬2) وكذا قال في رواية ابنه صالح (2/ 115). (¬3) مضى تخريجه قريبًا. (¬4) في (ك): "جميعًا". (¬5) في (د): "وقوعه طلاقه"، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬6) في (ك) و (ق): "من". (¬7) استنكهوه: أي شموا نكهته ورائحة فمه، هل شرب الخمر أم لا، وفي نسخة: "باستنكار ماعز"، وهو تحريف، انظر: "إعلام الموقعين" (ط - فرج اللَّه زكي الكردي 3/ 332) (ط)، و (د) و (و)، وانظر: "النهاية"، و"لسان العرب" (6/ 4544 - دار المعارف). (¬8) رواه مسلم (1695) في (الحدود): باب مَنْ اعترف على نفسه بالزنا، من حديث بريدة.

فصل [المخرج الثاني ويشتمل على القول في طلاق الغضبان]

لآبائي" (¬1)، وفتوى عثمان وابن عباس (¬2) -رضي اللَّه عنهما- ولم يخالفهما أحد من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، والقياس الصحيح المحض على زائل العقل بدواء أو بنج أو مسكر هو فيه معذور بمقتضى قواعد الشريعة (¬3)، فإن السكران لا قصد له، فهو أولى بعدم المؤاخذة من اللاغي ومن جرى اللفظ على لسانه من غير قصد له، وقد صرَّح أصحاب أبي حنيفة بأنه لا يقع طلاق الموسوس، وقالوا: لا يقع طلاق المعتوه (¬4)، وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون. فصل [المخرج الثاني ويشتمل على القول في طلاق الغضبان] المخرج الثاني: أن يُطلِّق أو يحلف في حال غضب شديد وقد حال بينه وبين كمال قصده وتصوره، فهذا لا يقع طلاقه ولا عتقه ولا وقفه، ولو بدرت منه كلمة الكفر في هذا الحال لم يكفر، وهذا نوع من الغلق والإغلاق الذي منع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقوع الطلاق والعتاق فيه (¬5)، نص على ذلك الإمام أحمد وغيره، قال أبو بكر عبد العزيز في كتاب "زاد المسافر" (¬6) له: باب في الطلاق في الإغلاق (¬7)، قال أحمد في رواية حنبل: وحديث عائشة -رضي اللَّه عنها-[أنها] (¬8) سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا طَلاقَ ولا عِتاقَ في إغلاق" (¬9) يعني الغضب، وبذلك فسره أبو داود [في "سننه"] عقب ذكره الحديث] (¬10)، فقال: والإغلاق أظنه الغضب (¬11). ¬

_ (¬1) مضى تخريجه قريبًا، وفي (ق): "آبائي". (¬2) مضى تخريجهما قريبًا. (¬3) في (ق) و (ك): "ومقتضى قواعد الشريعة". (¬4) في (ك): "المعتدة"!! (¬5) في حكم طلاق الغضبان، وتفسير حديث الإغلاف، انظر: "زاد المعاد" (4/ 41 - 42)، و"مدارج السالكين" (3/ 307 - 308)، و"شفاء العليل" (ص 394)، وقد مضى الحديث وتخريجه. (¬6) حاكى فيه "الجامع" لشيخه الخلال، وسمى في مقدمته الرواة عن أحمد أصحاب المسائل، وانظر: "المدخل المفصل" (1/ 457، 2/ 672) وفي المطبوع: "أبو بكر بن عبد العزيز" والمثبت من (ك) و (ق) وهو الصواب. (¬7) في المطبوع و (ك): "باب الإغلاق في الطلاق". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) سبق تخريجه. (¬10) في (ق) و (ك): "في عقيب ذكره الحديث". (¬11) قال (د)، و (ط): "في نسخة: "والغلاق أظنه الغضب"، وزاد (ط): "انظر: "إعلام الموقعين" ط - المطبعة المنيرية (4/ 42). قلت: والمبثت في (ق) و (ك) كالمثبت في النسخة المشار إليها.

[التحقيق في مسألة طلاق الإغلاق]

وقسم شيخ الإسلام [ابن تيمية قدس اللَّه روحه] الغضب إلى ثلاثة أقسام (¬1): قسم يزيل العقل كالسكر، فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب. وقسم يكون في (¬2) مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع معه الطلاق (¬3)، وقسم يشتد بصاحبه، ولا يبلغ به زوال عقله، بل يمنعه من التثبت والتروي (¬4) ويخرجه عن حال اعتداله، فهذا محل اجتهاد (¬5). [التحقيق في مسألة طلاق الإغلاق] والتحقيق أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره كالسكران والمجنون والمبرسم (¬6) والمكره والغضبان، فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق، والطلاق إنما يكون عن وَطَر، فيكون عن قصد من المطلق وتصور لما يقصده، فإن تخلف أحدهما لم يقع طلاقه (¬7)، وقد نص الإمام مالك والإمام وأحمد (¬8) في إحدى الروايتين عنه فيمن قال لامرأته: "أنت طالق ثلاثًا" ثم قال: أردت أن أقول: إن كلَّمتِ فلانًا، أو خرجت من بيتي بغير إذني، ثم بدا لي فتركت اليمين، ولم أُرِدْ التَّنجيز في الحال، إنه لا تطلق عليه، وهذا هو الفقه بعينه لأنه لم يرد التنجيز، ولم يتم اليمين. وكذلك لو أراد أن يقول: "أنت طاهر" فسبق لسانه فقال: "أنت طالق" لم يقع طلاقه، لا في الحكم الظاهر ولا فيما بينه وبين اللَّه عز وجل (¬9)، نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين، والثانية لا يقع ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع الفتاوى" (14/ 116 - 118)، و"تيسير الفقه الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية" (2/ 789 - 891) تأليف د/ أحمد موافي، و"الاختيارات الفقهية" (ص 254 - 255)، وانظر للمصنف: "زاد المعاد" (5/ 215 - ط مؤسسة الرسالة)، و"إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان" (ص 39 - ط المكتب الإسلامي)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) سقط من (ك). (¬3) في (ق): "يقع منه الطلاق"، وفي (ك): "فهذه" بدل "فهذا". (¬4) قال (د): "في جميع المطبوعات: "والتردي" تحريف". (¬5) قال المصنف -رحمه اللَّه- في "الزاد": "وعدم الوقوع في هذه الحالة قوي متجه". (¬6) المبرسم: هو المصاب بمرض "البرسام"، وهو ورم حاد في الحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، ثم يتصل بالدماغ، فيهذي منها المريض. انظر: "اللسان" (1/ 257 - دار المعارف)، و"معجم مقاييس اللغة" (1/ 272). (¬7) في المطبوع: "لم يقع طلاق". (¬8) في المطبوع: "مالك والإمام أحمد". (¬9) في المطبوع و (ك): "وبين اللَّه تعالى".

فصل [المخرج الثالث ويشتمل على القول في طلاق المكره]

فيما بينه وبين اللَّه عز وجل، ويقع في الحكم، وهذا إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وقال ابن أبي شيبة: ثنا محمد بن مروان، عن عمارة: سُئل جابر بن زيد عن رجل غلط بطلاق امرأته، فقال: ليس على المؤمن غلط (¬1)، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، [عن جابر]، عن عامر في رجل أراد أن يتكلم في شيء فغلط، فقال الشعبي: ليس بشيء (¬2). فصل [المخرج الثالث ويشتمل على القول في طلاق المكره] المخرج الثالث: أن يكون مُكْرهًا على الطلاق أو الحلف به عند جمهور الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول أحمد ومالك الشافعي وجميع أصحابهم، على اختلاف بينهم في حقيقة الإكراه وشروطه (¬3)، قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: يمين المستكره إذا ضرب، ابن عمر و [ابن الزبير] (¬4) لم يرياه شيئًا، وقال في رواية [أبي] الحارث: إذا طلَّق المكره لم يلزمه الطلاق، فإذا (¬5) فعل به كما فعل بثابت بن الأحنف فهو مكره؛ لأن ثابتًا عصروا رجله حتى طلَّق، فأتى ابن عمر و [ابن الزبير] (4) فلم يريا ذلك شيئًا (¬6)، وكذا قال اللَّه تعالى: ¬

_ (¬1) هو في "مصنفه" (4/ 62 - دار الفكر)، ورجاله ثقات غير محمد بن مروان، شيخ ابن أبي شيبة ففيه كلام. (¬2) هو فيه أيضًا (4/ 62)، لكن وقع في المطبوع زيادة جابر بين إسرائيل وعامر، وهو الصحيح؛ حيث إن إسرائيل لا يروي عن الشعبي مباشرة بينهما واسطة، وجابر هو الجعفي ضعيف. (¬3) انظر: "المغني" (8/ 259 - 263 و 396 - 398 - الشرح الكبير)، و"مجموع الفتاوى" (33/ 110)، و"زاد المعاد" (5/ 207 - 215 - مؤسسة الرسالة)، و"المدوّنة" للإمام مالك (3/ 29 - رواية سحنون)، و"شرح الخرشي على مختصر خليل، (3/ 173)، و"حاشية الدسوقي على الشرح الكبير" (2/ 134، 367 و 370)، و"بداية المجتهد" لابن رشد (2/ 135 - 136 - ط طه عبد الرؤوف سعد)، و"المهذّب" للشيرازي (2/ 79 - الفكر)، و"تكملة شرح المجموع" للمطيعي (18/ 208 - 210 - دار إحياء التراث)، و"مغني المحتاج" (3/ 289)، و"فتح القدير" (3/ 488)، لابن الهمام، و"رد المحتار على الدر المخنار" (2/ 373 - و 4/ 117)، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 182)، و"المحلى"، لابن حزم (8/ 332 - 335). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "ابن عباس". (¬5) في (ق): "إذا". (¬6) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 587)، وعبد الرزاق (11410، 11411، 11412، 11413)،=

[رأي علي وغيره من الصحابة والأئمة في طلاق المكره]

{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال الشافعي -رضي اللَّه عنه- (¬1): "قال اللَّه عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وللكفر أحكام، فلما وضعها اللَّه سبحانه عنه (¬2) سقطت أحكام الإكراه عن القول كله؛ لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه"، وفي "سنن ابن ماجه"، و"سنن البيهقي" من حديث بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه وضع عن أمتي"، وقال البيهقي: "تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬3)، وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه تجاوز لأمتي ما توسوس به صدورها، ما لم تعمل به أو تتكلم به" زاد ابن ماجه: "وما استكرهوا عليه" (¬4). [رأي علي وغيره من الصحابة والأئمة في طلاق المكره] وقال (¬5) الشافعي رحمه اللَّه: "روى حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن عليًا (¬6) قال: لا طلاق لمكره (¬7)، وذكر الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير ¬

_ = وابن سعد في "الطبقات" (5/ 308)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 358) من طرق عن ثابت بن الأحنف، وسنده صحيح. (¬1) كلامه في "الأم" (2/ 210) ونحوه في (8/ 69 - 70) وطلاق المكره فيه (7/ 160)، ونقل المذكور عنه البيهقي في: "أحكام القرآن" (224) وفي (ق): "رحمه اللَّه". (¬2) في المطبوع و (ك): "فلما وضعها اللَّه تعالى عنه". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) رواه البخاري (2528) في (العتق): باب الخطأ والنسيان في العتاقة والطلاق. . .، و (5269) في (النكاح): باب الطلاق في الإغلاق، والكره، والسكران، و (6664) في (الأيمان): باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان. ومسلم (127) في (الإيمان): باب تجاوز اللَّه عن حديث النفس، والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، وابن ماجه (2040) في الطلاق باب من طلق في نفسه ولم يتكلم به، و (2044) باب طلاق المكرة والناسي من حديث أبي هريرة، والزيادة التي ذكرها المصنف عند ابن ماجه في الموطن الثاني. (¬5) في (ك): "قال" دون واو. (¬6) في المطبوع: "عليًا كرم اللَّه وجهه". (¬7) رواه ابن أبي شيبة في: "مصنفه" (4/ 38) عن وكيع ويزيد بن هارون عن حماد بن سَلَمَة به ورواته ثقات لكن الحسن لم يسمع من علي كما قال غير واحد. ورواه البيهقي (7/ 357) من طريق الشافعي، وعلقه ابن حزم (10/ 202) من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة به، وهو في: "مصنف عبد الرزاق" (11414) عن حماد بن سلمة.

[أن] (¬1) ابن عباس: لم يجز طلاق المكره" (¬2)، وذكر أبو عبيد (¬3) عن علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وعبد اللَّه بن [عبيد بن] (¬4) عمير أنهم كانوا يرون طلاقه غير جائز. وقال ابن أبي شيبة: ثنا عبد اللَّه بن طلحة (¬5)، عن أبي يزيد المديني (¬6) عن ابن عباس قال: ليس على المكره ولا المضطهد طلاق (¬7)، وحدثنا أبو معاوية، عن عبد اللَّه بن عمير، عن ثابت مولى أهل المدينة، عن ابن عمر وابن الزبير كانا لا يريان طلاق المكره شيئًا (¬8)، ثنا وكيع، عن الأوزاعي، عن رجل، عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه لم يره شيئًا (¬9). ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "و"، وفي (ك): "أو". (¬2) مضى تخريجه. (¬3) في "غريب الحديث" (3/ 322) وعنه البيهقي (7/ 359)، ونقله البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، انظر ما تقدم عند المصنف. وأسنده عبد الرزاق (6/ 406 - 407) عن عطاء وطاوس والحسن وأبي الشعثاء وعمر بن عبد العزيز. (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬5) في جميع النسخ: "ابن أبي طلحة"، وصوابه حذف"أبي" كما في مصادر التخريج، وكتب الرجال. (¬6) في (ق): "المدني". (¬7) هو في "مصنفه" (4/ 38). وقد تقدم الكلام على هذا الإسناد وذكر ما يشهد له فانظره. ولفظ الأثر في (ق) و (ك): "ليس لمكره ولا لمضطهد". (¬8) "المُصنَّف" (3/ 38) لكن إسناده فيه حدثنا أبو معاوية عن عبد اللَّه بن عمرو والزبير، قال: كانا لا يريان في طلاق المكره شيئًا. هكذا معضلًا بين أبي معاوية والصحابيين. وأما الإسناد الذي ذكره ابن القيم هنا، فثابت هذا لم أتبين من هو، وعبد اللَّه بن عمير أظنه أخو عبد الملك، ذكره ابن أبي حاتم في "كتابه"، ونقل عن أبيه أنه مجهول. وأشار ناسخ (ق) في الهامش إلى أنه في نسخة: "عبد اللَّه بن عمر"، وهو كذلك في (ك). وعلقه ابن حزم في "المحلى" (10/ 202) من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن ثابت الأعرج به. ورواه عبد الرزاق (11409) عن معمر عن أيوب أن ابن الزبير لم يره (طلاق المكره) شيئًا. (¬9) "المصنف" (4/ 38)، وفيه الرجل المُبهم. ووقع في (ق): "عن ابن عمر" بدل "عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-".

[تحقيق رأي عمر في طلاق المكره]

[تحقيق رأي عمر في طلاق المكره] قلت: قد اختلف على عمر، فقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم الجمحي، عن أبيه، أن رجلًا تَدَلّى يَشْتَارُ عسلًا في زمن عمر -رضي اللَّه عنه-، فجاءته امرأته فوقفت على الحبل، فحلفت لتقطعنَّه، أو لتطلقني ثلاثًا، فذكَّرها اللَّه والإسلام، فأبت إلا ذلك، فطلَّقها ثلاثًا، فلما ظهر أتى عمر فذكر له ما كان منها إليه و [ما كان] منه إليها، فقال: ارجع إلى أهلك فليس (¬1) هذا بطلاق (¬2)، تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك (¬3)، وهو المشهور عن عمر. وقال أبو عبيد: حدثني يزيد، عن عبد الملك بن قدامة، عن أبيه، عن عمر بهذا، لكنه (¬4) قال: فرفع إلى عمر فأبانها منه (¬5)، قال أبو عبيد: "وقد روي عن عمر خلافه"، ولم يصح عن أحد من الصحابة تنفيذ طلاق المكره سوى هذا الأثر عن عمر، وقد اختلف فيه عنه، والمشهور أنه ردها إليه (¬6)، ولو صح إبانتها (¬7) منه لم يكن صريحًا في الوقوع، بل لعله رأى من المصلحة التفريق بينهما، وأنهما لا يتصافيان بعد ذلك، فألزمه بإبانتها. [رأي شريح وإبراهيم والشعبي] ولكن الشعبي (¬8) وشريح (¬9) وإبراهيم (¬10) يجيزون طلاق المكره حتى قال ¬

_ (¬1) في (ك): "وليس". (¬2) رواه البيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 357) من طريق الحسن بن علي بن زياد ثنا ابن أبي أويس به، قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 216): وهو منقطع؛ لأن قدامة لم يدرك عمرًا. ووقع في (ق): "عبد الملك بن أبي قدامة"، وما بين المعقوفتين منها. (¬3) ذكر هذه المتابعة البيهقي في "سننه" (7/ 357)، وابن حزم في "محلاه" (10/ 202). (¬4) في المطبوع: "ولكنه". (¬5) أخرجه أبو عبيد في "الغريب" (3/ 323) ومن طريقه البيهقي (7/ 357)، وقال: "وقد روي عن عمر خلافه"، والحديث منقطع، ومعنى يشتار: يجتني، وانظر: "مسند الفاروق" (1/ 416 - 417). (¬6) وكذا قال ابن كثير في "مسند الفاروق" (1/ 417). (¬7) في (ق): "فأبانها". (¬8) نقل عنه البخاري في "صحيحه" خلاف المذكور عنه هنا، انظر (9/ 388 - مع "الفتح"). وسيأتي عنه تفصيل قريبًا. (¬9) روى سعيد بن منصور -ومن طريقه البيهقي (7/ 359) - وعبد الرزاق (11423) عن شريح قال: القيد كره، والوعيد كره، والسجن كره. (¬10) روى سعيد بن منصور (1130) وعبد الرزاق (11419) عن إبراهيم أنه كان يرى طلاق المكره جائزًا: وانظر: "المحلى" (10/ 203).

[مذهب ثالث عن الشعبي]

إبراهيم: لو وضع السيف على مفرقه ثم طلق لأجزت طلاقه. [مذهب ثالث عن الشعبي] وفي المسألة مذهب ثالث، قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي في الرجل يُكره على أمر من أمر العتاق أو الطلاق، فقال: إذا أكرهه السلطان جاز، وإذا أكرهه اللصوص لم يجز. ولهذا القول غور وفقه دقيق لمن تأمله. فصل [المكره يظنُّ أن الطلاق يقع به فينويه] واختلفوا في المكره يظن أن الطلاق يقع به فينويه، هل يلزمه؟ على قولين وهما وجهان للشافعية، فمن ألزمه رأى أن النية قد قارنت اللفظ، وهو لم يكره على النية، فقد أتى بالطلاق المنويّ اختيارًا فلزمه، ومن لم يلزمه [به] (¬2) رأى أن لفظ المكره لغو لا عبرة به، فلم يبق إلا مجرد النية، وهي لا تستقل بوقوع الطلاق. فصل [المكره يمكنه التورية فلا يوري] واختلف في ما لو أمكنه التورية فلم يُوَرِّ، والصحيح أنه لا يقع به الطلاق (¬3) وإن تركها، فإن اللَّه سبحانه (¬4) لم يوجب التورية على من أكره على كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، مع أن التورية هناك أولى، ولكن المكره إنما لم يعتبر لفظه لأنه غير قاصد لمعناه، ولا مريد لموجبه، وإنما تكلم به فداء لنفسه من ضرر الإكراه، فصار تكلمه باللفظ لغوًا (¬5) بمنزلة كلام المجنون والنائم ومن لا قصد له، ¬

_ (¬1) في "المصنّف" (4/ 40)، ورجاله ثقات، وحصين: هو ابن عبد الرحمن، تحرَّف في المطبوع، من "مصنف ابن أبي شيبة" إلى حسين. ورواه سعيد بن منصور (1132، 1133) عن هشيم وابن عيينة وأبي عوانة عن حصين به، ورواه عبد الرزاق (11422) عن الثوري وابن عيينة عن زكريا عن الشعبي به. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "لا يقع به طلاق". (¬4) في المطبوع: "تعالى". (¬5) في (ق): "لغو"!.

فصل [المخرج الرابع: ويشتمل على حكم الاستثناء في الطلاق]

سواء (¬1) ورَّى أولم يُوَرِّ، وأيضًا فاشتراط التورية إبطال لرخصة التكلم مع الإكراه، ورجوع إلى القول بنفوذ طلاق المكره، فإنه لو ورَّى بغير إكراه لم يقع طلاقه، والتأثير إذًا إنما هو للتورية لا للإكراه، وهذا باطل، وأيضًا (¬2) فإن المورّيَ إنما لم يقع طلاقه مع قصده للتكلم باللفظ؛ لأنه لم يقصد مدلوله، وهذا المعنى بعينه ثابت في الإكراه، فالمعنى الذي منع من النفوذ في [التورية هو الذي منع النفوذ في] (¬3) الإكراه. فصل [المخرج الرابع: ويشتمل على حكم الاستثناء في الطلاق] المخرج الرابع: أن يستثني في يمينه أو طلاقه، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء (¬4)، فقال الشافعي وأبو حنيفة [رحمهما اللَّه] (¬5): يصح الاستثناء في الإيقاع والحلف، فإذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه"، أو "أنت حرة إن شاء اللَّه"، أو "إن كلَّمتِ فلانًا فأنت طالق إن شاء اللَّه"، أو "الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا إن شاء اللَّه"، أو "أنت عليَّ حرام أو الحرام يلزمني إن شاء اللَّه" نفعه الاستثناء، ولم يقع به طلاق في ذلك [كله] (3). ثم اختلفا في الموضع الذي يعتبر فيه الاستثناء، فاشترط أصحاب أبي حنيفة اتصاله بالكلام فقط، سواء نواه من أوله أو قبل الفراغ من كلامه أو بعده. وقال أصحاب الشافعي: إن عقد اليمين ثم عنَّ له الاستثناء لم يصح، وإن عَنَّ له الاستثناء في أثناء اليمين فوجهان: أحدهما: يصح. والثاني: لا يصح. وإن نوى الاستثناء مع عقد اليمين صح وجهًا واحدًا، وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن سليمان بن داود -رضي اللَّه عنه- (¬6) قال: لأطوفنَّ الليلة على كذا وكذا امرأة تحمل كل امرأة منهنَّ غلامًا يقاتل في سبيل اللَّه، فقال له المَلَك الموكل به: قل: إن شاء اللَّه، فلم يقل، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فسواء". (¬2) في (ق): "أيضًا" دون واو. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر: مباحث الاستثناء في "بدائع الفوائد" (3/ 56 - 76) مهم، و"شفاء العليل" (ص 103)، و"مدارج السالكين" (2/ 431)، و"زاد المعاد" (2/ 182). (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬6) في (ق): "-صلى اللَّه عليه وسلم-".

قالها لقاتلوا في سبيل اللَّه [فرسانًا] أجمعون" (¬1)، وهذا صريح في نفع الاستثناء المقصود بعد عقد اليمين. وثبت في "السنن" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "واللَّه لأغزون قريشًا، واللَّه لأغزون قريشًا، واللَّه لأغزون قريشًا"، ثم سكت قليلًا ثم قال: "إن شاء اللَّه" ثم لم يغزهم (¬2)، رواه أبو داود. وفي "جامع الترمذي" من حديث ابن عمر [-رضي اللَّه عنهما-] (¬3) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حلف على يمين فقال: إن شاء اللَّه فلا حنث عليه" (¬4)، وقد قال تعالى: {ولَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) ¬

_ (¬1) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) رواه أحمد (2/ 10، 49، 68، 126، 127) والدارمي (2/ 185)، والحميدي (690 - ط الأعظمي و 707 - ط حسين أسد)، وأبو داود (3261)، والترمذي (1531)، والنسائي (7/ 25) كلهم في (الأيمان والنذور): باب الاستثناء في اليمين، وابن ماجه (2106) في (الكفارات): باب الاستثناء في اليمين، وابن الجارود (928)، وابن حبان (4339، 4340، 4342)، والطحاوي في "المشكل" (1920، 1921، 1922، 1923)، والشافعي في "الأم" (7/ 62)، والبيهقي (7/ 360 - 361 و 10/ 46) وفي "المعرفة" (14/ 170 رقم 19515) من طريق حماد بن سلمة، وسفيان بن عينية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر به، ولفظ الترمذي: "من حلف على يمين فقال: إن شاء اللَّه فقد استثنى، فلا حنث عليه". ورواه ابن حزم في "المحلى" (8/ 45) من طريق عبد الوارث بن سعيد التنوري عن أيوب به مرفوعًا، وعلقه (8/ 47) عن معمر عن أيوب ووقفه، وهو كذلك في "مصنف عبد الرزاق" (16113) وقرن في (16115) عن معمر الثوري. قال الترمذي: "حديث ابن عمر حديث حسن، وقد رواه عبيد اللَّه بن عمر وغيره، عن نافع، عن ابن عمر موقوفًا، وهكذا روي عن سالم، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنه- موقوفًا، ولا نعلم أحدًا رفعه غير أيوب السختياني، وقال إسماعيل بن إبراهيم: كان أيوب أحيانًا يرفعه، وأحيانًا لا يرفعه". وقال البيهقي: "وقد روي عن موسى بن عقبة، وعبد اللَّه بن عمر، وحسان بن عطية، وكثير بن فرقد، عن نافع، عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا يكاد يصح رفعه إلا من جهة أيوب السختياني، وأيوب شكَّ فيه أيضًا. ورواية الجماعة من أوجه صحيحة عن نافع عن ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- من قوله غير مرفوع، واللَّه أعلم". ثم أسند عن حماد بن زيد قال: كان أيوب يرفعه ثم تركه، وقد رواه البيهقي (10/ 46) من طريق عبد اللَّه بن عمر، ومالك، وأسامة بن زيد، عن نافع موقوفًا. أقول: رواه مرفوعًا عن نافع عن ابن عمر جماعة منهم: أولًا: أيوب بن موسى: =

إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] فهذه النصوص الصحيحة لم يشترط في شيء منها البتة (¬1) في صحة الاستثناء ونفعه أن ينويه مع الشروع في اليمين ولا قبلها، بل حديث سليمان صريح في خلافه، وكذلك حديث: "لأغزون قريشًا"، وحديث ابن عمر متناول (¬2) لكل من قال: إن شاء اللَّه بعد يمينه، [سواء] (¬3) نوى الاستثناء قبل الفراغ أو لم ينوه، والآية دالة على نفع ¬

_ = رواه ابن حبان في "صحيحه" (4340)، والبيهقي (10/ 46) من طريق ابن أبي شيبة، وابن وهب، عن سفيان بن عيينة عنه به، ورجاله كلهم ثقات، لكن أصحاب سفيان رووه كلهم عنه عن أيوب السختياني به، كما ذكرناه من قبل. قال البيهقي: وإنما يعرف هذا الحديث مرفوعًا من حديث أيوب السختيانى. ثانيًا: كثير بن فرقد: رواه النسائي (7/ 25)، والحاكم (4/ 303)، والطحاوي في "المشكل" (1924) من طريق ابن وهب، عن عمر بن الحارث عنه، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وكثير هذا ثقة، روى له البخاري. لكن رأيت ابن وهب يروي الحديث على أوجه! ثم هو رواه عن مالك وغيره موقوفًا عند البيهقي (10/ 46). ثالثًا: حسان بن عطية: رواه الطبراني في "الأوسط" (3099 - ط الطحان)، وأبو نُعيم في "الحلية" (6/ 79)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 88) من طريق عمرو بن هاشم عن الأوزاعي عنه نحوه. قال الطبراني: "لم يروه عن الأوزاعي إلا عمرو بن هاشم". وقال أبو نعيم: "غريب من حديث الأوزاعي وحسان، تفرد برفعه عمرو بن هاشم البيروتي". أقول: عمرو هذا قال عنه الحافظ صدوق يخطيء. رابعًا: موسى بن عقبة: رواه ابن عدي في "الكامل" (3/ 954) من طريق داود بن عطاء عنه، وداود هذا قال فيه ابن عدي: وفي حديثه بعض النكرة. وخالفه شجاع بن الوليد، فرواه عن ابن عقبة ووقفه. رواه الطحاوي في "المشكل" (5/ 181) ورواه مالك (2/ 477) عن نافع موقوفًا. ورواه عبد الرزاق (16111) عن عبد اللَّه بن عمرو (16112) عن عبيد اللَّه بن عمرو كلاهما عن نافع به موقوفًا ومال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (8/ 199) إلى صحّة رفعه، واللَّه أعلم، وانظر ما قبله و"فتح الباري" (11/ 605 - 606) و"التلخيص الحبير" (4/ 168) و"نصب الراية" (3/ 301). خامسًا وسادسًا: صخر بن جويرية ووهيب بن خالد، رواه عبد بن حميد (779) أنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي عنهما به. (¬1) في (ك): "النية". (¬2) في (ق) و (ك): "يتناول". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "و".

الاستثناء مع النسيان أظهر دلالة، ومن شرط النية قبل الفراغ لم يكن لذكر الاستثناء بعد النسيان عنده تأثير. وأيضًا فالكلام بآخره، وهو كلام [واحد] (¬1) متصل بعضه ببعض، فلا (¬2) معنى لاشتراط النية في أجزائه وأبعاضه، وأيضًا فإن الرجل قد يستحضر بعد فراغه من الجملة ما يرفع بعضها، ولا يذكر ذلك في حال تكلّمه بها، فيقول: لزيد عندي ألف درهم، ثم في الحال يذكر أنه قضاه منها مئة فيقول: إلا مئة، فلو اشترط نية الاستثناء قبل الفراغ لتعذر عليه استدراك ذلك وألجئ إلى الإقرار بما لا يلزمه والكذب [فيه] (¬3). وإذا كان هذا في الإخبار فمثله في الإنشاء سواء، فإن الحالف قد يبدو له فيعلِّق اليمين بمشيئة اللَّه، وقد يذهل في أول كلامه عن قصد الاستثناء، أو يشغله شاغل عن نيته، فلو لم ينفعه الاستثناء حتى يكون ناويًا له من أول يمينه لفات مقصود الاستثناء، وحصل الحرج الذي رفعه اللَّه تعالى عن الأمة به، ولما قال لرسوله إذا نسيه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وهذا متناول لذكره إذا نسي الاستثناء قطعًا، فإنه سب النزول (¬4)، ولا يجوز إخراجه وتخصصيه لأنه مراد قطعًا، وأيضًا فإن صاحب هذا القول إن طرده لزمه ألا يصح مخصِّص من صفة أو بدل أو غاية أو استثناء بإلا ونحوها حتى ينويه المتكلم من أول كلامه، فإذا قال: له عليّ ألف مؤجلة إلى سنة" هل يقول عالم: إنه لا يصح وصفها بالتأجيل حتى يكون منويًا من أول الكلام؟ وكذلك إذا قال: "بعتك هذا بعشرة" فقال: "اشتريته على أن لي الخيار ثلاثة أيام" يصح هذا الشرط وإنْ لم ينوه من أول كلامه، بل عَنَّ له الاشتراط عقيب القبول. ومثله لو قال: "وقفت داري على أولادي أو غيرهم بشرط كونهم فقراء مسلمين (¬5)، أو متأهلين، وعلى أنه من مات منهم فنصيبه لولده أو للباقين" (¬6) صح [له] (¬7) ذلك وإن عنَّ له ذكر هذه الشروط بعد تلفظه بالوقف. ولم يقل أحد: لا تقبل منه هذه الشروط إلا أن يكون قد نواها قبل الوقف أو معه، ولم يقع في زمن من الأزمنة [قط] (¬8) سؤال الواقفين عن ذلك، وكذلك لو قال: "له عَلَيَّ مئة درهم إلا عشرة" فإنه يصح الاستثناء، وينفعه، ولا يقول له الحاكم: "إنْ كنتَ نويتَ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع و (ك): "ولا". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر: "لباب النقول" (ص 144) للسيوطي. (¬5) في (ق) و (ك): "فقراء أو مسلمين". (¬6) في (ق): "لولده وللباقين". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

الاستثناء من أول كلامك لزمك تسعون، وإنْ كنتَ إنما نويته بعد الفراغ لزمك مئة" ولو اختلف الحال لبيَّن له الحاكم (¬1) ذلك، ولساغ له أن يسأله بل (¬2) يُحَلِّفُه أنه نوى ذلك قبل الفراغ إذا طلب المقرُّ له ذلك، وكذلك (¬3) لو ادّعى عليه أنه باعه أرضًا فقال: نعم بعته هذه الأرض إلا هذه البقعة، لم يقل أحد: إنه قد أقر [له] (¬4) ببيع الأرض جميعها إلا أن يكون قد نوى استثناء البقعة في أول كلامه، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مكة: "إنه لا يختلى خلاها" (¬5) فقال له العباس: "إلا الإذْخِر" فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم قال: "إلا الإذخر" (¬6)، وقال في أسرى بدر: "لا ينفلت أحد منهم إلا بفداء أو ضربة (¬7) عنق" فقال له ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فقال: "إلا سهيل بن بيضاء" (¬8)، ومعلوم أنه لم ينو واحدًا من هذين ¬

_ (¬1) في (ك): "الحاكم له". (¬2) في (ق): "أو". (¬3) في (ك): "ولذلك". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق) و (ك). (¬5) "الخلا: النبات الرطب الرقيق ما دام رطبًا. يختلى: يقطع. الإذخر: الحشيش الأخضر، وحشيش طيب الريح" (و). (¬6) رواه البخاري (112) في (العلم): باب كتابة العلم، و (2434) في (اللقطة): باب كيف تصرف لقطة أهل مكة، و (6880) في (الديات): باب من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين، ومسلم (1355) في (الحج): باب تحريم مكة وصيدها، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (1349) في (الجنائز): باب الإذخر والحشيش في القبر، (1587) في (الحج): باب فضل الجهاد والسير، و (1833) في (جزاء الصيد): باب لا ينفر صيد الحرم، و (1834) باب لا يحل القتال بمكة، (2090) في (البيوع): باب ما يكره من الحلف في البيع، و (2433) في (اللقطة): باب كيف تعرف اللقطة و (2783) في الجهاد والسير: باب فضل الجهاد والسير، و (2825) باب وجوب النفير، و (3189) في (الجزية والموادعة): باب إثم الغادر للبر والفاجر، و (4313) في (المغازي)، ومسلم (1353) في (الحج): باب تحريم مكة وصيدها وخلاها من حديث ابن عباس. (¬7) في (ق): "ضرب". (¬8) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 383 و 383 - 384)، والترمذي (3084) في (تفسير القرآن): باب ومن سورة الأنفال وذكره في (1714) في (الجهاد): ولم يسق لفظه، وأبو يعلى (5187)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10258)، والحاكم (3/ 21 - 22)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 207 - 208)، والطبري (16293)، وابن أبي شيبة (14/ 370)، والبيهقي (6/ 321) من طريق عمرو بن مرة عن أبي عبيدة بن عبد اللَّه بن مسعود عن أبيه، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي!. وقال الهيثمي في "المجمع" (6/ 87): وفيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات. أقول: كون رجاله ثقات لا ينفع في تصحيحه ما دام أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، =

[شبهة من اشترط النية قبل الاستثناء]

الاستثناءين في أول كلامه، بل أنشأه (¬1) لما ذُكِّر به، كما أخبر عن سليمان بن داود صلى اللَّه عليهما أنه لو أنشأه (¬2) بعد أن ذكَّره به الملك نفعه ذلك (¬3). [شبهة من اشترط النية قبل الاستثناء] وشبهة مَنْ اشترط ذلك أنه إذا لم ينو الاستثناء من أول كلامه فقد لزمه موجب كلامه، فلا يقبل منع رفعه (¬4)، ولا رفع بعضه [بعد لزومه] (¬5). وهذه الشبهة لو صحت لما نفع الاستثناء في طلاق ولا عتاق ولا إقرار البتة، نواه أو لم ينوه؛ لأنه إذا لزمه موجب كلامه لم يقبل منه رفعه ولا رفع بعضه بالاستثناء، وقد طرد هذا بعض الفقهاء فقالوا: لا يصح الاستثناء في الطلاق توهمًا لصحة هذه الشبهة. [جواب الشبهة] وجوابها [أنه] (¬6) إنما يلزمه موجب كلامه إذا اقتصر عليه، فأما إذا وصله بالاستثناء أو الشرط ولم يقتصر على ما دونه فإن موجب كلامه ما دل عليه سياقه وتمامه من تقييد باستثناء أو صفة أو شرط أو بدل أو غاية، فتكليفه نية (¬7) ذلك التقييد من أول الكلام وإلغاؤه إن لم ينوه أولًا تكليف ما لا يكلفه اللَّه به ولا رسوله ولا يتوقف صحة الكلام عليه، [وباللَّه التوفيق] (5). ¬

_ = وليس العجب أن يصحح الحاكم الحديث، ولكن العجب أن يصححه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (2/ 90) في ترجمة سهيل. ومن المستثنى؟ هل هو سهل بن بيضاء أم سهيل؟ في هذا بحث، والموجود في جميع مصادر التخريج: سهيل إلا في رواية عند أحمد، أما محقق "مسند أبي يعلى"، فضبطه سهل اعتمادًا على ترجيحه مع أنه في الأصول المخطوطة لأبي يعلى: "سهيل"!! كما قال هو، وقد ذكره الحافظ في ترجمة سُهَيل. ووقع في (ق): "أو ضرب عنق". (¬1) في (د): "استثناه: وعلق قائلًا: "في نسخة بل أنشأه لما ذكر به"، وهي أوفق لما يذكره بعده". (¬2) في (ق): "أنشأ" وفي (ك): "أنشأ إنشاءً الاستثناء". وفيها: "ذكر" بدل "ذكره". (¬3) سبق تخريجه قريبًا. (¬4) في (ق): "فلا يقبل منه رفعه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ك): "منه".

فصل [رأي مالك]

فصل [رأي مالك] وقال مالك: لا يصح الاستثناء في إيقاعهما، ولا الحلف بهما، ولا الظهار ولا الحلف به، ولا النذر، ولا في شيء من الأيمان، إلا في اليمين باللَّه تعالى وحده. [رأي أحمد] وأما الإمام أحمد فقال أبو القاسم الخرقي (¬1): وإذا استثنى في العتاق والطلاق (¬2) فأكثر الروايات عن أبي عبد اللَّه أنه توقف عن الجواب (¬3)، وقد قطع في مواضع [أخر] (¬4) أنه لا ينفعه الاستثناء، فقال في رواية ابن منصور: من حلف فقال: "إن شاء اللَّه" لم يحنث، وليس له استثناء في الطلاق والعتاق، وقال في رواية أبي طالب إذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه" [لم] (¬5) تطلق، وقال في رواية [أبي] (¬6) الحارث: إذا قال لامرأته: "أنت طالق إن شاء اللَّه": الاستثناء إنما يكون في الأيمان. قال الحسن وقتادة وسعيد بن المسيب: ليس له ثنيا في الطلاق. وقال قتادة: وقوله: "إن شاء اللَّه" قد شاء اللَّه الطلاق حين أذن فيه، وقال في رواية حنبل: من حلف فقال: "إن شاء اللَّه" لم يحنث، وليس له استثناء في الطلاق والعتاق، قال (¬7) حنبل: لأنهما ليسا من الإيمان، وقال صاحب "المغني" (¬8) [وغيره] (5): وعنه ما يدل على أن الطلاق لا يقع وكذلك العتاق. [في هذه المسألة ثلاث روايات عن أحمد بن حنبل] فعلى هذا يكون عنه في المسألة ثلاث روايات: الوقوع، وعدمه، والتوقف ¬

_ (¬1) في "مختصره" (13/ 488/ 1798 مع "المغني" - ط هجر). (¬2) في (ق) و (ك): "في الطلاق والعتاق". (¬3) في (ق): "توقف في الجواب". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وفي (ق): "موضع" بدل "مواضع". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق)، وأبو الحارث هو أحمد بن محمد الصائغ، قال الخلال: "روى عن أبي عبد اللَّه مسائل كثيرة، بضعة عشرة جزءًا، وجوّد الرواية عن أبي عبد اللَّه"، انظر: "طبقات الحنابلة" (1/ 74 - 75) و"المنهج الأحمد" (1/ 363). (¬7) في (ق): "وقال". (¬8) انظره (13/ 488/ 1798 - ط هجر).

[تعليق الطلاق على فعل يقصد به الحض والمنع]

فيه، وقد قال في رواية الميموني: إذا قال لامرأته: "أنت طالق يوم أتزوج بك إن شاء اللَّه" ثم تزوجها لم يلزمه شيء، ولو قال لأمة: "أنت حرة يوم أشتريك إن شاء اللَّه" صارت حرة، فلعل أبا حامد الإسفرائيني وغيره ممن حكى عن أحمد الفرق بين "أنت طالق إن شاء اللَّه" فلا تطلق "وأنت حرة إن شاء اللَّه" فتعتق استند [إلى] (¬1) هذا النص، وهذا من غلطه على أحمد، بل هذا تفريق منه بين صحة تعليق العتق على الملك وعدم صحة تعليق الطلاق على النكاح، وهذا قاعدة مذهبه، والفرق عنده أن الملك قد شرع سببًا لحصول العتق كملك ذي الرحم المحرم، [وقد يعقد البيع سببًا لحصول العتق اختيارًا كشراء من يريد عتقه في كفارة أو قربة أو فداء كشراء قريبه، ولم يشرع اللَّه النكاح سببًا لإزالته البتة، فهذا فقهه وفرقه] (1)، فقد (¬2) أطلق القول بأنه لا ينفع الاستثناء في إيقاع الطلاق والعتاق (¬3)، وتوقف في أكثر الروايات عنه، فتخرَّج المسألة على وجهين صرح بهما الأصحاب، وذكروا وجهًا ثالثًا، وهو: أنه إنْ قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة لم تطلق، وإن قصد التبرك أو التأدب (¬4) طلقت، وقيل عن أحمد: يقع العتق دون الطلاق، ولا يصح هذا التفريق عنه، بل هو خطأ عليه. قال شيخنا (¬5): وقد روي في الفرق حديث موضوع على معاذ بن جبل يرفعه (¬6). [تعليق الطلاق على فعل يقصد به الحض والمنع] فلو علَّق الطلاق على فعل يقصد به الحض أو المنع كقوله: "أنت طالق إن كلَّمت فلانًا إن شاء اللَّه" فروايتان منصوصتان عن الإمام أحمد. إحداهما (¬7): ينفعه الاستثناء، ولا تطلق إن كلمت فلانًا، وهو قول أبي عبيد (¬8)؛ لأنه بهذا التعليق قد صار حالفًا، وصار تعليقه يمينًا باتفاق الفقهاء، فصح (¬9) استثناؤه فيها لعموم النصوص المتناولة للاستثناء في الحلف واليمين. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "وقد". (¬3) في (ك): "ولا العتاق". (¬4) في (ق): "التبرك والتأدب". (¬5) في "مجموع الفتاوى" (35/ 282 - فما بعدها) بنحوه، وبعدها في (ك) و (ق): "قد" دون واو. (¬6) سيأتي لفظه وتخريجه قريبًا. (¬7) في (ق): "إحديهما". (¬8) في المطبوع: "أبي عبيدة". (¬9) في (ك): "فيصح".

[لم يجعل ابن تيمية الكفارة في يمين الطلاق]

والثانية: لا يصح الاستثناء، وهو قول مالك كما تقدم؛ لأن الاستثناء إنما ينفع في الأيمان المكفَّرة، فالتكفير والاستثناء متلازمان، ويمين الطلاق والعتاق لا يكفَّران، فلا ينفع فيهما الاستثناء. [لم يجعل ابن تيمية الكفارة في يمين الطلاق] ومن هنا (¬1) خرَّج شيخنا على المذهب إجزاء التكفير فيهما؛ لأن أحمد -رضي اللَّه عنه- نص على أن الاستثناء إنما يكون في اليمين المكفَّرة، ونص على أن الاستثناء ينفع في اليمين بالطلاق والعتاق، فيخرج (¬2) من نصه إجزاء الكفارة في اليمين بهما (¬3)، وهذا تخريج في غاية الظهور والصحة، ونص أحمد على الوقوع لا يبطل صحة هذا التخريج، كسائر نصوصه ونصوص غيره من الأئمة التي يخرج منها على مذهبه خلاف ما نص عليه، وهذا أكثر وأشهر من أن يذكر. [رأي بعض أصحاب أحمد] ومن أصحابه من قال: إنْ أعاد الاستثناء إلى الفعل نفعه قولًا واحدًا، وإنْ أعاده إلى الطلاق فعلى روايتين، ومنهم من جعل الروايتين على اختلاف حالين، فإنْ أعاده إلى الفعل نفعه، وإن أعاده إلى قوله: "أنت طالق" لم ينفعه. وإيضاح ذلك أنه إذا قال: "إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء اللَّه" فإنه تارة يريد: "فأنت طالق إن شاء اللَّه طلاقك"، وتارة يريد: "إن شاء اللَّه تعليق اليمين بمشيئة اللَّه" أي إن شاء اللَّه عقد هذه اليمين فهي معقودة، فيصير كقوله: "واللَّه لأقومنَّ إن شاء اللَّه" فإذا قام علمنا أن اللَّه قد شاء القيام، وإن لم يقم علمنا أن اللَّه لم يشأ قيامه (¬4)، [فما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن] (¬5)، فلم يوجد الشرط فلم يحنث، [فينقل هذا بعينه إلى الحلف بالطلاق] (5)؛ فإنه (¬6) إذا قال: "الطلاق يلزمني لأقومن إن شاء اللَّه [لي] (¬7) القيام" فلم يقم لم يشأ اللَّه له القيام، فلم يوجد الشرط فلم يحنث، فهذا الفقه بعينه. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "هاهنا". (¬2) في (ق): "فيتخرج". (¬3) انظر: "مجموع الفتاوى" (35/ 282 - 283). (¬4) في (ك): "لم يشأ له". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ك): "وإنه". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).

فصل [حكم: أنت طالق إلا أن يشاء الله]

فصل [حكم: أنت طالق إلا أن يشاء اللَّه] فإن قال: "أنت طالق إلا أن يشاء اللَّه" فاختلف الذين يصححون الاستثناء في قوله: "أنت طالق إن شاء اللَّه" هاهنا: هل ينفعه الاستثناء ويمنع وقوع الطلاق أو لا ينفعه؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والصحيح عندهم أنه لا ينفعه الاستثناء ويقع الطلاق، والثاني ينفعه [الاستثناء] (¬1)، ولا تطلق، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، والذين لم يصححوا الاستثناء احتجوا بأنه أوقع الطلاق وعلَّق رفعه بمشيئة لم تعلم (¬2)، إذ المعنى قد وقع عليك الطلاق إلا أن يشاء اللَّه رفعه وهذا يقتضي وقوعًا منجزًا ورفعًا معلقًا بالشرط، والذين صححوا الاستثناء قولهم أفقه، فإنه لم يوقع طلاقًا (¬3) منجَّزًا، وإنما وقع طلاقًا معلقًا على المشيئة، فإن معنى كلامه: أنت طالق إن (¬4) شاء اللَّه طلاقك، فإن شاء عدمه لم تطلقي، بل لا تطلقين إلا بمشيئته، فهو داخل في الاستثناء من قوله: إن شاء اللَّه، فإنه جعل مشيئة اللَّه لطلاقها شرطًا فيه، وهاهنا (¬5) أضاف إلى ذلك جَعْلَه عدم مشيئته مانعًا من طلاقها. [تحقيق المسألة] والتحقيق أن كل واحد من الأمرين يستلزم الآخر، فقوله: "إن شاء اللَّه" يدل على الوقوع عند وجود المشيئة صريحًا، وعلى انتفاع الوقوع عند انتفائها لزومًا، وقوله: "إلا أن يشاء اللَّه" يدلل على عدم الوقوع عند عدم المشيئة صريحًا، وعلى الوقوع عندها لزومًا، فتأمله، فالصورتان سواء كما سوَّى بينهما أصحاب أبي حنيفة وغيرهم من الشافعية. وقولهم: "إنه أوقع الطلاق وعلَّق رفعه بمشيئة لم تعلم" (¬6) فهذا بعينه يحتج به عليهم من قال: إن الاستثناء لا ينفع في الإيقاع بحال، فإن صحت هذه الحجة بطل الاستثناء في الإيقاع جملة، وإن لم يصح لم يصح الفرق وهو لم يوقعه مطلقًا، وإنما علقه بالمشيئة نفيًا وإثباتًا كما قررناه (¬7)، فالطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) قال (د): "في نسخة: "بمشيئة لم تعلق: "تحريف"". (¬3) في (ق): "الطلاق". (¬4) في (ك): "إذا". (¬5) في (ك): "وهنا". (¬6) في (ق): "لا تعلم" (¬7) في (ق): "كما قررنا".

[من قال: إن شاء الله وهو لا يعلم معناها]

[من قال: إن شاء اللَّه وهو لا يعلم معناها] وعلى هذا فإذا قال: "إن شاء اللَّه"، وهو لا يعلم معناها أصلًا، فهل ينفعه هذا الاستثناء؟ قال أصحاب أبي حنيفة: إذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه"، ولا يدري أي شيء "إن شاء اللَّه" لا يقع [الطلاق] (¬1)، قالوا: لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع، فعلمه وجهله سواء، قالوا: ولهذا لما كان سكوت البكر رضا استوى فيه العلم والجهل، حتى لو زوَّجها أبوها فسكتت وهي لا تعلم أن السكوت رضا صح النكاح، ولم يُعتبر جهلها. ثم قالوا: فلو قال (¬2) لها: "أنت طالق" فجرى على لسانه من غير قصد: "إن شاء اللَّه"، وكان قصده إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد حقيقة، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعًا، وهذا القول في طرف وقول من يشترط نية الاستثناء في أول الكلام أو قبل الفراغ منه في طرف آخر، وبينهما أكثر من بعد المشرقين. [حكم قوله: أنت طالق إن لم يشأ اللَّه، أو ما لم يشأ اللَّه] لو (¬3) قال: "أنت طالق إن لم يشأ اللَّه (¬4)، أو ما لم يشأ اللَّه" فهل يقع الطلاق في الحال أو لا يقع؟ على قولين، وهما وجهان في مذهب أحمد: • فمن أوقعه احتج بأن كلامه تضمن أمرين: محالًا، وممكنًا، فالممكن التطليق (¬5)، والمحال وقوعه على هذه الصفة، وهو إذا لم يشأه اللَّه (¬6)، فإن ما شاء اللَّه وجب وقوعه، فيلغو هذا التقييد المستحيل، ويسلم أصل الطلاق فينفذ. • الوجه (¬7) الثاني: لا يقع، ولهذا القول مأخذان: أحدهما: أن تعليق الطلاق على الشرط المحال يمنع من وقوعه، كما لو قال: "أنت طالق إن جمعت بين الضدين" أو "إن شربت ماء الكوز"، ولا ماء فيه لعدم وقوع شرطه، فهكذا إذا قال: "أنت طالق إن لم يشأ اللَّه" فهو (¬8) تعليق للطلاق على شرط مستحيل، وهو عدم مشيئة اللَّه، فلو طلقت لطلقت بمشيئته، وشرط وقوع الطلاق عدم مشيئته. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬2) في (ق): "ولو قال". (¬3) في (ق) و (ك): "فلو". (¬4) في (ك): "إن شاء اللَّه". (¬5) في (ق): "النطق". (¬6) في المطبوع و (ك): "إذا لم يشأ اللَّه". (¬7) في (ك): "والوجه". (¬8) في (ك): "هو".

فصل [رأي من قال: إن الاستثناء في الطلاق لا يفيد]

والمأخذ الثاني -وهو أفقه- أنه استثناء في المعنى، وتعليق على المشيئة، والمعنى إن لم يشأ اللَّه عدم طلاقك، فهو كقوله: "إلا أن يشأ اللَّه" سواء كما تقدم بيانه. فصل [رأي من قال: إن الاستثناء في الطلاق لا يفيد] قال الموقِعُون: قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: حدثنا خالد [بن يزيد] (¬1) بن أسد القسري: ثنا جُميع بن عبد الحميد الجعفي، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري وابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قالا: كنَّا معاشر أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نرى الاستثناء جائزًا في كل شيء إلا في الطلاق والعتاق (¬2)، قالوا: وروى أبو حفص ابن شاهين بإسناده عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: إذا قال الرجل لامرأته: "أنت طالق إن شاء اللَّه" فهي طالق (¬3)، [وكذلك روى عن أبي بردة، قالوا: ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح، كقوله: "أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا"] (¬4) قالوا: ولأنه إنشاء حكم في محل، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح، قالوا: ولأنه إزالة ملك فلم يصح تعليقه على مشيئة اللَّه تعالى، كما لو قال: أبرأتك إن شاء اللَّه، قالوا: ولأنه تعليق على ما لا سبيل إلى العلم به، فلم يمنع وقوع الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إن شاءت السموات والأرض، قالوا: وإن كان لنا سبيل إلى العلم بالشرط صح الطلاق لوجود شرطه، ويكون الطلاق حينئذٍ معلقًا على شرط [قد] (¬5) تحقق وجوده بمباشرة الآدمي سببه، قال قتادة: قد شاء اللَّه حينئذ أن تطلق (¬6)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ذكره ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 295) قبل حديث (1718 ط دار الكتب العلمية أو 9/ 167 رقم 2077 - ط قلعجي) من حديث ابن عمر، ولم يذكر إسناده، ولذا قال الذهبي في "التنقيح" (9/ 167): "قلت: أين إسناده؟! " وقد تكلم ابن القيم على إسناده بعد صفحات في معرض رده. (¬3) رواه محمد بن الحسن في "المخارج في الحيل" (ص 5) ثنا يعقوب ثنا محمد بن عبيد اللَّه العرزمي عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال: من حلف بطلاق أو عتاق، فقال: إن شاء اللَّه، لم يقع طلاق ولا عتاق، وهذا يخالف ما نقله المصنف عنه، وسيأتي قول المصنف عن هذا الأثر: "لا يعلم حال إسناده حتى يقبل أو يرد". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬6) العبارة في (ق): "قد شاء اللَّه الطلاق حين أذن أن يطلق".

قالوا: ولأن اللَّه تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعًا وقدرًا، فإذا أتى بها المكلف فقد أتى بما شاءه اللَّه تعالى، فإنه لا يكون شيء قط إلا بمشيئة اللَّه عز وجل، واللَّه عز وجل شاء (¬1) الأمور بأسبابها، فإذا شاء تكوين شيء وإيجاده شاء سببه، فإذا أتى المكلف بسببه فقد أتى [به] (¬2) بمشيئة اللَّه، ومشيئة السبب مشيئة للمسبب، فإنه لو لم يشأ وقوع الطلاق لم يكن المكلف أن يأتي به، فإن ما لم يشأ اللَّه يمتنع وجوده كما أن ما شاءه وجب وجوده، قالوا: وهذا في القول نظير المشيئة في الفعل، فلو قال: "أنا أفعل كذا إن شاء اللَّه تعالى"، وهو متلبس بالفعل (¬3) صح ذلك، ومعنى كلامه أن فعلي هذا إنما هو بمشيئة اللَّه، كما لو قال حال دخوله الدار (¬4): "أنا أدخلها إن شاء اللَّه" أو قال من تخلَّص من شر "تخلَّصت إن شاء اللَّه"، وقد قال يوسف لأبيه وأخوته: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] في حال دخولهم، والمشيئة راجعة إلى الدخول المقيَّد بصيغة الأمر (¬5)، فالمشيئة متناولة لهما جميعًا، قالوا: ولو أتى بالشهادتين ثم قال عقيبهما: "إن شاء اللَّه" أو قال: "أنا مسلم إن شاء اللَّه" فإن ذلك لا يؤثر في صحة إسلامه شيئًا، ولا يجعله إسلامًا معلقًا على شرط، [قالوا] (2): ومن المعلوم قطعًا أن اللَّه قد شاء تكلّمه بالطلاق، فقوله بعد ذلك: "إن شاء اللَّه" تحقيق لما قد علم قطعًا أن اللَّه شاءه، فهو (¬6) بمنزلة قوله: " [أنت طالق] (¬7) إن كان اللَّه أباح الطلاق وأذن فيه" (¬8)، ولا فرق بينهما، وهذا بخلاف قوله: "أنت طالق إن كلمت فلانًا" فإنه شَرَط في طلاقها ما يمكن وجوده وعدمه، فإذا وجد الشرط وقع ما علق به، ووجود الشرط في مسألة المشيئة إنما يعلم بمباشرة العبد سببه، فإذا باشره علم أن اللَّه قد شاءه، قالوا: وأيضًا فالكفارة أقوى من الاستثناء؛ لأنها ترفع حكم اليمين، والاستثناء يمنع عقدها، والرافع أقوى من المانع، وأيضًا فإنها تؤثر متصلة ومنفصلة، والاستثناء لا يؤثر مع الانفصال، ثم الكفارة مع قوتها لا تؤثر في الطلاق والعتاق، فأن لا يؤثر فيه الاستثناء أولى وأحرى، قالوا: وأيضًا فقوله: ¬

_ (¬1) في (ق): "يشأ". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "متلبس في الفعل". (¬4) العبارة في (ق): "كما لو قال حين دخول الدار". (¬5) قال في هامش (ق): "لعله: بصفة الأمن". (¬6) في (ق): "وهو". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق) و (ك): "أو أذن فيه".

"إن شاء اللَّه" إن كان استثناء فهو رافع لجملة المستثنى منه فلا يرتفع، وإن كان شرطًا فإما أن يكون معناه: إن كان اللَّه قد شاء طلاقك، [أو: إن] (¬1) شاء اللَّه أن أوقع عليك في المستقبل طلاقًا غير هذا؛ فإن كان المراد هو الأول فقد شاء اللَّه طلاقها بمشيئته لسببه، وإن كان المراد هو الثاني فلا سبيل للمكلف إلى العلم بمشيئته تعالى فقد علق الطلاق بمشيئته من لا سبيل [للمكلف] (¬2) إلى العلم بمشيئته؛ فيلغو التعليق، ويبقى أصل الطلاق فينفذ. قالوا ولأنه علق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن، فوجب نفوذه، كما لو قال: "أنت طالق إن علم اللَّه" أو: "إن قدر اللَّه" أو: "إن سمع [اللَّه] (¬3) " أو (¬4): "إن رأى". يوضحه أنه حذف مفعول المشيئة، ولم ينو مفعولًا معيَّنًا، فحقيقة لفظه: أنت طالق إن كان للَّه مشيئة، أو إن شاء أي شيء كان، ولو كانت [نيته إن شاء اللَّه] (¬5) هذا الحادث المعين وهو الطلاق لم يمنع جعل المشيئة المطلقة التي (¬6) هذا الحادث فرد من أفرادها شرطًا في الوقوع (¬7)، ولهذا لو سئل المستثني عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة (¬8) بل لعلها لا تخطر بباله، وإنما تكلم بهذا اللفظ بناءً على ما اعتاده الناس من قول هذه الكلمة عند اليمين والنذر والوعد. قالوا: ولأن الاستثناء إنما بابه بالأيمان، كقوله: "من حلف فقال: إن شاء اللَّه فإن شاء فعل، وإن شاء ترك"، وليس له دخول في الأخبار ولا في الإنشاءات، فلا يقال: "قام زيد إن شاء اللَّه"، ولا "قم إن شاء اللَّه"، ولا "لا تقم إن شاء اللَّه"، ولا "بعت و [لا] (¬9) قبلت إن شاء اللَّه". وإيقاع الطلاق والعتاق من إنشاء العقود التي لا تعلَّق على الاستثناء، فإن زمن الاستثناء مقارن له، فعقود الإنشاءات (¬10) تقارنها أزمنتها، فلهذا لا تعلق بالشروط. قالوا: والذي يكشف سر المسألة أن هذا الطلاق المعلق على المشيئة إما ¬

_ (¬1) في (ق): "وإن". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬4) في (ك): "و". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بينه". (¬6) في (ك): "إلى". (¬7) العبارة في المطبوع: "المشيئة المطلقة إلى هذا الحادث فردًا من أفرادها شرطًا في الوقوع". (¬8) في (ق): "بالمسألة الخاصة". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) كذا في (ق) و (ك) و (د) وفي سائر النسخ: "الإنشاء".

[جواب المانعين وإثبات أن الاستثناء يمنع وقوع الطلاق]

أن يريد به طلاقًا ماضيًا أو مقارنًا للمتكلَّم به أو مستقبلًا؛ فإن أراد الماضي أو المقارن وقع لأنه لا يعلق على الشرط، وإن أراد المستقبل -ومعنى كلامه إن شاء اللَّه أن تكوني في المستقبل طالقًا فأنت طالق- وقع أيضًا؛ لأن مشية اللَّه بطلاقها (¬1) الآن يوجب طلاقها في المستقبل، فيعود معنى الكلام إلى أنّي إنْ طلَّقتك الآن بمشيئة اللَّه فأنت طالق، وقد طلَّقها بمشيئته، فتطلق؛ فههنا ثلاث دعاوي: أحداها (¬2): أنه طلقها. والثانية (¬3): أنَّ اللَّه شاء ذلك. الثالثة: أنها قد طلقت؛ فإن صحَّت الدعوى الأولى صحت الأخريان (¬4)، وبيان صحتها أنه تكلم بلفظ صالح للطلاق، فيكون طلاقًا وبيان الثانية أنه حادث؛ فيكون (¬5) بمشيئة اللَّه، فقد شاء اللَّه طلاقها فتطلق، فهذا غاية ما تمسك به الموقعون. [جواب المانعين وإثبات أن الاستثناء يمنع وقوع الطلاق] قال المانعون: أنتم معاشر الموقعين قد ساعدتمونا على صحة تعليق الطلاق بالشرط، ولستم ممن يبطله كالظَّاهرية وغيرهم كأبي عبد الرحمن الشافعي، فقد كفيتمونا نصف المؤنة، وحَمَلتم عنا كلفة الاحتجاج لذلك، فبقي الكلام معكم في صحة هذا التعليق المعيَّن، هل هو صحيح أم لا؟ فإن ساعدتمونا على صحة التعليق قرُب الأمر، وقطعنا نصف المسافة الباقية. ولا ريب أن [هذا] (¬6) التعليق صحيحٌ؛ إذ لو كان محالًا لما صح تعليق اليمين والوعد والنَّذر وغيرهما بالمشيئة، ولكان ذلك لغوًا لا يفيد، وهذا بيِّن البطلان عند جميع الأمَّة، فصح التعليق حينئذ فبقي بيننا وبينكم منزلة أخرى، وهي [أنه] (7) هل وجود هذا الشرط ممكن أم لا؟ فإن ساعدتمونا على الإمكان ولا ريب في هذه المساعدة قربت المسافة جدًّا وحصلت المساعدة على أنه طلاق معلَّق صحّ تعليقه على شرط ممكن، فبقيت منزلة أخرى، وهي أنَّ تأثير الشرط وعمله يتوقف على الاستقبال أم لا يتوقف [عليه] (¬7) بل يجوز تأثيره في الماضي والحال والاستقبال؟ ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "لطلاقها". (¬2) في (ق): "أحدها". (¬3) في (ق): "الثانية". (¬4) في (ق): "الآخرتان". (¬5) في (ك): "ويكون". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فإن ساعدتمونا على توقف تأثيره على الاستقبال، وأنه لا يصح تعلقه (¬1) بماض ولا حال -وأنتم بحمد اللَّه على ذلك مساعدون- بقي بيننا وبينكم منزلة واحدة، وهي أنه هل لنا سبيل إلى العلم بوقوع هذا الشرط فيترتب المشروط عليه عند وقوعه، أم لا سبيل لنا إلى ذلك البتة، فيكون التعليق عليه تعليقًا على ما لم يجعل اللَّه لنا طريقًا إلى العلم به؟ فههنا معترك النزال، ودعوة الأبطال، فنَزَالِ نَزَال، فنقول: من أقبح القبائح، وأبْيَن الفضائح، التي تشمئز منها قلوب المؤمنين، وتنكرها فطر العالمين، ما تمسَّك به بعضكم (¬2)، وهذا لفظه بل حُرُوفه (¬3)، قال: لَنا أنَّه علَّق الطلاق بما لا سبيل لنا إليه فوجب أن يقع؛ لأن أصله الصفات المستحيلة، مثل قوله: "أنت طالق إنْ شاء الحَجَرُ" أو "إنْ شاء الميتُ"، أو "إن شاء هذا المجنون المطبق الآن"، فيالك من قياس ما أفسده، وعن طريق الصواب ما أبعده! وهل يستوي في عقل أو رأي أو نظر أو قياس مشيئة الرب -جلَّ جلاله-، ومشيئة الحجر والميت والمجنون (¬4) عند أحد من عقلاء الناس؟ وأقبحُ من هذا -واللَّه المستعان، وعليه التكلان، وعياذًا به (¬5) من الخذلان، ونزغات الشيطان- تمسّك بعضهم بقوله: "علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ لا تُعلم مشيئته فلم يصح التعليق" (¬6)، كما لو قال: "أنت طالق إن شاء إبليس"، فسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك (¬7)، ولا إلهَ غيرُك، وعياذًا بوجهك الكريم، من هذا الخذلان العظيم، ويا سبحان اللَّه! لقد كان لكم في نصرة هذا القول غنًى عن هذه الشبهة الملعونة في (¬8) ضروب الأقيسة، وأنواع المعاني والإلزامات فسحة ومتسع، واللَّه شرف نفوس الأئمة الذين رفع اللَّه قدرهم، وشاد في العالمين ذكرهم، حيث يأنفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات التي تسودُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلُّ بقمر الإيمان المحاقَ، وعند هذا فنقول: علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ جميعُ الحوادث مستندةٌ إلى مشيئته، وتُعْلَم مشيئته عند وجود كل حادث أنه إما وقع بمشيئته، فهذا التعليق من أصح التعليقات، فإذا أنشأ المعلِّق طلاقًا في المستقبل تبينّا وجود الشرط بإنشائه فوقع؛ فهذا أمر معقول شرعًا وفطرة، وقدرًا وتعليق مقبول. ¬

_ (¬1) في (ق): "تعليقه". (¬2) في (ق): "بعضهم". (¬3) المذكور في "الذخيرة البرهانية" (ق 104/ ب) بالحرف. (¬4) في (ق): "والمجنون والميت". (¬5) في (ك): "باللَّه". (¬6) في (ق): "فلا يصح التعليق". (¬7) "أصل الجد: الحظ والسعادة والغنى" (و). (¬8) في (ق): "وفي".

يبينه أن قوله: إن شاء اللَّه لا يريد به إن شاء اللَّه طلاقًا (¬1) ماضيًا قطعًا بل إما أن يريد به هذا الطلاق الذي تلفَّظ به، أو طلاقًا مستقبلًا غيره، فلا (¬2) يصح أن يراد به هذا الملفوظ، فإنه لا يصح تعليقه بالشرط، إذ الشرط إنما يؤثر في الاستقبال، فحقيقةُ هذا التعليق: أنت طالق إن شاء اللَّه طلاقَكِ في المستقبل، ولو صرح بهذا لم تطلق حتى ينشئ لها طلاقًا آخر. ونقرره (¬3) بلفظ آخر فنقول: علَّقه بمشيئة مَنْ له مشيئة صحيحة معتبرة، فهو أولى بالصحة من تعليقه بمشيئة آحاد الناس، يبيّنه أنه لو علَّقه بمشيئة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته لم يقع في الحال، ومعلوم أن ما شاءه اللَّه (¬4) فقد شاءه رسوله، فلو (¬5) كان التعليق بمشيئة اللَّه موجبًا للوقوع في الحال؛ لكان التعليق بمشيئة رسوله في حياته كذلك، وبهذا يبطل ما عوَّلتم عليه. وأما قولُكم: "إن اللَّه تعالى قد شاء الطلاق حين تكلّم به المكلّف (¬6) " فنعم إذا؛ لكن شاء الطلاق المُطْلَق أو المعلّق؟ ومعلوم أنه لم يقع منه طلاق مُطْلَق، بل الواقع منه طلاق معلَّق على شرط، فمشيئة اللَّه [سبحانه له] (¬7) لا تكون مشيئة للطلاق المُطْلَق، فإذا طلَّقها بعد هذا علمنا أن الشرط قد وجد، وأن اللَّه قد شاء طلاقها فطلقت. وعند هذا فنقول: لو شاء اللَّه أن يطلق (¬8) العبد لأنطقه بالطلاق مطلقًا من غير تعليق ولا استثناء، فلما أنطقه به مقيَّدًا بالتعليق والاستثناء، علمنا أنه لم يشأ له الطلاق المنجز، فإن ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن. ومما يوضح هذا الأمر أن مشيئة اللفظ لا تكون مشيئة الحكم حتى يكون اللفظ صالحًا للحكم، ولهذا لو تلفظ المكره أو زائلُ العقل أو الصبي أو المجنون بالطلاق، فقد شاء اللَّه منهم وقوع اللفظ، ولم يشأ وقوع الحكم، فإنه لم يرتب على ألفاظ هؤلاء أحكامها لعدم إرادتهم لأحكامها فهكذا المعلِّقُ طلاقَه بمشيئة اللَّه يريد (¬9) أن لا يقع طلاقه، وإن كان اللَّه قد شاء [له] (¬10) التلفظ بالطلاق، وهذا في غاية الظهور لمن أنصف. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "طلاقها". (¬2) في (ق): "ولا". (¬3) في (ق): "ويفرده". (¬4) في (ق): "ما شاء اللَّه". (¬5) في (ق): "ولو". (¬6) في المطبوع: "تكلم المكلف به". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "تعالى". (¬8) في المطبوع: "يُنْطق". (¬9) في (ك) و (ق): "مريد". (¬10) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق).

[لا بد من مشيئة الله لوقوع فعل العبد]

ويزيده وضوحًا: أن المعنى الذي منع الاستثناء عقد اليمين لأجله، هو بعينه في الطلاق والعتاق؛ فإنه إذا قال: "واللَّه لأفعلنَّ اليوم كذا -إن شاء اللَّه-" فقد التزم فعله في اليوم إن شاء اللَّه له ذلك، فإن فعله فقد علمنا مشيئة اللَّه له، وإن لم يفعله علمنا أن اللَّه لم يشأه؛ إذ لو شاءه لوقع ولا بدُّ. [لا بد من مشيئة اللَّه لوقوع فعل العبد] ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة العبد (¬1) إن شاءه فقط، فإن العبد قد يشاء الفعلَ ولا يقع، فإن مشيئته ليست موجبة (¬2) ولا تلزمه، بل لا بد من مشيئة اللَّه [له] (¬3) أن يفعل، وقد قال تعالى في المشيئة الأولى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال في المشيئة الثانية: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 - 56]، وإذا كان تعليق الحلف بمشيئته تعالى (¬4) يمنع من انعقاد اليمين، وكذلك تعليق الوعد، فإذا قال: "أفعل إنْ شاء اللَّه"، ولم يفعل لم يكن مُخْلِفًا كما لا يكون في اليمين حانثًا وهكذا إذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه" فإن طلَّقها بعد ذلك، علمنا أن اللَّه [سبحانه] (¬5) قد شاء الطلاق فوقع، وإن لم يطلقها تبيّنَّا أن اللَّه لم يشأ الطلاق فلا تطلق، فلا فرق في هذا بين اليمين والإيقاع، فإن كلًا منهما إنشاءٌ وإلزامٌ مُعلَّق بالمشيئة. قالوا: وأما الأثران اللّذان ذكرتموهما عن الصحابة فما أحسنهما لو ثبتا ولكن كيف بثبوتهما (¬6) وعطية ضعيف، وجميع بن عبد الحميد مجهول، وخالد بن يزيد ضعيف؟ قال ابن عدي (¬7): أحاديثه لا يتابع عليها وأثرُ ابن عباس لا يعلم حالُ إسناده حتى يُقبل أو يُرد. [آثار في مقابلة آثار المانعين من الأخذ بالاستثناء] على أن هذه الآثار مقابلة بآثار أُخر لا تثبت أيضًا: فمنها: ما رواه البيهقي في "سننه" من حديث إسماعيل بن عيَّاش، عن ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "مشيئة اللَّه للعبد"!. (¬2) في (ق): "ليست توجبه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق) و (ك): "سبحانه" (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬6) في (ق): "كيف تثبتونهما". (¬7) في "الكامل" (3/ 887).

حميد بن مالك، عن مكحول، عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا معاذ، ما خلق اللَّه شيئًا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق، و [ما خلق اللَّه شيئًا على وجه الأرض] (¬1) أحب إليه من العتاق، فإذا قال الرجل لمملوكه: أنت حرٌّ إن شاء اللَّه، فهو حرّ ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، فله استثناؤه ولا طلاق عليه" (¬2) ثم ساقه من طريق [محمد بن مصفَّى: ثنا معاوية بن حفص، عن حميد، عن مالك اللخمي: حدثني مكحول، عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه-: [أنه سأل] (¬3) رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، فقال: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه البيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 361)، وعبد الرزاق في "مصنفه" (6/ 390) رقم (11331)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 694)، والدارقطني (4/ 35)، ومحمد بن الحسن في "مخارج الحيل" (ص 6)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (1066)، وفي "التحقيق" (1718 أو 9/ 167 رقم 2078 - ط قلعجي) كلهم من طريق إسماعيل بن عياش به. ومدار هذا الحديث على حميد بن مالك هذا، وقد ضعَّفه يحيى بن معين، وقال ابن عدي: وأحاديثه مقدار ما يرويه منكر. قال البيهقي بعد روايته: حميد بن مالك مجهول، ومكحول عن معاذ بن جبل منقطع. وقال ابن الجوزي في "التحقيق": "مكحول لم يلق معاذًا، وإسماعيل بن عيَّاش وحميد ومكحول كلهم ضعاف". أقول: قوله: مكحول أنه من الضعفاء هذا من أعجب العجب، فمكحول من الثقات المشاهير، فلعله سبق قلم. ومما يدل على ضعف حميد بن مالك: أنه اضطرب فيه، فقد رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 35) من طريقه عن مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل. وفي إسناده من لا يعرف أيضًا، انظر: "بيان الوهم والإيهام" (3/ 170 - 171) و"تنقيح التحقيق" (3/ 221) لمحمد بن عبد الهادي. وقال البيهقي (7/ 361): وقد قيل: عن حميد عن مكحول عن خالد بن معدان عن معاذ. وقال الذهبي في "التنقيح" (9/ 168): "هذا لم يثبت مع نكارته وانقطاعه، وضعف حميد" وقال محمد بن عبد الهادي في "التنقيح" (3/ 222): "وقد تكلم في حميد أئمة الجرح، منهم ابن معين، وأبو زرعة وأبو حاتم وابن عدي، والأزدي، وقال النسائي: لا أعلم روى عنه غير إسماعيل بن عياش، وقد روى عنه غيره إلا أنه كذاب، والحمل في هذا الحديث عليه -يعني حميدًا - لكن مكحول أصلح من هؤلاء" ونقل -قبل- عن شيخ الإسلام ابن تيمية قوله عن الأحاديث الواردة في الباب: "لم يخرجها أحد من أصحاب الكتب الستة" وقال عن حديثنا هذا: "رواه أبو يعلى عن داود بن رشيد عن إسماعيل". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "سئل".

"له استثناؤه"، فقال الرجل (¬1): يا رسول اللَّه، وإن قال لغلامه: أنت حرٌّ إن شاء اللَّه قال: "معتق (¬2)، لأن اللَّه يشاء العتق، ولا يشاء الطلاق"] (¬3). ثم ساق من طريق إسحاق بن أبي نجيح (¬4)، [عن عبد العزيز بن أبي روَّاد: عن ابن جريج، عن عطاء] (¬5)، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: مَنْ قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، أو لغلامه: أنت حر إن شاء اللَّه، أو عليه المشي إلى بيت اللَّه الحرام إن شاء اللَّه؛ فلا شيء عليه" (¬6)، ثم ساق من طريق الجارود [بن يزيد] (¬7)، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا في الطلاق وَحْدَهُ أنه لا يقع (¬8). ¬

_ (¬1) في (ك): "رجل". (¬2) في (ك): "يعتق". (¬3) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 361)، ورواه ابن عدي (2/ 694)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1067). ووقع في (ق) بدل ما بين المعقوفتين: "محمد بن مصطفى عن معاذ بنحو ذلك". (¬4) كذا في جميع النسخ: "ابن أبي نجيح"!، وصوابه: "ابن أبي يحيى" كما سيأتي. (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بسنده". (¬6) رواه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 361)، ورواه ابن عدي (1/ 331)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" رقم (1064) و"التحقيق" (9/ 169 - 170 رقم 2081 - ط قلعجي) من طريق إسحاق بن أبي يحيى الكعبي، عن عبد العزيز بن أبي رواد به. وإسحاق بن أبي يحيى قال فيه ابن عدي: حدث عن جماعة من الثقات مناكير. . .، ولم أر لإسحاق من الحديث إلا مقدار عشرة أو أقل. . .، ومقدار ما رأيته مناكير. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن حبان: لا تحل الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار. وقال الذهبي: هالك يأتي بالمناكير عن الأثبات. وضعَّفه ابن الجوزي وأقره محمد بن عبد الهادي والذهبي. (تنبيه): وقع عند ابن القيم، وفي "نصب الراية" (2/ 135) اسم إسحاق هكذا: إسحاق بن أبي نجيح، وهو تحريف، وظنّه محقق "نصب الراية" إسحاق بن نجيح الملطي الدجّال، وليس الأمر كذلك. (تنبيه آخر): أخرج محمد بن الحسن في "مخارج الحيل" (ص 5) من طريق محمد بن عبيد اللَّه العرزمي عن عطاء عن ابن عباس قوله. والعرزمي متروك. وأخرجه أيضًا (ص 7) من طريق الحسن بن عمارة عن الحكم عن مجاهد عنه قوله، والحسن بن عمارة متروك أيضًا. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) رواه البيهقي في "السنن الكبرى"، وهو لم يسق سنده -كما قال ابن القيم- وإنما قال: وروي عن الجارود بن يزيد به. =

ولو كنَّا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنِّفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيدًا لقوله لفرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غنية، فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. أما الحديث الأول: ففيه عدة بلايا: إحداها (¬1): حميد بن مالك، ضعّفه أبو زرعة وغيره. الثانية: أن مكحولًا لم يَلْقَ مُعاذًا، قال أبو زرعة: (¬2) مكحول عن معاذ منقطع. الثالثة: أنه قد اضطرب فيه حميد هذا الضعيف، فمرة يقول: عن مكحول عن معاذ، ومرة يقول: عن مكحول، عن خالد بن معدان، عن معاذ، وهو منقطع أيضًا وقيل: مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ، قال البيهقي: [و] (¬3) لم يصح. الرابعة: أن إسماعيل بن عياش ليس ممن يقبل تفرده بمثل هذا. ولهذا لم يذهب أحد من الفقهاء إلى هذا الحديث، وما حكاه أبو حامد الإسفرائيني عن أحمد من القول به فباطل عنه لا يصح البتة، وكل من حكاه عن أحمد فمستنده حكاية أبي حامد الإسفرائيني أو من تَلَقّاها عنه. وأما الأثر الثاني؛ فإسناده ظُلمات (¬4) بعضها فوق بعض، حتى انتهى أمره إلى الكذّاب: إسحاق بن [أبي] (¬5) نجيح الملطي (¬6). وأما الأثر الثالث؛ فالجارود بن يزيد قد ارتقى من حَدِّ الضعف إلى حد الترك!! والمقصود أن الآثار من الطرفين لا مُسْتَراحَ فيها. ¬

_ = وقد وصله ابن عدي في "الكامل" (2/ 595)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل" (1065)، و"التحقيق" (9/ 169 رقم 2080)، والجارود هذا وصف بالكذب، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال ابن عدي: بَيّن الأمر في الضعف. وانظر: "تنقيح التحقيق" (3/ 221) لمحمد بن عبد الهادي و (9/ 169) للذهبي. (¬1) في (ق) و (ك): "أحدها". (¬2) انظر: "المراسيل" (ص 211)، لابن أبي حاتم، و"تحفة التحصيل" (ص 314 - 315). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "كلمات"!. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬6) الصواب أنه ابن أبي يحيى الكعبي، كما قدّمناه في التخريج.

فصل [الرد على المانعين]

فصل [الرد على المانعين] وأما قولُكم: "إنه استثناءٌ يرفع جملة الطلاق فلم يصح، كقوله: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا"، فما أبردها من حجَّة، فإن الاستثناء لم يرفع حكم الطلاق بعد وقوعه، وإنما منع [من] (¬1) انعقاده منجزًا بل انعقد معلَّقًا كقوله: "أنت طالق إن شاء فلان"، فلم يشأ فلان؛ فإنها لم (¬2) تطلق، ولا يقال: إن الاستثناء رفع جملة الطلاق (¬3). وأما قولكم: "إنه إنشاءُ حكم في محل، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح" فأبْرَدُ من الحجة التي قبلها؛ فإن البيع والنكاح لا يصح تعليقهما بالشرط، بخلاف الطلاق. وأما قولكم: "إزالة ملك؛ فلا (¬4) يصح تعليقه على مشيئة اللَّه كالإبراء" فكذلك أيضًا فإن الإبراء لا يصح تعليقه على الشرط مطلقًا عندكم، سواء كان الشرط مشيئة اللَّه (¬5) أو غيرها، فلو قال: "أبرأتك إن شاء زيد" لم يصحّ، ولو قال: "أنت طالق إن شاء زيد" صح. وأما قولكم: "إنه تعليق على ما لا سبيل إلى العلم به" فليس كذلك، بل هو تعليقٌ على ما لنا سبيل إلى علمه؛ فإنه إذا أوقعه في المستقبل علمنا وجود الشرط قطعًا وأن اللَّه قد شاءه. وأما قولكم: "إن اللَّه قد شاءه بتكلم المُطَلَّق به" (¬6) فالذي شاءه اللَّه إنما هو طلاق معلَّق، والطلاق المنجّز لم يشأه اللَّه، إذ لو شاءه لوقع ولا بد، فما شاءه اللَّه لا يُوجب وقوع الطلاق في الحال، وما يوجب وقوعه في الحال لم يشأه اللَّه. وأما قولكم: "إن اللَّه [سبحانه و] (¬7) تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظَةَ شرعًا وقدرًا" فَنَعَمْ وضع تعالى (¬8) المنجز لإيقاع المنجز، والمعلَّق لوقوعه عند وقوع ما عُلِّقَ به. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك) و (ق): "لا". (¬3) في (ق): "إن هذا استثناء رافع لجملة الطلاق"، وفي (ك): "أن هذا استثناء رفع جملة الطلاق". (¬4) في (ك) و (ق): "فلم". (¬5) في (ق): "بمشيئة اللَّه". (¬6) في (ق): "شاء تكلم المطلق به". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬8) في (ق) و (ك): "سبحانه".

وأما قولكم (¬1): "لو لم يشأ الطلاق لم يأذن للمكلَّف في التكلم به" فنعم شاء المعلَّق وأذنَ فيه، والكلام في غيره. وقولكم: " [إن] (¬2) هذا نظير قوله، وهو متلبِّس (¬3) بالفعل: أنا أفعل إن شاء اللَّه"، فهذا فصل النزاع في المسألة، فإذا أراد بقوله: "أنت طالق إن شاء اللَّه هذا التطليق الذي صَدَرَ مني" لزمه الطلاق قطعًا لوجود الشرط، وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا فيما إذا أراد: "إن شاء اللَّه طلاقًا مستقبلًا" أو أطْلَق ولم يكن له نيّة، فلا ينبغي النزاع في القسم الأول، ولا يظن أن أحدًا من الأئمة ينازع فيه، فإنه تعليق على شرط مستقبل ممكن لا (¬4) يجوز إلغاؤه، كما لو صرَّح به فقال: "إن شاء اللَّه أن أطلقك غدًا فأنت طالق" إلا أن يستروح (¬5) إلى ذلك المسلك الوخيم أنه علَّق الطلاق بالمستحيل فلغا التعليق كمشيئة الحجر والميت. وأما إذا أطلق ولم يكن له نية، فيحمل مُطْلَقُ كلامه على مقتضى الشرط لُغةً وشرعًا وعرفًا [وهو اقتضاؤه للوقوع في المستقبل] (¬6). وأما استدلالكم بقول يوسف لأبيه وإخوته: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] , فلا حجة فيه، فإن الاستثناء إن عاد إلى الأمر المطلوب دَوَامه واستمرارهُ فظاهر، وإن عاد إلى الدخول المقيَّد به فمن أين لكم أنه قال لهم هذه المقالة حال الدخول أو بعده؟ ولعله إنما قالها عند تَلَقّيه لهم، ويكون دخولهم عليه في منزلة (¬7) اللقاء فقال لهم حينئذ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فهذا محتمل، وإن كان إنما قال لهم ذلك بعد دخولهم عليه في دار مملكته، فالمعنى: ادخلوها دخول استيطان واستقرار آمنين إن شاء اللَّه. وأما قولكم: "إنه لو أتى بالشهادتين ثم قال: إن شاء اللَّه أو قال: أنا مسلم إن شاء اللَّه صحّ إسلامه في الحال"، فَنَعَمٌ إذًا فإن الإسلام لا يَقبل التعليق بالشرط، فإذا علَّقه بالشرط تنجز، كما لو علق الردة بالشرط فإنها تنجز (¬8)، وأما الطلاق فإنه يصح تعليقه بالشرط. ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "وقولكم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ك): "ملتبس". (¬4) في (ك) و (ق): "فلا". (¬5) في (ق): "تستروحوا"، وفي (ك): "يستردوا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع و (ك): "منزل". (¬8) في (ق): "تتنجز".

وأما قولكم: "إنه من المعلوم قطعًا أن اللَّه قد شاء تكلمه بالطلاق، فقوله بعد ذلك: إن شاء اللَّه تحقيقٌ لما علم أن اللَّه قد شاءه"، فقد (¬1) تقدم جوابه، وهو أن اللَّه إنما شاء الطلاق المعلّق، فمن أين لكم أنه شاء المنجز؟ ولم تذكروا عليه دليلًا. وقولكم: "إنه بمنزلة قوله: أنت طالق إن كان اللَّه أذن في الطلاق أو أباحه (¬2)، ولا فرق بينهما" فما أَعْظَم الفرق بينهما وبينه حقيقة ولغة، وذلك ظاهر عن تكلف بيانه؛ فإن بيان الواضحات نوع من العي، بل نظير ذلك أن يقول: أنت طالق إن كان اللَّه قد شاء تلفظي بهذا اللفظ؛ فهذا يقع قطعًا. وأما قولكم: "إن الكفارة أقوى من الاستثناء؛ لأنها ترفع حكم اليمين، والاستثناء (¬3) يمنع عقدها وإذا لم تدخل الكفارة في الطلاق والعتاق، فالاستثناء أولى" فما أوْهَنَهَا (¬4) من شبهة، وهي عند التحقيق لا شيء؛ فإن الطلاق والعتاق إذا وقعا لم تؤثِّر فيهما الكفارة شيئًا ولا يمكن حلَّهما بالكفارة، بخلاف اليمين (¬5) فإن حلها بالكفارة ممكن، وهذا تشريع شَرَعه شارع الأحكام هكذا فلا يمكن تغييره، فالطلاق والعتاق لا يقبل الكفارة، كما (¬6) لم تقبلها سائر العقود، كالوقف، والبيع، والهبة، والإجارة، والخُلع، الكفارة مختصة بالأيْمان، وهي من أحكامها التي لا تكون لغيرها وأما الاستثناء فيشرع في أعم من اليمين كالوعد والوعيد، والخبر عن المستقبل، كقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإنا إنْ شاء اللَّه بكم لا حقون" (¬7)، وقوله عن أبيّ بن خَلَف: "بل أنا أقتله إن شاء اللَّه" (¬8). ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "قد". (¬2) في (ق): "وأباحه". (¬3) في (ك): "واستثناءه". (¬4) في (ق) و (ك): "فما أدهشها". (¬5) في المطبوع و (ك): "الأيمان". (¬6) في (ق): "وكما". (¬7) رواه مسلم (249) في (الطهارة): باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، من حديث أبي هريرة. ورواه مسلم (974) في (الجنائز): باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، من حديث عائشة. ورواه مسلم (975) في االجنائز: باب الصلاة على الجنازة في المسجد، من حديث بريدة. (¬8) رواه عبد الرزاق في "تفسيره" (3/ 68 - 69) عن معمر، عن عثمان الجزري، عن مقسم مولى ابن عباس، عن ابن عباس، فذكر قصة طويلة فيها قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وصله قول أبيّ بن حلف: "واللَّه لأقتلن محمدًا", فبلغ ذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "بل أنا أقتله إن شاء اللَّه". =

وكذلك (¬1) الخبر عن الحال نحو: "أنا مؤمن إن شاء اللَّه"، ولا تدخل الكفارة في شيء من ذلك، فليس بين الاستثناء والتكفير تلازم، بل تكون الكفارة حيث لا استثناء، والاستثناء حيث لا كفارة، والكفارة شرعت تَحِلَّةً لليمين بعد عَقْدها والاستثناء شرع لمعنًى آخر، وهو تأكيد التوحيد، وتعليق الأمور بمشيئة مَنْ لا يكون شيء إلا بمشيئته، فشرع للعبد أن يفوض الأمر الذي عزم عليه، وحلف على فعله أو تركه إلى مشيئة اللَّه، ويعقد نطقه بذلك فهذا شيء والكفارة شيء آخر. وأما قولكم: "إن الاستثناء إن كان رافعًا فهو رافع لجملة المُستثنى منه فلا يرتفع"، فهذا كلام عارٍ عن التحقيق؛ فإن هذا ليس باستثناء بأداة "إلا" وأخواتها التي يخرج بها بعض المذكور، ويبقى بعضُه حتى يلزم ما ذكرتم، وإنما هو شرط ينتفي المشروط عند انتفائه كسائر الشروط، ثم (¬2) كيف يقول هذا القائل في قوله: "أنت طالق إن شاء زيد اليوم"، ولم يشأ؟ فموجب دليله أن هذا لا يصح. فإن قيل: فلو أخرجه بأداة إلا فقال: "أنت طالق إلا أن يشاء اللَّه" كان رفعًا لجملة المستثنى منه. ¬

_ = وعثمان الجزري هذا: هو ابن عمرو بن ساج، قال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال العقيلي: لا يتابع في حديثه، وقال الأزدي: يتكلمون في حديثه وذكره ابن حبان في "الثقات". وقد عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/ 250)، لعبد الرزاق في "مصنفه"، ولابن جرير من حديث مقسم مرسلًا ليس فيه ذكر ابن عباس. نعم في "تفسير الطبري" (19/ 8) رواية للقصة من حديث مقسم؛ لكن ليس فيها هذا القول. وله شواهد مرسلة: فقد رواه موسى بن عقبة في "مغازيه" -كما في "دلائل النبوة" للبيهقي (3/ 211) - عن ابن شهاب الزهري مرسلًا. ورواه ابن هشام في "سيرته" (3/ 32) عن ابن إسحاق: حدثني صالح بن عبد الرحمن مرسلًا به. وذكره ابن كثير في "تفسيره" (1/ 424) من مرسل عروة بن الزبير. والطريق المسند مع هذه المراسيل تجعل للقدر المشترك بينها -وهي لفظ الحديث- أصلًا واللَّه أعلم. ووقع في جميع النسخ عدا (ق): "أمية بن خلف" بدل "أبي بن خلف"، والتصويب من مصادر التخريج و (ق). (¬1) في المطبوع: "وكذا". (¬2) عنون في هامش (ق) على هذه الفقرة بقوله: "معنى إلا وأخواتها".

قيل: هذه مغالطة (¬1) ظاهرة؛ فإن الاستثناء هاهنا ليس إخراج جملة ما تناوله المذكور ليلزم ما ذكرت، وإنما هو تقييد لمطلق الكلام الأول بجملة أخرى مخصصة لبعض أحوالها أي: أنت طالق في كل حالة إلا حالة واحدة، وهي حالة لا يشاء اللَّه فيها الطلاق؛ فإذا لم يقع منه طلاق بعد هذا علمنا بعدم وقوعه أن اللَّه تعالى (¬2) لم يشأ الطلاق؛ إذ لو شاءه لوقع، ثم ينتقض هذا بقوله: "إلا أن يشاء زيد"، و"إلا أن تقومي" ونحو ذلك؛ فإن الطلاق لا يقع إذا لم يشأه زيد، وإذا لم تقم، وسُمِّي هذا التعليق بمشيئة اللَّه تعالى (¬3) استثناء في لغة الشارع؛ كقوله تعالى (2): {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18] أي: لم يقولوا: إن شاء اللَّه، فمَنْ حلف فقال: إن شاء اللَّه، فقد استثنى؛ فإن الاستثناء استفعال من ثَنَيْتُ الشيءَ، [كأنَّ المستنثى] (¬4)، بإلَّا قد عاد على كلامه، فَثنى آخره على أوله بإخراج ما أدخله أولًا في لفظه (¬5)، وهكذا التقييد (¬6) بالشرط سواء؛ فإن المتكلم به قد ثَنَى آخرَ كلامه على أوله، فقيَّد به ما أطلقه أولًا، وأما تخصيص الاستثناء بإلَّا وأخواتها فعُرْفٌ خاصٌ للنُّحاة. وقولكم: "إن كان شرطًا ويراد به: إن كان اللَّه قد شَاءَ طلاقك [في المستقبل] (¬7) فينفذ لمشيئة اللَّه تعالى له بمشيئته لسببه، وهو الطلاق المذكور، وإن أراد به إن شاء اللَّه أن أطلِّقك في المستقبل، فقد علَّقه بما لا سبيل إلى العلم به، فيلغو التعليق، ويبقى أصل الطلاق"، فهذا هو أكبر عُمْدة الموقعين، ولا ريب أنه إن أراد بقوله: أنت طالق إن كان اللَّه قد شاء تكلُّمي -بهذا اللفظ- أو شاء طلاقكِ بهذا اللفظ، طلقتِ، [و] (7) لكن المُستثني لم يُرِدْ هذا بل ولا خطر على باله، فيبقى (¬8) القسم الآخر؛ وهو أن يريد: إن شاء اللَّه وقوع الطلاق عليك فيما يأتي، فهذا تعليقٌ صحيح معقول، يمكن العلم بوجود ما علق عليه بوجود سَببه كما تقدم بيانه. ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "مغلطة". (¬2) في (ق) و (ك): "سبحانه". (¬3) في (ق) و (ك): "بمشيئته سبحانه". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) و (ك): "فالمستثنى". (¬5) انظر: "لسان العرب" (14/ 115 - دار الفكر) مادة "ثني"، و"الاستغناء في الاستثناء" للقرافي (ص 14 - 20 دار الكتب العلمية). (¬6) في المطبوع: "التقيد". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في المطبوع و (ك): "فبقي".

وأما قولكم: "إنه علَّق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن، فوجب (¬1) نفوذه، كما لو قال: أنت طالق إن عَلِم اللَّه، أو إن قدر [اللَّه] (¬2)، أو سمع [اللَّه] (2) إلى آخره"، فما أبطلها من حجة! فإنها لو صحَّت لبطُلَ حكم الاستثناء في الأيمان لما ذكرتموه بعينه، ولا نفع الاستثناء في موضع واحد (¬3)، ومعلوم أن المُستثني لم يخطر هذا على باله، وإنما أراد تفويض الأمر إلى مشيئة اللَّه وتعليقه به، وأنه إن شاءه وقع (¬4)، وإن لم يشأه لم يقع، ولذلك (¬5) كان مستثنيًا أي وإن كنت قد التَزَمْتُ اليمين أو الطلاق أو العتاق، فإنما التزمته (¬6) بعد مشيئة اللَّه وتبعًا لها فإن شاءه فهو تعالى (¬7) ينفذه بما يحدثه من الأسباب، ولم يُرد المُستثني إن كان للَّه (¬8) مشيئة أو علم أو سمع أو بصر فأنت طالق، ولم يخطر ذلك بباله البتة. يوضحه أن هذا مما لا يقبل التعليق، ولا سيّما بأداة (إنْ) التي [هي] (¬9) للجائز الوجود والعدم، ولو شك في هذا لكان ضالًا بخلاف المشيئة الخاصة؛ فإنها يمكن أن تتعلَّق بالطلاق وأن لا تتعلق به، وهو شاكٌ فيها كما يشك العبدُ فيما يمكن أن يفعله اللَّه [سبحانه] (9) به، وأن لا يفعله هل شاءهُ أم لا؟ فهذا هو المعقول الذي في فطر الحالِفين والمُستثنين، وحذف مفعول المشيئة لم يكن لما ذكرتم، وهو عدم إرادة مفعول معيّن، بل للعلم به، ودلالة الكلام عليه، وتعيّن إرادته (¬10)؛ إذ المعنى: إن شاء اللَّه طلاقَك فأنت طالق، كما لو قال: "واللَّه لأسافرنَّ إن شاء اللَّه" أي إن شاء [للَّه] (9) سَفَري، وليس مراده: إن كان للَّه صفة هي المشيئة؛ فالذي قدّرتموه من المشيئة المطلقة هو الذي لم يخطر ببال الحالف والمطلِّق، وإنما الذي لم يخطر بباله سواه هو المشيئة المعينة الخاصة. [و] (¬11) قولكم: "إن المُستثني لو سئل عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة، بل تكلَّم بلفظ الاستثناء بناءً على ما اعتاده الناس من التكلم بهذا اللفظ" كلامٌ غير سَديد، فإنه لو صح لما نفع الاستثناء في يمين قط، ولهذا نقول: إن قصد التحقيق ¬

_ (¬1) في (ك): "فوجبت". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ك): "ولا يقع الاستثناء إلا في موضع واحد". (¬4) في المطبوع: "نفذ"، وفي (ك): "إن شاء نفذ". (¬5) في (ك): "وكذلك". (¬6) في المطبوع و (ك): "ألتزمه". (¬7) في (ق): "سبحانه"، وفي (ك): "شاء تعالى". (¬8) في المطبوع: "اللَّه". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬10) في (ق) و (ك): "ومعنى إرادته". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

والتأكيد بذكر المشيئة ينجز (¬1) الطلاق، ولم يكن ذلك استثناء. وأما (¬2) قولكم: "إن الاستثناء بابه الأيْمان" إن أردتم به اختصاص الأيمان به، فلم تذكروا على ذلك دليلًا وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حلف فقال: إن شاء اللَّه فقد استثنى" (¬3)، وفي لفظ آخر: "من حلف فقال: إن شاء اللَّه فهو بالخيار؛ إن (¬4) شاء فعل، وإن شاء لم يفعل" (¬5) فحديث حسن، [و] (¬6) لكن لا يوجب اختصاص الاستثناء بالمشيئة باليمين، وقد قال اللَّه تعالى (¬7): {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، وهذا ليس بيمين، ويشرع الاستثناء في الوعد والوعيد، والخبر عن المستقبل، كقوله: غدًا أفعل إن شاء اللَّه، وقد عتب اللَّه سبحانه على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث قال لمن سأله من أهل الكتاب عن أشياء: "غدًا أخبركم"، ولم يقل: إن شاء اللَّه، فاحتبس الوحيُ عنه شهر ثم نزل عليه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] (¬8) أي إذا نسيت ذكره بالاستثناء (¬9) عقيب كلامك فاذكره به إذا ذكرت، هذا معنى الآية، وهو الذي أراده ابن عباس بصحة الاستثناء المتراخي (¬10)، ولم يقل ابن عباس قط، ولا من هو دونه (¬11): إن الرجل إذا قال ¬

_ (¬1) في (ك): "تنجيز". (¬2) في (ك): "أما". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في المطبوع: "فإن". (¬5) رواه أحمد (2/ 4826 - 49 و 68 و 126 و 127 و 153)، وأبو داود (3262) في (الأيمان والنذور): باب الاستثناء في اليمبن، والترمذي (1531) في (النذور والأيمان): باب ما جاء في الاستثناء في اليمين، والنسائي (7/ 12) في (الأيمان والنذور): باب من حلف فاسثثنى، و (7/ 25): باب الاستثناء، وابن ماجه (2105) في (الكفارات): باب الاستثناء في اليمين، والدارمي (2/ 185)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 360 - 361 و 10/ 46) من طرق عن عبد الوارث بن سعيد: حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "قال سبحانه". (¬8) ذكره ابن إسحاق -كما فيِ "سيرة ابن هشام" (1/ 321) - نحوًا من هذا دون إسناد، لكن ذكر الآية التي نزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ. . .} ثم ذكر آيات سورة الكهف، وانظر: "تفسير ابن جرير" (15/ 228) و"تفسير ابن أبي حاتم" (7/ 2355) و"لباب النقول" (ص 143 - 144)، و"تفسر ابن كثير" (3/ 76). (¬9) في المطبوع: "إذا نسيت ذلك الاستثناء". (¬10) انظر ما مضى، وفي (ك): "اراد" بدل "أراده". (¬11) في (ق): "ولم يقل ابن عباس هو ولا من دونه".

لامرأته: "أنت طالق"، أو لعبده: "أنت حر"، ثم قال بعد سنة: "إن شاء اللَّه" إنها لا تطلق، ولا يعتق العبد، وأخطأ من نقل ذلك عن ابن عباس، أو عن أحد من أهل العلم البتة، ولم يفهموا مراد ابن عباس، والمقصود أن الاستثناء لا يختص باليمين [لا] (¬1) شرعًا ولا عرفًا ولا لغةً، وإن أردتم بكون بابه الأيمان كثرتَهُ فيها؛ فهذا لا ينفي دخوله في غيرها. وقولكم (¬2): "إنه لا يدخل في الإخبارات ولا في الإنشاءات، فلا يقال: قام زيد إن شاء اللَّه، ولا قم إن شاء اللَّه، ولا بعتُ إن شاء اللَّه، فكذا لا يدخل في قوله: "أنت طالق إن شاء اللَّه" فليس هذا بتمثيل صحيح، والفرق بين البابين أن الأمور الماضية علم أنها وقعت بمشيئة اللَّه، والشرط إنما يؤثر في الاستقبال، فلا يصح أن يقول: قمت أمس إن شاء اللَّه، فلو أراد الإخبار عن وقوعها بمشيئة اللَّه، أتى بغير صيغة الشرط، فيقول: فعلت كذا بمشيئة اللَّه وَعَوْنه وتأييده، ونحو ذلك، بخلاف قوله: غدًا أفعل إن شاء اللَّه، وأما قوله: "قم إن شاء اللَّه"، و"لا تقم إن شاء اللَّه" فلا فائدة في هذا الكلام؛ إذ قد علم أنه لا يفعل إلا بمشيئة اللَّه، فأي معنى لقوله: إن شاء اللَّه لك القيام فقم، وإن لم يشأه فلا تقم؟ نعم لو أراد بقوله: قم أو لا تقم الخبر (¬3)، وأخرجه مخرج الطلب تأكيدًا أي: تقوم إن شاء اللَّه، صحَّ ذلك، كما إذا قال: مُتْ على الإسلام إن شاء اللَّه، ولا تمت إلا على توبة إن شاء اللَّه، ونحو ذلك: وكذا إن أراد بقوله: "قم إن شاء اللَّه" ردَّ المشيئة إلى معنى خَبَري، أي: [ولا تقوم إلا أن يشاء اللَّه] (¬4)؛ فهذا صحيحٌ مستقيم لفظًا ومعنى، وأما: "بعت إن شاء اللَّه، واشتريت إن شاء اللَّه" فإن أراد به التحقيق صح وانعقد العقد، وإن أراد به التعليق لم يكن المذكور إنشاءً، وتنافى الإنشاء والتعليق؛ إذ زمن الإنشاء يقارنُ وجودَ معناه، وزمن وقوع المعلَّق يتأخر عن التعليق، فتنافَيَا. وأما قولكم: "إن هذا الطلاق المعلَّق على المشيئة إما أن يريد طلاقًا ماضيًا أو مقارنًا أو مستقبلًا -[إلى آخره] " (¬5) فجوابه ما قد تقدم مرارًا أنه إن أراد به [رد] (¬6) المشيئة إلى هذا اللفظ المذكور، وأنَّ اللَّه (إنْ كان [قد]) (¬7) شاءه فأنت ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ك): "قولكم" دون واو. (¬3) في (ق): "فنعم أراد بقوله قم ولا تقم الخبر". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ولا تقم ان شاء اللَّه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬7) ما بين القوسين سقط من (ق) وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

فصل [التحقيق في موضوع الاستثناء]

طالق طلقت، ولا ريب أن المستثني لم يرد هذا وإنما أراد ألا يقع الطلاق، فردَّه إلى مشيئة اللَّه [سبحانه] (¬1)، وأن اللَّه إن شاءه بعد هذا وقع، فكأنه قال: [لا] (¬2) أريد طلاقك ولا أرَبَ لي فيه إلا أن يشاء اللَّه ذلك فينفذ رضيت أم سخطت، كما قال نبيُّ اللَّه شعيب -عليه السلام-: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] أي نحن لا نعود في ملّتكم، ولا نختار ذلك، إلا أن يشاء اللَّه ربنا شيئًا فينفذ ما شاءه (¬3)، وكذلك قال إبراهيم [-عليه السلام-] (1): {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] أي لا يقع بي مَخُوفٌ من جهة آلهتكم أبدًا إلا أن يشاء ربي شيئًا فينفذ ما شاءه، فرد الأنبياء ما أخبروا ألَّا يكون (¬4) إلى مشيئة الربِّ تعالى وإلى علمه استدراكًا واستثناءً أي: لا يكون ذلك أبدًا ولكن إنْ شاءه (¬5) اللَّه [تعالى] (¬6) كان، فإنه تعالى (¬7) عالم بما لا نعلمه نحن من الأمور التي تقتضيها حكمته وحده. فصل [التحقيق في موضوع الاستثناء] فالتحقيق في المسألة أن المستثنيَ إما أن يقصد (¬8) بقوله: "إن شاء اللَّه" التحقيقَ أو التعليق؛ فإن قصد به التحقيقَ والتأكيد وقع الطلاق، وإن قصد به التعليق وعدم الوقوع في الحال لم تطلق، هذا هو الصواب في المسألة، وهو اختيار شيخنا (¬9)، وغيره من الأصحاب، وقال أبو عبد اللَّه بن حمدان في "رعايته": قلت: إن قصد التأكيد والتبرك وقع، وإنْ قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة فلا [يقع] (¬10) وهذا قول آخر غير الأقوال الأربعة المحكيّة [في المسألة] (6)، وهو أنه إنما ينفعه الاستثناء إذا قصد التعليق وكان جاهلًا باستحالة العلم بمشيئة اللَّه تعالى، فلو علم استحالة العلم بمشيئته تعالى لم ينعقد الاستثناء، والفرق بين علمه بالاستحالة وجهله بها: أنه إذا جهل استحالة العلم بالمشيئة، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق). (¬3) في (ق): "ما شاء". (¬4) في (ق) و (ك): "أنه لا يكون". (¬5) في (ق): "شاء" (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) في (ق) و (ك): "سبحانه". (¬8) في (ق): "إما أن يكون يقصد". (¬9) كما في "مجموع الفتاوى" (13/ 44)، و"الاختيارات الفقهية" (266 - 267). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

فصل [الكلام على نية الاستثناء ومتى تعتمد؟]

[فقد علَّق الطلاق بما هو ممكن في ظنه فيصح تعليقه، وإذا لم يجهل استحالة العلم بالمشيئة] (¬1)، فقد علَّقه على محال يعلم استحالته فلا يصح [التعليق] (¬2)، وهذا أحد الأقوال في تعليقه بالمحال. قلت: وقولهم: "إن العلم بمشية الرب محال" خطأ محض، فإن [مشيئة الرب تُعْلَم بوقوع الأسباب التي تقتضي مسبباتها؛ فإن مشيئة المسبب] (¬3) مشيئة لحكمه، فإذا أوقع عليها بعد ذلك طلاقًا علمنا أن اللَّه تعالى قد شاء طلاقَهَا. فهذا تقرير (¬4) الاحتجاج من الجانبين، ولا يخفى ما تضمنه من رُجحان أحد القولين، واللَّه أعلم. فصل [الكلام على نية الاستثناء ومتى تعتمد؟] وقد قدمنا اختلاف الفقهاء في اشتراط نية الاستثناء وزمنها وأن (¬5) أضيق الأقوال قول من يشترط النية من أول الكلام، وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه، وأوسع منه قول من يجوِّز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام، كما يقوله أصحاب أحمد وغيرهم، وأوسع منه قول من يجوّزه بالقرب، ولا يشترط اتصاله بالكلام، كما نص عليه أحمد في رواية المروزي فقال: حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "واللَّه لأغزونَّ قريشًا واللَّه لأغزون قريشًا [واللَّه لأغزون قريشًا] " (¬6) ثم سكت ثم قال: "إن شاء اللَّه" (¬7)، إذ هو استثناء بالقُرب، ولم يخلط كلامه بغيره، وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: "سألت أحمد بن حنبل عن الاستثناء في اليمين، فقال: من استثنى بعد اليمين فهو جائز، على مثل فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ قال: "واللَّه لأغزونَّ قريشًا" ثم سكت ثم قال: "إن شاء اللَّه"، ولم يبطل ذلك (¬8)، قال: ولا أقول فيه بقول هؤلاء، يعني: مَنْ لم يَرَ ذلك إلا متصلًا" هذا لفظ الشالنجي في "مسائله"، وأوسع من ذلك قول من قال: ينفعه الاستثناء، ويصح ما دام في المجلس، نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، وهو ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "السبب" بدل "المسبب" وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ك): "تحرير". (¬5) في (ك): "وأنه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬7) سبق تخريجه قريبًا. (¬8) في (ق) و (ك): "ولم يطل ذلك".

قول الأوزاعي (¬1) كما سنذكره، وأوسع منه من وجه قَوْل من لا يشترط النية بحال، كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة، قال (¬2) صاحب "الذخيرة" في (كتاب الطلاق) في الفصل السادس عشر منه: ولو قال لها: "أنت طالق إن شاء اللَّه"، ولا يدري أيّ شيء شاء اللَّه لا يقع الطلاق؛ [لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع، فعِلْمه وجهله يكون سواء، ولو قال لها: "أنت طالق"] (¬3) فجرى على لسانه من غير قَصْد: "إن شاء اللَّه"، وكان قَصْدهُ إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد حقيقة، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعًا"، وقال الجوزجاني في "مترجمه": حدثني صفوان: ثنا عمر (¬4) قال: سُئل الأوزاعي رحمه اللَّه عن رجل حلف: واللَّه لأفعلنَّ كذا وكذا ثم سكت ساعةً لا يتكلم ولا يحدث (¬5) نفسه بالاستثناء، فيقول له إنسان إلى جانبه: قل: إن شاء اللَّه، فقال: إن شاء اللَّه، أيكفِّرُ عن يمينه؟ فقال: أراه قد استثنى. وبهذا الإسناد عن الأوزاعي أنه سُئل عن رجل وصله قريبُه بدراهم فقال: واللَّه لا آخذها فقال قريبه: واللَّه لتأخذها فلما سمعه قال: "واللَّه لتأخذها" استثنى في نفسه فقال: إن شاء اللَّه، وليس بين قوله: واللَّه لا آخذها وبين قوله: إن شاء اللَّه كلامٌ إلا انتظاره ما يقول قريبه، أيكفِّر [عن] (¬6) يمينه إن هو أخذها؟ فقال: لم يحنث؛ لأنه قد استثنى. ولا ريب أن هذا أفقه وأصح من قول من اشترط نيته مع الشروع في اليمين؛ فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلًا عن (¬7) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحكايةً عن أخيه سليمان -عليه السلام- أنه [لو] (3) قال: "إن شاء اللَّه" بعدما حلف، وذكره المَلَك كان نافعًا له (¬8)، وموافقًا للقياس ومصالح العباد، ومقتضى الحنيفية السَّمْحَة، ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في أول الكلام والاتصال الشديد؛ لزالت رخصة الاستثناء، وقلَّ من انتفع بها إلا مَنْ قد درس على هذا القول وجعله منه على بال. وقد ضيَّق بعض المالكية في ذلك فقال: لا يكون الاستثناء نافعًا إلا وقد ¬

_ (¬1) انظر: "فقه الإمام الأوزاعي" (1/ 488). (¬2) في المطبوع: "وقال". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وهو في "الذخيرة" (ق 104/ ب). (¬4) في (ك): "عمير". (¬5) في (ق): "ويحدث"، وقال في الهامش: "لعله: ولا يحدث". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬7) في (ك) و (ق): "من". (¬8) سبق تخريجه قريبًا، وفي (ق): "كان نافعًا وموافق للقياس"!.

فصل [هل يشترط في الاستثناء النطق به؟]

أراده صاحبه قبل أن يُتمَّ (¬1) اليمين كما قال بعض الشافعية، وقال ابن الموَّاز: شرطُ نفعه أن يكون مقارنًا ولو [لآخر حرف] (¬2) من حروف اليمين، ولم يشترط مالك شيئًا من ذلك (¬3)، بل قال في "موطئه" -وهذا [لفظ روايته-: "قال] (¬4) عبد اللَّه بن يوسف: أحسنُ ما سمعت في الثنيا في اليمين أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه، وما كان نَسَقًا يتبع بعضه بعضًا قبل أن يسكت، فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له" (¬5) انتهى. ولم أر عن أحد من الأئمة قَطُّ اشتراطَ النيّة مع الشروع، ولا قبل الفراغ، وإنما هذا من تصرف الأتباع. فصل [هل يشترط في الاستثناء النطق به؟] وهل من شرط الاستثناء أن يتكلم به، أو ينفع إذا كان في قلبه، وإن لم يتلفظ به؟ (¬6) فالمشهور من مذاهب الفقهاء أنه لا ينفعه حتى يتلفظ به، ونص عليه أحمد (¬7) فقال في رواية ابن منصور: لا يجوز له أن يستثني في نفسه حتى يتكلم به، وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم: لو قال: "نسائي طوالق"، واستثنى بقلبه: "إلا فلانة" صحَّ استثناؤه، ولم تطلق، ولو قال: "نسائي الأربع طوالق"، واستثنى بقلبه إلا فلانة لم ينفعه، وفرَّقوا بينهما بأن الأول ليس نصًا في الأربع، فجاز تخصيصه بالنيّة، بخلاف الثاني، ويلزمهم على هذا الفرق أن يصح تقييده بالشرط بالنية؛ لأن غايته أنه تقييد مطلق؛ فعمل النية فيه أولى من عملها في تخصيص العام؛ لأن العام متناول للأفراد وضعًا والمطلق لا يتناول جميع الأحوال بالوضع (¬8)، فتقييده بالنية أولى من تخصيص العام بالنية، وقد قال صاحب "المغني" (¬9)، وغيره [إنه] (¬10): "إذا قال: ¬

_ (¬1) في المطبوع: "قبل أن يتمم". (¬2) في (ك): "لأحرف". (¬3) انظر: "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 519). (¬4) في (ك): "اللفظ رواية"، وفي (ق): "لفظ رواية". (¬5) "الموطأ" (2/ 477 - 478). (¬6) انظر: هذه المسألة في "زاد المعاد" (2/ 182)، و"بدائع الفوائد" (3/ 56). (¬7) في (ك): "ونص أحمد عليه". (¬8) تقدم الفرق بين المطلق والعام من وجوه عديدة، واللَّه الموفق. (¬9) (10/ 402 - 403 ط هجر). (¬10) ما بين المعقوفتين من (ك).

"أنت طالق"، ونوى بقلبه من غير نطق إن دخلت الدار أو بعد شهر أنه يُدَيَّنُ فيما بينه وبين اللَّه تعالى، وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين (¬1)، وقد قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬2) فيمن حلف لا يدخل الدار وقال: "نويتُ (¬3) شهرًا" قُبل منه، أو قال: "إذا دخلت دار فلان فأنت طالق"، ونوى تلك الساعة، أو ذلك اليوم قبلت نيته، قال: والرواية الأخرى لا تقبل؛ فإنه قال: إذا قال لامرأته: ["أنت طالق"] (¬4)، ونوى في نفسه إلى سَنَة تطلق، ليس ينظر إلى نيته، وقال: إذا قال: "أنت طالق"، وقال: نويتُ إن دَخَلت الدار، لا يصدق" قال الشيخ (¬5): "ويمكن أن يجمع بين هاتين الروايتين بأن يحمل قوله في القبول (¬6) على أنه يُدَيَّنُ، وقوله في عدم القبول على الحكم؛ فلا يكون بينهما اختلاف، قال: والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها -يعني مسألة: نسائي طوالق وأراد بعضهن- أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير، وإرادة (¬7) الشرط من غير ذكره [غير] (4) شائع، وهو قريب من الاستثناء. ويمكن أن يقال: هذا كله (¬8) من جملة التخصيص" انتهى كلامه. وقد تضمن أن الحالف إذا أراد الشرط دُيِّنَ وقُبل في الحكم في إحدى الروايتين، ولا يفرق فقيه ولا محصل (¬9) بين الشرط بمشيئة اللَّه (¬10) حيث يصح وينفع وبين غيره من الشروط، وقد قال [الإمام] (¬11) أحمد في رواية حرب: إن كان مظلومًا فاستثنى في نفسه رجوتُ أنه يجوز إذا خاف على نفسه، ولم ينص على خلاف هذا في المظلوم، [وإنما] (¬12) أطلق القول، وخاصُّ كلامه ومُقيّده يقضي على مُطلقه [وعامه] (¬13)؛ فهذا مذهبه. ¬

_ (¬1) انظر: "المحرر" (2/ 60) و"قواعد ابن رجب" (2/ 587 - 588/ بتحقيقي) و"إيضاح الدلائل" (2/ 91). (¬2) انظر نحوها في "مسائل صالح" (1/ 476 - 477)، و"مسائل عبد اللَّه" (373 رقم 1374)، و"مسائل أبي داود" (169)، و"قواعد ابن رجب" (2/ 588 - بتحقيقي). (¬3) في (ك): "تغربت"!! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) أي ابن قدامة -رحمه اللَّه-. (¬6) في (ك): "المقبول". (¬7) في (ق): "وإن إرادة". (¬8) في المطبوع: "هذه كلمة" وما أثبتناه من (ق)، و"المغني". (¬9) في (ك) و (ق): "ولا يحصل"، وقال في هامش (ق): "لعله زائد: لا يحصل"، وبعدها في (ك): "من". (¬10) في (ك): "مشيئته" وفي (ق): "بمشيئته". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) في (ق): "أن". (¬13) نقل رواية حرب ووجهها ابن رجب في "قواعده" (2/ 583 - 584/ بتحقيقي).

فصل [هل يشترط في الاستثناء أن يسمع نفسه؟]

فصل [هل يشترط في الاستثناء أن يسمع نفسه؟] وهل يشترط أن يسمع نفسه أو يكفي تحرك لسانه بالاستثناء، وإن كان بحيث لا يسمعه؟ فاشترط أصحاب أحمد وغيرهم أنه لا بد وأن يكون بحيث يسمعه هو أو غيره. ولا دليل على هذا من لغةٍ ولا عرفٍ ولا شرعٍ، وليس في المسألة إجماع. قال أصحاب أبي حنيفة -واللفظ لصاحب "الذخيرة" (¬1) -: "وشرط الاستثناء أن يتكلَّم بالحروف، سواء كان مسموعًا أو لم يكن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: لا بد وأن يسمع نفسه، وبه كان (¬2) يفتي الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل" وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى هذا القول، وباللَّه التوفيق. وهذا (¬3) بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب. فصل [المخرج الخامس: فعل المحلوف عليه مع الذهول ونحوه] المخرج الخامس: أن يفعل المحلوف عليه ذاهلًا أو ناسيًا أو مخطئًا أو جاهلًا أو مكرهًا أو متأولًا أو معتقدًا أنه لا يحنث به تقليدًا لمن أفتاه بذلك، أو مغلوبًا على عقله، أو ظنًا منه أن امرأته طلقت، فيفعل المحلوف عليه بناء على أن المرأة أجنبية، فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئًا. [الذهول والفرق بينه وبين النسيان] فمثال الذهول (¬4) أن يحلف أنه لا يفعل شيئًا هو مُعْتادٌ لفعله، فيغلب عليه الذهول والغفلة فيفعله، والفرق بين هذا وبين الناسي أن الناسي يكون قد غاب (¬5) عنه اليمين بالكلية فيفعل المحلوف عليه ذاكرًا له، عامدًا لفعله، ثم يتذكر أنه كان ¬

_ (¬1) (ق/ 104 ب). (¬2) في (ق): "وكان به". (¬3) في (ك): "فهذا". (¬4) عنون في هامش (ق): بقوله: "النسيان والذهول والغفلة واللهوة". (¬5) في (ق) و (ك): "غابت".

قد حلف على تركه، وأما الغافل والذاهل واللاهي فليس بناسٍ ليمينه، ولكنه لَهَا عنها أو ذهل كما يذهل الرجل عن الشيء في يده أو حجره بحديث أو نظر إلى شيء أو نحوه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 8 - 10] يقال: لهى عن الشيء يَلْهَى، كَغَشِيَ يَغْشَى إذا غفل [عنه] (¬1)، ولها به يَلْهُو، إذا لعب؛ وفي الحديث: "فلها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بشيء كان في يديه" (¬2) أي اشتغل به، ومنه (¬3) الحديث الآخر: "إذا استأثر اللَّه بشيء فَالْهَ عنه" (¬4)، وسئل الحسن عما يجده الرجل من البلل (¬5) بعد الوضوء والاستنجاء، فقال: "إلْهَ عنه" (¬6)، وكان ابن الزبير إذا سمع صوت الرعد لَهَا عن حديثه (¬7)، وقال عمر -رضي اللَّه عنه- لرجل بعثه بمال إلى أبي عبيدة ثم قال [للرسول] (¬8) "تَله عنه ثم انظر ماذا يصنع به" (¬9)، ومنه قول كعب بن زهير (¬10): ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬2) عزاه في "اللسان" (15/ 260) لسهل بن سعد، ولم أظفر به مسندًا. وفي (ك) و (ق): "يده". (¬3) في (ك): "ومن". (¬4) ذكره أبو موسى المديني في "المجموع المغيث" (3/ 165)، قال: "أي: اتركه وأعرض عنه، ولا تتعرض له". (¬5) في المطبوع: "البلة"!!. (¬6) ذكره أبو عبيد في "الغريب" (4/ 303). (¬7) وراه بهذا اللفظ: أبو عبيد في "غريب الحديث" (4/ 303) من طريق مالك، عن عامر بن عبد اللَّه بن الزبير، عن أبيه. لكن رواه مالك في "الموطأ" (2/ 992) -ومن طريقه البخاري في (الأدب): (723) باب إذا سمع الرعد، وابن أبي الدنيا في "المطر والرعد" (رقم 97) - وأحمد في "الزهد" (201)، وابن أبي شيبة (6/ 27)، وأبو الشيخ في "العظمة" (رقم 784)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (1046)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 362) ولفظه: أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث، وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، وإسناده صحيح. وصححه النووي في "الأذكار" (ص 164) وشيخنا الألباني في "صحيح الأدب المفرد" (ص 268). وذكره ابن الجوزي في "غريب الحديث" (2/ 337)، وعزاه في "الدر المنثور" (4/ 98) لابن سعد وابن المنذر في "التفسير". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) ذكره ابن الجوزي في "غريب الحديث" (2/ 337). (¬10) في "ديوانه" (ص 19 - شرح أبي سعيد السكري)، وتحرف فيه موطن الشاهد إلى: "لا ألفينك"، وفي "جمهرة أشعار العرب" للقرشي (ص 37 - ط البجاوي) كما هنا إلا "كل =

وقال كل صديق كنت آملُهُ ... لا أُلْهينَّكَ؛ إني عَنْكَ مشغول أي لا أشغلك عن شأنك وأمرك، وفي "المسند": "سألت ربي أن لا يعذب اللاهين من أمتي" (¬1)، وهم البُلْهُ الغافلون الذين لم يتعمدوا الذنوب، وقيل: هم ¬

_ = صديق" بدل "كل خليل"، وفي "لسان العرب" (15/ 260) مادة (لها) كما عند المصنف، وعزاه لكعب. (¬1) رواه الضياء في "المختارة" (2639) من طريق المخلص في "فوائده" (9/ ق 23 - 24): عن أحمد بن يوسف التغلبي قال: حدثنا صفوان بن صالح: حدثنا الوليد: حدثنا عبد الرحمن بن حسان الكناني: حدثنا محمد بن المنكدر عن أنس مرفوعًا به. أقول: هذا إسناد ظاهره الصحة: رجاله ثقات، لكنّ صفوان بن صالح، والوليد بن مسلم يدلسان تدليس التسوية، ولذلك لم يذكرا لمحمد بن المنكدر سماعًا من أنس. نعم، وقع تصريحه بالسماع منه، رواه ابن بشران في "أماليه" (رقم 1561)، وابن لال في "حديثه" (ق 117/ أ) من طريق ابن سمعان أن محمد بن المنكدر حدثه أنه سمع أنس به. وابن سمعان هذا هو عبد اللَّه بن زياد بن سليمان، أبو عبد الرحمن المدني، قاضيها، متروك اتهمه بالكذب أبو داود وغيره، انظر: "تهذيب الكمال" (14/ 526). وقد جاء الحديث من رواية الثقات باثبات يزيد الرقاشي بين ابن المنكدر وأنس. فقد رواه أبو يعلى (4101)، و (4102)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (2906) -وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1545) - من طريق صالح بن مالك، وحجين بن المثنى كلاهما عن عبد العزيز الماجشون، عن ابن المنكدر: حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس به. ورواته كلهم ثقات عدا يزيد الرقاشي وهو ضعيف. ورواه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1544) من طريق قتيبة بن سعيد: حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري، عن أبي حازم، عن يزيد الرقاشي أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ثم قال: كذا في كتابي، وقد سقط [عن] أنس، وهذا إسناد صحيح إلى يزيد الرقاشي، مما يدل على أن الصواب إثباته. وله طريق آخر عن أنس. فقد رواه أبو يعلى في "مسنده" (3570)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1610 و 6/ 2046) عن عبد الرحمن بن المتوكل البصري: حدثنا فضيل بن سليمان: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس مرفوعًا به، وقال ابن عدي: وهذا الحديث لا أعلم يرويه عن الزهري غير عبد الرحمن بن إسحاق، وعن عبد الرحمن فضيل بن سليمان. وهذا إسناد فيه مقال: عبد الرحمن بن المتوكل لم يوثقه إلا ابن حبان (8/ 379)، وانظر: "المجمع" (7/ 219). وفضيل بن سليمان هذا، وإن أخرج له مسلم، فقد ضعّفه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والنسائي، وصالح جزرة. =

فصل [النسيان ضربان]

الأطفال الذين لم يقترفوا ذنبًا (¬1) فصل [النسيان ضربان] وأما [الناسي فهو] (¬2) ضربان: ناس لليمين، وناس للمحلوف عليه؛ فالأول ظاهر، والثاني كما إذا حلف على شيء وفعله وهو ذاكر ليمينه، لكن نسي أن هذا هو المحلوف عليه بعينه، وهذا كما لو حلف لا يأكل طعام كذا وكذا فنسيه (¬3)، ثم أكله، وهو ذاكر ليمينه، ثم ذكر أن هذا هو الذي حلف عليه؛ فهذا إن (¬4) كان يعتقد أنه غير المحلوف عليه، ثم بأن أنه هو فهو خطا فإن (¬5) لم يخطر بباله كونه المحلوف عليه، ولا غيره فهو نسيان. [الفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه والمخطئ] والفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه والمخطئ (¬6) أن الجاهل قصد الفعل ¬

_ = وقال الآجري في "سؤالاته" (1247): سألت أبا داود عن حديث فضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، فقال: ليس بشيء، إنما هو حديث ابن المنكدر. ورواه أبو يعلى (3636)، ومن طريقه ابن عدي (5/ 1800) عن عمرو بن مالك النّصري عن فضيل بن سليمان، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن ابن المنكدر، عن أنس، وعمرو بن مالك هذا كان يسرق الحديث! فهذا من سرقاته، وغيّر فيه فجعله عن ابن المنكدر بدلًا من الزهري. إذن عاد الحديث إلى الإسناد الأول، وهو إسناد ابن المنكدر -كما قال أبو داود- وقد علمتَ ما فيه من ضعف، فقول شيخنا الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "الصحيحة" (1881): وجملة القول: إن الحديث حسن عندي بمجموع طرقه! لا يخفى ما فيه، وهو ليس له إلا طريقان فقط. ثم وجدتُ المصنف، يقول عنه في "طريق الهجرتين" (ص 698 - ط دار ابن كثير): وأورد له طريقين: "وله طريق ثالث عن فضيل بن سليمان عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن أنس" قال: "وهذه الطرق ضعيفة، فإن يزيد الرقاشي واه، وفضيل بن سليمان متكلم فيه، وعبد الرحمن بن إسحاق ضعيف". (¬1) انظر: "غريب الحديث" لابن الجوزي (2/ 337). و"النهاية في غريب الحديث" (4/ 283). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "الناس فهم". (¬3) في (ق) و (ك): "فأنسيه". (¬4) في المطبوع: "فهذا إذا". (¬5) في (ق): "وإن". (¬6) عنون في هامش (ق) بقوله: "الجهل والخطأ".

[درجات التأويل]

ولم يظنه المحلوف عليه، والمخطئ لم يقصده كما لو رمى طائرًا فأصاب إنسانًا. والمكره نوعان؛ أحدهما: [له] (¬1) فعل اختياري؛ لكن محمولٌ عليه، والثاني: مُلْجأ لا فعل له، بل هو آلة محضة (¬2). والمتأول كمن حلف (¬3) أنه لا يكلم زيدًا وكاتبه يعتقد أن مكاتبته ليست (¬4) تكليمًا وكمن حلف (¬5) أنه لا يشرب خمرًا فشرب نبيذًا مختلفًا فيه متأولًا وكمن حلف لا يرابي فباع بالعينة (¬6)، أو لا يطأ فرجًا حرامًا فوطئ في نكاح تحليل مختلف فيه ونحو ذلك. [درجات التأويل] والتأويل ثلاث درجات: قريبٌ، وبعيد، ومتوسط، ولا تنحصر أفراده. والمعتقد أنه لا يحنث بفعله تقليدًا سواء كان المفتي مصيبًا أو مخطئًا كمن قال لامرأته: إن خرجت من بيتي فأنت طالق، أو الطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي، فأفتاه مُفْت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على أن الطلاق [المعلَّق] (¬7) لغو كما يقوله بعض أصحاب الشافعي، كأبي عبد الرحمن الشافعي، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) انظر أحكام الإكراه في: "الإغاثة الصغرى" (ص 19 - 25)، و"مدارج السالكين" (2/ 360)، وانظر: "الإحكام" للآمدي (1/ 203 - دار الكتاب العربي)، و"المحصول" للرازي (2/ 267 - 270)، و"المحلى" لابن حزم (8/ 329 - 336)، و"البحر المحيط" للزركشي (1/ 355 - 365)، و"روضة الناظر" لابن قدامة (ص 50 - دار الكتاب العربي)، و"المغني" له (8/ 259 - فما بعدها- مع "الشرح الكبير")، و"بدائع الصنائع" للكاساني (7/ 182 - 189)، و"الأشباه والنظائر" للسيوطي (ص 361 - 363 - دار الكتاب العربي). (¬3) في المطبوع: "كمن يحلف". (¬4) في (ك): "ليس". (¬5) في (ق) و (ك): "وكمن يحلف". (¬6) "هي أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها؛ فإن اشترى بحضرة طالب العينة سلعة من آخر بثمن معلوم وقبضها ثم باعها المشتري من البائع الأول بالنقد بأقل من الثمن، فهذه أيضًا عينة، وهي أهون من الأولى، وسميت عينة لحصول النقد لصاحب العينة؛ لأن العين هو المال الحاضر من النقد، والمشتري إنما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه معجلة "النهاية" لابن الأثير" (و). ووقع في (ق): "فباع العينة". (¬7) سقط من (ك).

[المغلوب على عقله]

وبعض أهل الظاهر كما صرَّح به صاحب "المحلى"، فقال (¬1): والطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم. [المغلوب على عقله] والمغلوب على عقله كمن يفعل (¬2) المحلوف عليه في حال سكر (¬3) أو جنون أو زَوَال عقل بشرب دواء أو بنج أو غضب شديد ونحو ذلك. [ظن الطلاق] والذي يظن أن امرأته طلقت، [فيفعل المحلوف] (¬4) عليه بناء على أنه لا يؤثر في الحنث، كما إذا قال: إن كلمت فلانًا فأنت طالق ثلاثًا ثم قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثًا فقيل له (¬5): إن امرأتك قد (¬6) كلَّمت فلانًا فاعتقد صدق القائل، وأنها قد بانت منه (6)، ففعل المحلوف عليه بناء على أن العصمة قد انقطعت، ثم بأن له أن المخبر كاذب. وكذلك لو قيل له: قد كلمت فلانًا فقال: طلقت مني ثلاثًا ثم بأن [له] (¬7) أنها لم تكلمه، ومثل ذلك لو قيل له: إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان، فقال: هي طالق ثلاثًا ثم ظهر كذب المخبر وأن ذلك لم يكن منه شيء. [أقوال من أفتى بعدم الحنث] فاختلف الفقهاء في ذلك [اختلافًا لا ينضبط] (¬8). فنذكر أقوال من أفتى بعدم الحنث في ذلك؛ إذ هو الصواب بلا ريب، وعليه تدل الأدلة الشرعية ألفاظها وأقيستها واعتبارها وهو مقتضى قواعد الشريعة (¬9)؛ فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، فلو (¬10) فعل المكَّلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيًا فأولى في باب اليمين أن لا يكون حانثًا. ¬

_ (¬1) في "المحلى" (10/ 213/ م 1969). (¬2) في (ك): "يفعله". (¬3) في (ك): "سكره". (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "فيحلف". (¬5) في (ق): "وقيل له". (¬6) سقط من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "يضبط". (¬9) في (ك) و (ق): "الشرعية". (¬10) في المطبوع و (ك): "وإن".

يوضحه (¬1) أنه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه، والنسيان والجهل والخطأ والإكراه غير داخل تحت قدرته، فما فعله (¬2) في تلك الأحوال لم يتناوله يمينه، ولم يقصد منع نفسه منه. يوضحه أن اللَّه تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره، فإلزامه بالحنث أعظم مؤاخذة لما (¬3) تجاوز اللَّه عن المؤاخذة به، كما أنه تعالى لما تجاوز للأمة عمَّا حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الأحكام. يوضحه أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به، ولهذا هو عفو لا يكون به مُطيعًا ولا عاصيًا. يوضحه أن اللَّه تعالى إنما رتَّب الأحكام في الألفاظ لدلالتها على قصد المتكلِّم بها وإرادته، فإذا تيقَّنا أنه قصد كلامها ولم يقصد معانيها ولم يقصد مخالفة ما التزمه، ولا الحنث؛ فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده، بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك. يوضحه أن اللفظ دليل على القصد، فاعتبر لدلالته عليه، فإذا علمنا يقينًا خلاف المدلول لم يجز أن نجعله (¬4) دليلًا على ما تيقنّا خلافه، وقد رفع اللَّه سبحانه المؤاخذة عمن (¬5) قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأً ولم يلزمه شيئًا من ديته، بل حمَّلها غيره، فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الأيمان؟ هذا من الممتنع على الشارع. وقد رفع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المؤاخذة عمن أكل وشرب (¬6) في نهار رمضان ناسيًا لصومه (¬7)، مع أن أكله وشربه فعل لا يمكن تداركه (¬8)، فكيف يؤاخذه بفعل ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ويوضحه". (¬2) في (ق): "فما فعل". (¬3) في هامش (ق): "لعله: بما". (¬4) في (ق): "نفعله"، وقال في الهامش: "لعله: نجعله". (¬5) في المطبوع و (ك): "عن"، ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬6) في (ق): "أو شرب". (¬7) رواه البخاري (1933) في (الصوم): باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، و (6669) في (الأيمان والنذور): باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1155) في (الصيام): باب أكل الناسي وضربه وجماعه لا يفطر، من حديث أبي هريرة. (¬8) بيَّن المصنف أن الأكل والشرب نسيانًا لا يفطر، وبين أنه على وفق القياس في "زاد المعاد" (1/ 162)، و"تهذيب السنن" (3/ 237 - 239) مهم، و (3/ 276 - 277).

المحلوف عليه ناسيًا ويطَلِّق عليه امرأته، ويخرب بيته (¬1)، ويشتت شمله وشمل أولاده وأهله، وقد عفا له عن الأكل والشرب في نهار الصوم ناسيًا؟ وقد عفا عمَّن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدًا غير ناس لما تأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بالحبلين المعروفين (¬2)، فجعل يأكل حتى تبيَّنا له وقد طلع النهار، وعفا له عن ذلك، ولم يأمره بالقضاء، لتأويله، فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته (¬3)، ويفرق بينه وبين حبيبته (¬4)، ويشتت شمله كل مشتت؟ وقد عفا عن المتكلم في صلاته عمدًا ولم يأمره بالإعادة لما كان جاهلًا بالتحريم ولم (¬5) يتعمد مخالفة حكمه، فألغى كلامه، ولم يجعله مبطلًا للصلاة (¬6)، فكيف لا يقتدي به ويلغي قول الجاهل وفعله في باب الأيمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع؟ وإذا كان قد عفا عمن قدم شيئًا أو أخّره من [أعمال] (¬7) المناسك من الحلق والرمي والنحر نسيانًا أو جهلًا (¬8) فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانًا (¬9)، فكيف يحنث ¬

_ (¬1) في (ك): "ويخرب عليه نيته". (¬2) قال (د): "لما نزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} فهم عديُّ بن حاتم أن الكلام على ظاهره، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- له: "إنك لعريض القفا". قلت: والحديث رواه البخاري (1916) في (الصوم): باب قول اللَّه تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}، و (4509) في (التفسير): باب {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى. . .}، ومسلم (1090) في (الصوم): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، من حديث عدي بن حاتم. (¬3) في (ك): "نيته". (¬4) في (ك): "حبيبه". (¬5) في المطبوع و (ك): "لم". (¬6) يدل عليه قول معاوية بن الحكم السلمي: "بينا أنا أصلي مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك اللَّه، فرماني الغموم بأبصارهم" رواه مسلم (537) وغيره. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "جاهلًا" وسقطت من (ك). (¬9) يشير إلى حديث ابن عباس في تقديم هذه الأعمال بعضها على بعض، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا حَرَجَ. رواه البخاري في مواطن منها في (كتاب العلم) (84): باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس -وانظر أطرافه هناك- ومسلم (1307) في (الحج): باب من حلق قبل النحر أو نحر قبل الحلق.

من قدَّم ما حلف على تأخيره أو أخَّر ما حلف على تقديمه ناسيًا أو جاهلًا؟ وإذا كان قد عفا عمَّن حَمَل القذر في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا [به] (¬1)، فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به؟ وكيف تكون أوامر الرب تعالى ونواهيه دون ما التزمه الحالف بالطلاق والعتاق؟ وكيف يحنِّث [الشارع] (¬2) من لم يتعمد الحنث؟ وهل هذا إلا بمنزلة تأثيمه من لم يتعمد الإثم، وتكفيره (¬3) من لم يتعمد الكفر؟ وكيف يُطلِّق أو يُعتق على من لم يتعمد الطلاق والعتاق، ولم يطلق على الهازل إلا لتعمُّده فإنه تعمّد الهزل ولم يرد حكمه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فليس الهازل معذورًا بخلاف (¬4) الجاهل والمخطئ والناسي (¬5). وبالجملة فقواعد الشريعة وأصولها تقتضي ألا يحنث الحالف في جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويَسْلم من التناقض إلا هذا القول. ¬

_ (¬1) يشير في هذا إلى حديث أبي سعيد الخدري في خَلْعه -صلى اللَّه عليه وسلم- لنعله في صلاته ثم قوله: "إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرًا. . " الحديث رواه أحمد في "مسنده" (3/ 20 و 92)، والطيالسي (2154)، وأبو داود في "سننه" (650) في (الصلاة): باب الصلاة في النعل، وأبو يعلى (1194)، وابن خزيمة (1017)، والحاكم (1/ 260)، والبيهقي (2/ 402 و 403 و 431) من طرق عن حماد بن سلمة، عن أبي نعامة السعدي، عن أبي نضرة عن أبي سعيد به. قال الحاكم: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وفي المطبوع من "سنن أبي داود" وقع حماد بن زيد، وجعل زيد بين معقوفين، هو خطأ قطعًا، فحماد بن سلمة هو الذي يروي عن أبي نعامة السعدي، ثم الحديث رواه البيهقي (2/ 431) من طريق أبي داود، ووقع اسم حماد مصرحًا به: ابن سلمة. نعم رواه حماد بن زيد عن أيوب عن أبي نعامة عن أبي نضرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، كما أشار إلى ذلك أبو حاتم كما في "علل ابنه" (1/ 121) لكن هذه لا تؤثر ولا تعل الحديث كما قال أبو حاتم. وله شاهد من حديث ابن مسعود: رواه الطبراني في "الكبير" (9972)، والبزار (606)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 511)، والحاكم (1/ 140)، وقال البزار: "لا نعلم رواه هكذا إلا أبو حمزة". قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 56): وأبو حمزة هو ميمون بن الأعور ضعيف. وله طريق آخر عند ابن المنذر في "الأوسط" (2/ 164 - 160 رقم 733)، وانظر: "إتحاف المهرة" (10/ 353 - 354)، و"فتح الباري" (1/ 348). وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) في (ك): "وتكفير". (¬4) في (ك): "يخالف". (¬5) في (ق): "الناسي والمخطئ".

[من حنث في بعض ذلك دون بعض، وروايات الإمام أحمد]

وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وإن سلم من التناقض لكن قوله مخالف لأصول الشريعة وقواعدها وأدلتها. [مَنْ حنَّث في بعض ذلك دون بعض، وروايات الإمام أحمد] ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض ولم يطرد له قول، ولم يسلم له دليل عن المعارضة. وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في ذلك؛ ففيه ثلاث روايات (¬1) إحداها: أنه لا يحنث في شيء من الأيمان بالنسيان ولا الجهل بفعل المحلوف عليه [مع النسيان] (¬2) سواء كانت من الأيمان المكفَّرة أو غيرها وعلى هذه الرواية فيمينه باقية لم تنحل بفعل المحلوف عليه مع النسيان والجهل؛ لأن اليمين كما لم يتناول حالة الجهل والنسيان بالنسبة إلى الحنث لم يتناولها (¬3) بالنسبة إلى البر؛ إذ (¬4) لو كان فاعلًا المحلوف (¬5) عليه بالنسبة إلى البر (¬6)؛ لكان فاعلًا له بالنسبة إلى الحنث. وهذه الرواية [هي] (¬7) اختيار شيخ الإسلام (¬8) وغيره، وهي أصح قولي الشافعي اختاره جماعة من أصحابه (¬9). والثانية: يحنث في الجميع، وهي مذهب أبي حنيفة (¬10)، ومالك (¬11). والثالثة: يحنث في اليمين التي لا تكفَّر كالطلاق والعتاق، ولا يحنث في اليمين المكفَّرة، وهي اختيار القاضي وأصحابه (¬12). ¬

_ (¬1) انظرها في "المغني" (11/ 174 - 175 مع "الشرح الكبير")، و"الإنصاف" (11/ 25). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق): "تناوله". (¬4) في المطبوع: "إذا". (¬5) في المطبوع و (ك): "فاعلًا للمحلوف". (¬6) بعدها في (ك): "لكان فاعلًا للمحلوف عليه بالنسبة إلى البر". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬8) انظر: "مجموع الفتاوى" (33/ 308)، و"تيسير الفقه الجامع" (3/ 1235 - 1237). (¬9) كأبي حامد القاضي والروياني وغيرهما، انظر: "الروضة" للنووي (11/ 79) فقد ذكر أن الأظهر في المذهب أنه لا يحنث، وفي (ك): "إختارها". (¬10) كما في "رد المحتار" (3/ 709). (¬11) انظر: "أسهل المدارك" للكشناوي (2/ 23). (¬12) اختارها الخرقي والخلال، وهي قول أبي عبيد، قال ابن قدامة: هذا ظاهر المذهب، انظر: "المغني" (11/ 174 - 175 "الشرح").

[تخريج مذاهب المحنثين مطلقا والذين فرقوا]

[تخريج مذاهب المحنثين مطلقًا والذين فرَّقوا] والذين حنَّثوه [مطلقًا] (¬1) نظروا إلى صورة الفعل، وقالوا: قد وجدت المخالفة، والذين فرَّقوا قالوا: الحلف بالطلاق والعتاق من باب التعليق على الشرط، فإذا وُجد الشرط وُجد المشروط، سواء كان مختارًا لوجوده أو لم يكن، كما لو قال: "إن قَدِمَ زيدٌ فأنت طالق" ففعل (¬2) المحلوف عليه في حال جنونه، فهل هو كالنائم فلا يحنث أو كالناسي فيجري فيه الخلاف؟ على وجهين في مذهب الإمام أحمد والشافعي، وأصحها (¬3) أنه كالنائم؛ لأنه غير مكلَّف، ولو حلف على من يقصد منعه كعبده وزوجته وولده وأجيره، ففعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا فهو كما لو حَلَف على فعل نفسه فَفَعَله ناسيًا أو جاهلًا، [هو] (¬4) على الروايات الثلاث، و [كذلك هو] (4) على القولين في مذهب الشافعي، فإن منعه لمن (¬5) يمتنع بيمينه كمنعه لنفسه؛ فلو حلف لا يسلِّم على زيد فسلم على جماعة هو فيهم ولم يعلم فإن لم نحنِّث الناسي فهذا أولى [بعدم الحنث] (4) لأنه لم يقصده، والناسي قد قصد التسليم عليه، وإن حنَّثنا الناسي هل (¬6) يحنث هذا؟ على روايتين: إحداهما (¬7): يحنث (¬8) لأنه بمنزلة الناسي؛ إذ هو جاهل بكونه معهم (¬9). والثانية: [وهي أصح -أنه لا يحنث] (¬10)، قاله أبو البركات (¬11) وغيره، وهذا يدل على أن الجاهل أعذر من الناسي وأولى بعدم الحنث، وصرَّح به أصحاب الشافعي في الأيمان، ولكن تناقضوا [كلهم] (¬12) في جعل الناسي في الصوم أولى بالعذر من الجاهل، ففطَّروا الجاهل دون الناسي، وسوَّى شيخنا بينهما، وقال (¬13): الجاهل أولى بعدم الفطر [من الناسي، (فسلم) (¬14) من التناقض] (12)، وقد سووا بين ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق) و (ك): "فإن فعل". (¬3) في المطبوع: "وأصحهما"، وفي (ك) و (ق): "أصحهما" دون واو. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "من". (¬6) في (ك) و (ق): "فهل". (¬7) في (ق): "أحدها"!. (¬8) في (ك): "لا يحنث". (¬9) في (ق): "لكونه معهم". (¬10) في (ق): "لا يحنث وهي إصح". (¬11) في "المحرر في الفقه" (2/ 81). (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬13) انظر: "كتاب الصيام من شرح العمدة" (1/ 313 - فما بعد). (¬14) بدل ما بين القوسين في (ك): "فعلم".

فصل [فعل المحلوف عليه مكرها]

الجاهل والناسي فيمن حمل النجاسة في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا ولم يعلم حتى فرغ منها، فجعلوا الروايتين والقولين في الصورتين سواء، وقد سوَّى اللَّه تعالى بين المخطئ والناسي في عدم المؤاخذة، وسوَّى بينهما (¬1) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: "إن اللَّه تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان" (¬2) فالصواب التسوية بينهما. فصل [فعل المحلوف عليه مكرهًا] وأما إذا فعل المحلوف عليه مُكْرَهًا؛ فعن أحمد روايتان منصوصتان: إحداهما: يحنث في الجميع. والثانية: لا يحنث في الجميع، وهما قولان للشافعي، وخرَّج أبو البركات (¬3) رواية ثالثة أنه يحنث باليمين (¬4) بالطلاق والعتاق دون غيرهما من الأيمان من نصِّه على الفرق في صورة الجاهل والناسي، فإن ألجئ أو حمل أو فتح فمه [وأوجر (¬5) ما حلف أنه لا يشربه فإن لم] (¬6) يقدر على الامتناع لم يحنث، وإن قدر على الامتناع فوجهان، وإذا لم يحنث فاستدام ما ألجئ عليه كما لو ألجئ إلى دخول دار حلف ألا يدخلها (¬7)، فهل يحنث؟ فيه وجهان، ولو حلف على غيره ممن يقصد منعه على ترك فعل ففعله مكرهًا أو ملجأً فهو على هذا الخلاف [سواء] (¬8) [اللَّه أعلم] (¬9). فصل [حكم المتأول، والجاهل، والمقلّد] أما (¬10) المتأوِّل فالصواب أنه لا يحنث، كما لم يأثم في الأمر والنهي، وقد صرِّح به الأصحاب فيما لو حلف أنه (¬11) لا يفارق غريمه حتى يقبض حقه فأحاله به ففارقه يظن أن ذلك قبض، وأنه برَّ في يمينه، فحكوا فيه الروايات الثلاث، ¬

_ (¬1) في المطبوع: "بينهم". (¬2) مضى تخريجه. (¬3) في "المحرر" (2/ 81). (¬4) في (ق): "في اليمين". (¬5) "صب فيه كرهًا" (و). (¬6) بدل من بين المعقوفتين في (ق): "أو وجر ما حلف ألا يشتريه ولم". (¬7) في المطبوع: "أنه لا يدخلها". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬10) في (ك) و (ق): "وأما". (¬11) في (ك) و (ق): "أن".

وطَرْدُ هذا كل متأول ظن أنه لا يحنث بما فعله؛ فإن غايته أن يكون جاهلًا بالحنث. وفي الجاهل الروايات الثلاث. وإذا ثبت هذا في حق المتأول فكذلك في حق المقلِّد أولى (¬1)، فإذا حلف بالطلاق ألا يكلم فلانًا أو لا يدخل داره فأفتاه مُفت بعدم وقوع الطلاق في هذه اليمين، اعتقادًا لقول علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه (¬2)، وطاوس، وشُريح، أو اعتقادًا (¬3) لقول أبي حنيفة، والقفّال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط، أو اعتقادًا (3) لقول أشهب -وهو أجلُّ أصحاب مالك- أنه إذا علَّق الطلاق بفعل الزوجة [أنه] (¬4) لم يحنث بفعلها أو اعتقادًا (3) لقول أبي عبد الرحمن الشافعي [أجل أصحاب الشافعي] (¬5): إن الطلاق المعلّق لا يصح كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلق، وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر، لم يحنث في ذلك كله، ولم يقع الطلاق، ولو فرض فساد هذه الأقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولًا مقلدًا ظانًا أنه لا يحنث به، فهو أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي، وغاية ما يقال [في الجاهل] (¬6): [إنه] (¬7) مفرط حيث لم يستقص ولم يسأل غير (7) من أفتاه، وهذا بعينه يقال في الجاهل: إنه مفرط حيث لم يبحث، ولم يسأل (¬8) عن المحلوف عليه، فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل البتة، فكيف والمتأول مطيع للَّه مأجور إما أجرًا واحدًا أو أجرين؟ (¬9)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤاخذ خالدًا في تأويله حين قتل بني جذيمة بعد إسلامهم (¬10)، ولم يؤاخذ أسامة حين قتل من قال: لا إله إلا اللَّه، لأجل التأويل (¬11)، ولم يؤاخذ من أكل نهارًا ¬

_ (¬1) في (ق): "وأولى". (¬2) مضى لفظه وتخريجه. (¬3) في (ق): "واعتقادًا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وبعدها في (ك): "يقع" بدل "يحنث". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) قال (د): "في نسخة "ولم يسأل عمن أفتاه"". قلت: وهو المثبت في (ق). (¬8) في (ق): "لم يحنث ولم يسأل"، وفي (ك): "لم يسأل ولم يبحث". (¬9) في (ق): "إما واحدًا وإما أجرين". (¬10) سبق تخريجه. (¬11) رواه البخاري (4269) في (المغازي): باب بعث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة و (6872) في (الديات): باب قول اللَّه تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا. .}، ومسلم (96) في (الإيمان): باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إلا اللَّه، من حديث أسامة بن زيد، لكن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عاتبه عتابًا شديدًا.

في الصوم عمدًا لأجل التأويل (¬1)، ولم يؤاخذ أصحابه حين قَتَلوا من سلَّم عليهم وأخذوا غنيمته لأجل التأويل (¬2)، ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصوم والصلاة لأجل التأويل (¬3)، [ولم يؤاخذ عمر -رضي اللَّه عنه- حين ترك الصلاة لما أجنب في السفر ¬

_ (¬1) يصلح لهذا حديث سهل بن سعد قال: "فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل اللَّه بعد {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه يعني الليل والنهار". رواه البخاري (1917) في (الصوم)، و (4511) في (التفسير)، ومسلم (1091) في (الصوم): باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الشمس. ونحوه حديث عدي بن حاتم المتقدم. (¬2) رواه البخاري (4591) في (التفسير): {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}، ومسلم (3025) في (التفسير)، من حديث ابن عباس. (¬3) هو في حديث حَمْنة بنت جحش التي كانت تستحاض حيضة شديدة فقالت لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فما ترى فيها قد منعتي الصلاة والصوم. رواه الشافعي في "الأم" (1/ 68) و"مسنده" (1/ 47)، وإسحاق بن راهويه (5/ رقم 2190)، وأحمد (6/ 381 - 382 و 439)، وأبو داود (287) في (الطهارة): باب من قال: "إذا أقبلت الحيضة تدع الصلاة"، والترمذي (128)، وابن ماجه (627) في (الطهارة): باب ما جاء في البكر إذا ابتدئت مستحاضة أو كان لها أيام حيض فنسيتها، وعبد الرزاق في "مصنفه" (1174)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2717)، والطبراني (24/ رقم 551 - 553)، وابن المنذر في "الأوسط" (810، 811)، والدارقطني (1/ 214 و 215) وفي "المؤتلف والمختلف" (808)، وابن عبد البر (16/ 62)، والحاكم (1/ 172)، وابن حزم (2/ 193، 194)، والبغوي (326) وأبو نعيم في "الطب النبوي" (ق 9/ ب)، والبيهقي (1/ 338)، و"الخلافيات" (3/ رقم 1013، 1014 - بتحقيقي) و"الصغير" (1067) و"المعرفة" (2194)، وابن الجوزي في "التحقيق" (301). من طرق عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن إبراهيم بن محمد بن طلحة عن عمه عمران بن طلحة عن حمنة به. قال الترمذي: حسن صحيح، وسألت محمدًا (يعني البخاري) عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن قال أحمد بن حنبل: هو حديث حسن صحيح. وقال: الترمذي في "العلل الكبير": قال محمد: حديث حمنة بنت جحش في المستحاضة هو حديث حسن، إلا أن إبراهيم بن محمد بن طلحة هو قديم، ولا أدري سمع منه عبد اللَّه بن محمد بن عقيل أم لا، وكان أحمد بن حنبل يقول: هو حديث صحيح. وقد نقل البيهقي عبارة الترمذي هذه، فرد ابن التركماني في "الجوهر النقي" (1/ 339): "إن ابن عقيل سمع من ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم، وهم نظراء شيوخ إبراهيم فكيف يُنْكر سماعه منه". واعلم أن مدار الكلام على هذا الحديث هو حال عبد اللَّه بن =

ولم يجد ماءً] (¬1) [لأجل التأويل]، ولم يؤاخذ من تمعَّك (¬2) في التراب كتمعك الدابة وصلى لأجل التأويل (¬3)، وهذا أكثر من أن يُستقصى. وأجمع أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن، فهو هدر في قتالهم في الفتنة، قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلهم متوافرون، فأجمعوا (¬4) على أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية، ولم يُؤاخذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين رمى حاطب بن أبي بلتعة المؤمن البدري بالنفاق لأجل التأويل (¬5)، ولم يؤاخذ أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج: "إنك منافقٌ تجادل عن المنافقين" (¬6) لأجل التأويل، ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدُّخُشم: "ذلك [المنافق] (¬7) نرى وجهه وحديثه إلى المنافقين" لأجل التأويل (¬8)، ¬

_ = محمد بن عقيل فقد تكلم فيه غير واحد وقوَّاه أحمد وإسحاق والحميدي فالظاهر أنه حسن الحديث. وانظر "الجوهر النقي" ففيه رد على من ضعَّفه وانظر: "الخلافيات" (3/ 326 - 327 - بتحقيقي) و"التلخيص الحبير" (1/ 163)، و"إرواء الغليل" (1/ 202). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وما بعدهما زيادة من (ك). والحديث تقدم. (¬2) "معكه في التراب: دلكه" (و). (¬3) هو في حديث عمار في التيمم، وقد تقدم. (¬4) في (ق) و (ك): "وأجمعوا". (¬5) رواه البخاري (3007) في (الجهاد): باب الجاسوس، و (3081) باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة، و (3983) في (المغازي): باب فضل من شهد بدرًا، و (4274) باب غزوة الفتح، و (4890) في (التفسير): باب {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، و (6259) في (الاستئذان): باب من نظر في كتاب من يُحذر على المسلمين ليستبين أمره، و (6939) في (استتابة المرتدين): باب ما جاء في المتأولين، ومسلم (2494) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل أهل بدر، من حديث علي بن أبي طالب. (¬6) هو جزء من حديث عائشة في قصة الإفك: رواه البخاري في (الشهادات) (2661) في باب تعديل النساء بعضهم بعضًا، و (4141) في (المغازي): باب حديث الإفك، و (4750) في (التفسير): باب {وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ. . .}، ومسلم (2770) في (التوبة): باب في حديث الإفك. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "منافق ما"، وفي (ك): "ذاك منافق". (¬8) رواه البخاري (425) في (الصلاة): باب المساجد في البيوت، و (5401) في (الأطعمة): باب الخريزة، ومسلم (33) في (الإيمان): باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، و (1/ 455) في (الصلاة): باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر، من حديث عتبان بن مالك.

ولم يؤاخذ عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين (¬1) ضرب صَدْر أبي هريرة حتى وقع على الأرض [وقد ذهب] (¬2) للتبليغ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمره فمنعه عمر وضربه وقال: "ارجع"، وأقرَّه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فعله، ولم يؤاخذه لأجل التأويل (¬3). وكما رفع مؤاخذة التأثيم (¬4) في هذه الأمور وغيرها رفع مؤاخذة الضمان في الأموال و [القضاء في] (¬5) العبادات، فلا يحل لأحد أن يفرِّق بين رجل (¬6) وامرأته لأمر يخالف مذهبه، وقوله الذي قلّد فيه بغير حجة، فإذا (¬7) كان الرجل قد تأول وقلّد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحل له أن يحكم [عليه] (¬8) بأنَّه حانث في حكم اللَّه ورسوله ولم يتعمد الحنث، بل هذه (¬9) فرية على اللَّه ورسوله وعلى الحالف، وإذا وصل [به] (10) الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك، وله مقام وأي مقام بين يدي اللَّه [يوم القيامة] (¬10) يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلّده، واللَّه المستعان. وإذا قال الرجل لامرأته: "أنت طالق ثلاثًا لأجل كلامك لزيد وخروجك من بيتي" فبان أنَّها لم تكلمه، ولم تخرج من بيته لم تطلق، صرَّح به الأصحاب، قال ابن أبي موسى في "الإرشاد" (¬11): فإن قال: "أنت طالق أن دخلت الدار" بنصب الألف، والحالف من أهل اللسان، فإن كان تقدم لها دخول إلى تلك الدار قبل اليمين طلقت في الحال؛ لأن ذلك للماضي من الفعل دون المستقبل، وإن كانت لم تدخلها قبل اليمين بحال لم تطلق، وإن دخلت الدار بعد اليمين إذا كان الحالف قصد بيمينه الفعل الماضي دون المستقبل؛ لأن معنى ذلك (¬12): إن كنت دخلت الدار فأنت طالق، وإن كان الحالف جاهلًا باللسان وإنما أراد باليمين الدخول المستقبل فمتى دخلت الدار بعد اليمين طلقت بما حلف به قولًا واحدًا، ¬

_ (¬1) في المطبوع: "حسين". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "وذهب". (¬3) رواه البخاري في (العلم): باب من خص بالعلم قومًا دون قوم كراهية أن لا يفهموا، ومسلم (31) في (الإيمان): باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعًا، من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه-. (¬4) قال (د): "في نسخة: "مؤاخذة النائم" تحريف". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ك): "الرجل". (¬7) في (ق): "اذا". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) في (ق) و (ك): "هذا". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬11) (ص 299). (¬12) في (ق) و (ك): "لأن ذلك يعني".

وإن كان تقدم لها دخول [إلى] (¬1) الدار قبل اليمين فهل يحنث بالدخول الماضي أم لا؟ على وجهين أصحهما لا يحنث. والمقصود أنه إذا عُلل الطلاق بعلَّة ثم تبين انتفاؤها؛ فمذهب أحمد أنه لا يقع بها (¬2) الطلاق، وعند شيخنا لا يشترط ذكر التعليل بلفظه، ولا فرق عنده بين أن يطلقها لعلة مذكورة [في اللفظ] (¬3) أو غير مذكورة، فإذا تبيَّن انتفاؤها لم يقع [به] الطلاق (¬4)، وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره، ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره، فإذا قيل له: امرأتك قد (¬5) شربت مع فلان أو باتت (¬6) عنده، فقال: اشهدوا عليَّ أنها طالق ثلاثًا ثم علم أنها كانت تلك الليلة في بيتها قائمة تصلّي فإن هذا الطلاق لا يقع به قطعًا وليس بين هذا وبين قوله: "إن كان الأمر كذلك فهي طالق [ثلاثًا] " فرق البتة، لا عند الحالف ولا في العرف ولا في الشرع، فإيقاع الطلاق بهذا وهمٌ محض، إذ يقطع بأنه لم يُرد طلاق من ليست كذلك، وإنما أراد طلاق من فعلت ذلك، وقد أفتى جماعة من الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي -منهم الغزالي والقفال وغيرهما- الرجل يمر على المكَّاس برقيق له فيطالبه بمكسهم (¬7) فيقول: "هم أحرار" ليتخلَّص من ظلمه، ولا غرض له في عِتْقِهِم، أنهم لا يُعتقون، وبهذا أفتينا نحنُ تجارَ اليمن لما قدموا [منها] (3)، ومَروا على المكاسين فقالوا لهم ذلك، وقد صرَّح (¬8) أصحاب الشافعي في باب الكتابة (¬9) بما إذا دفع إليه العوض فقال: "اذهب فأنت حر" بناء على أنه سلَّم له العوض فظهر العوض مستحقًا ورجع به على صاحبه أنه لا يعتق، وهذا هو الفقه بعينه، وصرَّحوا أن الرجل لو علَّق طلاق امرأته بشرط فظن أن الشرط قد وقع فقال: "اذهبي فأنت طالق"، وهو يظن أن الطلاق قد وقع بوجود الشرط فبان أن الشرط لم يوجد لم يقع الطلاق، ونص على ذلك شيخنا قدس اللَّه روحه (¬10)، ومن هذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬2) في (ق): "به". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر: "الاختيارات الفقهية" (ص 270)، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬5) سقط من (ك). (¬6) في (ك) و (ق): "وباتت". (¬7) المكاس، ويقال: العشار، الذي يأخذ المكس من البائع، والمكس: دراهم كانت تؤخذ من بائع السلع في الأسواق في الجاهلية، انظر: "لسان العرب" (6/ 220 - دار الفكر)، ونحوه في (و)، وفي (ق): "يطلبه". (¬8) في المطبوع: "وقد صرح به". (¬9) في (ك): "الكناية". (¬10) انظر: "الاختيارات الفقهية" (ص 270، 271).

فصل [مذهب مالك]

القبيل لو قال: "حلفت بطلاق امرأتي ثلاثًا إلا أفعل كذا"، وكان كاذبًا ثم فعله لم يحنث ولم تطلق عليه امرأته، قال الشيخ في "المغني" (¬1): إذا قال: حلفتُ (¬2)، ولم يكن حلف فقال الإمام أحمد: هي كذبة ليس عليه يمين، وعنه عليه الكفارة، لأنه أقرَّ على نفسه، والأول هو المذهب لأنه الحكم فيما بينه وبين اللَّه تعالى، فإنه (¬3) كذب في الخبر به كما لو قال: "ما صليتُ"، وقد صلى. قلت: قال أبو بكر عبد العزيز: باب القول في إخبار الإنسان بالطلاق واليمين كاذبًا قال في رواية الميموني: إذا قال: "قد حلفت بيمين" (¬4)، ولم يكن حلف فعليه كفارة يمين، فإن قال: "قد حلفتُ بالطلاق"، ولم يكن حلف [بها] (¬5) يلزمه الطلاق، ويرجع إلى نيته في الواحدة والثلاث، وقال في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول: قد حلفت ولم يكن حلف: فهي كذبة ليس عليه يمين، فاختلف أصحابنا على ثلاث طرق (¬6): إحداها (¬7): أن المسألة على روايتين. والثانية: -وهي طريقة أبي بكر- قال عقيب حكاية الروايتين: قال عبد العزيز في الطلاق: يلزمه وفيما لا (¬8) يكون من الأيمان: لا يلزمه. والطريقة الثالثة: أنه حيث ألزمه أراد به في الحكم، وحيث لم يلزمه [بقي فيما] (¬9) بينه وبين اللَّه، وهذه الطريقة أفقه وأطرد على أصول مذهبه، واللَّه أعلم. فصل [مذهب مالك] وأما مذهب مالك في هذا الفصل فالمشهور فيه التفريق بين النسيان والجهل والخطأ وبين الإكراه والعجز، ونحن نذكر كلام أصحابه في ذلك. قالوا: من حلف ألا يفعل (¬10) حنث بحصول الفعل (¬11)، عمدًا أو سهوًا أو ¬

_ (¬1) (10/ 379/ 1261 - هجر)، و (8/ 285 - "الشرح الكبير"). (¬2) في (ق): "إذا أقر أنه حلف". (¬3) في (ك): "فإذا". (¬4) في (ق): "حلفت باليمين". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في (ق) و (ك): "ثلاثة طرق". (¬7) في (ق) و (ك): "أحدها". (¬8) قال في هامش (ق): "لعل "لا" زائدة" وهي ساقطة من (ك). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "يعني فيما". وفي (ق)؛ "ففيما". (¬10) في (ق): "لا يفعل"، وفي (ك): "يفعل". (¬11) في (ق): "لحصول الفعل".

فصل [في تعذر فعل المحلوف عليه وعجز الحالف عنه]

خطًا واختار أبو القاسم السيوري ومن تبعه (¬1) من محققي الأشياخ أنه لا يحنث إذا نسي اليمين، وهذا اختيار القاضي أبي بكر [ابن] العربي، قالوا: ولو أكره لم يحنث (¬2). فصل [في تعذر فعل المحلوف عليه وعجز الحالف عنه] (¬3) قال أصحاب مالك: مَنْ حلف على شيء ليفعلنَّه فحيل بينه وبين فَعْلِه، فإنْ أجَّل أجلًا فامتنع الفعلُ لعدم (¬4) المحل وذهابه كموت (¬5) العبد المحلوف على ضربه أو الحمامة المحلوف على ذبحها فلا حنث عليه بلا خلافٍ منصوص، وإن امتنع الفعل لسبب منع الشرع [منه] (¬6) كمن حلف ليطأنَّ زوجته أو أمته فوجدها حائضًا فقيل: لا شيء عليه (¬7). قلت: وهذا هو الصواب، لأنه إنما حلف على وطء يملكه، ولم يقصد الوطءَ الذي لم يملّكه الشارع إياه، فإنْ قصدَه حنث، [وهذا هو الصواب، لأنه إنما حلف على وطء يملكه] (¬8)، وهكذا في صورة العجز الصواب أنه لا يحنث، فإنه إنما حلف على شيء يدخل تحت قدرته، ولم يلتزم فعل ما لا يقدر عليه، فلا تدخل حالة العجز تحت يمينه، وهذا بعينه قد قالوه في المكره والناسي والمخطئ، والتفريق (¬9) تناقضٌ ظاهر، فالذي يليق بقواعد أحمد وأصوله أن لا يحنث في صورة العجز، سواء كان العجز لمنع (¬10) شرعي أو منع كوني قدري، كما هو قوله فيما [لو] (¬11) كان العجز لإكراه مكره، ونصه على خلاف ذلك لا يمنع أن يكون عنده رواية مخرَّجة من أصوله المذكورة، وهذا من أظهر التخريج، فلو وطئ مع الحيض وعصى فهل يتخلَّص من الحنث؟ فيه وجهان في مذهب مالك وأحمد (¬12): أحدهما: يتخلص وإن أثم بالوطء كما لو حلف بالطلاق ليشربنَّ هذه ¬

_ (¬1) في (ق): "السوري ومن معه". (¬2) المذكور عبارة ابن شاس في "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 540) باختصار وتصرف يسير. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬4) في (ك): "بعدم". (¬5) في (ك): "لموت". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬7) في (ق): "فلا شيء عليه"، وقال في الهامش: "لعله: فقيل: لا شيء عليه". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ك): "فالتعريف". (¬10) في (ق): "بمنع". (¬11) في (ق): "اذا". (¬12) في (ق) و (ك): "أحمد ومالك".

الخمر، فشربها (¬1) فإنه لا تطلق عليه زوجته. والثاني: لا يبر؛ لأنه إنما حلف [به] (¬2) على فعل وطء مباح، فلا تتناول يمينه المحرم، [فيقال: إذا كان إنما حلف على وطء مأذون فيه شرعًا لم تتناول يمينه المحرم] (¬3) فلا يحنث بتركه بعين (¬4) ما ذكرتم من الدليل وهذا ظاهر. وحرف المسألة أن يمينه لم تتناول المعجوزَ عنه لا شرعًا ولا قدرًا فلا يحنث بتركه، وإنْ (¬5) كان الامتناع بمنع ظالم كالغاصب والسارق أو غير ظالم كالمستحق فهل يحنث أم لا؟ قال أشهب: لا يحنث وهو الصواب، لما ذكر، وقال غيرُه من أصحاب مالك: يحنث؛ لأن المحلَّ باقٍ، وإنما حيل بينه وبين الفعل فيه، وللشافعي في هذا الأصل قولان، قال أبو محمد الجويني: "ولو حلف ليشربنَّ ما في هذه الإداوة غدًا فأُريقَ قبل الغد بغير اختياره فعلى قولي الإكراه. قال: والأولى أن لا يحنث، وإن حنَّثنا المكره لعجزه عن الشرب وقدرة المكره على الامتناع" فجعل الشيخ أبو محمد العاجز أولى بالعذر من المكره، وسوَّى غيره بينهما ولا ريب أن قواعد الشريعة وأصولها تشهد لهذا القول (¬6) فإن الأمر والنهي من الشارع نظير الحض والمنع في اليمين، وكما أن أمره ونهيه منوط بالقدرة فلا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة فكذلك الحض والمنع في اليمين إنما هو مقيَّد (¬7) بالقدرة. يوضحه أن الحالف يعلم أنَّ سرَّ نفسه أنه لم يلتزم (¬8) فعل المحلوف عليه مع العجز عنه وإنما التزمه مع قدرته عليه (¬9)، ولهذا لم يحنث المغلوب على الفعل بنسيان أو إكراه، ولا من لا قَصْد له إليه كالمغمى عليه وزائل العقل، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والشافعية (¬10)، وهو مقتضى أصول الإمام أحمد وإن كان المنصوص عنه خلافه (¬11)، فإنه قال في رواية ابنه ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "فشربه". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ق): "بغير"، وفي هامشها: "لعله: بعين"، وفي (ك): "تعيّن". (¬5) في (ق): "وإذا". (¬6) في المطبوع: "بهذا القول". (¬7) في (ق): "تعبد"، وفي الهامش: لعله: "مقيد". (¬8) في (ق): "أنه لا يلتزم". (¬9) في (ق) و (ك): "مع القدرة عليه". (¬10) في المطبوع و (ك): "والشافعية والحنفية". (¬11) انظر: "المغني" لابن قدامة (11/ 290 - 300)، و"الفروع" (6/ 391)، و"الإنصاف" (11/ 106 - 107).

فصل [حكم التزام الطلاق]

صالح (¬1): إذا حلف أن يشرب هذا الماء الذي في هذا الإناء فانصبَّ فقد حنث، ولو حلف أن يأكل رغيفًا فجاء كلب فأكله فقد حنث؛ لأن هذا لا يقدر عليه، وقال في رواية جعفر بن محمد: إذا حلف الرجل على غريمه أن لا يفارقه حتى يستوفي منه ماله (¬2) فهرب منه مخاتلة فإنه يحنث، وهذا (¬3) وأمثاله من نصوصه مبني (¬4) على قوله في المكره والناسي والجاهل: "إنه يحنث" كما نص عليه، فإنه قال في رواية أبي الحارث (¬5): إذا حلف أن لا يدخل الدار فحُمل كرهًا فأدخل فإنه لا يحنث (¬6)، وكذلك نص على حنث الناسي والجاهل، فقد جعل الناسي والجاهل والمكره والعاجز بمنزلة، ونص في رواية أبي طالب: إذا حلف [أن] (¬7) لا يدخل الدار فحُمل كرهًا فأدخل [فلا شيء عليه] (¬8)، وقد قال في رواية أحمد بن القاسم: والذباب يدخلُ حَلْقَ الصائم والرجل يرمي بالشيء فيدخل [في] (7) حلق الآخر وكلُّ أمر غلب عليه فليس عليه قضاء ولا غيره، وتواترت نصوصه فيمن أكل في رمضان أو شرب ناسيًا فلا قضاء عليه، فقد سوَّى بين الناسي والمغلوب، وهذا محض القياس والفقه، ومقتضى ذلك التسوية بينهما في باب الأيمان كما نص عليه في المكره، فتخرج مسألة العاجز والمغلوب على الروايتين (¬9)، بل المغلوب والعاجز أولى بعدم الحنث من الناسي والجاهل، كما تقدم بيانه، وباللَّه التوفيق. فصل [حكم التزام الطلاق] المخرج السادس: أخذه بقول من يقول: إن (¬10) التزام الطلاق لا يلزم، ولا يقع به طلاقٌ [ولا] (¬11) حنث، وهذا إذا أخرجه بصيغة الالتزام، كقوله: "الطلاق يلزمني، أو لازمٌ لي، أو ثابت عليَّ، أو حق عليَّ، أو واجب عليَّ، أو متعيّن عليَّ ¬

_ (¬1) (2/ 323/ رقم 953). (¬2) في (ق): "ماله منه". (¬3) في (ك): "فهذا"، وفي (ق): "هذا". (¬4) في (ق) و (ك): "نبأ". (¬5) في (ك): "أحمد بن الحارث". (¬6) قال (د): "في نسخة: "فلا شيء عليه" مكان قوله: "فإنه لا يحنث""، وهي كذلك في (ك) و (ق). (¬7) سقط من (ك) و (ق). (¬8) في (ق): "بأنه لا يحنث". (¬9) في (ك) و (ق): "روايتين". (¬10) في (ق): "إذا"، وفى (ك): "اذ". (¬11) في (ك): "اذا".

إن فعلت، أو إن لم أفعله" (¬1)، وهذا مذهب أبي حنيفة، وبه أفتى جماعة من مشايخ مذهبه، وبه أفتى القفَّال في قوله: "الطلاق يلزمني"، ونحن نذكر كلامهم بحروفه. قال صاحب "الذخيرة" من الحنفية: لو قال لها: "طلاقك عليَّ واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت" ذكر (¬2) أبو الليث خلافًا بين المتأخرين، فمنهم من قال: يقع واحدة رجعية نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال: لا يقع نوى أو لم ينو، ومنهم من قال: في قوله: "واجب" يقع بدون النية، وفي قوله: "لازمٌ" لا يقع وإن نوى، وعلى هذا الخلاف إذا قال: "إن فعلت كذا فطلاقك عليَّ واجبٌ، أو [قال] (¬3) لازم، أو ثابت" ففعلت، وذكر القدوري في "شرحه" أن على قول أبي حنيفة لا يقع الطلاق في الكُلّ، وعند أبي يوسف إنْ نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد أنه يقع في قوله: لازم (¬4) ولا يقع في قوله: واجب، ثم ذكر من اختار من المشايخ الوقوع ومن اختار عدمه، فقال: وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني (¬5) يُفتي بعدم الوقوع في الكل (¬6). وقال القفَّال [في "فتاويه"] (¬7): إذا قال: "الطلاقُ يلزمني" فليس بصريحٍ ولا كنايةٍ حتى لا يقع به وإن نواه، ولهذا القول مأخذان: أحدهما: أن الطلاق لا بد فيه من الإضافة إلى المرأة (¬8)، ولم تتحقق الإضافة هاهنا (¬9) ولهذا لو قال: "أنا منك طالق" لم تطلق، ولو قال لها: "طلِّقي نفسك" فقالت: "أنت طالق" لم تطلق. [و] (7) المأخذ الثاني: لأصحاب أبي حنيفة (¬10) -أنه التزامٌ لحكم الطلاق، وحكمه لا يلزمه إلا بعد وقوعه، وكأنه قال: "فعلي أن أطلقك"، وهو لو صرَّح بهذا لم تطلق بغير خلاف، فهكذا المصدر، وسر المسألة أن ذلك التزام لأن يطلِّق أو التزام لطلاق واقع، فإن كان التزامًا (¬11) [لأن يطلق لم تطلق، وإن كان التزامًا] (7) ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أو إن لم أفعل"، وفي (ك): "أو لم أفعل". (¬2) في (ك): "ذكره"، والمذكور في "الذخيرة" (ق 101/ م). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) (¬4) في (ق): "لازم لي". (¬5) في (ق): "المرغاني" (¬6) قال بعدها في "الإغاثة" (2/ 91): "هذا كله لفظ صاحب "الذخيرة"". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ك): "للمرأة". (¬9) في (ق): "هنا". (¬10) في المطبوع و (ك): "وهو مأخذ أصحاب أبي حنيفة". (¬11) في (ك): "الالتزام".

فصل [المخرج السابع، وفيه البحث في الطلاق المعلق يراد به الحضر أو المنع]

لطلاق واقع فكأنَّه قال: "إن فعلت كذا فأنت طالق طلاقًا يلزمني" طلقت إذا وجد الشرط، ولمن رجح هذا أن يحيل فيه على العرف، فإن الحالف لا يقصد إلا هذا ولا يقصد التزام التطليق (¬1)، وعلى هذا [فيظهر أن] (¬2) يُقال: إن نوى [بذلك] (2) التزام التطليق لم تطلق، وإن نوى وقوع الطلاق طلقت، وهذا قول أبي يوسف و [قول] (2) جمهور أصحاب الشافعي، ومن جعله صريحًا في وقوع الطلاق حكم فيه [بالعرف وغلبة] (¬3) استعمال هذا اللفظ في وقوع الطلاق، وهذا قول أبي المحاسن الروياني، والوجوه الثلاثة في مذهب الشافعي، حكاها شارح "التنبيه" (¬4)، وغيره. وفي المسألة قولان آخران، [وهما] (¬5) للحنفية: أحدهما: أنه إن قال: "فالطلاق عليَّ واجبٌ" يقع نواه أو لم ينوه، وإن قال: "فالطلاقُ لي لازمٌ" لا يقع نواه أو لم ينوه، ووجه هذا الفرق أن قوله: "لازم" التزام لأن يطلق، فلا تطلق بذلك، وقوله: "واجب" إخبار عن وجوبه عليه، ولا يكون واجبًا إلا وقد وقع، ولمن سوَّى بينهما أن يقول: هو إيجاب للتطليق وإخبار عن وقوع الطلاق، ولا ريب أن اللفظ محتمل لهما كاحتمال قوله: "الطلاق يلزمني" سواء، وهذا هو الصواب، والفرق تحكّم. والثاني: قول محمد بن الحسن، وهو عكس هذا القول، أن الطلاق يقع بقوله: "الطلاق يلزمني أو لي لازم" (¬6)، ولا يقع بقوله: "هو عليَّ واجب"، وعلى هذا الخلاف قوله: "إن فعلت كذا فالعتق يلزمني، أو فعليَّ العتق، أو فالعتق لازم لي، أو واجب [عليَّ] " (¬7). فصل [المخرج السابع، وفيه البحث في الطلاق المعلَّق يراد به الحضر أو المنع] المخرج السابع: أخذه بقول أشهب من أصحاب مالك، بل هو أفقههم على الإطلاف، فإنه قال: إذا قال الرجل لامرأته: "إن كلمت زيدًا أو خرجت من بيتي ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "لا التزام التطليق". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ك): "العرف وعليه". (¬4) في (ق): "حكاها في شرح التنبيه"، والمصف ينقل عن التلمساني، كما قدمناه. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في المطبوع و (ك): "الطلاق لي لازم أو يلزمني". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[مكانة أشهب عند المالكية]

بغير إذني"، ونحو ذلك مما يكون من فعلها "فأنت طالق"، وكلَّمت زيدًا أو خرجت من بيته تقصد أن يقع عليها (¬1) الطلاق لم تطلق، حكاه أبو الوليد ابن رشد في كتاب الطلاق من كتاب "المقدِّمات" له (¬2)، وهذا القول هو الفقه بعينه، [و] (¬3) لا سيما على أصول مالك وأحمد في مقابلة العبد بنقيض قصده كحرمان القاتل ميراثه من المقتول، وحرمان الموصى له وصية من قتله بعد الوصية، وتوريث امرأة من طلَّقها في مرض موته فرارًا من ميراثها وكما يقول (¬4) مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما وقبلهما عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فيمن تزوج في العدة وهو يعلم: يُفرَّق بينهما (¬5) ولا تحل له أبدًا ونظائر ذلك كثيرة؛ فمعاقبة المرأة هاهنا بنقيض قصدها هو محض الفقه والقياس (¬6)، ولا ينتقض هذا على أشهب بمسألة المخيَّرة ومن جعل طلاقها بيده؛ لأنَّ الزوج قد ملكها ذلك وجعله بيدها بخلاف الحالف فإنه لم يقصد طلاقها بنفسه، ولا جعله بيدها باليمين، حتى لو قصد ذلك فقال: "إن أعطيتيني ألفًا فأنت طالق" أو "إن أبرأتيني (¬7) من جميع حقوقك فأنت طالق" فأعطته أو أبرأته طلقت. ولا ريب أن هذا الذي قاله (¬8) أشهب أفقه من القول بوقوع الطلاق؛ فإنَّ الزوج [إنما] (¬9) قصد حضها ومنعها ولم يقصد تفويضَ الطلاق إليها ولا خطر ذلك بقلبه، ولا قصدَ وقوع الطلاق عند المخالفة. [مكانة أشهب عند المالكية] ومكان أشهب من العلم والإمامة غير مجهول؛ فذكر أبو عمر بن عبد البر ¬

_ (¬1) في (ك): "عليه". (¬2) انظرها: (2/ 363 - 364 بهامش "المدونة"، و 1/ 498 - ط دار الغرب)، وعلّله بقوله: "لأن الحالف بالطلاق أن لا يفعل فعلًا أو أن يفعله إنما هو مطلق، فإذا وجدت الصفة التي علق بها طلاق امرأته لزمه ذلك إلا ما روي عن أشهب في الحالف على امرأته بطلاقها أن لا تفعل فعلًا، فتفعله قاصدة لتحنيثه على أنه لا شيء عليه، وهو شذوذ، وإنما الخلاف فيمن قال لعبده: أنت حر إن فعلت كذا وكذا، ففعله"، وانظر: "عقد الجواهر الثمينة" (2/ 207). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع و (ك): "وكما يقوله". (¬5) مضى تخريج ذلك. (¬6) في المطبوع: "القياس والفقه"، وفي (ك): "وهو محض. . . ". (¬7) في المطبوع: "إن أعطيتني. . . أو أبرأتني". (¬8) في المطبوع: "قال". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فصل [هل الحلف بالطلاق يمين أو لا؟]

في كتاب "الانتقاء" (¬1) عن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم قال: "أشهب أفقه من ابن القاسم مئة مرة"، وأنكر ابن لبابة (¬2) ذلك، وقال: "ليس [هذا] عندنا كما قال محمد، وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلّمه"، قال أبو عمر: "أشهب شيخه [ومعلمه] (¬3)، وابن القاسم شيخه، وهو (¬4) أعلم بهما لكثرة مجالسته (¬5) لهما وأخذِه عنهما" (¬6). فصل [هل الحلف بالطلاق يمين أو لا؟] المخرج الثامن: أخذه بقول من يقول: إن الحلف بالطلاق لا يلزم (¬7)، ولا يقع على الحانث به طلاق ولا يلزمه كفارة [ولا غيرها] (¬8)، وهذا مذهب خلق من السلف والخلف، صح ذلك عن [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب (¬9). قال بعض فقهاء (¬10) المالكية وأهل الظاهر: ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، هذا لفظ أبي القاسم التميمي (¬11) في "شرح أحكام ¬

_ (¬1) انظره: (ص 98). (¬2) هو محمد بن عمر بن لبابة، وتحرف اسمه في جميع طبعات "الإعلام" إلى "ابن كنانة"!! والتصويب من "الانتقاء". (¬3) سقط من (ك). (¬4) في (ك): "وهذا". (¬5) في (ك): "محاسنه". (¬6) نعم، كلاهما شيخ لابن عبد الحكم، ولكنَّ ابن عبد الحكم ولد في منتصف ذي الحجة سنة 182 هـ وابن القاسم توفي في صفر سنة 191 هـ، فكان عمر ابن عبد الحكم ثمانين سنة، فأخْذُه عن ابن شيخه هذا 23 سنة، فأدركه إدراكًا بيّنًا، فأخْذُه عنه في مدى أطول وفي سن أعقل، فلا غرابة أن يصف أشهب بذلك. وقد استبعد الذهبي في "السير" (9/ 502) أن يكون ابن عبد الحكم أخذ عن ابن القاسم، وذلك لصغر سنه كما سبق، إلا أن يكون قد أخذ شيئًا يسيرًا عنه باعتناء والده، ونظر الذهبي في هذا وجيه، أفاده المعلق على "الانتقاء". (¬7) انظر: "مجموع الفئاوى" (33/ 44 - فما بعد)، و (35/ 241 - فما بعد). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) مضى لفظه وتخريجه وسيذكره المؤلف بعد قليل، وما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي المطبوع زيادة: "كرم اللَّه وجهه"، وفي (ك): "رضي اللَّه عنه". (¬10) كذا في (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ "الفقهاء". (¬11) كذا في (ق) و (ك)، وانظر (2/ 20 - 21، 3/ 441).

عبد الحق"، وقاله قبله أبو محمد بن حزم (¬1)، وصح ذلك عن طاوس أجلّ أصحاب ابن عباس -رضي اللَّه عنه-، وأفقههم على الإطلاق، قال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): أنبأنا ابنُ جُرَيْج قال: أخبرني ابنُ طاوس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا قلت: أكان يراه يمينًا (¬3)؟ قال: لا أدري، وهذا أصح إسناد عمَّن هو [من] (¬4) أجل التابعين وأفقههم، وقد وافقه أكثر من أربع مئة عالم ممن بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياس، ومن آخرهم أبو محمد بن حزم، قال في كتابه "المحلى" (¬5): مسألة، اليمين (¬6) بالطلاق لا يلزم، سواء (¬7) برَّ أو حنث، لا يقع به طلاق، و"لا طلاق إلا كما أمر اللَّه [تعالى] (4)، ولا يمين إلا كما شرع [اللَّه تعالى] (4) على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- " (¬8)، ثم قرر ذلك، وساق اختلاف الناس في ذلك، ثم قال: فهؤلاء علي بن أبي طالب وشُريح وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف (¬9) من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. قلت: أما أثر علي -رضي اللَّه عنه- فرواه (¬10) حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة، وأراد سفرًا فأخذه أهل امرأته، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، فلما قدم خاصموه إلى علي، فقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬11): اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا فردَّها عليه (¬12)، ولا متعلق لهم بقوله: "اضطهدتموه" لأنه لم يكن هناك إكراه، فإنهم إنما طالبوه بحق نفقتها فقط، ومعلوم أن ذلك ليس بإكراه على الطلاق ولا على اليمين، وليس في القصة أنهم أكرهوه بالقتل أو بالضرب أو بالحبس [أو أخذ المال على اليمين] (¬13) حتى يكون يمين مكره، والسائلون لم يقولوا لعلي شيئًا من ذلك البتَّة، وإنما ¬

_ (¬1) في "المحلى" (10/ 212 - 213/ 1969). (¬2) رقم (11298)، وإسناده صحيح. وانظر: "الجامع للاختيارات الفقهية" (2/ 753). (¬3) في (ق): "تراه يمينًا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) (10/ 211 - 212/ 1969)، وفي (ك): "كتاب". (¬6) في (ق): "واليمين". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) "الحقُّ يُشْرِقُ من هذه الكلمات" (و). (¬9) في المطبوع و (ك) و (ق): "ولا يعرف في ذلك لعلي كرم اللَّه وجهه مخالف". (¬10) في (ق): "أما أثر علي فروي". (¬11) في المطبوع: "كرم اللَّه وجهه". (¬12) مضى تخريجه. (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

خاصموه في حكم اليمين فقط، فنزَّل علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬1) [ذلك] منزلة المضطهد حيث لم يرد طلاق امرأته وإنما أراد التخلص إلى سفره بالحلف، فالحالف والمضطهد كلٌّ منهما لم يرد طلاق امرأته، فالمضطهد محمولٌ على طلاق تكلَّم به ليتخلص من ضرر الإكراه، والحالف حلف به ليتوصل إلى غرضه من الحض أو المنع (¬2) أو التصديق أو التكذيب، ولو اختلف حال الحالف بين أن يكون مكرهًا أو مختارًا لسأله علي -رضي اللَّه عنه- (¬3) عن الإكراه وشروطه وحقيقته، وبأي شيء أكره، وهذا ظاهر بحمد اللَّه، فارض للمقلد بما رضي لنفسه. وأما أثرُ شُريح ففي "مصنف عبد الرزاق" (¬4) عن هشام بن حسان، عن محمد ابن سيرين، عن شُريح أنه خوصم إليه في رجل طلَّق امرأته إنْ أحدث في الإسلام حدثًا فاكترى بغلًا إلى حمام أعين (¬5)، فتعدى به إلى أصبهان فباعه واشترى به خمرًا فقال شريح: إن شئتم شهدتم عليه أنه طلقها فجعلوا يردِّدون عليه القصة ويردِّد عليهم (¬6)، فلم يَرَه حدثًا ولا متعلق بقول الراوي (¬7) -إما محمد وإما هشام-، فلم يره حدثًا فإنما ذلك ظن منه، قال أبو محمد (¬8): وأي حدث أعظم ممن تعدّى من حمام أعين وهو على مسيرة أميال يسيرة من الكوفة إلى أصبهان ثم باع بغل مسلم ظلمًا واشترى (¬9) به خمرًا؟ قلت: والظاهر أنّ شُريحًا لما رُدَّت عليه (¬10) المرأة ظَنّ مَنْ شاهد القصة أنه لم ير ذلك حدثًا؛ إذ لو رآه حدثًا لأوقع [عليها] (¬11) الطلاق، وشُريح إنما ردَّها ¬

_ (¬1) في المطبوع: "علي كرم اللَّه وجهه"، وما بين المعقوفتين الآتيتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "والمنع". (¬3) في المطبوع: "كرم اللَّه وجهه". (¬4) برقم (11322)، لكن في المطبوع في "المصنف" قال: عن هشيم، وليس عن هشام بن حسّان؛ كما ساقه ابن القيم هنا، وصوابه -واللَّه أعلم- هشام؛ لأن هشيمًا لا يروي عن ابن سيرين، فإنه مات سنة (183)، وقد قارب الثمانين، وابن سيرين مات سنة (110)، ثم هو يروي عن هشام عن ابن سبرين، كما هو في كثير من الروايات. وهشام بن حسان من أشهر أصحاب محمد ابن سيرين. فالإسناد صحيح. (¬5) "موضع بالكوفة منسوب إلى أعين مولى سعد بن أبي وقاص" (و). (¬6) في (ق) و (ك): "ويرد عليهم". (¬7) في بعض النسخ: "لقول الراوي". (¬8) ابن حزم في "المحلى" (10/ 212 - 213/ 1969) باختلاف يسير. (¬9) في (ق): "فاشترى". (¬10) في (ق) و (ك): "لما رد عليه". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "لوقع عليه".

[المنقول عن السلف في ذلك]

لأنه علم أنه لم يقصِدْ طلاقَ امرأته، وإنما قصدَ اليمين فقط، فلم يلزمه بالطلاق [فقال الراوي فيهم: فلم ير ذلك حدثًا] (¬1)، وشريح أفقه في دين اللَّه أن لا يرى مثل هذا حدثًا. ممن روي عنه عدم وقوع الطلاق على الحالف إذا حنث عكرمة مولى ابن عباس، كما ذكره سُنيد بن داود في "تفسيره" في أول سورة النور عنه بإسناده (¬2) أنه سئل عن رجل حلف بالطلاق أنه لا يكلم أخاه، فكلَّمه، فلم ير ذلك طلاقًا ثم قرأ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168, 208, الأنعام: 142] (¬3). [المنقول عن السلف في ذلك] ومن تأمَّل المنقول عن السلف [في ذلك] (¬4)، وجده أربعة أنواع (¬5): * صريح في عدم الوقوع (¬6). * وصريح في الوقوع (6). * وظاهر في عدم الوقوع. * وتوقف عن الطرفين. فالمنقول عن طاوس وعكرمة صريحٌ في عدم الوقوع. وعن علي (¬7) وشُريح ظاهرٌ في ذلك، وعن ابن عيينة صريح في التوقف، وأما التصريح بالوقوع فلا يُؤثر عن صحابي واحد إلا فيما هو محتمل لإرادة الوقوع عند الشرط، كالمنقول عن أبي ذر، بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في صورة العتق الذي هو أولى بالنفوذ من الطلاق، ولهذا ذهب إليه أبو ثور وقال: القياس أن الطلاق مثله، إلا أن تُجمع الأمة عليه، فتوقف في الطلاق لتوهم الإجماع، وهذا عذر أكثر الموقعين للطلاق، وهو ظنهم [أن] (¬8) الإجماع على الوقوع، مع اعترافهم أنه ليس في الكتاب والسنة والقياس الصحيح ما يقتضي ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) سيذكره المصنف قريبًا. (¬3) قال (و): "ذكر هذا النهي أربع مرات في القرآن: في (البقرة: 168، 208)، وفي (الأنعام: 142)، وفي (النور: 21) ". قلت: في سورة النور دون الواو. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "أربع قواعد"!!. (¬6) في (ك): "الوقوف". (¬7) في المطبوع: "عليٍّ -عليه السلام-". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

الوقوع، وإذا تبيَّن أنه ليس في المسألة إجماع تبين أن لا دليل أصلًا يدل على الوقوع، والأدلة الدالة على عدم الوقوع في غاية القوة والكثرة، وكثير منها لا سبيل إلى دفعه، فكيف يجوز معارضتها بدعوى إجماع قد علم بطلانه قطعًا؟ فليس بأيدي الموقعين آية من كتاب اللَّه تعالى ولا أثر (¬1) عن رسول اللَّه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) ولا عن أصحابه ولا قياس صحيح، والقائلون بعدم الوقوع لو لم يكن معهم إلا الاستصحاب الذي لا يجوز الانتقال عنه إلا لما هو أقوى منه لكان كافيًا فكيف ومعهم الأقيسة التي أكثرها من باب قياس الأولى؟ والباقي من القياس المساوي وهو قياس النظير على نظيره، والآثار والعمومات والمعاني الصحيحة والحكم [والمناسبات التي شهد لها الشرع بالاعتبار ما لم يدفعهم منازعوهم عنهم بحجة أصلًا؟ وقولهم] (¬3)، وسط بين قولين متباينين غاية التباين: أحدهما: قول من يعتبر التعليق فيوقع به الطلاق على كل حال، سواء كان تعليقًا قَسَميًا يقصد به الحالف منع الشرط والجزاء أو تعليقًا شرطيًا يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط. والثاني: قول من يقول: إن هذا التعليق كله لغوٌ لا يصح بوجه ما ولا يقع الطلاق به البتة، كما سنذكره في المخرج الذي بعد هذا إن شاء اللَّه، فهؤلاء توسطوا بين الفريقين، وقالوا: يقع الطلاق (¬4) في صورة التعليق [المقصود به وقوع الجزاء، ولا يقع في صورة التعليق القَسَمي] (¬5)، وحجتهم قائمة على الفريقين، وليس لأحد منهما حجة صحيحة عليهم، بل كل حجة صحيحة احتج بها الموقعون فإنما تدل على الوقوع في صورة التعليق المقصود وكل حجة احتج بها المانعون صحيحية فإنما تدل على عدم الوقوع في صورة التعليق القسمي فهم قائلون بمجموع حجج الطائفتين وجامعون للحق الذي مع الفريقين ومعارضون كل من الفريقين وحججهم بقول الفريق الآخر وحججهم (¬6). ¬

_ (¬1) في المطبوع: "في كتاب أو سنة ولا أثر". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وقال في الهامش: "لعله: وهو والمناسبات التى شهد لها الشرع بالاعتبار ما لم يدفعهم منازعوهم عنه بحجته أصل وقولهم". (¬4) في (ق): "لا يقع الطلاق". (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "القسمي ويقع في صورة التعليق الشرطي". (¬6) مسألة تمليك الرجل امرأته الطلاق. .، وبيان الخلاف على سبعة أقوال. انظرها في "زاد المعاد" (4/ 68 - 73)، وقد مضت في كلام المصنف.

فصل [المخرج التاسع وفيه حكم الطلاق المعلق بالشرط]

فصل [المخرج التاسع وفيه حكم الطلاق المعلق بالشرط] المخرج التاسع: أخذه بقول [من يقول] (¬1): إن الطلاق المعلَّق بالشرط لا يقع، ولا يصح تعليق الطلاق، كما لا يصح تعليق النكاح، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز [الشافعي] (1) أحد أصحاب الشافعي الأجلّة أو أجلهم، وكان الشافعي يجلّه ويكرمه ويكنيه ويعظمه، وأبو ثور (¬2)، وكانا يكرمانه (¬3)، وكان بصره ضعيفًا فكان الشافعي يقول: لا تدفعوا إلى أبي عبد الرحمن الكتاب يُعارض به فإنه يخطئ، وذكره أبو إسحاق الشيرازي في "طبقات أصحاب الشافعي" (¬4)، ومحل الرجل من (¬5) العلم والتضلع منه لا يُدفع، وهو في العلم بمنزلة أبي ثور وتلك الطبقة، [وكان رفيق أبي ثور] (1)، وهو أجل من جميع أصحاب الوجوه [من] (1) المنتسبين إلى الشافعي، [فإذا نزل بطبقته إلى طبقة أصحاب الوجوه كان قوله وجهًا وهو أقل درجاته. وهذا مذهب لم ينفرد به، بل قد قال به غيره من أهل العلم] (1) قال أبو محمد بن حزم في "المحلى" (¬6): والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين، كل ذلك لا يلزم وباللَّه التوفيق، ولا يكون طلاقًا إلا كما أمر اللَّه تعالى، وعلمه، وما عداه فباطل وتعدِّ لحدود اللَّه تعالى. وهذا القول وإن لم يكن قويًا في النظر (¬7) فإن الموقعين [للطلاق] (1) لا يمكنهم إبطاله [البتة] (1) لتناقضهم، وكان (¬8) أصحابه يقولون لهم: قولنا في تعليق الطلاق بالشرط كقولكم (¬9) في تعليق الإبراء والهبة (¬10) والوقف والبيع والنكاح سواء، فلا يمكنكم (¬11) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "وكان الشافعي يكرمه ويجلسه ويكنيه وأبا ثور"!. (¬3) في (ك): "يلزمانه". (¬4) قال في "طبقات الفقهاء" (ص 102): "كان من كبار أصحاب الشافعي، ثم صار من أصحاب ابن أبي داود". (¬5) في (ق): "في". (¬6) (10/ 213/ مسألة 1969). (¬7) في (ك): "النظير". (¬8) في (ق) و (ك): "فإن". (¬9) في (ك): "كقولهم". (¬10) في المطبوع: "أو الهبة". (¬11) في (ق): "فلا يمكنهم"، وفي (ك): "ولا يمكنكم"، وما بين المعقوفتين الآتيتين سقط من (ق).

[البتة] أن تفرِّقوا (¬1) بين ما صح تعليقه من عقود التبرعات والمعارضات والإسقاطات بالشروط، وما لا يصح تعليقه، فلا تبطلوا قول منازعيكم في صحة تعليق الطلاق [بالشرط] (¬2) بشيء إلا كان هو بعينه حجة عليكم في إبطال قولكم في منع صحة تعليق الإبراء والهبة والوقف والنكاح، فما الذي أوجب إلغاء هذا التعليق وصحة ذلك التعليق؟ فإن فرَّقتم بالمعاوضة، وقلتم: "إن عقود المعاوضات لا تقبل التعليق بخلاف غيرها" انتقض عليكم طَرْدًا بالجعَالة وعَكسًا بالهبة والوقف؛ فانتقض عليكم الفرق طردًا وعكسًا وإن فرَّقتم بالتمليك والإسقاط فقلتم: "عقود التمليك لا تقبل التعليق بخلاف عقود الإسقاط" انتقض أيضًا طرده بالوصية، وعكسه بالإبراء؛ فلا طَرْد ولا عكس، وإن فرقتم بالإدخال في ملكه والإخراج عن ملكه وصحَّحتم (¬3) التعليق في الثاني دون الأول انتقض [عليكم] (¬4) أيضًا فَرْقكم؛ فإن الهبة والإبراء إخراج عن ملكه ولا يصح تعليقها عندكم، وإن فرقتم بما يحتمل الغرر وما لا يحتمله، فلا يحتمل الغرر والأخطار يصح تعليقه بالشرط كالطلاق والعتق والوصية، وما لا يحتمله لا يصح تعليقه كالبيع والنِّكاح والإجارة، انتقض عليكم بالوكالة، فإنها لا تقبل التعليق عندكم وتحتمل الخطر؛ ولهذا يصح أن يوكله في شراء عبد، ولا يذكر قدره ولا وصفه ولا سِنَّه ولا ثمنه، بل يكفي ذكر جنسه فقط، أو أن يوكله في شراء دار، ويكتفي بذكر محلها وسكنها فقط، أو أن يوكله في التزوج بامرأة فقط، ولا يزيد على كونها امرأة، ولا يذكر له جنس مهرها ولا قدره ولا وصفه، وأي خطر فوق هذا؟ ومع ذلك منعتم من تعليقها بالشرط، وطرد هذا الفرق يوجب عليكم صحة تعليق النكاح بالشرط، فإنه يحتمل من الخطر ما لا يحتمل غيره من العقود، فلا [يشترط فيه] (¬5) رؤية الزوجة، ولا صفتها ولا تعيين العوض جنسًا ولا قدرًا ولا وصفًا ويصح مع جهالته وجهالة المرأة، ولا يعلم (¬6) عقد يحتمل من الخطر ما يحتمله؛ فهو أولى بصحة التعليق من الطلاق والعتاق إن صح هذا الفرق. وقد نص الشافعي على صحة تعليقه فيما لو قال: "إن كانت جاريتي ولدت بنتًا فقد زوجتكها"، وهذا وإن لم يكن تعليقًا على شرط مستقبل فليس (¬7) بمنزلة قوله: "متى ولدت جارية (¬8) فقد زوجتكها" لأن ¬

_ (¬1) في (ق): "يفرقوا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع و (ك): "فصححتم". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "بشرط". (¬6) (ق): "ولا نعلم". (¬7) في (ق) و (ك): "وليس". (¬8) في (ق): "متى ولدت جاريتي بنتًا".

[عن نكاح المتعة]

هذا فيه خطر ليس في صورة النص، وهذا فَرْقٌ صحيح، ولكن لم يوفوه حقه، ولم يطرد فقهه، فلو قال: "إن كان أبي مات وورثِتُ منه هذا المتاع فقد بعتكه" أبطلتموه، وقلتم: هو بيع معلَّق على شرط، والبطلان هاهنا (¬1) في غاية البعد من الفقه، ولا معنى تحته، ولا خطر هناك ولا غرر البتة (¬2)، وقد نص الإمام أحمد على صحة تعليق النكاح على الشرط، قال صاحب "المستوعب": وأما (¬3) إذا علَّق انعقاد النكاح على شرط مثل أن يقول: "زوجتكَ إذا جاء رأس الشهر، أو إذا رَضِيت أُمَّها" ففيه روايتان: إحداهما (¬4): يبطل النكاح من أصله، والأخرى (¬5) يصح. وذكر في [هذا] (¬6) الفصل أنه إذا تزوجها بشرط الخيار وإن جاءها بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما ففيه روايتان: إحداهما (4): يبطل النكاح [من أصله] (7). والثانية: يبطل الشرط ويصح العقد، نص عليه في رواية الأثرم، وقد ذكر القاضي رواية عنه أنه إذا تزوجها بشرط الخيار يصح العقد والشرط [جميعًا] (¬7) فصار عنه ثلاث روايات: صحة العقد والشرط وبطلانهما، وصحة العقد وفساد الشرط، لكن هذا فيما إذا اشترط (¬8) الخيار أو إن جاءها بالمهر إلى وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما وأما إذا قال: "زوجتك إن رضيت أمها" فنص على صحة العقد إذا رضيت أمها وقال: [هو نكاح] (7). [عن نكاح المتعة] وقال في رواية عبد اللَّه (¬9) وصالح (¬10) وحنبل: نكاح المتعة حرام، وكل نكاح فيه وقت أو شرط فاسد. [المفرقون بين ما يقبل التعليق بالشروط، وما لا يقبله ليس لهم ضابط] والمقصود أن المفرّقين بين ما يقبل التعليق بالشروط، وما لا يقبل إلى ¬

_ (¬1) في (ق): "هنا". (¬2) قال (د): "في نسخة: "ولا عذر البتة" تحريف"، وهو كذا في (ك). (¬3) في (ق): "فأما". (¬4) في (ق): "إحديهما"! (¬5) في (ق): "الثانية". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ك) و (ق): "شرط". (¬9) و (¬10) لم أظفر بها في "مسائل عبد اللَّه" و"مسائل صالح" وانظر "المغني" (10/ 46 - هجر).

فصل [المخرج العاشر: زوال سبب اليمين]

الآن (¬1) لم يستقر لهم ضابط في الفرق، فمن قال من أهل الظاهر وغيرهم: إن الطلاق لا يصحُّ تعليقُه بالشرط (¬2) لم يتمكن من الرد عليه مَنْ قولُه مضطربٌ فيما يعلق وما لا يعلق، ولا يرد عليه بشيء إلا تمكن من (¬3) ردِّه عليهم بمثله أو أقوى منه، وإنْ ردَّوا عليه بمخالفته لآثار الصحابة ردَّ عليهم بمخالفة النصوص المرفوعة في صور عديدة [و] (¬4) قد تقدم ذكر بعضها وإن فرَّقوا طالبهم بضابط ذلك أولًا وبتأثير (¬5) الفرق شرعًا ثانيًا (¬6) فإن الوصف الفارق لا بد أن يكون مؤثرًا كالوصف الجامع؛ فإنه لا يصح تعليق الأحكام جمعًا وفرقًا بالأوصاف التي لا يُعلم (¬7) أن الشارع اعتبرها فإنه وضع شرع لم يأذن به اللَّه، وبالجملة فليس بطلان هذا القول أظهر في الشريعة من بطلان التحليل، بل العلم بفساد [نكاح] (¬8) التحليل أظهر من العلم بفساد هذا القول، فإذا جاز التقرير على التحليل وترك إنكاره مع ما فيه من النصوص والآثار التي اتفق عليها أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم على المنع منه ولعن فاعله وذمّه فالتقرير على هذا القول أجود وأجوز (¬9). هذا (¬10) ما لا يستريب فيه عالم منصف، وإن كان الصواب في خلاف القولين جميعًا ولكن أحدهما أقل خطأ وأقرب إلى الصواب، واللَّه أعلم. فصل [المخرج العاشر: زوال سبب اليمين] المخرج العاشر: [مخرج] (8) زوال السبب، وقد كان الأَوْلى تقديمه على هذا المخرج لقوته وصحته، فإن الحكم يدور مع علته وسببه وجودًا وعدمًا. [الحكم يدور مع علته وسببه وجودًا وعدمًا] ولهذا إذا علَّق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال [ذلك] (¬11) الحكم بزوالها ¬

_ (¬1) في (ق): "بين ما يقبل بالشرط وما لا يقبله إلا الإسلام". (¬2) في (ق) و (ك): "بالشروط". (¬3) في (ق): "يمكن"، وسقطت "من". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬5) في (ق): "وتأثير". (¬6) في (ق): "ثابتًا". (¬7) في (ق) و (ك): "لم يعلم". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ك) و (ق): "والتقرير على هذا القول أجوز وأجوز". (¬10) في (ك): "وهذا". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[حكم الحالف على أمر لا يفعله فزال السبب]

كالخمر علق بها حكم التنجيس وجوب الحد لوصف (¬1) الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خلًا زال الحكم، وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه، وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها والشريعة مبنية على هذه القاعدة. [حكم الحالف على أمر لا يفعله فزال السبب] فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله؛ لأن يمينه تعلَّقت به لذلك الوصف (¬2)، فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين فإذا دُعي إلى شراب مسكر ليشربه فحلف أن لا يشربه، فانقلب (¬3) خلًا فشربه لم يحنث، فإن منع نفسه منه نظير منع الشارع، فإذا زال منع الشارع بانقلابه، خلا وجب أن يزول منع نفسه بذلك، والتفريق بين الأمرين تحكّم محض لا وجه له؛ فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الإراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه فما الموجب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه؟ وهل يقتضي محض الفقه إلا زوال حكم اليمين؟ يوضحه أن الحالف يعلم من نفسه أنه لم يمنعها من شرب غير المسكر، ولم يخطر بباله، فإلزامه ببقاء حكم اليمين وقد زال سببها إلزامٌ [له] (¬4) بما لم يلتزمه هو، ولا ألزمه به الشارع، وكذلك لو حلف على رجل أن لا يقبل له قولًا ولا شهادة لما يعلم من فسقه، ثم تاب وصار من خيار الناس؛ فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول [حكم] (¬5) المنع من ذلك بالشرع، وكذلك إذا حلف أن لا يأكل هذا الطعام أو لا (6) يلبس هذا الثوب أو لا (¬6) يكلِّم هذه المرأة ولا يطأها لكونه لا يحلُّ له ذلك، فمَلَك الطعام والثوب وتزوج المرأة فأكل الطعام (¬7) ولبس الثوب ووطئ المرأة لم يحنث؛ لأن المنع بيمينه [كالمنع بمنع الشارع] (¬8)، ومنع الشارع يزول بزوال الأسباب التي ترتب عليها المنع؛ فكذلك منع الحالف، وكذلك إذا حَلَف: لا دَخلتُ هذه الدار، وكان سبب يمينه أنها تُعمل فيها ¬

_ (¬1) في (ك) و (ق): "ووجوب الحد بوصف". (¬2) في (ق) و (ك): "كذلك الوصف". (¬3) في (ق): "أشربه فانقلبت". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "ولا". (¬7) في (ق): "فأكله". (¬8) في (ق): "كمنع الشارع".

[مسائل لها هذا الحكم صرح به الفقهاء]

المعاصي (¬1)، وتشرب الخمر (¬2)؛ فزال ذلك وعادت مجمعًا للصالحين وقراءة القرآن والحديث، أو قال: "لا أدخل هذا المكان"؛ لأجل [ما رأى فيه من] (3) المنكر، فصار [بيتًا] (¬3) من بيوت اللَّه تعالى تُقام فيه الصلوات (¬4) لم يحنث بدخوله، وكذلك إذا (¬5) حلف لا يأكل لفلان طعامًا [وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا] (¬6)، و [يأكل] (3) أموال الناس بالباطل؛ فتاب [وخرج من المظالم] (3)، وصار طعامه من كسب يده أو تجارة مباحة لم يحنث [بأكل طعامه] (3)، ويزول حكم [منع اليمين] (¬7) كما يزول حكم منع الشارع، [وكذلك لو حلف] (¬8) لا بايعتُ فلانًا [وسبب يمينه كونه] (¬9) مفلسًا أو سفيهًا؛ فزال [الإفلاس والسفه] (3)؛ فبايعه لم يحنث، وأضعاف أضعاف هذه المسائل، [كما إذا اتُّهم بصحبة مُريب فحلف لا أصاحبه فزالت الريبة وخلفها ضدها فصاحبه لم يحنث، وكذلك لو حلف المريض لا يأكل لحمًا أو طعامًا وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه فصح وصار الطعام نافعًا له لم يحنث بأكله] (3)، وقد صرح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس. [مسائل لها هذا الحكم صرح به الفقهاء] - فمنها (¬10): لو حلف لوالٍ أن لا أفارق البلد إلا بإذنك (¬11)، فعُزل ففارق البلد بغير إذنه لم يحنث. [- ومنها: لو حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذني، أو على عبده (¬12) لا يخرج إلا بإذنه (¬13)، ثم طلَّق الزوجة وأعتق العبد فخرجا بغير إذنه لم يحنث، (¬14)، ذكره أصحاب الإمام أحمد. ¬

_ (¬1) في (ق): "وكان السبب يعمل فيها المعاصي". (¬2) في (ك): "ويشرب فيها الخمر" وفى (ك): "وشرب الخمر". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "الصلاة". (¬5) في (ق): "لو". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بسبب أكله الربا". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "المنع". (¬8) في (ق): "أو حلف". (¬9) في (ق): "لكونه". (¬10) في (ق): "كما". (¬11) في (ق): "لو حلف لوالٍ لا خرجت من هذا البلد بغير إذنك". (¬12) في (ق): "أو لعبده". (¬13) في (ك): "باذني". (¬14) ما بين المعقوفتين اختصره في (ق) بعد قوله: "ذكره أصحاب الإمام أحمد" بقوله: "وكذلك العبد والزوجة".

قال صاحب "المغني" (¬1): لأن قرينةَ الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وهو إنما يملك (¬2) منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما؛ فكأنه قال: ما دُمْتما في ملكي، ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته [عليها] (¬3) في العموم، وكذلك لو (¬4) حلف لقاض أن لا أرى منكرًا إلا رفعته إليك فعزل لم يحنث بعدم الرفع إليه بعد العزل، وكذلك إذا حلف [لامرأته ألا أبيتُ خارج بيتك أو خارج هذه الدار فماتت أو طلقها لم يحنث إذا بات خارجها وكذلك إذا حلف] (3) على ابنه ألا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفُسَّاق، لكونه أمرد، فالتحى وصار شيخًا لم يحنث بمبيته خارج الدار، وهذا كله مذهب مالك وأحمد؛ فإنهما يعتبران النية في الأيمان ومناط (¬5) اليمين وسببها وما هيَّجها؛ فيحملان اليمين على ذلك. [و] (6) قال أبو عمر بن عبد البر في [كتاب الأيمان من] (¬6) كتابه: "الكافي في مذهب مالك" (¬7): والأصل في هذا الباب مراعاة ما نواه (¬8) الحالف؛ فإن لم يكن له نية نظر إلى بساط قصته (¬9)، وما أثاره على الحلف، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في [نفوس أهل] (6) وقته. وقال صاحب "الجواهر" (¬10): "المقتضيات للبر والحنث أمور: الأول: النية إذا كانت مما (¬11) يصلح أن يراد اللفظ بها سواء كانت مطابقة له أو زائدة فيه أو ناقصة عنه بتقييد مطلقه وتخصيص عامه. الثاني: السبب المثير لليمين [يتعرف منه] (¬12)، ويعبر عنه بالبساط (¬13) أيضًا وذلك أن القاصد لليمين لا بد أن تكون له نية، وإنما يذكرها في بعض الأوقات وينساها في بعضها؛ فيكون المحرِّك على اليمين [وهو] (¬14) البساط (¬15) -دليلًا عليها [لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهورًا لا إشكال فيه، وقد يخفى في بعض ¬

_ (¬1) في "المغني" (13/ 546/ م 1828 - هجر)، و (11/ 284 - 285 مع الشرح الكبير). (¬2) في المطبوع: "وهو يملك"، وفي (ق): "وهو إنما ملك". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ك): "إذا". (¬5) في المطبوع: "وبساط". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) (1/ 452 - ط الموريتاني). (¬8) في (ق) و (ك): "ما نوى". (¬9) في (ق): "مناط قضيته"، وفي (ك): "نشاط قصته". (¬10) (1/ 525). (¬11) في (ق): "كما". (¬12) في (ق): "بتغير زمنه"، وفى "الجواهر": "لتعرف منه". (¬13) في (ك): "بالنشاط". (¬14) في (ق): "هذا". (¬15) في (ك): "النشاط".

[عند أصحاب أحمد]

الحالات، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة] (¬1). وكذلك أصحاب [الإمام] (¬2) أحمد صرَّحوا باعتبار النية وحمل اليمين على مقتضاها فإن عدمت رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فحمل اللفظ عليه؛ لأنه دليل على النية. حتى صرح أصحاب مالك (¬3) فيمن دفن مالًا ونسي مكانه فبحث عنه فلم يجده فحلف على زوجته أنها هي التي أخذته ثم وجده لم يحنث، قالوا: لأن قصده ونيته إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنت التي أخذتيه (¬4)؛ فتأمل كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط، وهذا هو محض الفقه. ونظير هذا ما لو دُعي إلى طعام فظنه حرامًا فحلف لا أطعمه ثم ظهر أنه حلال (¬5) لا شبهة فيه فإنه لا يحنث بأكله؛ لأن يمينه إنما تعلقت به إن كان حرامًا وذلك قصده. ومثله لو مرَّ به رجل فسلم عليه فحلف لا يرد عليه السلام لظنِّه أنه مبتدع أو ظالم أو فاجر، فظهر أنه غير ذلك الذي ظنه لم يحنث بالرد عليه. ومثله لو قدمت له دابة ليركبها فظنها قطوفًا أو جموحًا أو متعسرة الركوب فحلف لا يركبها فظهرت [له] (¬6) بخلاف ذلك لم يحنث بركوبها. [و] (¬7) قال أبو القاسم الخرقي في "مختصره" (¬8): ويرجع في الأيمان إلى النية؛ فإن لم ينو شيئًا رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها. [عند أصحاب أحمد] وقال أصحاب الإمام أحمد: إذا دُعي إلى غداء فحلف [أن] (7) لا يتغدى أو قيل [له] (7): اقعد فحلف أن لا يقعد اختصت يمينه بذلك الغداء وبالقعود في ذلك الوقت؛ لأن عاقلًا لا يقصد أن لا يتغدى أبدًا ولا يقعد أبدًا. [ثم] (¬9) قال صاحب "المغني" (¬10): إن كان له نيَّة فيمينه على ما نوى، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) المذكور عند ابن شاس في "عقد الجواهر الثمينة" (1/ 531)، وفي (ك): "الإمام أحمد". (¬4) في المطبوع و (ك): "أخذته". (¬5) في (ق): "ثم ظهر حلالًا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) "شرح الزركشي على مختصر الخرقي" (7/ 74). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) (13/ 513/ م 1827 مع "المغني" - ط هجر)، (11/ 283 - "المغني" مع الشرح الكبير).

[عند الحنفية]

فإن (¬1) لم تكن له نية؛ فكلام أحمد يقتضي روايتين: إحديهما (¬2): أن اليمين محمولة على العموم؛ لأن أحمد سئل عن رجل حلف أن لا يدخل بلدًا لظلم رآه فيه فزال الظلم، قال أحمد: النَّذر يوفي به يعني: لا يدخله، ووجه ذلك أن اللفظ لفظ الشارع إذا كان عامًا لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب، كذلك يمين الحالف. ونازعه [في ذلك] (¬3) شيخنا (¬4)، فقال: إنما منعه أحمد من دخول البلد بعد زوال الظلم؛ لأنه نذر للَّه أن لا يدخلها، وأكد نذره باليمين، والنذر قربة، فقد نذر التقرب إلى اللَّه بهجران ذلك البلد؛ فلزمه (¬5) الوفاء بما نذره. هذا هو الذي فهمه الإمام أحمد، وأجاب به السائل حيث قال: النذر يوفي به؛ ولهذا منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المهاجرين من الإقامة بمكة بعد قضاء نسكهم (¬6) فوق ثلاثة أيام (¬7)؛ لأنهم تركوا ديارهم للَّه تعالى، فلم يكن لهم العود فيها وإن زال السبب الذي تركوها لأجله، وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم (¬8)، والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر؛ فهذا سر جوابه، وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصه وأصوله اعتبار النية والسبب في اليمين وحمل كلام الحالف (¬9) على ذلك، وهذا في نصوصه أكثر من أن يذكر (¬10) فلينظر فيها. [عند الحنفية] وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة فقال في كتاب: "الذخائر" في (كتاب الأيمان): الفصل السادس في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة: إذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال الزوج: "إنْ خَرَجْتِ [من الدار] (¬11) فأنت طالق" فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق، وكذلك لو أراد رجل أن يضربه فحلف آخر أن لا يضربه، فهذا على تلك الضربة، حتى (¬12) لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث، ويُسمَّى هذا يمين الفور، وهذا لأن الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "وإن". (¬2) في المطبوع و (ك): "إحداهما"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) انظر "مجموع الفتاوى" (35/ 336). (¬5) في (ك): "فيلزمه". (¬6) في (ق): "نسكه". (¬7) مضى تخريجه. (¬8) في (ق): "ترك بلد الظلم". (¬9) في المطبوع: "الحالفين". (¬10) في (ك) و (ق): "نذكره". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) في (ق): "هي".

[السبب يقوم مقام النية في اليمين]

المقصودة بالمنع منها عرفًا وعادة، فيتعيَّن ذلك بالعرف والعادة، فإذا (¬1) دخل الرجل على رجل [يتغدى] (¬2) فقال: [تعال] (¬3) تغد معي، فقال: واللَّه لا أتغدى، فذهب إلى بيته وتغدى مع [جميع] (3) أهله لا يحنث، وكذلك إذا قال الرجل لغيره: كل مع فلان، فقال: واللَّه لا آكل، ثم ذكر تقرير ذلك بأنه جواب لقول الآمر له، والجواب كالمعاد في السؤال؛ فإنه يتضمن ما فيه، قال: وليس كابتداء اليمين؛ لأن كلامه لم يخرج جوابًا لتقييد (¬4)، بل خرج ابتداءً، [هو مطلق عن القيد فينصرف] (¬5) إلى كل غداء، قال: وإذا قال لغيره: كلِّم لي زيدًا اليوم في كذا، فقال: واللَّه لا أكلِّمه، فهذا يختص باليوم؛ لأنه خرج جوابًا عن الكلام السابق، وعلى هذا إذا قال [له] (¬6): إيتني اليوم، فقال: امرأته طالق إنْ أتاك. وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين (¬7) ما احتمله اللفظ، فإذا تعين باللفظ ولم يكن اللفظ محتملًا لما نوى لم تؤثر النية [فيه] (¬8)؛ فإنه حينئذ يكون الاعتبار بمجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم؛ فإذا احتملها اللفظ فعيَّنت بعض محتملاته أثَّرت حينئذ، قالوا: ولهذا لو قال: "إن لبستُ ثوبًا أو أكلتُ طعامًا أو شربتُ شرابًا أو كلمتُ امرأة فامرأتي طالق" (¬9)، ونوى ثوبًا أو طعامًا أو شرابًا أو امرأةً معينًا دُيِّنَ فيما بينه وبين اللَّه، وقبلت نيته بغير خلاف، ولو حذف المفعول واقتصر على الفعل؛ فكذلك عند أبي يوسف في رواية عنه والخصاف، وهو قول مالك والشافعي وأحمد (¬10). [السبب يقوم مقام النية في اليمين] والمقصود أن النية تؤثر [في اليمين] (8) تخصيصًا وتعميمًا وإطلاقًا وتقييدًا والسبب يقوم مقامها عند عدمها ويدل عليها فيؤثر ما يؤثره (¬11)، وهذا هو الذي ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "وإذا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، وما قبله فيه: "على الرجل". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬4) في المطبوع: "جوابًا بالتقييد". (¬5) في (ق): "مطلقًا عن التقييد فيصرف". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ط) و (ق). (¬7) في (ق): "بتعيين". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في المطبوع: "فامرأته طالق". (¬10) في المطبوع و (ك): "قول الشافعي وأحمد ومالك". (¬11) انظر: "تقرير القواعد وتحرير الفوائد"، للإمام ابن رجب الحنبلي (القاعدة الرابعة والعشرون والخامسة والعشرون بعد المئة) (1/ 195 - 208 بتحقيقي)، وفي (ك): "يوثر".

[التعليل كالشرط]

يتعين الإفتاء به، ولا يحمل الناس على ما يقطع أنهم لم يريدوه بأيمانهم، فكيف إذا علم قطعًا أنهم أرادوا خلافه؟ واللَّه أعلم. [التعليل كالشرط] والتعليل يجري مجرى الشرط، فإذا قال: "أنت طالق لأجل خروجك من الدار" فبان أنَّها لم تخرج لم تطلق قطعًا صرح به صاحب "الإرشاد" فقال: وإن قال: "أنت طالق أن دخلت الدار" بنصب الألف والحالف من أهل اللسان، ولم يتقدم لها دخول قبل اليمين بحال، لم تطلق، ولم يذكر فيه خلافًا وقد قال (¬1) الأصحاب وغيرهم: إنه إذا قال: "أنت طالق"، وقال أردت الشرط دين؛ فكذلك إذا قال: "لأجل كلامك زيدًا أو خروجك (¬2) من داري بغير إذني" فإنه يُديَّن، ثم إن تبين أنها لم تفعل لم يقع الطلاق، ومن أفتى بغير هذا فقد وهم على المذهب، واللَّه أعلم. فصل [الخلع] المخرج الحادي عشر: خلع اليمين عند من يجوِّزه كأصحاب الشافعي وغيرهم، وهذا وإن كان غير جائز على قول أهل المدينة وقول الإمام أحمد وأصحابه كلهم فإذا دعت الحاجة إليه أو إلى التحليل كان أولى من التحليل من وجوه [عديدة] (¬3): أحدها: أن اللَّه تعالى (¬4) شرع الخُلع رفعًا لمفسدة المشاقة [الواقعة] (3) بين الزوجين، وتخلّص كل منهما من صاحبه؛ فإذا شرع الخلع رفعًا لهذه المفسدة التي هي بالنسبة إلى مفسدة التحليل كتفلة في بحر فتسويغه لدفع (¬5) مفسدة التحليل أولى. يوضحه: الوجه الثاني: أن الحيل المحرَّمة إنما منع منها لما تضمنه من الفساد الذي (¬6) اشتملت عليه تلك المحرَّمات التي يتحيل عليها بهذه الحيل، وأما حيلة تدفع (¬7) ¬

_ (¬1) في (ق): "وقال" والكلام السابق في "الإرشاد" (ص 299). (¬2) في (ق): "وخروجك". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق) و (ك): "سبحانه". (¬5) في (ق): "لرفع". (¬6) في (ق): "التي". (¬7) في المطبوع و (ك): "ترفع".

مفسدة هي من أعظم المفاسد فإن الشارع لا يحرمها. [يوضحه] (¬1): الوجه الثالث: أن هذه الحيلة تتضمن مصلحة بقاء (¬2) النِّكاح المطلوب للشارع بقاؤه، ودفع مفسدة التحليل التي بالغ الشارع كل المبالغة في دفعه [والمنع منه] (¬3)، ولعن أصحابه، فحيلة تحصِّل المصلحة المطلوب إيجادها وتدفع المفسدة المطلوب إعدامها لا يكون ممنوعًا منها. الوجه الرابع: أن ما حرَّمه الشارع فإنما حرمه لما يتضمنه من المفسدة الخالصة أو الراجحة، فإذا كانت مصلحة خالصة أو راجحة لم يحرمه البتة، وهذا الخلع مصلحته أرجح من مفسدته. الوجه الخامس: أن غاية ما في هذا الخلع (¬4) اتفاق الزوجين ورضاهما بفسخ النكاح بغير شقاق واقع بينهما وإذا وقع الخلع من غير شقاق صح، وكان غايته الكراهية؛ لما فيه من مفسدة المفارقة، وهذا الخلع أريد به لم شعث النكاح بحصول عقد بعده يتمكن (¬5) الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف، وبدونه لا يتمكنان من ذلك، [بل إما ليتمكن الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف وبدونه لا يتمكنان من ذلك] (¬6) بل إما خراب البيت وفراق الأهل، وإما التعرض للعنة من لا يقوم للعنته شيء، وإما التزام ما حلف عليه وإن كان فيه فساد دنياه وأُخراه كما إذا حلف ليقتلنَّ ولده اليوم، أو ليشربنَّ [هذا] (7) الخمر، أو ليطأنَّ هذا الفرج الحرام، أو حلف أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يستظل بسقف ولا يعطي فلانًا حقه، ونحو ذلك، فإذا دار الأمر بين مفسدة التزام المحلوف عليه أو مفسدة الطلاق وخراب البيت وشتات الشمل أو مفسدة التزام لعنة اللَّه بارتكاب التحليل وبين ارتكاب الخلع المخلِّص من ذلك [جميعه] (¬7) لم يخف على العاقل أي ذلك أولى. الوجه السادس: أنهما لو اتفقا على أن يطلقها من غير شقاق بينهما بل ليأخذ غيرها لم يمنع من ذلك فإذا اتفقا على الخلع ليكون سببًا إلى دوام اتصالهما (¬8) كان أولى وأحرى. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ق): "هذه الحيل متضمنة بقاء". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "أن غاية ما فيه". (¬5) في (ق): "ليتمكن". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬8) في (ق): "سببًا لدوام اتصالهما".

[و] (¬1) يوضحه: [الوجه] (1) السابع: أن الخلع إن قيل: "إنه طلاق" فقد اتفقا على الطلاق بعوض لمصلحة لهما في ذلك، فما الذي يحرمه؟ وإن قيل: "إنه فسخ" فلا ريب أن النكاح من العقود اللازمة، والعقد اللازم إذا اتفق المتعاقدان على فسخه ورفعه لم يمنعا من ذلك، إلا أن يكون العقد حقًا للَّه، والنكاح محض حقهما فلا يمنعان من الاتقاق على فسخه. الوجه الثامن: أن الآية اقتضت جواز الخلع إذا خاف الزوجان ألا يقيما حدود اللَّه، فكان الخلع طريقًا إلى تمكُّنهما من إقامة حدود اللَّه، وهي حقوقه الواجبة عليهما في النكاح، فإذا كان الخلع مع استقامة الحال طريقًا إلى [تمكنهما من] (¬2) إقامة حدوده التي تعطل [ولا بد بدون] (¬3) الخلع [تعين الخلع حينئذ] (4) طريقًا إلى إقامتها. فإن قيل: لا يتعين الخلع طريقًا بل هاهنا طريقان [آخران] (¬4): أحدهما: مفارقتهما. والثاني: عدم إلزام الطلاق بالحنث إذا أخرجه مخرج اليمين إما بكفارة أو بدونها (¬5)؛ كما هي ثلاثة أقوال للسلف معروفة صرَّح بها أبو محمد بن حزم (¬6) وغيره. قيل: نعم هذان طريقان، [و] (4) لكن إذا أحكم سدَّهما غاية الإحكام، ولم (¬7) يمكنه سلوك أحدهما وأيهما سلك ترتب عليه غاية الضرر (¬8) في دينه ودنياه لم يحرم عليه -والحالة هذه- سلوك طريق الخلع، وتعيَّن في حقه [طريقان] (4): * إما طريق الخلع. * وإما سلوك طريق أرباب اللعنة. وهذه المواضع وأمثالها لا تحتملها إلا العقول الواسعة التي لها إشراف على أسرار الشريعة [ومقاصدها] (¬9) وحكمها وأما عَقْل لا يتسع لغير [تقليد] (2) من اتفق ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "فلأن يكون بغير". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "إما بالكفارة، وإما بدونها". (¬6) في "المحلى" (10/ 213). (¬7) في (ق): "فلم". (¬8) في (ق): "ترتب عليه ضرر". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[الحيلة المحرمة]

له تقليده وترك جميع أقوال أهل العلم لقوله فليس الكلام معه. الوجه التاسع: أن غاية ما مع المانعين (¬1) من صحة هذا الخلع أنه حيلة، والحيل باطلة؛ ومنازعوهم ينازعوهم في [كلتا] (¬2) المقدمتين، فيقولون: الاعتبار في العقود بصورها دون نيّاتها ومقاصدها فليس لنا أن نسأل الزوج إذا أراد خلع امرأته: ما أردت بالخلع؟ وما السبب الذي حملك عليه؟ هل هو المشاقة أو التخلص من اليمين؟ بل نجري حكم التخالع على ظاهره، ونكل سرائر الزوجين إلى اللَّه، قالوا: ولو ظهر لنا قصد الحيلة فالشأن في المقدمة الثانية، فليس كل حيلة باطلة محرمة، وهل هذا الفصل الطويل الذي نحن فيه إلا في أقسام الحيل؟ [الحيلة المحرمة] والحيلة المحرمة الباطلة (¬3) هي التي تتضمن تحليل ما حرَّمه اللَّه أو تحريم ما أحله اللَّه أو إسقاط ما أوجبه؟ وأما حيلة تتضمن الخلاص من الآصار والأغلال والتخلص من لعنة الكبير المتعال فأهلًا بها من حيلة وبأمثالها {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، والمقصود تنفيذ أمر اللَّه ورسوله بحسب الإمكان واللَّه المستعان. الوجه العاشر: أنه ليس القول ببطلان خلع اليمين أولى [من القول] (¬4) بلزوم الطلاق للحالف به غير القاصد له، فهلمَّ نحاكمكم (¬5) إلى كتاب اللَّه (¬6) تعالى وسنة رسوله وأقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وقواعد الشريعة [المطهرة] (4)، وإذا وقع التحاكم تبيَّن أن القول بعدم لزوم الطلاق للحالف به أقوى أدلةً وأصح أصولًا وأطرد قياسًا وأوفق لقواعد الشرع، وأنتم معترفون بهذا شئتم أم أبيتم (¬7)، فإذا ساغ لكم العدول عنه إلى القول المتناقض المخالف للقياس ولما أفتى به الصحابة ولما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها فلأن يسوغ (¬8) لنا العدول عن قولكم ببطلان خلع اليمين إلى ضده تحصيلًا لمصلحة الزوجين ولمًّا لشعث النكاح وتعطيلًا لمفسدة التحليل وتخليصًا (¬9) لامرأين مسلمين من لعنة اللَّه ورسوله أولى وأحرى واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "ما منع المانعون". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "والحيلة الباطلة المحرمة". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "فهلم نحاكم". (¬6) في (ق): "يشرع". (¬7) في (ق): "أو أبيتم". (¬8) في (ق): "كلام اللَّه". (¬9) في المطبوع: "وتخلصًا".

فصل [المخرج الثاني عشر وفيه بحث أن يمين الطلاق من الأيمان المكفرة]

فصل [المخرج الثاني عشر وفيه بحث أن يمين الطلاق من الأيمان المكفَّرة] المخرج الثاني عشر: أخذه بقول من يقول: "الحلف بالطلاق من الأيمان الشرعية التي تدخلها الكفارة"، وهذا أحد الأقوال في المسألة، حكاه أبو محمد بن حزم في كتاب "مراتب الإجماع" (¬1) له، فقال: واختلفوا فيمن حلف بشيء غير أسماء اللَّه أو بنحر ولده أو هديه أو أجنبي (¬2) أو بالمصحف أو بالقرآن أو بنذر أخرجه مخرج اليمين أو بأنه (¬3) مخالف لدين المسلمين (¬4) أو بطلاق أو بظهار أو تحريم شيء من ماله، ثم ذكر صورًا أخرى، ثم قال: فاختلفوا في جميع هذه الأمور: أفيها كفارة أم لا؟ ثم قال: واختلفوا في اليمين بالطلاق، أهو طلاق فيلزم، أم [هو] (¬5) يمين فلا يلزم؟ [فقد] (¬6) حكى في كونه طلاقًا [فيلزم] (¬7) أو يمينًا [لا يلزم قولين] (¬8) وحكى قبل ذلك هل فيه كفارة أم لا على قولين، واختار هو ألا يلزم، ولا كفارة فيه، وهذا اختيار شيخنا أبي محمد ابن تيمية أخي شَيخ الإسلام [ابن تيمية] (¬9). [رأي ابن تيمية] قال شيخ الإسلام (¬10): والقول بأنه يمين مكفَّرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق، بل بطريق الأَوْلى؛ فإنهم إذا أفتوا من قال: "إنْ لم أفعل كذا فكل مملوك لي حر" بأنه يمين تُكفَّر فالحالف بالطلاق أولى، قال: وقد علَّق القول به أبو ثور، فقال: إن لم تجمع الأمة على لزومه فهو يمين تكفر، وقد تبين أن الأمة لم تجمع على لزومه، وحكاه شيخ الإسلام عن جماعة من العلماء ¬

_ (¬1) (ص 184 - ط دار الآفاق الجديدة). (¬2) في (ك): "هدي، أو نحر أجنبي"، وفي (ق): "هديه ونحر أجنبي". (¬3) في (ق): "أو أنه". (¬4) في (ك) و (ق): "الإسلام". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬7) في (ق) و (ك): "لازمًا". (¬8) قال (د): ما بين المعقوفتين ساقط من أولى المصريتين. وفي (ق): "لا يلزم طلاقًا قولين". (¬9) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ق). (¬10) انظر: "مجموع الفتاوى" (33/ 50 - 58، 218 - 219).

الذين سمت هممُهم وشرفت نفوسُهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض إلى أوج (¬1) النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون [به] (¬2) عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له برد هذه الحجة قبل، وأما [ما] (¬3) سواها فبيَّن فساد جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض، وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره (¬4) من [الأئمة] (2) زهاء أربعين دليلًا وصار إلى ربه وهو مقيم عليها [داع إليها] (2) مباهل لمنازعيه، باذل نفسه [وعرضه] (2)، وأوقاته لمستفتيه؛ فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها (¬5) بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا؛ فعطلت لفتاواه (¬6) مصانع التحليل، وهدمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشَّعت (¬7) سحائب اللعنة عن المحلِّلين، والمحلَّل لهم من المطلقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حبس تقليد المذهب المعيّن به من كرمت عليه نفسه من المستبصرين (¬8)، فقامت قيامة أعدائه وحُسّاده ومن لا يتجاوز ذكر أكثرهم باب داره أو محلته، وهجنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين، فمن استخفّوه من الطغام وأشباه الأنعام قالوا: هذا قد رفع الطلاق بين المسلمين، وكثَّر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنده (¬9) مسكة عقل ولب قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلّق بالشرط وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حل (¬10) بيعة السلطان من أعناق الحالفين، ونسوا أنهم هم الذين حلوها بخلع اليمين، وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، فلا يحل لمسلم حل بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين. ¬

_ (¬1) في (ق): "وجه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ق): "وغيرها". (¬5) في (ق): "منها". (¬6) في (ق): "لفتياه". (¬7) في (ق): "وتقشفت". (¬8) في (ق) و (ك): "المتبصرين". (¬9) في (ق): "صادفوا منه". (¬10) في (ق): "قد أحل".

[محنة ابن تيمية كمحنة السلف]

[محنة ابن تيمية كمحنة السلف] ولعمر اللَّه لقد مني (1) من هذا بما مُني (¬1) به من سلف من الأئمة المرضيين، فما أشبه الليلة بالبارحة للناظرين، فهذا مالك بن أنس توصل أعداؤه إلى ضربه بأن قالوا للسلطان: إنه يحل عليك أيمان البيعة بفتواه أن يمين المكره لا تنعقد، وهم يحلفون مكرهين غير طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع (¬2) لما أخذه اللَّه في الميثاق على من آتاه اللَّه علمًا أن يبينه للمسترشدين، ثم [تلاه على أثره] (¬3) محمد بن إدريس الشافعي فوشى به أعداؤه إلى الرشيد أنه يحل أيمان البيعة بفتواه أن اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد، ولا تطلق إن تزوجها الحالف، وكانوا يُحلِّفونهم في جملة الأيمان: "وإن كل امرأة أتزوجها فهي طالق"، وتلاهما على آثارهما شيخ الإسلام فقال حسَّاده: هذا ينقض عليكم أيمان البيعة، فما فَتَّ ذلك في عضد أئمة الإسلام، ولا ثَنَى عزماتهم (¬4) في اللَّه وهممهم، ولا صدهم ذلك عما أوجب اللَّه تعالى عليهم [من] (¬5) اعتقاده والعمل به من الحق الذي أداهم إليه اجتهادهم، بل مضوا لسبيلهم، وصارت أقوالهم أعلامًا يهتدي بها المهتدون، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فصل [الصحابة والتابعون ومن بعدهم أفتوا بذلك] ومن له اطلاع وخبرة وعناية بأقوال العلماء يعلم أنه [لم يزل] (¬6) في الإسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم اللزوم وإلى (¬7) الآن. فأما الصحابة رضي اللَّه عنهم فقد ذكرنا فتاواهم في الحلف (¬8) بالعتق بعدم اللزوم، وأن الطلاق أولى منه، وذكرنا فتوى علي بن أبي طالب (¬9) -رضي اللَّه عنه- بعدم لزوم اليمين بالطلاق، وأنه لا مخالف له من الصحابة. ¬

_ (¬1) في (ق): "رُمي". (¬2) في (ك): "يمنع". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "ولا ثنى عنه غرماتهم". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): ". . . اللزوم إلى". (¬8) في (د): "في الحالف". (¬9) مضى لفظه وتخريجه، وفي المطبوع: "كرم اللَّه وجهه".

[رأي الأئمة بعد التابعين]

وأما التابعون فذكرنا فتوى طاوس بأصح إسناد عنه (¬1)، وهو من أجل التابعين، وأفتى عكرمة وهو من أغزر أصحاب ابن عباس علمًا على ما أفتى به طاوس [سواء] (¬2)، قال سُنيد بن داود في "تفسيره" المشهور [في] (2) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]}) (¬3) [النور: 21] قال: النذور في المعاصي، حدثنا عباد بن عباد المهلبي (¬4)، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في رجل قال لغلامه: "إن لم أجلدك مئة سوط فامرأتي طالق" (¬5) قال: لا يجلد غلامه ولا تطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان. [رأي الأئمة بعد التابعين] وأما من بعد التابعين فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم وغيره ثلاثة أقوال في ذلك [للعلماء] (6)، وأهل الظاهر لم يزالوا متوافرين على عدم لزوم الطلاق للحالف به (¬6)، ولم يزل منهم الأئمة والفقهاء والمصنِّفون والمقلِّدون لهم، وعندنا بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها عن جماعة من أهل العلم الذين هم أهله في عصرنا وقبله أنهم كانوا يفتون بها أحيانًا فأخبرني صاحبنا الصادق محمد بن شهوان (¬7) قال: أخبرني شيخنا الذي قرأت عليه القرآن -وكان من أصدق الناس- الشيخ محمد بن المحلى (¬8) قال: أخبرني شيخنا الإمام خطيب جامع دمشق عز الدين الفاروقي (¬9) قال: كان والدي يرى هذه المسألة، ويفتي بها ببغداد. ¬

_ (¬1) مضى لفظه وتخريجه، وفي (ك): "فقد ذكرنا". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وما بين القوسين سقط من (ك). (¬4) في (ك): "المهلي". (¬5) في المطبوع و (ك): "فامرأته طالق". (¬6) انظر: "المحلى" (10/ 211/ مسألة 1969)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في هامش (ق): "صاحب محمد بن شهوان". (¬8) في (ق) و (ك): "النجل". (¬9) في (ق): "الفاروى".

[رأي أهل المغرب]

[رأي أهل المغرب] وأما أهل المغرب فتواتر (¬1) عمن يعتني بالحديث ومذاهب السلف منهم أنه كان يفتي بها وأوذي بعضهم على ذلك وضرب، وقد ذكرنا فتوى (¬2) القفال في قوله: "الطلاق يلزمني" أنه لا يقع به طلاق وإن نواه، وذكرنا فتاوى أصحاب أبي حنيفة في ذلك، وحكايتهم إياه عن الإمام نصًا، وذكرنا فتوى أشهب من المالكية فيمن قال لامرأته: "إنْ خرجتِ من داري أو كلَّمتِ فلانًا -ونحو ذلك- فأنت طالق" ففعلتْ لم تَطْلُق، ولا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب بل وشيخهما أبي يعلى، فإذا (¬3) كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتي بها في الإسلام ويحكم بها الحكام فلاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها (¬4)، واللَّه المستعان وعليه التكلان. فصل (¬5) [القول في جواز الفتوى بالآثار السلفية] في جواز الفتوى بالآثار السلفية (¬6)، والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ [بها] (7) من أراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قُرْبها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله، وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من [فتاوى] (¬7) تابعي ¬

_ (¬1) في (ق): "وأما أهل الغرب فثبت". (¬2) في (ق): "فتاوى". (¬3) في (ق): "إذا". (¬4) في (ق): "إن لم تترجح عليها". (¬5) نشر أخونا الأستاذ أحمد سلام كلام الإمام ابن القيم هذا على حجية أقوال الصحابة، الذي يبدأ من هاهنا في رسالة مستقلة سماها "البينات السلفية على أن أقوال الصحابة حجة شرعية في إعلام الإمام ابن قيم الجوزية". وعلق عليها فأثبت تعليقاته دون تخريجاته، ورمزت لها في آخرها بـ (س). (¬6) السلفية: نسبة إلى القرون المفضلة وهم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، والصحابة هم الطبقة العليا من السلف -رضي اللَّه عنهم- بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وموافقة الصحابة هو مناط اعتبار من عاش في عصر التابعين وما بعده من السلف، -أو سلفيًا- دون نوابت الفرق الضالة. والصحابة؛ هم كل من لقي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مؤمنًا به، ومات على ذلك، طالت صحبته أو قصرت، روى عنه أو لم يرو (س). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

التابعين، وهلم جرّا وكلما كان العهد بالرسول (¬1) أقرب كان الصواب أغلب، وهذا حكم بحسب الجنس (¬2) لا بحسب كل فرد فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين -وإن كان أفضل من عصر تابعيهم- فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكن المُفضَّلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين (¬3)، ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند اللَّه أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه (¬4) ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم (¬5)، بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي [وسفيان الثوري] (¬6) وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم (¬7)، بل لا يَلْتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد وأمثالهم (¬8)، بل لا يلتفت إلى قول (¬9) سعيد بن المسيب، والحسن، والقاسم، وسالم (¬10)، وعطاء، وطاوس، وجابر بن زيد، وشُريح، وأبي وائل، وجعفر بن محمد وأضرابهم مما (¬11) يسوغ الأخذ بقولهم (¬12) بل يرى تقديم ¬

_ (¬1) في (ق): "وكلما كان برسول اللَّه"، وفي (ك): "وكلما كان العهد برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬2) أي بحسب اختلاف الطبقات، ففتاوى طبقة الصحابة مقدمة على فتاوى التابعين، وفتاوى طبقة التابعين مقدمة على فتاوى من بعدهم على العموم، وليست كل فتوى لكل تابعي مقدمة على أقوال من بعدهم، وكذلك لو أفتى بعض التابعين بالراجح مما اختلف فيه الصحابة، كانت فتواهم مقدمة على القول المرجوح من اختلاف الصحابة، وإن كان مرجع هذه الفتوى في الحقيقة لمن أفتى بها من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (س). (¬3) فلا انفكاك بين علو مكانتهم وفضلهم وخبرتهم، وعلمهم وفقههم، فهم أصحاب المنهج الأسلم، والأحكم والأعلم. كما أنهم خير الناس وأفضلهم (س). قال (د): "في نسخة "في الفضل والرأي"". (¬4) في (ك): "وترجحه". (¬5) الطبقة الوسطى ممن تلقى عن أتباع التابعين (س). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬7) وهم من الطبقة الوسطى من أتباع التابعين (س). (¬8) وهم من طبقة دون الطبقة الأولى من التابعين (س). (¬9) في المطبوع و (ك): "بل لا يعد قول". (¬10) في (ق): "وسالم والقاسم". (¬11) كذا في المطبوع، و (ق)، وفي هامش (ق): "لعله ممن". (¬12) وهم من طبقة التابعين الكبار (س)، وفي (ك): "به".

[قول] (1) المتأخرين من أتباع من قلَّده على [فتوى] (¬1) أبي بكر الصديق (¬2) وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبيّ بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عباس وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن الزبير وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأضرابهم (¬3)، فلا يدري ما عذره غدًا عند اللَّه (¬4) إذا سوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم وأقوال هؤلاء وفتاويهم (¬5)، فكيف إذا رجَّحها عليها؟ فكيف إذا عيَّن (¬6) الأخذ بها حكمًا وإفتاءً (¬7)، ومنع الأخذ بقول الصحابة (¬8)، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها (¬9)، وشهد عليه بالبدعة والضلالة (¬10)، ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام (¬11)؟ تاللَّه لقد أخذ بالمثل المشهور: "رمتني بدائها وانْسَلّتْ" (¬12)، وسمَّى ورثة الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح (¬13) ويقول ويعلن أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا (¬14)، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) سقط من (ك). (¬3) وهم فقهاء الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. (¬4) في (ق): "فما ندري ما عذره عند اللَّه". (¬5) المذنب هو الذي يحتاج العذر، فالتسوية بين أقوال السلف وأقوال المتأخرين والخلف، تستوجب المؤاخذة عند الإمام ابن القيم، وكذلك هي عند من فَقِهَ مدار الدعوة السلفية وقطب رحاها (س). (¬6) ألزم وأوجب (س)، وفي (ك): "غيّر". (¬7) في (ق): "حكمًا وأفتى"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬8) وزعموا بئسما زعموا: أن أقوال غير المذاهب الأربعة قد درست وذهبت، فحكموا على الأمة بالضلال المبين لتضييعها المزعوم لآثار الصحابة وفقههم، ونسبوا إلى المذاهب الحفظ والصيانة، وكأنها بمنزلة الذكر الذي تكفل اللَّه بحفظه، فاعتبر (س). (¬9) أي استجاز عقوبة من خالف المتأخرين أتباعًا لأقوال الصحابة (س). (¬10) وإنما البدعة في مخالفة الصحابة والتدين بما لم يتدينوا به، والضلالة هي أخذ غير سبيلهم، ونهج غير طريقهم (س). ووقع في (ق): "بالبدعة والضلالة". (¬11) هذا ما رمى به الحاقدون عن البدعة والطاغوت للإمام ابن تيمية في عصره، وأوقن أن ابن القيم يومئ إلى هذا (و). (¬12) المثل يضرب لمن يعير صاحبه بعيب هو فيه. انظر: "مجمع الأمثال" للميداني (2/ 23 رقم 1521 - ط دار الجيل). ووقع في (ق): "وانكت" وأشار إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬13) في (ق) و (ك): "يصرح ويصرخ". (¬14) وهذا قول مبتدع لا دليل عليه, ولا شبهة في بطلانه, ولا يحفظ عن واحد من الأئمة =

[ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة]

وعلي وغيرهم من الصحابة وهذا كلامٌ مَنْ أخذ به وتقلَّده ولّاه اللَّه ما تولى، ويجزيه [عليه] (¬1) يوم القيامة الجزاء الأوفى (¬2)، والذي ندين اللَّه به ضد هذا القول، والرد عليه، فنقول: [ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة] إذا قال الصحابي قولًا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه، فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر (¬3)، وإن خالفه أعلم منه كما إذا خالف الخلفاءُ الراشدون (¬4) أو بعضهم غيرهم من الصحابة في حكم، فهل يكون الشق الذي فيه الخلفاء الراشدون أو بعضهم حجة على الآخرين؟ فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أن الشق الذي فيه الخلفاء [الراشدون] (¬5) أو بعضهم أرجح وأَوْلى أن يؤخذ به من الشق الآخر (¬6)، فإن كان ¬

_ = الذين يستتر المتعصبون خلف جلالة أسمائهم كلمة واحدة في الرضا بتقليد الناس إياهم، بل الدعوة إلى التقليد فضلًا عن إيجابه والتدين به. (س). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) إشارة إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115]، والآية تدل على أن كل من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن شاق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- اتبع غير سبيل المؤمنين، فلا يتحقق اتباع الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا باتباع سبيل المؤمنين أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولزوم ما كانوا عليه من الدين: اعتقادًا، وتلقيًا وعبادة، ومعاملات ودعوة باتباع أقوالهم وفتاويهم المنقولة عنهم بنقل الثقات (س). (¬3) المراد باختلاف التنوع: اختلاف الاجتهاد عند الصحابة لأن اختلاف التنوع لا حجة فيه لطرف على الآخر، إذ كل الأقوال فيه صحيحة. وإذا لم يكن قول أحد الصحابة حجة على من خالفه من الصحابة، فلا يكون حجة بعينه على غير الصحابة، لأنه قول اجتهادي وسع فيه على من أخذ بقول أحد منهم دون من خرج عن أقوال جميعهم (س). (¬4) في (ق): "الخلفاء الراشدين". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬6) دل على ذلك حديث العرباض بن سارية: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" فهو نص في وجوب اتباع الخلفاء الراشدين على وجه التخصيص، ومحله فيما اختلف فيه الصحابة فيما لا نص فيه، في أمور الاجتهاد المحض، وعند الإختلاف في تفسير نص محتمل الدلالة (س)، قلت: وحديث العرباض صحيح ومضى تخريجه.

[رجحان أقوال الصديق]

الأربعة في شق [فلا شك أنَّه الصواب (¬1)، وإن كان أكثرهم في شق] (¬2) فالصواب فيه أغلب (¬3)، وإن كانوا اثنين واثنين فشق أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب؛ فإن اختلف أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر (¬4)، وهذه جملة (¬5) لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم. [رجحان أقوال الصديق] ويكفي في ذلك معرفة رجحان قول الصديق في الجد والإخوة (¬6)، وكون الطلاق الثلاث بفم واحد مرة واحدة وإن تلفظ فيه بالثلاث (¬7)، وجواز بيع أمهات الأولاد، وإذا نظر العالم المنصف في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له أن جانب الصدِّيق أرجح، وقد تقدم بعض ذلك في مسألة الجد والطلاق الثلاث بفم واحد، ولا يُحفظ للصديق خلاف نص واحد أبدًا ولا يحفظ له فتوى ولا حكم ¬

_ (¬1) كما دل على وجوب هذا الاتباع تقديم الصحابة للخلفاء الأربعة في الخلافة والفضل، فهو دال على أن اتباع أقوالهم أفضل من اتباع أقوال غيرهم (س). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) وهو فرع من النوع الذي قبله في وجوب اتباع أقوال الخلفاء الراشدين، وإن كان اتباع أكثرهم دون اتباعهم جميعًا في القوة (س). (¬4) وعليه: إن اختلف عمر وعثمان، فالصواب مع عمر وإن اختلف عثمان وعلي، فالصواب مع عثمان (س). قلت: ومسألة حجية قول الصحابي اختلف فيها أهل الأصول، فانظر: "المحصول" (6/ 129 - 136)، و"الإحكام" للآمدي (4/ 155) و"المستصفى" (1/ 260 - 274)، و"البحر المحيط" (6/ 53 - 75)، و"المسودة" لآل تيمية (ص 336). و"الرسالة" للشافعي (ص 596 - 598)، و"البرهان" للجويني (2/ 1358) و"روضة الناظر" (ص 145 - 146) و"إرشاد الفحول" (ص 243). (¬5) طريقة في الترجيح (س). (¬6) أي ميراث الجد من ابن الولد مع وجود الإخوة من الأم، وقوله في ذلك -رضي اللَّه عنه-: أنه يرثه، ويمنع وصول الميراث إليهم، وذلك أن وجود الجد يمنع الكلالة. (س). قلت: مضى بيان ذلك عند المصنف. (¬7) ثبت في "صحيح مسلم" عن ابن عباس أن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: "إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم" (س). قلت: مضى تخريجه.

فصل [إن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر]

مأخذها ضعيف أبدًا (¬1) وهو تحقيق لكون خلافته خلافة نبوة (¬2). فصل [إن لم يخالف الصحابي صحابيًا آخر] وإن لم يخالف الصحابي صحابيٌّ آخر (¬3) فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع (¬4)، وقالت شرذمة من المتكلمين ¬

_ (¬1) هذا ما يحمل المصنف على التحفظ من إجراء قاعدة الترجيح بين أقوال الخلفاء الراشدين بمطلق الكثرة على إطلاقها، دون التبين والتثبت من الأمر عند ورود الخلاف بين الصديق وغيره من الخلفاء (س). (¬2) وكيف لا تكون كذلك، وقد حفظ اللَّه الإسلام وأهله بأبي بكر في مواطن كثيرة، منها: 1 - ثباته وتثبيته الناس يوم وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أهجر عمر، وسكت عثمان، واختفى علي في بيته، انظر: "العواصم من القواصم" (54 - 57). 2 - إنفاذه جيش أسامة في أحلك الظروف، وكان ذلك بركة على الإسلام، انظر: "البداية والنهاية" (6/ 296). 3 - إصراره على قتال مانعي الزكاة، رغم معارضة عمر -رضي اللَّه عنه- وغيره من الصحابة، انظر: "العواصم من القواصم" (63 - 64). ذكر الإمام ابن كثير عن هشام بن عروة عن عروة عن أبيه عن عائشة، ومن حديث القاسم وعمرة عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: "لما قبض رسول اللَّه ارتدت العرب قاطبة وأشربت النفاق، واللَّه لقد نزل بي ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها، وصار أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- كأنهم معزى مطيرة في حش، في ليلة مطيرة، في أرض مسبعة، فواللَّه ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بخطلها وعنانها وزمامها، ثم ذكرت عمر فقالت: من رأى عمر علم أنه خلق غنى للإسلام، كان واللَّه أحوذيًا نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها، قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنا أبو عبد اللَّه الحافظ: أنا أبو العباس محمد بن يعقوب: ثنا محمد بن علي الميموني: ثنا الفريابي: ثنا عباد بن كثير، عن الأعرج عن أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- قال: واللَّه الذي لا إله إلا هو لولا أن أبا بكر استخلف ما عُبد اللَّه، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، فقيل له: مه يا أبا هريرة، فقال: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجه أسامة بن زيد في سبع مئة إلى الشام. . "، وذكر خبر جيش أسامة، انظر: "البداية والنهاية" (6/ 397 - 398) (س). (¬3) في المطبوع: "الصحابي صحابيًا آخر". (¬4) إذا ثبت أنه حجة فقد وجب الأخذ به، وحرم خلافه، ولا مشاحة في المصطلح، فإنما وضع للدلالة على المضمون، فإذا سلم المضمون من النزاع فلا يضر الاختلاف في الاسم. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والاحتجاج به هو الحق الذي لا يجوز الاختلاف عليه لأدلة كثيرة جدًا ساق الإمام ابن القيم كثيرًا منها في بحثه، وهذا القول: 1 - هو سبيل المؤمنين الذي من اتبع غيره شاق الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- واستحق سوء العاقبة. 2 - ومنهج الفرقة الناجية دون غيرها من الفرق الثنتين وسبعين. 3 - وما اجتمعت عليه الأمة دون ضلالة. 4 - الإجماع السكوتي المعروف عند علماء الأصول، وهو الإجماع الذي وقع كثيرًا بين الصحابة، والوحيد الموافق لدلالات النصوص وألفاظها. فإن للإجماع الصريح مقتضيات متعذرة؛ أهمها: - استقراء أقوال جميع الصحابة وإثبات اتفاقهم الصريح المنطوق على حكم واحد. ذلك أن الصحابة تفرقوا قبل وفاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يجتمعوا كلهم أبدًا. ولم يدع أحد من العلماء أنه طاف عليهم وجمع أقوالهم في مسألة واحدة أبدًا، فإذا نزلت إلى ما بعد عصر الصحابة تطلب الأمر لوازم أكثر وأبعد، منها: - الاتفاف على حد معتبر للعالم الذي يعتد بخلافه. - تعيين أسماء العلماء الذين تحققت فيهم صفات هذا الحد. - جمعهم في مكان واحد، أو الطواف على بلدانهم لمعرفة أقوالهم. وقد اشتهرت كلمة الإمام أحمد في تكذيب الإجماع الصريح، وهو قوله المشهور: من ادعى الإجماع فقد كذب، ما يدريه لعل الناس اختلفوا. - وللإمام الشافعي كلام قوي في إنكار هذا النوع من الإجماع، قال رحمه اللَّه: "وكفى حجة على أن دعوى الإجماع في كل الأحكام ليس كما ادعى من ادعى ما وصفت من هذا ونظائر له أكثر منه، وجملته أنه لم يدع الإجماع فيما سوى جمل الفرائض التي كلفها العامة أحد من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا التابعين، ولا القرن الذي بعدهم، ولا القرن الذي يلونهم، ولا عالم علمته على ظهر الأرض، ولا أحد نسبته العامة إلى علم إلا حينًا من الدهر، فإن قائلًا قال فيه بمعنى لم أعلم أحدًا من أهل العلم عرفه، وقد حفظت عن عدد منهم إبطاله. ومتى كانت عامة من أهل العلم في دهر بالبلدان على شيء، وعامة قبلهم، قبل أن يحفظ عن فلان وفلان كذا، ولم نعلم لهم مخالفًا، ونأخذ به، ولا نزعم أنه قول الناس كلهم، لأنا لا نعلم من قاله من الناس إلا من سمعناه منه أو عنه، قال: وما وصفت من هذا قول من حفظت عنه من أهل العلم نصًا واستدلالًا" "مختلف الحديث" (ص 91). وقال الشافعي بعدها: "والعلم من وجهين: اتباع واستنباط، والاتباع: اتباع كتاب، فإن لم يكن فسنة، فإن لم تكن فقول عامة من سلفنا لا نعلم له مخالفًا، فإن لم يكن فقياس على كتاب اللَّه عز وجل، فإن لم يكن فقياس على سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يكن فقياس على قول عامة سلفنا لا مخالف فيه". "مختلف الحديث" (ص 91). وكلام الشافعي فيه: =

وبعض الفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة (¬1)، وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم [هل] (¬2) اشتهر أم لا فاختلف الناس: هل يكون حجة أم لا؟ فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة هذا قول جمهور الحنفية، صرح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًا وهو مذهب مالك وأصحابه، وتصرفه في "موطئه" دليل عليه (¬3)، وهو قول إسحاق ابن راهويه وأبي عبيد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع [عنه] (¬4)، واختيار جمهور أصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، أما القديم فأصحابه مقرون به، وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة، وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًا؛ فإنه لا يحفظ عنه (¬5) في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة، وغاية ما يتعلق به (¬6) من نقل ذلك أنه يحكي أقوالًا للصحابة في الجديد ثم يخالفه (¬7) ولو كانت عنده حجة لم يخالفها وهذا تعلُّق ضعيف جدًا فإن مخالفة المجتهد الدليل (¬8) المعيَّن لما هو أقوى في نظره منه (¬9) لا يدل على أنه لا يراه دليلًا من حيث الجملة، بل خالف دليلًا لدليل أرجح منه عنده (¬10)، وقد تعلَّق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر ¬

_ = 1 - أن الإجماع عنده إنما هو في جمل الفرائض، أي الفرائض المعلومة الظاهرة، وكلامه قريب من المعلوم بالضرورة، إن لم يكن هو (بل هو كما سيأتي عنه). 2 - إن الإجماع لم يدعه أحد من الصحابة، أو التابعين، ولا أتباع التابعين، ولا أتباعهم، ولا سمعه الشافعي من عالم معتبر عنده ولا عالم معتبر عند العامة (س). 3 - وإن قائلًا تكلم فيه بمعنى أنكره الشافعي، وحفظ إبطاله عن عدد من أهل العلم. 4 - أنه يأخذ بما عليه عامة أهل العلم، ويجعله أصلًا يقيس عليه ولا يسميه إجماعًا، وحقيقته عدم علم بالمخالف. (س). (¬1) وَرَدٌّ المتكلمين وبعض متأخري الفقهاء ما اشتهر من أقوال الصحابة دون خلاف، وعدم الاحتجاج به مردود، وأنه مبتدع محدث محجوج بالأدلة القاضية بحجيته، ومخالف لمنهج السلف في قبوله والاحتجاج به (س). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) عنون على هاتين الجملتين في هامش (ق) بقوله: "تصرف مالك في "الموطأ"". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع و (ك): "لا يحفظ له". (¬6) في (ق): "وعامة ما تعلق به". (¬7) في (ك) و (ق): "يخالفها". (¬8) في (ق): "للدليل". (¬9) في (ق): "أقوى منه في نظره". (¬10) كمن يترك عموم القرآن لبيان السنة ودلالتها (س). وفي المطبوع و (ك): "أرجح عنده منه".

أقوال الصحابة موافقًا لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص، بل يعضدها بضروب من الأقيسة؛ فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها بل يعضدها بدليل آخر، وهذا أيضًا تعلق أضعف من الذي قبله؛ فإن تظافر (¬1) الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادة أهل العلم قديمًا وحديثًا ولا يدل ذكرهم دليلًا ثانيًا وثالثًا على أن ما ذكروه قبله ليس بدليل (¬2)، وقد صرَّح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابة (¬3) حجة يجب المصير إليه، فقال: المُحدثات من الأمور ضربان: أحدهما (¬4): ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا (¬5) فهذه البدعة الضلالة، والربيع إنما أخذ عنه بمصر (¬6)، وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة، وهذا فوق كونه حجة، وقال البيهقي في كتاب "مدخل السنن" (¬7) له: باب ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا (¬8)، قال الشافعي (¬9): أقاويل الصحابة إذا تفرَّقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة أو الإجماع إذا (¬10) كان أصح في القياس، وإذا قال الواحد منهم القول لا يُحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف (¬11) صرت إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا شيئًا (¬12) في معناه يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس، قال البيهقي: وقال في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬13): ما كان ¬

_ (¬1) في نسخة: "تظاهر". (¬2) وقد يستدل العالم على المسألة الواحدة بآيات من القرآن، أو أحاديث نبوية عدة، أو بآيات وأحاديث، ولا يفهم من هذا بحال أن شيئًا من هذا ليس بدليل. (¬3) في (ك): "أقوال الصحابي". (¬4) في (ك): "أحدها". (¬5) وذكر الأثر بعد السنة لا معنى له إلا النقل عن الصحابي، وهو صريح في تضليل من أحدث خلاف آثار الصحابة، وفي الاحتجاج به استقلالًا (س). (¬6) وهذا يرد على شبهة كون هذا القول من مذهبه القديم الذي رجع عنه (س). (¬7) (ص 109). (¬8) في (ق): "إذا افترقوا". (¬9) في "الرسالة" (ص 596 - 598) بتصرف يسير. (¬10) في هامش (ق): "لعله: أو إذا". (¬11) في (ق): "لا يحفظ فيه عن غيره موافقة له". (¬12) في (ق): "إلا شيئًا". (¬13) (مطبوع في آخر "الأم")، وفي (ك): "كتابه مع مالك".

[طبقات العلم عند الشافعي]

الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعه مقطوع إلا [بإتيانه] (¬1)، فإن لم يكن ذلك (¬2) صرنا إلى أقاويل الصحابة أو [واحد منهم] (¬3)، ثم كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم إذا صرنا إلى التقليد أحب إلينا وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب (¬4) والسنة فنتبع القول الذي معه الدلالة؛ لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس (¬5)، ومن لزم قوله الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر وقد يأخذ بفتياه ويدعها وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا يعتني (¬6) العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الإمام (¬7)، وقد وجدنا الأئمة ينتدبون (¬8) فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه ويقولون فيخبرون بخلاف قولهم، فيقبلون من المخبر، ولا يستنكفون عن أن يرجعوا لتقواهم اللَّه تعالى وفضلهم، فإذا لم يوجد عن الأئمة (¬9) فأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم في الدين في موضع الأمانة أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم. [طبقات العلم عند الشافعي] قال الشافعي (¬10) -رضي اللَّه عنه-: والعلم (¬11) طبقات. الأولى (¬12): الكتاب والسنة. الثانية: الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة. ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق) بياض. (¬2) في (ق): "فإن لم يكن له ذلك". (¬3) في (ك) و (ق): "واحدهم". (¬4) هذا صريح في احتجاج الإمام الشافعي بقول الواحد من الصحابة (س). (¬5) الإمام الحاكم يلزم قوله الناس في غير معصية، ومن ذلك قوله في الأمور الاجتهادية التي لا نص فيها، واتباع أقوال الخلفاء الراشدين لازم لكونهم أئمة الناس (س). (¬6) في (ق): "ولا يفتي"، وفي الهامش: "لعله: ولا يعتني"، وفي (ك): "يعني". (¬7) فالناس يعتنون بمعرفة ما يجب عليهم اتباعه من أقوال الأئمة الخلفاء، أكثر من عنايتهم بأقوال غيرهم من المفتين غير الخلفاء (س). (¬8) في (ق): "يبتدون". (¬9) الأئمة من الصحابة، صار بعدها إلى قول آحاد من غير الخلفاء (س). (¬10) نقله عنه البيهقي في "المدخل" (ص 110). (¬11) في (ك): "العلم". (¬12) في (ق) و (ك): "الأول"!.

الثالثة: أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة (¬1). الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة (¬2): القياس، هذا كله كلامه في الجديد، قال البيهقي -بعد أن ذكر [هذا-: وفي الرسالة القديمة للشافعي -بعد ذكر] (¬3) الصحابة وتعظيمهم- قال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم، ورأيهم (¬4) أحمدُ وأولى بنا من رأينا (¬5)، ومن أدركنا ممن نرضى أو حُكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرَّقوا (¬6)، وكذا نقول: ولم نخرج عن (¬7) أقوالهم كلهم قال: وإذا قال الرجلان منهم في شيء قولين نظرت (¬8)، فإن كان قول أحدهما أشبه بالكتاب والسنة أخذت به، لأن معه شيئًا قويًا، فإن لم يكن على واحد من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان (¬9) أرجح عندنا من واحد (¬10) لو خالفهم غير إمام. قال البيهقي: وقال في موضع آخر (¬11): فإن لم يكن على القول دلالة من كتاب ولا سنة كان قول أبي بكر وعمر وعثمان أحبَّ إليَّ من قول غيرهم (¬12)، فإن اختلفوا صرنا إلى القول الذي عليه دلالة، وقلَّما يخلو اختلافهم من ذلك، ¬

_ (¬1) هذا ظاهر في اعتبار قول الصحابي علمًا، وفي تقديم الواحد الواحد بغير اختلاف، على القول عند الخلاف، وهذا فقه عالٍ، وفي تقديمه على القياس فقول الصحابي بغير مخالف منه مع المخالفة، فإذا لزم عدم الخروج من أقوالهم عند الخلاف فأولى منه القول بغير خلاف (س). (¬2) في (ق): "الخامس". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): بدل "ذكر الصحابة" "الصحابي". (¬4) في المطبوع و (ك): "وآراؤهم لنا". (¬5) هذا هو الحق الذي لا مرية فيه، وهذا هو الإنصاف ومعرفة الفضل لأهله من أهله (س). (¬6) هذه حكاية عن أهل العلم الذين لقيهم الشافعي، أو بلغه قولهم، فهذا قول عامة لا مخالف له (س). ووقع في (ق): "وقول بعضهم إن تفرقوا". (¬7) في المطبوع و (ك): "من". (¬8) في (ق): "وإذا قال الرجل منهم قولي في شيء نظرت". (¬9) أما إذا كان على واحد من القولين دلالة فيقدَّم على قول أبي بكر وعمر وعثمان، وهذا مفهوم الكلام (س). (¬10) في (ك) و (ق): "أحد". (¬11) في (ق): "الآخر". (¬12) في (ق): "قول أبي بكر أو عمر أو عثمان أرجح عندنا من غيرهم".

وإن (¬1) اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر (¬2)، فإن تكافؤوا نظرنا أحسن أقاويلهم مخرجًا عندنا (¬3)، وإن وجدنا للمفتين في زماننا أو قبله إجماعًا في شيء تبعناه (¬4)، فإذا نزلت نازلة لم نجد فيها واحدة من هذه الأمور فليس إلا اجتهاد الرأي (¬5)، فهذا كلام الشافعي رحمه اللَّه ورضي عنه بنصه، ونحن نشهد باللَّه أنه لم يرجع عنه، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له كما تقدم ذكر لفظه، و [قد] (¬6) قال في الجديد في قتل الراهب: إنه القياس [عنده] (¬7)، ولكن أتركه لقول أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- (¬8)، فقد أَخَبَرنا أنه ترك القياس الذي هو دليل عنده لقول الصاحب، فكيف يترك موجب الدليل لغير دليل؟ وقال: في الضلع بعيرٌ، قلته تقليدًا لعمر رضي اللَّه عنه (¬9)، وقال في موضع آخر: قلته تقليدًا لعثمان -رضي اللَّه عنه-، وقال في الفرائض: هذا مذهب تلقيناه عن زيد [بن ثابت] (¬10). ولا تستوحش من لفظة التقليد في كلامه، وتظن أنها تنفي [كون] قوله حجة (¬11) بناء على ما تلقيته من اصطلاح المتأخرين أن التقليد قبول قول الغير بغير حجة، فهذا اصطلاح حادث (¬12)، وقد صرَّح الشافعي في موضع من كلامه بتقليد خبر الواحد فقال: قلت هذا تقليدًا للخبر (¬13)، وأئمة الإسلام كلهم على قبول قول الصحابي، قال ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "فإن". (¬2) إن كان الخلفاء مختلفون نظر إلى الأكثر منهم، وإن كان الخلاف في غيرهم نظر إلى غيرهم. (س). (¬3) أي إلى مقتضى المصلحة. أو سد الذرائع، أو غير ذلك من القواعد (س). (¬4) وهو قول العامة لا يعلم خلافه كما هو كلامه في الجديد، فهذا يؤخذ به إن لم يوجد كتاب ولا سنة، ولا قول صاحب ولا قياس، وذلك ما يقتضيه كلام الإمام الشافعي، ومن هنا يمكن القول أنه لا عبرة بإجماع وخصوصًا إذا كان مسبوقًا بقول لأحد الصحابة على خلافه (س). (¬5) فالاجتهاد إنما يكون بعد هذه المآخذ، وعند عدمها جميعها (س). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) مضى تخريجه، وفي (ك): "تركه" بدل "أتركه". (¬9) رواه مالك (2/ 861)، والشافعي في "اختلاف مالك والشافعي" (225). (¬10) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬11) وكيف يعتده تقليدًا وقد عده في طبقات العلم، وقدمه على القياس، كما مر بك قريبًا (س). وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) مباحث الفتوى والرأي والتقليد. ستأتي -بتفصيل وتأصيل- عند المصنف. (¬13) وإنما يعني في هذا وفي أخذه قول الصحابي: الاتباع (س).

نعيم بن حماد: ثنا ابنُ المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم (¬1)، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم (¬2). وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر المتكلمين (¬3) [إلى] أنه ليس بحجة (¬4)، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة، وإلا فلا، قالوا: لأنه إذا خالف القياس لم يكن إلا عن توقيف (¬5) وعلى هذا فهو حجة وإن خالفه صحابي آخر، والذين قالوا: "ليس بحجة" قالوا: لأن الصحابي مجتهد من المجتهدين يجوز عليه الخطأ فلا يجب تقليده، ولا يكون قوله حجة كسائر المجتهدين، ولأن الأدلة الدالة على بطلان التقليد تعم تقليد الصحابة ومن دونهم (¬6)، [و] لأن التابعي إذا أدرك عصر الصحابة اعتد بخلافه (¬7) عند أكثر الناس، فكيف يكون قول الواحد حجة عليه؟ ولأن الأدلة ¬

_ (¬1) وهذا يعني أنه لا يخرج عن أقوال جميعهم (س). قلت: ورواه البيهقي في "المدخل" (رقم 40) مقولة أبي حنيفة، وذكرها الذهبي (6/ 401)، وابن عبد البر في "الانتقاء" (144). (¬2) قال الزركشي في "البحر المحيط" (6/ 60): "والحاصل عن الشافعي أقوال: أحدها: إنه حجة مقدمة على القياس، كما نص عليه في "اختلافه مع مالك"، وهو من الجديد. والثاني: إنه ليس بحجة مطلقًا, وهو المشهور بين الأصحاب أنه الجديد. الثالث: إنه حجة إذا انضم إليه قياس، فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول صحابي، كما أشار إليه في "الرسالة"، ثم ظاهر كلامه فيها أن يكون القياسان مستاويين". قلت: وللمزيد انظر: "إرشاد الفحول" للشوكاني (ص 243). (¬3) وهل دخل بلاءٌ ووهن على الإسلام كما دخله من المتكلمين أتباع ملاحدة اليونان من الفلاسفة؟ وهل هذه أولى فضائحهم؟ (س). (¬4) والغالب على حال متأخري أتباع المذاهب التعصب، وإن تعجب فعجب ممن يتدين بتقليد إمامه ويوجبه، ثم ينكر اتباع الصحابة بل قل تقليدهم. وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) وهل من علامات التوقيف مخالفة القياس، بل العكس صحيح لأن القياس الصحيح مستند إلى نص توقيفي, فلو عكسوا لأصابوا، وللَّه في خلقه شؤون (س). (¬6) هذا لا يقبل صدوره إلا من ابن حزم ومن ظاهره على ظاهريته، ولا يقبل من مقلد مذهب بحال (س). (¬7) قد مر بك فيما سبق قول الشافعي في الإجماع، وأنه لم يدع الإجماع في غير جمل الفرائض العامة أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعي التابعين، ولا أتباعهم، ولا =

[الأدلة على وجوب اتباع الصحابة]

[قد] (¬1) انحصرت في الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب، وقول الصحابي ليس واحدًا منها، ولأن امتيازه بكونه أفضل وأعلم وأتقى لا يوجب وجوب اتباعه على مجتهد آخر من علماء التابعين بالنسبة إلى مَنْ بعدهم. [الأدلة على وجوب اتباع الصحابة] فنقول: الكلام في مقامين: أحدهما: في الأدلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. الثاني: في الجواب عن شبه (¬2) النفاة. فأما الأول: فمن وجوه. أحدها: ما احتج به مالك، وهو قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}] (¬3) [التوبة: 100] فوجه الدلالة أن اللَّه تعالى أثنى على من اتبعهم، فإذا قالوا قولًا فاتَّبعهم مُتَّبعٌ عليه قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محمودًا على ذلك، وأن يستحق ¬

_ = عالم عرفه الشافعي في زمانه، إلا شيئًا حدث في زمانه، وقد جاء في كلامه ما يدل يقينًا على أنه يعني بالإجماع ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ولا يجهله عامي، قال رحمه اللَّه: "لست أقول ولا أحد من أهل العلم: (هذا مجتمع عليه) إلا لما لا تَلْقى عالمًا أبدًا إلا قاله لك، وحكاه عمن قبله، كالظهر أربع ركعات وكتحريم الخمر، وما أشبه ذلك، وقد أجده يقول: (المجمع عليه) وأجد من المدينة من أهل العلم كثيرًا يقول بخلافه، وأجد عامة أهل البلدان على خلاف ما يقول: (المجتمع عليه) "الرسالة" (534 - 535)، وهذا ليس نفيًا للإجماع مختصًا بالإمام الشافعي بل هو نفي منه لوقوع ادعائه من أهل العلم إلا في المعلوم ضرورة. وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه اللَّه في تعليقه على "الرسالة": "يعني أن الإجماع لا يكون إجماعًا إلا في الأمر المعلوم من الدين بالضرورة، كما أوضحنا ذلك وأقمنا الحجة عليه مرارًا، في كثير من حواشينا على الكتب المختلفة. . . " المصدر ذاته، الحاشية. فمعنى الإجماع الذي يدندن حوله المتأخرون معنى محدث مبتدع يبطلون به الحق من أقوال الصحابة، ويحقون به الباطل، فلا عبرة بخلاف تابعي، أو تابعين، أو إمام، أو أئمة، لقول الصحابي الذي لم يخالفه أحد من الصحابة، وكل من بعد الصحابة ينتسب إلى السلف باتباعه الصحابة وليس بخلافه لهم (س). وما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفيه: "وعصر الصحابي". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "شبهة". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية".

[اعتراض]

الرضوان (¬1)، ولو كان اتباعهم تقليدًا محضًا كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عاميًا، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذ (¬2). [اعتراض] فإن قيل: اتباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل فهو (¬3) سلوك سبيل الاجتهاد؛ لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد والدليل عليه قوله: {بِإِحْسَانٍ}، ومن قلَّدهم لم يتبعهم بإحسان لأنه لو كان مطلق الاتباع محمودًا لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان، وأيضًا فيجوز أن يراد به اتباعهم في أصول الدين (¬4)، وقوله: {بِإِحْسَانٍ} أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم، ويكون المقصود أن السابقين [قد] (¬5) وجب لهم الرضوان وإن أساءوا؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "وما يدريك أن اللَّه قد اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (¬6). وأيضًا فالثناء على من اتَّبعهم (¬7) كلهم، وذلك اتباعهم فيما أجمعوا عليه، وأيضًا فالثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه، وإنما يدل على جواز تقليدهم، ¬

_ (¬1) فالآية تدل على أن من اتبعهم استحق الرضوان والحمد، ولا يتوقف ذلك على وصف آخر كاتباع المجتهدين المقيد باتباع الدليل، فدل على أن اتباعهم اتباع للدليل. (س). (¬2) كلام ابن القيم رحمه اللَّه ظاهر الدلالة في أن من اتبع الصحابة مجتهدًا أو عاميًا استحق الرضوان، وهو فوق استحقاق الجنة، ولا يصح هذا على افتراض أن اتباعهم اتباع لغير دليل ولا سلطان؛ لأن فرض العالم اتباع الدليل، كما قال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}. . . ولو كان اتباعًا لغير دليل لكان موجبًا للعقوبة (س). (¬3) في المطبوع و (ك): "وهو". (¬4) في (ق) و (ك): "في أصل الدين"، وبعدها في (ق): "فقوله". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) رواه البخاري (3007) في (الجهاد): باب الجاسوس، و (3081) باب إذا اضطر الرجل إلى النظر في شعور أهل الذمة والمؤمنات إذا عصين اللَّه وتجريدهن، و (3983) في (المغازي): باب فضل من شهد بدرًا، و (4274) باب غزوة الفتح، و (4890) في (التفسير): باب {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ}، و (6259) في (الاستئذان): باب من نظر في كتاب من يحذر على المسلمين ليستبين أمره و (6939) في استتابة المرتدين: باب ما جاء في المتأولين، ومسلم (2494) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل أهل بدر، من حديث علي. (¬7) في (ق): "تبعهم".

[دفع الاعتراض]

وذلك دليل على جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء، أو تقليد الأعلم كقول طائفة أخرى (¬1)، أما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الآية ما يقتضيه. [دفع الاعتراض] فالجواب من وجوه: أحدها: أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد (¬2) لوجوه: أحدها: أن الاتباع المأمور به في القرآن كقوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، ونحوه لا يتوقف (¬3) على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل (¬4). الثاني: أنه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق؛ لأن اتباع موجب الدليل يجب أن يُتَّبع فيه كل أحد، فمن قال قولًا بدليل صحيح وجب موافقته فيه. الثالث: أنه إما أن تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا [تجوز] (¬5) فإن لم تجوز فهو المطلوب، وإن جازت مخالفتهم فقد خُولفوا في خصوص الحكم (¬6)، واتبعوا في أحسن الاستدلال (7)، فليس جَعْل من فعل ذلك متبعًا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفًا لمخالفته في عين الحكم (¬7). ¬

_ (¬1) انظر: تحريرًا بديعًا للمسألة في "الموافقات" للشاطبي (5/ 280 - 285). (¬2) في هذا رد على من زعم أن اتباعهم هو سلوك سبيل الاجتهاد. (س)، وفي (ك): "يلتزم الاجتهاد". (¬3) وفيه رد أيضًا على من زعم أن اتباعهم هو اتباع المجتهد (س). (¬4) ذلك أن قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفعله وتقريره حجة بنفسه، وكذلك ما يدخل في سبيل المؤمنين من دلالات قولية أو فعلية، فهو لا يحتاج إلى دليل يشهد له (س). (¬5) في (ق): "وإن جاز فقد خولفوا في تخصيص الحكم". (¬6) وهذا ليس على إطلاقه؛ لأن المخالفة في الحكم يمكن أن تأتي من اختلاف طريقة الاستنباط مع الموافقة في أصل الاجتهاد (س). (¬7) فالمخالف في الحكم لا يسمى موافقًا، فكيف يسمى متبعًا (س)، وفي (ق) و (ك): "حسن الاستدلال".

الرابع: أن من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعًا لهم أصلًا بدليل أن من خالف مجتهدًا [من المجتهدين] (¬1) في مسألة بعد اجتهاده (¬2) لا يصح أن يقال: "اتبعه"، وإن أطلق ذلك فلا بد من تقييده بأن يقال: اتبعه في الاستدلال والاجتهاد (¬3). الخامس: أن الاتِّباع افتعال من اتبع، وكون الإنسان تابعًا لغيره نوع افتقار إليه ومشي خلفه، وكلُّ واحد من المجتهدين المستدلين ليس تبعًا للآخر ولا مفتقرًا إليه بمجرد ذلك (¬4) حتى يستشعر موافقته والانقياد له (¬5)، ولهذا لا يصح أن يقال لمن وافق رجلًا في اجتهاده أو فتواه اتفاقًا إنه متَّبعٌ له. السادس: أن الآية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين، وبتقدير ألا يكون (¬6) قولهم موجبًا للموافقة ولا مانعًا من المخالفة -بل إنما يتبع القياس مثلًا- لا يكون لهم [هذا] (¬7) المنصب، ولا يستحقون هذا المدح والثناء (¬8). السابع: أن من خالفهم في خصوص [الحكم فلم] (¬9) يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعًا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة، وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد، ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به (¬10)؛ لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته، وإذا وجد الفارق الأخص والجامع الأعم -وكلاهما مؤثر- كان التفريق رعاية للفارق أولى (¬11) من الجمع رعاية للجامع. وأما قوله: {بِإِحْسَانٍ} فليس المراد به أن يجتهد، وافق أو خالف؛ لأنه إذا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع: "بعد اجتهاد". (¬3) في المطبوع: "اتبعه في الاستدلال أو الاجتهاد". (¬4) في (ق): "ليس متبعًا للآخر مقتديًا به بمجرد ذلك". (¬5) في (ق): "ليس يشعر موافقته والانقياد له". (¬6) في (ق): "متبوعين ومقلدين إلا أن يكون"، وفي (ك): "متبعين" بدل "متبوعين". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) فلا يتحقق اتباعهم إلا بالانقياد لهم، والامتناع من مخالفيهم (س). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "لم". (¬10) إذ كل الفرق الضالة تجتهد في الظاهر وتسلك سبيل الاستدلال، فيلزم أن تكون كلها من التابعين لهم بإحسان!! فتأمل (س). (¬11) في (ق): "وأولى".

خالف لم يتبعهم (¬1) فضلًا عن أن يكون بإحسان؛ ولأن (¬2) مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم، لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد (¬3) والقول، فلا بد مع ذلك أن يكون المتَّبعُ محسنًا بأداء الفرائض واجتناب المحارم (¬4)، لئلا يقع اغترار (¬5) بمجرد الموافقة قولًا، وأيضًا فلا بد أن يحسن المتبع لهم القول فيهم، ولا يقدح فيهم، اشترط اللَّه ذلك لعلمه بأن (¬6) سيكون أقوام ينالون منهم (¬7). وهذا مثل قوله تعالى بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، وأما تخصيص اتّباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح؛ لأن الاتباع عام، ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعًا لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب (¬8)، ولم يكن فرق بين أتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها. وأيضًا فإنه إذا قيل: "فلان يتبع فلانًا، واتبع فلانًا (¬9)، وأنا (¬10) متبع فلانًا" ولم يقيد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية؛ فإنه (¬11) يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتَّى فيها الاتباع؛ لأن من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف، ولأن الرَّضوان حكمٌ تعلق باتباعهم، فيكون الاتباع سببًا [له؛ لأن الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضي أن ما منه الاشتقاق سبب، وإذا كان اتباعهم سببًا] (¬12) للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده، ولا اختصاص للاتِّباع (¬13) بحال دون حال، ولأن الاتباع يؤذن بكون الإنسان تبعًا لغيره ¬

_ (¬1) في (ك): "يتبع". (¬2) في (ك): "لأن". (¬3) في (ك): "الاعتماد". (¬4) فالإحسان لا يتحقق إلا بالعقيدة الصحيحة، وتلقي العلم الصحيح، والقول الصحيح، حتى يكون معها العمل المستوفي للصفات المقبولة (س)، وسقطت "المتبع" من (ق). (¬5) في المطبوع: "الاغترار". (¬6) في (ق): "لأن". (¬7) كدأب الفرق الضالة من الخوارج والمعتزلة (س). (¬8) وفي ذلك إبطال لثمرة اتباعهم الذي قررته الآية (س). (¬9) في (ق): "أو تبع فلانًا". (¬10) في (ق): "أو أنا". (¬11) في (ق): "فهذا". (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬13) في (ق) و (ك): "لا اختصاص اتباع".

فصل [الأحكام المتعلقة بأسماء عامة تثبت لكل فرد]

وفرعًا عليه، وأصول الدين ليست كذلك (¬1)؛ ولأن الآية تضمنت الثناء عليهم وجعلهم أئمة لمن بعدهم، فلو لم يتناول إلا اتباعهم في أصول الدين دون الشرائع لم يكونوا أئمة في ذلك لأن ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتِّباعهم. فصل [الأحكام المتعلقة بأسماء عامة تثبت لكل فرد] وأما قولهم: "إن الثناء على من اتبعهم كلهم" فنقول: الآية اقتضت الثناء على من اتبع كل واحد منهم، كما أن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ. . . وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] يقتضي حصول الرِّضوان لكل واحد من السابقين والذين اتبعوهم في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [التوبة: 100] وكذلك في قوله: {اتَّبَعُوهُمْ} لأنه حكم عُلِّق عليهم في هذه الآية، فقد تناولهم مجتمعين ومنفردين (¬2)، وأيضًا, فإن الأصل في الأحكام المعلقة بأَسماء عامة ثبوتها لكل فرد [فرد] (¬3) من تلك المسميات كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬4) [الحج: 78] , وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18]، وقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (¬5). [الأحكام المتعلقة بمجموع] وأيضًا؛ فإن الأحكام المعلَّقة على المجموع يُؤتى فيها باسم يتناول المجموع دون الأفراد كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ¬

_ (¬1) هذا صحيح في الأصول إجمالًا، لكنه ليس كذلك في تفسير هذه الأصول، ولا في مقتضياتها ومكملاتها، فاقتضى التنبيه (س). (¬2) وفيه رد على من زعم أن الرضوان لمن اتبعهم في إجماعهم، دون انفرادهم، فالآية دلت على حصول الرضوان لكل واحد منهم وكل واحد ممن اتبعهم، وفي اجتماعهم، وعند انفرادهم (س)، وفي (ك): "ومفردين". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) "كانت بغير (و)، وهي لم ترد بدونها أو بالفاء إلا في قوله: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وهي في كثير من الآيات" (و). (¬5) فيدخل في الآية الأولى كل مخاطب، وفي الثانية كل مؤمن، والثالثة كل صادق، وكذلك في آية الرضوان اتباع كل سابق منهم، فهو لذلك موجب الرضوان (س).

[الآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين]

[النساء: 115] فإن لفظ الأمة ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الأمة وأفراد المؤمنين، بخلاف لفظ السابقين، فإنه يتناول كل فرد من السابقين (¬1). [الآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين] وأيضًا فالآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن؛ فمن اتَّبع جماعتَهم (¬2) إذا اجتمعوا واتبع آحادهم فيما وجد (¬3) عنهم مما لم يخالفه فيه غيره منهم فقد صَدَق عليه أنه اتَّبع السابقين، أما من خالف بعض السابقين فلا يصح أن يقال: "اتبع السابقين" لوجود مخالفته لبعضهم، لا سيما إذا خالف هذا مرة وهذا مرة، وبهذا يظهر الجواب عن اتّباعهم إذا اختلفوا؛ فإن اتباعهم هناك قبول (¬4) [بعض] (¬5) تلك الأقوال باجتهاد واستدلال، إذ هم مجتمعون على تسويغ (¬6) كل واحد من تلك الأقوال لمن أدَّى اجتهاده إليه، فقد قصد اتباعهم أيضًا، أما إذا قال الرجل قولًا ولم يخالفه غيره، فلا يُعلم أن السابقين سوَّغوا خلاف ذلك القول. [الآية تقتضي اتباعهم مطلقًا] وأيضًا؛ فالآية تقتضي اتّباعهم مطلقا، فلو فرضنا أن الطالب وقف (¬7) على نص يخالف قول الواحد منهم، فقد علمنا أنه لو ظفر بذلك النص لم يعدل عنه، أما إذا رأينا رأيًا فقد يجوز أن يخالف ذلك الرأي (¬8)، وأيضًا فلو لم يكن اتّباعهم إلا فيما أجمعوا عليه كلهم لم يحصل اتباعهم إلا فيما قد علم أنه من دين الإسلام بالاضطرار؛ لأن السابقين الأولين خَلقٌ عظيم، [و] (¬9) لم يعلم أنهم أجمعوا إلا على ذلك (¬10)؛ فيكون هذا الوجه هو الذي قبله، وقد تقدم بطلانه؛ إذ ¬

_ (¬1) فلما جاءت الآية بلفظ العموم الذي يتناول كل فرد من السابقين؛ دلت على أن الرضوان حاصل لمن اتبع كل واحد منهم لأنه داخل في عموم الآية (س). (¬2) في (ق): "اجتماعهم". (¬3) في (ق) و (ك): "وجده". (¬4) في الأصول: "قول" ولعل الصواب ما أثبتناه. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في المطبوع: "تسوية". (¬7) في (ك) و (ق): "عثر". (¬8) فاتباع الواحد منهم لازم على خلاف الرأي والاستدلال فيما لا يخالف نصًا (س). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وما بعدها في (ك) و (ق): "لم يعلموا". (¬10) وهذا الكلام من الإمام ابن القيم رحمه اللَّه تعالى يوافق كلام الشافعي في حصر الإجماع الممكن فيما هو معلوم من الدين بالضرورة، وهو كذلك قول ابن حزم والإمام الصنعاني والشوكاني رحمهم اللَّه تعالى، ومن قبل كلام الإمام أحمد بمعناه (س).

فصل [الرد على من زعم أن الآية لا توجب اتباعهم]

الاتباع في ذلك غير مؤثر، وأيضًا فجميع السابقين قد مات منهم أُناسٌ في حياة رسول اللَّه (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحينئذ فلا يحتاج في ذلك الوقت إلى اتباعهم للاستغناء [عنه] (¬2) بقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم لو فرضنا أحدًا تبعهم (¬3) إذ ذاك لكان من السابقين، فحاصله أن التابعين لا يمكنهم اتباع جميع السابقين. وأيضًا؛ فإن معرفة قول جميع السابقين كالمتعذِّر، فكيف يتبعون كلهم في شيء لا يكاد يُعلم؛ وأيضًا فإنهم إنما استحقوا منصب الإمامة والاقتداء بهم بكونهم هم السابقين، وهذه صفة موجودة في كل واحد منهم، فوجب أن يكون كل منهم إمامًا للمتقين كما استوجب الرضوان والجنَّة (¬4). فصل [الرد على من زعم أن الآية لا توجب اتباعهم] وأما قوله: "ليس فيها ما يوجب اتباعهم" فنقول: الآية تقتضي الرضوان عمن اتبعهم بإحسان، وقد قام الدليل على أن القول في الدين بغير علم حرام؛ ¬

_ (¬1) في (ق): "وأيضًا فالسابقون قد مات منهم ناس في حياة النبي". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في المطبوع: "يتبعهم". (¬4) وهذا استنباط قوي يبطل اعتراضات متأخري أتباع المذاهب، والذين يحصرون الحجية في عدد محدود من الصحابة كالخلفاء الأربعة، بالإضافة إلى عدد محدود منهم، ممن طالت ملازمته، واشتهر بالفتيا، وتسمع منهم بعد ذلك دندنة حول: (أعرابي بوّال على عقبيه، أو جفاة الأعراب ممن لم يلق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا ساعة من نهار) وأخشى أن يقع هؤلاء في إيذاء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثل ذلك الكلام، إذ لا يليق بمن آمن برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعاش في عصر النبوة وتلقى كثيرًا أو قليلًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم تتلمذ على أيدي فقهاء الصحابة الذين ملؤوا الآفاق، وشاركهم في الاستغناء عن كثير من تفاصيل علوم الآلة التي احتاج إليها بعد عهده في عصر النبوة، كالإسناد، والنحو واللغة والبلاغة وأصول الفقه وأقوال المفسرين، وكانت عربيته وفصاحته طبعًا وسليقة، حتى كان طلاب الفصاحة من الحضر يرحلون إلى البادية ليكتسبوا من أهلها متانة اللغة وقوة الشخصية لا يليق أن يقال فيه: (بوّال على عقبيه)، وكأنه لم يعرف أدب السنة، ولا خلق النبوة في التخلي والتنزه من البول، وكأنه من الأعراب الجفاة الذين مردوا علي الغلظة والشدة، أو من العاطلين عن الدماثة والرفق، واللَّه تعالى يقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} الآية فأين حفظ حق الصحبة في هذا القول؟ (س).

فلا يكون [اتباعهم] (¬1) قولًا بغير علم، بل قولًا بعلم (¬2)، و [هذا] (1) هو المقصود، وحينئذ فسواء يُسمَّى (¬3) تقليدًا أو اجتهادًا (¬4)، وأيضًا؛ فإن كان تقليد العالم للعالم (¬5) حرامًا، كما هو قول الشافعية والحنابلة، فاتباعهم ليس بتقليد لأنه مرضي، وإن كان تقليدهم جائزًا أو كان تقليدهم مستثنى من التقليد المحرَّم، فلم يقل أحد: إن تقليد العلماء من موجبات الرضوان (¬6)؛ فعلم أن تقليدهم خارج عن هذا؛ لأن [تقليد] (¬7) العالم -وإن كان جائزًا- فتركه إلى قول غيره أو إلى اجتهاد (¬8) جائز أيضًا [بالاتفاق] (¬9)، والشيء المباح لا يستحق به الرضوان، وأيضًا فإن رضوان اللَّه غاية المطالب [التي] (7) لا تُنال إلا بأفضل الأعمال، ومعلوم أن التقليد الذي يجوز خلافه ليس بأفضل الأعمال، بل الاجتهاد أفضل [منه] (¬10) فعلم أن اتباعهم هو أفضل ما يكون في مسألة اختلفوا فيها هم ومن بعدهم، وأن اتباعهم دون من بعدهم هو الموجب لرضوان اللَّه (¬11)؛ فلا ريب أن رُجْحَان أحد القولين يوجب اتباعه (¬12)، وقولهم أرجح (¬13) بلا شك، ومسائل الاجتهاد لا يتخير الرجل فيها بين القولين (¬14)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) وما دام اتباع أقوالهم بعلم فهو اتباع واجب؛ لأن اتباع العلم هو الأصل في أدلة الكتاب والسنة، وهي لا تحصى، ومنها هذه الآية، والعلم لازم للمسلم في كل زمان ومكان، فأقوالهم سنة يجب اتباعها في كل عصر، وعلى كل مسلم (س). (¬3) في (ق) و (ك): "سمى". (¬4) بيان الشيخ يدل على أنه لا يسمى تقليدًا، وهذا تنزل جدلي منه (س). (¬5) وهو الحق الذي لا ريب فيه إذا كان العالم يقلد فيما بلغه علمه وحجته (س)، وفي (ك): "للعلماء". (¬6) فلا يكون مندوبًا، ولا واجبًا، وإنما يباح للضرورة، وعلى قدر الضرورة (س). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ق): "اجتهاده". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) وكذلك الاتباع الذي هو دون الاجتهاد، بل أفضل من التقليد السؤال عن الحكم ودليله لمن تمكن من الفهم (س)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) فإذا ثبت أن اتباع الصحابة أفضل من اجتهاد العالم لنفسه في خلافهم، وأفضل للمتبع من اتباع مجتهد من غيرهم، دل هذا على أن اجتهادهم أرضى للَّه وأفضل من اجتهاد غيرهم، وأنه في منزلة أرفع منه (س). (¬12) في (ق): "اتباعهم"، وفي الهامش: "لعله: اتباعه". (¬13) هذه هي البصيرة السلفية التي تحرق الشبهات، ولا يحول بينها وبين الحق حائل (س). (¬14) لأن أحد القولين فيها خطأ، والمصيب في حقيقة الأمر واحد (س)، وفي (ق): "لا يتخير فيها الرجل بين القولين".

وأيضًا فإن اللَّه أثنى على الذين اتبعوهم بإحسان، والتقليد وظيفة العامة (¬1)، وأما (¬2) العلماء فإما أن يكون مباحًا لهم أو محرَّمًا؛ إذ الاجتهاد أفضل منه لهم بغير خلاف، وهو (¬3) واجبٌ عليهم، فلو أُريد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة في ذلك النَّصيب الأوفى، وكان حظُّ علماء الأمة [من هذه الآية] (¬4) أبخس الحظوظ، ومعلوم أن هذا فاسد، وأيضًا فالرضوان عمن اتبعهم دليل على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ (¬5)؛ فإنه لو كان خطأ لكان غاية صاحبه أن يُعفى له عنه، فإن المخطئ إلى أن يعفى عنه أقرب منه إلى أن يُرضِى عنه؛ وإذا كان صوابًا وجب اتباعه؛ لأن خلاف الصواب خطأ والخطأ يَحْرم اتباعه إذا عُلم أنه خطأ وقد علم أنه خطأ بكون الصواب خلافه، وأيضًا فإذا كان اتباعهم موجب الرضوان لم يكن ترك اتباعهم موجب الرضوان؛ لأن الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وضده ولا وجوده عدمه؛ لأنه يبقى عديم الأَثر في ذلك الجزاء، وإذا كان في المسألة قولان أحدهما يوجب الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحق ما يوجبه، وهذا هو المطلوب (¬6)، وأيضًا فإن طلب رضوان اللَّه واجبٌ؛ لأنه (¬7) [إذا] (¬8) لم يوجد رضوانه فإما سخطهُ أو عفوه، والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة، وذلك لا تُباح مباشرته إلا بالنص، وإذا كان رضوانه إنما هو في اتّباعهم، واتباع رضوانه واجب، كان اتباعهم واجبًا، وأيضًا، فإنه إنما أثنى على المتبع بالرضوان، ولم يصرح بالوجوب؛ لأن إيجاب الاتِّباع يدخل فيه الاتباع في الأفعال، ويقتضي تحريم مخالفتهم مطلقًا فيقتضي ذم المخطئ وليس كذلك، أما الأقوال فلا وجه لمخالفتهم فيها بعدما ثبت أن فيها رضا اللَّه تعالى (¬9)، وأيضًا فإن القول إذا ثبت أن فيه رضا اللَّه لم يكن رضا اللَّه في ¬

_ (¬1) أي الجاهل الذي لم يطلب العلم ولم يشتغل به (س). (¬2) في المطبوع و (ك): "فأما". (¬3) في (ك): "أو هو". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) يأتي كلام الشيخ: "إن أقوالهم هي الحق وخلافها باطل" (س). (¬6) في (ك): "كان الحق هو ما يوجبه وهذا المطلوب". (¬7) لأن الفعل أو العمل (س). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي الهامش: "لعله: إذا لم". (¬9) الثناء في الآية مطلق غير مقيد، فإذا ثبت الوجوب كان مطلقًا غير مقيد بالأقوال دون الأفعال، فلا يثبت وجه التفريق بين الأقوال والأفعال، واستثناء المخطئ من الذم في الأقوال يثبت بنفس أدلة الاستثناء في الأفعال، وبنفس الأعذار المانعة من الذم. ومانع المخالفة في الأقوال لغير مخصص أو عارض معتبر في الأقوال هو عين المانع =

[اعتراض ورده]

ضدِّه، بخلاف الأفعال فقد يكون رضا اللَّه في الأفعال المختلفة وفي الفعل والترك بحسب قصدين وحالين. أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك، فإذا ثبت أن في قولهم رضوان اللَّه تعالى لم يكن الحق والصواب إلا هو؛ فوجب اتباعه. [اعتراض ورده] فإن قيل: السابقون الذين صلَّوا إلى القبلتين، أو هم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم، فما الدليل على اتّباع من أسلم بعد ذلك؟ قيل: إذا ثبت وجوب اتباع أهل بيعة الرضوان فهو أكبر المقصود، على أنه لا قائل بالفرق، وكل الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم (¬1). فصل [رد على من زعم أن اتباع الصحابة غير لازم] الوجه الثاني (¬2): قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] هذا قَصَّهُ اللَّه سبحانه وتعالى (¬3) عن صاحب ياسين، على سبيل الرضاء بهذه المقالة، والثناء على قائلها، والإقرار [له] (¬4) عليها، وكلُّ واحد من الصحابة لم يسألنا أجرًا وهم مهتدون، بدليل قوله تعالى خطابًا لهم: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] و"لعلَّ" من اللَّه واجبٌ (¬5)، وقوله تعالى: [{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا] (¬6) زَادَهُمْ هُدًى [وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ] (4)} [محمد: 16، 17] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا (¬7) فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ ¬

_ = في الأفعال، ولا يظهر ثم فرق واللَّه أعلم (س). ووقع في (ق) و (ك): "رضا اللَّه عز وجل". (¬1) الأدلة على اتباع الصحابة عامة فيهم جميعًا، ولا مخصص لها، سيأتي الكثير منها (س). (¬2) "من الرد على من زعم. أن اتباع السابقين يستلزم الاجتهاد" اهـ. كذا قال (و)! وهو وهم منه -رحمه اللَّه-؛ فهذا -وما بعده- إنما هو من الأدلة على وجوب اتباع الصحابة. (¬3) في (ق): "هذه قصه قصها اللَّه سبحانه وتعالى". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ك): "واجبة". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬7) في بعض النسخ: "قاتلوا".

[آيات توجب اتباع الصحابة]

أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 4 - 5]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وكلٌّ منهم قاتل في سبيل اللَّه وجاهد إما بيده أو بلسانه (¬1)، فيكون اللَّه قد هداهم، وكلٌّ من هداه فهو مهتد (¬2) فيجب اتباعه بالآية (¬3). [آيات توجب اتباع الصحابة] الوجه الثالث: قول تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وكلٌّ من الصحابة منيبٌ إلى اللَّه فيجب اتباع سبيله، وأقوالُه واعتقاداته من أكبر سبيله، والدليل على أنهم مُنيبون إلى اللَّه تعالى أن اللَّه تعالى قد هداهم و [قد] (¬4) قال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]. [هم على بصيرة] الوجه الرابع: قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] فأخبر تعالى أن من اتّبع الرسول يدعو إلى اللَّه، ومن دعا إلى اللَّه على بصيرة وجب اتباعه، لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [وَآمِنُوا بِهِ] (4)} [الأحقاف: 31]؛ ولأن من دعا إلى اللَّه على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالمًا به، والدعاءُ إلى أحكام اللَّه دعاءٌ إلى اللَّه؛ لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى، وإذن فالصحابة (¬5) رضوان اللَّه عليهم قد اتبعوا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيجب اتباعهم (¬6) إذا دعوا إلى اللَّه (¬7). ¬

_ (¬1) قال (د): "في نسخة: "وإما بلسانه"". (¬2) قال (د): "في نسخة: فهو المهتدي". (¬3) أساس تقرير هذه الاستدلالات أن الصحابة خير الناس في كل فضيلة، فهم أتم المهتدين هداية، وأكمل المنيبين إنابة، وهم أولى وأول من يجب اتباعهم من المهتدين والمنيبين، وهم الذين يتعين اتباعهم إذا اختلف أهل الهداية والإنابة (س). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "والصحابة". (¬6) في (ق): "قد اتبعوا الرسول فتجب إجابتهم"، وقال (د): "في نسخة: "فيجب إجابتهم"، وهي كذلك في (ك). (¬7) في الآية دلالة على وجوه ثلاثة: الأول: أنَّ من اتبع الرسول فقد دعى إلى اللَّه على بصيرة، والصحابة أتم الناس اتباعًا فهم أولى الناس بالاتباع. الثاني: أن من دعى إلى اللَّه وجب اتباعه، والصحابة أتم الناس دعوة إلى اللَّه، فوجب تقديم اتباعهم. الثالث: أن من دعى إلى اللَّه على بصيرة وجب اتباعه، والصحابة أكمل المسلمين =

[هم المصطفون]

[هم المصطفون] الوجه الخامس: قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] [قال ابن عباس في رواية أبي مالك] (¬1): هم أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضى عنهم (¬2)، والدليل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التصفية، فيكون قد صفاهم (¬3) من الأكدار، والخطأ من الأكدار فيكونون مصفين منه، ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحق لم يَعْدُهم، فلا يكون قول بعضهم كدرًا؛ لأن مخالفته الكدر (¬4) وبيانه يزيل كونه كدرًا بخلاف ما إذا قال بعضهم قولًا ولم يُخالف فيه، فلو كان [قولًا] (¬5) باطلًا ولم يَردُّه راد (¬6) لكان حقيقة الكدر، وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة معاتبة (¬7) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض أموره، فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء. [أوتوا العلم] الوجه السادس: أن اللَّه تعالى شهد لهم بأنهم أوتو العلم بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، واللام في "العلم" ¬

_ = بصيرة، فاتباعهم أولى من اتباع غيرهم وأوجب (س). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه الطبري (10/ 4)، والبزار (رقم 1492 - مختصره) وابن أبي حاتم في "التفسير" (9/ 2906 رقم 16495)، من طريق الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به. قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 87): فيه الحكم بن ظهير وهو متروك. ورواه ابن عدي (2/ 626) من طريق الحكم بن ظهير عن السدي من قوله. ورواه الطبري (10/ 4) من طريق الوليد بن مسلم: حدثني ابن المبارك: حدثني سفيان الثوري من قوله، وهذا إسناد صحيح. (¬3) فأقوالهم صفو لا كدر فيه؛ لأنهم صفوة الصفوة من هذهِ الأمة والتسليم عليهم دليل على سلامة أقوالهم وأعمالهم، وموجب لاتباعهم (س). (¬4) في (ق): "لأن مخالفة الكدر". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬6) في (ق): "ولم يزده ردًا". (¬7) في المطبوع: "متابعة"، وفي (ك): "معانية".

[هم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر]

ليست للاستغراق، وإنما هي للعهد، أي العلم الذي بعث اللَّه به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا (¬1) كانوا قد أوتوا [هذا] العلم كان اتباعهم واجبًا (¬2). [هم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر] الوجه السابع: قوله تعالي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]} (¬3) [آل عمران: 110] شهد لهم اللَّه تعالى (¬4) بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر (¬5)، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن منكر؛ إذ الصوابُ معروفٌ بلا شك، والخطأ منكر من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلًا علم أن خطأ من يعلم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قوله حجة. [هم الصادقون] الوجه الثامن: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم (¬6)، ولا ريبَ أنهم أئمة الصادقين، وكلُّ صادق بعدهم فبهم يأتم في صدقه، بل حقيقةُ صدقه اتباعه له وكونه معهم، ومعلوم أن مَن خالفهم في شيء -وإن وافقهم في غيره- لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعيَّة المطلقة، وإن ثبت [له] (¬7) قسط من المعية فيما وافقهم ¬

_ (¬1) في (ق): "إذ". (¬2) والصحابة هم أول من أوتي العلم من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأئمة الناس في العلم، وقد أوتوه نصًا وتأويلًا وميزانًا فوجب الرجوع إليهم واتباعهم فيه (س)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية". (¬4) في (ق): "شهد اللَّه لهم تعالى". (¬5) فالصحابة أمروا بكل معروف، ونهوا عن كل منكر (س). قال (د): "في نسخة: "يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"". (¬6) انظر: "تفسير ابن جرير" (11/ 63)، و"تفسير ابن أبي حاتم" (6/ 1906 رقم 10096)، و"تفسير ابن كثير" (2/ 414)، و"الدر المنثور" (4/ 316). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[المعية المطلقة ومطلق المعية]

فيه، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط، وهذا كما نفى اللَّه ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب بحيث لا يستحق اسم المؤمن، وإن لم ينتف عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال: معه شيء من الإيمان، [وهذا] (¬1) كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل: معه شيء من العلم. [المعية المطلقة ومطلق المعية] ففرقٌ بين المعية المطلقة ومطلق المعية (¬2)، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني (¬3)، فإن اللَّه تعالى لم يرد منَّا أن نكون معهم في شيء من الأشياء وأن نحصلَ من المعية ما يطلق عليه الاسم (¬4)، وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب [تعالى] (¬5) من أوامره؛ فإذا أمرنا بالتقوى والبر [والصبر] (¬6) والصدق والعفة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحو ذلك لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم وهو مطلق الماهية المأمور بها بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك، وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء. [هم أمة وسط] الوجه التاسع: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] (5)} [البقرة: 143]، ووجه الاستدلال بالآية أنه ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) المعية المطلقة هي التامة المستكملة لجميع مقتضياتها ومطلق المعية: كل ما يطلق عليه اسمها، ولو كان مختلًا أو ناقصًا أو مدخولًا (س). قلت: وانظر: "شفاء العليل" (ص 356). (¬3) ما أمر اللَّه به هو المعية الجامعة لكل المقتضيات والفرائض، ولو كان المراد مطلق المعية لما كان من فائدة في تخصيصها بالصادقين من الصحابة، ولكان أصحاب المناهج الضالة كالخوارج والمعتزلة والرافضة والجهمية، بل أصحاب النحل الخارجة عن الإسلام متصفة بها لأنهم لا يخلون من الإتصاف بمطلق المعية، فالذمة لا تبرؤ إلا بالمعيّة المطلقة والنقص فيها إثم إلا أن يعفو اللَّه (س). (¬4) قال (د): "في نسخة: "ما يصدق عليه الاسم"". قلت: وهو المثبت في (ق) و (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك).

[هم المجتبون]

سبحانه (¬1) أخبر أنه جعلهم أمة [وسطًا أي] (¬2): خيارًا عدولًا (¬3)، هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شُهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، واللَّه تعالى يَقْبل (¬4) شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم؛ لأنه سبحانه لما اتخذهم شهداء أَعلَم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم، والشاهد المقبول عند اللَّه هو الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علم به (¬5)، وقد يعلمه ولا يخبر به؛ فالشاهدُ المقبولُ عند اللَّه هو الذي يخبر به عن علم؛ فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأً مخالفة لحكم اللَّه ورسوله ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم اللَّه ورسوله إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها كانت هذه الأمة العدل الخيار قد أطبقت (¬6) على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين قسمًا أفتى بالباطل وقسمًا سكت عن الحق، وهذا من المستحيل فإن الحق لا يعدوهم ويخرج عنهم إلى من بعدهم قطعًا ونحن نقول لمن (¬7) خالف أقوالهم: (لو كان خيرًا ما سبقونا إليه (¬8)) (¬9). [هم المجتبون] الوجه العاشر: [أن] (¬10) قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬11) [الحج: 78]، ¬

_ (¬1) في المطبوع: "تعالى". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬3) في (ك) و (ق): "عدلًا". (¬4) في (ق): "وأن اللَّه يقبل". (¬5) في المطبوع: "من غير علمه به". (¬6) في (ق) و (ك): "قد أصفقت". (¬7) في (ق) و (ك): "لما". (¬8) أي: ما سبقنا مخالفوهم إليه، ويقال: (لو كان خيرًا لسبقونا إليه) أي لسبقنا الصحابة والسلف إليه، إذ هم سابقون إلى كل خير (س)، وسقطت (ما) من (ك). (¬9) ويمكن تقرير دلالة الآية على وجه آخر، فيقال: أقوم الناس بشهادة الحق أعلمهم به وأحرصهم عليه، وهم كذلك، وهذا يقتضي تقديم أقوالهم الدالة على الحق وشهاداتهم به على أقوال غيرهم (س). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬11) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى آخر السورة".

فأخبر سبحانه (¬1) أنه اجتباهم، والاجتباء كالاصطفاء. وهو افتعال من "اجتبى الشيء يجتبيه" (¬2) إذا ضمَّه إليه وحازه إلى نفسه (¬3) فهم المجتبون الذين اجتباهم اللَّه إليه وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم سبحانه (1) أن يجاهدوا فيه حق جهاده، فيبذلوا له أنفسهم، ويفردوه بالمحبة والعبودية، ويختاروه وحده إلهًا معبودًا محبوبًا على كل ما سواه كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم (¬4)، فيؤثرونه في كل حال على من سواه، كما اتخذهم عبيده وأولياءه، وأحباءه وآثرهم بذلك على مَنْ سواهم، ثم أخبرهم سبحانه (¬5) أنه يسَّر عليهم دينهم (¬6) غاية التيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتَّة لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده سبحانه (1) وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرَّجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام (¬7)؛ فيكون تعلّق (¬8) ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره (¬9)، ثم أخبر تعالى أنه نوَّه بهم وأثنى عليهم قبل وجودهم وسمَّاهم عباده المسلمين قبل أن يُظهرهم، ثم نوَّه بهم وسماهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناءً بهم ورفعة لشأنهم وإعلاءً لقدرهم، ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك (¬10) ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس؛ فيكونون مشهودًا لهم (¬11) بشهادة الرسول شاهدين على الأمم بقيام حجج (¬12) اللَّه عليهم، فكان هذا التنويه وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين الحكمتين العظيمتين، والمقصود أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى (¬13) فمن المحال أن يُحرمهم كلهم الصواب ¬

_ (¬1) في المطبوع: "تعالى". (¬2) في (ق): "جبى بالشيء يجبيه". (¬3) قال الزمخشري -رحمه اللَّه- في "أساس البلاغة" (ص 82 - ط دار صادر): (اجتباه: اختاره، مستعار منه، لأن من جمع شيئًا لنفسه فقد اختصه واصطفاه". وفي "لسان العرب" (14/ 130 - دار الفكر): "اجتباه: اصطفاه" اهـ، وانظر: "المفردات" للراغب (ص 186 - دار القلم). (¬4) سقط من (ك) و (ق). (¬5) في المطبوع: "تعالى". (¬6) في المطبوع و (ك): "دينه". (¬7) في (ق): "والاستسلام والتفويض". (¬8) في (ك): "تعليق". (¬9) في (ك): "بغيرهم". (¬10) في (ق): "فعل بهم ذلك". (¬11) في (ق): "فيكونوا شهودًا لهم". (¬12) في (ق): "حجة". (¬13) في (ق): "أنهم كانوا بهذه المنزلة عنده سبحانه".

[هم معتصمون بالله وهدوا إلى الحق]

في مسألة فيفتي فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتي فيها غيره بالصواب، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم، واللَّه المستعان (¬1). [هم معتصمون باللَّه وهدوا إلى الحق] الوجه الحادي عشر: قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه أخبر عن المعتصمين به أنهم (¬2) قد هدوا إلى الحق، فنقول: الصحابة رضوان اللَّه عليهم معتصمون باللَّه فهم مهتدون (¬3)، فاتباعهم واجب (¬4)، أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه: أحدها: قوله تعالى (¬5): {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]، ومعلوم كمال تَولي اللَّه تعالى [لهم] (¬6) ونصره إياهم أتم نصرة، وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام، فهم مهديون (¬7) بشهادة الرب تعالى لهم بلا شك، واتباع المهدي واجب شرعًا وعقلًا وفطرة بلا شك، وما يرد على هذا الوجه من أن المتابعة لا تستلزم المتابعة في جميع أمورهم فقد تقدم جوابه. [أصحاب محمد أولى بوصف الأئمة من أصحاب موسى] الوجه الثاني عشر: قوله سبحانه عن أصحاب موسى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فأخبر سبحانه أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم؛ إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فإن الداعي إلى اللَّه تعالى لا يتم له أمره إلا بيقينه (¬8) للحق الذي يدعو إليه وبصيرته به وصبره على تنفيذ الدعوة إلى اللَّه باحتمال مشاق الدعوة وكف النَّفس عما يوهن عزمه ويضعف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره سبحانه، ومن المعلوم أن أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى، فهم أكمل يقينًا وأعظم صبرًا من جميع الأمم، فهم ¬

_ (¬1) هذا الدليل يكاد يكون تكرارًا لما قبله (س). (¬2) في المطبوع: "بأنهم". (¬3) في (ك) و (ق): "مهديون". (¬4) في (ق): "واتباعهم واجب". (¬5) في (ق): "في قوله". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬7) الهداية المطلقة الكاملة (س). (¬8) في (ق): "بتيقنه".

[هم إمام، بما دعوا إلى الله وأثنى عليهم]

أولى بمنصب هذه الإمامة، وهذا أمر ثابتٌ [لهم] (¬1) بلا شك بشهادة اللَّه لهم وثناءه عليهم، وشهادة الرسول لهم بأنهم خير القرون، وأنهم خيره اللَّه وصفوته، ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق (¬2)، ويظفر به المتأخرون، ولو كان هذا ممكنًا لانقلبت الحقائق، وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم، وهذا كما أنه محال حسًا وعقلًا فهو محال شرعًا وباللَّه التوفيق. [هم إمام، بما دعوا إلى اللَّه وأثنى عليهم] الوجه الثالث عشر: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] وإمام بمعنى قدوة، وهو يصلح للواحد والجمع كالأمة (¬3) والأسوة، وقد قيل: هو جمعه آمم كصَاحب وصِحاب وراجل ورجال وتاجر وتجار، و [قيل] (¬4): هو مصدر كقِتَال وضِرَاب، أي ذوي إمام، والصواب الوجه الأول، فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم بهم، [والتقوى واجبة، فالائتمام (¬5) بهم واجب، ومخالفتهم فيما أفتوا به مخالف للائتمام بهم] (¬6)، وإن قيل: "نحن نأتم بهم في الاستدلال (¬7) وأصول الدين" (¬8) فقد تقدم من جواب هذا ما فيه كفاية. [هم خير قرن] الوجه الرابع عشر: ما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصحيح (¬9) من وجوه متعددة أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (¬10) فأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن خير القرون قرنه مطلقًا وذلك يقتضي تقديمهم في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬2) في (ق): "أنهم لا يخصون بفهم الحق". (¬3) الأمة: الإمام القدوة (س). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع: "والائتمام". (¬6) في (ق): "بخلاف الائتمام بهم". وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في (ق) و (ك): "في الائتمام". (¬8) هو مخالف لعموم وجوب الاقتداء بهم واتباعهم، وأقرب إلى قوله تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} (س). (¬9) في (ق) و (ك): "الصحاح". (¬10) سبق تخريجه.

[هم أمنة الأمة]

كل باب من أبواب الخير، وإلا [لو كانوا] (¬1) خيرًا من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقًا فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب -وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأوا (¬2) هم- لزم أن يكون ذلك (¬3) القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن، ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة (¬4)؛ لأن من يقول: "قول الصحابي ليس بحجة" يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولًا ولم يخالفه صحابي آخر، وفات هذا الصواب الصحابة، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء، فكيف يكونون خيرًا ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما (¬5) أخطأوا فيه؟ ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان اللَّه! أي وصمة أعظم من أن يكون الصدّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم -رضي اللَّه عنهم- قد أخبر عن حكم اللَّه أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في (¬6) ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى نبغ (¬7) من بعدهم فعرفوا حكم اللَّه الذي جهله أولئك السادة وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة (¬8)؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! [هم أمنة الأمة] الوجه الخامس عشر: ما رَوى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: صلَّينا المغرب مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، فجلسنا فخرج علينا فقال: "ما زلتم هاهنا؟! " فقلنا: يا رسول اللَّه ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك) و (ق): "لكانوا". (¬2) في (ك): "وأخطأوه". (¬3) القرن الذي يفترض أنه ظفر بالصواب الذي لم يظفر به الصحابة (س). (¬4) في (ك): "عدة". (¬5) في (ك): "ما". (¬6) في (ك) و (ق): "فيه". (¬7) في المطبوع: "تبع"، وقال (و): "هكذا في الأصل، وهو تحريف (نبغ) ". وقال (د): "هكذا، وأعتقد أن أصل العبارة: "حتى نبغ من بعدهم ومعنى نبغ: ظهر"". (¬8) في (ق): "وأخطأوا الحق الذي أصابه أولئك الأئمة".

[هم كالملح لا يصلح الطعام بدونه]

صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: "أحسنتم وأصبتم" ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: "النجوم أَمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" (¬1)، ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء، ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونظير اهتداء (¬2) أهل الأرض بالنجوم، وأيضًا فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم (¬3)، وحِرْزًا من الشر وأسبابه (¬4)، فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنة الصحابة وحرزًا لهم (¬5). وهذا من المحال. [هم كالملح لا يصلح الطعام بدونه] الوجه السادس عشر: ما رواه أبو عبد اللَّه بن بطة من حديث الحسن، عن أنس رضي اللَّه عنه [أنه] (¬6) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح" (¬7) قال الحسن: قد ذهب ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2531) في (فضائل الصحابة): باب بيان أن بقاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمان لأصحابه، وبقاء أصحابه أمان للأمة. (¬2) في (ق): "ونظير هذا اهتداء". (¬3) أمنة لأفراد الأمة (س). (¬4) والجهل من أعظم أسباب الشر (س)، وفي (ك): "وحذرًا" بدل "وحرزًا". (¬5) ولما كان الصحابة حرزًا وأمنة للأمة (س). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) رواه ابن المبارك في "الزهد" (572) -ومن طريقه الآجري في "الشريعة" (4/ 1682 - 1683 رقم 1157) - والبزار (2771 - زوائده)، وأبو يعلى (2762)، والبغوي في "شرح السنة" (3868)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1347)، والديلمي في "الفردوس" (6400) من طريق إسماعيل بن مسلم المكي عن الحسن عن أنس مرفوعًا به. قال الهيثمي (10/ 18): فيه إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. أقول: والحسن البصري مدلس أيضًا وقد عنعن. ومما يدل على ضعف إسماعيل بن مسلم هذا أن الحديث رواه من هو أوثق منه مرسلًا. فقد رواه عبد الرزاق (20377) (11/ 221)، ومن طريقه أحمد في "فضائل الصحابة" (16 و 1730) والآجري في "الشريعة" (رقم 1158) عن معمر عمّن سمع الحسن يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . فذكره.=

ملحنا فكيف نصلح؟ وروى ابن بطة أيضًا بإسنادين (¬1) إلى عبد الرزاق: أخبرنا معمر عمَّن سمع الحسن يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل أصحابي في الناس كمثل الملح في الطعام" (¬2) ثم يقول الحسن: هيهات! ذهب ملح القوم. وقال (¬3) الإمام أحمد: حدثنا حسين (¬4) بن علي الجعفي، عن [أبي موسى -يعني] (¬5) إسرائيل-، عن الحسن قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام" (¬6) قال: يقول الحسن: هل يطيب الطعام إلا بالملح؟ ويقول الحسن: فكيف بقوم ذهب ملحُهم؟ ووجه الاستدلال أنه شبَّه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به، فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتي بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعده ملحًا لهم، وهذا محال؛ يوضحه أن الملح كما أن به صلاح الطعام؛ فالصواب به صلاح الأنام، فلو أخطأوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملح يصلحه، فإذا أفتى من بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان ملحًا لهم. ¬

_ = ورواه أحمد أيضًا (17) من طريق حسين بن علي الجعفي عن أبي موسى (يعني إسرائيل) عن الحسن به مرسلًا، وهذا إسناد رجاله ثقات على إرساله. وله شاهد من حديث سمرة بن جُنْدُب؛ رواه البزار (2772)، والطبراني في "الكبير" (7098) من طريق جعفر بن سعد بن سمرة (وهو ضعيف) عن حبيب بن سليمان بن سمرة (وهو مجهول) عن أبيه (وهو مقبول) عن سمرة به. ومع هذا يقول الهيثمي (10/ 18): وإسناد الطبراني حسن والأصل في هذا أنه قول يحيى بن أبي كثير، رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1069) وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 67) وإسناده صحيح. ثم وجدت في "صحيح البخاري" (3628) و (3800) من حديث ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في خطبة: "إن الناس يكثرون، وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام. . . ". وهذا شاهد يقوي الحديث لو كان تامًا، إلا أنه قاصر، واللَّه أعلم. وانظر: "علل ابن أبي حاتم" (2/ 354)، و"الاعتقاد" (319) للبيهقي، و"المعتبر" (ص 84) للزركشي، و"التلخيص الحبير" (4/ 191)، وتعليقي على "الموافقات" (4/ 450 - 451، 455 - 456). (¬1) في (ق): "بإسناده". (¬2) مضى في الذي قبله. (¬3) في (ك): "قال". (¬4) في (ق): "حسن". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) مضى في الذي قبله.

[لا يزن إنفاق مثل أحد ذهبا مد أحدهم أو نصيفه]

[لا يزن إنفاق مثل أحد ذهبًا مد أحدهم أو نصيفه] الوجه السابع عشر: ما روى البخاري في "صحيحه" من حديث الأعمش قال: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نَصِيفه" (¬1)، وفي لفظ: "فوالذي نفسي بيده" (¬2)، وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مُسلمة الفتح والحديبية (¬3)، فإذا كان مد أحد أصحابه أو نصيفه (¬4) أفضل عند اللَّه من مثل أحد ذهبًا من مثل خالد وأضرابه من الصحابة فكيف يجوز أن يحرمهم اللَّه الصواب في الفتاوى ويظفر به من بعدهم؟ هذا من أبَيْن المحال. [هم وزراء الرسول وأنصاره وأصهاره] الوجه الثامن عشر: ما روى الحُميديُّ: ثنا محمد بن طلحة قال: حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عويم (¬5) بن ساعدة، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه اختارني، واختار لي أصحابًا (¬6)، فجعل (¬7) لي منهم وزراء وأنصارًا وأصهارًا" (¬8) الحديث، ومن المحال أن يُحرم اللَّه الصواب من اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه وأنصاره وأصهاره (¬9)، ويعطيه من بعدهم في شيء من الأشياء. ¬

_ (¬1) النصيف: النصف، مثل العشير في العشر. (و). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في المطبوع و (ك): "من مسلمة الحديبية والفتح". (¬4) في (ق) و (ك): "ونصيفه". (¬5) كذا في (ق) ومصادر التخريج، وهو الصواب، وفي سائر المصادر "عويلم". (¬6) في (ق): "أصحابي". (¬7) في (ق): "فهل"، وفي الهامش: "لعله: فجعل". (¬8) رواه ابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1000)، وفي "الآحاد والمثاني" (1772)، و (1946)، والحاكم في "المستدرك" (3/ 632)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 11)، والطبراني في "الكبير" (17/ 439) والضياء المقدسي في "النهي عن سب الأصحاب" (رقم 5 - بتحقيقي)، كلهم من طريق محمد بن طلحة به قال الحاكم: صحيح الإسناده ووافقه الذهبي!! قال الهيثمي 10/ 17: وفيه من لم أعرفهم. وقال شيخنا الألباني -في تعليقه على "السنة"-: إسناده ضعيف لجهالة عبد الرحمن بن سالم وأبيه وسوء حفظ محمد بن طلحة. (¬9) في (ق): "وأنصارًا وأصهارًا".

[قلوبهم خير قلوب العباد]

[قلوبهم خير قلوب العباد] الوجه التاسع عشر: ما روى أبو داود الطيالسي: ثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: إن اللَّه نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه، فما رآه المسلمون (¬1) حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح (¬2)، ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم اللَّه خير قلوب العباد بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويظفر به من بعدهم، وأيضًا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسنًا أو يكونوا قد رأوه قبيحًا فإن كانوا قد رأوه حسنًا فهو حسن عند اللَّه، وإن كانوا [قد] (¬3) رأوه قبيحًا ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد، وكان من أنكره بعدهم خيرًا منهم وأعلم، وهذا من أبين المحال. [هم أبر الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا] الوجه العشرون: ما رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: "من كان متاسيًا فليتأس بأصحاب رسول اللَّه (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلّها تكلفًا وأقومها هديًا وأحسنها حالًا قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم" (¬5)، ومن المحال أن يُحرم اللَّه أَبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا وأقومها هديًا الصواب في أحكامه ويوفق له من بعدهم. ¬

_ (¬1) في (ق): "المؤمنون". (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) في (ق): "بأصحاب محمد". (¬5) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1810)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 188)، ورزين -كما في "مشكاة المصابيح" (1/ 67 - 68) - من طريق سنيد بن داود: حدثنا معتمر عن سلام بن مسكين عن قتادة عنه، وسنيد قال فيه الحافظ: "ضُعِّف مع إمامته ومعرفته"، وقتادة أيضًا لم يسمع من ابن مسعود، فهو منقطع. وروي نحوه عن ابن عمر، رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 305 - 306)، وفيه عنعنة الحسن البصري، وراوٍ ضعيف، وهو عمر بن نبهان. وروى نحوه ابن عبد البر (1807) من كلام الحسن البصري.

[هم السابقون إلى كل خير]

[هم السابقون إلى كل خير] الوجه الحادي والعشرون: ما رواه الطبراني وأبو نُعيم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان أنه قال: يا معشر القرَّاء، خذوا طريق من كان قبلكم، فواللَّه لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا (¬1)، ومن المحال أن يكون الصواب في غير طريق من سبق إلى كل خير على الإطلاق. [اتباع الحق في سنتهم] الوجه الثاني والعشرون: ما قاله (¬2) جُندب بن عبد اللَّه لفرقة دخلت عليه من الخوارج، فقالوا: ندعوك إلى كتاب اللَّه، فقال: أنتم؟ قالوا: نحن، قال: أنتم؟ قالوا: نحن، فقال: يا أخابيث (¬3) خلق اللَّه في اتباعنا تختارون (¬4) الضلالة، أم في غير سنتنا تلتمسون الهُدى؟ اخرجوا عني (¬5). ومن المعلوم أن من جَوَّز أن يكون الصحابة أخطأوا في فتاويهم فمن بعدهم وخالفهم فيها فقد اتبع الحق في غير سنتهم، وقد دعاهم إلى كتاب اللَّه؛ فإن كتاب اللَّه إنما يدعو إلى الحق، وكفى ذلك إزراءً على نفوسهم وعلى الصحابة. [هم الراشدون المهديون] الوجه الثالث والعشرون: ما رواه الترمذي من حديث العرباض بن سارية ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب الاقتداء بسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (13/ 250/ رقم 7282)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (13/ 379)، وابن المبارك في "الزهد" (رقم 47)، وأبو داود في "الزهد" (رقم 273)، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (18)، وابن وضاح في "البدع" (ص 10، 11)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 196، 197)، والمروزي في "السنة" (25)، والبزار في "المسند" (6/ 359/ رقم 2956)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 280)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/ 90 رقم 119)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 123)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (ص 519 - ترجمة أبي مسلم الخولاني)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 947/ رقم 1809) بألفاظ منها المذكور، وعزاه أبو شامة في "الباعث" (ص 70) لأبي داود في "السنن"، وانفرد بذلك، ورحم اللَّه المصنف، كيف عزا الأثر للطبراني وأبي نعيم وهو في "صحيح البخاري"؟! (¬2) في (ق): "ما قال". (¬3) في (ق) و (ك): "يا أخابث". (¬4) أي: إلى اتباع طريقنا تنسبون الضلالة؟ (س). (¬5) لم أظفر به.

قال: وعظنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول اللَّه كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة [بدعة، (وكل بدعة)] ضلالة" (¬1)، وهذا حديث حسن، إسناده لا بأس به، فقرن سنة خلفائه (¬2) بسنَّته، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن (¬3) يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء، وإلا (¬4) كان ذلك سنته، ويتناول (¬5) ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم لأنه علَّق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك [وهم خلفاء] في آن واحد، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين [و] (¬6) رواه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي سمع العرباض بن سارية، فذكر نحوه (¬7). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. وفيه دلالة على وجوب متابعة الصحابة من نهي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البدع، وأمره باجتناب المحدثات -فيما خالف أقوال الصحابة داخل في معنى الإحداث بلا ريب- وكذلك من حكمه بالضلالة على كل بدعة (س). وما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وما بين القوسين سقط من (ك). (¬2) في (ق): "سنة الخلفاء". (¬3) في (ق): "أن". (¬4) في (ك): "ولا". (¬5) في (ك): "وهذا يتناول". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) مضى تخريجه مفصلًا، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات.

سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد السادس] دار ابن الجوزي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [6]

حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339

[إيجاب الاقتداء بهم]

[إيجاب الاقتداء بهم] الوجه الرابع والعشرون: ما رواه الترمذي من حديث الثوري عن عبد الملك بن عُمير، عن هلال مولى رِبعي بن حِراش (¬1)، عن رِبعي، عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" (¬2) قال الترمذي: هذا حديث حسن، ووجه الاستدلال (¬3) به ما تقدم في تقرير المتابعة (¬4). [الرشد في طاعة أبي بكر وعمر] الوجه الخامس والعشرون: ما رواه مسلم في "صحيحه" [من حديث عبد اللَّه بن رَبَاح] (5)، عن أبي قتادة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[قال] (¬5): "إن يُطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا" (¬6)، وهو في حديث الميضأة الطويل (¬7)، فجعل الرشد معلَّقًا بطاعتهما (¬8)، فلو أفتوا بالخطأ في حكم وأصابه من بعدهم لكان الرشد في خلافهما (¬9). الوجه السادس والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأبي بكر (¬10) وعمر في شأن تأمير القَعْقَاعِ بن حكيم والأقرع بن حابس: "لو اتفقتما على شيء لم أخالفكما" (¬11) فهذا رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يخبر أنه لا يخالفهما لو اتفقا، ومن يقول قولهما ¬

_ (¬1) في (ق): "خراس". (¬2) سبق تخريجه، و"ابن أم عبد: هو عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه تعالى عنه-" كذا في (و) و (د) و (ط). ووقع في (ق): "وتمسكوا بهدي ابن أم عبد". (¬3) في نسخة: "ووجه الاحتجاج" (د)، وهي كذلك في (ك). (¬4) في أول البحث عند الكلام على آية التوبة وتفصيل وجوه دلالتها (س). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في (ق): "حديث الميعاد الطويل". (¬8) في (ق): "بطاعتهم". (¬9) وهذا يستلزم رد الحديث، فالقول به باطل بموجب الحديث (س). (¬10) في (ق): "قال اللَّه لأبي بكر". (¬11) روى قصة اختلاف أبي بكر وعمر في شأن التأمير: البخاري (4367) في (المغازي): باب (68)، و (4845) في تفسير (سورة الحجرات): باب {لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}،=

ليس بحجة يُجوز مخالفتهما وبعض غلاتهم يقول: لا يجوز الأخذ بقولهما ويجب الأخذ بقول إمامنا الذي قلّدناه، وذلك موجود في كتبهم. الوجه السابع والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نظر إلى أبي بكر وعمر فقال: "هذان السَّمعُ والبصر" (¬1) أي هما مني بمنزلة السمع والبصر، أو هما من الدين بمنزلة ¬

_ = و (4847) باب {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}، و (7302) في (الاعتصام): باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين، من حديث عبد اللَّه بن الزبير قال: قدم وفد من بني تميم على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال أبو بكر: أمِّر القعقاع بن معبد بن زُرارة فقال عمر: بل أمِّر الأقرع بن حابس قال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي قال عمر: ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فنزل في ذلك: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. وليس فيه قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي ذكره المصنف والقعقاع هو ابن معبد، وليس ابن حكيم كما ذكره المؤلف، وليس في الصحابة من اسمه القعقاع بن حكيم أمَّره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وانظر "الإصابة"، وفي (ك): "أخالفهما". (¬1) ورد من حديث عبد اللَّه بن حنطب وجابر، وابن عمر، وابن عباس، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص. أما حديث عبد اللَّه بن حنطب، فقد رواه محمد بن إسماعيل بن أبي فديك وقد اختلف عنه. فرواه قتيبة بن سعيد عنه عن عبد العزيز بن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب عن أبيه عنه. أخرجه الترمذي (6371) في (المناقب): باب في مناقب أبي بكر وعمر. وقال: "هذا حديث مرسل عبد اللَّه بن حنطب لم يدرك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". وتابعه موسى بن أيوب، أخرجه أبو حاتم -كما في "علل ابنه" (2/ 385) - وابن منده -كما في "الإصابة" (2/ 290) -. إذن رواه قتيبة وموسى بن أيوب عن ابن أبي فديك، عن عبد العزيز بن المطلب دون واسطة. لكن رواه جماعة عن ابن أبي فديك فذكروا واسطة بينه وبين عبد العزيز. فقد علقه أبو حاتم (2/ 385)، ووصله ابن منده -كما في "الإصابة" (2/ 290) - من طريق دحيم عن ابن أبي فديك: حدثني غير واحد عن عبد العزيز به، وهؤلاء الجماعة الذين روى عنهم ابن أبي فديك وقفنا على بعضهم. فقد رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 69) من طريق آدم بن أبي إياس، والقطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (686) من طريق رجل وسمَّيا الواسطة: الحسن بن عبد اللَّه بن عطية. قال الحاكم: صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي فقال: حسن. أقول: والحسن هذا لم أجد له ترجمة. وقد رواه ابن قانع في "معجم الصحابة" (8/ 3137 رقم 970) وأبو نعيم في "معرفة =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الصحابة" (2/ 887 رقم 2295) والآجري في "الشريعة" (رقم 1322) من طريق علي بن مسلم عن ابن أبي فُديك، والبغوي وغيره -كما في "الإصابة"- من طريق أحمد بن صالح المصري وآخرين، فذكروا من أسماء المبهمين: علي بن عبد الرحمن وعمر بن أبي عمر. فعلي بن عبد الرحمن ترجم له ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان ولم يذكر له راويًا سوى ابن أبي فديك. وعمر بن أبي عمر -كذا في "تهذيب الكمال" و"الميزان" متروك الحديث. إذن رواية الأكثر على إثبات الواسطة، وهذا ما رجّحه الحافظ في "الإصابة" أما أبو حاتم رحمه اللَّه فقد قال بعد أن رواه دون واسطة: وهذا أشبه! وبعد هذا الاختلاف، اختلف في صحبة عبد اللَّه بن حنطب فممن أثبت صحبته ابن أبي حاتم وابن حبان وابن عبد البر ورجَّحه ابن حجر. وقد خالف جميع ما ذكرنا جعفر بن مسافر: فرواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ 886 - 887 رقم 2294) من طريقه عن ابن أبي فديك عن المغيرة بن عبد الرحمن عن المطلب بن عبد اللَّه عن حنطب عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . فجعل اسم الصحابي: حنطب، وجعفر هذا في حفظه شيء فروايته لا تعتبر بالمقارنة مع رواية الثقات. وانظر: "المعرفة" أيضًا (6/ 3032 رقم 7027) لأبي نعيم. وأما حديث جابر: فرواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 459 - 460) واللالكائي في "السنة" (رقم 2507) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (9/ ق 586) من طريق زكريا بن يحيى الساجي ثنا الحكم بن مروان ثنا حسن بن صالح عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس"، وهذا إسناد ضعيف جدًا، فيه الحكم بن مروان، ضرب أحمد وابن معين وأبو خيثمة على اسمه وأسقطوه، انظر: "اللسان" (2/ 238) وزكريا بن يحيى، ترجمه الخطيب ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وهو أبو يعلى الساجي غير أبي يحيى الإمام الثقة، ولعل شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- ظنه هو في "الصحيحة" (814) فقال عن هذا الإسناد: "حسن"!! وأما حديث ابن عمر: فرواه القطيعي (575) وأبو نعيم في "فضائل الخلفاء الأربعة" (رقم 92) وابن شاهين في "شرح السنة" (رقم 146) والآجري في "الشريعة" (رقم 1324) والعشاري في "فضائل الصديق" (رقم 36) من طريق فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عنه، مثل حديث جابر، وهذا إسناد ضعيف جدًا، فرات بن السائب قال أحمد: كذّبوه، وقد تركه الدارقطني والساجي وأبو أحمد الحاكم. ورواه الآجري في "الشريعة" (رقم 1325) من طريق حمزة النصيبي عن نافع عنه، وحمزة هذا متروك. وأما حديث ابن عباس: فرواه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 73) من طريق الحسن بن عرفة: =

السمع والبصر، ومن المحال أن يحرم سمع الدين وبصره الصواب ويظفر به من بعدهما. الوجه الثامن والعشرون: ما رواه أبو داود وابن ماجه [من حديث ابن إسحاق، عن مكحول، عن غضيف بن الحارث] (1)، عن أبي ذر قال: مرَّ فتى على عمر [-رضي اللَّه عنه-] (1)، فقال [عمر] (¬1): نِعمَ الفتى، قال: فتبعه أبو ذر، فقال: يا فتى استغفر لي، فقال (¬2): يا أبا ذر أستغفر لك وأنت صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: استغفر لي، قال: لا أو تخبرني (¬3)، قال: إنك مررتَ على عمر فقال: نعم الفتى، وإني سمعت النبي (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه" (¬5)، ومن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها من جعل اللَّه الحقَّ ¬

_ = حدثنا الوليد بن الفضل عن عبد اللَّه بن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه عنه، مثل لفظ حديث جابر، وقال: كذا قال الحسن بن عرفة: عبد اللَّه بن إدريس، وإنما هو عبد المنعم بن إدريس، والحديث غريب تفرد به الوليد بن الفضل عنه. أقول: والوليد بن الفضل هذا قال ابن حبان: يروي الموضوعات لا يجوز الاحتجاج به بحال. وأما حديث عبد اللَّه بن عمرو، فرواه ابن أبي حاتم في "السنة" (رقم 1222) والطبراني في "الكبير" -كما في "المجمع" (9/ 52) - والآجري في "الشريعة" (رقم 1323)، وإسناده مظلم، فيه من لا يعرف وهذه الطرق ضعيفة جدًا، لا تسلم من متهمين أو متروكين، وهي لا تصلح لتحسين الحديث فضلًا عن تصحيحه، ولذا أعله الترمذي وابن عبد البر وغير واحد، واللَّه أعلم. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "قال". (¬3) في (ق): "وتخبرني". (¬4) في (ق): "رسول اللَّه". (¬5) رواه ابن سعد (2/ 335)، وأحمد في "مسنده" (5/ 165 و 177)، وفي "فضائل الصحابة" (316)، وابن أبي عاصم في "السنة" (249)، وأبو داود (2962) في (الخراج): باب في تدوين العطاء، وابن ماجه (108) في (المقدمة): باب فضل عمر، وابن أبي شيبة (7/ 478)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 461) والبلاذري في "أنساب الأشراف" (149 - 150/ أخبار الشيخين) والقطيعي في "زوائد فضائل الصحابة" (رقم 521، 687، 867)، وابن شاهين في "جزء من حديثه" (رقم 7) والبغوي (3876) وابن عساكر (ص 85 - 86/ ترجمة عمر). كلهم من طرق عن ابن إسحاق عن مكحول عن غضيف به، وصرح ابن إسحاق بالتحديث عند الفسوي فقط! وهذا إسناد حسن لحال محمد بن إسحاق، وغضيف بن الحارث هذا ذكره بعضهم في الصحابة وهو الظاهر، ورواه الدارقطني في "الأفراد" (2/ 269 - أطرافه) والطبراني في "مسند الشاميين" (رقم 1543) والحاكم في "المستدرك" (3/ 86 - 87)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 191) والبيهقي في "المدخل" (رقم 66) واللالكائي في "السنة" (2490) =

على لسانه وقلبه حظَّه (¬1)، ولا ينكره [عليه] (¬2) أحد من الصحابة، ويكون الصواب فيها حَظَّ من بعده، هذا من أبين المحال. الوجه التاسع والعشرون: ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قد كان فيمن خَلا من الأمم أناس مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد [منهم] فهو عمر" (¬3)، وهو في "المسند"، و"الترمذي" وغيرهما من حديث أبي هريرة، والمحدَّثُ: هو المتكلم (¬4) الذي يُلقي اللَّه في روعه الصواب يحدثه به المَلَكُ عن اللَّه، ومن المحال أن يختلف هذا ومن بعده في مسألة، ويكون الصواب فيها مع المتأخر دونه، فإن ذلك يستلزم أن [يكون ذلك] (¬5) الغير هو المحدث بالنسبة إلى هذا (¬6) الحكم دون أمير المؤمنين [-رضي اللَّه عنه-] (5)، وهذا وإن أمكن في أقرانه من الصحابة فإنه لا يخلو عصرهم من الحق إما على لسان عمر، وإما على لسان غيره منهم، ومن (¬7) المحال أن يفتي أمير المؤمنين المحدث بفتوى أو يحكم بحكم، ولا يقول أحد من الصحابة غيره، ويكون خطأ ثم يُوفَّقَ له من بعدهم فيصيب الحق، ويخطئه الصحابة. الوجه الثلاثون: ما رواه الترمذي [من حديث بكر بن عمرو، عن مِشْرَح بن ¬

_ = وابن عساكر (85) عن طريق أبي خالد الأحمر عن محمد بن إسحاق، ومحمد بن عجلان، وهشام بن الغاز عن مكحول عن غضيف عن أبي ذر. وأبو خالد الأحمر هذا صدوق يخطئ كما قال الحافظ ابن حجر، ورواه هشام وابن عجلان عن مكحول عن أبي ذر مرسلًا دون ذكر غضيف انظر: "علل الدارقطني" (6/ 259) وتعليقي علي "المجالسة" (2/ 64 - 65)، ورواه أحمد في "مسنده" (5/ 145)، وفي "فضائل الصحابة" (317) -ومن طريقه ابن عساكر (87 - 88/ ترجمة عمر) - من طريق برد بن سنان عن عبادة بن نسيّ عن غضيف عن أبي ذر مرفوعًا، وإسناده جَيّد أيضًا وهذه متابعة قوية لابن إسحاق. وفي الباب عن أبي هريرة وابن عمر وأبي بكر وبلال وأبي سعيد ومعاوية وعائشة، خرجتها بتطويل -وللَّه الحمد- في تعليقي على "المجالسة" (2/ 56 - 69). (¬1) في (ق): "خطًا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه مسلم (2398) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل عمر -رضي اللَّه عنه- وأحمد (6/ 55) والترمذي (3693) عن عائشة. وحديث أبي هريرة: رواه البخاري (3469) في أحاديث الأنبياء و (3689) في (فضائل الصحابة)، وهو ليس عند الترمذي وأحمد، كما قال المصنف، وانظر الهامش السابق، وما بين المعقوفتين من (ك). (¬4) في (ق): "المكلم". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "ذلك". (¬7) في المطبوع و (ك): "وإنما".

هاعان] (¬1)، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" (¬2)، وفي لفظ: "لو لم أبعث فيكم لبعث [فيكم] عمر" (¬3) قال الترمذي: حديث حسن، ومن المحال أن يختلف مَن هذا شأنه، ومن بعده من المتأخرين في حكم من أحكام الدين، ويكون حظ عمر منه الخطأ وحظ ذلك المتأخر منه الصواب. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه أحمد (4/ 154)، والترمذي (3686) في (المناقب): باب ما جاء في مناقب عمر، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 822)، والقطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (رقم 519) و (694)، و"جزء الألف دينار" (رقم 199)، والفسوي في "تاريخه" (2/ 500)، والحاكم (3/ 85)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص 228) والروياني (214، 223) والدينوري في "المجالسة" (217 - بتحقيقي) وأبو نعيم في "فضائل الخلفاء" (رقم 85) والتيمي في "الحجة" (رقم 341) والبيهقي في "المدخل" (65)، والخطيب في "الموضح" (2/ 414) وابن عساكر (100، 101 - ترجمة عمر)، من طريق حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو به. وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهذا إسناد حسن، رجاله ثقات، إلا أن مشرح بن هاعان فيه كلام، لا ينزل حديثه عن درجة الحسن. والحديث رواه عن مشرح ابن لهيعة أيضًا إلا أنه اضطرب فيه فرواه تارة عن مشرح: أخرجه القطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (498)، وابن عدي (3/ 1014)، وتارة عن أبي عشانة (حي بن يؤمن) رواه الطبراني في "الكبير" (17/ 857) مع أن إسنادي القطيعي والطبراني واحد!! على كل حال هذا تخليط من ابن لهيعة لا يضر، فالعمدة على ما سبق. والحديث عزاه ابن حجر في "فتح الباري" (7/ 51) لابن حبان، ولم أجده في "صحيحه". وفي الباب عن عصمة: رواه الطبراني في "الكبير" (17/ 475)، قال في "المجمع" (9/ 68)، وفيه الفضل بن المختار، وهو ضعيف، وعن أبي سعيد الخدري: رواه الطبراني في "الأوسط" -ولم أظفر به في طبعتيه- كما في "المجمع"، وفيه عبد المنعم بن بشير، وهو ضعيف. وفي الباب أيضًا عن أبي هريرة وابن عمر وبلال، خرجتها في تعليقي على "المجالسة" (2/ 86 - 90). (¬3) رواه ابن عدي (4/ 1511) -ومن طريقه ابن عساكر (99 - ترجمة عمر) وابن الجوزي في "الموضوعات" (1/ 320) - من طريق عبد اللَّه بن واقد: قال حدثنا حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن مشرح بن هاعان عن عقبة بن عامر. ونقل ابن الجوزي عن ابن معين وأحمد أنهما قالا في عبد اللَّه بن واقد: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك. =

الوجه الحادي والثلاثون: ما روى إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أن عليًا -رضي اللَّه عنه- (¬1) قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر (¬2)، ومن المحال ¬

_ = أقول: وقال أحمد أيضًا: رجل صالح، ويشبه أهل النسك والخير إلا أنه ربما أخطأ، وقال البخاري: سكتوا عنه، إلا أن السيوطي حاول في "اللآلئ المصنوعة" (1/ 302) أن يقوي حاله كعادته!! وقد لخص ابن عدي حاله فقال: ليس هو ممن يتعمد الكذب، إلا أنه يحمل على حفظه فيخطئ. . . وله غرائب غير ما ذكرت. ومما يدل على سوء حفظ هذا الرجل أن عبد اللَّه بن يزيد المقرئ رواه عن حيوة بن شريح عن مشرح بن هاعان عن رجل عن عقبة، رواه القطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" لأحمد (676)، وعبد اللَّه هذا من الثقاث المشهورين فزاد رجلًا مبهمًا. وللحديث إسناد آخر: رواه ابن عدي في "الكامل" (3/ 1071) -ومن طريقه ابن عساكر (101 - ترجمة عمر) وابن الجوزي (1/ 320) - من طريق زكريا بن يحيى الوقار: حدثنا بشر بن بكر عن أبي بكر بن عبد اللَّه بن أبي مريم عن ضمرة بن حبيب عن عفيف بن الحارث عن بلال به مرفوعًا. وزكريا هذا هو أبو يحيى قال فيه صالح جزرة: كان من الكذَّابين الكبار، وقال ابن عدي: له حديث كثير بعضها موضوعات، وكان يتهم بوضعها. . . أما السيوطي فحاول أن يحسن من حاله!!! ثم ذكر السيوطي له طريقين آخرين: قال المعلمي في "تعليقه على الفوائد المجموعة" للشوكاني (ص 337): في أسانيدهما جماعة لم أعرفهم، وفي الأولى عبد اللَّه بن واقد، وقد مر ذكره، وفي الثانية إسحاق بن نجيح الملطي، وهو كذاب. أقول: فالحديث لا يصح، لكن لا يبلغ أن يكون موضوعًا، وما بين المعقوفتين من (ك). (¬1) في المطبوع: "كرم اللَّه وجهه". (¬2) رواه من هذا الطريق: عبد اللَّه بن أحمد في "زياداته على فضائل الصحابة" (310، 470)، والقطيعي في "زوائده" (523)، و (601) و (614) و (627)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 461، 462) وأبو عروبة الحراني في "حديثه" (ق 63/ أ) أو (رقم 36) وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 328 و 8/ 211) والبيهقي في "المدخل" (رقم 67) والخطابي في "غريب الحديث" (2/ 258)، والبغوي (3877) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (13/ ق 15)، وأبو الخير القزويني في "الأربعين في فضائل عمر بن الخطاب" (ق 55/ أ) من طرق عن إسماعيل به، وإسناده صحيح. ورواه ابن أبي شيبة (12/ 23) والقطيعي في "زوائده" (634) من طريق الشيباني وإسماعيل به. ورواه القطيعي (711) من طريق أبي إسماعيل عن الشعبي به، وفيه زيادة، وأبو إسماعيل هذا كثير النواء الضعيف. =

أن يكون من بعدَهُ من المتأخرين أسعدَ بالصواب منه في أحكام اللَّه تعالى (¬1)، ورواه عمرو بن ميمون عن زرّ عن علي -رضي اللَّه عنه-. الوجه الثاني والثلاثون: ما رواه واصل الأحدب، عن أبي وائل، عن ابن مسعود [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) قال: ما رأيت عمر إلا وكأنّ بين عينيه مَلَكًا يسدده (¬3)، ومعلوم قطعًا أن هذا أولى بالصواب ممن ليس بهذه المَثَابة. الوجه الثالث والثلاثون: ما رواه الأعمش عن شقيق قال: قال عبد اللَّه (¬4): [واللَّه] (5) لو أن علم عمر وُضعَ في كفة ميزان، وجُعل علم أهل الأرض في كفّة لرجَحَ علم عمر، فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: قال عبد اللَّه: [واللَّه] (¬5) إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم (¬6)، ومن أبعد الأمور أن يكون المخالف لعمر بعد انقراض عصر الصحابة أولى بالصواب منه في شيء من الأشياء. الوجه الرابع والثلاثون: ما رواه ابن عيينة، عن عبيد اللَّه (¬7) بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سُئل عن شيء، وكان في القرآن أو السنة قال به، وإلا قال بما ¬

_ = وأما رواية زر عن علي فرواها عبد الرزاق في "مصنفه" (11/ 222) (20380)، ومن طريقه القطيعي (522) من طريق معمر عن عاصم عن زر عن علي به، وهذا إسناد حسن. ورواه أحمد في "مسنده" (1/ 106)، وابنه عبد اللَّه في "زوائده على الفضائل" (رقم 50) من طريق الثمعبي عن وهب السُّوائي عن علي، وفيه زيادة، وإسناده جيّد. (¬1) في (ق) و (ك): "عز وجل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) طريق واصل الأحدب: رواها الطبراني في "المعجم الكبير" (8832)، والبيهقي في "المدخل إلى السنن الكبرى" (69) وأبو نعيم في "تثبيت الإمامة" (رقم 88) عن أبي وائل به. وسقط ابن مسعود من إسناد الطبراني، قال الهيثمي (9/ 72): رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. ورواه القطيعي في "زوائده على فضائل الصحابة" (306)، والطبراني في "الكبير" (8833) من طريق سلمة بن كهيل عن أبيه عن أبي وائل به. ورواه الطبراني (8831) من طريق القاسم عن ابن مسعود. (¬4) هو "عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-" (س). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) سبق تخريجه. (¬7) في (د): "عبد اللَّه"وقال: "في نسخة: "عببد اللَّه بن أبي يزيد"، وليس بصواب"!!. قلت: وهو المثبت في (ق) و (ك) وهو الصحيح.

قال به أبو بكر وعمر، فإن لم يكن قال برأيه (¬1). فهذا ابن عباس -واتِّباعه للدليل وتحكيمه للحجة معروف، حتى [إنه] (¬2) يخالف لما قام عنده من الدليل أكابرَ الصحابة- يجعل (¬3) قول أبي بكر وعمر حجة يؤخذ بها بعد قول اللَّه ورسوله، ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة. الوجه الخامس والثلاثون: ما رواه منصور، عن زيد بن وهب، عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رضيتُ لأمتي ما رضي لها ابنُ أم عبد" (¬4)، كذا رواه يحيى بن يعلى المحاربي عن زائدة (¬5) عن منصور، والصواب ما رواه إسرائيل وسفيان عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا ولكن قد روى جعفر بن عون (¬6) عن المسعودي عن جعفر بن عمرو بن حُريث (¬7) عن أبيه قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن مسعود: "اقرأ عليَّ" قال: أقرأ [عليك] (¬8) وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فافتتح سورة النساء حتى إذا بلغ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فاضَتْ عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكفَّ عبدُ اللَّه [بن مسعود] (¬9)، فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتكلَّم فحمد اللَّه [وأثنى عليه] (8) في أول كلامه وأثنى على اللَّه، وصلّى على نبيه (¬10) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد شهادة الحق، وقال: "رضينا (¬11) باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا ورضيت لكم ما رضي [لكم] (8) ابن أم عبد" (¬12)، ومن قال: ليس قوله بحجة، ¬

_ (¬1) رواه الدارمي في "المقدمة" (1/ 59) وابن أبي شيبة (7/ 242) -ومن طريقه ابن حزم في "الإحكام" (5/ 768) - وابن سعد (2/ 366)، والحاكم (1/ 127)، والبيهقي (10/ 115) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 203) وابن عبد البر في "التمهيد" (2/ 71)، من طريق ابن عيينة به وإسناده صحيح. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "ثم يجعل". (¬4) سبق تخريجه قريبًا. وقال (ط): "هو عبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه-". (¬5) في المطبوع: "زيد" والمثبت من (ق) و (ك). (¬6) كذا في (ق): هو الصواب، وفي سائر النسخ "عوف"!! (¬7) وقع في مطبوع "الإعلام": "عمرو بن حريش" بالشين!! (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) في (ق) و (ك): "النبي". (¬11) في (ق): "رضيت". (¬12) رواه الحاكم في "المستدرك" (3/ 319) من طريق محمد بن عبد الوهاب عن جعفر بن عون، عن المسعودي به. =

وإذا خالفه غيره ممن بعده يجوز أن يكون الصواب في قول المخالف [له] (¬1) لم يَرْضَ للأمة ما رضيه (¬2) لهم ابن أم عبد، ولا ما رضيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الوجه السادس والثلاثون: ما رواه أبو إسحاق، عن حارثة بن مُضرِّب قال: كتب عمر -رضي اللَّه عنه- إلى [أهل] (¬3) الكوفة: "قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا و [عبد اللَّه] (¬4) بن مسعود معلمًا ووزيرًا وهما من النُّجباء من أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي" (¬5)، فهذا عمر قد أمر أهل الكوفة أن يقتدوا بعمار وابن مسعود، ويسمعوا قولهما ومن لم يجعل قولَهما حجة يقول: لا يجب الاقتداء بهما ولا سماع أقوالهما إلا فيما أجمعت عليه الأمة، ومعلوم أن ذلك لا اختصاص لهما به، بل فرق فيه بينهما (¬6) وبين غيرهما من سائر الأمة. الوجه السابع والثلاثون: ما قاله عُبادة بن الصَّامت وغيره: بايعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في اللَّه لومة لائم (¬7)، ونحن نشهد باللَّه أنهم وَفَوْا بهذه البيعة، وقالوا بالحق، وصدعوا به، ولم تأخذهم في اللَّه لومة لائم، ولم يكتموا شيئًا منه مخافة سوط ولا عصا (¬8)، ولا أمير ولا وال كما هو ¬

_ = وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. أقول: المسعودي اختلط لكن رواية جعفر عنه قبل الاختلاط، كما في "الكواكب النيِّرات". وأما جعفر بن عمرو فلم يوثقه أحد إلا ابن حبان! لكن روى عنه ثقتان، فمثله قد يُحسّن حديثه، ولا سيما أن لحديثه شاهدًا. وقد روى أول الحديث إلى قوله: "فاضت عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-": مسلم في "صحيحه" (800) بعد (248) وما بعده من طريق معن عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن ابن مسعود. وأول الحديث ثابت في "صحيح البخاري" (4582)، و (5049) و (5050) و (5055) و (5056)، ومسلم (800) من حديث ابن مسعود. وأما قوله: "رضيت لكم ما رضي لكم ابن أم عبد"، فقد أشرنا إلى أنه تقدم تخريجه. (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "و" وسقط من (ك). (¬2) في (ق): "رضي به". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) سبق تخريجه. (¬6) في (ق): "بل لا فرق بينهما". (¬7) رواه البخاري (7200) في (الأحكام): باب كيف يبايع الإمام الناس، ومسلم (1709) في (الإمارة): باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية. (¬8) في (ق): "أو عصا".

معلوم لمن تأمله من هديهم (¬1) وسيرتهم، فقد أنكر أبو سعيد على مروان وهو أمير على المدينة (¬2)، وأنكر عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة (¬3)، وأنكر ابن عمر على الحجاج مع سَطْوته وبأسه، وأنكر على عمرو بن سعيد (¬4)، وهو أمير على المدينة، وهذا كثير [جدًا] (¬5) من إنكارهم على الأمراء والولاة إذا خرجوا عن العدل لم يخافوا سَوطهم (¬6) ولا عقوبتهم، ومن بعدهم لم تكن لهم (¬7) هذه المنزلة، بل كانوا يتركون كثيرًا من الحق خوفًا من ولاة الظلم وأمراء الجور، فمن المحال أن يوفَّق هؤلاء (¬8) للصواب ويحرمه أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الوجه الثامن والثلاثون: ما ثبت في "الصحيح" من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقى المنبر فقال: "إن عبدًا خيّره اللَّه بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند اللَّه" فبكى أبو بكر -رضي اللَّه عنه- وقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا لبكائه أن يُخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل خُيّر فكان المخيّر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان أبو بكر أعلمنا به (¬9)، وقال (¬10) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت مُتّخذًا من [أهل] الأرض خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا ولكن أخوةُ الإسلام ومودّته، لا يبقى (¬11) في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب ¬

_ (¬1) في (ق): "لمن تأمل هديهم". (¬2) رواه البخاري (956) في (كتاب العيدين): باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، ومسلم (889) في (صلاة العيدين): أوله، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) أخرجه مسلم في صحيحه (1587) في المساقاة: باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا قصة بين عبادة ومعاوية، وفيها إنكار عبادة على معاوية. (¬4) إنكار ابن عمر على الحجاج، أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (رقم 1381) -ومن طرقه ابن أبي الدنيا في "الأمر بالمعروف" (رقم 52) - وإسناده حسن. وأما الإنكار على عمرو بن سعيد، فظفرتُ أن أبا شريح الخزاعي أنكر عليه، رواه البخاري (104 و 1832 و 4295) ومسلم (1354) وأحمد (4/ 32 و 6/ 385). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "سطوتهم". (¬7) في (ق): "لم تكن له". (¬8) المتأخرون، ومن المحال أن يكون بين ظهرانيهم منكر في فتيا وغيرها ويقرّونه ولا ينكرونه. (س). (¬9) رواه البخاري (466) في (الصلاة): باب الخوخة والممر في المسجد، و (3654) في (فضائل الصحابة): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سدّوا الأبواب إلا باب أبي بكر"، و (3904) في "مناقب الأنصار": باب هجرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-وأصحابه إلى المدينة، ومسلم (2382) في "فضائل الصحابة": باب من فضائل أبي بكر الصديق. (¬10) في (ق): "فقال". (¬11) في (ق): "لا يبقيّن".

أبي بكر" (¬1)، و [من] (¬2) المعلوم أن فَوْت الصواب في الفتوى لأعلم الأمة برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولجميع الصحابة معه، وظَفَرَ فلان وفلان من المتأخرين بهذا من أمحل المحال (¬3)، ومن لم يجعل قولَه حجة يُجَوِّزُ ذلك، بل يحكم بوقوعه، واللَّه المستعانُ. الوجه التاسع والثلاثون: ما رواه زائدة، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن عبد اللَّه قال: لما قُبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال (¬4) الأنصار: منَّا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر، قال: ألستم تعلمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يَؤُمَّ الناس؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم تطيب نفسُهُ أن يتقدم على أبي بكر؟ فقالوا: نعوذ باللَّه أن نتقدم على أبي بكر (¬5). ونحن نقول لجميع المفتين: أيكم تطيب نفسه أن يتقدَّم على أبي بكر إذا أفتى بفتوى وأفتى من قلَّدتموه بغيرها؟ ولا سيما مَنْ قال من زعمائكم: إنه يجب تقليد من قلّدناه ديننا ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) اللهم إنا نُشهدكَ أن أنفسنا لا تطيب بذلك، ونعوذ بك أن تطيب به نفسًا (¬7). الوجه الأربعون (¬8): ما ثبت في "الصحيح" [من حديث الزهري] (6)، [عن حمزة بن عبد اللَّه، عن أبيه عن] (¬9) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بينما أنا نائم إذ أُتيتُ بقدح لبن، فقيل لي: اشرب، فشربت منه، حتى إني أرى الرِّيَّ يجري في أظفاري (¬10)، ثم أعطيت فضلتي (¬11) عمر، قالوا: فما أوَّلت ذلك؟ قال: العلم" (¬12). ¬

_ (¬1) هو مذكور مع الحديث السابق بالإسناد نفسه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) قال (د): "في نسخة: "به، هذا هو أمحل المحال"". قلت: وهو المثبت في (ق) و (ك). (¬4) في (ق) و (ك): "قالت". (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 21 و 396 و 405)، وفي "فضائل الصحابة" (رقم 190)، وابن سعد (3/ 179)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 454)، وابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 1159)، والنسائي (2/ 74) في (الإمارة): باب ذكر الإمامة والجماعة، والحاكم (3/ 67)، والبيهقي في "الكبرى" (8/ 152)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 188) من طريق زائدة به، وهذا إسناد حسن رجاله ثقات، وفي عاصم هو ابن أبي النجود كلام. وفي (ك): "ان نتقدم أبا بكر". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "أنفسنا". (¬8) في (ك): "الوجه الأربعين". (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "عن ابن عمر أن". (¬10) في (ق): "يخرج من أظفاري". (¬11) في (ك) و (ق): "فضلي". (¬12) الحديث في "الصحيحين"، وسبق تخريجه.

ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع من خالفه في فتيا أو حكم لا يُعلم أن أحدًا من الصحابة خالفه فيه، وقد شهد له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذه الشهادة. الوجه الحادي والأربعون: ما ثبت في "الصحيح" [من حديث عبد اللَّه بن أبي زيد] (1)، عن ابن عباس [-رضي اللَّه عنهما-] (¬1): أنه وُضع للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وضوءًا، فقال: من وضع هذا؟ قالوا: ابن عباس، فقال: "اللهم فقهه في الدين" (¬2)، وقال عكرمة: ضمني إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "اللهم علمه الحكمة" (2). ومن المستبعد جدًا بل [من] (¬3) الممتنع أن يُفتي حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بدعوة مستجابة قطعًا أن يفقِّهه في الدين ويعلّمه الحكمة ولا يخالفه فيها أحد من الصحابة، ويكون فيها على خطأ، ويفتي واحد من المتأخرين بعده بخلاف فتواه، ويكون الصواب معه، فيظفر به هو ومقلدوه (¬4)، ويحرمه ابن عباس والصحابة -رضي اللَّه عنهم-. الوجه الثاني والأربعون (¬5): أن صورة المسألة ما إذا لم يكن في الواقعة حديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا اختلاف بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وإنما قال بعضهم فيها قولًا وأفتى بفُتيا ولم يعلم أن قوله وفتياه اشتهر (¬6) في الباقين ولا أنهم خالفوه، وحينئذ فنقول: من تأمَّل المسائل الفقهية، والحوادث الفرعية (¬7)، وتدَّرب بمسالكها، وتصرَّف في مداركها، وسلك سُبُلها ذللًا، وارتوى من مواردها عللًا (¬8) ونهلًا (¬9)، علم قطعًا أن كثيرًا منها قد تشتبه فيها وجوه الرأي بحيث لا يُوثق فيها بظاهر مُراد (¬10)، أو قياس صحيح ينشرح له الصدر ويثلج له الفؤاد، بل تتعارض فيها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "عبد اللَّه بن يزيد". (¬2) سبق تخريجه. ووقع في (ق) زيادة: "وعلمه التأويل"، وقال في الهامش: "قوله: "وعلمه التأويل"، قال الحميدي: لم أجد هذه اللفظة في "الصحيحين"، وقد حكاها أبو مسعود، ولم أرها". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬4) في (ق): "ومقلده". (¬5) وهو استدلال نظري علمي كما هو ظاهر لمن تأمله (س). (¬6) في المطبوع و (ك): "أشهر". (¬7) في (ق): "الفروعية". (¬8) العلل والتعلل: الشرب مرة بعد مرة، ويراد هنا الأخذ من علوم الفقه، والمداومة عليه (س). (¬9) النهل: أول الشرب، أو المرة الأولى (س). (¬10) ليس المراد هاهنا ظاهر النصوص البينة، فهذا خارج عن الصورة المفترضة، ويحتمل أن يكون المراد النصوص المجملة أو المشتركة، أو إشارة النص (س).

الظواهر والأقيسة على وجه يقف المجتهد في أكثر المواضع حتى لا يبقى للظنِّ رجحان بيِّن، لا سيما إذا اختلف الفقهاء؛ فإن عقولهم من أكمل العقول وأوفرها (¬1) فإذا تلدَّدوا (¬2) وتوقفوا ولم يتقدموا ولم يتأخروا لم يكن [ذلك] (¬3) في المسألة طريقة واضحة ولا حجة لائحة، فإذا وجد فيها قول لأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[ورضي اللَّه عنهم] (3) الذين هم سادات الأمة، وقدوة الأئمة، وأعلم الناس بكتاب ربهم [تعالى] (3) وسنة نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة من بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدين كان الظن والحالة هذه بأن الصواب في جهتهم والحق في جانبهم (¬4) من أقوى الظنون (¬5) وهو أقوى من [الظن] (¬6) المستفاد من كثير [من] (3) الأقيسة، هذا ما لا يمتري فيه عاقل منصف، وكان الرأي الذي يوافق رأيهم هو الرأي السداد [الرأي] الذي لا رأي سواه، وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظن راجح ولو استند إلى استصحاب أو قياس علة أو دلالة أو شبه (¬7) أو عموم مخصوص أو محفوظ مطلق أو وارد على سبب (¬8)، فلا شك أن الظن الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يخالف أرجح من كثير من الظنون المستندة إلى هذه الأمور أو أكثرها، وحصول الظن الغالب في القلب ضروري (¬9) كحصول الأمور الوجدانية، ولا يخفى على العالم أمثلة ذلك. الوجه الثالث والأربعون: أن الصحابي إذا قال قولًا أو حكم بحكم (¬10) أو ¬

_ (¬1) في (ق): "من أكمل العقول وأوفاها". (¬2) تحيروا وتلفتوا يمينًا وشمالًا بحثًا عن بينة أو دلالة (س). وقال (و): "تلفت يمينًا وشمالًا أو تحير". قلت: وانظر: "لسان العرب" (3/ 390) مادة "لدد" - ط دار الفكر). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وما بين المعقوفتين بعدها من (ق) فقط. (¬4) في (ق): "من جانبهم". (¬5) وهو ظن راجح يدخل في معنى العلم المتعبد به (س). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) جاء في النص "أو دلالة أو شبه" وحذف (أو) أليق بما قبلها (س). (¬8) يراد به العام الذي يحتمل التخصيص بسببه ظاهرًا في التخصيص (س). (¬9) أي أن التحقق من وجوه الظن الغالب أمر يعلمه الإنسان من نفسه ويدركه ولا يغيب عن معرفته وإحساسه (س). (¬10) في (ك): "حكمًا".

أفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها عنَّا، ومدارك نشاركه فيها، فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شفاهًا أو من صحابي آخر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يُحاط به، فلم يَروِ [كلٌّ منهم كلَّ] (¬2) ما سمع، وأين ما سمعه الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (3) والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬3) إلى ما رووه؟ فلم يرو عنه صدِّيقُ الأمة مئة حديث (¬4) وهو لم يغب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيء من مشاهده، بل صحبه من حين بعث [بل قبل البعث] (¬5) إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله (¬6) وفعله وهديه وسيرته، وكذلك أجلَّة الصحابة (¬7) روايتهم قليلة جدًا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم، وشاهدوه، ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أضعافًا مضاعفة، فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين، وقد روى عنه الكثير، فقول (¬8) القائل: "لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيءٌ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لذكره" قولُ (¬9) مَنْ لم يعرف سِيرَ القوم وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الروايةَ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬10) ويعظِّمونها ويقلِّلونها خوف الزيادة والنقص، ويحدِّثون بالشيء الذي سمعوه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرارًا، ولا يصرحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬11). ¬

_ (¬1) في (ق): "عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "كلهم". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) قال أبو نعيم الأصبهاني في "معرفة الصحابة" (1/ 36): "روى من المتون سوى الطرق: مئة حديث ونيفًا بمراسيلها". (¬5) ما بين المعقوفتين مضروب عليه في (ق)، وقبلها في (ك): "مبعثه" بدل "بعث". (¬6) في (ق) و (ك): "وبقوله". (¬7) في (ق): "جلة الصحابة". (¬8) في (ق): "فيقول". (¬9) في (ق) و (ك): "وهذا قول". (¬10) في (ق): "عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬11) مثاله: 1 - عن ابن الديلمي قال: "وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيت أن يفسد عليَّ ديني وأمري، فأتيت أبيَّ بن كعب، فقلت: أبا المنذر، إنه قد وقع في نفسي شيء من هذا القدر، فخشيت على ديني وأمري فحدثني بشيء من ذلك، لعل اللَّه أن ينفعني. . . " الحديث حتى قال: ولا عليك أن تأتي أخي عبد اللَّه بن مسعود فتسأله، قال: فأتيت عبد اللَّه، فسألته، فذكر مثل ما قال أبيّ، وقال لي: لا عليك أن تأتي حذيفة، فأتيت حذيفة، فسألته، فقال مثل ما قالا، وفال: ائت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيد بن ثابت، فسألته، فقال: "سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول، وذكر لي مثل قول أبيّ من حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" صحيح ابن ماجه (1/ 19). =

فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة وجوه (¬1): أحدها: أن يكون سمعها من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه. الثالث: أن يكون فهمها من آية من كتاب اللَّه فهمًا خفي علينا. الرابع: أن يكون [قد] (¬3) اتفق عليها ملؤهم، ولم يُنقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده. الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد (¬4) به عنا، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور (¬5) فهموها على طول الزمان من رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته، وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي ومشاهدة تأويله بالفعل، فيكون فَهِم ما لا نفهمه نحن (¬6)، وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب اتباعها. ¬

_ = فهؤلاء ثلاثة من فقهاء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يفتون بنص الحديث، ولا يصرحون برفعه، حتى صرح زيد -رضي اللَّه عنه- برفعه. 2 - وعند الترمذي أن أبا أمامة -رضي اللَّه عنه- رأى رؤوسًا منصوبة على درج دمشق فقال: "كلاب النار، شرُّ قتلى تحت أديم السماء، خير الناس من قتلوه، ثم قرأ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الآية. قال أبو غالب: قلت لأبي أمامة: (أنت سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟) قال: (لو لم أسمعه إلا مرة، أو مرتين، أو ثلاثًا أو أربعًا، حتى عد سبعًا: ما حدثتكموه) صحيح الترمذي (3/ 32) [وانظر تخريجه في (5/ 577 - 778)]. وهذا صحابي يخبر بما سمع من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دون تصريح، ولا يصرح بالرواية حتى سئل، وكان سمعه سبع مرات وأكثر (س). (¬1) في المطبوع و (ك): "أوجه". (¬2) ولم يصرح برفعها (س). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ق): "انفردوا". (¬5) في (ق): "أمورها". (¬6) مع العلم أن من المقطوع به أنهم لا يجتمعون على ضلالة صغيرة، فضلًا عن كبيرة، فلا يعدم ناطق بالحق، قائم به، مظهر له بين ظهرانيهم، والهمم على نقل فتاويهم وأقوالهم قوية، والدواعي متوفرة، خلافًا لزمن من بعدهم. أضف أن أقوالهم في بيان الأحكام، وكشف الشبهات، وما تعلق بالدين، سنة شرعية مكملة لمعاني الذكر ودلالات القرآن والسنة، وداخلة في ضمنه، توعد القرآن على اتباع غيرها، ودل عليها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للخروج من الاختلاف الكثير والفتن والضراء، فلا يجوز أن تجتمغ الأمة على تضييعها ونسيانها، يبعث اللَّه لها الطائفة الناجية المنصورة (س).

فصل [من وجوه فضل الصحابة]

السادس: أن يكون فَهِم ما لم يُرِده الرسول (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة، ومعلوم قطعًا أن وقوع احتمال (¬2) من خمسة أغلب [على الظن] (¬3) من وقوع احتمال واحد معيَّن، هذا ما لا يشك فيه عاقل [من بعده] (¬4)، يفيد ظنًا غالبًا قويًا على أن الصواب في قوله دون ما خالفه (¬5) من أقوال من بعده، وليس المطلوب إلا الظن الغالب، والعمل به متعين، ويكفي العارف هذا الوجه. فصل [من وجوه فضل الصحابة] هذا فيما انفردوا به عنا، أما المدارك التي شاركناهم فيها (¬6) من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أَبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا وأقل تكلّفًا وأقرب إلى أن يوفَّقوا فيها لما لم نوفق له نحن، لما خصَّهم اللَّه [تعالى] (¬7) به من توقّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلّة المعارض (¬8) أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى (¬9)، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم (¬10)، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح ¬

_ (¬1) في (ق): "ما لا يرده النبي". (¬2) "في أولى المصريتين: "وقوع احتمال الظن من خمسة. . . إلخ"، وكلمة: "الظن" مقحمة كما هو واضح" (د). قلت: وهو المثبت في (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وذلك". (¬5) في (ق): "دون من خالفه". (¬6) في (ق) و (ك): "هذا فيما انفرد به عنا، وأما المدارك التي شركناهم فيها". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) فكيف لو رأى ابن القيم من جعل طلب العلم آخر همه، وأرخص مطلوب له، وهام في كل واد، يخطب الدنيا، ويجمع لمهرها ثم يطلب العلم بفضلات الوقت والجهد؟ بل كيف لو رأى من استفرغ قوى فكره في رضا نفسه، واستقصاء لذاته؟؟ وأين موقع هذا وأمثاله من العلم وأهله؟ (س). (¬9) هذه بصيرة الإيمان التي لم تفسدها أوهام التقليد، ولم تزعزعها وساوس تقديس الرجال، ولم تغيرها القلوب المرعوبة من تعظيم الرجال بغير حق (س). (¬10) وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء (س).

والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا (¬1) عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران: أحدهما: قال اللَّه [تعالى] (¬2) كذا، وقال رسوله كذا. والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما (¬3) فقواهم متوفرة (¬4) مجتمعة عليهما، وأما المتأخرون فقواهم (¬5) متفرقة، وهممهم متشعبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول [وقواعدها قد أخذت منها شعبة] (6)، وعلم الإسناد و [أحوال] (¬6) الرواة [قد أخذ منها] (6) شعبة، وفكرهم في كلام مصنّفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية إنْ كان لهم هممٌ تسافر إليها وصلوا إليها بقلوبٍ وأذهانٍ قد كلَّتْ من السير في غيرها، وأوهن قواها (¬7) مواصلةُ السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب [تلك] (¬8) القوة، وهذا أمر يحس به الناظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها، ثم صار إليها وَافَاها بذهن كالٍ وقوة ضعيفة (¬9). وهذا شأن من استعمل قواه (¬10) في الأعمال غير المشروعة تَضعُف قوته عند ¬

_ (¬1) في (ق): "اغتنوا"، وفي (ك): "أغنوا". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) وما أبعد الفرق بين من تلقى السنة والفقه من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتلامذته من الصحابة، وبين من تلقاها عبر مئات السنين، فلا وجه للمقارنة بين الطرفين والواسطتين، فهذا من قياس الحدادين على الملائكة كما يقول شيخنا (س). (¬4) في (ق): "متوافرة". (¬5) في (ق): "فقلوبهم"! (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "وأوهن قواهم". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ط) و (ق) و (ك). (¬9) فكيف من قضى عمره في تحصيل وسائل العلم ومداخله؟ بل في تحصيل أصول علم واحد من هذه العلوم؟ ورغم ذلك يردد بعض الشباب أن الأعرابي كان يجلس ساعة في مجلس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم ينطلق إلى الجهاد، وكأنه يتصور أن شأن المتعلم في زماننا كشأن الأعرابي عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-! ونشأ بسبب هذا الفهم السطحي العابر تبرم وتأفف جماعات وأفراد ينتسبون إلى دعوة السنة من صرف الوقت والجهد في التعلم والتعليم، وتحقيق المسائل الحديثية والفقهية، أدى إلى زهد وتزهيد في طلب العلم، وإلى عيب أهله ولمزهم، وإلى دفع الشباب إلى حركات هوجاء، لا تقيم وزنًا للرأي العلمي، وتستريب بالتؤدة، وتعدها من مظاهر العطالة والعبث وأحيانًا من العمالة والقعود والتثبيط، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد (س). (¬10) في المطبوع: "استفرغ قواه".

العمل المشروع، كمن استفرغ قوَّته في السماع الشيطاني فإذا جاء قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالّة، وعزيمة باردة، وكذلك من صرف قوى حبِّه وإرادته إلى الصور أو المال (¬1) أو الجاه، فإذا طالب قلبه بمحبة اللَّه فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره، فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس، فإذا جاء إلى كلام اللَّه و [كلام] رسوله جاء بفكرة كالَّةٍ (¬2) فأعطى بحسب ذلك (¬3). والمقصود أن الصحابة أغناهم اللَّه تعالى عن ذلك كله (¬4)، فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفائها، وصحتها وسرعة إدراكها (¬5)، وكماله، وكثرة المعاون، وقلة المعاوق (¬6)، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقي من تلك المشكاة النبوية، فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا (¬7) أو شيوخهم أو من قلَّدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فليعرِّها (¬8) من الدين والعلم، واللَّه المستعان (¬9). الوجه الرابع والأربعون (¬10): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" (¬11) وقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬12): "لن تخلو الأرض من قائم للَّه بحُجَّة لكيلا تبطل حُجَجُ اللَّه وبيّناته" (¬13)، فلو جاز أن يخطئ الصحابة في حكم ولا ¬

_ (¬1) في (ق): "والمال". (¬2) وقد أعفى اللَّه الصحابة من حجب العجمة والتقليد، وبدع الكلام والتصوف، وما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) وكم أهلك ضعف التقوى من المسلمين، بل وصرفهم عن الدين بالكلية، فضلًا عن العلم (س). (¬4) وعلماء العربية في عصرنا -على قلتهم- كمن ينحت في جلمود أصم، وقل كذلك في علم الحديث، وأصول الفقه (س). (¬5) في المطبوع: "وقوة إدراكها"، وأشار (د) إلى نسختنا هذه. (¬6) في المطبوع: "وقلة الصارف". (¬7) في (ق): "وشيوخهم". (¬8) في المطبوع: "فليعزلها"، وفي (ق): "المسألة من المسائل". (¬9) هذا واللَّه القول الفصل، وصدق القائل: "قطعت جهيزة قول كل خطيب"، (س). (¬10) استكمل فيه الإمام ابن القيم سياق الأدلة على حجية أقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (س). (¬11) رواه مسلم (1920) في (الإمارة): باب قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزال طائفة من أمتي. . . " من حديث ثوبان. (¬12) في المطبوع: "كرم اللَّه وجهه ورضي عنه". (¬13) قطعة من وصية علي -رضي اللَّه عنه- لكميل بن زياد، وتخريجها مطولة في موضع آخر، واللَّه الموفق، وفي (ق): "كيلا" بدل "لكيلا".

يكون في [ذلك] (¬1) العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأمة قائم بالحق في [ذلك] (1) الحكم؛ لأنهم بين ساكت ومخطئ، ولم يكن في الأرض قائم للَّه بحجة في ذلك الأمر، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر، حتى نبغت نابغة فقامت بالحجة وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. الوجه الخامس والأربعون: أنهم إذا قالوا قولًا أو بعضهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مبتديًا لذلك القول ومبتدعًا له (¬2)، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضَّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، [فإن كل بدعة ضلالة"] (¬3)، وقول من جاء بعدهم يخالفهم من محدثات الأمور فلا يجوز اتّباعهم. وقال عبد اللَّه بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (¬4)، وقال أيضًا: إنَّا نقتدي (¬5) ولا نبتدي، ونتَّبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر (¬6)، وقال أيضًا: إياكم والتبدُّع، وإياكم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "أو مبتدعًا له". (¬3) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) أخرجه وكيع في "الزهد" (2/ 590/ رقم 315)، ومن طريقه أحمد في "الزهد" (162)، وابن وضاح في "البدع والنهي عنها" (10، 12، 14)، والدارمي في "السنن" (1/ 69)، وأبو خيثمة في "العلم" (رقم 54)، ومحمد بن نصر في "السنة" (ص 81)، والطبراني في "المعجم الكبير" (9/ 168 رقم 8770)، والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" (ق 51/ 2/ ورقم 460 من المطبوع)، وبحشل في "تاريخ واسط" (ص 198 - 199) وابن بطة في "الإبانة" (رقم 175)، واللالكائي في "شرح أصول اعئقاد أهل السنة والجماعة" (1/ 86/ رقم 104)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 204) وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 16 - 17) كلهم من طريق الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود به. وعند بعضهم مختصرًا، وإسناده صحيح، وانظر لآخره ما سيأتي قريبًا، وروي عن ابن مسعود مرفوعًا وموقوفًا. قال الهيثمي في "المجمع": (1/ 181): ورجاله رجال الصحيح. وصحح إسناده شيخنا الألباني في تعليقه على "العلم". (¬5) في (ق): "إنا لنقتدي". (¬6) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 147) واللالكائي في "السنة" (105، 106) من طريقين عن ابن مسعود، وجعله الهروي في "ذم الكلام" (رقم 337 - ط الغرباء ورقم 330 - ط الشبل) عن المسيب بن رافع قوله.

والتنطُّع، وإياكم والتعمق، وعليكم [بالدين] العتيق (¬1)، وقال أيضًا: أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال، أمور تكون من كُبرائكم، فأيما مُرَيّة أو رُجيل (¬2) أدرك ذلك الزمان فالسّمتَ الأول، فالسمتَ (¬3) الأول، فإنا اليوم على السنة (¬4). وقال أيضًا: [و] (¬5) إياكم والمحدثات؛ فإن شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ¬

_ (¬1) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف" (11/ 252/ رقم 20465)، والدارمي في "السنن" (1/ 54)، والطبراني في "الكبير" (9/ 189/ رقم 8845)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 387)، وابن حبان في "روضة العقلاء" (ص 37)، وابن وضاح في "البدع" (رقم 60)، وابن بطة في "الإبانة" (رقم 168، 169، 192)، وابن نصر في "السنة" (88)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 43 أو 1/ 167/ رقم 156 - ط دار ابن الجوزي)، والبيهقي في "المدخل" (387)، واللالكائي في "السنة" (1/ 87/ رقم 108)، وابن عبد البر في "الجامع" (1/ 592/ رقم 1017 - مختصرًا معلقًا) من طرق عن أبي قلابة عبد اللَّه بن زيد عن ابن مسعود. ورجاله ثقات، إلا أن أبا قلابة لم يسمع من ابن مسعود، قاله الهيثمي في "المجمع" (1/ 126). وقال البيهقي: "هذا مرسل، وروي موصولًا من طريق الشاميين". قلت: رواه عن ابن مسعود أبو إدريس الخولاني عند البيهفي "المدخل" (رقم 388)، وإسناده صحيح. وورد عن معاذ قوله: أخرجه الهروي في "ذم الكلام" (3/ 201 رقم 537 - ط - الشبل)، وابن وضاح في "البدع" (ص 32 - 33). (¬2) "تصغير رجل وامرأة" (و)، ووقع في (ق): "فأيما امرأة أو رجل". (¬3) "السَّمت هنا: الطريق" (و). (¬4) رواه الدارمي (1/ 71): أخبرنا عبد اللَّه بن محمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن واصل عن عائذة قالت: رأيت ابن مسعود يوصي الرجال والنساء ويقول: "من أدرك منكن من امرأة أو رجل فالسمت الأول، السمت الأول، فإنا على الفطرة". وهذه المرأة لم أعرفها، وجعلها ابن حجر في "إتحاف المهرة" (10/ 553) عائدة، بالدال المهملة، وترجمها ابن سعد في "طبقاته" وذكر أنها من بني أسد، ووقع عند اللالكائي (رقم 107) عاتكة بنت جزء! وأوردا لها هذا الأثر مسندًا من طريق واصل عنها، وذكر الذهبي في "الميزان" عن النساء بعامة: "لا أعلم من اتهمت ولا تركت "وقد توبعت على معناه، فقد ثبت من طرق عن ابن مسعود: "إنكم ستحدثون ويحدث لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

ضلالة (¬1)، وقال أيضًا: اتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر (¬2). ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه في "السنن" (رقم 46) -واللفظ له-، وابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 25)، والطبراني في "الكبير" (9/ 99 رقم 8519)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 385)، واللالكائي في "السنة" (رقم 84) من طريق موسى بن عقبة، والدارمي في "السنن" (رقم 2718)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (2/ 263 - 264/ رقم 1325)، والبزار في "البحر الزخار" (5/ 438/ رقم 2076)، والطبراني في "الكبير" (9/ 99/ رقم 8520) من طريق إدريس بن يزيد الأودي كلاهما عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود رفعه مطولًا. وأبو إسحاق هو عمرو بن عبد اللَّه السبيعي، اختلط، ورواية موسى بن عقبة عنه قبل الاختلاط، فالإسناد حسن. قال ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 173): "رواه ابن ماجه وابن أبي عاصم بأسانيد جيّدة" ثم ذكره موقوفًا، وجوده، وقال: (ص 174): "المشهور أنه موقوف على ابن مسعود". قلت: أخرج الموقوف من طرق عن ابن مسعود: البخاري في "الصحيح" (كتاب الأدب، باب في الهدي الصالح، رقم 6098) و (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسُنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقم 7277) (مختصرًا)، وفي "خلق أفعال العباد" (رقم 97 - مختصرًا جدًا)، والدارمي في "السنن" (1/ 69)، والبزار في "البحر الزخار" (5/ 418، 423/ رقم 2051، 2055، 2056) مطولًا، والطبراني في "الكبير" (9/ 98/ رقم 8518، 8521 - 8524، 8531)، وابن وضاح في "البدع" (رقم 57، 58)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 785)، و"الأسماء والصفات" (ص 189) أو (رقم 241 - ط الحاشدي)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 181 أو 2/ 1162/ رقم 2301 - ط ابن الجوزي)، وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (رقم 305)، واللالكائي في "السنة" (رقم 85). ورجاله موثوقون كما في "المجمع" (1/ 128). والحديث المرفوع عند ابن ماجه طويل، ومنه قطعة -ليس فيها الشاهد- عند مسلم في "الصحيح" (كتاب البر والصلة، باب تحريم النميمة/ رقم 2606)، من طريق شعبة عن أبي إسحاق به. ومن الطريق نفسه عند أحمد في "المسند" (1/ 410، 430، 437) بأطول منه. وأخرجه (1/ 423) من طريق معمر عن أبي إسحاق به، دون موطن الشاهد. ورفع شعبة ومن تابعه المرفوع، وجعل غيره كلام ابن مسعود في خطبته ضمن المرفوع، ولم يفصلوا بينهما!! "وقول شعبة ومن تابعه أولى بالصواب"، قاله الدارقطني في "العلل" (5/ 323 - 324/ رقم 916). وانظر: "الاعتصام" (1/ 100 - 102) وتعليقي عليه. ووقع في (ق): "وإن كل بدعة ضلالة". (¬2) أخرجه الدارمي في "السنن" (160)، وابن وضاح في "البدع" (رقم 94)، والبيهقي في "المدخل" (190)، والهروي في "ذم الكلام" (رقم 280 - مكتبة الغرباء)، وابن حزم في "الإحكام" (6/ 782)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 183 أو 1/ 458/ رقم 488 - =

وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: كان يقال: عليكم بالاستقامة والأثر، وإياكم والتبدع (¬1). وقال شُرَيح: إنما أقتفي الأثر، فما وجدتُ قد سبقنا إليه غيركم حدثتكم به (¬2). وقال [إبراهيم] (¬3) النخعي: [لو] (¬4) بلغني عنهم -يعني: الصحابة- أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرًا (¬5) ما جاوزته به، وكفى على قوم إزراءً (¬6) أن تخالف أعمالُهم أعمالَ أصحاب نبيهم [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬7). وقال عمر بن عبد العزيز: "إنه لم يبتدع الناس بدعة إلا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرة فيها (¬8)، والسنة إنما سنَّها (¬9) مَنْ علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمق والتَّعمُّق، فارْضَ لنفسك ما رضي القوم [لأنفسهم] " (¬10) وقال ¬

_ = ط دار ابن الجوزي) من طريق الأوزاعي عن عبدة بن أبي لبابة عن ابن عباس (فذكره). قلت: وسنده ضعيف؛ فإنه منقطع بين عبدة وابن عباس. (¬1) أخرجه الدارمي في "السنن" (رقم 141)، وابن وضاح في "البدع" (رقم 61) وابن بطة في "الإبانة" (157) والهروي في "ذم الكلام" (رقم 334) وابن أبي زمنين في "السنة" (رقم 12) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 173) من طريق زمعة بن صالح عن عثمان بن حاضر عن ابن عباس به. قلت: وسنده ضعيف؛ زمعة بن صالح ضعيف، وانظر: "التهذيب" لابن حجر (3/ 338 - 339). لكن رواه ابن نصر في "السنة" (رقم 83)، ثنا محمد بن يحيى، أنبأ أبو حذيفة، ثنا سفيان عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس به. قلت: وسنده ضعيف؛ لضعف أبي حذيفة -وهو موسى بن مسعود النهدي- قال الحافظ في "التقريب" (7010): "صدوق سيء الحفظ، وكان يصحف" فالأثر حسن بمجموع طريقيه، واللَّه أعلم. (تنبيه): ورد في بعض المصادر "إياكم والبدع"! وذكرهُ البغوي في "شرح السنة" (1/ 214)، وأبو شامة في "الباعث" (ص 70 - بتحقيقي)، والسيوطي في "الأمر بالاتباع" (ص 61 - بتحقيقي). (¬2) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1455) وإسناده صحيح، وفي (ك): "أفتي" بدل "أقتضي". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬5) في (ق): "الظفر". (¬6) في المطبوع و (ك): "وزرا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "دليل وخيره منها". وفي سائر النسخ: "وعبرة منها". (¬9) في (ق): "ما سنها إلا" وفي (ك): "ما أسنها"، وفي سائر النسخ: "ما استنها إلا" والمثبت من مصادر التخريج. (¬10) أخرجه أبو داود (4612) وابن وضاح في "البدع" (رقم 74) وأبو نعيم في "الحلية" =

أيضًا: "قف حيث وقف القوم، وقل كما قالوا، واسكت عما (¬1) سكتوا، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كَفُّوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، [أي] (¬2) فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: حَدَثَ بَعْدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، وإنهم لهُم السابقون، ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصِّر، ولا فوقهم محسِّر (¬3)، ولقد قصر عنهم قوم فجفوا، وطمح آخرون [عنهم] (2) فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم" (¬4). وقال أيضًا كلامًا كان مالك بن أنس وغيره من الأئمة يستحسنونه ويحدثون به دائمًا، قال: "سنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وولاة (¬5) الأمر بعده سننًا الأخذُ بها تصديق لكتاب اللَّه واستكمال لطاعته وقوة على دينه، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنّوا فقد اهتدى (¬6)، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولّاه اللَّه ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا" (¬7). ¬

_ = (5/ 338) وابن بطة في "الإبانة" (رقم 163)، واللالكائي في "السنة" (رقم 106) وأورده ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (1/ 70) والشاطبي في "الاعتصام" (1/ 63 - بتحقيقي). (¬1) في المطبوع: "كما" والمثبت من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، والعبارة في (ق): "وبالفضل عما كان فيه أحرى. . . ". (¬3) كذا في (ق): "محسر" بالحاء المهملة، وفي سائر النسخ بالجيم، وعند ابن وضاح: "محصر". (¬4) قطعة من الأثر السابق. (¬5) كذا في (ق) و (ك) وفي سائر الأصول: "لولاة"! (¬6) في (ق): "فمن اقتدى بها اهتدى". (¬7) أخرجه الآجري في "الشريعة" (ص 48، 65، 306)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (3/ 386) ومن طريقه اللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (1/ 94 رقم 134)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 73)، وابن بطة في "الإبانة" (1/ 352 - 353/ رقم 230، 231)، وابن عبد البر في "الجامع" (2/ 1176/ رقم 2326)، والهروي في "ذم الكلام" (ص 107، 199)، والمروزي في "السنة" (31)، وابن الجوزي في "سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز" (84)، وهو صحيح. هذا الكلام المذكور كان مالك يعجبه ويتحدث به كثيرًا هو وغيره من الأئمة كما ذكره الشاطبي في "الاعتصام" (1/ 144 - بتحقيقي) وشرحه شرحًا وافيًا وعلَّق عليه بكلامٍ متين، وفيه: "ومن كلامه -أي: عمر بن عبد العزيز- الذي عُني به ويحفظه العلماء، وكان يُعجب مالكًا جدًّا. . . " وساقه، وانظر "الموافقات" (3/ 30) و (4/ 461 - بتحقيقي).

ومِنْ هنا أخذ الشافعي الاحتجاج بهذه الآية على أن الإجماع حجة (¬1). وقال الشعبي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإِياك وآراء الرجال وإن زَخْرَفوا لك القول (¬2)، وقال أيضًا: ما حدثوك به عن أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فخذه، وما حدثوك [به] (¬3) عن رأيهم فانبذه في الحشِّ (¬4). قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقل بما قالوا، وكفَّ عما كفوا، ولو كان هذا خيرًا ما خُصصتم به دون أسلافكم؛ فإنهم لم يدخر عنهم خير [خبِّئ لكم دونهم لفضل عندكم] (¬5)، وهم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم الذين اختارهم [اللَّه] (¬6) له وبعثه فيهم ووصفهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (¬7)} الآية (¬8). الوجه السادس والأربعون: أنه لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم، ولا ينكره منكر منهم، ¬

_ (¬1) انظر: "أحكام القرآن" للبيهقي (1/ 39 - 40، دار الكتب العلمية) فقد نقل استدلال الشافعي بالآية على حجية الإجماع وقوله فيها. (¬2) رواه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (رقم 2077) والآجري في "الشريعة" (رقم 127) والهروي في "ذم الكلام" (رقم 120 و 324) عن الأوزاعي وليس الشعبي، وإسناده حسن، انظر: "مختصر العلوم" (ص 138). في (ك): "وان زخرفوها لك بالقول". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) رواه عبد الرزاق (11/ 256) والهروي في "ذم الكلام" (رقم 1419) وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1438)، وإسناده صحيح، والحش: هو النخل المجتمع أو البستان، ويكنى به عن مواضع الغائط؛ لأنهم كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، انظر: "اللسان" (6/ 286 - مادة حش/ دار الفكر)، وفي (ط) نحوه مختصرًا. (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "حتى يكون لكم الفضل دونهم". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) أخرجه الأصبهاني في "الحجة" (ق 7/ ب - 8/ أ) واللالكائي في "السنة" (1/ 154 - 155) والآجري في "الشريعة" (ص 58) والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص 7) والبيهقي في "المدخل" (رقم 233) والهروي في "ذم الكلام" (رقم 924) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 144)، وابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 8 - 9) وإسناده صحيح وذكره الذهبي في "السير" (7/ 120) والسيوطي في "الأمر بالاتباع" (ص 49). وهذه الآثار التي ساقها عن أئمة السلف تدل معانيها على أنها مقتبسة من مشكاة النبوة، ومن أنوار الوحي، (س).

وتصانيف العلماء شاهدة بذلك، ومناظراتهم ناطقة به. قال بعض علماء المالكية: أهل الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله، وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم، ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء (¬1) [كلهم] (¬2) على الاحتجاج بما لم يشرع اللَّه ورسوله الاحتجاج به ولا نصبه دليلًا للأمة، فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة، ووجدت ذلك طرازها وزينتها، ولم تجد فيها قط ليس قول أبي بكر وعمر حجة، ولا يُحتج بأقوال أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- و [لا] (¬3) فتاويهم، ولا ما يدل على ذلك، وكيف يطيب قلب عالم [أن] (¬4) يقدّم على أقوال من وافق ربه تبارك وتعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظًا ومعنى قولَ متأخر بعده ليس [له هذه] (¬5) الرتبة ولا [ما] (¬6) يدانيها؟ وكيف يظن أحد أن الظن [المستفاد من آراء المتأخرين أرجح من الظن] (¬7) المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التأويل وكان الوحي [ينزل] (¬8) خلال بيوتهم وينزل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بين أظهرهم؟. قال جابر: "والقرآن ينزل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يعرف تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به" (¬9) في حديث حجة الوداع؛ فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذي [هو] (¬10) يفصِّل القرآن ويفسره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عين المحال. فإن قيل: فإذا كان هذا حكم أقوالهم في أحكام الحوادث، فما تقولون في ¬

_ (¬1) انظر كلام الشافعي فيما يأتي، وما حكاه عمن أدركه من العلماء (س)، وفي (ق): "والحال" بدل "والحالة". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬5) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بهذه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك)، وفي (ق) قبلها: "ليس بهذه الرتبة". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بين". (¬9) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الحج): باب في حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (رقم 1218). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

أقوالهم في تفسير القرآن؟ هل هي حجة يجب المصير إليها؟ (¬1). قيل: لا ريب أن أقوالهم (¬2) في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع، قال أبو عبد اللَّه الحاكم في "مستدركه" (¬3): وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع. ومراده أنه ¬

_ (¬1) قال الشيخ القاسمي رحمه اللَّه: "فصل في أن بيان الصحابة حجة إذا أجمعوا، قال الشاطبي في "الموافقات": "بيان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيان صحيح لا إشكال في صحته؛ لأنه لذلك بعث، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} ولا خلاف فيه، وأما بيان الصحابة، فإن أجمعوا على ما بينوه، فلا إشكال في صحته أيضًا كما أجمعوا على الغسل في التقاء الختانين المبين لقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6]، وإن لم يجمعوا عليه، هل يكون بيانهم حجة أم لا؟ هذا فيه نظر وتفصيل، ولكنهم يترجح الاعتماد عليهم في البيان من وجهين"، وخلاصة هذين الوجهين: تقدمهم في اللسان وتفردهم بتمام معرفة اللغة عن غيرهم، فإذا جاء عنهم قول أو عمل واقع موقع البيان صح اعتماده، ومباشرتهم للوقائع وأسباب النزول، وكونهم أقعد في فهم قرائن الحال، فيدركون من ذلك ما لا يدرك غيرهم، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب: "فمتى جاء عنهم تقييد بعض المطلقات، أو تخصيص بعض العمومات، فالعمل عليه صواب". هذا إن لم ينقل عن أحد منهم خلاف في المسألة، فإن خالف بعضهم فالمسألة اجتهادية "محاسن التأويل" (1/ 102) وانظر "الموافقات" (4/ 127 - 129 - بتحقيقي). ومن هذا النقل نستفيد فوائد: 1 - تقدير الإمام الشاطبي الاحتجاج بتفسير الصحابة. 2 - موافقة الشيخ القاسمي له بنقل كلامه والاستدلال به. 3 - إن أجمعوا علبه كان حجة ملزمة، وما اختلفوا فيه جاز الاجتهاد فيه ضمن أقوالهم. 4 - أن أعمال وأقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم- تبين النصوص وتخصص عمومها، وتقيد مطلقها. (س). (¬2) في (ق): "قولهم". (¬3) ذكر ذلك السيوطي رحمه اللَّه في كتابه "الإتقان" (4/ 181 - ت محمد أبو الفضل)، لكن الذي رأيته في "المستدرك" للحاكم (2/ 258 - ط دار الفكر) في كتاب "التفسير": بعد تفسير قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)} قال ابن عباس: "الجن والإنس". قال الحاكم: "ليعلم طالب هذا العلم [أي التفسير] أن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل عند الشيخين حديث مسند" وانظره: (1/ 27، 123، 542). قلت: والحق أن تفسير الصحابي الذي لم يأخذ عن أهل الكتاب مسند فيما يتعلق بسبب النزول، وفيما يفسره إن كان مما لا مجال للاجتهاد فيه، ولا منقولًا عن لسان العرب فحكمه الرفع وإلا فلا، وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي، فيحتمل أن يكون =

في [حكمه في] (¬1) الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه (¬2) إذا قال الصحابي في الآية قولًا فلنا أن نقول: هذا القول قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، وله وجه آخر، وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين لهم معاني القرآن وفسّره لهم (¬4) كما وصفه اللَّه سبحانه (¬5) بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [لنحل: 44] فبين لهم القرآن بيانًا شافيًا كافيًا، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنًى سأله عنه فأوضحه [له] (¬6) كما سأله الصِّدِّيق عن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فبيَّن له المراد (¬7)، وكما سأله الصحابة عن قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فبيَّن لهم معناها (¬8)، وكما سألته أم سلمة عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] فبين لها أنه العرض (¬9)، وكما سأله عمر عن الكلالة [فأحاله على] آية الصَّيف التي في آخر السورة (¬10)، وهذا كثير جدًا، فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن ¬

_ = ذلك مستفادًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن القواعد، فلا يجزم برفعه، وكذا إذا فسر مفردًا، فهذا نقل عن اللسان خاصة، فلا يجزم برفعه، وهذا التحرير هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة، كصاحبي "الصحيح" والإمام الشافعي، والطبري، والطحاوي، وابن مردويه، والبيهقي وابن عبد البر في آخرين، ونقل مذهب الحاكم: العراقي في "شرح ألفيته" (1/ 132) وابن حجر في "النكت على كتاب ابن الصلاح" (2/ 531) وتعقبه بما ذكرناه، واللَّه الموفق. (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "حكم". (¬2) قال (د): "في نسخة: "لأنه إذا. . . إلخ ""، وفي (ق): "والاحتجاج به لا أنه". (¬3) ذكر الشيخ القاسمي رحمه اللَّه في "محاسن التأويل" أن الحاكم قيد في "علوم الحديث" ما أطلقه في "المستدرك" فقال: "ومن الموقوفات: تفسير الصحابة، وأما من يقول إن تفسير الصحابة مسند، فإنما يقوله فيما فيه سبب النزول"، انظر: "محاسن التأويل" (1/ 7)، وهذا هو الأقرب فإن إطلاق القول الأول بالفرق بين تفسير الصحابي، والتفسير المأثور عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (س). (¬4) في (ق): "وميزه لهم". (¬5) في المطبوع: "كما وصفه تعالى". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) سبق تخريجه. (¬8) سبق تخريجه. (¬9) روى ذلك البخاري (103) في (العلم): باب من سمع شيئًا فراجع حتى يعرفه، و (4939) في تفسير سورة {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، و (6536 و 6537) في (الرقاق): باب من نوقش الحساب عذب، ومسلم (2876) في (الجنة وصفة نعيمها): باب إثبات الحساب، من حديث عائشة، وليس من حديث أم سلمة -رضي اللَّه عنها-، وقد ذكر ذلك في الهامش (ق) فقال: "الذي في "الصحيح" أن السائلة عائشة -رضي اللَّه عنها-". (¬10) رواه مسلم (1617) في (الفرائض): باب ميراث الكلالة، من حديث عمر بن الخطاب، وبدل ما بين المعقوفتين في (ك): "فأجابه عن".

فتارة ينقلونه عنه بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون ما فسَّروه (¬1) بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها، وهذا أحسن الوجهين، واللَّه أعلم. فإن قيل: فنحن نجد لبعضهم أقوالًا في التفسير تخالف الأحاديث المرفوعة الصحاح، وهذا كثير، كما فسَّر ابن مسعود الدخان بأنه الأثر الذي حصل عن الجوع الشديد والقحط (¬2)، وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه دخان يأتي قبل يوم القيامة يكون من أشراط الساعة مع الدابة والدَّجال وطلوع الشمس من مغربها (¬3)، وفسر عمر بن الخطاب قوله [تعالى] (¬4): {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] بأنها للبائنة والرجعية، حتى قال: لا ندع كتابَ ربنا (¬5) لقول امرأة (¬6). مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير (¬7)، وفسَّر علي بن أبي طالب (¬8)، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أنها عامة في الحامل والحائل، فقال: تعتد أبعد الأجلين (¬9)، والسنة ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ما فسروا". (¬2) أخرجه البخاري في عدة مواضع من "الصحيح" منها: "كتاب التفسير": في تفسير سورة الروم (8/ 511/ رقم 4774)، وباب {يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} (8/ 571/ رقم 4821)، وباب {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} (8/ 573 /رقم 4822)، وباب {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} (8/ 573 /رقم 4823)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب صفات المنافقين وأحكامهم): باب الدخان (4/ 2155 - 2157/ رقم 2798) عن ابن مسعود. (¬3) روى مسلم في "صحيحه" (2947) في (الفتن وأشراط الساعة): باب في بقية من أحاديث الدجال عن أبي هريرة مرفوعًا: "بادروا بالأعمال ستًا: طلوع الشمس من مغربها أو الدخان". روى أيضًا (2901) في (الآيات التي تكون قبل الساعة) من حديث حذيفة بن أسيد مرفوعًا: "إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خَسْفٌ بالمشرق. . . والدخان". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "كتاب ربنا وسنة نبينا". (¬6) رواه مسلم في "الصحيح" (كتاب الطلاق): باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها (2/ 1117/ 1480 [46])، وتفسير عمر إنما هو لآية: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} كما هو مبين في الحديث نفسه. (¬7) هو في نفس الحديث السابق في "صحيح مسلم" (1480) بعد (36) - (51). (¬8) في المطبوع زيادة: "كرم اللَّه وجهه". (¬9) روى عبد الرزاق (11714)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (9641) عن معمر والثوري عن الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن مسروق قال ابن مسعود. . . =

الصحيحة بخلافه (¬1)، وفسر ابن مسعود قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] بأن الصفة لنسائكم الأولى والثانية، فلا تحرم أم المرأة حتى يدخل بها (¬2)، والصحيح خلاف قوله، وأن أم المرأة تحرم بمجرد العقد على ابنتها، والصفة راجعة إلى قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وهو قول جمهور الصحابة (¬3)، وفسَّر ابن عباس السجل بأنه كاتب للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسمَّى السجل (¬4)، ¬

_ = قال: وبلغه أن عليًا قال: هي آخر الأجلين، ورواه البيهقي (7/ 430) من طريق أبي معاوية عن الأعمش به ثم قال: وعن أبي مسلم عن علي كان يقول: آخر الأجلين. ورواه سعيد بن منصور (1516) من طريق الأعمش عن مسلم بن صبيح عن علي -رضي اللَّه عنه-. ومسلم بن صبيح لم يسمع من علي. ورواه سعيد بن منصور (1517)، والطبري (28/ 143) من طريقين عن مغيرة عن الشعبي عن علي به. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، المغيرة هو ابن المقسم، وعزا السيوطي في "الدر المنثور" قول علي لابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه. (¬1) رواه البخاري (5319) في "الطلاق": باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ومسلم (1484) في "الطلاق": باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها بوضع الحمل، من حديث سبيعة الأسلمية. ورواه البخاري (5318) ومسلم (1485) من حديث أم سلمة. ورواه البخاري (5320) من حديث المِسور بن مخرمة. وفي (ك): "تخالفه". (¬2) تقدم تخريجه، وفيه رجوع ابن مسعود عن هذا. وفي (ك): "إلا أن يدخل بها". (¬3) وقال الحافظ ابن كثير: "وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم، بخلاف الأم، فإنها تحرم بمجرد العقد (1/ 470) (س). وانظر "مسائل أحمد" رواية صالح (2/ 97 رقم 651، 652). (¬4) رواه ابن عدي في "الكامل" (7/ 2662)، والطبراني في "الكبير" (12790)، والبيهقي (10/ 126) من طريقين عن يحيى بن عمرو بن مالك النكري سمعت أبي يحدث عن أبي الجوزاء عن ابن عباس فذكره. وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي ذكرتها عن يحيى بن عمرو وأحاديث أخر بهذا الإسناد عن يحيى بن عمرو بن مالك مما لا أذكرها وليس ذلك بمحفوظ أيضًا. فجعل العهدة على يحيى، وهو في حديثه هنا متابع. فقد رواه أبو داود (2935) في (الخراج): باب في اتخاذ الكاتب -ومن طريقه البيهقي (10/ 126) - والنسائي في "تفسيره" (رقم 355) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (3/ 1454 رقم 3686)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (3/ 209) من طريق قتيبة بن سعيد عن نوح بن قيس عن يزيد بن كعب عن عمرو بن مالك به. ورواه ابن جرير الطبري (17/ 100) من طريق نصر بن علي الجهضمي والنسائي في "التفسير" (رقم 356) وأبو نعيم في "المعرفة" (رقم 3685) من طريق قتيبة بن سعيد كلاهما عن نوح بن قيس عن عمرو بن مالك به، دون ذكر يزيد بن كعب. أقول: أظن أن الصواب إثبات يزيد بن كعب حيث صرح نوح بالسماع منه فقال: أخبرني يزيد بن كعب، وقد ذكروا في ترجمة نوح أنه يروي عن عمرو بن مالك، لكن نوح توفي سنة (183) أو (184) وعمرو بن مالك مات سنة (129) فينظر في سماعهما من بعض. ونوح بن قيس لا بأس به، قد أخرج له مسلم. ويزيد بن كعب مجهول. . . انظر "تهذيب الكمال" (32/ 230). وأما عمرو بن مالك النُّكْريّ، فقد ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال: "يعتبر حديثه من غير رواية ابنه عنه، يخطئ ويُعْرب". وقد ذكر هذه العبارة ابن حجر في "تهذيب التهذيب" أما في "التقريب" فقال: صدوق له أوهام، وعبارة ابن حبان رحمه اللَّه أدق فيا ليت الحافظ نقلها في "التقريب"، وأما الحافظ الذهبي في "الميزان" و"المغني في الضعفاء" فقال عنه: ثقة!! ولا أدري من أين جاء بهذا التوثيق؟! وفي "الكاشف" له (2/ 87): "وثق" وهذا قوله فيما انفرد ابن حبان بتوثيقه بينما اقتصر في "ديوان الضعفاء" (رقم 3207) على قوله: "قال ابن عدي: كان يسرق الحديث". وله شاهد من حديث ابن عمر: رواه الخطيب البغدادي (8/ 175)، وابن مردويه، وابن منده -كما في "الإصابة" (2/ 15) - في ترجمة سجل، من طريق حمدان بن سعيد عن ابن نمير عن عبيد اللَّه عن نافع عنه به. ورواه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1453 رقم 3684) لكن قال: حمدان بن علي، قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة": إن كان هو ابن علي فهو ثقة معروف واسمه محمد بن علي بن مهران، وكان من أصحاب أحمد، لكن قد رواه الخطيب في ترجمة حمدان بن سعيد من "تاريخه". أقول: وقد قال الخطيب بعد روايته: "قال البرقاني: قال أبو الفتح الأزدي: تفرد به ابن نمير إن صح". قال الحافظ ابن حجر متعقبًا: "قلت: ابن نمير من كبار الثقات، فهذا الحديث صحيح بهذه الطرق وغفل من زعم أنه موضوع". أقول: طريق ابن عباس الأول قد علمت ما فيه، وأما طريق ابن عمر هذا ففيه حمدان بن سعيد هذا، وقد ذكره الخطيب ولم يذكر فيه شيئًا، ومثل هؤلاء المجاهيل يأتي منهم الطامات في العادة، لذلك قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (3/ 209): "منكر =

وذلك وهم، وإنما السجل الصحيفة المكتوبة، واللام مثلها في قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] وفي قول الشاعر (¬1): فخرَّ صريعًا لليدين وللفم أي نطوي (¬2) السماء كما يُطوى السجل على ما فيه من الكتاب (¬3)، وهذا كثير جدًا، فكيف يكون تفسير الصحابي حجة في حكم المرفوع؟ قيل: الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء [بسواء] (¬4)، وصورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء، وصورتها أن لا يكون في المسألة نص يخالفه (¬5)، ¬

_ = جدًا من حديث نافع عن ابن عمر لا يصح أصلًا، وكذلك ما تقدم عن ابن عباس، من رواية أبي داود وغيره لا يصح أيضًا، قد صرّح جماعة من الحفاظ بوضعه، وإن كان في "سنن أبي داود" منهم شيخنا الحافظ الكبير أبو الحجاج المزي، وقد أفردت لهذا الحديث جُزءًا على حدته وللَّه الحمد". وقال الإمام ابن جرير الطبري: "لا يعرف في الصحابة أحد اسمه السجل، وكتَّاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معروفون وليس فيهم أحد اسمه السجل". ومما يدلل على نكرته ما قاله المصنف في "تهذيب السنن" (4/ 196 - 197): "سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية يقول: هذا الحديث موضوع ولا يعرف لرسول اللَّه كاتب اسمه السجل قط، وليس في الصحابة من اسمه (السجل)، وكتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معروفون، لم يكن فيهم من يقال له السجل" قال: "والآية مكية، ولم يكن لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كاتب بمكة" قال: "والسجل هو الكتاب المكتوب". وانظر: "تفسير الرازي" (22/ 228) و"اللباب" لابن عادل (13/ 614) و"عون المعبود" (8/ 154) و"المصباح المضيء في كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 80 - 81). أقول: قد لا يتهيأ الحكم على الحديث بالوضع، لكن فيه نكارة كما قال ابن كثير، أما أنه يصحح كما فعل الحافظ ابن حجر ففيه نَظَر؛ واللَّه أعلم. (¬1) عزي البيت لأكثر من شاعر فهو في "شرح اختيارات المفصل" (955) و"شواهد المغني" (2/ 562) لجابر بن حني، وفي "الأزهية" (288) للأشعث الكندي، وفي "الأغاني" (16/ 32) لربيعة بن مكدم، وفي "معجم الشعراء" (270) لعصام بن المقشعر، وفي "أدب الكاتب" (511)، و"الجنى الداني" (101)، و"رصف المباني" (221)، و"شرح الأشموني" (2/ 291)، و"مغني اللبيب" (1/ 212) بغير عزو. وانظر: "المعجم المفصل في شواهد اللغة العربية" (7/ 392). (¬2) في المطبوع و (ك): "يطوي". (¬3) بعدها في (ك): "والسنة"!! (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك). (¬5) يبقى ثمة إشكال في ضابط التفريق بين التفسير أو الفتيا المخالفة للنصوص، وغير المخالف للنصوص، والذي يلوح لي ولست قادرًا على الجزم به أن وجود الاختلاف بين الصحابة في الفتيا أو التفسير هو علامة مخالفة النصوص، إذ يغلب على الظن أن من =

ويقول في الآية قولًا لا يخالفه (¬1) فيه أحد من الصحابة، سواء علم اشتهاره (¬2) أو لم يعلم، وما ذكر من هذه الأمثلة فقد فُقد فيه الأمران (¬3)، وهو نظير ما رُوي عن بعضهم من الفتاوى التي تخالف النص وهم مختلفون فيها سواء. فإن قيل: لو كان قوله حجة بنفسه لما أخطأ، ولكان معصومًا، لتقوم الحجة بقوله، فإذا كان يفتي بالصواب تارة وبغيره أخرى، وكذلك تفسيره فمن أين لكم أن هذه الفتوى المعينة والتفسير المعين من قسم الصواب؟ إذ صورة المسألة أنه لم يقم على المسألة دليل غير قوله، وقوله ينقسم فما الدليل على أن هذا القول المعين من أحد القسمين ولا بد؟ قيل: الأدلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة، وهو أنه (¬4) من الممتنع أن يقولوا في كتاب اللَّه الخطأ المحض، ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به، وهذه الصورة المذكورة وأمثالها قد تكلَّم فيها غيرهم بالصواب، والمحظور إنما هو خُلُوُّ عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط، فهذا هو المحال، وبهذا خَرَجَ الجوابُ عن قولكم: لو كان قولُ الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ، فإن قوله لم يكن بمجرده حجة، بل بما انضاف إليه مما تقدم ذكره من القرائن (¬5). ¬

_ = المستبعد أن تتحقق مخالفة النص فيما لم يختلفوا فيه، والأمر بحاجة إلى مزيد استقراء وتتبع، واللَّه الموفق (س). قلت: للأستاذ عبد الكريم النملة دراسة قيمة مطبوعة بعنوان "مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف، دراسة نظرية تطبيقية" فانظرها فإنها مفيدة. (¬1) في (ق): "يخالف". (¬2) في المطبوع: "لشتهاره". (¬3) فالأمثلة السابقة خلافية بين الصحابة، كما أن الأقوال الواردة فيها مخالفة للنصوص (س). وفي (ك): "قد فقد". (¬4) في المطبوع: "أن". (¬5) فالدليل على انحصار الصواب في قوله مترتب على عدة مقدمات: 1 - أن القول ليس على خلاف نص ظاهر الدلالة. 2 - أن الصواب لا يعدو جماعة الصحابة لأنهم أولى به، ولو اجتمعوا على تركه لكانوا على ضلالة وهذا محال باطل. 3 - أن غيره من الصحابة لم يخالفه فيه، ولم ينكره عليه، وهذا وجه أول، وجاء في الأثر عن ابن عباس، انظر: "تفسير القرآن العظيم" (1/ 6). أن التفسير أربعة أنواع: =

فإن قيل: فبعض ما ذكرتم من الأدلة يقتضي أن التابعي إذا قال قولًا ولم يخالفه صحابي ولا تابعي أن يكون قوله حجة (¬1). فالجواب: أن التابعين انتشروا انتشارًا لا ينضبط لكثرتهم، وانتشرت المسائل في عصرهم، فلا يكاد يغلب على الظن عدمُ المخالف لما أفتى به الواحد منهم، فإن فرض ذلك فقد اختلف السلف في ذلك، فمنهم من يقول: يجب اتباع التابعي فيما أفتى به ولم يخالفه [فيه] (¬2) صحابي ولا تابعي، وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية (¬3)، وقد صرح الشافعي في موضع بأنه قاله تقليدًا لعطاء، وهذا من كمال علمه وفقهه -رضي اللَّه عنه- (¬4)، فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء (¬5)، فكان قوله عنده أقوى ما وجد في المسألة، وقال في موضع آخر: وهذا يخرَّج على معنى قول عطاء، والأكثرون يفرقون بين الصحابي والتابعي، ولا يخفى ما بينهما (¬6) من الفروق، على أن في الاحتجاج بتفسير التابعي عن الإمام أحمد روايتين، ومن تأمَّل ¬

_ = - وجه تعرفه العرب من لغاتها. - وتفسير لا يعذر أحد بجهالته. - وتفسير يعلمه العلماء. - وتفسير لا يعلمه إلا اللَّه. فالحجة في الأول معرفة كلام العرب والصحابة أعلم الناس بلغتهم وإليهم المرجع عند الاختلاف. والثاني: يستوي الناس في العلم به، ولا يتصور فيه خلاف. والثالث: يرجع فيه إلى الراسخين الذين شهدوا التنزيل، وعرفوا قرائن الحال، ومقاصد الشريعة والسنة التي تفصله وتفسره والصحابة في الذروة من هذه الطبقة، والناس تبع لهم فيها. والرابع: لا حاجة لأحد فيه في الدنيا. فتحرر يقينًا أن قول الصحابة في التفسير مقدم على كل قول في كل أنواع التفسير، وهذا وجه ثان (س). (¬1) إذا لم يخالف قوله صحابي ووافق دلالة اللغة أو مصلحة مرسلة، أو استصحابًا، أو وصفًا حكم به صحابي فالظاهر وجوب الأخذ به، ووجوبه في غير ذلك يتعلق بالاطمئنان إليه (س). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) انظر: "المسودة في أصول الفقه" (176) و"البرهان في علوم القرآن" (2/ 158) و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (13/ 370) و"الإرشاد" (1/ 396) للخليلي و"الإتقان" (2/ 229) ومقدمة "تفسير ابن كثير" (1/ 15) و"الحجة البالغة" (1/ 118). (¬4) في (ق): "رحمه اللَّه". (¬5) في (ق): "إلا قول عطاء". (¬6) في (ق): "فيهما".

كتب الأئمة ومن بعدهم وجدَهَا مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي (¬1). فإن قيل: فما تقولون في قوله (¬2) إذا خالف القياس؟ قيل: من يقول بأن قوله ليس بحجة (¬3) فلهم قولان فيما إذا خالف القياس: أحدهما: أنه أولى أن لا يكون حجة؛ لأنه قد خالف حجَّة شرعية، وهو ليس بحجة في نفسه. والثاني: أنه حجة في هذه الحال، ويحمل [على] (¬4) أنه قاله توقيفًا، ويكون بمنزلة المُرْسَل الذي عمل به مُرْسِلُه. وأما من يقول: إنه حجة (¬5) فلهم أيضًا قولان: أحدهما: أنه حجة، وإن خالف القياس، بل هو مقدَّم (¬6) على القياس، ¬

_ (¬1) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (13/ 368)، و"مقدمة في أصول التفسير" (91) لابن تيمية، و"البرهان" (2/ 58) للزركشي، و"الإتقان" (2/ 229)، و"تفسير القرطبي" (1/ 25)، و"تفسير القاسمي" (1/ 8)، و"تفسير التابعين" (1/ 49 وما بعد). (¬2) قول الصحابي، كما هو ظاهر السياق (س). (¬3) وقد علمت أن هذا قول محدث لم يؤثر عن أحد من السلف والأئمة الذين يعتد بقولهم، وأن الأدلة على خلافه (س). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ويتفرع على الاحتجاج بقول الصحابي فيما لا يخالف له أن الصحابة مجتهدون إذ لا حجة في قول غير العالم، وكلمة أئمة السلف مطبقة على الاحتجاج بقول الصحابي وهذا الاحتجاج يدل على أنهم علماء مجتهدون لديهم. - وأظهر من ذلك في الدلالة تقديم قول الصحابة على القياس، كما هو عند الشافعي نصًا، فالقياس حجة شرعية ولا يعقل تقديم قول غير الحجة. - ويدل على ذلك عموم النصوص القاضية باتباع الصحابة، دون تفريق بين الصحابة، أو تخصيص للاتباع بفريق منهم دون البقية، وذكر بعضهم في بعض النصوص لا يدل على التخصيص. - لم يؤثر عن أحد من الأئمة التصريح بتخصيص الاتباع بطائفة من الصحابة بدعوى أن غيرهم غير مجتهد، فالتخصيص محدث. - إن أدوات الاجتهاد من اللغة ومعرفة الأدلة، ومعرفة مقاصد التشريع وأسباب النزول متوفرة عند الصحابة والتفاوت بينهم في ذلك كالتفاوت بين طبقات العلماء في معرفة النصوص والذكاء، بل إن هذه الأدوات لم تتوفر لجيل إلا عن طريقهم والناس في هذا كله عالة عليهم، ولا يضرهم تتلمذ بعضهم على صحابي، وإلا لزم إبطال علم كل التابعين فمن بعدهم (س). (¬6) في (ق): "يقدم".

فصل [فوائد تتعلق بالفتوى]

والنص مقدم عليه، فترتب الأدلة عندهم: القرآن، ثم السنة، ثم قول الصحابي، ثم القياس (¬1). والثاني: ليس بحجة؛ لأنه قد خالف دليلًا شرعيًا (¬2) وهو القياس؛ فإنه لا يكون حجة إلا عند عدم المُعارض، والأوَّلون يقولون: قول الصحابي أقوى من المعارض الذي خالفه هن القياس لوجوه عديدة (¬3)، والأخذ بأقوى الدليلين متعيّن، وباللَّه التوفيق. فصل (¬4) [فوائد تتعلق بالفتوى] ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى. [أنواع الأسئلة] الفائدة الأولى: أسئلة السائلين لا تخرج عن أربعة أنواع لا خامس لها (¬5): ¬

_ (¬1) ومن هؤلاء الإمام الشافعي رحمه اللَّه كما تقدم (س)، وفي (ق): "الصحابة" بدل "الصحابي". (¬2) في المطبوع و (ك): "قد خالفه دليل شرعي". (¬3) من هذه الوجوه إن القياس اجتهاد القائس، وليس بنص، وهو محجوج باجتهاد الصحابي الذي خالف قوله، واجتهاد الصحابي مقدم على اجتهاد غيره. ومنها أن اجتهاد الصحابي مؤيد بسكوت الصحابة عن مخالفته، وهو شاهد بصوابه، بخلاف اجتهاد القائس، الذي خالف قول الصحابي واقرار الصحابة خلاف قياسه، وتركهم القول بدلالة هذا القياس، وهذا كافٍ في إبطاله لمن رزق فهم منهج السلف، واللَّه الموفق (س). (¬4) جاء في بداية النسخة (ت): "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد للَّه رب العالمين والصلاة والسلام على محمد المصطفى الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين. قال شيخ الإسلام أحد الأئمة الأعلام شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن أبي بكر الزرعي في آخر كتاب إعلام الموقعين. . . ". (¬5) انظر: "الكافية في الجدل" للجويني (ص 77)، و"علم الجذل في علم الجدل" لنجم الدين الطوفي (ص 31)، و"الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي (2/ 40/ دار الكتب العلمية)، و"المنهاج في ترتيب الحجاج" للباجي (ص 34 - فما بعد- دار الغرب الإسلامي)، و"شرح الكوكب المنير" (4/ 584 - فما بعد)، و"جامع بيان العلم وفضله" (2/ 139 - دار الكتب العلمية)، و"جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 240 - 252، مؤسسة الرسالة).

الأول: أن يَسْأل عن الحكم فيقول: ما حكم كذا وكذا؟. الثاني: أن يسأل عن دليل الحكم. الثالث: أن يسأل عن وجه دلالته. الرابع: أن يسأل عن الجواب عن معارضيه (¬1). فإن سأل (¬2) عن الحكم، فللمسئول حالتان؛ إحداهما: أن يكون عالمًا به. والثانية: أن يكون جاهلًا به فإن كان جاهلًا به حرم عليه الإفتاء، بلا علم، فإن فعل، فعليه إثمه وإثم المُستفتي، فإن كان يعرف في المسألة ما قاله الناس، ولم يتبيَّن له الصواب من أقوالهم، فله أن يذكر له ذلك فيقول: فيها اختلاف بين العلماء ويحكيه إن أمكنه للسائل، وإن كان عالمًا بالحكم فللسائل حالتان: إحداهما: أن يكون قد حضره وقت العمل وقد احتاج إلى السؤال، فيجب على المُفتي المبادرة على الفور إلى جوابه، فلا يجوز له تأخير [بيان الحكم له] (¬3) عن وقت الحاجة. والحالة الثانية: أن يكون قد سأل عن الحادثة (¬4) قبل وقوعها، فهذا لا يجب على المفتي أن يجيبه عنها، وقد كان السلف الطيّب إذا سئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل: هل كانت أو وقعت، فإن قال: لا، لم يجبه، وقال: دعنا في عافية (¬5)، وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، فالضرورة تبيحه، ¬

_ (¬1) في (ت) و (ك) و (ق): "معارضة". (¬2) في (ق): "سُئِل". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "البيان". (¬4) في (ق): "الحاجة". (¬5) هناك شواهد كثيرة عن السلف تدل على كراهيتهم السؤال عن الحوادث قبل وقوعها، تراها في مقدمة "سنن الدارمي" (باب كراهة الفتيا)، و"الفقيه والمتفقه" (2/ 7، باب القول في السؤال عن الحادثة والكلام فيها قبل وقوعها)، و"جامع بيان العلم" (2/ 1037 وما بعدها - ط ابن الجوزي، باب ما جاء في ذم القول في دين اللَّه تعالى وبالرأي والظن والقياس على غير أصل، وعيب الإكثار من المسائل دون اعتبار)، و"المدخل إلى السنن الكبرى" للبيهقي (ص 218 وما بعدها، باب من كره المسألة عما لم يكن ولم ينزل به وحي)، و"تعظيم الفتيا" (ق 5/ أ) و"الآداب الشرعية" (2/ 76 - 79) لابن مفلح، و"الموافقات" (5/ 378 - 379 - بتحقيقي). وانظر في الكلام على هذا المسلك في الفقه وتأريخه والمقدار المحمود منه في "أحكام القرآن" لابن العربي (2/ 700)، و"أحكام القرآن" للجصاص (2/ 483)، و"جامع العلوم والحكم" (شرح الحديث التاسع، 1/ 243)، و"الفقيه والمتفقه" (2/ 9 - 12)،=

كما تبيح الميتة عند الاضطرار، وهذا إنما هو في مسألة لا نصَّ فيها، ولا إجماع، فإن كان فيها نص أو إجماع فعليه تبليغه بحسب الإمكان، فـ"من سئل عن علم فكتمه ألجمه اللَّهُ يوم القيامة، بلجامٍ من نار" (¬1)، هذا إذا أَمِن المفتي غائلة ¬

_ = و"الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (2/ 117 - 122)، و"منهج السلف في السؤال عن العلم وفي تعلُّم ما يقع وما لم يقع". (¬1) ورد من حديث جمع من الصحابة من أصحها: حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص: رواه ابن حِبَّان (96)، والحاكم (1/ 102)، وابن المبارك في "الزهد" (119)، والبيهقي في "المدخل" (575)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 38 و 39)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (8)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (123) من طرق عن ابن وهب: حدثني عبد اللَّه بن عيَّاش بن عيَّاس عن أبيه عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ عنه. قال الحاكم: هذا إسناد صحيح من حديث المصريين على شرط الشيخين، وليس له علة، وسكت عنه الذهبي. أما ابن الجوزي فقال: فيه عبد اللَّه بن وهب الفسوي (ويقال: النسوي)، قال ابن حبان: دجَّال يضع الحديث. وقد رد عليه ابن القيم في "تعليقه على مختصر السنن" للمنذري (5/ 251 - 252)، والحافظ العراقي في "إصلاح المستدرك"، كما في "شرح الإحياء" (1/ 109) بأن عبد اللَّه بن وهب النسوي متأخر عن هذه الطبقة، وأن عبد اللَّه في هذا السند إنما هو ابن وهب القرشي الثقة المعروف. لكن في السند عبد اللَّه بن عياش، قال عنه أبو حاتم: ليس بالمتين، يكتب حديثه وهو قريب من ابن لهيعة، وقد ضعَّفه أبو داود والنسائي، وقد روى له مسلم حديثًا واحدًا في الشواهد. وقال ابن يونس: منكر الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" فهو حديث حسن في الشواهد، أما أن يصحح أو يحسن لذاته فلا. وقد عزاه الهيثمي في "المجمع" (1/ 163) للطبراني في "الكبير" (رقم 33 - قطعة من الجزء 13) - ط حمدي السلفي)، و"الأوسط" (رقم 5027)، وقال: رجاله موثقون. أقول: وفي هذا الباب أيضًا حديث أبي هريرة، وقد أعرضت عن ذكره لوقوع اختلاف في إسناده لطول الحديث عنه. وقد حَسَّن أو صحح حديث أبي هريرة، الترمذي في "سننه" (2649)، والذهبي في "الكبائر" (ص 122 - بتحقيقي)، وابن القيم في "تهذيب السنن" (5/ 251)، والعراقي كما في "شرح الإحياء" (1/ 109)، وابن حجر في "القول المسدد" (ص 11)، ومشَّاه العقيلي (1/ 74) فقال: إسناده صالح. أما ابن الجوزي رحمه اللَّه فقد ذكر الحديث في "العلل المتناهية" (1/ 96 - 107)، وذكر طرقه كلها عن عشر من الصحابة وضعفها كلها، وقال: لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-!! وكذا ذكره الموصلي في كتابه "المغني" (ص 105)، وهذا فيه مبالغة، نعم في بعض طرقه =

[للمفتي العدول عن السؤال إلى ما هو أنفع]

الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها، وخاف من ترتُّب شرٍّ أكبر (¬1) من الإمساك عنها، أمسك عنها ترجيحًا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وقد أمسك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم [عليه السلام] (¬2)؛ لأجل حَدَثان عهد قريش بالإسلام، وإن ذلك ربما نفَّرهم عنه بعد الدخول فيه (¬3)، وكذلك إن كان عَقْل السائل لا يحتمل الجواب عما سأل عنه وخاف المسؤول أن يكون فتنة له أمسك عن جوابه، قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬4) لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أنَّي لو أخبرتُك بتفسيرها كفرتَ به؟ أي جَحَدته، وأنكرته، وكَفَرت به (¬5)، ولم يرد أنك تكفر باللَّه ورسوله. [للمفتي العدول عن السؤال إلى ما هو أنفع] الفائدة الثانية: يجوز للمفتي أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه [إلى ما هو أنفع له منه، ولا سيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه] (¬6) وذلك من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه، وقد قال تعالى (¬7): {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] (¬8)} [البقرة: 215] فسألوه عن المُنْفَق؟ فأجابهم بذكر المصرف؛ إذ هو أهم مما سألوا عنه ونبَّههم عليه بالسياق مع ذكره لهم في موضع آخر، وهو قوله [تعالى] (¬9): {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وهو ما سهل عليهم (¬10) [إنفاقه]، ولا يضرهم إخراجه (¬11)، وقد ظنَّ بعضهم أن من ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ¬

_ = ضعف شديد، لكن لو لم يرد إلا من طريق ابن عمرو وأبي هريرة لكفى في تقويته. فانظر مفصلًا "شرح الإحياء" للزبيدي، و"جُنَّة المرتاب" لأخينا أبي إسحاق الحويني (ص 105 - 119)، و"جامع بيان العلم" مع التعليق عليه (1/ 3 - 18). (¬1) في المطبوع: "شر أكثر"! وفي (ك): "ترتيب". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع، و (ق). (¬3) أخرجه البخاري في عدة مواضع من "الصحيح" منها: (كتاب الحج): باب فضل مكة وبنيانها (3/ 439 رقم 1584)، والمذكور لفظه، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الحج): باب نقض الكعبة وبنائها (2/ 968 - 969/ رقم 1333) عن عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬4) في المطبوع: "عنه". (¬5) في (ت): "فكفرت به". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في (ك): "وقال اللَّه تعالى". (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية" اختصارًا. (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في (ت): "ما سَهُل عليه"! (¬11) في (ق) و (ك): "ولم يضرهم إخراجه".

الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فسألوه عن سبب ظهور الهلال خفيًا، ثم لا يزال يتزايد فيه (¬1) النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان؟ فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر [عبادة من] عباداتهم، وهو الحج (¬2). فإن (¬3) كانوا قد سألوا عن السبب، فقد أُجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك، فقد أُجيبوا عن عين ما سألوا عنه ولفظ سؤالهم محتمل، فإنهم قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقًا، ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم، ثم يأخذ في النقص. ¬

_ (¬1) في (ت): "يتزايد منه". (¬2) ذكره الغزالي في "الإحياء"، وقال العراقي: "لم أقف له على إسناد". قلت: أخرجه ابن عساكر في "تاريخه" (1/ ق 6)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 269) من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به. وإسناده واهٍ، فيه السدي والكلبي، وضعّفه السيوطي في "الدر المنثور" (1/ 490). وأخرجه ابن جرير في "التفسير" (2/ 185 - 186)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (1/ 123/ أ) عن أبي العالية؛ قال: بلغنا أنهم قالوا: يا رسول اللَّه! لم خلقت الأهلة؟ فنزلت. وفيه أبو جعفر الرازي وأبوه، وكلاهما ضعيف. وأخرج نحوه ابن جرير ويحيى بن سلام -كما في "العجاب" (1/ 454) - عن قتادة بسندٍ رجاله ثقات؛ إلا أنه مرسل. وانظر: "الفتح السماوي" (1/ 231 - 232) للمناوي، و"لباب النقول" (ص 35) للسيوطي، و"تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/ 118 - 119)، وقال: "وهو عند الثعلبي كما ذكره المصنف، وحكم عليه بأنه غريب". وقال ابن حجر في "العجاب" (1/ 455): "وقد توارد من لا يد لهم في صناعة الحديث على الجزم بأن هذا كان سبب النزول مع وهاء السند فيه، ولا شعور عندهم بذلك، بل كاد يكون مقطوعًا به؛ لكثرة من ينقله من المفسرين وغيرهم. وقال الفخر الرازي (5/ 129 - 130): ليس في الآية عن أي شئ سألوا، لكن الجواب بقوله: {هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} يدل على أنهم سألوا عن الحكمة في تغيرها". وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك)، وفي المطبوع و (ك) بعدها: "عبادتهم، وهو الحج". (¬3) في المطبوع: "وإن".

[جواب المفتي بأكثر من السؤال]

[جواب المفتي بأكثر من السؤال] الفائدة الثالثة: يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه، وهذا (¬1) من كمال نصحه وعلمه وإرشاده، ومن عاب ذلك فلقلَّة علمه وضيق عطنه (¬2) وضعف نصحه، وقد ترجم البخاري على ذلك في "صحيحه" (¬3) فقال: (باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه)، ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: ما يلبس المحرم فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يلبس القُمُصَ (¬4)، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخِفَاف إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" (¬5). فسئل [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6) عمَّا يلبس المُحْرِم؟ فأجاب عما لا يلبس، فتضمن (¬7) ذلك الجواب عما يلبس، فإن ما لا يلبس محصور (8)، وما يلبسه غير محصور (¬8)، فذكر لهم النوعين وبيَّن لهم حكم لبس الخف عند عدم النعل، وقد سألوه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬9) عن الوضوء بماء البحر، فقال [لهم] (6): "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬10). ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "مما سأله عنه، وهو"، وفي (ت): "ما سأل عنه هو، وهذا"، وفي (ق): "مما سأله عنه، وهو". (¬2) في (ق): "فطنته". (¬3) (كتاب العلم): باب رقم (53، 1/ 231 - فتح)، وفي المطبوع: "لذلك" بدل "على ذلك". (¬4) في (ق): "القميص". (¬5) سبق تخريجه (1/ 364). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع و (ك): "وتضمن". (¬8) في (ق): "محظور"، وفي (ك): "محضور"!!. (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬10) أخرجه مالك في "الموطأ" (كتاب الطهارة، باب الطهور للوضوء): (1/ 22/ رقم 12)، ومن طريقه الشافعي في "الأم" (1/ 16)، و"المسند" (8/ 335 - مع الأم)، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 231 - بتحقيقي)، ومحمد بن الحسن في "الموطأ" (رقم 46)، وأحمد في "المسند" (2/ 237 و 361 و 363)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الطهارة): باب الوضوء بماء البحر (1/ 176)، و (كتاب الصيد والذبائح): باب ميتة البحر (7/ 207)، و"السنن الكبرى" (رقم 67)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الطهارة): باب ما جاء في ماء البحر أنه طهور (1/ 100 - 101/ رقم 69)، وأبو داود في "السنن" (كتاب الطهارة): باب الوضوء بماء البحر: (1/ 64/ رقم 83)، والدارمي في "السنن" (كتاب الطهارة): باب الوضوء من ماء البحر، (1/ 186): (كتاب الصيد) باب في صيد البحر =

[إذا منع المفتي من محظور دل على مباح]

[إذا منع المفتي من محظور دلَّ على مباح] الفائدة الرابعة: من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح [له] (¬1) باب المباح، وهذا لا يتأتَّى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر اللَّه (¬2) وعامله بعلمه فمثاله في العلماء مثال الطيب العالم النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عما يضرُّه ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان، وفي "الصحيح" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ما بعث اللَّه من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمَّته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" (¬3). ¬

_ = (2/ 91) وابن ماجه في "السنن" (كتاب الطهارة باب الوضوء بماء البحر (1/ 136/ رقم 386)، و (كتاب الصيد): باب الطافي من صيد البحر (2/ 1081/ رقم 3246)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 478 - ترجمة سعيد بن سلمة المخزومي)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 119 - موارد الظمآن)، وابن خزيمة في "الصحيح" (1/ 59/ رقم 111)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 43)، والدارقطني في "السنن" (1/ 36)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 145 - 141)، و"معرفة علوم الحديث" (ص 87)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 1)، و"السنن الصغرى" (1/ 63/ رقم 155)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 247)، والبغوي في "شرح السنة" (2/ 55 - 56/ رقم 281)، والجورقاني في "الأباطيل والمناكير" (1/ 346)، وقال: "إسناده متصل ثابت"، وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح"، ونقل عن البخاري تصحيحه لهذا الحديث. وصححه ابن خزيمة وابن حبان وابن السكن وابن المنذر والخطابي والطحاوي وابن منده وابن حزم والبيهقي وعبد الحق وابن الأثير وابن الملقن والزيلعي وابن حجر والنووي والشوكاني والصنعاني وأحمد شاكر والألباني. انظر: "نصب الراية" (1/ 95)، و"التلخيص الحبير" (1/ 9)، و"المجموع" (1/ 82)، و"البدر المنير" (2 - 5)، و"خلاصة البدر المنير" (رقم 1)، و"تحفة المحتاج" (رقم 3)، و"البناية شرح الهداية" (1/ 297)، وتعليق أحمد شاكر على "جامع الترمذي" (1/ 101)، و"نيل الأوطار" (1/ 17)، و"سبل السلام" (1/ 15)، و"إرواء الغليل" (1/ 42). وقال الإمام الشافعي في هذا الحديث: "هذا حديث نصف علم الطهارة" انظر "المجموع" (1/ 84)، وانطر لزامًا: "الطهور" لأبي عبيد (رقم 231 - 240) مع تعليقي عليه. وفي الباب عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهو ضعيف، ومضى تخريجه. وانظر طهارة ماء البحر عند المصنف في "زاد المعاد" (3/ 192)، و"بدائع الفوائد" (2/ 47). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬2) في (ت): "فإن تاجر اللَّه"، وفي (ق): "قد تاجر للَّه"! (¬3) رواه مسلم (1844) في (الإمارة) باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول، من حديث عبد اللَّه بن عمرو.

[ينبغي للمفتي أن ينبه السائل إلى الاحتراز عن الوهم]

وهذا شأن خَلف الرسل (¬1) وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدَّس اللَّه روحه يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها، وقد منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلالًا أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دلَّه على الطريق المباح فقال: "بعْ الجمع (¬2) بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا" (¬3)، فمنعه من الطريق المحرَّم، وأرشده إلى الطريق المباح، ولما سأله عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس أن يستعملهما في [جباية] (¬4) الزكاة ليصيبا ما يتزوجان به منعهما من ذلك، وأمر مَحْمِية بن جزء (¬5)، وكان على الخمس أن يعطيهما [منه] (¬6) ما ينكحان به (¬7)، فمنعهما من الطريق المحرم، وفتح لهما [باب] (6) الطريق المباح، وهذا اقتداء منه بربه تبارك وتعالى، فإنه يسأله عبده الحاجة فيمنعه إياها (¬8) ويعطيه ما هو أصلح [له] (6)، وأنفع منها (¬9)، وهذا غاية الكرم والحكمة. [ينبغي للمفتي أن ينبِّه السائل إلى الاحتراز عن الوهم] الفائدة الخامسة: إذا أفتى المفتي للسائل بشيء ينبغي له أن ينبهه على وجه الاحتراز مما قد يذهب إليه الوهم [منه] (¬10) من خلاف الصواب، وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والإرشاد، [و] (10) مثال هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬11): "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬12)، فتامل كيف أتبع الجملة الأولى بالثانية رفعًا لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقًا، وإن كانوا في عهدهم، فإنه لما قال: "لا يقتل مؤمن بكافر"، فربما ذهب [الوهم] (10) إلى أن دماءهم هدر، ¬

_ (¬1) في (ت) و (ك): "خلفاء الرسل". (¬2) كذا في (ت): وفي سائر النسخ: "الجميع". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت)، وفي (ك): "ولما سألهُ الفضل بن عباس وابن عمه" وفي هامشها: "هو عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد اللَّه". (¬5) في (ت): "محمية بن حرو"، وفي (ق): "محمد بن صرد" وفي النسخ المطبوعة: "جزو"!! والصواب أثبتناه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق) و (ك). (¬7) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الزكاة): باب ترك استعمال آل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على الصدقة (2/ 752 - 753/ 1072) من حديث عبد المطلب بن ربيعة نفسه. (¬8) كذا في (ق) وفي باقي الأصول: "إياه". (¬9) في (ق): "أصلح أو أنفع منها". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) في المطبوع، و (ت): "قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬12) سبق تخريجه، وفي (ك): "يقبل"!! بدل "يقتل".

ولهذا لو قتل أحدهم مسلم لم يقتل به، فرفع هذا التوهم بقوله: "ولا ذو عهد في عهده"، ولقد خفيت هذه اللطيفة الحسنة على من قال: يقتل المسلم بالكافر المعاهد، وقدَّر (¬1) في الحديث، ولا ذو عهد في عهده بكافر، ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلَّوا إليها" (¬2) فلما كان نهيه عن الجلوس [عليها] (¬3) نوع تعظيم لها عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظحمها حتى تُجعَل قِبْلَة، وهذا يعينه مشتق من القرآن كقوله تعالى لنساء نبيه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ] (¬4) وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] فنهاهن عن الخضوع بالقول، فربما ذهب الوهم إلى الإذن في الإغلاظ في القول والتجاوز، فرفع هذا التوهم (¬5) بقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (¬6) وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] لما أخبر اللَّه سبحانه بإلحاق الذرية ولا عمل لهم بآبائهم في الدرجة، فربما توهم متوهم [أن يحطّ] (¬7) الآباء إلى درجة الذرية، فرفع هذا التوهم بقوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] أي: ما نقصنا [من] (¬8) الآباء [شيئًا] (¬9) من أجور أعمالهم، بل رفعنا ذريتهم إلى درجتهم، ولم نحطهم من (¬10) درجتهم بنقص أجورهم، ولما كان الوهم قد يذهب إلى أنه يفعل ذلك بأهل النار، كما يفعله بأهل الجنة، قطع هذا الوهم (¬11) بقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]، فلما كان ذكر ربوبيته البلدة ¬

_ (¬1) في (ق): "وقد ورد". (¬2) رواه مسلم (972) بعد (97) و (98) في (الجنائز): باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه، من حديث أبي مرثد الغَنَويّ. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬5) في (ق): "الوهم". (¬6) في (ت): "ذرياتهم" وهي قراءة، وانظر: "كتاب القراءات السبعة" لابن مجاهد (ص 612)، و"إتحاف فضلاء البشر" (2/ 495 - 496)، و"التذكرة في القراءات الثمان" لابن غلبون (2/ 566)، و"الحجة في القراءات السبع" لابن خالويه (ص 333). (¬7) في (ت) و (ك): "أنه يحط"، وفي (ق): "انحطاط". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬10) في المطبوع: "ولم نحطهم إلى". (¬11) قال (د): "في نسخة فمنع هذا الوهم".

[مما ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله]

الحرام قد يوهم (¬1) الاختصاص عقبه بقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، فلما ذكر كفايته للمتوكِّل عليه، فربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل فعقبه بقوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] أي: وقتًا لا يتعدَّاه، فهو يسوقه [إلى وقته الذي قدّره له، فلا يستعجل المتوكل ويقول: قد توكلت، ودعوت فلم أر شيئًا، ولم تحصل لي] (¬2) الكفاية، فاللَّه [بالغ] (¬3) أمره في وقته الذي قدره له (¬4)، وهذا كثيرٌ جدًا في القرآن والسنة، وهو باب لطيف من أبواب فهم النصوص. [مما ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله] الفائدة السادسة: ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم، [ومأخذه] (¬5) ما أمكنه من ذلك، ولا يلقيه (¬6) إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه، وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي قوله حجة بنفسه، رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره، ووجه مشروعيته، وهذا، كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقصُ الرطب إذا جفَّ؟ قالوا: نعم، فزجر عنه" (¬7)، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه بالجفاف، ولكن نبَّههم على علة التحريم وسببه (¬8)، ومن هذا قوله لعمر، وقد سأله عن قُبلة امرأته وهو صائم فقال: "أرأيت لو تمضمضت، ثم مججته أكان يضر شيئًا قال: لا" (¬9). فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة، فإن غاية القُبلة أنها مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة ¬

_ (¬1) في (ت): "ربوبية البلدة الحرام قد توهم"، وفي (ق): "فلما ذكر ربوبية للبلدة الحرام قد يوهم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) بعدها في (ك): "فلا يستعجل المتوكل ويقول قد توكلت ودعوت فلم أر شيئًا ولم يحصل لي الكفاية واللَّه بالغ أمره في وقته الذي قدره له". (¬5) في (د): "ويأخذه". (¬6) في (ق): "فلا يلقيه". (¬7) سبق تخريجه. (¬8) قرر المصنف أنه لا فرق بين النهي عن بيع الرطب بالتمر أو بيع العنب بالزبيب في عدة مواضع من كتبه، منها: "تهذيب السنن" (5/ 32 - 33)، وقد مضى ذلك في مواطن من كتابنا هذا. (¬9) سبق تخريجه.

شربه وليست المقدمة محرَّمة، ومن هذا قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم] (¬1): "لا تُنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (¬2)، فذكر لهم الحكم ونبَّههم على علة التحريم، ومن ذلك قوله لأبي النعمان بن بشير، وقد خصَّ بعض ولده بغلام نَحَله (¬3) إياه؛ فقال: "أيسرُّك أن يكونوا لك في البِرِّ سواء؟ ". قال: نعم. قال "فاتقوا اللَّه واعدالوا بين (¬4) أولادكم" وفي لفظ: "إن هذا لا يصلح"، وفي لفظ: "إني لا أَشْهد على جور"، وفي لفظ: "أَشْهِد على هذا غيري" (¬5) تهديدًا لا إذنًا، فإنه لا يأذن في الجور قطعًا وفي لفظ: "رده" والمقصود أنه نبَّهه على علة الحكم (¬6)، ومن هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لرافع بن خديج، وقد قال له: إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مدًى أفنذبحُ بالقصب؟ فقال: "ما أنهرَ الدمَ وذُكر اسم اللَّه عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك عن ذلك أمَّا السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" (¬7) فنبه على أعلة، المنع من التذكية بهما بكون أحدهما عظمًا، وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام إما لنجاسة بعضها، وأما لتنجيسه على مؤمني الجن (¬8)، ولكون (¬9) الآخر مدى الحبشة ففي التذكية (¬10) بها تشبه بالكفار، ومن ذلك قوله: "إن اللَّه ورسوله ينهيانكم (¬11) عن لحوم الحمر الإِنسية، فإنها رجس" (¬12)، ومن ذلك قوله في الثمرة تصيبها الجائحة: "أرأيتَ إنْ منع اللَّه الثمرة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) في (د) و (ط): "نحله: [أعطاه و] وهبه"، وما بين المعقوفتين زيادة (د) عليها. (¬4) ضرب عليها في (ك) وأثبت: "في". (¬5) سبق تخريجه. (¬6) انطر: "تهذيب السنن" (5/ 191 - 193) مهم، و"إغاثة اللهفان" (1/ 365)، و"بدائع الفوائد" (3/ 101 - 2102، 151 - 152، 4/ 128) مهم. وفي (ق): "نبه على علة الحكم". (¬7) رواه البخاري (2488) في (الشركة): باب قسمة الغنائم، و (2507) في (عدل عشرة من الغنم في القسم، و (3075) في (الجهاد): باب ما يكره من ذبح الإبل والغنم في الغنائم، و (5498) في (الذبائح والصيد): باب التسمية على الذبيحة، و (5503) باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، و (5506) باب لا يذكى بالسن والعظم والظفر، و (5509) باب ما ند من البهائم فهو بمنزلة الوحش، و (5543): باب إذا أصاب قوم غنيمة، و (5544) باب إذا ند بعير لقوم فرماه بعضهم بسهم. .، ومسلم (1968) في (الأضاحي): باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، وما بين المعقوفتين الآتية سقط من (ق) (¬8) "وذلك أن العظام من غذاء الجن" (ط). (¬9) في (ق): "وكون". (¬10) في (ك): "فبالتذكية". (¬11) في (ق) و (ك): "ينهاكم". (¬12) رواه البخاري في "الصحيح" (كتاب الذبائح): باب لحوم الحمر الإنسية (9/ 653 رقم 5528)،=

فبِمَ يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (¬1)، وهذا التعليل بعينه ينطبق على من استأجر أرضًا للزراعة فأصاب (¬2) الزرع آفة سماوية لفظًا ومعنًى فيقال للمؤجِّر: أرأيت إن منع اللَّه الزرع فبم تأكل مال أخيك بغير حق، وهذا هو الصواب الذي ندين اللَّه به [في المسألة] (¬3)، وهو اختيار شيخ الإسلام [ابن تيمية] (¬4). والمقصود أن الشارع مع كون قوله حجة بنفسه يرشد الأمة إلى علل الأحكام ومداركها وحكمها فورثته من بعده كذلك. ومن ذلك نهيه عن الخذف (¬5)، وقال: "إنه يفقأ العين ويكسر السن" (¬6)، ومن ذلك إفتاؤه للعاض يد غيره بإهدار دية ثنيته (¬7) لما سقطت بانتزاع [المعضوض يده من فيه ونبه على العلة بقوله: "أيدع يده في فيك تقضمها، كما يقضم الفحل" (¬8)، وهذا من أحسن التعليل وأبينه، فإن العاض لما صال على المعضوض جاز له أن يرد صياله عنه بانتزاع] (¬9) يده من فمه فإذا أدَّى ذلك إلى إسقاط ثناياه كان سقوطها بفعل مأذون فيه من الشارع، فلا يقابل بالدية (¬10)، وهذا كثير جدًا في السنة فينبغي للمفتي أن ينبِّه السائل على علة الحكم، ومأخذه إن عرف ذلك وإلا حرم عليه أن يفتي بلا علم. ¬

_ = ومسلم في "الصحيح" (كتاب الصيد والذبائح): (رقم 1940) عن أنس -رضي اللَّه عنه-. (¬1) رواه البخاري (1488) في (الزكاة): باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه. و (2198) باب إذا باع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، و (2208) باب بيع المخاضرة، ومسلم (1555) في (المساقاة): باب وضع الحوائج من حديث أنس بن مالك -رضي اللَّه عنه-. (¬2) في (ق): "وأصابت". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 238 - 239) له. (¬5) قال (د): "في نسخة: "عن الخلاف" تحريف"، وقال (و): "رميك حصاة، أو نواة تأخذها بين سبابتيك وترمي بها، أو تتخذ مخذفة من خشب ثم ترمي بها الحصاة بين إبهامك والسبابة". (¬6) رواه البخاري (4841) في (تفسير سورة الفتح): باب {إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}، و (5479) في (الذبائح والصيد): باب الخذف والبندقة، و (6220) في (الأدب): باب النهي عن الخذف، ومسلم (1954) في (الصيد والذبائح): باب إباحة ما يستعان به على الاصطياد والعدو، من حديث عبد اللَّه بن المغفل. (¬7) في (ق): "دية سنه". (¬8) سبق تخريجه. (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) انظر هذه المسألة عند المصنف في "زاد المعاد" (3/ 204)، وستأتي.

[من أدب المفتي أن يمهد للحكم المستغرب]

وكذلك أحكام القرآن يرشد سبحانه فيها إلى مداركها وعللها كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فأمر سبحانه نبيه أن يذكر [لهم] (¬1) علة الحكم قبل الحكم، وكذلك قوله [تعالى] (¬2): {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (¬3)} [المائدة: 38]، وقوله (¬4) تعالى في جزاء الصيد: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]. [من أدب المفتي أن يمهد للحكم المستغرب] الفائدة السابعة: إذا كان الحكم مستغربًا جدًا مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما كان مأذونًا به (¬5) كالدليل عليه والمقدمة بين يديه، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه عليه السلام بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يُولد [فيه] (¬6) لمثله في العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح عليه السلام، وولادته (¬7) من غير أَب، فإن النفوس لما آنست بولد من [بين] (6) شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب، وكذلك ذكر سبحانه [قبل] (6) قصة المسيح موافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبّانه، وهذا الذي شجع نفس زكريا وحرَّكها لطلب الولد، وإن كان في غير إبّانه. وتأمل قصة نسخ القبلة لما كانت شديدة على النفوس جدًا كيف وطَّأ سبحانه قبلها (¬8) عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها أن يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ومنها أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الأمر الثاني، كما كان صالحًا للأول (¬9)، ومنها تحذيرهم الاعتراض ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الآية" اختصارًا. (¬4) في المطبوع: "وقال". (¬5) في المطبوع: "ما يكون مؤذنًا به". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ك): "وولادة". (¬8) في (ق) و (ك): "قبله". (¬9) انظر حكمة التشريع في تحويل القبلة إلى الكعبة، وما حصل من التوطئة بين يدي التحويل =

[يجوز للمفتي أن يحلف على ثبوت الحكم]

على رسوله (¬1)، كما اعترض من قبلهم على موسى، بل أمرهم بالتسليم والانقياد، ومنها تحذيرهم من الإصغاء (¬2) إلى اليهود، وأنْ تستخفَّهم شُبهُهم (¬3)، فإنهم يودُّون أن يردّوهم كفارًا من بعد ما تبيَّن لهم الحق، ومنها إخباره أَنَّ دخول الجنة ليس بالتَّهوُّد، ولا بالتَّنصُّر، وإنما هو بإسلام الوجه والقصد والعمل والنية للَّه مع متابعة أمره، ومنها إخباره سبحانه عن سعته، وأنه حيث ولَّى المصلي وجهه فثمَّ وجه ربه تبارك وتعالى (¬4)، فإنه واسع عليم فذكر الإحاطتين الذاتية والعلمية، فلا يتوهمون أنَّهم في القبلة الأولى لم يكونوا مستقبلين وجهه تبارك وتعالى، ولا في الثانية، بل حيثما توجهوا فثم وجهه [تبارك و] تعالى، ومنها أنه سبحانه [وتعالى] (¬5) حذَّر نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- من اتباع أهواء الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، بل أمره (¬6) أن يتبع هو وأمته ما أوحى إليه فيستقبلونه بقلوبهم وحدها (¬7)، ومنها أنه ذكر عظمة بيته الحرام و [عظمة] (5) بانيه وملَّته، وسفه من يرغب عنها وأمر باتباعها فنوَّه بالبيت وبانيه وملته وكل هذا توطئة بين يدي التحويل مع ما في ضمنه من المقاصد الجليلة (¬8) والمطالب السنية، ثم ذكر فضل هذه الأمة، وأنهم الأمة الوسط العدل الخيار، فاقتضى ذلك أن يكون نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- أوسط الأنبياء [صلوات اللَّه وسلامه عليهم] (¬9) وخيارهم وكتابهم كذلك ودينهم كذلك وقبلتهم التي يستقبلونها كذلك، فظهرت المناسبة شرعًا وقدرًا في أحكامه تعالى الأمرية والقدرية، وظهرت حكمته الباهرة، وتجلت للعقول الزكية المستنيرة بنور ربها تبارك وتعالى. والمقصود أَنَّ المفتي جدير أن يذكر بين يدي الحكم الغريب الذي لم يُولف مقدمات تؤنس به وتدل عليه وتكون توطئة بين يديه، وباللَّه التوفيق. [يجوز للمفتي أن يحلف على ثبوت الحكم] الفائدة الثامنة: يجوز للمفتي والمُناظِر أن يحلف على ثبوت الحكم عنده، ¬

_ = في "زاد المعاد" (2/ 57 - 58)، و"بدائع الفوائد" (4/ 157 - 174)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 358، 362). (¬1) في (ق) و (ك): "رسولهم". (¬2) في المطبوع و (ك): "تحذيرهم بالإصغاء". (¬3) في (ق) و (ك): "وأن لا تستخفهم بشبهتهم". (¬4) في المطبوع و (ك): "فثم وجهه تعالى". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬6) في المطبوع و (ك): "بل أمر". (¬7) في (ق): "وحده". (¬8) في (ق): "من أعظم المقاصد الجليلة". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك).

وإن لم يكن حلفه موجبًا لثبوته عند السائل والمنازع ليشعر السائل والمنازع له أنه على ثقة ويقين مما قال [له] (¬1)، وأنه غير شاك فيه (¬2)، فقد تناظر رجلان في مسألة فحلف أحدهما على ما يعتقده فقال له منازعه: لا يثبت الحكم بحلفك فقال: إني لم أحلف [لأجل تثبيت] (¬3) الحكم عندك، ولكن لأعلمك أني على يقين وبصيرة من قولي، وأنَّ شبهتك لا تغيِّر عندي في وجه يقيني بما أنا جازم به. وقد أمر اللَّه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يحلف على ثبوت الحق الذي جاء به في ثلاثة مواضع من كتابه أحدهما: قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] والثاني: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ [عَالِمِ الْغَيْبِ] (¬4)} [سبأ: 3]. والثالث: قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وقد أقسم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما أخبر به من الحق في أكثر من ثمانين موضعًا وهي موجودة في "الصحاح" و"المسانيد" (¬5) وقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يحلفون على الفتاوى والرواية، فقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬6) لابن عباس في مُتعة النساء: إنك امرؤ تائه، فانظر ما تفتي به في متعة النساء، فواللَّه وأشهد باللَّه لقد نهى عنها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] وسلم (¬7)، ولما وَلي عمر -رضي اللَّه عنه- حمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) انظر: "زاد المعاد" (3/ 207). (¬3) في المطبوع: "ليثبت"، وفي (ك): "لأثبت". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) انظر على سبيل المثال: "صحيح البخاري" (الأرقام 6903، 1904، 2615، 6636)، و"صحيح مسلم" (الأرقام 1252، 1619، 2194، 2300)، و"جامع الأصول" (11/ 649 - فما بعد) (¬6) في المطبوع: "فقال علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه". (¬7) رواه مسلم في "صحيحه" (1407) (29) بعده دون رقم في (النكاح): باب نكاح المتعة مختصرًا دون ذكر ابن عباس وإنما فيه: يقول لفلان، ورواه مفصلًا بذكر ابن عباس الدارقطني (3/ 259) وفي "علله" (4/ 115)، والبيهقي (7/ 201)، وأبو الفتح المقدسي في "تحريم نكاح المتعة" (رقم 28) وابن بطة في "تحريم نكاح المتعة" -كما في "المسائل" التي حلف عليها أحمد، (رقم 51) -. وروى مسلم أيضًا عن علي قال: مهلًا يا ابن عباس، فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عنها يوم خيبر. وأصل قول علي لابن عباس ثابت في "صحيح البخاري" دون قوله: إنك امرؤ تائه (رقم 5115) و (5523) و (6961).

أحل، المتعة ثلاثًا، [ثم حرمها ثلاثًا]، (¬1)، فأنا أقسم باللَّه قسمًا لا أجد أحدًا من المسلمين متمتعًا إلا رجمته إلا أن يأتي بأربعة من المسلمين يشهدون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحلها بعد أن حرَّمها (¬2). وقد حلف الشافعي في بعض أجوبته فقال محمد بن الحكم: سألت الشافعي [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) عن المتعة كان يكون (¬4) فيها طلاق أو ميراث أو نفقة [أو عدة] أو شهادة فقال: لا واللَّه ما أدري (¬5). وقال يزيد بن هارون: من قال القرآن مخلوق أو شيء منه مخلوق فهو واللَّه عندي زنديق (¬6). وسئل عن حديث جرير في الرؤية (¬7) فقال: واللَّه الذي لا إله إلا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) رواه ابن ماجه (1963) في "النكاح": باب النهي عن نكاح المتعة، وتمام في "فوائده" (752 - ترتيبه) ونصر المقدسي في "تحريم نكاح المتعة" (رقم 63) من طريق الفريابي عن أبان بن أبي حازم عن أبي بكر بن حفص عن ابن عمر قال: لما ولي عمر بن الخطاب. . . فذكره. قال الحافظ ابن كثير: "واختاره الحافظ الضياء في كتابه" وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 342): "هذا إسناد فيه مقال، أبو بكر بن حفص اسمه إسماعيل الأيلي، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: كتبت عنه وعن أبيه وكان أبوه يكذب، قلت: لا بأس به؟ قال: لا يمكنني أن أقول: لا بأس به، وأبان بن أبي حازم مختلف فيه". قلت: أخطأ البوصيري في معرفة أبي بكر بن حفص، فالذي ذكره متأخر لا يروي عن ابن عمر، بل هو من شيوخ ابن ماجه والنسائي، والصواب أن هذا هو عبد اللَّه بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني: وهو ثقة مشهور بكنيته. وأبان بن أبي حازم قال فيه الحافظ: صدوق فيه لين، فإسناده حسن. والحديث في "مسند البزار" (183) بالإسناد نفسه لكن لفظه: أيها الناس إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحل لنا المتعة ثم حرمه علينا. وعزاه أبو الحسين بن القاضي أبو يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 52) إلى ابن بطة في "تحريم نكاح المتعة". وانظر: "سنن الدارقطني" (3/ 258 أو رقم 3582 - بتحقيقي) و"سنن البيهقي" (7/ 202) و"تحريم نكاح المتعة" (رقم 50، 60). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "بأن يكون". (¬5) ذكره أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 53) عن ابن بطة في "تحريم نكاح المتعة"، وانظر: "تحريم نكاح المتعة" (رقم 43) للمقدسي، فأورد نحوه عن الربيع عن الشافعي، وما بين المعقوفتين من (ك). (¬6) رواه عبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (رقم 50، 52) وأبو داود في "مسائل أحمد" (268) والآجري في "الشريعة" (رقم 169) وابن بطة في "تحريم نكاح المتعة" كما في "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 56) وإسناده جيد. (¬7) روى الحديث البخاري (554) في (مواقيت الصلاة): باب فضل صلاة العصر، و (573) =

هو من كَذَّب به ما هم إلا زنادقة (¬1). وأما الإمام أحمد رحمة اللَّه عليه ورضوانه (¬2)، فإنه حلف على عدة مسائل من فتاويه (¬3)، قيل [له]: أيزيد الرجل في الوضوء على ثلاث مرات؛ فقال: لا واللَّه إلا رجل مبتلى، يعني بالوسواس (¬4). وسُئل أيخلِّل (¬5) الرجل لحيته إذا توضأ فقال: إي واللَّه (¬6). وسئل يكون الرجل في الجهاد بين الصفين يبارز عِلْجًا بغير إذن الإمام فقال: لا واللَّه (¬7). وقيل له: أتكره الصلاة في المقصورة فقال: إي واللَّه (¬8)، قلت: وهذا لما كانت المقصورة تُحمى للأمراء (¬9) وأتباعهم، وسئل: أيُؤجَر الرجل على بغض من خالف حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إي واللَّه (¬10). وسئل: من قال: القرآن مخلوق كافر؟ فقال: إي واللَّه (¬11). وسئل هل صح عندك (¬12) في النبيذ حديث فقال: واللَّه ما صح عندي حديث واحد إلا على ¬

_ = باب فضل صلاة الصبح، و (4851) في تفسير سورة (ق) باب: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، و (7434 و 7435 و 7436) في "التوحيد": باب قول اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ومسلم (633) في "المساجد": باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، وفي (ك): "الرواية". (¬1) ذكره أبو الحسين بن القاضي أبو يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 55) عن ابن بطة في "تحريم نكاح المتعة". (¬2) في (ق): "وأما الإمام أحمد رحمه اللَّه"، وفي (ك): "رضي اللَّه عنه". (¬3) جمعها أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في جزء مفرد مطبوع عن دار العاصمة بعنوان: "المسائل التي حلف عليها أحمد"، ومنه ينقل المصنف. (¬4) في "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 1)، وما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬5) في المطبوع: "وسئل عن تخلل". (¬6) "المسائل التي حلف عليها أحمد"، (رقم 2)، وفي (ق): "قال" بدل "فقال". (¬7) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 3). (¬8) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 4). (¬9) قال (د): "تحمى للأمراء: أي تحجز لهم فلا يدخلها غيرهم"، ونحوه في (ط). ووقع في (ق): "تحمر للأمراء"، وهو تحريف ظاهر، وانظر اختلاف السلف في الصلاة في المقصورة عند ابن أبي شيبة (2/ 49 - 50). (¬10) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 6). (تنبيه): سقطت من جميع الأصول (مسألة رقم 5) من "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" وهي: "وسئل عن المريض: هل يجمع بين الصلاتين فقال: إي واللَّه"، (¬11) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 7). (¬12) في (ق): "أيصح عندك".

التحريم (¬1)، [وسئل: أيكره (¬2) الخضاب بالسواد؟ فقال: إي واللَّه] (¬3)، وسئل عن الرجل يؤم أباه ويصلّي الأب خلفه فقال: إي واللَّه (¬4). [وسئل هل يكره النفخ في الصلاة؟ فقال: إي واللَّه (¬5)، (وسئل عن تزوج الرجل المسلم الأمة من أهل الكتاب فقال: لا واللَّه)] (¬6)، وسئل عن المرأة تستلقي على قفاها وتنام يكره ذلك؟ فقال: إي واللَّه (¬7). وسئل عن الرجل يرهن جاريته فيطؤها وهي مرهونة فقال: لا واللَّه (¬8)؟ وسئل عن حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه قضى في رجل استسقى قومًا، وهو عطشان فلم يسقوه فمات فأغرمهم عمر الدية (¬9) تقول أنت كذا؟ قال: إي واللَّه (¬10). [وسئل عن الرجل إذا حُدَّ في القذف، ثم قذف زوجته يلاعنها فقال: إي واللَّه] (¬11). وسئل أيضرب الرجل رقيقه فقال: إي واللَّه (¬12). ذكر هذه المسائل القاضي أبو علي الشريف (¬13). ¬

_ (¬1) "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 8)، وانظر كلام المصنف -رحمه اللَّه- في "تهذيب السنن" (3/ 248)، و"زاد المعاد" (3/ 141). (¬2) في (ق): "تكره". (¬3) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 11) وهي رواية الخلال في "الترجل" (133) وذكرها المصنف في "تهذيب السنن" (6/ 104). وما بين المعقوفتين مذكور في (ق): بعد الجملة الآتية، وما بين القوسين في (ك) كذلك. (¬4) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 9)، وانظر: "بدائع الفوائد" (4/ 90) و"تهذيب السنن" (6/ 104) و"مسائل أبي داود" (ص 42) و"المحنة" (ص 99) لصالح، وفيه أنه صلى بأبيه في سفر صلاة العصر. (¬5) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 10)، وانظر "بدائع الفوائد" (4/ 95) و"مصنف عبد الرزاق" (2/ 188 - 189). (¬6) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 13)، وانظر: "الروايتين" (2/ 104) لأبي يعلى وما بين المعقوفتين مذكور في (ق) بعد الجملة الآتية، وما بين القوسين في (ك) كذلك. (¬7) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 14)، وانظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 383). (¬8) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 15). (¬9) ذكره ابن قدامة في "المغني" (7/ 834 - 835)، وانظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (9/ 280). (¬10) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 16). (¬11) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 17)، وانظر تفصيل المسألة في "الإشراف" (3/ 523 رقم 1350 - بتحقيقي)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬12) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 18). (¬13) قاله أبو الحسين بن القاضي أبي يعلى في جزء "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (ص 38).

وقال الإمام أحمد في "رواية ابنه صالح": "واللَّه لقد أعطيتُ المجهود من نفسي ولوددتُ أتي أنجو من هذا الأمر [كفافًا لا عليَّ، ولا لي" (¬1)، وقال في روايته أيضًا: "واللَّه لقد تمنيتُ الموت في الأمر] (¬2) الذي كان، وإني لأتمنى الموت في هذا، وهذا فتنة الدنيا" (¬3). وقال إسحاق بن منصور لأحمد يكره الخاتم من ذهب أو حديد؟ فقال: إي واللَّه (¬4). وقال إسحاق أيضًا: [قلت] (¬5) لأحمد: يؤجر الرجل يأتي أهله وليس له شهوة في النساء؟ فقال (¬6): إي واللَّه، يحتسب الولد، وإن لم يرد الولد، إلا أنه يقول: هذه امرأة شابة (¬7)، وقال له محمد بن عوف (¬8): يا أبا عبد اللَّه يقولون: إنك وقفت في (¬9) عثمان؟ فقال: كذبوا واللَّه عليَّ، وإنما حدَّثتهم بحديث ابن عمر: كنَّا نفاضل بين أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي فيبلغ ذلك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا ينكره (¬10)، ولم ¬

_ (¬1) هذه رواية صالح في "المحنة" (ص 64) ونقلها أبو الحسين في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 19) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 203) وابن الجوزي في "مناقب أحمد" (347) والذهبي في "ترجمة الإمام أحمد" (ص 54). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) هذه رواية صالح في "المحنة" (ص 106)، وفي آخر الخبر: "إن هذه فتنة الدنيا، وكان ذاك فتنة الدين، ثم جعل يضم أصابع يده، ويقول: لو كانت نفسي في يدي لأرسلتها، ثم يفتح أصابعه" ونقله عنه مختصرًا أبو الحسين في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 20) وفي آخره: "أو ذاك فتنة الدنيا" ومنه ينقل المصنف، وانظر: "مناقب أحمد" (ص 369) لابن الجوزي. (¬4) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (ص 21) وانظر سائر الروايات عن أحمد في خاتم الذهب والحديث في "أحكام الخواتيم" لابن رجب (ص 33 - 48). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "فقال أحمد". (¬7) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 22). (¬8) كذا في (ق) ومصادر التخريج، وهو الصواب وهو الطائي أبو جعفر، كان عنده عن أحمد مسائل صالحة وأملى عليه أحمد رسالة في السنة، ترجمته في "طبقات الحنابلة" (1/ 311 - 313)، وتحرف في سائر المصادر إلى (ابن عون)!! (¬9) كذا في (ق) وفي سائر الأصول: "على". (¬10) لفظ الحديث الثابت في جميع المصادر من حديث ابن عمر: "وكنا نفضل على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أبا بكر وعمر وعثمان، ثم لا نفضل أحدًا على أحد، ليس فيه ذكر عليّ -رضي اللَّه عنه- وهذا -دون ذكر علي- رواه البخاري (3655) في (فضائل الصحابة): باب =

يقُل (¬1) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا تخايروا بعد هؤلاء، [ولا بين أحد، ليس في ذلك حجة لأحد] فمن وقف على عثمان، ولم يُربِّع بعلي (¬2) فهو على غير السنة (¬3). وسئل أحمد هل المقام بالثغر أفضل من المقام بمكة؟ فقال: إي واللَّه (¬4). وذكر أبو أحمد بن عدي في "الكامل": أن أَيوب بن إسحاق بن سافري (¬5) قال: سألتُ أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد اللَّه، ابنُ إسحاق إذا انفرد بحديث (¬6) تقبله؟ فقال: لا، واللَّه إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث [الواحد]، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا (¬7). وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: نقتل الحية والعقرب في الصلاة؟ فقال: ¬

_ = فضل أبي بكر بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و (3697) في باب مناقب عثمان بن عفان. ووقع في المطبوع: "فلم ينكره". (¬1) في (ق): "فلم يقل". (¬2) في المطبوع: "بعلي -رضي اللَّه عنه-". (¬3) هذه القطعة أوردها ابن أبي يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 24)، وفي "طبقات الحنابلة" (1/ 311 - 313) في آخر رسالة في "السنة" لأحمد، وهو في "المحنة" لصالح (76) و"مسائله" (341) و"مسائل عبد اللَّه" (3/ 1320)، و"مسائل ابن هانئ" (1/ 63 و 2/ 169) و"مسائل أبي داود" (ص 277). (¬4) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 26)، وانظر: "الوقوف" للخلال (166) و"مسائل أبي داود" (ص 229)، و"الحلية" (5/ 214). (¬5) كذا في "جميع الأصول" بالفاء، وهو الصواب، وهو نسبة إلى (السافرية) قرية من قرى فلسطين بالقرب من الرملة، وينسب لها بعض التابعين، انظر: "ثقات ابن حبان" (5/ 509)، وبالفاء في "تاريخ بغداد" و"تهذيب الكمال" -ضمن الخبر المذكور- وترجمته هكذا في "تاريخ دمشق" (10/ 83) و"تاريخ بغداد" (7/ 9) و"المقصد الأرشد" (1/ 284)، و"المنهج الأحمد" (1/ 215) و"مختصره" (9). ووقع (السامري) -تحرفت الفاء فيه إلى ميم- في مطبوع "طبقات الحنابلة" (1/ 117) لابن أبي يعلى -ووقع لناشره أخطاء كثيرة ذكر أمثلة عليها أحمد الغماري في "جؤنة العطار"- و"تهذيب التهذيب" (9/ 38 - ط دار الفكر) و"المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (ص 51). (¬6) في (ق): "بحديثه". (¬7) نقله ابن أبي يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 28) فقال: "ذكر ابن عدي في كتاب "الجرح والتعديل" به، والمذكور ليس في "الكامل" بطبعتَيْهِ، وأسنده الخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 230) -وعنه المزي في "تهذيب الكمال" (24/ 422) - من طريق أيوب بن إسحاق به، ونقلها ابن حجر في "التهذيب" (9/ 43) وكلام أحمد في ابن إسحاق كثير، انظر: "الكامل" (6/ 2125) و"تهذيب الكمال" (24/ 414) و"تهذيب التهذيب" (9/ 38) و"بحر الدم" (رقم 871).

إي واللَّه (¬1)، وقال أيضًا: قلت لأبي: تجهر بآمين؟ فقال: إي واللَّه؛ الإمام وغير الإمام (¬2)، وقال أيضًا: قلت لأبي: يفتح على الإمام؟ قال: إي واللَّه (¬3). وقال الميموني: قلت لأحمد: ونحن نحتاج في رمضان أن نبيّت الصوم من الليل؟ فقال: إي واللَّه (¬4)، وقال الميموني [أيضًا] (¬5): [قلت لأحمد] [تُباع الفرس الحبيس إذا عطبت، وإذا فسدت؟ فقال: إي واللَّه (¬6)، وقال [الميموني] (7) أيضًا: قلت لأحمد] (¬7): هل ثبت (¬8) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيقة شيء؟ فأملى عليّ: إي واللَّه، وفي (¬9) غير حديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عن الغلام شاتان مكافئتان (¬10)، وعن الجارية شاة" (¬11). ¬

_ (¬1) قال ابن أبي يعلى: في "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 29): "ونقلت من "الشافي" لأبي بكر: قال صالح بن أحمد. . ". (¬2) نقله ابن أبي يعلى في "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 32) عن "مسائل الكوسج" وانظر: "مسائل صالح" (رقم 373، 494، 569، 570) و"مسائل أبي داود" (32). (¬3) نقله ابن أبي يعلى في "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 33) عن "مسائل الكوسج" وانظر: "مسائل أبي داود" (ص 33). (¬4) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 34) وانظر: "مسائل ابن هانئ" (1/ 128) و"مسائل عبد اللَّه" (2/ 645 - 651) و"الروايتين" (1/ 253) و"زاد المعاد" (1/ 218)، و"تهذيب السنن" (3/ 327 - 328، 331 - 333). (¬5) نقله عن الميموني: الخلال في "الوقوف" (297)، وابن أبي يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 35) وما بين المعقوفتين منهما وسقط من الأصول، وفي (ق): "لأحمد. . . أو اذا. . . ". (¬6) نقل روايته ابن أبي يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 30) والمصنف في "تحفة المودود" (ص 37)، وانظر: "مسائل ابن هانئ" (2/ 130) و"مسائل أبي داود" (256) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ق): "يثبت". (¬9) في (ق): "في" دون واو. (¬10) "متساويتان أو متقاربتان، وتقال بفتح الفاء وكسرها" (و) (¬11) في هذا أحاديث؛ منها: حديث عائشة: رواه أحمد في "مسنده" (6/ 31 و 158 و 251)، وابن أبي شيبة (8/ 239)، والترمذي (1513) في "الأضاحي": باب ما جاء في العقيقة، وابن ماجه (3163) / في "الذبائح": باب العقيقة، وأبو يعلى (4648)، وابن حبان (5310)، والبيهقي (9/ 301) من طريق عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم عن يوصف بن مالك عن حفصة بنت عبد الرحمن عن عائشة. قال الترمذي: حديث عائشة: حسن صحيح. أقول: وقد خالف ابن جريج، فرواه عن يوصف بن ماهك عن حفصة عن عائشة موقوفًا من قولها.=

وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: التسبيح للرِّجال والتصفيق للنساء قال: إي واللَّه (¬1). وقال الكوسج أيضًا: قلت لأحمد: قال سفيان: تجزئه تكبيرة إذا نوى بها افتتاح الصلاة؟ قال أحمد: إي واللَّه تجزئه إذا نوى [قاله] ابن عمر وزيد (¬2)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه؟ قال: إي واللَّه (¬3)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: سئل سفيان عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، ما أرى بأسًا أن يشق بطنها، قال أحمد: بئس واللَّه ما قال -يردد ذلك- سبحان اللَّه! بئس ما قال (¬4)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: تجوز شهادة رجل وامرأتين (¬5) في الطلاق؟ قال [أحمد]: لا واللَّه (¬6)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: المُرجئ إذا كان داعيًا ¬

_ = أخرجه عبد الرزاق (7956)، وقد صرح ابن جريج بالتحديث فانتفت شبهة التدليس، وهذا لا يعل الحديث لأن ابن خثيم من الثقات كذلك، فرواية ابن جريج ليست أولى من روايته، ثم رواه ابن جريج على وجه آخر، فقال: أخبرني عبيد اللَّه بن أبي يزيد عن بعض أهله أنه سمع عائشة تقول، فذكره مرفوعًا. أخرجه عبد الرزاق أيضًا (7955)، ولعل هذا اضطراب من ابن جريج أو من عبد الرزاق. ورواه البيهقي (9/ 301) من طريق عبد الجبار بن ورد بن أبي مليكة عن عائشة مرفوعًا، ورجاله ثقات غير عبد الجبار ففيه بعض كلام. ورواه أبو يعلى (4521) من طريق ابن جريج عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. وفي الباب عن أم كرز الكعبية، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وعن أبي هريرة. انظرها مفصلة في "التلخيص الحبير" (4/ 146)، و"إرواء الغليل" (4/ 390). وانظر كلام ابن القيم رحمه اللَّه حول هذه المسألة في كتابه القيم "بدائع الفوائد" (4/ 65)، و"تحفة المودود" (ص 36 - 37). (¬1) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 31)، وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 362)، و"تهذيب السنن" (3/ 88 - 90) مهم. (¬2) "المسائل التي حلف عليها الامام أحمد" (رقم 37)، وانظر: "مسائل أبي داود" (ص 35). (¬3) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 38)، وانظرة "مسائل الكوسج" (1/ ق 41)، و"مسائل ابن هانئ" (1/ 41)، و"مسائل عبد اللَّه" (1/ 204). (¬4) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 39)، وانظر: "مسائل صالح" (549، 551) و"مصنف عبد الرزاق" (9/ 256)، وفي (ق): "بئس ما قلت". (¬5) في (ق) و (ك): "وامرأتان". (¬6) المسائل التي حلف عليها الأمام أحمد" (رقم 45)، وانظر: "الروايتين" (3/ 87 - 90 =

[يجفا]، قال: إي واللَّه يُجْفَى ويُقْصَى (¬1). وقال (¬2) أبو طالب: قلت لأحمد: رجل قال: القرآن كلام اللَّه، وليس بمخلوق، ولكن لفظي هذا به مخلوق، قال: من قال هذا، فقد جاء بالأمر كله، إنما هو كلام اللَّه على كل حال، والحجة فيه حديث أبي بكر -رضي اللَّه عنه- (¬3): {الم (¬4) (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1 - 2] فقيل له (¬5): هذا مما جاء به صاحبك؟ فقال: لا واللَّه ولكنَّه كلام اللَّه، هذا وغيره، كلام اللَّه (¬6) قلت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] هذا الذي قرأت الساعة كلام اللَّه؟ قال: إي واللَّه هو كلام اللَّه، ومن قال: "لفظي بالقرآن مخلوق"، فقد جاء بالأمر كله (¬7). وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث ابن شبرمة عن الشعبي في رجل [نذر أن] (¬8) يطلق امرأته فقال له الشعبي: أوفِ بنذرك، أترى ذلك؟ فقال: لا واللَّه (¬9)، وقال الفضل أيضًا: سمعت أبا عبد اللَّه، وذكر (¬10) يحيى بن ¬

_ = و 2/ 85، 299) و"الطرق الحكمية" (ص 92، 97، 151، 175، 182)، وما بين المعقوفتين من (ق). (¬1) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 41) وفيه: "نقلتُها من الرابع من "السنة" لأبي بكر الخلال" قلت: هو فيه برقم (1153) وانظر "مسائل أبي داود" (ص 276) و"مسائل عبد اللَّه" (3/ 1317) و"مسائل ابن هانئ" (1/ 61 و 2/ 152)، وفي (ق): "يجفى ويعصى" وما بين المعقوفتين سقط من جميع الأصول. (¬2) في (ق): "قال". (¬3) مضى تخريجه. (¬4) "تقرأ: ألف لام ميم، بكسر لام ألف وسكون ميم لام والميم الأخيرة من ميم" (و). (¬5) في (ق): "فيقول له". (¬6) في جميع النسخ: "وإنما هو كلام اللَّه" والمثبت من مصادر التخريج. (¬7) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 42) وفيه: "ونقلت من السادس من "السنة" لأبي بكر الخلال" قلت: هو في الجزء المفقود منه، وانظر: "مسائل أبي داود" (ص 271). (¬8) ما بين المعقوفتين بياض في (ك). (¬9) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 43) وفيه: "ونقلت من "مسائل الفضل بن زياد". . . وذكرها"، ورواية الفضل عند ابن أبي يعلى في ترجمته من "طبقات الحنابلة" (1/ 253). (¬10) في (ق): "ذكر".

سعيد القطان فقال: لا واللَّه ما أدركنا مثله (¬1). وذكر أحمد في "رسالته إلى مسدد": "ولا عينٌ تطرف (2) بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خير من أبي بكر، ولا بعد أبي بكر عين تطرف (2) خير من عمر، ولا بعد عمر عين تطرف (2) خير من عثمان، ولا بعد عثمان عين تطرف (¬2) خير من علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، ثم قال أحمد: هم واللَّه الخلفاء الراشدون المهديون (¬3). وقال الميموني: قلت لأحمد [عن] جابر الجُعفي؟ قال: كان يرى التشيع، قلت: قد يُتَّهم في حديثه بالكذب؟ قال: إي واللَّه (¬4). قال القاضي: فإن قيل كيف استجاز الإمام أحمد أن يحلف في مسائل مختلف فيها؟ قيل: أما مسائل الأصول، فلا يسوغ فيها اختلاف، فهي إجماع (¬5)، وأما [مسائل] (¬6) الفروع، فإنه لما غلب على ظنّه صحةُ ذلك حلف عليه، كما لو وجد في دفتر أبيه أن له على فلان دَيْنًا جاز [له] (¬7) أن يدَّعيه لغلبة الظن بصدقه، قلت: ويحلف عليه، قال: فإن قيل: أليس قد امتنع من اليمين على إسقاط الشفعة بالجوار؟ قيل: لأن اليمين هناك عند الحاكم، والنية نية الخصم (¬8). قلت: ولم (¬9) يمنع أحمد اليمين لهذا، بل شفعة الجوار عنده مما يسوغ القول بها، وفيها أحاديث صحاح لا ترد (¬10)، ولهذا اختلف قوله فيها، فمرةً نفاها، ومرةً أثبتها، ومرة فصَّل بين أن يشتركا في حقوق الملك كالطريق والماء ¬

_ (¬1) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 44) ورواية الفضل أيضًا في "طبقات الحنابلة" (1/ 253) و"تهذيب الكمال" (31/ 337) و"التهذيب" (11/ 218). (¬2) كذا في مصادر التخريج، وفي جميع الأصول: "نظرت. . . خيرًا". (¬3) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 45) وذكر هذه القطعة ابن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" (1/ 344) ضمن "رسالة أحمد إلى مسدد". (¬4) "المسائل التي حلف عليها أحمد" (رقم 46) ونقل رواية الميموني ابن حجر في "التهذيب" (2/ 43 - ط دار الفكر) وفيه: "وقال الميموني: قلت: لأحمد بن خداش. . . " وهو تحريف، صوابه: "ابن حنبل". (¬5) في "المسائل التي حلف عليها أحمد": "فلا يسوغ فيها فهنّ إجماع". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (ص 89) وفيه: "والنية نية الحاكم" وفي المطبوع و (ت): "والنية فيه للخصم". (¬9) في (ق): "لم". (¬10) ذكر المؤلف جملة من أحاديث الشفعة وقد تقدم تخريجها مفصلة.

[من أدب المفتي أن يفتي بلفظ النصوص]

وغيره وبين ألا يشتركا في [شيء من] (¬1) ذلك، فلا تثبت. وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه وبه تجتمع الأحاديث، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬2)، ومذهب فقهاء البصرة، ولا نختار غيره (¬3)، وقد روى أحمد عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم حلفوا في الرواية والفتوى، وغيرهما (¬4) تحقيقًا وتأكيدًا للخبر (¬5) لا إثباتًا له باليمين، وقد قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية (¬6)، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وكذلك أقسم [بكلامه كقوله] (¬7) تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 - 2]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]، وأما إقسامه بمخلوقاته التي هي آيات دالة عليه فكثير جدًا. [من أدب المفتي أن يفتي بلفظ النصوص] الفائدة التاسعة: ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل [مع البيان التام، فهو حكم مضمونٌ له الصواب، متضمن للدليل] (8) عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعيَّن ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة [الذين سلكوا على منهاجهم] (8) يتحرون ذلك غاية التحري حتى خَلَفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص [واشتقوا لهم ألفاظأ غير ألفاظ النصوص] (¬8) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) انظر: "مجموع الفتاوى" (30/ 383)، وانظر المسألة في "المغني" (5/ 461 - "الشرح الكبير")، و"المبدع" (5/ 206) لابن مفلح. (¬3) انظر ما مضى، و"تهذيب السنن" (2/ 194 و 5/ 167)، ووقع في (ق): "ولا يختار غيره". (¬4) في المطبوع و (ت) و (ك): "وغيرها". (¬5) في (ق): "تحقيقًا للخبر وتأكيدًا". وانظر في حلف الصحابة تحقيقًا وتأكيدًا للخبر: "طبقات ابن سعد" (4/ 266) أثر لعبد اللَّه بن عمرو: "مالي ولصفين. . . واللَّه على أني ما رميت بسهم" و"الجعديات" (1112 - ط الفلاح) و"مصنف ابن أبي شيبة" (4/ 308) و"سنن البيهقي" (7/ 82)، أثر عمر: "واللَّه ما أفاد امرؤ فائدة بعد إيمان باللَّه خير من امرأة حسنة الخلق ودود" وكلاهما إسناده صحيح، وانظر: "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (رقم 61 - 62). (¬6) هذه الآية مذكورة في (ق) بعد التي تليها. (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ت): "بقوله". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت).

فأوجب ذلك هجر النصوص، [ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص] (¬1) من الحكم والدليل وحسن البيان فتولَّد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا اللَّه، فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة [عهدة] (¬2) الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك [وهلم جرًّا] (¬3). ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض. وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال اللَّه كذا، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، وفعل كذا (¬4)، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور فلما طال العهد وبُعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال اللَّه (¬5)، وقال رسول اللَّه (¬6)، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه و [قول] (¬7) رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه (¬8) -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول [ذلك] (¬9) المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ [ذلك] (¬10) الكتاب ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال (¬11) ما أحفَه ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه هذا، وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، و (ت). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "أو فعل رسول اللَّه كذا". (¬5) في (ق): "قال اللَّه تعالى كذا". (¬6) في (ق): "رسوله". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت) (¬8) في (ك) و (ق): "رسوله". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) في (ق): "والحلال".

أمر تضج منه الحقوق إلى اللَّه ضجيجًا وتعج منه الفروج والأموال والدماء (¬1) إلى ربها عجيجًا تبدل فيه (¬2) الأحكام، ويُقلب [فيه] (¬3) الحلال بالحرام، ويُجعل المعروف فيه (¬4) أعلى مراتب المنكرات، و [المنكر] (¬5) الذي لم يشرعه اللَّه ورسوله من أفضل القُرُبات، الحق فيه غريب، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسه والناس، قد فلق بهم (¬6) فالقُ الإصباح صُبْحه عن غياهب الظلمات، وأبان [لهم] (¬7) طريقه المستقيم من بين تلك الطرق (¬8) الجائرات، وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه -رضي اللَّه عنهم-، مع ما عليه أكثر الخلق من البدع المضلات، رفع له علم الهداية فشمَّر إليه (¬9)، ووضح [له] (¬10) الصراط المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له من وحيد على كثرة السكان، غريب على كثرة الجيران، بين أقوام رؤيتهم قذى العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، وحمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض القلوب، إن (¬11) أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف (¬12)، وإن طلبته [منهم] (¬13)، فأين الثريا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق (¬14) الهذيان، ولا واللَّه ما ابتلت من وَشَله (¬15) أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى، والحق منه وجوه الدفاتر (¬16) إذ بُلَّتْ بمدادهِ أقلامُهم (¬17) أَنفقوا في غير ¬

_ (¬1) في (ق): "والدماء والأموال". (¬2) قال (د): "في نسخة: "تستبدل فيه الأحكام"، ويغلب. . . إلخ". (¬3) في (ق): "ويغلب فيه"، وما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬4) في (ت) و (ك): "ويجعل فيه المعروف في"، وفي (ق): "ويجعل المعروف فيه في". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬6) في (ت) و (ك): "قد خلق له"، وفي (ق): "قد خلق لهم". (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬8) في (ق): "الطرقات". (¬9) في (ق): "رفع له علم الهدى فسري به". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) في المطبوع: "وإن". (¬12) في (ق): "لم يقبل طبعهم الإنصاف". (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬14) في (ق): "وشقايق". (¬15) "الوشل: الماء القليل" (و). (¬16) في (ق): "ركوة الدفاتر"، وفي (ك): "ربوة الدفاتر". (¬17) في (ق): "إذا بُلت بمداد ما كلامهم"، وفي (ق): "إذ بكت بمداده اقلامهم".

فصل [من أدب المفتي أن يتوجه لله ليلهم الصواب]

[شيء] (¬1) نفائسَ الأنفاس وأَتعبوا أنفسهم وحيَّروا مَنْ خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول، فحُرِمُوا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في نهاية (¬2) الحيرة وبيداء الضلالة. والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومَنْ (¬3) رَامَ إدراك الهدى، ودين الحق من غير مِشْكَاتها، فهو عليه عسيرٌ غير يُسير. فصل [من أدب المفتي أن يتوجه للَّه لِيُلْهَمَ الصواب] الفائدة العاشرة: ينبغي للمفتي الموفَّق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقارُ الحقيقيُّ [الحالي] (¬4) لا العلمي (¬5) المجرد إلى مُلْهم الصَّواب، [ومعلم الخير وهادي القلوب، أنْ يلهمه الصواب] (¬6)، ويفتح له طريق السداد، ويدلّه على حُكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة فمتى قرع هذا الباب، فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من [أمَّل] (¬7) فَضْلَ ربه تعالى أن لا يحرمه إياه، فإذا وجد من قبله (¬8) هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر اللَّه، فإن العلم نورُ اللَّه يقذفه في قلب عبده والهوى والمعصية (¬9) رياحٌ عاصفةٌ تطفئ ذلك النور أو تكاد (¬10)، ولا بد أن تُضْعِفَه. وشهدت شيخ الإسلام قدَّس اللَّه روحه إذا أعيته المسائل (¬11)، واستعصت (¬12) عليه فرَّ [منها] إلى التوبة (¬13) والاستغفار والاستغاثة (¬14) باللَّه واللَّجَأ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع و (ت) و (ك): "مهامة" وله وجه. (¬3) في (ق): "أو من". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ك): "العملي". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) في المطبوع و (ك) و (ق): "قلبه". (¬9) في (ك): "والعصبية". (¬10) في (ت): "ولا تكاد". (¬11) في (ق)، و (ت) و (ك): "غشيته المسائل"، وقال (د) بعد أن أشار إليها: "وأظنه تحريف ما أثبتناه". (¬12) في المطبوع: "واستصعبت". (¬13) في المطبوع: "فر منها إلى توبة"، وفي (ك): "إلى الاستغفار والتوبة"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬14) قال (و): "في نسخة: "والاستعانة"". =

[لا يفتي ولا يحكم إلا بما يكون عالما بالحق فيه]

إليه، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته فقلَّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مَدًا (¬1)، وتزدلف الفتوحات الإلهية [إليه] (¬2) بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفِّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه حقيقة وقصدًا (¬3)، فقد أُعطي حظه من التوفيق، ومن حرمه، فقد مُنع الطَّريقَ والرَّفيقَ فمتى أُعين مع هذا (¬4) الافتقار ببذل الجهد في درك الحق، فقد سلك به الصراط المستقيم وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم. [لا يفتي ولا يحكم إلا بما يكون عالمًا بالحق فيه] الفائدة الحادية عشرة (¬5): إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة (¬6)، فإما أن يكون عالمًا بالحق فيها أو غالبًا على ظنه بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أو لا، فإن لم يكن عالمًا بالحق فيها، ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي، ولا يقضي بما لا يعلم ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة اللَّه (¬7)، ودخل تحت قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] (¬8) وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فجعل القول عليه بلا علم أعظم المحرمات الأربع التي لا تُباح بحال، ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر ودخل تحت قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ ¬

_ = قلت: وهو المثبت في (ق) و (ك). (¬1) نقل عنه تلميذه الإمام الشاب محمد بن عبد الهادي في "العقود" (ص 6) ما نصه: "إنه ليقف خاطري في المسألة والشيء أو الحالة فأستغفر اللَّه تعالى ألف مرة أو أكثر أو أقل، حنى ينشرح الصدر، وينحل إِشكال ما أَشكل. قال: وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي". وقال (د): "في نسخة: "يتتابع ملأ"". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ت): "في ميادينه حقيقة وقصد افتقار"، وفي المطبوع: "بحقيقة وقصد". (¬4) في (ق): "أعين بهذا"، وفي (ك): "عين مع هذا". (¬5) في (ق) و (ك): "الحادية عشر"! (¬6) في المطبوع: "بالحاكم أو المفتي النازلة"، وفي (ك): ". . . النازلة". (¬7) انظر بحث ابن القيم -رحمه اللَّه- في تحريم الفتيا على اللَّه تعالى بغير علم في: "الداء والدواء" (ص 209 - 210)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 158)، و"الفوائد" (98 - 99)، و"مدارج السالكين" (1/ 372 - 374)، و"بدائع الفوائد" (3/ 275). (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "الى قوله".

الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168 - 169] ودخل في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أفتى بغير علم، فإنما إثمه على من أفتاه" (¬1)، وكان أحد القضاة الثلاثة [الذين ثُلثَاهم في النار (¬2)، وإن كان قد عرف الحق في المسألة علمًا أو ظنًا غالبًا لم يحل له أن يفتي، ولا يقضي بغيره بالإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهو أحد القضاة الثلاثة] (¬3)، والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة، وإذا (¬4) كان من أفتى أو حكم أو شهد بغير علم مرتكبًا لأعظم الكبائر فكيف من (¬5) أفتى أو حكم أو شهد بما يعلم خلافه؟ فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم يخبر (¬6) عن حكم اللَّه، فالحاكم مخبر منفذ، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الترمذي (1322)، والطبراني في "الكبير" (1154)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (54)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 865 و 4/ 1332)، والروياني في "مسنده" (66) ومحمد بن خلف وكيع في "أخبار القضاة" (1/ 13، 14) والحاكم (4/ 90)، والبيهقي (10/ 116)، وابن عبد البر في "الجامع" (1656) من طريق شريك القاضي عن الأعمش عن سعد بن عُبيدة (وفي سنن الترمذي: سهل وهو تحريف) عن ابن بُريدة عن أبيه به. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. لكن شريك لم يخرج له مسلم إلا متابعة. ورواه أبو داود (3573) والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" (2/ 94) - وابن ماجه (2315)، والطحاوي (55)، ووكيع في "أخبار القضاة" (1/ 14)، والبيهقي (10/ 116)، وابن عبد البر (1657)، من طريق خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني عن ابن بريدة به ورجاله ثقات، لكن خلف بن خليفة اختلط بأخرة. ورواه الطبراني (1156)، من طريق قيس بن الربيع عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة به، وقيس هذا ضعيف. ورواه الحاكم (4/ 90)، ووكيع (1/ 15)، وابن عبد البر (1658) من طريق عبد اللَّه بن بكير الغنوي عن حكيم بن جبير عن ابن بريدة به. قال الحاكم: صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي: ابن بكير الغنوي منكر الحديث. ورواه ابن عدي (6/ 2161) من طريق محمد بن جابر عن أبي إسحاق عن ابن بريدة به، ومحمد بن جابر هذا ضعيف، وهذه طرق تقوي الحديث بلا شك. وقد ذكره الحافظ في "الفتح" (13/ 319)، وفي "التلخيص" (4/ 185)، وقال: "وله طرق جمعتها في جزء مفرد"، وقال الذهبي في "الكبائر" (ص 103 - بتحقيقي): "إسناده قويا وصححه شيخنا الألباني في "الإرواء" (8/ 235). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "وإن". (¬5) في (ق): "بمن". (¬6) في المطبوع و (ت) و (ك): "مخبر".

[الواجب على الراوي والمفتي والحاكم والشاهد]

والمفتي مخبر غير منفذ، والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الأمري، فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه، فهو كاذب على اللَّه عمدًا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]، ولا (¬1) أظلم ممن كذب على اللَّه وعلى دينه، وإن أخبروا بما لم يعلموا، فقد كذبوا على اللَّه جهلًا، وإن أصابوا في الباطن وأخبروا بما لم يأذن اللَّه لهم في الإخبار به، وهم أسوأ حالًا من القاذف إذا رأى الفاحشة وحده فأخبر بها، فإنه (¬2) كاذب عند اللَّه، وإن أخبر بالواقع، فإن اللَّه لم يأذن له في الإخبار بها إلا إذا كان رابع أربعة (¬3)، فإن كان (¬4) كاذبًا عند اللَّه في خبر مطابق (¬5) لمخبره حيث لم يأذن له في الإخبار [به] (¬6)، [كيف بمن أخبر عن حكمه بما لم (¬7) يعلم أن اللَّه حكم به، ولم يأذن له في الإخبار به؟] (¬8)، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ] (¬9) وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32]، والكذب [على اللَّه] (6) يستلزم التكذيب بالحق والصدق، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وهؤلاء [الآيات] (8) وإن كانت في حق المشركين والكفَّار، فإنها متناولة لمن كذب على اللَّه في توحيده ودينه وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده (¬10)، واستفرغ وسعه في إصابة حكم اللَّه وشرعه، فإن هذا هو الذي فرضه اللَّه عليه، فلا يتناول المطيع للَّه إن أخطأ، وباللَّه التوفيق. [الواجب على الراوي والمفتي والحاكم والشاهد] الفائدة الثانية عشرة: حكم اللَّه ورسوله يظهر على أربعة ألسنة: لسان ¬

_ (¬1) في (ق): "فلا". (¬2) في (ق): "فهو". (¬3) في (ق): "إلا أم يكون رابع أربعة". (¬4) في (ت): "فإذا كان" (¬5) في (ك): "يطابق". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ك): "لا". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "إلى قوله". (¬10) قال (د): "في نسخة: "إذا بذل اجتهاده". قلت: وهي كذلك في (ت) و (ك).

الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم (¬1)، ولسان الشاهد، فالراوي يَظْهر على لسانه لفظ حكم اللَّه ورسوله، والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من لفظه، والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم اللَّه وتنفيذه، والشاهد يظهر على لسانه الإخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع، والواجب على هؤلاء الأربعة أن يُخبروا بالصدق المستند إلى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين في الإخبار به، وآفة أحدهم الكذب والكتمان، فمتى كَتمَ الحق أو الكذب فيه فقد خان اللَّه (¬2) سبحانه في شرعه ودينه، وقد أجرى اللَّه سنَّته أن يمحق عليه (¬3) بركة علمه ودينه ودنياه إذا فعل ذلك، كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعَيْن إذا كتما وكذبا أن يمحق بركة بيعهما (¬4)، ومن التزم الصدق والبيان [منهم] (¬5) في مرتبته بُورك له في علمه [ووقته] (¬6) ودينه ودنياه، وكان مع {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] (69) (¬7) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]، ¬

_ (¬1) في (ق): "ولسان الحاكم، ولسان المفتي". (¬2) في المطبوع و (ت) و (ك): "فقد حاد اللَّه". (¬3) في (ق) و (ك): "بالمحق عليه". (¬4) يشير إلى حديث حكيم بن حزام: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صَدَقا وبيّنا بورك لهما. . . ". رواه البخاري في مواطن منها: (2079) في (البيوع): باب إذا بيّن البيعان، ولم يكتما ونَصَحَا، ومسلم (1532) في (البيوع): باب الصدق في البيع والبيان. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬7) يشير إلى حديث التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين. رواه الترمذي (1212) في "البيوع": باب ما جاء في التجار، والدارمي (2/ 247)، والدارقطني (3/ 7)، والحاكم (2/ 6)، والبغوي (4/ 8) من طريق أبي حمزة عن الحسن البصري عن أبي سعيد الخدري به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه". كذا في المطبوع، وفي "تحفة الأشراف" كذلك، وفي بعض النسخ المطبوعة: غريب. . . ولم يذكر: "حسن"، وقال الحاكم: هذا من مراسيل الحسن، أي أنه منقطع بين الحسن وأبي سعيد. وله شاهد من حديث ابن عمر: رواه ابن ماجه (2139) في التجارات، باب الحث على المكاسب والدارقطني (3/ 7) والحاكم (2/ 6)، والبيهقي (5/ 266) من طريق كلثوم بن جوشن القشيري عن أيوب عن نافع عن ابن عمر. قال الحاكم: كلثوم قليل الحديث، فرده الذهبي بقوله: "ضعّفه أبو حاتم"، وقال أبو حاتم كما في "علل ابنه" (1/ 386): "هذا حديث لا أصل له، وكلثوم ضعيف الحديث".=

[من أدب المفتي ألا ينسب الحكم إلى الله إلا بالنص]

فبالكتمان يعزل الحق [عن] (¬1) سلطانه، وبالكذب يقلبُه عن وجهه والجزاءُ من جنس العمل فجزاء [أحدهم أن يعزله اللَّه عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يُلبسه أهل الصدق والبيان، ويُلبسه ثوب الهَوانِ والمقت والخزي] (¬2) بين عباده، فإذا كان يوم القيامة (¬3) جازى اللَّه سبحانه [من يشاء] (¬4) من الكاذبين [الكاتمين] (1) بطمس الوجوه، وردّها على أدبارها كما طمسوا وجهَ الحقِّ وقلبوه عن وجهه جزاءً وفاقًا، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. [من أدب المفتي ألا ينسب الحكم إلى اللَّه إلا بالنص] الفائدة الثالثة عشرة: لا يجوز للمفتي أن يشهد على اللَّه ورسوله بأنه أحلَّ كذا أو حرمه (¬5) أو أوجبه [أو أحبه] (¬6) أو كرهه إلا لما يعلم أنَّ الأمر فيه كذلك مما نص اللَّه ورسوله على إِباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته، وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمَّن قلده دينه فليس له أن يَشهد على اللَّه ورسوله به، ويغرَّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم اللَّه ورسوله. قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلَّ اللَّه كذا، أو حرم [اللَّه] (7) كذا، فيقول اللَّه [له] (¬7) كذبتَ لم أحل كذا، ولم أحرمه (¬8). وثبت في "صحيح مسلم" من حديث بُريدة بن الحُصَيب أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وإذا حاصرتَ حِصْنًا (¬9) فسألوك أن تنزلهم على حكم اللَّه ورسوله، فلا تنزلهم على حكم اللَّه ورسوله، فإنك لا تدري أتصيب (¬10) حكم اللَّه فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك" (¬11). ¬

_ = وكذا ضعَّفه البوصيري في "زوائده" (2/ 5) بكلثوم هذا، والعجب من تحسين ابن الفطان في "بيان الوهم والإيهام" (4/ 479) لهذا الإسناد، وانظر: تعليقي على "سنن الدارقطنى" (رقم 2774، 2775). وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ق) و (ك): "يوم اللقاء". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬5) في (ك): "أو حرم كذا". (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) ذكره المصنف في "أحكام أهل الذمة" (1/ 114 - ط رمادي). (¬9) في (ق): "أهل الحصن". (¬10) في (ك): "أصبت". (¬11) رواه مسلم (1731) في (الجهاد والسير): باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث. =

[حال المفتي مع المستفتي على ثلاثة أوجه]

وسمعتُ شيخ الإسلام يقول: حضرتُ مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا [حكم اللَّه، فقلت له: صار قول زفر هو حكم اللَّه الذي] (¬1) حكم به وألزم [به] (¬2) الأمة؟! قل: هذا حكم زفر (¬3)، ولا تقل: هذا حكم اللَّه (¬4) أو نحو هذا من الكلام. [حال المفتي مع المستفتي على ثلاثة أوجه] الفائدة الرابعة عشرة: المفتي إذا سُئل عن مسألة، فإما أن يكون قصد (¬5) السائل فيها معرفة حكم اللَّه ورسوله (¬6) ليس إلا، وإما أن يكون قصده [معرفة] (¬7) ما قاله الإمامُ الذي شهَّر المفتي نفسَه (¬8) باتّباعه وتقليده دون غيره من الأئمة، وإما أن يكون مقصوده [معرفة] (7) ما ترجَّح عند ذلك المفتي وما يعتقده فيها لاعتقاده علمه ودينه، وإمامته (¬9) فهو يرضى تقليده (¬10) أهو، وليس له غرض في قول إمام بعينه، فهذه أجناس الفتيا التي تَرِد على المفتين. ففرض (¬11) المفتي في القسم الأول أن يجيب بحكم اللَّه ورسوله إذا عرفه وتيقَّنه لا يسعه غير ذلك. وأما في القسم الثاني: فإذا عرف قول الإمام نفسه (¬12) وسعه أن يخبر به، ولا يحل له أن ينسب إليه القول ويطلق عليه أنه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها (¬13) من كلام المنتسبين إليه؛ فإنه قد ¬

_ = وذكره المصنف في "أحكام أهل الذمة" (1/ 114) وقال: "فيه حجة ظاهرة على أنه لا يسوغ إطلاق حكم اللَّه على ما لا يعلم العبد أن اللَّه حكم به يقينًا من مسائل الاجتهاد". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط (ت). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) "هو ثالث ثلاثة من أصحاب أبي حنيفة -رضي اللَّه عنه-" (ط). ووقع في (ق) و (ك): "هذا حكم زفر وقوله". (¬4) في (ت): "حكم اللَّه ورسوله". (¬5) في (ق): "مقصد". (¬6) في (ت): "ما حكم اللَّه به ورسوله". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) هكذا في (ت)، وفي المطبوع: "الذي شهَرَ. . "، وفي (ق): "الذي شهد المفتي على نفسه". (¬9) في المطبوع و (ت) و (ك): "ودينه وأمانته". (¬10) في (ق) و (ت) و (ك): "بتقليده"، وما بين المعقوفتين الآتيتين سقط من (ق). (¬11) قال (د): "في نسخة: "فغرض المفتي. . . إلخ" تحريف". (¬12) في (ك): "بنفسه". (¬13) في (ق): "وطالعها".

[يفتي المفتي بما يعتقد أنه الصواب وإن كان خلاف مذهبه]

اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم فليس كل ما في كتبهم منصوصًا عن الأئمة، بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه (¬1) لا نص لهم فيه، وكثير منه يُخرَّج على فتاويهم، وكثير منه (¬2) أفتوا به بلفظه أو بمعناه، فلا يحل لأحد أن يقول: "هذا قول فلان ومذهبه" إلا أن يعلم (¬3) يقينًا أنه قوله ومذهبه، فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدي اللَّه تعالى (¬4)! وأما القسم الثالث: فإنه يسعه أن يخبر المستفتي (¬5) بما عنده في ذلك ما يغلب (¬6) على ظنه أنه الصواب بعد بذل جهده واستفراغ وسعه، ومع هذا فلا يلزم (7) المُستفتي الأخذ بقوله وغايته أنه يسوغ له الأخذ به. فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث وليقم بواجبها، فإن الدِّينَ دينُ اللَّه، واللَّه سبحانه [ولا بُدَّ] (¬7) سائله عن كل ما أفتى به، وهو مَوْقرة (¬8) عليه، ومحاسب ولا بد، واللَّه المستعان. [يفتي المفتي بما يعتقد أنه الصواب وإن كان خلاف مذهبه] الفائدة الخامسة عشرة: ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي اللَّه [سبحانه] (¬9) أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا فتحمله الرياسة على أن يقتحم (¬10) الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائنًا للَّه ورسوله وللسائل وغاشًا له، واللَّه لا يهدي كيد الخائنين، وحرَّم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضادٌّ للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد [فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده] (¬11) ¬

_ (¬1) في (ق): "وكثير منها". (¬2) في (ق): "وكثير منهم". (¬3) في (ق): "يعلمه". (¬4) في (ق): "يدي اللَّه سبحانه". (¬5) في (ق): "المفتي". (¬6) في (ت): "ومما"، وفي المطبوع: "مما". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ت)، وفي (ق): "لا بد أن يسأله". (¬8) أي: يحمله حملًا ثقيلًا، وذلك من شدة المحاسبة والمؤاخذة، وفي (ق): "موقف عليه ومحاسبة". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) في (ق): "يتقحم". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ت).

[لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة]

فنحكي (¬1) المذهب [ثم نحكي المذهب] (¬2) الراجح ونرجِّحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يُؤخذ به، وباللَّه التوفيق. [لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة] الفائدة السادسة عشرة (¬3): لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل (¬4)، وإلقاؤُه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبيّن بيانًا مزيلًا للإشكال متضمنًا لفصل الخطاب كافيًا في حصول المقصود لا يحتاج معه إلى غيره (¬5)، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض اللَّه عز وجل وكتبه فلان، وسُئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلَّى على حديث عائشة (¬6)، وإن كان هذا أعلم من الأول، وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال: أما أهل الإيثار فيخرجون المال [كله] (¬7)، وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه (¬8) أو كما قال. وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد. قال أبو محمد بن حزم (¬9): وكان عندنا مُفْت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب [هو] (¬10): جوابي فيها مثل جواب الشيخ، فقُدِّر ¬

_ (¬1) في (ق): "ثم نحكي"، وفي الهامش: "لعله: بل نحكي". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ت)، وسقط من (ق) كلمة: "المذهب" فقط. (¬3) في (ق) و (ك): "عشر". (¬4) في (ق): "وتخييره السائل". (¬5) عنون على هذه الفقرة في هامش (ق) بقوله: "جواب هؤلاء المفتين"، وفيها: "وتخيره السائل". (¬6) حديث عائشة في صلاة الكسوف: رواه البخاري (1049 و 1050) في "الكسوف": باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف، و (1055 و 1056) باب صلاة الكسوف في المسجد، ومسلم (901) في أول صلاة الكسوف. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) قيل لبعضهم: في كم تجب الزكاة، قال: على مذهبنا أم على مذهبكم؟ ثم قال: أما على مذهبنا، فالكل للَّه، وأما على مذهبكم، فكذا وكذا، أو كما قاله، قاله الشاطبي في "الاعتصام" (1/ 338 - بتحقيقي). (¬9) في "الإحكام" (6/ 77)، ونصه هناك: ". . . مفتيًا كان عندنا بالأندلس، وكان جاهلًا، فكانت عادته أن يتقدمه رجلان كان مدار الفتيا عليهما في ذلك الوقت، فكان يكتب تحت فتياهما: أقول بما قاله الشيخان، فقضي أن ذينك الشيخين اختلفا، فلما كتب تحت فتياهما ما ذكرنا؛ قال له بعض من حضر: إن الشيخين اختلفا!! فقال: وأنا اختلف باختلافهما!! ". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق).

أن مفتيين اختلفا [في جواب] (¬1) فكتب تحت جوابهما: جوابي (¬2) مثل جواب الشيخين، فقيل له: إنهما قد تناقضا فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا. وكان في زماننا رجل مشار (¬3) إليه بالفتوى، وهو مقدَّم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب يجوز كذا أو يصح كذا (¬4)، أو ينعقد بشرطه فأرسل إليه يقول [له] (1): تأتينا فتاوى [منك] (1) فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبيّن شرطه، وأما أن لا تكتب ذلك. وسمعت شيخنا يقول: كلُّ أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن (¬5) أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أو يصح بشرطه أو يقبل (¬6) بشرطه ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكده (¬7)، وكذلك قول بعضهم في فتاويه: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، فيا سبحان اللَّه! واللَّه لو كان الحاكم شُريحًا وأشباهه لما كان مردُّ أحكام اللَّه ورسوله إلى رأيه، فضلًا عن حُكَّام زماننا، فاللَّه المستعان. وسئل بعضهم (¬8) عن مسألة فقال: فيها خلاف، فقيل له: كيف يعمل المفتي؟ فقال: يختار له [القاضي] (¬9) أحد المذهبين. قال أبو عمرو بن الصلاح (¬10): كنت عند أبي السعادات ابن الأثير الجزري، فحكي له (¬11) عن بعض المفتين أنَّه سُئل عن مسألة فقال: فيها قولان، فأخذ يزري عليه، وقال (¬12): هذا حيدٌ عن الفتوى، ولم يخلِّص السائل من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬2) أشار في هامش (ق): إلى أنه في نسخة: "جواب". (¬3) في (ق): "يشار". (¬4) في (ق): "ويصح كذا". (¬5) في (ق) و (ك): "فإنه". (¬6) في (ق) و (ك): "أو ينعقد". (¬7) في المطبوع و (ك): "وتبلده"، وأشار (د) في الحاشية إلى ما أثبتاه من (ق). (¬8) هو أبو حامد محمد بن يونس الإربلي، أفاده ابن الصلاح في "آدب المفتي والمستفتي" (ص 133). (¬9) ما بين المعقوفتين من (ت). (¬10) في كتابه "أدب المفتي والمستفتي" (ص 130). (¬11) في المطبوع: "فحكى لي"، وفي (ق): "يحكي" فقط. (¬12) في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 130) بعد النقل السابق عن ابن الأثير ما نصه: "فقال الشيخ ابن الأثير: كان الشيخ أبو القاسم بن البَزْري -وهو علامة زمانه في المذهب- إذا كان في المسألة خلاف، واستفتي عنها، يذكر الخلاف في الفُتيا، ويقال له في ذلك، فيقول: لا أتقلَّد العهدة مختارًا لأحد الرأيين، مقتصرًا عليه، وهذا حيد عن غرض الفتوى، وإذا لم يذكر شيئًا أصلًا فلم يتقلّد العهدة أيضًا، ولكنه لم يأت بالمطلوب حيث لم يخلّص السائل عن عمايته".

عمايته (¬1)، ولم يأت بالمطلوب. قلت: وهذا فيه تفصيل، فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها، فلا يقدم على الجزم بغير علم وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل، وكثيرًا ما يسأل الإمام أحمد [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) وغيره من الأئمة عن مسألة فيقول: فيها قولان أو قد اختلفوا فيها، وهذا كثير في أجوبة (¬3) الإمام أحمد لسعة علمه، وورعه، وهو كثير في كلام [الإمام] (2) الشافعي [-رضي اللَّه عنه-] (2) يذكر المسألة ثم يقول: فيها قولان، وقد اختلف أصحابه (¬4) هل يضاف القولان اللَّذان يحكيهما إلى مذهبه ويُنسبان إليه أم لا؟ على طريقين، وإذا اختلف عليُّ وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد وأبيّ وغيرهم من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-]، ولم يتبين للمفتي القول الراجح من أقوالهم فقال: هذه مسألة اختلف فيها فلان وفلان من الصحابة، فقد انتهى (¬5) إلى ما يَقْدر عليه من العلم. قال أبو إسحاق الشيرازي (¬6): سمعت شيخنا أبا الطيب [الطبري] يقول: سمعت أبا العباس الخُضَري (¬7) يقول: كنت جالسًا عند أبي بكر بن داود الظاهري فجاءته ¬

_ (¬1) في (ت): "غايته"! (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬3) في (ق): "جواب". (¬4) في (ق): "وقد اختلف فيها وقد اختلف". (¬5) في (ق): "أنهى". (¬6) في كتابه "طبقات الفقهاء" (ص 175 - 176) وعنه الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 256 - 257) ومحمد بن عبد الملك الهَمَذاني في "تكملة تاريخ الطبري" (198 - 199) وابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (131 - 133) وقال: "ولقد وقع ابن داود بعيدًا عن مناهج المفتين في تعقيده هذا وتسجيعه، وتحييره من استرشده وتضييعه". (¬7) في جميع الأصول: "الحضرمي"!! وهو خطأ، والمثبت من (ك) والمصادر السابقة، و (الخضري) نسبة إلى بيع البقل، كما في "المشتبه" (1/ 238)، وفي "الإكمال" (3/ 255، 256): "الخضري: بخاء معجمة مضمومة، وضاء معجمه مفتوحة، وأبو العباس الخضري: قال حضرت مجلس أبي بكر بن أبي داود، سمع منه القاضي أبو الطيب، لا أعرف اسمه" وقال ابن الصلاح في "أدب المفتي"، قلت: التصحيف شين، فاعلم أن أبا العباس الخضري هذا، هو بخاء معجمة مضمومة، وبضاد معجمة مفتوحة". وذكر القصة بطولها ابن ناصر الدين في "توضيح المشتبه" (3/ 248 - 249) واستدرك على ابن ماكولا قوله: "ابن أبي" وبيّن أنها وقعت كذلك في القصة نفسها عن ابن الجوزي في "المحتسب"، والصواب حذف (أبي). وقال الخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 257): "قال لي القاضي أبو الطيب: كان الخضري شافعي المذهب، إلا أنه كان يعجب بابن داود، يقرظه ويصف فضله".

[الإفتاء في شروط الواقفين]

امرأة فقالت: ما تقول في رجلٍ له زوجة لا [هو] (¬1) مُمسكها ولا [هو] (1) مطلِّقها؟ فقال [لها] (1): اختلف في ذلك أهل العلم فقال قائلون: تُؤمر بالصَّبر والاحتساب ويُبعثُ (¬2) على التطلّب والاكتساب، وقال قائلون: يُؤمر بالإنفاق: ولا (¬3) يُحمل على الطلاق، فلم تفهم المرأة قوله فأعادت المسألة فقال: يا هذه! [قد] (¬4) أجبتُك عن (¬5) مسألتك، وأرْشدتُك إلى طلبتك، ولست بسلطان (¬6) فأمضي، ولا قاض (¬7) فاقضي، ولا زوج فأُرْضِي، انصرفي (¬8). [الإفتاء في شروط الواقفين] الفائدة السابعة عشرة (¬9): إذا سئل عن مسألة فيها شرط واقف لم يحل له أن يلزم بالعمل به، بل ولا يسوغه على الإطلاق حتى ينظر في ذلك الشرط، فإن كان يخالف حكم اللَّه ورسوله فلا حُرمةَ له، ولا يحل له تنفيذه، ولا يسوغ تنفيذه، وإن لم يخالف حكم اللَّه ورسوله فلينظر هل فيه قربة أو رجحان عند الشارع أم لا؟ فإن لم يكن فيه قربة ولا رجحان لم يجب التزامه، ولم يحرم، فلا تضر مخالفته، وإن كان فيه قربة وهو راجح على خلافه، فلينظر هل يفوت بالتزامه والتقييد به ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله وأرضى له، وأنفع للمكلف وأعظم تحصيلًا لمقصود الواقف من الأجر (¬10)؟، فإن فات ذلك بالتزامه لم يجب التزامُه ولا التّقييدُ به قطعًا وجاز العدول، بل يُستحب (¬11) إلى ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله، وأنفع للمكلف وأكثر تحصيلًا لمقصود الواقف (¬12) وفي جواز التزام شرط (¬13) الواقف في هذه الصورة (¬14) تفصيل سنذكره إن شاء اللَّه [تعالى] (¬15)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ت). (¬2) في (ق): "وتبعث"!! قال ابن الصلاح: "في أوله الياء التي هي للمذكر". (¬3) في (ق): "وإلا". (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬5) في (ق): "إلى". (¬6) في (ق): "ولست سلطان"! (¬7) في (ت): "ولست بقاض"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة ما أثبتناه. (¬8) في المطبوع: "فانصرفي". (¬9) في (ق) و (ك): "عشر". (¬10) في (ق): "من الآخر". (¬11) في (ك): "استحب". (¬12) انظر: "فتاوى ابن تيمية" (3/ 389 - 390) و"أحكام الوقف في الشريعة الإسلامية" (1/ 278 وما بعد). (¬13) في (ك): "الشرط". (¬14) في (ق): "الصور". (¬15) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ك) و (ت).

وإن كان [فيه] (¬1) قربة وطاعة، ولم يفت بالتزامه (¬2) ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله منه وتساوى هو وغيره في تلك القربة، ويحصل (¬3) غرض الواقف بحيث يكون هو وغيره طريقين موصلين (¬4) إلى مقصوده ومقصود الشارع من كل وجه لم يتعيَّن عليه التزام الشرط، بل له العدول عنه إلى ما هو أسهل عليه وأرفق [به] (¬5)، وإن ترجَّح موجب الشرط، وكان قصد القربة والطاعة فيه أظهر وجب التزامه. فهذا هو القول الكلي في شروط الواقفين، وما يجب التزامه منها (¬6)، وما يسوغ، وما لا يجب. ومن سلك غير هذا المسلك تناقض أظهر تناقض، ولم يثبت له قدم يعتمد عليه. فإذا شَرَط الواقف أن يصلِّي الموقوف عليه في هذا المكان المعيَّن الصلوات الخمس، ولو (¬7) كان وحده إلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين لم يجب عليه الوفاء بهذا الشرط، بل، ولا يحل [له] (11) التزامه إذا فاتته الجماعة، فإن الجماعة إما شرطٌ لا تصح الصلاة بدونها، وإما واجبة يستحق تاركها العقوبة، وإن صحَّت صلاته، وإما سنة مؤكدة يقاتل تاركها (¬8) وعلى (¬9) كل تقدير، فلا يحل (¬10) التزام شرط يُخلُّ بها. وكذلك إذا شرط الواقف العزوبية وترك التأهل لم يجب الوفاء بهذا [الشرط بل] (¬11)، ولا التزامه، بل من التزمه رغبةً عن السنة فليس من اللَّه ورسوله في شيء، فإن النِّكاح عند الحاجة إليه إما فرضٌ يُعاقب (¬12) تاركه، وإما سنة الاشتغال به (¬13) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك) و (ق). (¬2) في (ك): "لم يفت بالتزام". (¬3) في (ق): "وتحصيل"، وفي (ك): "وتحصل". (¬4) في (ق): "موصله". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في (ق): "فيها". (¬7) في (ق): "وإن". (¬8) كذا في جميع الأصول!! ولعل سقطًا وقع بين "مؤكدة" و"يقاتل"، فتأمل. (¬9) في (ق): "على". (¬10) في المطبوع: "فلا يصح". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق)، وفي (ك): "الشرط" فقط. (¬12) في المطبوع و (ت) و (ك): "يعصي". (¬13) في المطبوع و (ت) و (ك): "الاشتغال بها".

أفضل من صيام النهار وقيام الليل وسائر أوراد التطوعات، وإما سنة يثاب [فاعلها، كما يثاب] (¬1) فاعل السنن والمندوبات، وعلى كل تقدير، فلا يجوز اشتراط تعطيله أو تركه إذ يصير مضمون هذا الشرط [أنه] (¬2) لا يستحق تناول الوقف إلا من عطَّل ما فرض اللَّه عليه وخالف سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن فعل ما فرضه [اللَّه عليه] (1) وقام بالسنة لم يحل له أن يتناول من هذا الوقف شيئًا، ولا يخفى ما في التزام هذا الشرط والإلزام به من مضادة اللَّه ورسوله، وهو أقبح (¬3) من اشتراطه (¬4) ترك الوتر والسنن الراتبة وصيام الاثنين والخميس (¬5) والتطوع بالليل، بل أقبح من اشتراطه (¬6) ترك ذكر اللَّه بكرة وعشيًا ونحو ذلك. ومن ذلك (¬7) اشتراطه أن يصلي الصلوات في التربة المدفون بها ويدع المسجد، وهذا أيضًا مضاد لدين الإسلام أعظم مضادة، فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن المتخذين قبور أنبيائهم مساجد (¬8)، فالصلاة في المقبرة معصية للَّه ورسوله باطلة عند كثير من أهل العلم لا يقبلها اللَّه، ولا تبرأ الذمة بفعلها (¬9)، فكيف يجوز التزام شرط الواقف لها وتعطيل شرط اللَّه ورسوله، فهذا يغير (¬10) الدين لولا أن اللَّه سبحانه يقيم له من يبيِّن أعلامه ويدعو إليه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) وبعدها فيها: "إلا". (¬3) في (ت): "وهو من أقبح"، و"من" زائدة. (¬4) في (ق): "اشتراط". (¬5) في المطبوع و (ت): "وصيام الخميس والاثنين". (¬6) في (ق): "اشتراط". (¬7) في المطبوع و (ت) و (ك): "ومن هذا". (¬8) أخرج البخاري في "صحيحه" (كتاب الصلاة): باب منه (1/ 532/ رقم 435، 436)، و (كتاب الجنائز): باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (3/ 200/ رقم 1330)، وباب ما جاء في قبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (3/ 255/ رقم 1390)، و (كتاب أحاديث الأنبياء): باب ما ذُكر عن بني إسرائيل (6/ 494 - 495/ رقم 3453، 3454)، و (كتاب المغازي): باب مرض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ووفاته (8/ 140/ رقم 4441، 4443، 4444)، و (كتاب اللباس): باب الأكسية والخمائص (10/ 2770 / رقم 5815، 5816)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب المساجد ومواضع الصلاة): باب النهي عن بناء المساجد على القبور (1/ 377 / رقم 529، 531) عن عائشة وابن عباس رفعاه: "لعنة اللَّه على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ يحذر مما صنعوا". (¬9) انظر: "الاختيارات العلمية" (ص 25) و"اقتضاء الصراط المستقيم" (ص 329 - 330) و"تحذير الساجد" (ص 187 - 189)، وكتابي "القول المبين" (ص 73 - 77) وفي (ت): "ولا تبرئ الذمة"، وفي (ق): "ولا تبرأ الذمة". (¬10) في المطبوع و (ت): "فهذا تغيير"، وفي (ك): "فهكذا يغير".

ومن ذلك اشتراط إيقاد سراج أو قنديل على قبر، فلا يحل للواقف اشتراط ذلك (¬1)، ولا للحاكم تنفيذه، ولا للمفتي تسويغه، ولا للموقوف عليه فعله والتزامه، فقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المتخذين السُّرُج على القبور (¬2)، فكيف يحل للمسلم أن يُلْزم أو يُسَوِّغ فعل ما لعن رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعلَه؟ وحضرتُ بعض قضاة الإسلام يومًا، وقد جاءه كتابُ وقف على تربة ليثبته (¬3)، وفيه: "وأنه (¬4) يُوقد على القبر كلَّ ليلة قنديلٌ" فقلتُ له: كيف يَحلُّ لك أن تثبت هذا الكتاب وتحكم بصحته مع علمك بلعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المتخذين (¬5) السُّرُجَ على القبور؟ فأمسك عن إثباته، وقال: الأمر كما قلت أو كما قال. ومن ذلك أن يشترط القراءة عند قبره دون البيوت التي {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ¬

_ (¬1) في (ق): "شرط ذلك". (¬2) رواه أبو داود الطيالسي (2733)، وأحمد في "مسنده" (1/ 229 و 287 و 324 و 337)، وابن أبي شيبة (2/ 376 و 3/ 344)، وأبو داود (3236) في "الجنائز": باب ما جاء في النهي عن زيارة القبور، والترمذي (320) في الصلاة، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدًا، وابن ماجه (1575) في الجنائز: باب ما جاء في النهي عن زيارة القبور، والنسائي (4/ 94) في "الجنائز": باب التغليظ في اتخاذ السرج على القبور، وابن حبان (3179، و 3180)، والحاكم (1/ 374)، والطبراني (12725)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 70 - 71)، والبيهقي (4/ 78)، والبغوي (510) من طريق محمد بن جُحادة عن أبي صالح عن ابن عباس: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسُّرج"، وأبو صالح هذا هو باذام، ويقال: باذان مولى أم هانئ، وهو ضعيف في الرواية، وقد جاء اسمه مُصَرَّحًا به في رواية علي بن مسلم الطوسي عن أبي داود الطيالسي، كما ذكر المزي في "تحفة الإشراف" (4/ 368)، وقد جزم أنه هو المقصود: عبد الحق وابن القطان وابن عساكر والمنذري وابن دحية وغيرهم ذكره الحافظ في "تهذبب التهذيب" في ترجمة أبي صالح "ميزان"، ومع ضعف باذام إلا أن الترمذي قال: "حديث حسن"!! أما ابن حبان فقد رجحه أنه هو "ميزان" الراوي الثقة ولذلك أخرجه في "صحيحه". وذكر المزي وابن حجر رواية لشعبة، والحسن بن أبي جعفر والحسين بن دينار، وأبي الربيع السمان، ومحمد بن طلحة بن مصرف عن محمد بن جحادة عن أبي صالح السَمَّان عن ابن عباس! لكن نرجح ما رجح أهل العلم في هذا واللَّه أعلم. وقد ذكره شيخنا الألباني -رحمه اللَّه تعالى- في "السلسلة الضعيفة" (225)، ولم يذكر شيئًا مما قلنا، فلعله لم يقف على هذا الاختلاف. (¬3) في (ق): "ليثبت". (¬4) في (ق): "وأن". (¬5) في المطبوع و (ت): "للمتخذين".

وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ]} (¬1) [النور: 36] والناس لهم [فيها] (¬2) قولان: أحدهما: أن القراءة لا تصل إلى الميت، فلا فَرْقَ [بين] (¬3) أن يقرأ عند القبر أو بعيدًا منه عند هؤلاء. [و] (¬4) الثاني: أنها تصل، ووصولها فرع حصول الثواب (¬5) للقارئ، ثم ينتقل منه إلى الميت فإذا كانت قراءة القارئ ومجيئه إلى القبر إنما هو لأجل الجعل، [و] (3) لم يقصد به التقرب إلى اللَّه لم يحصل له ثواب فكيف ينقل عنه إلى الميت وهو فرعه؟ فما زاد بمجيئه إلى التربة إلا العناء والتعب (¬6) بخلاف ما إذا قرأ [اللَّه] (4) في المسجد أو غيره في مكان [يكون] (¬7) أسهل عليه وأعظم لإخلاصه، ثم جعل ثواب ذلك للميت وصل إليه. وذاكرت مرةً (¬8) بهذا المعنى بعض الفضلاء فاعترف به، وقال: لكن (¬9) بقي شيء آخر، وهو أن الواقف قد يكون قصد انتفاعه بسماع القرآن على قبره ووصول بركة ذلك إليه، فقلت له: انتفاعه بسماع القرآن مشروطٌ بحياته فلما مات انقطع عمله [كله] (4)، واستماع القرآن من أفضل الأعمال الصالحة، وقد انقطع بموته، ولو كان ذلك ممكنًا لكان السلف الطئب من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم أولى بهذا الحظ العظيم لمسارعتهم إلى الخير وحرصهم عليه ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فالذي لا شك فيه أنه لا يجب حضور التربة (¬10)، ولا تتعيَّن القراءة عند القبر. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاختيارات العلمية" (ص 54): "ولم يكن من عادة السلف إذا. . . قرؤوا القرآن يهدون ثواب ذلك إلى أموات المسلمين، فلا ينبغي العدول عن طريقة السلف، فإنه أفضل وأكمل" وفصّلتُ المسألة في تعليقي على "التذكرة" للقرطبي، يسر اللَّه إتمامه ونشره، وانظر: "أحكام الجنائز" (ص 221 وما بعد)، وما بين المعقوفتين من (ت) و (ك) و (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) المطبوع: "الصواب". (¬6) في (ق): "إلا العناد والتعب". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬8) في (ق): " وذاكرت يومًا". (¬9) في (ق): "ولكن". (¬10) في (ت): "التربة" فقط! وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة أخرى بدلها: "التزامه" وهو الأصح.

ونظير هذا ما لو وقف وقفًا يتصدَّق به عند القبر، كما يفعل (¬1) كثير من الجهال، فإن في ذلك من تعنية الفقير وإتعابه وإزعاجه من موضعه إلى الجبَّانة في حال الحر والبرد والضعف حتى يأخذ تلك الصدقة عند القبر مما لعله (¬2) أن يحبط أجرها ويمنع (¬3) انعقاده بالكلية. ومن هذا لو شرط واقف الخانقاه وغيرها على أهلها أن لا يشتغلوا بكتابة العلم وسماع الحديث والاشتغال بالفقه، فإن هذا شرط باطل مضاد لدين الإسلام لا يحل تنفيذه، ولا التزامه، ولا يستحق من قام به شيئًا من [هذا] (¬4) الوقف، فإن مضمون هذا الشرط أن الوقف المعيَّن إنما يستحقه من ترك ما يجب عليه من العلم النافع وجهل أمر اللَّه ورسوله ودينه (¬5)، و [جهل] (¬6) أسماءه وصفاته وسنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأحكام الثواب والعقاب، ولا ريب أن هذا الصنف [من] شرار خلق اللَّه وأمقتهم (¬7) عند اللَّه ورسوله وهم خاصة الشيطان وأولياؤه وحزبه {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]. ومن ذلك أن يشترط الواقف أن لا يقرأ في ذلك المكان شيء من آيات الصفات وأحاديث الصفات، كما أمر به بعض [أعداء اللَّه] (¬8) من الجهمية لبعض الملوك، وقد وقف مسجدًا للَّه تعالى، ومضمون هذا الشرط المضاد لما بعث اللَّه به رسوله أن تُعطَّل أكثرُ آيات القرآن عن التلاوة والتَّدبُّر والتَّفهُّم (¬9)، وكثير من السنة أو أكثرها [عن] (4) أن تُذكر أو تُروى أو تُسمع أو يُهتدى بها ويُقام سوق التجهم والكلام المبتدع [المذموم] (¬10) الذي هو كفيل بالبدع والضلالة والشك والحيرة (¬11). ومن ذلك أيضًا أن يقف مكانًا أو مسجدًا أو مدرسة أو رباطًا على طائفة معينة [من الناس] (¬12) دون غيرهم كالعجم مثلًا أو الروم أو الترك أو غيرهم، ¬

_ (¬1) في (ق): "يفعله". (¬2) في (ق): "ما لعله". (¬3) في (ق): "أو يمنع". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ت): "أمر اللَّه ودينه ورسوله"، وفي (ك): "أمر اللَّه ورسوله". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬7) في (ق): "وأبغضهم"، وما بين المعقوفتين سقط منها. (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "أعداءه". (¬9) في (ق): "والتفهم والتدبر"، بتقديم وتأخير. (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) في (ق): "والضلال والحيرة". (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

وهذا من أبطل الشروط؛ [فإن مضمونه] (¬1) أن أقارب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذرية المهاجرين والأنصار لا يحل لهم أن يصلّوا في هذا المسجد، ولا ينزلوا في هذا الرباط أو المدرسة أو الخانقاه (¬2)، بل لو أمكن أن يكون أبو بكر وعمر وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان -رضي اللَّه عنهم- بين أظهرنا حرم عليهم النزول بهذا المكان الموقوف. وهذه الشروط والاشتغال بها والاعتداد بها من أسمج الهذيان، ولا تصدر من قلب طاهر ولا ينفذها من شم روائح العلم الذي بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكذلك لو شرط أن يكون المقيمون بهذه الأمكنة طائفة من أهل البدع، كالشيعة والخوارج والمعتزلة والجهمية (¬3) والمبتدعين في أعمالهم، كأصحاب الإشارات، واللاذن، والشير (¬4)، والتغبير (¬5) وأكل الحيَّات وأصحاب النار وأشباه الذئاب المشتغلين بالأكل والشرب والرقص لم يصح هذا الشرط، وكان غيرهم أحق بالمكان منهم وشروط اللَّه أحق. فهذه الشروط [وأضعافها] (¬6) وأضعاف أضعافها من باب التعاون على الإثم والعدوان واللَّه تعالى إنما أمر بالتعاون على البر والتقوى، وهو ما شرعه على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دون ما لم يشرعه فكيف بما شُرع (¬7) خلافه؟! والوقف إنما يصح على القُرَب والطاعات، [ولا فرق] (6) في ذلك بين مصرفه وجهته وشرطه (8)، فإن الشرط صفة وحال في الجهة [والمصرف] (6) فإذا اشترط (¬8) أن يكون [المصرف] (¬9) قربة وطاعة فالشرط كذلك، ولا يقتضي الفقه إلا هذا، ولا ¬

_ (¬1) في (ق): "فمضمونه". (¬2) في (ق): "والمدرسة والخانقات". (¬3) في (ق): "والجهمية والمعتزلة". (¬4) "الشير" مستحضر الحشيشة، و"شيرى" (قنباص) الصوف، انظر: "تكملة المعاجم العربية" (6/ 396) وفي (ق): "واللاذن والنبر". (¬5) التغبير: تطريب الشعر الذي فيه ذكر اللَّه، وعقد الخلال في كتابه "الأمر بالمعروف" (ص 97 - 99 بضخقيقي) فصلًا في ذكر التغبير، وذكر كراهة أحمد لذلك في تسعة آثار، وممن نص على بدعيته: ابن الجوزي في "تلبيس إبليس" (ص 230) والسيوطي في "الأمر بالاتباع" (ص 111 - بتجقيقي)، والذي أثبتناه من (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ: "والعنبر"!! (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ت): "بما شرعه". (¬8) قال في هامش (ق): "قال في الفروع" [4/ 600]: "لا. . . [يتعين] طائفة وقف عليها مسجدًا، أو مقبرة، كالصلاة فيه"، وفيها: "شرط" بدل "اشترط". (¬9) في (ت) و (ك): "المصروف"، وقد سقط من (ق).

يمكن أحدًا أن ينقل عن أَئمة الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق ما يخالف ذلك [البتة] (¬1)، بل نَشهد باللَّه وللَّه (¬2) أن الأئمة لا تخالف ما ذكرناه (¬3)، [وأن هذا نفس قولهم، وقد أعاذهم اللَّه من غيره] (1)، وإنما يقع الغلط لكثير (¬4) من المنتسبين إليهم في فهم أقوالهم، كما وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من أهل عصرنا: ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف على أهل الذمة هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم؛ فأجاب بصحة الوقف وتقييد الاستحقاق بذلك الوصف، وقال: هكذا قال أصحابنا، ويصح الوقف على أهل الذمة (¬5)، فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع: "باللَّه واللَّه"، وفي (ق): "للَّه وباللَّه". (¬3) في (ق): "لا يخالفون ما ذكرنا". (¬4) في (ت) و (ك): "الغلط الكثير"، وفي المطبوع: "الغلط من كثير". (¬5) هذا هو المنصوص عليه في كتب الحنفية، قال ابن عابدين في "منحة الخالق" (5/ 254): "ولو عين مساكين أهل دينه: تعينوا، ولا يجوز صرفها لغيرهم، فإن فرقها القيم في غيرهم: يكون ضامنًا لما فرق لمخالفته الشرط، وإن كان أهل الذمة ملة واحدة، لتعين الوقف بمن يعينه الواقف" وقالوا: شرط الواقف غير المسلم معتبر كشرط الواقف المسلم، حتى لو أنه شرط أن من أسلم من ولده أخرج: اعتبر شرطه، كشرط المعتزلي أن من صار سنيًا أخرج، وليس هذا من قبل اشتراط المعصية: لأن التصدق على الكافر -غير الحربي- قربة وقالوا: وليس في المذهب خلاف -يعتد به- في ذلك انظر: "الإسعاف" (102). ومع ذلك، فإن الطرسوسي -من متاخري الحنفية- أنكر هذا وشنع عليه: بأنه من قبيل جعل الكفر سببًا للاستحقاق، والإسلام سببًا للحرمان. وقد أجاب الكمال بن الهمام، فقال في "فتح القدير" (5/ 38) ما نصه: "وهذا للبعد عن الفقه، فإن شرائط الواقف معتبرة إذا لم تخالف الشرع، والواقف مالك: له أن يجعل ماله حيث شاء ما لم يكن معصية، وله أن يخص صنفًا من الفقراء دون صنف، وإن كان الوضع في كلهم قربة، ولا شك أن التصدق على أهل الذمة قربة حتى جاز أن تدفع إليهم صدقة الفطر والكفارات عندنا، فكيف لا يعتبر شرطه في صنف دون صنف من الفقراء؟!. . . والإسلام ليس سببًا للحرمان، بل الحرمان: لعدم تحقق سبب نملكه هذا المال والسبب هو: إعطاء الواقف المالك". وانظر: "أحكام أهل الذمة" للمصنف (1/ 601 - 606 - ط الرمادي) و"القواعد" (2/ 594 - بتحقيقي) لابن رجب، و"أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام" (ص 72) و"أحكام الوقف" (1/ 411 - 412). وفي هامش (ق): "يجوز الوقف على الذميين، وشرط الاستحقاق ما دام ذميًا لاغٍ، وصحّحه في "الفنون""، وفيها: "وصح" بدل "ويصح".

الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من أهل الذمة ليس مانعًا من صحة الوقف عليه بالقرابة (¬1) أو بالتعيين وليس مقصودهم أن الكفر باللَّه ورسوله وعبادة الصليب (¬2) وقولهم: إن المسيح ابن اللَّه شرط لاستحقاق الوقف حتى أن مَنْ آمن باللَّه ورسوله واتّبع دين الإسلام لم يحل له أن يتناول بعد ذلك من الوقف فيكون حل تناوله مشروطًا بتكذيب اللَّه ورسوله والكفر بدين الإسلام، ففرق (¬3) بين كون وصف الذمة مانعًا من صحة الوقف وبين كونه مقتضيًا، فغلظ طبع هذا المفتي وكثف فهمه وغلظ حجابه [عن] (4) ذلك [ولم يميز] (¬4). ونظير هذا أن يقف على الأغنياء، فهذا يصح إذا كان الموقوف عليه غنيًا أو ذا قرابة (¬5)، فلا يكون الغنى مانعًا، ولا يصح أن يكون جهة الاستحقاق هو الغنى فيستحق ما دام غنيًا فإذا افتقر واضطر إلى ما يقيم أوَدَه حرم عليه تناول الوقف، فهذا لا يقوله إلا مَنْ حُرم التّوفيق وصَحِبه الخُذْلان، ولو رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[أحدًا] (4) من الأمة (¬6) يفعل [لك] (4) لاشتدَّ إنكاره وغضبه [عليه، ولما أقره ألبتة] (4)، وكذلك لو رأى رجلًا من أمته قد وقف على من يكون من [الرجال] (4) عزبًا غير متأهل، فإذا تأهّل حرم عليه تناول الوقف لاشتد غضبه ونكيره (¬7) عليه، بل دينه يخالف هذا، فإنه [كان] (4) إذا جاءه مال أعطى العزب حظًا وأعطى الآهل حظين (¬8)، وأخبر أن ثلاثة حق على اللَّه عونهم [فذكر منهم] (4): الناكح يريد العفاف (¬9). ¬

_ (¬1) في (ت): " بالقران". (¬2) في المطبوع و (ت) و (ك): "وعبادة الصليب". (¬3) في (ت) و (ق) و (ك): "فالفرق". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ت) و (ق) و (ك): "الموقوف عليه معينًا أو قرابة". (¬6) في المطبوع و (ت): "الأئمة"، وأشار في هامش (ت) إلى أنه في نسخة: "الأمة"، ولعله الصواب، وما بعدها في (ق): "يفعله". (¬7) في (ق): "وأنكره". (¬8) أخرج ابن أبي شيبة (12/ 348)، وأحمد (6/ 25 - 26، 29)، وأبو داود (2953)، وابن الجارود في "المنتقى" (1112)، والطبراني في "الكبير" (18/ رقم 80، 81، 82)، وابن حبان في "الصحيح" (4816 - "الإحسان")، والحاكم (2/ 140 - 141)، والبيهقي (6/ 346)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 152) عن عوف بن مالك قال: كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أتاه الفيء قسمه في يومه، فأعطى الآهل حَظَّيْن، وأعطى العزب حظًا. وإسناده صحيح، وعزاه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 584) إلى أحمد في رواية أبي طالب، وقال: "حديث حسن" وخرجته بتفصيل في تعليقي على "الحنائيات" يسر اللَّه نشره بمنّه وكرمه. (¬9) سبق تخريجه.

وملتزمُ (¬1) هذا الشرط حقٌّ عليه عدم إعانة الناكح. ومن هذا أن يشترط أنه لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه من طلب النصوص ومعرفتها والتفقه في متونها والتمسك بها إلى الأخذ بقول فقيه معيَّن يَتْرك لقوله قول من سواه، بل يترك النصوص لقوله، فهذا شرطٌ من أبطل الشروط، وقد صرح الشافعي (¬2) وأحمد [رحمهما اللَّه تعالى] (¬3) بأن الإمام إذا شرط [على القاضي] (¬4) أن لا يقضي إلا بمذهب معيَّن بطل الشرط، ولم يجز له التزامه (¬5)، وفي بطلان التولية قولان مَبنيَّان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة، وطرد هذا أن المفتي متى (¬6) شرط عليه ألا يفتي إلا بمذهب معين بطل [الشرط] (¬7) وطرده أيضًا أن الواقف متى (6) شرط على الفقيه أن لا ينظر ولا يشتغل إلا بمذهب معيَّن بحيث يهجر [له] (7) كتاب اللَّه وسنة رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (7) وفتاوى الصحابة [ومذاهب العلماء] (7) لم يصح هذا الشرط قطعًا، [ولا يجب التزامه، بل، ولا يسوغ. وعقد هذا الباب وضابطه] (¬8) أن المقصود [إنما هو] (3) التعاون على البر والتقوى، وأن يطاع اللَّه ورسوله بحسب الإمكان، [وأن يُقدَّم مَنْ قدَّمه اللَّه ورسوله ويُؤخَّر مَنْ أخَّره اللَّه ورسوله] (¬9)، ويُعتبر ما اعتبره اللَّه ورسوله، ويُلغى ما ألغاه اللَّه ورسوله، وشروط الواقفين لا تزيد على نذر الناذرين؛ فكما أنه لا يُوفَّى من النذور (¬10) إلا بما كان طاعةً للَّه ورسوله، [فلا يلزم (¬11) من شروط الواقفين إلا ما كان طاعة للَّه ورسوله. فإن قيل: الواقف إنما نَقَل مالَه لمن قام بهذه الصفة فهو الذي رَضي بنقل ماله إليه، ولم يَرضَ بنقله إلى غيره وإن كان أفضل منه، فالوقفُ يجري مجرى الجعالة، فإذا بذل الجاعل ماله لمن يعمل عملًا لم يستحقه من عمل غيره، وإن ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "ويلزم". (¬2) في المطبوع و (ق) و (ك): "وقد صرح أصحاب الشافعي". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬5) في (ق) و (ك): "ولم يجب التزامه". (¬6) في (ق): "إذا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "وضابط هذا الباب". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬10) في (ق): "النذور". (¬11) في (ك): "يلتزم".

كان بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض. قيل: [هذا] (¬1) منشأ الوهم والإيهام في هذه المسألة، وهو الذي قام بقلوب ضعفة المتفقِّهين فالتزموا وألزموا من الشروط بما غيره أحبُّ إلى اللَّه وأرضى له منه بإجماع الأمة بالضرورة المعلومة من الدين. وجواب هذا الوهم أن الجاعل يبذل ماله في غرضه الذي يريده إما محرمًا أو مكروهًا أو مباحًا أو مستحبًا أو واجبًا (¬2) لينال غرضه الذي بذل فيه ماله، وأما الواقف فإنما يبذل ماله فيما يقربه إلى اللَّه [وثوابه، فهو لما علم أنه لم يبق له تمكَّن من بذل ماله في أغراضه أحبَّ أن يبذله فيما يقربه إلى اللَّه] (¬3) وما هو أنفع له في الدنيا والآخرة (¬4)، ولا يشك عاقل أن هذا غرض الواقفين، بل، ولا يشك واقف أنَّ هذا غرضه واللَّه سبحانه وتعالى ملَّكه المال لينتفعَ به في حياته وأذن له أن يحبسه لينتفع به بعد وفاته فلم يملِّكه أن يفعل به بعد موته ما كان يفعل به في حياته، بل حجر عليه فيه وملكه ثلثه يُوصي به بما يجوز ويسوغ أن يوصي به حتى إن خاف (¬5) أو جار أو أثم في وصيته جَازَ (¬6)، بل وجَبَ على الموصي (¬7)، والورثة رد ذلك الجور والحيف (8) والإثم؛ ورفع سبحانه الإثم عمن يرد ذلك الحيف (¬8) والإثم من الورثة والأوصياء، فهو سبحانه لم يملكه أن يتصرف في تحبيس ماله بعده (¬9) إلا على وجه يقرّبه إليه ويدنيه من رضاه لا على أي وجه [أراد، ولم يأذن اللَّه ولا رسوله للمكلف أن يتصرف في تحبيس ماله بعده على أي وجه أراده] (¬10) أبدًا، فأين في كلام اللَّه ورسوله أو أحد من الصحابة ما يدل على أن لصاحب المال أن يقف ما أراد على من أراد، ويشرط ما أراد، ويجب على الحكام والمفتين أن ينفذوا وقفه ويلزموا بشروطه] (¬11)، وأما ما قد لهج به بعضهم من قوله: "شروط الواقف (¬12) كنصوص الشارع"، [فهذا يرادُ به معنى صحيح ومعنى باطل] (¬13)، فإن أريد أنها كنصوص الشارع في الفهم والدلالة وتقييد ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬2) في (ت) و (ك): "أو راجحًا"! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬4) في المطبوع و (ك): "في الدار الآخرة". (¬5) في (ت): "إن أجنف". (¬6) في (ت) و (ك): "ساغ". (¬7) في "المطبوع: "الوصي". (¬8) في (ك): "الجنف". (¬9) في (ك): "أن يتصرف بتحبيس أصله". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وقال في الهامش: "سقط هنا بعض كلامه". (¬12) في (ت) و (ق): "نصوص الواقف". (¬13) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

مطلقها بمقيدها وتقديم خاصها على عامها والأخذ فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا حق من حيث الجملة، وإن أريد أنها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها، فهذا من أبطل الباطل (¬1)، بل يبطل منها ما لم يكن طاعة للَّه ورسوله، وما غيره أحب إلى اللَّه [وأرضى له ولرسوله منه] (2)، وينفذ منها ما كان قربة وطاعة، [كما تقدم] (¬2). ولما نذر (¬3) أبو إسرائيل أن يصوم ويقوم في الشمس، [ولا يجلس] (2)، ولا يتكلم أمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يجلس في الظل ويتكلم ويتم صومه (¬4)، فألزمه (¬5) بالوفاء بالطاعة ونهاه عن الوفاء بما ليس بطاعة. وكذا (¬6) أخت عقبة بن عامر لما نذرت الحج ماشية مكشوفة الرأس أمرها أن تختمر [وتركب] وتحج وتهدي بَدَنة (¬7). ¬

_ (¬1) في (ق): "فهذا باطل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ك): "ولما كان نذر". (¬4) رواه البخاري (6704) في (الأيمان والنذور): باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، من حديث ابن عباس. (¬5) في (ق): "فأمره". (¬6) في المطبوع و (ت) و (ك): "وهكذا". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وهذا خليط من حديثين، فإن في أحدهما ما ليس في الآخر، وهما حديثا عقبة بن عامر، وابن عباس. أما حديث عقبة بن عامر؛ فرواه أحمد (4/ 143 و 145 و 151)، وأبو داود (3293 و 3294) في (الأيمان والنذور): باب من رأى عليه كفارة إذا كان في معصية، والترمذي (1544) في (النذور والأيمان) واين ماجه (2134) في "الكفارات": باب من نذر أن يحج ماشيًا. والنسائي في (الأيمان والنذور) (7/ 20) باب إذا حَلَفَت المرأة لتمشي حافية غير مختمرة، والدارمي (2/ 183)، وعبد الرزاق (15871) والبيهقي (10/ 80)، وأبو يعلى (1753)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2149)، والطبراني (17) (893 و 894) من طريق يحيى بن سعيد عن عبيد اللَّه بن زحر عن أبي سعيد الرعيني (جعثل بن هامان) عن عبد اللَّه بن مالك عنه، ولفظه: "فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام"، وهذا إسناد فيه مقال، عبيد اللَّه بن زحر ضعفه أحمد وابن معين وابن المديني والدارقطني وغيرهم، وقال أبو زرعة: لا بأس به، صدوق، وقال النسائي: ليس به بأس، ووثقه أحمد بن صالح، والبخاري فيما نقله عنه الترمذي في "العلل" لكنه قال في "التاريخ": مقارب الحديث. ولكني وجدتُ له مُتابعًا من لفظه، فقد رواه أحمد في "مسنده" (4/ 147) من طريق بكر بن سوادة عن أبي سعيد به، وبكر هذا من الثقات لكن الراوي عنه ابن لهيعة. وبهذا اللفظ بعينه وجدته عند الطحاوي في "المشكل" (2148) من طريق حُييّ بن عبد اللَّه المعافري، عن أبي عبد الرحمن الحُبلي عن عقبة بن عامر به. =

فهكذا الواجب على أتباع الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه [وعلى آله] (¬1) أن يعتمدوا في شروط الواقفين، وباللَّه التوفيق. ¬

_ = وهذا إسناد حَسَنٌ، حيي هذا لا بأس به. وحديث عقبة هذا رواه أحمد (4/ 201) من طريق عبد العزيز بن مسلم عن مطرف عن عكرمة عنه، لكن قال: لتركب ولتهد بَدَنة، وليس في طرق حديث عقبة ذكر البدنة إلا هنا. لكن رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (2152) من طريق عبد العزيز عن مطر الوراق، وليس مطرف، وهو الصحيح؛ لأن عبد العزيز هذا لم يدرك مطرفًا، إذ هو متقدم الوفاة عنه. ومطر وإن روى له مسلم إلا أن له أوهامًا. وحديث عقبة هذا رواه عبد الرزاق (15873)، ومن طريقه البخاري (1866) في (جزاء الصيد): باب من نذر المشي إلى الكعبة، ومسلم (1644) في (النذر): باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، وأبو داود (3299)، والنسائي (7/ 190)، والبيهقي (10/ 78 و 79)، وأحمد (4/ 152) عن ابن جريج أخبرني سعيد بن أبي أيوب أن يزيد بن أبي حبيب أخبره أن أبا الخير حدثه عن عقبة بن عامر. . . فقال النبي عليه السلام: "لتمشِ ولتركب". والعجب أن هذا الطريق بعينه: رواه الطحاوي في "المشكل" (2150) من طريق أحمد بن صالح عن عبد الرزاق به فقال: "لتركب ولتصم ثلاثة أيام". وأما حديث ابن عباس؛ فرواه أحمد في: "مسنده" (1/ 239 و 240 و 253 و 131)، والدارمي (2/ 183 و 184)، وأبو داود (3296 و 3297)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 131)، وفي "المشكل" (2151 و 2152)، والطبراني في "الكبير، (11828 و 11829)، والبيهقي (10/ 79)، وأبو يعلى (2737) من طريق همام وهشام الدستوائي عن قتادة عن عكرمة عنه، وفي حديث همام قال: لتركب وتهد بدنة. وفي رواية الطحاوي في "مشكل الآثار" من طريق يزيد بن هارون عن همام: "لتركب ولتختمر، ولتهد هَدْيًا" مع أنها في "المسند" (1/ 239) من طريق يزيد، وليس فيها ذكر "الاختمار". أما رواية هشام الدستوائي، فليس فيها إلا "لتركب"، ورواه أبو داود (3298)، والبيهقي (10/ 79) من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة مرسلًا، وهذه لا تعل رواية الوصل لأنه وصلها ثقتان. ورواه إبراهيم بن طهمان في "مشيخته" (29)، ومن طريقه أبو داود (3303)، والبيهقي (10/ 79) من طريق مطر الوراق عن عكرمة به، وذكر فبه الركوب والبدنة. ورواه عبد بن حميد (580)، والحاكم (4/ 302) من طريق أبي سعد البقال، والطبراني (11949) من طريق خالد الحذاء كلاهما عن عكرمة به، وليس فيه ذكر الهَدْي، وفيه أن رجلًا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وله طرق أخرى أيضًا دون ذكر عقبة. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[لا يطلق المفتي الجواب إذا كان في المسألة تفصيل]

[لا يطلق المفتي الجواب إذا كان في المسألة تفصيل] الفائدة الثامنة عشرة (¬1): ليس للمفتي أن يُطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع، بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل [استفصله] (¬2)، كما استفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا لما أقرَّ بالزنا هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه (¬3) عن الحقيقة استفصله: هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: [بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاحٍ استفصله] (2). هل أحصن [أم لا] (2)؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد (¬4). ومن هذا قوله لمِن سألته: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال: "نعم إذا رأت الماء" (¬5)، فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال، ولا يجب عليها في حال. ومن ذلك أن أبا النَّعمان بن بشير سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَشْهد على غلام نَحَله ابنَه فاستفصله، وقال: أكُلَّ ولدك نحلته (¬6) كذلك؟ فقال: لا، فأبى أن يشهد (¬7)، وتحت هذا الاستفصال (¬8) أنَّ ولدك إن كانوا اشتركوا في النَّحل صح ذلك وإلا لم يصح (¬9). ومن ذلك أَن ابنَ أم مكتوم استفتاه هل يجد له رخصة أن يصلي في بيته (¬10)؟ فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: "فأجب" (¬11) فاستفصله بين أن يسمع النداء أو لا يسمعه. ¬

_ (¬1) في (ك): "الثامنة عشر". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ق): "فلما أجاب". (¬4) سبق تخريجه. (¬5) رواه البخاري في (العلم) (135) باب الحياء في العلم، و (282) في (الغسل): باب إذا احتلمت المرأة، و (3328) في (أحاديث الأنبياء): باب خلق آدم وذريته، و (6091) في (الأدب): باب التبسم والضحك، و (6121) باب ما يستحيا من الحق للتفقه في الدين، ومسلم (313) في (الحيض): باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها من حديث أم سلمة. (¬6) "أعطيته" (و)، وفي (ق): "فقال" بدل "وقال". (¬7) سبق تخريجه. (¬8) في (ت): "التفصيل"! (¬9) في (ت) و (ك): "صلح ذلك، وإلا لم يصلح". (¬10) في (ق): "استفتاه في أن يصلي في بيته". (¬11) رواه مسلم (653) في (الصلاة): باب يجب إتيان المسجد على مَن سمع النِّداء، من حديث أبي هريرة.

ومن ذلك أنه [لما] (¬1) استُفتي عن رجلٍ وقع على جارية امرأته فقال: "إن كان استكرهها (¬2) فهي حرَّة وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها" (¬3)، وهذا كثير في فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإذا سئل المفتي عن رجل دفع ثوبه إلى قصَّار يقصره، فأنكر القصَّار الثوب ثم أقر به هل يستحق الأُجرة على القصارة أم لا؟ (¬4)، فالجواب بالإطلاق خطأ نفيًا وإثباتًا، والصواب التفصيل، فإن كان قصره [قبل الجحود (¬5)، فله أجرة القصارة لأنه قصره لصاحبه، وإن كان] (¬6) قصره بعد جحوده، فلا أجرة له لأنه قصره لنفسه. وكذلك إذا سئل عن رجلٍ حَلَف [لا] (¬7) يفعل كذا [وكذا ففعله] (¬8) لم يجز [له] (¬9) أن يفتي بحنثه، حتى يستفصله (¬10): هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختارًا في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختارًا فهل استثنى [عقيب يمينه أم لا] (11)؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا [مختارًا] (11) أم كان ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا [مختارًا] (11) فهل كان المحلوف عليه داخلًا في قصده ونيته [أو قصد عدم دخوله فخصَّصه بنيته] (¬11) أو لم يقصد دخوله، ولا نوى تخصيصه، فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله. ورأينا من مفتي العصر من بادر إلى التحنيث (¬12) فاستفصلناه فوجدناه (¬13) غير حانث في مذهب من أفتاه، وَقَع ذلك مرارًا، فخطر المفتي عظيم فإنه موقّع عن اللَّه ورسوله زاعم أن اللَّه أمر بكذا وحرَّم كذا وأوجب كذا (¬14). ومن ذلك أن يستفتيه عن الجمع بين الظهر والعصر [مثلًا] (11) هل يجوز له أن يفرق بينهما فجوابه بتفصيل المسألتين، وأن الجمع إن كان في وقت الأُولى لم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "أكرهها". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في (ق): "هل يستحق القصار أجرة أم لا؟ ". (¬5) في (ق): "قبل جحوده". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) وبدلها في (ق): "الا". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬10) في (ق): "يستفصل". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) في (ق): "الحنث". (¬13) في المطبوع: "فوجده". (¬14) في المطبوع و (ت): "أو أوجب كذا".

يجز التفريق، هان كان في وقت الثانية جاز (¬1). ومن ذلك أنه لو قال له: "إن لم تَحرِق هذا المتاع أو تهدم هذه الدار أو تتلف هذا المال وإلا قتلتك"، ففعل، هل يضمن [أم لا] (¬2)؟ جوابه بالتفصيل، فإن كان المال المكره على إتلافه للمُكْرِه لم يضمن، وإن كان لغيره ضمنه. وكذلك لو سأله المظاهر إذا وطئ في أثناء الكفارة هل يلزمه الاستئناف أو يبني؟ فجوابه بالتفصيل أنه إنْ كان كفَّر بالصيام فوطئ في أثنائه لزمه الاستئناف، وإن كفَّر بالإطعام لم يلزمه الاستئناف وله البناء، فإنَّ حكم تتابع الصوم وكونه قبل المسيس قد انقطع بخلاف الإطعام. وكذلك لو سأله عن المكفِّر بالعتق إذا عتق عبدًا مقطوعة إصبعه فجوابه بالتفصيل: إن كان إبهامًا لم يجزه وإلا أجزأه، فلو قال له: مقطوع الإصبعين وهما الخنصر والبنصر فجوابه بالتفصيل أيضًا إن كانا من يد واحدة لم يجزه (¬3)، وإن كانت كل أصبع من يد أجزأه. وكذلك لو سأله عن فاسق التقط لقطة أو لقيطًا هل يقر في يده؟ فجوابه بالتفصيل: تقرّ اللقطة دون اللقيط لأنها كسب، فلا يمنع منه الملتقط، وثبوت يده على اللقيط ولاية وليس من أهلها. ولو قال له: "اشتريت سمكة فوجدت في جوفها مالًا ما أصنع به؟ " فجوابه إن كان لؤلؤة أو جوهرة فهو للصياد لأنه (¬4) ملكه بالاصطياد، ولم تطب نفسه لك به، وإن كان خاتمًا أو دينارًا فهو لقطة يجب تعريفها كغيرها. وكذلك لو قال له: "اشتريت حيوانًا فوجدت في جوفه جوهرة" فجوابه إن كانت شاةً فهي لقطة للمشتري يلزمه تعريفها حولًا، ثم هي له بعده، وإن كانت (¬5) ¬

_ (¬1) التفرقة أقوى المذاهب، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، انظر: "روضة الطالبين" (1/ 397) و"الغاية القصوى" (1/ 331) و"مغني المحتاج" (1/ 273) و"المغني" (2/ 279 - 280) و"كشاف القناع" (2/ 7)، و"العمدة" (ص 100) و"الروض الندي" (ص 112)، وكتابي "الجمع بين الصلاتين" (ص 134 - 137/ ط الأولى). واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية عدم الاشتراط لا في الأولى ولا في الثانية، انظر: "مجموع الفتاوى" له (24/ 54). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق) و (ك): "لم يجز"، و"كانا" بدل "كان". (¬4) في (ق): "فانه". (¬5) في المطبوع: "كان".

سمكة أو غيرها من دواب البحر فهي ملك الصياد (¬1)، والفرق واضح. ومن ذلك لو سأله عن عبد التقط لقطة، فأنفقها، هل تتعلق بذمته أو برقبته؟ فجوابه أنه [إن] (¬2) [كان] (¬3) أنفقها قبل التعريف حولًا فهي في رقبته، وإن أنفقها بعد حول التعريف فهي في ذمته يتبع بها بعد العتق، نصَّ عليها (¬4) الإمام أحمد مفرِّقًا بينهما لأنه قبل الحول ممنوع منها، فإنفاقه لها جناية منه عليها وبعد الحول غير ممنوع منها بالنسبة إلى مالكها [فإذا أنفقها في هذه الحال] (2) فكأنه أنفقها بإذن مالكها فتتعلق بذمته كديونه. ومن ذلك لو سأله عن رجل جَعَلَ جُعْلًا لمن ردَّ عليه لُقَطته فهل يستحقه من ردَّها؟ فجوابه إن التقطها قبل بلوغ قول الجاعل لم يستحقه لأنه لم يلتقطها لأجل الجُعْل، وقد وجب عليه ردها بظهور مالكها، وإن التقطها بعد أن بلغه الجُعل استحقه. ومن ذلك أن يسأل [فيقول] (2): هل يجوز للوالدين أن يتملَّكا مال ولدهما أو يرجعا (¬5) فيما وهباه؟ فالجواب أن ذلك للأب دون الأم. وكذلك إذا شهد له اثنان من ورثته غير الأب والابن بالجرح، فالجواب فيه تفصيل، فإن شهدا قبل الاندمال لم تُقبل (¬6) للتهمة، وإن شهدا بعده قبلت لعدم التهمة. ومن ذلك إذا (¬7) سئل عن رجل [ادَّعى نكاح امرأة فأقرَّت له هل يقبل إقرارها (¬8) أم لا؟ جوابه بالتفصيل إن] (¬9) ادعى زوجيتها وحده قبل إقرارها، وإن ادعاها معه آخر لم يقبل. [ومن ذلك] (¬10) لو سئل عن رجل مات فادَّعى ورثَتُه شيئًا من تركته، وأقاموا شاهدًا حلف كل منهم يمينًا مع الشاهد، فإن حلف بعضهم استحق قدر نصيبه من المدَّعي، وهل يشاركه من لم يحلف في قدر حصته التي انتزعها بيمينه أم لا [يشاركه؟ فالجواب فيه تفصيل إن كان المُدَّعى دينًا لم يشاركه] (9) وينفرد الحالف ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ت) و (ك): "ملك الصياد"، وفي (ق): "للصياد". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬3) في (ق): "نص عليهما". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في المطبوع و (ك): "أو يرجعان". (¬6) في (ت): "يقبل"، وفي المطبوع: "يقبلا". (¬7) في المطبوع و (ت): "ومن ذلك"، وفي (ق): "ومن ذلك لو". (¬8) في (ق): "إقراره". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في (ق): "وكذلك".

بقدر حصته، وإن (¬1) كان عينًا شاركه من لم يحلف لأن الدين غير متعيّن، فمن حلف فإنما يثبت (¬2) بيمينه مقدار حصته (¬3) من الدين لا غيره، ومن لم يحلف لم يثبت له حق، وأما العين فكل واحد من الورثة يقر أن كل جزء منها مشترك بين جماعتهم وحقوقهم متعلقة بعينه فالمخلص (¬4) مشترك بين جماعتهم والباقي غصب على جماعتهم. ومن ذلك إذا سئل عن رجل استعدى على [خصمه، ولم يُحرِّر الدعوى هل يُحضره الحاكم؟ الجواب بالتفصيل، إن استعدى على] (¬5) حاضرٍ في البلد أحضره لعدم المشقة، وإن كان غائبًا لم يحضره حتى يحررها. ومن ذلك لو سئل عن رجل قطع عضوًا من صيد وأفلت هل يحلُّ أكل العضو؟ الجواب بالتفصيل إن كان صيدًا بحريًا حلَّ أكله، وإن كان بريًا لم يحل. ومن ذلك لو سئل عن تاجر أهل الذمة هل يُؤخذ منه العشر؟ فالجواب بالتفصيل إن كان رجلًا أخذ منه العشر، وإن كانت امرأة ففيها تفصيل إن اتجرت إلى أرض الحجاز أخذ منها [العشر] (¬6)، وإن اتجرت إلى [أرض] (¬7) غيرها لم يؤخذ منها [شيء] (¬8)؛ لأنها تقر في غير أرض الحجاز بلا (¬9) جزية. ومن ذلك لو سئل عن ميّت مات فطلب الأب ميراثه، ولم يعلم من [هم] (¬10) الورثة غيرُه، كم يُعطى الأب؟ فالجواب بالتفصيل إن كان الميت ذكرًا أعطي الأب أربعة من سبعة وعشرين [سهمًا؛ لأن غاية ما يمكن أن يقدر معه زوجة وأم وابنتان فله أربعة بلا شك من سبعة وعشرين] (¬11)، وإن كان الميت أنثى فله سهمان من خمسة عشر [(قطعًا) (¬12)؛ لأن أكثر ما يمكن أن يقدر [معه] (¬13) زوج وأم وابنتان فله سهمان من خمسة عشر قطعًا. فإن قال السائل: مات ميت وترك ثلاث بنات ابن بعضهن أسفلُ من بعض، ¬

_ (¬1) في (ق): "فإن". (¬2) في المطبوع: "ثبت". (¬3) في (ت): "حقه". (¬4) في (ق): "فالمحصل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ت)، و (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين من (ق) فقط. (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ق): "فلا". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت). (¬11) ما بين المعقوفتين من (ت) و (ق). (¬12) ما بين الهلالين سقط من (ت). (¬13) ما بين المعقوفتين من (ت).

مع العليا جدها، قال المفتي: إنْ كان الميت ذكرًا فالمسألة محال لأن جدَّ العليا نفس الميت، وإنْ كان الميت أنثى، فجد العليا إما أنْ يكون زوج الميتة (¬1) أو لا يكون كذلك، فإن كان زوجها فله الربع، وللعليا النّصف، وللوسطى السدس تكملة الثلثين، والباقي للعصبة. فلو قال السائل: ميتٌ خلَّف ابنتين وأبوين، ولم تقسم التركة حتى ماتت إحداهما وخلفت من خلفت، قال المفتي: إن كان الميت ذكرًا فمسألته من ستة: للأبوين سهمان ولكل بنت سهمان، فلما ماتت إحداهما خلفت جدة وجدًا وأختًا لأب فمسألتها من ستة وتصح من ثمانية عشر وتركتها سهمان توافق مسألتها بالنصف فترد إلى تسعة، ثم تضربها في ستة تكون أربعة وخمسين، ومنها تصح، وإن كان الميت أنثى ففريضتها أيضًا من ستة، ثم ماتت إحدى البنتين عن سهمين وخلفت جدة وجدًا من أم وأختًا لأب، فلا شيء للجد وللجدة السدس وللأخت النصف والباقي للعصبة فمسألتها من ستة وسهامها اثنان فاضرب ثلاثة في المسألة الأولى تكن ثمانية عشر] (¬2). والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل إذا كان [يجد] (¬3) السؤال محتملًا، وباللَّه التوفيق (¬4)، فكثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم فالمفتي ترد عليه (¬5) المسائل في قوالب متنوعة جدًا، فإنْ لم يتفطَّنْ لحقيقة السؤال وإلا هلك وأَهْلَكَ (¬6)، فتارة تُورَد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلِفٌ، فصورة (¬7) الصحيح والجائز صورة الباطل والمحرَّم ويختلفان في الحقيقة (¬8)، فيذهل بالصورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرق اللَّه ورسوله [بينه] (¬9)، وتارة تورد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما [في الحقيقة] (8)، فيفرق بين ما جمع اللَّه بينه، وتارة تُورد عليه المسألة [مجملة] (¬10) تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمُه إلى واحد ¬

_ (¬1) في المطلبوع و (ق): "الميت". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) كتب إزائها في هامش (ق): "يشاركه الجواب بالتفصيل إن كان المدعي دينًا لم يشاركه صح". (¬5) في المطبوع: "ترد إليه". (¬6) في (ق): "هلك وهلك". (¬7) في (ق): "صورة". (¬8) في المطبوع و (ت): "بالحقيقة". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

منها ويذهل عن (¬1) المسئول عنه [منها] (¬2) فيجيب بغير الصواب، وتارة تُورد عليه المسألة الباطلة في دين اللَّه في قالبٍ مُزخرف ولفظ حسنٍ، فيبادر (¬3) إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل، وتارة بالعكس. فلا إله إلا اللَّه، كم هاهنا من مزلّة أقدام، ومحل (¬4) أوهام، وما دعا محقٍّ إلى حق إلا أخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الإنس في قالب تنفر عنه خفافيشُ البصائر وضعفاء العقول، وهم أكثر الناس، وما حذر أحد من باطل إلا أخرجه الشيطان على لسان وليه من الإنس في قالب [مزيَّف] (¬5) مزخرف يستخفُّ به عقولَ ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له، وأكثرُ الناس نظرهم قاصر على الصور لا يتجاوزها (¬6)، إلى الحقائق فهم محبوسون في سجن الألفاظ، مقيَّدون بقيود العبارات، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ] (¬7) فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]. وأذكر لك من هذا مثالًا (¬8) وقع في زماننا، وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير (¬9) عمائمهم، وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم، وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإِسلام (¬10) وإذلال الكفرة (¬11) ما قرَّت به عيون المسلمين فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوَّروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغيار (¬12)، وهي: ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة أُلزموا بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف، فحصل لهم بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع (¬13) وآذوهم غاية الأذى فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي ¬

_ (¬1) في (ت): "ويسد عنه"، وفي (ق) و (ك): "ويشذ عنه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع: "فيتبادر". (¬4) في المطبوع: "ومجال". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ت)، وهو المثبت في (ق) بدل كلمة "مزخرف". (¬6) في المطبوع: "لا يتجاوزونها". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) (ق): "مثلًا". (¬9) في (ق): "أن يغيروا". (¬10) (ق): "والإعزاز للإسلام". (¬11) في المطبوع: "الكفر". (¬12) كذا في (ق): وهو الصواب، وفي سائر النسخ: "الغبار". (¬13) المطبوع و (ت): "الرعاة"، وفي (ك): "والذعار".

عليهم؟ فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول، وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يُعرفون بها؟ وهل في ذلك مخالفة (¬1) للشرع أم لا؟ فأجابهم مَنْ مُنِع التوفيق، وصُدَّ عن الطَّريق بجواز ذلك، وإن للإمام (¬2) إعادتهم إلى ما كانوا عليه، قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلتُ: لا تجوز إعادتهم [إلى ما كانوا عليه] (¬3) ويجب إبقاؤهم على [الزي] (¬4) الذي يتميزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيَّروا الفتوى (¬5)، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا، ثم أتوا (¬6) بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المعينة، وإنْ خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان وتكلَّم عنده بكلامٍ عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم (¬7) وللَّه الحمد. ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى، فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف (¬8) في الجامع وأخرجوها في قالب حسن، حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه، وسبحان اللَّه كم توصل بهذه الطريق (¬9) إلى إبطال حق وإثبات باطل! وأكثر الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم (¬10)، ولا قريبًا من ذلك، فاللَّه المستعان. ¬

_ (¬1) في (ق): "مخالف". (¬2) في (ق): "يجوز ذلك ورأى الإِمام". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ك) و (ق): "الفتيا". (¬6) في (ق): "ثم جاؤوا". (¬7) قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (14/ 16) أحداث سنة (700 هـ) ما نصه: "وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة، وألزموا بها، واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد، وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصُّفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير، وتميّزوا عن المسلمين" وانظر: "أحكام أهل الذمة" (3/ 1295 - 1299 - ط الرمادي) و"تشبيه الخسيس" للذهبي (ص 191 - ضمن مجلة "الحكمة" العدد الرابع - بتحقيقي). وفي (ق): "على إقفائهم". (¬8) أي من شعبان، وانظر عن بدعية ما فيها "الحوادث والبدع" للطرطوشي (ص 121 - 122) و"الباعث على إنكار البدع والحوادث" (ص 124 - 137) و"الأمر بالاتباع" (ص 176 - 180) للسيوطي، مع تعليقي عليهما, ولعلي القاري رسالة مفردة فيها، فرغت من تحقيقها من سنوات، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬9) في المطبوع: "الطرق"، وفي (ق): "بهذا الطريق". (¬10) في (ت): "لا يبلغون إلى عشر معشار غيرهم".

[على المفتي ألا يفصل إلا حيث يجب التفصيل]

[على المفتي ألا يُفصِّل إلا حيث يجب التفصيل] الفائدة التاسعة عشرة (¬1): إذا سئل عن مسألة من الفرائض لم يجب عليه أن يذكر موانع الإرث، فيقول (¬2): بشرط ألا يكون كافرًا، ولا رقيقًا، ولا قاتلًا، وإذا سئل عن فريضةٍ (¬3) فيها أخ، وجب عليه أن يقول: إن كان لأب فله كذا، وإن كان لأم فله كذا، وكذلك (¬4) إذ سئل عن الأعمام وبنيهم وبني الإخوة وعن الجد والجدة، فلا بد من التفصيل والفرق بين الموضعين [أن السؤال] (¬5) المطلق في الصورة الأولى يدل على الوارث الذي لم يقم به مانع من الميراث، كما لو سئل عن رجل باع أو آجر أو تزوج أو أقرَّ لم يجب عليه أن يذكر موانع (¬6) الصحة من الجنون والإكراه ونحوهما إلا حيث (¬7) يكون الاحتمال متساويًا. ومن تأمَّل أجوبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رآه يستفصل حيث تدعو الحاجة إلى الاستفصال ويتركه حيث لا يحتاج إليه، ويحيل فيه مرة على ما عُلم من شَرعه ودينه من شروط الحكم وتوابعه، بل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وقوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. ولا يجب على المتكلِّم [والمفتي] (¬8) أن يستوعب شرائط الحكم وموانعه كلها عند ذكر [حكم] (8) المسألة، ولا ينفع السائل [والمتكلم] (¬9) والمتعلم قوله: "بشرطه وعدم موانعه" ونحو ذلك، فلا بيان أتم من بيان اللَّه ورسوله، ولا هدي أكمل من هدي الصحابة والتابعين، وباللَّه التوفيق. [هل يجوز للمقلد أن يفتي؟] الفائدة العشرون: لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين اللَّه بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة [فيه] (8) سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم، وصرح به الإِمام أحمد والشافعي [-رضي اللَّه عنهما-] (8)، وغيرهما (¬10). ¬

_ (¬1) في (ك): "التاسعة عشر". (¬2) في (ق): "أن يذكر الموانع فيقول". (¬3) في (ق): "فإذا سئل عن مسألة". (¬4) في (ق): "وكذا". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬6) في (ق): "مانع". (¬7) في (ق): "بحيث". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق) و (ك). (¬10) في (ت): "صرح به أصحاب أحمد والشافعي وغيرهم".

قال أبو عمرو بن الصلاح: "قطع [الإمام] (¬1) أبو عبد اللَّه الحليمي إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي أبو المحاسن الروياني صاحب "بحر المذهب" (¬2)، وغيرهما: بأنه لا يجوز للمقلد أن يُفتي بما هو مقلِّدٌ فيه" (¬3). وقال: "وذكر [الشيخ] (¬4) أبو محمد الجويني في "شرحه" لرسالة الشافعي عن شيخه أبي بكر القفَّال المروزي: أنه يجوز لمن حفظ مذهب (¬5) صاحب مذهب ونصوصه أن يُفتي به، [وإن لم يكن عارفًا بغوامضه وحقائقه] (4) وخالفه الشيخ أبو محمد، وقال: لا يجوز [أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن مُتبحِّرًا فيه عالمًا بغوامضه وحقائقه، كما لا يجوز] (4) للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي بها، [وإذا كان متبحرًا فيه جاز أن يفتي به] (¬6). وقال أبو عمرو: "من قال: "لا يجوز له أن يفتي بذلك" معناه [أنه] لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى غيره ويحكيه عن إمامه الذي قلَّده، فعلى هذا مَنْ عددناه في أصناف المفتين [من] المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين، ولكنهم قاموا مقام المفتين، وادّوا (¬7) عنهم فعُدّوا معهم، وسبيلهم [في] (¬8) ذلك أن يقولوا مثلًا: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا، وما أشبه ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه فإن كان ذلك اكتفاء منه بالمعلوم عن الصريح (¬9)، فلا بأس" (¬10). قلت: ما ذكره أبو عمرو حسن، إلا أن صاحب هذه المرتبة يحرم عليه أن يقول: "مذهب الشافعي" لما لا يعلم أنه نصه الذي أفتى به، أو يكون شهرته بين ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬2) قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (12/ 170) "وهو حافل كامل شامل للغرائب وغيرها، وفي المثل: حدّث عن البحر ولا حرج". (¬3) "أدب المفتي والمستفتي" (ص 102). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "قول". وفي سائر الأصول: "كلام" والمثبت من (ك) و"آداب المفتي". (¬6) "آداب المفتي والمستفتي" (ص 102). (¬7) كذا في "أدب المفتي"، وفي (ك): "وأدوا عنهم فعدوا منهم"، وفي سائر الأصول: "وادعوا عنه فعدوا منهم". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬9) كذا في الأصول، وفي "أدب المفتي": "إن كان ذلك منه اكتفاءً بالمعلوم من الحال عن التصريح بالمقال". (¬10) "أدب المفتي والمستفتي" (ص 103).

[هل يجوز أن يقلد الفتوى المتفقه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة؟]

أهل المذهب شهرة لا يحتاج معها إلى الوقوف على نصه كشهرة مذهبه في الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر، ووجوب تبييت النية للصوم في الفرض (¬1) من الليل، ونحو ذلك، فأما مجرَّد ما يجد (¬2) في كتب من انتسب إلى مذهبه من الفروع، فلا يسعه أن يضيفها إلى نصه ومذهبه بمجرد وجودها في كتبهم، فكم فيها من مسألة لا نص له فيها البتة، ولا ما يدل عليه؟ وكم فيها من مسألة نصّه على خلافها؟ وكم فيها من مسألة اختلف المنتسبون إليه في إضافتها إلى مقتضى نصه ومذهبه؟ فهذا يضيف إلى مذهبه إثباتها، وهذا يضيف إليه نفيها، فلا ندري كيف يسع المفتي عند اللَّه أن يقول: هذا مذهب الشافعي، وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة؟ وأما قول الشيخ أبي عمرو: "إن لهذا المفتي أن يقول (¬3): هذا مقتضى مذهب الشافعي [مثلًا] (¬4) " فلعمر اللَّه لا يقبل ذلك من كل من نصب نفسه للفتيا حتى يكون عالمًا بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جَمْعًا وفَرْقًا، ويعلم أن ذلك الحكم مطابق لأُصوله وقواعده، بعد استفراغ وسعه في معرفة ذلك فيها إذا أخبر أن هذا مقتضى مذهبه كان له حكم أمثاله ممن قال بمبلغ علمه] (¬5)، ولا يكلِّف اللَّه نفسًا إلا وسعها. وبالجملة فالمفتي مخبر [عن الحكم الشرعي، وهو [إما] (¬6) مخبر عما فهمه عن اللَّه ورسوله، وإما مخبر] (¬7) عما فهمه من كتاب (¬8) أو نصوص من قلده دينه، وهذا لون وهذا لون، فكما لا يسع [الأول أن يخبر عن اللَّه ورسوله إلا بما علمه فكذا لا يسع] (7) الثاني أن يخبر عن إمامه الذي قلَّده دينه إلا بما يعلمه، وباللَّه التوفيق. [هل يجوز أن يقلَّد الفتوى المتفقه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة؟] الفائدة الحادية والعشرون: إذا تفقَّه الرجل وقرأ كتابًا من كتب الفقه أو أكثر، وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح ¬

_ (¬1) في (ت) و (ك): "ووجوب تبييت النية للفرض". (¬2) في (ك): "يجده". (¬3) في (ك): "إن هذا المفتي يقول". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬5) اختصر ما بين المعقوفتين في (ق) بقوله: "إلى أن قال"، وقال في الهامش: "سقط هنا كلام كثير". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬8) في المطبوع و (ك): "من كتابه".

فهل يسوغ تقليده في الفتوى؟ فيه للناس أربعة أقوال: الجواز مطلقًا، والمنع مطلقًا، والجواز عند عدم المجتهد، ولا يجوز مع وجوده، والجواز إن كان مطلعًا على [مأخذ] (¬1) من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطلعًا. والصواب فيه التفصيل وهو أنه إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا, ولا يحل لهذا أن ينصب (¬2) نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم، وإن لم يكن في بلدته (¬3) أو ناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه، فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يُقدم على العمل بلا علم، أو يبقى مرتكبًا في حيرته مترددًا في عماه وجهالته، بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها. ونظير هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيًا عاريًا عن (¬4) شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض، وولَّى الأمثل فالأمثل. ونظير هذا؛ لو كان الفسق هو الغالب على أهل تلك البلد (¬5)، وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له تعطلت الحقوق وضاعت (¬6) قبل شهادة الأمثل فالأمثل (¬7). [ونظيرها] (3) ولو غلب الحرام [المحض] (¬8) أو الشبهة (¬9) حتى لم يجد الحلال المحض، فإنه يتناول الأمثل فالأمثل. ونظير هذا (¬10) لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو عرض أو مال، وهن منفردات بحيث لا رجل معهن كالحمَّامات والأعراس، قبلت شهادة الأمثل فالأمثل منهن قطعًا، ولا يضيع اللَّه ورسوله حق المظلوم، و [لا] (¬11) يعطل إقامة دينه في مثل هذه الصورة أبدًا (¬12)، بل قد نبه اللَّه تعالى (¬13) على القبول في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) كذا في (ق)، وفي سائر الأصول: "ينسب". (¬3) في المطبوع و (ك): "في بلده". (¬4) في سائر الأصول: "من" والمثبت من (ك). (¬5) في (ت) و (ك): "أهل ذلك البلد". (¬6) في (ق): "فضاعت". (¬7) في (ق): "بل شهادة الأمثل فالأمثل". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬9) في (ق): "والشبهة". (¬10) في (ك): "ونظيرها". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬12) انظر "الطرق الحكمية" (75 - 81 , 165، 175) للمصنف رحمه اللَّه تعالى. (¬13) في (ق) و (ك): "اللَّه سبحانه".

مثل هذه الصورة بقبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة أنزلت في [القرآن] (¬1)، ولم ينسخها شيء ألبتة، ولا نَسَخ هذا الحكم كتابٌ، ولا سنة، ولا أجمعت الأمة على خلافه، ولا يليق بالشريعة سواه فالشريعة شرعت لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أسباب تلك الحقوق شاهدان حرَّان ذكران عدلان؟ بل إذا قلتم: تقبل شهادة الفساق حيث لا عدل، وينفذ حكم الجاهل والفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عالم عادل (¬2) فكيف لا تقبل شهادة النساء إذا خلا جمعهن (¬3) عن رجل، أو شهادة العبيد إذا خلا جمعهم عن حر أو شهادة (¬4) الكفار بعضهم على بعض إذا خلا جمعهم (¬5) عن مسلم؟ وقد قبل ابن الزبير -رضي اللَّه عنهما- شهادة الصبيان بعضهم على بعض في تجارحهم (¬6)، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة (¬7)، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 190 - 194، 173، 200 الطريق السادس عشر)، و"مدارج السالكين" (1/ 360 - 361). (¬3) في (ق): "جميعهن". (¬4) في (ق): "أو شهادة العبد إذا خلا جميعهم عن حر وشهادة". (¬5) في (ق): "جميعهم". (¬6) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 726) -ومن طريقه البيهقي (10/ 162) - وعبد الرزاق (15494، 15495) وابن أبي شيبة (5/ 120). عن هشام بن عروة أن عبد اللَّه بن الزبير كان يقضي بشهادة الصبيان فيما بينهم في الجراح لفظ مالك. وهشام بن عروة روى عن عمّه، لكن لا أدري هل سمع منه أم لا؟ فإن هشامًا كان عمره عند وفاة عمه أربعة عشر عامًا. ولفظ عبد الرزاق الثاني: عن ابن أبي مليكة: أنه كان قاضيًا لابن الزبير، فأرسل إلى ابن عباس يسأله عن شهادة الصبيان، فلم يجزهم، ولم ير شهادتهم شيئًا، فسأل ابن الزبير، فقال: "إذا جيء بهم عند المصيبة، جازت شهادتهم"، وإسناده صحيح. وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (22/ 78): "اختلف على ابن الزبير في إجازة شهادة الصبيان، والأصح عنه أنه كان يجيزها إذا جيء بهم من حال حلول المصيبة، ونزول النازلة". (¬7) وروي ذلك عن علي ومعاوية أيضًا، خرجتهما في تعليقي على "الإشراف"، للقاضي عبد الوهاب (5/ 42)، وقول المصنف هذا غير دقيق، إذ أسند الشافعي في "الأم" (7/ 89) وابن أبي شيبة (5/ 121) والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 61) وفي "المعرفة" (19926) عن ابن عباس قال: "لا تجوز شهادة الصبي" وكذا أخرجه عبد الرزاق (15495) وإسناده صحيح، ومضى لفظه في تخريج الأثر السابق، ولذا قال ابن عبد البر =

و [قد] (¬1) قال به مالك (¬2) و [الإِمام] (¬3) أحمد (¬4) [رحمهما اللَّه تعالى] (3) في إحدى الروايتين عنه حيث يغلب على الظن صدقهم بأن يجيبوا (¬5) قبل أن يجتنبوا (¬6) أو يتفرقوا إلى بيوتهم، وهذا هو الصواب (¬7)، وباللَّه التوفيق. وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين، فقد منع كثير منهم الفتوى والحكم بالتقليد وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد، كما قال أبو إسحاق بن شَاقْلا، وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي ينبغي [له] (¬8) أن يحفظ أربع مئة ألف حديث، ثم يفتي فقال له رجل: أنت (¬9) تحفظ هذا؟ فقال (¬10): إن لم أحفظ هذا، فأنا أفتي بقول من كان يحفظه، وقال [أبو] (¬11) الحسن بن بشار من كبار أصحابنا: ما ضرَّ رجلًا عنده ثلاث مسائل أو أربع [مسائل] (¬12) من فتاوى الإِمام أحمد يستند إلى هذه السارية، ويقول: قال أحمد [بن حنبل] (¬13) رحمه اللَّه تعالى. ¬

_ = في "الاستذكار" (22/ 78): "وأما ابن عباس، فلم يختلف عنه أنه لم يجْزها (أي: شهادة الصبيان) وكان لا يراها شيئًا" وفي (ق): "ولم ينكر عليه أحد". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) انظر: "الموطأ" (2/ 726) و"المدونة" (4/ 80)، و"التفريع" (2/ 237) و"المعونة" (3/ 1521) و"عقد الجواهر الثمينة" (3/ 137) و"الذخيرة" (10/ 209)، و"تبصرة الحكام" (1/ 216 و 2/ 7)، و"تفسير القرطبي" (3/ 391 - 392، 395). (¬3) ما بين المعقوفتين زيادة من المطبوع و (ك). (¬4) "الإنصاف" (12/ 37) وهو قول سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، وأبي جعفر محمد بن علي، والشعبي وابن أبي ليلى -على اختلاف عنهما- والزهري والنخعي -على اختلاف عنه- إلا أن الروايات عنهم لم تذكر جراحًا ولا غيرها، إلا أجازتها فيما بينهم مطلقة، أفاده ابن عبد البر في "الاستذكار" (22/ 77 - 79). (¬5) في (ق): "يجيئوا". (¬6) في (ت): "يجيبوا"، وفي (ق) بدون تنقيط. (¬7) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (15/ 305 - 308)، و"الطرق الحكمية" (ص 170 وما بعدها) و"الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الإِسلام ابن تيمية" (3/ 1289 - 1290، 1300 - 1301) وتعليقي على "الإشراف" (5/ 41 - 44). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ك): "فأنت". (¬10) نقله أبو يعلى في "العدة" (5/ 1597) وابنه في "طبقات الحنابلة" (2/ 164 - ترجمة أبي حفص البرمكي)، ونحوه في "الواضح" (5/ 475) لابن عقيل. وفي (ق) و (ك): "فأنت تحفظ هذا؟ قلت". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬12) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬13) هذه الرواية في "العدة" (5/ 1598) -وفيه عقبها: "وهذه منه مبالغة"- و"المسودة" =

[هل للعامي إذا علم مسألة أن يفتي فيها]

[هل للعامي إذا علم مسألة أن يفتي فيها] الفائدة الثانية والعشرون: إذا عرف العامِّيُّ حكم حادثة بدليلها فهل له أن يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه؟ ففيه ثلاثة أوجه للشافعية [وغيرهم] (¬1). أحدها: الجواز؛ لأنه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها، كما حصل للعالم، وإن تميَّز العالم عنه بقوة (¬2) يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له، فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله. والثاني: لا يجوز له ذلك مطلقًا لعدم أهليته للاستدلال وعدم علمه بشروطه وما يعارضه، ولعله يظن دليلًا ما ليس بدليل. والثالث: إن كان الدليل من كتاب (¬3) أو سنة جاز [له] (1) الإفتاء، وإن كان غيرهما لم يجز؛ لأن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، فيجب على المكلف أن يعمل بما وصل إليه من كتاب ربه تعالى وسنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويجوز له أن يرشد غيره إليه ويدله عليه. [الخصال التي يجب أن يتصف بها المفتي] الفائدة الثالثة والعشرون: ذكر أبو عبد اللَّه بن بطة في "كتابه في الخلع" عن الإِمام أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس (¬4) خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له [علم] (¬5) وحلم، ووقار، وسكينة. ¬

_ = (517) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 562) و"طبقات الحنابلة" (2/ 63، 142) و"المنهج الأحمد" (2/ 11، 56) وأبو الحسن هذا هو علي بن محمد بن بشار، توفي سنة (313 هـ) وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬1) انظرها في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 103 - 104) لابن الصلاح و"المجموع شرح المهذب" للإمام النووي رحمه اللَّه (1/ 178 - دار إحياء التراث العربي)، وانظر المسألة في "العدة" (5/ 1601) و"المسودة" (517) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 539) و"صفة الفتوى" (68). (¬2) في (ق): "كما يحصل للعالم وإن يتميز العالم فيه بقوة"، وفي (ك): "يتملك" بدل "يتمكن". (¬3) في المطبوع و (ت) و (ك): "كان الدليل كتابًا". (¬4) في (ك): "خمسة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[النية ومنزلتها]

الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه، وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس (¬1). وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحلِّه من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه. [النية ومنزلتها] فأمّا النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه (¬2)، والعمل تابعٌ لها [وعليها يُبنى] (¬3) يصح بصحتها ويفسد بفسادها وبها يُستجلب التوفيق وبعدمها يحصل الخذلان وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، فكم بين مريد بالفتوى وجه اللَّه ورضاه والقرب منه، وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته، وما يناله منه تخويفًا أو طمعًا فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب هذا يُفتي لتكون كلمة اللَّه هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع، وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع، وهو المشار إليه وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما فاللَّه المستعان. و [قد] (¬4) جرت عادة اللَّه التي لا تُبدَّل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة [والبغضة (¬5) ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت] (¬6) والبغضاء. ¬

_ (¬1) رواه ابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 24 - ط المكتب الإِسلامي) ونقله أبو يعلى في "العدة" (5/ 1599) عن ابن بطة في كتاب "الرد على من أفتى في الخلع" وذكر إسناده، وكذلك فعل ابنه في "طبقات الحنابلة" (2/ 57 - ترجمة أبي حفص عمر بن محمد بن رجاء العكبري). وذكره ابن عقيل في "الواضح في أصول الفقه" (5/ 460 - 461)، وشرحه فقرة فقرة، كما صنع المصنف. (¬2) في (ق) و (ك): "وقائده وسابقه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك)، وفي المطبوع: "يبني عليها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ق): "والبغض". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[العلم والحلم والوقار والسكينة]

[العلم والحلم والوقار والسكينة] وأما قوله: "أن يكون له حلم، ووقار وسكينة" فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس، وقال (¬1) بعض السلف: ما قُرِنَ شيءٌ إلى شيء أحسن من علمٍ إلى حلم (¬2). والناس هاهنا أربعة أقسام فخيارهم من أوتي الحلم والعلم (¬3)، وشرارهم من عدمهما، الثالث من أوتي علمًا، بلا حلم، الرابع عكسه، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات فالحليم لا يستفزه (¬4) البدوات، ولا يستخفه الذين لا يعلمون، و [لا] (¬5) يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور (¬6) عليه، ولا تملكه أوائلها وملاحظته للعواقب تمنعه من أن (¬7) تستخفه دواعي الغضب والشهوة فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير فيؤثره ويصبر عليه وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيرًا بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته (¬8)، [وإذا شئت أن ترى صابرًا على المشاق لا بصيرة له رأيته] (¬9)، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له، ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيرًا صابرًا لم تكد، فإذا رأيته، فقد رأيت إمام هدى حقًا فاستمسك بغرزه (¬10) والوقار والسكينة، ثمرة الحلم ونتيجته. ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "قال". (¬2) روى أبو خيثمة في "العلم" (رقم 81) عن عطاء بن يسار قال: "ما أوتي شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم". وانظر: "المجالسة" (3/ 161 رقم 798) وتعليقي عليها. (¬3) في (ق) و (ك): "العلم والحلم". (¬4) في (ك): "تستغرقه". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) والعبارة قبلهادي (ق): "يستخفه البدوان ولا يستفزه الذين لا يعلمون". (¬6) في (ت): "أوائل الأمر". (¬7) في (ق): "ملاحظة العواقب تمنعه أن". (¬8) في (ق): "عن هذا ولا على هذا رأيته". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ت)، وسقط في (ك) "رأيته" فقط. (¬10) "أي اعتلق به، وأمسكه، واتبع قوله وفعله، ولا تخالفه، فاستعار له الغرز كالذي يمسك بركاب الراكب، ويسير بسيره، والغرز: ركاب ركوب الجمل، وقيل: هو الكور" (و). وقال (ط): "اتبع أمره ونهيه".

[حقيقة السكينة]

ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك [إشارة] (¬1) بحسب علومنا القاصرة وأذهاننا الجامدة وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكلّ زمانٍ دولةٌ ورجال. [حقيقة السكينة] فالسكينة (¬2) فعيلة من السكون، وهي (¬3) طمأنينة القلب واستقراره وأصلها في القلب ويظهر أثرها على الجوارح وهي عامة وخاصة. فسكينة الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها كالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل، وقد ألقي في المنجنيق مسافرًا إلى ما أضرم له أعداء اللَّه من النار (¬4)، فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى، وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم، وقد استغاث بنو إسرائيل يا موسى إلى [أين] (¬5) تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا، وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم اللَّه له نداءً وإيحاءً (¬6) كلامًا حقيقة سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له (¬7)، وقد رأى العصا ثعبانًا [مبينًا] (¬8)، وكذلك السكينة التي نزلت عليه، وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس [في نفسه] (8) خيفة، وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما، وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة وأعداء اللَّه (¬9) قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته (¬10) عند أَرباب البصائر، فإن الكذب (¬11)، -ولا سيما على اللَّه تعالى- أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطرابًا في مثل هذه المواطن فلو لم يكن للرسل ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ت)، وفي (ق): "نشير إليك إشارة". (¬2) للمصنف كلام مسهب بديع عليها في كتابه "مدارج السالكين" (2/ 552 وما بعد/ ط الفقي)، وفي (ق): "والسكينة". (¬3) في المطبوع و (ت): "وهو". (¬4) في (ق): "ما أضرم له أعداؤه". (¬5) وقعت في المطبوع: "إلى أن"! وفي (ق): "بموسى إلى أين". (¬6) في المطبوع و (ت) و (ك): "ونجاء". (¬7) في (ق): "عليه". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ق): "وأعادي اللَّه". (¬10) في (ك): "معجزاتهم". (¬11) في (ق): "الكذاب".

[السكينة الخاصة]

صلوات اللَّه وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم. [السكينة الخاصة] وأما الخاصة (¬1) فتكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم وهي سكينة الإيمان وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك، ولهذا أنزلها (¬2) اللَّه تعالى على المؤمنين في أَصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها [{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4] فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم وهي السكينة] (¬3) عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه مثل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- (¬4)، وذلك يوم الحديبية قال [اللَّه] (4) [سبحانه و] (4) تعالى يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا إليها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] لمّا علم اللَّه سبحانه [وتعالى] (4) ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لمَّا منعهم كفار قريش من دخول (¬5) بيت اللَّه وحبسوا الهدي عن محله واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة فاضطربت قلوبهم وقلقت، ولم تطق الصبر فعلم تعالى ما فيها فثبتها بالسكينة (¬6) رحمةً منه ورأفة ولطفًا، وهو اللطيف الخبير وتحتمل الآية وجهًا آخر، وهو أنه سبحانه علم ما في قلوبهم من الإيمان [والخير] (4) ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها واضطرابها، والظاهر أن الآية تعم الأمرين، وهو أنه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون معه (¬7) إلى [إنزال السكينة، وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب] (¬8) إنزالها، ثم قال تعالى: [بعد ذلك] (4): {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] (¬9)} [الفتح: 26] لمَّا كانت حمية الجاهلية توجب من ¬

_ (¬1) في (ق): "وأما العامة الخاصة". (¬2) في (ق): "أنزل"! (¬3) ما بين المعقوفتين مذكور في (ت) و (ك) بعد قوله الآتي: "أحوج ما كانوا إليها"، وبعده قال: "وقال تعالى بعد ذلك". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ت): "دخلوهم". (¬6) في (ق): "فعلم اللَّه سبحانه ما فيها، وثبتها بالسكينة". (¬7) في (ت) و (ك): "يحتاج معه". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في هامش (ق): "إلى قوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} ".

فصل [السكينة عند القيام بوظائف العبودية]

الأقوال والأعمال ما يناسبها جعل اللَّه في [قلوب أوليائه سكينة تقابل] (¬1) حمية الجاهلية وفي ألسنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور، فكان حظُّ المؤمنين السكينةَ في قلوبهم وكلمة التَّقوى على ألسنتهم، وحظُّ أعدائهم (¬2) حمية الجاهلية في قلوبهم، وكلمة الفجور والعدوان على ألسنتهم فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جندًا من جند اللَّه أيَّد بها [اللَّه] (¬3) رسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب أوليائه [وألسنتهم] (¬4). وثمرة هذه السكينة الطمأنينة الخبر (¬5) تصديقًا وإيقانًا وللأمر تسليمًا وإذعانًا، فلا تدع شبهة تعارض الخبر (5)، ولا إرادة تعارض الأمر، فلا تمر (¬6) معارضات السوء [بالقلب] (¬7) إلا وهي مجتازة [من] (¬8) مرور الوساوس الشيطانية التي يُبتلي بها العبد ليقوى إيمانه ويعلو عند اللَّه ميزانه بمدافعتها وردّها وعدم السكون إِليها، فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند اللَّه تعالى. فصل [السكينة عند القيام بوظائف العبودية] ومنها السكينة عند القيام بوظائف العبودية وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على اللَّه تعالى (¬9) بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب، وقد رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا يعبث، بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" (¬10). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬2) في (ق): "اعدائه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق) و (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "للخير". (¬6) في (ق) و (ك): "بل لا تمر". (¬7) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "بالأمر لقلب". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬9) في (ق): "على اللَّه سبحانه". (¬10) رواه الحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" -كما في "تخريج الكشاف" للزيلعي (2/ 399 - 400) - حدثنا صالح بن محمد: حدثنا سليمان بن عمرو عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعًا به. =

[أسباب السكينة]

فإن قلت (¬1): قد ذكرت أقسامها ونتيجتها وثمرتها وعلامتها فما أسبابها الجالبة لها؟ [أسباب السكينة] قلت: سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع ¬

_ = قال الزيلعي: وسليمان بن عمرو هذا يشبه أن يكون هو أبو داود النخعي، فإني لم أجد أحدًا في هذه الطبقة غيره، وقد اتفقوا على ضعفه، قال ابن عدي: أجمعوا على أنه يضع الحديث. وقال الحافظ العراقي في "تخريجه على الإحياء" (1/ 150): "ضعيفٌ! والمعروف أنه من قول سعيد". ونقل عنه المناوي في "فيض القدير" (5/ 319) قوله في "شرح سنن الترمذي": وسليمان بن عمرو هو أبو داود النخعي متفق على ضعفه، وإنما يعرف هذا عن ابن المسيب. وقال أبو زرعة ابن الحافظ العراقي: فيه سليمان بن عمرو، وهو مجمع على ضعفه. أقول: سليمان بن عمرو ليس بمجمع على ضعفه فقط، بل هو يضع الحديث كما قال الإِمام أحمد وابن معين والحاكم. والحديث ذكره شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الضعيفة" (110)، وقال موضوع. وأما الحافظ ابن حجر فقد ذكره في "الفتح" (2/ 225) ساكتًا عليه وقال ابن رجب في رسالته "الخشوع في الصلاة" (ص 12 - تحقيق الحلبي وص 33 - تحقيق محمد عمرو) -ونسبه لبعض السلف-: "وروي ذلك عن حذيفة -رضي اللَّه عنه- وسعيد بن المسيب، ويروى مرفوعًا بإسناد لا يصح"، قلت: وعزاه ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (18/ 273) إلى عمر بن الخطاب، وأثر حذيفة، رواه محمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (150) من طريق الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد عنه، وفيه عنعنه الوليد، وثور لم يدرك حذيفة. وقول سعبد بن المسيب رواه ابن المبارك في "الزهد" (1188)، وعبد الرزاق (3309) وابن أبي شيبة (2/ 190) ومحمد بن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (151) عن معمر عن رجل عن سعيد بن المسيب من قوله. وصرح عبد الرزاق (2/ 266 رقم 3308) أن اسم الراوي عن سعيد هو أبان بن أبي عياش، وهو متروك، فإسناده ضعيف جدًا. ولكن أخرجه صالح بن أحمد في "مسائل لأبيه" (رقم 741) من طريق سعيد بن خثيم عن محمد بن خالد عن سعيد بن جبير، قال: نظر سعيد (أي: ابن المسيب) إلى رجل. . . به، وإسناده حسن. (¬1) في (ق): "فإن قيل".

[الاضطلاع بالعلم]

والخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها، فالمراقبةُ أساسُ الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به، ولقد جمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة، وهي قوله في الإحسان: "أن تعبد اللَّه كأنك تراه" (¬1)، فتأمل كل مقام من مقامات الدين وكل عمل من أعمال القلوب كيف تجد هذا أصله ومنبعه؟ (¬2). والمقصود أن العبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان ليثبت قلبه، ولا يَزيغ وعند الوساوس والخَطَرات القادحة في أعمال الإيمان لئلا تقوى وتصير همومًا وغمومًا وإرادات ينقص بها إيمانه وعند أسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه، وعند أسباب الفرح لئلا يطمح به مركبُه، فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب ترحًا وحزنًا، وكم ممن (¬3) أنعم [اللَّه] عليه بما يُفرحه (¬4) فجمح به مركب الفرح (¬5) وتجاوز الحد، فانقلب ترحًا عاجلًا، ولو أُعِيْن بسكينة تُعَدِّل فرحَه لأُريد به الخيرِ، وباللَّه التوفيق، وعند هجوم الأسباب المؤلمة على اختلافها الظاهرة والباطنة فما أحوجه إلى السكينة حينئذ، وما أنفعها له وأجداها عليه وأحسن عاقبتها. والسكينة في هذه المواطن علامة على الظفر وحصول المحبوب، واندفاع المكروه، وفقدها علامة على ضد ذلك، لا يخطئ هذا, ولا هذا، واللَّه المستعان. [الاضطلاع بالعلم] وأما قوله: "أن يكون قويًا على ما هو فيه؛ وعلى معرفته" أي مستظهرًا مضطلعًا (¬6) بالعلم متمكنًا منه غير ضعيف فيه، فإنه إذا كان ضعيفًا قليل البضاعة غير مضطلع به؛ أحجم عن الحق في موضع ينبغي فيه الإقدام؛ لقلَّة علمه بمواضع الإقدام والإحجام، فهو يُقْدم في غير موضعه، ويُحْجم في غير موضعه، ¬

_ (¬1) قطعة من حديث طويل: أخرجه البخاري في "الصحيح" (كتاب الإيمان): باب سؤال جبريل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإيمان والإِسلام والإحسان (1/ 114/ رقم 55)، ومسلم في "صحيحه" (كتاب الإيمان): باب بيان الإيمان والإِسلام والإحسان (1/ 36 - 38 رقم 8) عن عمر -رضي اللَّه عنه-. (¬2) في (ق): "كيف تجدها أصله ومنبعه". (¬3) في (ق): "ترحات وحزنًا، وكم من". (¬4) في (ق): "بما يفرح به"، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ت): "الفرج". (¬6) في (ق): "متظلعًا".

[الكفاية]

ولا (¬1) بصيرة له بالحق، ولا قوة له على تنفيذه، فالمفتي محتاج (¬2) إلى قوة في العلم وقوة في التنفيذ، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له. [الكفاية] وأما قوله: "الرابعة الكفاية وِإلا مضغه الناس"، فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس وإلى الإخذ مما في أيديهم، فلا يأكل منهم شيئًا إلا أكلوا من لحمه وعرضه أضعافه، وقد كان لسفيان الثوري شيء من مال، وكان لا يتروى (¬3) في بذله، ويقول: لولا ذلك لتمندل (¬4) بنا هؤلاء (¬5)، فالعالم إذا منح غناء، فقد أعين على تنفيذ علمه، وإذا احتاج (¬6) إلى الناس، فقد مات عِلْمُه وهو ينظر. [معرفة الناس] وأما قوله: "الخامسة معرفة الناس"، فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهًا فيه فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن [فقيهًا في الأمر] (¬7) له معرفة بالناس تُصَوِّر له الظالم بصورة المظلوم وعكسه والمُحِقّ بصورة المُبطل وعكسه، ورَاج عليه المكرُ [والخداعُ] (¬8) والاحتيال وتصوَّر له الزنديق في صورة (¬9) الصديق والكاذب في صورة الصادق ولبس كل مبطل ثوب (¬10) زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعُرْفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة [مكر] (¬11) الناس وخداعهم ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "لا". (¬2) في (ق): "يحتاج". (¬3) في (ت): "لا يتهوى" وأشار إليه (د) في الهامش، ووقع في (ق) و (ك): "لا يتهور". (¬4) "تمندل: تمسح" (و). (¬5) أسنده عنه: ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (70) والدينوري في "المجالسة" (2427 - بتحقيقي) والبيهقي في "المدخل" (549 , 550) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 369، 381) والخبر في "السير" (7/ 241، 254 و 8/ 241) و"العقد الفريد" (2/ 337). و"تهذيب الكمال" (11/ 168) وفي بعضها: "لتمندل الملوك بي" وكان يقول: "المال في هذا الزمان سلاح" رواه ابن أبي الدنيا في "إصلاح المال" (رقم 78)، وانظر: "تفسير القرطبي" (3/ 417 - 420) وكتابي "القرطبي والصوفية" (ص 68 - ط الثانية). (¬6) في (ك): "أحوج". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ق): "منزلة". (¬10) في (ق) و (ك): "ثوبي". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[فوائد تتعلق بالفتوى مروية عن الإمام أحمد]

واحتيالهم وعوائدهم وعُرفياتهم، فإن الفتوى تتغيَّر بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال وذلك كله من دين اللَّه، كما تقدم بيانه، وباللَّه التوفيق. [فوائد تتعلق بالفتوى مروية عن الإِمام أحمد] الفائدة الرابعة والعشرون: في كلماتٍ حُفظت عن الإِمام أحمد [رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه] (¬1) في أمر الفتيا سوى ما تقدم [آنفًا] (1). قال في "رواية ابنه صالح" (¬2): "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن عالمًا بالأسانيد الصحيحة عالمًا بالسنن" وقال في رواية أبي الحارث (¬3) "لا تجوز الفتيا إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة". وقال في رواية حنبل (¬4): "ينبغي لمن أفتى أن يكون عالمًا يقول مَنْ تقدَّم وإلا فلا يفتي". وقال في رواية يوسف بن موسى: واجب (¬5) أن يتعلم الرجل كل ما [تكلَّم] (¬6) فيه الناس. وقال في رواية ابنه عبد اللَّه (¬7)، وقد سأله عن الرجل يريد أن يسأله عن [أمر] (¬8) دينه مما يُبتلى به (¬9) من الأيمان في الطَّلاق وغيره، وفي مِصْره من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) نقلها القاضي أبو يعلى في "العدة" (5/ 1595) وعنه في "المسودة" (515)، ثم وجدته مسندًا عند الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1049)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 6 - بتحقيقي). (¬3) نقلها القاضي أبو يعلى في "العدة" (5/ 1595) وعنه في "المسودة" (515). (¬4) نقلها القاضي أبو يعلى في "العدة" (5/ 1595) وعنه في "المسودة" (515). (¬5) نقلها القاضي أبو يعلى في "العدة" (5/ 1595) هكذا "واجب" -ومنه ينقل المصنف- وكذا في (ق) وفي سائر النسخ "أحب"! وفي "المسودة" (515) من رواية يوسف: "لا يجوز الاختيار إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة". (¬6) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): بياض، وفي الهامش: "لعله: تكلم فيه الناس"، وفي "العدة": "يكلم"، وسقطت منه كلمة "الرجل". (¬7) (ص 438/ رقم 1585 ط المكتب و 2/ 1313 رقم 1824 - ط المهنأ): ونقلها عنه أبو حفص بن شاهين في (الجزء الثامن) من "أخبار أحمد" وعنه أبو يعلى في "العدة" (5/ 1595 - 1596) وعنه في "المسودة" (515). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬9) في "مسائل عبد اللَّه" وسائر المصادر: "يسأل عن الشيء من أمر دينه. . . "، وفي (ق) "أن يسأل عن أمر دينه بما يبتلى به".

أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث لا [يحفظون] (¬1)، ولا يعرفون الحديث الضعيف ولا الإسناد القوي، فلمن يسأل؟ لهؤلاء (¬2) أو لأصحاب الحديث [على قلة معرفتهم فقال: "يسأل أصحاب الحديث] (3)، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيفٌ الحديث خير من الرأي". وقال في رواية محمد بن عبيد اللَّه ابن المنادي، وقد سمع رجلًا يسأله: إذا حفظ [الرجل] (¬3) مئة ألف حديث يكون فقيهًا؟ قال: لا، [قال: فمئتي ألف؟ قال: لا. قال: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قال] (1): فأربع مئة ألف؛ قال بيده هكذا وحركها، قال حفيده أحمد بن جعفر بن محمد: فقلت لجدي: كم كان يحفظ أحمد؟ فقال: أجاب عن ست مئة ألف [حديث] (¬4). وقال عبد اللَّه بن أحمد (¬5): سألت أبي عن الرجل يكون عنده الكتب المصنَّفة فيها قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة والتابعين وليس للرجل بصرٌ بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيُفتى به [ويعمل به] (¬6)؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح يسأل عن ذلك أهل العلم. وقال أبو داود (¬7): سمعت أحمد وسئل عن مسألة فقال: دعنا من هذه المسائل المحدثة، وما أُحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف من العلم فيقول: لا أدري. وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفُتيا أحسن فتيًا منه كان أهون عليه أن يقول: "لا أدري" مَنْ يحسن [مثل] (¬8) هذا؟ سل العلماء. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "من هؤلاء". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬4) ما بين المعقوفتين من (ق). نقل هذه الرواية: أبو يعلى في "العدة" (5/ 1597) وابنه في "طبقات الحنابلة" (2/ 164)، ونحوها في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1072) عن الحسن بن إسماعيل عن أحمد. (¬5) في "مسائله لأبيه" (ص 438/ رقم 1584، ط المكتب الإِسلامي و 3/ 1311 - 1312 رقم 1823 - ط المهنأ)، ونقلها عنه أبو حفص في "أخبار أحمد" وعنه أبو يعلى في "العدة" (5/ 160) وعنه في "المسودة" (517) و"صفة الفتوى" (ص 26). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في "مسائله لأحمد" (ص 275، 276)، وبعدها في (ق): "وسئل أحمد". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك).

وقال أبو داود (¬1): قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبعُ من مالك؟ فقال: لا تقلِّد دينك أحدًا من هؤلاء؛ ما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه (¬2) فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيه مخيَّر. وقال إسحاق بن هانئ (¬3): سألت أبا عبد اللَّه عن الذي جاء في الحديث: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" (¬4) فقال: يفتي بما لم يسمع (¬5). وقال أيضًا (¬6): قلت لأبي عبد اللَّه: يطلب الرجل الحديث بقدر ما يظن أنه قد انتفع به؟ قال: العلم لا يعدله شيء، وجاءه رجل يسأله عن شيء فقال: لا أجيبك في شيء، ثم قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: "إن كل من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون" (¬7)، قال الأعمش: فذكرت ذلك للحكم (¬8) فقال: لو حدَّثتني به قبل اليوم ما أفتيتُ في كثير مما كنت أفتي به (¬9)، قال ابن هانئ (¬10): وقيل لأبي عبد اللَّه: يكون الرجل في قرية فيُسأل عن الشيء [الذي] (¬11) فيه اختلاف؟ قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة (¬12)، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه، قيل له: أفتخاف عليه؟ (¬13) قال: لا، قيل له: ما كان من كلام إِسحاق بن راهويه، وما [كان] (11) وضع ¬

_ (¬1) في "مسائله لأحمد" (ص 277). (¬2) سقطت "وأصحابه" من (ق)، واستظهر في الهامش أن تكون العبارة هكذا: "ما جاء عن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬3) في "مسائله" (2/ 165 - 166/ رقم 1917) وعنه ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (2/ 67). (¬4) رواه الدارمي (1/ 57) عن إبراهيم بن موسى: حدثنا ابن المبارك عن سعيد بن أبي أيوب عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر قال، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورجاله ثقات مشهورون من رجال الصحيح، لكنه مرسل إن لم يكن معضلًا، وعزاه في "كشف الخفاء" (1/ 50) لابن عدي، وجعله ابن بطة في "إبطال الحيل" (62) عن عمر قوله. (¬5) في (ق): "يفتي بما سمع". (¬6) انظر: "مسائل ابن هانئ" (رقم 1925). (¬7) سبق تخريجه. (¬8) في المطبوع و (ك): "للحاكم"، والتصويب من "المسائل" و (ت) و (ق). (¬9) رواه بسنده عن ابن مسعود وقولة الحكم: أبو خيثمة في "العلم" (رقم 10) وابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 65 - 66) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (رقم 1590) ومضى تخريج أثر ابن مسعود. (¬10) في "مسائله" (ص 167/ رقم 1922 - رقم 1925). (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) بعدها في (ك): "يفتي به". (¬13) في (ق) و (ك): "فتخاف عليه".

[دلالة العالم للمستفتي على غيره]

في الكتب (¬1) وكلام أبي عبيد، ومالك، ترى النظر فيه؟ فقال: كل كتاب ابتدع فهو بدعة، أو كل كتاب محدث فهو بدعة، وأما ما كان من (¬2) مناظرة، يخبر الرجل بما عنده، وما يسمع من الفتيا، فلا أرى به بأسًا، قيل له: فكتاب أبي عبيد "غريب الحديث"؟ قال: ذلك شيء حكاه عن قوم أعراب، قيل له: فهذه الفوائد التي فيها المناكير تَرى أن تكتب؟ قال: المنكر أبدًا منكر. [دلالة العالم للمستفتي على غيره] الفائدة الخامسة والعشرون: في دلالة العالم للمستفتي على غيره، وهو موضع خطر جدًا فلينظر الرجل ما يحدث من ذلك، فإنه متسبب بدلالته إما إلى الكذب على اللَّه ورسوله في أحكامه [أو] (¬3) القول عليه بلا علم فهو معين على الإثم والعدوان، وإما معين على البر والتقوى فلينظر الإنسان إلى من يدل عليه وليتق اللَّه [ربه] (¬4)، وكان شيخنا -قدس اللَّه روحه- شديد التجنب (¬5) لذلك، ودللتُ مرَّةً بحضرته على مفت أو مذهب (¬6)، فانتهرني، وقال: مالك وله؟ دعه [عنك] , ففهمتُ من كلامه: إنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم، ولمن أفتاه، ثم رأيت هذه المسألة بعينها منصوصة عن الإِمام أحمد. قال أبو داود [في "مسائله"]: قلت لأحمد: الرجل يَسأل عن المسألة فأدلّه على إنسان يسأله؟ فقال (¬7): إذا كان [يعني] (¬8) -الذي أرشد إليه (¬9) متبعًا (¬10) ويفتي بالسنة، فقيل لأحمد: إنه يريد الاتِّباع وليس كل قوله يصيب، فقال أحمد: ومن يصيب في كل شيء؟ قلت له: فرأي مالك؟ فقال: لا تتقلد (¬11) في مثل هذا بشيء (¬12). قلت: وأحمد كان يدل على أهل المدينة ويدل على الشافعي ويدل على إسحاق (¬13). ¬

_ (¬1) في المطبوع و (ك): "الكتاب". وفي "مسائل ابن هانئ": "كتاب". (¬2) في (ق): "من". (¬3) في (ق): "عن". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) في (ق): "كثير التجنب". (¬6) في (ق): "مذهب أو مفت"، وما بين المعقوفتين بعدها من (ق) فقط. (¬7) في (ق): "قال". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في المطبوع: "أرشدته إليه"، وفي (ك): "ارشده إليه". (¬10) في (ت) و (ك): "يتبع". (¬11) في (ك) و (ق): "نقلد". (¬12) سقط من (ك). (¬13) انظر في هذا: "تاريخ بغداد" (6/ 349) و"العدة" (5/ 1576، 1572) و"المسودة" (468).

ولا خلاف عنه (¬1) في استفتاء هؤلاء، ولا خلاف عنه [في] (¬2) أنه لا يُستفتى أهل الرأي المخالفون لسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وباللَّه التوفيق، ولا سيما كثير من المنتسبين إلى الفتوى في هذا الزمان وغيره، وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: "استُفتي من لا علم له، وظهر في الإِسلام أمر عظيم"، قال: "ولبَعضُ من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السُّرَّاق" (¬3). وقال بعض العلماء (¬4): "فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها و [تسلقه] بالجهل (¬5) والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو [من] (¬6) بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب، ولا يبدي جوابًا بإحسان، وإن ساعد القدر فتواه (¬7) كذلك يقول فلان ابن فلان (¬8). يَمُدُّون للإفتاء باعًا قصيرةً ... وأكثرهم عند الفتاوى يُكَذْلِكُ وكثير منهم نصيبهم مثل ما حكاه أبو محمد بن حزم (¬9) قال: كان عندنا مفت قليل البضاعة فكان لا يفتي حتى يتقدمه من يكتب الجواب، فيكتب (¬10) تحته: جوابي مثل جواب الشيخ، فقدر أن اختلف مفتيان في جواب (¬11)، فكتب تحتهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له: إنهما قد تناقضا فقال: وأنا أيضًا تناقضت (¬12)، كما تناقضا. وقد أقام اللَّه سبحانه لكل عالم ورئيس وفاضل (¬13) مَنْ يُظهر مماثلته، ويرى الجهالُ وهم الأكثرون مساجلته ومشاكلته (¬14)، وأنه يجري ¬

_ (¬1) في (ك): "عنده". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 670) وابن عبد البر في "الجامع" (2410) وعنه ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 8) -والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1039)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 46 - بتحقيقي). (¬4) نحوه عند ابن حمدان في "صفة الفتوى" (11 - 12)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" بإثر رقم (46) وابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 85)، وفي (ك): "قال" دون واو. (¬5) قال (د): "في نسخة: "وشغله بالجهل"، وأحسبه تحريف ما أثبتناه"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "ويستاقه بالجهل". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬7) في (ك): "فبفتواه"، وفي (ق): "ففتواه". (¬8) في (ق): "فلان وفلان". (¬9) في "الإحكام" (6/ 77)، وقد سبق لفظه. (¬10) في (ق): "فكان يكتب". (¬11) في (ق): "أن مفتيين اختلفا". (¬12) في (ق): "قال: وأنا قد تناقضت". (¬13) في (ق): "عالم وفاضل ورئيس". (¬14) في (ق): "مساجلة ومشاكلة".

[كذلكة المفتي]

معه في الميدان، وأنهما عند المسابقة كفَرَسي رهان، ولا سيما إذا طوّل الأردان، وأرخى الذوائب (¬1) الطويلة وراءه كذنب الأتان، وهذر باللسان وخلا له الميدان [الطويل] (¬2) من الفرسان. فلو لبسَ الحمارُ ثيابَ خَزٍّ (¬3) ... لقال الناس: يا لَك من حمارِ! [وهذا الضَّرب إنما يستفتونَ بالشَّكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية، قد غرَّهم عكوف من لا علم عنده عليهم، ومسارعة أجهل (¬4) منهم إليهم، تعج منهم الحقوق إلى اللَّه تعالى عجيجًا، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجًا، فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل فتيا أو قضاء أو تدريس، استحقَّ اسم الذم، ولم يحلّ قبولُ فتياه، ولا قضائه هذا حكم دين الإِسلام. وإنْ رَغِمَتْ أنوفٌ من أناسٍ ... فَقُلْ يا رب! لا ترغم سواها] (¬5) [كذلكة المفتي] الفائدة السادسة والعشرون: في حكم كذلكة (¬6) المفتي، ولا يخلو من حالين: إما أن يعلم صواب [جواب] (¬7) مَنْ تقدَّمه بالفتيا أو لا يعلم، فإنْ علم صواب جوابه فله أن يُكَذلِكَ، وهل الأولى له الكذلكة أو الجواب المستقل؟ (¬8) فيه تفصيل: فلا يخلو المبتدئ إما أن يكون أهلًا أو متسلِّقًا (¬9) متعاطيًا ما ليس له بأهل، فإنْ كان الثاني فتركه الكَذْلَكة أولى مطلقًا، إذ في (¬10) كَذْلكته تقرير له على الإفتاء، وهو كالشهادة له بالأهلية، وكان بعض أهل العلم (¬11) يضرب على فتوى مَنْ كتب وليس بأهل، فإن لم يتمكن من ذلك خوف الفتنة [منه فقد قيل] (¬12): لا يكتب معه في الورقة ويرد السائل، وهذا نوع تحامل والصواب أنه يكتب في ¬

_ (¬1) في (ق): "الذؤابة"، وفي (ك): "الذنب الطويل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ق): "قزٍ"، وفي (ك): "هذا". (¬4) قبلها في (ك): "أهل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) هو قوله: كذلك قالوا، أو: كذلك قال. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "وهذا الأولى له كذلكة والجواب المستقل". (¬9) في (ق): "مستلفيًا". (¬10) في (ق): "وفي". (¬11) في (ق): "وكان بعض العلماء". (¬12) في (ق): "فقيل"، وفي (ك): "فقد قيل".

الورقة الجواب، ولا يأنف من الإخبار بدين اللَّه (¬1) الذي يجب عليه الإخبار به لكتابة من ليس بأهل، فإن هذا ليس عذرًا (¬2) عند اللَّه ورسوله وأهل العلم في كتمان الحق، بل هذا نوع رياسة وكبر، والحق للَّه [عز وجل] (¬3)، فكيف يجوز أن يعطّل حقّ اللَّه ويكتم دينه؛ لأجل كتابة من ليس بأهل؟ وقد نص الإِمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازة [فرأى فيها] (¬4) منكرًا لا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، ونص على أنه إذا دعي إلى وليمة عرس فرأى فيها منكرًا (¬5) لا يقدر على إزالته أنه يرجع، فسألتُ شيخنا عن الفرق؟ فقال: لأن الحق في الجنازة للميِّت، فلا يُترك حقّه لما فعله الحيُّ من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتي فيها بالمنكر، فقد أسقط (¬6) حقَّه من الإجابة، وإن كان المبتدي بالجواب أهلًا للإفتاء، فلا يخلو إما أن يعلم المُكَذْلِكُ صواب جوابه أو لا يعلم، فإن لم يعلم صواب جوابه (¬7) لم يجز له أن يُكَذْلِكَ تقليدًا له؛ إذ لعله أن يكون قد غلط، ولو نُبّه لرجعَ، وهو معذور وليس المُكَذْلِكُ معذورًا (¬8)، بل مفتٍ بغير علم، ومَن أفتى بغير علم فإثمه على من أفتاه، وهو أحد المفتين الثلاثة الذين [ثلثاهم] (¬9) في النار، وإنْ علم أنه قد أصاب، فلا يخلو إما أن تكون [المسألَة] (9) ظاهرةً لا يخفى وجهُ الصواب فيها -بحيث لا يُظن بالمكَذْلِك أنه قلَّده فيما لا يعلم- أو تكون خفيَّة، فإنْ كانتْ ظاهرةً فالأَوْلى الكَذْلَكَة لأنه إعانةٌ على البر والتقوى، وشهادةٌ للمفتي بالصواب، وبراءة من الكِبْر والحميَّة، وإن كانتْ خفيَّة بحيث يظن بالمكَذلِك أنه وافقه تقليدًا محضًا، فإن أمكنه إيضاح ما أشكله الأول أو زيادة (¬10) بيان أو ذكر [قيد] (11) أو تنبيه على أمر أغفله؛ فالجواب المستقل أولى، وإنْ لم يمكنه ذلك، فإنْ شاء كَذْلَكَ، وإن شاء أجاب استقلالًا. فإن قيل: ما الذي يمنعه من الكَذْلَكة إذا لم يعلم صوابه تقليدًا [له] (¬11)، ¬

_ (¬1) في (ق): "في دين اللَّه". (¬2) في (ق): "بعذر". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "إذا رأى". (¬5) في (ق): "إذا رأى منكرًا". (¬6) في (ق): "سقط". (¬7) في المطبوع و (ت) و (ك): "صوابه". (¬8) في (ق): "وهذا معذور والمكذلك ليس معذورًا". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في المطبوع و (ق): "وزيادة". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[للمفتي أن يفتي من لا يجوز شهادته له]

كما قلد المبتدي مَنْ فوقه؟ فإذا [أفتى الأول] (¬1) بالتقليد المحض فما الذي يمنع المكَذْلِك من تقليده؟ قيل: الجواب من وجوه: أحدها: أن الكلام في المفتي الأول أيضًا، فقد نص [الإمام] (¬2) الشافعي وأحمد، وغيرهما من الأئمة على أنه لا يحل للرجل أن يفتي بغير علم، وحكى (¬3) في ذلك الإجماع، وقد تقدم [ذكر] (¬4) ذلك مستوفى (¬5). الثاني: أن هذا الأول (¬6)، وإن جاز له التقليد للضرورة، فهذا المَكَذْلِكُ، المتكلِّف لا ضرورةَ له إلى تقليده (¬7)، بل هذا من بناء الضعيف على الضعيف وذلك لا يسوغ، كما لا تسوغ الشهادة على الشهادة وكما لا يجوز المسح على الخفين على طهارة التيمم ونظائر ذلك كثيرة. الثالث: أن هذا لو ساغ لصار الناس كلهم مفتين إذ ليس هذا بجواز (¬8) تقليد المفتي أولى من غيره، وباللَّه التوفيق. [للمفتي أن يفتي من لا يجوز شهادته له] الفائدة السابعة والعشرون: يجوز للمفتي أن يفتي أباه وابنه وشريكه، ومن لا تقبل شهادته له، وإن لم يجز أن يشهد له ولا يقضي له، والفرق بينهما أن الإفتاء يجري مجرى الرواية فكأنه حكم عام (¬9)، بخلاف الشهادة والحكم، فإنه يخص المشهود له والمحكوم له، ولهذا يدخل الراوي في حكم الحديث الذي يرويه ويدخل في حكم الفتوى التي يُفتي بها, ولكن لا يجوز له أن يحابي من يفتيه (¬10) فيفتي أباه أو ابنه أو صديقه بشيء ويفتي غيرهم بضدِّه محاباة، بل هذا يقدح في عدالته إلا أن يكون [ثَمَّ] (¬11) سبب يقتضي التخصيص غير المحاباة، ومثال هذا أن يكون في المسألة قولان قول بالمنع وقول بالإباحة، فيفتي ابنه وصديقه بقول الإباحة والأجنبي يقول المنع. ¬

_ (¬1) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "فإذا الفتى المبتديء". (¬2) سقط من (ق) و (ك). (¬3) كذا في (ق) و (ك)، وفي سائر النسخ: "حكى". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) وقع في (ت): "مسبوقًا" بدل: "مستوفى". (¬6) في (ق): "أن يكون الأول". (¬7) في (ق): "لا ضرورة به إلى التقليد". (¬8) في (ق): "لجواز". (¬9) في (ك): "عالم". (¬10) وقع في (ت) و (ك) و (ق): "من نفسه"! (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

فإن قيل: هل يجوز له أن يفتي نفسه؟ قيل: نعم، إذا كان له أن يفتي غيره، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استفتِ قلبك، وأن أفتاك المفتون" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه الدارمي (2/ 245)، وأحمد (4/ 228) -ومن طريقه ابن عساكر (10/ 110) - وابن أبي شيبة في "مسنده" (رقم 753) والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 1/ 144 - 145) وأبو يعلى (1586 و 1587)، وفي "المفاريد" (97، 98) -ومن طريقه ابن عساكر (10/ 111 - 112) - وأبو الشيخ في "الأمثال" (237)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2139)، والطبراني في "المعجم الكبير" (22/ رقم 403)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 24 و 6/ 255) والبيهقي في "الدلائل" (6/ 292 - 293) -ومن طريقه ابن عساكر (62/ 341) -، من طرق عن حماد بن سلمة عن الزبير أبي عبد السلام عن أيوب بن عبد اللَّه بن مُكْرِز عن وابصة به، وهو جزء من حديث طويل. وقال ابن عساكر: "وفي نسخة أبو عبد السلام، وهو الصحيح". ورواه أحمد (4/ 228) من طريق عفان عن حماد بن سلمة: حدثني الزبير أبو عبد السلام عن أيوب، ولم يسمعه منه، قال: حدثني جلساؤه وقد رأيته، عن وابصة الأسدي، وقال عفان: "حدثني غير مرة، ولم يقل: حدثني جلساؤه". وهذا إسناد ضعيف، أيوب بن عبد اللَّه بن مُكْرِز ذكره ابن حبان في "الثقات" (4/ 26)، وقال ابن حجر: مستور، والزبير أبو عبد السلام قال أبو نعيم في "الحلية" بعد روايته للحديث: لا أعرف له راويًا غير حماد، وذكره ابن حبان في "الثقات" (6/ 333) كعادته!! أما الهيثمي فقد ذكر الحديث في "المجمع" (1/ 175 و 10/ 294) فقال في الأول: وفيه أيوب بن عبد اللَّه بن مكرز، قال ابن عدي: لا يتابع على حديثه، ووثقه ابن حبان، وقال في الثاني: ورجال أحد إسنادي الطبراني ثقات!! قلت: وهم الهيثمي في قوله الأول: وإنما قال ابن عدي المقولة السابقة في "أيوب بن عبد اللَّه بن الملاح" وليس لابن مكرز ذكر في "الكامل". ووجدت أبا نعيم في "الحلية" (6/ 255) ذكر لأيوب بن عبد اللَّه بن مكرز مُتابعين. فقال: رواه أبو سكينة الحمصي، وأبو عبد اللَّه الأسدي عن وابصة نحوه. أقول: أبو سكينة هذا مترجم في "التهذيب"، وقد نفى عنه الصحبة أبو زرعة وأبو حاتم وابن المديني وابن عبد البر، وقد ذكره بعضهم في الصحابة. وقد ذكره ابن حجر في "الإصابة" في القسم الأول، لكن يظهر أن الطريق في إثبات صحبته ضعيف، ولم يذكر أحد فيه جرحًا ولا تعديلًا، على كل حال ذكرهم إياه في الصحابة قد يقوي أمره. وأبو عبد اللَّه الأسدي، روى حديثه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 144) والبزار (183) والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 402) و"مسند الشاميين" (رقم 2000) والبيهقي في "الدلائل" (6/ 292) والتيمي في "دلائل النبوة"، (رقم 157) وابن عساكر (62/ 340 - 341) =

فيجوز له أن يفتي نفسه بما يفتي به غيره (¬1)، ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع، ولا يجوز له إذا كان في المسألة [قولان] (¬2) قول بالجواز وقول بالمنع، أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع (¬3). ¬

_ = من طريق معاوية بن صالح عنه، وقال: أبو عبد اللَّه الأسدي لا نعلم أحدًا سمّاه. قلت: وقعت تسميته في مطبوع "مسند الشاميين" وعند التيمي وابن عساكر بمحمد، وقال ابن رجب: "قال عبد الغني بن سعيد الحافظ، لو قال قائل: إنه محمد بن سعيد المصلوب، لما دفعت ذلك"، قال ابن رجب: "وهو مشهور بالكذب، لكنه لم يدرك وابصة". قلت: فقول الهيثمي في "المجمع" (1/ 175): "لم أجد من ترجمه" غير جيد، وهو ليس بالمصلوب، إذ ترجمه البخاري (1/ 1/ 144)، وابن أبي حاتم (4/ 1/ 132) ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقال العجلي في "ثقاته" (2/ 258 رقم 1665): "شامي تابعي، ثقة"، وذكره ابن حبان في "ثقاته" (5/ 370) وقال: "لا أدري من هو"! ورواه أحمد من نفس الطريق (4/ 227) لكن وقع فيه معاوية بن صالح: عن أبي عبد الرحمن السلمي عن وابصة، وفي أطراف ابن حجر: أبو عبد اللَّه السلمي، وكذا في "إتحاف المهرة" (13/ 641 - 642)، ونقله ابن رجب في "جامع بيان العلم" (219) هكذا. ويشهد له حديث أبي ثعلبة الخشني: رواه أحمد (4/ 194) والطبراني (22/ رقم 585) وأبو نعيم (2/ 30) وإسناده صحيح، وعزاه الهيثمي للطبراني (1/ 176)، وقال: "ورجاله ثقات" وجوَّد ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 250) إسناده، وقال النووي في "أربعينه" و"رياض الصالحين" (596) عن الحديث الذي أورده المصنف: "حسن" وهو كذلك بشواهده. وفي الباب عن واثلة بن الأسقع: رواه أبو يعلى (7492)، والطبراني في "الكبير" (22/ 193)، وفيه عبيد بن القاسم كذبه بعضهم، واتهمه آخرون. (¬1) في المطبوع و (ت): "بما يفتي غيره به". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) من لطيف ما يُذكر في جنب الترخص: ما قاله الإِمام ابن الجوزي رحمه اللَّه تعالى عن نفسه، في كتابه "صيد الخاطر" (2/ 304)، وقد ترخص في بعض الأمور: "ترخصتُ في شيء يجوز في بعض المذاهب، فوجدتُ في قلبي قسوة عظيمة، وتخايل لي نوع طردٍ عن الباب، وبعد وظلمة تكاثفت. فقالت نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجتَ عن إجماع الفقهاء؟ فقلتُ لها: يا نفس السوء! جوابُك من وجهين: أحدهما: أنك تأولت ما لا تعتقدين، فلو استُفتيتِ لم تُفتي بما فعلتِ، قالت: لو لم أعتقد جوازَ ذلك ما فعلته، قلت: إلا أن اعتقادك هو ما ترضينه لغيركِ في الفتوى. والثاني: أنه ينبغي لك الفرح بما وجدت من الظلمة عقيب ذَلك؛ لأنه لولا نورٌ في قلبك ما أثَّر مثلُ هذا عندكِ. قالت: فلقد استوحشت بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدِّري ما تركتِ جائزًا بالإجماع، وعُدِّي هجرَه ورعًا، وقد سلمتِ".

[لا يجوز الفتيا بالتشهي والتخير]

وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه يكون عندهم (¬1) في المسألة ثلاثة أقوال أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل. [لا يجوز الفتيا بالتشهي والتخيّر] الفائدة الثامنة والعشرون: لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء (¬2) من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا يعتد به، بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولًا قاله إمام أو وجهًا ذهب إليه جماعة فيعمل بما شاء (¬3) من الوجوه والأقوال حيث رأى القول وفق (¬4) إرادته وغرضه عمل به فإرادته وغرضه هو المعيار وبها (¬5) الترجيح، وهذا حرام بإتفاق الأمة. وهذا مثل ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه ممن نصب نفسه للفتوى [أنه كان يقول] (¬6): إن الذي لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وقال: وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة فأفتاه جماعة من المفتين بما يضرُّه، وكان (¬7) غائبًا فلما حضر سألهم بنفسه، فقالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه [قال: و] (6) هذا مما لا خلاف بين المسلمين، ممن يعتدُّ بهم في الإجماع أنه لا يجوز (¬8)، وقد قال مالك رحمه اللَّه في اختلاف الصحابة -رضي اللَّه عنهم-: "مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد" (¬9). وبالجملة، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين اللَّه تعالى بالتشهي والتخير ¬

_ (¬1) في (ق): "عنده"، وفي (ك): "زماننا" بدل "زمانه". (¬2) في المطبوع و (ت) و (ك): "بما يشاء". (¬3) في المطبوع و (ت) و (ك): "بما يشاء". (¬4) في (ق): "بحيث رأى القول وافق". (¬5) في (ق): "ونهاية". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع: "وأنه كان". (¬8) نقل كلام الباجي: ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 125) وابن مفلح في "أصول الفقه" (4/ 1564 - 1565)، وابن تيمية في "المسودة" (537)، وابن حمدان في "صفة الفتوى" (ص 40 - 41)، والشاطبي في "الموافقات" (5/ 90 - بتحقيقي) وعزاه لكتابه: "التبيين لسنن المهتدين"، وهو قيد التحقيق بقلم أخينا إبراهيم باجس. (¬9) كلامه في: "ترتيب المدارك" (1/ 192 - 193) و"أدب المفتي والمستفتي" (ص 125) و"صفة الفتوى" (41).

[أقسام المفتين أربعة]

وموافقة الغرض فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي [به] (¬1)، ويحكم به، ويحكم على عدوه [ويفتيه] (1) بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر، واللَّه المستعان. [أقسام المفتين أربعة] الفائدة التاسعة والعشرون: [المفتون] (¬2) الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام (¬3): أحدهم (¬4): العالم بكتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليدُهُ لغيره أحيانًا، فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام، وقد قال الشافعي [رحمه اللَّه ورضي عنه] (1) [في موضع] (¬5) من الحج: "قلته تقليدًا لعطاء"، فهذا النوع هم الذين (¬6) يسوغ لهم الإفتاء ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال [فيهم] (1) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" (¬7)، وهم غرس اللَّه الذين لا يزال يغرسهم في دينه وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] (1): لن تخلو الأرض من قائم للَّه بحُجّته (¬8). فصل النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله، ومآخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه (¬9)، من غير أن يكون مقلِّدًا لإمامه لا في ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬3) انظر: "المجموع" للنووي (1/ 75 - 77 - دار إحياء التراث)، و"المدخل" لابن بدران (ص 374 - 377 - ط الرسالة)، و"صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" لابن حمدان (ص 16 - 24 - المكتب الإِسلامي)، و"الفتوى في الإِسلام" للقاسمي (ص 13 - 71 - دار الكتب العلمية)، و"أصول الفقه" لأبي زهرة (ص 389 - 399). (¬4) في (ك): "أحدها". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬6) في المطبوع و (ت) و (ك): "النوع الذي". (¬7) سبق تخريجه. (¬8) سبق تخريجه، وفي (ك): "ممن قام للَّه بحجة". (¬9) في (ق): "على نصوصه".

فصل

الحكم، ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه، ورتّبه، وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا. وقد ادّعى هذه المرتبة من الحنابلة القاضي أبو يعلى والقاضي أبو علي بن أبي موسى في "شرح الإِرشاد" الذي له، ومن الشافعية خلقٌ كثير، وقد اختلف (¬1) الحنفية في أبي يوسف (¬2)، ومحمد، وزفر بن الهذيل، والشافعية في المزني، وابن سريج، وابن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي، والمالكية في أشهب، وابن عبد الحكم، وابن القاسم، وابن وهب، والحنابلة في أبي حامد (¬3)، والقاضي (¬4): هل كان هؤلاء مستقلين بالاجتهاد أو متقيدين (¬5) بمذاهب أئمتهم؟ على قولين، ومن تأمَّل أحوال هؤلاء وفتاويهم واختياراتهم علم أنهم لم يكونوا مقلّدين لأئمتهم في كل ما قالوه، وخلافهم لهم أظهر من أن ينكر، وإن كان منهم المستقل والمستكثر، ورتبة هؤلاء دون [رتبة] (¬6) الأئمة في الاستقلال بالاجتهاد. فصل النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه مقرر له بالدليل متقن لفتاويه، عالم بها, لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة، وهذا شأن أكثر المصنفين في مذاهب أئمتهم، وهو حال أكثر علماء الطوائف، وكثير منهم يظن أنه لا حاجة به إلى معرفة الكتاب والسنة والعربية؛ لكونه مجتزيًا (¬7) بنصوص إمامه، فهي عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كُلفة التَّعب والمشقة، وقد كفاه الإِمام استنباطَ الأحكام ومؤنة استخراجها من النُّصوص، وقد يرى إمامه ذكر حكمًا بدليله فيكتفي هو بذلك الدليل من غير بحث عن معارض له. وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطوَّلة والمختصرة، ¬

_ (¬1) في (ق) و (ك): "اختلفت". (¬2) في (ك): "أبي موسى"!! (¬3) في (ت) و (ق): "ابن حامد". (¬4) اعتنى المصنف في كتابه "الفروسية" (ص 283 - 285 - بتحقيقي) عنايةً فائقة بطبقات الفقهاء في المذاهب الأربعة المتبوعة، وتسمية أصحابها، فانظره، فإنه مفيد. وانظر في الأئمة المذكورين: "أدب المفتي والمستفتي" (92 - 94)، و"النافع الكبير" (4 - 6) و"عمدة الرعاية" (9) كلاهما للكنوي، و"شرح عقود رسم المفتي" (31). (¬5) في (ت): "مقيدين". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) كأنها في (ت): "مجترئًا"، وفي (ق): "يجتزئ".

[فصل

وهؤلاء لا يدعون الاجتهاد، ولا يقرون بالتقليد، وكثير منهم يقول: اجتهدنا في المذاهب فرأينا أقربها إلى الحق مذهب إمامنا، وكل (¬1) منهم يقول ذلك عن إمامه، ويزعم أنه أولى بالاتباع من غيره، ومنهم من يغلو فيوجب اتّباعه ويمنع من اتباع غيره. فياللَّه العجب من اجتهاد نهض بهم إلى كون متبوعهم ومقلَّدهم أعلم من غيره، وأحق بالاتباع ممن سواه (¬2)، وأن مذهبه هو الراجح والصواب دائر معه، وقعد بهم عن الاجتهاد في كلام اللَّه ورسوله واستنباط الأحكام منه وترجيح ما يشهد له النص مع استيلاء كلام اللَّه ورسوله على غاية البيان وتضمنه لجوامع الكلم، وفصله للخطاب وبراءته من التناقض والاختلاف والاضطراب فقعدت بهم هممهم [واجتهادهم] (¬3) عن الاجتهاد فيه ونهضت بهم إلى الاجتهاد في كون إمامهم أعلم الأمة وأولاها بالصواب، وأقواله في غاية القوة وموافقة السنة والكتاب، واللَّه المستعان. [فصل النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه] (¬4)، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرَّت على أنفسها بالتَّقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا (¬5) الكتاب والسنة يومًا [ما في مسألة] (3)، فعلى وجه التَّبرُّك والفضيلة (¬6)، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول من انتسبوا إليه أخذوا يقول إمامهم (¬7) وتركوا الحديث، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وغيرهم من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- قد أفتوا بفتيا، ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم وتركوا فتاوى الصحابة، قائلين: الإِمام أعلم بذلك منا ونحن قد قلَّدناه، فلا نتعداه، ولا نتخطاه، بل هو أعلم بما ذهب إليه منّا، ومن عدا هؤلاء فمتكلِّف [و] متخلف قد دنا (¬8) بنفسه عن رُتبة المشتغلين (¬9)، وقصَّر عن درجة ¬

_ (¬1) في (ق): "فكل". (¬2) في المطبوع و (ت) و (ك): "أحق بالاتباع من سواه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ق): "ذكر". (¬6) في (ق): "فعلى سبيل التبرك والفضل". (¬7) في المطبوع و (ت) و (ك): "أخذوا بقوله". (¬8) أشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "ربًا" وهي نسخة (ك)، وما بين المعقوفتين منها ومن (ق). (¬9) في (ت): "المتعلمين".

[منزلة كل نوع من المفتين]

المحصلين (¬1) فهو مُكَذْلك مع المَكْذِلكين، وإن ساعده القدر، واستقلَّ بالجواب قال: يجوز [بشرطه] (¬2)، ويصح بشرطه، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي، ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، ونحو ذلك من الأجوبة التي يحسنها (¬3) كل جاهل، ويستحي منها كل فاضل. [منزلة كل نوع من المفتين] ففتاوى القسم الأول من جنس توقيعات الملوك وعلاماتهم (¬4)، وفتاوى النوع الثاني من جنس توقيعات نوّابهم وخلفائهم، وفتاوى النوع الثالث والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم (¬5)، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعط متشبه بالعلماء محاك للفضلاء، وفي كل طائفة من الطوائف، متحققٌ بغيه (¬6)، ومُحاكٍ له، متشبهُ به، واللَّه المستعان. الفائدة الثلاثون: إذا كان الرجل مجتهدًا في مذهب إمام، ولم يكن مستقلًا بالاجتهاد، فهل له أن يُفتي يقول (¬7) ذلك الإِمام على قولين: وهما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد (¬8): أحدهما: الجواز ويكون متبعه مقلدًا للميت لا له، وإنما له مجرد النقل عن الإمام. والثاني: لا يجوز له أن يفتي لأن السائل [مقلِّد له لا للميت، وهو لم يجتهد له، والسائل] (¬9) يقول [له] (¬10): أنا أقلدك فيم تفتيني به (¬11). والتحقيق أن هذا فيه تفصيل، فإن قال [له] (11) السائل: " [أنا] (¬12) أريد حكم اللَّه تعالى في هذه المسألة، أو أريد الحق، أو ما يخلّصني" (¬13)، ونحو ذلك ¬

_ (¬1) في (ك): "المخلصين". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في المطبوع: "يستحسنها"، وأشار إليها (د) و (و). (¬4) في المطبوع: "وعلمائهم". (¬5) في (ك): "خلفائهم ونوابهم". (¬6) في (ت) و (ك): "متحقق فقيه". (¬7) في (ت): "بمذهب". (¬8) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (ص 123) و"العدة" (5/ 1612 - 1613) و"الإحكام" (4/ 269 - 273) للآمدي، و"شرح رسوم المفتي" (21) و"روضة الناظر" (237) و"المدخل إلى مذهب الإِمام أحمد" (187). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في (ق): "تفتي به". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬13) في المطبوع: "وأريد الحق فيما يخلصني".

[هل للحي أن يقلد الميت من غير نظر للدليل]

لم يسعه إلا أن يجتهد له في الحق، ولا يسعه أن يفتيه بمجرد تقليد غيره من غير معرفة بأنه حق أو باطل، وإن قال له: "أريد أن أعرف في هذه النازلة قول الإِمام ومذهبه" ساغ له الإخبار به ويكون ناقلًا له ويبقى الدَّرك على السائل، فالدرك في الوجه الأول على المفتي، وفي الثاني على المستفتي. [هل للحي أن يقلد الميت من غير نظر للدليل] الفائدة الحادية والثلاثون: هل يجوز [للحيِّ] (1) تقليد الميت والعمل بفتواه من غير اعتبارها بالدليل الموجب لصحة العمل بها؟ فيه وجهان لأصحاب الإِمام أحمد والشافعي (¬1)؛ فمن منعه قال: يجوز تغيّر (¬2) اجتهاده لو كان حيًا، فإنه كان يجدد النَّظر عند نزول هذه النازلة إما وجوبًا، وإما استحبابًا على النزاع المشهور ولعله لو جدَّد النظر لرجع عن قوله [الأول] (¬3). والثاني (¬4): الجواز وعليه عمل [جميع] (5) المقلدين في [جميع] (¬5) أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم من التقليد تقليد الأموات، ومن منع [منهم] (¬6) تقليد الميت، فإنما هو شيء يقوله بلسانه وعمله في فتاويه وأحكامه بخلافه والأقوال لا تموت بموت قائلها، كما لا تموت الأخبار بموت رواتها وناقليها. [هل للمجتهد في نوع من العلم أن يفتي فيه؟] الفائدة الثانية والثلاثون: الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم مقلدًا في غيره أو في باب من أبوابه كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أو في باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك، فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره وهل له أن يفتي في ¬

_ (¬1) انظر: "الإحكام" (6/ 822) لابن حزم و"مناهج العقول" (3/ 210) للبدخشي و"المسودة" (522) و"تيسير التحرير" (4/ 250) و"مسلم الثبوت" (2/ 407) و"الآيات البينات" (4/ 269) و"أسنى المطالب" (4/ 281) و"حاشية البناني" (2/ 397) و"إرشاد الفحول" (ص 251) و"عمدة التحقيق" للباني (ص 165 - 166 - ط القادري) و"المنهج الفريد في الاجتهاد والتقليد" (ص 238) و"التقليد في الشريعة الإِسلامية" (ص 99 - 104). (¬2) في المطبوع: "تغيير". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "الثاني". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه أصحها الجواز، بل هو الصواب المقطوع به. والثاني: المنع. والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها (¬1). فحجَّةُ الجواز أنه قد عرف الحق بدليله، وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك [النوع] (¬2) حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع. وحجة المنع تعلُّق أبواب الشرع وأحكامه بعضها ببعض، فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي [قد] (¬3) عرفه، ولا يخفى الارتباط بين كتاب النكاح والطلاق والعدَّة وكتاب الفرائض، وكذلك الارتباط بين كتاب الجهاد، وما يتعلق به، وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك عامة أبواب الفقه. ومن فرَّق بين الفرائض وغيرها رأى انقطاع أحكام قسمة المواريث، ومعرفة الفروض، و [معرفة] (¬4) مستحقها عن كتاب البيوع والإجارات والرهون والنضال، وغيرها وعدم تعلقاتها (¬5)، وأيضًا، فإن عامة أحكام المواريث قطعية وهي منصوص عليها في الكتاب والسنة (¬6). فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في [معرفة] (¬7) مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي بهما؟ قيل: نعم يجوز في أصح القولين، وهما وجهان لأصحاب الإِمام أحمد، وهل هذا إلا من التبليغ عن اللَّه و [عن] (7) رسوله، وجزى اللَّه من أعان على ¬

_ (¬1) انظر في مسألة تجزّئ الاجتهاد: "المحصول" (6/ 25) و"تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة (54) و"المستصفى" (2/ 353 - 354)، و"الإحكام" (4/ 164) للآمدي، (5/ 694 - 695) لابن حزم و"المرآة" (2/ 469) مع "حاشية الإزميري"، و"البحر المحيط" (4/ 473 و 6/ 209) للزركشي، و"شرح تنقيح الفصول" (430)، و"المعتمد" (2/ 929)، و"الموافقات" (5/ 43 - بتحقيقي) و"التقرير والتحبير" (3/ 294)، و"مقدمة المجموع" (1/ 71)، و"إرشاد الفحول" (254 - 255)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (20/ 204، 212 - 213)، و"جمع الجوامع" (2/ 405 - 406 - مع حاشية البناني)، و"شرح العضد على ابن الحاجب" (2/ 290 - 291)، و"فواتح الرحموت" (2/ 364)، و"الاجتهاد في الإِسلام" (ص 164 - 173) لنادية العمري و"المنهج الفريد" (ص 38 - 41). (¬2) ما بين المعقوفتين زيادة من (ت). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬5) في (ق): "وعدم تعلقها". (¬6) في (ت) و (ك): "وهي منصوص عليها في كتاب اللَّه تعالى". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك)، وفي (ق): "ما" بدل "فما".

[من تصدر للفتوى من غير أهلها أثم]

الإِسلام ولو بشطر كلمة خيرًا، ومَنْعُ هذا من الإفتاء بما عَلِم خطأ محض، وباللَّه التوفيق. [من تصدر للفتوى من غير أهلها أثم] الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقرَّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضًا. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه اللَّه (¬1): "ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدلّ الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطبِّ، وهو يطب الناس، بل هو (¬2) أسوأ حالًا من هؤلاء كلهم، وإذا تعيَّن على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين"؟ وكان شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬3) شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت (¬4) محتسبًا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ، ولا يكون على الفتوى محتسب؟ وقد روى الإِمام أحمد، وابن ماجه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه [مرفوعًا] (¬5): "من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه" (¬6)، وفي "الصحيحين" من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص [-رضي اللَّه عنهما-] (5) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" (¬7)، وفي ¬

_ (¬1) في رسالته "تعظيم الفتيا"، وهي نسخة خطية محفوظة في مكتبة شستربتي في (9) ورقات، برقم (3829) وفي وسطها سقط وهذا النقل منه، إذ لم أظفر بهذا النقل في المخطوط، انظر: "فهرس المخطوطات العربية مكتبة شستربتي" (1/ 483)، "مؤلفات ابن الجوزي" (ص 110). (¬2) في (ق) و (ت): "بل هؤلاء". (¬3) في (ق): "رحمه اللَّه". (¬4) في (ق): "جعلت". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) سبق تخريجه، ونص الحديث في (ق): "من أفتى الناس بغير علم كان إثمه على الذي أفتاه"، ونصه في (ت): "من أفتا بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه". (¬7) رواه البخاري (100) في (العلم): باب كيف يطلب العلم، و (7307) في (الاعتصام): باب ما يذكر من ذم الرأي وتكلف القياس، ومسلم (2673) في (العلم): باب رفع العلم وقبضه.

أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره: "من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض" (¬1). وكان مالك -رحمه اللَّه ورضي عنه- يقول: من سئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها (¬2)، وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف أما سمعت قول اللَّه عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] , فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة (¬3)، وقال: ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك (¬4)، وقال: لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه، وما أفتيتُ حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد، فأمراني (¬5) بذلك، ولو نهياني انتهيت (¬6)، قال: وإذا كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تصعب عليهم المسائل، ولا يجيب أحد منهم في (¬7) مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رُزقوا من السَّداد ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1043) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (15/ ق 56) وفي "مشيخته" (ق 109/ أ) من طريق عبد اللَّه بن أحمد بن عامر الطائي عن أبيه عن علي بن موسى الرضا عن أبيه جعفر بن محمد عن أبيه محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب رفعه وإسناده واه جدًا، قال الذهبي في "الميزان" (2/ 390) في ترجمة (عبد اللَّه بن أحمد بن عامر الطائي): "عن أبيه عن علي الرضا عن آبائه بتلك النسخة الموضوعة الباطلة، ما ينفك عن وضعه أو وضع أبيه" ومع هذا فقد حكم عليه شيخنا في "ضعيف الجامع" (رقم 5459) بالضعف. وأما قول المصنف: "ذكره أبو الفرج" أي في رسالته "تعظيم الفتيا"، وفي أول الفوت (ق 9/ أ) بإسناده إلى ابن مردويه حدثنا علي بن الحسين. وبعده نقص، ولعل تتمة الإسناد لهذا المتن لأنه تحت باب (وقد جاء الوعيد الشديد لمن يفتي وليس من أهل الفتوى)، واللَّه أعلم. (¬2) نقله القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 144) وابن الصلاح في "أدب المفتي" (80) والشاطبي في "الموافقات" (5/ 324 - بتحقيقي). (¬3) نقله القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 147 - 148) وابن الصلاح في "أدب المفتي" (80) والشاطبي في "الموافقات" (5/ 329 - بتحقيقي). وانظر: "الإمام مالك مفسرًا" (ص 399) و"صفة الفتوى والمفتي" (80). (¬4) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1041) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 316). (¬5) في (ق): "وأمراني". (¬6) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1042) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 316) والبيهقي في "المدخل" (رقم 825)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 49). (¬7) في المطبوع و (ك): "عن".

والتوفيق والطهارة فكيف بنا الذين غطَّت (¬1) الذنوب والخطايا قلوبنا (¬2)؟ وكان -رحمه اللَّه- إذا سئل عن مسألة، فكأنه واقف بين الجنة والنار (¬3)، وقال عطاء بن أبي رباح: أدركت أقوامًا إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم، وإنه لَيَرْعَد (¬4). وسُئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أي البلاد شرّ فقال؟ "لا أدري حتى أسأل جبريل"، فسأله فقال: أسواقها (¬5). وقال الإِمام أحمد: من عرَّض نفسه للفتيا، فقد عرَّضها لأمر عظيم، إلا أنه ¬

_ (¬1) في (ت): "غلب". (¬2) نقله القاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 145) وابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (80) وابن حمدان في "صفة الفتوى والمفتي" (8 - 9) وفي (ق): "الخطايا والذنوب". (¬3) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1087)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 18 - بتحقيقي)، وبعدها في (ق): "قال" بدل "وقال". (¬4) رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 718) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1085)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 16 - بتحقيقي)، وإسناده صحيح، وفي (ق): "المسألة" بدل "شيء"، وفي المصادر: "عطاء بن السائب" لا "ابن أبي رباح" كما عند المصنف. (¬5) رواه ابن حبان في "صحيحه" (1599)، والحاكم (1/ 90 و 2/ 7 - 8)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1550)، والبيهقي (3/ 65) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 959) من طريق جرير بن عبد الحميد عن عطاء بن السائب عن محارب بن دثار عن ابن عمر به. ورجاله ثقات إلا أن عطاء كان اختلط وجرير روى عنه بعد الاختلاط، ومما يدل على اختلاطه اضطرابه في تسمية الذي مسألة جبريل بعد سؤال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- له. وعزاه الهيثمي في "المجمع" (2/ 6) للطبراني في "الكبير"، وأعله بعطاء بن السائب. وله شاهد من حديث جبير بن مطعم: رواه أحمد (4/ 81) والفسوي (2/ 206)، والبزار (1252)، وأبو يعلى (7403)، والطبراني في "الكبير" (1545 و 1546) والحاكم (1/ 89، 95، 2/ 7)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1102)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 22) من طرق عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، وقال الهيثمي (4/ 76): ورجال أحمد وأبي يعلى والبزار رجال الصحيح، خلا عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، وهو حسن الحديث. ومن حديث أنس: رواه الطبراني في "الأوسط" (7140)، وضعفه الهيثمي (2/ 6 و 4/ 76 - 77)، وفيه عبيد بن واقد الليثي ضعيف. وأصل حديث الباب وهو: "خير البلدان المساجد وشرها الأسواق" ثابت في الصحيح، حيث رواه مسلم (671) من حديث أبي هريرة. وانظر "موافقة الخبر" (1/ 9 - 10).

قد تلجئ الضرورة (¬1) وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل [له] (¬2) ألا تستحيي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (¬3) [البقرة: 32] , وقال بعض أهل العلم: تعلَّم لا أدري، فإنك إنْ قلت: لا أدري علَّموك حتى تدري، وإن قلت: أدري سألوك حتى لا تدري (¬4)، وقال عقبة (¬5) بن مسلم: صحبت ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أربعة وثلاثين شهرًا، فكان كثيرًا ما يُسأل فيقول: لا أدري (¬6)، وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيا, ولا يقول شيئًا إلا قال: اللَّهم سلِّمني وسلِّم مني (¬7). وسئل الشافعي عن مسألة فسكت فقيل: ألا تجيب؟ فقال: حتى أدري الفَضْلَ في سكوتي أو في الجواب (¬8)، وقال ابن أبي ليلى: أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه (¬9). ¬

_ (¬1) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 650) -ومن طريقه ابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 19) عن الأثرم عنه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1123) -ومن طريقه ابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 26 - بتحقيقي) - وعلقه ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1558)، وعندهما "أهل العراقيين" و"تستحي" صحيحة بإثبات الياء؛ لأن مضارعها "تستحيي" بياءين، فتحذف إحداهما للجزم، وتبقى الأخرى. (¬4) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1589) وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 32 - بتحقيقي) - عن أبي الذيال قوله. (¬5) في جميع الأصول "عتبة"!! وهو خطأ، وصوابه ما أثبتناه، كما في مصادر التخريج. (¬6) رواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 490، 493) وابن المبارك في "الزهد" (رقم 52) والخطيب في "الفقيه والمتفقه"، (رقم 1109) وابن عبد البر في "الجامع" (رقم 1585)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 2 - بتحقيقي)، بإسناده صحيح. (¬7) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 2/ 468) وابن سعد (5/ 136) وأبو نعيم: (2/ 164) والبيهقي في "المدخل" (رقم 825) وهو في "أدب المفتي والمستفتي" (80)، و"صفة الفتوى" (10)، و"أدب الفتيا" (67). (¬8) نقله ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (79) وابن حمدان في "صفة الفتوى والمفتي" (10). (¬9) رواه الدارمي (1/ 53) وابن سعد (6/ 110) وأبو خيثمة في "العلم" (رقم 21) وابن المبارك في "الزهد" (58) والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 817) والآجري في =

وقال أبو الحَصِين الأسدي (¬1): إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه لجمع لها أهل بدر (¬2)، وسئل القاسم بن محمد عن شيء فقال: إني لا أحسنه، فقال: له السائل: إني دفعت إليك (¬3) لا أعرف غيرك، فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، واللَّه ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فواللَّه ما رأيتك (¬4) في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: واللَّه؛ لأن يُقْطَع لساني أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا علم لي به (¬5). وكتب سلمان إلى أبي الدرداء -رضي اللَّه عنهما-، وكان بينهما مؤاخاة: [بلغني أنك قعدت طبيبًا فاحذر أن تكون متطببًا أو تقتل مسلمًا. فكان ربما جاءه الخصمان فيحكم بينهما، ثم يقول: ردُّوهما عليَّ، متطبِّب واللَّه، أعيدا عليَّ قضيتكما] (¬6). ¬

_ = "أخلاق العلماء" (ص 102) وابن عبد البر في "الجامع" (2199، 2201)، والبيهقي في "المدخل" (رقم 800، 801) والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 640، 641)، وابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 9، 10 - بتحقيقي)، وإسناده صحيح، وذكره ابن الصلاح في " أدب المفتي والمستفتي" (75) والبغوي في "شرح السنة" (1/ 405) وابن حمدان في "صفة الفتوى" (7) والسيوطي في "أدب الفتيا" (ص 40 - 41/ ط العراقية). (¬1) كذا في (ت) و (ق) وهو الصواب، الموافق لما في مصادر التخريج وفي سائر النسخ "أبو الحسين الأزدي"!! وهو عثمان بن عاصم بن حصين، ثقة، ثبت، سنين، ترجمته في "المؤتلف والمختلف" (552) للدارقطني و"السير" (5/ 412). (¬2) رواه ابن بطة في "إبطال الحيل" (62) والبيهقي في "المدخل" (رقم 803) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (38/ 410 - 411)، وذكره البغوي في "شرح السنة" (1/ 305): وابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (76) والذهبي في "السير" (5/ 416) وابن حمدان في "صفة الفتوى" (7) والمزي في "تهذيب الكمال" (12/ 425) والنووي في "المجموع" (1/ 40) والسيوطي في "أدب الفتيا" (ص 42 - ط العراقية). (¬3) كذا في (ق) ومصادر التخريج، وفي (ت): "جئت"، وفي سائر النسخ: "جئتك". (¬4) كذا في (ق) ومصادر التخريج وفي سائر النسخ: "رأيناك". (¬5) رواه ابن عبد البر في "الجامع" (1571) وذكره ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (78) وابن حمدان في "صفة الفتوى" (7 - 8). (¬6) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (8/ 182 - ط دار الفكر)، وأبو القاسم البغوي -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 150) - وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائد الزهد" (2/ 90 - ط دار النهضة) وعنه وكيع في "أخبار القضاة" (3/ 200) وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 205) والدينوري في "المجالسة" (رقم 1238 - بتحقيقي) -ومن طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 150 - ط دار الفكر) - عن يحيى بن سعيد الأنصاري أن أبا =

[حكم العامي الذي لا يجد من يفتيه]

[حكم العامي الذي لا يجد من يفتيه] الفائدة الرابعة والثلاثون: إذا نزلت بالعاميّ نازلة، وهو في مكان لا يجد من يسأله عن حكمها ففيه (¬1) طريقان للناس، أحدهما: أن له حكم ما قبل الشرع، على الخلاف في الحظر والإباحة والوقف (¬2)؛ لأن عدم المرشد في حقه بمنزلة عدم المرشد بالنسبة إلى الأمة. والطريقة الثانية: أنه يُخَرجُ على الخلاف في مسألة تعارض الأدلة عند المجتهد هل يعمل (¬3) بالأخف أو بالأشد أو يتخير (¬4)؟ والصواب أنه يجب عليه أن ¬

_ = الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي: أن هلم إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: إن الأرض لا تقدس أحدًا. . . ثم ذكر كلامًا منه هذا وبعضهم اختصره. وهذا إسناد منقطع؛ يحيى بن سعيد لم يدرك القصة. ثم قال أبو نعيم: رواه جرير عن يحيى بن سعيد عن عبد اللَّه بن هبيرة أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء نحوه. أقول: هذا سند ظاهره الاتصال، عبد اللَّه بن هُبيرة هذا من الثقات، وظاهره أنه أدرك سلمان، لكن سلمان مات في حدود (35 - 40 هـ)، وهذا مات سنة (126)، وله خمس وثمانون سنة، فهو لم يدرك سلمان قطعًا. ورواه أبو نعيم أيضًا من طريق مالك بن دينار أن سلمان كتب إلى أبي الدرداء. . . وهذا إسناد منقطع أيضًا، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬1) في (ق): "ففيها". (¬2) فصلته في تعليقي على "تحقيق البرهان" للشيخ مرعي الكرمي (ص 128 - 130 ط الثانية)، وانظر: "المسودة" (ص 479) و"الإحكام" (1/ 52) لابن حزم و"روضة الناظر" (ص 22)، و"التبصرة" (532) و"تفسير القرطبي" (1/ 251 - 252) و"فواتح الرحموت" (1/ 49) و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (21/ 535، 539 و 29/ 151 و 7/ 45 - 46) و"مذكرة أصول الفقه" (ص 19). وفي (ك): "الوقوف". (¬3) في (ت) و (ق): "أن يعمل"، وفي (ك): "هل يعلم". (¬4) حكى أبو منصور عن أهل الظاهر وجوب الأخذ بالأشد، وهذا القول ومقابله (الأخف) لا يصحان، لأن الواجب الرجوع للدليل الشرعي لا غير، سواء أقضى بالأخف أم بالأثقل، ثم في القول بالأخذ بأحدهما مطلقًا مفاسد عديدة، ذكرها الشاطبي في "الموافقات" (5/ 104 - 105 - بتحقيقي) فراجعه فإنه نفيس غاية. والقائلون بالأخذ بأثقل القولين ذهبوا إليه للاحتياط!! ويرد عليهم بأن الاحتياط هو "الاستقصاء والمبالغة في اتباع السنة، وما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، من غير غلو ومجاوزة. ولا تقصير، ولا تفريط، فهذا هو الاحتياط الذي يرضاه اللَّه ورسوله" قاله =

يتقي اللَّه ما استطاع، ويتحرَّى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصَّبَ اللَّه [سبحانه ¬

_ = المصنف في كتابه "الروح" (ص 346). انظر في المسألة: "البحر المحيط" (6/ 322 - 323، 325 - 326)، و"البرهان" (2/ 1344)، و"شرح الكوكب المنير" (4/ 581)، و"المستصفى" (2/ 391)، و"روضة الناظر" (3/ 1026)، و"المسودة" (463 - 464)، و"تيسير التحرير" (4/ 255) و"أدب المفتي والمستفتي" (164 - 166)، و"صفة الفتوى" (81) و"المجموع" (1/ 97)، و"إرشاد الفحول" (271)، و"جمع الجوامع" (2/ 392 - مع شرح المحلي)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 162 - 163)، و"الاختلاف وما إليه" (103 - 104). أما القول بالتخيير، فله مفاسد عديدة، بيّنها بما لا مزيد عليه الشاطبي في "الموافقات" (5/ 94 وما بعد)، ومما قال: "إن المتخير بالقولين -مثلًا- بمجرد موافقة الغرض، إما أن يكون حاكمًا به، أو مفتيًا، أو مقلدًا عاملًا بما أفتاه به المفتي". ثم قال عن المفتي: "فإنه إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير، فقد أفتى في النازلة بالإباحة واطلاق العنان، وهو قول ثالث خارج عن القولين. وهذا لا يجوز له. إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضًا حسبما بسطه أهل الأصول. وأيضًا، فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يُلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا. وأما إن كان عاميًا؛ فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب؛ فإن العبد في تقلباته دائر بين لمَّتين: لَمَّة ملك، ولمَّة شيطان، فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين، وقد قال تعالى {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8]. {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]. {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]. وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات (أي: الفعل والترك)، والهوى لا يعدوهما، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي؛ فهو قائل له: "أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق"، فلا يمكن -والحال هذه- أن يقول له: "في مسألتك قولان؛ فاختر لشهوتك أيهما شئت؟ ". فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع، ولا ينجيه من هذا أن يقول: ما فعلتُ إلا بقول عالم؛ لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس، وقاية عن القال والقيل، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رميٌ في عماية، وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره، والتوفيق بيد اللَّه تعالى. وانظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (10/ 472 - 473) و"رفع العتاب والملام" (ص 64 - 65).

[من تجوز له الفتيا، ومن لا تجوز له]

و] (¬1) تعالى على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ اللَّه -سبحانه وتعالى- بين ما يحبه و [بين ما] (¬2) يسخطه من كل وجه بحيث لا يتميز هذا من هذا, ولا بد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق مؤثرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة ولو بمنام أو بإلهام، فإن قدّر ارتفاع ذلك كله وعدمت في حقه جميع الإمارات فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلفًا بالنسبة إلى غيرها (¬3)؛ فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة واللَّه أعلم. [من تجوز له الفتيا، ومن لا تجوز له] الفائدة الخامسة والثلاثون: الفتيا أوسع من الحكم [والشهادة] (¬4)، فيجوز فتيا العبد والحر، والمرأة والرجل، والقريب [والبعيد] (¬5) والأجنبي، والأمي والقارئ، والأخرس بكتابته، والناطق، والعدو والصديق (¬6)، وفيه وجه أنه لا تقبل (¬7) فتيا العدو، [ولا من] (¬8) لا تُقبل شهادته له كالشهادة، والوجهان في الفتيا كالوجهين (¬9) في الحكم، وإن كان الخلاف في الحاكم أشهر، وأما فتيا الفاسق، فإن أفتى غيره لم تُقبل فتواه وليس للمستفتي [أن يستفتيه] (¬10) وله أن يعمل بفتوى نفسه، ولا يجب عليه أن يستفتي غيره (¬11) وفي جواز استفتاء مستور ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬3) في المطبوع: "إلى غيره". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق) و (ك). (¬6) "أدب المفتي والمستفتي" (106 - 107) و"أصول الفقه" (4/ 1545) لابن مفلح، و"روضة الطالبين" (11/ 109) و"المجموع" (1/ 70) و"المسودة" (464، 472، 555)، و"شرح الكوكب المنير" (4/ 541، 546، 547) و"صفة الفتوى" (ص 29) و"الفروع" (6/ 428) و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (2/ 208)، و"الإحكام" (2/ 689) لابن حزم. (¬7) انظر: "المسودة" (555) و"المجموع" (1/ 75) و"أصول الفقه" (4/ 1545) لابن مفلح. (¬8) في (ق): "ولأنه". (¬9) في (ق): "كالوجهان". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬11) انظر: "الإحكام" (4/ 232) للآمدي و"روضة الناظر" (385) و"المجموع" (1/ 76)، و"البلبل" (174) و"المسودة" (555)، و"أصول الفقه" (4/ 1543, 1545) لابن مفلح و"أدب المفتي والمستفتي" (107) و"المستصفى" (2/ 350)، و"جمع الجوامع" (2/ 385)، و"مسلم الثبوت" (2/ 463)، و"صفة الفتوى" (29)، و"الفروع" (6/ 428) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 545)، وفي المطبوع: "أن يفتي غيره".

[هل يجوز للقاضي أن يفتي؟]

الحال وجهان (¬1)، والصواب جواز استفتائه وإفتائه. قلت: وكذلك الفاسق (¬2) إلا أَن يكون معلنًا بفسقه داعيًا إلى بدعته فحكم استفتائه حكم إمامته وشهادته، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة (¬3)، والقدرة والعجز فالواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبِّق بين الواقع والواجب (¬4)، [وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع] (¬5) فلكل زمان حكم والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض وامتنعت (¬6) إمامة الفسَّاق (¬7) وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم، وولاياتهم لعطلت الأحكام (¬8)، وفسد نظام الخلق وبطلت أكثر الحقوق ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأَصلح (¬9)، وهذا عند القدرة والاختيار، وأما عند الضرورة والغلبة بالباطل فليس إلا الاصطبار والقيام بأضعف مراتب الإنكار (¬10). [هل يجوز للقاضي أن يفتي؟] الفائدة السادسة والثلاثون: لا فرق بين القاضي وغيره في جواز الإفتاء بما يجوز الإفتاء به (¬11)، ووجوبها إذا تعيَّنت، ولم يزل أمر السلف والخلف على هذا، فإن منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند الجمهور، والذين (¬12) ¬

_ (¬1) انظر: "أصول الفقه" (4/ 1543) لابن مفلح، و"أدب المفتي والمستفتي" (ص 107) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 544) و"المسودة" (555) و"الفروع" (6/ 428) و"صفة الفتوى" (29) و"مختصر الطوفي" (185) و"مختصر البعلي" (167)، و"المجموع" للنووي (1/ 70) و"أصول مذهب أحمد" (704) و"المدخل إلى مذهب أحمد" (194). (¬2) في (ك) و (ق): "وكذا لفاسق". (¬3) في (ق): "الأزمنة والأمكنة". (¬4) في (ق): "الواجب والواقع". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬6) في المطبوع: "فلو منعت"، وفي (ق): "اتبعت". (¬7) انظر مبحث الصلاة خلف الفاسق، وكلام الإِمام أحمد في ذلك في "بدائع الفوائد" (4/ 68). (¬8) في (ت) و (ق): "أبطلت الأحكام". (¬9) انظر: "مجموع الفتاوى" (28/ 258، 259)، "الجامع للاختيارات الفقهية" لشيخ الإِسلام ابن تيمية (3/ 1265، 1267، 1268). (¬10) انظر أحكام الفساق في "الطرق الحكمية" (ص 173)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 81)، و"مدارج السالكين" (2/ 16). ووقع في (ق): "والقيام بأقل مراتب الإنكار". (¬11) في المطبوع و (ك): "بما تجوز الفتيا به". (¬12) في (ق) و (ك): "الذين".

لا يجوزِّون قضاء الجاهل فالقاضي مفتٍ ومثبتٍ، ومنفذ لما أفتى به. وذهب بعض الفقهاء من أصحاب [الإمام] (¬1) أحمد (¬2) والشافعي (¬3) إلى أنه يكره للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به دون الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها واحتج أرباب هذا القول بأن فتياه تفسير كالحكم منه على الخصم، ولا (¬4) يمكن نقضه وقت المحاكمة قالوا: ولأنه قد يتغير اجتهاده وقت الحكومة أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء، فإن أصر على فتياه والحكم بموجبها حكم بخلاف ما يعتقد صحته، وإن حكم بخلافها طرق الخصم (¬5) إلى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكم [بخلاف] (¬6) ما يعتقده ويفتي به، ولهذا قال شُريح: "أنا أقضي لكم ولا أفتي" (¬7) حكاه ابن المنذر (¬8) واختار كراهية الفتوى (¬9) في مسائل الأحكام، وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: لأصحابنا في فتواه في مسائل الأحكام جوابان، أحدهما: ليس له أن يفتي فيها؛ لأن لكلام (¬10) الناس عليه مجالًا، ولأحد الخصمين عليه مقالًا، والثاني: له ذلك لأنه أهل له (¬11). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬2) انظر: "المسودة" (555) و"أصول الفقه" (4/ 1546) لابن مفلح و"صفة الفتوى" (29). (¬3) انظر: "المجموع" (1/ 76) "روضة الطالبين" (11/ 109) و"جمع الجوامع" (2/ 397)، "أدب المفتي والمستفتي" (107، 108) و"الإحكام" (29 - 42) و"الفروق" (2/ 104 - 106 و 4/ 53 - 54) كلاهما للقرافي. (¬4) في (ك): "فلا". (¬5) في (ق): "الجهم"، وفي الهامش: "لعله الوهم". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬7) أخرجه ابن سعد (6/ 138)، وعبد الرزاق (9/ 169 رقم 16921)، وذكره عنه: ابن الصلاح في "أدب المفتي" (108)، والنووي في "المجموع" (1/ 76)، وابن حمدان في "صفة الفتوى" (29) وابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (4/ 545 - 546). (¬8) في "الإقناع" (2/ 514). (¬9) قال في "الإقناع" (2/ 514): "وأكره للقاضي أن يفتي في الأحكام"، وفي (ق): "كراهية الإفتاء له"، وفي (ك): "كراهيه الفتوى له". (¬10) في (ق): "كلام" وما أثبتناه من سائر النسخ و"أدب المفتي". (¬11) نقله ابن الصلاح -وعنه النووي في "المجموع" (1/ 76) - عن "تعاليق الشيخ أبي حامد الإسفرائيني". وقال ابن السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى" (4/ 68): "وقفت على أكثر "تعليقة" الشيخ أبي حامد، بخط سُلَيم الرازي وهي الموقوفة بخزانة المدرسة الناصرية بدمشق، والتي علقها البنْدَنيجي عنه، ونسخ أخر منها".

[فتيا الحاكم وحكمها]

[فتيا الحاكم وحكمها] الفائدة السابعة والثلاثون: فتيا الحاكم ليست حكمًا منه، ولو (¬1) حكم غيره بخلاف ما أفتى به لم يكن نقضًا لحكمه، ولا هي كالحكم، ولهذا يجوز أن يفتي للحاضر والغائب، ومن يجوز حكمه [له] ومن لا يجوز (¬2)، ولهذا لم يكن في حديث هند (¬3) [دليل] (¬4) على الحكم على الغائب لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما أفتاها فتوى مجردة، ولم يكن ذلك حكمًا على الغائب، فإنه لم يكن غائبًا عن البلد، وكانت مراسلته وإحضاره ممكنة، ولا طلب البينة على صحة دعواها، وهذا ظاهر بحمد اللَّه [تعالى] (¬5). [هل يجيب المفتي عما لم يقع] الفائدة الثامنة والثلاثون (¬6): إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع فهل تُستحب إجابته أو تكره أو يخير (¬7)؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد حُكي عن كثير من السلف أنه [كان] (¬8) لا يتكلم فيما [لم] (¬9) يقع، وكان بعض السلف إذا مسألة الرجل عن مسألة قال: هل كان ذلك؟ فإن قال: نعم، تكلَّف له الجواب، وإلا قال: دعنا في عافية (¬10). وقال الإِمام أحمد لبعض أصحابه: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام". والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب اللَّه أو سنة عن ¬

_ (¬1) في (ق): "فلو". (¬2) نقل ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" (4/ 546) كلام المصنف من أول الفائدة إلى هنا، وعزاه لـ "الإعلام"، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه البخاري (2211) في (البيوع): باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم في البيوع، و (5364) في (النفقات): باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه، و (5370) باب: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، وهل على المرأة منه شيء، و (7180) في (الأحكام): باب القضاء على الغائب. ومسلم (1714) في "الأقضية": باب قضية هند من حديث عائشة. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت) و (ك)، وانظر "الإنصاف" (11/ 221). (¬6) وأثبت ناسخ (ق) في الهامش: "إذا سأل عما لم يقع". (¬7) في المطبوع و (ت): "أو تخير". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬10) "أدب المفتي والمستفتي" (109).

[لا يجوز للمفتي تتبع الحيل]

رسول اللَّه (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- أو أثر عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص، ولا أثر، فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر، ولا مستبعد وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها ويفرع عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، واللَّه أعلم. [لا يجوز للمفتي تتبع الحيل] الفائدة التاسعة والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل (¬2) المحرَّمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن (¬3) تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه، فإن (¬4) حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها, ولا مفسدة ليخلِّص (¬5) المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد اللَّه [سبحانه و] (¬6) تعالى نبيه أَيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا (¬7) فيضرب به المرأة ضربة واحدة، وأرشد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلالًا إلى بيع التمر بدراهم (¬8)، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر فيتخلَّص من الربا (¬9)، فأحسن المخارج ما خلص من المآثم (¬10) وأقبح الحيل (¬11) ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه اللَّه تعالى ورسوله من الحق اللازم، وقد ذكرنا من النَّوعين ما لعلك لا تظفر بجملته (¬12) في غير هذا الكتاب، واللَّه الموفق للصواب. ¬

_ (¬1) في (ق): "عن النبي". (¬2) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (111) و"المجموع" (1/ 81) وفي (ت): "أن تتبع الحيل". (¬3) في (ق): "وإن". (¬4) في (ق): "وإن". (¬5) في المطبوع و (ت) و (ك): "لتخليص". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت). (¬7) "قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس أو قبضة ريحان أو قضبان" (و). (¬8) في (ق): "بالدراهم". (¬9) تقدم مرارًا. (¬10) في (ك): "الاثم". (¬11) في (ك): "المخارج". (¬12) في (ت): "ما لعلك لا لجملته"، وأشار في الهامش إلى أنه في نسخة: "ما لعلك لا تجهله".

[حكم رجوع المفتي عن فتواه]

[حكم رجوع المفتي عن فتواه] الفائدة الأربعون: في حكم رجوع المفتي عن فتياه، إذا أفتى المفتي بشيء ثم رجع عنه، فإن (¬1) علم المستفتي برجوعه، ولم يكن عمل بالأول فقيل: يحرم عليه العمل به، وعندي في المسألة تفصيل، وأنه لا يحرم عليه الأول بمجرد رجوع المفتي، بل يتوقف حتى يسأل غيره، فإن أفتاه بموافقة الأول استمر على العمل به، وإن أفتاه بموافقة الثاني، ولم يُفته أحد بخلافه حرم عليه العمل بالأول، وإن لم يكن في البلد إلا مفت واحد سأله عن رجوعه عما أفتاه به، فإن رجع إلى اختيار خلافه مع تسويغه لم يحرم عليه، وإن رجع لخطأ (¬2) بأن له، وإنَّ ما أفتاه به لم يكن صوابًا حرم عليه العمل بالأول هذا إذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعي، فإن كان رجوعه لمجرد ما بأن له أنَّ ما أفتاه به (¬3) خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتي ما أفتاه به أولًا (¬4) إلا أن تكون المسألة إجماعية. فلو تزوج بفتواه ودخل، ثم رجع المفتي لم يحرم عليه إمساك امرأته إلا بدليل شرعي يقتضي تحريمها, ولا يجب عليه مفارقتها لمجرد رجوعه (¬5)، ولا سيما إن كان إنما رجع لكونه (¬6) تبين له أن ما أفتى به خلاف مذهبه، وإن وافق مذهب غيره، هذا هو الصواب. وأطلق بعض أصحابنا (¬7) وأصحاب الشافعي (¬8) وجوب مفارقتها عليه، وحكوا في ذلك وجهين ورجَّحوا وجوب المفارقة قالوا: لأن المرجوع (¬9) عنه ليس مذهبًا له، كما لو تغير اجتهاد مَنْ قلَّده في القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول مع الإِمام في الأصح. ¬

_ (¬1) في (ق): "وإن". (¬2) في (ق): "بخطأ". (¬3) في المطبوع و (ك): "ما أفتي به". (¬4) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (109) فمنه ينقل المصنف. (¬5) في المطبوع و (ك): "بمجرد رجوعه". (¬6) في (ق): "بكونه". (¬7) انظر: "المسودة" (521، 543): "صفة الفتوى والمفتي" (30 - 31) و"الفروع" (6/ 491) "شرح الكوكب المنير" (4/ 509 - 510)، و"المدخل إلى مذهب الإِمام أحمد" (190). (¬8) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (109) و"المستصفى" (2/ 382) و"المنخول" (ص 481) و"الإحكام" للآمدي (4/ 203) و"جمع الجوامع" (2/ 391 - مع "حاشية البُناني") و"روضة الطالبين" (11/ 107). (¬9) كذا في (ق)، وفي سائر النسخ: "الرجوع".

فيقال لهم: المُستفتي قد دخل بامرأته دخولًا صحيحًا سائغًا، ولم يقم (¬1) ما يوجب مفارقته لها من نص، ولا إجماع، فلا يجب عليه مفارقتها بمجرد تغير اجتهاد المفتي، وقد رجع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن القول بالتشريك وأفتى بخلافه، ولم يأخذ المال من الذين شرَّك بينهم أولًا (¬2)، وأما قياسكم ذلك على من تغير اجتهاده في معرفة القبلة فهو حجة عليكم، فإنه لا يبطل ما فعله المأموم بالاجتهاد الأول ويلزمه التحول ثانيًا لأنه مأمور بمتابعة الإِمام، بل نظير مسألتنا ما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ من الصلاة، فإنه لا تلزمه الإعادة ويصلي الثانية بالاجتهاد الثاني. وأما قول أبي عمرو بن الصلاح (¬3) وأبي عبد اللَّه بن حمدان (¬4) من أصحابنا: "إذا كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معيَّن فإذا رجع لكونه بان له ¬

_ (¬1) في المطبوع: "ولم يفهم". (¬2) روى عبد الرزاق (19005)، ومن طريقه الدارقطني (4/ 88)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 255)، و"الخلافيات" (3/ ق 15 - 16)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1670) عن معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه عن مسعود بن الحكم الثقفي قال: قضى عمر في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها، وإخوتها لأبيها وأمها فأشرك عمر بين الإخوة للأم والإخوة للأب، والأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا فقال عمر: تلك على ما قضيت يومئذ، وهذه على ما قضينا. ورواه سعيد بن منصور (62)، والبيهقي عن معمر عن سماك عن مسعود بن الحكم به. واعلم أنه قد وقع في بعض المصادر اسم مسعود بن الحكم: الحكم بن مسعود، وقد جعلهما ابن أبي حاتم واحدًا فقال: الحكم بن مسعود يقال له: مسعود بن الحكم أيضًا، وهو الصحيح روى عن عمر بن الخطاب وروى عنه وهب بن منبه. وأما يعقوب بن سفيان فقال: الذي روى إنما هو الحكم بن مسعود وأخطأ من قال: مسعود بن الحكم، نقله عنه البيهقي. ثم وجدت البخاري سبقه إلى هذا في "تاريخه الكبير" (2/ 332). أقول: وصوب أنه الحكم بن مسعود أيضًا النسائي كما نقله عنه الحافظ في "التلخيص" (3/ 86). والحكم هذا لم يذكر بجرح ولا تعديل، فهو في عداد المجاهيل. وقال البخاري أيضًا: ولم يتبين سماع وهب من الحكم. ومع هذا فقد قال محقق "جامع بيان العلم": إسناده صحيح، ورجاله ثقات!! (¬3) في "أدب المفتي والمستفتي" (109 - 110). (¬4) في "صفة الفتوى" (30 - 31).

قطعًا أنه خالف في فتواه نص [مذهب] (1) إمامه، فإنه يجب نقضه، وإن كان ذلك في محل الاجتهاد؛ لأنَّ [نصَّ] (¬1) مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل". فليس كما قالا, ولم ينص على هذه المسألة أحد من الأئمة، ولا تقتضيها أصول الشريعة ولو كان نص إمامه بمنزلة نص الشارع لحرم عليه وعلى غيره مخالفته وفسق بخلافه. ولم يوجب أحد من الأئمة نقض حكم الحاكم، ولا إبطال فتوى المفتي بكونه خلاف (¬2) قول زيد أو عمرو، ولا يُعلم أحد سوّغ (¬3) النقض بذلك من الأئمة والمتقدمين من أتباعهم، وإنما [قالوا] (¬4): يُنقض من حكم الحاكم ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماع الأمة، ولم يقل أحد: يُنقض من حكمه ما خالف قول فلان أو فلان، وينقض من فتوى المفتي ما ينقض من حكم الحاكم، فكيف يسوغ نقض أحكام الحكام وفتاوى أهل العلم بكونها خالفت قول واحد من الأئمة؟ ولا سيما إذا وافقت نصًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فتاوى الصحابة (¬5) أيسوغ (¬6) نقضها لمخالفة قول فلان وحده، ولم يجعل اللَّه تعالى ولا رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أحد من الأئمة قول فقيه من الأمة بمنزلة نص اللَّه ورسوله بحيث يجب اتباعه ويحرم خلافه، فإذا بان للمفتي أنه خالف إمامه، ووافق قول الأئمة الثلاثة لم يجب على الزوج أن يفارق امرأته، ويخرب بيته، ويشتت شمله، وشمل أولاده، بمجرَّد كون المفتي ظهر له أن ما أفتى به خلاف نص إمامه، ولا يحل له أن يقول [له] (¬7): "فارق أهلك" بمجرد ذلك، ولا سيما إن كان النص مع قول الثلاثة، وبالجملة فبطلان هذا القول أظهر من أن نتكلَّف بيانَه. فإن قيل: فما تقولون لو تغيَّر اجتهاد المفتي فهل يلزمه إعلام المستفتي؟ قيل: اختلف في ذلك؛ فقيل: لا يلزمه إعلامه، فإن (¬8) عمل أولًا بما يسوغ له فإذا لم يعلم بطلانه لم يكن آثمًا فهو في سعة من استمراره وقيل: بل يلزمه [إعلامه] (¬9) لأن ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه وبان له أن ما أفتاه به ليس من ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "نص عليه مذهب". (¬2) في (ق): "بخلاف". (¬3) في (ق): "ولا نعلم أحدًا". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬5) في (ق): "وفتاوى الصحابة -رضي اللَّه عنهم-". (¬6) في المطبوع و (ت) و (ق): "يسوغ". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) في (ق): "فإنه". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

الدين، فيجب عليه إعلامه، كما جرى لعبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- حين أفتى رجلًا بحلِّ [أم] (¬1) امرأته التي فارقها قبل الدخول، ثم سافر إلى المدينة وتبين له خلاف هذا القول فرجع إلى الكوفة وطلب [هذا] (4) الرجل (¬2) وفرق بينه وبين أهله (¬3)، وكما جرى للحسن بن زياد اللؤلؤي لما استُفتي في مسألة فأخطأ فيها، ولم يعرف الذي أفتاه به فاستأجر مناديًا ينادي: إن الحسن بن زياد استُفتي [في] (1) يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسن بن زياد في شيء (¬4) فليرجع إليه، ثم لبث أيامًا لا يفتي، حتى جاء (¬5) صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ (¬6)، وأن الصواب خلاف ما أفتاه به (¬7). وقال القاضي أبو يعلى في "كفايته": من أفتى بالاجتهاد، ثم تغير اجتهاده لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك إن كان قد عمل به وإلا أعلمه (¬8). والصواب التفصيل، فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعًا لكونه خالف نصَّ الكتاب أو السنة (¬9) التي لا معارض لها أو خالف إجماع الأمة فعليه (¬10) إعلام المستفتي، وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه أو نص إمامه لم يجب عليه إعلام المستفتي وعلى هذا تُخرَّج قصة ابن مسعود [-رضي اللَّه عنه-] (¬11)، فإنه لما ناظر الصحابة في تلك المسألة بيَّنوا له أن صريح الكتاب يحرمها لكون اللَّه [تعالى] (11) أبهمها فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، وظن عبد اللَّه أن قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] راجع إلى الأول والثاني فبينوا له أنه إنما يرجع إلى أمهات الربائب خاصة، فعرف أنه الحق، وأن القول بحلِّها خلاف كتاب اللَّه [تعالى] (11) ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬2) في (ق): "فطلب الرجل". (¬3) سبق تخريجه. (¬4) في المطبوع: "بشيء". (¬5) في (ت) و (ق): "حتى وجد". (¬6) في (ت): "قد أفتاه"! (¬7) رواه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 1209)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 34 - بتحقيقي) وذكره ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (110) والنووي في "المجموع" (1/ 81). (¬8) انظر: "المجموع" (1/ 81) و"صفة الفتوى" (30)، و"جمع الجوامع" (2/ 391) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 511 - 512)، و"روضة الطالبين" (11/ 107)، و"جمع الجوامع"، (2/ 391) و"المعتمد" (2/ 933). (¬9) في (ك): "بكونه خالف نص الكتاب والسنة". (¬10) في (ق) و (ك): "وجب عليه". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[هل يضمن المفتي المال أو النفس؟]

ففرَّق بين الزوجين، ولم يفرق بينهما بكونه تبين له أن ذلك خلاف قول زيد أو عمرو واللَّه تعالى أعلم. [هل يضمن المفتي المال أو النفس؟] الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المُستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بأن خطؤه، قال أبو إسحاق الإسفرائيني من الشافعية (¬1): يضمن المفتي إن كان أهلًا للفتوى وخالف القاطع، وإن لم يكن أَهلًا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصَّر في استفتائه وتقليده، ووافقه على ذلك أبو عبد اللَّه بن حمدان (¬2) في كتاب: "آداب المفتي والمستفتي" (¬3) له، ولم أعرف هذا لأحد من الأصحاب قبله (¬4)، ثم حكى وجهًا آخر في تضمين من ليس بأهل [قال] (3): لأنه تصدَّى لما ليس له بأهل، وغرَّ من استفتاه بتصدِّيه لذلك. قلت: خطأُ المفتي كخطأ الحاكم والشاهد، وقد اختلفت الرواية في خطأ الحاكم في النفس أو الطرف (¬5)، فعن (¬6) الإمام أحمد في ذلك روايتان: إحداهما (¬7): أنه في بيت المال؛ لأنه يكثر منه ذلك [الحكم] (¬8)، فلو حَمَلته العاقلة لكان [ذلك] (¬9) إضرارًا عظيمًا بهم. والثانية: أنه على عاقلته، كما لو كان الخطأ بسبب غير [الحاكم] (¬10)، وأما خطؤه في المال فإذا حكم بحق ثم بأن كفر الشهود أو فسقهم نقض حكمه، ثم رجع المحكوم عليه ببدل المال على المحكوم له، وكذلك إذا كان الحكم بقود ¬

_ (¬1) نقله ابن الصلاح في "أدب المفتي" (111) وعنه النووي في "المجموع" (1/ 81) وقال: "كذا حكاه الشيخ أبو عمرو، وسكت عليه، وهو مشكل، وينبغي أن يخرج الضمان على قَوْلي الغرور المعروفَيْن في بابي (الغصب) و (النكاح) وغيرهما، أو يقطع بعدم الضمان، إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء". وانظر "التحبير شرح التحرير" (8/ 3985). وفي (ق): "فقال". (¬2) في (ك): "ابن أحمد". (¬3) (ص 31 - المكتب الإسلامي). (¬4) في المطبوع و (ت): "لأحد قبله من الأصحاب". (¬5) في (ق): "في النفس والطرف". (¬6) في (ق): "وعن". (¬7) في (ق): "إحديهما". (¬8) في (ت): "لأنه منه الحكم"، وفي (ك): "لأنه يكثر منه الحكم"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في (ق): "الحكم".

رجع أولياء المقتول ببدله على المحكوم له، و [كذلك] إن كان الحكم بحق اللَّه (¬1) بإتلاف مباشر (¬2) أو بالسراية ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الضمان على المزكِّين لأن الحُكمَ إنما وجب بتزكيتهم (¬3). والثاني: يضمنه الحاكم لأنه لم يثبت، بل فرَّط في المبادرة إلى الحكم وترك [البحث] (¬4) والسؤال. والثالث: أن للمستحق تضمين أيهما شاء والقرار على المزكين لأنهم ألجأوا الحاكم إلى الحكم، فعلى هذا إن لم يكن ثَمَّ تزكية فعلى الحاكم، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا ينقض بفسقهم فعلى هذا لا ضمان. وعلى هذا إذا استفتى الإمام أو الوالي مفتيًا فأفتاه، ثم بأن [له] (¬5) خطؤه فحكم المفتي مع الإمام حكم المزكّين مع الحاكم، وإن عمل [المُستفتي] (¬6) بفتواه من غير [حكم] (4) حاكم، ولا إمام فأتلف نفسًا أو مالًا، فإن كان [المفتي] (4) أهلًا، فلا ضمان عليه والضمان على المُستفتي، وإن لم يكن أهلًا فعليه الضمان (¬7)؛ لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من تطبب، ولم يعرف منه طبٌّ فهو ضامن" (¬8)، ¬

_ (¬1) في (ق): "بحق للَّه"، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ك): "مباشرة". (¬3) هذا قول الشافعي وإحدى الروايتين عن المالكية انظر: "الأم" (7/ 168)، "مختصر المزني" (312)، "المهذب" (2/ 342 - 343)، "حلية العلماء" (8/ 314)، "روضة الطالبين" (11/ 296) "المدونة" (4/ 83)، "التفريع" (2/ 240)، "الكافي" (467)، "المعونة" (3/ 1561)، "الإشراف" (5/ 86 مسألة 1839) وتعليقي عليه. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) قال في هامش (ق): "مطلب: يضمن قوله أم هذا خلاف". (¬8) رواه أبو داود (4586) في (الديات): باب فيمن تطبب بغير علم، والنسائي (8/ 52 - 53) في (القسامة): باب صفة شبه العمد، وابن ماجه (3466) في (الطب): باب من تطبب ولم يُعلم منه طب، وابن عدي (5/ 1767)، والدارقطني (3/ 195 - 196، و 4/ 215 - 216)، والحاكم (4/ 212)، والبيهقي (8/ 141) وأبو نعيم في "الطب النبوي" (ق 14/ أ) وابن السني -كما في "المنهج السوي" (رقم 663) - من طريق الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال:. . . فذكره. قال أبو داود: "هذا لم يروه إلا الوليد، لا ندري هو صحيح أم لا". وقال الحاكم: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي! =

وهذا يدل على أنه إذا عرف منه طب وأخطأ لم يضمن والمفتي أولى بعدم الضمان من الحاكم والإمام؛ لأنَّ المستفتي مخيَّر بين قبول فتواه وردها، فإن قوله: لا يلزم بخلاف حكم الحاكم والإمام، وأما خطأ الشاهد فإما أَن يكونوا شهودًا بمال أو طلاق أو عتق أو حد أو قود، فإن بأن خطؤهم قبل الحكم لم يحكم بذلك (¬1)، وإن بأن بعد الحكم باستيفاء القود وقبل استيفائه لم يستوف قطعًا، وإن بأن بعد استيفائه فعليهم دية ما تلف ويتقسط الغرم على عددهم، وإن بأن خطؤهم قبل الحكم بالمال لغت شهادتهم، ولم يضمنوا، وإن بأن بعد الحكم به نقض حكمه، كما لو شهدوا بموت رجل باستفاضة فحكم الحاكم بقسم ميراثه، ثم بانت حياته، ¬

_ = أقول: الوليد بن مسلم وابن جريج مدلسان، لكن الوليد صَرَّحَ بالسماع عند غير واحد، بقي ابن جريج فلم يصرح بالسماع. والحديث رواه محمود بن خالد عن الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن عبد اللَّه بن عمرو: "لم يذكر والد شعيب". أخرجه النسائي (8/ 53)، وقال ابن عدي: وجعله من جودة إسناده. وهذه العلة ذكرها ابن عدي والبيهقي والمزي في "تحفة الإشراف" (6/ 325). لكن وقع في المطبوع من النسائي بإثبات "عن أبيه" فقال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- ردًا على البيهقي في قوله: إن محمودًا أسقط والد عمرو من الإسناد: "كذا قال، ولعلها رواية وقعت له، وإلا فقد رواه النسائي عنه مثل رواية الجماعة، فقال عقبها: "أخبرني محمود بن خالد:. . . "!! أقول: ما كان ينبغي الحكم على هذه المسألة بالرجوع إلى النسخة المطبوعة، لأنها لا تخلو من الخطأ. وقد أعله الدارقطني (3/ 196) بعلة أخرى فقال: "لم يسنده عن ابن جريج غير الوليد بن مسلم وغيره يرويه عن ابن جريج عن عمرو مرسلًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". أقول: وهذا لا يضر إن شاء اللَّه؛ فإن الوليد بن مسلم من الثقات. وللحديث شاهد مرسل؛ رواه أبو داود (4587): حدثنا محمد بن العلاء: حدثنا حفص: حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: حدثني بعض الوفد الذين قدموا على أبي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر مثله. أقول: وهذا فيه علتان: الأولى: جهالة بعض الوفد. الثانية: الإرسال فإن عبد العزيز هذا يروي عن كبار التابعين. فهو شاهد قاصر، أما شيخنا الألباني -رحمه للَّه- فقد جعله شاهدًا لحديث عمرو بن شعيب، فقوّاه به، وأودعه في "السلسلة الصحيحة" (2/ 229)!! (¬1) في (ت): "لم يحكم به".

[أحوال ليس للمفتي أن يفتي فيها]

فإنه ينقض (¬1) حكمه، وإن بأن خطؤهم في شهادة الطلاق من غير جهتهم، كما لو شهدوا أنه طلَّق يوم كذا وكذا وظهر للحاكم أنه في ذلك اليوم كان محبوسًا لا يصل إليه أحد أو كان مغمًى عليه فحكم ذلك حكم ما لو بأن كفرهم أو فسقهم، فإنه ينقض حكمه وترد المرأة إلى الزوج ولو تزوجت بغيره بخلاف ما إذا قالوا: "رجعنا عن الشهادة"، فإن رجوعهم إن كان قبل الدخول ضمنوا نصف المسمَّى لأنهم قرروه عليه، ولا تعود [إليه] (2) الزوجة إذا كان الحاكم [قد] (¬2) حكم بالفرقة، وإن رجعوا بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما: أنهم لا يغرمون شيئًا لأن الزوج استوفى المنفعة (¬3) بالدخول فاستقر عليه عوضها (¬4). والثانية: يغرمون المسمى كله؛ لأنهم فوَّتوا عليه البضع بشهادتهم، وأصلهما (¬5) أن خروج البضع من (¬6) يد الزوج هل هو متقوَّم أم لا (¬7)؟ وأما شهود العتق، فإن بأن خطؤهم تبيَّنا أنَّه لا عتق، وإن قالوا: رجعنا غَرِموا للسيد قيمة العبد (¬8). [أحوال ليس للمفتي أن يفتي فيها] الفائدة الثانية والأربعون: ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد أو جوع مفرط أو همٍّ مقلق أو خوف مزعج أو نعاس [غالب] (¬9) أو شغل قلب مستولٍ ¬

_ (¬1) في (ك): "فينقض". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬3) في (ت): "استوفى في المنفعة". (¬4) وهذا قول المالكية انظر: "المدونة" (4/ 83، 421)، "التفريع" (2/ 240)، "المعونة" (3/ 1562 - 1563)، "الإشراف" (5/ 88 مسألة 1840) وتعليقي عليه. (¬5) في (ت): "وأصلها". (¬6) في (ق): "عن". (¬7) انظر: "تحرير القواعد" لابن رجب (1/ 347 - بتحقيقي)، وهذا قول الشافعية والحنفية انظر: "الأم" (7/ 50)، "مختصر المزني" (312) "المهذب" (2/ 342 - 343)، "المبسوط" (17/ 4)، "فتح القدير" (6/ 538، 545). وفي المطبوع: "أو لا". (¬8) في هامش (ق): "إذا قال الشاهدان: أخطأنا، فإن الحكم لا ينقض، ويغرمون عند الجمهور إذا كانت شهادة بمال". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[على المفتي أن يرجع إلى العرف في مسائل]

[عليه] (¬1) أو حال مدافعة الأخبثين، بل متى أحسَّ من نفسه شيئًا (¬2) من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وطمأنينته وتثبيته (¬3) أمسك عن الفتوى، فإن أفتى في هذه الحالة (¬4) بالصواب صحت فتياه ولو حكم في [مثل] هذه الحالة (¬5) فهل ينفذ حكمه أو لا ينفذ؟ فيه ثلاثة أقوال (¬6): النفوذ، وعدمه، والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ، وبين أن يكون سابقًا على فهم الحكومة فلا ينفذ، والثلاثة في مذهب الإمام أحمد [رحمه اللَّه تعالى] (¬7). [على المفتي أن يرجع إلى العرف في مسائل] الفائدة الثالثة والأربعون: لا يجوز له أن يفتي في الأقارير (¬8) والأيمان والوصايا، وغيرها مما يتعلَّق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرفَ أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه (¬9)، وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضل (¬10)؛ فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية (¬11) دراهم وعند طائفة اسم لاثني (¬12) عشر درهمًا والدرهم عند ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ق) و (ك): "بشيء". (¬3) في المطبوع و (ك): و"كمال تثبته وتبينه"، وفي (ق): "كماليته". (¬4) في (ق) و (ك): "هذه الحال". (¬5) في المطبوع: "ولو حكم في مثال هذه الحالة"، وما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك)، وقال في (ك): "الحال". (¬6) انظر: "المسودة" (545) و"صفة الفتوى" (34) و"المحرر" (2/ 211) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 547) و"أصول الفقه" لابن مفلح (4/ 1546)، وانظر مذهب الشافعية في "روضة الطالبين" (11/ 110)، و"المجموع" (1/ 77، 82) و"أدب المفتي والمستفتي" (113). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬8) في (ت): "الإقراير"، وفي (ق): "الأوقاف"، وفي سائر النسح: "الاقرار"، والمثبت في (ك)، و"أدب المفتي" (115). (¬9) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (115)، و"صفة الفتوى" (36) و"المجموع" (1/ 82). (¬10) انظر: مباحث العرف عند الإمام ابن القيم رحمه اللَّه في "زاد المعاد" (3/ 137، 139)، و"إغاثة اللهفان" (2/ 60)، و"روضة المحبين" (ص 314). (¬11) في (ق) و (ك): "اسم للثمانية". (¬12) في (ق): "للاثني".

غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش، فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطيه (¬1) إياها أو أصدقها امرأته (¬2) لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة (¬3)، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة (¬4) لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة. وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفَّة دون العتق فإذا قال أحدهم عن مملوكه: "إنه حر"، أو جاريته "إنها حرة" وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعًا، وإن كان اللفظ صريحًا عند من ألِف استعماله في العتق، وكذلك إذا جرى عرف طائفة [في] (5) الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيره فإذا قالت: "اسمح لي"، فقال: "سمحتُ لك" فهذا صريح في الطلاق عندهم، وقد تقدم الكلام في هذا الفصل مشبعًا، وأنه لا يسوغ أن يقبل [تفسير] (¬5) من قال: "لفلان عليّ مال جليل أو عظيم" بدانق أو درهم ونحو ذلك، ولا سيما إن كان المفسر (¬6) من الأغنياء المكثرين أو الملوك (¬7)، وكذلك لو أوصى له بقوس في محلة (¬8) لا يعرفون إلا أقواس البندق أو الأقواس العربية أو أقواس الرجل، أو حلف لا يشم الريحان في محل لا يعرفون الريحان إلا هذا الفارسي، أو حلف لا يركب دابة في موضع عرفهم بلفظ الدابة الحمار أو الفرس، أو حلف لا يأكل ثمرًا في بلد عرفهم في الثمار نوع واحد منها لا يعرفون غيره، أو حلف لا يلبس ثوبًا في بلد عرفهم في الثياب القمص وحدها دون الأردية والأزر والجباب (¬9) ونحوها، تقيدت يمينه بذلك وحده [في جميع هذه الصور واختصت بعرفه دون موضوع (¬10) اللفظ لغة أو في] (¬11) عرف غيره، بل لو قالت المرأة لزوجها الذي لا يعرف التكلم بالعربية، ولا يفهمها: "قل لي: أنت طالق ثلاثًا"، وهو لا يعلم موضوع (10) هذه الكلمة فقال لها (¬12)، لم تطلق قطعًا ¬

_ (¬1) في (ق): "ليعطينه". (¬2) في المطبوع و (ك): "امرأة". (¬3) في "ق": "ولا الحاكم أن يلزمه الخالصة". (¬4) في (ق): "فلو كان إنما يعرفون بلد الخالصة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬6) في المطبوع تحرفت إلى: "المقر". (¬7) "المغني" (5/ 139)، وانظر المسألة في "الإشراف" (3/ 88 مسألة 948). للقاضي عبد الوهاب المالكى وتعليقى عليها. (¬8) في "ق": "محل". (¬9) في (ت): "والجبات". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬11) في (ت): "موضع". (¬12) في (ق): "فقالها"!

[لا يعين المفتي على التحليل ولا على المكر]

في حكم اللَّه [تعالى] (¬1) ورسوله، وكذلك لو قال الرجل لآخر: "أنا عبدك ومملوكك" على سبيل (¬2) الخضوع له، كما يقوله (¬3) الناس لم يستبح ملك رقبته بذلك، ومن لم يراع المقاصد والنيّات والعرف في الكلام، فإنه يلزمه أن يجوز له بيع هذا القائل وملك رقبته بمجرد هذا اللفظ. وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل، فيغر الناس، ويكذب على اللَّه تعالى ورسوله، ويغير دينه، ويحرِّم ما لم يحرمه اللَّه، ويوجب ما لم يوجبه اللَّه، واللَّه المستعان. [لا يعين المفتي على التحليل ولا على المكر] الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيّل [على] (¬4) إسقاط واجب أو تحليل محرَّم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصده (¬5)، بل ينبغي له أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي [له] (¬6) أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال (¬7) الناس وأمورهم يؤازره فقه (¬8) في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل وباطنها مكر وخداع وظلم؟ (¬9) فَالغِرُّ (¬10) ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم. والثاني: يخرج زيفها، كما يخرج الناقد (¬11) زيف النقود. وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟! و [كم] (¬12) من حق يخرجه بتهجينه (¬13) وسوء تعبيره في صورة باطل؟! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع و (ت) و (ك): "على جهة". (¬3) في (ق): "يقول". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬5) في المطبوع: "إلى مقصوده". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ك): "فقيه في أحوال". (¬8) في (ك): "يوزان فقهه". (¬9) في (ق): "ظلم وخداع ومكر". (¬10) قال (د): "في نسخة: "فالغبي ينظر. . . " إلخ" قلت: وهو المثبت في (ق). (¬11) في (ق): "المنقد". (¬12) ما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وبعدها في (ق): "وجدها وإن". (¬13) في المطبوع: "بتهجيته" بتاء بدل نون بعد الياء آخر الحروف! =

يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس؛ ولكثرته وشهرته يستغني عن الأمثلة، بل من تأمل المقالات الباطلة والبدع [كلها] (9) وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة، وكسوها ألفاظًا يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها، ولقد أحسن القائل (¬1): تقول هذا جناءُ النَّحلِ تمدحُهُ ... وإنْ تشأ قلتَ ذا قيء الزنابيرِ مدحًا وذمًا، وما جاوزتَ وصفهما ... والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ ورأى بعض الملوك (¬2) كأن أسنانه [قد] (¬3) سقطت فعبَّرها (¬4) له معبر بموت أهله وأقاربه فأقصاه وطرده، واستدعى آخر فقال له: [لا عليك] (3) تكون أطول أهلك عمرًا، فأعطاه وأكرمه وقرَّبه، فاستوفى المعنى، وغيَّر له العبارة، وأخرج المعنى في قالب حسنٍ. والمقصود أنه لا يحلُّ له أن يفتي بالحيل المحرمة، ولا يعين عليها، [ولا يدلُّ عليها] (3)؛ فيضاد اللَّه في أمره قال [اللَّه] (3) تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50 - 51]، وقال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (¬5) [البقرة: 9]، وقال تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]، وقال تعالى في حق أرباب الحيل المحرمة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) ¬

_ (¬1) ذكرهما الأقفهسي في "التبيان" (195 - ط دار ابن عفان)، وعزاهما الدميري في "حياة الحيوان" (2/ 9) إلى الشيخ زهير الدين بن عسكر قاضي السلامية وهما: تقول هذا مجاج النحل تمدحه ... وأن ذممت فقل قيء الزنابير مدحًا وذمًا وما غيرت من صفة ... سحر البيان يرى الظلماء كالنور وفي هامش نسخة (ك): "مجاج النحل أو جناء النحل لأنه مكسور". (¬2) في هامش (ق): "هو المنصور". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في (ق): "فأدلها". (¬5) هذه الآية مذكورة في المطبوع قبلُ، بعد قوله تعالى: {أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}، وأشار (د) إلى أنه في نسخة كما أثبتناه من (ق) و (ت).

فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65 - 66]. وفي "صحيح مسلم" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ملعون من ضارَّ مسلمًا أو مكر به" (¬1)، وقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلِّوا محارمَ اللَّه بأدنى الحيل" (¬2)، وقال: "المكرُ والخديعة في النار" (¬3)، وفي "سنن ابن ماجه" وغيره ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1941) في (البر): باب ما جاء في الخيانة والغش، والمروزي في "مسند أبي بكر" (رقم 100)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2053)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 49 و 4/ 114) وابن حبان في "المجروحين" (2/ 6 - 7)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 344)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 287) والبيهقي في "الشعب" (8577): من طرق عن فَرْقد السَّبخي عن مُرَّة الطَّيِّب عن أبي بكر به مرفوعًا. قال الترمذي: حديث غريب. أقول: علته فرقد هذا، قال يحيى بن سعيد: ما يعجبني الحديث عن فرقد، وقال أيوب: ليس بشيء، وقال أحمد: روى عن مُرّة منكرات. وفي الطريق إلى فرقد عند جميع من أخرج الحديث ضعيفٌ أو متروك، ومرة لم يدرك أبا بكر ولم يسمع منه ثم وجدت لـ (فرقد) متابعة قويّة!! فقد رواه أبو يعلى (96) من طريق معاوية بن هشام عن شيبان عن عامر عن مرة به. وشيبان هو ابن عبد الرحمن النحوي ثقة مشهور، وعامر هو الشعبي. ومعاوية بن هشام: صدوق، في حديثه وهم، وقد روى له مسلم فمثله حديثه حسن ما لم يخالف. وقد خولف رواه الطبراني في "الأوسط" (9308 - ط الطحان) عن آدم عن شيبان عن جابر الجعفي عن الشعبي عن مرة به فجعل آدم بن أبي إياس بين شيبان والشعبي (جابر الجعفي) و (آدم) أوثق من (معاوية بن هشام)، وقد جوّده، قال الطبراني عقبه: "لم يرو هذا الحديث عن الشعبي إلا جابر الجعفي ولا رواه عن جابر إلا شيبان وأبو حمزة السكري". وأخشى أن يكون (عن جابر) ساقطة من "مسند أبي يعلى"، مع أنها غير موجودة في الطبعة الأخرى (رقم 91 - ط إرشاد الحق) لأني وجدته عند المروزي (رقم 102) من طريق معاوية بن هشام عن شيبان عن جابر عن عامر به. قلت: ورواه من طريق ابن حمزة المروزي في "مسند أبي بكر" (رقم 99)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 164) والخطيب (1/ 403) والبيهقي في "الشعب" (رقم 8580، 8581)، وجابر الجعفي ضعيف، فالحديث ضعيف، وانظر "السلسلة الضعيفة" (رقم 1903)، "وبيان الوهم والإيهام" (2/ 403 - 405 و 3/ 137). (تنبيه): عزى المصنف الحديث إلى مسلم في "صحيحه"، ولم أجده فيه، ولا عزاه إليه المزي ولا ابن الأثير. (¬2) سبق تخريجه. (¬3) ورد عن جمع من الصحابة: أولًا: ابن مسعود: رواه ابن حبان (567)، والطبراني في "المعجم الكبير" (10234)، =

عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بال أقوام يلعبون بحدود اللَّه ويستهزئون بآياته طلَّقتك راجعتك طلقتك راجعتك؟ "، وفي لفظ: "خلعتكِ راجعتك خلعتُك راجعتُكِ" (¬1)، وفي "الصحيحين" ¬

_ = وفي "الصغير" (738)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 188)، والقضاعي في "مسند الشِّهاب" (253)، و (254) وابن حجر في "تغليق التعليق" (3/ 245) من طريق الفضل بن الحباب: ثنا عثمان بن الهيثم بن الجهم المؤذّن: حدثنا أبي عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حُبيش عنه، وفي أوله زيادة: "من غش فليس منا. . . ". قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 79): رجاله ثقات، وفي عاصم بن بهدلة كلام لسوء حفظه. أقول: عاصم تقرر أنه حسن الحديث، وفيه الهيثم بن الجهم روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" (9/ 235)، وقال أبو حاتم: لم أر في حديثه مكروهًا. ثانيًا: قيس بن سعد: رواه ابن عدي في "الكامل" (2/ 584) والبيهقي في "الشعب" (رقم 5268) من طريق جراح بن مليح عن أبي رافع عنه، والجراح هذا ذكر ابن عدي في ترجمته عن ابن مليح أنه قال: لا أعرفه ثم فسّر عبارته فقال: كان يحيى إذا لم يكن له علم ومعرفة بأخباره ورواياته يقول: "لا أعرفه، ثم بيّن أنه عرف الرجل وقال: وهو لا بأس به. ولذلك قال الحافظ في "الفتح" (4/ 356): وإسناده لا بأس به. ثالثًا: أنس بن مالك: رواه الحاكم في "المستدرك" (4/ 706) من طريق سنان بن سعد عنه، وسكت عنه الحاكم والذهبي، وقال الحافظ في "الفتح" و"التغليق" وفي إسناده مقال، أما شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- فحسّنه في "الصحيحة" (3/ 47)، لكن بينت من قبل أن سنان بن سعد أو سعد بن سنان حديثه لا يرتقي للحسن. وحديث الباب علّقه البخاري في "صحيحه" قبل حديث (2142) قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الخديعة في النار". وفي الباب أيضًا عن أبي هريرة وعن الحسن وابن سيرين مرسلًا. قال الحافظ في "الفتح": ومجموعهما يدل على أن للمتن أصلًا، وانظر: "تغليق التعليق" (3/ 244 - 246) "مجمع الزوائد" (3/ 79)، و"السلسلة الصحيحة" (رقم 1057). (¬1) رواه ابن ماجه (2017) في (كتاب الطلاق) وابن حبان (4265) والبزار في "البحر الزخار" (8/ 116 رقم 3117) والرويانى (452) والبيهقي (7/ 322): من طريق مؤمل بن إسماعيل عن سفيان عن أبي إسحاق عن، أبي بردة عن أبي موسى الأشعري مرفوعًا به. قال البوصيري (1/ 351): هذا إسناد حسن من أجل مؤمل بن إسماعيل. أقول: بل مؤمل مثله لا يُحسَّن حديثه لأنهم طعنوا فيه شديدًا، وهو على كل حال متابع فقد رواه البيهقي (7/ 322) وابن بطة في "إبطال الحيل" (40، 41) من طريق أبي حذيفة موسى بن مسعود عن سفيان الثوري به، وموسى بن مسعود هذا أحسن حالًا من مؤمل. =

عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "لعن اللَّه اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، [وأكلوا أثمانها] (¬2) "، وقال أيوب السختياني: يخادعون اللَّه، كما يخادعون الصبيان (¬3)، وقال ابن عباس: من يخادع اللَّه يخدعه (¬4)، وقال بعضُ السلف: "ثلاث من كنَّ فيه كنَّ عليه: المكر، والبغي، والنكث. وقرأ (¬5): {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]، وقال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬6) [الفتح: 10]. وقال الإمام أحمد: "هذه الحيل التي وضعها هؤلاء عَمَدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها أتوا إلى الذي قيل لهم: إنه حرام فاحتالوا فيه حتى حلَّلوه" (¬7) وقال: "ما أخبثهم، يعني: أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬8)، وقال: "مَنْ احتال [بحيلة] فهو حانث" (¬9)، وقال: "إذا (¬10) حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها، فقد صار إلى [ذلك] (¬11) الذي حلف عليه بعينه" (¬12). ¬

_ = وله متابعة أقوى؛ فقد رواه أبو داود الطيالسي (527 أو 1601 - منحة المعبود)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 322) من طريق زهير عن أبي إسحاق عن أبي بردة قال: كان رجل يقول: ". . . فقال: "هذا مرسل". ويؤكد هذا، ما قاله البزار: "وهذا الحديث لا نعلم أحدًا أسنده عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى، إلا الثوري، ورواه عن الثوري: مؤمل وأبو حذيفة". قلت: وكلاهما ضعيف، ولذا وضعه شيخنا في "ضعيف ابن ماجه" (440). (¬1) في المطبوع و (ت) و (ك): "عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬2) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) عزاه شيخ الإسلام ابن تيمية في "بيان الدليل" (ص 64) لأيوب. (¬4) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (5/ 11)، وعبد الرزاق في "المصنف" (6/ 397/ رقم 11352)، وسعيد بن منصور في "سننه" (رقم 1065)، وابن حزم في "المحلى" (10/ 181)، وابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 48). (¬5) كذا في مصادر التخريج، وفي جميع النسح: "وقال تعالى" بدل "وقرأ". (¬6) رواه ابن أبي الدنيا في "ذم البغي" (رقم 34) عن محمد بن كعب القرظي قوله. (¬7) رواه ابن بطة في "إبطال الحيل" (52) عن أبي الحارث الصائغ عن أحمد. (¬8) هذه رواية أبي داود في "مسائله" (54) عن أحمد، وذكرها ابن بطة في "إبطال الحيل" (54). (¬9) هذه رواية بكر بن محمد بن الحكم عن أحمد، ذكرها ابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 53)، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) في (ق): "من". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬12) هذه رواية بكر بن محمد بن الحكم عن أحمد، ذكرها ابن بطة في "إبطال الحيل" (ص 53).

[حكم أخذ المفتي أجرة أو هدية]

وقد تقدم بسط الكلام في هذه المسألة مستوفى، فلا حاجة إلى (¬1) إعادته. [حكم أخذ المفتي أجرة أو هدية] الفائدة الخامسة والأربعون: في أخذ الأجرة والهدية والرزق على الفتوى، فيه ثلاث صور مختلفة السبب والحكم (¬2). فأما أخذه الأجرة فلا يجوز له؛ لأن الفُتيا منصب تبليغ (¬3) عن اللَّه ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال [له] (¬4): لا أعلّمك الإسلام أو الوضوء أو الصلاة إلا بأجرة، [أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة] (¬5)، فهذا حرام قطعًا، ويلزمه رد العِوَض، ولا يملكه. وقال بعض المتأخرين (¬6): إن أجاب بالخطِّ (¬7) فله أن يقول للسائل: لا يلزمني أن أكتب لك خطي إلا بأجرة وله أخذ الأجرة وجعله بمنزلة أجرة الناسخ، فإنه يأخذ الأجرة على خطه لا على جوابه، [وخطُّه قدر زائد على جوابه] (4). والصحيح خلاف ذلك، وأَنه يلزمه الجواب [مجانًا] (4) للَّه، بلفظه، وخطه، ولكن لا يلزمه الورق ولا الحبر. وأما الهدية ففيها تفصيل، فإنْ كانت بغير سبب الفتوى كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفتٍ، فلا بأسٍ بقبولها والأولى أن يكافئ عليها، وإن كانت ¬

_ (¬1) في (ق): "في". (¬2) انظر مبحث أخذ الأجرة على الفتوى في "المسودة" (545) و"الفروع" (6/ 440)، و"أصول الفقه" لابن مفلح (4/ 1546 - 1547) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 547 - 549) و"صفة الفتوى" (35) و"شرح منتهى الإرادات" (3/ 462) و"الفواكه العديدة" (2/ 98)، و"الاختيار" (4/ 141) و"روضة الطالبين" (11/ 110) و"المجموع" (1/ 77) و"حاشية الصاوي" (4/ 10) و"جواهر الإكليل" (2/ 53)، و"الإنصاف" (11/ 167). (¬3) في (ق): "فلا يجوز؛ لأن المفتي منصبه يبلغ". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬6) قدمه في "التحرير" وابن مفلح في "أصوله" (4/ 1546)، وهذا مذهب الحنفية وأبو حاتم القزويني من الشافعية، وانظر: "الدر المختار" (7/ 59)، "حاشية ابن عابدين" (5/ 373 - 374)، و"المجموع" (1/ 77)، و"أدب المفتي والمستفتي" (114 - 115) و"كشاف القناع" (6/ 261)، و"الفتوى في الإسلام" للقاسمي (ص 78). (¬7) قال (د): "في نسخة: "إن أجاب بخطه. . . " إلخ"، وهي كذلك في (ك).

[ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى]

بسبب الفتوى، فإن كانت سببًا إلى أن يفتيه بما لا يفتي (¬1) به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته (¬2)، وإن كان لا فرق (¬3) بينه وبين غيره عنده في الفتيا، بل يفتيه بما يفتي به الناس كره له قبول الهدية لأنها [تشبه] (¬4) المعاوضة على الإفتاء (¬5). وأما أخذ الرزق من بيت المال، فإن كان محتاجًا إليه جاز [له] (1) ذلك، وإن كان غنيًا عنه ففيه وجهان، وهذا فرع مترددٌ بين عامل الزكاة وعامل اليتيم فمَن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي، بل القاضي أولى بالمنع واللَّه أعلم (¬6). [ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى] الفائدة السادسة والأربعون: إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى، فإن ذكرها وذكر مستندها، ولم يتجدد له ما يوجب تغيّر اجتهاده أفتى [بها] (¬7) من غير نظر، ولا اجتهاد، وإن ذكرها ونَسي مستندها فهل له أن يفتي بها دون تجديد نظر واجتهاد؟ فيه وجهان لأصحاب الإمام أحمد (¬8) والشافعي (¬9): ¬

_ (¬1) في (ق): "بما لم يفت". (¬2) في (ق): "لا يهدي إليه لم يجز قبول الهدية". (¬3) في (ق): "لا يفرق". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) انظر أخذ (الهدية) على (الفتوى) في: "المسودة" (550) و"صفة الفتوى" (12) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 549 - 550)، و"أصول الفقه" لابن مفلح (4/ 1547) و"أدب المفتي والمستفتي" (115)، و"روضة الطالبين" (11/ 111) و"المجموع" (1/ 77). (¬6) انظر هذه المسألة في "المسودة" (454)، و"الفروع" (6/ 440) و"أصول الفقه" لابن مفلح (4/ 1546) و"الفواكه العديدة" (2/ 98) و"شرح منتهى الإرادات" (3/ 462) و"كشاف القناع" (6/ 291) و"الاختيار" (4/ 141) و"المجموع" (1/ 77) و"أدب المفتي والمستفتي" (114) و"حاشية الصاوي" (4/ 10) و"جواهر الإكليل" (2/ 53) و"بدائع الفوائد" (3/ 146 - 147)، و"الإنصاف" (11/ 166). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) انظر: "المسودة" (467، 522، 542)، و"أصول الفقه"، لابن مفلح (4/ 1551) و"مختصر البعلي" (167) و"صفة الفتوى" (137) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 553 - 554). (¬9) انظر: "المجموع" (1/ 78) و"الإحكام" للآمدي (4/ 233) و"البرهان" (2/ 1343) =

[كل الأئمة يذهبون إلى الحديث ومتى صح فهو مذهبهم]

أحدهما: أنه يلزمه تجديد النظر؛ [لاحتمال تغيّر اجتهاده وظهور ما كان خافيًا عنه. والثاني: لا يلزمه تجديد النظر] (¬1)؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان (¬2)، وإن ظهر له ما يغير اجتهاده لم يجز له البقاء على القول الأول، ولا يجب عليه نقضه، ولا يكون اختلافه مع نفسه قادحًا في علمه، بل هذا من كمال علمه، وورعه، ولأَجل هذا خرج عن الأئمة في المسألة قولان فأكثر وسمعت شيخنا رحمه اللَّه تعالى يقول: حضرتُ عقدَ مجلس عند نائب السلطان [في وقف] (3) أفتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين، فقرأ جوابه الموافق للحق، فأخرج بعض الحاضرين جوابه [الأول] (¬3)، وقال: هذا جوابُك بضد هذا، فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم، فقلت: هذا من علمه ودينه، أفتى أولًا بشيء، ثم تبيَّن له الصواب فرجع إليه، كما يُفتي إمامه بقول ثم يتبين له خلافه فيرجع إليه، ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة، فسُرَّ القاضي بذلك وسُرِّي عنه. [كل الأئمة يذهبون إلى الحديث ومتى صح فهو مذهبهم] الفائدة السابعة والأربعون: قول الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقولوا بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودعوا ما قلته" (¬4)، (وكذلك [قوله] (¬5): "إذا صح الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقلت أنا قولًا فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك الحديث") (¬6)، وقوله (¬7): "إذا صح الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = و"جمع الجوامع" (2/ 394) و"غاية الوصول" (150) و"روضة الطالبين" (11/ 105) و"أدب المفتي والمستفتى" (117). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ق): "بقاء ما كان عليه". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ذكره البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 472 - 473) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (15/ ق 10) وابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (117) والذهبي في "السير" (10/ 34). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) ذكره ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (119) وابن السبكي في "الطبقات" (2/ 161) وابن حجر في "توالي التأنيس" (63)، وما بين الهلالين مذكور في (ق): بعد قوله الآتي: "إذا صح الحديث". (¬7) في (ق): "وكذلك".

فاضربوا بقولي الحائط" (¬1)، وقوله: "إذا رويتُ حديثًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) ولم أذهب إليه فاعلموا أن عقلي قد ذهب" (¬3)، وغير ذلك من كلامه في هذا المعنى صريحٌ في مدلوله، وأن مذهبه ما دلَّ عليه الحديث، لا قول له غيره، ولا يجوز أن يُنسب إليه ما خالف الحديث ويقال: "هذا مذهب الشافعي" [ولا يحل الإفتاء بما خالف الحديث على أنه مذهب الشافعي] (¬4)، ولا الحكم به، وصرح بذلك جماعة من أئمة أتباعه (¬5)، حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه: قد صح الحديث بخلافها، اضرب على هذه المسألة فليست مذهبه، وهذا هو الصواب قطعًا، ولم ينص عليه، فكيف إذا نص عليه وأبدى فيه وأعاد وصرح فيه (¬6)، بألفاظ كلها صريحة في مدلولها؟ فنحن نشهد باللَّه أن مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث، دون ما خالفه، [وأنَّ] (¬7) مَنْ نسب إليه خلافه فقد نسب إليه خلاف مذهبه، ولا سيما إذا ذكر هو ذلك الحديث وأخبر أنه إنما خالفه لضعف في سنده أو لعدم بلوغه له من وجه يَثِق به، ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه أئمة الحديث من وجه لم يبلغه (¬8)، فهذا لا يشك عالم ولا يماري في أنه مذهبه قطعًا، وهذا كمسألة الجوائح؛ فإنه علل حديث سفيان بن عيينة بأنه كان ربما ترك ذكر الجوائح، وقد صحَّ الحديث (¬9) من غير طريق سفيان صحةً لا مرية فيها، ولا علة، ولا شبهة بوجه؛ فمذهب الشافعي (¬10) وضع الجوائح، وباللَّه التوفيق (¬11). ¬

_ (¬1) لتقي السبكي رسالة "معنى قول المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي" وقد شرح هذه الكلمة، وسبق توثيقها في موطن سابق. (¬2) في (ق): "إذا رويت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا". (¬3) مضى توثيقها. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "مذهبه" بدل "مذهب الشافعي". (¬5) في (ك): "التابعين". (¬6) في (ق): "وصرح به"، وفي (ك): "وصرح" فقط. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في المطبوع و (ت) و (ك): "من وجوه لم تبلغه". (¬9) سبق تخريجه. (¬10) انظر: "الأم" (3/ 56 - 59)، و"روضة الطالبين" (3/ 562) و"مغني المحتاج" (2/ 91 - 92) و"إعلاء السنن" (14/ 31)، و"الجوائح وأحكامها" (ص 186 - 188). (¬11) انظر: "تهذيب السنن" (5/ 119 - 120)، و"زاد المعاد" (4/ 272)، وتقدمت المسألة والكلام عليها.

[هل تجوز الفتيا لمن عنده كتب الحديث؟]

وقد صرَّح بعض أئمة الشافعية بأن مذهبه (¬1) أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وأن وقت المغرب يمتد إلى [مغيب] (¬2) الشفق، وأن [من] (¬3) مات وعليه صيام صام عنه وليه، وأن أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء، وهذا بخلاف الفطر بالحجامة وصلاة المأموم قاعدًا إذا صلى إمامه كذلك، فإن الحديث، وإن صح في ذلك فليس بمذهبه (¬4)، فإن الشافعي قد رواه (¬5) وعرف صحته، ولكن خالفه لاعتقاده نسخه، وهذا شيء وذاك شيء، ففي هذا القسم يقع النظر في النسخ وعدمه وفي الأول يقع النظر في صحة الحديث وثقة السند فاعرفه. [هل تجوز الفتيا لمن عنده كتب الحديث؟] الفائدة الثامنة والأربعون: إذا كان عند الرجل "الصَّحيحان" أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- موثوق بما فيه، فهل له أن يفتي بما يجده فيه؟ فقالت طائفة من المتأخرين: ليس له ذلك؛ لأنه قد يكون منسوخًا أو له مُعارِض أو يفهم من دلالته خلاف ما يدل عليه أو يكون أمر ندب فيفهم منه الإيجاب أو يكون عامًا له مخصِّص أو مطلقًا له مقيِّد، فلا يجوز له العمل، ولا الفتيا [به] (3) حتى يسأل أهل الفقه [والفتيا] (¬6). وقالت طائفة: بل له أن يعمل به ويفتي به، بل يتعيَّن عليه، كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحدَّث به بعضهم بعضًا بادروا إلى العمل به من غير توقّف، ولا بحث عن معارض، ولا يقول أحد منهم قط: هل عمل بهذا فلان وفلان؟! ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار، وكذلك التابعون، وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم وطول العهد بالسنة وبُعد الزمان وعتقها لا يسوغ ترك الأخذ بها (¬7) [والعمل بغيرها] (¬8) ولو كانت سنن (¬9) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يسوغ العمل بها بعد ¬

_ (¬1) في (ق): "وقد صح عن بعض أئمة الشافعية أن مذهبه". قلت: كأن المصنف يريد ابن خزيمة. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في (ك): "فليس بمذهب له". (¬5) في (ت) و (ك): "فإنه رواه"، وفي (ق): "فإنه قد رواه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ت): "الأخذ بعينها". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ت). (¬9) في (ت): "سنة".

صحتها حتى يعمل بها فلان [أو فلان] (¬1) لكان قول فلان أو فلان عيارًا على السنن ومزكيًا لها وشرطًا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل، وقد أقام اللَّه الحجة برسوله دون آحاد الأمة، وقد أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بتبليغ سنته (¬2)، ودعا لمن بلغها (¬3). فلو (¬4) كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان، والإمام فلان، لم يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان. قالوا: والنسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة، [بل] (¬5) ولا شطرها؛ فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ (¬6) أقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ (¬7)، ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول القول ثم (¬8) يرجع عنه، ويُحكى عنه في المسألة الواحدة عدة أقوال، ووقوع الخطأ في [فهم] (¬9) كلام المعصوم أقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعيَّن، فلا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث [وأفتى به] (1) إلا وأضعاف [أضعاف] (¬10) أضعافه حاصلٌ لمن أفتى [بتقليد من] (¬11) لا يعلم خطؤه من صوابه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬2) يشير إلى مثل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بلغوا عني ولو آية". رواه البخاري (3461) في (أحاديث الأنبياء): باب ما ذكر عن بني إسرائيل من حديث عبد اللَّه بن عمرو. (¬3) في مثل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نضر اللَّه أمرءًا سمع منا حديثًا فبلّغه كما سمعه، فرُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع. . ". رواه أحمد في (1/ 437)، والترمذي (2657 و 2658) في "العلم": باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع، وابن ماجه (232) في "المقدمة": باب من بلغ علمًا، والحميدي (88)، والرامهرمزي (6) و (7)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (188 و 189 و 190) من حديث ابن مسعود وهو صحيح، وجمع طرقه شيخنا عبد المحسن العباد -حفظه اللَّه- في جزء مفرد مطبوع. (¬4) في (ق): "ولو". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) انظر مباحث النسخ عند المصنف رحمه اللَّه في "مفتاح دار السعادة" (ص 361 - 364، 370)، و"زاد المعاد" (2/ 183)، و"شفاء العليل" (ص 405 - 406). (¬7) في (ق): "يخطئ ويصيب". (¬8) في المطبوع و (ت) و (ك): "و". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬11) في (ق): "بالتقليد بما".

والصواب في هذه المسألة التفصيل، فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بيِّنة لكلِّ مَنْ سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ويفتي به، ولا يطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام، بل الحجة قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن خالفه من خالفه، وإن كانت دلالته خفيَّة لا يتبين [له] (¬1) المراد منها لم يجز له أن يعمل ولا يفتي بما يتوهمه مرادًا حتى يسأل ويطلب بيان الحديث، [ووجهه] (¬2)، وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده والأمر على الوجوب والنهي على التحريم، فهل له العمل والفتوى [به] (¬3)؟ يخرَّج على أصل (¬4)، وهو العمل بالظواهر (¬5) قبل البحث عن المعارض (¬6)، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره (¬7): الجواز والمنع والفرق بين العام [والخاص] (¬8)، فلا يعمل به قبل البحث عن المخصِّص والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض، وهذا كله إذا كان ثَمَّ نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية، وإذا لم تكن ثمة (¬9) أهلية قط (¬10) ففرضه ما قال اللَّه [تعالى] (2): {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (¬11). وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال" (¬12)، وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه أو كلام شيخه، وإن علا وصعد (¬13) فمن كلام إمامه، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بالجواز، وإذا قدِّر أنه لم يفهم الحديث، كما لو لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرِّفه معناه، كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "على الأصل". (¬5) في (ق): "العمل على الظواهر". (¬6) في (ت): "عن العوارض". (¬7) انظر: "العدة" (1/ 140 و 2/ 525)، و"المسودة" (109)، و"شرح الكوكب المنير" (3/ 457)، و"الرسالة" للشافعي (ص 295، 322، 341)، و"الإحكام" (3/ 50)، و"البرهان" (1/ 408)، و"تيسير التحرير" (1/ 235)، و"التبصرة" (119). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت)، و (ط)، و (ق)، وقال (د): "زيادة في نسخة، ولا داعي لها". (¬9) في (ق): "ثم". (¬10) في (ق): "فقط". (¬11) "ذكرت هكذا في سورة النحل: الآية 43، والأنبياء: الآية 6" (و). (¬12) سبق تخريجه. (¬13) في (ق) و (ك): "وإن علا صعدًا".

[هل للمفتي أن يفتي بغير مذهب إمامه؟]

[هل للمفتي أن يفتي بغير مذهب إمامه؟] الفائدة التاسعة والأربعون: هل للمنتسب إلى تقليد إمام معين أن يفتي بقول غيره؟ لا يخلو [الحال] (¬1) من أمرين: إما أن يسأل عن مذهب ذلك الإمام فقط فيقال له: ما مذهب الشافعي مثلًا في كذا وكذا؟ أو يسأل عن حكم اللَّه الذي أداه إليه اجتهاده، فإن سئل عن مذهب ذلك الإمام لم يكن له أن يخبره بغيره إلا على وجه الإضافة إليه، وإن سئل عن حكم اللَّه من غير أن يقصد السائل قول فقيه معيّن، فههنا يجب عليه الإفتاء بما هو راجح عنده، وأقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب إمام أو مذهب من خالفه لا يسعه غير ذلك، فإن لم يتمكن منه وخاف أن يؤدي إلى ترك الإفتاء في تلك المسألة (¬2) لم يكن له أن يفتي بما لا يعلم يعلم أنه صواب، فكيف بما يغلب على ظنه أَنَّ الصواب في خلافه؟ ولا يسع الحاكم والمفتي غير هذا البتة، فإن اللَّه سائلهما عن رسوله وما جاء به، لا عن الإمام المعيَّن، وما قاله، وإنما يُسأل الناس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيُقال له في قبره: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ (¬3). {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ (¬4) فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، ولا (¬5) يُسأل أحد قط عن إمام، ولا شيخ، ولا متبوعٍ غيره، بل يسأل عمن اتَّبعه وأئتم به غيره، فلينظر بماذا يجيب وليعد للجواب صوابًا. وقد سمعت (¬6) شيخنا رحمه اللَّه يقول: جاءني بعض الفقهاء من الحنفية فقال: أستشيرك (¬7) في أمر، قلت: وما (¬8) هو؟ قال: أريد أن انتقل عن مذهبي، قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرًا تخالفه واستشرت في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي فقال لي: ولو (8) رجعت عن مذهبك لم يرتفع ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬2) في (ق): "وخاف أن يؤذي ترك الإفتاء في تلك المسألة و". (¬3) ثبت ذلك في حديث أنس بن مالك. أخرجه البخاري (1338) في (الجنائز): باب الميت يسمع خفق النعال، و (1374) باب ما جاء في عذاب القبر، ومسلم (2870) في (الجنة): باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه. في الباب عن جماعة من الصحابة كما في "إثبات عذاب القبر" للبيهقي. (¬4) وقع في المطبوع و (ك): "ويوم القيامة يناديهم. . . "، وحذفها (و)، وقال: "في الطبعات السابقة: "ويوم القيامة يناديهم"، والصواب ما أثبته" اهـ. (¬5) في (ق): "لا". (¬6) في (ق) و (ك): "وكأن قد وسمعت"! (¬7) في (ق): "فقال: كي أستشيرك". (¬8) في (ق) و (ك): "ما"، "لو" من غير واو في أولهما.

[إذا ترجح عند المفتي مذهب غير مذهب إمامه، فهل يفتي به؟]

ذلك من المذهب، وقد تقرَّرتْ المذاهبُ، ورجوعك غير مفيد، وأشار عليَّ بعض مشايخ التصوف (¬1) بالافتقار إلى اللَّه والتضرع إليه وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه، فماذا تشير به أنت عليَّ؟ قال: فقلت له: اجعل المذهب (¬2) ثلاثة أقسام: قسمٌ الحق فيه ظاهر بيّن موافق للكتاب والسنة فاقض به وأنت به طيّب النفس منشرح الصدر، وقسم مرجوحٌ ومخالفُه معه الدليل، فلا تفت به، ولا تحكم به وادفعه عنك (¬3)، [وقسم] (¬4) من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإنْ شئتَ أن تدفعه عنك فقال: جزاك اللَّه خيرًا، أو كما قال. وقالت طائفة [أخرى] (¬5) منهم أبو عمرو بن الصلاح (¬6)، وأبو عبد اللَّه بن حمدان (¬7): من وجد حديثًا يخالف مذهبه، فإن كملت [آلة] (4) الاجتهاد فيه مطلقًا أو في مذهب إمامه أو في ذلك النوع أو في تلك المسألة فالعمل بذلك الحديث أولى، وإن لم تكمل آلته (¬8)، ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنده جوابًا شافيًا (¬9) فلينظر: هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل أم لا، فإن وجده فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث ويكون ذلك عذرًا له في ترك مذهب إمامه في ذلك (¬10)، واللَّه أعلم. [إذا ترجح عند المفتي مذهب غير مذهب إمامه، فهل يفتي به؟] الفائدة الخمسون: هل للمفتي المنتسب إلى مذهب إمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده؟ فإن كان سالكًا سبيل ذلك الإمام في الاجتهاد ومتابعة الدليل أين كان، وهذا هو المتبع للإمام حقيقة فله أن يفتي بما ترجَّح عنده من قول غيره، وإن كان مجتهدًا متقيدًا بأقوال ذلك الإمام لا يعدوها إلى غيرها، فقد قيل: ليس له أن يفتي بغير قول إمامه (¬11)، فإن أراد ذلك حكاه عن ¬

_ (¬1) "لا تصلح لهؤلاء مشورة" (و)، وفي (ق): "الصوفية". (¬2) في (ت): "المذاهب". (¬3) في (ق): "ولا تحكم به، فادفعه عنك". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 121). (¬7) في "صفة الفتوى والمفتي والمستفتي" (ص 37، 38 - بتحقيق شيخنا الألباني). (¬8) في (ق): "وإن لم تكمل له". (¬9) في (ق): "بعد أن يبحث فلم يجد لمخالفه عنه جوابًا شافيًا". (¬10) انظر رسالة "رفع الملام" لشيخ الإسلام ابن تيمية، ففيها بسط للمقرر هنا. (¬11) في (ق): "بقول غير إمامه".

[إذا تساوى عند المفتي قولان فماذا يصنع؟]

قائله حكاية محضة (¬1). والصواب أنه إذا ترجَّح عنده قول غير إمامه بدليل راجح، فلا بد أن يخرَّج على أصول إمامه وقواعده، فإن (¬2) الأئمة متفقة (¬3) على أصول الأحكام ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبيَّن لهذا المجتهد [المقيَّد] (¬4) رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به، وباللَّه التوفيق. وقد قال القفال: لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة قلت: مذهب الشافعي كذا لكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد [أن] (¬5) أعرِّفه [أنَّ] (5) الذي أفتيتُه به غير [مذهبه (5)، فسألت شَيَخنا -قدَّس اللَّه روحه- عن ذلك فقال: أكثر المُستفتين لا يخطر بقلبه] (¬6) مذهب معين عند الواقعة التي يسأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه. [إذا تساوى عند المفتي قولان فماذا يصنع؟] الفائدة الحادية والخمسون: إذا اعتدل عند المفتي قولان، ولم يترجح له أحدهما على الآخر، فقال القاضي أبو يعلى (¬7): له أن يفتي بأيهما شاء، كما يجوز له أن يعمل بأيهما شاء (¬8)، وقيل: بل يُخيِّر المُستفتي فيقول له: أنت مخيَّر بينهما؛ لأنه إنما يفتي بما يراه، والذي يراه هو التخيير (¬9)، وقيل: بل يفتيه بالأحوط من القولين. قلت: الأظهر أنه يتوقف، ولا يفتيه بشيء حتى يتبين له الراجح منهما؛ لأن أحدهما خطأ فليس له أن يفتيه بما لا يعلم أنه صواب وليس له أن يخيره بين الخطأ والصواب، وهذا كما [إذا] (¬10) تعارض عند الطبيب في أمر المريض أمران ¬

_ (¬1) في (ق): "حكاية تحضه"، وفي (ك): "عمن قاله". (¬2) في (ق): "لأن". (¬3) في (ك): "متفقهة". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ذكره ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي" (ص 122) ونحو ما سبق عنده أيضًا. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في "العدة" (4/ 1227). (¬8) في (ق): "كما يجوز العمل بأيهما شاء". (¬9) قدمنا كلامًا نفيسًا للشاطبي في بيان المحاذير المترتبة على (التخيير) (انظر ص 137). (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق).

[هل للمفتي أن يفتي بالقول الذي رجع عنه إمامه؟]

خطأ وصواب، ولم يتبين له أحدهما لم يكن له أن يقدم على أحدهما ولا يخيره، وكما لو استشاره في أمر فتعارض عنده الخطأ والصواب من غير ترجيح لم يكن له أن يشير بأحدهما ولا يخيره، وكما لو تعارض عنده طريقان مهلكة وموصلة، ولم يتبيَّن له طريق الصواب لم يكن له الإقدام، ولا التخيير فمسائل الحلال والحرام أولى بالتوقف، واللَّه أعلم. [هل للمفتي أن يفتي بالقول الذي رجع عنه إمامه؟] الفائدة الثانية والخمسون: أتْبَاعُ الأئمة يفتون كثيرًا بأقوالهم القديمة التي رجعوا عنها، وهذا موجود في سائر الطوائف، فالحنفية يفتون بلزوم المنذورات (¬1) التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة (¬2)، وقد حكوا هم عن أبي حنيفة أنه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير (¬3)، والحنابلة يفتي كثيرٌ منهم بوقوع طلاق السكران، وقد صرَّح الإمام أحمد بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع (¬4)، كما تقدم حكايته، والشافعية يفتون بالقول القديم في مسألة التثويب (¬5)، وامتداد وقت المغرب (¬6) ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير (¬7) وعدم [استحباب] (¬8) قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين (¬9) وغير ذلك من المسائل وهي أكثر من عشرين مسألة (¬10)، ومن المعلوم أن القول الذي صرَّح بالرجوع عنه لم يبق مذهبًا له، فإذا أفتى المفتي به مع نصه على خلافه لرجحانه عنده، لم يخرجه ذلك عن التمذهب بمذهبه، فما الذي يحرم (¬11) عليه أن يفتي بقول غيره من الأئمة الأربعة وغيرهم إذا ترجح عنده؟ ¬

_ (¬1) في (ت): "المندوبات" تحريف! (¬2) في (ق): "والصدقة والصوم". (¬3) انظر: "البناية" (5/ 196). (¬4) مضى توثيق ذلك. (¬5) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (128) و"المجموع" (3/ 91). (¬6) انظر: "المجموع" (3/ 37 - فما بعد). (¬7) وجوب البُعد عن النجاسة بقدر القُلَّتين هو الجديد في مذهب الشافعي، والقديم لا يوجبه، انظر: "المجموع" (1/ 160 - 166) و"روضة الطالبين" (1/ 23) و"أدب المفتي والمستفتي" (129). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬9) انظر: "المجموع" (3/ 321) و"أدب المفتي والمستفتي" (129). (¬10) ذكرها النووي في "مقدمة المجموع" (ص 108 - 109)، وجمعها الشيخ محمد المسعودي في كتاب مطبوع بعنوان "المعتمد". (¬11) في (ق): "حرم".

[لا يجوز للمفتي أن يفتي بما يخالف النص]

فإن قيل: الأول قد كان مذهبًا له مرة بخلاف ما لم يقل به قط. قيل: هذا فرق عديم التأثير؛ إذ ما قال به وصرح بالرجوع عنه بمنزلة ما لم يقله، وهذا كلُّه مما يبيّن أن أهل العلم لا يتقيدون بالتَّقليد المحض الذي يهجرون لإجله قولَ كلِّ مَن خالف من قلَّدوه (¬1). وهذه طريقة ذميمة وخيمة حادثة في الإسلام، مستلزمة لأنواع من الخطأ ومخالفة الصواب، واللَّه أعلم. [لا يجوز للمفتي أن يفتي بما يخالف النص] الفائدة الثالثة (¬2) والخمسون: يحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظِ النَّص وإن وافق مذهبه. ومثاله: أن يُسأل عن رجل صلَّى من الصبح ركعة، ثم طلعت الشمس هل يتم صلاته أم لا؟ فيقول: لا يتمّها، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "فليتم صلاته" (¬3). ومثل أن يُسئل عمَّن مات (¬4) وعليه [دين] (¬5) صيام هل يصوم عنه وليه؟ فيقول: لا يصوم عنه وليه (¬6)، ورسول اللَّه (¬7) -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول (¬8): "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬9). ومثل أن يُسأل عن رجل باع متاعه ثم أفلس المشتري فوجده بعينه، هل هو ¬

_ (¬1) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (128 - 131) و"صفة الفتوى" (43 - 44). (¬2) في (ك): "الرابعة". (¬3) رواه البخاري (556) في (مواقيت الصلاة): باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب، و (579) باب من أدرك من الفجر ركعة، ومسلم (608) في (المساجد ومواضع الصلاة): باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك تلك الصلاة، من حديث أبي هريرة. ولفظ البخاري في الموضع الأول، هو الذي فيه فليتم صلاته، أما في الموضع الآخر وفي "صحيح مسلم" قال: "فقد أدرك الصلاة". (¬4) في "ق": "ومثل من مات". (¬5) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬6) بيّن المصنف رحمه اللَّه في مبحث قيم له أن الصحيح هو صيام الولي عن الميت في صيام النذر دون صيام الفرض، وبيّن السِّر في ذلك، فانظر: "تهذيب السنن" (3/ 278 - 282)، و"الروح" (ص 120). (¬7) في المطبوع و (ت) و (ك): "وصاحب الشرع". (¬8) في المطبوع و (ت): "قال". (¬9) رواه البخاري (1952) في (الصوم): باب من مات وعليه صوم، ومسلم (1147) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت، من حديث عائشة.

أحق به؟ فيقول: ليس [هو] (¬1) أحق به، وصاحب الشرع يقول: "فهو أحقُّ به" (¬2). ومثل أن يُسأل عن رجل أكل في رمضان أو شرب ناسيًا هل يتم صومه؟ فيقول: لا يتم [صومه، وصاحب الشرع] يقول: "فليتم صومه" (¬3). ومثل أن يُسأل عن أكل ذي ناب من السباع هل هو حرام؟ فيقول: ليس بحرام، ورسول اللَّه (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أكلُّ كل ذي ناب من السباع حرام" (¬5). ومثل أن يُسأل عن الرجل هل له منع جاره من غرز خشبة في جداره؟ فيقول: له أن يمنعه، وصاحب الشرع يقول: "لا يمنعه" (¬6). ومثل أن يُسأل: هل تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه من ركوعه وسجوده؟ [فيقول: تجزيه صلاته، وصاحب الشرع [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬7) يقول: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرَّجلُ فيها صلبه بين ركوعه وسجوده" (¬8). [أو يُسأل] (¬9) عن مسألة التفضيل بين الأولاد في العطيِّة هل يصح (¬10) أو لا يصح (10)؟ وهل هو جَوْر أم لا؟ فيقول: يصح (10)، وليس بجور، وصاحب الشرع يقول: "إن هذا لا يصح" (10)، ويقول: "لا تشهدني على جور" (¬11). ومثل أن (¬12) يُسأل عن الواهب: هل يحل له أن يرجع في هبته؟ فيقول: نعم ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت). (¬2) سبق تخريجه. (¬3) رواه البخاري (1933) في (الصوم): باب الصائم إذا أكل أو شرب ناسيًا، و (6669) في (الأيمان والنذور): باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، ومسلم (1155) في (الصيام): باب أكل الناسي وشربه وجماعه لا يفطر، من حديث أبي هريرة. وما بين المعقوفتين بياض في (ك). (¬4) في (ق): "وصاحب الشرع". (¬5) رواه مسلم في "صحيحه" (1933) في (الصيد والذبائح): باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، من حديث أبي هريرة. (¬6) رواه البخاري (2463) في (المظالم): باب لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبة في جداره، و (5627) في (الأشربة): باب الشرب من فم السقاء، ومسلم (1609) في (المساقاة): باب غرز الخشبة في الجدار، من حديث أبي هريرة. (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) سبق تخريجه. وانظر "كتاب الصلاة" (ص 81 - 82) للمصنف. (¬9) بدل ما بين المعقوفتين في (ت): "فيسأل"، وفي (ك): "ومثل أن يسأل". (¬10) في (ت)، و (ق) و (ك): "يصلح". (¬11) سبق تخريجه. (¬12) في (ق): "من".

يحل له [أن يرجع] (¬1) إلا أن يكون والدًا أو قرابة، فلا يرجع وصاحب الشرع يقول: "لا يحل لواهب أن يوجع في هبته إلا الوالد فيما يهب ولده" (¬2). ومثل أن يُسأل عن رجل له شِرْك في أرض أو دار أو بستان هل يحلُّ له أن يبيع حصته (¬3) قبل إعلام شريكه بالبيع وعرضها عليه؟ فيقول: نعم، يحل له أن يبيع قبل إعلامه وصاحب الشرع يقول: "من كان له شِرْك في أرض أو رَبْعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه" (¬4). ومثل أن يُسأل عن قتل المسلم بالكافر، فيقول: نعم، يقتل بالكافر وصاحب الشرع يقول: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬5). ومثل أن يُسأل عمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم [هل الزرع له أم لصاحب الأرض] (¬6)؟ فيقول: له الزرع (¬7)، وصاحب الشرع يقول: " [من زرع في أرض قوم بغير إذنهم] (6) فليس له من الزرع شيء وله نفقته" (¬8). ومثل أن يُسأل: هل يصح تعليق الولاية بالشرط؟ (¬9) فيقول: لا يصح، ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق) و (ك). (¬2) رواه أحمد (2/ 27 و 78)، وأبو داود (3539) في (البيوع والإجارات): باب الرجوع في الهبة، والترمذي (1299) في (البيوع): باب ما جاء في الرجوع في الهبة، والنسائي (6/ 265) في الهبة، باب رجوع الوالد فيما يعطي ولده، و (6/ 267 و 268) في باب ذكر الاختلاف على طاوس في الراجع في هبته، وابن ماجه (2377) في (الهبات): باب من أعطى ولده ثم رجع فيه، وابن الجارود (994)، وأبو يعلى (2717)، وابن حبان (5123)، والدارقطني (3/ 42 - 43)، والحاكم (12/ 46)، والبيهقي (6/ 179) من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن طاوس عن ابن عباس وابن عمر. وسنده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عمرو بن شعيب، فقد روى له أصحاب السنن. ووقع في المطبوع: "فيما يهب ولده". (¬3) قال (و) و (د): "في نسخة "أن يبيع نصيبه""، وهو المثبت في (ق). (¬4) سبق تخريجه، وانظر: "أحكام أهل الذمة" (1/ 296). (¬5) سبق تخريجه. وانظر شرط المكافأة في الدِّين في القصاص في "تهذيب السنن" (6/ 330)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 146)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 435)، و"أحكام الجناية" (ص 167 - 173). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع و (ت): "فيقول: الزرع له". (¬8) سبق تخريجه. وانظر: "تهذيب السنن" (5/ 64)، و"بدائع الفوائد" (4/ 124، 125). (¬9) في (ك): "به بالشرط".

وصاحب الشرع يقول: "أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة" (¬1). ومثل أن يُسأل: هل يحل القضاء بالشاهد واليمين؟ فيقول: لا يجوز، وصاحب الشرع قضى بالشاهد واليمين (¬2). ومثل أن يُسأل عن الصلاة الوسطى: هل هي صلاة العصر أم لا (¬3)؟ فيقول: ليست العصر، وقد قال صاحب الشريعة (¬4): "صلاة الوسطى صلاة العصر" (¬5). ومثل أن يُسأل عن يوم الحج الأكبر: هل هو يوم النحر أم لا؟ فيقول: ليس يوم النحر، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يوم الحج الأكبر يوم النحر" (¬6). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) سبق تخريجه. وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 63 - 75، 141 - 161، 350 - الطريق السابع)، و"تهذيب السنن" (5/ 225 - 230) ففيه الأحاديث والرد على من أعلها. (¬3) في (ق): "أهي صلاة العصر". (¬4) في (ك): "الشرع". (¬5) أخرجه مسلم في "صحيحه" (رقم 628)، والترمذي في "الجامع" (رقم 181 و 2985)، والطيالسي في "المسند" (رقم 366)، وأحمد في "المسند" (1/ 392، 453، 404، 456)، وغيرهم عن ابن مسعود بلفظه مرفوعًا. وأخرجه الترمذي في "جامعه" (أبواب الصلاة): باب ما جاء في صلاة الوسطى أنها العصر (1/ 340 - 341/ رقم 182)، وأبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة البقرة (5/ 217/ رقم 2983)، وأحمد في "المسند" (5/ 7، 8، 12، 13، 22)، والطبراني في "الكبير" (رقم 6823، 6824، 6825، 6826)، وابن جرير في "التفسير" (2/ 344)، والبيهقي في "الكبرى" (1/ 460)، والدمياطي في "كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى" (رقم 31، 32، 33، 34، 35) من طرق عن الحسن عن سمرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: (فذكره). والحسن لم يسمع من سمرة إلا حديث العقيقة، وتابع الحسن سليمان بن سمرة؛ فرواه عن أبيه ضمن وصية جامعة كما عند ابن زبر في "وصايا العلماء" (88 - 89)، ومن طريقه الدمياطي في "كشف المغطى" (رقم 37)، والطبراني في "الكبير" (رقم 7001، 7002، 7007، 7008، 7009، 7010) مفرقًا، وإسناده ضعيف، فيه خبيب بن سليمان من المجهولين، وجعفر بن سعد ليس بالقوي، والحديث صحيح بما قبله. وانظر: "زاد المعاد" (2/ 87)، و"كتاب الصلاة" (ص 34). وفي (ك): "صلاة الوسطى العصر". (¬6) ورد هذا في حديث أبي بكرة وابن عمر وعلي بن أبي طالب أما حديث أبي بكرة رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (1458) من طريق هوذة بن خليفة قال: أخبرنا ابن عون عن محمد ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه فذكر خطبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في يوم =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = النحر، وفيه قال عليه السلام: "أي يوم يومكم هذا؟ " ثم قال. . .: "أليس يوم الحج الأكبر". وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات، لكن أصحاب ابن عون كلهم رووه، وأصحاب ابن سيرين رووه كلهم -كما هو ثابت في "الصحيحين" وغيرهم- دون ذكر هذه الزيادة. وأما حديث ابن عمر: رواه أبو داود (1945) في (المناسك): باب يوم الحج الأكبر، وابن ماجه (3058) في (المناسك): باب الخطبة يوم النحر، وعلَّقه البخاري في "صحيحه" (1742)، ووصله الطحاوي في "مشكل الآثار" (1459) و"شرح معاني الآثار" (4/ 159) وابن جرير في "التفسير" (14/ 124 رقم 16447)، والحاكم (2/ 331)، والإسماعيلي -كما في "الفتح" (3/ 576) - وأبو نعيم في "المستخرج"، وأبو عوانة -كما في "تغليق التعليق" (3/ 105) و"إتحاف المهرة" (9/ 445) - وابن أبي حاتم في "التفسير" (6/ 1748 - رقم 9227) وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 348) - والبيهقي (5/ 139) كلهم من طريق هشام بن الغاز عن نافع عنه ضمن خطبة أيضًا، وهشام من الثقات. ورواه ابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" من طريق سعيد بن عبد العزيز عن نافع به. قال الحاكم بعد روايته: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة، وأكثر هذا المتن مخرج في "الصحيحين" إلا قوله: "أن يوم الحج الأكبر يوم النحر" فإن الأقاويل فيه عن الصحابة والتابعين -رضي اللَّه عنهم- على خلاف بينهم، فمنهم من قال: يوم عرفة، ومنهم من قال: يوم النحر. وحديث علي بن أبي طالب: رواه الترمذي (957) في (الحج) باب ما جاء في يوم الحج الأكبر و (3088) في (التفسير) باب ومن سورة التوبة، وابن أبي حاتم في "التفسير" (6/ 1747 رقم 9226) من طريق محمد بن إسحاق عن أبي إسحاق عن الحارث عنه، قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم النحر. ثم رواه الترمذي (958) و (3089) وابن جرير في "التفسير" (14/ 116، 118 رقم 16394، 16406) وسعيد بن منصور في "سننه" (رقم 1008) من طريق سفيان بن عيينة عن أبي إسحاق به موقوفًا قال الترمذي: هذا أصح، ورواية ابن عيينة موقوفًا أصح من رواية محمد بن إسحاق مرفوعًا، هكذا روى غير واحد من الحفاظ عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي موقوفًا، وقد روى شعبة عن أبي إسحاق عن عبد اللَّه بن مرة عن الحارث عن علي موقوفًا. ورواه ابن أبي شيبة (439 - المفقود) ثنا أبو الأحوص وابن جرير (14/ 116 رقم 16395) عن الأجلح و (16396) عن عنبسة و (16406) عن مالك بن مغول وشتير و (16436) عن معمر جميعهم عن أبي إسحاق به موقوفًا، ورواه ابن جرير (16405، 16408) وابن أبي شيبة (1/ 4/ 462) من طريق يحيى بن الجزار عن علي، ويحيى لم يسمع من علي إلا ثلاثة أشياء منها هذا الحديث، انظر: "تهذيب الكمال" (31/ 253). أقول: وقد ورد هذا موقوفًا على أبي هريرة؛ أخرجه عنه البخاري (3177)، ومسلم =

ومثل أن يُسأل هل يجوز الوتر بركعة واحدة؟ فيقول: لا يجوز الوتر بركعة واحدة، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" (¬1). ومثل أن يُسأل: هل يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، و {اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]؟ فيقول: لا يسجد [فيهما] (¬2)، وقد سجد فيهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ومثل أن يُسأل عن رجل عض يد رجل، فانتزعها من فيه فسقطت أسنانه؟ فيقول: له ديتها، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ديةَ له" (¬4). ومثل أن يُسأل عن رجل اطَّلع في بيت رجل فخذفه ففقأ عينه: هل عليه جناح؟ فيقول: نعم عليه جناح، وتلزمه دية عينه، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنه لو فعل ذلك لم يكن عليه جناح (¬5). ومثل أن يُسال عن رجل اشترى شاة أو بقرة أو ناقة فوجدها مصرَّاة فهل له ردها ورد صاع من تمر معها أم لا؟ فيقول (¬6): لا يجوز له ردها ورد الصاع من ¬

_ = (1347)، وعن غيره، انظر: "تفسير ابن جرير" (14/ 117 وما بعد) و"سنن سعيد بن منصور" (5/ 236 - 241) و"مسند عبد اللَّه بن أبي أوفى" (رقم 44). (¬1) رواه البخاري (472 و 473) في (الصلاة): باب الحلق والجلوس في المسجد، و (990 و 993) في (الوتر): باب ما جاء في الوتر، و (995) في ساعات الوتر، (1137) في (التهجد): باب كيف صلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (749) في (صلاة المسافرين): باب صلاة الليل مثنى مثنى، من حديث ابن عمر. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) رواه مسلم (578) بعد (108) في (المساجد): باب سجود التلاوة من حديث أبي هريرة قال: سجدنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، و {اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}، وهو في "صحيح البخاري" (766 و 768 و 1074 و 1078) من حديث أبي هريرة أيضًا لكن فيه السجود في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} فقط. (¬4) هو جزء من حديث "كما يقضم الفحل"، وقد سبق تخريجه وانظر كلام المصنف عليه رحمه اللَّه هناك. (¬5) رواه البخاري (6888) في (الديات): باب من أخذ حقه أو اقتص دون السلطان، و (6902) باب من اطلع على بيت قوم ففقأوا عينه فلا دية عليه، ومسلم (2158) في (الآداب): باب تحريم النظر في بيت غيره، من حديث أبي هريرة. وانظر: "زاد المعاد" (3/ 204 و 4/ 113 - 114 مهم، 380)، و"تهذيب السنن" (6/ 380)، و"الطرق الحكمية" (ص 46 - 47)، و"أحكام الجناية" (ص 301 - 302) مهم. (¬6) في (ق): "فقال"، وقبلها: "التمر" بدل "تمر".

التمر معها، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن سخطها ردها وصاعًا من تمر" (¬1). ومثل أن يُسأل عن الزاني البكر: هل عليه مع الجلد تغريب؟ فيقول: لا تغريب عليه، وصاحب الشرع يقول: "عليه جلد مئة وتغريب عام" (¬2). ومثل أن يُسأل عن الخضراوات: هل فيها زكاة؟ فيقول: يجب فيها الزكاة، وصاحب الشرع يقول: "لا زكاة في الخضراوات" (¬3). أو يُسأل عما دون خمسة أوْسُق: هل فيه زكاة؟ فيقول: نعم، تجب فيه الزكاة وصاحب الشرع يقول: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق" (¬4). أو يُسأل عن امرأة أنكحت نفسها بدون إذن وليها فيقول: نكاحها (¬5) صحيح، وصاحب الشرع يقول: "فنكاحها باطل [باطل باطل] " (¬6). أو يُسال عن المحلِّل والمحلَّل له: هل يستحقان اللعنة؟ فيقول: لا يستحقان اللعنة، وقد لعنهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غير وجه (¬7). ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) رواه البخاري (2314 و 2315) في (الوكالة): باب الوكاة في الحدود، وانظر باقي أطرافه هناك، وهي كثيرة جدًا، ومسلم (1697) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهنى. وانظر: "زاد المعاد" (3/ 207). (¬3) الحديث ورد عن جماعة من الصحابة، وكل الطرق إليهم واهية، وأصحّها حديث معاذ بن جبل الذي يرويه عنه موسى بن طلحة بن عبيد اللَّه ولفظه: عن موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ بن جبل عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه أخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر وهذا قد أُعلَّ، وقد رجح الدارقطني في "علله" (4/ 204 - 205) رواية الإرسال. وانظر الحديث وطرقه في "علل الدارقطني" (4/ 203)، و"نصب الراية" (2/ 386 - 390)، و"التلخيص الحبير" (2/ 165)، وقد قال الترمذي بعد روايته الحديث (رقم 638): "وليس يصح في هذا الباب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيء، بهانما يروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا". وانظر: "زاد المعاد" (1/ 149)، و"تهذيب السنن" (2/ 192). (¬4) رواه البخاري (1405) في (الزكاة): باب ما أُدي زكاته فليس بكنز، و (1447) باب زكاة الورق، و (1459) باب ليس فيما دون خمس ذود صدقة، و (1484) باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ومسلم (979) في (الزكاة) أوله من حديث أبي سعيد الخدري. وانظر: "تهذيب السنن" (2/ 192)، و"زاد المعاد" (1/ 149). (¬5) في (ق): "نكاح". (¬6) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط (ت) و (ق) و (ك). (¬7) سبق تخريجه، ووقع في (ق): "من غير وجه".

أو يُسأل عن إكمال عدة شعبان (¬1) ثلاثين يومًا ليلة الإغمام (¬2)، فيقول: لا يجوز إكماله ثلاثين يومًا (¬3)، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: " [فإن غُمَّ عليكم] فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا" (¬4). أو يُسأل عن المطلقة المبتوتة: هل لها نفقة وسكنى؟ فيقول: نعم لها النفقة والسكنى وصاحب الشرع يقول. "لا نفقة لها، ولا سكنى" (¬5). أو يُسأل عن الإمام: هل يستحب له أن يسلم في الصلاة تسليمتين؟ فيقول: يُكره ذلك، ولا يستحب، وقد روى خمسة عشر نفسًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه "كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬6). أو يُسأل عمن رفع يديه عند الركوع والرفع منه: هل صلاته مكروهة أو [هي] (¬7) ناقصة؟ فيقول: نعم تكره صلاته، أو هي ناقصة، وربما غلا فقال: باطلة، وقد روى بضعة وعشرون نفسًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه: "كان يرفع يديه عند الافتتاح وعند الركوع و [عند] الرفع منه" (¬8) بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها (¬9). أو يُسأل عن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام هل يجزئ فيه الرش [أم ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أو يسأل: هل يجوز إكمال شعبان". (¬2) في المطبوع و (ق): "الإغماء"! (¬3) في حكم صيام يوم الشك انظر: "زاد المعاد" (1/ 157 - 160)، و"بدائع الفوائد" (3/ 96 - 97)، و"تهذيب السنن" (3/ 214 - 222). (¬4) رواه البخاري (1909) في (الصوم): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا". ومسلم (1081) في (الصيام): باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (1907)، ومسلم (1080) من حديث ابن عمر، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) سبق تخريجه. (¬6) سبق تخريجه. واختار ابن القيم رحمه اللَّه أن التسليمتين واجبتان، لا تسليمة واحدة في "بدائع الفوائد" (2/ 195)، و"زاد المعاد" (1/ 66 - 67)، و"تهذيب السنن" (1/ 51 - 52). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق) و (ك). (¬8) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) انظر: "بدائع الفوائد" (3/ 89 - 90 و 4/ 91)، و"زاد المعاد" (1/ 52، 55، 62، 63)، و"تهذيب السنن" (1/ 368، 369).

يجب الغسل] (¬1)؛ فيقول: لا يجزئ [فيه الرش] (8)، وصاحب الشرع يقول: "يرش من بول الغلام" (¬2). ورشه [هو] (¬3) بنفسه (¬4). أو يُسأل عن التيمم: هل يكفي بضربة واحدة إلى الكوعين؟ فيقول: لا يكفي ولا يجزئ، وصاحب الشرع قد نص [على] (¬5) أنه يكفي نصًا صحيحًا [صريحًا] (¬6) لا مدفع له (¬7). أو يُسأل عن بيع الرطب بالتمر: هل يجوز؟ فيقول: نعم يجوز، وصاحب الشرع يسأل عنه فيقول: "لا آذن" (¬8). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) الحديث بهذا اللفظ، أي لفظ "يُرَشُ" رواه أبو داود رقم (376) في (الطهارة): باب بول الصبي يصيب الثوب، والنسائي (1/ 158) في (الطهارة) باب بول الجارية، وابن ماجه (526) في (الطهارة) باب ما جاء في بول الصبي الذي لا يطعم، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (رقم (469)، والدولابي في "الكنى" (1/ 37)، وابن خزيمة في "صحيحه" (283)، والدارقطني (1/ 130)، والطبراني في "الكبير" (22/ رقم 958)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 166) والبيهقي (2/ 415) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2920 رقم 6840) كلهم من طريق عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا يحيى بن الوليد عن مُحِلّ بن خليفة عن أبي السَّمح -رضي اللَّه عنه- به، وفيه قصة. قال البخاري كما في "التلخيص الحبير" (1/ 28): حديث حسن. أقول: رجاله رجال الصحيح غير يحيى بن الوليد وهو صدوق لا بأس به، فإسناده حسن. وقد ثبت الرش من فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- في "صحيح البخاري" (223 و 5693)، ومسلم (287) من حديث أم قيس بنت مِحْصَن الأسدية. انظر مفصلًا في هذا الباب "التلخيص الحبير" (1/ 28). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬4) انظر: "تحفة المودود" (ص 213 - 217) الباب الحادي عشر، وبعدها في (ك): "ولم يغسله". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬7) رواه البخاري (338) في (التيمم): باب المُتيمم هل ينفخ فيها؟ و (339 و 340 و 341 و 342 و 343) في باب التيمم للوجه والكفين، و (347) في باب التيمم ضربة، ومسلم (368) في (الحيض): باب التيمم، من حديث عمار بن ياسر، ولفظه: "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض، ثم تنفخ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك" وليس فيه ذكر للكوع، ومعناه اللغوي داخل في الحديث. (¬8) سبق تخريجه، وفي (ق): "يقول" بدل "فيقول".

أو يُسأل عن رجل أعتق ستة عبيد لا يملك غيرهم عند موته: هل تكمل الحرية في اثنين منهم [أو يعتق من كل واحد سدسه؟ فيقول: لا تكمل (¬1) الحرية في اثنين منهم، وقد أقرع [بينهم] (¬2) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكمل الحرية في اثنين] (¬3)، وأرق أربعة (¬4). أو يُسأل عن القرعة: هل هي جائزة أم باطلة؟ فيقول: [لا] (¬5)، بل هي باطلة، وهي من أحكام الجاهلية، وقد أقرع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمر بالقرعة في غير موضع (¬6). أو يُسأل عن الرجل يصلي خلف الصف وحده هل له صلاة أم لا [صلاة له] (¬7)؟ هل يؤمر بالإعادة؟ فيقول: نعم له صلاة، ولا يؤمر بالإعادة، وقد قال صاحب الشريعة (¬8): "لا صلاة له"، وأمره بالإعادة (¬9). أو يُسأل: هل للرجل (¬10) رخصة في ترك الجماعة من غير عذر؟ فيقول: نعم له رخصة، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا أجد لك رخصة" (¬11). ¬

_ (¬1) في (ك): "لا يجوز تكمل الحرية". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬6) مضت أحاديث في القرعة ومنها: إقراعه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أزواجه إذا أراد السفر، أخرجه البخاري في مواطن منها (2661) في (الشهادات): باب تعديل النساء بعضهن بعضًا، و (4141) في (المغازي): باب حديث الإفك، ومسلم (2770) في (التوبة): باب في حديث الإفك، من حديث عائشة. (¬7) ما بين المعقوفتين زيادة من المطبوع. (¬8) في المطبوع و (ك): "صاحب الشرع". (¬9) في هذا حديث علي بن شيبان مرفوعًا: "استقبل صلاتك فإنه لا صلاة لمن صلى خلف الصف وحده" تقدم تخريجه، وحديث وابصة بن معبد، وقد وقع في إسناده اختلاف، وقد رجح ابن حبان صحته، فانظر (2199 - 2203)، و"نصب الراية" (2/ 38) وتقدم أيضًا. وقال في هامش (ق): "وقد قيد ذلك في الجزء الأول بما إذا وجد فرجة في الصف، فتركها فأما إذا لم يجد فصلاته صحيحة". قلت: وانظر مبحث بطلان صلاة الفذ خلف الصف في "تهذيب السنن" (1/ 336 - 339)، وفيه رد على من أعلَّ حديث وابصة بن معبد. (¬10) في (ق): "هل له". (¬11) بهذا اللفظ؛ رواه أبو داود (552) في (الصلاة): باب التشديد في ترك الجماعة وابن ماجه (792) في (المساجد): باب التغليظ في ترك الجماعة، وأحمد (3/ 423)، وابن =

أو يسأل عن رجل أسلف رجلًا مالًا (¬1) وباعه سلعة هل يحل ذلك؟ فيقول: نعم يحل ذلك، وصاحب الشرع [صلى اللَّه عليه وسلم]، يقول: "لا يحل سلف وبيع" (¬2). ونظائر ذلك كثيرة جدًا، وقد كان السَّلفُ الطَّيِّب يشتدُّ نكيرُهم وغضبُهم على مَنْ عارض حديثَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنًا من كان، ويهجرون فاعل ذلك (¬3)، وينكرون على من يضرب له الأمثال (¬4)، ولا يسوِّغون غير الانقياد [له] (¬5) والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم (¬6) التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ¬

_ = خزيمة (1480)، والحاكم (1/ 247)، والبيهقي (3/ 85)، والبغوي (796) من طرق عن عاصم بن بهدلة عن أبي رزين عن عمرو بن أم مكتوم به. وهذا إسناد حسن من أجل عاصم بن بهدلة. لكن رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (5086) من طريق إبراهيم بن طهمان عن عاصم عن زر بن حبيش عن ابن أم مكتوم به. ورواية الجماعة أولى، وأخشى أن يكون إبراهيم بن طهمان قد سلك الجادة، فإن عاصمًا معروف بالرواية عن زر. وأصل الحديث ثابت في "صحيح مسلم" (653) من حديث أبي هريرة قال: أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلٌ أعمى فقال: يا رسول اللَّه، إنه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد. . فقال: هل تسمع النداء؟ فقال: نعم، قال: فأجب. وانظر أدلة وجوب صلاة الجماعة عند المصنف في "بدائع الفوائد" (3/ 159 - 161)، و"مدارج السالكين" (1/ 121 - 122 مهم)، و"كتاب الصلاة" (ص 63 - 75 مهم)، و"زاد المعاد" (4/ 188)، ووقع في (ق): "وقد قال صاحب الشرع: لا أجد لك رخصة". (¬1) في المطبوع: "ما له". (¬2) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين من (ق). وفي النهي عن سلف وبيع وحكمته انظر: "تهذيب السنن" (5/ 144 - 159 مهم)، و"زاد المعاد" (4/ 262 مهم). (¬3) الأمثلة على هذا كثيرة، منها قصة عبد اللَّه بن المغفّل من الرجل الذي كان يخذف، رواها البخاري (5479)، ومسلم (1954)، ومنها قصة عبد اللَّه بن عمر لما روى حديث: "لا يمنعن رجل أهله أن يأتوا المسجد" فقال ابن له: فإنا نمنعهن، فقال عبد اللَّه: أحدثك عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقول هذا، فما كلمه حتى مات، أخرجه أحمد (2/ 36) بإسناد صحيح، وانظر كتابي "الهجر" (ص 164 وما بعد). (¬4) مثاله: قصة عمران بن حصين مع بُشير بن كعب، لما سمع رواية عمران لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الحياء خير كله" رواها البخاري (6117) ومسلم (60، 61). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ق): "بباطنهم".

[لا يجوز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي]

وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وبقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وبقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وأمثالها، فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم: "ثبت عن النبي (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال كذا وكذا"، يقول: من قال بهذا (¬2)؟! ويجعل هذا دفعًا في صدر الحديث، يجعل (¬3) جهله بالقائل [به] (¬4) حجة له في مخالفته وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثل هذا الجهل، وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد (¬5) أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم (¬6) إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقبح من ذلك: عذرُه في دعوى هذا الإجماع، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث، فعاد (¬7) الأمر إلى تقديم جهله على السنة، واللَّه المستعان. ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام البتة قال: لا نعمل بحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نعرف من عمل به، [فإن جَهِل مَنْ بلغه الحديث مَنْ عَمِل به لم يحل له أن يعمل به] (¬8)، كما يقول (¬9) هذا القائل. [لا يجوز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي] الفائدة الخامسة والخمسون (¬10): إذا سئل عن تفسير آية من كتاب اللَّه تعالى أو سنة رسول اللَّه (¬11) -صلى اللَّه عليه وسلم- فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه (¬12) التأويلات ¬

_ (¬1) في (ق): "رسول اللَّه". (¬2) قال (د): "في نسخة: "ومن قال هذا". (¬3) في المطبوع: "أو يجعل"، وفي (ك): "وجعل" وفي (ق) "ويجعل". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق)، وفي (ك): "بهذا". (¬5) في (ق): "يعتقدون". (¬6) في (ق): "نسبهم". (¬7) في (ت): "ففساد". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) قال (د): "في نسخة: "كما يقوله""، وهو المثبت في (ق) وقد أسهب الشيخ السندي -رحمه اللَّه- في تقرير ما ذكره المصنف في كتاب بديع له، سماه: "دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب" واعترض عليه بعضهم بـ"ذبابات الدراسات" ورد هو بـ"ذب الذبابات" وكلها مطبوعة. (¬10) لم يذكر المصنف الفائدة الرابعة والخمسين، أو أنه [الناسخ] سها في الترقيم. (¬11) في (ق): "عن رسول اللَّه". (¬12) في (ق): "بوجه".

الفاسدة الموافقة (¬1) نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرَّح به أئمة الإسلام قديمًا وحديثًا. قال أبو حاتم الرازي: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: "الأصل قرآن أو سنة، فإنْ لم يكن: فقياسٌ عليهما (¬2)، وإذا اتَّصل الحديثُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحَّ الإسناد [به] (¬3) فهو المنتهى، والإجماع أكبر (¬4) من الخبر المنفرد (¬5)، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني (¬6): فما أشبَه منها ظاهره أولاها به، فإذا تكافأت الأحاديث فأصحَّها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع [سعيد] (¬7) بن المسيِّب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال لأصل: لم؟ وكيف؟ وإنما يُقال للفرع: لم؟ (¬8) فإذا صَحَّ قياسُه على الأصل صح وقامت به الحجة". رواه الأصم عن أبي حاتم (¬9). وقال أبو المعالي الجويني في "الرسالة النظامية، في الأركان الإسلامية" (¬10): ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب [تعالى] (¬11)، والذي نرتضيه رأيًا وندين اللَّه به عقدًا (¬12) اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول (¬13) -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لموافقة". (¬2) سأل أحمدُ الشافعيَّ عن القياس، فقال: "عند الضرورات"، كما في "صون المنطق" (44) و"إيقاظ الهمم" (9). وانظر: "الرسالة" (40) و"آداب الشافعي ومناقبه" (160). (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "منه". (¬4) في (ت) و (ك): "أكثر". (¬5) كذا عند أبي حاتم، وفي جميع الأصول: "الفرد". (¬6) كذا في (ت) والمطبوع، وفي (ق): "لمعان". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) في (ق): "وإنما يقال للفرع له". (¬9) رواه ابن أبي حاتم في "آداب الشافعي ومناقبه" (231 - 233) -ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (رقم 573)، ومن طريقه ابن الجوزي في "تعظيم الفتيا" (رقم 1) - ورواه الهروي في "ذم الكلام" (رقم 1110، 1111، 1112، 1113، 1114) وفي المطبوع و (ك): "عن ابن أبي حاتم"!! (¬10) (ص 32 - 33 ط السقا)، واسمها: "العقيدة النظامية في الأركان الإسلامية". (¬11) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬12) في "العقيدة النظامية": "عقلًا". (¬13) في (ق): "رسول اللَّه".

الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملَّة، والتَّواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغًا أو محتومًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين [لهم] (¬1) على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعًا بأنه الوجه المتبع، فحقّ على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى (¬2). وعند (¬3) إمام القرَّاء وسيدهم الوقوف (¬4) على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] من العزائم، ثم الابتداء بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]. ومما استحسن من كلام مالك أنه (¬5) سئل عن قوله تعالى (¬6): {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة (¬7)، فلْتُجْر آية الاستواء والمجيء وقوله: ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق) و (ك). (¬2) هذا هو التفويض الشائع عند المتأخرين! وهو خطأ، إذ التفويض للكيف لا للمعنى، وانظر كلام الإمام مالك الآتي بعد قليل وتأمله. وانظر كتابنا: "الردود والتعقبات" (ص 67)، ووقع في (ق): "ويكل معانيها إلى الرب تعالى". (¬3) في "العقيدة النظامية": "وعدَّ". (¬4) في (ق): "الوقف". (¬5) في (ك): "إذا". (¬6) في (ق): "عن قول اللَّه سبحانه". (¬7) أخرج مقولة مالك عنه: عثمان بن سعيد الدارمي في "الرد على الجهميَّة" (رقم 104)، وأبو عثمان الصابوني في "عقيدة السلف" (رقم 24، 25، 26)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" (664)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 325 - 326)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (2/ 304 - 305، 305 - 306/ رقم 866، 867 - ط المحققة)، وابن عبد البر في "التمهيد" (7/ 151) من طرق عنه. وجوّد إسناده ابن حجر في "الفتح" (13/ 406، 407)، وقال الذهبي في "العلو" (ص 141 - مختصره): "هذا ثابت عن مالك، وتقدم نحوه عن ربيعة شيخ مالك، وهو قول أهل السنة قاطبة". وهي مشهورة عن مالك جدًا، انظر: "البيان والتحصيل" (16/ 367 - 368) و"المحرر" (11/ 63) و"درء تعارض العقل والنقل" (1/ 78 و 6/ 264) و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (17/ 373) و"اجتماع الجيوش" (141) و"الرسالة الوافية" (ص 53) للداني و"ترتيب المدارك" (2/ 39)، و"الموافقات" (5/ 351 - بتحقيقي).

{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [طه: 75]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ]} (¬1) [الرحمن: 27] وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول (¬2)، وغيره على ما ذكرنا انتهى كلامه. وقال أبو حامد الغزالي: الصواب للخلف [سلوك مسلك السلف في] (¬3) الإيمان المرسل، والتصديق المجْمل، وما قاله اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلا بحثٍ و [لا] (¬4) تفتيش. وقال في كتاب "التفرقة" (¬5): "الحق الاتِّباع والكف عن تغيير الظواهر رأسًا، والحذر من (¬6) أتباع تأويلات لم يصرح بها الصحابة، وحسم باب السؤال رأسًا، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث" إلى أن قال: "ومن الناس من يبادر إلى التأويل ظنًا لا قطعًا، فإن كان فَتْحُ هذا الباب والتصريح به يؤدي إلى تشويش قلوب العوام بُدِّعَ صاحبه، وكل ما لم يؤثر عن السلف ذكره، وما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة، فيجب تكفير من يغيّر الظواهر (¬7) بغير برهان قاطع". وقال أيضًا: "كل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ولم يتصور أن يقوم على خلافه برهان فمخالفته تكذيب [محض] (¬8)، وما تطرق إليه احتمال تأويل ولو بمجاز بعيد، فإن كان برهانه قاطعًا وجب القول به، وإن كان البرهان يفيد ظنًا غالبًا، ولا يعظم ضرره (¬9) في الدين فهو بدعة، وإن عظم ضرره [في الدين] فهو كفر" (¬10). قال: "ولم تجر عادة السلف [بالدعوة] (8) بهذه المجادلات (¬11)، بل شدَّدوا ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬2) أخرجه البخاري في "صحيحه" (1145) في (التهجد): باب الدعاء والصلاة في آخر الليل و (6321) في (الدعوات): باب الدعاء نصف الليل، و (7494) في (التوحيد): باب قوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ}، ومسلم (758) في (صلاة المسافرين): باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، من حديث أبي هريرة، وفي الباب عن جمع من الصحابة، وانظر شرحه لشيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب "شرح حديث النزول". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "في السلوك". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) انظره ضمن "رسائل الإمام الغزّالي" (3/ 129 - 132 - دار الكتب العلمية)، ونقل مصنّفنا رحمه اللَّه منه باختصار وتصرف. (¬6) في المطبوع و (ت): "تغيير الظاهر رأسًا والحذر عن"، وبعدها في (ك): "ابتداع". (¬7) في (ك): "الظاهر". (¬8) في (ت): "ولا يعلم ضرورة". (¬9) العبارة في (ت): "وإن علم فهو كفر"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬10) ما بين المعقوفتين من (ق). (¬11) قال (د): "في نسخة: "المحاولات"".

القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال". و [قد] (¬1) قال أيضًا: "الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف، والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم [في الصبا] (¬2)، بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذَّر التعبير عنها". قال: "وقال شيخنا أبو المعالي: يحرص الإمام ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك" (¬3)، انتهى. وقد اتَّفقتْ الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله، وكلام الإمام الشافعي ومذهبه فيهم معروف (¬4) عند جميع أصحابه، وهو: "أنهم يُضربون ويطاف بهم في قبائلهم وعشائرهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" (¬5). وقال: "لقد اطّلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت أظنه" (¬6) وقال: "لأن يبتلى العبد بكل شيء نهى عنه غير الكفر أيسر من أن يُبتلى بالكلام" (¬7)، وقال ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك) و (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) "لم يكن الغزالي في كل ما كتب على هذا الدين الذي ذكره، فقد قام في "مشكاة الأنوار" وفي غيره من كتبه المسماة "المضنون على غير أهلها" بتأويلات هي عين تأويلات الباطنية، وجاء فيها بعظائم لا يجوز لمسلم أن يقترفها، فلنحذر من ذوي الوجوه المتعددة" (و). (¬4) في (ق): "والشافعي مذهبه فيهم معروف". (¬5) رواه أبو عبد الرحمن السلمي في "الرد على أهل الكلام" (ص 98 - 99/ منتخب أبي الفضل المقرئ) وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 116) والبيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 462) والخطيب في "شرف أصحاب الحديث" (ص 78) والهروي في "ذم الكلام" (رقم 1142)، وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 941) و"الانتقاء" (ص 80) والبغوي في "شرح السنة" (1/ 218) وابن حجر في "توالي التأنيس" (ص 111). وذكره ابن قدامة في "تحريم النظر في كتب الكلام" (ص 41)، وابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 280) والذهبي في "السير" (10/ 29) وابن أبي العز في "شرح الطحاوية" (239) وابن مفلح في "الآداب الشرعية" (1/ 225)، والشاطبي في "الاعتصام" (1/ 296 - بتحقيقي) والسيوطي في "صون المنطق" (ص 65) و"الأمر بالاتباع" (ص 72 - بتحقيقي)، وعلي القاري في "شرح الفقه الأكبر" (ص 2 - 3) وغيرهم. (¬6) هو قطعة من الأثر الآتي. (¬7) رواه السلمي في "الرد على أهل الكلام" (ص 78، 81) وابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" (182) والبيهقي في "الاعتقاد" (ص 320 - ط أبو العينين) و"مناقب الشافعي" (1/ 452، 453)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 111) والهروي في "ذم الكلام"، (رقم 1137، 1138) وابن بطة في "الإبانة" (2/ 534 رقم 661، 662) وابن عساكر في =

لحفص الفرد (¬1): أنا أخالفك في كل شيء حتى في قول: لا إله إلا اللَّه، أنا أقول: لا إله إلا اللَّه الذي يُرى في الآخرة، والذي كلم موسى تكليمًا، وأنت تقول: لا إله إلا اللَّه الذي لا يُرى في الآخرة، ولا يتكلم. وقال البيهقي في "مناقبه" (¬2): ذكر الشافعي إبراهيم بن إسماعيل ابن عليَّة فقال: "أنا مخالف له في كل شيء، وفي قوله: لا إله إلا اللَّه، لست أقول كما يقول، أنا أقول: لا إله إلا اللَّه الذي كلَّم موسى من وراء حجاب، وذاك يقول: لا إله إلا اللَّه الذي خلق كلامًا أسمعه موسى من وراء حجاب". وقال في أول خطبة "رسالته" (¬3): "الحمد للَّه الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به الواصفون من خلقه". وهذا تصريح بأنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه [تعالى] (¬4)، وأنه يتعالى ويتنزه عما يصفه به المتكلمون وغيرهم مما لم يصف به نفسه. وقال (¬5) أبو نصر أحمد بن محمد بن خالد (¬6) السجزي: سمعت أبي يقول: قلت لأبي العباس بن سُريج: ما التوحيد؟ فقال: "توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وتوحيد أهل الباطل: الخوض في الأعراض والأجسام، إنما بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإنكار ذلك" (¬7). ¬

_ = "تبيين كذب المفتري" (335، 336، 337، 341) والتيمي في "الحجة" (1/ 104) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 939) و"الانتقاء" (78) واللالكائي في "السنة" (1013) وهو في "شرح السنة" (17/ 21) و"تلبيس إبليس" (82، 89) و"البداية والنهاية" (10/ 281)، و"الآداب الشرعية" (1/ 225) و"طبقات الشافعية" (1/ 281) و"شرح العقيدة الطحاولة" (ص 229) و"الاعتصام" (3/ 422 - بتحقيقي) و"توالي التأنيس" (ص 110)، و"شرح الفقه الأكبر" (ص 3) و"الأمر بالاتباع" (ص 71)، و"الفتاوى الحديثية" (175 - 177). (¬1) قال (د)، و (ح): "هكذا في النسختين بالدال، وفي "التقريب" بالخاء المعجمة، أي الفرخ" وانظر: "درء تعارض العقل والنقل" (7/ 250) و"تبيين كذب المفتري" (340 - 341). (¬2) (1/ 409 - ط دار التراث)، ونقله عن البيهقي: الفخرُ الرازي في "مناقب الإمام الشافعي" (ص 110، 111 - ط دار الجيل). (¬3) (ص 7 - 8). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬5) في (ق): "قال". (¬6) في (ك): "حامد". (¬7) رواه أبو عبد الرحمن السلمي في "الرد على أهل الكلام" (ص 86 - 87) والتيمي في "الحجة" (1/ 96، 97) والهروي في "ذم الكلام" (رقم 1260) وذكره ابن تيمية في "درء =

وقال بعض أهل العلم: كيف لا يَخشى الكذب على اللَّه ورسوله مَنْ يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز (¬1) والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية؟ وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال اللَّه فيهم (¬2): {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، قال الحسن: "هي واللَّه لكل واصف كذبًا إلى يوم القيامة" (¬3)، وهل يأمن أن يتناوله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] قال ابن عيينة: هي لكل مُفترٍ من هذه الأمة إلى يوم القيامة (¬4)، وقد نزَّه سبحانه [وتعالى] (¬5) نفسه عن كل ما يصفه به خلقه إلا المرسلين، فإنهم [إنما] (¬6) يصفونه بما أذن لهم أن يصفوه به فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 180 - 181]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 160 - 161]، ويكفي المتأولين كلام اللَّه تعالى وكلام رسوله (¬7) -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتأويلات التي لم يردها، ولم يدل عليها كلام اللَّه [تعالى] (¬8) أنهم قالوا برأيهم على اللَّه [تعالى] (¬9)، وقدّموا آراءهم على نصوص الوحي وجعلوها (¬10) عيارًا على كلام اللَّه [تعالى] (9) ورسوله، ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها؛ لكان (¬11) أحدهم أن يخرَّ من السماء [إلى الأرض] (6) أحب إليه من أن يتعاطى شيئًا من ذلك، فكل صاحب باطل قد ¬

_ = تعارض" (7/ 185) والكلام في الأعراض والأجسام حدث بعد القرون المفضلة، فكيف يقال: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث بإنكار ذلك؟ لعله من مواريث الفلاسفة اليونانيين، فتأمل. (¬1) في (ق): "للألغاز". (¬2) في (ق): "ممن قال اللَّه تعالى فيه". (¬3) أخرجه ابن أبي شيبة (7/ 190 أو 13/ 506 ط الهندية) والبيهقي في "البعث والنشور" (رقم 165 - استدراكات) و"الشعب" (4/ 234، 263 رقم 4907، 5022)، وابن أبي حاتم (8/ 2448)، والهروي في "ذم الكلام" (رقم 750 - ط الشبل) وعبد بن حميد وابن المنذر، كما في "الدر المنثور" (5/ 620). (¬4) وهذا لفظ أبي الشيخ، كما في "الدر المنثور" (3/ 565 - 566)، وفي (ق): "هي" وبدلها في سائر النسح: "هل". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت) و (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) في المطبوع و (ت) و (ك): "كلام اللَّه ورسوله". (¬8) ما بين المعقوفتين من (ق)، والعبارة في (ك): "ولم يدل عليها كلامهم". (¬9) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬10) في (ك): "وجعلوا آراءهم". (¬11) قال (د): "في نسخة: "وكان. . . إلخ"، وهو المثبت في (ق) و (ك).

[الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل]

جعل ما تأوَّله المتأولون عذرًا له فيما تأوله [هو] (¬1)، وقال: ما الذي حرَّم عليَّ التأويل وأباحه لكم؟ فتأولت الطائفة المنكِرَة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات، بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وقالوا (¬2): كيف [نحن] (1) نعاقب على تأويلنا وتؤجرون [أنتم] (1) على تأويلكم؟ قالوا: ونصوص الوحي بالصفات أظهر وأكثر (¬3) من نصوصه بالمعاد، ودلالة النصوص عليها أَبين فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها، ولا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد؟ وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (1)، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك القدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية [وغيرهم] (1) من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم، وكذلك القرامطة والباطنية طردت الباب، وطمَّت الوادي على القَرِيِّ (¬4)، وتأولت الدين كله، فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده اللَّه ورسوله بكلامه، ولا دلَّ عليه أنه مراده وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل؟ وهل وقدت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيره إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟ [الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل] وليس هذا مختصًا بدين الإسلام فقط، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخل عليها (¬5) التأويل فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد. وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في الكتب المتقدمة، ولكن سلَّطوا عليها التأويلات فأفسدوها، كما أخبر سبحانه عنهم (¬6) من التحريف والتبديل والكتمان، فالتحريف (¬7) تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يُرِدها ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "فقال". (¬3) في (ق) و (ك): "أكثر وأظهر". (¬4) القيري: الماء المجموع، والقَرِيّ: مجرى الماء في الروض أو الحوض. (¬5) في المطبوع و (ك): "حتى دخلها". (¬6) في (ق) و (ك): "كما أخبر اللَّه عنهم". (¬7) في (ق): "والتحريف"، وعنون في الهامش بقوله: "قف: التحريف، والتبديل، والكتمان".

[دواعي التأويل]

المتكلم بها، والتبديل تبديل لفظ بلفظ آخر، والكتمان جحده، وهذه الأدواء الثلاثة منها غيرت الأديان والملل، وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى إفساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد [قط] (1) مثله في شيء من الأديان، ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل، وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى إفساد ديانات الرسل [صلوات اللَّه وسلامه عليهم] (¬1) بالتأويل، ومن بابه دخلوا، وعلى أساسه بنوا، وعلى نقطه خطوا (¬2). [دواعي التأويل] والمتأوّلون أصناف عديدة، بحسب الباعث لهم على التأويل، وبحسب قصور أفهامهم ووفورها (¬3)، وأعظمهم توغلًا في التأويل الباطل من فَسَد قصدُه وفهمُه؛ فكلما ساء قصده وقَصُر فهمُه كان تأويلُه أشدَّ انحرافًا، فمنهم من يكون تأويله لنوع [هوًى من غير شُبهة، بل يكون على بصيرة من الحق، ومنهم من يكون تأويله لنوع] (¬4) شبهة عرضت له أخْفَتْ عليه الحق، [ومنهم من يكون تأويله لنوع هدًى من غير شبهة، بل يكون على بصيرة من الحق] (¬5)، ومنهم من يجتمع له الأمران الهوى في القصد والشُّبهة في العلم. [بعض آثار التأويل] وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرَّة وفتنة ابن الزبيز وهلم جرا بالتأويل، [وإنما دخل أعداء] (6) الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعيلية والنُّصيرية من باب التأويل، [فما امتُحن] (¬6) الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إمَّا من المتأولين، وإما ممن (¬7) يسلط عليهم الكفار [بسبب] (6) ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعلَّلوا بالأباطيل، فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "وعلى لفظه حطوا". (¬3) في (ت): "وقعودها". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ق)، وقال (ط): "اختلفت الطبعات السابقة فيما بين المعقوفتين؛ فمنها من يثبته ومنها من يحذفه". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في المطبوع و (ك) و (ق): "وإما أن".

رفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يديه وتبرأ إلى اللَّه من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم (¬1)، وما الذي أوجب تأخر الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يوم الحديبية عن موافقة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل (¬2)، وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلمًا وعدوانًا وأوقع الأمة فيما أوقعها [فيه] (¬3) حتى الآن غير التأويل؟ وما الذي سفك دم علي [-رضي اللَّه عنه-] (3)، وابنه الحسين، وأهل بيته رضي اللَّه تعالى عنهم غير التأويل؟ وما الذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير (¬4) وحُجْر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟ وما الذي أريقت [عليه] (3) دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرَّد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط [حتى] (3) عجَّت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي (¬5) وخَلّد خلقًا من العلماء في [السجون] (¬6) حتى ماتوا غير التأويل؟ وما الذي سلَّط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟ [وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟] (3) وهل فَتْح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم اللَّه في تعليمه عباده البيان الذي امتنَّ [اللَّه] (¬7) في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه؟ فالتأويل بالألغاز والأحاجيِّ والأغلوطات أولى منه بالبيان والتبيين، وهل فَرْقٌ بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن اللَّه وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له وبين رده وعدم قبوله؟ ولكن هذا رد جحود ومعاندة وذاك رد خِدَاع ومصانعة. قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بـ"الكشف عن مناهج ¬

_ (¬1) سبق تخريجه. (¬2) هو جزء من حديث طويل في غزوة الحديبية: رواه البخاري (2731 و 2732) في (الشروط): باب الشروط في الجهاد، من حديث مروان والمِسور بن مَخْرَمَة. (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ق): "بن أبي طالب". (¬4) في (ك): "الزبير". (¬5) انظر تفصيل ما جرى له في: "تاريخ الطبري" (9/ 135 - 139، 190) و"تاريخ بغداد" (5/ 173 - 176) و"طبقات الحنابلة" (1/ 80 - 82) و"السير" (11/ 166) و"طبقات الشافعية" (2/ 51) و"البداية والنهاية" (10/ 303 - 307). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

[مثل المتأولين]

الأدلة" (¬1)، وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة إلى أن قال: " {فَأَمَّا (¬2) الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] وهؤلاء أهل الجدل والكلام، وأشدُّ ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأوَّلوا كثيرًا مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل [ليس] (¬3) هو المقصود به، وإنما أتى (¬4) اللَّه به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختبارًا لهم، ونعوذ باللَّه من هذا الظن (¬5) باللَّه، بل نقول: إن كتاب (¬6) اللَّه العزيز إنما جاء معجزًا من جهة الوضوح والبيان، فإذا ما (¬7) أبعد من مقصد الشارع من قال فيما ليس بمتشابه إنه [متشابه] (¬8)، ثم أوَّل ذلك المتشابه بزعمه، ثم (¬9) قال لجميع الناس: إن فرضكم [هو] (8) اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية [الاستواء] (8) على العرش، وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه" ثم قال: "وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم [القائلون بها] (¬10) أنها [من] المقصود من الشرع إذا تؤمِّلتْ وجدت ليس يقوم عليها برهان". [مثل المتأولين] إلى أن قال: "ومثال [مَنْ أوَّل] (¬11) شيئًا من الشرع وزعم أن ما أوله (¬12) هو الذي قصده الشرع (¬13) مثال من أتى إلى دواء قد ركّبه طبيبٌ [ماهرٌ] (10) ليحفظ صحَّة جميع الناس أو الأكثر (¬14)، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواءُ [المركب] الأعظم لرداءة مزاج [كان به ليس] (10) يعرض إلا للأقل من الناس، فزعم أن ¬

_ (¬1) (ص 97 - 99) ضمن كتاب: "فلسفة ابن رشد" ط دار العلم، و (ص 89 - 90 ط مكتبة التربية). (¬2) "في الطبعات السابقة: "وأما"، والصواب ما أثبته" (و). (¬3) ما بين المعقوفتين في "الكشف" لابن رشد، وسقط من جميع النسخ. (¬4) كذا في "الكشف" وبدلها في جميع النسح: "أمر"!! (¬5) كذا في "الكشف" و (ت)، وفي سائر النسح: "سوء الظن". (¬6) في (ك): "كان" وفي هامشها: "لعله: القرآن العزيز". (¬7) كذا في "الكشف" وفي سائر النسح: "فما أبعد" ولعدم استقامته أثبت في ط الجيل: "فما أبعده"!! (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في المطبوع و (ت) و (ك): "و". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬11) في (ك): "تأول" وسقط من (ق). (¬12) في (ت): "ما قالوه". (¬13) عبارته في "الكشف": "وزعم أن ما أوّله هو ما قصد الشرع، وصرح بذلك التأويل للجمهور". (¬14) في المطبوع و (ت) و (ك): "أو أكثرهم".

[بعض] (1) تلك الأدوية التي صرَّح باسمها الطبيب الأول [في ذلك الدواء] (1) العام المنفعة [المركب] لم يرد به ذلك الدواء العام الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواء [آخر مما يمكن أن] (1) يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعل فيه بدله الدواءَ الذي ظن أن قصده الطبيب، [وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب] (1) الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله [عليه] (¬1) هذا المتأول، ففسدت [به] أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن بدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس (¬2) نوع من المرض غير النوع الأول، فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني، فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوَعيْن المتقدِّمين، فجاء متأوّلٌ رابعٌ فتأوَّل دواءً آخر غير الأدوية المتقدّمة، [فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة] (1)، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلَّط الناس التأويل على أدويته وغيَّروها، وبدَّلوها عرض [منه] (1) للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس. وهذه هي حالة (¬3) الفرق الحادثة [في هذه الطريقة] (¬4) مع الشريعة؛ وذلك أنَّ كلَّ فرقة منهم تأوَّلت [في الشريعة تأويلًا] غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه [هو الذي] (¬5) قصده صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كلَّ ممزق، وبَعُد جدًا عن موضعهه (¬6) الأول. ولما علم صاحب الشرع [صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله] (1) لأن مثل هذا يعرض -ولا بد- في شريعته قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" (¬7) يعني بالواحدة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "فعرض للناس من ذلك". (¬3) في "الكشف" و (ق) و (ك): "حال". (¬4) كذا في "الكشف"، وفي سائر النسح: "الشريعة"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬6) في المطبوع و (ك): "موضوعه". (¬7) أخرجه ابن ماجه في "السنن" (رقم 3992)، وابن أبي عاصم في "السنة" (رقم 63)، -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (14/ 181) -، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (رقم 149) بسند جيد من حديث عوف بن مالك مرفوعًا. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (1/ 128 - 129) من طريق أخرى، ولكن فيها كثير بن عبد اللَّه المزني، لا تقوم به الحجة. =

[لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي]

التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله (¬1). وأنت إذا تأملت ما عرض في الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قِبَل التأويل تبيَّنت أن هذا المثال صحيح. وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد (¬2) فطمَّ الوادي على القَرِيِّ" (¬3)، هذا كلامه بلفظه (¬4). ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين، وما نال الأمم قديمًا وحديثًا بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدَّة أسفار (¬5)، واللَّه المستعان. [لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي] الفائدة السادسة والخمسون: لا يجوز العمل (¬6) بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله (¬7)، وتردد فيها؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استفت نفسك (¬8)، وإن أفتاك الناس وأفتوك" (¬9)، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولًا، ولا تخلِّصه فتوى المفتي من اللَّه إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قضيت له بشيء من [حق] (¬10) أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار" (¬11) والمفتي والقاضي ¬

_ = ولحديث عوف شواهد عديدة من حديث أبي هريرة ومعاوية وأنس بن مالك وعبد اللَّه بن عمرو، وقد صححه جمع من الحفاظ؛ كما بيّنتُه في تعليقى على "الاعتصام" (1/ 109، 168 - 169، 3/ 157، 259)، وانظر: "السلسلة الصحيحة" (رقم 203، 204). (¬1) في مطبوع "الكشف" بعدها: "تأويلًا صرحت به للناس"!!. (¬2) "يعني الغزالي، وبهذه الكلمة الصادقة من ابن رشد وضحت حقيقة الغزالي" (و). (¬3) وجدتُ المثالَ المذكور للمتأولين عند ابن رشد في كتاب آخر له، هو "فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال" (ص 34). (¬4) "راجعت نقول ابن القيم على مصادرها عند الجويني والغزالي وابن رشد، فوجدت الأمانة التي تخاف اللَّه وتكبر الحق" (و). (¬5) للدكتور محمد أحمد لوح دراسة مفردة مطبوعة، بعنوان: "جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية" وهي جيدة، وفيها تفصيل وتأصيل، فانظرها إن شئت الاستزادة. (¬6) في (ق): "لا يجوز له العمل". (¬7) في (ك): "فتواه". (¬8) في (ق): "قلبك". (¬9) سبق تخريجه. (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬11) رواه البخاري (2458) في (المظالم): باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، =

في هذا سواء، ولا يظنّ المُستفتي أنَّ مجرد فتوى الفقيه تُبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال [في] (¬1) الباطن، أو لشكِّه فيه، أو لجهله به (¬2)، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه (¬3)، أو عدم تقييده (¬4) بالكتاب والسنة، [أو] (1) لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه [وسكون] (6) النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي سأل (¬5) ثانيًا وثالثًا، حتى تحصل له الطمأنينة، [فإن لم] (1) يجد، فلا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها والواجب تقوى اللَّه بحسب الاستطاعة. فإن كان في البلد مفتيان [أحدهما] (1) أعلم من الآخر، فهل يجوز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل؟ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان [لأصحاب] (1) الشافعي وأحمد، فمن جوَّز ذلك رأى أنه يقبل قوله إذا كان وحده فوجود من هو أفضل منه لا يمنع [من قبول قوله] (1) كالشاهد، ومن منع استفتاءه قال: المقصود حصول ما يغلب على الظن الإصابة [وغلبة الظن بفتوى] الأعلم أقوى فيتعيَّن (¬6)، والحق التفصيل بأن المفضول إن ترجَّح بديانة أو ورع أو تحرٍّ للصواب، وعدم ذلك الفاضل فاستفتاء المفضول جائز إنْ لم يتعين، وإن استويا فاستفتاء الأعلم أولى، واللَّه أعلم (¬7). ¬

_ = و (2680) في (الشهادات): باب من أقام البينة بعد اليمين، و (6967) في (الحيل): باب رقم (10)، و (7169) في (الأحكام): باب موعظة الإمام للخصوم، و (7181) باب من قضي له حق أخيه فلا يأخذه، و (7185) باب القضاء على كثير المال وقليله، ومسلم (1713) في (الأقضية): باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، من حديث أم سلمة. ووقع في (ق): "من النار". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "أو لجهالته به". (¬3) في (ق): "فتاويه". (¬4) في (ق) و (ك): "تقيده". (¬5) في المطبوع و (ت): "يسأل". (¬6) في (ق): "فتتعين"، وما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) انظر هذه المسألة في: "المحصول" (6/ 82)، و"البرهان" (2/ 1342)، و"المستصفى" (2/ 392)، و"المنخول" (ص 479 و 483)، و"إرشاد الفحول" (ص 271)، و"المسودة" (ص 462 - 464)، و"روضة الناظر" (ص 345) و"القواعد" للعز بن عبد السلام (2/ 159) و"فتح الغفار" (3/ 37) و"صفة الفتوى" (ص 56) و"تيسير التحرير" (4/ 251) و"شرح تنقيح الفصول" (432) و"فواتح الرحموت" (2/ 404) و"الرد على من أخلد إلى الأرض" (ص 154، 156).

[الترجمان عند المفتي]

[الترجمان عند المفتي] الفائدة السابعة والخمسون: إذا لم يعرف (¬1) المفتي لسان السائل أو لم يعرف المستفتي لسان المفتي، أجزأ ترجمة واحد بينهما، لأنه خبر محض فيكتفي فيه بواحد كأخبار الديانات [والطب] (¬2)، وطرد هذا الاكتفاء بترجمة الواحد (¬3) في الجرح والتعديل، والرسالة والدعوى والإقرار والإنكار (¬4) بين يدي الحاكم، والتعريف في إحدى الروايتين، وهي مذهب أبي حنيفة (¬5) واختارها أبو بكر (¬6) إجراءً لها مجرى الخبر، والرواية الثانية: لا يقبل في هذه المواضع أقل من اثنين، إجراء لها مجرى الشهادة (¬7)، وسلوكًا بها سبيلها لأنها تُثبت الإقرار عند الحاكم وتثبت عدالة الشهود وجرحهم فافتقرت إلى العدد، كما لو شهد على إقراره شاهد واحد، فإنه لا يُكتفى به، وهذا بخلاف ترجمة الفتوى والسؤال فإنه خبر محض فافترقا. ¬

_ (¬1) في (ق): "لم يعلم". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ق): "بترجمة واحد". (¬4) في (ق): "والإنكار والإقرار". (¬5) انظر: "مختصر الطحاوي" (329) و"المبسوط" (16/ 89) و"الاختيار" (2/ 85) و"بدائع الصنائع" (9/ 4101) و"مجمع الأنهر" (2/ 190) و"الفتاوى الهندية" (3/ 320) و"حاشية ابن عابدين" (4/ 374). (¬6) من الحنابلة، انظر: "المغني" (10/ 88 أو 14/ 84 - ط هجر) و"المسودة" (464، 472). (¬7) وهذا مذهب الشافعية ومحمد بن الحسن وزفر، انظر: "مختصر المزني" (299)، و"أدب المفتي" (134) و"الإقناع" (197) و"حاشية قليوبي" (4/ 301) و"آداب القضاء" (112) لابن أبي الدم، و"مغني المحتاج" (4/ 389) و"حلية العلماء" (8/ 146) و"فتح الباري" (13/ 187 - 188) و"عمدة القاري" (24/ 267) وفصل المالكية، فقال القاضي عبد الوهاب في "الإشراف" (5/ 22 رقم 1795 - بتحقيقي) ما نصه: "إذا تقدم إلى الحاكم خصمان لا يعرف لغتهما، أو لغة أحدهما، واحتاج إلى من يترجم له عنهما؛ فإن كان ما تخاصما فيما يتضمن إقرارًا بمال، أو ما يتعلق بالمال؛ قبل فيه رجل وامرأتان، وإن كان يتضمن إقرارًا يتعلق بأحكام أبدان؛ لم يقبل فيه إلا اثنان. هكذا حصلته عمن درسنا عليه من شيوخنا". وانظر: "المعونة" (3/ 1508)، "الكافي" (498)، "البيان والتحصيل" (9/ 205)، و"جواهر الإكليل" (2/ 224) و"تبصرة الحكام" (1/ 25) و"الخرشي" (7/ 148) و"حاشية الدسوقي" (4/ 139)، و"الطرق الحكمية" (ص 77 - 78) و"نظام القضاء" لزيدان (191 - 192) و"القضاء وحصانته" (202 - 203) لمحمد عبد الحي و"شرح قانون إحدى المحاكمات" (72 - 73) و"المدخل الفقهي" (2/ 1502) للزرقا، و"القضاء في الإسلام" (64 - 65) لمحمد أبو فارس.

[ما يصنع المفتي في جواب سؤال يحتمل عدة صور]

[ما يصنع المفتي في جواب سؤال يحتمل عدة صور] الفائدة الثامنة والخمسون: إذا كان السؤال محتملًا لصور عديدة، فإن لم يعلم [المفتي] (¬1) الصورة المسئول عنها لم يجب عن صورة واحدة منها، وإن علم الصورة المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب، ولكن يقيد لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها، فيقول: إن (¬2) كان الأمر كيت وكيت أو كان المسئول عنه كذا وكذا فالجواب كذا وكذا، وله أن يفرد كل صورة بجواب فيفصِّل الأقسام المحتملة ويذكر حكم كل قسم، ومنع بعضهم من ذلك لوجهين (¬3): أحدهما: أنه ذريعة إلى تعليم الحيل (¬4)، وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث شاء. الثاني: أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي فيضيع مقصودة. والحق التفصيل فيكره حيث استلزم ذلك، ولا يكره -بل يستحب- إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان وإزالة لبس، وقد فصَّل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كثير من أجوبته بقوله: إن (¬5) كان كذا فالأمر كذا كقوله (¬6) في الذي وقع على جارية امرأته "إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت مطاوعة فهي له وعليه لسيدتها مثلها" (¬7)، [وهذا كثير في فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬8). [ينبغي للمفتي أن يكون حذرًا] الفائدة التاسعة والخمسون: وهي مما ينبغي التفطن له، إن رأى (¬9) المفتي خلال السطور بياضًا يحتمل أن يُلحق به ما يفسد الجواب فليحترز منه، فربما دخل من ذلك عليه مكروه (¬10)، فإما أن يأمر بكتابة غير الورقة، وإما أن يخطَّ على البياض أو يشغله بشيء، كما يحترز منه كتَّاب الوثائق والمكاتيب. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في (ق): "إذا". (¬3) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (135) و"صفة الفتوى" (57) و"المجموع" (1/ 84). (¬4) في (ت): "تعليم الجهل"! وفي (ق): "تعليمه الحيل". (¬5) في (ق): "كقوله: إذا". (¬6) في (ق): "وكذا". (¬7) سبق تخريجه. (¬8) ما بين المقعوفتين سقط من (ت) و (ق). (¬9) في (ق): "إذا رأى". (¬10) في (ق): "فربما دخل عليه من ذلك مكروه".

[ينبغي له أن يشاور من يثق به]

وبالجملة فليكن حذرًا فطنًا، ولا يحسن ظنه بكل أحد، وهذا الذي حمل بعض المفتين على أنه كان يقيد السؤال عنده في ورقة، ثم يجيب في ورقة السائل، ومنهم من كان يكتب السؤال في ورقة من عنده، ثم يكتب الجواب وليس شيء من ذلك بلازم، والاعتمادُ على قرائن الأحوال ومعرفة الواقع [والعادة] (¬1). [ينبغي له أن يشاور من يثق به] الفائدة الستون: إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقل بالجواب ذهابًا بنفسه وارتفاعًا بها أن يستعين على الفتاوى بغيره من أهل العلم، وهذا من الجهل، فقد أثنى اللَّه سبحانه (1) على المؤمنين بأنَّ أمرهم شورى بينهم، وقال [سبحانه و] (¬2) تعالى: لنبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وقد كانت المسألة تنزل بعمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬4)، فيستشير لها من حضر من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (4)، وربما جمعهم وشاورهم حتى [كان] (4) يشاور ابن عباس (¬5) [-رضي اللَّه عنهما-] (¬6) وهو إذا ذاك أحدث القوم سنًا، وكان يشاور عليًا (7) [كرم اللَّه وجهه] (¬7) وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف (¬8) وغيرهم رضي اللَّه عنهم [أجمعين] (7)، ولا سيما إذا قصد بذلك تمرين أصحابه وتعليمهم وشحذ أذهانهم، قال البخاري في "صحيحه" (¬9): (باب إلقاء العالم المسألة على ¬

_ (¬1) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (134 - 135) و"صفة المفتي" (57) و"المجموع" (1/ 84)، وفي (ق): "وقد" بدل "فقد". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) والمطبوع و (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) كان -رضي اللَّه عنه- يجمع الشباب فيستشيرهم، رواه الرامهرمزي في "المحدث الفاصل" (193) والخليلي في "الإرشاد" (1/ 309) وابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (1/ 106 - ط القديمة) وذكره عنه الذهبي في "السير" (8/ 372 - 373) وكان يستشير أهل بدر، رواه البيهقي في "المدخل" (رقم 803) وما بين المعقوفتين سقط من (ت) والمطبوع. (¬5) انظر: "الموافقات" (1/ 49) وتعليقي عليه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬7) انظر: "الموافقات" (5/ 381) وتعليقي عليه. (¬8) وقع هذا منه في غير حادثة، وتقدمت واحدة منها، وكان يقول: "الرأي المفرد كالخيط السحيل، والرأيان كالخيطين المُبرمين، والثلاثة الآراء لا تكاد تنقطع" رواه الدينوري في "المجالسة" (رقم 593 - بتحقيقي)، والخبر في "عيون الأخبار" (1/ 86) و"سراج الملوك" (10/ 320). (¬9) (1/ 174 - كتاب العلم).

[يجمل بالمفتي أن يكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق]

أصحابه) (¬1)، وأَوْلى ما ألقى عليهم المسألة التي سئل عنها، هذا ما لم يعارض ذلك مفسدة من إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى أو مفسدة لبعض الحاضرين، فلا ينبغي له أن يرتكب ذلك، وكذلك الحكم في عابر الرؤيا؛ فالمفتي، والمعبِّر، والطَّبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يُحسن إظهارُه. [يجمل بالمفتي أن يكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق] الفائدة الحادية والستون: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (¬2). وكان شيخُنا كثيرَ الدعاء بذلك، وكان [إذا أشكلت عليه المسائل] (¬3) يقول: "يا معلِّمَ إبراهيم [علمني] (¬4) "، ويكثر الاستغاثة بذلك (¬5) اقتداءً بمعاذ بن جبل [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته، وقد رآه يبكي فقال: واللَّه ما أبكي على دنيا كنت (¬7) أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه-: "إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد اللَّه بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائرُ أهلِ الأرض عنه أعجز فعليك بمعلم إبراهيم [صلوات اللَّه عليه] " (¬8). وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ ¬

_ (¬1) ونصُّه في "صحيحه": "باب طرح الإِمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم". (¬2) أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب صلاة المسافرين): باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (770) من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) نقله عن ابن تيمية جمع، انظر: "العقود الدرية" (5، 26) و"ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 394) و"الهدية في مواعظ ابن تيمية" (ص 13) وفي المطبوع: "الاستعانة بذلك"، وما أثبتناه من (ق) و (ت)، وقال (د): "في نسخة: "الاستغاثة" وهي (ك). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ت): "على دنياك". (¬8) سبق تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ق).

أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬1) [البقرة: 32]. وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه [العلي العظيم] (¬2)، وكان مالك يقول: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه [العلي العظيم] (¬3)، وكان بعضهم يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (¬4) [طه: 25 - 28] وكان بعضهم يقول: اللهم وَفّقني واهدني وسدّدني واجمع لي بين الصواب والثواب وأعذني من الخطأ والحرمان (¬5)، وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجزَبنا ذلك نحن (¬6)، فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة. والمعوَّل في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلِّم الأول معلِّم الرسل والأنبياء [صلوات اللَّه وسلامه عليهم] (¬7)؛ فإنه لا يرد من صَدَق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلّص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيّتُه ورغبته في ذلك لم يعدم أجرًا، إنْ فاته أجران، واللَّه المستعان. وسئل الإِمام أحمد، فقيل له: ربما اشتد علينا الأمر من جهتك فلمن نسأل بعدك؟ فقال: "سلوا عبد الوهاب الوراق، فإنه أهل أن يوفق للصواب" (¬8)، واقتدى الإِمام أحمد بقول عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: "اقتربوا (¬9) من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تجلَّى لهم أمورٌ صادقة، [وذلك] (¬10) لقُرْب قلوبهم من اللَّه، وكلَّما قَرُب القلبُ من اللَّه زالت عنه معارضاتُ الهوء، وكان نورُ كشفه (¬11) للحق أتمَّ ¬

_ (¬1) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (140). (¬2) نقله عنه: الشيرازي في "طبقات الفقهاء" (84) وابن الصلاح في "أدب المفتي" (140) والنووي في "المجموع" (1/ 76) والذهبي في "السير" (5/ 161) وابن حمدان في "صفة الفتوى" (60)، وما بين المعقوفتين من (ق). (¬3) نقله ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (2/ 1075) والقاضي عياض في "ترتيب المدارك" (1/ 148) والشاطبي في "الاعتصام" (1/ 140) و"الموافقات" (5/ 329 - بتحقيقي) وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬4) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (140). (¬5) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (141). (¬6) في المطبوع و (ت): "وجربنا نحن ذلك". (¬7) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬8) انظر: "المنهج الأحمد" (1/ 125) و"طبقات الحنابلة" (1/ 211) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 574) و"العدة" (5/ 1572). (¬9) في (ق): "اقربوا". (¬10) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬11) في (ت): "نور كسبه".

[لا يسع المفتي أن يجعل غرض السائل سائق حكمه]

وأقوى، وكلّما بَعُد عن اللَّه كَثُرت عليه المعارضات، وضَعُف نورُ كشفهِ للصَّواب، فإنَّ العلمَ نور يقذفه اللَّه في القلب، يفرِّق به العبدُ بين الخطأ والصواب" (¬1). وقال مالك للشافعي -رضي اللَّه عنهما- (¬2) في أول ما لقيه: "إني أرى اللَّه قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية" (¬3)، وقد قال تعالى: " {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ومن الفرقان النور الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان قلبه أقرب إلى اللَّه كان فرقانه أتم، وباللَّه التوفيق. [لا يسع المفتي أن يجعل غرض السائل سائق حكمه] الفائدة الثانية والستون: قد تكرر لكثير من أهل الإفتاء الإمساك عما يفتون به مما يعلمون أنه الحق إذا خالف غرض السائل ولم يوافقه، وكثير منهم يسأله عن غرضه، فإن صادفه عنده كتب له وإلا دَلَّهُ على مفتٍ أو مذهب يكون غرضه عنده، وهذا غير جائز على الإطلاق، بل لا بد فيه من التفصيل (¬4)، فإن كان المسئول عنه من مسائل العلم والسنة أو من المسائل العمليات (¬5) التي فيها نص عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسع المفتي تركه إلى غرض السائل، بل لا يسعه توقُّفه في الإفتاء به على غرض السائل، بل ذلك إثم عظيم، وكيف يسعه من اللَّه أنْ يُقَدِّم غرضَ السائل على اللَّه ورسوله؟ وإن كانت المسألة من المسائل الاجتهادية التي يتجاذب أعنَّتها الأقوالُ والأقيسة، فإن لم يترجّح له قول منها لم يسع له أن يرجِّح لغرض (¬6) السائل، وإن ترجَّح له قول منها، وظن أنه الحق فأولى بذلك، فإن السائل إنما يسأل عما يلزمه في الحكم ويسَعه (¬7) عند اللَّه، فإنْ عرفه المفتي أفتاه به سواء وافق غرضَه أو ¬

_ (¬1) لم أظفر به، مع شدة البحث عنه في كتب الرقاق والأدب، فضلًا عن الأجزاء الحديثية وغيرها، والمصنف ينقل من كتاب أدبي بعض الآثار والقصص، لم أستطع تعيينه مع محاولات شديدة وكثيرة للوصول إلى ذلك، ولا قوة إلا باللَّه. (¬2) في (ق): "رحمهما اللَّه". (¬3) رواه البيهقي في "مناقب الشافعي" (1/ 103، 104). (¬4) في المطبوع و (ت) و (ك): "تفصيل". (¬5) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "العلميات". (¬6) في المطبوع: "يترجح لغرض"، وفي (ق) و (ك): "يرجح بغرض". (¬7) في (ق): "ويسع له".

[ذكر الفتوى مع دليلها أولى]

خالفه، ولا يسعه ذلك أيضًا إذا علم أَن السائل يدور على مَنْ يفتيه بغرضه في تلك المسألة، فيجعل استفتاءه تنفيذًا لغرضه (¬1)، لا تعبدًا للَّه بأداء حقِّه [عليه] (¬2)، ولا يسعه أَنْ يدلَّه على غرضه أين كان، بل، ولا يجب عليه أن يفتي هذا الضّربَ من الناس (¬3)؛ فإنهم لا يستفتون ديانة، وإنما يستفتون توصُّلًا إلى حصول أغراضهم بأيِّ طريق وافق (¬4)، فلا يجب على المفتي مساعدتهم، فإنهم لا يريدون (¬5) الحقَّ، بل يريدون أغراضهم [بأي طريق وافق] (¬6)، ولهذا إذا وجدوا أغراضهم في أيِّ مذهب اتفق اتَّبعوه في ذلك الموضع وتمذهبوا به، كما يفعله أَرباب الخصومات بالدعاوى عند الحكام، ولا يقصد أحدُهم حاكمًا بعينه، بل أي حاكم نفذ غرضه عنده صار إليه (¬7). وقال شيخنا [رحمه اللَّه] (¬8) مرة: أنا مخيَّر بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لا يستفتون للدِّين (¬9)، بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إليَّ؛ بخلاف من يسأل عن دينه، وقد قال اللَّه تعالى لنبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (8) في حق من جاءه يتحاكم إليه لأجل غرضه لا لالتزامه لدينه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل الكتاب: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42] فهؤلاء لما لم يلتزموا دينه لم (¬10) يلزمه الحكم بينهم، واللَّه [تعالي] (7) أعلم. [ذكر الفتوى مع دليلها أولى] الفائدة الثالثة والستون: عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى (¬11) ¬

_ (¬1) في (ق): "في تلك المسائل ويجعل استفتاءه مقيد لغرضه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) عنون هنا في هامش (ق): "قف: المستفتي غير ديانة". (¬4) في المطبوع و (ك): "اتفق". (¬5) في (ك): "يدينون". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ت) و (ك). (¬7) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (146 - 147) و"صفة الفتوى" (164) و"المجموع" (1/ 88). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬9) في (ق): "ديانة". (¬10) في (ق): "فهؤلاء لم يلتزموا دينه فلم". (¬11) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (117، 151 - 152، 171) و"صفة الفتوى" (37، 84)، و"المجموع" (1/ 83، 99).

[هل يقلد المفتي الميت إذا علم عدالته]

وهذا العيب أولى بالمعيب (¬1)، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان اللَّه عليهم والقياس الصحيح عيبًا؟ وهل ذكر قول اللَّه ورسوله إلا طراز الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أَن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم. وقد كان [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الأَخذ به وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ [له] (¬2) قبول قوله، وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان] (¬3) أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها فيقول: قال اللَّه كذا، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا (¬4) أو فعل كذا (¬5)، فيشفى السائل، ويبلغ القائل (¬6)، وهذا كثير جدًا في فتاويهم لمن تأمَّلها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلًا، ولا مأخذًا ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى (¬7) ما حالهم في الفتاوى، واللَّه المستعان. [هل يقلد المفتي الميت إذا علم عدالته] الفائدة الرابعة والستون: هل يجوز للمستفتي (¬8) تقليد الميت إذا علم [عدالته، و] (3) إنه مات عليها من غير أن يسأل الحي؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد (¬9) والشافعي (¬10) ¬

_ (¬1) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "بالعيب". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) ما بين المقعوفتين سقط من (ت). (¬4) في (ق): "قال رسوله كذا". (¬5) في (ق) و (ك): "وفعل كذا". (¬6) في (ق) و (ك): "فيستفتي السائل ويبلغ القائل"، وأشار في هامش (ق) إلى أنه في نسخة: "فيشفى السائل ويبلغ للقائل". (¬7) في (ت): "لا ندري". (¬8) في المطبوع: "للمفتي". (¬9) انظر: "المسودة" (522). (¬10) انظر: "مناهج العقول" (3/ 210) و"أسنى المطالب" (4/ 281) و"الآيات البينات" =

[إذا تكررت الواقعة فهل يستفتي من جديد؟]

أصحهما له ذلك، فإن المذاهب لا تبطل بموت أصحابها ولو بطلت بموتهم لبطل ما بأيدي الناس من الفقه عن أَئمتهم، ولم يسغ لهم تقليدهم والعمل بأقوالهم، وأيضًا لو بطلت أقوالهم بموتهم لم يعتد بهم في الإجماع والنزاع، ولهذا لو شهد الشاهدان ثم ماتا بعد الأداء وقُبِل الحكم بشهادتهما [لم تبطل شهادتهما] (¬1) وكذلك الراوي لا تبطل روايته بموته، [فكذلك المفتي لا تبطل فتواه بموته] (1)، ومن قال: تبطل فتواه بموته قال: أهليته زالت بموته ولو عاش لوجب عليه تجديد الاجتهاد، ولأنه قد يتغير اجتهاده، وممن حكى الوجهين في المفتي أبو الخطاب (¬2) فقال: إن مات المفتي قبل عمل المستفتي فله العمل بها، وقيل: لا يعمل [بها] (¬3)، واللَّه أعلم. [إذا تكررت الواقعة فهل يستفتي من جديد؟] الفائدة الخامسة والستون: إذا استفتاه في (¬4) حكم حادثة فأفتاه وعمل بقوله، ثم وقعت له مرة ثانية فهل له أن يعمل بتلك الفتوى الأولى أم يلزمه الاستفتاء مرة ثانية؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد (¬5) والشافعي (¬6) فمن لم يُلزمه بذلك قال: الأصل بقاء ما كان فله أن يعمل بالفتوى وإن أمكن تغير الاجتهاد (¬7)، كما أن له أن يعمل بها بعد مدة من وقت الإفتاء، وإن جاز تغير اجتهاده، ومن منعه من ذلك قال: ليس على ثقة من بقاء المفتي على اجتهاده الأول، فلعله أن يرجع عنه فيكون المستفتي قد عمل بما هو خطأ عند من استفتاه، ولهذا رجَّح بعضهم العمل بقول الميت على قول الحي واحتجوا بقول ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة" (¬8). ¬

_ = (3/ 273 و 4/ 269) و"مسلم الثبوت" (2/ 407) و"تيسير التحرير" (4/ 231، 250)، و"حاشية البناني" (2/ 397) و"إرشاد الفحول" (238) و"المعتمد" (2/ 360) و"أدب المفتي والمستفتي" (95 - 96). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬2) في كتابه "التمهيد" (4/ 394). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬4) في المطبوع: "عن". (¬5) انظر: "المسودة" (524) و"صفة الفتوى" (81) و"مختصر البعلي" (168) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 579 - 580). (¬6) انظر: "أدب المفتي والمستفتي" (117) و"روضة الطالبين" (11/ 117) و"المجموع" (1/ 93) و"جمع الجوامع" (2/ 399) و"الإحكام" (4/ 238) للآمدي و"غاية الوصول" (152) و"تيسير التحرير" (4/ 253) و"فتح الغفار" (3/ 37) و"فواتح الرحموت" (2/ 405) و"إرشاد الفحول" (272). (¬7) في المطبوع و (ك): "تغير اجتهاده". (¬8) مضى تخريجه.

[هل يلزم استفتاء الأعلم؟]

[هل يلزم استفتاء الأعلم؟] الفائدة السادسة والستون: هل يلزم المستفتي أن يجتهد في أعيان المفتين ويسأل الأعلم والأدين أم لا يلزمه ذلك؟ فيه مذهبان كما سبق وبيَّنا مأخذهما والصحيح أنه يلزمه؛ لأنه المستطاع من تقوى اللَّه [تعالى] (¬1) المأمور بها كل أحد، وتقدم أنه إذا اختلف عليه مفتيان [أحدهما] (2) أورع و [الآخر] (¬2) أعلم فأيهما يجب تقليده؟ فيه ثلاثة مذاهب سبق توجيهها. [هل على العامي أن يتمذهب بمذهب واحد من الأربعة أو غيرهم؟] وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان (¬3): أحدهما: لا يلزمه، وهو الصواب المقطوع به إذ لا واجب إلا ما أوجبه اللَّه ورسوله، ولم يوجب اللَّه ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة [مبرأة مبرأ] (¬4) أهلها من هذه النسبة، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لأن المذهب [إنما يكون] (1) لمن له نوع نظر واستدلال، [ويكون بصيرًا بالمذاهب] (¬5) على حسبه أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال: أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله. يوضحه أن القائل [أنه] (1) شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإِمام سالك طريقه، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ت). (¬3) انظر: "المسودة" (465) و"مختصر البعلي" (168) و"صفة الفتوى" (71) و"شرح تنقيح الفصول" (ص 432) و"المجموع" (1/ 90 - 91) و"روضة الطالبين" (11/ 117) و"شرح الكوكب المنير" (4/ 574 - 575)، و"تيسير التحرير" (4/ 253)، و"غاية الوصول" (152) و"إرشاد الفحول" (252). وفي (ق): "فيه وجهان". (¬4) في (ق): "ببراءة". (¬5) في (ق): "ونص المذاهب"، وفي (ك): "ويكون بصيرًا بالمذهب".

والاستدلال فأما مع جهله وبعده جدًا عن سيرة الإِمام وعلمه وطريقه (¬1) فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من [كل] (¬2) معنى؟ والعامي (¬3) لا يتصور أن يصح له مذهب ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحدًا قط أَن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة [بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة] (¬4) لم يقل بها أحد من أئمة الإِسلام وهم أعلى رُتبةً، وأجلُّ قدرًا، وأعلمُ باللَّه ورسوله من أن يُلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة. فياللَّه العجب، ماتت مذاهب أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومذاهب التابعين، وتابعيهم وسائر أئمة الإِسلام، وبطلت جملةً إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأمة والفقهاء؟! وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه اللَّه [تعالى] (2) ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة لا يختلف الواجب، ولا يتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضًا تابع لما أوجبه اللَّه ورسوله. ومَن صحَّح للعامي مذهبًا قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي إنتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صحَّ للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه، أو أرجح منه أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأى نصَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدِّم عليها قول من انتسب إليه. وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة [الأربعة] (2) وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بـ[أحد من الأئمة] (2) الأربعة بإجماع الأمة، كما لا يجب (¬5) على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد، بل إذا ¬

_ (¬1) في (ك): "بطريقه". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬3) في (ق): "فالعامي". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ق) و (ك): "كما لم يجب".

[ما الحكم إذا اختلف مفتيان؟]

صح الحديث وجب عليه العمل به حجازيًا كان أو عراقيًا أو شاميًا أو مصريًا (¬1) أو يمنيًا. وكذلك لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإِمام وصحت في العربية وصح سندها جازت (¬2) القراءة بها وصحت الصلاة بها اتفاقًا، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة بعده جازت القراءة بها ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال. والثاني: تبطل الصلاة بها، وهاتان روايتان منصوصتان عن الإِمام أحمد (¬3). والثالث: إن قرأ بها في ركن لم يكن مؤديًا لفرضه، وإن قرأ بها في غيره لم تكن مبطلة، وهذا اختيار أبي البركات ابن تيمية رحمة اللَّه عليه، قال: لأنه لم يتحقق الإتيان بالركن في الأول و [لا] (¬4) الإتيان بالمبطل في الثاني، ولكن ليس له أن يتبع (¬5) رخص المذاهب وأخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان (¬6). [ما الحكم إذا اختلف مفتيان؟] الفائدة السابعة والستون: فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر فهل يأخذ بأغلظ الأقوال أو بأخفها أو يتخيَّر (¬7) أو يأخذ يقول الأعلم أو الأورع أو يعدل إلى مفت آخر فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها أو يجب عليه أن ¬

_ (¬1) في (ق): "أو بصريًا". (¬2) في (ق): "جاز"، وبعدها: "ولم تبطل" بدل "وصحت". (¬3) انظر تفصيل الأقوال في المسألة في: "جمال القراء" (1/ 241 - 242)، و"مجموع فتاوى ابن تيمية" (13/ 397 - 398) و"تفسير القرطبي" (1/ 47) و"البرهان في علوم القرآن" (1/ 332 - 333) و"النشر" (1/ 14 - 15) و"الإتقان" (1/ 225، 307 - ط أبو الفضل) و"لطائف الإشارات لفنون القراءات" (1/ 72 - 75). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ق): "ليس له تتبع". (¬6) انظر: "المسودة" (218) و"الموافقات" (5/ 104 - بتحقيقي) و"المستصفى" (2/ 391) و"جمع الجوامع" (2/ 400) و"روضة الطالبين" (11/ 108) و"تيسير التحرير" (4/ 254) و"فواتح الرحموت" (2/ 406) و"إرشاد الفحول" (272). (¬7) سبق بطلان القول بالأغلظ والأخف والتخيير، على وجه فيه تحرير، والحمد للَّه رب العالمين.

[هل يجب العمل بفتوى المفتي؟]

يتحرَّى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ فيه سبعة مذاهب (¬1) أَرجحها السابع فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين، كما تقدم، وباللَّه التوفيق. [هل يجب العمل بفتوى المفتي؟] الفائدة الثامنة والستون: إذا استفتى فأفتاه المفتي فهل تفسير فتواه موجبة على المستفتي العمل بها بحيث يكون عاصيًا إن لم يعمل بها أو لا توجب عليه العمل؟ فيه أربعة أوجه لأصحابنا وغيرهم: أحدها: أنه لا يلزمه العمل بها إلا أن يلتزمه هو. والثاني: أنه يلزمه إذا شرع في العمل، فلا يجوز له حينئذ الترك. والثالث: أنه إن (¬2) وقع في قلبه صحة فتواه وأنها حق لزمه العمل بها. والرابع: أنه إذا (¬3) لم يجد مفتيًا آخر لزمه الأَخذ بفتياه، فإن فرضه التقليد وتقوى اللَّه ما استطاع، وهذا هو المستطاع في حقه، وهو غاية ما يقدر عليه (¬4). وإن وجد مفتيًا آخر، فإن وافق الأول فأبلغ في لزوم العمل، وإن خالفه، فإن استبان له الحق في إحدى الجهتين لزمه العمل به، وإن لم يستبن له الصواب فهل يتوقف أو يأخذ بالأحوط أو يتخيَّر أو يأخذ بالأسهل؟ فيه وجوه تقدمت. [العمل بخط المفتي وما يشبه ذلك] الفائدة التاسعة والستون: يجوز له العمل بخط المفتي، وإن لم يسمع الفتوى من لفظه إذا عرف أنه خطه أو أعلمه به من يسكن إلى قوله (¬5)، ويجوز له قبول قول الرسول: إنَّ هذا خطه، وإن كان عبدًا أو امرأة أو صبيًا أو فاسقًا، كما يقبل قوله في الهدية والإذن في دخول الدار اعتمادًا على القرائن والعرف، وكذا يجوز ¬

_ (¬1) انظرها في: "صفة الفتوى" (80 - 81) و"المجموع" (1/ 92) و"المسودة" (463) و"روضة الطالبين" (11/ 105) و"البرهان" (2/ 1344) و"أصول مذهب أحمد" (700) و"المدخل إلى مذهب أحمد" (194). (¬2) في (ق): "إذا". (¬3) في (ك): "إن". (¬4) انظر: "المسودة" (463، 467، 519، 538) و"صفة الفتوى" (81 - 82) و"روضة الناظر" (385) و"المستصفى" (2/ 391) وشرح تنقيح الفصول" (ص 442) و"إرشاد الفحول" (271). (¬5) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 231 - 243) الطريق الثالث والعشرون، (ص 7 - وما بعدها).

اعتماد الرجل على ما يجده من كتابة الوقف على كتاب أو رباط أو خان أو (¬1) نحوه فيدخله وينتفع به، وكذلك (¬2) يجوز له الاعتماد على ما يجده بخط أبيه في برنامجه (¬3) أن له على فلان كذا وكذا، فيحلف على الاستحقاق (¬4)، وكذا يجوز للمرأة الاعتماد على خط الزوج أنه أبانها فلها أن تتزوّج بناء على الخط، وكذا (¬5) الوصي والوارث يعتمد على خط الموصي فينفذ ما فيه وإن لم يشهد شاهدان، وكذا إذا كتب الراوي إلى غيره حديثًا جاز له أن يعتمد عليه ويعمل به ويرويه بناء على الخط إذا تيقن ذلك كله، هذا عمل الأمة قديمًا وحديثًا من عهد نبينا (¬6) صلى اللَّه عليه [وآله] (¬7) وسلم وإلى الآن، وإن أنكره من أنكره. ومن العجب أن من أنكر ذلك وبالغ في إنكاره ليس معه فيما يفتي به [وتقضي به] (¬8) إلا مجرد كتاب قيل: إنه كتاب فلان فهو يقضي (¬9) به ويُفتي ويحل ويحرم ويقول: هكذا (¬10) في الكتاب، [واللَّه الموفق] (7). وقد كان رسول اللَّه (¬11) -صلى اللَّه عليه وسلم- يرسل كتبه إلى الملوك وإلى الأمم يدعوهم إلى الإِسلام فتقوم عليهم الحجة بكتابه (¬12)، وهذا أظهر من أن ينكر، وباللَّه التوفيق. ¬

_ (¬1) في (ك): "و". (¬2) في (ك): "وكذا". (¬3) في (ق): "تاريخه". (¬4) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 235). (¬5) في (ق): "وكذلك". (¬6) في (ق) و (ك): "نبيها". (¬7) انظر بسط حجية العمل بما في الكتاب أو ما وجد في الخلط في "المبسوط" (16/ 92) و"أدب القضاء" للسروجي (344، 349) و"شرح أدب القاضي" (3/ 105) و"الذخيرة" (10/ 90) و"مواهب الجليل" (6/ 141) و"التفريع" (2/ 247) و"تفسير القرطبي" (16/ 181 - مهم) و"الإشراف" (5/ 26 - 27 - بتحقيقي) للقاضي عبد الوهاب، وما بين المعقوفتين سقط من (ق) و (ك). (¬8) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬9) في (ق): "ويضي به". (¬10) في (ك): "كذا". (¬11) في (ك): "النبي". (¬12) منها كتابه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل بعثه دحية الكلبي؛ رواه البخاري (7) في (كتاب بدء الوحي)، ومسلم (1773) في "الجهاد": باب كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هرقل يدعوه إلى الإِسلام، من حديث أبي سفيان. وروى مسلم أيضًا (1774) من حديث أنس: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى اللَّه تعالى"، وانظر هذه الكتب مفصلة في "نصب الراية" (4/ 418 - 425).

[ما العمل إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء؟]

[ما العمل إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء؟] الفائدة السبعون: إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز، وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يُسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، وقد قال [النبي] (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا (¬2) اجتهد فأخطأ فله أجر" (¬3)، وهذا يعم ما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله وما عرف فيه أقوالا واجتهد في الصواب منها، وعلى هذا درج السلف والخلف والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث، ومن له مباشرة لفتاوى الناس يعلم (¬4) أن المنقول وإن اتسع غاية الاتساع، فإنه لا يفي بوقائع العالم جميعها (¬5)، وأنت إذا تأمَّلت الوقائع رأيت مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة، ولا يعرف فيها كلام لأئمة المذاهب [ولا لأتباعهم] (¬6). والثاني: لا يجوز له الإفتاء، ولا الحكم، بل يتوقف حتى يظفر فيها بقائل، قال الإِمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. والثالث: يجوز ذلك في مسائل الفروع لتعلقها بالعمل وشدة الحاجة إليها وسهولة خطرها, ولا يجوز في مسائل الأصول. والحق التفصيل، وأن ذلك يجوز -بل يستحب أو يجب- عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم (¬7)، فإن عُدم الأمران لم يجز، وإن وجد أحدهما دون الآخر احتمل الجواز والمنع والتفصيل فيجوز للحاجة دون عدمها، واللَّه [سبحانه] (¬8) أعلم. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬2) في المطبوع و (ت): "وإن". (¬3) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة): باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ (13/ 318/ رقم 7352)، ومسلم في "الصحيح" (كتاب الأقضية): باب أجر الحاكم إذا اجتهد (3/ 1342/ رقم 1716) عن عمرو بن العاص. (¬4) في (ق): "علم". (¬5) في المطبوع و (ت): "جميعًا". (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ق). (¬7) في (ق): "وأهلية الحاكم والمفتي". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع و (ت) و (ك)، وقال (ق): "ويتلوه فصل" وتنتهي هذه النسخة بهذا. وانظر لما مضى "الإنصاف" (11/ 189).

[من فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم]

فصل ولنختم (¬1) الكتاب بذكر فصول يسير قدرها عظيم أمرها من فتاوى إمام المفتين (¬2)، ورسول رب العالمين، تكون روحًا لهذا الكتاب ورقمًا على جِلَّة (¬3) هذا التأليف. [فتاوى في مسائل من العقيدة] فصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل عن رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى فقال: "هل تُضارُّون (¬4) في رؤية الشمس صحوًا في الظهيرة ليس دونها سحاب"؟ قالوا: لا، فقال: "هل تُضارُّون (4) في رؤية القمر البدر صحوًا ليس دونه سحاب؟ "، قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك"؛ متفق عليه (¬5). وسئل: كيف (¬6) نراه ونحن ملء الأرض، وهو أحد؟ فقال: "أنبئكم عن ذلك في آلاء اللَّه: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه" (¬7)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) في (ك): "ونختم". (¬2) قال (د): "في نسخة: "إمام المتقين"". (¬3) في (ك): "وجملة". (¬4) قال (د): "في نسخة: "تضامون" وكلاهما صحيح"، وفي (ك): "فهل تضارون". (¬5) أخرجه البخاري في "صحيحه" (كتاب التوحيد) باب قول اللَّه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (7439)، ومسلم (183) في "الإيمان": باب معرفة طريق الرؤية، من حديث أبي سعيد الخدري واللفظ له. وقال (و): ". . . وقد ثبتت رؤية اللَّه تعالى في الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن نفيها ولا دفعها، عن ابن كثير في "التفسير"". (¬6) في (ك): "هل". (¬7) هو جزء من حديث طويل جدًا: رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائده على المسند" (4/ 13)، وفي "السنة" (2/ 485)، وابن أبي عاصم في "السنة" (636)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 560)، والطبراني في "المعجم الكبير" (19/ 477) وأبو الحسن القطان في "الطوالات" -كما في "التدوين" (2/ 232) للرافعي- وابن قانع في "معجم الصحابة" (13/ 4528 رقم 1687 - مختصرًا) وابن خزيمة في "التوحيد" (ص 186) من طريق عبد الرحمن بن عياش الأنصاري عن دلهم بن الأسود بن عبد اللَّه بن حاجب بن عامر بن المنتفق العقيلي عن جده (في بعضها عن أبيه) عن عمه لقيط بن عامر بن المنتفق قال دلهم: وحدثني أيضًا أبي الأسود بن عبد اللَّه عن عاصم بن لقيط بن عامر فذكر حديثًا طويلًا جدًا. =

وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل عن مسألة القدر، وما يعمل الناس فيه، أمرٌ قد قُضي وفرغ منه أم أمر يستأنف؟ فقال: بل أمر قد قضي وفرغ منه، فسئل حينئذ: ففيم العمل؟ فأجاب بقوله: "اعملوا فكل ميسرٌ لما خلق له: أما من كان من أهل السعادة فسييسَّر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فييسر (¬1) لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] إلى آخر الآيتين (¬2)، ذكره مسلم. ¬

_ = وروى هذا الجزء المختصر: ابن أبي عاصم (524) بالإسناد نفسه، والحديث بسياقه المطول ذكره المؤلف -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (3/ 677) وصححه بإسلوب غريب بعيد عن منهج أهل الحديث فقال: "هذا حديث كبير تنادي جلالته وفخامته وعظمته عن أنه قد خرج من مشكاة النبوة، ورواه أئمة أهل السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد، ولم يطعن أحد منهم فيه، ولا في أحد من رواته". ثم ذكر جماعة رووه عن غير من ذكرنا -هم: أبو أحمد العس الذي "المعرفة" وأبو الشيخ في "السنة" وابن منده وابن مردويه وأبو نعيم، وهو ليس في "معرفة الصحابة" لأبي نعيم. ثم ذكر كلامًا عن ابن منده آخره: "ولا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة". أقول: ما هكذا تصحح أو تضعف الأحاديث، وكم في كتب من ذَكَر من الأئمة الذين رووا الحديث أحاديث ضعيفة بل واهية جدًا وموضوعة! وماذا على من أنكر هذا الحديث لأنه مسلسل بالمجاهيل؟ ولماذا يوصف بأنه جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة؟ وقال عنه الذهبي في "العلو للعلي العظيم" (1/ 276) "يروى عن أبي رزين حديث طويل بإسنادين مدنيين، لكنه ضعيف". وقال العلامة الألباني -رحمه اللَّه- في تعليقه على "السنة": إسناده ضعيف؛ دلهم بن الأسود وجده، قال الذهبي: لا يعرفان، ومثلهما عبد الرحمن بن عياش لم يوثقه غير ابن حبان وفي "التقريب": مقبول، وأبو دلهم كذلك مجهول. (تنبيه): عزى المصنف الحديث لأحمد!! وكذا وقع في مطبوع "المسند"!! وهو خطأ، والصواب أنه من زيادات عبد اللَّه، كذا وقع في "الزاد" للمصنف (3/ 673) و"فتح الباري" (11/ 466 - 467) و"إتحاف المهرة" (13/ 75 رقم 16444) و"مجمع الزوائد" (10/ 338 - 340) والسيوطي في "الدر المنثور" (8/ 356). (¬1) في (ك): "فسييسر". (¬2) هو بهذا اللفظ ليس في "صحيح مسلم"، فقد رواه مسلم عن جمع من الصحابة منهم علي بن أبي طالب (2647)، وجابر (2648)، وعمران بن حصين (2649 و 2650)، وبعضها في "صحيح البخاري" أيضًا، وليست بهذا السياق.

وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سُئل عما يكتمه الناس في ضمائرهم هل يعلمه اللَّه؟ فقال: "نعم"، ذكره مسلم (¬1). وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل: أين كان ربُّنا قبل [أن تُخلق] (¬2) السموات والأرض؟ فلم ينكر على السائل، وقال: "كان في عماء (¬3) ما فوقه هواء، وما تحته هواء" (¬4)، ذكره أحمد. وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل عن مبدأ تخليق هذا العالم؟ فأجاب بأن قال: "كان اللَّه، ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء" (¬5)، ذكره البخاري. وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل: أين يكون الناس يوم تُبَدَّل الأرض؟ فقال: "على ¬

_ (¬1) رقم (974) بعد (103) في "الجنائز": باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، من حديث عائشة. (¬2) في (ك): "خلق". (¬3) قال (و): "عتقاء: السحاب، قال أبو عبيد: لا يُدرى كيف كان ذلك العلماء، وفي رواية: "كان في عما، بالقصر، ومعناه: ليست معه شيء. . . ". (¬4) رواه أحمد (4/ 11 و 12)، وأبو داود الطيالسي (1093)، والترمذي (3119) في "التفسير": باب ومن سورة هود، وابن ماجه (182) في (المقدمة): باب فيما أنكرت الجهمية، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (1/ 245 و 246)، وابن أبي عاصم في "السنة" (612)، والطبري في "تفسيره" (17980)، و"التاريخ" (1/ 37) ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في "العرش" (7)، وأبو الشيخ في "العظمة" (1/ 364)، وابن حبان (6141)، والطبراني في "الكبير" (19/ 468) -ومن طريقه الهمداني في "فتيا في الاعتقاد" (رقم 18) وابن أبي زمنين في "السنة" (رقم 31) والحاكم (4/ 560) وابن خزيمة في (الفتن) -كما في "إتحاف المهرة" (13/ 79 رقم 16447) - وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (55) وابن بطة في "الإبانة" الكتاب الثالث (3/ 170 رقم 125)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (801 و 864) والذهبي في "العلو" (رقم 13) من طرق عن حماد بن سلمة عن يعلي بن عطاء عن وكيع بن عُدُس عن أبي رَزِين العقيلي به. قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ. أقول: قال البيهقي: هذا حديث تفرد به يعلي بن عطاء عن وكيع بن حدس ويقال: ابن عُدس، ولا نعلم لوكيع بن عدس هذا راويًا غير يعلي بن عطاء. ولذلك قال الذهبي في وكيع: "لا يعرف"، فأنى له أن يكون حسنًا! وقد ضعّفه شيخنا العلامة الألباني في تعليقه على "السنة" بـ (وكيع) هذا. (¬5) رواه البخاري في "صحيحه" في مواطن منها: (3191) في كتاب (بدء الخلق): أوله، و (7418) في (التوحيد): باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} وهو رب العرش العظيم.

الصراط"، وفي لفظ آخر: "هم في الظلمة دون الجسر"، فسئل: من أول الناس إجازة؟ فقال: "فقراء المهاجرين" (¬1)، ذكره مسلم، ولا تنافي بين الجوابين، فإن الظلمة أول الصراط، فهناك مبدأ التبديل وتمامه وهم على الصراط. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] , فقال: "ذلك العرض" (¬2)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أول طعام يأكله أهل الجنة؟ فقال: "زيادة كبد الحوت"، فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما غذاؤهم على أثره؟ فقال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها"، فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما شرابهم عليه [فيها؟ فقال] (¬3): "من عين [فيها] (¬4) تُسمى سلسبيلًا" (¬5)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل رأيت ربك؟ فقال: "نورٌ أنَّى أَراه" (¬6)، ذكره مسلم، فذكر الجواز ونبَّه على المانع من الرؤية، وهو النور الذي هو حجاب الرب تعالى الذي لو كشفه لم يقم له شيء. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه كيف يجمعنا ربنا بعد ما تمزِّقنا الرياح والبلى والسباع؟ فقال للسائل: "أُنبئك بمثل ذلك في آلاء اللَّه، الأرض أشْرفتَ عليها، وهي مَدَرة (¬7) بَالية، فقلت: لا تحيى أبدًا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أيامًا، ثم أشرفتَ عليها وهي شَرْبةٌ واحدة ولعمر إِلهك! لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يَجمَع نباتَ الأرض" (¬8)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) اللفظ الأول وهو قوله: "على الصراط"، رواه مسلم في "صحيحه" (2791) في كتاب (صفات المنافقين): باب البعث والنشور، وصفة الأرض يوم القيامة، من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها-. وخرجته بتفصيل في تعليقي على "المجالسة" (1/ 333 - 334 رقم 41). واللفظ الثاني وهو قوله: "هم في ظلمة دون الجسر" رواه مسلم (315) في (الحيض): باب بيان صفة مني الرجل والمرأة، من حديث ثوبان. (¬2) رواه مسلم (2876) في (كتاب الجنة): باب إثبات الحساب، من حديث عائشة، وفي (ك): "ذاك العرض". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "قال". (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) هو جزء من حديث ثوبان الذي رواه مسلم (315) في (الحيض): باب بيان صفة مني الرجل والمرأة. (¬6) رواه مسلم (178) في (الإيمان): باب في قوله عليه السلام: "نور أنّى أراه". (¬7) "المدرة: البلد" (و). (¬8) هو جزء من حديث لقيط بن عامر تقدم الحديث عليه مفصلًا قريبًا، وهو ليس عند أحمد، وإنما من زيادات ابنه، كما بيّناه هناك.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه ما يفعل بنا ربُّنا إذا لقيناه؟ فقال: "تُعرضون عليه باديةً له صفحاتُكم لا يخفى عليه خافية منكم فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلَكم فلعمر إِلهك! ما يخطئ وجه واحد منكم منها قطرة فأما المسلم فتدع وجهه مثل الرَّيطةِ (¬1) البيضاء، وأما الكافر فتخطمُه بمثل الحميم الأسود" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: بم نُبصر، وقد حبس الشمس والقمر؟ فقال للسائل: بمثل بَصَرِك ساعتك هذه وذلك مع طلوع الشمس وذلك في يوم أشَرَقت فيه الأرض، ثم واجهته الجبال. فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- بم نُجزى من حسناتنا وسيئاتنا؟ فقال: الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها أو يعفو". فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما (¬3) يطلع من الجنة؟ فقال: "على أَنهار من عسل مصفَّى، وأَنهار من كأس ما بها من صداع، ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن، وفاكهة، لعمرو إِلهك! مما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة". فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أَلنا فيها أزواج؟ فقال: "الصالحات للصالحين تلذونهن (¬4) مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد" (¬5)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كيفية إتيان الوحي إليه فقال: "يأتيني أحيانًا مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليٌ فيفصمُ عني، وقد وعيتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا" (¬6)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شبه الولد بأبيه تارة وبأمه تارة؟ فقال: "إذا سبق ماء الرجل ماء ¬

_ (¬1) قال (و): "كل ملاءة ليس بلْفِقَيْن، وقيل: كل ثوب رقيق ليِّن". وقال (د): "في نسخة: "مثل الرطبة البيضاء". قلت: وانظر: "لسان العرب" (7/ 307 - دار الفكر) وتجد غريب حديث لقيط بطوله في: "غريب الحديث" (1/ 228 - 234) لابن قتيبة و"منال الطالب" (234 - 242) لابن الأثير و"سبل الهدى والرشاد" (6/ 626 - 627) و"زاد المعاد" (3/ 678 - 686). (¬2) هو جزء من حديث لقيط بن عامر أيضًا. (¬3) في المطبوع: "ماء" والصواب ما أثبتناه. (¬4) في (ك): "تلذوا بهن". (¬5) هو أيضًا جزء من حديث لقيط بن عامر المتقدم. (¬6) رواه البخاري (2) في (بدء الوحي)، و (3215) في (بدء الخلق): باب ذكر الملائكة، ومسلم (2333) في (الفضائل): باب عَرَق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في البرد وحين يأتيه الوحي.

المرأة كان الشَّبه له، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل فالشبه لها" (¬1)، متفق عليه. وأما ما رواه مسلم في "صحيحه" أنه قال: إذا على ماءُ الرجل ماءَ المرأة أذكر الرجل بإذن اللَّه (¬2)، وإذا على ماء المرأة ماء الرجل آنثَ بإذن اللَّه" (¬3)، فكان شيخنا يتوقف في كون [هذا] (¬4) اللفظ محفوظًا ويقول: المحفوظا هو اللفظ الأول والإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، وإنما هو بأمر (¬5) الرب تبارك وتعالى للملك أن يخلقه كما يشاء، ولهذا جعل مع الرزق والأجل والسعادة والشقاوة. قلت: فإن كان هذا اللفظ محفوظًا، فلا تنافي بينه وبين اللفظ الأول ويكون سبق الماء سببًا للشَّبه وعلوه على ماء الآخر سببًا للإذكار والإيناث واللَّه أعلم (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال: "هم منهم" (¬7) حديث صحيح ومراده -صلى اللَّه عليه وسلم- بكونهم منهم التبعية (¬8) في أحكام الدنيا وعدم الضمان، لا التبعية (8) في عقاب الآخرة، فإن اللَّه تعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه. ¬

_ (¬1) قريبًا من هذا: رواه البخاري وحده من حديث أنس بن مالك (3329) في (أحاديث الأنبياء): باب خلق آدم وذريته، و (3938) في "مناقب الأنصار": باب رقم (51)، و (4480) في (تفسير سورة البقرة): باب {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ}. ولفظه: "فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماءُهُ كان الشبهُ له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها". وفي "صحيح مسلم" (311) في (الحيض): باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها من حديث أم سُليم "إن ماء الرجل غليظ أبيض وماء المرأة رقيق أصفر فمن أيها علا أو سبق يكون منه الشبه". (¬2) أي ولد ذكرًا بإذن اللَّه" (و). (¬3) رقم (315) في (الحيض): باب صفة مني الرجل والمرأة، من حديث ثوبان. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) في (ك): "ما أمر". (¬6) انظر مبحث الإذكار والإيناث في "الطرق الحكمية" (ص 250 - 253)، و"مفتاح دار السعادة" (ص 287) و"تحفة المودود" (223) و"التبيان" (ص 213 - 216 مهم). وزاد فيه: "وقالت طائفة: الحديث صحيح لا مطعن في سنده ولا منافاة بينه وبين حديث عبد اللَّه بن سلام، وليست الواقعة واحدة، بل هما قضيتان، ورواية كل منهما غير رواية الأخرى، وفي حديث ثوبان قضيّة ضُبطت وحُفظت" قلت: وهذا كلام وجيه وقوي. (¬7) رواه البخاري (3012 و 3013) في (الجهاد): باب أهل الديار يبيّتون، ومسلم (1745) في (الجهاد والسير): باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد، من حديث الصعب بن جثامة. (¬8) في (ك): "التبعة".

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فقال: "إنما هو جبريل عليه السلام، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرَّتين" (¬1)، ذكره مسلم. ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31]، سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ فقال: "نعم ليكررنَّ عليكم حتى تؤدّوا إلى كل ذي حقٍّ حقَّه" فقال الزبير: واللَّه إن الأمر لشديد (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: كيف يحشر الكافر على وجهه فقال: "أَليس الذي أَمشاه في الدُّنيا على رجليه قادر أن يُمشيه في الآخرة على وجهه؟ " (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة؟ فقال: "أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحدًا: حيث يوضع الميزان حتى يعلم أيثقل ميزانه أم يخف، وحيث تتطاير الكتب حتى يعلم كتابه من يمينه أو من شماله أو من وراء ظهره، وحيث يوضع الصراط على جسر جهنم على حافتيه كلاليب وحَسَك (¬4) يحبس اللَّه به من يشاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا ينجو" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (177) في (الإيمان) باب معنى قول اللَّه عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)}، من حديث عائشة. (¬2) رواه أحمد (1/ 167)، والحميدي (60 و 62)، والترمذي (3236) في (التفسير): باب ومن سورة الزمر، والبزار (964 - البحر الزخار)، وأبو يعلى (668 و 687)، والطبري في "التفسير" (24/ 1 - 2)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 91 - 92)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 435 و 4/ 572) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عبد اللَّه بن الزبير عن الزبير به. وهذا إسناد حسنٌ، رجاله كلهم ثقات غير محمد بن عمرو فهو حسن الحديث. (¬3) رواه البخاري (4760) في (التفسير): باب قول اللَّه تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}، و (6523) في (الرقاق): باب الحشر. ومسلم (2806) في (صفات المنافقين): باب يحشر الكافر على وجهه، من حديث أنس بن مالك. (¬4) "جمع كُلَّاب -بضم الكاف وتشديد اللام-: حديدة معوجة الرأس ينشل بها الشيء أو يعلق، والحسك: نبات تعلق ثمرته بصوف الغنم، ورقه كورق الرجلة وأدق، وعند ورقه شوك صلب، ويصنع على مثال شوكه أداة للحرب من حديد أو قصب" (و). (¬5) رواه البيهقي -أظنه في "البعث والنشور" -كما في "النهاية" لابن كثير (ص 226) - من طريق يزيد بن زريع: حدثنا يونس بن عبيد عن الحسن عن عائشة فذكره. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه الرجلُ يحبُّ القوم ولَمَّا يعمل بأعمالهم؟ فقال: "المرء مع من أحب" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكوثر؟ فقال: "هو نهر أعطانيه ربي في الجنة هو أشدُّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها كأعناق الجُزر وقيل: يا رسول اللَّه إنها لناعمة قال: "آكلها أنعم منها" (¬2). ¬

_ = ورواه بلفظ أخصر قليلًا أبو داود (4755) في (السنة): باب في ذكر الميزان, ومن طريقه البيهقي من طريق يونس به. ورواه أحمد في "مسنده" (6/ 101) -مختصرًا- وابن راهويه في "المسند" (806) وابن أبي الدنيا في "الأهوال" (رقم 67) وابن جرير في التفسير (13/ 253) وأبو الليث في "بحر العلوم" (2/ 211). والآجري في "الشريعة" (ص 385 - ط الفقي) والحاكم (4/ 578) والتيمي في "الحجة" (1/ 466) من طرق عن الحسن. قال الحاكم: "هذا حديث صحيح إسناده على شرط الشيخين، لولا إرسال فيه بين الحسن وعائشة، على أنه قد صحت الروايات أن الحسن كان يدخل وهو صبي منزل عائشة وأم سلمة". أقول: الحسن البصري مدلس، وقد عنعن، ثم ينظر في سماعه من عائشة، فقد قال أحمد بن حنبل: ويُروى حكايات عن الحسن أنه سمع من عائشة وهي تقول: إن نبيكم -صلى اللَّه عليه وسلم- بريء ممن فرق دينه. وأخرجه أحمد (6/ 110) -ومن طريقه ابن ناصر الدين في "منهاج السلامة" (ص 79 - 80) - والآجري (ص 384) وأبو الليث السمرقندي في "تنبيه الغافلين" (1/ 54) من طريق يحيى بن إسحاق عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن القاسم عن عائشة رفعته قال ابن ناصر الدين عقبه: "إسناده ثقات سوى ابن لهيعة". قلت: وهو ضعيف، وانظر: "المجمع" (10/ 359). وأخرجه عبد الغني بن سعيد في "الزهد والرقائق" -كما في "منهاج السلامة" (ص 80 - 81) - والواحدي في "الوسيط" (2/ 350 - 351) عن عصام بن طليق -وهو واه- عن داود بن أبي هند عن عامر عن مسروق عن عائشة رفعته، وإسناده ضعيف جدًا. وأخرجه الفسوي في "فوائده" -كما في "منهاج السلامة" (ص 81) - والطبراني (7890) والواحدي في "الوسيط" (3/ 239 - 240) والآجرِّي في "الشريعة" (ص 385 - 386) من طريق علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي عن عائشة رفعته. قلت: علي بن يزيد الألهاني، منكر الحديث، فإسناده ضعيف جدًا، وانظر: "مجمع الزوائد" (7/ 86). (¬1) رواه البخاري (6168 و 6169) في (الأدب): باب علامة الحب في اللَّه، ومسلم (2640) في (البر والصلة): باب المرء مع من أحب، من حديث ابن مسعود. ورواه البخاري (6170)، ومسلم (2641)، من حديث أبي موسى الأشعري، ولفظ الحديثين: "الرجل يحب القوم، ولما يلحق بهم". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 220 - 221 و 236 و 237)، والترمذي (2547) في (صفة

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكثر ما يُدخل الناس النار؟ فقال: "الأَجوفان: الفم والفرج"، وعن أكثر ما يدخلهم الجنة؟ فقال: "تقوى اللَّه وحسن الخلق" (¬1). ¬

_ = الجنة): باب ما جاء في صفة طير الجنة وهناد في "الزهد" (136) وبقي بن مخلد في "ما روي في الحوض والكوثر" (رقم 30، 31) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 79، 144). وأبو نعيم في "صفة الجنة" (342)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 537) والبيهقي في "البعث والنشور" (122، 123)، والطبري في "تفسيره" (12/ 720) من طرق عن عبد اللَّه بن مسلم بن شهاب الزهري عن أنس بن مالك به. وقد وقع في بعض طرق أحمد وبقي: عبد اللَّه بن مسلم عن ابن شهاب وهو خطأ، وعبد اللَّه هذا هو أخو محمد بن مسلم بن شهاب الإِمام المعروف، وهو من الثقات أيضًا. وقد اختلفت الروايات في السائل ففي بعضها: أبو بكر وفي الأخرى: عمر. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وأصل الحديث في "صحيح مسلم" (400)، وفي الباب عن ابن عمر، خرجته في تعليقي على "الأقوال القويمة" (ص 399) للبقاعي. و"الجزر: جمع جزور: البعير ذكرًا كان أم أنثى" (و). (¬1) رواه ابن ماجه في "الزهد" (4246) باب ذكر الذنوب، والبغوي في "شرح السنة" (3498) من طرق عن ابن إدريس قال: سمعت أبي وعمي يذكران عن جدي عن أبي هريرة به. ورواه الترمذي (2004) في (البر والصلة): باب ما جاء في حسن الخلق، والبخاري في "الأدب المفرد" (294)، وابن حبان (476)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (رقم 4429)، والحاكم (4/ 324)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2756) من طرق عن ابن إدريس عن أبيه عن جده به. ورواه أحمد في "مسنده" (2/ 191 و 392 و 442)، والبخاري في "الأدب المفرد" (289)، والطيالسي (2015 - منحة المعبود)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5408 و 8007)، والبغوي في "شرح السنة" (3497) من طرق عن داود بن يزيد عم ابن إدريس عن أبيه عن أبي هريرة به. قال الترمذي: صحيح غريب، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (10/ 458 - 459) ناقلًا تصحيح الترمذي وابن حبان. أقول: ابن إدريس هو عبد اللَّه بن إدريس بن يزيد بن عبد الرحمن الأودي، هو وأبوه ثقتان. وأما جده يزيد فقد وثقه ابن حبان والعجليّ! لكن روى عنه جمع فمثلهُ حسن الحديث إن شاء اللَّه تعالى. وأما عمّه فهو داود بن يزيد، وهو ضعيف، لكنه مُتابع كما ترى. تنبيه: وقع في المطبوع من "المسند" (2/ 291) داود بن يزيد عن أبي هريرة، وهو خطأ إذ سقط منه "عن أبيه".

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المرأة تتزوج الرَّجلين والثلاثة مع من تكون منهم يوم القيامة؟ فقال: "تُخيَّر فتكون مع أحسنهم خُلُقًا" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الذنب أعظم؟ فقال: "أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "أن تَقتل ولدك خَشيةَ أن يطعَم معك". قيل: ثم ماذا؟ قال: "أن تزني (¬2) بحليلة جارك" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الأعمال أحبُّ إلى اللَّه؟ فقال: "الصلاة على وقتها" وفي لفظ: "لأول وقتها" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل اللَّه". قيل: ثم ماذا؟ قال: "بِرُّ الوالدين" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] وبين عيسى وموسى عليهما السلام ما بينهما؟ فقال: "كانوا يسمّون بأنبيائهم، وبالصالحين قبلهم" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أول أشراط الساعة؟ فقال: "نارٌ تحشر الناس من المشرق ¬

_ (¬1) هو جزء من حديث سيأتي بطوله عند المصنف قريبًا، وروى هذه القطعة منه: الطبراني في "الكبير" (23/ 870) من طريق سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن عن أمه عن أم سلمة. . . وفيه: قلت: يا رسول اللَّه المرأة منا تتزوج زوجين والثلاثة والأربعة ثم تموت فتدخل الجنة، ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال: "يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقًا"، قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 119 و 10/ 417 - 418): "رواه الطبراني: وفيه سليمان بن أبي كريمة ضعّفه أبو حاتم وابن عدي". وفي الباب عن أم حبيبة: رواه البزار (1980)، والطبراني في "الكبير" (23/ 411)، وعزاه ابن كثير في "النهاية" لأبي بكر النجاد، قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 24)؛ "وفيه عبيد بن إسحاق وهو متروك، وقد رضيه أبو حاتم، وهو أسوأ أهل الإسناد حالًا". (¬2) في (ك): "تزاني". (¬3) رواه البخاري في "صحيحه" في مواطن منها: (4477) في (التفسير): باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} و (4761) في باب {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}، ومسلم (86) في (الإيمان)؛ باب كون الشرك أقبح الذنوب، من حديث ابن مسعود، وهذا لفظ مسلم. (¬4) رواه البخاري (527) في (مواقيت الصلاة): باب فضل الصلاة لوقتها، و (2782) في (الجهاد): باب فضل الجهاد، و (5970) في (الأدب): باب البر والصلة، و (7534) في (التوحيد): باب وسمّى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصلاة عملًا، ومسلم (85) في (الإيمان): باب كون الإيمان باللَّه أفضل الأعمال، من حديث ابن مسعود. (¬5) رواه مسلم (2135) في (الآداب): باب النهي عن التكني بأبي القاسم وبيان ما يستحب من الأسماء، من حديث المغيرة بن شعبة.

إلى المغرب" (¬1). وهذه إحدى مسائل عبد اللَّه بن سلام الثلاث، والمسألة الثانية: ما أوَّل طعام يأكله أهل الجنة؟ والثالثة: سبب شبه الولد بأبيه وأمه، فولَّدها الكاذبون وجعلوها كتابًا مستقلًا سموه: "مسائل عبد اللَّه بن سلام"، وهي هذه الثلاثة في "صحيح البخاري" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإِسلام؟ فقال: "شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء (¬3) الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإيمان؟ فقال: "أَن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن "الإحسان؟ فقال: "أن تعبدَ اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] فقال: "هم الذين يصومون [ويصلون] ويتصدَّقون، ويخافون أن لا يقبل منهم" (¬7). ¬

_ (¬1) و (¬2) هما جزء من حديث رواه البخاري في قصة إسلام عبد اللَّه بن سلام في مواطن منها: (3329) في (أحاديث الأنبياء): أوله، من حديث أنس بن مالك. وأما الكتاب الكذب الذي أشار إليه "في مسائل عبد اللَّه بن سلام"، فالذي ولده وزاد عليه بواطيل وترهات: أحمد بن عبد اللَّه الجويباري الكذاب، وللإمام البيهقي جزء مفرد في بيان ذلك، وحققته عن أصلين خطيين، وهو مطبوع في المجموعة الثانية من "مجموعة أجزاء حديثية" والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬3) في (ك): "واتيان". (¬4) و (¬5) و (¬6) هي ثلاثة أسئلة في حديث جبريل للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أخرجه البخاري (50) في (الإيمان): باب سؤال جبريل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإيمان والإِسلام والإحسان وعلم الساعة، و (4777) في (التفسير): باب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، ومسلم (9) في (الإيمان): باب بيان الإيمان والإِسلام والإحسان, من حديث أبي هريرة. ورواه مسلم (8) من حديث عمر بن الخطاب. (¬7) رواه أبو يعلى (4917) من طريق جرير عن ليث عن رجل عن عائشة فذكره نحوه، وهذا إسناد ضعيف لضعف ليث وهو ابن أبي سُليم، وجهالة الرجل. ورواه الطبري (9/ 225) من طريق عبد اللَّه بن إدريس عن ليث عن مغيث عن رجل عن عائشة به. ورواه الطبري (9/ 225) من طريق جرير عن ليث هو ابن أبي سُليم، وهشيم عن العوام جميعًا عن عائشة. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية؟ فقال: إن اللَّه تعالى خلق آدم، ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خَلقتُ هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح [على] (¬1) ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول اللَّه ففيم العمل؟ فقال: "إن اللَّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار" (¬2). ¬

_ = وهذا إسناد ضعيف؛ العوام لم يسمع من عائشة. ورواه الواحدي في "الوسيط" (3/ 293) عن جرير عن ليث عن (عمرة؟) عن عائشة به. ورواه الحميدي (275)، وأحمد (6/ 159 و 206) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (17/ 145) - والترمذي (3188) في "التفسير": باب ومن سورة المؤمنين، وابن ماجه (4198) في "الزهد": باب التوقي عن العمل، والطبري (9/ 225)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (762)، والحاكم (2/ 393) والبغوي في "معالم التنزيل" (4/ 151) من طرق عن مالك بن مغول: حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن وهب عن عائشة. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي! مع أن عبد الرحمن هذا لم يدرك عائشة، قاله أبو حاتم في "المراسيل" (127). أما الترمذي فقال: وقد رُوي هذا الحديث عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نحو هذا. أقول: أخرجه الطبري (9/ 225): من طريق ابن حميد: حدثنا الحكم بن بشير: حدثنا عمر بن قيس عن عبد الرحمن بن سعيد عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قالت عائشة. . . وهذا إسناد جيد، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 898 - 899 - ورواية يحيى ورقم 1873 - رواية أبي مصعب ورقم 644 - رواية سويد)، ومن طريقه رواه أبو داود (4703) في (السنة): باب القدر، والترمذي (3075) في (التفسير): باب ومن سورة الأعراف، والنسائي في "تفسيره" (210) وأحمد (1/ 44 - 45)، وابن وهب في "القدر" (10، 11)، وابن جرير الطبري في "التفسير" (15357)، و"تاريخه" (1/ 135)، وابن حبان (6166)، واللالكائي في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة" (990)، والآجري في "الشريعة" (ص 170)، وابن أبي عاصم في "السنة" (196)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 27 و 2/ 324 - 325 و 544) وابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ 1612) والفريابي في "القدر" (رقم 27، 28) وأبو القاسم الجوهري في "مسند الموطأ" (رقم 367)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = (710) والبغوي (77) وفي "تفسيره" (2/ 211، 544) عن زيد بن أبي أنيسة قال: إن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أخبره عن مسلم بن يسار الجهني قال: إن عمر بن الخطاب فذكره. وصححه الحاكم في المواضع الثلاثة، وقد تعقبه الذهبي في الموضع الأول فقال: فيه إرسال، ووافقه في الموضعين الثاني والثالث! وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار وعمر رجلًا. أقول: هذا الرجل هو نعيم بن ربيعة، وقد رواه بذكره أبو داود (4704) وابن وهب في "القدر" (رقم 9) وابن أبي عاصم (201)، والطبري (15358)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 97)، والدارقطني في "العلل" (2/ 220) والجوهري في "مسند الموطأ" (333 - 334) ومحمد بن نصر في "الرد على ابن محمد بن الحنفية" -كما في "النكت الظراف" (8/ 113) - والضياء في المختارة" (رقم 290)، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 4 و 4 - 5) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (34/ 71، 72) من طرق عن زيد بن أبي أنيسة به. قال الدارقطني في "علله" (2/ 222): "وهذا الحديث يرويه زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مسلم بن يسار عن نعيم بن ربيعة عن عمر حدث عنه كذلك يزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وجوّد إسناده ووصله، وخالفه مالك فرواه عن زيد بن أبي أنيسة، ولم يذكر في الإسناد نعيم بن ربيعة وأرسله عن مسلم بن يسار عن عمر وحديث يزيد بن سنان متصل، وهو أولى بالصواب واللَّه أعلم. وقد تابعه عمر بن جُعثم؛ فرواه عن زيد بن أبي أنيسة كذلك قاله بقية بن الوليد عنه" مع أنه رجح في "أحاديث الموطأ" (18) الإرسال! وانظر: "الأحاديث التي خولف فيها مالك" له (ص 156 - 157 رقم 80). أقول: يزيد ضعيف، وعمر في عداد المجاهيل إذ لم يوثقه إلا ابن حبان! نعم رواه عن زيد موصولًا خالد بن أبي يزيد كما في "التمهيد" وهو من الثقات، ولم يذكره الدارقطني رحمه اللَّه. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": "الظاهر أن الإِمام مالكًا إنما أسقط ذكر نعيم بن ربيعة عمدًا لما جهل حال نعيم، ولم يعرفه، فإنه غير معروف إلا في هذا الإسناد، ولذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم، ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات ويقطع كثيرًا من الموصولات". وقال ابن عبد البر (6/ 3): "هذا الحديث منقطع الإسناد لأن مسلم بن يسار هذا لم يلق عمر بن الخطاب، وزيادة من زاد فيه: نعيم بن ربيعة ليست بحجة؛ لأن الذي لم يذكره أحفظ، وإنما تقبل الزيادة من الحافظ المتقين، وجملة القول في هذا الحديث: أنه =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام" (¬1). ¬

_ = حديث ليس إسناده بالقائم؛ لأن مسلم بن يسار، ونعيم بن ربيعة غير معروفين يحمل العلم، ولكن معنى الحديث قد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجوه كثيرة ثابتة يطول ذكرها". وقال الشيخ صالح المَقْبلي في "الأبحاث المسددة": "ولا يبعد دعوى التواتر المعنوي في الأحاديث والروايات في ذلك": أي في إخراج الذرية من ظهر آدم، وإشهادهم على أنفسهم، نقله صديق حسن خان في "فتح البيان" (3/ 406). ثم ذكر شواهد انظرها هناك، وانظرها أيضًا في "أحكام أهل الذمة" (2/ 971 - 999) و"تفسير سعيد بن منصور" (5/ 161 - 170). وتدبر هذا مع قوله سبحانه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، وقوله: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] (و). (¬1) رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" (224) وأبو داود (4341) في (الملاحم): باب الأمر والنهي، والترمذي (3068) في (التفسير): باب ومن سورة المائدة، وابن ماجه (4014) في (الفتن): باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ. . .}، وابن حبان (385)، وأبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" (524) وابن أبي الدنيا (2) وعبد الغني المقدسي (19) كلاهما في "الأمر بالمعروف" وابن نصر في "السنة" (31) والطبراني في "مسند الشاميين" (753، 754) وأبو عمرو الداني في "الفتن" (923 - 925) وابن وضاح في "البدع" (رقم 234) والطحاوي في "المشكل" (1171، 1172) والطبري في "تفسيره" (7/ 97) وابن أبي حاتم في "التفسير" (4/ 1225 رقم 6915)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 91، 92)، و"الآداب" (202) و"الاعتقاد" (ص 167)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 30)، والبغوي في "شرح السنة" (4156) والمزي في "تهذيب الكمال" (21/ 564) من طرق عن عتبة بن أبي حكيم: حدثني عمرو بن جارية اللخمي: حدثنا أبو أمية الشَّعباني قال: أتيت أبا ثعلبة الخشني. . . فذكره. وهذا إسناد فيه نظر: عتبة هذا تكلم فيه جماعة، وقال أبو داود: واللَّه الذي لا إله إلا هو إنه لمنكر الحديث. ووثقه البعض. وعمرو بن جارية ذكره ابن حبان في "الثقات"! ولم يرو عنه إلا عتبة، وأمية بن هند، وهذا في عداد المجاهيل! بل جعل البخاري عمرو بن جارية اثنين، ولم يذكر لهذا راويًا إلا عتبة فقط، وقد عرفت حال عتبة. وأبو أمية اسمه يُحمد، وقيل: عبد اللَّه بن أخامر روى عنه ثلاثة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال أبو حاتم: أدرك الجاهلية.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأدوية والرُّقى هل تردُّ من القدر شيئًا؟ فقال: "هي من القدر" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عمن يموت من أطفال المشركين؟ فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" (¬2) , ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 421)، والترمذي (2065) في (الطب): باب ما جاء في الرقى والأدوية، وابن ماجه (3437) في (الطب): باب ما أنزل اللَّه داء إلا أنزل له شفاء، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 412)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2610 و 2611)، والحاكم (4/ 199) وأبو نعيم في "معرفة "الصحابة" (5/ 2871 رقم 6754) -ووضعه في الكنى في حرف الحاء المهملة لا المعجمة- و (5/ 2819 رقم 6676) من طرق عن الزهري عن أبي خِزامة عن أبيه. وعند ابن أبي عاصم وقع: "أبو خزيمة عن أبيه". وقد اختلف في إسناد هذا الحديث: فبعضهم يقول: عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه. وقال بعضهم: عن ابن أبي خزامة، انظر: "تاريخ الدوري" (3/ 115، 127) و"توضيح المشتبه" (3/ 194). وقد رجح الإِمام أحمد وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان -كما في "العلل" لابن أبي حاتم (2/ 338) - والترمذي وابن عبد البر وغير واحد عن الزهري عن أبي خزامة عن أبيه، واسم أبيه يَعْمر، أفاده الدارقطني في "المؤتلف" (4/ 2237) وأبو نعيم. قال الترمذي: ولا نعرف لأبي خزامة عن أبيه غير هذا الحديث. أقول: فهو في عداد المجاهيل، ومع هذا قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح! ورواه عبد الرزاق (19777) عن الزهري مرسلًا. وانظر: "الإصابة" ترجمة أبي خزامة. وله شاهد من حديث حكيم بن حزام: رواه الحاكم (4/ 199) من طريق صالح بن أبي الأخضر (في المطبوع ابن الأخضر وهو خطأ): عن الزهري عن عروة عنه به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد رواه يونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث بإسناد آخر وهو المحفوظ. ثم ذكر إسناد الحديث السابق. أقول: في عبارة الحاكم أمور: أولًا: تصحيحه للحديث مع أن فيه صالحًا وهو ضعيف. ثانيًا: تصحيحه للحديث ثم ترجيحه إسناد الحديث السابق. وليس عجبًا من تصحيح الحاكم، ولكن العجب من موافقة الذهبي له. وفي الحقيقة وقع وهم في هذا الإسناد، فإن ثقات أصحاب الزهري رووه عنه عن أبي خزامة عن أبيه كما سبق، وخالفهم صالح فجعله من مسند حكيم بن حزام! وأعجب كيف فات هذا على مُحقِّقيّ "زاد المعاد" حيث نقلا تصحيح الحاكم وموافقة الذهبي! وفي الإسناد ما فيه. (¬2) رواه البخاري (1384) في (الجنائز): باب ما قيل في أولاد المشركين، و (6600) في (القدر): باب اللَّه أعلم بما كانوا عاملين، ومسلم (2659) في (القدر): باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (1383 و 6597)، ومسلم (2660)، من حديث ابن عباس.

وليس هذا [قولًا] (1) بالتوقف، كما ظنَّه بعضهم، ولا [قولًا] (¬1) بمجازاة اللَّه لهم على ما يعلمه منهم أنهم [كانوا] (¬2) عاملوه لو كانوا عاشوا، بل هو جواب فَصْل، وأن اللَّه تعالى يعلم ما هم عاملوه وسيجازيهم على معلومه فيهم بما يظهر منهم يوم القيامة لا على مجرَّد علمه، كما صرَّحت به سائر الأحاديث واتفق عليه أهل الحديث أنهم يُمتحنون يوم القيامة فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن سبأ هل هو أرض أم امرأة؟ فقال: ليس بأرض، ولا امرأة، ¬

_ (¬1) في (ك): "قولنا". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك) وحدها. (¬3) امتحان الأطفال وارد في أحاديث: أولًا: حديث أنس؛ رواه البزار (2177)، وأبو يعلى (4224) من طريق ليث عبد الوارث عن أنس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: يؤتى بأربعة يوم القيامة: بالمولود وبالمعتوه، وبمن مات في الفترة والشيخ الفاني. . . ". قال الهيثمي (7/ 216): "وفيه ليث ابن أبي سُليم وهو مدلس وبقية رجال أبي يعلى رجال الصحيح". أقول: ظن الهيثمي أن عبد الوارث هو ابن سعيد الثقة، وليس كذلك، فهو ليس من هذه الطبقة، وإنما هو عبد الوارث مولى أنس. قال أبو حاتم: شيخ، وقال الترمذي عن البخاري: منكر الحديث، وقال ابن معين: مجهول، وضعفه الدارقطني. وليث أبي سليم ضعيف كذلك ولذا قال المصنف في "طريق الهجرتين" (ص 705 - ط دار ابن كثير): هذا لم يعتمد عليه بمجرده لمكان ليث بن أبي سُليم. ثانيًا: حديث أبي سعيد الخدري؛ رواه البزار (2176)، وأبو القاسم في "الجعديات" (2126) والذهلي -كما في "طريق الهجرتين" (ص 705 - 706) - من طريق فضيل بن مروزق عن عطية العوفي عنه. قال الهيثمي (7/ 216): وفيه عطية وهو ضعيف. ثالثًا: حديث معاذ. رواه الطبراني في "الكبير" (20/ 158) وأبو نعيم (5/ 127) والحكيم في "نوادر الأصول" (87) من طريق عمرو بن واقد عن يونس بن ميسرة عن أبي إدريس عنه. قال الهيثمي (7/ 217): "وفيه عمرو بن واقد هو متروك عند البخاري وغيره، ورمي بالكذب، وقال محمد بن المبارك الصوري: كان يتبع السلطان، وكان صدوقًا، وبقية رجال الكبير رجال الصحيح". أقول: لا أدري من هذا الصوري الذي حسّن أمر عمرو، وإلا فقد تناوله أهل الجرح والتعديل، وقد ختم الذهبي في "الميزان" ترجمة عمرو هذا بعد أن ذكر له جملة من الأحاديث وقال: "هو هالك"، وقال المصنف في آخر "طريق الهجرتين" (ص 704): "وإن كان عمرو بن واقد لا يححج به، فله أصل وشواهد، والأصول تشهد له، وفي الباب أحاديث غير هذا". =

ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن (¬1) منهم ستة وتشاءم (¬2) منهم أربعة؛ فأما الذين تشاءموا: فلَخْمٌ وجَذَام وغسَّان وعَامِلة، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحِمْيرَ وكِنْدَة ومُذْحَج، وأنمار. . . فقال رجل: يا رسول اللَّه، وما أنمار؟ فقال: "الذين منهم خَثْعم وبَجِيلة" (¬3). ¬

_ = أقول: حديث معاذ هذا ضعيف جدًا، وحديث أنس قريب منه، وحديث أبي سعيد ضعيف، فلا أظنها تقوي بعضها بعضًا، ومع هذا فقد ذكر شيخنا الألباني الحديث في "السلسلة الصحيحة" (2468) واللَّه أعلم. واعلم أن الحديث قد روي بدون ذكر الأطفال، حيث ذكر بدلًا منه، "الأصم" بأسانيد أصح من التي ذكرت، فانظر "الصحيحة" (1434)، و"صحيح ابن حبان" (7357). (¬1) و (¬2) "تيامن: ذهب إلى اليمن، وتشاءم: ذهب إلى الشام" (ط). (¬3) هو جزء من حديث طويل؛ رواه مطولًا ابن أبي شيبة (12/ 362) وفي "مسنده" (2/ 225 رقم 713) والترمذي (3236) باب ومن سورة سبأ وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائد المسند" -وهو ليس في مطبوعه (1) وعزاه له ابن حجر في "أطراف المسند" (5/ 178) و"إتحاف المهرة" (12/ 651) وابن كثير في "جامع المسانيد" (10/ 270 - 271) - وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1699)، وابن جرير الطبري (10/ 360)، والطبراني في "الكبير" (18/ 836)، وأبو يعلى (6852)، ولكنه لم يسق لفظه، والرازي في "تاريخ صنعاء" (ص 143، 144) وابن شبة في "تاريخ المدينة" (1/ 550 - 551) والأزهري في "معاني القراءات" (ص 237) والسمعاني في "الأنساب" (1/ 28 - 29، 31) وابن الجوزي في "المنتظم" (1/ 249)، والمزي في "تهذيب الكمال" (23/ 175)، واختصره أبو داود (3988) في "الحروف والقراءات" مقتصرًا على الجزء المذكور هنا رووه كلهم من طريق أبي أسامة حماد بن سلمة (وعند الطبراني: أسامة، وهو خطأ): حدثني الحسن بن الحكم النخعي: حدثني أبو سَبْرة النخعي عن فروة بن مُسيك به. وتوبع حماد، رواه السمعاني في "الأنساب" (1/ 31 - 32) عن عبد اللَّه بن الأجلح الكندي عن الحسن بن الحكم به. قال الترمذي: حديث حسن غريب. وجوّد إسناد ابن كثير في تفسير سورة سبأ، أقول: أبو سبرة هذا قال ابن معين: لا أعرفه، وذكره ابن حبان في "الثقات" كعادته، ومع هذا قال الذهبي رحمه اللَّه في "الكاشف": "ثقة"، مع أنه يقول في أمثال هذا: وُثق. وهذا الجزء من الحديث، رواه البخاري في "تاريخه الكبير" (7/ 126)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1700) و (2469)، والطبراني في "الكبير" (18/ 838)، والحاكم (2/ 424) والسمعاني في "الأنساب" (1/ 29 - 30) من طريق فرج بن سعيد عن عم أبيه (وفي بعض المصادر: عمه وهو خطأ، انظر: "إتحاف المهرة" (12/ 650))، ثابت بن سعيد عن أبيه سعيد عن أبيه عن فروة بن مسيك به. = _______ (1) ثم وجدته فيه (39/ 527 - 528 رقم 24009/ 87، 89، 90 - ط مؤسسة الرسالة).

وسئل عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له" (¬1). ¬

_ = وثابت وأبوه في عداد المجاهيل. ورواه أيضًا أحمد في "المسند" (39/ 528 - 531 - ط الرسالة) -كما في "إتحاف المهرة" (12/ 650 - 651) و"أطراف المسند" (5/ 178) و"جامع المسانيد" (10/ 270) لابن كثير، وهو ليس في مطبوعه (1) -وابن قانع في "معجم "الصحابة" (12/ 4284 رقم 1544) وأبو نعيم في "معرفة "الصحابة" (4/ 2287 رقم 5656) و"أخبار أصبهان" (1/ 202) والطبراني (18/ 834 و 835)، وابن جرير الطبري (10/ 360) من طرق عن فروة بن مسيك مما يقوي أمر هذا الحديث. وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه أحمد (1/ 316)، والحاكم (2/ 423)، وابن عدي (4/ 1470)، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وحسّن إسناده الحافظ ابن كثير في "تفسيره"، وحسن ابن عبد البر في "الاستيعاب" (3/ 1261) الحديث. (¬1) ورد من حديث أبي الدرداء وعبادة وأبي هريرة، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص. أما حديث أبي الدرداء؛ فقد رواه أحمد (6/ 445، 447)، وسعيد بن منصور في "السنن" (1067) وابن أبي حاتم في "التفسير" (6/ 1965 رقم 10459) وابن أبي شيبة (11/ 51) وفي "مسنده" (1/ 42 - 43 رقم 26)، والطبري (6/ 577 - 578 و 579)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2180)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4751) من طرق عن شعبة وسفيان بن عيينة ووكيع وأبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح ذكوان عن عطاء بن يسار عن شيخ من أهل مصر عنه. وخالفهم جرير؛ فرواه عن الأعمش عن أبي صالح عن عطاء عن أبي الدرداء بإسقاط الرجل. أخرجه الطبري (6/ 579). ورواية الجماعة أولى؛ لأنه قد رواه أيضًا غير الأعمش عن أبي صالح بإثبات الرجل كان أهل مصر، فقد رواه أحمد (6/ 447) والحميدي (391) والفسوي (2/ 699)، والطبري (6/ 579)، والترمذي بعد (3115) في "التفسير" باب ومن سورة يونس، والحاكم (4/ 391)، والبيهقي (4752) من طريق ابن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح به. ورواه أحمد (6/ 447) وسعيد بن منصور (1066) والترمذي (2278 و 3115)، والطبري (6/ 578) وابن أبي حاتم في "التفسير" (6/ 1965 رقم 10460)، والبيهقي (4752) من طريق ابن عيينة عن محمد بن المنكدر عن عطاء يخبر عن رجل من أهل مصر قال سألت أبا الدرداء به. وهذه أسانيد رواتها من الثقات الأثبات تبين أن هناك رجلًا مبهمًا بين عطاء بن يسار وأبي الدرداء، وعلقه ابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 88 - 89 رقم 1760) عن الأعمش وسأل أباه عن الشيخ الذي من أهل مصر فقال: "لا يعرف". = _______ (1) ثم وجدته في طبعة مؤسسة الرسالة (39/ 528 - 531).

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقد خالف جميع من ذكرنا (الأعمشَ وعبد العزيز بن رفيع وابن المنكدر) عاصمُ بن بهدلة؛ فرواه عن أبي صالح قال: سمعت أبا الدرداء فذكره. أخرجه ابن أبي شيبة (11/ 52) وابن جرير (6/ 580) من طريق حجاج بن منهال عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة به. أقول: في هذا السند وَهْمٌ ولا بد، وذلك لأن الثقال -كما قلت- رووه عن أبي صالح وذكروا بينه وبين أبي الدرداء واسطتين وهنا رواه عاصم -وهو صاحب أوهام معروفة وحديثه لا يزيد عن الحسن- فجعله عن أبي صالح عن أبي الدرداء بلا واسطة، فأسقط الواسطتين فهذا لا شك وهم، ثم بالنظر إلى وفاة أبي الدرداء الذي توفي في خلافة عثمان، وقيل بعد ذلك، كما في "التقريب"، ووفاة أبي صالح سنة (101) يظهر أن في سماعه منه نظرًا، وبعد أن كتبت هذا رأيت الحافظ ابن حجر في "الفتح" (11/ 135) يقول: وفي سماع أبي صالح من أبي الدرداء نظر، فتأكد ما عندي والحمد للَّه على توفيفه. ومما يؤكد أيضًا وجود الوهم في تصريح أبي صالح بالسماع من أبي الدرداء أن الترمذي روى الحديث (3116) من طريق أحمد بن عبدة الضبي عن حماد بن زيد عن عاصم عن أبي صالح عن أبي الدرداء، ورواه ابن جرير من طريق أبي بكر بن عياش عن عاصم به، دون ذكر السماع. ولو فرضنا أن أبا صالح سمع من أبي الدرداء، فإن رواية عاصم بن بهدلة وهم لا شك فيها لمخالفته أهل الثقة والإتقان، إذ إن هؤلاء الثلاثة الذين ذكرت كل واحد منهم أوثق من عاصم بدرجات! وقد اغتر بظاهر سند ابن جرير المعلِّق على "مشكل الآثار" (5/ 421) وشيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (رقم 1786) فحسّنا إسناده، وقد عرفت ما فيه. وعزاه الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 133) إلى الطيالسي وابن راهويه وأبي يعلى والطبراني، وعزاه في "الدر المنثور" (4/ 374) إلى الحكيم في "نوادر الأصول" وابن المنذر وأبي الشيخ وابن مردويه. وأما حديث عبادة بن الصامت؛ فرواه أحمد (5/ 315، 321، 325)، وابن أبي شيبة في "مسنده" (ق 98/ ب) وأبو داود الطيالسي (1955)، والدارمي (2/ 123)، والترمذي (2280) في (الرؤيا): باب قوله: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}، وابن ماجه (3898)، والطبري (6/ 577 و 578 و 579 و 580) والشاشي (1169، 1216، 1217) وابن عدي (4/ 1532) والواحدي في "الوسيط" (2/ 553)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (4753)، والحاكم (2/ 340 و 4/ 391)، من طرق عنه، وفي بعض أسانيده اختلاف. وعزاه في "الدر المنثور" (4/ 374) أيضًا إلى الحكيم الترمذي وابن المنذر والطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه. وأما حديث أبي هريرة؛ فرواه ابن جرير الطبري (6/ 578) من طريق عمار بن محمد =

وسئل عن أفضل الرقاب، يعني في العتق، فقال: "أَنفسُها عند أهلها، وأغلاها ثمنًا" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: عن أفضل الجهاد، فقال: "من عُقِرَ جواده وأُريق دمه" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: عن أفضل الصدقة، فقال: "أَن تتصدق، وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغنى" (¬3). ¬

_ = عن الأعمش عن أبي صالح عنه، وهذا إسناد على شرط مسلم. وأما حديث عبد اللَّه بن عمرو؛ فرواه أحمد (2/ 219 - 220) من طريق حسن الأشيب عن أبي لنهيعة عن دَرَّاج عن عبد الرحمن بن جبير عنه. قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 36): وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن وفيه ضعف. أقول: وابن لهيعة توبع، فقد تابعه عمرو بن الحارث به. أخرجه ابن جرير (6/ 581) والواحدي في "الوسيط" (2/ 553) من طريق ابن وهب عن عمرو، وهذا إسناد حَسَن في الشواهد رواته ثقات غير دَرَّاج ففيه كلام. فالحديث بهذه الطرق صحيح بلا شك، واللَّه أعلم. وروى مسلم (479) في (الصلاة): باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع من حديث ابن عباس "أيها الناس إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له" وهذا ليس فيه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل، فالاقتصار على ذكره لتدليل على مراد المصنف قصور، ولا تنس أن المقام في "فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". (¬1) رواه البخاري (2518) في (العتق): باب أي الرقاب أفضل، ومسلم (84) في (الإيمان) باب كون الإيمان باللَّه تعالى أفضل من الأعمال، من حديث أبي ذر الغفاري. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 300 و 302، 372)، والدارمي (2/ 200)، وأبو داود الطيالسي (1777)، والطبراني في "الصغير" (713)، وابن حبان (4639)، وابن أبي شيبة (4/ 563) وابن عساكر في "الأربعين في الحث على الجهاد" (رقم 38) من طريق الأعمش عن أبي سفيان -طلحة بن نافع- عن جابر به. ورواه أحمد (3/ 346 و 391)، والحميدي (1276)، وعبد بن حميد (1060) وأبو يعلى (2081) والبزار (1710 - زوائده) والطبراني في "الأوسط" (1247، 4444، ط الطحان) من طرق عن أبي الزبير عن جابر. وهذه أسانيد صحيحة. وفي الباب عن جمع من الصحابة: عبد اللَّه بن حُبْشيّ، وأبو هريرة، وابن عباس، وسعد بن أبي وقاص وغيرهم. انظر: "الجهاد" لابن المبارك (ص 87) و"الجهاد" لابن أبي عاصم (1/ 198 و 2/ 572 - 575). (¬3) رواه البخاري (1419) في (الزكاة): باب فضل صدقة الصحيح والشحيح، و (2748) في "الوصايا": باب الصدقة عند الموت، ومسلم (1032) في "الزكاة": باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح، من حديث أبي هريرة.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الكلام أفضل؟ فقال: "ما اصطفى اللَّه للملائكة، سبحان اللَّه وبحمده" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: متى وجبت لك النبوة؟ وفي لفظ: "متى كنت نبيًا؟ " فقال: "وآدم بين الروح والجسد" (¬2) هذا هو اللفظ الصحيح والعوام يروونه: "بين الماء والطين". ¬

_ (¬1) رواه مسلم في "صحيحه" (2731) في (الذكر والدعاء): باب فضل سبحان اللَّه وبحمده، من حديث أبي ذر الغفاري. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 59) و"السنة" (864)، والبخاري في "التاريخ"الكبير" (7/ 374)، وابن أبي عاصم في "السنة" (410)، والطبراني في "الكبير" (20/ 833 و 834)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (7/ 60) وابن قانع في "معجم الصحابة" (14/ 5043 رقم 1992، 1993) والطحاوي في "المشكل" (5977) وابن عدي (4/ 1486) وابن جرير في "التاريخ" (ص 569 - المنتخب) والسهمي في "تاريخ جرجان" (ص 392)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 35)، و"معرفة الصحابة" (5/ 2612 رقم 6290، 6291)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/ 84 - 85 و 2/ 129)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 608 - 609)، والبغوي، وابن السكن في "الصحابة" -كما في "الإصابة" (3/ 449) - والآجري في "الشريعة" (3/ 1405 - 1407 رقم 943، 944، 945)، من طريق منصور بن سعد، وإبراهيم بن طهمان كلاهما عن بُدَيل عن عبد اللَّه بن شقيق عن ميسرة الفجر قال: قلت: يا رسول اللَّه: متى كتبت نبيًا؟ وفي بعضها: متى كنت نبيًا؟ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قال ابن حجر في "الإصابة": "وهذا إسناد قوي؛ لكن اختلف فيه على بديل بن ميسرة" ثم ذكر أنه رواه حماد بن زيد عن بديل عن عبد اللَّه بن شقيق مرسلًا، وعزاه للبغوي. أقول: الإرسال لا يضر ما دام قد وصله منصور بن سعد، وإبراهيم بن طهمان وهما ثقتان. وله طريق آخر موصول؛ فقد رواه أحمد (4/ 66 و 5/ 379)، وابن أبي عاصم في "السنة" (411)، وفي "الآحاد والمثاني" (2918) من طريق سريج بن النعمان، وهدبة بن خالد كلاهما عن حماد بن سلمة عن خالد الحذاء عن عبد اللَّه بن شقيق عن رجل قال:. . . فذكره. وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي (8/ 223)، وصححه ابن حجر في "الإصابة". لكن رواه ابن سعد في "الطبقات" (1/ 148) و (7/ 59) والطحاوي في "المشكل" (رقم 5976) والمزي في "تهذيب الكمال" (14/ 360)، عن حماد بن سلمة عن عبد اللَّه بن شقيق عن ابن أبي الجدعاء به. =

قال شيخنا (¬1): وهذا باطل، وليس بين الماء والطين مرتبة واللفظ المعروف ما ذكرناه. ¬

_ = قال الحافظ في "الإصابة" في ترجمة ميسرة: وقد قيل إنه عبد اللَّه بن أبي الجدعاء الماضي في العبادلة وميسرة لقب. وهذا الاحتمال وارد وحينئذ يزول الخلاف، فمرة قال عبد اللَّه بن شقيق: عن رجل، ومرة عن ميسرة ومرة عن ابن أبي الجدعاء، وعلى كل حال فهو اختلاف في تسمية الصحابي، وهذا لا يضر إن شاء اللَّه. ولفظ: متى وجبت لك النبوة: رواه الترمذي (3618) في (المناقب): باب في فضل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وابن حبان في "الثقات" (1/ 47) والحاكم (2/ 609) وأبو نعيم في "الدلائل" (8/ 1) و"أخبار أصبهان"، (2/ 226) والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 83) والبيهقي في "الدلائل" (2/ 130) واللالكائي في "السنة" (1403) والآجري في "الشريعة" (رقم 946، 947)، من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير (في المطبوع: يحيى بن كثير) عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث أبي هريرة لا نعرفه إلا من هذا الوجه". أقول: وفيه عنعنة الوليد، وانظر شواهده، في "مجمع الزوائد" (8/ 223). "وكذلك كل إنسان قدر له قدره، وآدم كذلك" (و). قلت: معنى هذا الحديث، هو أن اللَّه تعالى قدّر نبوّة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- قبل خلق آدم بشرًا سويّا، وهو بيان تقدم قضاء اللَّه بذلك وليس فيه أدنى إشارة إلى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مخلوق قبل خلق آدم عليه السلام، قال الغزالي في النفخ والتسوية في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كنت أول النبيين خلقًا. . " إن المراد بالخلق التقدير دون الإيجاد، فإنه قبل أن ولدته أمه لم يكن موجودًا ولكن الغايات والكمالات سابقة في التقدير لاحقة في الوجود. . انظر "سبل الهدى والرشاد" للصالحي (1/ 91). وقال شيخ الإِسلام: "ومن قال: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نبيًا قبل أن يوحى إليه فهو كافر باتفاق المسلمين. وإنما المعنى: إن اللَّه كتب نبوته فأظهرها وأعلنها بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه". انظر "مجموع الفتاوى" (2/ 182 - 183) وقارن (18/ 369) وبتوسع (2/ 237) و"الرد على البكري" (ص 8). ومما يدل على أن هذا أشهر الروايات وأصحها جاءت بلفظ "كتبت" بدل "كنت" أما الأحاديث التي تدل على قدم خلق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فكلها باطلة لا تصح عقلًا ولا نقلًا، وإنما وضعها الخرافيون تأييدًا لعقائدهم الباطلة. (¬1) في "مجموع الفتاوى" (2/ 147، 238 و 8/ 282 و 18/ 125، 369) و"أحاديث القصاص" (رقم 29) و"مجموعة الرسائل والمسائل" (4/ 71، 72) و"الرد على البكري" (8، 9) ونقل جمع كلام ابن تيمية على هذا الحديث، وقبلوه، منهم: السيوطي في =

وذكر الإِمام أحمد في "مسنده" أن أعرابيًا سأله: يا رسول اللَّه أخبرني عن الهجرة إليك، أينما (¬1) كنتَ أم لقومٍ خاصَّة، أم إلى أَرض معلومة، أم إذا من انقطعت فسأل ثلاث مرات، ثم جلس، فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسيرًا، ثم قال: أين السائل؟ قال: ها هو ذا حاضر يا رسول اللَّه، قال: "الهجرة أَن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت في الحضر". فقام آخر فقال: يا رسول اللَّه أخبرني عن ثياب أهل الجنة، أتخلق خلقًا أم (¬2) تنسج نسجًا قال: فضحك [بعض] (¬3) القوم، فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تضحكون من جاهل يسأل عالمًا؟ " فاستلبث (¬4) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعة، ثم قال: "أين السائل عن ثياب أهل الجنة؟ " فقال: ها هو ذا يا رسول اللَّه، قال: "لا، بل تنشق عنها ثمار الجنة (¬5)، ثلاث مرات" (¬6). ¬

_ = "الدرر المنتثرة" (331) و"ذيل الموضوعات" (203) والسخاوي في "المقاصد الحسنة" (327) و"الفتاوى الحديثة" (1/ 166 - 168) والزرقاني في "شرح المواهب" (1/ 341) و"مختصر المقاصد" (775) والقاري في "المصنوع" (رقم 233) و"الأسرار المرفوعة" (رقم 693) ومرعي الكرمي في "الفوائد الموضوعة" (89) وابن عراق في "تنزيه الشريعة" (1/ 341) والعجلوني في "كشف الخفاء" (2/ 129). (¬1) في (ك): "أيما". (¬2) في (ك): "أو". (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬4) في (ك): "فأسكت". (¬5) في (ك): "ثمار أهل الجنة". (¬6) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 221 - 222) والنسائي في "الكبرى" (3/ 441) والطيالسي (2337) -ومن طريقه البزار (1750) و (3521) - وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 169) والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 112)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (355) والبيهقي في "البعث والنشور" (رقم 323) من طريق محمد بن أبي الوضاح عن العلاء بن عبد اللَّه بن رافع عن حنان بن خارجة عن عبد اللَّه بن عمرو به. قال الهيثمي: رواه أحمد والبزار وأحد إسنادي أحمد حسن. أقول: يشير إلى إسناد آخر للحديث عند أحمد يأتي الحديث عنه أما هذا الإسناد فضعيف، حنان بن خارجة هذا قال الذهبي في "الميزان" (1/ 618) لا يعرف، تفرد عنه العلاء بن عبد اللَّه بن رافع، أشار ابن القطان إلى تضعيفه للجهل بحاله". وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (4/ 34 - 36 رقم 1454) والعلاء بن عبد اللَّه بن رافع قال عنه ابن حجر: مقبول. ورواه بلفظ أخصر قليلًا أحمد في "مسنده" (2/ 203): حدثنا أبو كامل: حدثنا زياد بن عبد اللَّه بن علاثة القاص: حدثنا العلاء بن رافع عن الفرزدق بن حيان القاص قال: ألا أحدثكم حديثًا سمعته أذناي ووعاه قلبي لم أنسه بعد؟ خرجت أنا وعبد اللَّه بن حيدة في =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ وفي لفظ آخر: هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: "إي، والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مئة عذراء" (¬1)، قال الحافظ أبو عبد اللَّه المقدسي: رجال إسناده عندي على شرط الصحيح. ¬

_ = طريق الشام فمررنا بعبد اللَّه بن عمرو بن العاص. . . وذكره. أقول: هذا اختلاف على العلاء، فرواه ابن أبي الوضاح عنه عن حنان، كما في الإسناد الأول، ورواه زياد عنه عن الفرزدق كما هو هنا. والفرزدق هذا ترجمه الحسيني وقال: مجهول، أما الحافظ ابن حجر فتعقبه في "تعجيل المنفعة" وبين أن زياد بن عبد اللَّه أخطأ فيه، وإنما هو حنان بن خارجة المتقدم في الإسناد الأول، وضرب على هذا الأمثلة وبين ذلك بيانًا لا مزيد بعده. وقارنه بـ"النكت الظراف" (6/ 287) له. فالإسناد إذن واحد ومداره على حنان والعلاء وقد عرفت حالهما! ولذلك قول الهيثمي: "وأحد إسنادي أحمد حَسَنٌ" ليس بجيد. والحديث ذكره شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الضعيفة" (2383) بالإسناد الأول فقط، ثم أحال على "ضعيف أبي داود" (434). ثم وجدت للحديث شاهدًا من حديث جابر؛ رواه أبو يعلى (2046)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 170)، والطبراني في "الصغير" (120)، والبزار (3520) من طريق إسماعيل بن مجالد عن أبيه عن الشعبي عنه. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 415): وإسناد أبي يعلى والطبراني رجاله رجال الصحيح، غير مجالد بن سعيد وقد وثق. أقول الحديث ذكره الحافظ ابن حجر في "المطالب العالية" (4682) ثم نقل قول البوصيري: "في سنده مجالد بن سعيد وهو ضعيف"، وهو الذي يليق بحال مجالد. وخولف إسماعيل، فرواه نعيم بن حماد في "زوائد الزهد" (264) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 153) من طريق ابن المبارك عن مجالد عن الشعبي مرسلًا، ولعله أصوب. (¬1) رواه هناد في "الزهد" (88) -ومن طريقه أبو نعيم في "صفة الجنة" (374) - وأبو يعلى (2436) والحربي في "غريب الحديث" (1/ 266) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 269) وأبو الشيخ -كما في "حادي الأرواح" (ص 333) - والبيهقي في "البعث والنشور" (رقم 365)، من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة: حدثنا هشام بن حسان عن زيد بن أبي الحواري عن ابن عباس به بلفظ: "أنفضي إلى نسائنا". قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 416): وفيه زيد -تحرفت فيه إلى يزيد- بن أبي الحواري، وقد وثق على ضعف. أقول: زيد هو العمي جماهير أئمة الجرح والتعديل على تضعيفه وفصل المصنف الكلام عليه في "الحادي" (333) لكن له شاهد من حديث أبي هريرة. =

وسئل: أنطأ في الجنة؟ فقال: "نعم، والذي نفسي بيده دَحْمًا دحمًا فإذا قام عنها رجعت مُطهَّرةَ بِكْرًا" (¬1)، ورجال إسناده على شرط "صحيح ابن حبان". ¬

_ = رواه الطبراني في "الصغير" (رقم 795)، وفي "الأوسط" (5267 - ط الحرمين) ومن طريقه أبو نعيم في "صفة الجنة" (373)، والبزار (3525 - "زوائده")، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 207)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 317)، والمقدسي في "صفة الجنة" (ق 82/ أ) من طريق حسين الجعفي عن زائدة عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة. قال البزار: لا نعلم رواه عن هشام إلا حسين، [كذا, ولعله خطأ مطبعي لأن الراوي عن هشام هو زائدة]. أما الطبراني فقال: لم يروه عن هشام إلا زائدة تفرد به الجعفي وقال الهيثمي (10/ 417): "ورجال هذه الرواية -أي رواية البزار- رجال الصحيح غير محمد بن ثواب، ثقة". أما أبو حاتم وأبو زرعة فقد أعلا الحديث، قال ابن أبي حاتم (2/ 213): "سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه حسين الجعفي عن زائدة عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: قيل: يا رسول اللَّه! كيف نفضي إلى نسائنا -في المطبوع: شبابنا- فقالا: هذا خطأ، إنما هو هشام بن حسان عن زيد العمي عن ابن عباس. قلت لأبي: الوهم ممن هو؟ قال: من حسين". أقول: لا أدري ما وجه تخطئة حسين، فقد قال ابن عيينة: عجبت لمن مر بالكوفة فلم يُقبّل بين عيني حسين الجعفي وقال العجلي: كان صحيح الكتاب، وكان زائدة يختلف إليه في منزله يحدثه فكان أروى الناس عنه، وكان الثوري إذا رآه عانقه، وقال: هذا راهب جعفي. وقال أبو موسى هارون بن عبد اللَّه البغدادي (شيخ ابن أبي الدنيا): فقلت للحسين: إن أبا أسامة حدثنا عن هشام عن زيد بن أبي الحواري عن ابن عباس، قال (أي: حسين) هكذا حدثنا زائدة، ولم يرجع. قلت: وهذا يدلل على ضبطه وتأكده، واللَّه أعلم. والحديث ذكره شيخنا الألباني في "الصحيحة" (367)، وقال بعد أن نقل كلام المقدسي: "ورجاله عندي على شرط الصحيح"، وأقره ابن كثير في "التفسير" (4/ 292). والمصنف هنا وفي "حادي الأرواح" (ص 333، 342 - ط دار ابن كثير). قال: وهو كما قال فالسند صحيح ولا نعلم له علة. (¬1) رواه ابن حبان (7402 و 7403)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (393)، والضياء المقدسي في "صفة الجنة" (ق 83/ ب) من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن دَرَّاج عن ابن حُجَيْرة عن أبي هريرة به. قال الضياء: "ابن حجيرة اسمه عبد الرحمن، ودراج اسمه عبد الرحمن بن سمعان المصيصي: وثقه يحيى بن معين، وأخرج عنه أبو حاتم بن حبان في "صحيحه"، وكان بعض الأئمة ينكر بعض حديثه"، واللَّه أعلم. =

وفي "معجم الطبراني" أنه سئل: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: "بذكر لا يمل وشهوة لا تنقطع دَحْمًا دحمًا" (¬1). قال الجوهري (¬2): الدحْم: الدفع الشديد. ¬

_ = أقول: دَرَّاج ضعفه أحمد والنسائي وأبو حاتم والدارقطني ومشاه ابن معين، وقد ساق له ابن عدي أحاديث وقال: عامتها لا يُتابع عليها، فمثله يحتاج إلى مُتابع أو شاهد، ونصفه الأول له شاهد من حديث أبي أمامة يأتي في الذي بعده. ورواه عبد الملك بن حبيب في "وصف الفردوس" (رقم 196) حدثني أسد بن موسى عن ابن لهيعة عن ابن حجيرة به، وفيه ابن لهيعة. وأما نصفه الثاني فله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، رواه الطبراني في "المعجم الصغير" (249)، والبزار (3527)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (365) و (392)، والخطيب (6/ 53)، وابن الجوزي في "العلل" (1551) من طريق المعلي بن عبد الرحمن عن شريك عن عاصم بن سليمان الأحول عن أبي المتوكل الناجي عنه به. قال الهيثمي (10/ 417): وفيه معلى بن عبد الرحمن الواسطي وهو كذَّاب!!، فهو شاهد لا يُفرح به. (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" (7674)، ومن طريقه أبو نعيم في "صفة الجنة" (368) من طريق سليمان بن سلمة الخبائري، حدثنا بقية: حدثنا صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر عن أبي أمامة، وهذا إسناد ضعيف جدًا، سليمان بن سَلَمَة ضعيف جدًا، كذّبه بعضهم. ورواه الطبراني في "الكبير" (7721)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (368) من طريق صدقة بن عبد الملك السمين عن هاشم بن زيد عن سليم أبي يحيى عن أبي أمامة به. أقول: فيه ضعيفان صَدَقَةَ وهاشم بن زيد. وله شاهد من حديث أبي هريرة؛ رواه البزار (3524)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 267) وأبو نعيم في "صفة الجنة" (366)، والبيهقي في "البعث" (366)، والعقيلي (2/ 333) من طريق عبد الرحمن بن زياد عن عمارة بن راشد عنه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل هل يمسّ أهل الجنة أزواجهم؟ قال: "نعم بذكر لا يملّ، وفرج لا يحفى، وشهوة لا تنقطع". قال البزار: "عمارة لا نعلم حدّث عنه إلا عبد الرحمن بن زياد وعبد الرحمن كان حسن العقل، ولكنه وقع على شيوخ مجاهيل فحدث عنهم بأحاديث مناكير فضعف حديثه، وهذا مما أنكر عليه مما لم يشاركه فيه غيره". إذن علة الحديث عبد الرحمن هذا، وهو ابن زياد بن أنعم الإفريقي، وقد اضطرب فيه، فقد رواه هناد في "الزهد" (87)، والعقيلي (2/ 333) من طريقه أيضًا موقوفًا على أبي هريرة، وله شاهد أيضًا من حديث ميمونة رواه الخطابي في "غريب الحديث" (2/ 345)، وانظر ما قبله. و"حادي الأرواح" (ص 343 - 344). (¬2) في "الصحاح" (5/ 1917).

وفيه أيضًا أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أيجامع أهل الجنة؟ فقال: "دحمًا دحمًا، ولكن لا منيّ، ولا منيّة" (¬1). وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أينام أهل الجنة؟ فقال: "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون" (¬2). وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- هل في الجنة خيل؟ فقال: "إن دخَلتَ الجنة أُتيت بفرس من ياقوتة له جناحان، فحملت عليه فطار بك في الجنة حيث شئت" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" (7479)، وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 268، 363)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 884)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (367)، والبيهقي في "البعث" (367)، وأبو يعلى في "مسنده" -كما في "المطالب العالية" (4680) - من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه عن خالد بن معدان عن أبي أمامة به. وهذا إسناد ضعيف، خالد هذا وهّاه ابن معين، وضعفه أحمد والنسائي والدارقطني، وخفف أمره ابن عدي، وجعل النبلاء من الرواة عنه، أما أبو زرعة فقال: ثقة!! وله طريق آخر رواه أبو نعيم في "صفة الجنة" (369) من طرق عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة به. وعزاه المصنف في "حادي الأرواح" (344) إلى الحسن بن سفيان في "مسنده"! وعلي بن يزيد هو الألهاني ضعفه جدًا البخاري والنسائي والدارقطني، وعثمان قال ابن حجر في "التقريب": ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني. وفسر المصنف في "حادي الأرواح" (ص 344) آخر الحديث بقوله: "أي: لا إنزال ولا موت". (¬2) ورد الحديث من حديث جابر وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وقد فصل فيه الكلام شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (3/ 74 - 78 رقم 1087)، وبين -بما لا مزيد عليه- أن بعض طرقه عن جابر صحيحة. وانظر: "حادي الأرواح" (536) و"النهاية" (2/ 470 - 471) و"تفسير ابن كثير" (4/ 158). (¬3) رواه الترمذي في "سننه" (2545) في "صفة الجنة" باب ما جاء في خيل الجنة، والطبراني في "الكبير" (4075) -ومن طريقه أبو نعيم في "صفة الجنة" (423) - وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 101، 182)، من طريق واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب به. قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بالقوي ولا نعرفه من حديث أبي أيوب إلا من هذا الوجه، وأبو سورة هو ابن أخي أبي أيوب يُضعّف في الحديث ضعفه يحيى بن معين جدًا، قال: وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أبو سورة هذا منكر الحديث يروي مناكير عن أبي أيوب لا يتابع عليها، ونقله المصنف في "حادي الأرواح" (ص 366 - 367) وأقره، وانظره (ص 368) حيث أعله. =

وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل في الجنة إبل؟ فلم يقل للسائل مثل ما قال للأول، بل قال: "إنْ يُدخلك اللَّه الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك وقرَّت عينُك" (¬1). ¬

_ = أقول: وفيه واصل بن السائب أيضًا قال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال ابن عدي: أحاديث لا تشبه أحاديث الثقات، وأبو سورة لم يسمع من أبي أيوب كذلك. وله شاهد من حديث عبد الرحمن بن ساعدة، رواه الطبراني -كما في "المجمع" (10/ 413) - وابن قانع في "معجم الصحابة" (10/ 3491 رقم 1103) والدينوري في "المجالسة" (رقم 279 - بتحقيقي)، والبيهقي في "البعث والنشور" (396)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (424) وفي "معرفة الصحابة" (4/ 1829 رقم 4618) والديلمي في "الفردوس" (5/ 382 رقم 8397). قال الهيثمي: "ورواته ثقات". أقول: عبد الرحمن هذا ذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة"، وقال: وذكره الطبراني وابن قانع وغيرهما في الصحابة، ثم بيَّن أن الصواب عن عبد الرحمن بن سابط مرسلًا، وفصل القول في ترجمة (عبد الرحمن بن سابط). ثم وجدت ابن أبي حاتم قد ذكر الحديث في "علله" (2/ 215)، وقال عن أبيه: عبد الرحمن بن ساعدة لا يُعرف، ورجَّح أن الصواب عن عبد الرحمن بن سابط مرسلًا، وسيأتي تخريجه في الذي يليه. وهذا الكلام في عبد الرحمن بن ساعدة لم يذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة". ثم رواه أبو نعيم في "صفة الجنة" بعد (424) فجعل اسم الصحابي عمير بن ساعدة!! وله شاهد من حديث بريدة انظره في الذي بعده. (¬1) رواه أحمد (5/ 352) -ومن طريقه ابن الجوزي في "الحدائق" (3/ 536) - وابن أبي شيبة (13/ 107 - 108)، والطيالسي (680 أو 2838 منحة)، والترمذي (2548)، والبيهقي في "البعث والنشور" (394 و 395)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (425) و"معرفة الصحابة" (4/ 1829 رقم 4619)، والتيمي في "الترغيب" (966) وعبد الغني المقدسي في "صفة الجنة" (3/ ق 86) وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" و"الدر المنثور" (6/ 23) - وعبد بن حميد -كما في "إتحاف السادة المتقين" (10/ 548 - 549) - من طرق عن المسعودي عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه، فذكر السؤال عن الإبل والخيل. وهذا إسناد ضعيف، المسعودي كان اختلط، وقد رواه عنه عاصم بن علي، والطيالسي ويزيد بن هارون وقد سمعوا منه بعد الاختلاط كما في "الكواكب النيرات". ومما يدل على اختلاط المسعودي وعدم ضبطه أنّ الثوري روى الحديث عن علقمة فجعله عن عبد الرحمن بن سابط مرسلًا. رواه الترمذي (بعد 2548)، وعبد الرزاق في "المصنف" (6700) وابن أبي الدنيا في "صفة الجنة" (رقم 247) ونعيم بن حماد في "زوائد الزهد" (رقم 271) وابن جرير في "التفسير" (25/ 97) وعبد الملك بن حبيب في "وصف الجنة" (166) والبغوي في "شرح =

وفي "معجم الطبراني" أن أم سلمة -رضي اللَّه عنها- سألته فقالت: يا رسول اللَّه أخبرني عن قول اللَّه عز وجل: {وَحُورٌ عِينٌ} (¬1) [الواقعة: 22] قال: "حورٌ بيض، [عينٌ] (¬2) ضخام العيون، شعر الحوراء (¬3) بمنزلة جناح النسر" قلت: أخبرني عن قول اللَّه عز وجل: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23] فقال: "صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي"، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70]، قال: "خيرات الأخلاق، حسانُ الوجوه"، قلت: أخبرني عن قول اللَّه عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] قال: "رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشرة" قلت: أخبرني يا رسول اللَّه عن قوله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] قال: "هن اللواتي قُبضن في دار الدنيا عجائز رمصًا شُمطًا (¬4)، خلقهن اللَّه بعد الكبر فجعلهن [اللَّه] (5) عذارى عربًا متعشِّقات متحببات، أترابًا على ميلاد واحد" قلت: يا رسول اللَّه نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: "بل نساء الدنيا [أفضل من الحور العين] (¬5) كفضل الظهارة على البطانة" قلت: يا رسول اللَّه وبم ذاك؟ قال: "بصلاتهنّ وصيامهنّ وعبادتهنّ اللَّه تعالى، أَلبس اللَّه وجوهنَّ النور وأجسادهن الحرير، بيض الأَلوان، خضر الثياب، صفر الحُلي مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدًا، [ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كنَّا له وكان لنا"] (5)، ¬

_ = السنة" (4281) وفي "معالم التنزيل" (6/ 141) والبيهقي في "البعث والنشور" (397) وعبد بن حميد، كما في "الدر المنثور" (6/ 22)، قال الترمذي: "هذا أصح من حديث المسعودي" وأقره المصنف في "حادي الأرواح" (ص 367). إذن رجع هذا الحديث وحديث عبد الرحمن بن ساعدة السابق إلى حديث عبد الرحمن بن سابط المرسل، وإليه يوميء أيضًا كلام أبي حاتم -كما في "علل ابنه" (2/ 215)، وقال ابن حجر في "الإصابة" (4/ 307) عن مرسل ابن سابط: "وهو المحفوظ" وانظر (5/ 228) وتعليقي على "المجالسة" (2/ 150 - 153). وفي (ك): "ولدت عينك" بدل "وقرت عينك". (¬1) "تكرر ذكر الحور بهذا الاسم أربع مرات، هي في الدخان والطور والرحمن والواقعة" (و). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في (ك): "الجعداء". (¬4) "جمع رمصاء من الرمص: وسخ أبيض جامد يجتمع في موق العين، والشمطاء: التي اختلط بياض شعرها بسواده" (و). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

قلت: يا رسول اللَّه المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال: "يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقًا، فتقول: يا رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أين الناس يومئذ؟ قال: "على جسر جَهنَّم" (¬2). وسئل عن الإيمان؟ فقال: "إذا سرَّتك حسناتك وساءتك سيئاتك، فأنت مؤمن" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه الطبراني في "الكبير" (23/ 870) و"الأوسط" (3141 - ط الحرمين) مطولًا، والعقيلي (2/ 138)، والطبري (10/ 488 و 489 و 11/ 614 و 633) مقطعًا، وابن عدي في "الكامل" (3/ 112) مختصرًا، من طريق سليمان بن أبي كريمة عن هشام بن حسان عن الحسن البصري عن أمه عن أم سلمة به. قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 119): فيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي، وذكره في (10/ 417 - 418)، وضعفه بسُليمان. أقول: وقال ابن عدي: روى خمسة أحاديث منكرة مسندة في التفسير وغيره، ثم قال: وهذا الحديث منكر. وقال العقيلي: يُحدث بمناكير ولا يتابع على كثير من حديثه. وقال المصنف في "حادي الأرواح" (ص 330): "تفرد به سليمان بن أبي كريمة، ضعّفه أبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة أحاديثه مناكير، ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا، ثم ساق هذا الحديث من طريقه، وقال: لا يعرف إلا بهذا السند". (¬2) هو بهذا اللفظ في "جامع الترمذي" (3254) في (تفسير القرآن): باب ومن سورة الزمر، من حديث عائشة، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. ورواه مسلم (2791) في (صفات المنافقين): باب في البعث والنشور من حديثها أيضًا بلفظ: "على الصراط" لكن هو عنده سؤال عن آية: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ}. وفي حديث ثوبان عند مسلم (315) قال: هم في الظلمة دون الجسر. (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 215 و 252 و 256)، وعبد الرزاق (20104)، والطبراني (7539)، وابن حبان (176)، وابن منده في "الإيمان" (1088 و 1089)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (401 و 402)، والحاكم (1/ 14) من طريق معمر وهشام الدستوائي كلاهما عن يحيى بن أبي كثير عن زيد بن سَلًام عن جده عن أبي أمامة مرفوعًا به. وفيه زيادة قال: يا رسول اللَّه فما الإثم؟ قال: "إذا حال في قلبك شيء فدعه". قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. أقول: بل إسناده على شرط مسلم وحده فإن زيدًا وجدَّه أخرج لهما مسلم وحده.

وسئل عن الإثم؟ فقال: "إذا ح الذي قلبك شيء فدعه" (¬1). وسُئل عن البر والإثم؟ فقال: "البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حال في القلب، وتردد في الصدر" (¬2). وسأله عمر: هل نعمل في شيء نستأنفه (¬3) أم في شيء قد فرغ منه؟ قال: "بل في شيء قد فرغ منه، قال: ففيمَ العمل؟ قال: "يا عمر لا يُدرك ذلك إلا بالعمل"، قال: إذًا نجتهد يا رسول اللَّه (¬4). ¬

_ (¬1) هو جزء من الحديث قبله. (¬2) هو جزء من حديث وابصة بن معبد تقدم الكلام عليه مفصلًا، وقد كان التخريج هناك من أجل فقرة منه ولهذا الجزء منه شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني؛ رواه أحمد (4/ 194)، والطبراني في "الكبير" (22/ 585)، وأبو نعيم في "الحلية"، (2/ 30)، قال الهيثمي (1/ 176): رجاله ثقات. وللنواس بن سمعان حديث في السؤال عن البر والإثم، رواه مسلم (2553) في البر والصلة: باب تفسير البر والصلة، ولفظه: "البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس". (¬3) في (ك): "نأتنفه". (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 29 و 2/ 52 و 77)، والترمذي (2140) في (القدر): باب ما جاء في الشفاء والسعادة، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (275 و 276 و 277)، وابن أبي عاصم (163 و 164)، والبزار (121 - البحر الزخار)، والطيالسي (62 - منحة)، وأبو يعلى (5463)، وعبد اللَّه بن أحمد في "السنة" (رقم 855) وابن بطة في "الإبانة" (رقم 1359) وعثمان الدارمي في "الرد على الجهمية" (322 - مجموعة عقائد السلف) والفريابي في "القدر" (رقم 33، 34)، والآجري (رقم 326) من طرق عن شعبة عن عاصم بن عبيد اللَّه عن سالم عن ابن عمر عن عمر فذكره. وفي بعضها يؤمن أن الحديث من "مسند ابن عمر" لكن السائل أبوه -رضي اللَّه عنهما-. وهذا إسناد ضعيف من أجل عاصم بن عبيد اللَّه. أما الترمذي فقال: هذا حديث حسن صحيح، ووقع عنده "عاصم بن عبد اللَّه"!، وعاصم هذا توبع، تابعه عبد اللَّه بن دينار. أخرجه ابن أبي عاصم (170)، والترمذي (3121) في (تفسير القرآن): باب ومن سورة هود، من طريق سليمان بن سفيان عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. أقول: سليمان هذا ضعيف. ورواه ابن أبي عاصم (161) والفريابي في "القدر" (رقم 29)، من طريق بقية عن الزببدي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر، به. ثم رواه (162) من طريق بقية أيضًا عن الأوزاعي عن الزهري، به. =

فصل [فتاوى تتعلق بالطهارة]

وكذلك سأله سُراقة بن لمالك بن [مالك بن] (¬1) جُعْشُم فقال: يا رسول اللَّه أخبرنا عن أمرنا كأننا ننظر إليه، أبما جرت به الأقلام، وثبتت به المقادير أم بما يستأنف؟ فقال: "لا، بل بما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير"، قال: ففيم العمل إذًا؟ قال: "اعملوا فكل ميسر". قال سراقة: فلا أكون أبدًا أشدَّ اجتهادًا في العمل مني الآن (¬2). فصل [فتاوى تتعلق بالطهارة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء بماء البحر؟ فقال: "هو الطَّهورُ ماؤه والحِلُّ (¬3) ميتته" (¬4). ¬

_ = لكن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر. وقد رواه أنس بن عياض فخالف بقية فجعله عن الأوزاعي عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. أخرجه البزار (2137)، وابن حبان (108) والفريابي في "القدر" (رقم 31) والآجري (رقم 325)، وإسناده صحيح. لكن قال البزار: "رواه غير واحد عن الزهري عن سعيد أن عمر قال: لا نعلم أحدًا بسنده عن أبي هريرة إلا أنس، ورواه صالح بن أبي الأخضر عن سالم عن أبيه أن عمر. أقول: معلق صالح علقه أيضًا ابن أبي عاصم قال (166): رواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر عن عمر. وصالح ضعيف. وانظر: "العلل" للدارقطني (سؤال 112). أقول: وفي الباب عن جمع من الصحابة وبعضها في "الصحيح". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (د) و (ك)، وقال (و): "ساقطة من الأصل"، وفي (ك): "خثعم" بدل "جعشم". (¬2) هذا لفظ ابن حبان (337) وإسناده صحيح على شرط مسلم، وقد روى سؤال سراقة هذا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مسلم (2648) وابن وهب في "القدر" (رقم 18) وأحمد (3/ 304، 335) وفي "السنة" (857) والطيالسي (1/ 33 - المنحة)، وتمام في "فوائده" (رقم 1286، 1333) وابن حبان (336) والفريابي في "القدر" (رقم 32) وابن أبي عاصم في "السنة" (167)، وابن ماجه (91)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6562 و 6565 و 6566 و 6567 و 6593) واللالكائي في "السنة" (رقم 1070، 1071) والبغوي (74) والآجري في "الشريعة" (رقم 335)، بعضهم يجعله من حديث جابر، وبعضهم من حديث جابر عن سراقة. (¬3) في (ك): "الحل". (¬4) تقدم مرارًا.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء (¬1) من بئر بضاعة (¬2)؟، وهي بئر يُلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الماء يكون بالفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع؟ فقال: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" (¬4). ¬

_ (¬1) في (ك): "وضوءه". (¬2) "قدَّر أبو داود عرضها بستة أذرع" (و). (¬3) رواه أحمد (3/ 15 - 16 و 31 و 86)، وأبو داود (66 و 67) في (الطهارة): باب ما جاء في بئر بضاعة، والترمذي (66) في (الطهارة): باب ما جاء أن الماء لا ينجسه شيء، والنسائي (1/ 174) في (المياه): باب ذكر بئر بضاعة، وابن أبي شيبة (1/ 166 - 167)، وابن الجارود (47)، والدارقطني (1/ 31)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ 69) وسمويه في "بعض الثالث من فوائده" (ق 139/ أ) وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 146 - بتحقيقي)، وأبو يعلى (1304)، والطيالسي (115 - منحة)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 11 و 12). والبيهقي (1/ 4 - 5)، وفي "الخلافيات" (3/ رقم 966 - 975 بتحقيقي) والبغوي في "شرح السنة" (2/ 60، 61) من حديث أبي سعيد الخدري وقد حسنه الترمذي، وتكلم عليه الحافظ في "التلخيص" (1/ 13)، وقال: وقد صححه أحمد ويحيى بن معين وابن حزم، وانظر: "تحفة المحتاج" (1/ 137) و"المجموع" (1/ 82) و"البدر المنير" (2/ 51 - 86) و"خلاصة البدر المنير" (1/ 7) و"تنقيح التحقيق" (1/ 205 - 207) و"تحفة الطالب" (رقم 146) و"إرواء الغليل" (1/ 45) وتعليقي على "الخلافيات" (3/ 82 - 83 و 196 - 205). (¬4) رواه أحمد (2/ 3 و 27)، وابن أبي شيبة (1/ 169)، والدارمي (1/ 187)، وأبو داود (63) (64) (65) في (الطهارة): باب ما ينجس الماء، والترمذي (67)، والنسائي (1/ 46) في (الطهارة): باب التوقيت في الماء، و (1/ 175) في (المياه): باب التوقيت في الماء، وابن ماجه (517 و 518) في (الطهارة): باب مقدار الماء الذي لا ينجس, وابن الجارود (44) و (45) و (46)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 15)، وابن خزيمة (92) والدارقطني (1/ 14 و 15 و 19 و 21)، وابن حبان (1249 و 1253)، والحاكم (1/ 132 و 133 و 134)، والبيهقي (1/ 260 و 261 و 262) من حديث ابن عمر. وللحديث طرق كثيرة جدًا، استوعبها البيهقي في "الخلافيات" (3/ 146 - 178) وأطلت النفس هناك في تخريجها والكلام على رواتها، وبيّنت أن ابن عبد البر أعله في "تمهيده" (1/ 329) و"استذكاره" (2/ 102) وأن الضياء المقدسي رد عليه في جزء مفرد، ذكره ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (21/ 41 - 42). بقي بعد هذا: إن جماعة من الحفاظ قد صححوا هذا الحديث وعملوا به، منهم: الإِمام الشافعي، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، وابن دقيق العيد -كما في "طبقات الشافعية الكبرى" (9/ 245) -، والعلائي في "جزء" مفرد مطبوع، وابن حجر، والشوكاني، والمباركفوري، وشيخنا الألباني. =

وسأله أبو ثعلبة فقال: إنَّا بأرض قوم أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم، وقدورهم؟ فقال: "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء واطبخوا فيها، واشربوا" (¬1). وفي "الصحيحين": إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: "لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها ثم كلوا فيها" (¬2). ¬

_ = وقال ابن حزم في "المحلى" (1/ 151): "صحيح، ثابت، لا مغمز فيه". وقال الجورقاني في "الأباطيل" (1/ 338): "هذا حديث حسن". وقال المنذري في "مختصر السنن" (1/ 59): "هذا الإسناد صحيح موصول". وقال النووي في "المجموع" (1/ 112): "حديث حسن ثابت". وقال في "كلامه على سنن أبي داود" -كما في "البدر المنير) (2/ 96) -: "هذا الحديث حسنه الحفاظ وصححوه، ولا تقبل دعوى من ادعى اضطرابه. وصححه الرافعي، وعبد الحق الإشبيلي، وابن منده، وابن الملقن، وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (1/ 112): "أكثر أهل العلم بالحديث على أنه حديث حسن يحتج به". وصدق الخطابي حين قال في "معالم السنن" (1/ 58): "يكفي شاهد على صحة هذا الحديث أن نجوم أهل الحديث صححوه، وقالوا به، [واعتمدوه في تحديد الماء]، وهم القدوة وعليهم المعول في هذا الباب". وانظر كلام المصنف على الحديث في "تهذيب السنن" (1/ 56 - 74 و 3/ 248). (¬1) رواه عبد الرزاق (8503)، ومن طريقه أحمد (4/ 193 - 194)، وأبو داود الطيالسي (125 - منحة) والحاكم (1/ 143) من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أبي ثعلبة به. ورواه الترمذي (1564) في (السير): باب ما جاء في الانتفاع بآنية المشركين، و (1801) في (الأطعمة): باب ما جاء في الأكل في آنية الكفار، من طريق أيوب به، لكنه مختصرٌ جدًا، ثم قال بعد الموضع الأول: وقد رُوي هذا الحديث في غير هذا الوجه عن أبي ثعلبة، وأبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة، إنما رواه عن أبي أسماء عن أبي ثعلبة. أقول: وطريق أبي أسماء هذه أخرجها أحمد (4/ 195)، والترمذي (1802) والحاكم (1/ 144) (وفي مطبوعه سقط، والاعتماد على ما في "إتحاف المهرة" (14/ 46)) من طريقين عن حماد بن سلمة عن أيوب (زاد عند الترمذي وقتادة) عن أبي قلابة عنه به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وبنحو هذا اللفظ؛ رواه أبو داود (3839) في (الأطعمة): باب الأكل في آنية أهل الكتاب: حدثنا نصر بن عاصم: حدثنا محمد بن شعيب: أخبرنا عبد اللَّه بن العلاء بن زبر عن أبي عبيد اللَّه مسلم بن مِشْكم عن أبي ثعلبة. قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (1/ 75): إسناده صحيح. قال (و): ". . . الرحض: الغسل". (¬2) جزء من حديث رواه البخاري (5478) في (الذبائح): باب ما أصاب المعراض بعرضه، =

وفي "المسند"، و"السنن": أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها فقال: "إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء واطبخوا فيها" (¬1). وفي "الترمذي" سئل عن قدور المجوس؟ فقال: "أنقوها غسلًا، واطبخوا فيها" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المذْيّ؟ قال: يجزئ منه الوضوء، فقال له السائل: فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ فقال: "يكفيك أَن تأخذ كفًا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصاب منه" (¬4)، صححه الترمذي. ¬

_ = و (5488) باب ما جاء في التصيد، و (5496) باب آنية المجوس والميتة، ومسلم (1930) في (الصيد): باب الصيد بالكلاب المعلمة، من حديث أبي ثعلبة الخُشني. (¬1) رواه أحمد (2/ 184)، وأبو داود (2857) في (الصيد) باب في الصيد، والدارقطني (4/ 294)، والبيهقي (9/ 237) وفي "المعرفة" (13/ 445 رقم 18786) وابن الجوزي في "التحقيق" (10/ 231 رقم 2309)، من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أبا ثعلبة فذكره وإسناده حسن. (¬2) رواه الترمذي (1564) في (السير): باب الاتفاع بآنية المشركين، و (1801) في (الأطعمة): باب ما جاء في الأكل في آنية الكفار، من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أبي ثعلبة به، وقال: أبو قلابة لم يسمع من أبي ثعلبة، وانظر ما سبق قريبًا، فقد سبق الكلام مفصلًا على هذا الطريق ويشهد له ما قبله. (¬3) رواه البخاري (137) في (الوضوء): باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن، و (177) باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القُبل والدُّبر، و (2056) في (البيوع): باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات، ومسلم (361) في (الحيض): باب الدليل على أن من تيقن الطهارة ثم شك في الحدث فله أن يصلي بطهارته تلك، من حديث عباد بن تميم عن عمه. (¬4) رواه الترمذي (115) في (الطهارة): باب ما جاء في المذي يصيب الثوب، وأبو داود (210) في (الطهارة): باب في المذي، وابن ماجه (506) في (الطهارة)، باب الوضوء من المذي وأحمد (3/ 485)، والدارمي (1/ 184)، وابن خزيمة (291)، وابن حبان (1103)، وابن أبي شيبة (1/ 105)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1913)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 47) وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 142 رقم 696)، والطبراني في "الكبير" (5593 و 5594 و 5595) كلهم من طريق محمد بن إسحاق: حدثني سعيد بن عبيد بن السباق عن أبيه عن سهل بن حنيف. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث محمد بن إسحاق ورواه الطبراني (5589) من طريق آخر عن سهل بن حنيف بإسناد فيه الواقدي.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عمّا يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: "ذاك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك، وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة" (¬1). وسألته فاطمة بنت أبي حُبيش، فقالت: إني امرأة استحاض، فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: "لا إنَّما ذلك عِرْق وليس بحيضة، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلّي" (¬2). وسئل عنها أيضًا؟ فقال [النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): "تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 342)، وأبو داود (211) في (الطهارة): باب في المذي وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 7) والخطيب في "الموضح" (1/ 109) من طريق معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن حزام بن حكيم عن عمّه عبد اللَّه بن سعد الأنصاري به، واللفظ المذكور لفظ أبي داود، قال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 93): قال عبد الحق في "أحكامه": إسناده لا يحتج به. أقول: لا أدري لماذا لا يُحتج بإسناده، فمعاوية بن صالح وثقه غير واحد وروى له مسلم، نعم فيه بعض الكلام لكن لا ينزل عن درجة الحسن. والعلاء بن الحارث روى له مسلم أيضًا ووثقه جماعة وكان يرى القدر، وهذا لا يضر في الرواية, وذكروا أنه خلط في آخر عمره. ولم يذكروا من روى عنه قبل الاختلاط أو بعده، ويظهر أن اختلاطه لم يكن بيّنًا، وأخشى أن لا يكون أخذ منه أحد بعد الاختلاط، وحرام بن حكيم من الثقات، وثقه العجلي وابن حبان والدارقطني، وفيه رد على ابن حزم في "المحلى" (2/ 180 - 181) كما قال: "حرام بن حكيم ضعيف": ووجدت أنه مراد عبد الحق في "الأحكام الوسطى"، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 310) عقب قوله: "ولا يحتج بهذا الإسناد" قال: "كذا قال، وهو كذلك، ولكنه بقي عليه أن يبين منه موضع العلة، وهو الجهل! بحال حرام بن حكيم الدمشقي"، قلت: الصواب أنه ثقة، كما قدمناه، وانظر له: "تاريخ دمشق" (12/ 303). والحديث له شاهدان انظرهما في "نصب الراية" (1/ 93 - 94). وانظر: كلام المصنف حول المذي، وكيفية الطهارة منه في: "إغاثة اللهفان" (1/ 150)، و"تهذيب السنن" (1/ 148 - 149)، و"بدائع الفوائد" (3/ 119 - 120)، و (4/ 88). (¬2) رواه البخاري (228) في (الوضوء): باب غسل الدم، و (306) في (الحيض) باب الاستحاضة، و (320) باب إقبال المحيض وإدباره، و (325) باب إذا حاضت في شهر ثلاث حيض، و (331) باب إذا رأت المستحاضة الطهر، ومسلم (333) في (الحيض): باب المستحاضة وغسلها وصلاتها، من حديث عائشة. وانظر: "تهذيب السنن" (1/ 181 - 183). (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

تحيض فيها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء من لحوم الغنم؟ فقال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت، فلا تتوضأ" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "نعم توضأ من لحوم الإبل" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: "نعم صلوا فيها" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: "لا" (¬5). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "توضأ، ثم صلِّ" فقال معاذ: فقلت يا رسول اللَّه أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: "بل للمؤمنين عامة" (¬6). ¬

_ (¬1) هو الحديث السابق لكن زاد فيه بعض الرواة عن هشام بن عروة: "وتتوضأ عند كل صلاة". وقد زادها أبو معاوية عند البخاري (228)، والترمذي (125) في (الطهارة): باب ما جاء في المستحاضة، وحماد بن زيد عند النسائي (1/ 185 - 186) في (الحيض): باب الفرق بين دم الحيض والاستحاضة. وقال بعده: "وقد روى غير واحد هذا الحديث عن هشام بن عروة ولم يذكر فيه: "وتوضأ"، واللَّه تعالى أعلم"! ورواه أيضًا حماد بن سلمة عند الدارمي (1/ 199)، وأبو حمزة السكري عند ابن حبان (1354)، وأبو عوانة عند ابن حبان أيضًا (1355). أقول: هؤلاء خمسة من الثقات رووا الحديث بهذه الزيادة مما يجعل لها أصلًا. وانظر الكلام على هذا مفصلًا في: "الخلافيات" (3/ 442 - 454) وتعليقي عليه، و"التلخيص الحبير" (1/ 167 - 169)، و"فتح الباري" (1/ 332)، وتعليق الشيخ أحمد شاكر على "سنن الترمذي"، و"إرواء الغليل" (1/ 146). وقد ساق المصنف ما أورد على هذا الحديث من علة وتعقبها في "تهذيب السنن" (1/ 188 - 189) فراجعه. (¬2) و (¬3) و (¬4) و (¬5) كلها من حديث واحد رواه مسلم (360) في (الحيض): باب الوضوء من لحوم الإبل، من حديث جابر بن سمرة. وفي (ك) في الحديث قبل الأخير: "مبارك" بدل "مرابض" و"صل" بدل "صلوا". وانظر تصحيح المصنّف للحديث في "تهذيب السنن" (1/ 136 - 138)، و"زاد المعاد" (3/ 186) في أحكام الطب "لحم الجمل"، وهو مهم، وانظر "بدائع الفوائد" (4/ 125) وكتابي "فتح المنان" (1/ 41 - 44). (¬6) رواه أحمد (5/ 244) وعبد بن حميد (110) والترمذي (3123) في (تفسير سورة هود)، والطبري (12/ 136)، والدارقطني (1/ 134) والواحدي في "أسباب النزول" (181)، =

وسألته أم سليم فقالت: يا رسول اللَّه إن اللَّه لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نعم إذا رأت الماء". فقالت أم سلمة: أو تحتلم المرأة؟ فقال: "تربت يداك فِبمَ يُشبهها ولدها؟! " وفي لفظ: "أَن أم سليم سألت نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل" (¬1). وفي "المسند" أَن خولة بنت حكيم سألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال: "ليس عليها غسل حتى تُنزِل، كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل" (¬2). ¬

_ = والطبراني في "الكبير" (20/ 227 و 278)، وابن نصر في "تعظيم قدر الصلاة" (رقم 77، 78) والحاكم (1/ 135) والبيهقي (1/ 125) وفي "الخلافيات" (2/ 163 رقم 434)، من طرق عن عبد اللَّه بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل به. قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بمتصل عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ومعاذ بن جبل مات في خلافة عمر، وقتل عمر وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام صغير ابنُ ست سنين، وقد روى عن عمر". وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 325): "وابن أبي ليلى لم يلق معاذًا، ولا أدركه، ولا رآه". وروى شعبة هذا الحديث عن عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مُرسلًا. أقول: وهذا المرسل، رواه النسائي في "الكبرى" في (الرجم) -كما في "تحفة الإشراف" (8/ 409)، لكن وقع في المطبوع في "السنن" (7328) بإثبات معاذ! - وابن جرير (12/ 136). من طريق خالد بن الحارث عن شعبة به. وفي "الصحيح" أحاديث في الباب منها حديث ابن مسعود؛ رواه البخاري (4687) في (تفسير سورة هود)، ومسلم (2763) في (التوبة) باب قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، وفي بعض ألفاظه عند مسلم: فقال معاذ: يا رسول اللَّه، هذا لهذا خاصة أو لنا عامة؟ قال: "بل لكم عامة". وفي الباب عن أنس أيضًا عند مسلم (2764)، وأبي أمامة عنده أيضًا (2765). (¬1) اللفظ الأول؛ رواه البخاري في مواطن منها (50) (العلم): باب الحياء في العلم، ومسلم (313) في (الحيض): باب وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها من حديث أم سلمة. وأما اللفظ الثاني وهو قوله: "إن أم سلمة سألت" فقد أخرجه مسلم (311) من حديث أم سُليم نفسها. في (ك): "إذا رأت ذلك المرأة فلتغتسل". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 409) وإسحاق بن راهويه في "المسند" (رقم 2147)، وابن =

وسأله [أمير المؤمنين] (¬1) علي بن أبي طالب [كرَّم اللَّه وجهه] (1) عن المذي؟ فقال: "من المذي الوضوء، ومن المني الغسل" (¬2)، وفي لفظ: "إذا رأيت المذي فتوضأ واغسل ذكرك، وإذا رأيت فضخ الماء فاغتسل" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = ماجه (602) في (الطهارة): باب في المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، وابن أبي شيبة (1/ 102)، والطبراني في "الكبير" (24/ رقم 613)، وابن سعد في "الطبقات" (8/ 158)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3266) من طريق سفيان عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب عن خولة به. ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (1/ 389) ساكتًا عليه. قال البوصيري في "الزوائد" (1/ 138): علي بن زيد بن جدعان ضعيف، ورواه النسائي في "الصغرى" عن يوسف بن سعد عن الحجاج بن محمد عن شعبة عن عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب فذكره إلا قوله: "كما أنه ليس. . . " إلى آخره. أقول: رواه النسائي (1/ 115)، وأحمد (6/ 459)، والطبراني في "الكبير" (24/ 610)، وابن أبي عاصم (3264) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ 3308 رقم 7597) من طريق شعبة به. وعطاء الخراساني فيه كلام قال ابن حجر: صدوق يهم كثيرًا، ويرسل ويدلس، ويشهد للجزء الأول منه الحديثان المخرَّجان في الهامش السابق. وفي (ك): "ليس عليها غسل حتى تنزل كما ينزل الرجل، والرجل ليس عليه غسل حتى ينزل". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه أحمد (1/ 87 و 109 - 110 و 111 و 111 - 121 و 121 و 193)، والترمذي (114) في (الطهارة): باب ما جاء في المني والمذي، وابن ماجه (504) في (الطهارة): باب الوضوء من المذي، والبزار (629 و 630)، وأبو يعلى (314 و 457)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 46)، وابن أبي شيبة (1/ 113) ومطين في "حديثه" (ق 30 / ب) والطبراني في "الأوسط" (رقم 6009) والخطيب في "الموضح" (2/ 170) من طرق عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بن أبي طالب به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أقول: يزيد بن أبي زياد هذا ضعّفه ابن معين وابن المديني، وابن المبارك، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث كل أحاديثه ضعيفة وباطلة، وقال البخاري: منكر الحديث، ذاهب الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث. وقد روى البخاري (132)، ومسلم (303) من حديث علي قال: استحييت أن أسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المذي من أجل فاطمة فأمرت المقداد فسأله فقال: "منه الوضوء". وله شاهد من لفظه -أي حديث الباب- من حديث المقداد بن الأسود. (¬3) رواه أحمد (1/ 109 و 125 و 145)، وأبو داود (206) في (الطهارة): باب في المذي، والنسائي (1/ 111 و 112) في (الطهارة): باب الغسل من المني، والبزار (802) =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلامًا، فقال: "يغتسل". وعن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولم يجد البلل فقال: "لا غُسلَ عليه" (¬1)، ذكره أحمد. وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل (¬2)؟ وعائشة جالسة، فقال: "إني أفعل (¬3) ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل"، ذكره مسلم (¬4). وسألته أم سلمة فقالت: يا رسول اللَّه إني امرأة أشُدُّ ضفر رأسي أفأنقضه لِغسل الجنابة؟ فقال: "لا إنما يكفيك أَن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين (¬5) عليك الماء"، ذكره مسلم (¬6)، وعند أبي داود (¬7): "اغمزي (¬8) قرونك عند كل حفنة". ¬

_ = و (803)، وابن أبي شيبة (1/ 115)، والطيالسي (129 - منحة)، وابن خزيمة (20)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 46)، و"مشكل الآثار" (3/ 296 - ط الهندية) والطبراني في "الأوسط" (رقم 7453) وابن الغطريف في "جزئه" (رقم 2)، والبيهقي (1/ 167 و 169) من طريق رُكَين بن الرَّبيع الفزاري عن حُصين بن قَبيصة عن علي به. وإسناده صحيح. وفي المطبوع: "نضح" والمثبت من (ك)، وهو الصواب، وهي بالفاء والضاد والخاء المعجمتين: دفقته، ذكره المنذري، وفي "النهاية": فضخ الماء: دفقه، يريد المني، يعني: بالفاء والضاد المعجمة والخاء المعجمة، وانظر "النهاية" (3/ 453). (¬1) رواه أحمد (6/ 256)، وأبو داود (236) في (الطهارة): باب في الرجل يجد البلة في منامه -ومن طريقه البيهقي في "سننه الكبرى" (1/ 168) - والترمذي (113) في (الطهارة): باب فيمن يستيقظ فيرى بللًا، وابن ماجه (612) في (الطهارة): باب من احتلم ولم يرى بللًا، وابن أبي شيبة (1/ 100) وعبد الرزاق (974) وأبو يعلى (4694) والدارمي (1/ 195)، والدارقطني (1/ 133) من طرق عن عبد اللَّه بن عمر عن أخيه عُبيد اللَّه، عن القاسم، عن عائشة به. وهذا إسناد ضعيف لضعف عبد اللَّه بن عمر. (تنبيه) وقع في "سنن ابن ماجه" عن عبد اللَّه عن العمري عن عبيد اللَّه بن عمر، وهذا خطأ إذ إن عبد اللَّه هو العمري. (¬2) "أكسل الرجل: جامع ولم ينزل" (ط). (¬3) في (ك): "لأفعل". (¬4) رقم (350) في (الحيض): باب نسخ "الماء من الماء" من حديث عائشة، وانظر كلام المصنف في وجوب الغسل بمجرد الإيلاج وإن لم ينزل، في "بدائع الفوائد" (3/ 126). (¬5) في (ك): "تفيضِ". (¬6) رقم (330) في (الحيض): باب حكم ضفائر المغتسلة، من حديث أم سلمة. (¬7) رقم (252) في (الطهارة): باب هل المرأة تنقض شعرها عند الغسل؟ من حديثها أيضًا، وانظر: "تهذيب السنن" (1/ 165 - 169). (¬8) في (ك): "واغمزي".

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه إن لنا طريقًا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل [إذا مطرنا] (¬1)؟ فقال: أَليس بعدها طريق هي أطيبُ منها؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه. قال: "هذه بهذه" وفي لفظ: "أليس بعده ما هو أطيب منه"؟ قلت: بلى. قال: "فإن هذا يذهب بذاك" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: إنا نريد المسجد فنطأ الطريق النجسة؟ فقال: "الأرض يطهر بعضها بعضًا" (¬3)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ فقال: "تحته، ثم تقرُصُه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه" (¬4) متفق عليه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 435)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (1/ 75) وعبد الرزاق (105)، وأبو داود (384) في (الطهارة): باب في الأذى يصيب الذيل، وابن ماجه (533) في (الطهارة): باب الأرض يطهر بعضها بعضًا، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3406) وابن الجاورد في "المنتقى" (رقم 143)، والبيهقي (2/ 434) من طرق عن عبد اللَّه بن عيسى عن موسى (وفي مطبوع "مصنف عبد الرزاق" سالم!! وهو خطأ، صوابه (موسى) والخطأ من الناسخ كما ألمح إليه المحقق) ابن عبد اللَّه بن يزيد عن امرأة من بني الأشهل. به. وهذا إسناد صحيح، رجاله رجال مسلم غير المرأة هذه. وأعله بجهالة الصحابي البيهقي في "الخلافيات" (1/ 137 - بتحقيقي) والخطابي في "معالم السنن" (1/ 119)!! وجهالة الصحابي علة غير مؤثرة في صحة الحديث، قاله المنذري في "مختصر سنن أبي داود" (1/ 227) وكذا صححه ابن العربي وحسنه ابن حجر الهيثمي، أفاده شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في كتابه "جلباب المرأة المسلمة" (ص 81، 82 - ط الجديدة)، وانظر تعليقي على "الخلافيات" (1/ 136 - 137). وفي (ك): "بذلك". (¬3) رواه ابن ماجه (532)، وابن عدي (1/ 236)، ومن طريقه البيهقي (2/ 406) من طريق إسماعيل اليشكري، عن إبراهيم بن إسماعيل عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أبي هريرة به. قال ابن عدي بعد أن ساق عدة أحاديث لإبراهيم بن إسماعيل: ولم أجد له أوحش من هذه الأحاديث. . . ويكتب حديثه مع ضعفه. وقال البيهقي: إسناده ليس بالقوي. قال البوصيري (1/ 133): "إبراهيم بن إسماعيل متفق على ضعفه، والراوي [عنه] مجهول"، وللحديث طرق خرجتها في تعليقي على "الخلافيات" (رقم 8 وما بعد). وانظر "إغاثة اللهفان" (1/ 146 - 149)، و"تحفة المودود" (ص 219)، و"بدائع الفوائد" (3/ 259، 273). (¬4) رواه البخاري (227) في (الوضوء): باب غسل الدم، و (307) في (الحيض) باب غسل =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم" (¬1)، ذكره البخاري، ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- ميمونة عن شاة ماتت فألقوا إهابها؟ فقال: "هلا أخذتم مسكها؟ " فقالت: "نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به" فأرسلت إليها فسلخت مَسْكَها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرَّقت عندها (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = دم الحيض، ومسلم (291) في (الحيض): باب نجاسة الدم وكيفية غسله، من حديث أسماء بنت أبي بكر. "تنبيه" المرأة السائلة هي أسماء، كما بيّنتُه في تعليقي على "تنبيه المعلم" (رقم 186) و"الخلافيات" (رقم 1). وانظر كلام المصنف في "بدائع الفوائد" (3/ 250). (¬1) رواه البخاري (235 و 236) في (الوضوء): باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء، و (5538 و 5539 و 5540) في (الذبائح): باب إذا وقعت الفأرة في السمن الجامد أو الذائب، من حديث ميمونة، وقد وقع في إسناده اختلاف بيّنه ابن حجر في "الفتح" في الموطن الأول فانظره. (¬2) انظر كلام المصنف رحمه اللَّه في "تهذيب السنن" (5/ 336 - 341)، و"بدائع الفوائد" (3/ 257 - 258). (¬3) هو بهذا اللفظ مطولًا؛ رواه أحمد في "مسنده" (1/ 327 - 328)، وأبو يعلى (2334 و 2364)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 471)، وفي "مشكل الآثار" (3242)، وابن حبان (1280 و 1281)، والطبراني في "الكبير" (11765 و 11766)، والبيهقي (1/ 18) من طريق سماك بن عكرمة عن ابن عباس قال: ماتت شاة لِسَوْدة بنت زمعة. . . فالسائلة سَوْدة، وليست ميمونة كما قال ابن القيم هنا -رحمه اللَّه- ووقع عند الطبراني (11766): "أم الأسود" قال الطبراني: وإنما الصواب سَوْدة. أقول: وهذا إسناد فيه ضعف، رجاله كلهم ثقات لكن في رواية سماك عن عكرمة اضطراب. لكن صححه المعلّق على "المسند" و"صحيح ابن حبان"، و"مشكل الآثار"؛ لأن سماكًا مُتابع، وهذه هي متابعة سماك فانظرها: فقد رواه البخاري (6686) في (الأيمان والنذور): باب إذا حلف ألا يشرب، والنسائي (7/ 173) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 470)، والبيهقي (1/ 17) من طريق إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عكرمة عن ابن عباس عن سودة زوج =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن جلود الميتة فقال: "ذكاؤها دباغها" (¬1)، ذكره النسائي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الاستطابة؟ فقال: "أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار حجران للصفحتين وحجر للمسْرَبة" (¬2)، حديث حسن، وعند مالك مرسلًا: "أوَ لا يجد ¬

_ = النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت: ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها، ثم ما زلنا تنبذ فيه حتى صارت شنًا. ورواه أحمد (6/ 429) من طريق إسماعيل عن عكرمة عن ابن عباس عن سودة. فهذه متابعة قاصرة بلا شك. وقد رواه سماك عن عكرمة عن سودة، لم يذكر ابن عباس. أخرجه أحمد (1/ 328)، والطبراني في "الكبير" (24/ 99)، وهذا من اضطرابه. وأما حديث ميمونة فانظره في "الخلافيات" (1/ 248 - 249) وتعليقي عليه. أقول: وأحاديث الانتفاع بجلود الميتة بالدباغة ثابتة في "الصحيحين"، قال (و): ". . . والمسك: الجلد". (¬1) رواه النسائي (7/ 174) في (الفرع والعتيرة): باب جلود الميتة، وأحمد (6/ 154 و 155)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 470)، وابن حبان (1290)، والدارقطني (1/ 44) وابن جرير في "تهذيب الآثار" (رقم 1712) وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 262) وابن عبد البر (4/ 160). من طريقبن عن شريك عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود عن عائشة. ولفظه عندهم: "دباغها طهورها"، وفي بعضها: "دباغ جلود الميتة طهورها"، وشريك سيء الحفظ، ومما يدل على عدم ضبطه أنه رواه أيضًا عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة. أخرجه النسائي (7/ 174)، والدارقطني (1/ 44). وقد توبع شريك على الإسناد الثاني، فقد رواه النسائي (7/ 174)، والطحاوي (1/ 470) وابن جرير في "تهذيب الآثار" (رقم 1711) وابن المنذر في "الأوسط" (2/ 261 رقم 838) وابن الأعرابي في "معجمه" (رقم 179) من طريقين عن إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم به، وهذا إسناد رجاله ثقات. ورواه البيهقي (1/ 24 - 25) من طريق سفيان عن الأعمش به، ولفظه: "لعل دباغها يكون ذكاتها" وهذا إسناد صحيح، إلا أنه موقوف على عائشة. ورواه الطحاوي (1/ 470) وابن جرير (1745) وابن المنذر (2/ 267) من طرق عن منصور عن إبراهيم عن الأسود به. وهذا إسناد صحيح أيضًا. (تنبيه): لفظ ابن الأعرابي "زكاة الميت دباغها" كذا في مطبوعه بالزاي، ولعله تحريف عن الذال، ووجدته على العبادة -كما قلت- في طبعة ابن الجوزي (رقم 180) منه فالحمد للَّه على توفيقه. وله عن عائشة طرق أخرى انظرها في تعليقي على "الخلافيات" (1/ 219 - 220). (¬2) رواه العقيلي (1/ 161)، والدارقطني (1/ 56)، والطبراني في "الكبير" (5697)، وابن =

أحدكم ثلاثة أحجار؟ " (¬1)، ولم يزد. ¬

_ = عدي في "الكامل" (1/ 411) من طريق عتيق بن يعقوب الزبيري: حدثنا أُبيّ بن العباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده سهل بن سعد به. قال الدارقطني: إسناده حسن. وذكره العقيلي في ترجمة أبىّ بن العباس وقال: "وروى الاستنجاء بثلاثة أحجار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جماعة منهم. . . ولم يأت أحد منهم بهذا اللفظ، ولأبي أحاديث لا يتابع منها على شيء". أقول: أبيّ هذا أخرج له البخاري في "صحيحه" وضعّفه ابن معين، وقال أحمد: منكر الحديث، وقال النسائي والدولابي: ليس بالقوي، وقال ابن عدي: يكتب حديثه، وهو فرد المتون والأسانيد. قال الذهبي في "الميزان" (1/ 78): وإن لم يكن بالثبت فهو حسن الحديث! وذكره ابن حجر في "مقدمة الفتح" وقال: "له حديث واحد. . . تابعه عليه أخوه عبد المهيمن". أقول: وأخوه هذا واهٍ كما قال الذهبي! ثم في إسناده عتيق بن يعقوب الزبيري ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ونقل عن أبي زرعة قوله: بلغني أنه حفظ "الموطأ" في حياة مالك، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. قال (و) في تفسير "المَسْربة": "بفتح الراء وضمها: مجرى الحدث من الدبر". وقال (ط): "مجرى الغائط، والصفحتان: ما يحفان بالمسربة". (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 28 - رواية يحيى ورقم 71 - رواية أبي مصعب) في (الطهارة): باب جامع الوضوء -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (2/ 82 رقم 364 - بتحقيقي) - عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 230 - 231): "هكذا هذا الحديث عند جماعة رواة "الموطأ" إلا ابن القاسم في رواية سحنون، رواه عن مالك عن هشام عن أبيه عن أبي هريرة، ورواه بعض رواة ابن بُكير عن ابن بكير عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن أبي هريرة، وهذا خطأ وغلط ممن رواه عن مالك هكذا، أو عن هشام أيضًا، أو عروة. وإنما الاختلاف فيه عن هشام بن عروة: فطائفة ترويه عن هشام بن عروة عن عمرو بن خزيمة المزني عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه: "أنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: في الاستطابة ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ولا رمَّة"، منهم أبو أسامة وعبدة بن سليمان وزائدة بن نمير. ورواه ابن عيينة عن هشام بن عروة، واختلف فيه عن ابن عيينة: فرواه عبد الرزاق عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبي وجزة عن خزيمة بن ثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ورواه إبراهيم بن المنذر عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبي وجزة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. =

وسأله سُراقة عن التَّغوُّط؛ فأمره أَن يتنكَّب القبلة، ولا يستقبلها, ولا يستدبرها, ولا يستقبل الريحَ، وأن يستنجي بثلاثة أَحجار ليس فيها رجيع أو ثلاثة أعواد أو بثلاث حثيات من تراب (¬1)، ذكره الدارقطني. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء؟ فقال: "أَسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" (¬2)، ذكره أبو داود. ¬

_ = ورواه الحميدي (433) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (رقم 365) - عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا كما رواه مالك، وكذلك رواه ابن جريج عن هشام عن أبيه مرسلًا كرواية مالك سواء. [قلت: رواه عن هشام عن عروة مرسلًا: يحيى بن سعيد كما عند أحمد في "المسند" (5/ 215)]. ورواه معمر عن هشام بن عروة عن رجل من مُزينة عن أبيه عن النبي عليه السلام. والاختلاف فيه على هشام كثير، قد تقصيناه في "التمهيد" وهما حديثان عند هشام، قد أوضحنا عللهما، فمن أراد الوقوف على ذلك من جهة النقل تأمّله في "التمهيد" (22/ 308). وأمّا غير هشام فرواه أبو حازم عن مسلم بن قرظ عن عروة عن عائشة عن النّبي عليه السلام وقد ذكرنا الأسانيد بذلك في "التمهيد" (22/ 310). وأمّا ذكر أبي هريرة فلا مدخل له عند أهل العلم بالإسناد في هذا الحديث، لا من حديث مالك، ولا من حديث عروة، وقد ثبت عن أبي هريرة من رواية أبي صالح وغيره عنه عن النّبي عليه السلام "أنَّه أمر بثلاثة أحجار، ونهى عن الروث والرّمة" انتهى. وانظر "الخلافيات" (2/ 79 وما بعد). (¬1) رواه ابن عدي (6/ 2413)، والدارقطني (1/ 57) من طريق مبشر بن عبيد: حدثنا الحجاج بن أرطاة عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة به. قال ابن عدي: هذا الحديث بهذا اللفظ، وبهذا التمام لم يروه عن هشام غير الحجاج، وعنه غير مبشر. ثم قال: ومبشر هذا بيّن الأمر في الضعف. . . وعامة ما يرويه غير محفوظ. وقال الدارقطني: لم يروه غير مبشر بن عبيد وهو متروك الحديث. وقد وجدت له شاهدًا مرسلًا؛ رواه الدارقطني (1/ 57) من طريق عبد الرزاق عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن طاوس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، فذكره نحوه إلا قوله: "ولا يستقبل الريح". وهذا المرسل أسنده أحمد بن الحسن المضري، فذكره عن ابن عباس، رواه الدارقطني (1/ 57)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (541). قال الدارقطني: لم بسنده غير المضري، وهو كذاب متروك وغيره يرويه عن طاوس مرسلا ليس فيه ابن عباس، رواه ابن عيينة عن سلمة عن طاوس قوله، قال البيهقي (1/ 111): هذا هو الصحيح عن طاوس من قوله، ولا يصح وصله ولا رفعه. (¬2) رواه أبو داود (142 و 143) في "الطهارة": باب في الاستنثار، وأحمد في "مسنده" =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرو بن عَبَسة فقال: كيف الوضوء؟ قال: "أما الوضوء، فإنك إذا توضأت فغسلت كفيك، فأنقيتهما خرجت خطاياك من بين أظفارك، وأناملك، فإذا تمضمضت (¬1) واستنشقت وغسلت [به] (¬2) وجهك ويديك إلى المرفقين ومسحت رأسك وغسلت رجليك اغتسلتَ من عامة خطاياك كيوم ولدتك أمك (¬3) " ذكره النسائي. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "هكذا الوضوء ¬

_ = (4/ 211)، وعبد الرزاق (80) -ومن طريقه الطبراني (19/ 479) - وابن ماجه (407) في (الطهارة): باب المبالغة في الاستنشاق والاستنثار، والترمذي (787) في (الصوم): باب ما جاء في كراهية الاستنشاق للصائم، والنسائي (1/ 66) في (الطهارة): باب المبالغة في الاستنشاق وأحمد (4/ 32، 33) والدارمي (1/ 144 - 145) وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 80) والشافعي في "الأم" (1/ 27) وفي "المسند" (ص 15) والطيالسي (1341) والحاكم (1/ 147، 148 و 4/ 110) والدولابي في "ما جمعه من حديث الثوري" -كما في "إتحاف المهرة" (13/ 73) و"بيان الوهم والإيهام" (5/ 593) - وابن خزيمة رقم (150 و 168)، وابن حبان (1054 و 1087)، والبيهقي (1/ 76 و 7/ 303) والبغوي (1/ 415 - 416) وابن حجر في "الإصابة" (3/ 329 - 330) من طريقين عن إسماعيل بن كثير عن عاصم بن لقيط بن صَبرة عن أبيه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه ابن القطان وابن الملقن، انظر: "بيان الوهم والإيهام" (5/ 592 - 593) و"الإعلام بفوائد عمدة الأحكام" (1/ 264) و"إتحاف المهرة" (13/ 73). (¬1) في (ك): "مضمضت". (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬3) رواه النسائي (1/ 91) في (الطهارة): باب ثواب من توضأ كما أمر، أخبرنا عمرو بن منصور: حدثنا آدم بن إياس: حدثنا الليث بن سعد قال: حدثنا معاوية بن صالح قال: أخبرني أبو يحيى سُليم بن عامر، وضمرة بن حبيب، وأبو طلحة نُعيم بن زياد قالوا: سمعنا أبا أمامة الباهلي يقول سمعت عمرو بن عَبَسَة فذكره. أقول: وهذا إسناد جيد، رجاله ثقات، وفي معاوية بن صالح بن حدير كلام لا ينزل عن مرتبة الحسن، وهو بهذا اللفظ لم أجده عند غير النسائي. وروى نحوه من طرق عن عمرو بن عبسة: أحمد (4/ 386) وابن خزيمة (165) وأبو عوانة (1/ 5، 245، 386) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 37) والدارقطني (1/ 107 - 108) والحاكم (1/ 131)، وانظر شواهد للحديث عند ابن شاهين في "الترغيب" (ص 98 - 101) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 372 - 373). وقصة عمرو بن عبسة أصلها في "صحيح مسلم" (832) في (صلاة المسافرين): باب إسلام عمرو بن عبسة وفيه: فقلت: يا نبي اللَّه فالوضوء؟ حدثني عنه: فذكره، ولفظه مغاير للفظ النسائي المذكور هنا.

فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدَّى وظلم" (¬1)، ذكره أحمد. [وسأَل النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) أعرابيٌّ فقال: يا رسول اللَّه الرجل منا يكون في الصلاة فيكون منه الرُّويحة ويكون في الماء قلة؟ فقال: "إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن، فإن اللَّه لا يستحيي من الحق" (¬3)، ذكره الترمذي. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 180)، والنسائي (1/ 88) في (الطهارة): باب الاعتداء في الوضوء، وابن ماجه (422) في (الطهارة): باب ما جاء في القصد في الوضوء، وابن الجارود (75)، وابن خزيمة (174)، والبيهقي (1/ 79) من طريقين عن سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عنه جده به، وإسناده قوي. لكن رواه أبو داود (135)، وابن أبي شيبة (1/ 18)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 36)، والبيهقي (1/ 179) من طريق موسى أيضًا لكن لفظه: "فمن زاد على هذا أو نقص". ولفظة: "أو نقص" غير محفوظة، لثبوت وضوئه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة مرة، ومرتين مرتين. (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "وسأله". (¬3) رواه الترمذي (1164) في (الرضاع): باب ما جاء في كراهية إتيان النساء في أدبارهن، وأبو داود (255) في (الطهارة): باب من يحدث في الصلاة، و (1005) في (الصلاة) باب إذا أحدث في صلاته يستقبل، والنسائي في "عشرة النساء" (137 - 140)، والدارمي (1/ 260)، وأحمد -كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 273) و"إتحاف المهرة" (11/ 712 رقم 14920) و"جامع المسانيد" (6/ رقم 4702) و"أطراف المسند" (2/ ق 21)، وسقط من مطبوع المسند، ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (25/ 495) - والدارقطني (1/ 153)، وابن حبان (2237 و 4199 و 4201)، وابن أبي شيبة (3/ 363)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1679)، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 399 - بتحقيقي) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 45) وأبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" (6/ 200، 201 رقم 4187، 4189)، والبيهقي (2/ 255)، و"السنن الصغرى" (رقم 22) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ 1972 - 1973 رقم 4955)، وعبد الرزاق (20950)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 398) كلهم من طرق عن عاصم الأحول عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام عن علي بن طلق الحنفي به، وعند بعضهم مختصرًا. وتوبع عاصم، تابعه حفص بن غياث وجرير، رواه أبو نعيم في "معرفة "الصحابة" (4/ 1972 رقم 4954). ورواه بعضهم عن شعبة عن عاصم الأحول به، وسمى الصحابي (طلق بن يزيد أو يزيد بن طلق)، أخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة" (7/ 2771 رقم 839 و 15/ 5422 رقم 2225) وأبو القاسم البغوي في "معرفة الصحابة" (ق 166/ ب) وأحمد -ومن طريقه ابن الأثير في "أسد الغابة" (2/ 475) وبين ابن حجر في "الإصابة" (2/ 233)، أن هذا وهم، صوابه طلق بن علي، ونقله عن ابن أبي خيثمة. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = قال الترمذي: "حديث علي بن طلق حديث حسن، وسمعت محمدًا يقول: لا أعرف لعلي بن طلق عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غير هذا الحديث الواحد، ولا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي السُّحيمي، وكأنه رأى أن هذا رجل آخر من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-". هكذا هي العبارة في "جامع الترمذي"، لكن نقلها المزّي في "تحفة الأشراف" (7/ 471) و"تهذيب الكمال" (20/ 496)، وابن حجر في "تهذيب التهذيب" (7/ 299): ". . . ولا أعرف هذا من حديث علي بن طلق. . . ". والصواب فيما نرى عبارة "الجامع"؛ لأن طلق بن علي صحابي معروف، له العديد من الأحاديث، بخلاف على بن طلق الذي لم يرد إلا في هذا الحديث؛ فكان المتبادر إلى الذهن أن الاسم انقلب على بعضهم؛ فردّ البخاري هذا الاحتمال بقوله: "ولا أعرف هذا الحديث من حديث طلق بن علي"، وهذا مراد البخاري في قوله فيما نرى، وهو قريب مما فسّره به الترمذي بقوله: "وكأنه رأى واللَّه أعلم. . . ". وترجم له النسائي: "وذكر حديث علي بن طلق. . . ". وهو صنيع المزّي في "تحفة الأشراف" و"تهذيب الكمال" وابن عساكر في "ترتيب أسماء الصحابة" (ص 84)، وابن كثير في "التفسير" (1/ 270)؛ حيث قال: "ومن الناس من يورد هذا الحديث في مسند علي بن أبي طالب، كما وقع في "مسند الإِمام أحمد بن حنبل"، والصحيح أنه علي بن طلق". لكن العلّامة الشيخ شاكر صحَّح إسناد الحديث وردّ تعقُّب من وهَّم الإِمام أحمد، ورجَّح أنه من مسند علي بن أبي طالب، ثم رواه عيسى بن حطان؛ فأخطأ بجعله من مسند علي بن طلق، واستدلّ لذلك!! وذكره في مسند علي بن أبي طالب الرافعي في "فتح العزيز" -كما في "التلخيص الحبير" (1/ 274) - والهيثمي في "مجمع الزوائد" (1/ 243 و 4/ 299). وذكره المجد ابن تيمية في "المنتقى" (6/ 352 - مع النيل) في مسنده ومسند علي بن طلق. وقال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (4/ 451 رقم 2022) -وكما في "نصب الراية" (2/ 62) - هذا حديث لا يصح، فإن مسلم بن سلام الحنفي أبا عبد الملك مجهول الحال. قلت: نقل الخطيب في "تاريخه" (10/ 399) توثيقه عن ابن معين، وقال فيه أبو داود: "ليس به بأس" ووثقه ابن حبان (5/ 395) فإسناده حسن على أقل أحواله. ورواه أحمد (1/ 86)، والترمذي (1168) وفي "العلل الكبير" (27)، والنسائي في "عشرة النساء" (رقم 137) والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (10/ 399) من طريق وكيع عن عبد الملك بن مسلم بن سلام عن أبيه عن علي به. قلت: وهم فيه وكيع، قال الخطيب عقبة: "هكذا روى الحديث وكيع بن الجراح عن عبد الملك بن مسلم عن أبيه، ولم يسمعه عبد الملك من أبيه، وإنما رواه عن عيسى بن =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المسح على الخفين؟ فقال: "للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يومٌ وليلة" (¬1). ¬

_ = حطان عن أبيه مسلم بن سلام، كما سقناه عن شبابه عنه، وقد وافق شبابة: عبيد اللَّه بن موسى، وأبو نعيم، وأبو قتيبة سلم بن قتيبة، وأحمد بن خالد الوهني، وعلي بن نصر الجهضمي؛ فرووه كلهم عن عبد الملك عن عيسى بن حطان عن مسلم بن سلام. قلت: رواه الخطيب (10/ 398) وفي "تالي التلخيص" (رقم 54 - بتحقيقي) من طريق شبابة بن سوار، والنسائي في "عشرة النساء" (138) من طريق أحمد بن خالد، وأبو عبيد في "الطهور" (رقم 398) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين جميعهم عن عبد الملك عن عيسى عن مسلم عن علي، قال شبابة: فسألته ابن طلق، فقال أرى. وقد جعله الإِمام أحمد من "مسند علي بن أبي طالب"!! وقال الخطيب: "وعلي الذي أسند هذا الحديث ليس بابن أبي طالب وإنما هو علي بن طلق الحنفي بين نسبة الجماعة الذين سميناهم في روايتهم هذا الحديث عن عبد الملك، وقد توهم غير واحد من أهل العلم فأخرج هذا الحديث في "مسند علي بن أبي طالب". وكذا في "التهذيب" (10/ 119) و"إتحاف المهرة" (11/ 627) وجزم به أبو عبيد في "الطهور" (ص 399 - 400). والحديث رواه عبد الرزاق (529) عن معمر عن عاصم بن سليمان عن مسلم بن سلام عن عيسى بن حطان عن قيس بن طلق، فوقع فيه قلب، وتغيير في اسم الصحابي! والحديث بالجزأين له شواهد كثيرة، وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 34) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 553). (¬1) أخرجه الترمذي (95) -وقال: "حسن صحيح"-، وأحمد (5/ 314 - 315)، والحميدي (435)، وعبد الرزاق في "المصنف" (790) وفي "الأمالي" (93)، وابن أبي شيبة (1/ 177)، والحسن بن سفيان في الأربعين (20)، وابن المنذر في "الأوسط" (1/ رقم 463) و"الإقناع" (10)، وابن حبان (1329، 1330، 1333)، والطبراني في "الكبير" (3749) وفي "الصغير" (2/ 105)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (1/ 276 و 277) و"معرفة السنن والآثار" (2/ رقم 2025، 2026)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (14/ 287)؛ من طرق، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن أبي عبد اللَّه الجدلي عن خزيمة بن ثابت به بنحوه. وأخرجه الترمذي في "العلل الكبير" (64)، وأحمد (5/ 213)، والحميدي (434)، وأبو عوانة (1/ 262)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 81)، وابن حبان (1332)، والطبراني (3754، 3755، 3757، 3758)، وابن الجارود في "المنتقى" (86)، وتمام في "فوائده" (189 - ترتيبه)، وأبو نعيم في "خبار أصبهان" (2/ 274، والبيهقي (1/ 277)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 381 - 382 و 11/ 92)؛ من طرق، عن إبراهيم التيمي، به. وأسقط بعضهم "عمرو بن ميمون" منه. ثم ظفرتُ بنقل لأبي حاتم وأبي زرعة الرازيين في "العلل" (1/ 22) فيه تفصيل =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = من رواه عن إبراهيم، وأن الحديث يروي عن إبراهيم التيمي وإبراهيم النخعي، وقد أهمل نسبه في بعض الروايات؛ فجمعتهُ ظانَّا أنه واحد، ثم قال ابن أبي حاتم: "قال أبو زرعة: صحيح من حديث إبراهيم التيمي عن عمرو بن ميمون عن أبي عبد اللَّه الجدلي عن خزيمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والصحيح من حديث النخعي عن أبي عبد اللَّه الجدلي بلا عمرو بن ميمون". وأخرجه ابن ماجه (553)، والخطيب في "تاريخه" (2/ 50)؛ من طريقين، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم التيمي، عن عمرو بن ميمون، عن خزيمة به بإسقاط الجدلي. وأخرجه ابن ماجه (554)، وأحمد (5/ 213)، والطبراني (3759)، والبيهقي (1/ 278) من طريق شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد، عن عمرو بن ميمون، به بزيادة الحارث بين التيمي وعمرو وإسقاط الجدلي. وأخرجه الطبراني (3756) من طريق أبي الأحوص، عن الأحوص، عن منصور، عن إبراهيم التيمي، عن أبي عبد اللَّه الجدلي، به. وقال عقبة: "أسقط أبو الأحوص من الإسناد عمرو بن ميمون". وأخرجه أبو داود (157)، وأحمد (5/ 213 - 215)، وابن أبي شيبة (1/ 177)، والطيالسي (1218، 1219)، والطحاوي (1/ 81)، والطبراني في "الكبير" (3772 - 3788) و"المعجم الصغير" (2/ 137)، والبيهقي (1/ 278)؛ من طرق، عن إبراهيم النخعي، عن أبي عبد اللَّه الجدلي، به. والحديث كما رأيت مضطرب الإسناد، ولذا اختلف الحفاظ في الحكم عليه، وهذه شذرات من كلامهم في الحكم عليه. نقل الترمذي في "العلل الكبير" عقب (رقم 64) تضعيف البخاري لطريقه الأخيرة؛ قال: "سألتُ محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؛ فقال: لا يصح عندي حديث خزيمة بن ثابت في المسح؛ لأنه لا يعرف لأبي عبد اللَّه الجدلي سماعٌ من خزيمة بن ثابت. وكان شعبة يقول: لم يسمع إبراهيم النخعي من أبي عبد اللَّه الجدلي حديث المسح". ثم قال: "وحديث عمرو بن ميمون عن أبي عبد اللَّه الجدلي هو أصحُّ وأحسن". وقال: "وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: حديث خزيمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث صحيح". وأعله ابن حزم في "المحلى" (2/ 89) بالجدلي؛ فقال: "رواه أبو عبد اللَّه الجدلي صاحب راية الكافر المختار -يعني: ابن أبي عبيد- ولا يُعتمد على روايته". وأجاب الإِمام ابن دقيق العيد في "الإِمام" عن ذلك قائلًا: "وأما قول البخاري: إنه لا يُعرف لأبي عبد اللَّه الجدلي سماع من خزيمة (في الأصل: عمر)؛ فلعل هذا بناءً على ما حُكي عن بعضهم أنه يشترط في الاتصال أن يثبت سماع الراوي من المروي عنه ولو =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أُبيّ بن عمارة (¬1) فقال: يا رسول اللَّه أمسح على الخفين؟ فقال: نعم. قال: يومًا؟ قال: ويومين. قال: وثلاثة أيام؟ قال: "نعم وما شئت" (¬2)، ¬

_ = مرةً، هذا أو معناه، وقيل: إنه مذهب البخاري، وقد أطنب مسلم في الرد لهذه المقالة واكتفى بإمكان اللقاء، وذكر له شواهد، وأما ما ذكره ابن حزم أنه لا يعتمد على روايته، فلم يقدح فيه أحد من المتقدمين، ولا قال فيه ما قال ابن حزم، ووثقه أحمد وابن معين -وهما هما- وصحّح الترمذي حديثه" اهـ. من "نصب الراية" (1/ 177). وقد أطال النفس في الدفاع عن هذا الحديث، ونقل الزيلعي كلامه في "نصب الراية" (1/ 175 - 177). والحديث صحيح، له شواهد عديدة. قال ابن المنذر في "الأوسط" (1/ 438 - 439): "وقد روى هذا الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- علي بن أبي طالب، وصفوان بن عسَّال، وأبو بَكْرة، وعوف بن مالك، وأبو هريرة، وغيرهم، وقد ذكرتُ أسانيدها في غير هذا الكتاب". وحديث علي في "صحيح مسلم" (276). وانظر -غير مأمور-: "التلخيص الحبير" (1/ 160)، و"الهداية في تخريج أحاديث البداية" (1/ رقم 30)، و"شرح سنن ابن ماجه" للحافظ مُغُلْطاي (2/ ق 97 أ - 100/ ب - نسخة دار الكتب المصرية/ رقم 275 حديث)، و"البدر المنير" (1/ ق 153 - 154 - النسخة المحمودية)، و"الخلافيات" (م 3/ مسألة 41 - بتحقيقي). (¬1) في جميع النسخ: "ابن أبي عمارة"! وهو خطأ، صوابه ما أثبتناه. (¬2) رواه ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1/ 205)، ومن طريقه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2145)، والطبراني في "الكبير" (545) وابن قانع في "معجم الصحابة" (1/ 177 رقم 4) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (9/ 211 رقم 760) من طريق يحيى بن إسحاق السليحيني، ورواه أبو داود (158) في (الطهارة): باب التوقيت في المسح -ومن طريقه البيهقي (1/ 279) - وأبو نعيم (761) وابن قانع (رقم) والحاكم (1/ 170) من طريق عمرو بن الربيع بن طارف كلاهما عن يحيى بن أبيوب عن عبد الرحمن بن رزين عن محمد بن يزيد عن أبي زياد، عن أيوب بن قطن عن أبي بن عمارة فذكره. وقد اختلف في إسناده؛ فرواه عمرو بن الربيع ويحيى بن إسحاق بالإسناد السابق. ورواه ابن ماجه (557) في (الطهارة): باب ما جاء في المسح بغير توقيت والجورقاني في "الأباطيل" (رقم 371) والمزي في "تهذيب الكمال" (17/ 93) من طريق عبد اللَّه بن وهب، ورواه الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (1/ 316) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 79) والدارقطني (1/ 198)، والطبراني في "الكبير" (رقم 546)، وأبو نعيم في "المعرفة" (762) والبيهقي (1/ 278 - 279) من طريق سعيد بن عفير، وأبو نعيم (763) من طريق سعيد بن الحكم، والحاكم (1/ 170 - 171) من طريق عمرو بن الربيع، وعلقه أبو داود بعد (158) من طريق ابن أبي مريم، وهذا وصله الطحاوي (1/ 79) والبيهقي (1/ 279) والبغوي في "معجم الصحابة" (ق 2/ أ) جميعهم عن يحيى بن أيوب به. =

ذكره أبو داود، فطائفة من أهل العلم أخذت بظاهره وجوَّزوا المسح بلا توقيت (¬1)، وطائفة قالت: هذا مطلق وأحاديث التوقيت مقيدة، والمقيد يقضي على المطلق (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: أَكون في الرَّمل أربعة أشهر أو خمسة أشهر، ويكون فينا النُّفساء والحائض والجنب، فما ترى؟ قال: "عليك بالتراب" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = لكن وقع عندهم زيادة (عبادة بن نُسيّ) بعد أيوب بن قطن وسقط أيوب من معلق أبي داود، ولفظه في بعضها: حتى بلغ سبعًا! قال أبو داود: "وقد اختلف في إسناده وليس هو بالقوي". وقال الدارقطني: "هذا الإسناد لا يثبت وقد اختلف فيه على يحيى بن أيوب اختلافًا كثيرًا قد بيّنته في موضع آخر، وعبد الرحمن ومحمد بن يزيد وأيوب بن قطن كلهم مجهولون". أما الحاكم فقال: "وهذا إسناد مصري لم ينسب واحد منهم إلى الجرح وإلى هذا ذهب مالك بن أنس ولم يخرجاه"! قال الذهبي: "بل مجهول". أما الإِمام النووي فقال في "شرح صحيح مسلم" (3/ 176) و"المجموع" (1/ 482): "ضعيف بالاتفاق". وتعقب المصنف في "تهذيب سنن أبي داود" (1/ 118) الحاكم بقوله: "والعجب من الحاكم، كيف يكون هذا مستدركا على "الصحيحين". ورواته لا يعرفون بجرح ولا تعديل" وقال ابن عبد البر في "الاستذكار" (1/ 277): "حديث لا يثبت وليس له إسناد قائم" وقال الجورقاني: "هذا حديث منكر". وانظر مفصلًا في بيان اضطرابه: "نصب الراية" (1/ 177 - 178)، و"الإصابة" (1/ 31) فإنه مهم، و"إتحاف المهرة" (1/ 177 - 178) و"العلل المتناهية" (1/ 358) و"بيان الوهم والإيهام" (3/ 323 رقم 1070). (¬1) هذا مذهب مالك، انظر: "المدونة" (1/ 144) و"التفريع" (1/ 199) و"التلقين" (1/ 71 - 72) و"المعونة" (1/ 136) و"الإشراف" (1/ 69 رقم 32 - بتحقيقي) و"الذخيرة" (1/ 323) و"تفسير القرطبي" (6/ 101) و"عقد الجواهر الثمينة" (1/ 87) و"جواهر الإكليل" (1/ 24) و"تنوير المقالة" (1/ 592). (¬2) انظر رد المصنف على ابن حزم -رحمهما اللَّه- في تعليله حديث التوقيت في "تهذيب السنن" (1/ 117 - 118)، و"زاد المعاد" (1/ 50)، و"اختيارات شيخ الإِسلام ابن تيمية" رحمه اللَّه (ص 15) مهم، وانظر ترجيح التوقيت في تعليقي على "الإشراف" (1/ 69 - 72). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 278 و 352)، وعبد الرزاق (911)، والبيهقي (1/ 516 - 517) من طريق المئنى بن الصبّاح عن ععمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة به. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر: إني أغرب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة؟ فقال: "إن الصعيد الطيب طهور ما لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك" (¬1)، حديث حسن. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] فقال: انكسرت إحدى زندي، "فأمره أن يمسح على الجبائر" (¬2)، ذكره ابن ماجه. ¬

_ = وهذا إسناد ضعيف لضعف المثنى بن الصباح هذا، قال البيهقي: وهذا حديث يعرف بالمثنى بن الصبَّاح عن عمرو، والمثنى غير قوي، وقد رواه الحجاج بن أرطاة عن عمرو إلا أنه خالفه في الإسناد، فرواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، واختصر المتن فجعل السؤال عن الرجل لا يقدر على الماء أيجامع أهله؟ قال: نعم. أقول: هذا سند آخر لمتن آخر لا علاقة بينهما. وقد تابع المثنى بن الصباح ابنُ لهيعة. أخرجه أبو يعلى (5870)، ولفظه أن رجالا أتوا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا:. . . وابن لهيعة ضعيف أيضًا في غير رواية العبادلة عنه، وهذا منها، والعجب أن الهيثمي في "المجمع" (1/ 261) عزا الحديث لأبي يعلى، وأحمد وقال: فيه المثنى بن الصباح، ففاته أن سند أبي يعلى فيه ابن لهيعة. وقد رواه البيهقي أيضًا من طريق أبي ربيع السمَّان أشعث بن سعيد بن عمرو بن دينار عن سعيد به، وضعف أبا ربيع، والصحيح أنه متروك. ورواه أيضًا من طريق آخر وضعّفه بـ عبد اللَّه بن سلمة الأفطس، وهو متروك أيضًا. (¬1) تقدم مفصلًا. (¬2) رواه عبد الرزاق (623) وابن ماجه (657) في (الطهارة): باب المسح على الجبائر، والدارقطني (1/ 226)، وابن عدي (5/ 1775) -ومن طريقه البيهقي (1/ 228) - والعقيلي (3/ 269) والبيهقي في "الخلافيات" (رقم 839، 840 - بتحقيقي) وفي "المعرفة" (رقم 344) كلهم من طريق عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب به. قال الدارقطني: عمرو بن خالد الواسطي متروك. وقال البيهقي: "عمرو بن خالد الواسطي معروف بوضع الحديث، كذبه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما من أئمة الحديث، ونسبه وكيع بن الجراح إلى وضع الحديث، قال: وكان في جوارنا فلما فطن له تحول إلى واسط، وتابعه على ذلك عمر بن موسى بن وجيه، فرواه عن زيد بن علي مثله، وعمر بن موسى متروك منسوب إلى الوضع" وأسند روايته في "الخلافيات" (رقم 842). وقال: "وروي بإسناد آخر مجهول عن زيد بن علي وليس بشيء" وأسندها في "الخلافيات" (رقم 843) وبيّنتُ في تعليقي عليه أن هذا الإسناد مسلسل بالضعفاء وقال: "ورواه أبو الوليد خالد بن يزيد المكي بإسناد آخر عن زيد بن علي عن علي مرسلًا، وأبو =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = الوليد ضعيف، ولا يثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب شيء، وأصح ما روي فيه حديث عطاء بن أبي رباح وليس بالقوي، وإنما فيه قول الفقهاء من التابعين فمن بعدهم مع ما روينا عن ابن عمر في المسح على العصابة، اللَّه أعلم" قلت: وأسند ذلك مفصلًا في "الخلافيات" (2/ 499 وما بعد). وحكم غير واحد من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أن هذا الحديث باطل، وهذه شذرات قليلة من كلامهم. قال عبد اللَّه بن أحمد في "العلل" (3/ 16): "وهذا الحديث يروونه عن إسرائيل عن عمرو. . . وعمرو بن خالد لا يسوى حديثه شيئًا". وقال أبو حاتم -كما في "العلل": (1/ 46) لابنه-: "هذا حديث باطل، لا أصل له، وعمرو بن خالد متروك الحديث". وقال ابن حزم في "المحلى": (2/ 75): "هذا خبر لا تحل روايته إلَّا على بيان سقوطه؛ لأنَّه انفرد به أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، وهو مذكور بالكذب". وأَوردهُ البيهقي في "الصغرى" (رقم 189) من غير إسناد، وقال: "لم يثبت إسناده". وضعَّف إسناده ابن الملقن في "خلاصة البدر المنير": (1/ 67) رقم (200)، ومحمَّد بن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق": (1/ 540 - 541)، وابن حجر في "التلخيص الحبير": (1/ 146)، ونقل النوويُّ اتفاقَ الحفاظ على ضعفه! وقال أحمد في "العلل": (3/ 15 - 16) (رقم 3944): "سمعت رجلًا يقول ليحيى: تحفظ عن عبد الرزَّاق عن معمر عن أَبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه مسح على الجبائر؟ فقال: باطل، ما حدَّث به معمر قط، سمعت يحيى يقول: عليه بدنة مقلَّدة مجلَّلة إنْ كان معمر حدَّث بهذا قطّ، هذا باطلٌ، ولو حدَّث بهذا عبد الرزَّاق كان حلال الدم، من حدَّث بهذا عن عبد الرزَّاق؟ قالوا له: فلان، فقال: لا، واللَّه ما حدَّث به معمر، وعليه حجةٌ من هاهنا -يعني المسجد- إلى مكَّة إن كان معمر حدث بهذا". والحديث في "مسند زيد": (74 - 75) أو "المجموع الفقهي" وطبع في ميلانو بإيطاليا سنة 1919 م، وفي مصر سنة 1340 هـ، ومما يؤسف له أنْ يقرِّظه بعضُ أفاضلِ العلماء من شيوخ علماء الأزهر، غير متحرين معرفة ما فيه من الكذب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا ناظرين إلى عاقبة وثوق العامة -ممن لا يعرف الصحيح من السقيم- بوجود توقيعاتهم على مدائح لهذه الأكاذيب، وللَّه الأمر من قبل ومن بعد، قاله الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المحلى": (2/ 75). والأحاديث التي فيه هي من رواية عمرو بن خالد الواسطي، الكذَّاب، فتنبه لذاك، تولى اللَّه هداك. وانظر: "نصب الراية" (1/ 186 - 187)، و"التلخيص الحبير" (1/ 146)، و"تهذيب السنن" (1/ 208 - 209). وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

وقال ثوبان: استفتوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الغسل من الجنابة فقال: "أما الرجل فَلْيَنْشُر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقُضه، لتغِرفَ على رأسها ثلاث غرفات تكفيها" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أغتسلت من الجنابة وصليت الصبح، ثم أصبحت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه ماء؟ فقال: "لو كنت مسحتَ عليه بيدك أجزاك" (¬2)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة عن الحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكنَّ ماءها وسِدْرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصبّ على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا، حتى تبلغ شؤون ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (255) في (الطهارة): باب في المرأة هل تنقض شعرها عند الغسل، حدثنا محمد بن عوف قال: قرأت في أصل إسماعيل بن عياش قال ابن عوف: وحدثنا محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه: حدثني ضمضم بن زُرعة عن شريح بن عبيد عن جبير بن نفير عن ثوبان به. ورواه الطبراني في "مسند الشاميين" (1686) ثنا هاشم بن مرثد ثنا محمد بن إسماعيل بن عياش به. قال الزيلعي في "نصب الراية" (1/ 80): إسماعيل بن عياش وابنه فيهما مقال. أقول: إسماعيل ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وضمضم بن زرعة حمصي وهو لا بأس به. وأما محمد بن إسماعيل بن عياش نعم فيه ضعف. وقال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئًا. لكن أبو داود روى الحديث أولًا عن محمد بن عوف قال: قرأت في أصل إسماعيل بن عياش ثم رواه بواسطة ابنه. فإذا أخذنا بالوجادة فيكون الإسناد الأول جيّدًا، واللَّه أعلم. وانظر: "نصب الراية". (¬2) رواه ابن ماجه (664) في (الطهارة): باب اغتسل من الجنابة فبقي من جسده لمعة لم يصبها الماء كيف يصنع، و"مسدد" كما في "زوائد ابن ماجه" (1/ 145) -من طريق محمد بن عبيد اللَّه عن الحسن بن سعد عن أبيه عن علي به. قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف لضعف محمد بن عبيد اللَّه. أقول: أظنه العَرْزَمي فهو المشهور في هذه الطبقة، وهو متروك، ثم وجدت الذهبي أورد هذا الحديث في ترجمته في "الميزان" (3/ 636) فالحمد للَّه على توفيقه. والحسن بن سعد هو ابن معبد ثقة، أما أبو سعد فلم يرو عنه إلا ابنه فقط، وذكره ابن حبان في "الثقات"! وأظنه لم يدرك عليًا إذ إنه مات بعد المئة كما في "التقريب"!

رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصَة مُمسَّكة (¬1) فتطهَّر بها" (¬2). وسألتهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن غسل الجنابة؟ فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب [الماء] على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض الماء عليها" (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل ما يحلُّ لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال: "تشد عليها إزارَها، ثم شأنك بأعلاها" (¬4)، ذكره مالك. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مؤاكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها" (¬5)، ذكره الترمذي. ¬

_ (¬1) "الفِرْصة -بكسر الفاء- قطعة من صوف أو قطن أو خرقة [تتمسح بها المرأة من الحيض] وممسَّكة: مطيَّبة بالمسك" (و). ونحوه في (ط) وما بين المعقوفتين منها. (¬2) رواه البخاري (314) في (الحيض): باب دلك المرأة نفسها إذا تطهرت من الحيض، و (315) باب غسل المحيض، و (7357) في "الاعتصام": باب الأحكام التي تعرف بالدلائل, ومسلم (332) بعد (61) في (الحيض): باب استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم، من حديث عائشة. واللفظ المذكور هو لفظ مسلم. (¬3) هو جزء من حديث عائشة السابق عند مسلم فقط بالرقم المذكور، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 57) عن زيد بن أسلم مرسلًا. قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدًا رواه بهذا اللفظ مسندًا ومعناه صحيح ثابت. قال الزرقاني: رواه أبو داود عن عبد اللَّه بن سعد الأنصاري. أقول: لفظ حديث أبي داود: "يا رسول اللَّه ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال: لك ما فوق الإزار". أخرجه أبو داود (212) في (الطهارة): باب في الإزار ومن طريقه البيهقي (1/ 312) بإسناد جيّد. والأحاديث في هذا المعنى ثابتة في "الصحيح" من حديث عائشة وميمونة وأم سلمة. (¬5) هو جزء من حديث طويل؛ رواه الترمذي (133) في (الطهارة): باب في مؤاكلة الحائض وسؤرها وفي "الشمائل" (297) وابن قانع في "معجم الصحابة" (رقم 951) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1670 رقم 4178) وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (29/ 49، 50) و"مشيخته" (ق 130/ أ). مختصرًا مقتصرًا على هذا الجزء. ورواه أحمد (4/ 342 و 5/ 293)، والدارمي (1/ 249)، وأبو داود (312) في (الطهارة): باب في المذي، وابن ماجه (651) في (الطهارة): باب في مؤاكلة الحائض و (1378) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (865)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 51) وابن عساكر (29/ 49 - 50)، والمزي في "تهذيب الكمال" (15/ 22) من طريقين =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- كم تجلس النُّفَساء؟ فقال: "تجلس أربعين يومًا إلا أَن ترى الطهر قبل ذلك" (¬1)، ذكره الدارقطني. ¬

_ = عن العلاء بن الحارث عن حرام بن حكيم في "سنن الترمذي": (حرام بن معاوية) عن عمه عبد اللَّه بن سعد به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب. قال الشيخ أحمد شاكر معقبًا: بل حديث صحيح. أقول: حرام بن حكيم ذكره ابن حجر في "التهذيب"، وقال: ويقال: هو حرام بن معاوية. وذكر اختلاف العلماء، حيث عدهما بعضهم اثنين ومنهم من جعلهما واحدًا، ونقل توثيقه عن دحيم والعجلي، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ونقل بعض الحفاظ عن الدارقطني أنه وثق حرام بن حكيم، وقد ضعفه ابن حزم في "المحلى" بغير مستند. قال عبد الحق: لا يصح حديثه، وقال في موضع آخر: ضعيف. وقال ابن القطان الفاسي: بل هو مجهول الحال، وليس كما قالوا: ثقة كما قال العجلي وغيره. وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (3/ 310 - 311). أقول: رغم هذا جَزَمَ ابن حجر في "التقريب" بقوله فيه: ثقة! (¬1) هو بهذا اللفظ، رواه الدارقطني (1/ 223) من طريق عبد الرحمن بن محمد العرزمي عن أبيه عن الحكم بن عتيبة عن مُسَّة عن أم سلمة به. أقول: هذا إسناد ضعيف جدًا، محمد هو ابن عبيد اللَّه العرزمي متروك، وابنه عبد الرحمن ضعفه الدارقطني، وقال أبو حاتم؛ ليس بالقوي. ومسة الأزدية هذه قال ابن القطان كما في "نصب الراية" (1/ 205): لا يعرف حالها ولا عينها في غير هذا الحديث. وحديث أم سلمة هذا بغير السؤال، رواه الدارمي (1/ 229) وأبو داود (311، 312)، والترمذي (139) وابن ماجه (648)، وأحمد (6/ 300 و 303 و 304 و 309 - 310)، والحاكم (1/ 175)، والبيهقي (1/ 341) وفي "الخلافيات" (رقم 1050، 1051) و"معرفة السنن والآثار" (رقم 2281)، والدارقطني (1/ 221 - 222) وأبو يعلى (7023) والطبراني (23 رقم 878) وابن المنذر (2/ 250 رقم 831) وابن حبان في "المجروحين" (2/ 224 - 225)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 93) والبغوي (322) وابن الجوزي في "التحقيق" (رقم 308) والمزي في "تهذيب الكمال" (35/ 306، 307) من طرق عن علي بن عبد الأعلى عن أبي سهل عن مُسَّة عن أم سلمة. وهذا إسناد أجود من إسناد الدارقطني الأول، لكن مدار الحديث على (مُسَّة) هذه، ومع هذا منهم من قوَّاه. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي سهل عن مُسَّة الأزدية عن أم سلمة، واسم أبي سهل كثير بن زياد، قال محمد بن إسماعيل: عليُّ بن عبد الأعلى ثقة، وأبو سهل ثقة، ولم يعرف محمد هذا الحديث إلا من حديث أبي سهل". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال في "العلل الكبير" (1/ 193 - 194 رقم 42) وسألت محمدًا عنه؛ فقال: "علي بن عبد الأعلى ثقة، روى له شعبة وأبو سهل كثير بن زياد، ثقة، ولا أعرف لمُسَّة غير هذا الحديث". وقد أعل جماعة هذا الحديث بجهالة مُسَّة أم بَسَّة الأزدية، قال عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (1/ 218) عقبه: "وقد روي في هذا عن أنس، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعثمان بن [أبي] العاص؛ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في النفساء: أنها تقعد أربعين ليلة، وفي بعضها "إلا أن ترى الطهر قبل ذلك"، وهي أحاديث معتلة بأسانيد متروكة، وأحسنها حديث أبي داود". وقال ابن حزم في "المحلى" (2/ 204): "ذكروا روايات عن أم سلمة من طريق مُسّة الأزدية، وهي مجهولة". وقال ابن القطان في "كتابه" -كما في "نصب الراية" (1/ 305) -: "وحديث مُسّة أيضًا معلول، فإن مُسّة المذكورة وتكنى أم بَسّة لا يعرف حالها ولا عينها, ولا يعرف في غير هذا الحديث، وأيضًا فأزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكُنْ منهن نفساء معه إلا خديجة، ونكاحها كان قبل الهجرة، فلا معنى لقولها: "قد كانت المرأة. . . " إلى آخره؛ إلا أن تريد بنسائه غير أزواجه من بناتٍ وقريبات، وسرية عارية، واللَّه أعلم" انتهى كلامه. وبنحو هذا أعلّه ابن رجب في "فتح الباري" (2/ 190 - 191)؛ قال: "وفي الباب أحاديث مرفوعة فيها ضعف، ومن أجودها. . . وذكر هذا الحديث". ثم ذكر لفظ أبي داود: "كانت المرأة من نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تقعد في النفاس أربعين ليلة لا يأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقضاء صلاة". وقال: "وصححه الحاكم، وفي متنه نكارة؛ فإن نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يلد [له] منهن أحد بعد فرض الصلاة، فإن خديجة عليه السلام ماتت قبل أن تفرض الصلاة". وأعله ابن حبان في "المجروحين" (2/ 224 - 225) بأبي سهل كثير بن زياد، ومضى كلامه عليه بتمامه قريبًا. ونقل محمد بن عبد الهادي في "التنقيح" (1/ 620) أن الدارقطني قال: "مسّة لا تقوم بها حُجَّة"، وهذا ساقط من مطبوع "السنن"، ويؤكد وجوده فيه أن الغساني نقله عنه في "تخريج الأحاديث الضعاف في سنن الدارقطني" (ص 97/ رقم 139). وكذا نقله الذهبي في "الميزان" (4/ 113/ رقم 8535 و 4/ 610/ رقم 10996)، وابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 171)، وقال: "وقال النووي: قول جماعة من مصنِّفي الفقهاء أن هذا الحديث ضعيف مردود عليهم، وقال: أم بسّة مُسّة مجهولة الحال، قال الدارقطني: لا تقوم بها حجة، وقال ابن القطان: لا يعرف حالها". وقال: "وأغرب ابن حبان؛ فضعفه بكثير بن زياد؛ فلم يصب". وقال ابن كثير في "إرشاد الفقيه" (1/ 80) عقب مقولة ابن حبان: "قلت: رجاله كلهم ثقات؛ إلا أنّ مُسّة الأزدية عجوز لا تعرف إلا بهذا الحديث عن أم أسامة، ولم يرو عنها =

[فتاوى تتعلق بالصلاة وأركانها]

[فتاوى تتعلق بالصلاة وأركانها] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ثوبان عن أحبِّ الأعمال إلى اللَّه تعالى؟ فقال: "عليك بكثرة السجود [للَّه عز وجل] , فإنك لا تسجد للَّه سجدة إلا رفعك اللَّه بها درجة وحط بها عنك خطيئة"، ذكره مسلم (¬1). وسأله عبد اللَّه بن سعد (¬2): أيما أفضل، الصلاة في بيتي أو الصلاة في ¬

_ = سوى أبي سهل كثير بن زياد الأزدي العتكي، وقد وثقه الأئمة" قلت: نعم، أبو سهل كثير بن زياد، قال إسحاق بن منصور عن يحيى بن معين: "ثقة"، وقال أبو حاتم: "ثقة، من أكابر أصحاب الحسن". انظر: "الجرح والتعديل" (7/ 151)، و"التهذيب" (8/ 413). أما مُسّة؛ فقال عنها ابن حجر في "التقريب": "مقبولة"، ولم يذكر المزي في "تهذيب الكمال" (35/ 305) راويًا عنها غير كثير بن زياد، وقال ابن حجر في "التهذيب": "وذكر الخطابي وابن حبان أن الحكم بن عتيبة روى عنها أيضًا"، ومع هذا؛ فقد ذكرها الذهبي في "الميزان" في (المجهولات)!! ونقل صاحب "عون المعبود" (1/ 501) عن "البدر المنير" لابن الملقِّن الإجابة عن قول من ضعّف مُسّة بجهالة حالها وعينها؛ فقال: "لا نسلّم جهالة عينها وجهالة حالها مرتفعة؛ فإنه روى عنها جماعة: كثير بن زياد، والحكم بن عتيبة، وزيد بن علي بن الحسين، ورواه محمد بن عبيد اللَّه العرزمي عن الحسن عن مُسّة أيضًا؛ فهؤلاء رووا عنها، وقد أثنى على حديثها البخاري، وصحح الحاكم إسناده؛ فأقل أحواله أن يكون حسنًا". وقال النووي في "المجموع" (2/ 479): "حديث حسن". وقال الخطابي في "معالم السنن" (1/ 169): "وحديث مُسّة أثنى عليه محمد بن إسماعيل". وكذا قال ابن الملقن في "تحفة المحتاج" (1/ 241 - 242/ رقم 162). وقال الشوكاني في "النيل" (1/ 332): "والأدلة الدّالّة على أن أكثر النفاس أربعون يومًا متعاضدة بالغة إلى حد الصلاحية والاعتبار، وبمعناه قال النووي في "المجموع"، وردّ على من ضعّف الحديث". وحسّنه شيخنا الألباني في "الإرواء" (1/ 222 - 223/ رقم 201) بشاهد له عن أنس، وخرجته بتفصيل في تعليقي على "الخلافيات" (رقم 1067، 1068، 1071، 1072). وفي الباب عن صحابة آخرين فانظر مفصلًا: "الخلافيات" (3/ 411 - 440 - بتحقيقي) و"نصب الراية" (1/ 204 - 205)، و"التلخيص الحبير" (1/ 171)، و"إرواء الغليل" (1/ 222 - 223). (¬1) رقم (488) في (الصلاة): باب فضل السجود والحث عليه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ك): "أسعد".

المسجد؟ فقال: "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد؟ فلأن أصلي في بيتي أحب إليَّ من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة" (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صلاة الرجل في بيته؟ فقال: "نوِّروا بيوتكم" (¬2)، ذكره ابن ماجه. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (137) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في التطوع في البيت، وأحمد في "مسنده" (4/ 342)، والترمذي في "الشمائل" (280) و (251 - مختصره)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (865)، وابن خزيمة في "صحيحه" رقم (1202)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 339)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (8/ 3083 رقم 949، 950) وابن عساكر (29/ 49 - 50) و"مشيخته" (ق 130/ أرقم 744)، والمزي في "تهذيب الكمال" (15/ 22) من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن معاوية بن صالح عن العلاء بن الحارث عن حرام بن حكيم عن عمه عبد اللَّه بن سعد به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 246): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "مختصر الشمائل": إسناده صحيح لولا أن فيه العلاء بن الحارث، وكان اختلط لكن له شاهد قوي من حديث زيد بن ثابت. أقول: العلاء بن الحارث يظهر أنه اختلط متاخرًا، وأخشى أن لا يكون سمع منه أحد بعد اختلاطه، إذ أنهم لم يذكروا من روى عنه قبل أو بعد الاختلاط، ومضى البحث في حرام بن حكيم قبل قليل، وحديث زيد بن ثابت رواه البخاري (731) و (6113) و (7290)، ومسلم (781). (تنبيه): عزا البوصيري حديث الباب لابن حبان في "صحيحه"، ولم أجده فيه بعد بحث، وهو في "صحيح ابن خزيمة" بالإسناد الذي ذكره البوصيري فلعله سبق قلم منه رحمه اللَّه. (¬2) رواه ابن ماجه (1375) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في التطوع في البيت، وأحمد في "مسنده" (1/ 14)، والطيالسي (49) و (137)، وعبد الرزاق (988)، ومسدد كما في "مصباح الزجاجة" (1/ 245)، وسعيد بن منصور (2143)، وابن أبي شيبة (2/ 158) من طرق عن عاصم بن عمرو أن نفرًا من أهل العراق قدموا على عمر فسألوه. . . وفي بعضها عن عاصم بن عمرو عن أحد هن النفر الذين قدموا على عمر، وهذا إسناد فيه إبهام الرجل أو الجماعة السائلين لعمر، ورواه ابن ماجه بعد (1375)، والطحاوي (3/ 37)، والبيهقي (1/ 312) من طريق أبي إسحاق عن عاصم بن عمرو عن عمير مولى عمر بن الخطاب عن عمر به. قال البوصيري: هذا إسناد ضعيف من الطريقين لأن مدار الإسنادين في الحديث على عاصم بن عُمر وهو ضعيف، ذكره العقيلي في "الضعفاء"، وقال البخاري: لم يثبت حديثه. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي الصبي؟ فقال: "إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة" (¬1). ¬

_ = أقول: رحم اللَّه البوصيري، عاصم هذا هو ابن عمرو البجلي. قال أبو حاتم: صدوق يحول من كتاب الضعفاء -يعني الذي للبخاري- والعقيلي ترجم في "ضعفائه" لعاصم بن عمرو أخو عبيد اللَّه وعبد اللَّه ابنا عمر ولم يترجم لعاصم ابن عمرو مطلقًا. ثم وجدت الحافظ ابن حجر في "التهذيب" ذكر عبارة البوصيري نفسها في عاصم بن عمرو هذا، فلا أدري مَنْ نقل عن الثاني فالبوصيري مات سنة (840 هـ)، وابن حجر سنة (852 هـ) رحمهما اللَّه. وقد رجعت لـ "ضعفاء البخاري" فوجدت عبارته فيه، أما العقيلي فلا. ولم يذكر الذهبي في "الميزان" عبارة العقيلي فيه بل ذكر قول أبي حاتم، وقال: لا بأس به إن شاء اللَّه. نرجع إلى إسناد الحديث، فالأول عرفت علته. والثاني فيه عمير مولى عمر وهو مجهول، ولم يرو عنه إلا عاصم بن عمرو، وذكره ابن حبان في "الثقات"! لذلك قال الحافظ: مقبول. وقد عزا الهيثمي الحديث لأبي يعلى في "مسنده"، وقال: رجاله ثقات (1/ 271)، ولكن لم أجده في المطبوع من "مسند أبي يعلى بعد أن فتّشه حديثًا حديثًا، وأخشى أن يكون إسناده هو الإسناد الثاني للحديث الذي رواه ابن ماجه، وفيه عمير مولى عمر، فإن الهيثمي يوثق أمثال هذا واللَّه أعلم. (¬1) رواه أبو داود (497) في (الصلاة): باب متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ من طريق ابن وهب: حدثنا هشام بن سعد: حدثني معاذ بن عبد اللَّه بن خُبيب الجهني قال: دخلنا عليه فقال لامرأته: متى يصلي الصبي؟ فقال: كان رجل منا يذكر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل عن ذلك. . . قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 340) "وعلته أن هذه المرأة لا تعرف حالها, ولا حال هذا الرجل الذي روت عنه، ولا صحت له صحبة" ونقله عنه ابن حجر في "التلخيص الحبير" (1/ 184). لكن رواه الطبراني في "الصغير" (274) و"الأوسط" (3019) من طريق عبد اللَّه بن نافع الصائغ عن هشام بن سعد عن معاذ بن عبد اللَّه بن خبيب الجهني عن أبيه به. وقال: لا يروى هذا الحديث عن عبد اللَّه بن خبيب -وله صحبة- إلا بهذا الإسناد تفرد به عبد اللَّه بن نافع. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 294): رجاله ثقات، وقال ابن صاعد: إسناد حسن غريب. أقول: عبد اللَّه بن نافع الصائغ، تكلم فيه أحمد والبخاري وأبو حاتم وغيرهم. قال ابن حبان: كان صحيح الكتاب وإذا حدث من حفظه ربما أخطأ. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن [قتل] رجل مخنَّث يتشبه بالنِّساء؟ فقال: "إني نُهيتُ عن قتل المصلين" (¬1)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن وقت الصلاة؟ فقال للسائل "صلِّ معنا هذين اليومين فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذَّن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر ¬

_ = أقول: ومما يدل على أن في حفظه شيء أنه روى هذا الحديث بعينه عن هشام بن سعد عن معاذ بن عبد اللَّه عن أبيه عن عمه فزاد "عم عبد اللَّه بن خبيب" في الإسناد: أخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2565)، ولا شك أن رواية عبد اللَّه بن وهب الأولى في "سنن أبي داود" أصح لأن ابن وهب أوثق من عبد اللَّه بن نافع بدرجات. قال العقيلي في ترجمة محمد بن الحسين بن عطية (4/ 50): "والرواية في هذا الباب فيها لين". أقول: يغني عنه حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا: "مروا أولادكم بالصلاة أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر" وهو حديث جيّد. (¬1) رواه أبو داود (4928) في (الأدب): باب في الحكم في المخنثين، والدارقطني (2/ 54 - 55)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1257) من طريق أبي أسامة حماد بن أسامة: حدثنا مفضل بن يونس عن الأوزاعي عن أبي يسار القرشي عن أبي هاشم عن أبي هريرة به. قال الدارقطني -كما نقله ابن الجوزي في "العلل"، وليس هو في المطبوع من "سنن الدارقطني" فلعله في "علله"-: وأبو يسار وأبو هاشم مجهولان، ولا يثبت الحديث. وقال المنذري في "تهذيب السنن": وفي متنه نكارة، وأبو يسار هذا لا أعرف اسمه، وقال: قال أبو حاتم لما سئل عنه: مجهول، وليس كذلك فإنه قد روى عنه الأوزاعي والليث فكيف يكون مجهولًا؟ وقال الذهبي في "الميزان" في ترجمة أبي يسار: إسناد مظلم لمتن منكر. ويشهد للمتن فقط: "إني نهيت عن قتل المصلين" حديث عبد اللَّه بن عدي الذي رواه أحمد (5/ 433)، وابن حبان (9571) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عطاء بن يزيد عن عبيد اللَّه بن عدي بن الخيار عنه. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات. لكن رواه مالك (1/ 171) عن الزهري، وأحمد (5/ 432 - 433) عن عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني ابن شهاب عن عطاء بن يزيد عن عبيد اللَّه بن عدي مرسلًا. ومع هذا فقد رجَّح ابن حجر في "الإصابة" الوصل وقال: جوّده معمر عن الزهري. وله شواهد أيضًا من حديث أبي أمامة وأبي بكر وأنس، خرجتها في تعليقي على "فرائد القلائد" لعلي القاري (ص 90 - 91) وهو بها صحيح إن شاء اللَّه تعالى وأبي سعيد ولهذا ذكر شيخنا الألباني الحديث في "صحيح الجامع الصغير" (2506) مصحّحًا له. وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، وصلَّى العصر والشمس مرتفعة أخَّرها فوق الذي كان، وصلَّى المغرب قبل أَن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: وقت صلاتكم [ما بين] ما رأيتم"، ذكره مسلم (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- هل من ساعة أقرب إلى اللَّه من الأخرى؟ قال: نعم، أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد جوف الليل الآخر (¬2)، فإن استطعت أَن تكون ممن يذكر اللَّه في تلك الساعة فكن" (¬3). وسئل [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] عن الصلاة الوسطى؟ فقال: "هي صلاة العصر" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- هل في ساعات الليل والنهار ساعة تكره الصلاة فيها؟ فقال: "نعم إذا صَليتَ الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قَرْني شيطان، ثم صلِّ، فإن الصلاة محضورة متقبَّلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإن تلك الساعة تُسجَّر جهنم وتفتح [فيها] أَبوابها حتى ترتفع ¬

_ (¬1) (613) في (المساجد): باب أوقات الصلوات الخمس، من حديث بريدة، وما بين المعقوفتين سقط من (ك)، وهو في الصحيح. (¬2) في (ك): "الأخير". (¬3) رواه النسائي (1/ 279) في (الصلاة): باب النهي عن الصلاة بعد العصر، و"الكبرى" (174، 1460)، والترمذي (3588) في (الدعوات): باب (118)، وابن خزيمة (1147)، والحاكم (1/ 309) والبيهقي (3/ 4) من طريق معاوية بن صالح عن سليم بن عامر وضمرة بن حبيب ونعيم بن زياد عن أبي أمامة عن عمرو بن عبسة فذكره، وعند بعضهم فيه زيادة. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وصححه الحاكم على شرط مسلم. وصححه شيخنا العلامة الألباني في "صحيح الجامع الصغير"، وذكره في "صحيح الترغيب والترهيب" (رقم 624). (¬4) تقدم، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). قال (و): "في حديث متفق عليه أن العصر هي الوسطى، وفي هذا خلاف كبير، فقد قيل: إنها الصبح، وقيل: المغرب، وقيل: الجمعة، وقيل: إحدى الخمس المبهمة، وقيل: إنها الصلوات الخمس. . . إلخ".

الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت الشمس فالصلاة محضورة متقبلة حتى تصلي العصر، ثم دع الصلاة حتى تغيب الشمس" (¬1)، ذكره ابن ماجه، وفيه في ليل على تعلق النهي بفعل صلاة الصبح لا بوقتها. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلّمني ما يجزيني؟ فقال: "قل سبحان اللَّه والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه". فقال: يا رسول اللَّه، هذالله، فما لي؟ فقال: "قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني" فقال بيده هكذا وقبضها. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما هذا، فقد ملأ يديه من الخير" (¬2)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1252) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة، وابن حبان (1542)، والبيهقي (2/ 455) من طريق ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن المقبري عن أبي هريرة قال: سأل صفوان بن المعطل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . فذكره. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 229): هذا إسناد حسن. أقول: حسنه من أجل الضحاك هذا فإنه تكلم فيه. وقد تابعه عياض بن عبيد اللَّه. أخرجه ابن خزيمة (1275)، وابن حبان (1550) من طريق ابن وهب عنه به. وعياض هذا وإن أخرج له مسلم إلا أن أبا حاتم قال فيه: ليس بالقوي، لكن كلٌّ منهما يقوي الآخر. وقد رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائد المسند" (5/ 312)، والطبراني في "الكبير" (7344)، والحاكم (3/ 518)، وأبو يعلى -كما في "زوائد ابن ماجه" (1/ 299) - وابن عساكر وابن جرير في "تهذيب الآثار" وابن منده وقال: "حديث صحيح عزيز غريب" -كما في "كنز العمال" (8/ 185) من طريق حميد بن الأسود عن الضحاك عن المقبري عن صفوان بن المعطل. قال الهيثمي (2/ 224 - 225) بعد أن عزاه لعبد اللَّه في زياداته على "المسند": ورجاله رجال الصحيح إلا أني لا أدري سمع سعيد المقبري منه أم لا. أقول: يظهر أنه لم يسمع منه من خلال سنة وفاة كل منهما. (تنبيه) وقع الحديث في "المسند" من حديث عبد اللَّه عن أبيه، وهو خطأ، صوابه أنه من "زيادات عبد اللَّه" كما في "الكنز" و"المجمع" و"إتحاف المهرة" (6/ 306). وله شاهد من حديث عمرو بن عبسة؛ رواه مسلم (832) في (صلاة المسافرين): باب إسلام عمرو بن عبسة، وغيره. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه أبو داود (832) في (الصلاة): باب ما يجزئ الأمي والأعجمي، وعبد الرزاق (2747)، وأحمد (4/ 353 و 356 و 382)، والنسائي (2/ 143) في (الافتتاح): باب ما يجزئ =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمران بن حصين -وكان (¬1) به بواسير- عن الصلاة؟ فقال: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك" (¬2)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أقرأ خلف الإِمام أو أنصت؟ قال: "بل أنصت، فإنه يكفيك" (¬3)، ذكره الدارقطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حطابة فقالوا (¬4): يا رسول اللَّه إنا لا نزال سَفْرًا، فكيف نصنع بالصلاة؟ فقال: "ثلاث تسبيحات ركوعا، ثلاث تسبيحات سجودًا" (¬5)، ذكره الشافعي مرسلًا. ¬

_ = من القراءة لمن لا يحسن القرآن، والحميدي (717) وابن خزيمة (544)، وابن حبان (1808 و 1809)، والدارقطني (1/ 313 و 314)، وابن الجارود في "المنتقي" (ص 73 - 74)، والبيهقي في "السنن" (2/ 381)، والحاكم (1/ 241) من طرق عن إبراهيم بن إسماعيل السكسكي عن ابن أبي أوفى به. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ووافقه الذهبي. أقول: إبراهيم بن إسماعيل وإن روى له البخاري فقد تكلم فيه شعبة والنسائي وقال ابن عدي: لم أجد له حديثًا منكر المتن وهو إلى الصدق أقرب منه إلى غيره، ويكتب حديثه كما قال النسائي. وقد رواه ابن حبان (1810) من طريق الفضل بن موفق عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن ابن أبي أوفى به، ورجاله ثقات غير الفضل بن الموفق، قال أبو حاتم: كان شيخنا صالحًا ضعيف الحديث. فالحديث قويّ بطريقيه، واللَّه أعلم، وتكلمتُ عليه بتفصيل في "الحنائيات" (رقم 154). (¬1) في (ك): "وكانت". (¬2) رواه البخاري (1117) في (تقصير الصلاة): باب إذا لم يطلق قاعدًا صلى على جنب، من حديث عمران بن حصين. (¬3) رواه الدارقطني (1/ 330) وابن عدي في "الكامل" (6/ 2165)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 263)، والبيهقي في "القراءة خلف الإمام" (رقم 411، 412) من طرق غسان بن الربيع عن قيس بن الربيع عن محمد بن سالم عن الشعبي عن الحارث عن علي قال: قال رجل للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكره. وقال الدارقطني: تفرد به غسان وهو ضعيف، وقيس ومحمد بن سالم ضعيفان، والمرسل الذي قبله أصح منه. وانظر: "نصب الراية" (2/ 18 - 19). وفي (ك): "فعلى جنب". (¬4) كذا في (ك)، وهو الصواب، وفي سائر النسخ: "حطان فقال"!! (¬5) رواه الشافعي (1/ 89)، وعبد الرزاق (2894) كلاهما عن إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه مرسلًا. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عثمان بن أبي العاص فقال: يا رسول اللَّه إن الشيطان قد حال بين صلاتي وبين قراءتي يَلْبِسُها عليَّ؟ فقال: "ذاك اشيطان يقال هل خِنْزَب فإذا أحسسته فتعوذ باللَّه وأتْفِل على يسارك ثلاثًا" قال: ففعلت ذلك، فأذهبه اللَّه"، ذكره مسلم (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: "أصلي في ثوبي الذي آتي فيه أهلي؟ قال: نعم، إلا أَن ترى فيه شيئًا فتغسله" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- معاوية بن حيدة: يا رسول اللَّه عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قال: قلت: يا رسول اللَّه الرجل يكون مع الرجل؟ قال: إن استطعتَ أن لا يراها أحد فافعل. قلت: فالرجل يكون خاليًا، قال: اللَّه أحق أن يستحيا منه" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = وإبراهيم هذا متروك، لكن تابعه أبو حاتم بن إسماعيل عند ابن أبي شيبة (1/ 280)، والبيهقي (2/ 86). ولفظه: "قال: جاءت الحَطَّابة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . ". (¬1) رقم (2203) في (السلام): باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة من حديث عثمان بن أبي العاص. (¬2) رواه أحمد (5/ 89 و 97)، وابنه في "زياداته على المسند" (5/ 97)، وأبو يعلى (7460 و 7479)، وابن أبي حاتم في "علله" (1/ 192)، وابن ماجه (542) في (الطهارة): باب الصلاة في الثوب الذي يجامع فيه، وابن حبان (2333)، والطبراني في "الكبير" (1881) من طرق عن عبيد اللَّه بن عمرو الرقي عن عبد الملك بن عمير، عن جابر بن سمرة به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 134): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. أقول: لكن قال أحمد بعد روايته: هذا الحديث لا يرفعه غير عبد الملك بن عمير. وقال أبو حاتم: كذا رواه (أي عبيد اللَّه بن عمير) مرفوعًا، وإنما هو موقوف. أقول: رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 53) من طريق أبي عوانة عن عبد الملك عن جابر موقوفًا. لكن عبيد اللَّه بن عمرو الرقي من الثقات، ورفعه زيادة ثقة، وهي مقبولة، وانظر "إتحاف المهرة" (3/ 64 - 65، 103). وله شاهد من حديث أم حبيبة، رواه أحمد (6/ 325 و 427)، وأبو داود (366)، والنسائي (1/ 155)، وابن ماجه (540)، وابن خزيمة (776)، وابن حبان (2331)، وإسناده صحيح. (¬3) رواه البخاري معلقًا (278) في (الغسل): باب من اغتسل عريانا وحده في الخلوة، ووصله أحمد (5/ 3 - 4)، وأبو داود (4017) في (الحمام): باب ما جاء في التعري، والترمذي (2769) في (الأدب): باب ما جاء في حفظ العورة، و (2794): باب ما جاء =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: "أو كلُّكُم يجد ثوبين" (¬1) متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سلمة بن الأكوع: يا رسول اللَّه إني أكون في الصيد فأصلي وليس عليَّ إلا قميص واحد، فقال: "فازْرُره، وإن لم تجد إلا شوكة"، ذكره أحمد وعند النسائي: إني أكون؟ في الصيف وليس عليَّ إلا قميص (¬2). ¬

_ = في حفظ العورة وابن ماجه (1920) في (النكاح): باب التستر عند الجماع، والنسائي في "عشرة النساء" (رقم 86)، وأبو الطاهر المخلص في "حديثه" -كما في "هدي الساري" (23) -، والحاكم في "المستدرك" (4/ 179 - 180)، والبيهقي (1/ 199 و 2/ 225 و 7/ 94)، والخطيب (3/ 261)، والطبراني (19/ 989 - 995)، وابن حجر في "تعليق التعليق" (2/ 159 - 161،160) من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم. قال الحافظ في "الفتح" (1/ 386): الإسناد إلى بهز صحيح، ولهذا جزم به البخاري، وأما بهز وأبوه فليسا من شرطه، ونحوه في "التغليق" (2/ 160). (¬1) رواه البخاري (358) في (الصلاة): باب الصلاة في الثوب الواحد ملتحفا به، و (365): باب الصلاة في القميص والسراويل والتُّبان والقباء، ومسلم (515) في (الصلاة): باب الصلاة في الثوب الواحد وصفة لبسه، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 49 و 54)، والبخاري في "تاريخه الكبير" (1/ 264)، والنسائي (2/ 70)، والشافعي في "مسنده" (1/ 163)، وابن أبي عمر العدني في "مسنده" -كما في "هدي الساري" (ص 24) -، والطبراني في "الكبير" (6279)، والبغوي (517)، والخطيب في "تالي التلخيص" (رقم 37 - بتحقيقي) من طريق عطاف بن خالد المخزومي عن موسى بن إبراهيم عن سلمة بن الأكوع، وفي بعضها تصريح موسى بن إبراهيم بالسماع من سلمة. ورواه الشافعي (1/ 63 - 64)، والبخاري في "تاريخه" (1/ 264)، وأبو داود (632) في (الصلاة): باب الرجل يصلي في قميص واحد، وابن خزيمة (777 و 778)، وابن حبان (2294)، وأبو يعلى والعدني في "مسنديهما" -ومن طريقهما ابن حجر في "التغليق" (1/ 198) -، والحاكم (1/ 250)، والبيهقي (2/ 240)، والبغوي (517) من طرق عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن موسى عن سلمة به. وموسى هذا هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي، لكن رواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 380) من طريق الدراوردي عن موسى بن محمد بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة. قال الحافظ في "تغليق التعليق" (2/ 201): فإن كان حَفِظهُ فللدراوردي فيه شيخان: أحدهما موسى بن إبراهيم بن ربيعة، وثانيهما: موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يسمعه من سلمة إنما سمعه من أبيه عنه. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: يا رسول اللَّه أصلي في الفراء؟ قال: "فأين الدباغ" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في القوس والقرن؟ فقال: "اطرح القرن وصلِّ في القوس" (¬2) ¬

_ = وقال في "الفتح" (1/ 466): فإن كان محفوظا فيحتمل على بُعد أن يكونا جميعًا (أي موسى بن إبراهيم، ومحمد بن إبراهيم) رويا الحديث وحمله عنهما الدراوردي، وإلا فذكر محمد فيه شاذ، واللَّه أعلم. أقول: وقد تببن لي أمر أذكره: موسى بن إبراهيم المخزومي وقع اسمه عند الطبراني (6279) موسى بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، فإن كان كذلك فلا إشكال فمرة يرويه عن سلمة مباشرة، ومرة عن أبيه لكن لم أجد لمحمد بن إبراهيم "أبوه" ترجمة. وقد رواه البخاري في "تاريخه" من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن موسى بن إبراهيم عن أبيه عن سلمة. قال الحافظ في "الفتح": احتمل أن يكون رواية أبي أويس من المزيد في متصل الأسانيد، أو يكون التصريح في رواية عطاف وهما فهذا وجه النظر في إسناده، وأما من صححه فاعتمد على رواية الدراوردي، وجعل رواية عطاف شاهدة لاتصالها، وأما قول ابن القطان [في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 537)]: أن موسى هو ابن محمد بن إبراهيم التيمي المضعف عند البخاري، وأبي حاتم وأبي داود، وأنه نسب هنا إلى جده فليس بمستقيم لأنه نسب في رواية البخاري مخزوميا، وهو غير التيمي فلا تردد، واللَّه أعلم. (تنبيه): ذكر ابن القيم أن لفظ النسائي: إني أكون في الصيف. لكن في المطبوع من "سنن النسائي الصغير": الصيد كما هو في باقي المصادر. (¬1) رواه ابن أبي شيبة (6/ 20)، ومن طريقه أحمد في "مسنده"، وابنه في "زياداته على المسند" (4/ 348) وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (رقم 2150) من طريق علي بن هاشم، وعلقه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 420) عن عبيد اللَّه بن موسى كلاهما عن ابن أبي ليلى عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه أبي ليلى -رضي اللَّه عنه- به. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 218): وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى تكلّم فيه لسوء حفظه ووثقه أبو حاتم. أقول: ابن أبي ليلى من الضعفاء المشاهير، تكلم فيه أئمة الجرح والتعديل. وأبو ليلى الصحابي اختلف في اسمه قيل: بلالُ، أو بُليل، ويقال: داود، وقيل: يسار انظر: "الإصابة" (4/ 169). (¬2) رواه الدارقطني (1/ 399)، والطبراني في "الكبير" (6277)، والبيهقي (3/ 255) كلهم من طريق عقبة بن خالد عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن سلمة بن الأكوع به. قال البيهقي: موسى بن محمد غير قوي، وقال الهيثمي (2/ 57 - 58): فيه موسى وهو ضعيف. قال ابن التركماني معقبا على البيهقي: ألان فيه القول، وأهل هذا الشأن أغلظوا فيه، =

ذكره الدارقطني والقرن (¬1) بالتحريك الجعبة. وسألته أم سلمة: هل تصلي المرأة في درع [وخمار] وليس عليها إزار؟ فقال: "إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهر قدميها" (¬2)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر عن أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: "المسجد الحرام" فقال: ثم أي- قال: المسجد الأقصى"، فقال: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا (¬3)، ثم الأرض لك مسجد حيث أدركتك الصلاة فصل" (¬4)، متفق عليه. ¬

_ = قال ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، وقال أبو زرعة والنسائي: منكر الحديث، وقال الدارقطني: متروك. أقول: وقال ابن عدي: وعقبة هذا يروي عن موسى بن محمد بن إبراهيم أحاديث لا يُتابع عليها، وانظر "بيان الوهم والإيهام" (5/ 537). (¬1) (القرن) هو جعبة من جلود تشق، ويجعل فيها النشاب، وإنما أمره بنزعه؛ لأنه كان من جلد غير مذكى، انظر "النهاية" (4/ 55). (¬2) رواه أبو داود (639) في (الصلاة): باب في كم تصلي المرأة؟ ومن طريقه الدارقطني (2/ 62)، ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (2/ 146 رقم 446) -، والحاكم (1/ 250)، والبيهقي (2/ 233) من طريق عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار عن محمد بن زيد بن قنفذ عن أمه عن أم سلمة به. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه! ووافقه الذهبي. أقول: لكنه أعل بالوقف، قال أبو داود: روى هذا الحديث مالك بن أنس، وبكر بن مضر وحفص بن غياث وإسماعيل بن جعفر، وابن أبي ذئب، وابن إسحاق، عن محمد بن زيد عن أمه عن أم سلمة، ولم يذكر أحد منهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قصروا به على أم سلمة. وكذا قال الدارقطني في "علله" كما في "نصب الراية" (1/ 300)، وعبد الحق في "أحكامه الصغرى" (1/ 196 - 197)، وابن عبد البر في "التمهيد" (6/ 397)، وابن الجوزي في "التحقيق"، وابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (1/ 747) كلهم رجحوا الوقف، وهو الصواب، فإن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن دينار هذا وإن أخرج له البخاري فقد تكلم فيه بعضهم، وقد خالف جماعة من الثقات. وقد رواه أبو داود (639) من طريق مالك، والبيهقي (2/ 233) من طريق مالك وابن أبي ذئب، وهشام بن سعد عن محمد بن زيد به موقوفًا، وانظر: "التلخيص الحبير" (1/ 280) وكتابي "القول المبين" (ص 30)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) قال (و): "يخالف الحديث الواقع، ولذا ضُعِّفَ"!! قلت: هذا شطط، وللعلماء أجوبة مقنعة، أقواها أنه على ظاهره، وأن الزمان يتقاصر مع مضي المدة، وانظر "مشكاة الآثار". (¬4) رواه البخاري (3366) في (الأنبياء): باب رقم (10) و (3425) باب قول اللَّه تعالى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ}، ومسلم (520) في أول كتاب المساجد، من حديث أبي ذر.

وذكر الحاكم في "مستدركه" أن جعفر بن أبي طالب مسألة عن الصلاة في السفينة؟ فقال: "صلِّ فيها قائمًا إلا أن تخاف الغَرَق" (¬1). ¬

_ (¬1) هو باللفظ المذكور؛ رواه الدارقطني في "سننه" (1/ 394)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (698)، و"التحقيق" (2/ 152 رقم 450) من طريق حسين بن علوان: حدثنا جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: لما بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- جعفر بن أبي طالب إلى أرض الحبشة أرض قال: يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كيف أصلي في السفينة. . . فذكره. قال الدارقطني: حسين بن علوان متروك. أقول: بل قال ابن معين: كذاب وقال ابن عدي: وهو في عداد من يضع الحديث. وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (3/ 152) و"تنقيح التحقيق" (1/ 752)، و"الدر المنظوم" (رقم 122). ورواه الدارقطني (1/ 394) من طريق عبد اللَّه بن داود عن رجل من أهل الحديث عن جعفر بن برقان به. أما حديث الحاكم فقد رواه (1/ 275)، ومن طريقه البيهقي (3/ 155) من طريق الحسين بن أبي الحنين (كذا عند البيهقي وفي "المستدرك" الحسين بن أبي الحسين) عن الفضل بن دكين عن جعفر بن برقان عن ميمون عن ابن عمر قال: سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في السفينة قال: فذكره. ورواه الدارقطني (1/ 395)، ومن طريقه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (699) و"التحقيق" (2/ 153) من طريق بشر بن فافاء عن أبي نعيم الفضل بن دكين به. قال البيهقي: وحديث الفضل بن دكين حسن. أما شيخه الحاكم فقال: حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه، وهو شاذ بمرة ووافقه الذهبي. ولا أدري هل يريد شذوذ الإسناد حيث أن ذكر الفضل بن دكين هنا خطأ أم يريد، شذوذ المتن. وقد رواه الدارقطني (1/ 394)، والبزار (683) من طريق إبراهيم بن محمد عن عبد اللَّه بن داود عن رجل من أهل ثقيف عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران عن ابن عمر عن جعفر به. قال الدارقطني: فيه رجل مجهول. قال البزار: لا نعلمه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متصلًا من وجه من الوجوه إلا من هذا ولا له إلا هذا الإسناد، ولا نعلم من سمى الثقفي. . . وانظر: "سنن البيهقي" (3/ 155) و"معرفة السنن والآثار" (4/ 285) و"الخلافيات" (2/ 66/ ب)، و"مصنف عبد الرزاق" (2/ 582، 584)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 266)، و"تغليق التعليق" (2/ 217) وتعليقي على "الدرر الثمينة في حكم الصلاة في السفينة" (ص 22 - 23) للحموي و"إسعاف أهل العصر بأحكام البحر" (ص 191 - 208) ففيه آثار عن بعض الصحابة.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مسح الحصى في الصلاة؟ فقال: "واحدة أو دَعْ" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- جابر عن ذلك؟ فقال: "واحدة، ولأن تُمسك عنها خير لك من مئة ناقة كلها سواد الحَدَق" (¬2)، فقلت (¬3): المسجد كان مفروشًا بالحصباء فكان أحدهم يمسحه (¬4) بيديه لموضع سجوده فرخَّص النبي في مسحه واحدة وندبهم إلى تركها، والحديث في "المسند". وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاسٌ يختلسه الشَّيطان من صلاة العبد" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (2406)، -ومن طريقه أحمد (5/ 163) -، وابن أبي شيبة (2/ 302)، والبزار في "مسنده" (570 - زوائده) من طريق الثوري عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبي ذر به. قال الهيثمي بعد أن عزاه للبزار فقط (2/ 87): وفيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وفي حديثه ضعف. أقول: ومما يدل على ضعفه اضطرابه فيه. فقد رواه ابن خزيمة (916)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1429) من طريق سفيان أيضًا عنه عن عبد اللَّه بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى به. ورواه أحمد في "مسنده" (5/ 402)، وابن أبي شيبة (2/ 302) من طريق وكيع عنه عن شيخ يقال له: هلال عن حذيفة! فجعله من مسند حذيفة. لكن رواه عبد الرزاق (2404)، والطيالسي (470) عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي ذر. وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات. قال الطيالسي: وقال سفيان: عن الأعمش عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عن أبي ذر، وهذا إسناد صحيح أيضًا. وله شاهد من حديث معيقيب رواه البخاري (1207) في (العمل في الصلاة): باب مسح الحصى، ومسلم (546). وانظر ما بعده. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 300 و 328 و 384 و 393)، وابن أبي شيبة (2/ 411 - 412)، وابن خزيمة (897)، وعنه ابن حبان -كما في "إتحاف المهرة" (3/ 151) -، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1433) من طرق عن ابن أبي ذئب عن شرحبيل بن سعد عن جابر به. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 86): فيه شرحبيل بن سعد وهو ضعيف، وفي (ك): "سود الخلق". (¬3) في (ك): "قلت". (¬4) في (ك): "يمسح". (¬5) رواه البخاري (751) في (الأذان): باب الالتفات في الصلاة، و (3291) في (بدء الخلق): =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يصلي أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة أفأصلي معهم؟ فقال: "لك سهم جمع" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر عن الكلب الأسود يقطع الصلاة دون الأحمر والأصفر؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه إني صلَّيتُ فلم أدر أشفعت أو أوترت؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إياكم أن يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم، مَنْ صلَّى فلم يدر أشفع أم أوتر فليسجد سجدتين، فإنَّهما تمام صلاته" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = باب صفة إبليس وجنوده، من حديث عائشة. (¬1) رواه أبو داود (578) في (الصلاة): باب فيمن صلَّى في منزله ثم أدرك الجماعة يصلي معهم ومن طريقه البيهقي (2/ 300) من طريق أحمد بن صالح قال: قرأت على ابن وهب: أخبرني عمرو بن بكير عن عفيف بن عمرو بن المسيب: حدثني رجل من بني أسد بن خزيمة عن أبي أيوب الأنصاري به. أقول: عمرو هو ابن الحارث، وبكير هو ابن الأشج، وهما ثقتان مشهوران وعفيف هذا ذكره ابن حجر في "التهذيب" ثم ذكر إسناد أبي داود وقال: وقال يحيى بن أيوب: عن عمرو بن الحارث عن يعقوب بن عمرو بن المسيب أنه سأل أبا أيوب، ورواه مالك عن عفيف موقوفًا. وقال أبو داود: قال مالك: عفيف بن عمر السهمي، وهو عفيف بن عمرو، وقال النسائي: ثقة. قال ابن حجر: الذي في "الموطآت": عفيف بن عمرو بفتح العين، وقرأت بخط الذهبي: لا يُدرى من هو، وذكره ابن حبان في "الثقات". أقول: رواه مالك في "الموطأ" (1/ 133) عن عفيف السهمي عن رجل من بني أسد أنه سأل أبا أيوب فذكره موقوفًا. ورواه من طريق مالك البيهقي (2/ 300)، وقال: مالك عن عفيف بن عمر السهمي به. وعلى كلا الحالين، هو لا يصح مرفوعًا ولا موقوفًا لجهالة الرجل من بني أسد. وفي الباب حديث أبي ذر، رواه مسلم (648) في (المساجد)؛ باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار. (¬2) رواه مسلم (510) في (الصلاة): باب قدر ما يستر المصلي، من حديث أبي ذر نفسه. (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 63): حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن الزبير: حدثنا مسرة بن معبد عن يزيد بن أبي كبشة عن عثمان بن عفان به. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 150): يزيد لم يسمع من عثمان. أقول: ورواه عبد اللَّه بن أحمد في "زياداته على المسند" (1/ 63)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (285)، وعلَّقه البخاري في "تاريخه الكبير" (8/ 355) من طرق عن =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: لأي شيء فضلت يوم الجمعة؟ فقال: "لأن فيها طُبعت طينة [أبيك] آدم، وفيها الصعقة، والبعثة، و [فيها] البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا اللَّه فيها استجيب له" (¬1). وسئل أيضًا عن ساعة الإجابة؟ فقال: "حين تُقام الصلاة إلى الإنصراف منها" (¬2)، ولا تنافي بين الحديثين لأن ساعة الإجابة، وإن كانت آخر ساعة بعد العصر فالساعة التي تقام فيها الصلاة أولى أن تكون ساعة الإِجابة، كما أَن المسجد الذي أُسس على التقوى هو مسجد قباء ومسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بذلك منه، [وهو أولى] (¬3) من جمع بينهما بتنقُّلها، فتأمل. ¬

_ = سوار بن عمارة أبي عمارة عن مسرة بن معبد، عن يزيد بن أبي كبشة، عن مروان بن الحكم عن عثمان به. قال الهيثمي: ورجال الطريقين ثقات. قلت: يزيد روى عنه جمع وذكره ابن حبان في "الثقات" فحديثه حسن إن شاء اللَّه. (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 311): حدثنا هاشم: حدثنا الفرج بن فضالة: حدثنا علي بن أبي طلحة، عن أبي هريرة، فذكره. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 164): رواه أحمد، ولأبي هريرة عنده في رواية عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ما تطلع الشمس. . . (فذكر حديثًا لا أدري ما علاقته بحديثنا هذا) ثم قال: ورجالهما رجال الصحيح. أقول: أما الحديث الآخر فنعم رجاله رجال الصحيح، أما حديثنا فلا، ففيه علتان: الأولى: ضعف الفرج بن فضالة. الثانية: علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن هريرة قطعًا. انظر: "إتحاف المهرة" (15/ 427). وأنا أكاد أجزم أن الهيثمي رحمه اللَّه قد انتقل بصره إلى إسناد آخر، واللَّه أعلم. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (2/ 57)، وعبد بن حميد (291)، والترمذي (489) في (الجمعة): باب في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة، وابن ماجه (1138) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في الساعة التي ترجى في الجمعة، والطبراني في "الكبير" (7/ 17) من طرق عن كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده به. ووقع عند الطبراني: "حين تقام الشمس" وهو خطأ. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. أقول: بل هو ضعيف جدًا، فإن كثير بن عبد اللَّه هذا قال ابن معين: ليس بشيء، وقال الشافعي وأبو داود: ركن من أركان الكذب، وضرب أحمد على حديثه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن حبان: له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "وهذا".

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه أخبرنا عن يوم الجمعة ما فيها من الخير؟ فقال: "فيه [خمس خِلَال] (¬1): فيه خُلق آدم، وفيه أهبط آدم إلى الأرض، وفيه توفي اللَّه آدم، وفيه ساعة لا يسأل اللَّه العبد فيها شيئًا إلا أعطاه إياه ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم، وفيه تقوم الساعة، فما من ملك مقرب، ولا سماء، ولا أرض، ولا جبال، ولا حجر إِلا وهو مشفق من يوم الجمعة" (¬2)، ذكره أحمد والشافعي. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 127) من طريق ابن أبي يحيى، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن عمرو بن شرحبيل (بن سعيد) بن سعد، عن أبيه، عن جده به. وابن أبي يحيى هو إبراهيم بن محمد متروك الحديث أحسن الشافعي فيه الظن. وعلقه البخاري في "تاريخه الكبير" (4/ 44) من طريق سعيد بن سلمة عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل به. ورواه أحمد (5/ 284) من طريق أبي عامر العقدي، عن زهير بن محمد، عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، عن عمرو بن شرحبيل أخبرنا سعيد بن عبادة، عن أبيه، عن جده سعد بن عبادة به. كذا فيه! وصوابه: "عمرو بن شرحبيل بن سجد بن سعد" كما في "إتحاف المهرة" (5/ 87). ورواه البزار (615 - زوائده) من طريق أحمد إلا أنه قال: عن عمرو بن شرحبيل بن سعيد بن سعد بن عبادة به. ورواه الطبراني (5376) من طريق عبيد اللَّه بن عمرو عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن شرحبيل بن سعد بن عبادة عن سعد بن عبادة. لكن علقه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 44) عن عبيد اللَّه بن عمرو عن ابن عقيل عن عمرو بن شرحبيل من ولد سعد عن سعد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أقول: وهذا اضطراب في الأسانيد، وعمرو بن شرحبيل روى عنه جمع وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حجر: مقبول. وأبو شرحبيل لم يرو عنه إلا ابنه عمرو وعبد اللَّه بن محمد بن عقيل، وذكره ابن حبان في "الثقات". وعبد اللَّه بن محمد بن عقيل حسن الحديث. أما الهيثمي في "المجمع" (2/ 163) فقال: وفيه عبد اللَّه بن محمد بن عقيل وفيه كلام، وقد وثقه، وبقية رجاله ثقات! هكذا أطلق توثيقهم. وقد ذكره شيخنا الألباني في "ضعيف الجامع". ثم وجدت ابن أبي شيبة (2/ 58) قد رواه من طريق زهير بن محمد عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن عبد الرحمن بن يزيد عن أبي لبابة بن المنذر مرفوعًا به لفظه. وهذا اضطراب آخر أخشى أن يكون من عبد اللَّه بن محمد بن عقيل، وهذا إسناد ظاهره أنه حسن إن سلم من اضطراب عبد اللَّه بن محمد، واللَّه أعلم.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صلاة الليل فقال: "مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" (¬1)، متفق عليه. وسأله أبو أمامة: بكم أوتر؟ قال: "بواحدة"، قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "ثلاث"، ثم قال: "بخمس"، ثم قال: "بسبع" (¬2) وفي "الترمذي" أنه سئل عن الشفع والوتر، فقال: "هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر" (¬3). ¬

_ (¬1) تقدم. (¬2) رواه الدارقطني (2/ 24) من طريق يحيى بن صالح الوحاظي، عن معتمر بن تميم البصري عن أبي غالب عن أبي أمامة به. أقول: معتمر هذا لم أجد من ترجمه، وأبو غالب هذا متكلم فيه ومنهم من وثقه. والحديث ذكره الحافظ في "التلخيص" (2/ 14)، ولم يتكلم عليه بشيء. (¬3) رواه الترمذي (3353) في (تفسير القرآن): باب ومن سورة الفجر، والطبري (12/ 563)، وأحمد (4/ 437 و 438 و 442) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (22/ 341) -، والطبراني في "الكبير" (18/ 579)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 522)، من طرق عن همام عن قتادة عن عمران بن عصام عن شيخ من أهل البصرة عن عمران به. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث قتادة. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (8/ 702): ورواته ثقات إلا أن فيه راويا مبهمًا، وقد أخرجه الحاكم من هذا الوجه فسقط من روايته المبهم فاغتر فصححه. أقول: في المطبوع من "المستدرك" بإثبات الرجل المبهم هذا لكن في "تلخيص الذهبي" في الأسفل بإسقاطه! والحديث بإسقاط الرجل المبهم وجدته عند الطبراني في "الكبير" (18/ 578) من طريق مسلم بن إبراهيم: حدثنا خالد بن قيس وهمام قالا: حدثنا قتادة عن عمران بن عصام عن عمران به. ورواه الطبري (12/ 563) من طريق آخر عن خالد بن قيس وحده به. ثم وجدت ابن أبي حاتم رواه في "تفسيره" -كما في "تفسير ابن كثير" (4/ 541) - من طريق يزيد بن هارون عن همام عن قتادة عن عمران بن عصام الضبعي شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين به. قال ابن كثير: هكذا رأيته في "تفسيره" فجعل الشيخ البصري هو عمران بن عصام. أقول: لكن أخشى أن يكون في هذه الرواية وهمًا فيكون قد سقط منها "عن" بعد عمران بن عصام فإن أصحاب همام كلهم رووه عنه بإثبات "عن" كما سبق. ولا أظن يزيد بن هارون يخالفهم، وهو من الثقات الأثبات. ثم أثنى الحافظ على عمران بن عصام، وقال: وعندي أن وقفه على عمران بن حصين أشبه، واللَّه أعلم. أقول: وقد روي موقوفًا، رواه ابن جوير (12/ 563) من طريقين عن قتادة عن عمران بن حصين، وهو منقطع كما قال ابن كثير.

وفي "سنن الدارقطني": أن رجلًا سأله عن الوتر؟ فقال: "افصل بين الواحدة والثنتين بالسلام" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل: أي القيام أفضل؟ قال: "نصف الليل وقليلٌ فاعله" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل من ساعة أقرب إلى اللَّه من الأُخرى؟ قال: "نعم جوفُ الليل الأوسط" (¬4)، ذكره النسائي. ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (2/ 35) من طريق سعيد بن عفير عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب بن نافع عن ابن عمر. ورواه أيضًا من طريق أبي الأسود: حدثنا ابن لهيعة به إلا أنه زاد "بكير" بعد يزيد بن أبي حبيب. أقول: ابن لهيعة نعم فيه كلام لكن أبو الأسود وهو النضر بن عبد الجبار يظهر أن روايته عنه لا بأس بها؛ قال إبراهيم بن الجنيد عن ابن معين: كان راوية عن ابن لهيعة. وباقي رجال الإسناد ثقات مشاهير، وبكير هو ابن عبد اللَّه بن الأشج، والصحيح إثباته، وقوى ابن حجر في "الفتح" (2/ 558) إسناده وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (2/ 38) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 1660، 1661). (¬2) هو في "صحيح مسلم" (756) بعد (165) في (صلاة المسافرين): باب أفضل الصلاة طول القنوت، من حديث جابر. (¬3) رواه النسائي في "الكبرى" (1308)، والمروزي في "زوائد الزهد" (1217)، وابن حبان (2564)، والبيهقي (3/ 4) من طريق عوف الأعرابي عن أبي مخلد عن أبي العالية قال: حدثني أبو مسلم عن أبي ذر به، وقوله "قليل فاعله" إدراج، انفرد به المروزي. وأبو مخلد هذا هو المهاجر بن مخلد وقع في "سنن النسائي" أبو خالد، قال المزي في "تحفة الأشراف": واسمه عندي مهاجر، وغيره يقول: أبو مخلد. وفي المطبوع من "سنن البيهقي": "عن أبي الجلد!! وقد ترجمه الحافظ في "التهذيب" فقال: مهاجر بن مخلد أبو مخلد، ويقال: أبو خالد، قال أبو حاتم: لين الحديث ليس بذاك وليس بالمتقن، يكتب حديثه. وقال ابن معين: صالح، وقال الساجي: صدوق. وأبو مسلم هو الجذمي روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وباقي رجاله ثقات. وفي الباب عن أبي هريرة سأل رجل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "الصلاة في جوف الليل" أخرجه مسلم (1163). (¬4) رواه النسائي (1/ 283) في (الصلاة): باب إباحة الصلاة إلى أن يصلي الصبح، وفي "الكبرى" (1477)، وابن ماجه (1251) في (إقامة الصلاة): باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة، و (1364) في باب ما جاء في أي ساعات الليل أفضل، وأحمد =

فصل [فتاوى تتعلق بالموت والموتى]

فصل [فتاوى تتعلق بالموت والموتى] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن موت الفجاءة فقال: "راحة للمؤمن وأخذةُ أَسفٍ للفاجر" (¬1) ¬

_ = (4/ 111 - 112 و 113 - 114) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (17/ 10 - 11) - من طريق يعلي بن عطاء عن يزيد بن طلق عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمرو بن عبسة به. ولفظ النسائي وأحمد: "جوف الليل الآخر". واللفظ الذي ذكره المؤلف هو لفظ ابن ماجه، ولفظ "الأوسط" منكر، والصحيح "الآخر". قال البوصيري (1/ 243): هذا إسناد فيه عبد الرحمن بن البيلماني قال صالح جَزرَة: لا يعرف أنه سمع من أحد من الصحابة إلا من سُرَّق، ويزيد بن طلق قال ابن حبان: يروي المراسيل. وروى أحمد في "مسنده" (4/ 385) من طريق حجاج بن دينار عن محمد بن ذكوان عن شهر بن حوشب عن عمرو بن عبسة وفيه: "أي الساعات أفضل؟ قال: جوف الليل الآخر". ومحمد بن ذكوان وشهر ضعيفان. وله طريق آخر عن شهر بن حوشب عند ابن سعد في "الطبقات" (4/ 217 - 218)، ولفظه: يا نبي اللَّه: أي الساعات أسمع؟ قال الثلث الآخر، لكن رواه ابن سعد عن شيخه الواقدي، وهو متروك. (¬1) رواه أحمد (6/ 136)، والبيهقي (3/ 379) من طريق عبيد اللَّه بن الوليد عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير قال: سألت عائشة عن موت الفجأة أيكره، قالت: لا شيء يكره سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك فقال:. . . فذكره. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 318): فيه عبيد اللَّه بن الوليد الوصافي متروك. وقد صحح إسناده العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 447)، والسخاوي في "المقاصد الحسنة" (ص 439) (رقم 1212) قال: أخبرني أحمد عن عائشة رفعه بسند صحيح!! وهذا غريب وقد عرفت حال عبيد اللَّه. وأخرجه إسحاق بن راهويه في "المسند" (1197) من طريق ليث عن عبد اللَّه بن أبي نجيح عن مجاهد قال: توفي عبد الرحمن بن أبي بكر فجأة، فشق ذلك على عائشة، وقالت: لوددت أنه أصيب في شيء من جسده مع أني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكرته وإسناده ضعيف، فيه ليث بن أبي سُلَيم ترك حديثه لاختلاطه. وله إسناد آخر إلى عائشة رواه سعيد بن منصور -كما قال ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1463) - والطبراني في "الأوسط" (3129) عن صالح بن موسى الطلحي، عن عبيد اللَّه -وعند الطبراني: عبد الملك- بن عمير عن موسى بن طلحة عن عائشة، =

ذكره أحمد، ولهذا لم يكره أحمد موت الفجاءة في إحدى الروايتين عنه، وقد رُوي عنه كراهتها، ورَوَى في "مسنده" أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرَّ بجدار أو حائط مائل، فأسرع المشي، فقيل له في ذلك، فقال: "إني أكره موت الفوات" (¬1)، ولا تنافي بين الحديثين، فتأمله. وسُئل: تمرُّ بنا جنازة الكافر أفنقوم لها؟ قال: "نعم، إنكم لستم تقومون ¬

_ = قال ابن حجر -كما في "المقاصد الحسنة"-: حديث غريب فيه صالح بن موسى وهو ضعيف، لكن له شواهد. أقول: ذكر ابن حجر صالح هذا في "التقريب" وقال: متروك. وقد رواه -أي حديث عائشة- البيهقي موقوفًا عليها. وفي الباب عن عبيد اللَّه بن خالد السلمي رجل من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. رواه أحمد (3/ 422)، و (4/ 219)، وأبو داود (3110) في (الجنائز): باب موت الفجاة، والبيهقي (3/ 378)، وابن عدي (2/ 649)، ولفظه: "موت الفجاة أخذة أسف". وقال المنذري: حديث عبيد هذا رجاله ثقات. أقول: لكن اختلف في رفعه ووقفه. وفي الباب عن أنس إلا أنه واهي انظر "العلل المتناهية"، وقال الأزدي كما في "العلل": ولهذا الحديث طرق وليس فيها صحيح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد استوعبتُ الكلام على طرقه في تعليقي على "التذكرة" للقرطبي، يسر اللَّه إتمامه بخير وعافية، وانظر "العلل" للدارقطني (5/ 272). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 356)، وأبو يعلى (6612)، والعقيلي في "الضعفاء" (1/ 61)، وابن حبان في "المجروحين" (1/ 105)، وابن عدي في "الكامل" (1/ 232)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1492) من طرق عن إبراهيم بن الفضل عن سعيد المقبري عن أبي هريرة به. قال الهيثمي (2/ 318): بإسناده ضعيف. أقول: إبراهيم بن الفضل هذا أو ابن إسحاق أبو إسحاق أمره أشد فقد ضعَّفه جدًا ابن معين والبخاري والنسائي. وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث التي أمليتها مع أحاديث سواها عن إبراهيم عن المقبري عن أبي هريرة، مما لم أذكره. فكل ذلك غير محفوظ ولم أر في أحاديثه أوحش منها. وإبراهيم هذا جاء اسمه في "مسند أحمد" إبراهيم بن إسحاق ترجمة الذهبي في "الميزان"، وقال: لا أدري من ذا الخبر فمنكر، ثم ذكر خبره هذا. وترجمه أيضًا في إبراهيم بن الفضل ونقل أقوال أهل العلم فيه ثم ذكر هذا الحديث من منكراته.

لها، إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس" (¬1)، ذكره أحمد، وقام لجنازة يهودية فسئل عن ذلك فقال: "إن للموت فزعًا فإذا رأيتم جنازة فقوموا" (¬2). وسئل عن امرأة أوصت أَن يُعتق عنها رقبة مؤمنة، فدعا بالرقبة، فقال: "من ربك"؟ قالت: اللَّه، قال: من أنا؟ قالت: رسول اللَّه. قال: اعتقها، فإنها مؤمنة" (¬3)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر رضي اللَّه عنه: هل ترد إلينا عقولنا في القبر وقت السؤال؟ فقال: "نعم كهيئتكم اليوم" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 168)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 357)، والبيهقي (4/ 27)، والبزار (836)، وابن حبان (3053)، والطحاوي (1/ 486) كلهم من طريق عبد اللَّه بن يزيد المقرئ: حدثنا سعيد بن أبي أيوب عن ربيعة بن سيف عن أبي عبد الرحمن الحُبلي عن عبد اللَّه بن عمرو قال: فذكره. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي بعد أن عزاه لأحمد والبزار والطبراني في "الكبير" (3/ 27): رجال أحمد ثقات. أقول: لكن ربيعة بن سيف هذا قال النسائي فيه: ليس به بأس، وقال ابن معين: صالح، وقال البخاري في "الأوسط": روي عنه أحاديث لا يتابع عليها، وضعفه النسائي في رواية أخرى، وقال ابن حبان: يخطئ كثيرًا، وقال ابن يونس: في حديثه مناكير، وقال الحافظ في "التقريب": صدوق له مناكير. أقول: في القلب من حديثه شيء، واللَّه أعلم. وفي (ك): "ذكره مسلم"! وهو ليس في "صحيحه" ولم يعزه لأحمد! (¬2) رواه البخاري (1311) في (الجنائز): باب من قام لجنازة يهودي، ومسلم (960) في (الجنائز): باب القيام للجنازة. (¬3) رواه أبو داود (3283) في (الأيمان والنذور): باب الرقبة المؤمنة، والنسائي (6/ 252) في (الوصايا): باب فضل الصدقة عن الميت، وأحمد (4/ 222 و 388 و 389)، والدارمي (2/ 107)، وابن حبان (189)، والطبراني في "الكبير" (7257)، والبيهقي (7/ 388 - 389) من طرق عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشريد بن سويد الثقفي به. وهذا إسناد حسن رجاله ثقات، غير محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث. وفي المعنى حديث معاوية بن الحكم السلمي الذي أخرجه مسلم (537) في (المساجد)، وخرجته بتفصيل في تعليقي على "الموافقات" (1/ 64). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 172) من طريق حسن عن ابن لهيعة عن حيي بن عبد اللَّه المعافري أن أبا عبد الرحمن الحبلي حدثه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص به. قال الهيثمي (3/ 47): رواه أحمد والطبراني في "الكبير" ورجاله رجال الصحيح. =

فصل [فتاوى تتعلق الزكاة]

وسئل عن عذاب القبر فقال: "نعم عذاب القبر حق" (¬1). فصل [فتاوى تتعلق الزكاة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صدقة الإبل؟ فقال: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقَّها، -ومن حقها حلبها يوم ورودها (¬2) - إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قَرْقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلًا واحدًا تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كما مر [عليه] أولاها رُدَّ عليه أُخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى [بين] العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البقر؟ فقال: "ولا صاحب بقر، ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قَرْقر (¬4) لا يفقد منها شيئًا ليس فيها عَقْصاء، ولا جَلْحاء، ولا عَضْباء (¬5)، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كما مرت أولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار" (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخيل؟ فقال: "الخيل ثلاثة: هي لرجل وِزْر، ولرجل سِتْر، ولرجل أجر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل اللَّه فأطال لها في مَرْجٍ أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنه ¬

_ = أقول: ابن لهيعة لم يرو له البخاري، وروى له مسلم مقرونًا، وهو متابع. فقد رواه ابن حبان (3115)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 855) من طريق ابن وهب عن حيي به، وانظر "إتحاف المهرة" (9/ 562). وهذا إسناد جيد رجاله ثقات غير حيي بن عبد اللَّه وهو لا بأس به. (¬1) رواه البخاري (1372) في (الجنائز): باب ما جاء في عذاب القبر، من حديث عائشة. (¬2) في (ك): "وردها". (¬3) رواه مسلم في "صحيحه" (987) في (الزكاة): باب إثم مانع الزكاة، من حديث أبي هريرة، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) "مكان مستوٍ فارغ" (و). (¬5) العقصاء: الملتوية القرنين، والجلحاء: التي لا قرن لها، والعضباء: مشقوقة الأذن أو قصير اليد" (و). (¬6) هو جزء من الحديث الذي ذكره المؤلف قبله.

انقطع طيلها فاستنت شرفًا أو شرفين (¬1) كانت له آثارها وأرواثها حسنات ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها كانت له حسنات فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا، ثم لم ينس حق اللَّه في رقابها, ولا في ظهورها فهي لذلك الرجل ستر ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأَهل الإِسلام فهي على ذلك وزر" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الحُمُر؟ فقال: "ما أنزل عليَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3)، ذكره مسلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة، فقالت: إني أَلبس أوضاحًا (¬4) من ذهب، أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز" (¬5)، ذكره مالك. ¬

_ (¬1) "عدًا لمرحه ونشاطه شوطًا أو شوطين، ولا راكب عليه، والشرف: الشوط، والطيل والطول: الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وقد أو غيره أو الطرف الآخر في يد الفرس ليدور فيه ويرعى ولا يذهب لوجهه" (و). وفي (ط): "قطع حبلها، فجرت شوطًا أو شوطين". (¬2) هو جزء أيضًا من الحديث المشار إليه سابقًا. (¬3) أيضًا هو جزء من الحديث المشار إليه راجع هامش (3) الصفحة السابقة. (¬4) "نوع من الحلي كانت تعمل من الفضة سميت بها لبياضها" (و). (¬5) رواه أبو داود (1564) في (الزكاة): باب الكنز ما هو؟ وزكاة الحلي، ومن طريقه البيهقي (4/ 410) من طريق عتاب بن بشر عن ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة به. ورواه الحاكم في "المستدرك" (1/ 390)، والدارقطني (2/ 105) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 141 رقم 1157) - والبيهقي (4/ 83) من طريق محمد بن مهاجر عن ثابت بن عجلان به. قال الحاكم: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. أقول: ثابت بن عجلان تفرد بهذا الحديث كما قال البيهقي، وثابت هذا تكلم فيه العقيلي، وقال: لا يتابع على حديثه، وسئل عنه أحمد أكان ثقة؟ فسكت وأعله به عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (2/ 169)، وانظر "معرفة السنن والآثار" (6/ 143). وثابت قد روى له البخاري ووثقه غير واحد وقد رد العلماء على قول العقيلي فيه، وبيّنوا وجه سكوت الإِمام أحمد عنه نقل ذلك الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 372) عن ابن دقيق العيد وابن عبد الهادي في "التنقيح" (2/ 1423 رقم 325) بكلام دقيق متين حري بأن يرجع إليه، قلت: وكذلك فعل ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 363)، والذهبي في "تنقيح التحقيق" (5/ 141 رقم 1157). =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أفي المال حقٌّ سوى الزكاة؟ قال: نعم، ثم قرأ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (¬1)، ذكره الدارقطني. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن لي حليًا، وإن زوجي خفيف ذات اليد، وإن ¬

_ = وقد بالغ ابن الجوزي -كعادته- فظن أن محمد بن مهاجر الذي يروي عن ثابت بن عجلان ظنه ذاك الكذاب! مع أنه هنا هو الذي أخرج له مسلم. وللحديث علة نبّه عليها شيخنا العلامة الألباني في "السلسلة الصحيحة" (559)، وهي الانقطاع بين عطاء بن أبي رباح وأم سلمة فقد صرّح ابن المديني بعدم سماعه منها. قال الألباني -رحمه اللَّه-: وقد صرفهم الاختلاف في ثابت عن الانتباه للعلة الحقيقية في الإسناد ألا وهي الانقطاع، والحديث حسن، له شاهدان عن جابر وأبي هريرة. وانظر "نصب الراية"، و"السلسلة الصحيحة" (559). (تنبيه): عزا المؤلف الحديث للإمام مالك، وهو ليس في "الموطأ"، والذي عند مالك (1/ 256) عن عبد اللَّه بن دينار عن عبد اللَّه بن عمر وهو يسأل عن الكنز ما هو؟ فقال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. (¬1) رواه الدارقطني (2/ 107) من طريق أبي بكر الهذلي عن شعيب بن الحبحاب عن عامر الشعبي عن فاطمة بنت قيس، فذكره، وفيه زيادة. وقال: أبو بكر الهذلي: متروك ولم يأت به غيره. أقول: وأبو بكر هذا كذّبه بعضهم. وروى الترمذي (659، 660)، والدارمي (1/ 385)، وابن عدي (4/ 1328)، والطبري في "تفسيره" (2/ 101)، والدارقطني (2/ 125) من طريق أبي حمزة عن عامر عن فاطمة نحوه دون السؤال. وأبو حمزة هذا ميمون ضعّفه الدارقطني، وقال أحمد: متروك، وقال ابن معين: ليس بشيء. قال الترمذي عقبه: "هذا حديث إسنادهُ ليس بذاك، وأبو حمزة ميمون الأعور يُضعَّف، وروى بيان وإسماعيل بن سالم عن الشعبي هذا الحديث قوله، وهذا أصحُّ". وقال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (1/ 107): وبالجملة؛ فالحديث كيفما كان ضعيف بأبي حمزة ميمون الأعور، ضعفه الترمذي، وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به أبو حمزة الأعور، وهو ضعيف، ومن تابعه أضعف منه، وعزاه لأبي يعلى في "مسنده". قلت: أخرجه ابن زنجويه في "الأموال" (2/ 789 رقم 1365)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 156، 191)، وأبو عبيد في "الأموال" (445) عن ابن عمر قوله: "في مالك حق سوى الزكاة"، وإسناده صحيح. وأثر الشعبي أخرجه أبي شيبة في "المصنف" (3/ 191)، وابن زنجويه في "الأموال" (2/ 792 رقم 1370)، وابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 212) عنه بإسناد حسن.

لي ابن أخ أفيجزئ عني أن أجعل زكاة الحلي فيهم؟ قال: "نعم" (¬1). وذكر ابن ماجه أن أبا سيَّارة سأله فقال: إن لي نخلًا، فقال: "أَد العشر" فقلت: يا رسول اللَّه، احمها لي، فحماها لي (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (2/ 108) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (2/ ق 409/ أ)، وابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 146 رقم 1162) من طريق محمد بن الأزهر: حدثنا قبيصة عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود به. وقال: وهذا وهم، والصواب عن إبراهيم عن عبد اللَّه، مرسل موقوف. أقول: محمد بن الأزهر، ذكره ابن عدي في "الكامل" (6/ 2143)، ونقل عن أحمد قوله فيه: لا تكتبوا عنه فإنه يحدث عن الكذابين، وقال ابن عدي: ومحمد بن الأزهر هذا ليس بالمعروف، وإذا لم يكن معروفًا يحدث عن الضعفاء فسبيلهم واحد لا يجب أن يشتغل بروايتهم وحديئهم. ثم رواه عبد الرزاق (4/ 83 - 84 رقم 5076)، والدارقطني والبيهقي (4/ 139)، وفي "الخلافيات" (2/ ق 409/ أ) من طريق عبد اللَّه بن الوليد عن سفيان به موقوفًا عن ابن مسعود، قال البيهقي: "وقد روي هذا مرفوعًا إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس بشيء" وقال الدارقطني في "العلل" (5/ 158) عن الموقوف: "وهو الصواب". وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (5/ 365 رقم 2538) و"تنقيح التحقيق" (2/ 1424) لابن عبد الهادي و (5/ 145) للذهبي و"إتحاف المهرة" (10/ 373 - 375) "الطرق الحكمية" (ص 301)، و"بدائع الفوائد" (3/ 143). (¬2) رواه ابن ماجه (1823) في (الزكاة): باب زكاة العسل، وأحمد في "مسنده" (4/ 236)، وعبد الرزاق (6973)، وابن أبي شيبة (3/ 33)، وأبو داود الطيالسي (826 - منحة المعبود) -ومن طريقه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ 2922 رقم 6844) - والبغوي في "معجم الصحابة" -ومن طريقه المزي (33/ 398) -، والدولابي في "الكنى" (1/ 37)، والطبراني في "الكبير" (22/ 800 و 881) - عنه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (رقم 6845) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (33/ 399) - وأبو عبيد (597)، وابن زنجويه (2016) كلاهما في "الأموال"، والبيهقي في "السنن الكبرى" (4/ 126) كلهم من طرق عن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن أبي سيّارة المتعي به. قال البيهقي: هذا أصح ما روي في وجوب العشر، وهو منقطع. قال أبو عيسى الترمذي: "سألت محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا، فقال: هذا حديث مرسل، وسليمان بن موسى لم يدرك أحدًا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس في زكاة العسل شيء يصح". وعزاه البوصيري (1/ 320) لأبي يعلى في "مسنده" وقال: هذا إسناد ضعيف. . . وليس لأبي سيارة عند ابن ماجه سوى هذا الحديث الواحد، وليس له شيء في الأصول الخمسة، ثم نقل عن أبي حاتم قوله: لم يلق سليمان بن يسار أبا سيارة، والحديث مرسل. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- العباس عن تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول، فأذن له في ذلك (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن زكاة الفطر؟ فقال: "هي على كل مسلم صغيرًا أو كبيرًا، حرًا أو عبدًا، صاعًا من تمر أو [صاعًا من] شعير أو أقط" (¬2). ¬

_ = وانظر: "المحلى" (5/ 232)، و"نصب الراية" (2/ 391 - 393)، و"الإصابة" (7/ 196). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 104)، وأبو داود (1624) في (الزكاة): باب في تعجيل الصدقة، والترمذي (678) في (الزكاة): باب ما جاء في تعجيل الزكاة، وابن ماجه (1795) في (الزكاة): باب تعجيل الزكاة قبل محلها. وابن سعد في "الطبقات" (4/ 26)، والدارمي (1/ 385)، وأبو عبيد في "الأموال" (1885)، وابن الجارود في "المنتقى" (ص 184)، وابن خزيمة (2331)، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (272) -ومن طريقه البرزالي في "مشيخة ابن جماعة" (1/ 325) وابن رشيد في "ملء العيبة" (3/ 179 - 180) -، والدارقطني (2/ 123)، والحاكم (3/ 332)، والبيهقي (4/ 111 و 10/ 54)، والبغوي (1577) وابن حزم في "المحلى" (6/ 97)، وابن عساكر (7/ ق 354)، والذهبي في "السير" (16/ 158) من طريق إسماعيل بن زكريا عن الحجاج بن دينار عن الحكم بن عتيبة، عن حُجيّة بن عدي، عن علي بن أبي طالب به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. والحديث قد اختلف في إسناده كما بيّن ذلك الدارقطني في "علله" (3/ 187 - 189)، وقد رجّح هو -ومن قبله أبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان كما في "العلل" (1/ 215) لابن أبي حاتم- وتبعهم وتبعهما والبيهقي رواية هشيم عن منصور بن زاذان عن الحكم عن الحسن بن مسلم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، انظر هذه الرواية وتخريجها في "الغيلانيات" (273). وقد ذكره شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (3/ 346)، وأسهب في الحديث عليه، وذكر ترجيح الدارقطني أنه مرسل ثم ذكر شواهد للمرسل، ونقل كلام الحافظ في "الفتح" (3/ 334): "وليس ثبوت هذه القصة في تعجيل صدقة العباس ببعيد في النظر بمجموع هذه الطرق". ثم قال: "وهذا الذي نجزم به لصحة سندها مرسلًا وهذه شواهد لم يشتد ضعفها، فهو يتقوى بها ويرتقي إلى درجة الحسن على أقل الأحوال". (¬2) بهذا اللفظ رواه الدارقطني (2/ 138) من طريق علي بن الحسين عن أبيه عن علي، قال الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 411): قال الشيخ في (الإِمام): وفي إسناده بعض من يحتاج إلى معرفة حاله، وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 2043). أقول: وشاهده حديث ابن عمر، رواه البخاري (1503)، وأطرافه هناك، ومسلم (984)، لكن دون ذكر الأقط. وأما فرض الأقط فثابت في "صحيح مسلم" (985) من حديث أبي سعيد. وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحاب الأموال، فقالوا: إن أصحاب الصدقة يعتدون علينا أفنكتُم من أموالنا بقدر ما يعتدون [علينا]؟ قال: "لا" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل، فقال: إني ذو مال كثير، وذو أهل، وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أمنع؟ (¬2) فقال: "تُخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك وتصل [بها رحمك و] (¬3) أقاربك وتعرف حقّ السائل والجار والمسكين". فقال: يا رسول اللَّه أقلل فيَّ، قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] فقال: حسبي، وقال: يا رسول اللَّه إذا أديتُ الزكاة إلى رسولك، فقد برئت منها إلى اللَّه ورسوله؟ قال رسول اللَّه: "نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها على من بدَّلها" (¬4)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصدقة على أبي رافع مولاه؟ فقال: "إنَّا آل محمد لا تحلُّ لنا الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم" (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه عبد الرزاق (6818)، ومن طريقه أحمد (5/ 83)، وأبو داود (1587) في (الزكاة): باب رضا المصدق، والبيهقي (4/ 104) من معمر عن أيوب عن رجل يقال له: ديسم السدوسي عن بشير بن الخصاصية به. لكن رواه أحمد في "مسنده" (5/ 83)، وأبو داود (1586) من طرق عن حماد بن زيد عن أيوب به موقوفًا. أقول: حماد بن زيد أحفظ من معمر قال ابن معين: ليس أحد أثبت في أيوب منه "أي حماد بن زيد"، وقال أيضًا: من خالفه في الناس جميعًا فالقول قوله في أيوب، وقال هذا المعنى غيره أيضًا فانظر ترجمته في "التهذيب". وعلى كلا الأمرين: الرفع أو الوقف فالحديث مداره على دَيْسم، ولم يرو عنه إلا أيوب، وذكره ابن حبان في "الثقات"! فهو من المجاهيل. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) في (ك): "أصنع". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط في (ك). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 136)، والطبراني في "الأوسط" (8802) والحاكم (2/ 360 - 361) من طريق ليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن أنس بن مالك به. قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 63): رواه أحمد والطبراني في "الأوسط"، ورجاله رجال الصحيح. أقول: لكن رواية سعيد عن أنس مرسلة كما في "التهذيب" (4/ 94) و"إكمال تهذيب الكمال" (رقم 495). (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 8 و 10 و 390)، والطيالسي (972)، وابن أبي شيبة (3/ 214)، وأبو داود (1650) في (الزكاة): باب الصدقة علي بني هاشم، والترمذي (656) في "الزكاة": باب كراهية الصدقة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والنسائي (5/ 107) في (الزكاة): باب =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر عن أَرضه بخيبر واستفتاه ما يصنع فيها؟ وقد أراد أن يتقرب بها إلى اللَّه فقال: "إن شئت حَبستَ أصلها وتصدقت بها" ففعل (¬1). وتصدَّق عبد اللَّه بن زيد بحائط له، فأتاه (¬2) أبواه فقالا: يا رسول اللَّه إنها كانت قيم وجوهنا, ولم يكن لنا مال غيره فدعا عبد اللَّه فقال: "إن اللَّه قد قبل منك صدقتك وردَّها على أبويك" فتوارثاها بعد ذلك (¬3)، ذكره النسائي. ¬

_ = مولى القوم منهم، والحاكم (1/ 404) والطحاوي في "المشكل" (4390)، وابن خزيمة (2344)، وابن حبان (3293)، والبيهقي (7/ 32)، والبغوي (1607) من طريق شعبة عن الحكم بن عتيبة عن ابن أبي رافع عن أبيه به. لكن عند أحمد (6/ 10) عن ابن أبي ليلى عن الحكم، وسقط الحكم من إسناد مطبوع "مسند أحمد" (6/ 8)، انظر: "إتحاف المهرة" (14/ 249)، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم على شرط الشيخين. واسم ابن أبي رافع: عُبيد اللَّه، ثقة، أخرج له الستة، وانظر: "السلسلة الصحيحة" (1613). (¬1) رواه البخاري (2737) في (الشروط): باب الشروط في الوقف، و (2772) في (الوصايا): باب الوقف كيف يكتب، ومسلم (1632) في (الوصية): باب الوقف، من حديث ابن عمر. وطرقه كثيرة في "مسند عمر" (رقم 44 - 55) للنجاد. (¬2) في (ك): "فأتى". (¬3) رواه النسائي في "الكبرى" (6313) مختصرًا، والدارقطني (4/ 201)، والحاكم (3/ 336 و 4/ 348) من طريق أبي بكر بن حزم عن عبد اللَّه بن زيد به. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين إن كان أبو بكر بن عمرو بن حزم سمعه من عبد اللَّه بن زيد، ولم يخرجاه، وقال الدارقطني: هذا مرسل لأن عبد اللَّه بن زيد بن عبد ربه توفي في خلافة عثمان ولم يدركه أبو بكر بن حزم. ثم رواه الدارقطني (4/ 201) من طريق آخر عن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمرو بن سليم عن عبد اللَّه بن زيد به، وقال: وهذا أيضًا مرسل. وعزاه الحافظ في "النكت الظراف" (4/ 345) من هذه الطريق (طريق عمرو بن سليم) للحاكم في "المستدرك"، وليس هو فيه (4/ 348). ورواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1940 و 1941 و 1942)، والدارقطني (4/ 200، 201)، والحاكم (4/ 348)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ رقم 4156) من طريق عبيد اللَّه بن عمر بن بشير بن محمد بن عبد اللَّه بن زيد عن جده عبد اللَّه بن زيد به. قال الدارقطني: هذا مرسل بشير بن محمد لم يدرك جده عبد اللَّه بن زيد، وقال الحاكم: وهذا الحديث وإن كان إسناده صحيحًا على شرط الشيخين. فإني لا أرى =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الصدقة أفضل؟ فقال: "المنيحة؛ أَن يمنح أحدكم الدرهم أو الدابة أو لبن الشاة أو لبن البقرة" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة عن هذه المسألة، فقال: "جهد المقل وابدأ بمن تعول" (¬2)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة أخرى عنها، فقال: "أَن تتصدق، وأنت صحيح شحيح ¬

_ = بشير بن محمد الأنصاري سمع من جده عبد اللَّه بن زيد وإنما ترك الشيخان حديث عبد اللَّه بن زيد في الأذان والرؤية التي قصها على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذا الإسناد لتقدم موت عبد اللَّه بن زيد فقد قيل: إنه استشهد بأحد، وقيل: بعد ذلك بيسير، واللَّه أعلم. وانظر في وفاة عبد اللَّه بن زيد "الإصابة". وقد قال الحافظ في "النكت الظراف": إنه استشهد في اليمامة، وانظر -غير مأمور-: "إتحاف المهرة" (6/ 652 - 654) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4360 - 4365). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 463)، وأبم يعلى (5121) من طريق إبراهيم بن مسلم الهجري، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود به، ورواه البزار (947) من طريق جعفر بن جميع عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود به. قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 133): ورجال أحمد رجال الصحيح. أقول: إبراهيم الهجري لم يرو له أحد من أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه، وقد تكلم فيه أئمة الجرح والتعديل؛ لأنه كان رفَّاعًا، وقد ضعفه جدًا أبو حاتم والبخاري والنسائي. قال ابن عدي: وأحاديث عامتها مستقيمة من المعنى، وإنما أنكروا عليه كثرة روايته عن أبي الأحوص عن عبد اللَّه، وهو عندي ممن يكتب حديثه. قال الحافظ ابن حجر: "القصة المتقدمة عن ابن عيينة تقتضي أن حديثه عنه صحيح؛ لأنه إنما عيب عليه رفعه أحاديث موقوفة، وابن عيينة ذكر أنه ميز حديث عبد اللَّه من حديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والحديث هنا ليس من رواية ابن عيينة فهو ضعيف. ولبعضه شاهد فقد روى البخاري في "صحيحه" (2629) عن أبي هريرة مرفوعًا: "نعم المنيحة اللقحة الصفيّ منحة والشاة الصفي تغدو بإناء وتروح بإناء". وآخر من حديث ابن عمرو في منيحة العنز عند البخاري أيضًا (2631)، وخرجتُه بتفصيل في تعليقي على "الأوهام التي في مدخل الحاكم" (ص 137 - 138). (¬2) رواه أبو داود (1677) في (الزكاة): بابا الرخصة في ذلك، وأحمد (2/ 358)، وابن خزيمة (2444)، وابن حبان (3346)، والحاكم (1/ 414)، والبيهقي (1/ 480) من طرق عن الليث بن سعد، عن أبي الزبير، عن يحيى بن جعدة عن أبي هريرة به. والسائل هو أبو هريرة نفسه. وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. لكن يحيى بن جعدة لم يخرج له مسلم، وهو ثقة.

تخشى الفقر وتأمل الغنى" (¬1). وسئل مرة أخرى عنها، فقال: "سقي الماء" (¬2). [وسئل مرة أخرى عنها، فقال] (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سُراقة بن مالك عن الإبل تغشى حياضه: هل له من أجر في ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1419) في (الزكاة): باب فضل صدقة الصحيح الشحيح، و (3748) في (الوصايا): باب الصدقة عند الموت، ومسلم (1032) في (الزكاة) باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح والشحيح، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه أبو داود (1679 و 1680) في (الزكاة): باب فضل سقي الماء، والنسائي (6/ 254 و 254 - 255) في (الوصايا): باب ذكر الاختلاف على سفيان، وابن ماجه (3684) في (الأدب): باب فضل الماء، وابن خزيمة (2496 و 2497)، وابن حبان (3348)، والطبراني في "الكبير" (6/ رقم 5379)، والحاكم (1/ 414)، والبيهقي (4/ 185) من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن عُبادة قال: قلت يا رسول اللَّه أي الصدقة أفضل (فذكره). وصححه الحاكم على شرط الشيخين، فتعقبه الذهبي بقوله: قلت: لا فإنه غير متصل. أقول: لأن سعيد بن المسيب لم يسمع من سعد بن عبادة. ورواه أحمد (5/ 385 و 6/ 7)، وأبو داود (1685)، والطبراني (5383)، والبيهقي (4/ 185) من طرق عن الحسن عن سعد بن عبادة، وعند أبي داود: عن سعيد والحسن، وهذا منقطع أيضًا الحسن لم يدرك سعد بن عبادة. ورواه أبو داود (1681) وابن قانع في "معجم الصحابة" (5/ 1818 رقم 499) من طريق أبي إسحاق عن رجل عن سعيد، وهذا ضعيف لإبهام الرجل. ورواه الطبراني (5385) من طريق آخر عن سعد، وفيه انقطاع، وراوٍ ضعيف، وآخر مجهول. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ط)، وقال (و): "لم يذكر ما قاله -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وقال (ح)، و (ط): "هنا بياض في الأصلين، تدبر"، وكذا في (ك) بياض. قلت: والوارد عنه -رضي اللَّه عنه- قوله: ماتت أمي وعليها نذر، فسألتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فأمرني أن أقضيه عنها. أخرجه البخاري (6959)، ومسلم (1638)، وأبو داود (3307)، والنسائي (6/ 252، 253 و 7/ 20 - 21)، والترمذي (1546)، وابن ماجه (2132)، والحميدي (522)، والطيالسي (2717)، وابن حبان (4377، 4379)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 940)، وأحمد (6/ 7)، والحاكم (3/ 254)، والبغوي (10/ 38) من طرق عن الزهري عن عبيد اللَّه عن ابن عباس عن سعد بن عبادة به، وجعله بعضهم من مسند ابن عباس. وله طرق أخرى من حديث سعد بن عبادة، خرجها مالك (2/ 765)، والنسائي (6/ 250)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (رقم 498).

سقيها؟ فقال: "نعم في كل كبد حَرَّى أجر" (¬1)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) الحديث يرويه الزهري واختلف عنه؛ فرواه محمد بن إسحاق عنه عن عبد الرحمن بن مالك بن جعشم عن أبيه عن عمه. أخرجه أحمد (4/ 175)، وابن ماجه (3686) في (الأدب): باب فضل صدقة الماء، وابن أبي شيبة وأحمد بن منغ في "مسنديهما" -كما في "زوائد ابن ماجه" (2/ 245) - وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ رقم 1032). وقد وقع في "سنن ابن ماجه" المطبوع وزوائده: عن أبيه عن جده سراقة وهو خطأ؛ لأن عبد الرحمن هذا هو ابن مالك بن مالك بن جعشم يروي عن أبيه مالك عن عمه سراقة. وقد وقع اسم عبد الرحمن هذا في بعض المصادر: عبد الرحمن بن كعب بن مالك بن جعشم، كما سماه الطبراني وغيره، ولكن في "التهذيب" وغيره لم أجده هكذا. ورواه عن ابن شهاب: موسى بن عقبة، كما عند ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ رقم 1031) مثل رواية ابن إسحاق هذه. ورواه محمد بن إسحاق أيضًا عنه عن عبد الرحمن بن مالك عن عمه سراقة دون ذكر أبيه، أخرجه البيهقي (4/ 186)، وهكذا رواه صالح بن كيسان عن الزهري، عند أحمد (4/ 175). ورواه عبد الرحمن بن إسحاق عنه عن عبد الرحمن بن مالك عن عمه سراقة؛ أخرجه مسدد في "مسنده" -كما في "زوائد ابن ماجه"- والطبراني في "الكبير" (6598)، والحاكم (3/ 619)، وسمّاه عبد الرحمن بن كعب بن مالك. ورواه محمد بن إسحاق أيضًا عنه عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك عن أبيه كعب بن مالك عن سراقة. أخرجه الطبراني في "الكبير" (6600)، والحاكم (3/ 619). ورواه معمر عنه عن عروة بن الزبير عن سراقة. أخرجه عبد الرزاق (19692)، ومن طريقه أحمد (4/ 175)، والطبراني (6587)، والبيهقي في "السنن" (4/ 186)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ 1423 رقم 3600)، وأظن عروة لم يدرك سراقة. ورواه القضاعي في "مسند الشهاب" (112) من طريق سفيان عن الزهري عن ابن سراقة أو غيره عن سراقة. والحديث أعله البوصيري بعنعنة ابن إسحاق. أقول: لكن رواه غير ابن إسحاق كما رأيت. ورواه ابن حبان (542) من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن محمود بن الربيع عن سراقة به، وعزاه ابن حجر في "أطراف السند" (2/ 429 رقم 2541)، و"إتحاف المهرة" (5/ 67 رقم 4960) لأحمد في "المسند" من طريق يونس به، وهو ليس في مطبوعه!. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأتان عن الصدقة على أزواجهما؟ فقال: "لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" (¬1) متفق عليه، وعند ابن ماجه: أَتجزئ عني من النفقة الصدقة على زوجي وأيتام في حِجْري؟ فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لها أجران أجر الصدقة وأجر القرابة" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أَسماء فقالت: مالي مال إلا ما أدخل عليَّ الزبير، أفأتصدق؟ فقال: "تصدقي، ولا تُوعي فيُوعى عليك" (¬3) متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- مملوك: أَتصدق من مال مولاي بشيء؟ فقال: "نعم، والأَجر بينكما نصفان". ذكره مسلم (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- عن شراء فرس تصدق به، فقال [له]: "لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه" (¬5) متفق عليه. ¬

_ = وهذا إسناد صحيح متصل، إن سلم من الاختلاف!!. وفي الباب عن أبي هريرة رواه البخاري (2363 و 2466 و 6009)، ومسلم (2244). وفي (ك) تكررت كلمة "سراقة" وفيها أيضًا: "حرة" بدل "حرى". (¬1) رواه البخاري (1466) في (الزكاة): باب الزكاة على الزوج والأيتام في الحجر، ومسلم (1000) في (الزكاة): باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين، من حديث بلال بن رباح. (¬2) هو في "سنن ابن ماجه" (1834) في (الزكاة): باب الصدقة على ذي القرابة، وهو بإسناد البخاري ومسلم في الحديث قبله، لكن عندهما عن زينب وامرأة أخرى قالتا لبلال أن يسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وعند ابن ماجه هنا من سؤالها هي. (¬3) رواه البخاري (1433) في (الزكاة): باب التحريض على الصدقة والشفاعة فيها، و (1434) باب الصدقة فيما استطاع، و (2590 و 2591) في (الهبة): باب هبة المرأة لغير زوجها، ومسلم (1029) بعد (89) في (الزكاة): باب الحث على الإنفاق وكراهة الإحصاء، من حديث أسماء بنت أبي بكر. قال (و): "لا تجمعي، وتشحي بالنفقة، فيشح عليك وتجازي بتضييق رزقك"، وقال (ط): "لا تشحي بالصدقة فيحرمك اللَّه تعالى من فضله". (¬4) رقم (1025) في (الزكاة): باب ما أنفق العبد من مال مولاه، من حديث عُمير مولى آبي اللَّحم. (¬5) رواه البخاري في مواطن منها: (1490) في (الزكاة): باب هل يشتري صدقته، ومسلم (1621) في (الهبات): باب كراهية شراء الإنسان ما تصدق به ممن تصدق عليه، من حديث عمر نفسه. وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المعروف فقال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أَن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أَن تفرغ من دلوك في إناء المُستسقي (¬1)، ولو أَن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك، ووجهك إليه طلق (¬2) ولو أَن تلقى أَخاك فتسلِّم عليه، ولو أَن تؤنس الوحشان [في الأرض] " (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) في (ك): "المستقي". (¬2) في (ك): "منطلق". (¬3) هو بهذا اللفظ؛ رواه أحمد (3/ 482): حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا سعيد الجريري عن أبي السليل، عن أبي تميمة الهجيني، قال إسماعيل بن إبراهيم مرّة: عن أبي تميمة الهجيني عن رجل من قومه قال: لقيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض طرق المدينة. . . (فذكره) وفيه زيادة. ذكره أحمد في "حديث أبي تميمة الهجيني عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" أي أن الصحبة له، وهذا خطأ؛ فمان الحافظ ترجم في "الإصابة" لأبي تميم في القسم الأول وبين أن صوابه "أبو تميمة الهجيمي" وهو خالد بن طريف تابعي مشهور، وهو من هجيم، وليس كما هو هنا بالنون. إذن الصواب هي رواية إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن علية الثانية- عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من قومه من هُجيم، وهو جابر بن سليم أو سليم بن جابر أبو جري الهجيمي كما وقع في بعض الروايات، والإسناد بذكر "الرجل من قومه" أي الرواية الثانية لإسماعيل ابن علية إسناد صحيح رواته كلهم ثقات، غير أن سعيد الجريري اختلط لكن رواية ابن علية عنه قبل الاختلاط. وأخرجه أحمد (5/ 64) من طريق آخر بلفظ أخصر، وفيه ألفاظ غير التي هنا من طريق عفان بن حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن عبيدة أبي خداش عن أبي تميمة الهجيني به، وهذا أيضًا سقط منه الصحابي كذلك، مع أن الإمام أحمد في هذا الموطن ذكره في مسند "جابر بن سليم"، وقارن "إتحاف المهرة" (3/ 60 - 61) بما فيه أيضًا (16/ 2/ 712). وقد رواه بلفظ أخصر مما هو، وفيه زيادات كذلك، أحمد (5/ 63)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1181)، والطبراني (6383)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 109)، وابن حبان (522)، والبغوي في "شرح السنة" (3504) من طرق عن سلام بن مسكين، عن عقيل بن طلحة قال: حدثني أبو جُرَي الهجيمي (فذكره). وهذا إسناد صحيح. وللحديث أسانيد وطرق هو بها صحيح إن شاء اللَّه تعالى، قال ابن عبد البر في "الإستيعاب" (302) في ترجمة (جابر بن سليم): "له حديث حسن في وصية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إياه" انظرها عند البخاري في "الأدب المفرد" (1217 - باب الاحتباء)، وفي "التاريخ الكبير" (2/ 206)، و"التاريخ الأوسط" (1/ 232 رقم 420 - 424 - رواية الخفاف) وأبي =

فللَّه ما أجلَّ هذه الفتاوى، وما أحلاها، وما أنفعها، وما أجمعها لكل خير، فواللَّه لو أَن الناس صرفوا هممهم إليها لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، واللَّه المستعان. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني تصدَّقتُ على أمي بعبد، وإنها ماتت فقال: "وجبت صدقتك، وهو لك بميراثك" (¬1)، ذكره الشافعي. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: "إني تصدَّقتُ على أمي بجارية، وإنها ماتت فقال: "وجب أجرُك وردها عليك الميراث" ذكره مسلم (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن أمي توفِّيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" (¬3)، ذكره البخاري. وسأله آخر فقال: إني أمي افُتلِتَتْ نَفْسُها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: "نعم" (¬4) متفق عليه. ¬

_ = داود (4084)، وأحمد (5/ 64)، والطيالسي (1208)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1182 و 1183 و 1184 و 1185)، وابن حبان (521) والطبراني في "الكبير" (6385 و 6386 و 6387 و 6388)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4/ 324 - ط الهندية)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (رقم 166)، والحاكم (4/ 186)، والبيهقي (10/ 236)، والبغوي (13/ 83 - 84)، وانظر "السلسلة الصحيحة" (رقم 770). وللحديث شاهد من حديث أبي ذر أخرجه مسلم (2626)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) رواه الشافعي في "مسنده" (2/ 191): أخبرنا الثقة أو سمعت مروان بن معاوية عن عبد اللَّه بن عطاء المدني عن ابن بُريدة الأسلمي عن أبيه أن رجلًا. . . (فذكره). وهذا إسناد جيّد رواته ثقات غير عبد اللَّه بن عطاء هذا وهو لا بأس به. وابنا بريدة هما: عبد اللَّه وسليمان، وكلاهما ثقة. وابن بريدة هنا هو عبد اللَّه -كما جاء مصرحًا به عند مسلم- في الحديث الذي بعده، حيث رواه من طرق عن عبد اللَّه بن عطاء عن عبد اللَّه عن أبيه، لكن سياق القصة يختلف والمعنى واحد. (¬2) رقم (1149) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت، من حديث بريدة. (¬3) رواه البخاري (2756) في (الوصايا): باب إذا قال أرضي أو بُستاني صدقة للَّه عن أمي فهو جائز، و (2762) باب الإشهاد في الوقف والصدقة، و (2770) باب إذا وقف أرضًا ولم يبين الحدود فهو جائز، من حديث ابن عباس. (¬4) رواه البخاري (2760) في (الوصايا): باب ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، ومسلم (1004) في (الزكاة): باب وصول ثواب الصدقة عن الميت، و (3/ 1254) في (الوصية): باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، من حديث عائشة.

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إن أبي مات، ولم يوص أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: "نعم" (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حكيم بن حزام فقال: يا رسول اللَّه أمورٌ كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلة (¬2) وعتاقة وصدقة هل لى فيها أجر؟ قال: أسلمتَ على ما سلف لك من خير" (¬3)، متفق عليه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- عن ابن جُدْعان، وأَنه كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ فقال: "لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (¬4)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الغنى الذي يحرم المسألة؟ فقال: "خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب" (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1630) في (الوصية): باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت، من حديث أبي هريرة، ولفظه: إن أبي مات وترك مالًا ولم يوص، فهل يُكفِّر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم. (¬2) في (ك): "صلات". (¬3) رواه البخاري (1436) في (الزكاة): باب من تصدق في الشرك ثم أسلم، ومسلم (123) في (الإيمان): باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده، من حديث حكيم بن حزام نفسه. (¬4) رواه مسلم (214) في (الإيمان): باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل، من حديث عائشة. (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 388 و 441)، والطيالسي رقم (841 - منحة)، وأبو داود (1626) في (الزكاة): باب مَنْ يُعطى من الصدقة والترمذي (649) و (650) في الزكاة: باب ما جاء من تحل له الزكاة، والنسائي (5/ 97) في (الزكاة): باب حد الغني، وابن ماجه (1845) في (الزكاة): باب من سأل عن ظهر غنى، وابن أبي شيبة (3/ 71)، والدارمي (1/ 386)، وأبو يعلى (2517)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 20)، وابن عدي (2/ 635 و 636)، والحاكم (1/ 407)، والبيهقي (7/ 24) والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 205) من طريقين: "سفيان الثوري وشريك" عن حكيم بن جبير عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد عن أبيه عن ابن مسعود به، وفيه زيادة. وحسنه الترمذي وصححه الحاكم. أقول: حكيم بن جبير هذا تكلم فهي شعبة، وقال ابن مهدي: إنما روى أحاديث يسيرة، وفيها أحاديث منكرات، وضعفه النسائي وكذّبه السعدي. وقد ذكر بعض من روى الحديث أن زبيدًا اليامي تابع حكيم بن جبير على هذا الحديث. =

ولا ينافى هذا جوابه للآخر: "ما يغديه أو يعشيه" (¬1)، فإن هذا غناء اليوم وذاك غناء العام بالنسبة إلى حال ذلك السائل، واللَّه أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر [بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-] (¬2)، وقد أرسل إليه بعطاء فقال: أَليس ¬

_ = قال رجل لسفيان: إن شعبة لا يحدث عن حكيم بن جبير، فقال سفيان: قد حدثناه زبيد عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد. فاعتمد شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (499) على هذه القصة على متابعة زبيد لحكيم ثم صحح الحديث لهذا. وسار على هذا كذلك المعلق على "مسند أبي يعلى". أقول: وعندي في هذا نظر. فقد روى عباس الدوري في "تاريخه" (رقم 1671) -ومن طريقه ابن عدي- قال: سمعت يحيى يقول، وسألته عن حديث حكيم بن جبير: حديث ابن مسعود. . .: يرويه أحد غير حكيم؟ فقال يحيى: نعم يرويه يحيى بن آدم عن سفيان عن زبيد ولا نعلم أحدًا يرويه إلا يحيى بن آدم، وهذا وهم لو كان هذا هكذا لحدث به الناس جميعًا عن سفيان، ولكنه حديث منكر، وهذا الكلام قاله يحيى أو نحوه. وروى البيهقي (7/ 24) من طريق عبد اللَّه بن جعفر بن درستويه، عن يعقوب بن سفيان الفسوي، أنه ذكر قصة تحديث زبيد لهذا الحديث من طريق يحيى بن آدم عن سفيان، قال يعقوب: هي حكاية بعيدة، ولو كان حديث حكيم بن جبير عن زبيد ما خفي على أهل العلم. وهذا هو الصحيح، واللَّه أعلم. (¬1) جزء من حديث طويل؛ رواه أحمد في "مسنده" (4/ 180، 181)، وابن حبان في "صحيحه" (545 و 3394) من طريق علي بن المديني: حدثنا الوليد بن مسلم: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني ربيعة بن يزيد قال: حدثني أبو كبشة السلولي أنه سمع سهل بن الحنظلية (فذكره). وهذا إسناد على شرط البخاري غير الصحابي روى له أبو داود والنسائي. ورواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2074 و 2075)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 20 و 4/ 371)، والطبراني في "الكبير" (5620) من طرق عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر به. ورواه أبو داود (1629) في (الزكاة): باب من يُعطى من الصدقة، وابن خزيمة في "الصحيح" (4/ 79 - 80) عن عبد اللَّه بن محمد النفيلي عن مسكين عن محمد بن المهاجر عن ربيعة عن يزيد به. وإسناده جيد. والحديث ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 96) وقال: رواه أبو داود باختصار، ورجال أحمد رجال الصحبح. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

فصل [فتاوى تتعلق بالصوم]

أخبرتنا أن خيرًا لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئًا؟ فقال: "إنما ذلك من المسألة فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه اللَّه، فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدًا شيئًا، ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته (¬1)، ذكره مالك. فصل [فتاوى تتعلق بالصوم] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الصوم أفضل؟ فقال: "شعبان لتعظيم (¬2) رمضان" قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "صدقة رمضان" (¬3)، ذكره الترمذي، والذي في "الصحيح" أنه سئل أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: "شهر اللَّه الذي تدعونه المحرَّم" قيل: فأي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "الصلاة في جوف الليل" (¬4). قال شيخنا (¬5): ويحتمل أَن يريد بشهر اللَّه المُحرَّم أول العام، وأن يريد به الأَشهر الحرم واللَّه أعلم. ¬

_ (¬1) في "الموطأ" (2/ 998) في "الصدقة": باب ما جاء في التعفف عن المسألة، عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار مرسلًا. ورواه من حديث عمر موصولًا بمعناه، البخاري (7163) في (الأحكام): باب رزق الحكام والعاملين عليها، ومسلم (1045) في (الزكاة): باب إباحة الأخذ لمن أعطى من غير مسألة ولا إسراف. (¬2) في (ك): "ليعظم". (¬3) رواه الترمذي (662) في (الزكاة): باب ما جاء في فضل الصدقة -ومن طريقه البغوي في "شرح السنة" (1778) - وابن أبي شيبة (3/ 103) وأبو يعلى (3431)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 83) من طريق صدقة بن موسى الدقيقي عن ثابت البناني عن أنس بن مالك به. قال الترمذي: هذا حديث غريب، وصدقة بن موسى ليس عندهم بذاك القوي. أقول: ضعفه أبو داود والنسائي، وابن معين وأبو حاتم والساجي والدولابي وغيرهم. والحديث ذكره شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (3/ 397) مضعفًا له، وهو في "ضعيف الترمذي" (104). (¬4) رواه مسلم (1163) في (الصيام): باب فضل صوم المحرم، من حديث أبي هريرة. (¬5) في "شرح العمدة" (2/ 548 - الصيام) وفيه نقص يتمم من هنا.

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنه- فقالت: يا رسول اللَّه دخلتَ عليَّ وأنت صائم، ثم أَكلتَ حَيْسًا (¬1) فقال: "نعم إنما منزلة من صام في غير رمضان أو قضاء رمضان في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه، وبخل بما شاء فأمسكه" (¬2)، ذكره النسائي. ودخل -صلى اللَّه عليه وسلم- على أم هاني فشرب، ثم ناولها فشربت، فقالت: إن كنت ¬

_ (¬1) "الطعام المتخذ من التمر والأقط والسمن" (و). (¬2) رواه النسائي (4/ 193) في (الصوم): باب النية في الصيام: أخبرنا عمرو بن منصور قال: حدثنا عاصم بن يوسف قال: حدثنا أبو الأحوص عن طلحة بن يحيى، عن مجاهد، عن عائشة (فذكره). وهذا إسناد على شرط مسلم، رواته من الثقات المشاهير، وفي طلحة كلام يأتي الحديث عنه. وتابع أبا الأحوص شريك. رواه النسائي كذلك: أخبرنا أبو داود: حدثنا يزيد: أنبأنا شريك به. لكن رواه ابن ماجه (1701) في (الصيام): باب ما جاء في الصوم: حدثنا إسماعيل بن موسى عن شريك به. وجعل آخره قوله: "إنما منزلة من صام. . " من كلام عائشة، وأصل الحديث في "صحيح مسلم" (1154) وغيره من طرق عن طلحة بن يحيى بن عبيد اللَّه: حدثتني عائشة بنت طلحة عن عائشة أم المؤمنين به، وفي آخره: "قال طلحة: فحدثت مجاهدًا بهذا الحديث فقال: ذاك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها". فجعل آخر الحديث من كلام مجاهد، وفي رواية عند ابن ماجه من كلام عائشة، وفي حديث عائشة عند النسائي جعلها مرفوعة. والحديث مدار طرقه كلها على طلحة بن يحيى، وهو وإن أشرت سابقًا أن مسلمًا روى له إلا أن بعضهم تكلم فيه، قال ابن القطان: لم يكن بالقوي، وقال ابن حبان: يخطئ وقال أحمد: له أحاديث مناكير، وقال يعقوب بن شيبة: لا بأس به، في حديثه لين، وقال البخاري: منكر الحديث. فأخشى أن يكون الاختلاف هنا في هذا الحديث منه؛ لأن الرواة عنه جماعة من الثقات، وكلهم يروي الحديث دون آخره في تشبيه صيام التطوع بالصدقة. ورواية أبي الأحوص عند النسائي الخطأ فيها ليس من أبي الأحوص، فهو ثقة متقن، لكن الخطأ من طلحة. وشريك تارة رفعها وتارة جعلها من قول عائشة، وشريك ضعيف أصلًا. هذا ما تبين لنا لكن شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- جعله من رواية أبي الأحوص من باب زيادة الثقة في "الإرواء" (4/ 135 - 136)، وفيه نظر واللَّه أعلم.

صائمة، فقال: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام، وإن شاء أفطر" (¬1)، ذكره أحمد. وذكر (¬2) الدارقطني أن أبا سعيد صنع طعامًا فدعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فقال رجل من القوم: إني صائم. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صنع لك أخوك طعامًا وتكلف لك أخوك! أفطر وصم يومًا [آخر] مكانه" (¬3)، وذكر أحمد أن حفصة أُهديت لها ¬

_ (¬1) رواه أبو داود الطيالسي (917)، وإسحاق بن راهويه (2133) في "مسنديهما"، والترمذي (730 و 731) في (الصوم): باب ما جاء في إفطار الصائم المتطوع، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" (12/ 451) -، وأحمد في "مسنده" (6/ 341) والدارقطني (2/ 174، 175)، وفي "الأفراد" (5/ 410 رقم 5881 - أطرافه)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 601) والحاكم (1/ 439) والعقيلي (1/ 206)، والبيهقي (4/ 276) من حديث أم هانئ، وقد اختلف في إسناده إذ هو من رواية سماك، ورجح غير واحد أن الصحيح في إسناده شعبة عن سماك عن أحد ابني أم هانئ عن أم هانئ؟ ثم رواه شعبة مباشرة عن جعدة -وكانت جدته أم هانئ- عن أم هانئ. قال شعبة: فقلت له: أأنت سمعت هذا من أم هانئ؟. قال: لا أخبرنا أبو صالح وأهلنا عن أم هانئ. وأبو صالح هذا هو باذام ضعيف. وجعدة هذا ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 239) وقال: من ولد أم هانئ عن أبي صالح عن أم هانئ روى عنه شعبة لا يعرف إلا بحديث فيه نظر. أقول: وسقطت عبارة "عن أبي" من مطبوع العقيلي!! وقال الترمذي: حديث أم هانئ في إسناده مقال. أما الحاكم فقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتلك الأخبار المعارضة لهذا لم يصح منها شيء، ووافقه الذهبي، وصححه في "كشف الخفاء" وأظنه تبعًا للحاكم. أقول: وهذا عجيب، وكان الحاكم ظن أن أبا صالح الذي في الإسناد هو ذكوان، وليس به. وقد روى إسحاق بن راهويه في "المسند" (2132، 2134)، وأبو داود (2456)، ومن طريقه البيهقي (4/ 277)، والطبراني في "الكبير" (24/ 425) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد اللَّه بن الحارث، عن أم هانئ قصة في شرب أم هانئ وهي صائمة فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أكنت تقضين شيئًا؟! قالت: لا. قال: فلا يضرك إن كان تطوعًا. وهذا إسناد ضعيف أيضًا لضعف يزيد، والحديث حسنه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- بمجموع طرقه، انظر: "آداب الزفاف" (ص 156 - 158). (¬2) في (ك): "وذكره". (¬3) رواه الدارقطني (2/ 177) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 409 رقم 1338) -، =

شاة فأكلت منها هي وعائشة، وكانتا صائمتين فسألتا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك ¬

_ = والطيالسي رقم (918 - منحة) -ومن طريقه البيهقي (7/ 263 - 264) - من طريق إبراهيم بن عبيد (وفي "مسند الطيالسي": إبراهيم بن عبيد اللَّه بن رفاعة، لكن عند البيهقي، وهو من طريقه: إبراهيم بن عبيد بن رفاعة) قال: صنع أبو سعيد طعامًا. . . (فذكره). قال الدارقطني: هذا مرسل، أي أن إبراهيم لم يدرك القصة، وقال البيهقي: ورواه ابن أبي فديك عن ابن أبي حميد، وزاد فيه: إن أحببت -يعني القضاء- وابن أبي حميد يقال محمد، ويقال حماد: ضعيف. أقول: محمد بن أبي حميد هذا شديد الضعف، قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 198): متروك. وقد ليّن العبارة في "الفتح" (9/ 248): وقال: في إسناده راو ضعيف، وقد توبع. أقول: سنرى المتابعة بعد قليل. ويدل على ضعف محمد بن أبي حميد أنه اضطرب في هذا الحديث، فزاد في الرواية: إن أحببت، كما قال البيهقي ثم رواه على وجه آخر، فقد أخرجه الطبراني في "الأوسط" من طريقه عن محمد بن المنكدر عن أبي سعيد به. وقد تابعه على هذه الرواية الأخيرة أبو أويس. أخرجه البيهقي (4/ 279) من طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن محمد بن المنكدر عن أبي سعيد الخدري به. قال الحافظ في "التلخيص الحبير": وفيه لين، وابن المنكدر لا يعرف له سماع من أبي سعيد. أقول: أبو أويس وابنه فيهما كلام، وكلام الحافظ هذا أدق من كلامه في "الفتح" (4/ 210) حيث قال: إسناده حسن!! أما شيخنا الألباني فقال في "الإرواء" (7/ 12): وهو على شرط مسلم. أقول: نعم رجاله روى لهم مسلم، رغم الكلام الذي في إسماعيل وأبيه، بل إسماعيل روى له البخاري أيضًا، لكن سماع ابن المنكدر من أبي سعيد فيه نظر، إذ إنه ولد في حدود الستين، وأبو سعيد مات قريبًا من ذلك، وأكثر ما قيل في وفاته في بداية السبعين، فسماعه منه فيه نظر، كما هو ظاهر، واللَّه أعلم. فعندي أن الحديث لا يتقوى لضعف إسناده الأول الشديد والاضطراب في المتن واللَّه أعلم. أقول: وفي الباب عن جابر، قال الحافظ ابن حجر: رواه ابن عدي وابن حبان في "الضعفاء" [4/ 80]. والدارقطني [(2/ 178) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 410 - 411)]- والبيهقي [7/ 264]، وفيه عمرو بن خليف، وهو وضاع، وانظر تخريجه في تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 2212). وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

فقال: "أَبدلا يومًا مكانه" (¬1). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (6/ 237 - 238) والنسائي في "الكبرى" (3292) عن يزيد: أخبرنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة. ورواه أحمد (6/ 263)، وإسحاق بن راهويه (658) والترمذي (734) في (الصوم): باب ما جاء في إيجاب القضاء عليه، والنسائي (3291) والبيهقي (4/ 280) من طريق جعفر بن برقان، ورواه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 108) من طريق عبد اللَّه بن عمر، ورواه النسائي (3293)، وإسحاق (660) والبيهقي (4/ 280) من طريق صالح بن أبي الأخضر ورواه النسائي (3294) من طريق إسماعيل بن عقبة وقيل: إسماعيل ابن علية كلهم عن الزهري عن عروة عن عائشة به. قال الترمذي: وروى صالح بن أبي الأخضر، ومحمد بن أبي حفصة هذا الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة مثل هذا، ورواه مالك بن أنس ومعمر وعبيد اللَّه بن عمر، وزياد بن سعد وغير واحد من الحفاظ عن الزهري وعائشة مرسلًا، ولم يذكر فيه (عن عروة)، وهذا أصح لأنه روي عن ابن جريج قال: سألت الزهري قلت له: أحدثك عروة عن عائشة؟ قال: لم أسمع من عروة في هذا شيئًا، لكني سمعت في خلافه سُليمان بن عبد الملك عن ناس عن بعض من سأل عائشة عن هذا الحديث (ثم أسند الترمذي رواية ابن جريج هذه). وأسندها كذلك عبد الرزاق (7791)، والبيهقي (4/ 280)، وقد ذكر البيهقي (4/ 279) جماعة من أصحاب الزهري أيضًا رووا الحديث عن الزهري عن عائشة مرسلًا دون ذكر عروة. فرواية مالك المرسلة أخرجها في "الموطأ" (1/ 306) ومن طريقه النسائي (3298)، والطحاوي (2/ 108)، والبيهقي (4/ 280)، ورواية معمر عند عبد الرزاق (7790) والنسائي (3296)، وإسحاق (659) ورواية يونس بن يزيد، عند البيهقي (4/ 279) ورواية عبيد اللَّه بن عمر عند البيهقي (4/ 279) والنسائي (3297). ورواه هكذا عن الزهري سفيان بن عيينة وعنه إسحاق في "مسنده" (659) وقد صرح الزهري بعدم سماعه من عروة، كما تراه في "مسند إسحاق" (رقم 661، 885). والحديث أخرجه النسائي في "الكبرى" -كما في تحفة الإشراف (12/ 427)، وهو في المطبوع "السنن" (3299) لكن وقع فيه أخطاء- و"الطحاوي" (2/ 109)، وابن حبان (3517) من طريق ابن وهب عن جرير بن حازم عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة. قال النسائي: هذا خطأ، يريد أن في هذه الرواية وهمًا، وروى البيهقي (4/ 281) عن أبي بكر الأثرم قال: قلت لأبي عبد اللَّه -يعني أحمد بن حنبل- تحفظه عن يحيى عن عمرة عن عائشة. . .؟ فأنكره وقال: من رواه؟ قلت: جرير بن حازم، فقال: جرير كان يحدث بالتوهم. ولما سئل ابن المديني عن هذا ضحك، وقال: حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن الزهري، أن عائشة. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: قد اشتكيت عيني أفأكتحل وأَنا صائم؟ قال: "نعم" (¬1)، ذكره الترمذي، وذكر الدارقطني أنه سئل: أفريضة الوضوء من القيء؟ فقال: "لا، لو كان فريضة لوجدته في القرآن" (¬2)، وفي إسناد الحديثين مقال. ¬

_ = ورواه أبو داود (2457) والبيهقي (4/ 281)، وابن عدي (3/ 1089) من طريق يزيد بن الهاد عن زميل مولى عروة عن عروة عن عائشة. قال البيهقي: أقام إسناده جماعة عن ابن وهب، وقال بعضهم: عن أبي زميل، ولم يذكر بعضهم عروة في إسناده. أقول: رواه ابن عدي (3/ 1089) من طريق ابن الهاد أيضًا دون ذكر عروة. وزميل هذا قال ابن عدي عن البخاري: عن عروة وعنه ابن الهاد، لا نعرف لزميل سماعًا من عروة، ولا لابن الهاد من زميل، ولا تقوم به الحجة. ورواه ابن أبي شيبة (2/ 445) عن عبد السلام، عن خصيف، عن سعيد بن جبير أن عائشة وحفصة. . . وخصيف هذا سيء الحفظ. ومما يدل على سوء حفظه أن النسائي رواه (3301) من طريق خطاب بن القاسم عنه عن عكرمة عن ابن عباس. . . وقال النسائي: هذا الحديث منكر. قال البيهقي -رحمه اللَّه-: وروي من أوجه أخرى عن عائشة لا يصح شيء من ذلك قد بينت ضعفها في "الخلافيات"، قلت: انظر منه مسألة (رقم 17 - من الصوم) وتعليقي عليه، وقد تكلم البيهقي في "سننه" أيضًا على هذا الحديث بكلام دقيق رائع نقلت منه في مواطن، وهو حري بالرجوع إليه. وقد حاول ابن التركماني التعقب عليه لكن تعقباته متعقبة، ولولا خوف الإطالة لذكرتها وبينت ما فيها، رحم اللَّه الجميع. (¬1) رواه الترمذي (725) في (الصوم): باب ما جاء في الكحل للصائم من حديث الحسن بن عطية، عن أبي عاتكة، عن أنس به. وقال: حديث أنس حديث ليس إسناده بالقوي، ولا يصح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الباب شيء، وأبو عاتكة يُضعَّف. أقول: أبو عاتكة هذا، اسمه طريف بن سلمان، ويقال: سلمان بن طريف، قال الذهبي: مجمع على ضعفه، وذكره السليماني فيمن عرف بوضع الحديث. وقال ابن عدي: وله عن أنس غير ما أمليت وعامة ما يرويه. عن أنس لا يتابعه عليه أحد من الثقات. (¬2) رواه الدارقطني (1/ 159) -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (2/ رقم 661)، وابن الجوزي في "التحقيق" (1/ 234 رقم 223) - من طريق عتبة بن السكن عن الأوزاعي عن عبادة بن نسي وهبيرة بن عبد الرحمن، عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان به، وقال: لم يروه عن الأوزاعي غبر عتبة بن السكن، وهو [ضعيف] منكر الحديث. أقول: عتبة هذا ذكره الذهبي في "الميزان"، ولم يزد على أن نقل فيه كلام الدارقطني لكن فيه: متروك الحديث، وانظر تعليقي على "الخلافيات".

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن أبي سلمة أيقبِّل الصائم؟ فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سل هذه" لأم سلمة فأخبرته أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يفعل ذلك، قال: يا رسول اللَّه قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لأتقاكم للَّه وأخشاكم له"، ذكره مسلم (¬1)، وعند الإمام أحمد أنَّ رجلًا قبَّل امرأته وهو صائم في رمضان فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته فسألت أم سلمة عن ذلك فأخبرتها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[كان] (¬2) يفعله، فأخبرت زوجها فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إن اللَّه يحلُّ لرسوله ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما هذه المرأة؟ " فأخبرته أم سلمة فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ " قالت: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فزاده ذلك شرًا، وقال: لسنا مثل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إن اللَّه يحل لرسوله ما شاء، فغضب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: "واللَّه إني لأتقاكم للَّه وأعلمكم بحدوده" (¬3)، [ذكره مالك وأحمد والشافعي -رضي اللَّه عنهم-، وذكر أحمد أَنّ شابًا سأله] (¬4) فقال: أقبل وأَنا صائم؟ قال: "لا"، وسأله شيخ: أقبل وأَنا صائم؟ قال: "نعم"، ثم قال: "إن الشيخ يملك نفسه" (¬5). ¬

_ (¬1) رقم (1108) في (الصيام): باب بيان أن القبلة في الصوم لشت محرمة على من لم تحرك شهوته من حديث أم سلمة. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 291)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (1/ 256 - 257) (عن زيد بن أسلم عن عطاء مرسلًا). وقد وصله عبد الرزاق (8412)، ومن طريقه أحمد (5/ 434) عن ابن جريج قال: أخبرني زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من الأنصار أنه أخبره. . . فذكره وهو أخصر مما هو هنا. قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 166 - 167): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. (¬4) بدل ما بين المعقوفتين في (ك): "ذكره مالك والشافعي وأحمد أن سأله". (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 185 و 221) من طريق موسى بن داود عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن قيصر التجيبي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص به. قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 166): رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه كلام! أقول: ابن لهيعة حديثه لا يصح إلا من رواية القليلين، وهذه ليست منها. وقد رواه بنحوه الطبراني في "الأوسط" (8421). قال الهيثمي: فيه عباد بن صهيب وهو متروك. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أكلتُ وشربتُ ناسيًا، وأَنا صائم فقال: "أطعمك اللَّه وسقاك" (¬1)، ذكره أبو داود، وعند الدارقطني فيه بإسناد صحيح "أتم صومك، فإن اللَّه أطعمك وسقاك، ولا قضاء عليك" (¬2)، وكان أول يوم من رمضان. ¬

_ = وقد رواه أبو داود (2387) في (الصوم): باب كراهيته للشاب من طريق إسرائيل عن أبي العنبس عن الأغر عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ آخر، لكن بمعناه. وأبو العنش هذا ليّن الحديث، كما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب" وسكت على الحديث في "التلخيص" (2/ 195). وفي الباب عن ابن عباس، رواه ابن ماجه (1688) ولفظه: رخص للكبير الصائم في المباشرة وكُره للشاب. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 351): إسناده ضعيف، عطاء بن السائب اختلط بأخرة، وخالد بن عبد اللَّه الواسطي سمع منه بعد الاختلاط، ومحمد بن خالد ضعيف أيضًا. لكن وجدته في "معجم الطبراني الكبير" (11045) بلفظ: "رخص للشيخ وهو صائم ونهى الشاب". قال الهيثمي (3/ 166): ورجاله رجال الصحيح. لكن قال ابن حجر في "التلخيص" (2/ 195) عن إسناد ابن ماجه: لم يصرح برفعه. (¬1) رواه أبو داود 2398 في (الصوم): باب من أكل ناسيًا عن موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن أيوب وحبيب بن الشهيد عن ابن سيرين عن أبي هريرة به. ورواه ابن حبان (3522) من طريق حماد بن سلمة عن أيوب وهشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة وعن قتادة عن ابن سيرين عن أبي هريرة، وهذه أسانيد صحيحة. ورواه البيهقي (4/ 229) من طريق قريش بن أنس عن حبيب بن الشهيد عن ابن سيرين به، وله طرق عن أبي هريرة، خرجتها في تعليقي على "سنن الدارقطني" (2213 - 2222). واللفظ المشهور الثابت في "صحيح البخاري" (1933) وأطرافه هناك، ومسلم (1155) من حديث أبي هريرة: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه اللَّه وسقاه" هذا لفظ مسلم. (¬2) رواه الدارقطني (2/ 179) من طريق يحيى بن حمزة عن الحكم بن عبد اللَّه عن الوليد عن عبد الرحمن مولى أبي هريرة عن أبي هريرة. ورواه الحكم أيضًا عن محمد بن المنكدر والقعقاع بن حكيم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة به. وقال: والحكم بن عبد اللَّه هو ابن سعد الأيلي ضعيف الحديث. أقول: بل هو أشد من ذلك قال أحمد: أحاديثه كلها موضوعة، وقال أبو حاتم: كذاب، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال النسائي وغيره: متروك الحديث، وقال البخاري: تركوه، وضعفه جدًا ابن معين، بل نقل الذهبي عن الدارقطني نفسه أنه قال: متروك. =

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك امرأة أكلت معه فأمسكت، فقال: "مالَك؟ " فقالت: كنت صائمة فنسيت فقال ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتمّي صومك، فإنما هو رزق ساقه اللَّه إليك" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخيط الأبيض والخيط الأسود؟ فقال: "هو بياض النَّهار وسواد الليل" (¬2)، ذكره النسائي. ونهاهم عن الوصال، وواصل فسألوه عن ذلك، فقال: "إني لست كهيئتكم إني يُطعمني ربي ويسقيني" (¬3)، متفق عليه. ¬

_ = ثم وجدت عبارة الدارقطني في كتابه "الضعفاء" كما نقل الذهبي. فرحم اللَّه ابن القيم كيف يقول: وعند الدارقطني فيه بإسناد صحيح!!! (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 367)، والطبراني في "الكبير" (25/ 411) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث، ورواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3306)، وابن حجر في "الإصابة" (4/ 414) من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد كلاهما عن بشار بن عبد الملك: حدثتني أم حكيم بنت دينار عن مولاتها أم إسحاق به. قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 157): وفيه أم حكيم ولم أجد لها ترجمة. أقول: ذكرها الحافظ في "تعجيل المنفعة" ولم يذكر فيها جرحًا ولا تعديلًا، فهي مجهولة. وبشار بن عبد الملك ترجمه الحافظ في "التعجيل" وقال: ضعفه ابن معين، ووثقه ابن حبان. أقول: تضعيف ابن معين نقله ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وقال الزيلعي في "نصب الراية" (2/ 446): قال في "التنقيح": هذا حديث غريب غير مخرج في "السنن"، وبعض رواته ليس بمشهور وبشار بن عبد الملك ضعيف. وأما الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه- فلم يتكلم على إسناده بشيء لمّا ساقه في "الإصابة". (¬2) رواه البخاري (4510) في "التفسير": باب: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. وهو في "سنن النسائي" (2/ 148) في (الصوم): باب تأويل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} من حديث عدي بن حاتم بنفس الإسناد عدا شيخيهما، فرحم اللَّه ابن القيم كيف عزا الحديث للنسائي وهو في "الصحيح"! (¬3) رواه البخاري (1964) في (الصوم): باب الوصال، ومسلم (1105) في (الصيام): باب النهي عن الوصال في الصوم، من حديث عائشة باللفظ الذي ذكره ابن القيم. وفي الباب عن أنس رواه البخاري (1961، 7241)، ومسلم (1104)، وعن ابن عمر رواه البخاري (1962)، ومسلم (1102). وعن أبي سعيد رواه البخاري (1963) وغيرهم.

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه تدركني الصلاة وأَنا جُنُب فأصوم؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب فأصوم" فقال (¬1): لست مثلنا يا رسول اللَّه قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فقال: "واللَّه إني لأرجو أن أكون أخشاكم للَّه وأعلمكم لما أتقي"، ذكره مسلم (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصوم في السفر فقال: "إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت" (¬3)، وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حمزة بن عمرو فقال: إني أجد فيَّ قوة على الصيام في السفر فهل عليَّ جُناح؟ فقال: "هي رخصة اللَّه فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم، فلا جناح عليه" (¬4)، ذكرهما مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تقطيع قضاء رمضان، فقال: "ذلك إليك، أرأيت لو كان على أحدكم دين قضى الدرهم والدرهمين، أَلم يكن ذلك قضاء؟ فاللَّه أحق أن يعفو ويغفر" (¬5)، ذكره الدارقطني وإسناده حسن. ¬

_ (¬1) وفي (ك): "قال". (¬2) رقم (1110) في (الصيام): باب صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب، من حديث عائشة، وفي (ك): "بما اتقى". (¬3) رواه مسلم (1121) في (الصيام): باب التخيير في الصوم والفطر في السفر، من حديث عائشة. (¬4) رواه مسلم (1121) بعد (107). (¬5) رواه الدارقطني (2/ 194)، ومن طريقه البيهقي (4/ 259) من طريق يحيى بن سليم الطائفي عن موسى بن عقبة عن محمد بن المنكدر قال: بلغني أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن تقطيع شهر رمضان فقال: (فذكره). وقال الدارقطني: إسناده حسن إلا أنه مرسل، وقد وصله غير أبي بكر عن يحيى بن سليم إلا أنه جعله عن موسى بن عقبة عن أبي الزبير، عن جابر ولا يثبت متصلًا. ثم رواه الدارقطني متصلًا، ويحيى بن سليم وإن روى له الشيخان ففي حفظه شيء. وقد رواه البيهقي (4/ 259) من طريق عبد اللَّه بن وهب عن أبي حسين -رجل من أهل الكوفة- عن موسى بن عقبة عن صالح بن كيسان به مرسلًا أيضًا، وهذا يؤيد أن الصحيح فيه الإرسال كما قال الدارقطني. وفي الباب عن ابن عمر رواه الدارقطني (1/ 193) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (5/ 393 رقم 2296) - من طريق سفيان بن بشر: حدثنا علي بن مسهر عن عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عه مرفوعًا نحوه، وقال: لم يسنده غير سفيان بن بشر. أقول: ولم أجد سفيان هذا وأظنه من المجاهيل، ثم وجدتُ ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 214) يجزم بذلك، فالحمد للَّه على نعمائه. ولذلك قال البيهقي (4/ 259): وقد روي من وجه ضعيف عن ابن عمر مرفوعًا. =

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفاصوم عنها؟ فقال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت: نعم، قال: "فصومي عن أمك" (¬1) متفق عليه. وعند أبي داود أَنَّ امرأة ركبت البحر فنذرت إن اللَّه عز وجل نجاها أن تصوم شهرًا فنجَّاها اللَّه فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمرها أن تصوم عنها (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- حفصة فقالت: إني أصبحتُ أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأُهدي لنا طعام فأفطرنا عليه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقضيا مكانه [يومًا] " (¬3)، ذكره أحمد، ولا ينافي هذا قوله: "الصائم المتطوع أمير نفسه"، فإن القضاء أفضل (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: هلكت، وقعت على امرأتي وأَنا صائم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: هل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: اجلس، فبينا نحن على ذلك إذ أُتي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَرق (5) فيه تمر -والعَرَق (¬5): المكتل الضخم- فقال: "أين السائل" قال: أنا، قال: "خذ هذا فتصدق به" فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول اللَّه؟ فواللَّه ما بين لابتيها -يريد الحرَّتين- أهل ¬

_ = ثم رواه الدارقطني (1/ 193) من طريق عبيد بن عمير عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 206): وإسناده ضعيف أيضًا. (¬1) رواه مسلم (1148) بعد (156) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت، وعلق البخاري (1953) أوله فقط من حديث ابن عباس. (¬2) رواه أبو داود (3308) في (الأيمان والنذور): باب قضاء النذر عن الميت من طريق هشيم عن أبي بشر جعفر بن أبي وحثية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وهذا إسناد رجاله ثقات لكن فيه عنعنة هشيم، لكن تابعه حماد بن سلمة. رواه من طريقه البيهقي (4/ 256)، وهذا إسناد صحيح. ورواه أحمد (1/ 224، 227، 258، 338، 362)، وابن خزيمة (3/ 272)، وأبو عوانة (2/ 185/ أ- نسخة كوبرلي)، وابن حبان (6/ 121)، والدارقطني (2/ 196) من طرق عن سعيد بن جبير به. (¬3) تقدم تخريجه قريبًا، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) انظر كلام المصنف -رحمه اللَّه- في "تهذيب السنن" (3/ 335 - 336). (¬5) في المطبوع: "بفرق،. . . والفرق".

بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك" (¬1)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان؟ فقال: "إن كنت صائمًا بعد رمضان فصم المحرَّم، فإنه شهر فيه تاب اللَّه على قوم ويتوب فيه على قوم آخرين" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه لم نَركَ تصوم في شهر من الشهور ما تصوم في شعبان؟ فقال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفعَ [فيه] عملي وأَنا صائم" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في مواطن كثيرة منها (1936) في (الصوم): باب إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصُدِّق عليه فليكفِّر، ومسلم (1111) في (الصيام): باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه عبد اللَّه بن أحمد في "زوائد المسند" (1/ 154 و 155)، وأبو يعلى (267 و 426 و 427)، والبزار (699 - البحر الزخار)، والترمذي (741) في (الصوم): باب ما جاء في صوم المحرم، والدارمي (2/ 21)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 457)، وابن عدي (4/ 1614)، والبيهقي في "الشعب" (3775) و"فضائل الأوقات" (رقم 232)، وابن الجوزي في "التبصرة" (2/ 6) عن عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي بن أبي طالب به. وعند بعضهم قصة. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب!! أقول: فيه عبد الرحمن بن إسحاق ضعفوه بل قال ابن معين: متروك، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن عدي: وفي بعض ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات. والنعمان بن سعد هذا لم يرو عنه غير عبد الرحمن بن إسحاق فقط، قال ابن حجر في "التهذيب": فلا يحتج بخبره. وفي الباب عن أبي هريرة مرفوعًا: "أَفضل الصيام بعد رمضان شهر اللَّه المحرم" رواه مسلم (1163). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 201) ص من طريقه الضياء في "المختارة" (4/ رقم 1356)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 18) -والنسائي (2/ 201) في (الصوم): باب صوم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وابن عدي في "الكامل" (2/ 519)، والبيهقي في "الشعب" (3/ رقم 3821) كلهم من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وأبو القاسم البغوي في "مسند الحب" (رقم 49) من طريق أبي عامر العقدي -واسمه عبد الملك بن عمرو القيسي-، عن ثابت بن قيس أبو الغصن شيخ من أهل المدينة: حدثني أَبو سعيد المقبري قال: حدثني أسامة بن زيد فذكره، وعند أحمد زيادة، وشك العقدي، فقال: "عن ابن الحب، يعني أسامة بن زيد أو عن أبي هريرة". =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: "ذاك يومٌ ولدت فيه وفيه أنزل عليَّ [القرآن] " (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة فقال: يا رسول اللَّه إنك تصوم لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما؟ قال: أي يومين؟ قال: يوم الاثنين يوم الخميس، قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي، وأنا صائم" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = والحديث عزاه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 215) لأبي داود وابن خزيمة. أقول: لم أجده في "سنن أبي داود" بعد الاستعانة بـ "تحفة الأشراف"، ولم أجده في "صحيح ابن خزيمة" أيضًا بعد بحث، ولا عزاه له ابن حجر نفسه في "إتحاف المهرة" (1/ 278 - 321) في "مسند أسامة" منه. فاللَّه أعلم. وقد صححه الحافظ اعتمادًا على تصحيح ابن خزيمة. وثابت بن قيس هذا وثقه أحمد، وقال ابن معين في رواية: ليس به بأس، وقال في رواية أخرى: ليس بذاك، وهو صالح، وقال النسائي: ليس به بأس، وقد تكلم فيه أبو داود وابن عدي وابن حبان والحاكم، فهو حسن الحديث على الأكثر. ثم وجدته، رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (2/ 514) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (4/ رقم 1320) - والبيهقي في "فضائل الأوقات" (رقم 21) وفي "الشعب" (3/ رقم 3820)، وأبو القاسم البغوي في "مسند الحب" (رقم 48)، وأبو يعلى في "مسنده" -رواية ابن المقرئ، ومن طريقه الضياء في "المختارة" (4/ رقم 1319) - من طريق زيد بن الحباب عن ثابت بن قيس قال: حدثني أبو سعيد المقبري قال: حدثني أبو هريرة عن أسامة بن زيد فذكره. وهذا إما أن يكون سمعه أبو سعيد المقبري على الوجهين: مرة بالواسطة ومرة عن أسامة مباشرة، أو أن يكون من أوهام ثابت؛ فابن مهدي أوثق وأحفظ من زيد بدرجات. فإذا أردنا أن نرجح، فطريق ابن مهدي أرجح بلا شك. وما بين المعقوفتين من (ك). (¬1) رواه مسلم (1162) بعد (197) في (الصيام): باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، من حديث أبي قتادة، ولفظه: "ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت فيه (أو أنزل عليّ فيه). وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) هو تابع للحديث قبل السابق فقد رواه أحمد تامًا (5/ 201) وكذا الضياء في "المختارة" (رقم 1359)، ورواه النسائي (2/ 251 و 202) مقطعًا بالإسناد المذكور في تلك الحاشية. وروى النسائي (2/ 202) الجزء الأول منه وأدخل أبا هريرة بين أبي سعيد المقبري وأسامة، وقد تكلمت عليه هناك، وبينت أن إسناده حسن.=

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل: يا رسول اللَّه إنك تصوم الاثنين والخميس؟ فقال: "إن يوم الاثنين والخميس يغفر اللَّه فيهما لكل مسلم إلا مُهْتَجرَيْن يقول: حتى يصطلحا" (¬1)، ذكره ابن ماجه. ¬

_ = ورواه أبو داود (2436)، والنسائي في "الكبرى" رقم (2781) و (2782)، وأبو داود الطيالسي (931 - منحة)، ومن طريقه البيهقي (4/ 293) من طريق هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عمر بن الحكم بن ثوبان، عن مولى قدامة بن مظعون عن مولى أسامة بن زيد عن أسامة فذكر: "وصيام الاثنين والخميس". قال أبو داود: كذا قال هشام الدستوائي: عن يحيى، عن عمر بن أبي الحكم، يريد أبو داود -واللَّه أعلم- أن صوابه عمر بن الحكم، وليس ابن أبي الحكم، كما وقع عنده. ورواه النسائي في "الكبرى" (2783) من طريق معاوية بن سلام عن يحيى: حدثني مولى قدامة به، لم يذكر عمر بن الحكم. ورواه أيضًا (2785) من طريق الوليد عن الأوزاعي عن يحيى عن مولى لأسامة بن زيد بمعناه، لم يذكر عمر بن الحكم، ولا مولى قدامة. وله شاهد من حديث أبي هريرة؛ رواه الترمذي (746) في (الصوم): باب ما جاء في صوم يوم الاثنين والخميس، من طريق أبي عاصم النبيل، عن محمد بن رفاعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عنه. قال الترمذي: حديث حسن غريب. أقول: محمد بن رفاعة لم يرو عنه إلا أبو عاصم النبيل، وذكره ابن حبان في "الثقات" فهو في عداد المجاهيل. وحديث أبي هريرة عزاه ابن حجر في "التلخيص" (2/ 215) لابن ماجه، والذي وجدته فيه حديث بالإسناد نفسه (1740)، لكن ليس فيه اللفظ المذكور هنا. وانظر ما بعده. (¬1) رواه ابن ماجه (1740) في (الصيام): باب الصيام يوم الاثنين والخميس من طريق الضحاك بن مخلد عن محمد بن رِفَاعة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 307): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات روى الترمذي بعضه عن محمد بن يحيى عن الضحاك بن مخلد به، وقال: حسن غريب. قلت -أي البوصيري-: ومحمد بن رفاعة ذكره ابن حبان في "الثقات" تفرد بالرواية عنه الضحاك بن مخلد، وباقي إسناده على شرط الشيخين. أقول: محمد بن رفاعة هذا تفرد عنه الضحاك فقط، وذكره ابن حبان كعادته! وقال الأزدي: منكر الحديث. وقد قال المنذري أيضًا عن إسناد هذا الحديث: رواته ثقات!! وأما الترمذي فلفظ حديثه: "تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس، فأحب أن يعرض =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه كيف بمن يصوم الدهر؟ قال: "لا صَامَ، ولا أفطر"، أو قال: "لم يصم، ولم يفطر" قال: كيف بمن يصوم يومين ويفطر يومًا. قال: "ويطيق ذلك أحد؟ ". قال: كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: "ذاك صوم داود -عليه السلام-". قال: كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طُوِّقتُ ذلك"، ثم قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان هذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة أحتسب على اللَّه أن يُكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي بعده" (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: أصومُ يوم الجمعة، ولا أكلِّم أحدًا؟ فقال: "لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في شهر، وأما أَن لا تكلم أَحدًا فلعمري أن تكلَّم بمعروف أو تنهى عن منكر خير من أَن تسكت" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: إني نذرت في الجاهلية أَن أعتكف يومًا في ¬

_ = عملي وأنا صائم" فليس له علاقة بحديث الباب، نعم هو بإسناد ابن ماجه! وقد رواه مسلم (2565) من حديث أبي هريرة أيضًا بلفظ: "تعرض الأعمال في كل يوم خميس واثنين فيغفر اللَّه عز وجل في ذلك اليوم لكل امرئ لا يشرك باللَّه شيئًا إلا امرأ كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقال: اتركوا هذين حتى يصطلحا" وخرجته بتفصيل في كتابي "الهجر" (ص 61 - 70). (¬1) رواه مسلم (1162) في (الصيام): باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر. . . من حديث أبي قتادة الأنصاري. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 224 - 225)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3426) من طريق عفان، وأبي الوليد عن عبيد اللَّه بن إياد بن لقيط عن أبيه، قال: سمعت ليلى امرأة بشير الخصاصية تقول: إن بشيرًا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكره. ورواه الطبراني في "الكبير" (1232)، والبيهقي (10/ 75 - 76) من طريق أبي الوليد، وعاصم بن علي، وأبي أحمد الزبيري، عن عبيد اللَّه بن إياد بن لقيط به، لكن من "مسند" بشير، وليس من مسند زوجته، وسقط من "معجم الطبراني" "إياد بن لقيط". قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 199): هكذا رواه الطبراني في "الكبير" (أي من مسند بشير)، ورواه أحمد عن ليلى امرأة بشير أنه سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد قيل: إنها صحابية، ورجاله ثقات. أقول: ليلى امرأة بشير ذكرها الحافظ في "الإصابة" وقال: يقال لها: الجهدمة، ويقال غيرها. وذكرها في الجهدمة ولم يجزم فيها بشيء قال: ذكرها ابن حبان في الصحابة، فقال: يقال: لها صحبة، ثم ذكرها في ثقات التابعين. أقول: لا شك أن الذين وصلوا الحديث بذكر بشير من الثقات فالحكم لهم، يبقى حال =

المسجد الحرام، فكيف ترى؟ فقال: "اذهب فاعتكف يومًا" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ليلة القدر، أفي رمضان أو في غيره؟ قال: "بل في رمضان" فقيل: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي إلى يوم القيامة"، فقيل: في أي رمضان هي؟ قال: "التمسوها في العشر الأول، أو في العشر الآخر" فقيل: في أي العشرين؟ قال: "ابتغوها في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها" فقال: أقسمت عليك بحقِّي (¬2) عليك لما أخبرتني في أي العشر هي، فغضب غضبًا شديدًا، وقال: "التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألنَّ عن شيء بعدها" (¬3)، ذكره أحمد والسائل أبو ذر، وعند أبي داود أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن ليلة القدر فقال: "في كل رمضان" (¬4)، وسئل عنها أيضًا ¬

_ = ليلى هذه، وذكرها في الصحابة يقوي أمرها، واللَّه أعلم، والحديث ذكره ابن حجر في "الفتح" (4/ 234) ولم يتكلم على إسناده بشيء. ولأوله شاهد من حديث أبي هريرة؛ رواه أحمد (2/ 526)، وفيه شريك القاضي، والنهي عن إفراد الجمعة بالصيام ثابت في "صحيح البخاري" (1985)، ومسلم (1144) من حديث أبي هريرة وغيره. (¬1) رواه البخاري في مواطن منها: (2032) في (الاعتكاف): باب الاعتكاف ليلًا، ومسلم (1656) في (الأيمان): باب نذر الكافر وما يفعل فيه إذا أسلم، عن ابن عمر، ومنهم من يجعله عن عمر. (¬2) "وضع هذه الكلمة في الحديث وعدم ذكر الغضب من أجلها يفيد ضعف الحديث، فما كان لإمام التوحيد وخاتم النبيين أن يسكت على قسم ينال من قدسية التوحيد"!! (و). قلت: في هذا نظر ظاهر، والتضعيف هكذا من إطلاق الكلام على عواهنه! (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه أبو داود (1387)، والبيهقي (4/ 307) من طريق سعيد بن أبي مريم: حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير: أخبرنا موسى بن عقبة عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن عبد اللَّه بن عمر به. أقول: هذا إسناد ظاهره الصحة رجاله ثقات مشهورون، وأبو إسحاق هو السبيعي اختلط. وقد أنكر الإمام الذهبي أنه اختلط، وقال: إنما كبر ونسي، وممن ذكروا أنه روى عنه بعد الاختلاط سفيان بن عيينة، وزاد أبو زرعة: زهير بن معاوية، وزاد أحمد: زائدة، إذن موسى بن عقبة ممن سمع منه قبل الاختلاط على ما يظهر. قال أبو داود بعد روايته: ورواه سفيان وشعبة عن أبي إسحاق موقوفًا على ابن عمر لم يرفعاه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. أقول: رواية سفيان وجدتها في "مصنف ابن أبي شيبة" (2/ 489) لكن رواية سفيان عنه بعد الاختلاط كما قدمنا. =

فقال: كم الليلة؟ فقال السائل: ثنتان وعشرون. فقال: "هي الليلة"، ثم رجع فقال: "أو القابلة" يريد ثلاثًا وعشرين (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن أنيس: "متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ فقال: "التمسوها هذه الليلة" وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها-: إن وافقتها فبم أدعو؟ قال: "قولي اللهم إنك عفوٌّ ¬

_ = ويظهر لي أنه صحيح مرفوعًا وموقوفًا، إذ أن رواية شعبة الموقوفة ليست أولى من رواية موسى بن عقبة؛ حيث أن موسى بن عقبة من الثقات، واللَّه أعلم. (¬1) رواه أبو داود (1379) في (الصلاة): باب ليلة القدر، والنسائي في "سننه الكبرى" (3401) من طريق حفص بن عبد اللَّه السلمي عن إبراهيم بن طهمان، عن عباد بن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن ضمرة بن عبد اللَّه بن أنيس، عن أبيه. أقول: هذا إسناد جيّد رواته محتج بهم، غير ضمرة هذا فقد روى عنه ثلاثة من الئقات، وذكره ابن حبان في ثقاته فهو لا بأس به. ورواه النسائي في "الكبرى" (3402) من طريق ابن أبي فديك عن موسى بن يعقوب، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري، عن عبد اللَّه بن كعب بن مالك، وعمرو بن عبد اللَّه بن أنيس أخبراه أن عبد اللَّه بن أنيس أخبرهما. . . فذكره نحوه. قال النسائي: موسى بن يعقوب ليس بالقوي في الحديث. وروى مسلم في "صحيحه" (1168) من حديث عبد اللَّه بن أنيس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبحها أسجد في ماء وطين، قال: فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين. . . قال: وكان عبد اللَّه بن أنيس يقول: ثلاث وعشرين. (¬2) رواه أحمد (3/ 495)، وابن خزيمة (2185 و 2186)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 85 و 86)، وفي "مشكل الآثار" (5481)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (8/ رقم 959) من طريق محمد بن إسحاق عن معاذ بن عبد اللَّه بن خبيب، عن أخيه عبد اللَّه بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن أنيس به وفيه زيادة. وهذا إسناد فيه مقال عبد اللَّه بن عبد اللَّه هذا لم يرو عنه إلا أخوه معاذ، ولم يوثقه إلا ابن حبان! وذكره ابن أبي حاتم، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا وابن إسحاق صرّح بالتحديث عند أحمد. ورواه أبو داود (1380)، وابن نصر في "قيام الليل" (39)، وابن خزيمة (2200)، والبيهقي (4/ 309) من طريق ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث: حدثني ابن عبد اللَّه بن أنيس عن أبيه به نحوه في كون ليلة القدر ليلة ثلاث وعشرين. وابن عبد اللَّه بن أنيس مجهول، وانظر ما قبله. وللحديث طرق أخرى، انظر -لزامًا- "إتحاف المهرة" (6/ 497 - 500) و"معرفة الصحبة" (3/ 1586 - 1587) و"الإصابة" (4/ 15).

تحب العفو فاعف عني" (¬1)، حديث صحيح. ¬

_ (¬1) الحديث حديث عائشة وقد اختلف في السند إليها. فقد رواه كهمس بن الحسن، وقد اختلف عليه، فرواه أحمد في "مسنده" (6/ 183)، وابن أبي شيبة (10/ 207) من طريق يزيد -وهو ابن هارون-، ورواه أحمد أيضًا (6/ 208)، وابن ماجه (3850) في (الدعاء): باب الدعاء بالعفو والعافية من طريق وكيع، ورواه الترمذي (3522) في (الدعوات): باب (83)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (872)، وابن السني (772) من طريق جعفر بن سليمان، وإسحاق بن راهويه في "المسند" (رقم 1361) أخبرنا النضر -وهو ابن شميل- أربعتهم عنه عن عبد اللَّه بن بريدة عن عائشة به. ورواه أحمد (6/ 171) عن محمد بن جعفر، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (873)، والمروزي في "قيام الليل" (239 - مختصره) من طريق خالد بن الحارث كلاهما عنه عن ابن بريدة عن عائشة به. فلم يعين هنا من هو ابن بريدة إذ إن له ولدين: عبد اللَّه وسليمان وكلاهما ثقة، لكن يأتي البحث في سماعهما من عائشة، مع العلم أن جميع الطرق التي ذكرتُ رواتها من الثقات. ورواه الجُريري وهو سعيد بن إياس واختلف عنه أيضًا. فرواه أحمد (6/ 182) من طريق يزيد و (6/ 183) من طريق علي بن عاصم، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (875) من طريق عبد الرحمن بن مرزوق ثلاثتهم عنه عن عبد اللَّه بن بريدة عن عائشة. والجريري اختلط ويزيد هنا هو ابن هارون وقد اختلف في سماعه من الجريري، ويظهر أنه سمع منه قبل الاختلاط، كما في "الكواكب النيرات". لكن أخرجه إسحاق بن راهويه (1362)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (876)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (92) من طريق سفيان الثوري عنه، عن ابن بريدة عن عائشة. وسفيان ممن سمع من الجريري قبل اختلاطه بلا خلاف. ولسفيان الثوري إسناد آخر. فقد رواه أحمد (6/ 258) عن أبي النضر هاشم بن القاسم عن الأشجعي عن سفيان عن علقمة بن مرثدى، عن ابن بريدة عن عائشة. ورواه الطبراني في "الدعاء" (916)، والنسائي (877)، وأبو يعلى في "معجم شيوخه" (43)، والحاكم (1/ 530) من طريق الأشجعي به، إلا أنه وقع اسم ابن بريدة مصرحًا به: سليمان. والحديث رواه النسائي (874) من طريق معتمر بن سلميان عن كهمس عن ابن بريدة أن عائشة قالت. . . مرسل. إذن فأنت ترى أن الراوي عن عائشة مختلف فيه هل هو سليمان أم عبد اللَّه؟ جزم =

فصل [فتاوى تتعلق بالحج]

فصل [فتاوى تتعلق بالحج] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- فقالت: نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور"، ذكره البخاري وزاد أحمد: "هو لكنّ جهاد" (¬1). ¬

_ = المزي في "تحفة الأشراف" (11/ 435) بأنه سليمان بن بريدة، وقال الحافظ ابن حجر -كما في "الفتوحات الربانية" (4/ 346) -: وقد جاء من طريق أخيه عبد اللَّه وهي أشهر. وأما الترمذي فقال: حسن صحيح، وصححه الحاكم على شرط الشيخين. قال الحافظ أيضًا: وفي ذلك نظر فإن البيهقي جزم في كتاب (الطلاق): من "السنن" بأن عبد اللَّه بن بريدة لم يسمع من عائشة. أقول: بل الذي سبقه إلى هذا الدارقطني في "سننه" (3/ 233) فقد روى أحاديث من طريق عبد اللَّه عن عائشة ثم قال: هذه كلها مراسيل ابن بريدة لم يسمع من عائشة شيئًا. لكن ما أدري ما وجه قول الإمام الدارقطني -رحمه اللَّه- فإن عبد اللَّه بن بريدة مات سنة (105 أو 115) وله مئة سنة فسماعه من عائشة ممكن، حيث أدركها إدراكًا بينًا إذ إنها توفيت سنة (57). ولم أر للمتقدمين كلامًا في نفي سماعه منها، وأخوه سليمان مات (سنة 105)، وله خمس وتسعون سنة. فإذا قلنا: إن كلا الوجهين صحيح أي من طريق عبد اللَّه وأخيه سليمان فيكون سليمان أيضًا قد أدرك عائشة إدراكًا بينًا، ولم أجد -كذلك- من نفى سماع سليمان منها، واللَّه أعلم. وقد ذكر الحديث الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (4/ 571) في (تفسير سورة القدر)، ونقل فيه كلام الترمذي والحاكم ولم يتعقبه بشيء. ثم وجدت النسائي في "عمل اليوم والليلة" (878) قد روى الحديث من طريق مسروق عن عائشة موقوفًا عليها، ورواه ابن أبي شيبة (10/ 206) من طريق شريح عن عائشة أيضًا. وهذا لا يضر ما دام أن الذي رفعه ثقات، فالنفس إلى صحة هذا الحديث تميل تطبيقًا للقواعد الحديثية، واللَّه تعالى أعلم. (¬1) رواه البخاري في مواطن منها: (1520) في (الحج): باب فضل الحج المبرور، و (1861) في (جزاء الصيد)، باب حج النساء، و (2784) في (الجهاد): باب فضل الجهاد والسير، من حديث عائشة أم المؤمنين. ولفظ أحمد الذي ذكره المؤلف في "مسنده" (6/ 71)، من حديث عائشة أيضًا لكن في سند أحمد يزيد بن عطاء، وهو لين الحديث كما قال الحافظ، وفي المطبوع: "لكنّ هو جهاد" والمثبت من (ك) و"المسند".

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة: ما يعدلُ حجة معك؟ فقال: "عمرةٌ في رمضان" (¬1)، ذكره أحمد، وأصله في "الصحيح". وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم معقل فقالت: يا رسول اللَّه إنَّ عَلَيَّ حِجْة، وإن لأَبي معقل بَكرًا، فقال أبو معقل: صَدَقت، [قد] جعلته في سبيل اللَّه، فقال: "اعطها فلتحج عليه، فإنه في سبيل اللَّه" فأعطاها البكر فقالت: يا رسول اللَّه. إني امرأة قد كبرت سنِّي وسقمت، فهل من عمل يجزئ عني من حجتي فقال: "عمرة في رمضان تجزئ عن حجة" (¬2)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أُكرِّي [في] هذا الوجه، وكان الناس يقولون: ليس لك حج، فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فأرسل إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقرأها عليه، وقال: "لك حج" (¬3)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) و (¬2) هما حديث واحد وهو حديث أم مَعْقل الأسدية -أو أبي معقل- طوله بعضهم واختصره البعض، رواه أحمد (4/ 210 و 6/ 375 و 405 و 405 - 406 و 406) ومالك (1/ 346) والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 391 - 393)، وأبو داود (1988 و 1989) في (المناسك): باب العمرة، والترمذي (939) في (الحج): باب ما جاء في عمرة رمضان، والنسائي في "الكبرى" -كما في "التحفة" (8/ 459 و 9/ 122، 289 و 13/ 106) -، وأبو داود الطيالسي (976 - منحة)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3238 - 3246 و 3248)، والطبراني في "الكبير" (20/ رقم 551) و (25/ رقم 364 - 374)، وابن خزيمة (3075)، وأبو زرعة في "تاريخه" (رقم 586) والدولابي في "الكنى" (1/ 55) وابن سعد (8/ 295) والحاكم (1/ 482)، والبيهقي (4/ 346) وابن حيويه في "من وافقت كنيته كنية زوجه" (ص 89 - 90 وص 95 - بتحقيقي) والخطيب (11/ 11) وفي "الأسماء المبهمة" (ص 302) و"الموضح" (2/ 411) و"تلخيص المتشابه" (2/ 874) وابن حزم في "حجة الوداع" (62)، وله طرق وأسانيد. قال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وانظر مفصلًا "إرواء الغليل" (3/ 373 - 375). وقوله: عمرة في رمضان تعدل حجة ثابت في "صحيح البخاري" (1782)، ومسلم (1256) من حديث ابن عباس. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه أبو داود في سننه (1733) في (المناسك): باب الكَرِيّ، وأحمد في "مسنده" (2/ 155) وابن أبي شيبة (5/ 474) والدارقطني في "سننه" (2/ 292)، وابن خزيمة (4/ 350)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 449) والبيهقي (5/ 333) و (6/ 121) وعبد بن =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الحج أفضل؟ قال: "العجُّ والثجُّ" فقيل: ما الحاج؟ قال: "الشَّعِثُ التَّفِل" قال: ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة" (¬1)، ذكره الشافعي. ¬

_ = حميد وعبد الرزاق وابن أبي حاتم (1/ رقم 1845) في "تفاسيرهم" -كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 247) - من طرق عن العلاء بن المسيب عن أبي أمامة التيمي (ووقع عند بعضهم عن رجل من بني تيم اللَّه، وعند بعضهم عن رجل من بكر بن وائل) عن ابن عمر فذكر القصة. ورواه أبو داود الطيالسي (987) و (1930 - منحة) من طريق العلاء لكن قال عمن سمع ابن عمر به وهذا الإبهام لا يضر لأنه ورد مصرَّحًا به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. أقول: العلاء بن المسيب روى له الشيخان، وأبو أمامة التيمي ويقال: أبو أميمة روى له أبو داود ووثقه ابن معين وقال أبو زرعة لا بأس به. ورواه أحمد في "مسنده" (2/ 155) والطبري في "تفسيره" (2/ 294) وابن خزيمة (3052) من طريق الحسن بن عمرو الفُقيمي عن أبي أمامة به، والحسن هذا ثقة ثبت كما قال الحافظ ابن حجر لكن خالف شعبة، فرواه عن أبي أمية (وهو أبو أمامة) عن ابن عمر موقوفًا. رواه الطبري (2/ 295) من طريق شبابة بن سوار عنه به. وعزا ابن حجر في "النكت الظراف" (6/ 266) هذا الموقوف لعبد بن حُميد. أقول: ولا شك أن الموقوف لا يعل المرفوع لأنه اتفق على رفعه ثقتان فرواية شعبة ليست أولى من روايتهما. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). وفي الباب عن ابن عباس، مُخرَّج في نفس المصادر المذكورة. (¬1) رواه الشافعي في "مسنده" (1/ 284)، والترمذي (812) في (الحج): باب ما جاء في إيجاب الحج بالزاد والراحلة مختصرًا، و (3005) في (تفسير سورة آل عمران) مطولًا، وابن ماجه (2896) في (المناسك): باب ما يوجب الحج، والدارقطني (2/ 217)، وابن أبي شيبة (4/ 535)، وابن عدي (1/ 228)، والبيهقي (4/ 330 و 5/ 58)، كلهم من طريق إبراهيم بن يزيد الخوزي عن محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر به. قال الترمذي في الموضع الأول: هذا حديث حسن، وإبراهيم هو ابن يزيد الخوزي، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه. وقال في الموضع الثاني: هذا حديث لا نعرفه من حديث ابن عمر، إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي، وقد تكلم بعض أهل الحديث في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه. أقول: إبراهيم بن يزيد هذا ضعفه ابن معين، وقال في رواية: ليس بشيء، وقال البخاري: سكتوا عنه، وفسرها ابن حماد تلميذه: تركوه، وقال النسائي: متروك. ورواه الدارقطني من طريق محمد بن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير عن ابن جريج، عن =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا، وأن تعتمر فهو أفضل" (¬1)، قال الترمذي: صحيح، وعند (¬2) أحمد أَن أَعرابيًا قال: يا رسول اللَّه أخبرني عن ¬

_ = محمد بن عباد بن جعفر عن ابن عمر مقتصرًا على الزاد والراحلة، ورواه ابن عدي (6/ 2226) من طريق محمد بن عبد اللَّه عن محمد بن عباد به دون ذكر ابن جريج. قال ابن عدي: وهذا معروف بإبراهيم بن يزيد الخوزي، عن محمد بن عباد بن جعفر، ورواه محمد بن عبد اللَّه بن عبيد عن محمد بن عباد، وهو من هذا الطريق غريب. قال البيهقي (4/ 330) عن محمد بن عبد اللَّه هذا: إلا أنه أضعف من إبراهيم بن يزيد الخوزي، ورواه أيضًا محمد بن الحجاج عن جرير بن حازم عن محمد بن عباد، ومحمد بن الحجاج متروك. أقول: وطريق محمد بن الحجاج هذه أخرجها الدارقطني (2/ 218)، وقوله: "أفضل الحج العج والثج" له شاهد من حديث أبي بكر، تكلم عليه مفصلًا الدارقطني في "علله" (رقم 279)، وقد رواه ابن خزيمة في "صحيحه" (2631)، وصححه الحاكم (1/ 450 - 451) ووافقه الذهبي، وانظر "التلخيص الحبير" (2/ 239 - 245) و"السلسلة الصحيحة" (1500). وتفسير السبيل بالزاد والراحلة: له شواهد عن جمع من الصحابة، ذكرها الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 7 - 10) ثم نقل عن ابن دقيق العيد قوله: "وليس فيها إسناد يحتج به". وانظر: "إرواء الغليل" (4/ 160 - 167) حيث حكم عليه بالضعف أيضًا. قال (و): "العج: رفع الصوت بالتلبية، والثج سيلان دماء الهدي والأضاحي، والتفل: الذي ترك استعمال الطيب". (¬1) في (ك): "وعن". (¬2) هو حديث واحد رواه الترمذي (931) في (الحج) باب ما جاء في العمرة أواجبة هي أم لا؟ وأحمد في "مسنده" (3/ 316)، وأبو يعلى (1938)، والدارقطني (2/ 285)، والبيهقي في "سننه" (4/ 349)، وأبو نعيم في "الحلية" (8/ 180)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (8/ 33) من طريق الحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن جابر فذكره. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. قال ابن دقيق العيد في "الإمام" -كما في "نصب الراية" (3/ 150) - هكذا وقع في رواية الكرخي، ووقع في رواية غيره: حديث حسن لا غير، قال شيخنا المنذري: وفي تصحيحه له نظر، فإن الحجاج بن أرطاة لم يحتج به الشيخان في "صحيحيهما"، قال ابن حبان: تركه ابن المبارك، ويحيى بن القطان، وابن مهدي، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، وقال النووي: ينبغي أن لا يغتر بكلام الترمذي في تصحيحه فقد اتفق الحفاظ على تضعيفه. قال الدارقطني: رواه يحيى بن أيوب عن ابن جريج، وحجاج عن ابن المنكدر موقوفًا من قول جابر. =

العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا، وأن تعتمروا خيرٌ لكم" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرَّحل والحج مكتوب علينا، أفأحج عنه؟ قال: "أنت أَكبر ولده" قال: نعم. قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، كان ذلك يجزئ عنه" قال: نعم، قال: "فحج عنه" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو رزين (¬3) فقال: [إن] (¬4) أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، فقال له: "حج عن أبيك واعتمر" (¬5)، قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات. وسأله رجل فقال: إن أبي مات، ولم يحجّ، أفأحج عنه؟ فقال: "أرأيت إن ¬

_ = أقول: وهذا الموقوف رواه البيهقي (4/ 349)، وقال: هذا هو المحفوظ عن جابر موقوف. وله طريق آخر عن جابر مرفوعًا؛ رواه الدارقطني (2/ 286)، والبيهقي (4/ 349) من طريق سعيد بن عفير عن يحيى بن أيوب عن عبيد اللَّه عن أبي الزبير عن جابر (فذكره). قال البيهقي: وإنما يعرف هذا المتن بالحجاج بن أرطاة، عن محمد بن المنكدر عن جابر. وقد حكم على كلا الطريقين المرفوعين بالضعف. وقال الحافظ في "الفتح" (3/ 597): ولا يثبت في هذا الباب عن جابر شيء، بل روى ابن الجهم بإسناد حسن عن جابر: "ليس مسلم إلا عليه عمرة" بإسناد موقوف على جابر. وانظر: "نصب الراية" (3/ 150)، و"التلخيص الحبير" (2/ 226). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في المطبوع: "أبو ذر" والتصويب في (ك)، ومصادر التخريج. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) رواه أحمد (4/ 10 و 11 و 12)، وأبو داود (1810) في (المناسك): باب الرجل يحج عن غيره، والترمذي (930) في (الحج): باب (87)، والنسائي (5/ 117) في مناسك الحج: باب العمرة عن الرجل الذي لا يستطيع، وابن ماجه (2906) في (المناسك): باب الحج عن الحي إذا لم يستطع، وابن خزيمة (2040)، وابن الجارود (550)، وابن حبان (3991)، والحاكم (1/ 481)، والدارقطني (2/ 283)، والبيهقي (4/ 329) من طرق عن شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس "وقع في "سنن البيهقي" عمرو بن عوف" عن أبي رزين العقيلي به. قال الترمذي: حسن صحيح. وقال الدارقطني: كلهم ثقات وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. قلت بل هو على شرط مسلم.

كان على أَبيك دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم. قال: "فدين اللَّه أحق" (¬1)، ذكره أحمد. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: "إن أمي ماتت، ولم تحج أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها" (¬2)، حديث صحيح وعند الدارقطني أَنَّ رجلًا سأله قال: هلك أبي، ولم يحج، قال: "أرأيت لو كان على أَبيك دين فقضيته أيُقبل منك"؟ قال: نعم. قال: "فاحجج عنه" (¬3)، وهو يدل على أَنَّ السؤال والجواب إنما كانا عن ¬

_ (¬1) الحديث بهذا اللفظ لم أجده عند أحمد بعد بحث، وقد وجدته بعينه عند النسائي (5/ 118) في (مناسك الحج): باب تشبيه قضاء الحج بقضاء الدين، عن معمر عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس، وإسناده جيّد، الحكم بن أبان فيه بعض الكلام. ورواه بلفظه أيضًا الطبراني في "الكبير" (12332) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإسناده صحيح، وطريق سعيد هذا أخرجه ابن حبان (3992)، لكن آخره: "حُجَّ عن أبيك". ورواه بنحوه ابن خزيمة (3035)، وابن الجارود (498)، والدارقطني (2/ 260) من طريقين عن ابن عباس. وانظر: "إتحاف المهرة" (7/ 504 - 555) ولم يعزه لأحمد. (¬2) رواه مسلم (1149) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت، من حديث بريدة. (¬3) رواه الدارقطني (2/ 260) من طريق إسماعيل بن نصر، والطبراني في "الكبير" (748)، وفي "الأوسط" (100) من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم كلاهما عن عبّاد بن راشد عن ثابت عن أنس به. وسقط "ثابت" من إسناد الطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي في "المجمع" (3/ 282) بعد أن عزاه للبزار أيضًا: وإسناده حسن. أقول: عباد بن راشد فيه كلام لا ينزل حديثه عن درجة الحسن، وباقي رواته ثقات إلا أن إسماعيل بن نصر هذا لم أعرفه، وقد ذكر ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" إسماعيل بن نصر، ونقل عن أبيه أنه قال فيه: ليس به بأس، ولكن لم أتبين هل هو هذا أم لا؟ لكن هو متابع كما ترى. وقد رواه البزار (1145 - زوائد) من طريق إسماعيل بن نصر عن صدقة بن موسى، عن ثابت، عن أنس به. وقال البزار: لا نعلم رواه عن ثابت إلا صدقة، وهو بصري ليس به بأس، ولم يتابع على هذا واحتمل حديثه. أقول: بل هو متابع كما رأيت، وصدقة هذا ضعيف. وأخشى أن يكون هذا من أوهام إسماعيل هذا، فالعمدة إذن على طريق أبي سعيد مولى بني هاشم، وهو من رجال البخاري. وللحديث شواهد ثابتة في "الصحيحين"، وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (2573 - 2578).

القبول والصحة لا عن الوجوب، واللَّه أعلم (¬1). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا سمعه يقول: لبيك عن شُبْرُمَة، قريب له، فقال: "أَحَجَجْتَ عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" (¬2)، ذكره الشافعي وأحمد رحمهما اللَّه تعالى. وسألته امرأة عن صبي رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"، ذكره مسلم (¬3). وسأله رجل فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ " قال: نعم. قال: "فاقضِ اللَّه فهو أحق ¬

_ (¬1) انظر: "كتاب الروح" (ص 121) للمصنف. (¬2) رواه أبو داود (1811) في (المناسك): باب الرجل يحج عن غيره، وابن ماجه (2903) في (المناسك): باب الحج عن الميت، وابن الجارود (499)، والطحاوي في "المشكل" (3/ 223)، وابن خزيمة (3039)، وابن حبان (3988)، وأبو يعلى (2440)، والطبراني (12419)، والدارقطني (2/ 270)، والبيهقي (4/ 336) من طرق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا. قال البيهقي: إسناده صحيح، ليس في هذا الباب أصح منه. هكذا رواه جماعة من أصحاب سعيد مرفوعًا. ورواه الدارقطني (2/ 271) من طريقين عن سعيد به موقوفًا على ابن عباس. ورواه البيهقي (5/ 179 - 180) من طريق عمرو بن الحارث، عن قتادة، عن سعيد عن ابن عباس موقوفًا (بإسقاط عزرة) وهذا وهم. ورواه الدارقطني (2/ 267 و 268 و 269)، والبيهقي (4/ 337) من طريقين عن ابن عباس مرفوعًا به. ورواه الشافعي (1/ 389)، والبيهقي (4/ 337)، والبغوي (1856) من طريق أبي قلابة عن ابن عباس موقوفًا. قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 451) عن حديث شبرمة: "علَّله بعضهم بأنه روي موقوفًا، والذي أسنده ثقة فلا يضره" قال: "فأصحاب ابن أبي عروبة يختلفون، فقوم منهم يجعلونه مرفوعًا، منهم: عبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر والأنصاري، وقوم يقفونه منهم: غندر، وحسن بن صالح، والرافعون ثقات فلا يضرهم وقف الواقفين له، إما لأنهم حفظوا ما لم يحفظ أولئك، وإما لأن الواقفين رووا عن ابن عباس رأيه والرافعين رووا عنه روايته" وانظره (5/ 738). وقال ابن حجر في "التلخيص" (2/ 223 - 224) بعد أن فصّل القول، وذكر له طرقًا: فيجتمع من هذا صحة الحديث. وانظر: "نصب الراية" (3/ 155) و"إرواء الغليل" (4/ 171). (¬3) رقم (1336) في (الحج): باب صحة حج الصبي وأجر من حج به.

بالقضاء" (¬1)، متفق عليه. وسُئل ما يلبس المحرم في إحرامه؟ فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البُرْنُس، ولا السراويل، ولا ثوبًا مسه وَرْسٌ (¬2) ولا زَعْفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عليه جُبَّة، وهو مُتضمِّخ بالخَلُوق فقال: أحرمتُ بعمرة وأَنا كما ترى، فقال: "انزع عنك الجبَّة واغسل عنك الصُّفْرة". متفق عليه، وفي بعض طرقه: "واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو قتادة عن الصيد الذي صاده، وهو حلالٌ فأكل أصحابه منه (¬5) وهم محرمون؟ فقال: "هل معكم منه شيء"؟ فناوله العَضُد فأكلها (¬6)، وهو محرم (¬7)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عمَّا يَقتل المُحْرِم؟ فقال: "الحية، والعقرب، والفُويْسِقَة (¬8)، والكلب العقور والسبع العادي"، زاد أحمد: "ويُرمى بالغراب، ولا يقتل" (¬9). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6699) في (الأيمان والنذور): باب من مات وعليه نذر، من حديث ابن عباس، هو اللفظ المذكور هنا تمامًا، وليس هو في "صحيح مسلم". والحديث نفسه رواه البخاري (1852 و 7315) لكن بلفظ: "إن أمي" وآخره: "اقضوا اللَّه فاللَّه أحق بالوفاء". (¬2) "البرنس: كل ثوب رأسه منه ملتزق به من ذراعه أو جبة، وقال الجوهري: هو قلنسوة طويلة كان النساك يلبسونها في صدر الإسلام، والورس نبت أصفر يصبغ به" (و). (¬3) تقدم تخريجه (1/ 364). (¬4) رواه البخاري (1536) في (الحج): باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب، و (1789) في (العمرة): باب يفعل بالعمرة ما يفعل بالحج، و (1847) في (جزاء الصيد): باب إذا أحرم جاهلًا، وعليه قميص، و (4329) في (المغازي): باب غزوة الطائف، و (4985) في (فضائل القرآن): باب نزل القرآن بلسان قريش والعرب، ومسلم (1180) في (الحج): أوله، من حديث يعلى بن أمية. وفي (ك): "مضمخ" بدل "متضمخ". (¬5) في (ك): "منه أصحابه". (¬6) في (ك): "فأكله". (¬7) رواه البخاري في مواطن كثير منها: (1821) في (جزاء الصيد): باب إذا صاد الحلال فأهدى للمحرم الصيد أكَلَه، و (2570) في (الهبة): باب من استوهب من أصحابه شيئًا، ومسلم (1196) بعد (58) و (63) في (الحج): باب تحريم الصيد للمحرم، من حديث أبي قتادة نفسه. (¬8) "الفأرة" (و). (¬9) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 3)، ومن طريقه أبو داود (1848) في (الحج): باب ما يقتل =

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- ضباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحجَّ، وأَنا شاكية؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حجي واشترطي أَنَّ مَحلِّي حيث حبستني" (¬1)، ذكره مسلم. واستفتته أم سلمة في الحج، وقالت: إني أشتكي، فقال: "طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة فقالت: "يا رسول اللَّه ألا أدخل البيت؟ فقال: ادخلي ¬

_ = المحرم من الدواب، والترمذي (838) في (الحج): باب ما يقتل المحرم من الدواب، وابن ماجه (3089) في (الحج): باب ما لقتل المحرم، والبيهقي (5/ 201) من طريق هشيم عن يزيد بن أبي زياد: حدثنا عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي، عن أبي سعيد الخدري به، وليس فيها السؤال إلا عند أحمد فقط، ولم يقل: "ويرمي الغراب ولا يقتله" إلا في رواية أحمد والبيهقي حيث ذكر الغراب في رواية الترمذي في أنه يقتل، ولم يذكر الغراب عند ابن ماجه مطلقًا. وقال الترمذي: حديث حسن. قال ابن دقيق العيد -كما في "نصب الراية" (3/ 131) -: وإنما لم يصححه من أجل يزيد بن أبي زياد. قال الزيلعي: والغراب المنهي عن قتله في هذا الحديث يحمل على الذي لا يأكل الجيف، ويحمل المأمور بقتله على الأبقع الذي يأكل الجيف، كما أشار إليه صاحب الكتاب. أقول: لا داعي لهذه التأويلات؛ لأن يزيد بن أبي زياد هذا ضعيف، كما قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (2/ 274): وإن حسنه الترمذي، وفيه لفظة منكرة، وهي قوله: ويرمي الغراب ولا يقتله، قال النووي في "شرح المهذب": إن صح هذا الخبر حمل قوله هذا على أنه لا يتأكد ندب قتله كتأكيده في الحية وغيرها. أقول: ولا داعي لهذا التأويل أيضًا لعدم صحة الخبر. ثم وجدت عبد الرزاق يرويه عن هشيم به (8385) ولفظه: "خمس يقتلهن المحرم: العقرب والحية، والغراب والكلب والذئب"! وأصل الحديث ثابت في "الصحيحين" من حديث عائشة، وليس فيه: السبع العادي، وهو مخرج في غير هذا الموطن، وفي تعليقي على "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب، يسر اللَّه نشره بخير وعافية. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (464) في (الصلاة): باب إدخال البعير في المسجد للعلة، و (1619) في (الحج): باب طواف النساء والرجال، و (1626) باب من صلى ركعتي الطواف خارجًا من المسجد، و (1633) باب المريض يطوف راكبًا، و (4853) في تفسير سورة الطور باب رقم (1)، ومسلم (1276) في (الحج): باب جواز الطواف على بعير ونحوه من حديث أم سلمة نفسها.

الحِجْر، فإنه من البيت" (¬1). واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- عروة بن مُضرِّس فقال: يا رسول اللَّه جئت من جبليْ طي أذللت مطيتي وأتعبت نفسي واللَّه ما تركت من جبل إلا وقفت عليه هل لي من حج؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أدرك معنا هذه الصلاة، يعني: صلاة الفجر، وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا تم حجه وقضى تفثُه" (¬2)، حديث صحيح. ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ؛ رواه النسائي (5/ 218 - 219) في (المناسك): باب الحجر: حدثنا أحمد بن سعيد الرياطي: حدئنا وهب بن جرير: والطيالسي (1562) كلاهما قال: حدثنا قرة بن خالد عن عبد الحمبد بن جبير عن عمته صفية بنت شيبة، قال: حدثتنا عائشة فذكره، وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وصفية ثبت سماعها من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كما في "صحيح البخاري"، قاله الحافظ ابن حجر. وروى أحمد (6/ 92)، وإسحاق (1136) كلاهما في "المسند"، وأبو داود في (المناسك): (2028)، والترمذي (876) في (الحج)، والنسائي (5/ 219) في (المناسك)، وأبو يعلى (4615) من طرق عن عبد العزيز بن محمد وابن خزيمة (3018)، والطحاوي في " شرح معاني الآثار" (1/ 392) من طريق ابن أبي الزناد كلاهما عن علقمة عن أمّه، وفي مطبوع الترمذي وحده: عن أمه عن أبيه عن عائشة قالت: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه فأخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيدي فأدخلني الحجر فقال: "إذا أردت دخول البيت فصلي هاهنا فإنما هو قطعة من البيت"، وهذا خطأ فيه، انظر (2/ 215 - ط بشار). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وعلقمة بن أبي علقمة هو علقمة بن بلال. أقول: أم علقمة اسمها مرجانة روى عنها ابنها علقمة، وبكير بن الأشج، وذكرها ابن حبان والعجلي في الثقات. وأما كون الحجر من البيت فهذا ثابت في "الصحيحين". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 15 و 261 - 262)، وأبو داود (1950) في (المناسك): باب من لم يدرك عرفة، والترمذي (891) في (الحج): باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج، والنسائي (5/ 263 و 264) في (المناسك): باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بمزدلفة، وابن ماجه (3016) في (المناسك): باب من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع، والحميدي (900 و 901)، وابن الجارود (467)، وابن خزيمة (2820 و 2821)، والدارمي (2/ 59)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 207 و 208)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2491)، وابن حبان (3851)، والطبراني في "المعجم الكبير" (17/ 377 - 394)، والدارقطني (2/ 239)، والحاكم (1/ 463)، والبيهقي (5/ 173) وابن قانع في "معجم الصحابة" (11/ رقم 1370)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ رقم 5470) من طرق عن الشعبي عن عروة بن مُضرَّس به. قال الترمذي: حسن صحيح. =

واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول اللَّه كيف الحج؟ فقال: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر تم حجه، ومن تأخر فلا إثم عليه". ثم أردف (¬1) رجلًا خلفه ينادي بهن (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لم أشْعُر فحلقت قبل أَن أذبح، فقال: "اذبح ولا ¬

_ = وقال الحاكم: صحيح على شرط كافة الأئمة، ووافقه الذهبي. ورواه الحاكم (1/ 463) من طريق عروة بن الزبير عن عروة بن مضرس لكن قال ابن حجر في "التهذيب" في ترجمة ابن مضرس: إسناده ضعيف، والحديث قد ذكره الدارقطني في "الإلزامات" من طريق الثعبي فحسب، وقال الدارقطني أيضًا: لم يرو عن عروة بن مضرس غير الشعبي، وكذا قال مسلم في "الوحدان" وغيره. وهذا لا يضر في صحة الحديث فالشعبي إمام كبير. (¬1) في (ك): "ردف". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 359 و 335 وأبو داود (1949) في (المناسك): باب من لم يدرك عرفة، والترمذي (889 و 890) (الحج): باب ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج والنسائي (5/ 264 - 265) في (المناسك): باب فيمن لم يدرك صلاة الصبح مع الإمام بالمزدلفة، ابن ماجه (3015) في (الحج): باب من أتى عرفة قبل الفجر من جمع، وعلقه البخاري في "تاريخه الكبير" (5/ 243)، والحميدي (899)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (957)، وابن خزيمة (2822)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 209 - 210)، وابن حبان (3892)، والدارقطني (2/ 240)، والحاكم (1/ 464)، والبيهقي (5/ 116 و 152 و 173)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (10/ رقم 1129، 1130)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ رقم 4632، 4633) من طرق عن سفيان الثوري عن بكير بن عطاء قال: سمعت عبد الرحمن بن يعمر الديلي به. ورواه أحمد (4/ 309 و 310)، والدارمي (2/ 59)، والطحاوي (2/ 210)، والدارقطني (2/ 241)، والحاكم (2/ 278)، والبيهقي (5/ 173)، وأبو نعيم (4631) من طرق عن شعبة عن بكير بن عطاء به، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. أقول: غير أن صحابيه لم يرو له الشيخان. وفي بعض طرق الحديث قال ابن عيينة: فقلت لسفيان الثوري: ليس عندكم بالكوفة حديث أشرف ولا أحسن من هذا. وروى الترمذي عن الجارود قال: سمعتُ وكيعًا أنه ذكر هذا الحديث فقال: هذا الحديث أمُّ المناسك. ولفظ الحديث كما في "مسند أحمد" ومصادر التخريج: "الحج عرفة، فمن جاء قبل صلاة الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه، أيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه، ثم أردف رجلًا خلفه فجعل ينادي بهن" فوقع سقط من الحديث الذي ذكره ابن القيم، بل غيّر المعنى كما هو واضح!

حرج" وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أَن أَرمي، فقال: "ارم، ولا حرج" فما سئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شيء قُدِّم، ولا أُخَّر إلا قال: "افعل، ولا حرج" (¬1)، متفق عليه. وعند أحمد: "فما سئل يومئذ عن أمر مما يَنْسى المرء أو (¬2) يجهل من تقديم بعض الأُمور على بعض وأشباهها إلا قال: "افعل ولا حرج" (¬3)، وفي لفظ: حلقتُ قبل أن أنحر قال: "اذبح، ولا حرج"، وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر قال: حلقت (¬4)، ولم أرم. قال: "ارم، ولا حرج" وفي لفظ: أنه سئل عمَّن ذبح قبل أَن يحلق أو حلق قبل أَن يذبح قال: "لا حرج" (¬5)، و [قال] (¬6): كان الناس يأتونه فمن قائل: يا رسول اللَّه سعيت قبل أَن أَطوف وأخَّرتُ شيئًا، وقدمت شيئًا، فكان يقول: "لا حرج إلا على رجل اقترض عِرْض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلك" (¬7)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) تقدم مرارًا. (¬2) في (ك): "أن". (¬3) هو في "مسنده" (2/ 217)، وكان على المؤلف أن يعزوه لمسلم إذ هو في الحديث السابق (1306) بعد (328). (¬4) في (ك): "نحرت". (¬5) هذه كلها في حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص المتقدم. وقد رواه أيضًا من حديث جابر عند البخاري (84)، وأطرافه هناك، ومسلم (1307). (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) رواه أبو داود (2015) في (المناسك): باب فيمن قدم شيئًا قبل شيء من حجه، وابن أبي شيبة (14/ 177 - 178)، والطبراني في "الكبير" (472)، والدارقطني (2/ 251)، والبيهقي (5/ 146)، وابن خزيمة (2774)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (6015)، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة والتاريخ" (1/ 304 - 305) من طرق عن جرير بن عبد الحميد عن الشيباني، وهو سليمان بن أبي سليمان عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك به، ورجاله ثقات. لكن قال الدارقطني: ولم يقل: سعيت قبل أن أطوف إلا جرير عن الشيباني، وقال البيهقي: هذا اللفظ، سعيت قبل أن أطوف، غريب تفرد به جرير عن الشيباني، فإن كان محفوظًا فكأنه سأله عن رجل سعى عقيب طواف القدوم قبل طواف الإفاضة فقال: لا حرج واللَّه أعلم. أقول: جرير بن عبد الحميد، وإن روى له الشيخان إلا أن له أوهامًا، ثم وجدت الطبراني (472) رواه من طريق أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا أسباط بن محمد عن الشيباني به، فذكر مثل حديث جرير. =

وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- كعب بن عُجرة أَن يحلق رأسه، وهو محرم لأَذى القمل، أن ينسك بشاة أو يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام (¬1). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهدى بدنة أن يركبها (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ناجيةُ الخزاعي: ما يصنع بما عطب من الهدي؟ فقال: "انحرها واغمس نعلها في دمها وأضرب به صفحاتها (¬3) وخلِّ بينها وبين الناس فيأكلوها، ولا يأكل منه هو، ولا أحد من أهل رفقته" (¬4). ¬

_ = وأسباط هذا من الثقات، فيكون متابعًا قويًا لجرير، لكن أظن في الأمر شيئًا، وهو أن الطبراني روى حديث أسباط بن محمد وجرير بن حازم في سياق واحد، فأخشى أن يكون ساق حديث جرير، وأدخل فيه حديث أسباط. أقول هذا لأن أبا بكر بن أبي شيبة قد روى الحديث في "مصنفه" (8/ 379)، ومن طريقه أيضًا ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1469، 2669) بل والطبراني أيضًا (473)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (2/ 236) عن أسباط بن محمد عن الشيباني به، بلفظ: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سأله رجل فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: لا حرج. لكن قد يؤيد هذه اللفظة وهي: "سعيت قبل أن أطوف" ما رواه ابن خزيمة (2955)، والطبراني (484) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (4/ رقم 1389) من طريق محمد بن المثنى عن عمرو بن عاصم عن أبي العوام عمران بن دوار القطان، عن محمد بن جحادة، عن زياد بن علاقة به، وفيه: "ثم أتاه آخر فقال: يا رسول اللَّه نسيت الطواف فقال: "طف ولا حرج". وعمران وإن أُخرج له في الصحيح؛ إلا أنه سيء الحفظ، فإن كان حفظها فتكون متابعة جيدة، وانظر كلام ابن التركماني (5/ 146). والحديث رواه أحمد (4/ 278)، والحميدي (824)، والنسائي في "الكبرى" (7554)، وابن ماجه (3436)، والطبراني في "الكبير" (463 و 464 و 467 و 469 و 471 و 477 و 479 و 480 و 482 و 483)، والحاكم (4/ 399 و 400)، والخطيب (9/ 179)، والضياء في "المختارة" (4/ رقم 1388، 1395) من طرق عن زياد بن علاقة به، دون قوله: "سعيت قبل أن أطوف". (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في (ك): "صفحتها". (¬4) رواه أحمد (4/ 334)، وأبو داود (1762) في (المناسك): باب في الهدي إذا عطب قبل أن يبلغ، والترمذي (910) في (الحج): باب ما جاء إذا عطب الهدي ما يصنع به؟ والنسائي في "الكبرى" (ق 54)، وابن ماجه (3106) في (المناسك): باب في الهدي إذا عطب، وابن أبي شيبة (4/ 496)، والحميدي 880)، والدارمي (1915، 1916)، وابن خزيمة (2577)، وابن حبان (4023)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2308) والحاكم (1/ 447)، =

وسأله عمر فقال: إني أُهديتُ نَجيبًا فأعطيت بها ثلاث مئة دينار فأَبيعها فأشتري بها بدنًا؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا انحرها إياها" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن أرقم: ما هذه الأضاحي؟ فقال: "سنة أبيكم إبراهيم صلاة اللَّه وسلامه عليه" قال: فما لنا منها؟ قال: "بكل شعرة حسنة"، قالوا: يا رسول اللَّه فالصوف قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = والبيهقي (5/ 243)، والطحاوي في "المشكل" (1329)، والبغوي (1953)، والمزي في "تهذيب الكمال" (29/ 454) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي. قال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. أقول: غير أن صحابيه لم يرو له الشيخان. ورواه مالك في "الموطأ" (1/ 380) عن هشام بن عروة عن أبيه مرسلًا. وهذا لا يضر فقد وصله جماعة من الكات منهم: وكيع وسفيان، ورواه البيهقي (5/ 243) من طريق جعفر بن عون عن هشام بن عروة عن أبيه عن رجل من أسلم قال. . . (فذكره). وهذا لا يضر أيضًا إن شاء اللَّه تعالى. (¬1) رواه أبو داود (1756) في (الحج): باب تبديل الهدي، ومن طريقه البيهقي (5/ 241 - 242)، وابن خزيمة (2911) من طريق محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم (خالد بن أبي يزيد) عن جهم بن الجارود عن سالم عن أبيه. وهذا إسناد فيه ضعف، جهم هذا -ويقال: شهم- لم يرو عنه إلا خالد بن أبي يزيد، وقال البخاري: لا يعرف له سماع من سالم، قال ابن خزيمة: "إن كان شهم بن الجارود ممن يجوز الاحتجاج بخبره"، وقال الذهبي: فيه جهالة. أما ابن حبان فذكره في "الثقات"!! (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 368)، وعبد بن حميد (259 - المنتخب) وابن ماجه (3127) في (الأضاحي): باب ثواب الأضحية، والطبراني (5075)، والعقيلي (3/ 419)، وابن عدي (5/ 1993)، والحاكم (2/ 389)، والبيهقي (9/ 261)، وأحمد بن منيع، وأبو يعلى في "مسنديهما" -كما في "مصباح الزجاجة" (2/ 156) - والتيمي في "الترغيب" (349)، والمزي في "تهذيب الكمال" (14/ 94 - 95) من طريق سلام بن مسكين عن عائذ اللَّه عن أبي داود عن زيد بن أرقم به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: عائذ اللَّه قال أبو حاتم: منكر الحديث. أقول: عائذ اللَّه هذا ترجمه البخاري في "تاريخه" وقال: روى عنه سلام بن مسكين، لا يصح حديثه. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 156): هذا إسناد فيه أبو داود نفيع بن الحارث وهو متروك. أقول: ونفيع هذا كذبه ابن معين وغيره، وهو في "ضعيف سنن ابن ماجه" (672).

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه]؛ عن يوم الحج الأَكبر؟ فقال: "يوم النحر" (¬1)، ذكره الترمذي، وعند أبي داود بإسناد صحيح أَن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، فقال: هذا يوم الحج الأكبر"، وقد قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، وإنما أذَّن المؤذن بهذه البراءة يوم النحر (¬2)، وثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة أنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر (¬3). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بجواز فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أَفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتمًا، ولم ينسخه شيء بعده (¬4)، والذي (¬5) ندين اللَّه به أَنَّ القول بوجوبه أَقوى وأَصح من القول بالمنع منه، وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: "من لم يكن أهدى فليهل بعمرة، ومن كان أهدى فليهل بحج مع عمرة" (¬6)، وأما ما فعله هو، فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة من بضعة وعشرين ¬

_ (¬1) مضى تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) مضى تخريجه. (¬3) رواه البخاري (3177) في (الجزية): باب كيف ينبذ إلى أهل العهد، ومسلم (1347) في (الحج): باب لا يحج البيت مشرك. وانظر: "زاد المعاد" (1/ 10 و 3/ 26)، و"تهذيب السنن" (2/ 406). (¬4) افتاؤه -صلى اللَّه عليه وسلم- بجواز فسخ الحج إلى العمرة، وارد في حديث عائشة الذي رواه مسلم (1211) بعد (114) ولفظه: "من أراد منكم أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليهل، ومن أراد بعمرة فليهل"، وأما افتاؤه باستحباب التمتع، فقد رواه البخاري (1560)، ومسلم (1211) بعد (123) من حديث عائشة أيضًا وفيه: فخرج إلى أصحابه فقال: "من لم يكن منكم معه هدي، فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل، ومن كان معه الهدي فلا". وأما الأمر بالتمتع فثابت أيضًا في حديثها، رواه البخاري (1561)، ومسلم (1211) (120) و (128) قالت: "فلما قدمنا تطوفنا بالبيت فأمر -صلى اللَّه عليه وسلم- من لم يكن ساق الهدي أن يحل". (¬5) في المطبوع: "وهو الذي" والمثبت من (ك). (¬6) بهذا اللفظ لم أجده، وبمعناه رواه البخاري (1691) في (الحج): باب من ساق البدن معه، ومسلم (1227) في (الحج): باب وجوب الدم على المتمتع، وأبو داود (1805) في (المناسك): باب في الأقران من حديث ابن عمر ولفظه: "من كان منكم أهدى فإنه لا يحل له من شيء حرم منه حتى يقضى حجه، ومن لم يكن أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر. . . "

وجهًا رواه عنه ستة عشر نفسًا من أصحابه (¬1)، ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله كأنه رأي عين، وباللَّه التوفيق (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها؟ قال: "لا، ولكن خذ من شعرك وأظفارك، وقُصَّ شاربك، وتحلق عانتك وذلك تمام أضحيتك عند اللَّه" (¬3)، ذكره أبو داود، والمنيحة: الشاة التي أعطاه إياها غيره لينتفع بلبنها فمنعت من التضحية بها لأنها (¬4) ليست ملكه، وإن كان قد منحها هو غيره وقتًا معلومًا لزم الوفاء له بذلك، فلا يضحي بها أيضًا. وأمر [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) سبعة من أصحابه كانوا معه فأخرج كل واحد منهم درهمًا فاشتروا أُضحية، فقالوا: يا رسول اللَّه لقد أغلينا بها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أفضل الضحايا أَغلاها وأسمنها" فأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[فأخذ رَجلٌ برِجْلٍ، ورجلٌ برِجْل] (¬6)، ورجل بيد، ورجل بيد، ورجل بقرن، ورجل بقرن، وذبحها السابع وكبَّروا عليها جميعًا" (¬7)، ذكره أحمد، نَزَّل هؤلاء النفر منزلة أهل البيت الواحد ¬

_ (¬1) ساق هذه الروايات مفصلة بما لا مزيد عليه المؤلف -رحمه اللَّه- في "زاد المعاد" (2/ 107 - 116 مؤسسة الرسالة)، وكثير منها ثابت في "الصحيحين" فأغنى عن الإعادة. (¬2) انظر: "زاد المعاد" (1/ 177 - 196 مهم، 243)، و"تهذيب السنن" (2/ 307، 320 - 323 مهم جدًا، 325 - 331). (¬3) رواه أبو داود (2789) في (الأضاحي): باب ما جاء في إيجاب الأضاحي، والنسائي (7/ 212، 213) في (الضحايا): باب من لم يجد الأضحية، وأحمد (2/ 169)، وابن حبان (5914)، والدارقطني (4/ 282)، والحاكم (4/ 223)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 159)، والبيهقي (9/ 263) من طريق عياش بن عباس عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد اللَّه بن عمرو به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. أقول: عيسى بن هلال روى عنه جمع ووثقه ابن حبان فهو حسن الحديث -إن شاء اللَّه تعالى-. (¬4) في المطبوع: "بأنها" والمثبت من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ك): "فاخذ رجلٌ ورجل". (¬7) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 424)، وابن سعد في "الطبقات" (7/ 423 - 424)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1384)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 231)، والبيهقي (9/ 268)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (3/ 277) كلهم من طريق بقية بن الوليد: حدثني عثمان بن زفر الجهني: حدثني أبو الأسد السلمي: (وفي بعضها أبو الأشد) عن أبيه عن جده به. =

في إجزاء الشاة عنهم؛ لأنهم كانوا رفقة واحدة. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن عليَّ بدنة، وأَنا موسر (¬1) بها، ولا أجدها فأشتريها؟ فأفتاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَن يبتاع سبع شياه فيذبحهن (¬2)، ذكره أحمد رحمه اللَّه تعالى. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن خالد عن جَذَع من المعز، فقال: "ضَحِّ به" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = وسكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: عثمان ثقة. فتعقبه شيخنا الألباني في "الضعيفة" (4/ 174) رقم (1678) فقال: عثمان هذا ليس بثقة، بل هو مجهول، كما قال الحافظ ابن حجر في "التقريب"، ولم يوثقه أحد غير ابن حبان. . . وقال الهيثمي في "المجمع" (4/ 21): رواه أحمد، وأبو الأشد لم أجد من وثقه ولا جرحه، وكذلك أبوه، وقيل: إن جده عمرو بن عبس. أقول: وأبو الأشد هذا ذكره الحافظ في "التعجيل"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وقال في "إتحاف المهرة" (16/ 2/ 814): "أبو الأشد وأبوه لا يعرفان، وجده يقال هو أبو المعلى قاله العسكري". (¬1) كذا في (ك) ومصادر التخريج، وفي سائر الأصول: "مؤثر". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 311، 312)، وابن ماجه (3136) في (الأضاحي): باب كم تجزيء من الغنم عن البدنة، وأبو داود في "المراسيل" (154 و 155)، وأبو يعلى (2613)، والطحاوي في "المشكل" (2596، 2597) و"شرح معاني الآثار" (4/ 175) من طرق عن ابن جريج قال: قال عطاء الخراساني عن ابن عباس فذكره. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 157): هذا إسناد رجاله رجال الصحيح، وفيه مقال، عطاء الخراساني لم يسمع من ابن عباس -قاله الإمام أحمد- قال شيخنا أبو زرعة: روايته عن ابن عباس في "صحيح البخاري". قلت: (القائل البوصيري): وابن جريج مدلس وقد رواه بالعنعنة، قال يحيى بن سعيد القطان: ابن جريج عن عطاء الخراساني ضعيف، إنما كتاب دفعه إليه. أقول: قول أبي زرعة: (وهو ابن الحافظ العراقي): إن البخاري روى لعطاء بن أبي مسلم عن ابن عباس، ذكره بعضهم في حديثين في "صحيح البخاري" من رواية عطاء عن ابن عباس، وقد جزم ابن حجر في "مقدمة الفتح" أنه عطاء بن أبي رباح وبيِّن أن عطاء بن أبي مسلم لم يرو له البخاري أصلًا. والحديث من أجل انقطاعه أورده أبو داود في "المراسيل"، وابن جريج توبع، فقد رواه البيهقي (5/ 169) من طريق إسماعيل بن عياش عن عطاء به. ورواية إسماعيل صحيحة في روايته عن أهل بلده، وهم الشاميون، وهذه ليست منها! فيبقى الحديث على ضعفه لعدم سماع عطاء من ابن عباس. وانظر: "الإرواء" (1062) و"ضعيف ابن ماجه" (674). (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 194)، وأبو داود (2798) في (الضحايا): باب ما يجوز من السن في الضحايا، وابن حبان (5899)، والطبراني في "الكبير" (2517 و 5220)، =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بردة بن نِيَار عن شاة ذبحها يوم العيد، فقال: "أقبْلَ (¬1) الصلاة؟ " قال: نعم، قال: "تلك شاة لحم" قال: عندي عَنَاق جَذَعَة (¬2) هي أحب إليِّ (¬3) من مُسنَّة، قال: "تجزئ عنك، ولن تجزئ عن أحد بعدك" (¬4)، ذكره أحمد، وهو صحيح صريح في أَنَّ (¬5) الذبح قبل الصلاة لا يجزئ، سواء دخل وقتها، أو لم يدخل، وهذا الذي ندين اللَّه به قطعًا، ولا يجوز غيره. وفي "الصحيحين" من حديث جندب بن سفيان البَجَلي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من كان ذبح قبل أَن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم اللَّه" (¬6). وفي "الصحيحين" من حديث أَنس عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "من كان ذبح قبل الصلاة فليُعِد" (¬7)، ولا قول لأحد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو سعيد فقال: اشتريت كبشًا أضحي به فعدا الذئب فأخذ أليته فقال: "ضحِّ به" (¬8)، ذكره أحمد. ¬

_ = والبيهقي (9/ 270) من طرق عن ابن إسحاق: حدثني عمارة بن عبد اللَّه بن طعمة عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن خالد الجهني به. وهذا إسناد جيّد، ابن إسحاف مدلس وقد صرح بالتحديث، وعمارة هذا روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات". وذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 14) مكتفيًا بتصحيح ابن حبان له. (¬1) في (ك): "قبل". (¬2) "العناق: الأنثى من أولاد المعز والجذعة من المعز ما دخل في الثانية" (و). (¬3) في (ك): "إلينا". (¬4) هو في "المسند" (4/ 45)، ورواه في مواطن أخرى، والحديث ثابت في "صحيح البخاري" في مواطن منها، (955) في (العيدين): باب الأكل وقت النحر، وانظر أطرافه عند رقم (951)، ومسلم (1961) في (الأضاحي): باب وقتها من حديث البراء بن عازب. (¬5) في (ك): "فإن". (¬6) رواه البخاري (985) في (العيدين): باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، و (5500) في (الذبائح والصبد): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فليذبح على اسم اللَّه"، و (5562) في (الأضاحي): باب من ذبح قبل الصلاة أعاد، و (6674) في (الأيمان والنذور): باب إذا حنث ناسيًا في الأيمان، و (7400) في (التوحيد): باب السؤال بأسماء اللَّه تعالى، ومسلم (1960) في (الأضاحي): باب وقتها. (¬7) رواه البخاري في مواطن منها: (954) في (العيدين): باب الأكل يوم النحر، و (984) باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، ومسلم (1962) في (الأضاحي): باب وقتها. (¬8) رواه أحمد (3/ 32 و 78 و 86)، والطيالسي (2007 - منحة)، وابن ماجه (3146) في (الأضاحي): باب من اشترى أضحية صحيحة فأصابها عنده شيء، والطحاوي في "شرح =

وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من أراد الخروج إلى بيت المقدس للصلاة أَن يصلي في مكة (¬1)، ذكره أحمد. ¬

_ = معاني الآثار" (169 - 170)، والبيهقي (9/ 289)، والمزي في "تهذيب الكمال" (26/ 316) من طرق عن جابر الجعفي عن محمد بن قرظة عن أبي سعيد الخدري به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 158): هذا إسناد ضعيف فيه جابر بن يزيد الجعفي وهو ضعيف وقد اتهم. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4/ 144): وشيخه محمد بن قرظة غير معروف، ويقال: إنه لم يسمع من أبي سعيد. وقال الذهبي في "الميزان": (4/ 16): "لم يرو عنه غير جابر الجعفي وقال عبد الحق يقال إنه لم يسمع من أبي سعيد، وانظر "التهذيب" (9/ 412) وله طريق آخر، أخرجه أحمد (3/ 43) عبد بن حميد (899 - المنتخب) وأبو يعلى (1015) من طريق عطية بن سعيد العوفي بنحوه". (¬1) الحديث لم أجده في "مسند أحمد" المطبوع (1)، وقد عزاه إليه الهيثمي في "المجمع" (4/ 5)، وابن حجر في "أطراف المسند" (1/ 232) و"إتحاف المهرة" (1/ 272)، والمتقي الهندي في "كنز العمال" (12/ 285) من حديث الأرقم ومن طريقه الضياء في "المختارة" (1300، 1301)، وقال الهيثمي: ورجال أحمد فيهم يحيى بن عمران جهله أبو حاتم. وقد وجدته عند الطبراني في "الكبير" (907) -وعنه أبو نعيم في "المعرفة" (1/ رقم 1022)، والضياء (13002) -، والحاكم (3/ 504) من طريقين عن العطاف بن خالد المخزومي، عن عثمان بن عبد اللَّه بن الأرقم عن جده. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع" (4/ 5): ورجال الطبراني ثقات. أقول: وعثمان بن عبد اللَّه الأرقم روى عنه جماعة، وذكره ابن أبي حاتم في موطنين: الأول: عثمان بن الأرقم (6/ 144). والثاني: عثمان بن عبد اللَّه بن الأرقم (6/ 155)، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن حبان في "الثقات". ورواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (607) من طريق عطاف بن خالد المخزومي أيضًا عن عبد اللَّه بن عثمان بن الأرقم أنه قال: جئت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا خطأ. واعلم أن لفظ الحديث في "مسند أحمد" أنه جاء إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسلم عليه، فقال: أين تريد؟ قال: أردت يا رسول اللَّه هاهنا وأشار بيده إلى حد بيت المقدس. . . قال: فالصلاة هاهنا وأومأ بيده إلى مكة خير من ألف صلاة وأومأ بيده إلى الشام. ولكن لفظ الحديث في المصادر الأخرى يشير إلى مسجد المدينة، وله طريق آخر عند أحمد (1) -كما في "إتحاف المهرة" (1/ 273) - وأبي نعيم في "المعرفة" (1023)، والضياء (1301). _______ (1) ثم وجدته في طبعة مؤسسة الرسالة (39/ 434 رقم 24009/ 1، 2).

فصل [فتاوى في بيان فضل بعض سور القرآن]

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر يوم فتح مكة فقال: إني نذرتُ إن فتح اللَّه عليك مكة أن أصلِّي في بيت المقدس، فقال: "صلِّ هاهنا"، ثم سأله فقال: "شأنك إذًا" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر أي مسجد وضع في الأرض أوَّلَ؟ قال: "المسجد الحرام"، قال: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قال: كم بينهما؟ قال: "أربعون عامًا" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أي المسجدين أسس على التقوى؟ قال: "مسجدكم هذا" يريد: مسجد المدينة (¬3)، ذكره مسلم، وزاد الإمام أحمد: "وفي ذلك خيرٌ كثير" (¬4)، يعني: مسجد قباء. فصل [فتاوى في بيان فضل بعض سور القرآن] وسئل: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 363)، وأبو داود (3305)، والدارمي (2/ 184 - 185)، وابن الجارود في "المنتقى" (945)، والحاكم (4/ 304)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 115)، والبيهقي (10/ 82) من طريق حبيب المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، وأقره الذهبي، وصححه ابن دقيق العيد في "الاقتراح" (ص 505) وانظر: "التلخيص الحبير" (4/ 178). ورواه عبد الرزاق (15891)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (7258) عن إبراهيم بن يزيد (وفي "المعجم": إبراهيم بن عمر المكي، ويظهر أنه الصواب)، سمعت عطاء بن أبي رباح قال: جاء الشريد إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (فذكره). وهذا مرسل، عطاء لم يدرك الشريد، والحكم للموصول قبله لأنه وصله ثقة. وفي الباب عن رجال من الأنصار، رواه أبو داود، وعبد الرزاق، والبخاري في "التاريخ" (6/ 171). (¬2) تقدم تخريجه قريبًا، وفي (ك): "أربعون سنة". (¬3) رواه مسلم (1398) في (الحج): باب بيان أن المسجد الذي أسس على التقوى هو مسجد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمدينة، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 23 و 91)، والترمذي (323) في (الصلاة): باب ما جاء في المسجد الذي أسس على التقوى، وابن أبي شيبة (2/ 266)، والطبري (17222 و 17223 و 17224)، وأبو يعلى (985)، وابن حبان (1626)، والحاكم (1/ 487)، والبغوي (455) من طريق أنيس بن أبي يحيى: حدثني أبي قال: سمعت أبا سعيد الخدري (فذكره). قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

الْقَيُّومُ} (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ضربت خِبَائي على قبر، وأَنا لا أحسب أنه قبر فإذا [قبر] (¬2) إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" (¬3)، ذكره الترمذي، وقال ابن عبد البر: هو صحيح. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (4003) في (الحروف والقراءات)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 430)، وأبو نعيم في "المعرفة" (1/ رقم 1097)، وأبو موسى المديني -ومن طريقه ابن الأثير في "أسد الغابة" (1/ 73) - من طريق ابن جريج قال: أخبرني عمر بن عطاء أن مولى لابن الأسقع -رجل صدق- أخبره عن ابن الأسقع أنه سمعه يقول: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان (فذكره). ورواه الطبراني في "الكبير" (999) من طريق مسلم بن خالد عن ابن جريج به، لكن قال عن مولى لابن الأسقع عن الأسقع البكري. فمن هو هذا الصحابي؟ ذكره ابن أبي حاتم في كتابه باسم ابن الأسقع البكري، من أصحاب الصفة، ثم ذكر إسناد الحديث كأبي داود، فتعقبه ابن عساكر كما في "تحفة الأشراف" (9/ 82)، وقال: وهو واثلة بن الأسقع بغير شك؛ لأنه من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، وهو من أهل الصفة. أما الحافظ ابن حجر فذكره في "الإصابة" فقال: الأسقع، ويقال: ابن الأسقع قال ابن ماكولا: هو بالفاء يقال: له صحبة. ثم ذكر إسناد الطبراني ثم ذكر الإسناد الآخر، عن مولى الأسقع عن ابن الأسقع قال: وهو الأشهر. وعلى كل حال فالإسناد فيه ضعف للجهل بحال مولى ابن الأسقع، لكن الهيثمي (6/ 321) قال: فيه راو لم يسم، وقد وثق، وبقية رجاله ثقات!! وشاهده حديث أبيّ بن كعب، رواه مسلم (810) في (صلاة المسافرين): باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي. (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك)، وسقط من سائر الأصول. (¬3) رواه الترمذي (2895) في (فضائل القرآن): باب ما جاء في فضل سورة الملك، والطبراني في "المعجم الكبير" (12801)، وابن نصر في "قيام الليل" (ص 70 - ط الهندية) والبيهقي في "دلائل النبوة" (7/ 41)، و"إثبات عذاب القبر" (رقم 165)، و"شعب الإيمان" (2/ رقم 2510)، وابن عدي في "الكامل" (7/ 2662)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 81)، وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" (6/ 246) من طريق يحيى بن عمرو بن مالك النكري، عن أبيه عن أبي الجوزاء عن ابن عباس به. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. أقول: هكذا العبارة في المطبوع: "حسن غريب"، ولكن في "تحفة الأشراف"، =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أقرئني سورة جامعة، فأقرأه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} حتى فرغ منها فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أفلح الرُّويجل" (¬1) مرتين، ذكره أبو داود. ¬

_ = و"تفسيبر ابن كثير"، و"الدر المنثور" نقلوا عنه أنه قال: "غريب"، وهذا هو اللائق، فقد تفرد بهذا الحديث يحيى بن عمرو بن مالك، وقد ضعفه ابن معين والنسائي وأبو زرعة وأبو داود وقال ابن عدي -بعد أن ذكر طائفة من أحاديثه بهذا السند- وليس ذاك بمحفوظ أيضًا. وقد ضعف البيهقي الحديث بيحيى بن عمرو، وعدّه الذهبي في "الميزان" (4/ 399) من مناكيره. وأبوه عمرو بن مالك أيضًا متكلم فيه، بل قال ابن عدي: إنه كان يسرق الحديث. وقد ذكر شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (1140) له شاهدًا من حديث ابن مسعود رواه أبو الشيخ في "طبقات الأصبهانيين" [4/ 10 - 11 رقم 1782 حدثنا إسحاق: حدثنا أحمد بن منيع في "كتاب فضائل القرآن" قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري عن سفيان عن عاصم عن زر عن عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا. وقال أبو الشيخ عن شيخه إسحاق بن إبراهيم هذا: "شيخ صدوق صاحب أصول". قال الألباني: وسائر الرجال موثوقون معروفون، فالسند حسن. أقول: أبو أحمد الزبيري وهو محمد بن عبد اللَّه بن الزبير رغم أنه من الثقات إلا أن الإمام أحمد قال: كثير الخطأ في روايته عن سفيان، ومما يدل على هذا أن الحاكم رواه في "المستدرك" (2/ 498)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (2/ رقم 2509) من طريق ابن المبارك وابن الضريس في "فضائل القرآن" (رقم 232) أخبرنا محمد بن كثير كلاهما عن سفيان به موقوفًا على ابن مسعود. ورواه عن عاصم جمع وأوقفوه، قال الدارقطني في "العلل" (5/ 54): "ورواه شعبة ومسعر وأبو عوانة وحماد بن سلمة وزيد بن أبي أنيسة عن عاصم عن زر عن عبد اللَّه موقوفًا، وهو المحفوظ" قلت: ووقفه أيضًا علي بن مسهر وزائدة وشريك والخليل بن مرة وحماد بن زيد. أخرجه أبو عبيد (260)، والفريابي (29، 31، 32)، وابن الضريس (رقم 231) كلهم في "فضائل القرآن" والبيهقي في "إثبات عذاب القبر" (رقم 164) والثعلبي في "تفسيره" (ق 154/ أ) من طرق عن عاصم به. وهنالك طرق أخرى عن ابن مسعود قوله، جلها في المصادر المذكورة، فلا نطيل في إيرادها واللَّه الموفق. (¬1) رواه أحمد (2/ 169)، وأبو داود (1399) في (الصلاة): باب تحزيب القرآن، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (716) و"فضائل القرآن" (رقم 81)، وابن حبان (773)، والحاكم (2/ 532)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (ص 253)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص 258 - 259)، والبيهقي في "الشعب" (2/ رقم 2512)، والمزي =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: "إني أُحب سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فقال: "حبُّك إياها أدخلك الجنة" (¬1). ¬

_ = في "تهذيب الكمال" (2/ ق 1085 - المأمون) من طريق عياش بن عباس عن عيسى بن هلال عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص به. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، فتعقبه الذهبي بقوله: صحيح. أي ليس على شرطهما، فإن عياش بن عباس روى له مسلم فقط، وعيسى بن هلال هذا لم يرو له واحد منهما، وقد روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فهو حسن إن شاء اللَّه تعالى. والحديث زاد نسبته في "الدر المنثور" (6/ 379) للطبراني وابن مردويه. (¬1) رواه أحمد (3/ 141 و 150)، والترمذي (2901) في (فضائل القرآن): باب ما جاء في سورة الإخلاص، والدارمي (2/ 460، 461)، وأبو يعلى (3336)، ومن طريقه ابن حبان (792)، وابن الأعرابي في "معجمه" (2153)، وعبد بن حميد (1306، 1374 - "المنتخب")، وابن الضريس في "فضائل القرآن" (رقم 280)، والبغوي (1210)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (رقم 690)، وابن عدي (6/ 2322) من طرق عن مبارك بن فضالة عن ئابت بن أنس به. وهذا إسناد جيد، مبارك بن فضالة حسن الحديث، إذا صرّح بالتحديث، وقد صرّح بالسماع عند غير واحد. وعلقه البخاري (774 م) في (الأذان): باب الجمع بين السورتين في الركعة، فقال: وقال عبيد اللَّه بن عمر عن ثابت بن أنس، فذكره. وهذا المعلق وصله الترمذي (2901) -ومن طريقه ابن حجر في "التغليق" (2/ 314 - 315) - عن البخاري عن إسماعيل بن أبي أويس عن عبد العزيز الدراوردي عن عبيد اللَّه بن عمر به، ورواه ابن حبان (794)، والطبراني في "الأوسط" (898)، والحاكم (1/ 240)، وبيبي الهرثمية في "جزئها" (رقم 83)، والخطيب (5/ 263)، والبيهقي (2/ 61)، وابن عساكر (52/ 427 - 428، 428)، وابن حجر في "تغليق التعليق" (2/ 316) من طرق عن الدراوردي به. أقول: والدراوردي في حديثه عن عبيد اللَّه بن عمر نظر. قال أحمد بن حنبل: ربما قلب أحاديث عبد اللَّه بن عمر يرويها عن عبيد اللَّه بن عمر. والحديث قال عنه الترمذي: حسن غريب صحيح. وأخرجه ابن الأعرابي في "معجمه" (1143)، وابن عدي (2/ 591 و 6/ 2322) من طرق عن ثابت وغيره عن أنس. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 257 - 258): وذكر الدارقطني أن حماد بن سلمة خالف عبيد اللَّه في إسناده، فرواه عن ثابت عن حبيب بن سبيعة مرسلًا، قال: وهو أشبه بالصواب، لكن عبيد اللَّه بن عمر حافظ حجة، وقد وافقه مبارك في إسناده فيحتمل أن يكون لثابت فيه شيخان.

[فتاوى في بيان فضل الأعمال]

وقال له عقبة بن عامر: أقرأ سورة هود وسورة يوسف؟ فقال: "لن تقرأ شيئًا أبلغ عند اللَّه من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} " (¬1)، ذكره النسائي. [فتاوى في بيان فضل الأعمال] وفي الترمذي عنه أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الأعمال أحبُّ إلى اللَّه؟ قال: "الحال المرتحل" (¬2)، وفهم بعضهم من هذا أنه كلما (¬3) فرغ من ختم القرآن قرأ فاتحة ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 149 و 155 و 159)، والنسائي (2/ 158) في (الافتتاح): باب الفضل في قراءة المعوذتين، و (8/ 254) في (الاستعاذة)، والدارمي (2/ 461 و 462)، وابن حبان (795 و 1842)، والطبراني (17/ 860 و 862 و 862)، والحاكم (2/ 540) من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أسلم أبي عمران عن عقبة بن عامر به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. ولفظ الحديث عندهم: قال له عقبة بن عامر: اقرأ من سورة هود ومن سورة يوسف. وهو عندهم جميعًا باستثناء النسائي (2/ 158) أمره بقراءة سورة "الفلق" فقط. وحديث عقبة بن عامر أصله في "صحيح مسلم" (814) في فضل المعوذتين، وله طرق كثيرة ذكرها ابن كثير -رحمه اللَّه- في "تفسيره" ثم قال: فهذه طرق عن عقبة كالمتواترة عنه، تفيد القطع عند كثير من المحققين في الحديث. (¬2) رواه الترمذي (2953) في (القراءات): باب رقم (11)، والطبراني في "الكبير" (12783)، والحاكم (1/ 568)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 260)، والمزي في "تهذيب الكمال" (30/ 385) من طرق عن صالح المريّ عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن ابن عباس به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن عباس إلا من هذا الوجه، وإسناده ليس بالقوي. ثم رواه من طريق آخر عن صالح المري عن قتادة عن زرارة مرسلًا، ورجح هذا المرسل. وهذا المرسل رواه أيضًا الدارمي (2/ 469). والحديث موصولًا ومرسلًا مداره على صالح المري، قال الذهبي، معقبًا على الحاكم: صالح متروك. ثم ذكر له الحاكم شاهدًا من حديث أبي هريرة بلفظ حديث الباب من طريق مقدام بن داود بن تليد عن خالد بن نزار عن الليث بن سعد عن مالك عن ابن شهاب، عن الأعرج عنه، وسكت عليه. قال الذهبي: لم يتكلم عليه الحاكم وهو موضوع على سند الصحيحين، ومقدام متكلم فيه والآفة منه. والحديث في "ضعيف سنن الترمذي" (568)، وانظر -لزامًا- "إتحاف المهرة" (7/ 64 - 65). (¬3) في سائر الأصول: "إذا" والمثبت من (ك).

الكتاب وثلاث آيات من سورة البقرة لأنه حلَّ بالفراغ وارتحل بالشروع، وهذا لم يفعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة والمراد بالحديث: الذي كلَّما حل من غزاة ارتحل في أخرى أو كلما حل من عمل ارتحل في (¬1) غيره تكميلًا له، كما كمل الأول، وأما هذا الذي يفعله بعض القرَّاء فليس مراد الحديث قطعًا، وباللَّه التوفيق. وقد جاء تفسير الحديث متصلًا به أن يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل، وهذا له معنيان أحدهما: أنه كلما حل من سورة أو جزء ارتحل في غيره، والثاني: أنه كلما حل من ختمة ارتحل في أخرى. وسئل عن أهل اللَّه: من هم؟ فقال: "هم أهل القرآن، أهل اللَّه وخاصته" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن عمرو [بن العاص] (¬3) في كم أقرأ القرآن؛ فقال: "في شهر" فقال: أطيق أفضل من ذلك، فقال: في عشرين، فقال: "أطيق أفضل من ذلك" فقال: "في خمس عشرة" فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال: "في عشرة" فقال: أطيق أفضل من ذلك قال: "في خمس" قال: أطيق أفضل من ذلك. قال: ¬

_ (¬1) في سائر الأصول: "إلى" والمثبت من (ك). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 127 و 127 - 128 و 242)، وابن ماجه (215) في (المقدمة): باب فضل من تعلم القرآن وعلمه، والنسائي في "الكبرى" (8031)، وفي "فضائل القرآن" (56)، وأبو داود الطيالسي (1885)، والحاكم (1/ 556)، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 63)، و (9/ 40)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 357)، والمزي في "تهذيب الكمال" (16/ 545) من طرق عن عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة عن أبيه عن أنس بن مالك به. قال الحاكم: "قد روي هذا الحديث من ثلاثة أوجه عن أنس هذا أمثلها"، وقال البوصيري في "مصباح الزجاحة" (1/ 72): هذا إسناد صحيح رجاله موثقون. أقول: عبد الرحمن ثقة، وأبوه لا بأس به. والحديث رواه الدارمي (2/ 433) من طريق الحسن بن أبي جعفر عن بديل عن أنس، ورواه ابن عدي في "الكامل" (6/ 2292)، وأبو يعلى الخليلي في "الإرشاد" (1/ 169، 406) والخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/ 311)، وأبو الفضل الرازي في "فضائل القرآن" (رقم 36) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن غزوان عن مالك عن الزهري عن أنس به، ثم نقل الخطيب عن الدارقطني قوله: "تفرد به ابن غزوان، وكلان كذابًا فلا يصح عن مالك ولا عن الزهري". (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع.

"لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" (¬1)، ذكره أحمد. واختلف رجلان في آية كل منهما أخذها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسألاه عنها فقال لكل منهما: "هكذا أنزلت"، ثم قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي المجاهدين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم للَّه ذكرًا" قيل: فأي الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: "أَكثرهم للَّه ذكرًا"، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول: "أكثرهم للَّه ذكرًا" فقال: أبو بكر لعمر -رضي اللَّه عنهما-: ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أجل" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) لم أجده بهذا اللفظ عند أحمد (1) بعد تتبع، وأقرب ما وجدته له ما رواه الترمذي (2951) في (القراءات): باب (11)، وفي "العلل الكبير" (647)، والنسائي في "فضائل القرآن" (90)، والدارمي (2/ 471)، والبغوي (1223) من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، لكن ليس في آخره: "لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث". وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وحديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص له ألفاظ فانظر "صحيح البخاري" (5052)، و"صحيح مسلم" (1159)، و"مسند أحمد" (2/ 158)، و"سنن أبي داود" (1388 - 1391 و 1394 و 1395)، وقوله في آخر الحديث: "لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث". رواه أحمد (2/ 164 و 189 و 195)، والدارمي (1/ 350)، وأبو داود (1390 و 1394)، والترمذي (2954)، وابن ماجة (1347)، وابن حبان (758) من طرق عن قتادة عن أبي العلاء يزيد بن عبد اللَّه عن عبد اللَّه بن عمرو بنحوه، وكذا وقع في المطبوع. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. (¬2) رواه البخاري في مواطن منها: (2419) في (الخصومات): باب كلام الخصوم بعضهم في بعض، و (4992) في (فضائل القرآن): باب أنزل القرآن على سبعة أحرف، ومسلم (818) في (صلاة المسافرين) باب بيان أن القرآن أنزل على سبعة أحرف، من حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-. والخلاف كان على سورة الفرقان. (¬3) رواه أحمد (3/ 438)، والطبراني في "الكبير" (20/ 704) من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه به. قال الهيثمي (10/ 74) في زبان بن فائد، وهو ضعيف، وقد وثق، وكذلك ابن لهيعة، وبقية رجال أحمد ثقات. أقول: زبان ضعفه أحمد، وابن معين، وقال أبو حاتم: صالح؛ فهو ضعيف، وابن لهيعة حاله معروف.=

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المفرِّدين الذين هم أهل السبق؟ فقال: "الذاكرون اللَّه كثيرًا" (¬1)، وفي لفظ: "المشتهرون بذكر اللَّه، يضع الذكر عنهم أَثقالهم فيأتون [يوم] القيامة خفافًا" (¬2)، ذكره الترمذي. وسئل عن رياض الجنة؟ فقال: "حِلَقُ الذِّكر" (¬3). ¬

_ = وله شاهد مرسل رواه ابن المبارك في الزهد (1105) أخبرني حيوة حدثني زهرة بن معبد حدثني أبو سعيد المقبري، فذكره، دون آخره وهو قول أبى بكر لعمر، ورواته ثقات، فلعلّه يتقوى الحديث به ويُحسِّن. (¬1) رواه مسلم (2676) في (الذكر والدعاء): باب الحث على ذكر اللَّه تعالى، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه الترمذي (3605)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 449)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (506) و (507) من طريق عمر بن راشد (في "سنن الترمذي"، وتاريخ البخاري: عمرو، وهو خطأ)، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. ولفظه: المستهترون بذكر اللَّه. . . وسقط "أبو سلمة" من إسناد البخاري في "التاريخ". قال الترمذي: حديث حسن غريب. أقول: عمر بن راشد هذا ضعفه ابن معين وأحمد وأبو زرعة والنسائي وغيرهم، بل قال أحمد: أحاديثه عن يحيى مناكير. وقد رواه من هو أوثق منه، وهو علي بن المبارك فقال: عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحُرقة عن أبي هريرة مرفوعًا: "سبق المفردون، قالوا: يا رسول اللَّه ومن المفردون، قال: الذين يهترون في ذكر اللَّه -عز وجل-". رواه أحمد (2/ 323)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 448)، والحاكم (1/ 495 - 496)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (505) كلهم من طريق أبي عامر العقدي عن علي بن المبارك به. وعلي بن المبارك تكلم فيه بعضهم فيما رواه عن يحيى بن أبي كثير، قال الحافظ ابن حجر في "التقريب": "كان له عن يحيى بن أبي كثير كتابان، أحدهما سماع، والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء". أقول: وأبو عامر العقدي بصري، فروايته عنه صحيحة، لذلك قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. نعم رجاله كلهم من رجال الشيخين، غير عبد الرحمن بن يعقوب، وهو ثقة. وقد رَجَّح هذه الطريق -أي طريق علي بن المبارك- البخاري في "تاريخه"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وهو الظاهر واللَّه أعلم. وحديث أبي هريرة هذا في "صحيح مسلم" في الحاشية قبل، ولفظه: "الذاكرون اللَّه كثيرًا". وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع وحده. (¬3) رواه الترمذي (3519) في (الدعوات): باب (82)، وأحمد (3/ 150) -، ومن طريقه ابن =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 18) - وأبو يعلى (3432)، وابن عدي (6/ 2147)، والبيهقي في "الشعب" (1/ رقم 529) من طريق محمد بن ثابت عن أبيه عن أنس به. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس. أقول: محمد هذا قال ابن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: فيه نظر، وقال النسائي: ضعيف. وقال ابن عدي: وهذه الأحاديث مع غيرها مما لم أذكرها عامتها مما لا يتابع محمد بن ثابت عليه. وله طريق آخر عن أنس. رواه البزار (3063 - زوائده)، والطبراني في "الدعاء" (رقم 1890) وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 268) -ومن طريقه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 19، 20) - من طريق زائدة بن أبي الرقاد: حدثنا زياد النميري (في المطبوع من "الحلية": زياد والنميري وهو خطأ) عن أنس. أقول: هذا الطريق فيه ضعيفان: الأول: زائدة بن أبي الرقاد، ضعفوه بل منهم من ضعَّفه جدًا. قال أبو حاتم: يحدث عن زياد النميري عن أنس أحاديث مرفوعة منكرة، ولا ندري منه أو من زياد، ولا أعلم روى عن غير زياد، فكنا نعتبر بحديثه، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: منكر الحديث، وشدد عليه ابن حبان، فاتفقوا على ضعفه إِلا عبارة للبزار يقول فيه: لا بأس به، وإنما نكتب من حديثه ما لم نجد عند غيره!! وكأن الحافظ ابن حجر لم يلتفت إلى كلمة البزار فقال في "التقريب": منكر الحديث. الثاني: زياد النميري، وقد ضعفه ابن معين، وأبو داود وأبو حاتم، وقال ابن حبان: يخطئ ثم ذكره في الضعفاء، وقال: منكر الحديث يروي عن أنس أشياء لا تشبه حديث الثقات، تركه ابن معين. وقال ابن عدي: عندي إذا روى عنه ثقة فلا بأس بحديثه. وهنا روى عنه زائدة وقد عرفت حاله. ولم يوثقه أحد لذلك قال الحافظ: ضعيف. هذه أقوال أئمة الجرح والتعديل في هذين الرجلين، وقد عرفت حالهما، والعجب أن شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- ذكر الحديث في "السلسلة الضعيفة" (3/ 391)، وذكر تضعيف أهل العلم لهذين، ثم ذكره في "السلسلة الصحيحة" (6/ 131) وقال: زياد وزائدة ضعيفان، وثقا، وقد حسّن لهما الهيثمي حديثًا آخر عن أنس، فلا أقل من أن يستشهد بهما! فألان فيهما القول! والحديث له شاهد من حديث ابن عمر. رواه أبو نعيم في "الحلية" (6/ 354): حدثنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبد اللَّه المقدسي: حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن عامر: حدثنا قتيبة بن سعيد: حدثنا مالك عن نافع عن سالم عن ابن عمر مرفوعًا به بلفظه. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وقال: "غريب من حديث مالك لم نكتبه إِلا من حديث محمد بن عبد اللَّه بن عامر". قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- بعد أن ذكر كلام أبي نعيم: "ولم أعرفه -أي محمد بن عبد اللَّه بن عامر- ويحتمل أن (عامر) محرف (نمير)، فإن كان كذلك فهو ثقة، ثم رأيت ما يرجح أنه هو فقد ذكره المزي في الرواة عن قتيبة، ومن فوقه ثقات من رجال الشيخين، فالإسناد صحيح، إن كان الشيخ أبي نعيم ثقة أو متابعًا. .، على أن أبا نعيم في استغرابه المتقدم قد أشار إلى أنه قد توبع". هذا نص كلامه -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (6/ 131)، وهو متعقب، وبيان ذلك: إني كنت أقول في نفسي أن هذا الإسناد مركب موضوع، ففتشت عن محمد بن عبد اللَّه بن عامر هذا فإذا صوابه محمد بن عبد بن عامر بن مرداس أبو بكر السعدي التميمي السمرقندي، ذكره الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" (2/ 386)، وقال: قدم بغداد وحدّث بها وبغيرها عن يحيى بن يحيى، وعبد اللَّه بن عبد الرحمن الدارمي (وقتيبة بن سعيد) أحاديث منكرة باطلة، ثم ذكر له طائفة من الأحاديث المركبة والمسروقة، ثم ذكر له حديثين وقال: وهذان الحديثان لا أصل لهما عند ذوي المعرفة بالنقل فيما نعلمه، وقد وضعهما محمد بن عبد إسنادًا ومتنًا وله أحاديث كثيرة، تشابه ما ذكرناه وكلها تدل على سوء حاله وسقوط رواياته. ثم روى عن الدارقطني قوله فيه: لم يكن مرضيًا في الحديث. وقوله: يكذب ويضع!! وانظر ترجمته هناك تجد العجب، وذكره الذهبي في "الميزان" وقال: معروف بوضع الحديث، فسقط هذا الشاهد. . (تنبيه) حديث ابن عمر هذا لم يقف عليه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 16)، فقال: "لم أجده من حديث ابن عمر، ولا بعضه، لا في الكتب المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة ولكن وجدته من حديث أنس بلفظه مفرقًا، ووجدته في حديث جابر بمعناه مختصرًا مفترقًا ومجموعًا". وذهب السيوطي في "تحفة الأبرار" (ص 37) مذهبًا آخر، أبعد فيه النجعة، فزعم أن قول النووي في "الأذكار" (1/ 65): "حديث ابن عمر" سبق قلم، وأراد أن يقول: حديث أنس!! وله شاهد من حديث جابر رواه عبد بن حميد (1107) وأبو يعلى (1865 و 2138)، -ومن طريقه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 17 - 18) - والطبراني في "الأوسط" (2501)، و"الدعاء" (1891) ومسدد وأحمد بن منيع في "مسنديهما" -كما في "المطالب العالية" (4/ 28) - والفريابي في "الذكر" -ومن طريقه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 16 - 17) - ومحمد بن عاصم في "جزئه" (35)، والفريابي في "الذكر" -ومن طريقه ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 21) - والبزار (364 - زوائده)، والحاكم (1/ 494 - 495)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 81)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (رقم 6) و"الشعب" (1/ رقم 528) من طريق عمر مولى غفرة عن أيوب بن خالد بن صفوان عنه =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أهل الكرم الذين يقال لهم يوم القيامة: سيعلمُ أهلُ الجمع من أهل الكرم؟ فقال: "هم أهل الذكر في المساجد" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل عن غنيمة مجالس الذكر؟ فقال: "غنيمة مجالس الذكر الجنة" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = به، ولفظه: ". . . فارتعوا في رياض الجنة. . . قالوا: وأين رياض الجنة يا رسول اللَّه؟ قال: مجالس الذكر. . . ". وصححه الحاكم، فتعقبه الذهبي بقوله: عمر ضعيف، وقال ابن حبان عنه: "كان ممن يقلب الأخبار، ويروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجوز الإحتجاج به، ولا ذكره إِلا على سبيل التعجب"، وعّد الذهبي في "الميزان" (3/ 210) هذا الحديث من منكراته، وضعفه الهيثمي في "المجمع" (10/ 77)، والمنذري في "الترغيب والترهيب" (2/ 405). أقول: وأيوب هذا: فيه لين، كما قال الحافظ ابن حجر. وله شاهد أيضًا من حديث أبي هريرة لكن في لفظه مغايرة، رواه الترمذي (3518) من طريق زيد بن الحباب، (في المطبوع: يزيد بن حبان وهو خطأ) عن حميد المكي مولى ابن علقمة عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعًا: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قلت: يا رسول اللَّه وما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قلت: وما الرتع يا رسول اللَّه؟ قال: سبحان اللَّه والحمد للَّه ولا إله إِلَّا اللَّه واللَّه أكبر". وقال: هذا حديث حسن غريب. أقول: بل حميد هذا قال عنه ابن حجر: مجهول! وروى الطبراني في "الكبير" (11158) من حديث ابن عباس مرفوعًا. . . قيل: يا رسول اللَّه؛ وما رياض الجنة؟ قال: مجالس العلم. قال الهيثمي: (1/ 126): وفيه رجل لم يُسم. (¬1) رواه أحمد (3/ 68 و 76)، وأبو يعلى (1046 و 1403)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 980)، والطبراني في "الدعاء" (1888، 18889)، والبيهقي في "الشعب" (1/ رقم 535) من طريقين (ابن لهيعة وعمرو بن الحارث) عن درّاج أبي السمح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري به. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 76): "رواه أحمد بإسنادين وأحدهما حسن وأبو يعلى كذلك". وكأنه يريد الإسناد الدي ليس فيه ابن لهيعة. أقول: لكن درّاج في روايته عن أبي الهيثم مقال. قال أحمد بن حنبل: أحاديث دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد فيها ضعف، ونحوه قال ابن عدي، فإنه ذكر طائفة من أحاديثه عن أبي الهيثم عن أبي سعيد ثم قال: وأرجو إذا أخرجت دراج، وبريته من هذه الأحاديث التي أنكرت عليه أن سائر أحاديثه لا بأس بها. وقد أحسن القول فيه ابن معين! (¬2) رواه أحمد (2/ 177 و 190) من طريق حسن وحجاج بن محمد كلاهما عن ابن لهيعة =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوم غزوا فقالوا: ما رأينا أفضل غنيمة ولا أَسرع رجعة منهم، فقال: "أدلكم على قوم أفضل غنيمة منهم، وأسرع رجعة؟ قوم شهدوا صلاة الصبح، ثم جلسوا يذكرون اللَّه حتى طلعت الشمس فأولئك أَسرع رجعة وأفضل غنيمة" (¬1)، ذكره الترمذي. ¬

_ = عن راشد بن يحيى المعافري عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص به. قال الهيثمي (10/ 78): رواه أحمد والطبراني وإسناد أحمد حسن. أقول: ابن لهيعة قد تكلمنا عليه مرارًا وهذا ليس من رواية العبادلة عنه. (تنبيه) العبادلة هم: عبد اللَّه بن المبارك، وعبد اللَّه بن وهب، وعبد اللَّه بن يزيد المقرئ، وعبد اللَّه بن مسلمة القعنبي، وقد ألحق بهم شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- قبل وفاته جمعًا، منهم: قتيبة بن سعيد الثقفي وإسحاق بن عيسى الطباع، وأظن ثالثًا وهو بشر بن بكر البجلي، قلت: ويمكن إلحاق شعبة والثوري والأوزاعي وعثمان بن الحكم الجذامي، وعمرو بن الحارث المصري، وليث بن سعد، ولهيعة بن عيسى بن لهيعة، وعبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبيد مولى بني هاشم وعثمان بن صالح السهمي بهؤلاء، وسبقت الإشارة إلى قبول رواية النضر بن عبد الجبار أبي الأسود عنه، وللتفضيل مقام آخر، واللَّه الهادي والموفق. (¬1) رواه الترمذي (3570) وابن عدي (2/ 658) من طريق عبد اللَّه بن نافع الصائغ عن حماد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم (في "سنن الترمذي": يزيد بن أسلم، وهو خطأ، والتصويب من "تحفة الإشراف"، و"كامل ابن عدي") عن أبيه عن عمر بن الخطاب به. قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إِلا من هذا الوجه. وحماد بن أبي حميد هو أبو إبراهيم الأنصاري المدني وهو محمد بن أبي حميد المدني، وهو ضعيف في الحديث. وله شاهدان قد يقويانه. أولهما: شاهد من حديث أبي هريرة، رواه أبو يعلى (6473 و 6559)، وابن حبان (2535)، وابن عدي (2/ 691) من طريق حاتم بن إسماعيل عن حميد بن صخر، عن المقبري عنه مرفوعًا، فذكر مثل أول حديث الباب، ثم قال: "ألا أخبركم بأسرع كرة، وأعظم غنيمة من هذا البعث؟ رجل توضأ في بيته، فأحسن وضوءه ثم تحمل إلى المسجد فصلى فيه الغداة، ثم عقب بصلاة الضحى فقد أسرع الكرة، وأعظم الغنيمة". وفي إسناده حميد بن صخر، وهو حميد بن زياد أبو صخر، سماه حاتم بن إسماعيل حميد بن صخر، وهو من رجال مسلم إِلا أنه تكلم فيه، لكن قال ابن عدي: هو عندي صالح الحديث، وإنما أنكر عليه هذان الحديثان: "المؤمن مؤالف"، و"في القدرية" وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيمًا. لذلك قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 235): ورجاله رجال الصحيح. ثانيهما: حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، ولفظه نحو حديث أبي هريرة رواه أحمد (2/ 175). =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن خيار الناس؟ فقال: "الذين إذا رُؤوا ذُكر اللَّه" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن خير الأعمال وأزكاها عند اللَّه وأرفعها في الدرجات؟ فقال: "ذكر اللَّه" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 235): رواه أحمد والطبراني في "الكبير"، وفيه ابن لهيعة وفيه كلام، ورجال الطبراني ثقات لأنه جعل بدل ابن لهيعة ابن وهب. أقول: وقد ذكر شيخنا الألباني حديث عمر في "ضعيف الجامع" و"ضعيف سنن الترمذي" (714)، ولم يقوه بهذين الشاهدين، واللَّه أعلم، ولي في فضل الذكر بعد الفجر جزء مستقل، فيه مخبآت وعجائب وتتمة التخريج فيه، واللَّه المستعان لا رب سواه. (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 459)، وعبد بن حميد في "المسند" (1580 - "المنتخب")، والبخاري في "الأدب المفرد" (323)، وابن ماجة (4119) في (الزهد): باب من لا يؤبه له، والطبراني في "الكبير" (24/ رقم 423، 424، 425)، وأبو نعيم في "الحلية" (1/ 6)، وابن أبي شيبة ومسدد في "مسنديهما" -كما في "مصباح الزجاجة" (2/ 323) - من طرق عن عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد الأنصاري أنها سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: "خياركم الذين إذا رؤوا ذكر اللَّه -عز وجل-". ورواه أبو يعلى في "مسنده" -كما في "مصباح الزجاجة" (2/ 323)، وليس هو في المطبوع منه- من طريق شهر بن حوشب به. قال البوصيري: هذا إسناد حسن، شهر بن حوشب وسويد (وهذا متابع) مختلف فيهما، وباقي الإسناد ثقات. وقال الهيثمي في "المجمع" (8/ 93): رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وقد وثقه غير واحد وبقية رجال أحمد أسانيده رجال الصحيح. أقول: شهر ضعيف على الراجح ولذلك ذكره الشيخ الألباني في "ضعيف الجامع"، و"ضعيف ابن ماجة" (898). (¬2) رواه أحمد (5/ 195)، والترمذي (3386) في الدعوات: باب (6)، وابن ماجه (3790) في (الأدب): باب فضل الذكر، والحاكم (1/ 496)، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 11 - 12)، والمزي في "تهذيب الكمال" (9/ 469)، وابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 95) من طرق عن عبد اللَّه بن سعيد بن أبي هند، عن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش، عن أبي بحرية، عن أبي الدرداء به. ورواه أحمد (6/ 447) من طريق موسى بن عقبة عن زياد بن أبي زياد عن أبي الدرداء، سقط منه: "أبو بحرية". قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد اللَّه بن سعيد مثل هذا بهذا الإسناد، وروى بعضهم عنه فأرسله. أما الحاكم فقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ الدعاء أَسْمع؟ فقال: "جوف الليل الأخير (¬1) ودبر الصلوات المكتوبات" (¬2)، ذكره الإمام أحمد، وقال: "الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد"، قالوا: فماذا نقول يا رسول اللَّه؟ قال: "سلوا اللَّه العافية في الدنيا والآخرة" (¬3)، ذكره الترمذي. ¬

_ = أقول: ورواته كلهم من رواة الصحيح. وقد رواه مالك في "الموطأ" (1/ 211) عن زياد بن أبي زياد عن أبي الدرداء موقوفًا. قال الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 95) -: "هذا حديث مختلف في رفعه ووقفه وفي إرساله ووصله" ثم ذكر كلام الترمذي ورواية مالك له، "قال: وقد وقع لنا الحديث من وجه آخر عن أبي الدرداء موقوفًا عليه. . . " فذكره، وقال: "ورجاله ثقات". قال ابن علان في "الفتوحات الربانية" (1/ 264): وأفاد بعض تلامذة الحافظ نقلًا عنه في "الإملاء" أن الصحيح الوقف. وقال ابن علان: ولا يضر وقف مالك: لأن الحكم لمن وصل على أن مثل هذا مما لا مجال للرأي فيه، وحكمه الرفع. أقول: وهو الحق -إن شاء اللَّه تعالى- لذلك ذكره شيخنا الألباني في "صحيح الجامع". ثم وجدت الحافظ ذكرالحديث في "الفتح" (11/ 210) مكتفيًا بتصحيح الحاكم له، ووجدت الهيثمي كذلك ذكر الحديث في "مجمع الزوائد" (10/ 73) وقال: رواه أحمد وإسناده حسن. وقد وجدت اختلافًا آخر على الحديث، فرواه أحمد (5/ 239) من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة عن زياد بن أبي زياد أنه بلغه عن معاذ بن جبل، فذكر مثله. قال الهيثمي (10/ 73): ورجاله رجال الصحيح، إِلا أن زياد بن أبي زياد مولى ابن عياش لم يدرك معاذًا. (¬1) في المطبوع: "الآخر". (¬2) رواه الترمذي (3508) في (الدعوات): باب (78)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (108) من طريق ابن جريج عن ابن سابط عن أبي أمامة به، وحسّنه الترمذي. قال الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" -كما في "الفتوحات الربانية" (3/ 30) - قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وفيما قاله نظر؛ لأن له عللًا منها: الانقطاع بين ابن سابط وأبي أمامة، قال ابن معين: لم يسمع عبد الرحمن بن سابط من أبي أمامة، ومنها عنعنة بن جريج عن ابن سابط، ومنها الشذوذ فإنه جاء عن خمسة من أصحاب أبي أمامة أصل هذا الحديث من رواية أبي أمامة صاحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن عمرو بن عبسة كلهم على الشق الأول. وأقول: وحديث عمرو بن عبسة سبق وذكرت بعض طرقه، وأنها كما قال الحافظ، وانظر: "نصب الراية" (2/ 235). (¬3) رواه الترمذي (3603) في (الدعوات): باب في العفو والعافية من طريق يحيى بن يحيى بن اليمان: حدثنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك به. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- بأيِّ شيء نختم الدعاء؟ فقال: "بآمين" (¬1)، ذكره أبو داود. ¬

_ = قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقد زاد يحيى بن اليمان في هذا الحديث هذا الحرف: قالوا: فماذا نقول؟ قال: سلوا اللَّه العافية في الدنيا والآخرة. أقول: أصحاب الثوري كلهم رووا هذا الحديث دون هذه الزيادة التي زادها يحيى بن اليمان، ويحيى هذا قال ابن حجر: صدوق عابد يخطئ كثيرًا وقد تغيّر. فيحيى هذا لو كان ثقة، ربما لم نقبل زيادته؛ لأنه خالف ثقات أصحاب سفيان، منهم: وكيع وأبو نعيم وأبو أحمد الزبيري، فكيف وهو يخطئ كثيرًا في روايته عن الثوري خاصة وقد تغير؟ ثم في الإسناد زيد العمي وهو ضعيف. وقد روى الحديث دون آخره، عبد الرزاق (1909)، وأحمد (3/ 119)، وأبو داود (521) في (الصلاة): باب ما جاء في الدعاء بين الأذان والإقامة، والترمذي (212) في (الصلاة): باب ما جاء في أن الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، و (3604)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (68 و 69)، والبيهقي (1/ 410) من طريق سفيان به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح! مع أنه فيه زيد العمي وهو ضعيف كما قلت. قال الحافظ ابن حجر في "نتائج الأفكار" -كما في "الفتوحات الربانية" (2/ 135) -: ولم أر ذلك -أي: تصحيح الترمذي للحديث-، في شيء من النسخ التي وقفت عليها، ويبعد أن الترمذي يصححه مع تفرد زيد العمي به. والحديث دون آخره رواه أحمد (3/ 155 و 225 و 254) والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (67)، وأبو يعلى (3679 و 3685)، وابن خزيمة (425 و 426 و 427)، وابن حبان (1696)، والبغوي (1365) من طريقين عن بريد بن أبي مريم عن أنس مرفوعًا، وإسناده صحيح. وللحديث شواهد من حديث عبد اللَّه بن عمرو، وسهل بن سعد، فانظر: "الفتوحات الربانية"، و"التلخيص الحبير" (1/ 213). (¬1) رواه أبو داود (938) في (الصلاة): باب التأمين وراء الإمام، والبخاري في "تاريخه الكبير" (9/ 32)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1442)، والدولابي في "الكنى" (1/ 32)، والطبراني في "الكبير" (22/ 756) وعنه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ رقم 6803) من طريق الفريابي: حدثنا صبيح بن محرز: أخبرنا أبو مصبح المقرائي عن أبي زهير النميري أحد الصحابة، وفيه قصة فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أوجب إن ختم" فقال رجل: "بأي شيء يختم"؟ قال: بآمين فإنه إن ختم بآمين فقد أوجب". ورواه ابن منده في "الصحابة" -كما في "الإصابة" (4/ 87) - وقال: هذا حديث غريب تفرد به الفريابي عن صبيح. وقد ذكروا له حديثًا آخر: "لا تقتلوا الجراد". لكن جعل ابن عبد البر في "الاستيعاب" راوي حديثنا هذا وراوي حديث الجراد اثنين، وترجم صاحب هذا الحديث فقال: أبو زهير الأنماري، وقيل التميمي، ليس إسناد حديثه بالقائم. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تمام النعمة؟ فقال: "الفوز بالجنة والنجاة من النار" (¬1)، ذكره الترمذي، فنسأل اللَّه تمام نعمته بالفوز بالجنة والنجاة من النار. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الاستعجال المانع من إجابة الدعاء، فقال: "يقول: قد دعوت ودعوت (¬2) فلم يستجب لي فيستحسر (¬3) عند ذلك ويدع الدعاء" (¬4)، ذكره مسلم، وفي لفظ: "يقول: قد سألتُ وسألتُ فلم أعط شيئًا" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الباقيات الصالحات؟ فقال: "التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه" (¬6)، ذكره أحمد. ¬

_ = أقول: رواة الحديث ثقات غير صبيح بن محرز، فلم يرو عنه إِلا الفريابي فقط، وذكره ابن حبان في "الثقات" فهو في عداد المجاهيل. (¬1) رواه ابن أبي شيبة (10/ 269) وأحمد (5/ 231 و 235)، والترمذي (3536) في (الدعوات): باب (93)، والبخاري في "الأدب المفرد" (746) باب من سأل اللَّه العافية، والطبراني في "الكبير" (20/ 97 - 100)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 204)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (197)، و"الأسماء والصفات" (1/ 224)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (3/ 126) كلهم من طرق عن سعيد الجُريري عن أبي الورد بن ثمامة عن اللجلاج عن معاذ به، وفيه زيادة وقد اختصره المؤلف. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وقال أبو نعيم: تفرد به عن اللجلاج أبو الورد وحدث به الأكابر عن الجريري. أقول: سعيد الجُريري كان اختلط وقد روى عنه هنا يزيد بن زريع، وسفيان الثوري، وإسماعيل ابن علية وكلهم رووا عنه قبل الاختلاط. وأبو الورد روى عنه سعيد الجريري، وشداد بن سعيد أبو طلحة الراسبي، وهما ثقتان، وقال ابن سعد: كان معروفًا قليل الحديث، فهو حسن الحديث إن شاء اللَّه تعالى. واللجلاج هذا صحابي. (¬2) في المطبوع: "قد دعوت، قد دعوت" والمثبت من (ك). (¬3) "يمل" (و)، وفي (ك): " فيتحسر"!!. (¬4) رواه مسلم (2735) بعد (92) في (الذكر والدعاء): باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل، من حديث أبي هريرة، وأوله في "صحيح البخاري" (6340). (¬5) هذا لفظ الترمذي في "جامعه" (3604). وفي المطبوع: "قد سألت، قد سألت" والمثبت من (ك). (¬6) رواه أحمد (3/ 75)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (رقم 834)، وأبو يعلى (1384)، والطبري (15/ 255)، والحاكم (1/ 512)؛ وابن حبان (840)، والطبراني في "الدعاء" (1696، 1697)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (7/ رقم 12830)، والعلّائي في "تفسير الباقيات الصالحات" (ص 38 - 39) من طريق دراج أبي السمح عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري به. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الصديق -رضي اللَّه عنه- أَن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته؟ فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا (¬1) يغفر الذنوب إِلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وأرحمني [إنك] أنت الغفور الرحيم" (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الأَعرابي الذي علَّمه أن يقول: "لا إله إِلا اللَّه وحده لا شريك له، اللَّه أكبر كبيرًا والحمد للَّه كثيرًا وسبحان اللَّه رب العالمين، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه العزيز الحكيم" فقال: هذا لربي فما لي؟ فقال: "قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك"، ذكره مسلم (¬3). ¬

_ = وزاد نسبته في "الدر المنثور": لسعيد بن منصور وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه. قال الهيثمي (10/ 87): وإسناده حسن! أقول: رواية دراج عن أبي الهيثم قدمنا مرارًا أن فيها ضعفًا، وله شاهد من حديث أبي هريرة رواه النسائي في "عمل اليوم والليلة" (848)، والحاكم (1/ 541)، والطبراني في "الصغير" (407)، والعلائي في "جزئه" (35 - 36) وصححه الحاكم على شرط مسلم، وتعقبه العلائي بقوله: "قلت: وفيما قاله نظر" لأن مسلمًا لم يخرج لابن عجلان شيئًا في الأصول، إنما أخرج له في الشواهد ثلاثة عشر حديثًا، ثم قرر صحته بشواهده. قال الهيثمي (10/ 89): ورجاله رجال الصحيح، غير داود بن بلال وهو ثقة. وشاهد من حديث عثمان بن عفان، رواه أحمد (1/ 71)، والبزار (405)، وأبو يعلى -كما في "المجمع" (10/ 89) - والطبراني في "الدعاء" (1700) وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح. وذكره من قبل في (1/ 297) وقال: رجاله رجال الصحيح غير الحارث مولى عثمان بن عفان، وهو ثقة. ولكن ظاهره أنه موقوف. وللحديث شواهد انظرها في "الدر المنثور"، و"الدعاء" للطبراني (1695، 1698، 1699). (¬1) في المطبوع: "وأنه لا" والمثبت من (ك). (¬2) رواه البخاري (834) في (الأذان): باب الدعاء قبل السلام، و (3626) في (الدعوات): باب الدعاء في الصلاة، و (7383 و 7388) في (التوحيد): وكان اللَّه سميعًا بصيرًا، ومسلم (2705) في (الذكر): باب استحباب خفض الصوت بالذكر، من حديث أبي بكر، وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) هما حديثان: الأول إلى قوله: وارحمني واهدني وارزقني، وشك في: وعافني، رواه مسلم من حديث سعد بن أبى وقاص (2696) في (الذكر والدعاء): باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رياض الجنة؟ فقال: "المساجد"، فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرتع فيها فقال: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر" (¬1)، ذكره الترمذي. واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لا أَستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزيني، قال: "قل سبحان اللَّه والحمد للَّه، ولا إله إِلا اللَّه واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه" قال: يا رسول اللَّه هذا للَّه، فما لي؟ قال: "قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني" فقال هكذا بيده وقبضها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما هذا، فقد ملأ يده من الخير" (¬2)، ذكره أبو داود. ومر -صلى اللَّه عليه وسلم- بأبي هريرة، وهو يغرس غرسًا فقال: "ألا أدلك على غِرَاس خير لك من هذا؟ سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إِلا اللَّه واللَّه أكبر، يُغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة" (¬3)، ذكره ابن ماجة. ¬

_ = والحديث الثاني: فيه بعض الأول، وقوله في آخر الحديث: "فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك" رواه مسلم أيضًا (2697) من حديث طارق بن أَشْيَم. (¬1) رواه الترمذي (3518) في (الدعوات): باب (82) من طريق زيد بن الحباب (في المطبوع: يزيد بن حبان، وهو خطأ كما في "تحفة الإشراف") عن حميد المكي مولى بن علقمة عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة به. وقال: هذا حديث حسن غريب. أقول: بل حميد مجهول كما قال ابن حجر، ومضى تخريجه مطولًا بشواهده وبيان ضعفها، واللَّه الموفق. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه ابن ماجة (3807) في (الأدب): باب فضل التسبيح، وابن أبي شيبة في "مسنده" -كما في "مصباح الزجاجة" (2/ 263) -، والحاكم في "المستدرك" (1/ 512) من طريق حماد بن سلمة عن أبي سنان عن عثمان بن أبي سودة عن أبي هريرة به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي! قال البوصيري: هذا إسناد حسن وأبو سنان اسمه عيسى بن سنان الحنفي القسملي مختلف فيه. أقول: عيسى بن سنان هذا ضعفه أئمة الجرح والتعديل: أحمد وابن معين وأبو زرعة والنسائي وأبو حاتم والساجي والعقيلي. وقوَّاه العجلي وابن حبان!! وهما معروفان في التساهل. لذلك قال الذهبي في "الميزان": وقواه بعضهم يسيرًا، ثم قال: وهو ممن يكتب حديثه، فهو على الضعف كما هو ظاهر. ورواه البزار (3078 - زوائده) من طريق حميد مولى علقمة ثنا عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة رفعه بنحوه، وقال: "لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إِلا بهذا الإسناد، وحميد =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: كيف يكسب أحدُنا كلَّ يوم أَلف حسنة؟ قال: "يسبِّح مئة تسبيحة يكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة" (¬1)، ذكره مسلم. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من قال له: لدغتني عقرب، بأنه: "لو قال حين أمسى: "أعوذ بكلمات اللَّه التامَّات من شر ما خلق" لم تضره (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أن يعلمه تعوذًا يتعوذ به، فقال: "قل: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منِيي (¬3)، يعني الفرج" (¬4)، ذكره النسائي. ¬

_ = لا نعلم روى عنه إِلا زيد بن الحباب"! ولذلك قال ابن حجر في "التقريب": "مجهول". وله شاهد من حديث ابن مسعود، رواه الترمذي (3471) وابن مردويه -كما في "الدر المنثور" (5/ 218) - والطبراني في "الصغير" (111) و"الأوسط" (4170) و"الكبير" (10/ 214 رقم 10363)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 292)، وابن حجر في "نتائج الأفكار" (1/ 98 - 99) من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عنه مرفوعًا نحوه. وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث ابن مسعود. أقول: فيه علتان: الأولى: عبد الرحمن بن إسحاق وهو أبو شيبة الكوفي ضعيف. الثانية: عبد الرحمن هو ابن عبد اللَّه بن مسعود لم يسمع من أبيه. ثم رأيتُ أبا حاتم وأبا زرعة الرازيين نبها على علة ثالثة، انظر: "العلل" (رقم 2005) لابن أبي حاتم. وله شاهد آخر من حديث سلمان الفارسي رواه الطبراني في "الكبير" (6105) من طريق حسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن أبي هاشم الرماني عن زاذان عنه. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 90): فيه الحسين بن علوان وهو ضعيف. أقول: رحم اللَّه الهيثمي، الحسين هذا كذَّبه ابن معين، وقال ابن المديني: ضعيف جدًا، وقال أبو حاتم والنسائي والدارقطني، متروك، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على هشام وغيره وضعًا، لا يحل كتب حديثه إِلا على جهة التعجب. ومثله كذلك عمرو بن خالد!! فهو شاهد لا يفرح به. وللحديث شواهد عديدة عن ابن عباس وجابر وابن عمر وأبي أيوب، انظر: "السلسلة الصحيحة" (64، 105، 2880). (¬1) رواه مسلم (2698) في (الذكر والدعاء): باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، من حديث سعد بن أبي وقاص. (¬2) رواه مسلم (2709) معلقًا ووصله بعده في (الذكر والدعاء): باب في التعوذ من سوء القضاء ودرك الشقاء وغيره من حديث أبي هريرة. (¬3) في المطبوع: "هني" والمثبت من (ك) ومصادر التخريج. (¬4) رواه أحمد (3/ 429)، وأبو داود (1551) في (الصلاة): باب في الاستعاذة، والترمذي =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كيفية الصلاة عليه؟ فقال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم (1) إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم (¬1) إنك حميد مجيد" (¬2) متفق عليه. وقال له -صلى اللَّه عليه وسلم- معاذ: يا رسول اللَّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسَّره اللَّه عليه، تعبد اللَّه، ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ " قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: "الصوم جُنَّة والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف ¬

_ = (3501) في (الدعوات): باب (74)، والنسائي (8/ 255 - 256) في (الاستعاذة): باب الاستعاذة من شر السمع والبصر، و (8/ 259) في الاستعاذة من شر السمع والبصر، و (8/ 260) في (الاستعاذة): من شر البصر، وابن أبي شيبة (7/ 20)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1272)، وابن أبي حاتم في "العلل" (2/ 203)، والطبراني في "الكبير" (7225) وعنه أبو نعيم (3/ رقم 3786) - وابن قانع (7/ رقم 759)، والبغوي (ق 154/ أ) جميعهم في "معجم الصحابة"، والبخاري في "تاريخه الكبير" (4/ 264) و"الأدب المفرد" (663)، وأبو يعلى (1479)، وأبو حاتم (2/ 203)، والحاكم (1/ 532 - 533)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (2/ 528)، والمزي في "تهذيب الكمال" (10/ 257) من طرق عن سعد بن أوس عن بلال بن يحيى العبسي: حدثني شتير بن شكل عن أبيه شكل بن حميد فذكره. وقد فُسِّرت "ومنيّي"، بالفرج والماء والذكر. قال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إِلا من هذا الوجه من حديث سعد بن أوس عن بلال بن يحيى. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وذكره الحافظ في "الإصابة" ساكتًا عليه، وهو في "صحيح الترمذي" (2775). وقد خالف بعضهم في إسناده فقال: عن بلال عن ابن شتير بن شكل عن أبيه فزاد ابن شتير قال أبو حاتم -كما في "علل ابنه" (2/ 203) -: هذا خطأ وليس لابنه معنى. (¬1) في المطبوع: "على إبراهيم وعلى آل إبراهيم" والمثبت من (ك). (¬2) رواه البخاري (3370) في (الأنبياء): باب (10) و (4797) في (التفسير): باب {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}، و (6357) في (الدعوات)، ومسلم (406) في (الصلاة): باب الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في التشهد، من حديث كعب بن عجرة، وقد خرجته بتفصيل في "جلاء الأفهام" (رقم 356) للمصنف.

الليل"، ثم قال: ألا أخبركم (¬1) برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه؟ رأسُ الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد [في سبيل اللَّه] " (¬2)، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله"؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: "كُفَّ عليك هذا" وأشار إلى لسانه، قلت: يا رسول اللَّه، وإنَّا لمؤأخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذ وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إِلا حصائد ألسنتهم" (¬3)، حديث صحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: دلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: "تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان" فقال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولَّى قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من سَرَّه أَن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" (¬4)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل آخر فقال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني (¬5) من ¬

_ (¬1) في المطبوع: "أخبرك" والمثبت من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين من المطبوع. (¬3) الحديث رواه بطوله الترمذي (2621) في (الإيمان): باب ما جاء في حرمة الصلاة، والنسائي في "السنن الكبرى" كتاب التفسير: (6/ 428 رقم 11394)، وابن ماجة (3973) في (الفتن): باب كف اللسان في الفتنة، وعبد الرزاق (20303)، ومن طريقه عبد بن حميد (112) وأحمد (5/ 231)، والطبراني في "الكبير" (20/ 266) من طريق معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جيل به، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. والحديث له عن معاذ طرق قد بينها وفصلها الدارقطني في "علله" (6/ 73 - 79)، ثم قال -رحمه اللَّه- وخالفه حماد بن سلمة (أي خالف معمرًا) فرواه عن شهر عن معاذ، وقول حماد بن سلمة أشبه بالصواب لأن الحديث معروف من رواية شهر على اختلاف عنه فيه، وأحسنها إسنادًا حديث عبد الحميد بن بهرام، ومن تابعه عن شهر عن ابن غنم عن معاذ. أقول: فرجع الحديث إلى شهر بن حوشب، وشهر ضعيف، وقد تكلم الشيخ الألباني في "الإرواء" (2/ 138 - 141) على الحديث بإسهاب وبين أنه لا يصح منه إِلا قوله: "وذروة سنامه الجهاد" لأن له شواهد فلينظر. وانظر: "السلسلة الصحيحة" (رقم 1122) و"زهد هناد" (رقم 1090، 1091، 1092)، و"زهد ابن أبي عاصم" (رقم 7) والتعليق عليها. (¬4) رواه البخاري (1397) في (الزكاة): باب وجوب الزكاة، ومسلم (14) في (الإيمان): باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة، من حديث أبي هريرة. (¬5) في المطبوع: "ويبعدني".

النار؟ فقال: "تعبد اللَّه، ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصلُ الرحم" (¬1)، متفق عليه. وسأله أعرابي فقال: علِّمني عملًا يدخلني الجنة؟ فقال: "لئن كنت أقصرتَ الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة، وفُكَّ الرقبة" قال: أو ليسا واحدًا؟ قال: "لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف (¬2)، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وأنْهَ عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكفَّ لسانك إِلا من خير" (¬3)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: ما الإسلام؟ فقال: "أن يَسْلم قلبك للَّه، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك"، قال: "فأي الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان" قال: وما الإيمان؟ قال: "تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت" قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة" قال: وما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء" قال: فأي الهجرة أفضل؛ قال: "الجهاد" قال: وما الجهاد؟ قال: "أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم" قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من عُقر جواده وأهريق دمه، ثم عَمَلان هما أفضل الأعمال إِلا من عمل بمثلهما: حجة مبرورة أو عمرة" (¬4)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الإيمان باللَّه وحده، ثم الجهاد، ثم ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1396) في (الزكاة)، و (5982 و 5983) في (الأدب): باب فضل صلة الرحم، ومسلم (13) في (الإيمان): من حديث أبي أيوب الأنصاري. (¬2) "المنحة: أن يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بلبنها ويعيدها، والوكوف: الغزيرة اللبن، وقيل: التي لا ينقطع لبنها". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه عبد الرزاق (20107)، ومن طريقه أحمد (4/ 114) عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن عمرو بن عبسة به. قال الهيثمي (1/ 59): رواه أحمد والطبراني في "الكبير" بنحوه ورجاله ثقات. أقول: أبو قلابة عبد اللَّه بن زيد الجرمي توفي بعد المائة، وعمرو بن عبسة قال ابن حجر: وأظنه مات في أواخر خلافة عثمان فإنني لم أر له ذكرًا في الفتنة، ولا في خلافة معاوية، وذكر في "جامع التحصيل" أنه لم يسمع من طائفة من الصحابة وفاتهم بعد عمرو، فأخشى أن يكون الإسناد هنا منقطعًا، واللَّه أعلم. والحديث لبعض فقراته شواهد، وتقدم بعضها، وتمام التخريج هناك.

حجة مبرورة تفضل سائر العمل، كما بين مطلع الشمس ومغربها" (¬1)، ذكره الإمام أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا: أي الأعمال أفضل؟ قال (¬2): "أن تحب للَّه وتبغض للَّه وتعمل لسانك في ذكر اللَّه" قال السائل: وماذا يا رسول اللَّه؟ قال: "أن (¬3) تحبَّ للناس ما تحب لنفسك، وأن تقول خيرًا أو تصمت" (¬4). واختلف نفر من الصحابة في أفضل الأعمال؛ فقال بعضهم: سقاية الحاج، ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 342)، والبخاري في "تاريخه الكبير" (8/ 37)، والطبراني في "الكبير" (20/ 811)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2636)، وفي (الجهاد): (24)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ رقم 6199) من طرق عن هدبة بن خالد: حدثنا وهيب عن الجريري عن حبان بن عمير: حدثنا ماعز به. وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات، والجريري هو سعيد بن إياس اختلط، لكن وهيب وهو ابن خالد سمع منه قبل الاختلاط، ورواه أيضًا ابن أبي عاصم في (الجهاد): (24) من طريق خالد بن عبد اللَّه الطحان، عن الجريري به. وخالد أخرج له الشيخان من روايته عن الجريري. ورواه أحمد في "مسنده" (4/ 342)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (20/ 809) من طريق شعبة، ورواه البخاري في "التاريخ" (8/ 37) من طريق عباد بن العوام كلاهما عن الجريري عن يزيد بن عبد اللَّه بن الشخير عن ماعز به. وشعبة سمع من الجريري قبل الاختلاط أيضًا. قال الحافظ في "الإصابة": فكأن للجريري فيه شيخان، والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (3/ 207)، وقال: ورجال أحمد رجال الصحيح. تنبيه: ماعز المذكور في هذا الحديث هو غير ماعز المشهور الذي رُجم، ولا يعرف نسبه، ذكره الحافظ في "الإصابة" هكذا ماعز غير منسوب. (¬2) في المطبوع: "فقال". (¬3) في المطبوع: "وأن". (¬4) رواه أحمد (5/ 247) حدثنا حسن عن ابن لهيعة: حدثنا زبان بن فائد عن سهل بن معاذ (في المطبوع: سهيل وهو خطأ) عن أبيه عن معاذ بن جبل به. لكن رواه الطبراني في "الكبير" (20/ 425) من طريق أسد بن موسى عن ابن لهيعة عن زبان عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه به، من مسند معاذ بن أنس. ورواه أيضًا (20/ 426) من طريق رشدين عن زبان به من مسند معاذ بن أنس أيضًا. والعجب أن الهيثمي في "المجمع" ذكره في (1/ 61)، وعزاه للطبراني في "الكبير"، وقال: وفي إسناده ابن لهيعة، وفي (1/ 89)، وعزاه للطبراني أيضًا، وقال: في الأولى رشدين بن سعد وفي الثانية ابن لهيعة، وكلاهما ضعيف، ولم يذكر رواية أحمد مطلقًا. أقول: وفي الإسناد أيضًا زبان بن فائد وهو ضعيف أيضًا. وقال ابن حجر في ترجمة سهل بن معاذ: لا بأس به إِلا في رواية زبان عنه.

وقال بعضهم: عمارة المسجد الحرام، [وقال بعضهم: الحج] (¬1)، وقال بعضهم: الجهاد في سبيل اللَّه، فاستفتى عمر في ذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬2) [التوبة: 19 - 20]. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه شهدت أن لا إله إِلا اللَّه، وأَنك رسول اللَّه وصلّيت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان؟ فقال: "من مات على هذا كان مع النَّبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا" ونصب أصابعه "ما لم يعق والديه" (¬3)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبة وصمت رمضان وأحللت ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬2) رواه مسلم في "صحيحه" (1879) في (الإمارة): باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه، من حديث النعمان بن بشير. (¬3) رواه البخاري في "تاريخه الكبير" (6/ 308)، والبزار (25 - زوائده)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2558)، والفسوي في "تاريخه" (1/ 333)، وابن خزيمة (2212)، وابن حبان (3438)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (46/ 337 - 338، 338)، من طريق أبي اليمان: حدثنا شعيب بن أبي حمزة عن عبد اللَّه بن أبي حسين: حدثنا عيسى بن طلحة عن عمرو بن مُرة الجهني به. ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 46)، وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح خلا شيخي البزار، وأرجو إسناده أنه إسناد حسن أو صحيح. ثم ذكره في (8/ 147)، وعزاه لأحمد والطبراني وقال: ورجال أحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح. أقول: هو غير موجود في "مسند الإمام أحمد" المطبوع، نعم فيه مسند عمرو بن مرة، لكن ذكر له حديثًا واحدًا فقط غير هذا، ثم وجدته في طبعة مؤسسة الرسالة (39/ 522 - 523). وقد رجعت إلى ترتيب أسماء الصحابة في "مسند أحمد" للإمام ابن عساكر فلم أجده ذكر مسندًا لعمرو بن مرة هذا، ثم وجدتُه معزوًا له في "أطراف المسند" (5/ 154 رقم 6843) و"إتحاف المهرة" (12/ 526 رقم 16033) و"تفسير ابن كثير" (1/ 523) من طريق يحيى بن إسحاق عن ابن لهيعة عن عيسى به. وأخرجه ابن قانع في "معجم الصحابة" (10/ رقم 1208) من طريق محمد بن أبي الخصيب نا ابن لهيعة عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر عن عيسى به. والحديث في المصادر المذكورة ليس فيه آخره: "ما لم يعق والديه" إذ هو عند أحمد والطبراني وابن قانع.

الحلال وحرمت الحلال ولم أزد على ذلك شيئًا، أدخل الجنة؟ قال: نعم". قال: واللَّه لا أزيدنَّ على ذلك شيئًا (¬1)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال خير؟ قال: أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو هريرة فقال: [إني] (¬3) إذا رأيتك طابت نفسي وقرَّت عيني، فانبئني عن كل شيء؟ فقال: "كلُّ شيء خُلق من ماء"، قال: أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة؟ قال: "أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم أدخل الجنة بسلام" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (15) بعد (18) في (الإيمان): باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة، من حديث جابر. (¬2) رواه البخاري (12) في (الإيمان): باب إطعام الطعام من الإسلام، و (28) باب إفشاء السلام من الإسلام، و (2636) في (الاستئذان): باب السلام للمعرفة وغير المعرفة، ومسلم (39) في (الإيمان): باب بيان تفاضل الإسلام، من حديث عبد اللَّه بن عمرو. وفي المطبوع: "وعلى من لم تعرف" والمثبت من (ك). (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع وسقط من (ك). (¬4) رواه أحمد (2/ 295 و 323 و 493)، وابن حبان (508، و (2559)، والحاكم (4/ 129 و 160)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (808)، وأبو نعيم في "الحلية" (9/ 59) من طرق عن همام عن قتادة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (5/ 16): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح خلا أبا ميمونة وهو ثقة. وذكره الحافظ ابن كثير في (تفسير سورة الأنبياء): عند قوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} من رواية أحمد في "المسند" وقال: "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، إِلا أن أبا ميمونة من رجال "السنن"، واسمه سليم، والترمذي يصحح له، وقد رواه سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مرسلًا"، وصححه شيخنا الألباني أيضًا في "إرواء الغليل" (3/ 238). أقول: لكن محقق "الأسماء والصفات" للبيهقي حكم على ضعف الحديث بناءً على أن أبا ميمونة هذا هو الأبار، وليس الفارسي، قال ابن معين: صالح، وقال الدارقطني: أبو ميمونة عن أبي هريرة وعنه قتادة مجهول يُترك. هذا ما قاله، وفي "تهذيب التهذيب" قال ابن حجر: فرَّق البخاري ومسلم وأبو حاتم والحاكم بين أبي ميمونة الأبار، الذي روى عن أبي هريرة، وعنه قتادة وبين أبي ميمونة الفارسي اسمه سُليم، روى عنه أبو النضر وغيره، ولم يجزم الحافظ بشيء في هذا. وأنا أظن أنهما واحد، والأمر يحتاج إلى مزيد بحث. وللحديث شواهد عن جمع من الصحابة دون أوله، انظر: "إرواء الغليل" (3/ 237 - 242). =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فشكا إليه قسوة قلبه، فقال: "إذا أردت أن يَلينَ قلبُك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم" (¬1). ¬

_ = وقوله: "أفشوا السلام" متواتر، فقد ورد عن الزبير وابنه عبد اللَّه، وعبد اللَّه بن سلام، وعبد اللَّه بن عمرو، والبراء بن عازب، وعبد اللَّه بن عمر، وجابر بن عبد اللَّه، وأبي الدرداء، وعبد اللَّه بن عباس، وعبد اللَّه بن مسعود. وهذه اللفظة -ضمن حديث آخر- في "صحيح مسلم" (54) عن أبي هريرة، وخرجته في تعليقي على "المجالسة" (3485). وانظر تخريج حديث عبد اللَّه بن سلام في "الغيلانيات" (رقم 1142 - بمراجعتي). وانظر تخريجها جميعًا في "إرواء الغليل" (3/ 237 - 242 رقم 777). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 263)، والبيهقي (4/ 60) من طريق حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن رجل عن أبي هريرة به. وهذا إسناد فيه ضعف للجهل بحال الرجل. ورواه أحمد (2/ 387): حدثنا بهز عن حماد بن سلمة عن أبي عمران، عن أبي هريرة، فذكره دون قوله: "إن أردت تليين قلبك" بإسقاط الرجل في الإسناد الأول، وقد ذكره الهيثمي (8/ 160)، وقال: رجال أحمد رجال الصحيح. ففاته -رحمه اللَّه- الإسناد الأول الذي فيه الرجل المبهم، وهو يعل الإسناد الثاني لأنه يبين أنه هناك رجل بين أبي عمران الجوني وأبي هريرة، وأبو عمران هذا يبعد أن يكون أدرك أبا هريرة، فإنه مات بعد سنة (128 هـ). والحديث له شاهد من حديث أبي الدرداء رواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 214) من طريق معمر عن صاحب له عنه. وفيه إبهام، ولعل هذا الصاحب لم يدرك أبا الدرداء كذلك، كما قال شيخنا الألباني في "الصحيحة" (2/ 534)، وله طريق آخر عن أبي الدرداء، رواه الطبراني في "الكبير" -كما في "المجمع" (8/ 160) -، وقال الهيثمي: وفي إسناده من لم يُسمَّ وبقية مدلس. وله طريق آخر رواه الخرائطي في "مكارم الأخلاق" (رقم 504)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (4/ 60 - 61) من طريقين عن محمد بن واسع عن أبي الدرداء، وقد فات شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- هذا طريق. لكن محمد بن واسع هذا قال ابن المديني: ما أعلمه سمع من أحد من الصحابة. فهو شاهد معلول كما ترى. ثم ذكر شيخنا الألباني شاهدًا مرسلًا رواه الخرائطي في "المكارم" (رقم 500) من طريق سيار بن حاتم عن جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي عمران الجوني. وقال: وإسناده مرسل حسن، رجاله ثقات رجال مسلم غير سيار بن حاتم، قال الحافظ: صدوق له أوهام. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: "طول القيام"، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل"، قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر ما حرَّم اللَّه عليه"، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من جاهد المشركين بماله ونفسه". قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: "من أهريق دمه وعقر جواده" (¬1)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحج مبرور" (¬2). ¬

_ = أقول: هو في الحقيقة راجع إلى إسناد حديث أبي هريرة الأول إذ اختلف الرواة عنه، فمنهم من وصله ومنهم من أرسله. وقد عرفت حال هذا المرسل، وحال الشاهد من حديث أبي الدرداء، ورغم هذا ذكر شيخنا -رحمه اللَّه- الحديث في "السلسلة الصحيحة" (854)، واللَّه أعلم. (¬1) رواه أبو داود (1325) في (الصلاة) باب افتتاح الليل بركعتين مختصرًا و (1449) في الصلاة: "باب" مطولًا والنسائي في "سننه" (5/ 58) في (الزكاة) باب جهد المقل و (8/ 94) في (الإيمان) باب ذكر أفضل الأعمال، وأحمد في "مسنده" (3/ 411 - 412)، والبخاري في "تاريخه الكبير" (5/ 25)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2520) وفي "الجهاد" (40) و (234)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (1/ 476)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 3 و 4/ 108 و 9/ 164) من طرق عن حجاج بن محمد عن ابن جريج أخبرني عثمان بن أبي سُليمان عن علي الأزدي، حدثني عبيد بن عمير عن عبد اللَّه بن حُبْشي الخثعمي به مطولًا ومختصرًا. قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (2/ 285): إسناده قوي. ثم بيّن الحافظ ذِكْر البخاري للاختلاف في إسناده حيث رواه من طريقين عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير عن أبيه عن جده، واسم جده: قتادة، قال الحافظ: وفي كل منهما مقال. وعلي الأزدي هو ابن عبد اللَّه روى له مسلم حديثًا واحدًا، وليس هو بكثير الحديث وثقه العجلي وقال ابن عدي: هو عندي لا بأس به، فحديثه أولى وأصح. ثم رواه البخاري من طريق صالح عن ابن شهاب عن عبد اللَّه بن عبيد عن أبيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، قال ابن حجر: وبهذا أقوى (أي المرسل). أقول: إن أراد ابن حجر أنه أقوى ممن رواه عن عبد اللَّه بن عمير عن أبيه عن جده موصولًا فهذا صحيح؛ لأن تلك الطريقين فيهما مقال، وإن أراد الحديث المرسل أقوى من المتصل حتى من حديث علي الأزدي ففيه نظر؛ لأن الحديث يحتمل أن يكون مرويًا على الوجهين، ثم رأيت الزهري -رحمه اللَّه- يرسل أحيانًا بعض الوصولات، فكأنه كان يتهيب أحيانًا واللَّه أعلم. (¬2) هو جزء من حديث عبد اللَّه بن حبشي الماضي، ويزاد: رواه ابن أبي عاصم في "الجهاد" (رقم 26) وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ رقم 4085).

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر فقال: من أين أتصدَّق وليس لي مال؟ قال: "إن من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إِلا اللَّه، وأستغفر اللَّه، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتُسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له، قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أَبواب الصدقة منك على نفسك، ولك من جِمَاعك لزوجتك أجر" فقال أبو ذر: فكيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرأيت لو كان لك ولد ورجوت أجره فمات أكنت تحتسب به؟ " قلت: نعم. قال: "أنت خلقته؟ " قلت: بل اللَّه خلقه، قال: "فأنت هديته" قلت: بل اللَّه هداه، قال: "فأنت كنت ترزقه (¬1)؟ " قلت: بل اللَّه كان يرزقه، قال: "فكذلك فضعه (¬2) في حلاله وجنِّبه حرامه، فإن شاء اللَّه أحياه، وإن شاء اللَّه أَماته ولك أجر" (¬3)، ذكره أحمد. وسأل -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه يومًا: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "من اتبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أَنا، قال: "من أطعم منكم [اليوم] مسكينًا؟ " قال [أبو بكر: أنا، قال:] "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما اجتمعن في رجل إِلا دخل الجنة" (¬4)، ذكره مسلم. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "رزقته" والمثبت من (ك). (¬2) في (ك): "يضعه" والمثبت من المطبوع. (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 168 - 169)، والنسائي في "عشرة النساء" (141) من طريق أبي عامر العقدي: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن زيد بن سلام عن أبي سلام عن أبي ذر فذكره. قال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (575): هذا سند صحيح، رجاله كلهم ثقات رجال مسلم. أقول: وقد سبق أن تكلمت على رواية علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير، وأبو سلام هو ممطور الحبشي، أرسل عن أبي ذر وغيره، انظر: "تهذيب الكمال" (28/ 484). وفي المطبوع: "وإن شاء أماته فلك أجر" والمثبت من (ك). (¬4) رواه مسلم (1028) في (الزكاة): باب من جمع من الصحابة الصدقة وأعمال البر، و (4/ 1857) في (فضائل الصحابة): باب فضائل أبي بكر، من حديث أبي هريرة. وما بين المعقوفات من المطبوع وسقط من (ك).

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه الرجل يعمل العمل فيُسِرَّه فإذا اطُّلع عليه أعجبه؟ فقال: "له أجران أجر السر وأجر العلانية" (¬1)، ذكره الترمذي. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر: يا رسول اللَّه أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بُشرى المؤمن" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: "أي العمل أفضل"؟ فقال: "الإيمان باللَّه وتصديقٌ به، ¬

_ (¬1) رواه أبو داود الطيالسي (2430)، -ومن طريقه الترمذي (2389) في (الزهد): باب عمل السر، والبيهقي في "الشعب" (5/ رقم 7003) - وابن ماجة (4226) في (الزهد): باب الثناء الحسن، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 228)، وابن حبان (375) كلهم من طريق سعيد بن سنان أبي سنان عن حبيب بن أبي ثابت عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روى الأعمش وغيره عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي صالح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، وأصحاب الأعمش لم يذكروا فيه: عن أبي هريرة. أقول: وممن رواه عن الأعمش موصولًا سعيد بن بشير. أخرجه الطبراني في "الأوسط" (5/ رقم 4702) والبغوي (4141)، والذهبي في "تذكرة الحفاظ" (2/ 756 - 757) وسعيد هذا ضعيف. ووصله كذلك الجرَّاح بن مليح؛ أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 227). وإسناده حسن رجاله كلهم ثقات، وفي الجراح بعض كلام، وقد أخرج له مسلم. ووصله كذلك أبو إسحاق الفزاري. أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 257) وقال: غريب من حديث الفزاري تفرد به عنه بقية. أقول: بقية صرّح فيه بالتحديث وباقي إسناده ثقات، لكن هؤلاء الثلاثة: "سعيد والجراح وأبو إسحاق" أسقطوا حبيب بن أبي ثابت من السند، ويظهر أن الأعمش كان يرويه على الوجهين، وهو يروي عن أبي صالح مباشرة. وممن أرسله عن الأعمش، حفص بن غياث كما رواه البخاري في "التاريخ" (2/ 227). وأرسله أيضًا أبو معاوية الضرير، وعنه هناد في "الزهد" (880)، وأبو حفص الأبار وأبو نعيم كما قال الدارقطني في "علله" (8/ 184). والحديث رواه سفيان الثوري عن الأعمش، وقد اختلف عليه، كما بينه أبو نعيم في "الحلية" (8/ 250) والدارقطني (8/ 183)، وهو عند وكيع في "الزهد" (245) مرسلًا. وقد رجح أبو نعيم والدارقطني كذلك أن الصحيح عن الثوري عن حبيب عن أبي صالح مرسلًا. وكذا رجح الدارقطني أن الصحيح في حديث الباب عن الأعمش عن حبيب عن أبي صالح مرسلًا، واللَّه أعلم. (¬2) رواه مسلم (2642) في (البر والصلة): باب إذا أُثني على الصالح فهي بشرى ولا تضره، من حديث أبي ذر.

وجهادٌ في سبيله" قال: أريد أهون من ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: "السماحة والصبر"، قال: أريد أهون من ذلك، قال: "لا تتهم اللَّه تعالى في شيء قضى لك" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة عن فواضل الأعمال فقال: "يا عقبة صِلْ مَنْ قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمَّن ظلمك" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 318 - 319): حدثنا الحسن عن ابن لهيعة: حدثنا الحارث بن يزيد عن عُليّ بن رباح عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت به. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 59) رواه أحمد وفيه ابن لهيعة. أقول: وروى أوله البخاري في "خلق أفعال العباد" (163)، وابن أبي عاصم في "الجهاد" (25) من طريق سويد أبي حاتم: حدثنا عياش بن عباس عن الحارث بن يزيد به، ولفظه: "إيمان باللَّه وتصديق بكتابه وجهاد في سبيله"، وآخره: "أي جهاد" ليست عند البخاري. وهذا إسناد ضعيف؛ سويد هذا قال فيه الحافظ ابن حجر: "صدوق سيء الحفظ له أغلاط". وروى أوله أيضًا البخاري في "خلق أفعال العباد" (161) بإسناد فيه راويان متكلم فيهما. (¬2) رواه أحمد (4/ 148) من طريق أبي المغيرة: حدثنا معان بن رفاعة وابن أبي الدنيا في "المكارم" (رقم 19) من طريق عبيد اللَّه بن زحر كلاهما عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة الباهلي عن عقبة بن عامر به، وفيه زيادة. وعلي بن يزيد هذا هو الألهاني ضعيف. لكن روى الطبراني في "الكبير" (17/ 739) نحوًا منه بنفس الإسناد بإسقاط علي بن يزيد منه! وقد رواه أحمد بإسناد أفضل، فقال (4/ 158): حدثنا حسين بن محمد: وابن أبي الدينا في "مكارم الأخلاق" (رقم 20) حدثنا داود بن عمرو الضبي كلاهما قال: حدثنا ابن عياش، عن أسيد بن عبد الرحمن الخثعمي، عن فروة بن مجاهد اللخمي، عن عقبة فذكر نحوه. وهذا إسناد جيّد رجاله ثقات، وإسماعيل بن عياش ثقة في روايته عن الشاميين، وهذه منها، وفروة هذا روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال البخاري: كانوا لا يشكون أنه من الأبدال، وقد عده بعضهم في الصحابة. لذلك قال الهيئمي في "المجمع" (8/ 188): وأحد إسنادي أحمد رجاله ثقات، وللحديث أسانيد أخرى ضربت عنها صفحًا فانظر: "إتحاف المهرة" (11/ 230، 235، 239) و"السلسلة الصحيحة" (رقم 891)، و"العزلة" لابن أبي الدنيا (رقم 1) وتعليقي عليه.

فصل [فتاوى في الكسب والأموال]

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أنَّي قد أحسنت، وإذا أسأت أني قد أسأت؟ فقال: "إذا قال جيرانك: إنك قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا قالوا: قد أسأت، فقد أسأت" (¬1)، ذكره ابن ماجة، وعند الإمام أحمد، "إذا سمعتهم يقولون: قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت" (¬2). فصل [فتاوى في الكسب والأموال] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ الكسب أطيب (¬3)؟ قال: "عملُ الرجل بيده، وكلُّ بيع مبرور" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجة (4222) في (الزهد): باب الثناء الحسن، ومُطيَّن في "الوحدان"، وابن أبي شيبة في "مسنده" (2/ رقم 691) -كما في "الإصابة" (3/ 288)، "ومصباح الزجاجة" (2/ 343) - وابن قانع في "معجم الصحابة" (13/ 4514 رقم 1681) معلقًا، وأبو نعيم في "معجم الصحابة" (5/ 2390 رقم 5851)، والبيهقي (10/ 125) من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن جامع بن شداد عن كلثوم الخزاعي به. قال البوصيري: هذا إسناد رجاله ثقات إِلا أنه مرسل كلثوم بن علقمة، ويقال له: ابن المصطلق ذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن عبد البر: أحاديثه مرسلة لا يصح له صحبة، وكذا قال أبو نعيم وزاد: الصحبة لأبيه علقمة. وقد أثبت الحافظ ابن حجر في "الإصابة" كذلك أنه من التابعين، وانظر ما بعده. (¬2) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (19749)، ومن طريقه أحمد (1/ 402)، وابن ماجة (4223) في (الزهد): باب الثناء الحسن، وابن حبان (525)، والطبراني في "الكبير" (10433) و"الأوسط" (2982)، وأبو نعيم في "الحلية" (5/ 43)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (10/ 125)، والبغوي (3490)، عن معمر بن منصور عن أبي وائل عن عبد اللَّه بن مسعود به. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 217) بعد أن نسبه للطبراني فقط: رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 343): هذا إسناد صحيح. (¬3) في المطبوع: "أفضل" والمثبت من (ك). (¬4) رواه أحمد (4/ 141)، والطبراني في "الكبير" (4411) من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن وائل بن داود، عن عباية بن رفاعة بن رافع، عن جده رافع بن خديج، فذكره. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 60): وفيه المسعودي وهو ثقة، ولكنه اختلط، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح.

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = أقول: وقد رواه البزار (1257) من طريق إسماعيل بن عمرو عن المسعودي، عن وائل عن عبيد بن رفاعة عن أبيه، ونحو هذا وقع في "المستدرك" حيث رواه من طريق معاوية بن عمرو عن المسعودي به فقال: عن عباية بن رافع عن أبيه، وهذا إما خطأ، وإما تجوز، كما قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 3). والمسعودي هذا اختلط فقد يكون هذا من تخاليطه. وقد اختلف على وائل بن داود، فرواه المسعودي كما سبق، ورواه شريك عنه عن جميع بن عمير عن خاله أبي بردة، أخرجه أحمد (3/ 466)، والحاكم (2/ 10)، والطبراني (22/ 520)، والبيهقي (5/ 263) من طريق الأسود ويحيى الحماني عن شريك به. قال البيهقي: هكذا رواه شريك بن عبد اللَّه القاضي، غلط فيه في موضعين أحدهما في قوله: جميع بن عمير، والآخر في وصله وإنما رواه غيره عن وائل مرسلًا. أقول: ورواه البزار (1258) من طريق سويد بن عمرو عن شريك فقال: عن وائل عن جميع بن عمير عن عمه! وهذا من تخاليط شريك، ورواه الثوري فخالف شريكًا. فقد رواه الحاكم (2/ 10)، ومن طريقه البيهقي (5/ 263) من طريق الأسود بن عامر عنه، عن وائل بن داود، عن سعيد بن عمير، عن عمه: "وهو البراء بن عازب"، ولفظه: "كسب مبرور". قال البيهقي: وقد أرسله غيره عن الثوري. وقال أبو حاتم (2/ 443): وأما الثقات: الثوري وجماعته، رووا عن وائل بن داود عن سعيد بن عمير أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمرسل أشبه. أقول: وقد تابع الثوري على روايته مرسلًا جماعة. فقد رواه أبو عبيد في "غريب الحديث" (4/ 469)، والبيهقي (5/ 263) من طرق عن وائل عن سعيد به. لكن رواه أبو إسماعيل المؤدب وابن نمير، وهما ثقتان كما في "علل ابن أبي حاتم" (2/ 443)، عن وائل بن داود عن سعيد بن عمير، عن البراء به موصولًا. ونقول -كما قال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (2/ 162 (607): إن الحكم لمن وصل ما دام أنهم ثقات. وله شاهد من حديث ابن عمر، قال الهيثمي (4/ 61): رواه الطبراني في "الكبير"، و"الأوسط" ورجاله ثقات. لكن ذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (1/ 391) بإسناد الطبراني ونقل عن أبيه قوله: هذا حديث باطل، وقدامة ليس بالقوي! ولا أدري لماذا حكم عليه بالبطلان، وقدامة هو ابن شهاب، قال الحافظ: صدوق. وقد قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 3) عن إسناد حديث ابن عمر هذا: ورجاله لا بأس بهم. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن لي مالًا، وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي؟ قال: "أنت ومالك لأبيك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئًا" (¬1)، ذكره أبو داود وأحمد. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إنَّا كَلٌّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: "الرطب تأكلينه (¬2) وتهدينه" (¬3)، ذكره أبو داود، وقال عقبه: الرطب يعني به ما يفسد إذا بقي. ¬

_ = وشاهد من حديث علي، ذكره ابن أبي حاتم (1/ 390) ونقل عن أبيه: هذا الحديث بهذا الإسناد باطل، بهلول ذاهب الحديث. (¬1) رواه أحمد (2/ 179 و 204)، وابن أبي شيبة (7/ 161)، وأبو داود (3530) في (البيوع): باب في الرجل يأكل من مال ولده، وابن ماجة (2292) في (التجارات): باب ما للرجل من مال ولده، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 158)، وابن الجارود في "المنتقى" (995)، وأبو بكر الشافعي في "حديثه" (ق 2/ ب)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (12/ 49)، والبيهقي (7/ 480) وفي "معرفة السنن" (11/ 300 رقم 15596)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 22) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. وإسناده جيّد. والحديث صحيح بشواهده، وقد استوعبتُها -وللَّه الحمد- فيما مضى (1/ 209 - 218). (¬2) كذا في المطبوع وفي (ك): "تأكلنه". (¬3) رواه أبو داود (1686) في (الزكاة): باب المرأة تتصدق من بيت زوجها، وابن أبي شيبة (5/ 244)، وابن سعد في "الطبقات" (8/ 10)، وعبد بن حميد (147)، والحاكم (4/ 134)، والبيهقي (4/ 192 - 193)، والبغوي (6/ 256) من طريق عبد السلام بن حرب عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير عن سعد به. ورواه البزار (169 - مسند سعد)، والحاكم (4/ 134)، والبيهقي (4/ 193) من طريقين عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد به. قال الحاكم: حديث عبد السلام بن حرب على شرط الشيخين، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وقال ابن حجر في "الفتح" (9/ 297): "ثبت عن سعد بن أبي وقاص". أَقول: نعم رواته على شرط الشيخين، لكن زياد بن جبير قال أبو زرعة وأبو حاتم: حديثه عن سعد بن أبي وقاص مرسل. ثم وجدت ابن أبي حاتم ذكر الحديث في "علله" (2/ 305)، ونقل عن أبيه: هذا حديث مضطرب. وذكره أيضًا الدارقطني في "علله" (4/ 382)، وذكر رواية الثوري عن يونس بن عبيد فقط، ولم يذكر رواية عبد السلام وقال: "وأرسل هاشم عن يونس عن زياد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث سعدًا على الصدقة". =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّا نأخذ على كتاب اللَّه أجرًا؟ فقال: "إن أَحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللَّه" (¬1)، ذكره البخاري في قصة الرقية. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أموال السلطان؟ فقال: "ما أتاك اللَّه منها من غير مسألة، ولا إشراف فكله وتموّله" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أجرة الحجَّام؟ فقال: "أعْلِفه ناضحك وأطعمه رقيقك" (¬3)، ذكره مالك. ¬

_ = ويقال: إن سعدًا هذا رجل من الأنصار، وليس بسعد بن أبي وقاص، وهو أصح إن شاء اللَّه تعالى". أقول: الذي أرسل الحديث هو هاشم وأظنه ابن القاسم، فهو من هذه الطبقة وهو من الثقات، لكن وصله الثوري وعبد السلام بن حرب، وهما من الثقات المشاهير، فروايتهما أولى بلا شك، وقول الدارقطني -رحمه اللَّه-: إن سعدًا هذا هو آخر يحتاج إلى دليل، بل قد ورد التصريح باسمه عند الحاكم في رواية الثوري، وقد ذكره البزار في "مسنده": أي "مسند سعد". وقول أبي حاتم: إنه مضطرب، إن كان يعني الاضطراب الذي ذكره الدارقطني، فقد ذكرنا الصواب وأن رواية الثوري وعبد السلام أولى، وإن كان غير ذلك فلم يبين لنا. إذا عرفت هذا فالإسناد قوي لولا الإرسال بين زياد وسعد واللَّه أعلم. تنبيه: كلام أبي داود الذي ذكره المؤلف بعد الحديث غير موجود في المطبوع من "السنن". قال (و): "في الرواية تأكلنه وتهدينه". (¬1) رواه البخاري (5737) في (الطب): باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب، من حديث ابن عباس. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 195 و 6/ 452) من طريق هشام بن حسان عن قيس بن سعد عن رجل عن أبي الدرداء به. أقول: وشاهده في "صحيح البخاري" (7164)، ومسلم (1045) من حديث عمر بن الخطاب. (¬3) رواه أحمد (5/ 435)، والشافعي في "مسنده" (2/ 166)، وأبو داود (3422)، والترمذي (1280)، والطبراني (5470)، والبيهقي (9/ 337)، والبغوي (2034)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4660)، وفي "شرح معاني الآثار" (4/ 132) من طرق عن مالك عن ابن شهاب، عن ابن محيصة (وهو حرام بن سعد بن محيصة) عن أبيه به. لكن رواه يحيى الليثي عن مالك في "الموطأ" (2/ 974)، عن ابن شهاب عن ابن محيصة أحد بني حارثة أنه استأذن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال ابن عبد البر في "التمهيد" (11/ 77 - 79): "هكذا قال يحيى في هذا الحديث -أي عن ابن محيصة- أنه استأذن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتابعه ابن القاسم، وذلك من الغلط =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عن عَسْب الفحل فنهاه فقال: إنَّا نُطرِق الفَحْلَ فنُكْرَم، فرخَّص له في الكرامة (¬1)، حديث حسن، ذكره الترمذي. ¬

_ = الذي لا إشكال فيه على أحد من أهل العلم، وليس لسعد بن محيصة صحبة، فكيف لابنه حرام؟ ولا يختلفون أن الذي روى عنه الزهري هذا الحديث، هو حرام بن سعد بن محيصة. وقال ابن وهب ومطرف وابن بكير وابن نافع والقعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن ابن محيصة عن أبيه، والحديث مع هذا كله مرسل". أقول: ورواه أحمد (5/ 436)، وابن ماجة (2166)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4659)، و"شرح المعاني" (4/ 132)، والطبراني (5471) من طرق عن ابن أبي ذئب مثل رواية مالك التي رواها عنه الجماعة. ورواه أيضًا ابن حبان (5154) من طريق الليث، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 131) من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر كلاهما عن ابن شهاب عن ابن محيصة عن أبيه مثل رواية مالك وابن أبي ذئب. وزاد محمد بن إسحاق وربيعة بن صالح في روايتهما عن الزهري به (عن جده) كما عند الطبراني -بإسنادين- (20/ رقم 743، 744). ورواه أحمد (5/ 435)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ رقم 2125)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 131)، والطبراني في "الكبير" (20/ رقم 742) من طريق محمد بن سهل بن أبي حثمة عن محيصة بن مسعود به. (¬1) رواه الترمذي (1277) في البيوع: باب ما جاء في كراهية عَسْب الفحل، والنسائي (7/ 310) في اليوع: باب بيع ضراب الجَمل، والبيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 339) من طريق يحيى بن آدم عن إبراهيم بن حميد الرؤاسي عن هشام بن عروة عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أنس بن مالك به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إِلا من حديث إبراهيم بن حميد عن هشام بن عروة، وأقره عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (3/ 242)، وتعقبه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 395)، فقال: "وينبغي أن يقال فيه صحيح" وأورد إسناده، وقال: "وكل هؤلاء ثقات". قال ابن عبد الهادي في "التنقيح" (2/ 587 - ط دار الكتب العلمية): وإبراهيم بن حميد وثقه النسائي وابن معين وأبو حاتم وروى له البخاري ومسلم. وانظر: "نصب الراية" (4/ 135). ولكن أعله أبو حاتم بالوقف، قال ابنه في "العلل" (1137): "سمعت أبي وحدثنا عن حرملة عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن أنس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن أجر عسب الفحل. قال أبي: إنما يروى من كلام أنس، ويزيد لم يسمع من الزهري، إنما كتب له". وأخرج أحمد (3/ 145) روايه ابن لهيعة عن يزيد وعقيل عن الزهري، فصار للحديث طريقان في المرفوع، ورواية ابن وهب عن ابن لهيعة صحيحة، ولم يرد في =

[إرشادات لبعض الأعمال]

[إرشادات لبعض الأعمال] ونهى عن القُسامة (¬1) -بضم القاف- فسئل عنها فقال: "الرَّجل يكون على الفئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا" (¬2)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: "سَقي الماء" (¬3). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت يا رسول اللَّه: إني أحبُّ الصلاة معك؟ فقال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتُك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حُجْرَتك، وصلاتك في حُجْرتك خيرٌ من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خيرٌ من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتكِ في مسجد قومك خيرٌ من صلاتك في مسجدي" فأَمرت فبُني لها مسجد في أقَصى شيء من بيتها وأظلم فكانت تصلي فيه حتى لقيت اللَّه عز وجل (¬4). ¬

_ = روايته "فرخص له في الكرامة" وقد تفرد به ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب، قاله الدارقطني في "الأفراد" (1/ رقم 1207 - أطرافه). (¬1) "ما يأخذه القسام من رأس المال على أجرته لنفسه كما يأخذ السماسرة وقيل: إنها فيمن ولي أمر قوم، فماذا قسم بين أصحابه شيئًا أمسك منه لنفسه نصيبه يستأثر به عليهم، والفئام: "الجماعة الكثيرة". (و) وفي (ك): "بضم الميم"!! (¬2) رواه أبو داود (2784) في الجهاد: باب في كراء المقاسم ومن طريقه البيهقي (6/ 356) عن القعنبي عن الدراوردي عن شريك بن أبي نمر عن عطاء بن يسار مرسلًا. وقد وصله أبو داود أيضًا (2783) ومن طريقه البيهقي (6/ 356) من طريق ابن أبي فديك عن الزمعي عن الزبير بن عثمان بن عبد اللَّه بن سراقة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي سعيد الخدري به، والزبير هذا ذكره الذهبي في "الميزان" وقال: "لا يعرف إِلا بهذا الخبر تفرد عنه يعقوب بن موسى الزمعي، ففيه جهالة". (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه أحمد (6/ 371)، وابن خزيمة (1689)، وابن حبان (2217) من طريق عبد اللَّه بن وهب: حدثني داود بن قيس عن عبد اللَّه بن سويد عن عمته أم حميد به. قال الهيثمي في "المجمع" (2/ 33، 34): ورجاله رجال الصحيح غير عبد اللَّه بن سويد الأنصاري، وثقه ابن حبان. وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (2/ 350) بعد أن عزاه لأحمد والطبراني: إسناد أحمد حسن. أقول: عبد اللَّه هذا لم يرو عنه غير داود بن قيس، فهو إِذًا في عداد المجاهيل. ورواه ابن أبي شيبة (2/ 276)، ومن طريقه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3379)، والطبراني في "الكبير" (25/ 356)، والبيهقي (3/ 132 - 133)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ رقم 7911) من طريقين عن عبد الحميد بن المنذر الساعدي عن أبيه عن جدته أم حميد نحوه. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ البقاع شرٌّ؟ قال: "لا أدري حتى أسأل جبريل" فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل فجاء فقال: خير البقاع المساجد وشرها الأسواق (¬1). وقال: "في الإنسان ستون وثلاث مئة مَفْصِل عليه أَن يتصدق عن كل مفصل صدقة، فسألوه مَنْ يُطيق ذلك؟ قال "النخاعة (¬2) تراها في المسجد فتدفنها أو الشيء فتنحيه عن الطريق، فإن لم تجد فركعتا الضحى يجزيانك" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة قاعدًا؟ فقال: "من صلَّى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلَّى نائمًا (¬4) فله نصف أجر القاعد" (¬5). قلت: وهذا له محملان، أحدهما: أن يكون في النافلة عند من يجوِّزها مضطجعًا، والثاني: على المعذور فيكون له بالفعل النصف والتكميل بالنيَّة. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ما يمنعني أَن أتعلم القرآن إِلَّا خشية أَن لا أقوم به، فقال: "تعلَّم القرآن واقرأه وارقد، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقال به كمثل جِرابٍ محشوٍّ مِسْكًا يفوح ريحه على كل مكان، ومن تعلمه ورقد، وهو في جوفه كمثل جراب وُكي على مِسْك" (¬6). ¬

_ = أقول: وينظر في حال عبد الحميد هذا وأبوه فإني لم أجدهما. وله شواهد عن جمع من الصحابة انظر: "مجمع الزوائد" (2/ 34). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) في (و) و (ط): "النخامة" بالميم وفي (ك) وسائر الأصول: "النخاعة" بالعين. (¬3) رواه أحمد (5/ 354 و 359)، وأبو داود (5242) في (الأدب): باب في إماطة الأذى عن الطريق، والطحاوي في "مشكل الآثار" (99)، وابن حبان (1642)، وابن خزيمة (1226) من طريق الحسين بن واقد عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه. قال شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (2/ 213): إسناده صحيح على شرط مسلم. (¬4) كذا في (ك) ومصادر التخريج، وفي سائر الأصول: "مضجعًا". (¬5) رواه البخاري (1115) في (تقصير الصلاة): باب صلاة القاعد، و (1116) باب صلاة القاعد بالإيماء من حديث عمران بن الحصين. (¬6) رواه الترمذي (2881) في (فضائل القرآن): باب ما جاء في فضل سورة البقرة وآية الكرسي، والنسائي في "الكبرى" (8749)، وابن ماجة (217) في (المقدمة): باب فضل من تعلم القرآن وعلَّمه -مختصرًا-، وابن خزيمة (1509)، وابن حبان (2126 و 2578) من طريق عبد الحميد بن جعفر عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن أبي هريرة به.

وقال عن رجل من أصحابه توفِّي (¬1): "ليته مات في غير مولده" فسُئل لم ذلك؟ فقال: "إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة" (¬2). ذكر هذه الأحاديث أبو حاتم ابن حبان (¬3) في "صحيحه". وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيغني الدواء شيئًا؟ فقال: "سبحان اللَّه! وهل أنزل اللَّه تبارك وتعالى من داء في الأرض إِلا جعل له شفاء" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرقى والأدوية هل ترد من قدر اللَّه شيئًا؟ قال: "هي من قَدَر اللَّه" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل من المسلمين طَعَن رجلًا من المشركين في الحرب ¬

_ = ورجاله ثقات غير عطاء مولى أبي أحمد فإنه لم يرو عنه إِلا سعيد، ولم يوثقه غير ابن حبان. وقال الذهبي: معدود في التابعين لا يعرف، روى سعيد المقبري عنه عن أبي هريرة حديثًا في فضل القرآن. وقد أعل بالإرسال، فقد رواه الترمذي من طريق قتيبة بن سعيد وأبو عبيد في "فضائل القرآن" (ص 386 - 387) من طريق الليث بن سعد كلاهما عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد مرسلًا به وقال النسائي: وقد رواه غير عبد الحميد فأرسله والمشهور مُرسلٌ. (¬1) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "عن رجل توفي من أصحابه". (¬2) رواه ابن ماجة (1614) في (الجنائز): باب ما جاء فيمن مات غريبًا، والنسائي (4/ 7 - 8) في (الجنائز): باب الموت بغير مولده، وأحمد (2/ 177)، وابن حبان (2934)، والآجري في "الغرباء" (رقم 47، 48، 49) من طريق ابن وهب وابن لهيعة عن حييّ بن عبد اللَّه المعافري عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي عن ابن عمرو به. وإسناده حسن رجاله كلهم ثقات وفي حُييّ كلام، وهو في "صحيح الجامع الصغير" (1616). (¬3) في المطبوع: "أبو حاتم وابن حبان"!!، والواو زائدة. (¬4) رواه أحمد (5/ 371) حدثنا إسحاق بن يوسف: حدثنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف عن ذكوان عن رجل من الأنصار فذكره. قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 84): رجاله رجال الصحيح. وذكره شيخُنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (517)، وقال: رجاله ثقات من رجال مسلم غير الرجل الأنصاري، وهو صحابي كما هو الظاهر، وجهالة الصحابي لا تضر، لا سيما وأصل الحديث مشهور عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه عنه جماعة من الصحابة. . . وقد أوردته هنا لهذه الفائدةُ التي تفرد بها من بيان سبب ورود الحديث. (¬5) تقدم تخريجه.

فقال: خذها، وأنا الغلام الفارسي، فقال: "لا بأس في ذلك يُحمد ويُؤجر" (¬1)، ذكرهما أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أن يعمله ما ينفعه، فقال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستقي (¬2)، ولو أن تُكَلِّم أخاك، ووجهك مُنبسطٌ إليه، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المَخِيَلة، ولا يحبُّها اللَّه، وإن امرؤ (¬3) شتمك بما يعلم فيك، فلا تشتمه بما تعلم منه، فإنَ أجره لك، ووباله على مَنْ قاله" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: "لا تحلُّ لمن شهد أَنِّي رسول اللَّه" (¬5)، ذكره إحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأُمراء الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها: كيف يصنع معهم؟ فقال: "صلِّ الصلاة لوقتها، ثم صَلِّ معهم، فإنها لك نافلة" (¬6)، حديث صحيح. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 179 - 180)، وأبو داود في "سننه" (4089) في (اللباس): باب ما جاء في إسبال الإزار، والطبراني في "الكبير" (5616 - 5618)، وابن أبي عاصم في "الجهاد" (244) من طرق عن هشام بن سعد عن قيس بن بشر عن أبيه عن سهل ابن الحنظلية، فذكره، وهو حديث طويل. قال الذهبي في "الميزان" في ترجمة قيس بن بشر: عن أبيه لا يعرفان عن ابن الحنظلية، تفرد عنه هشام بن سعد له حديث: (حديثنا هذا) قال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأسًا، ما أعلم روى عنه غير هشام، وذكره ابن حبان في "الثقات". فعلة الحديث إذن جهالة بشر. ولفظ الحديث عندهم: "خذها وأنا الغلام الغفاري" لا (الفارسي)، كما في جميع النسخ! (¬2) كذا في (ك) وط. دار الحديث وهو الصواب، وفي سائر الأصول: "المستسقي". (¬3) في (ك): "وإن من"!! (¬4) رواه بهذا اللفظ أحمد (5/ 63)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 206)، وابن حبان (522)، والبغوي في "شرح السنة" (3504) من طرق عن سلام بن مسكين عن عقيل بن طلحة: حدثني أبو جري الهجيمي، وإسناده صحيح، رجاله ثقات، ومضى نحوه، وتخريجه مفصلًا فيما مضى (5/ 299). (¬5) رواه أحمد (4/ 194)، والنسائي (7/ 204) في (الصيد): باب تحريم أكل لحوم الحمر الأهلية، من طريق بقية عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي ثعلبة الخشني به مطولًا. ورجاله ثقات لكن بقية مدلس وقد عنعن. والأحاديث في تحربم الحمر الأهلية صحيحة ثابتة في "الصحيحين". (¬6) رواه مسلم (648) في (المساجد): باب كراهية تأخير الصلاة عن وقتها المختار، من حديث أبي ذر.

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة صفوان بن المعطِّل السُّلمي، فقالت: إنه يضربني إذا صلَّيتُ ويُفطِّرني إذا صُمْتُ، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فسأله عما قالت امرأته، فقال: أما قولها: يضربني إذا صليتُ، فإنها تقرأ بسورتين، وقد نهيتها عنهما فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس"، وأما قولها: يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب، ولا أصبر، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- يومئذ: "لا تصوم امرأة إِلا بإذن زوجها" قال: وأما قولها: لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت لا نكاد أن نستيقظ حتى تطلع الشمس فقال: "صلِّ إذا استيقظت" (¬1)، ذكره ابن حبان. قلت: ولهذا صادف أم المؤمنين في قصة الإفك لأنه كان في آخر الناس، ولا ينافي هذا الحديث قوله في حديث الإفك: "واللَّه ما كشفتُ كَنَفَ أنثى قط" (¬2)، فإنه إلى ذلك الوقت لم يكشف كنف أنثى [قط] (¬3)، ثم تزوج بعد ذلك. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل الوزغ فأمر بقتله (¬4)، ذكره ابن حبان. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده"، وابنه عبد اللَّه في "زوائده على المسند" (3/ 80)، وأبو داود (2459) في (الصوم): باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها، وأبو يعلى (1037 و 1174)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2044)، وابن حبان (1488)، والحاكم (1/ 436)، والبيهقي (4/ 353) من طريق جرير بن عبد الحميد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري به. وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وذكره الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة صفوان بن المعطل، وقال: إسناده صحيح، ورواه أحمد (3/ 85) عن أسود بن عامر عن أبي بكر عن الأعمش به. (¬2) هو جزء من حديث الإفك الذي روته عائشة أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها- وقد تقدم، وخرجتُه -وللَّه الحمد- مفصّلًا في "الحنائيات". (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع، وسقط من (ك). (¬4) رواه ابن أبي شيبة (5/ 636)، ومن طريقه ابن ماجة (3231) في (الصيد): باب قتل الوزغ، وابن حبان (5631)، وابن أبي حاتم -كما في "تفسير ابن كثير" (3/ 185) - من طريقين عن جرير بن حازم عن نافع عن سائبة مولاة لفاكه بن المغيرة عن عائشة، فذكرته في قصة. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 170): هذا إسناد صحيح. أقول: سائبة هذه تحرفت في "مصنف ابن أبي شيبة" إلى "صادقة" لم يرو عنها غير نافع، وذكرها ابن حبان في الثقات! فهي في عداد المجاهيل. ويغني عنه حديث أم شريك -رضي اللَّه عنها- الذي رواه البخاري (3307 و 3359)، ومسلم (2237) (143)، ولفظ مسلم: أنها استأمرت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتل الوزغان فأمر بقتلها. وآخر من حديث سعد بن أبي وقاص رواه مسلم (2239).

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل نذر أن يمشي إلى الكعبة فجعل يُهادي بين رجلين فقال: "إن اللَّه لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسه" وأمره أن يركب (¬1). واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل في جار له يؤذيه فأمره بالصبر، ثلاث مرات، فقال له في الرابعة: "اطرح متاعك في الطريق" ففعل، فجعل الناس يمرُّون به ويقولون: ماله؟ ويقول: آذاه جاره، فجعلوا يقولون: لعنه اللَّه، فجاءه جاره فقال: ردَّ متاعك واللَّه لا أوذيك أبدًا (¬2)، ذكره أحمد وابن حبّان. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أذنبت ذنبًا كبيرًا، فهل لي من توبة؟ فقال له: "ألك والدان؟ " فقال: لا، قال: "فلك خالة؟ " قال: نعم، قال: "فبِرَّها" (¬3)، ذكره ابن حبان. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل قد أوجب، فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق اللَّه بكل عضو منها عضوًا منه من النار" (¬4)، ذكره ابن حبان أيضًا. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (1865) في (جزاء الصيد): باب من نذر المشي إلى الكعبة، و (6701) في (الأيمان والنذور): باب النذر فيما لا يملك، وفي معصية، ومسلم (1642) في (النذر): باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة، من حديث أنس. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه أحمد (2/ 13، 14)، والترمذي (1905) في (البر والصلة): باب ما جاء في بر الخالة، والحاكم (4/ 155)، وابن حبان (435)، والسهمي في "تاريخ جرجان" (ص 334)، والبيهقي في "الشعب" (6/ رقم 7864) من طريق أبي معاوية عن محمد بن سوقة عن أبي بكر بن حفص عن ابن عمر به. وهذا إسناد على شرط الشيخين. لكن رواه الترمذي (1906) من طريق سفيان بن عيينة عن محمد بن سوقة عن أبي بكر بن حفص عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. وقال: "وهذا أصح من حديث أبي معاوية" قلت: محمد بن خازم أبو معاوية الضرير من الثقات إِلا أن في حديثه أخطاء، قال أحمد بن حنبل: "أبو معاوية الضرير في غير حديث الأعمش مضطرب لا يحفظها جيدًا"، وقال نحوه النسائي وغيره. وسفيان بن عيينة أوثق منه بدرجات، فترجيح الترمذي لرواية سفيان متجه، وله ما يدعمه. (¬4) رواه إبراهم بن أبي عبلة وقد اختلف عنه. رواه أحمد (3/ 490 - 491 و 4/ 107)، وأبو داود (3964) في (العتق): باب في ثواب العتق، والنسائي في "الكبرى" (4891) في العتق، والطحاوي في "مشكل الآثار" (733 و 734 و 735 و 737 و 738)، وأبو يعلى (13/ رقم 7484) والطبراني في "الكبير" (22/ 218 - 221)، و"مسند الشاميين" (37، 39، 40، 42، 43)، والحاكم (2/ 212)، =

أوجب: أي استوجب النار بذنب عظيم ارتكبه. وسأله رجل فقال: إن أبويّ قد هلكا فهل بقي من بعد موتِهما شيء؟ فقال: "نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عقودهما من بعدهما، وإكرام ¬

_ = والبيهقي (8/ 132 - 133 و 133)، والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (5/ 42) من طرق عنه عن الغريف بن عياش عن واثلة بن الأسقع، والغريف هو ابن عياش بن فيروز الديلمي وهو ابن أخي عبد اللَّه بن فيروز الديلمي الذي وثقه ابن معين والعجلي، فهما اثنان، والآخر، قد ينسب إلى جده. ورواه النسائي في "الكبرى" (4892)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (739)، وابن حبان (4307)، والحاكم (2/ 212)، والطبراني في "مسند الشاميين" (38)، والبغوي (2417) من طرق عن عبد اللَّه بن يوسف: حدثنا عبد اللَّه بن سالم عنه عن عبد اللَّه بن الديلمي عن واثلة. ورجاله ثقاث رجال الصحيح غير ابن الديلمي، وهو من رجال "السنن"، وثقه ابن معين والعجلي. ورواه النسائي في "الكبرى" (4890) من طريق مالك بن مهران عنه عن رجل عن واثلة. ومالك هذا قال الحافظ ابن حجر: مقبول. ورواه الحاكم (2/ 212 - 213) والطبراني في "مسند الشاميين" (41) من طريق أيوب بن سويد عنه عن عبد الأعلى بن الديلمي عن واثلة. وقال عن عبد الأعلى هذا: هو عبد اللَّه بن الديلمي. ورواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (736) من طريق الوليد بن مسلم: حدثني عبد الرحمن بن حسان الفلسطيني عمَّن سمع وائلة. ورواه الطحاوي أيضًا (734) من طريق هاني بن عبد الرحمن عنه، عن أبي أُبَيّ بن أم حرام عن الغريف بن الديلمي عن وائلة. فهذا اختلاف شديد على إبراهيم بن أبي عبلة. والحديث صححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وذكره الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4/ 38)، ولم يتكلم عليه بشيء. وذكره شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (رقم 957)، وذلك لأنه جعل عبد اللَّه بن الديلمي والغريف بن عياش واحدًا، وأن الغريف لقب لعبد اللَّه بن الديلمي، واستدل على هذا بكلام الحاكم في "المستدرك"، وجعل عبد اللَّه بن الديلمي هو غير عبد اللَّه بن فيروز الديلمي، الذي وثقه ابن معين والعجلي، بل آخر وجعل اسمه عبد اللَّه بن عياش بن فيروز، وعبد اللَّه هذا مجهول، ولذلك ضعف الحديث. أقول: كلام الشيخ الألباني هذا فيه نظر، يبقى اختلاف أصحاب إبراهيم بن أبي عبلة عليه في إسناده، فإن ثبت ترجيح طريق إبراهيم عن عبد اللَّه بن فيروز الديلمي عن واثلة فالحديث صحيح لصحة إسناده وإلا فلا، واللَّه أعلم.

صديقهما، وصلة رحمهما التي لا رَحِم لك إِلا من قبلهما". قال الرجل: ما ألذَّ هذا وأطيبه! قال: "فاعمل به" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل شَدَّ على رجل من المشركين ليقتله، فقال: إني مسلم فقتله، فقال فيه قولًا شديدًا، فقال: إنما قاله تعوّذًا من السيف، فقال: "إن اللَّه حرَّم عليَّ أن أقتل مؤمنًا" (¬2)، حديث صحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أخبرنا بخيرنا من شرنا؟ فقال: "خيرُكُم من يُرجى خيره ويؤمن شَرُّه، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يُؤمن شره" (¬3)، ذكره ابن حبان. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 497 - 498)، وأبو داود (5142) في (الأدب): باب في بر الوالدين، وابن ماجة (3664) في (الأدب): باب صل من كان أبوك يصل، والبخاري في "الأدب المفرد" (35)، وابن حبان (418)، والطبراني في "الكبير" (19/ 592)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (4/ 28)، والحاكم (4/ 154)، والمزي في "تهذيب الكمال" (3/ 244) من طريق عبد الرحمن بن سليمان عن أسيد بن علي بن (وفي مطبوع: "المستدرك" عن!! وهو خطأ) عبيد الساعدي عن أبيه عن أبي أسيد، فذكره. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. أقول: لكن علي بن عبيد مجهول، لم يوثقه غير ابن حبان كعادته!، وليس له راوٍ سوى ابنه أسيد، وهو في "ضعيف سنن ابن ماجة" (800). (¬2) رواه أحمد (4/ 110 و 5/ 288 - 289)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" (7/ 342 - 343) -، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (942)، وأبو يعلى (6829)، ومن طريقه ابن حبان (5972)، والطبراني في "الكبير" (17/ 980)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 209)، والحاكم (1/ 18)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ رقم 5408) من طرق عن سليمان بن المغيرة عن حميد بن هلال عن بشر بن عاصم عن عقبة بن مالك به. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 27): رواه الطبراني في "الكبير" وأحمد وأبو يعلى، إِلَّا أنه قال: عقبة بن خالد بدل عقبة بن مالك، ورجاله ثقات كلهم. أقول: وقال الحافظ في "الإصابة" في ترجمة عقبة بن مالك: "عقبة بن مالك هو المحفوظ، ووقع في بعض النسخ من "مسند أبي يعلى" (عقبة بن خالد)، والصواب (ابن مالك) هكذا أخرجه ابن حبان عن أبي يعلى. . . ". وقال محقق "مسند أبي يعلى": في الأصلين عقبة بن خالد، لكن هو ذكر الاسم على الصواب (عقبة بن مالك)، وكذلك غيّره في السند. ورواه أحمد في "مسنده" (4/ 110)، وابن أبي عاصم (943)، والطبراني في "الكبير" (17/ 981)، والحاكم (1/ 19)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ رقم 5409) من طريق حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن حميد به. (¬3) رواه أحمد (2/ 378)، والترمذي (2268) في (الفتن): باب (76)، وابن حبان =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: ما الذي بعثك اللَّه به؟ فقال: "الإسلام" فقال: وما الإسلام؟ قال: "أن تسلم قلبك للَّه، وتوجِّه (¬1) وجهك للَّه، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل اللَّه من عبد توبة أشرك بعد إسلامه" (¬2)، ذكره ابن حبان أيضًا. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الأسود بن سريع فقال: أرأيت إن لقيتُ رجلًا من المشركين فقاتلني فضرب إحدى يديَّ بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمتُ للَّه، أفأقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تقتله" فقلت: يا رسول اللَّه إنه قطع إحدى يديَّ، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال: "لا تقتله، فإنك إن قتلته، فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أَنْ يقول كلمته ¬

_ = (527 و 528)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1246) من طرق عن عبد العزيز الدراوردي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به. ورواه أحمد (2/ 368) من طريق هيثم بن خارجة عن حفص بن ميسرة عن العلاء بن عبد الرحمن به، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (8/ 183) مع أنه في "جامع الترمذي"، وقال: رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما رجال الصحيح. أقول: وإسناده الثاني صحيح أيضًا. (¬1) في المطبوع: "وأن توجه". (¬2) رواه أحمد (5/ 3)، والطبراني في "الكبير" (19/ 1035 و 1036)، وابن حبان (160) من طرق عن حماد بن سلمة عن أبي قزعة عن حكيم بن معاوية عن أبيه به. وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، أبو قزعة هو سويد بن حُجير، ومعاوية هو ابن حيدة جد بهز بن حكيم. لكن رواه أحمد في "مسنده" (4/ 446 - 447) من طريق شبل بن عباد قال: سمعت أبا قزعة يحدث عن عمرو بن دينار يحدث عن حكيم بن معاوية به. فزاد شبل عمرو بن دينار في الإسناد، وشبل هذا من الثقات فإما أن يكون أبو قزعة سمعه على الوجهين مرة بالواسطة، ومرة مباشرة أو ترجَّح رواية شبل فهو أوثق من حماد بن سلمة، لكن وجدت الحجاج الباهلي روى الحديث عن سويد كما رواه حماد بن سلمة أخرجه الطبراني في "الكبير" (19/ 1037) فترجح الاحتمال الأول وهو أنه صحيح على الوجهين، ورواه الطبراني (19/ 1033) من طريق يحيى بن جابر عن حكيم به. ورواه عبد الرزاق (20115)، وأحمد (5/ 5)، والنسائي (5/ 4) في (الزكاة): باب وجوب الزكاة، و (5/ 82 - 83) باب من سأل بوجه اللَّه، وابن ماجه (2536) في (الحدود): باب المرتد عن دينه، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 216)، والحاكم (4/ 600)، والطبراني (19/ 969) من طرق عن بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده.

التي قال" (¬1)، حديث صحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه مررت برجل فلم يُضيِّفْني، ولم يَقْرِني أفأحْتَكِم؟ قال: "بل أَقْرِه" (¬2)، ذكرهما ابن حبان وقوله: أحتكم؟ يعني (¬3) أعامله إذا مر بي بمثل ما عاملني به. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر فقال: الرجل يحب القوم، ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: "يا أبا ذر أنت مع من أحببت" قال: فإني أحب اللَّه ورسوله، قال: "أنت يا أبا ذر مع من أحببت" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ناس من الإعراب، فقالوا: أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، فقال: "أيها الناس إن اللَّه قد وضع عنكم الحَرَج إِلا من اقترض من عِرْض أخيه فذلك الذي حَرِجَ وهَلَك" قالوا: أفنتداوى يا رسول اللَّه؟ قال: "نعم إن اللَّه لم ينزل داءً إِلَّا أنزل له دواء غير داء واحد". قالوا: وما هو يا رسول اللَّه؟ (¬5) قال: "الهرم". قالوا: فأي الناس أحب إلى اللَّه يا رسول اللَّه؟ قال: "أحب الناس ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4019) في (المغازي)، و (6865) في (الديات): باب قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ}، ومسلم (95) في (الإيمان): باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال: لا إله إِلا اللَّه، من حديث المقداد بن الأسود، وهو السائل، وليس الأسود بن سريع كما هو هنا!! (¬2) رواه أحمد (3/ 473 و 4/ 137)، والترمذي (2011) في (البر والصلة): باب ما جاء في الإحسان والعفو، وابن حبان (3410 و 5416)، والطبراني في "الكبير" (19/ 606 و 608 و 609 و 610 و 613 و 621)، والحاكم (1/ 24 و 4/ 181)، والبيهقي (10/ 10)، والطيالسي (2039 - منحة)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 263)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1262)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ رقم 6051) كلهم من طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة عن أبيه به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬3) في المطبوع: "أي". (¬4) رواه أحمد (5/ 156 و 166)، وأبو داود (5126) في (الأدب): باب إخبار الرجل بمحبته إياه، والدارمي (2/ 321 - 322)، والبخاري في "الأدب المفرد" (رقم 355)، وابن حبان (556) من طرق عن سليمان بن المغيرة: حدثنا حميد بن هلال عن عبد اللَّه بن الصامت عن أبي ذر به. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وفي الباب عن جمع من الصحابة. (¬5) في المطبوع: "قالوا يا رسول اللَّه وما هو؟ " والمثبت من (ك).

إلى اللَّه أحسنهم خلقًا" (¬1)، ذكره أحمد وابن حبان. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عدي بن حاتم فقال: إن أبي كان يصلُ الرحم، وكان يفعل ويفعل؟ فقال: "إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني الذِّكْر قال: قلت: يا رسول اللَّه إني أسالك عن طعام لا أدعه إِلا تحرُّجًا، قال: "لا تدع شيئًا ضَارَع النصرانية فيه" قال: قلت: إني أرسل كلبي [المعلم] فيأخذ صيدًا، فلا أجد ما أذبح به إِلا المروة والعصي (¬2)، قال: "أهرق الدم بما شئت واذكر اسم اللَّه" (¬3)، ذكره ابن حبان. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة عن ابن جُدْعان، وما كان يفعل في الجاهلية من صلة الرحم وحسن الجوار وقرى الضيف هل ينفعه؟ فقال: "لا؛ لأنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سفيان بن عبد اللَّه الثقفي أن يقول له قولًا لا يسأل عنه أحدًا بعده؟ فقال: "قل آمنت باللَّه، ثم استقم" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 278)، وابن ماجة (3436) في (الطب): باب ما أنزل اللَّه داء إِلا وأنزل له شفاء، والطيالسي (1747 - منحة)، وابن أبي شيبة (5/ 420 و 6/ 115) مقطَّعًا، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1467)، والحميدي (824)، وأبو داود (3855) في (الطب): باب في الرجل يتداوى، والترمذي (2043) في (الطب): باب ما جاء في الدواء والحث عليه. والبخاري في "الأدب المفرد" (294)، وابن حبان (486)، و (6061) و (6064)، والطبراني في "الصغير" (559)، وفي "الكبير" (463 - 469 و 471 و 474 و 478 و 479 و 480 و 482 - 485)، والبيهقي (9/ 343)، والحاكم (4/ 399 - 400)، والبغوي (3226)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (9/ 197) من طرق عن زياد بن علاقة عن أسامة بن شريك به مطولًا ومختصرًا. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، فقد رواه عشرة من أئمة المسلمين وثقاتهم عن زياد بن علاقة، ووافقه الذهبي. وقال البوصيري (2/ 250): إسناده صحيح. (¬2) "المروة: حجر أبيض برّاق، وقيل: هي التي يقدح منها النار" (و)، وما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬3) الحديث سيأتي تخريجه. (¬4) رواه مسلم (214) في (الإيمان): باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل، و (2791) في (صفات المنافقين): باب في البعث والنشور وصفة الأرض يوم القيامة، من حديث عائشة. (¬5) رواه مسلم (38) في (الإيمان): باب جامع أوصاف الإسلام، من حديث سفيان بن عبد اللَّه نفسه، وانظره مطولًا في "المجالسة" (رقم 1388، 1721) وتعليقي عليه.

وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم للَّه": قالوا: لسنا عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب تسألوني، خيارُكم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" (¬1). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: "إني نذرت إن ردَّك اللَّه سالمًا أن أضربِ على رأسك بالدفِّ، فقال: "إن [كنتِ] نذرتِ فافعلي، وإلا، فلا". قالتْ إني كنت نذرت، فقعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فضربت بالدف (¬2)، حديث صحيح، وله وجهان: أحدها: أن يكون أباح لها الوفاء بالنذر المباح تطييبًا لقلبها، وجبرًا وتأليفًا لها على زيادة الإيمان وقوته وفرحها بسلامة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. والثاني: أن يكون هذا النذر قربة لما تضمنه من السرور والفرح بقدوم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سالمًا مؤيدًا منصورًا على أعدائه قد أظهره اللَّه وأظهر دينه، وهذا من أفضل القرب فأُمِرت بالوفاء [به] (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه، الرجل يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي من عرض الدنيا؟ فقال: "لا أَجَرَ له، فأعظم ذلك الناس فقالوا للرجل: أَعِد لرسول اللَّه فلعلك لم تفهمه. فقال الرجل: يا رسول اللَّه، رجلٌ يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي من عرض الدنيا؟ فقال: "لا أجر له" فأعظم ذلك الناس، فقالوا: أعد لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأعاد، فقال: "لا أجر له" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري في مواطن منها: (3352) في (الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}، و (3374) في (أحاديث الأنبياء): باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} من حديث أبي هريرة. (¬2) تقدم، وما بين المعقوفتين من المطبوع وحده. (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع وحده. (¬4) رواه أحمد (2/ 290 و 366)، وأبو داود (2516) في (الجهاد): باب في من يغزو ويلتمس الدنيا، وعلقه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 447)، وابن حبان (4637)، والحاكم (2/ 85)، وأبو نعيم في "الحلية" (10/ 171)، والبيهقي (9/ 169) من طرق عن ابن أبي ذئب عن القاسم بن عباس عن بكير بن عبد اللَّه بن الأشج، عن "مكرز، وقيل: ابن مكرز، وقيل يزيد بن مكرز، وقيل: أيوب بن مكرز" من بني عامر بن لؤي بن غالب عن أبي هريرة به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه! أقول: الراوي عن أبي هريرة صوابه ابن مكرز، وقيل: هو أيوب بن عبد اللَّه بن مكرز، وقيل: يزيد بن مكرز، وقد ذكره الحافظ ابن حجر في أيوب بن عبد اللَّه بن =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أُقاتِلُ أو أُسْلمُ؟ قال: "أَسْلِم، ثم قاتل" "فأسلم، ثم قاتل فقُتِل فقال رسول اللَّه (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا عمل قليلًا وأُجِر كثيرًا" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: ما أكثر ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسانه ثم قال: "هذا" (¬3). ¬

_ = مكرز، وكأنه يميل إلى أنه غير يزيد بن مكرز، ثم ذكر عن ابن المديني قوله في هذا الحديث: وابن مكرز مجهول. وذكره ابن حبان في الثقات!! فهذا إسناد ضعيف لجهالة راويه. لكن وجدت الحاكم (2/ 371) روى الحديث من طريق يزيد بن هارون عن ابن أبي ذئب عن بكير بن عبد اللَّه بن الأشج، عن الوليد بن مسلم عن أبي هريرة، وصححه على شرط مسلم. والوليد بن مسلم أظنه ذُكر في هذا الإسناد خطأً، ولا علاقة له، وكم في طبعة "المستدرك" من أخطاء!، ولا أعرف راويًا يروي عن أبي هريرة اسمه الوليد بن مسلم، والوليد بن مسلم المشهور من طبقة متأخرة. وتأكّد لي ذلك بعدم ترجمة ابن حجر في "إتحاف المهرة" (الوليد بن مسلم عن أبي هريرة)! وانظره (14/ 407 و 15/ 613، 728) والحديث له شاهد من حديث أبي أمامة، رواه النسائي (6/ 25)، والطبراني في "الكبير" (7628)، ولفظه: جاء رجل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه؛ أرأيت رجلًا يلتمس الخير والذكر ما لَه؟ قال: "لا شيء له. . . ". وحسنه العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 384)، وتلميذه في "الفتح"، وذكره شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (52). (¬1) كذا في المخطوط وفي المطبوع: "النبي". (¬2) رواه البخاري (2808) في (الجهاد): باب عمل صالحٌ قبل القتال، من حديث البراء -رضي اللَّه عنه-. وروى مسلم نحوه (1900) في (الجهاد): باب ثبوت الجنة للشهيد من حديث البراء أيضًا. (¬3) الحديث، يرويه الزهري وقد اختلف عليه. فرواه أحمد (3/ 413)، والترمذي (2415) في (الزهد): باب ما جاء في حفظ اللسان، والدارمي (2/ 298)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (6)، وابن ماجة (3972) في (الفتن): باب كف اللسان في الفتنة، وابن حبان (5699 و 5700 و 5702)، والطبراني (6396 و 6397)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1585)، والحاكم (4/ 313)، والبيهقي في "الآداب" (394)، والخطيب (11/ 78) من طرق عنه عن عبد الرحمن بن ماعز، وعند بعضهم: محمد بن عبد الرحمن بن ماعز عن سفيان بن عبد اللَّه الثقفي به، وفيه زيادة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: قل لي قولًا ينفعني اللَّه به وأقْلِل لعلي أعقله (¬1) فقال: "لا تغضب" فردَّد مرارًا كل ذلك يقول له: "لا تغضب" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن لي ضرة، فهل عليَّ جناح إن استكثرتُ من زوجي بما لا يعطيني؟ فقال: "المتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبيّ زُور" (¬3)، وكل هذه الأحاديث في الصحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأوصني بشيء أتشبّث به؟ فقال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر اللَّه" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ = أقول: عبد الرحمن بن ماعز هذا ويقال: ماعز بن عبد الرحمن ويقال: محمد بن عبد الرحمن بن ماعز، روى عنه جمع وذكره ابن حبان في "الثقات". ورواه ابن حبان (5698) من طريق ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن محمد بن أبي سويد عن جده سفيان به. ومحمد بن أبي سويد هذا لم يرو عنه غير الزهري، ولم يوثقه إِلا ابن حبان! ورواه أحمد (3/ 413 و 4/ 384 - 385)، والدارمي (2/ 296)، والطبراني (6398)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (1)، والخطيب (2/ 370 و 9/ 234 و 454) من طريق يعلى بن عطاء عن عبد اللَّه بن سفيان عن أبيه، وإسناده صحيح. (¬1) قال (د): "في نسخة: لعلي أفعله". (¬2) رواه أحمد (3/ 484 و 5/ 34 و 372)، وابن أبي شيبة (6/ 96)، وابن سعد (7/ 56)، وابن حبان (5689 و 5690)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1167)، والطبراني في "الكبير" (2094 و 2095 و 2096 و 2103 و 2106)، والخطيب في "تاريخه" (3/ 158)، والحاكم (3/ 615)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2/ رقم 1654) من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن الأحنف بن قيس عن جارية بن قُدامة فذكره. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين غير جارية صحابي الحديث، وقد اختلف فيه على هشام، وله طردتى أخرى أيضًا عن غير هشام فقد رواه أحمد (5/ 370)، وابن أبي شيبة (6/ 96)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1168)، والطبراني (2093 و 2097 و 2098 و 2099 و 2100 و 2101 و 2102 و 2104 و 2105 و 2107)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2/ رقم 1655، 1656) من حديث جارية على خلاف فيه. وقد بين الاختلاف في إسناده الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة جارية، وقال: رواه عنه أكثر أصحابه "أي أصحاب هشام بن عروة! عنه كما تقدم -أي بالإسناد الأول وصححه ابن حبان. (¬3) رواه البخاري (5219) في (النكاح): باب المتشبع بما لم ينل، وما ينهى عن افتخار الضرة، ومسلم (2130) في (اللباس والزينة): باب النهي عن التزوير في اللباس، من حديث أسماء بنت أبي بكر. (¬4) رواه أحمد (4/ 188 و 190)، وابن أبي شيبة (10/ 301)، والترمذي (3384) في =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أرسل ناقتي وأتوكل على اللَّه؟ فقال: "بل اعْقِلها وتوكل" (¬1)، رواه (¬2) ابن حبان والترمذي. وقال له -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: يا رسول اللَّه ليس عندي ما أتزوج به، فقال (¬3): "أوليس معك {قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ} " قال: بلى، قال: "ثلث (¬4) القرآن" قال: "أليس معك {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} " قال: بلى. قال: "ربع القرآن" قال: "أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ [الْأَرْضُ]} (¬5) "؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن". قال: "أليس معك {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ [وَالْفَتْحُ] (¬6)} "؟ قال: بلى، قال: "ربع القرآن، أليس معك آية ¬

_ = (الدعوات): باب ما جاء في فضل الذكر، وابن ماجة (3793) في (الأدب): باب فضل الذكر، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1356 و 1357)، وابن حبان (814)، والحاكم (1/ 495)، والبيهقي في "الدعوات الكبير" (رقم 9) و"الشعب" (1/ 317)، والبغوي (5/ 16)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 111 - 112) من طرق عن عمرو بن قيس عن عبد اللَّه بن بُسر به. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. (¬1) رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (970 و 971)، وابن حبان (731)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (633)، والحاكم (3/ 623)، وأبو نعيم في "المعرفة" (4/ رقم 5009، 5010) من طريق يعقوب بن عمرو بن عبد اللَّه عن جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه به. قال الذهبي: سنده جيد. أقول: يعقوب هذا ذكره ابن حبان في "الثقات" (7/ 640)، وقال في "صحيحه": مشهور مأمون، فهذا توثيق عزيز من ابن حبان، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 303): رواه الطبراني من طرق ورجال أحدها رجال الصحيح غير يعقوب بن عبد اللَّه بن عمرو بن أمية الضمري، وهو ثقة. تنبيه: عزا ابن القيم الحديث للترمذي، وقد روى الترمذي نحوه (2522) في (صفة القيامة): باب (59)، وابن خزيمة في "صحيحه" في (التوكل) -كما في "إتحاف المهرة" (2/ رقم 1848) - من طريق يحيى بن سعيد القطان: حدثنا المغيرة بن أبي قرّة السدوسي، عن أنس قال رجل: يا رسول اللَّه أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ ونقل الترمذي وابن خزيمة عن يحيى القطان قوله: وهذا عندي حديث منكر. قال الترمذي: هذا حديث غريب من حديث أنس لا نعرفه إِلا من هذا الوجه. (¬2) في المطبوع: "ذكره". (¬3) في المطبوع: "ليس عندي يا رسول اللَّه ما أتزوج به، قال". (¬4) في (ك): "ربع" والمثبت من المطبوع. (¬5) ما بين المعقوفتين من المطبوع وحده. (¬6) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط.

الكرسي"؟ قال، بلى. قال: "ربع القرآن"، [قال] (¬1): "تزوَّجْ، تزوَّج، تزوَّجْ، ثلاث مرات" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- معاذ فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إن كانت (¬3) علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك فما تأمرنا في أمرهم؟ قال: "لا طاعة لمن لم يطع اللَّه" (¬4)؟ ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه أحمد (3/ 146 - 147، 221)، والترمذي (2900) في (فضائل القرآن): باب ما جاء في {إِذَا زُلْزِلَتِ} وابن عدي (2/ 1180)، وابن الأنباري في "الرد على الرافضة" كما في "تفسير القرطبي" (20/ 224) -وابن الضريس في "فضائل القرآن" (رقم 297)، والبزار (3/ 88 - كشف الأستار)، والخطيب (11/ 380)، والواحدي في "الوسيط" (4/ 541)، والثعلبي في "التفسير" (ق 135 / أوق 170/ أ)، والذهبي في "السير" (16/ 280) - من طرق عن سلمة بن وردان عن أنس به. قال الترمذي: هذا حديث حسن. أقول: سلمة بن وردان هذا ضعفه ابن معين، وقال أحمد: منكر الحديث ليس بشيء، وقال أبو حاتم: عامة ما عنده عن أنس منكر، ونحوه قال الحاكم، وقال الذهبي: وصدق الحاكم وللحديث طرق عديدة عن أنس، وله شواهد من غير ذكر الزواج، انظرها في "موسوعة فضائل سور وآيات القرآن" (2/ 301، 357، 479) و"السلسلة الصحيحة" (586) و"السلسلة الضعيفة" (1342) و"تالي التلخيص" للخطيب (2/ 432 - 433) وتعليقي عليه. (¬3) في المطبوع "كان" والمثبت من (ك). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 213)، وأبو يعلى (4046)، والبخاري في "تاريخه الكبير" (6/ 332 - 333) من طرِيق عبد الصمد: حدثنا حرب بن شداد: حدثنا يحيى بن أبي كثير: حدثني عمرو بن زُنَيب عن أنس به. قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 225): وفيه عمرو بن زينب ولم أعرفه وبقبة رجاله رجال الصحيح. أقول: عمرو بن زينب هذا ترجمه البخاري في "تاريخه الكبير"، وذكر حديثه هذا. وترجمه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 233)، وقال: "واختلفوا فيه سمعت أبي يقول ذلك". قلت: هو يريد الخلاف في ضبط اسم أبيه، كما ذكره الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة" (ص 310)، ونقل عن ابن حبان توثيقه، ولم يذكر له راويًا غير يحيى بن أبي كثير، ثم وجدت له راويًا آخر غير يحيى، وهو حجاج بن حجاج الباهلي، فقد رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 332) قال أحمد بن أبي عمرو: حدثنا أبي سمع إبراهيم عن حجاج بن حجاج عن عمرو بن زينب عن أنس به. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أنس أن يشفع له، فقال: "إني فاعل" قال: فأين أطلبك يوم القيامة؟ قال: "اطلبني أول ما تطلبني على الصراط" قلت: فإذا لم ألقك على الصراط؟ قال: "فأنا على الميزان" قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فأنا عند الحوض لا أُخطئ هذه الثلاث مواطن يوم القيامة" (¬1)، ذكرهما أحمد. وسأل -صلى اللَّه عليه وسلم- الحجاج بن عِلَاط فقال: إنَّ لي بمكة مالًا، وإن لي بها أهلًا وأريد أن آتيهم، فأنا في حِلّ إن أنا نلت منك أو قلت شيئًا؟ فأذن له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬

_ = وأحمد هذا هو ابن حفص بن عبد اللَّه بن راشد، هو وأبوه أخرج لهما البخاري في "صحيحه"، وإبراهيم هو ابن طهمان من الثقات، والحجاج الباهلي ثقة أيضًا. فرواية الثقتين عن عمرو هذا وتوثيق ابن حبان له قد يقوي أمره. ورواه البخاري (6/ 333) من طريق ابن عُلَيَّة عن علي بن المبارك: حدثنا يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن فلان عن أنس به. أقول: ولعله هنا قال: عمرو بن فلان للاختلاف في ضبط اسم أبيه، كما سبق فلا إشكال -إن شاء اللَّه تعالى-. ولمتن الحديث شواهد كثيرة في "الصحيحين" وغيرهما. (تنبيه): وجدت الحافظ ابن حجر في "الفتح" (3/ 123) ذكر الحديث بنفس المتن، وعزاه لأحمد من حديث معاذ! ولم أجده عند أحمد من حديث معاذ لا بلفظه ولا بمعناه، وله في حديثنا ذكر، وانظر: "إتحاف المهرة" (2/ 152). (¬1) رواه أحمد (3/ 178) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (7/ 246)، والمزي في "تهذيب الكمال" (5/ 537) -، والترمذي (2438) في (صفة القيامة): باب ما جاء في شأن الصراط -ومن طريقه اللالكائي (2220) وابن ناصر الدين في "منهاج السلامة" (ص 82 - 83) - والدينوري في "المجالسة" (30 - بتحقيقي) -ومن طريقه الضياء (7/ رقم 2694) - والبزار (6/ ق 1/ أ) والمحاملي وأبو يعلى -ومن طريقهم الضياء (7/ 247) - والخطيب في "الموضح" (1/ 97 - 98) من طرق عن حرب بن ميمون: حدثنا النضر بن أنس عن أبيه أنس بن مالك (فذكره). قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إِلا من هذا الوجه. قلت: فرق غير واحد بين حرب بن ميمون وأبي عبد الرحمن الأنصاري صاحب "الأغمية" الذي أخرج له مسلم، وأفاض المزي في "تهذيب الكمال" في التفرقة، وقال: "وقد جمعهما غير واحد، وفرق بينهما غير واحد وهو الصحيح إن شاء اللَّه" وكذلك فعل ابن ناصر الدين في "منهاج السلامة" (ص 83)، وانظر: "الموضح" (1/ 98 - 101) وتعليق ذهبي العصر المعلِّمي عليه، ومال إلى تضعيف الخبر بتفرد حرب، وأن مسلمًا لم يخرج له. وعزاه المزي إلى ابن ماجة في "التفسير" وعزاه ابن ناصر الدين إلى "تاريخ ابن أبي خيثمة".

أن يقول ما شاء (¬1)، ذكره أحمد. وفيه دليل على أن الكلام إذا لم يرد به قائله معناه إما لعدم قصده له، أو لعدم علمه به، أو أَنه أراد به غير معناه، لم يلزمه ما لم يُرِدْه بكلامه، وهذا هو دين اللَّه الذي أرسل به رسوله، ولهذا لم يُلزم المكره على التكلّم بالكفر؛ الكفر، ولم يُلزم زائل العقل بجنون أو نوم أو سكر ما تكلَّم به، ولم يلزم الحجاج بن علاط حكم ما تكلَّم به؛ لأنه أراد به غير معناه، ولم يعقد قلبه عليه، وقد قال اللَّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وفي الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فالأحكام في الدنيا والآخرة مرتبة على ما كسبه القلب وعقد عليه وأراده من معنى كلامه (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه، إن نساءً في الجاهلية أسعدتنا (¬3)، يعني في النَّوح، أفنسعدهنّ (¬4) في الإسلام؟ فقال: "لا إسعاد في الإسلام، ولا شِغَار في الإسلام، ولا عَقْرَ في الإسلام، ولا جَلَب في الإسلام، ومن انتهب فليس منا" (¬5)، ذكره أحمد. فالإسعاد (¬6) إسعاد المرأة في مصيبتها بالنَّوح، والشِّغار أن يزوِّج الرجل ابنته على أَن يزوجه الآخر ابنته، والعَقْر: الذبج على قبور الموتى. والجَلَب: الصياح على الفرس في السباق، والجنب (¬7): أن يجنب فرسًا فإذا أَعيت فرسه انتقل إلى تلك في المسابقة. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر: كلامه -رحمه اللَّه- أيضًا في المعاريض في "إغاثة اللفهان" (2/ 105). (¬3) في المطبوع: "ان نساءً أسعدنني في الجاهلية". (¬4) في المطبوع: "أفأسعدهن". (¬5) رواه عبد الرزاق (6690)، ومن طريقه أحمد (3/ 197)، والنسائي (4/ 16) في (الجنائز): باب النياحة على الميت، وابن حبان (3146)، والبيهقي (4/ 62) عن معمر عن ثابت عن أنس به، وهذا إسناد على شرط الشيخين. وروى بعضه عبد الرزاق (10434)، عن معمر عن ثابت وأبان عن أنس. (¬6) في المطبوع: "والإسعاد". (¬7) يذكر الجنب في لفظ الحديث" (ط). قلت: هنا في المطبوع من "إعلام ابن القيم" لم يذكر "الجنب" أما الحديث في مصادره فمذكورة هذه اللفظة، وانظر "الفروسية" للمصنف (167 - تحقيقي).

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- بعض الأنصار، فقالوا: قد كان لنا جملٌ نسير (¬1) عليه، وإنه قد استصعب علينا، ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل فقال لأصحابه: قوموا. فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته فمشى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا نبي اللَّه، إنه قد صار مثل الكَلْب الكَلِبِ، وإنَّا نخاف عليك صولته، فقال: "ليس عليَّ منه بأس" فلمَّا نظر الجمل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خرَّ ساجدًا بين يديه، فأخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بناصيته أَذل ما كان قط حتى أدخله في العمل فقال له الصحابة: يا نبي اللَّه هذا بهيمة لا تعقل، تسجد لك ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَمِ حقِّه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه تتبجّس (¬2) بالقيح والصديد، ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه" (¬3)، ذكره أحمد، فأخذ المشركون مع مريديهم بسجود الجمل ¬

_ (¬1) رواية "المسند": "كان أهل بيت من الأنصار لهم جمل يَسْنُون عليه" ومعنى "يسنون عليه" يستقون عليه بالسانية، والسانية هنا: الغرب. وهو الدلو الكبير، وحاصله أنهم يخرجون الماء من البئر بالدلو الكبير، ويجرُّ هذا الدّلو جمل مربوط به، ووقع في جميع الأصول والنسخ المطبوعة: "نسير"!! (¬2) في مطبوع "المسند": "ننجبس" والمثبت منه (20/ 65 - ط. مؤسسة الرسالة)، ومن (ك)، وفي سائر النسخ: "يتنجس"! وقال (د): "وربما قرئت بتبجس". (¬3) رواه أحمد (3/ 158)، -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (1895) - والنسائي في "عشرة النساء" (265 - آخره فقط) أو "الكبرى" (9147)، والبزار (2454)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (رقم 287) من طرق عن خلف بن خليفة عن حفص بن أخي أنس، عن أنس به. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (9/ 4): رواه أحمد والبزار ورجاله ثقات رجال الصحيح غير حفص ابن أخي أنس وهو ثقة. وقال المنذري: "رواه أحمد بإسناد جيد، رواته ثقات مشهورون والبزار بنحوه". قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (7/ 55): وهو كما قالا -أي الهيثمي والمنذري- لولا أن خلف بن خليفة -وهو من رجال مسلم وشيخ أحمد فيه، وكان اختلط، فلعل أحمد سمع منه قبل اختلاطه. أقول: نعم خلف تغير في آخر عمره، واختلط قال أحمد بن حنبل: دخلت عليه فرأيته قد اختلط -أي خلف- فلم أسمع منه، لكن أحمد هنا لا يروي عن خلف مباشرة كما قال شيخنا، وهو كذلك في مطبوع "المسند" ولكن بينهما (حسين) كما في "إتحاف المهرة" (1/ 601) و (20/ 64 - ط. مؤسسة الرسالة). وحسين المروذي روى عنه بعد اختلاطه وقد انفرد بقوله: "والذي نفسي بيده لو كان قدمه. . . " فالحديث صحيح دونها. =

لرسول اللَّه وتركوا قوله: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر" وهؤلاء من الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: إن أهل الكتاب يحتفُون (¬1) ولا ينتعلون [يعني] (¬2) في الصلاة، فقال: "فتحفوا (¬3)، وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب" قالوا: فإن أهل الكتاب يقصُّون عثانِينَهم ويوفِّرون سِبَالهم (¬4)، فقال: "قصوا سِبَالكم، ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب" (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ = وله شاهد قريبًا منه دون ذكر القَرْحة والجمل، رواه أبو نعيم (286)، والبيهقي (6/ 29) كلاهما في "دلائل النبوة" من طريق فائد بن عبد الرحمن أبي الورقاء عن عبد اللَّه بن أبي أوفى نحوه. وفائد هذا متروك، قال البخاري: منكر الحديث، وأحسن فيه ابن عدي القول فقال: وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وأخرجه أحمد (4/ 381)، وابن صاعد في "مسند عبد اللَّه ابن أبي أوفى" (رقم 5)، وابن حبان (4171)، والبيهقي (7/ 292)، من طرق أخرى، وهو حسن. وله شاهد مختصر دون ذكر قصة الجمل والقرحة أيضًا من حديث أبي هريرة، رواه الترمذي (1161) في (الرضاعة): باب ما جاء في حق الزوج على المرأة، وابن حبان (4162)، والبزار (2451)، والبيهقي (7/ 291) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عنه، وإسناده حسن. وآخره له شاهد عن جمع من الصحابة، انظرها مفصلة في "إرواء الغليل" (7/ 54 - 58). (¬1) في (ك): "يتحفون"!! (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) في المطبوع: "قال، فاحنقوا". (¬4) قال (ط): "السبال -جمع سبلة-: الشارب، والعثانين -جمع عثون-: اللحية" ونحوه في (ح) و (د)، وانظر: "النهاية في غريب الحديث" (2/ 339 و 3/ 183 - دار الفكر). (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 264 - 265)، والطبراني في "الكبير" (7924)، وذكره ابن أبي حاتم في "علله" (2/ 239) من طريق زيد بن يحيى بن عبيد عن عبد اللَّه بن العلاء بن زبر -في معجم الطبراني: زيد وهو خطأ- قال: حدثنا القاسم بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن عن أبي أمامة به. قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 131 و 160): ورجال أحمد رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة، وفيه كلام لا يضر. أقول: زيد بن يحيى هذا لم يرو له الشيخان، وهو من الثقات، وحسّن الحافظ ابن حجر الحديث في "الفتح" (10/ 354). وقد ذكر ابن أبي حاتم هذا الحديث في "علله" وسأل أباه عنه فقال: سألت شعيب بن شعيب، وكان ختن زيد بن يحيى على ابنته فسألته أن يخرج إليّ كتاب عبد اللَّه بن العلاء فأخرج إليّ الكتاب فطلبت هذا الحديث وحديثًا آخر. . فلم أجد لهما أصلًا في كتابه، وليس هما بمنكرين يُحتمل. =

فصل [فتاوى في أنواع البيوع]

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا نبي اللَّه مررت بغَارٍ فيه شيء من ماء فحدَّثت نفسي بأن أقيم فيه فيقوتني ما فيه من ماء وأصيب ما حوله من البقل وأتخلّى عن الدنيا؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنّي لم أُبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة (¬1) في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خيرٌ من صلاته ستين سنة" (¬2). فصل [فتاوى في أنواع البيوع] وأخبرهم أَنَّ اللَّه سبحانه وتعالى حرَّم عليهم بيع الخمر والميتة والخنزير والأنصاب (¬3) فسألوه، وقالوا: أرأيت شحوم الميِّتة، فإنَّه يُطلى بها السفن ويُدهن بها الجلود ويَستصبح بها الناس؟ فقال: "هو حرام"، ثم قال: "قاتل اللَّه اليهود، إن (¬4) اللَّه لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه وأكلوا ثمنه" (¬5). وفي قوله: "هو حرام" قولان: أحدهما: أن هذه الأفعال حرام. والثاني: أن البيع حرام، وإن كان المشتري يشتريه لذلك، والقولان مبنيان على أنَّ السؤال منهم هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع [المذكور] (¬6) أو وقع عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختيار شيخنا، وهو الأظهر لأنه لم يخبرهم أولًا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع، فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا لانتفاع فلم يرخص لهم في البيع، ولم ينههم عن ¬

_ = (تنبيه): لفظ الحديث في "المسند" و"المعجم": فقلنا: يا رسول اللَّه: أهل الكتاب لا يتخففون ولا ينتعلون فقال: تخففوا وانتعلوا. . . قارن بما هو هنا! (¬1) "الغدوة: المرة من الغدو، وهو سير أول النهار، نقيض الرواح" (و). (¬2) رواه أحمد (5/ 266)، والطبراني في "الكبير" (7868) من طريق أبي المغيرة: حدثنا معان بن رفاعة: أخبرني علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة به. قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 279): وفيه علي بن يزيد الألهاني وهو ضعيف. أقول: وقوله: "بعثت بالحنيفية السمحة" سبق تخريجه. وقوله: "لغدوة في سبيل اللَّه أو رحمة خير من الدنيا وما فيها" له شواهد في "الصحيح". (¬3) في المطبوع: "وعبادة الأصنام". (¬4) في المطبوع: "فان". (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو طلحة عن أيتام ورثوا خمرًا؟ فقال: "أهرقها" قال: أفلا أجعلها خلًا؟ قال: "لا" (¬1)، حديث صحيح، وفي لفظ: إن أبا طلحة قال: يا رسول اللَّه إني اشتريتُ خمرًا لأيتام في حِجْري؟ فقال: "أهْرِق الخمر واكسر الدِّنَان" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 119 و 180) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (31/ 391) - وأبو داود (3675) في (الأشربة): باب ما جاء في الخمر يتخلل، وأبو يعلى (4051)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3335 و 3337)، وابن الجارود في "المنتقى" (ص 290)، وأبو عوانة في "مسنده" (5/ 274 - 275)، وأبو يعلى (4045)، والدارقطني (4/ 265)، والبيهقي (6/ 37) من طرق عن سفيان عن السدي عن أبي هبيرة يحيى بن عباد عن أنس أن أبا طلحة سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. ورواه أحمد (3/ 260)، والدارمي (2/ 118)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3338)، والدارقطني (4/ 265)، والبيهقي (6/ 37) من طرق عن إسرائيل عن السدي به، وإسناده على شرط مسلم كذلك. وحديث أنس في "صحيح مسلم" (1983) أن رجلًا قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: عندي خمر، فقال: صبَّها، قال: أأجعلها خلًا؟ قال: لا، وانظر ما بعده. (¬2) رواه الترمذي (1296) في (البيوع): باب ما جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك والطبراني في "المعجم الكبير" (4712، 4713، 4714) والدارقطني (4/ 265) من طريق المعتمر بن سليمان عن الليث عن يحيى بن عباد عن أنس عن أبي طلحة. وهو نفس الحديث السابق جعله الليث من مسند أبي طلحة. قال الترمذي: وروى الثوري هذا الحديث عن السدي عن يحيى بن عباد عن أنس أن أبا طلحة كان عنده، وهذا أصح من حديث الليث. أقول: والليث هذا هو ابن أبي سليم الضعيف. وقد توبع، تابعه قيس بن الربيع. أخرجه الطحاوي في "مشكل الآثار" (3339)، وقيس هذا ضعيف أيضًا وليس في رواية قيس هذا: "واكسر الدنان". وأخرجه أحمد (3/ 181) من طريق يحيى القطان عن حميد عن أنس عنه بنحوه. وحديث الترمذي ذكره الحافظ ابن حجر في "الفتح" (5/ 122) تعليقًا على ترجمة البخاري في "صحيحه" باب هل تكسر الدنان التي فيها الخمر وتخرّق الزقاق؟ فذكره الحافظ وذكر الحديث الآخر في تخريق الزقاق، وقال: "فأشار المصنف إلى أن الحديثين إن ثبتا فإنما أمر بكسر الدنان وشق الزقاق عقوبة لأصحابها، وإلا فالانتفاع بها بعد تطهيرها ممكن كما دل عليه حديث سلمة أول أحاديث الباب".

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حكيم بن حزام فقال: الرجل يأتيني ويريد منّي البيع وليس عندي ما يطلب أفأبيع منه، ثم ابتاع من السوق؟ قال: "لا تَبع ما ليس عندك" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا فقال: إني أَبتاع هذه البيوع فما يحلُّ لي منها، وما يحرم عليَّ منها؟ قال: "يا ابن أخي، لا تَبيعنَّ شيئًا حتى تقبضه" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه ابن أبي شيبة (6/ 129) والشافعي (2/ 143) وأحمد (2/ 402 و 434)، وأبو داود (3503) في (البيوع): باب الرجل يبيع ما ليس عنده، والترمذي (1235 و 1236) في (البيوع): باب كراهية بيع ما ليس عندك، والنسائي (7/ 289) في (البيوع): باب بيع ما ليس عند البائع وابن ماجه (2187) في (التجارات): باب النهي عن بيع ما ليس عندك، وابن الجارود (602)، والطبراني في "الكبير" (3097 - 3105) و"الأوسط" (5139) و"الصغير" (770) والبيهقي (5/ 267) من طرق عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن حزام به. قال الترمذي: هذا حديث حسن، ونقل عنه الحافظ في "التلخيص" (3/ 5): حسن صحيح. لكن ورد الحديث من طريق آخر عن يوسف بن ماهك، بزيادة عبد اللَّه بن عصمة بينه وبين حكيم بن حزام، وهو الحديث الذي بعده. والحديث رواه الشافعي (2/ 143)، وأحمد (3/ 403)، والنسائي (7/ 286)، والطبراني (3096 و 3110 و 31312 و 3137 - 3146)، وابن حبان (4985)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 38) من طرق عن حكيم بن حزام به، وانظر ما بعده لزامًا. (¬2) رواه أحمد (3/ 402)، والطيالسي (1318) وعبد الرزاق (4/ 1421)، والنسائي -كما في "تحفة الأشراف" (3/ 76) - وابن الجارود (602)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 41)، وابن حبان (4983)، وابن الجارود (602)، والدارقطني (2/ 8 - 9 و 9)، والبيهقي (5/ 313) من طرق عن يحيى بن أبي كثير أن يعلى بن حكيم حدثه أن يوسف بن ماهك حدثه أن عبد اللَّه بن عصمة حدثه أن حكيم بن حزام حدثه. . . (فذكره). قال البيهقي: إسناده متصل. أقول: عبد اللَّه بن عصمة هذا روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" لكن قال عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (6/ 253) إن عبد اللَّه هذا ضعيف جدًا، قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 5): ولم يتعقبه ابن القطان بل نقل في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 320) عن ابن حزم أنه قال فيه: مجهول، وهو جرح مردود فقد روى عنه ثلاثة واحتج به النسائي. ورواه الطحاوي (4/ 41) من طريق الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: حدثني يعلى بن حكيم بن حزام أن أباه سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بإسقاط يوسف وعبد اللَّه بن عصمة. ورواه الشافعي (2/ 143)، وأحمد (3/ 403)، والنسائي (7/ 286)، والطحاوي (4/ 38) من طرق عن ابن جريج عن عطاء عن عبد اللَّه بن عصمة عن حكيم بن حزام. =

وعند النسائي: "ابتعتُ طعامًا من طعام الصدقة فربحت فيه قبل أن أقبضه فأتيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت له ذلك، فقال: "لا تبعه حتى تقبضه" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإشقاح (¬2) الذي إذا وجد جاز بيع الثمار، فقال: "تَحمارُّ وتَصفارُّ ويؤكل منها" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ما الشيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال: "الماء" قال: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح" قال: ثم ماذا؟ قال: "النار"، ثم سأله -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "أن تفعل الخير خير لك" (¬4)، ذكره أبو داود. ¬

_ = والحديث صححه شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (5/ 1132)، وانظر مفصلًا "نصب الراية" (4/ 32 - 33). وفي "صحيح البخاري" (2135)، ومسلم (1525) عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من اشترى طعامًا فلا يبعه، حتى يقبضه" قال ابن عباس: وأَحسب كل شيء بمنزلة الطعام. وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. له طرق كثيرة عن عمرو، وهو حديث قوي انظر: "رسالة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" (رقم 8) لأحمد عبد اللَّه. (¬1) رواه النسائي (7/ 286) في (البيوع): باب بيع الطعام فبل أن يستوفي والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 38)، وابن حبان (4985)، والطبراني في "الكبير" (3110) من طريق أبي الأحوص عن عبد العزيز بن رُفَيع عن عطاء بن أبي رباح عن حزام بن حكيم عن حكيم بن حزام به. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وانظر: "إتحاف المهرة" (4/ 325 - 327) فله طرق أخرى. (¬2) كذا في (ك) وهو الصواب، وفي كافة النسخ المطبوعة: "الصلاح". (¬3) رواه البخاري (2196) في (البيوع): باب بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، ومسلم (1536) بعد (83 و 84) في (البيوع): باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، من حديث جابر، ولفظه: "نهى عن بيع الثمرة حتى تُشْقِح" فقيل: وما تشقح؟ قال: "تحمار وتصفار ويؤكل منها". وفي رواية عند مسلم: حتى تشقِه. وظاهر لفظ مسلم أن تفسير الإشقاح من الراوي وليس من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وفي حديث أنس عند البخاري (1488) أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قال: "حتى تحمار". (¬4) رواه أبو داود (1669) في (الزكاة): باب ما لا يجوز منعه، و (3476) في (البيوع): باب في منع الماء، ومن طريقه البيهقي (6/ 150)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة =

وسئل أن يحجر على رجل يُغبن في البيع لضعف في عقدته، فنهاه عن البيع ¬

_ = الأشراف" (11/ 228 - 229) - وأحمد (3/ 481)، والدارمي (2/ 269) من طرق عن كهمس: حدثني سيار بن منظور الفزاري عن أبيه (سقط عن أبيه من مطبوع "سنن الدارمي" وهو فيه، كما في "إتحاف المهرة" (16/ 2/ 778)) عن بُهيسة الفزارية عن أبيها به. هكذا رواه يزيد بن هارون وأبو أسامة وغيرهما، عن كهمس عن سيار بن منظور. لكن رواه وكيع عن كهمس فقال: عن منظور -كذا بالظاء في "أطراف المسند" (8/ 357) ومخطوطة "المسند" (2/ ق 324 - نسخة الحرم المكي) وكذا نقله المزي كما سيأتي، وفي مطبوع "المسند" "منصور" بالصاد، وفي "إتحاف المهرة" (16/ 2/ 778): "سيار بن منطور بن سيار"!! على الجادة، والصواب أن وكيعًا أخطأ فيه، انظر "تهذيب الكمال" (12/ 311) - سيار بن منظور. رواه أحمد في "مسنده" (3/ 485) عنه، قال المزي في "تحفة الأشراف" (11/ 229): إلا أن وكيعًا قال: "منظور بن سيار" وهو معدود في أوهامه. أقول: والحديث ذكره الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 65) وقال: وأعله عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (6/ 272)، وابن القطان، في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 262)، بأنها لا تعرف (أي بهيسة) لكن ذكرها ابن حبان وغيره في الصحابة، وقال في "النكت الظراف" (11/ 228): ذكر ابن حبان بهيسة في الصحابة، وعلى هذا فالحديث من مسندها، وفي السياق ما يرشد إليه. أقول: نعم، في سياق أحمد ما يدل على ذلك ففيه عن بهيسة قالت: استأذن أبي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فجعل يدنو منه. . . لكن ذكرها الحافظ في "الإصابة" في القسم الأول وقال: قال ابن حبان: لها صحبة، ولولا قول ابن حبان بأن لها صحبة لما كان في الخبر ما يدل على صحبتها؛ لأن سياق ابن منده أن أباها استأذن وسياق أبي داود والنسائي عن أبيها أنه استأذن وهو المعتمد. وقد ترجم لأبيها في "أبو بهيسة" وذكر اختلافًا في الإسناد وقال: وذكر ابن عبد البر في اسم والد بهيسة "عميرًا" وقد تقدم في العين. وفي عمير ذكر أن أبا عمر بن عبد البر سماه كذلك قال: ولم أره لغيره، ويأتي في الكنى. فلم يحرر -رحمه اللَّه- شيئًا، وله من مثل هذا في كتابه مما يدل على أنه لم يكمل كتابه هذا، وقد عزم السخاوي على تتميمه، ولا أدري أفعل أم لا، انظر كتابنا "مؤلفات السخاوي" (ص 144). وأرجح أنه إن صح الخبر الصحبة لأبيها لأن سياق أكثر الروايات يدل على ذلك. لكن في صحة الخبر نظر، فإن سيار بن منظور هذا وأبوه جهلهما ابن القطان، في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 262). وله شاهد قريبًا منه، رواه ابن ماجه (2474)، والمزي في "تهذيب الكمال" (9/ 419 - 420)، وضعفه ابن حجر في "التلخيص" (3/ 65)، والبوصيري في "الزوائد"، وانظر: "التلخيص"، و"السلسلة الضعيفة" (رقم 120).

فقال: لا أصبر عنه، فقال: "إذا بايعت فقل: لا خِلَابة (¬1)، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاثًا" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل ابتاع غلامًا فأقام عنده ما شاء اللَّه أن يقيم، ثم وجد به عيبًا فرده عليه، فقال البائع: يا رسول اللَّه قد استعمل (¬3) غلامي، فقال: "الخراج بالضمان" (¬4)، ذكره أبو داود. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إني امرأة أَبيع وأَشتري، فإذا أردتُ أن أَبتاعَ الشيء سُمتُ به أقل مما أريد، ثم زدت حتى أَبلغ الذي أريد، وإذا أردت أَنْ أبيع الشيء سمت به أكثر من الذي أريد، ثم وضعت حتى أبلغ الذي أريد فقال: "لا تفعلي؛ إذا أردت أن تبتاعي شيئًا فاستامي به الذي تريدين أعطيتِ أو منعتِ، وإذا أردت أن تبيعي شيئًا فاستامي به الذي تريدين أعطيت أو منعت" (¬5)، ذكره ابن ماجه. ¬

_ (¬1) "خداع" وفي رواية: "لا خيانة" وكأنها لثغة من الراوي أبدل اللام ياء" (و). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) في المطبوع: "استغل" والمثبت من (ك). (¬4) قال (و): "يريد الخراج ما يحصل من غلة العين المبتاعة عبدًا كان أو أمة، أو ملكًا، وذلك يشتريه فيستغله زمانًا، ثم يعثر منه على عيب قديم لم يطلعه عليه البائع أو لم يعرفه، فله رد العين المبيعة، وأخذ الثمن، ويكون للمشتري ما استغله؛ لأن المبيع لو كان تلف في يده لكان من ضمأنه، ولم يكن على البائع شيء، والباء في "بالضمان" متعلقة بمحذوف تقديره: الخراج مستحق بالضمان -"عن النهاية" وقال (ط): "انتفاع المشتري بالعبد في مقابل ضمانه للعبد إذا هلك في يده". والحديث أخرجه أبو داود في "السنن" كتاب البيوع والإجارات، باب فيمن اشترى عبدًا فاستعمله ثم وجد به عيبًا، (3/ 777 - 779 رقم 3508 - 3510)، والترمذي في "جامعه" أبواب البيوع، باب ما جاء فيمن يشتري العبد ويستغله ثم يجد به عيبًا، (3/ 581 - 582/ رقم 1285)، والنسائي في "المجتبى" كتاب البيوع، باب الخراج بالضمان، (7/ 254 - 255)، وابن ماجه في "السنن" كتاب التجارات، باب الخراج بالضمان، (2/ 754/ رقم 2242 - 2243)، وأحمد في "مسنده" 61/ 49، 161، 208، 237)، والطيالسي في "مسنده" (رقم 1464)، والشافعي في "مسنده" (رقم 479)، وابن حبان في "الصحيح" (رقم 1125، 1126 - موارد)، وابن الجارود في "المنتقى" (رقم 626، 627)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 21 - 22)، والدارقطني في "السنن" (3/ 53)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 15)، والبيهقي في "الكبرى" (5/ 321)، والبغوي في "شرح السنة" (8/ 162 - 163)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1702)، والخطيب في "التاريخ" (8/ 297 - 298)، عن عائشة. والحديث صحيح. (¬5) رواه ابن ماجه (2204) في (التجارات): باب السوم، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلال عن تمر رديء باع منه صاعين بصاع جيّد، فقال: "أوَّه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بيعًا آخر، ثم اشْترِي بالثمن" (¬1)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- البراء بن عازب فقال: اشتريتُ أنا وشريكي شيئًا يدًا بيد ونسيئة، فسألنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أما ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه" (¬2)، ذكره البخاري، وهو صريح في تفريق الصفقة، وعند النسائي عن البراء قال: كنت [أنا] (¬3) وزيد بن أرقم تاجِرَيْن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسألناه عن الصرف، فقال: "إن كان يدًا بيد، فلا بأس، وإن كان نسيئة، فلا يصْلح" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- فَضَالة بن عُبيد عن قِلَادة اشتراها يوم خيبر باثني عشر دينارًا [فيها ذهب وخَرَز ففصَّلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا] (¬5) فقال: "لا تباع حتى ¬

_ = (8/ 311 - 312)، وعلقه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 418)، والطبراني في "الكبير" (4/ 25)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ رقم 7817)، والمزي في "تهذيب الكمال" (32/ 386 - 387) من طريق يعلى بن شبيب قال: حدثنا عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم (وفي "معجم الطبراني" عبد اللَّه بن أعين، وهو تحريف) عن قَيْلة أُمّ بني أنمار به. قال البوصيري (2/ 13): "ليس لقيلة هذه عند ابن ماجه سوى هذا الحديث، وليس لها شيء في الخمسة الأصول والإسناد إليها منقطع". قال المزي في "الأطراف": ابن خثيم عن قيلة فيه نظر، وقال الذهبي في "الكاشف": قيلة أم رومان عنها ابن خثيم مرسلًا، وله شاهد في "الصحيحين" وغيرهما من حديث جابر". أقول: وعزا حديثها ابن حجر في "الإصابة" (4/ 381) لابن السكر قال: ووقع في روايته أن عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم، أنه سمع قيلة. وأظنه وهمًا وذلك لأن عبد اللَّه هذا توفي سنة (132) فمن المستبعد أن يكون أدرك قيلة هذه، والحديث في "ضعيف سنن ابن ماجه" (479). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (2497 و 2498) في (الشركة): باب الاشتراك في الذهب والفضة من حديث البراء. (¬3) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬4) عزاه المؤلف للنسائي وهو بلفظه في "صحيح البخاري" (2060 و 2061) في (البيوع): باب التجارة في البز وغيره، و (3939 و 3940) في (مناقب الأنصار): باب (51) من حديث البراء أيضًا. (¬5) ما بين المعقوفتين من (ك)، وهو في "سنن النسائي" (7/ 280) في (البيوع): باب بيع الفضة بالذهب نسيئة.

تفصل" (¬1)، ذكره مسلم، وهو يدل على أن مسألة مُد عجوة لا تجوز إذا كان أحد العوضين فيه ما في الآخر وزيادة، فإنه صريح الربا. والصواب أن المنع مختص بهذه الصورة التي جاء فيها الحديث وما شابهها من الصور. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الفَرَس بالأفراس والنَّجيبة بالإبل؟ فقال: "لا بأس إذا كان يدًا بيد" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن عمر أشْترِي الذَّهب بالفضة؟ فقال: "إذا أَخذت واحدًا منهما فلا يفارقك صاحبك وبينك وبينه لَبْس" (¬3)، وفي لفظ: "كنت أَبيع الإبل وكنت آخذ الذهب من الفضة والفضة من الذهب والدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير فسألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "إذا أَخذت أحدهما وأعطيت الآخر، فلا يفارقك صاحبك وبينك وبينه لَبْس" (¬4)، ذكره ابن ماجه. وتفسير هذا ما في اللفظ الذي عند أبي داود عنه قلت: يا رسول اللَّه إني أبيع الإبل بالنقيع (¬5)، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1591) بعد (90) في (المساقاة): باب بيع القلادة فيها خرز وذهب، من حديث فضالة نفسه. (¬2) هو جزء من حديث: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين، ولا الدرهم بالدرهمين. . . فإني أخاف عليكم الرماء" تقدم تخريجه. (¬3) رواه عبد الرزاق (14550)، وأحمد (2/ 33 و 59 و 101، 154)، وأبو يعلى (5655)، والبيهقي (5/ 284) من طريق إسرائيل عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عمر مرفوعًا. ورواته ثقات إلا أنه أعل بالوقف، كما سيأتي قريبًا. ورواه ابن ماجه بعد (2262)، ولم يسق لفظه، وأحال على سابقه من طريق حماد بن سلمة عن سماك به. وهذا الحديث له ألفاظ تأتي قريبًا، نخرجها في مواطنها. (¬4) رواه ابن ماجه (2262) في (التجارات): باب اقنضاء الذهب من الورق، والورق من الذهب، من طريق عمر بن عبيد الطنافسي: حدثنا عطاء بن السائب، أو سماك "ولا أعلمه إلا سماكًا عن سعيد بن جبير عن ابن عمر به"، والصحيح سماك كما هو في جميع الروايات. (¬5) قال (و): "النقيع: موضع قريب من المدينة، كان يستنقع فيه الماء، أي: يجتمع" ونحوه باختصار في (ط). أقول: وهو في جميع المصادر: "البقيع"!! بالباء.

آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال: "لا بأس أنْ تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن اشتراء التمر بالرطب فقال: "أينقص الرطب إذا يبس"؟ قالوا: نعم فنهى عن ذلك (¬2)، ذكره أحمد والشافعي ومالك -رضي اللَّه عنهم-. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل أسلف في نخل فلم يخرج تلك السنة، فقال: "أردد ¬

_ (¬1) رواه أحمد (2/ 83، 83 - 84، 139، 154)، والطيالسي (1868) -ومن طريقه البيهقي (5/ 315) - وأبو داود (3354 و 3355) في (البيوع): باب في اقتضاء الذهب من الورق، والترمذي (1245) في (البيوع): باب ما جاء في الصرف، والنسائي (7/ 282، 283) في (البيوع): باب أخذ الورق من الذهب، وابن ماجه بعد (2262)، وابن الجارود (655)، والطحاوي في "المشكل" (2/ 96)، ولوين في "جزئه" (رقم 93)، وابن جرير في "تهذيب الآثار" (2/ رقم 2860)، والدارقطني (3/ 23 - 24)، والحاكم (2/ 44)، والبيهقي (5/ 284)، و"المعرفة" (8/ 112 - 113 رقم 11317)، وابن حزم في "المحلى" (8/ 503، 504) من طريق إسرائيل، وحماد بن سلمة، وعمار بن زُرَيق وأبي الأحوص -بأسانيد مختلفة- عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر. ولفظ أحمد (2/ 83 - 84)، والترمذي: لا بأس بالقيمة. والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي. أقول: لكنه معلول بالوقف. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر، وروى داود بن أبي هند هذا الحديث عن سعيد بن جبير عن ابن عمر موقوفًا. وقال البيهقي (5/ 284): والحديث يتفرد برفعه سماك بن حرب عن سعيد بن جبير من بين أصحاب ابن عمر. وقال شعبة: حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر لم يرفعه، وحدثني داود بن أبي هند عن سعيد بن جبير عن ابن عمر لم يرفعه، وحدثني فلان أراه أيوب عن سعيد بن جبير عن ابن عمر لم يرفعه، ورفعه سماك وأنا أهابه. ذكره الزيلعي في "نصب الراية" (4/ 34) عن "التنقيح". أقول: سماك بن حرب وإن أخرج له مسلم إلا أنهم تكلموا فيه، فكيف إذا خالف الثقات؟ قال ابن معين: أسند أحاديث لم يسندها غيره، وهو ثقة، وقال يعقوب: وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وهو في غير عكرمة صالح، وليس من المتثبتين. وأخرجه النسائي (7/ 282) من طريق أبي هاشم الرماني الواسطي -وهو ثقة- عن سعيد بن جبير عن ابن عمر موقوفًا، وهو الصواب. وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (4/ 54 رقم 1493). (¬2) تقدم تخريجه.

عليه ماله"، ثم قال: "لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه" (¬1)، وفي لفظ: "أن رجلًا أسلم في حديقة نخل قبل أَن يطلع النخل، فلم يطلع النخل شيئًا ذلك العام فقال المشتري: هو لي حتى يطلع، وقال البائع: إنما بعتك النخل هذه السنة فاختصما إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال للبائع: "أخذ من نخلك شيئًا"؟ قال: لا. قال: "فبم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله" ثم قال: "لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه" (¬2). وهو حجة لمن لم يجوز السلم إلا في موجود الجنس حال العقد، كما يقوله الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3467) في (البيوع): باب في السلم في ثمرة بعينها، وأحمد (2/ 58، 144 - 145)، وابن عدي (7/ 2756)، والبيهقي (6/ 24) من طريق سفيان وأحمد (2/ 59) من طريق إسرائيل كلاهما عن أبي إسحاق عن رجل نجراني عن ابن عمر به. قال ابن عدي: قال عثمان بن سعيد، قلت ليحيى بن معين: فالنجراني من هو؟ قال: رجل مجهول، وفي مطبوع "تاريخ عثمان بن سعيد" (رقم 925): "رجل مشهور"!! وهو خطأ، بدليل ما نقله الدوري في "تاريخه" (2499) عن ابن معين قوله عنه "لا أدري". ثم قال: وقد روى شعبة وغيره عن أبي إسحاق عن النجراني عن ابن عمر بإسناد لم يسموه مجهول، وهو كما قال ابن معين. يريد ابن عدي أنه في بعض الروايات ورد اسمه "النجراني" بالتعريف، وهذا لا يرفع عنه الجهالة، ورواية شعبة عند أحمد (2/ 46، 51) وفيها: "رجل من نجران" وعند الطيالسي (1940) من طريقه: "سمعت رجلًا من أهل نجران". ولذلك قال المنذري: في إسناده رجل مجهول، وقال عبد الحق الإشبيلي في "الأحكام الوسطى" (3/ 277) وأقره ابن القطان. إسناده منقطع، كما في "نصب الراية" (4/ 49)، وضعفه الحافظ ابن حجر في "الفتح" (4/ 433). ويشهد له الحديث الذي رواه البخاري (2249 و 2250) في (السلم) باب السلم في النخل من طريق أبي البختري قال: سألت ابن عمر عن السلم في النخل فقال: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الثمر حتى يصلح. ورواه أيضًا قبله (2247 و 2248) من نفس الطريق، قال ابن عمر: نهى عن بيع النخل حتى يصلح، وانظر "الفتح"، وانظر ما بعده. (¬2) رواه ابن ماجه (2284) في (التجارات): باب إذا أسلم في نخل بعينه لم يطلع من طريق أبي إسحاق عن النجراني عن ابن عمر به. وانظر ما قبله، وهو في "ضعيف سنن ابن ماجه" (500). (¬3) انظر: "مختصر الطحاوي" (86) و"المبسوط" (12/ 134) و"بدائع الصنائع" (7/ 3171) و"البناية" (6/ 608) و"الإختيار" (2/ 37) و"تبيين الحقائق" (4/ 110، 113) و"إيثار الإنصاف" (323)، وانظر بسط المسألة في "الإشراف" للقاضي عبد الوهاب (2/ 516 - 517 مسألة 389) وتعليقي عليه.

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن بني فلان قد أسلموا، لقوم من اليهود، وإنهم قد جاعوا فأخاف أن يرتدوا فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من عنده"؟ قال رجل من اليهود: عندي كذا وكذا، لشيء سمَّاه، أُراه قال: ثلاث مئة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بسعر كذا وكذا وليس من حائط بني فلان" (¬1)، ذكره ابن ماجه. ¬

_ (¬1) هو جزء من حديث طويل في قصة إسلام زيد بن سعنة. رواه ابن ماجه (2281) في (التجارات): باب السلف في كيل معلوم، وأبو يعلى (7496) مختصرًا، ورواه مطولًا ابن حبان (288)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2082)، وأبو الشيخ في "أخلاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-" (ص 72 - 73)، والطبراني في "الكبير" (5147)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (48)، وفي "معرفة الصحابة" (3/ رقم 3000، 3001) والحاكم (3/ 604 - 605)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 278 - 280) وفي "السنن الكبرى" (6/ 24)، والمزي في "تهذيب الكمال" (7/ 344 - 347) من طرق عن الوليد بن مسلم: حدثنا محمد بن حمزة بن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام، عن أبيه، عن جده عبد اللَّه بن سلام به. هو هكذا في بعض المصادر وفي بعضها عن محمد بن حمزة عن أبيه عن جده عن عبد اللَّه بن سلام. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وهو من غرر الحديث، ومحمد بن أبي السري العسقلاني (أي الراوي عن الوليد بن مسلم) ثقة، لكن تعقبه الذهبي بقوله: ما أنكره وأركّه، لا سيما قوله: مقبلًا غير مدبر، فإنه لم يكن في غزوة تبوك قتال. وأما البوصيري (2/ 24) فأعلّه بعنعنة الوليد، وهي مردودة بتصريحه بالسماع في غير موطن. وأما الحافظ ابن حجر في "الإصابة" فقال: رجاله موثقون، وقد صرّح الوليد فيه بالتحديث، ومداره على محمد بن أبي السري الراوي له عن الوليد بن مسلم، وثقه ابن معين، ولينه أبو حاتم، وقال ابن عدي: محمد كثير الغلط. أقول: محمد لم ينفرد به، بل تابعه عليه كاملًا عبد الوهاب بن نجدة الحوطي، وهو ثقة، وتابعه على بعضه اثنان من الثقات، لكن في إسناده حمزة بن يوسف لم يرو عنه غير ابنه محمد فقط، وذكره ابن حبان في "الثقات"! ثم قال الحافظ ابن حجر في "الإصابة": ووجدت لقصته شاهدًا من وجه آخر، لكن لم يسم فيه، وذكر الشاهد وفيه راو مبهم وإرسال. وأما المزي فقال في "تهذيب الكمال" في ترجمة زيد بن سعنة: "وهو حديث مشهور حسن في دلائل النبوة". وأما الجزء المذكور هنا عند ابن ماجه: فقد قال ابن أبي عاصم بعد إخراجه: هذا =

فصل [فتاوى في فضل بعض الأعمال]

فصل [فتاوى في فضل بعض الأعمال] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حمزة بن عبد المطلب فقال: اجعلني على شيء أعيش فيه (¬1)، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا حمزة نفس تحييها أحبُّ إليك أم نفس تميتها"؟ فقال: نفس أُحييها، قال: "عليك نفسك" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عمل الجنة؟ قال: "الصدق، فإذا صدق العبد بَرَّ، وإذا بر آمن، وإذا آمن دخل الجنة" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما عمل أهل النار؟ قال: "الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أفضل الأعمال، فقال: "الصلاة" قيل: ثم مه؟ قال: "الصلاة" ثلاث مرات، فلما غلب عليه قال: "الجهاد في سبيل اللَّه" قال الرجل: فإن لي والدِيَن، قال: "آمرك بالوالدين خيرًا" قال: والذي بعثك بالحق نبيِّا لأجاهدنَّ، ولأتركهما، فقال: "أنت أعلم" (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ = حديث كثير المعاني، قد ذكرنا ما جرى في كتاب "معاني الأخبار" وهو أصل في السلم في كيل معلوم، وأجل معلوم، والثمن معجّل. ثم ذكر حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا تسلموا فمن أسلم فليسلم في كيل معلوم، ووزن وأجل معلوم"، وهذا رواه البخاري (2239 و 2241 و 2253)، ومسلم (1604). وقد ذكر حديث عن ابن عباس شاهدًا لحديثنا هذا البوصيري في "زوائده"، والحديث في "ضعيف سنن ابن ماجه" (498)، وانظر "الإرواء" (1381). (¬1) في المطبوع: "به". (¬2) رواه أحمد (2/ 175) من طريق حسن عن ابن لهيعة عن حيي بن عبد اللَّه عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد اللَّه بن عمرو به. وهذا إسناد فيه ابن لهيعة. (¬3) و (¬4) هما حديث واحد، رواه أحمد في "مسنده" (1/ 176) من طريق حسن عن ابن لهيعة به بإسناد الحديث السابق. قال الهيثمي (1/ 92): وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف، وذكره في (1/ 142)، وقال: وفيه ابن لهيعة. (¬5) رواه أحمد (2/ 172) عن حسن بن موسى عن ابن لهيعة عن حيي بن عبد اللَّه عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد اللَّه بن عمرو به. وابن لهيعة فيه ضعف، لكنه توبع. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الغُرف التي في الجنة يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها لمن هي؟ قال: "لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات للَّه قائمًا والناس نيام" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أرأيت إن جاهدتُ بنفسي ومالي فقتلت صابرًا محتسبًا مقبلًا ¬

_ = أخرجه ابن حبان (1722) من طريق ابن وهب به، وهي متابعة قوية فالحديث حسن لكلام في حيي. أما الهيثمي فقال (1/ 301): رواه أحمد وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد حسن له الترمذي، وبقية رجاله رجال الصحيح! وحيي هذا لم يخرجا له شيئًا. قال (د): "في نسخة: لا جاهدت ولا أَتركهما" [انظر طبعة فرج اللَّه زكي الكردي (3/ 516] " ومثله في (ط) وما بين المعقوفتين منها. (¬1) رواه أحمد (2/ 173) من طريق ابن لهيعة، والحاكم (1/ 80، 321) وعنه البيهقي في "البعث والنشور" (رقم 252) من طريق ابن وهب كلاهما عن حيي بن عبد اللَّه عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد اللَّه بن عمرو به، وذكر أن السائل للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو موسى الأشعري، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي (2/ 254): وإسناده حسن، مع أن في إسناد أحمد: ابن لهيعة، واضطرب الهيثمي -رحمه اللَّه- في أمره كما نقلته لك أكثر من مرة، وهو متابع كما رأيت. وله شاهد من حديث أبي مالك الأشعري، رواه عبد الرزاق (20883)، ومن طريقه أحمد (5/ 343)، والطبراني في "الكبير" (3466)، وابن خزيمة (2137)، والتيمي في "الترغيب والترهيب" (رقم 2051) والبيهقي في "سننه الكبرى" (4/ 300 - 301)، و"الشعب" (3/ رقم 3892) وابن حبان (509) عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن ابن معانق عنه، قال الهيثمي (2/ 254): رجاله ثقات. وفي الباب عن علي، عند ابن أبي شيبة (8/ 437 و 13/ 101)، وهناد في "الزهد" (123)، وعبد اللَّه بن أحمد في "زوائد المسند" (1/ 55) وفي "زوائد الزهد" (1/ 52)، والترمذي (1984)، وابن خزيمة (2136)، وابن أبي داود في "البعث" (75)، وأبو يعلى (428، 438)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (314)، وابن أبي الدنيا في "التهجد" (رقم 392)، والمروزي في "قيام الليل" (ق 17)، وابن عدي (3/ 1613)، والخرائطي في "مكارم الأخلاق" (رقم 72، 139)، وأبو نعيم في "صفة الجنة" (رقم 418)، وابن عبد البر في "التمهيد"، والبيهقي في "البعث والنشور" (252) و"شعب الإيمان" (3/ رقم 3360)، والخطيب في "الجامع" (رقم 236) و"المتفق والمفترق" (3/ 1510 رقم 1928)، والتيمي في "الترغيب والترهيب" (رقم 389، 963، 1915) جميعهم من طريق عبد الرحمن بن إسحاق عن النعمان بن سعد عن علي، وإسناده ضعيف، من أجل عبد الرحمن بن إسحاق. وفي الباب عن جمع من الصحابة، انظر: "المجمع" (10/ 419) و"التهجد" لابن أبي الدنيا (رقم 7، 8، 340) و"السلسلة الصحيحة" (571).

غير مدبر أدْخلُ الجنة؟ قال: "نعم" فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، قال: "إلا إن مت وعليك دَيْنٌ وليس عندك وفاؤه" (¬1)، وأخبرهم بتشديد أُنزل فسألوه عنه، فقال: "الدَّيْن، والذي نفسي بيده لو أَنْ رجلًا قُتل في سبيل اللَّه، ثم عاش، ثم قتل في سبيل اللَّه، ثم عاش، ثم قتل في سبيل اللَّه ما دخل الجنة حتى يُقضى دينُه" (¬2)، ذكرهما (¬3) أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عن أخيه مات وعليه دَيْن، فقال: "هو محبوسٌ بدينه فاقضِ عنه" فقال: يا رسول اللَّه قد أدَّيتُ عنه إلا دينارين ادّعتهما امرأة وليس لها بيِّنة، ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 325 و 352 و 375)، والبزار (1337)، وأبو يعلى (1857) من طرق عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن جابر به. قال الهيثمي (4/ 127): "رواه أحمد والبزار وإسناده حسن"، وفاته أن ينسبه لأبي يعلى. وشاهده حديث أبي قتادة الذي رواه مسلم (1885) في (الأمارة): باب من قتل في سبيل اللَّه كفرت خطاياه إلا الدين، وانظر "الجهاد" لابن أبي عاصم (12). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 289 - 290)، والنسائي (7/ 314) في (البيوع): باب التغليظ في الدين، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (928)، والطبراني في "الكبير" (19/ 560) والحاكم (2/ 25)، وأبو نعيم في "المعرفة" (1/ رقم 625)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (13/ رقم 1710) من طرق عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي كثير مولى محمد بن عبد اللَّه بن جحش، عن محمد بن عبد اللَّه بن جحش به. ورواه الطبراني في "الكبير" (19/ 556)، وعنه أبو نعيم في "المعرفة" (624) من طريق صفوان بن سليم وأبو نعيم (626) من طريق محمد بن عمرو، ورقم (627)، وابن قانع (13/ رقم 1712) من طريق محمد بن أبي يحيى جميعهم عن أبي كثير به. أقول: الحديث رواته ثقات، غير أبي كثير هذا فقد ترجمه البخاري، وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا. وأما ابن حبان فقد ذكره في "الثقات" كعادته. وقد ذكره الحافظ في "التقريب" وقال: ثقة، ويقال: له صحبة. وهذا عجيب من الحافظ فإن أمثال هذا لا يوثقهم، وقد ذكره في "الإصابة" في القسم الراج، وهم الذين لم تثبت لهم صحبة. ثم ذكره في "الفتح" (1/ 479) في إسناد حديث وقال: روى عنه جماعة لكن لم أجد فيه تصريحًا بتعديل. أقول: أبو كثير هذا روى عنه العلاء بن عبد الرحمن ومحمد بن عمرو بن علقمة، ومحمد بن أبي يحيى الأسلمي، وصفوان بن سليم، وثلاثة هؤلاء ثقات، ووثقه ابن حبان، فحديثه لا بأس به إن شاء اللَّه. (¬3) في (ك): "ذكرها".

فقال: "أعطها فإنها محقّة" (¬1)، ذكره أحمد. وفيه دليل على أن الوصيّ إذا علم بثبوت الدين على الميت جاز له وفاؤه، وإن لم تقم به بينة. وسألوه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يسعِّر لهم، فقال: "إن اللَّه هو الخالق القابض الباسط الرازق، وإنّي لأرجو أن ألقى اللَّه، ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دمٍ أو مال" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 136 و 5/ 7) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (10/ 251) - وعبد بن حميد (305 - "المنتخب")، وابن أبي شيبة في "المسند" (2/ رقم 619) وابن ماجه (2433) في (الصدقات): باب أداء الدين عن الميت، وأبو يعلى (1510، 1512)، وابن سعد في "الطبقات" (7/ 57)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 45)، والطبراني في "الكبير" (5466)، والبيهقي (10/ 142)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ رقم 3196)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (5/ رقم 516) من طرق عن حماد بن سلمة: أخبرنا عبد الملك أبو جعفر (وقع في "مسند أحمد" (4/ 136) عبد الملك بن جعفر وهو خطأ)، عن أبي نضرة، عن سعد بن الأطول به. قال الهيثمي (4/ 129): وفي إسناده عبد الملك بن أبي جعفر! وقد ذكره ابن حبان في "الثقات" ولم أجد من ترجمه. أما البوصيري فقال (2/ 48): ليس لسعد عند ابن ماجه سوى هذا الحديث، وليس له شيء في الكتب الخمسة، وإسناد حديثه صحيح، عبد الملك أبو جعفر ذكره ابن حبان في "الثقات"، وباقي رجال الإسناد على شرط الشيخين. أقول: عبد الملك هذا لم يرو عنه إلا حماد بن سلمة فقط، فهو في عداد المجاهيل، ولكنه توبع. فقد رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (4/ 45) من طريق عبد الأعلى والبيهقي في "سننه الكبرى" (10/ 142) من طريق عبد الواحد بن غياث وأبو يعلى (3/ رقم 1513)، من طريق عباد بن موسى، وأحمد (5/ 7) ثنا عفان جميعهم عن حماد بن سلمة عن سعيد الجريري عن أبي نضرة عن رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثله. وسعيد الجريري اختلط، لكن سماع حماد منه قبل الاختلاط. ولذلك قوّى الحديث شيخنا العلامة الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (6/ 109). (¬2) رواه أحمد (3/ 156 و 286)، والدارمي (2/ 249)، وأبو داود (3451) في (البيوع): باب التسعير، والترمذي (1317) في (البيوع): باب ما جاء في التسعير، وابن ماجه (2205) في (التجارات): باب من كره أن يسعر، وأبو يعلى (2861 و 3830)، وابن حبان (4935)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (111)، وفي "السنن الكبرى" (6/ 29) من طرق عن حماد بن سلمة عن ثابت وقتادة وحميد عن أنس. =

فصل

فصل وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أرضي ليس لأحد فيها شركة، ولا قسمة إلا الجار، فقال: "الجارُ أحق بصقبه" (¬1)، ذكره أحمد، والصواب العمل بهذه الفتوى إذا اشتركا في طريق أو حق من حقوق الملك. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الظلم أعظم؟ قال: "ذراعٌ من الأرض ينتقصه من حق أخيه، وليست حصاة من الأرض أخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها" (¬2)، ذكره أحمد. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- في شاة ذُبحت بغير إذن صاحبها، وقدمت إليه أن تُطعم الأسارى (¬3)، ذكره أبو داود. فصل [فتاوى في الرهن والدين] وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن ظهر الرهن يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدَّرِّ يشرب ¬

_ = قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أقول: وهو على شرط مسلم. ورواه الطبراني في "الكبير" (761) من طريق أخرى عن ثابت عن أنس، ورواه أبو يعلى (2774)، من طريق مبارك عن الحسن، عن أنس، ومبارك والحسن مدلسان وقد عنعنا. وفي الباب عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد وابن عباس وأبي جحيفة وغيرهم، انظر المجمع (4/ 99). (¬1) تقدم تخريجه، وقال (و): "تقال بالسين أيضًا، والصقب القرب والملاصقة، والمراد به الشفعة"، ونحوه في (ط). (¬2) رواه أحمد (1/ 396 و 397)، والطبراني في "الكبير" (10516) من طرق عن ابن لهيعة عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن ابن مسعود به. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 175): وإسناد أحمد حسن. أقول: ابن لهيعة لم يرو هنا عنه واحد من العبادلة، فهو إذن ضعيف، ثم استدركت، فقلت: في "العلل" لأحمد أن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن عبيد مولى بني هاشم أبا سعيد -شيخ أحمد في هذه الرواية- روى عن ابن لهيعة قبل اختلاطه، فزالت هذه العلة، وبقيت علة أخرى وهي أن أبا عبد الرحمن مات سنة (100)، وابن مسعود مات (سنة) (32) أو (33) فمن المستبعد أن يكون سمع منه، وانظر ما كتبه العلامة أحمد شاكر -رحمه اللَّه- في تعليقه على "المسند" (3767 و 3773). (¬3) تقدم تخريجه.

فصل [المرأة تتصدق]

بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (¬1)، ذكره البخاري، وأخذ أحمد وغيره من أئمة الحديث بهذه الفتوى، وهو الصواب. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن الرهن لا يُغلق (¬2) من صاحبه الذي رهنه له غُنمه وعليه غُرمه (¬3)، حديث حسن. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- في رجل أُصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فأمر أَن يتصدق عليه، فلم يوف ذلك دينه، فقال للغرماء: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" (¬4)، ذكره مسلم. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقَّ به من غيره (¬5) متفق عليه. فصل [المرأة تتصدق] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة عن حُليٍّ لها تصدقت به، فقال لها: "لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها" وفي لفظ: "لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" (¬6)، ذكره أهل "السنن"، وعند ابن ماجه: "أنّ خَيْرة امرأة كعب بن مالك أتته بحلي فقالت: تصدقت بهذا، فقال: "هل استأذنت كعبًا؟ " فقالت: نعم، ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أي لا يستحقه المرتهن إذا لم يستفكة صاحبه، وقد سبق تخريجه. (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) رواه مسلم (1556) في (المساقاة): باب وضع الجوائح، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) باللفظ الأول، رواه أحمد (2/ 179 و 184 و 207)، وأبو داود (3547) في (البيوع): باب في عطية المرأة بغير إذن زوجها، والنسائي (5/ 65 - 66) في (الزكاة): باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، و (6/ 278 - 279) في (الهبة): باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، والطيالسي (2267)، وابن زنجويه في "الأموال" (1/ 298)، والبيهقي (6/ 60) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وإسناده جيد. ورواه باللفظ الثاني أحمد (2/ 221)، وأبو داود (3546)، والنسائي (6/ 278)، وابن ماجه (2388) في (الهبات): باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، والطبراني في "الأوسط" (2585)، والحاكم (2/ 47)، والبيهقي (6/ 60) من طرق عن عمرو بن شعيب به.

[مال اليتيم]

فبعث إلى كعب فقال: "هل أَذِنْتَ لخيرة أن تتصدق بحليِّها هذا"؟ فقال: نعم، فقبله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). [مال اليتيم] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال: "كل من مال يتيمك غير مُسرف، ولا مُبذِّر، ولا متأثِّل مالًا، ومن غير أنْ تقي مالك" أو قال: "تفدي مالك بماله" (¬2). ولما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام يفسد واللحم ينتن فسألوا عن ذلك رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنزلت: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] (¬3)، ذكره أحمد وأهل "السنن". ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2389) في (الهبات): باب عطية المرأة بغير إذن زوجها، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ رقم 7622)، والمزي في "تهذيب الكمال" (16/ 297) من طريق ابن وهب، والطبراني في "الكبير" (24/ 654) وعنه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6 / رقم 7621) من طريق عبد اللَّه بن صالح كلاهما عن الليث بن سعد عن رجل من ولد كعب بن مالك اسمه عبد اللَّه بن يحيى عن أبيه عن جدته أن جدته خيرة امرأة كعب بن مالك. . . ورواه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3347) من طريق عبد اللَّه بن صالح عن الليث عن عبد اللَّه بن يحيى من ولد كعب بن مالك عن أبيه عن جده خيرة، دون قوله: عن جده. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 40): هذا إسناد ضعيف عبد اللَّه بن يحيى لا يعرف في أولاد كعب بن مالك، وليس لخيرة هذه عند ابن ماجه سوى هذا الحديث، وليس لها شيء في الخمسة الأصول. وقال ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة خيرة: وحديثها عند الليث من رواية ابن وهب عنه بإسناد ضعيف لا تقوم به حجة. ويشهد له ما قبله. (¬2) رواه أحمد (2/ 187 و 215 - 216)، وأبو داود (2872) في (الوصايا): باب ما جاء في ما لولي اليتيم أن ينال من مال اليتيم، والنسائي (6/ 256) في (الوصايا): باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه، وابن ماجه (2718) في (الوصايا): باب قوله: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، وابن الجارود (952)، والعقيلي (4/ 358 - 359)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 284) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. وإسناده جيّد. وله شاهد من حديث ابن عمر رواه ابن مردويه في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 464)، وانظر شواهد في تخريج الزيلعي على "الكشاف" (1/ 30 مخطوط). (¬3) رواه أحمد (1/ 325) وأبو داود (2871) في (الوصايا): باب مخالطة اليتيم في الطعام، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = والنسائي (6/ 256 و 256 - 257) في (الوصايا): باب ما للوصي من مال اليتيم إذا قام عليه، والطبري (2/ 382 و 383)، والحاكم (2/ 278 - 279 و 303 و 318)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص 65) وعبد بن حميد -كما في "العجاب" (1/ 547) - وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ رقم 2081)، وابن مردويه -كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 256) - والبيهقي (6/ 284) من طرق عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. أقول: عطاء بن السائب اختلط، ولم يرو عنه هنا واحد ممن سمع منه قبل الاختلاط، والذين رووا عنه قبل الاختلاط: شعبة وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وحماد بن سلمة على خلاف فيه. وقال أحمد بن حنبل: كان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها. ورواه الطبري (2/ 383) من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نحوه، وعلي بن طلحة لم يسمع من ابن عباس. ورواه الطبري (2/ 384) من طريق آخر عن ابن عباس لكن فيه ضعفاء، والحديث له شواهد مرسلة في "تفسير الطبري". وأخرجه سفيان الثوري في "تفسيره" (ص 91) -وعنه الواحدي في "أسباب النزول" (ص 65) - من رواية أبي حذيفة النهدي عنه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير مرسلًا ولم يذكر ابن عباس وهو أقوى فإن عطاء ابن السائب ممن اختلط وسالم أتقن منه. ووافق الثوريَّ على إرساله قيس بن الربيع عن سالم وسياقه أتم ولفظه -كما في "الدر المنثور" (1/ 612) وعزاه إلى ابن المنذر و"العجاب" (1/ 548 - 549) -: كان أهل البيت يكون عندهم الأيتام في حجورهم، فيكون لليتيم الصرمة من الغنم، ويكون الخادم لأهل ذلك البيت، فيبعثون خادمهم فيرعى للأيتام، وتكون لأهل البيت الصرمة من الغنم، والخادم للأيتام، فيبعثون خادم الأيتام يرعى عليهم، فإذا كان الرسل وضعوا أيديهم جميعًا، ويكون الطعام للأيتام والخادم لأهل البيت، أو يكون الخادم للأيتام، والطعام لأهل البيت، فيأمرون الخادم فتصنع الطعام فيضعون أيديهم جميعًا فلما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية قالوا: هذه موجبة فاعتزلوهم وفرقوا ما كان من خلطه فشق ذلك عليهم وشكوا للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: إن الغنم ليس لها راع والطعام ليس له من يصنعه فقال: قد سمع اللَّه قولكم فإن شاء أجابكم: فنزلت {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}. وعن قيس عن أشعث بن سوار عن الشعبي: لما نزلت {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} اعتزلوا أموال اليتامى حتى نزلت {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وهذا مرسل يعضد الأول. وجاء من وجه ثالث مرسل أيضًا قال عبد الرزاق في "تفسيره" (ص 28) وعنه ابن جرير (4/ 351 رقم 4187) عن معمر عن قتادة، فذكر نحو الأول وقال في روايته: فلم =

[اللقطة]

[اللقطة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لقطة الذهب والوَرِق، فقال: "اعرِفْ وكاءها وعِفَاصَها (¬1)، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه" (¬2). فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ضالة الإبل، فقال: "مالَك ولَها دعْها، فإن معها حِذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها" (¬3). فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الشاة، فقال: "خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" (¬4)، متفق عليه وفي لفظ لمسلم: "فإن جاء صاحبها فعرِّف عِفَاصها وعددها، ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك" وفي لفظ لمسلم: "ثم كُلْها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه". وقال أبيّ بن كعب: وجدت صرة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها مئة دينار فأتيت بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "عرّفها حولًا" فعرفتها حولًا، ثم أتيته بها فقال: "عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيته بها فقال: "عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيته [بها] (¬5) الرابعة فقال: "اعرف عدتها (¬6)، ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" فاستمتعتُ [بها] (¬7)، متفق عليه، واللفظ للبخاري. ¬

_ = يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، فشق ذلك على الناس، فأنزل اللَّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} الآية. وأخرجه عبد بن حميد عن يونس بن محمد بن شيبان النحوي وابن جرير (4/ 350 رقم 4186) عن سعيد كلاهما عن قتادة، لكن قال في روايته: كان قد نزل قبل ذلك في سورة بني إسرائيل {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فكانوا لا يخالطوهم، قاله ابن حجر في "العجاب" (1/ 549). (¬1) "العفاص: الجلد الذي يجعل على رأس القاروة، وكذلك غلافها، والوكاء: الخيط الذي تشد به الصرة، أو الكيس ونحوها، وقد تقدم" (و). (¬2) و (¬3) و (¬4) هو حديث واحد، رواه البخاري في مواطن كثيرة منها (91) في (العلم): باب الغضب في الموعظة والتعليم، و (2427) في (اللقطة): باب ضالة الإبل، و (2428) باب ضالة الغنم، ومسلم (1722) (1 - 8) في (اللقطة): من حديث زيد بن خالد الجهني، وهذا لفظ مسلم. (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في المطبوع: "عددها". (¬7) رواه البخاري (2426) في (اللقطة): باب إذا أخبره رب اللقطة بالعلامة دفع إليه، و (2437) في باب هل يأخذ اللقطة ولا يدعها تضيع، ومسلم (1723) في (اللقطة). واللفظ الذي ذكره المؤلف هو في الموطن الثاني عند البخاري. وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من مزينة عن الضَّالة من الإبل، قال: "معها حِذاؤُها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء، فدعها حتى يأتيها باغيها" قال: الضالة من الغنم؟ قال: "لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها" قال: الحَرِيسة (¬1) التي توجد في مَراتِعها؟ قال: "فيها ثمنها مرتين وضرب نَكَال، وما أُخذَ من عَطَنِه (¬2) ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك، ثمن المِجنّ" قال: يا رسول اللَّه فالثمار، وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: "ما أخذ بفمه فلم يتخذ خُبْنة (¬3) فليس عليه شيء، وما احتمل فعليه ثمنه مرتين وضربًا ونَكَالًا (¬4)، وما أخذ من أجْرَانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجنّ". قالوا يا رسول اللَّه: فاللقطة يجدها في سبيل العامرة؟ قال: عرِّفها حولًا، فإن وجدت باغيها فأدها إليه وإلا فهي لك" قال: ما يوجد في الخَرِب العَاديّ؟ قال: "فيه وفي الركاز (¬5) الخمس" (¬6)، ذكره أحمد وأهل "السنن"، والإفتاء بما فيه متعيّن، وإن خالفه من خالفه، فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه. وأفتى بأن من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ عفاصها، ووكاءها، ثم ¬

_ (¬1) "يقال عن الشاة التي يدركها فبل أن تصل إلى مراحها: حريسة، وهي فعيلة بمعنى مفعولة، أي لها من يحرسها ويحفظها، وقد تطلق الحريسة على السرقة نفسها" (و). (¬2) "العطن: مأوى المواشي، والنكال: العقوبة" (و). وتحرفت في (ك) إلى: "وطنه". (¬3) في المطبوع: "خبيئة" والمثبت من (ك) ومصادر التخريج. (¬4) في المطبوع: "وضرب نكال" والمثبت من (ك) ومصادر التخريج. (¬5) "الركاز عند أهل الحجاز: كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق: المعادن، والقولان تحتملهما اللغة" (و). (¬6) رواه أحمد (2/ 180 و 186 و 203 و 207 و 224)، وأبو داود (1708 و 1710 و 1713) في (اللقطة)، و (4395) في (الحدود): باب ما لا يقطع فيه، والترمذي (1292) في (البيوع): باب ما جاء في الرخصة في أكل الثمرة للمار بها، والنسائي (5/ 44) في (الزكاة): باب المعدن، و (8/ 84) في (الحدود): باب الثمر المعلق يسرق، (8/ 85 و 85 - 86)، باب الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، وابن ماجه (2596) في (الحدود): باب من سرق من الحرز، والدارمي (2/ 265)، والحميدي (597)، وابن خزيمة (2327)، والطبراني في "الأوسط" (530 و 2004 و 2671)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 135 و 136)، والدولابي في "الكنى" (2/ 107)، والدارقطني (3/ 194)، والحاكم (2/ 65 و 4/ 381)، والبيهقي (4/ 152 و 153 و 155 و 6/ 187 و 190 و 197 و 8/ 263 و 278) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مطولًا ومختصرًا، وهو حديث قوي.

فصل [الهدية وما في حكمها]

لا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال اللَّه يؤتيه من يشاء (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل جلس لحاجته فأخرج جُرْذ من جُحرٍ دينارًا، ثم أخرج آخر، ثم أخرج آخر حتى أخرج سبعة عشر دينارًا، ثم أخرج طرف خرقة حمراء فأتى بها السائل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبره خبرها، وقال: "خذ صدقتها". قال: "ارجع بها، لا صَدَقة فيها، باركَ اللَّه لك فيها" ثم قال: "لعلك أهويت بيدك في الجحر؟ " قلت: لا، والذي أكرمك بالحق. فلم يفن آخرها حتى مات (¬2). وقوله -واللَّه أعلم-: "لعلك أهويت بيدك في الجحر" إذ لو فعل ذلك لكان ذلك في حكم الركاز، وإنما ساق اللَّه هذا المال إليه بغير فعل منه، أخرجته له الأرض بمنزلة ما يخرج من المباحات، ولهذا -واللَّه أعلم- لم يجعله لقطة إذ لعله علم أنه من دفن الكفار. فصل [الهدية وما في حكمها] وأهدى له -صلى اللَّه عليه وسلم- عياض بن حمار إبلًا قبل أن يُسلم فأَبى أن يقبلها، وقال: ¬

_ (¬1) مخرّج في موطن آخر. (¬2) رواه أبو داود (3087) في (الخراج والإمارة): باب ما جاء في الركاز وما فيه، وابن ماجه (2508) في (اللقطة): باب التقاط ما أخرج الجرذ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (293) -ولم يسق لفظه- والطبراني في "الكبير" (20/ 611 و 612)، وأبو نعيم في "دلائل النبوة" (رقم 389)، والبيهقي (4/ 155 - 156)، والمزي في "تهذيب الكمال" (35/ 222) من طرق عن موسى بن يعقوب الزمعي: حدثتني عمتي قُريبة بنت عبد اللَّه عن أمها كريمة بنت المقداد بن عمرو عن ضباعة بنت الزبير زوجة المقداد عن المقداد بن عمرو به. وفي سياق بعض الروايات أنه من مسند ضباعة، كما قال الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف" (8/ 504)، وهو لا يضر فضباعة هذه صحابية، وهذا إسناد فيه مقال، موسى بن يعقوب، وثقه ابن معين، وابن القطان، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي، وقال ابن المديني: ضعيف الحديث، منكر الحديث. وقال أبو داود: روى عنه ابن مهدي، وله مشايخ مجهولون. وقال أحمد: لا يعجبني حديثه. وقريبة هذه لم يرو عنها إلا ابن أخيها موسى، وقال الحافظ في "التقريب": مقبولة، فهي في عداد المجاهيل، وكذلك كريمة، والحديث في "ضعيف سنن ابن ماجه" (545).

"إنَّا نقبل زبد المشركين" قال: قلت: وما زَبْد المشركين؟ قال: "رفدهم وهديتهم (¬1)، ذكره أحمد، ولا ينافي هذا قبوله هدية أُكْيدِر وغيره من أهل الكتاب (¬2)؛ لأنهم أهل كتاب فقبل هديتهم، ولم يقبل هدية المشركين (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبادة بن الصامت فقال: رجل أهدى إليَّ قوسًا ممن كنت أعلِّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل اللَّه؟ فقال: "إن كنت تحب أن تطوَّق طوقًا من نار فاقبلها" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 162)، وأبو داود الطيالسي (1416 - منحة)، والطبراني في "الكبير" (17/ 998)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (9/ 216) من طرق عن الحسن البصري عن عياض بن حمار به، والحسن البصري مدلس، وقد عنعن، وقد توبع. فقد رواه أبو داود الطيالسي (1417)، ومن طريقه أبو داود في "سننه" (3057) في (الخراج والإمارة): باب في الإمام يقبل هدايا المشركين، والترمذي (1581) في (السير): باب كراهية هدايا المشركين، والطبراني في "الكبير" (17/ 999)، والبيهقي (9/ 216) عن عمران القطان عن قتادة عن زيد بن عبد اللَّه بن الشخير عن عياض به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وذكره الحافظ في "الفتح" (5/ 235 - 231)، وقال: وصححه الترمذي وابن خزيمة. (¬2) رواه مسلم (2071) بعد (18) في (اللباس والزينة): من حديث علي بن أبي طالب، وعلقه البخاري (2616) في (الهبة): من حديث أنس. (¬3) هذا وجه للجمع، وللترمذي والبيهقي والحافظ ابن حجر أوجه أخرى في المصادر المذكورة قبل. (¬4) رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (6/ 223 - 224) وفي "مسنده" (ق 93/ ب)، وعبد بن حميد (183)، وأحمد (5/ 315)، وأبو داود (3416) في (البيوع): باب من كسب المعلِّم، وابن ماجه (2157) في (التجارات): باب الأجر على تعليم القرآن، والطحاوي في "المشكل" (4333) وفي "شرح معاني الآثار" (3/ 17 و 4/ 127)، والشاشي في "المسند" (1266، 1267) وأبو نعيم في "أخبار أصبهان" (2/ 82)، والحاكم (2/ 41)، والبيهقي (6/ 125)، والمزي في "تهذيب الكمال" (3/ 221) من طرق عن المغيرة بن زياد عن عبادة بن نسي عن الأسود بن ثعلبة عن عبادة بن الصامت به. قال الحاكم: صحيح الإسناد. قال الذهبي: متعقبًا: قلت: مغيرة صالح الحديث، وقد تركه ابن حبان، وقال البيهقي: قال ابن المديني: إسناده كله معروفون إلا الأسود بن ثعلبة فإنه لا يحفظ عنه إلا هذا الحديث. ورد ابن التركماني في "الجوهر النقي" أن له أحاديث أخرى ثلاثة، ولكن الأسود هذا قال الذهبي في "الميزان": "لا يعرف". وحاول ابن التركماني تقوية حال الأسود هذا فقال: ذكره ابن حبان في "الثقات"، =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وصحح الحاكم حديثه، وقال صاحب "التمهيد": حديثٌ معروف عند أهل العلم؛ لأنه روي عن عبادة من وجهين. أقول: ذكر ابن حبان له في "الثقات" لا يقوي أمره فتوثيق ابن حبان للمجاهيل معروف، والحاكم صحح أحاديث لرواة متروكين!، وكلام ابن عبد البر غريب! ورواه أبو داود (3417)، ومن طريقه البيهقي (6/ 125)، وأحمد (5/ 324)، والشاشي (1223) في "مسنديهما"، والحاكم (3/ 356) من طريق بشر بن عبد اللَّه بن يسار: حدثني عبادة بن نسي عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت. قال البيهقي: هذا حديث مختلف فيه على عبادة بن نسي، كما ترى. أقول: وبشر هذا وإن كان صدوقًا، إلا أنه خالف جماعة من الثقات، منهم: وكيع، وحميد بن عبد الرحمن، وأبو عاصم النبيل، فرووه كما سبق بالإسناد الأول. وعندي أن هذا من أوهام بشر، لكن شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (1/ 460) رجح أن يكون لمغيرة بن زياد فيه شيخان، وجعل جنادة متابعًا للأسود وهذا فيه نظر لا يتمشى مع قواعد المحدثين في ترجيح رواية الجماعة من الثقات على الثقة، كبف وبشر أصلًا لم يوثقه أحد إلا ابن حبان فقط!! وهذا ما يفهم من صنيع أبي حاتم الرازي، فيما نقل عنه ابنه في "العلل" (2/ 74 رقم 1716). ثم وجدت الحافظ -رحمه اللَّه- في "التلخيص" (4/ 7) قال عن هذا الحديث: مغيرة هذا مختلف فيه، واستنكر أحمد حديثه، وناقض الحاكم فصحح حديثه في "المستدرك"، واتهمه به في موضع آخر. وله شاهد من حديث أبي الدرداء، رواه البيهقي (6/ 126) من طريق عثمان بن سعيد الدارمي. قال ابن حجر: سنده على شرط مسلم لكن شيخه (أي شيخ الدارمي) لم يخرج له مسلم، وقال فيه أبو حاتم: ما به بأس، وقال دحيم: حديث أبي الدرداء في هذا ليس له أصل. وله شاهد آخر من حديث أبي بن كعب، رواه ابن ماجه (2158)، والروياني -كما في "النكت الظراف" (1/ 35) - والبيهقي (6/ 125 - 126) من طريق ثور بن يزيد: حدثنا خالد بن معدان (وسقط خالد من سند البيهقي)، حدثني عبد الرحمن بن سلم عن عطية الكلاعي عنه. قال البوصيري (2/ 9): هذا إسناد مضطرب قاله الذهبي في ترجمة عبد الرحمن بن سلم، وقال العلائي في "المراسيل": عطية بن قيس عن أبي بن كعب مرسل. أقول: وعبد الرحمن بن سلم هذا من المجاهيل. فهذا إسناد ضعيف جدًا. فإن سلم حديث أبي الدرداء من كلام دحيم يمكن أن يتقوى حديثه بحديث عبادة بن الصامت، والا فإن حديث أبيّ هذا لا يعول عليه لما فيه من علل. =

ولا ينافي هذا قوله: "إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللَّه" (¬1) في قصة الرقية لأن تلك جعالة على الطب، فطبَّه بالقرآن، فأخذ الأجرة على الطب لا على تعليم القرآن وهاهنا منعه من أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فإن اللَّه تعالى قال لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، وقال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 21]، فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغ الإسلام والقرآن. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو النعمان بن بشير أَنْ يَشهد على غلامِ نَحَله لابنه فلم يشهد، وقال: "لا تُشْهدني على جُور" وفي لفظ: "إن هذا لا يصلح" وفي لفظ: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " قال: لا. قال: "فاتقوا اللَّه وأعدلوا بين أولادكم" وفي لفظ: "فارجعه" وفي لفظ: "اشْهِدْ على هذا غيري" (¬2)، متفق عليه، وهذا أمر تهديد قطعًا لا أمر إباحة لأنه سماه جورًا وخلاف العدل وأخبر أنه لا يصلح، "وأمر برده ومحال مع هذا أن يأذن [اللَّه له] (¬3) في الإشهاد على ما هذا شأنه، وباللَّه التوفيق. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- فقال: يا رسول [اللَّه] (¬4) قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا [رجل] (3) ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثُلُثيّ مالي؟ قال: "لا" قلت: فالشَّطر يا رسول اللَّه؟ قال: "لا" قلت: فالثلث؟ قال: "الثلثُ، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، وإِنَّك لن تُنفقَ نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت بها حتى ما تجعله (¬5) في فِيِّ امرأتك" (¬6)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرو بن العاص فقال: يا رسول اللَّه إن أبي أوصى أن يُعتق عنه مئة رقبة فأعتق ابنه هشام خمسين وبقيت عليه خمسون رقبة أفأعتق عنه؟ فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدَّقتم عنه أو حججتم ¬

_ = والحديث ذكره العلامة شيخنا الألباني في "الإرواء" (5/ 316)، و"السلسلة الصحيحة" (256) مصححًا له بطرقه، واللَّه أعلم. (¬1) رواه البخاري (5737) في (الطب): باب الشروط في الرقية بفاتحة الكتاب، من حديث ابن عباس. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (د). (¬5) في المطبوع: "تجعل" والمثبت من (ك). (¬6) تقدم تخريجه.

فصل [فتاوى في المواريث]

عنه، بلغه ذلك" (¬1)، ذكره أبو داود. فصل [فتاوى في المواريث] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: "لك السدس" فلما أدبر دعاه فقال: "لك سدس آخر" فلما ولى دعاه، وقال: "إن السدس الآخر طُعمة" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن الكَلالة؟ فقال: "يكفيك من ذلك الآية التي أنزلت في الصَّيْف (¬3) في آخر سورة النساء" (¬4)، ذكره مالك. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- جابر كيف أقضى في مالي، ولا يرثني إلا كَلالة؟ فنزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (¬5) [النساء: 176]، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- تميم الداريّ: يا رسول اللَّه، ما السُّنّة في الرجل من المشركين ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (2883) في (الوصايا): باب ما جاء في وصية الحربي يُسلم وليه أيلزمه أن ينفذها، ومن طريقه البيهقي (6/ 279) من طريق العباس بن الوليد بن مزيد: أخبرني أبي حدثنا الأوزاعي حدثني حسان بن عطية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. وإسناد جيد. (¬2) رواه أحمد (4/ 428 - 429 و 436)، وأبو داود (2896) في (الفرائض): باب ما جاء في ميراث الجد، والترمذي (2104) في (الفرائض): باب ما جاء في ميراث الجد، والطبراني في "الكبير" (18/ 295)، والدارقطني (4/ 84)، والبيهقي (6/ 244) من طرق عن همام عن قتادة عن الحسن عن عمران بن الحصين به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. أقول: في سماع الحسن البصري من عمران نظر، وقد نفاها أحمد وغيره، ومن أثبت له السماع أثبت له شيئًا يسيرًا، وهو مدلس، وقد عنعن. وفي الباب عن معقل بن يسار وفي سنده اختلاف. (¬3) "أي التي نزلت في الصيف، وهي التي في آخر النساء، أما التي في أولها فنزلت في الشتاء" (و). (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) أقرب لفظ لهذا هو ما رواه مسلم (1616) في (الفرائض): باب ميراث الكلالة، وهو في "صحيح البخاري" نحوه ذكره في مواطن منها (194) في (الوضوء): باب صب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وضوءه على مغمى عليه، وانظر للفائدة حديث (4577) وتعليق الحافظ ابن حجر عليه، وتعليقه على آخر سورة النساء في "الفتح" كذلك.

يُسلم على يد رجل من المسلمين؟ فقال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته" (¬1)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 102 و 103)، والدارمي (2/ 337)، وعبد الرزاق (9872 و 16271)، وابن أبي شيبة (11/ 408)، وسعيد بن منصور (203)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" (2/ 116) - والترمذي (2117) في (الفرائض): باب ميراث الذي يسلم على يدي الرجل، وابن ماجه (2752) في (الفرائض): باب الرجل يسلم على يد الرجل، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2852)، ويعقوب بن سفيان في "تاريخه" (2/ 439)، والطبراني (1272)، والبيهقي (10/ 296)، والدارقطني (3/ 181 و 182)، والخطيب في "تاريخه" (7/ 53) والمزي في "تهذيب الكمال" (16/ 194) من طرق عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن عبد اللَّه بن موهب عن تميم الداري به. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث عبد اللَّه بن وهب، ويقال: ابن موهب عن تميم الداري، وليس إسناده بمتصل، وقد أدخل بعضهم بين عبد اللَّه بن موهب وبين تميم الداري قبيصة بن ذؤيب، وضعفه الشافعي بجهالة عبد اللَّه بن موهب، وبالانقطاع بينه وبين تميم، وضعفه البخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 199) بأنه لا يصح لمعارضته حديث "الولاء لمن أعتق"، وعلقه البخاري في "صحيحه" قبل حديث (6757) بصيغة التمريض، قال: ويذكر ثم قال: وقد اختلفوا في صحة هذا الخبر. وتكلم في هذا الحديث أيضًا الخطابي وابن المنذر والأوزاعي، كما في "الفتح" (12/ 46 و 47). والحديث رواه أبو داود (2918) في (الفرائض): باب الرجل يسلم على يدي الرجل، والبخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 198 - 199)، والباغندي في "مسند عمر بن عبد العزيز" (82)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (2853 و 2854 و 2855)، والطبراني (1273) والحاكم (2/ 219)، والبيهقي (10/ 297) من طريق يحيى بن حمزة، حدثني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت عبد اللَّه بن موهب يحدث عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري به، فزاد هنا قبيصة بن ذؤيب. أقول: إعلال الحديث من قبل بالانقطاع زال بهذه الطريق، فهذا إسناد صحيح متصل، وإن كان في بعض الروايات السابقة ما يفيد سماع عبد اللَّه بن موهب من تميم الداري. وعبد اللَّه بن موهب هذا وثقه يعقوب بن سفيان والعجلي، وهذا يرد قول الشافعي بأنه غير معروف. وكلام بعضهم في عبد العزيز بن عمر لا يصح أيضًا فهو من رجال البخاري، وأما تعليل البخاري للحديث بأنه مخالف لحديث "الولاء لمن أعتق"، فانظر "الفتح" (12/ 47). وقد قال أبو زرعة الدمشقي كما في "الفتح": هذا حديث حسن المخرج متصل. وقال المؤلف -رحمه اللَّه- في "تهذيب سنن أبي داود": لا ينحط عن أدنى درجات الحسن، وانظر رد ابن التركماني على كلام الشافعي في تضعيفه للحديث.

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: كنت تصدقتُ على أمي بوليدة، وإنها ماتت، وتركت الوليدة، قال: "قد وجب أجرك، ورجعت إليك بالميراث" (¬1)، ذكره أبو داود، وهو ظاهر جدًا في القول بالرد، فتأمله. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكلالة؟ قال: "ما خلا الولد والوالد" (¬2)، ذكره أبو عبد اللَّه المقدسي في "أحكامه". وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة سعد فقالت: يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا سعد، قتل معك يوم أحد، وإن عمهما أخذ جميع ما ترك أبوهما، وأن المرأة لا [تنكح إلا] (¬3) على مالها، فسكت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أنزلت آية الميراث، فدعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخا سعد بن الربيع فقال: "أَعط بنتي سعد ثُلثيّ ما ترك (¬4) وأعط امرأته الثمن وخذ أنت ما بقي" (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (1656) في (الزكاة): باب من تصدق بصدقة ثم ورثها، و (2877) في (الوصايا): باب ما جاء في الرجل يهب الهبة، ثم يُوصي له بها أو يرثها، و (3309) في (الأيمان والنذور). وهو في "صحيح مسلم" (1149) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت ولفظه: قالت: إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها ماتت، فقال: "وجب أجرك وردها عليك الميراث" من حديث بريدة. وفي المطبوع: "في الميراث" والمثبت من (ك). (¬2) أخرجه عبد الرزاق (19189)، وابن أبي شيبة (11/ 415)، في "مصنفيهما"، وابن جرير (8/ 55، 59 - ط. شاكر) وسعيد بن منصور (588، 589، 590)، والحاكم (2/ 303 - 304)، والبيهقي (6/ 225)، عن ابن عباس قوله، وهو صحيح عنه، وروي عن أبي بكر الصديق قوله، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 756)، بلفظ المصنف إلى أبي الشيخ في "الفرائض" من حديث البراء. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) في المطبوع "ميراثه" والمثبت من (ك)، وفي بعض مصادر التخريج: "ماله". (¬5) رواه أحمد (3/ 352)، وأبو داود (2892) في (الفرائض): باب ما جاء في ميراث الصلب، والترمذي (2097) في الفرائض: باب ما جاء في ميراث البنات، وابن ماجه (2720) في (الفرائض): باب فرائض الصلب، وابن سعد (3/ 524)، وأبو يعلى (2039)، والدارقطني (4/ 79)، والحاكم (4/ 334 و 342)، والبيهقي (6/ 216 و 229) من طرق عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن جابر به. قال الترمذي: هذا حديث صحيح، لا نعرفه إلا من حديث عبد اللَّه بن محمد بن عقيل. وصححه الحاكم. =

وسئل أبو موسى [الأشعري] (¬1) عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال: للبنت النصف وللأخت النصف وأتِ ابن مسعود فسيتابعني، فسُئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين أَقضي فيها بما قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت (¬2)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: عندي ميراث رجل من الأزْد ولست أجد أزديًا أدفعه إليه، فقال: "اذهب فالتمس أزديًا حولًا" فأتاه بعد الحول، فقال: يا رسول اللَّه لم أجد أزديًا أدفعه إليه، قال: فانطلق، فانظر أول خُزاعيّ تلقاه فادفعه إليه. "فلما ولَّى قال: "عليَّ بالرجل" فلما جاءه قال: "انظر كبير خزاعة فادفعه إليه" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل مات، ولم يدع وارثًا إلا غلامًا له كان أعتقه، فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل له أحد"؟ قالوا: لا، إلا غلامًا له كان أعتقه، فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ميراثه له (¬4)، ذكره أحمد وأهل "السنن"، وهو ¬

_ = أقول: عبد اللَّه بن محمد بن عقيل هذا حسن الحديث. وقد خالف بشر بن المفضل في متن الحديث، فرواه عن عبد اللَّه بن محمد بن عقيل عن جابر به، إلا أنه قال: قالت: يا رسول اللَّه هاتان ابنتا ثابت بن قيس. أخرجه من طريقه أبو داود (2891)، والدارقطني (4/ 78)، والبيهقي (6/ 229) إلا أنه عند الدارقطني على الشك، ثابت بن قيس أو سعد بن الربيع. وصوّب أبو داود والبيهقي أنه سعد بن الربيع، كما هو في جميع الروايات. وانظر: "إرواء الغليل" (6/ 122)، وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 4016، 4017). (¬1) ما بين المعقوفتين من المطبوع فقط. (¬2) رواه البخاري (6736) في (الفرائض): باب ميراث ابنة ابن مع ابنة، و (6742): باب ميراث الأخوات مع البنات عصبة. (¬3) تقدم تخريجه، وفي المطبوع: "أكبر" بدل "كبير". (¬4) رواه أحمد (1/ 221 و 358)، وأبو داود (2905) في (الفرائض): باب ميراث ذوي الأرحام، والترمذي (2111) في (الفرائض): باب ميراث المولى الأسفل، والنسائي في "الكبرى" (6409 و 6480)، وابن ماجه (2741) في (الفرائض): باب من لا وارث له، وعبد الرزاق (16191 و 16192)، والحميدي (523)، وسعيد بن منصور (194)، والطيالسي (1445)، والعقيلي (3/ 414)، والطحاوي (4/ 403)، وأبو يعلى (2399)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 403) و"المشكل" (3879، 3880، 3881، 3882، 3883)، والطبراني (12209 - 12211)، والحاكم (4/ 347)، =

[حديث] (¬1) حسن وبهذه الفتوى نأخذ (¬2). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها، وولدها الذي لاعنتْ عليه (¬3)، ذكره أحمد وأهل "السنن"، وهو حديث حسن وبه نأخذ. ¬

_ = والبيهقي (6/ 242)، والمزي في "تهذيب الكمال" (22/ 435) من طرق عن عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس به. قال الترمذي: هذا حديث حسن. أقول: عوسجة هذا ليس له راوٍ إلا عمرو بن دينار، وقال أبو حاتم والنسائي: ليس بمشهور، وقال الذهبي: لا يعرف، وقال البخاري: لا يصح حديثه، وقال العقيلي: لا يتابع عليه (أي هذا الحديث)، ووثقه أبو زرعة وابن حبان. والعمل على خلاف هذا الحديث أصلًا، فبعد أن حسنه الترمذي قال: والعمل عند أهل العلم في هذا الباب: إذا مات الرجل ولم يترك عصبة أن ميراثه يجعلُ في بيت مال المسلمين! ومع هذا حسنّه. والحديث رواه الحاكم (4/ 346) من طريق أبي الحسين محمد بن أحمد الخياط: حدثنا أبو قلابة: حدثنا أبو عاصم: أخبرنا ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس به. وهذا خطأ قال البيهقي (6/ 242): رواه بعض الرواة عن عمرو عن عكرمة عن ابن عباس، وهو غلط لا شك فيه. أقول: والغلط يظهر أنه من أبي قلابة، فهو كثير الخطأ في الأسانيد والمتون، كان يحدث من حفظه فكثرت الأوهام منه، كما قال الدارقطني، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق تغير حفظه لما سكن بغداد. وقد خالفه من هو أوثق منه، وهو سليمان بن سيف الحراني، فرواه عن أبي عاصم به، بذكر (عوسجة) بدل (عكرمة). ومع كل هذا فقد صحح الحاكم الحديث على شرط البخاري، ووافقه الذهبي! ورواه البيهقي (6/ 242) من طريقين عن عمرو بن دينار عن عوسجة مرسلًا، وهو في "ضعيف سنن ابن ماجه" (599)، وانظر "الإرواء" (1669). (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ط. دار الحديث) وسقط من باقي المطبوع. (¬2) قال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (28/ 278): "وقال بذلك طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم". (¬3) رواه أبو داود (2906) في (الفرائض): باب ميراث ابن الملاعنة، والترمذي (2120) في الفرائض: باب ما جاء ما يرث النساء من الولاء، والنسائي في "الكبرى" (6360) و (6361)، وابن ماجه (2742) في (الفرائض): باب تحوز المرأة ثلاثة مواريث، وأحمد (3/ 490 و 4/ 106 - 107)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1707)، والطحاوي في "المشكل" (2870)، والحاكم (4/ 340)، والبيهقي (6/ 240 و 259) والمزي في "تهذيب الكمال" (21/ 346) من طريق محمد بن حرب عن عمر بن رؤبة التغلبي عن =

وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن المرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدًا فإذا قتل أحدهما صاحبه عمدًا لم يرث من ديته، وماله شيئًا، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأ ورث من ماله، ولم يرث من ديته (¬1)، ذكره ابن ماجه وبه نأخذ. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه إيما رجل عاهر بحرَّة أو أَمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يُورَّث (¬2)، ذكره الترمذي. ¬

_ = عبد الواحد بن عبد اللَّه النصري عن واثلة بن الأسقع به. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن حرب. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قال الحافظ في "الفتح" (12/ 31): "فيه عمر بن رؤبة، مختلف فيه، قال البخاري: فيه نظر ووثقه جماعة". أقول: هو لم يوثقه إلا ابن حبان، وتوثيقه معروف، ودحيم، وقد رأيته يتساهل في هذا الباب أيضًا، أما ابن أبي حاتم فقال: سألت أبي عنه فقال: صالح الحديث، فقلت: تقوم به الحجة؟ قال: لا، ولكن صالح، وقال ابن عدي بعد أن ذكر تضعيف البخاري له: وإنما أنكروا أحاديثه عن عبد الواحد النصري، ولذلك قال الذهبي أيضًا: "ليس بذاك"، وقد جزم شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (6/ 24) بضعفه، لكن كون ميراث ابن الملاعنة لأمه وارد أيضًا في حديثين، فانظرهما قريبًا. (¬1) رواه ابن ماجه (2736) في (الفرائض): باب ميراث القاتل، وابن الجارود (967)، والدارقطني (4/ 72 - 73)، والبيهقي (6/ 221) من طريق محمد بن سعيد، وبعضهم لقول: عمر بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة": محمد بن سعيد هو المصلوب، قال أحمد بن حنبل: حديثه موضوع، وقال مرّة: عمدًا كان يضع الحديث. أقول: محمد هذا أو عمر ليس بالمصلوب، كما قال البوصيري، وإنما هو رجل مجهول كما حققته في غير هذا الموضع. ورواه عبد الرزاق (17774) من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب مرسلًا، وابن جريج مدلس وقد عنعن. وعلقه البيهقي (6/ 221) من طريق الواقدي عن الضحاك بن عثمان عن مخرمة بن بكير عن أبيه عن عمرو بن شعيب، والواقدي متروك. فهو إذن حديث ضعيف لا تقوم به حجة، كما قال الشافعي -رحمه اللَّه- فيما نقله عنه البيهقي. (¬2) رواه أحمد (2/ 219)، والدارمي (2/ 389)، وأبو داود (2265 و 2266) في (الطلاق): باب في ادعاء ولد الزنا، والترمذي (2118) في (الفرائض): باب ما جاء في إبطال ولد =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في ولد المتلاعِنَيْن أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن قذفها جلد ثمانين، ومن دعاه ولد زنا جلد ثمانين (¬1)، ذكره أحمد وأبو داود، وعند أبي داود: "وجعل ميراث ولد الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها" (¬2). ¬

_ = الزنا، وابن ماجه (2745 و 2746) في (الفرائض): باب في ادعاء الولد، والحاكم (4/ 342)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 74)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 23)، والبيهقي (6/ 260) من طرق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به مطولًا ومختصرًا. وبعض أسانيده حسنة لذاتها، وبعضها فيها كلام، وهي طرق تقوي بعضها بعضًا. وقد ذكر البوصيري حديث ابن ماجه الثاني في "الزوائد" (2/ 104) مع أنه نفس لفظ أبي داود! وحسّن إسناده، وقال: وهو في بعض نسخ ابن ماجه دون بعض ولم يذكره المزي في "الأطراف". أقول: وقد استدركه الحافظ ابن حجر في "النكت الظراف". (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 216): حدثنا يعقوب: حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال فذكره، وهو عند أحمد فقط، ولم يروه أبو داود بل رواية أبي داود هي الأخرى التي ذكرها المؤلف. قال الهيثمي (6/ 280): رواه أحمد من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب، فإن كان هذا تصريحًا بالسماع فرجاله ثقات وإلا فهي عنعنة ابن إسحاق، وهو مدلس وبقية رجاله ثقات. أقول: بل قول ابن إسحاق: وذكر عمرو بن شعيب ظاهره الانقطاع وليس الاتصال. والجزء الأول من الحديث رواه الخلال كما في "التلخيص" (3/ 227) من طريق ابن إسحاق أيضًا عن عمرو بن شعيب به، ويشهد لأوله حديث واثلة المتقدم، والذي بعده أيضًا، فقد روي من طريق آخر عن عمرو بن شعيب. والجزء الثاني منه يشهد له ما رواه أبو داود (2256) من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. . . وفيه: "ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد". لكن رواية عباد بن منصور عن عكرمة معلولة، إذ إنها في الأصل عن إبراهيم بن أبي يحيى الأسلمي، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، وإبراهيم هذا متروك. فالجزء الأول يتقوى بالشواهد، أما الثاني فلا. (¬2) رواه أبو داود (2908)، ومن طريقه البيهقي (6/ 259) من طريق الوليد أخبرني عيسى أبو محمد عن العلاء بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به. قال البيهقي: عيسى هو ابن موسى أبو محمد القرشي فيه نظر. أقول: لكنه توبع، فقد رواه الدارمي (2/ 390) من طريق الهيثم بن حميد عن العلاء به نحوه، والهيثم هذا لا بأس به. لكن طريق الوليد السابق قد رواه أيضًا أبو داود والبيهقي من طريقه قال: أخبرنا ابن جابر حدثنا مكحول قال: جعل رسول اللَّه. . . هكذا مرسل. =

[فتاوى تتعلق بالعتق]

[فتاوى تتعلق بالعتق] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الشَّريد بن سُويد فقال: إن أُمي أوصت أن نعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبيَّة أفأعتقها عنها؟ فقال: "ائت بها"، فقال [لها] (¬1): "من ربك"؟ قالت: اللَّه، قال: "من أَنا"؟ قالت: [أنت] (1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "أعتقها؟ فإنَّها مؤمنة" (¬2)، ذكره أهل "السنن". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: عليَّ عتق رقبة مؤمنة وأتاه بجارية سوداء أعجمية فقال لها: "أين اللَّه"؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها السبابة، فقال لها: "من أَنا" فأشارت [بأصبعها] إلى رسول اللَّه وإلى السماء؛ أي أنت رسول اللَّه [فقال: "أعتقها"] (¬3)، ذكره أحمد. وسأله معاوية بن الحكم السُّلميّ فقال: كانت لي جارية ترعى غَنَمًا لي قِبَل نجد الجوَّانيّة (¬4)، فاطَّلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأَنا ¬

_ = لكن هذا المرسل لا يعل الموصول، فمن المحتمل أن يكون الوليد قد رواه على الوجهين، وانظر ما قبله. (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬2) رواه أحمد (4/ 222 و 388 و 389)، وأبو داود (3283) في (الأيمان والنذور): باب الرقبة المؤمنة، والنسائي (6/ 252) في (الوصايا): باب فضل الصدقة عن الميت، والدارمي (2/ 107)، وابن حبان (189)، والطبراني (7257)، والبيهقي (7/ 388 - 389) من طرق عن حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن الشريد به. وإسناده حسن. (¬3) رواه أحمد (2/ 291)، وابن خزيمة في "التوحيد" (123 - 124)، وابن قدامة المقدسي في "صفة العلو" (رقم 17) من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن عون بن عبد اللَّه عن أخيه عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن أبي هريرة به. ورواه أبو داود (3284) في (الإيمان والنذور): باب في الرقبة المؤمنة، ومن طريقه البيهقي (7/ 388) من طريق يزيد بن هارون والطبراني في "الأوسط" (3/ رقم 2598) من طريق عبد اللَّه بن رجاء كلاهما عن المسعودي أيضًا إلا أنه قال: عن عون بن عبد اللَّه بن عتبة عن أبيه (وعند الطبراني: عن أخيه) عن أبي هريرة. أقول: وهذا من تخاليط المسعودي، ويزيد بن هارون سمع منه بعد الاختلاط. والحديث ذكره الهيثمي في "المجمع" (1/ 23 - 24)، وقال: رواه أحمد والبزار والطبراني في "الأوسط" ورجاله موثقون!! ويشهد له ما قبله وما بعده، وفي "المجمع" شواهد كثيرة (1/ 23 و 4/ 244)، وانظر: "الأوسط" للطبراني (5523، 7070، 7561)، وما بين المعقوفات سقط من (ك). (¬4) أثبتها (د) و (ح): "الجوابية" وقالا: "هكذا في النسختين، وفي "معجم البلدان": =

رجل من بني آدم آسَف كما يأسَفون، فصككتها صكةً فعظُمَ ذلك على (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقلت: أفلا أعتقها؟ فقال: "ائتني بها" فقال لها: "أين اللَّه؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول اللَّه، قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة" (¬2). قال الشافعي: فلما وصفت الإيمان، وأن ربها تبارك وتعالى في السماء قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة"، فقد سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أين اللَّه". وسأل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أين اللَّه"؟ فأجاب من سأله بأن اللَّه في السماء فرضي جوابه وعلم به أنه حقيقة الإيمان لربه تبارك وتعالى، وأجاب هو -صلى اللَّه عليه وسلم- من سأله أين اللَّه؟ ولم ينكر هذا السؤال عليه، وعند الجهمي أن السؤال بأين اللَّه؟ كالسؤال بما لونه؟ وما طعمه؟ وما جنسه؟ وما أصله؟ ونحو ذلك من الأسئلة المحالة الباطلة. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- ميمونة أم المؤمنين فقالت: أشعرتَ أنّي أَعتقتُ وليدتي؟ قال: "لو أعطيتها أخوالَك كان أعظم لأجرك" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- نفر من بني سليم عن صاحب لهم قد أوجب -يعني: النار بالقتل- فقال: "اعتقوا عنه يعتق اللَّه بكل عضوٍ منه عضوًا من النار" (¬4)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: كم أعفو عن الخادم؟ فصمت عنه، ثم قال: يا رسول اللَّه كم أعفو عن الخادم؟ قال: "اعف عنه كل يوم سبعين مرة" (¬5)، ذكره أبو داود. ¬

_ = "الجوانية -بفتحتين والثانية مشددة-". وقال (و): "في"مراصد الاطلاع": "الجوابة: رداه بنجد -جمع ردهة- لها جبال سود صغار، أو الجونية -بفتح الجيم وتشديد الواو-: موضع أو قرية قرب المدينة". قلت: وما أثبتناه من (ك). (¬1) في (ك): "فعظم على ذلك". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري (2592) في (الهبة) باب هبة المرأة لغير زوجها، و (2594) باب من يبدأ بالهدية، ومسلم (999) في (الزكاة): باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه أبو داود (5164) في (الأدب): باب في حق المملوك -ومن طريقه البيهقي (8/ 10 - 11) - والترمذي بإثر (1954) في "البر والصلة": باب ما جاء في العفو عن الخادم، وعلقه البخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 4) من طرق عن ابن وهب وأحمد (2/ 90)، وعبد بن حميد (821) وأبو يعلى (5760)، والبيهقي (8/ 10)، والمزي في "تهذيب الكمال" (14/ 206) من طريق سعيد بن أبي أيوب، وأحمد (2/ 111) من طريق ابن لهيعة، والترمذي (1949) من طريق رشدين بن سعد جميعهم عن أبي هانئ حميد بن هانئ الخولاني عن العباس بن جليد الحجري سمعت عبد اللَّه بن عمر به. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ولد الزنا فقال: "لا خيرَ فيه، نعلان أجاهد فيهما في سبيل اللَّه أحبُّ إليَّ من أن أعتق ولد الزنا" (¬1)، ذكره أحمد. ¬

_ = هكذا في المطبوع من "سنن أبي داود" ابن عمر، وهو كذلك في نسخة ابن حجر منه -وقد اعتمدها محمد عوامة أصلًا في نشرته (5/ 418 - 419) - ولم يذكره في "إتحاف المهرة" (8/ 488 رقم 9826) إلا عن ابن عمر، وأشار المنذري في "تهذيب السنن" (5001) إلى خلاف وقع فيه، وذكره المزي في "تحفة الأشراف" (6/ 346 - 347) في مسند ابن عمرو، وقد بين البخاري في "التاريخ الكبير"، والترمذي اختلاف الرواة على ابن وهب، فبعضهم يجعله عن ابن عمر، وبعضهم عن ابن عمرو، وكان البخاري يرجح أنه ابن عمرو؛ لأنه قال في بداية الترجمة: عباس بن جليد سمع عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. ثم ختم البخاري الترجمة بقوله: وهو حديث فيه نظر. أما الترمذي فقال: هذا حديث حسن غريب. أقول: عباس بن جليد هذا وثقه أبو زرعة، ويعقوب بن سفيان، وابن حبان والعجلي، وقال أبو حاتم: لا أعلم سمع عباس بن جليد عن عبد اللَّه بن عمر، وتعقبه محققوا "المسند" (9/ 454 - ط. الرسالة) بما لا طائل تحته! قالوا: "لكن بعضهم قال: لم يسمع من ابن عمر! مع أنه قد عاصره ابن عمر، وصرح بسماعه منه في رواية أحمد بن سعيد الهمداني وأحمد بن عمرو بن السرح عن ابن وهب عن أبي هانئ عند أبي داود والبيهقي من طريقه، وقد وقع في رواية أصبغ عن ابن وهب: سمع عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال البيهقي: وابن عمر أصح" انتهى. قلت: وقع غلط في مطبوع "سنن أبي داود" و"سنن البيهقي" لم ينتبه له هؤلاء فغلطوا أبا حاتم وصوابه أن صحابي الحديث عندهما (ابن عمرو) لا (ابن عمر) كما نص عليه المزي في "التحفة" و"تهذيب الكمال". فعلى قول أبي حاتم، إن كان الحديث عن ابن عمر ففيه انقطاع، وإن كان عن ابن عمرو، فهو صحيح؛ لأنه ثبت سماعه منه كما صرح به البخاري. (¬1) رواه أحمد (6/ 463)، وابن ماجه (2531) في العتق: باب عتق ولد الزنا، وابن سعد في "الطبقات" (8/ 305)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (917)، والطبراني في "الكبير" (25/ 58)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3441)، والحاكم (4/ 41)، والمزي في "تهذيب الكمال" (34/ 408)، من طرق عن إسرائيل عن زيد بن جبير عن أبي يزيد الضَّنَّي (وتحرف في جل المصادر إلى الضبي، فليصحح، وانظر له "تهذيب الكمال" (34/ 408)) عن ميمونة بنت سعد مولاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 298): هذا إسناد ضعيف أبو يزيد الضنِّي، قال عبد الغني: منكر الحديث، وقال البخاري والذهبي: مجهول، وقال الدارقطني: ليس بمعروف. أقول: وفيه أيضًا زيد بن جبير، ويقال فيه: زيد بن جبيرة، وهو شر من أبي يزيد قال البخاري: متروك، وقال أبو حاتم: لا يكتب حديثه، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سعد بن عبادة فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: "أعتق عن أمك" (¬1)، ذكره أحمد، وعند مالك: إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال: "نعم" (¬2). واستفتته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها-، [فقالت] (¬3): إني أردت أن أشتري جارية فأعتقها فقال أهلها: نبيعكها على أنَّ ولاءها لنا، فقال: "لا يمنعك ذلك إنما الولاء لمن أعتق" (¬4). والحديث في "الصحيح" فقالت طائفة: يصح الشرط والعقد، ويجما الوفاء به، وهو خطأ، وقالت طائفة: يبطل العقد والشرط، وإنما صح عقد عائشة لأن الشرط لم يكن في صلب العقد، وإنما كان متقدمًا عليه فهو بمنزلة الوعد لا يلزم الوفاء به، وهذا وإن كان أَقرب من الذي قبله فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُعلِّل به، ولا أَشار في الحديث إليه بوجه ما والشرط المتقدم كالمقارن، وقالت طائفة: في الكلام إضمار تقديره: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطيه، فإن اشتراطه لا يفيد شيئًا لأن الولاء لمن أعتق، وهذا أقرب من الذي قبله مع مخالفته لظاهر اللفظ، وقالت ¬

_ = وأظن أنه هو الذي ألصق الحديث بأبى يزيد هذا. وعزاه البوصيري للنسائي في (العتق): في غير رواية ابن السني عنه، وكذلك هو في "تحفة الأشراف" (12/ 499)، وانظر: "ضعيف سنن ابن ماجه" (551). وروى البيهقي (10/ 59) نحوه من قول عمر موقوفًا عليه. وفي إسناده نظر، وانظر: "مشكل الآثار". (¬1) رواه أحمد (6/ 7)، والطبراني في "الكبير" (5368) من طريق سليمان بن كثير عن الزهري عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس أن سعد بن عبادة قال: يا رسول اللَّه. . . (فذكره). ورواته ثقات من رجال "الصحيحين" لكن سليمان هذا روايته عن الزهري فيها ضعف، وتوبع، تابعه سفيان، عند الحاكم (3/ 254)، وابن الجارود (ص 314). وللحديث أصل في "صحيح البخاري" (2761 و 6698 و 6959)، ومسلم (1638)، وغيرهما من طرق كثيرة عن الزهري به ولفظه: "أنه استفتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في نذر كان على أمه توفيت قبل أن تقضيه" قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فاقضه عنها". (¬2) بهذا اللفظ لم أجده عند مالك، والذي في "الموطأ" (2/ 472) هو اللفظ الذي ذكرته في "الصحيحين"، واللَّه أعلم. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) رواه البخاري في مواطن منها (2156) في (البيوع): باب الشراء والبيع مع النساء، و (2169) في باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، ومسلم (1504) في (العتق): باب إنما الولاء لمن أعتق.

فصل [فتاوى في الزواج]

طائفة: اللام بمعنى على، أي اشترطي عليهم الولاء، فإنك أنت التي تعتقين، والولاء لمن أعتق، وهذا وإن كان أقل تكلفًا مما تقدم ففيه إلغاء الاشتراط، فإنها لو لم تشترطه لكان الحكم كذلك، وقالت طائفة: هذه الزيادة ليست من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل هي من قول هشام بن عروة، وهذا جواب الشافعي نفسه، وقال شيخنا (¬1): بل الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باشتراط الولاء تصحيحًا لهذا الشرط، ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه، إذ أبى أن يبيع جارية للمعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم اللَّه تعالى وشرعه، فأمرها أنْ تدخل تحت شرطهم الباطل ليظهر به حكم اللَّه ورسوله؛ [في أن] (¬2) الشروط الباطلة لا تغيّر شرعه، وإن من شرط ما يخالف دينه لم يجز أنْ يوفّى له بشرطه، ولا يبطل البيع به، وإن من عرف فساد الشرط وشرطه ألغى اشتراطه، ولم يعتبر، فتأمل هذه الطريقة، وما قبلها من الطرق واللَّه تعالى أعلم. فصل [فتاوى في الزواج] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي النساء خير؟ فقال: "التي تسرُّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها، وماله" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي المال يتخذ؟ فقال: "ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا ¬

_ (¬1) قال (ح): "وقد تعرض لهذا [شيخ الإسلام] ابن تيمية في "تفسير سورة النور" بما يشفي ويكفي". قلت: انظر: "مجموع الفتاوى" (29/ 130). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "لأن". (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 251 و 432)، والنسائي في "سننه الصغرى" (6/ 68) في "النكاح": باب أي النساء خير، وفي "عشرة النساء" (75)، والحاكم (2/ 161 - 162)، والبيهقي (7/ 82) من طرق عن محمد بن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة به. وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. لكن محمد بن عجلان أخرج له مسلم متابعة. ثم رواه محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة. أخرجه أحمد (2/ 438) من طريق يحيى القطان عنه، وهذا من محمد بن عجلان، فقد اختلطت عليه أحاديث أبي هريرة، وعلى كل حال فهو دائر بين ثقتين ولا حرج. والحديث حسنه شيخنا الألباني في "الإرواء" (6/ 197) إلا أنه لم ينبِّه لهذا الخلاف في إسناده الذي ذكرت، وفي (ك): "الذي تسره" بدل "التي تسره".

وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة" (¬1)، ذكره أحمد والترمذي وحسَّنه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إنّي أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وأنَّها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: "لا"، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: "تزوجوا الولود الودود، فإنّي مكاثر بكم الأمم" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 278)، والترمذي بعد (3103) في (تفسير سورة التوبة): وابن جرير في "التفسير" (10/ 119) من طريق إسرائيل، ورواه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 182)، وابن جرير (10/ 119 - 120) من طريق جرير كلاهما عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان به. ورواه أحمد (5/ 282)، -ومن طريقه أبو نعيم في "الحلية" (1/ 182)، والمزي في "تهذيب الكمال" (15/ 371) - وابن ماجه (1856) في (النكاح): باب أفضل النساء من طريق عبد اللَّه بن عمرو بن مرة عن أبيه عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان به. وتوبع عبد اللَّه، تابعه محمد بن عبد اللَّه المرادي، عند الطبراني في "الأوسط" (7/ رقم 6696 - طـ. الطحان). قال الترمذي: هذا حديث حسن سألت محمد بن إسماعيل فقلت له: سالم بن أبي الجعد سمع من ثوبان؟ فقال: لا. أقول: وسالم هذا قال أحمد بن حنبل أيضًا -كما في "جامع التحصيل"-: لم يلق ثوبان بينهما معدان بن أبي طلحة. لذلك قال ابن كثير في "تفسيره" (2/ 336): "ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلًا"، قلت: رواه ابن جرير (10/ 119)، وابن أبي حاتم (6/ رقم 15083) كلاهما في "التفسير" من طريق عبد الرزاق -وهو في "تفسيره" (1/ 246) - أخبرنا الثوري عن منصور عن عمرو بن مرة عن سالم به مرسلًا. ورواه مؤمل -وهو ضعيف- عن سفيان عن منصور عن الأعمش وعمرو بن مرة عن سالم مرسلًا أيضًا. واختلف عليه، فرواه بعضهم عنه ووصله وزاد مع ابن مرة والأعمش ابن منصور كما عند الطبراني في "الأوسط" (3/ رقم 2295 - طـ. الطحان) وله شاهد من حديث ابن عباس، عند ابن أبي حاتم في "التفسير" (6/ رقم 10080) وإسناده ضعيف. وله شاهد آخر، رواه أحمد (5/ 366)، والنسائي في "الكبرى" -كما في "تحفة الأشراف" (11/ 176)،- وليس هو في مطبوع "سنن النسائي الكبرى" -من طريق عبد اللَّه بن أبي الهذيل، عن صاحب له، فذكر نحوه. (¬2) رواه أبو داود (2050) في (النكاح): باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، والنسائي (6/ 65 - 66) في (النكاح): باب كراهية تزويج العقيم، وابن حبان (4056 و 4057)، والطبراني (20/ 508)، والحاكم (2/ 162)، والبيهقي (7/ 81)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 13 - 62) من طرق عن يزيد بن هارون: أخبرنا المستلم بن سعيد عن منصور بن زاذان، عن معاوية بن قرة عن معقل بن يسار به. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- فقال: إني رجل شاب، و [إني] (¬1) أخاف الفتنة، ولا أجد ما أتزوج به، أفلا أختصي؟ قال: فسكت عني، ثم قلت فسكت عنِّي، ثم قال: "يا أبا هريرة جفَّ القلم بما أنت لاقٍ فاختصِ على ذلك أو ذَر" (¬2)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[رجل] آخر فقال: يا رسول اللَّه ائذن لي أن اختصي؟ قال: "خصاءُ أمتي الصيام" (¬3)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ناس من أصحابه فقالوا: ذهب أهل الدثور (¬4) بالأجور يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم، قال: "أو ليس قد جعل اللَّه لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول اللَّه، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو كان وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها ¬

_ = وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات غير المستلم، وهو لا بأس به. وله شاهد من حديث أنس وآخر من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ذكره البخاري (5076) في (النكاح): باب ما يكره من التبتل والخصاء معلقًا، وقال أصبغ:. . . وذكره. قال الحافظ في "الفتح" (9/ 119): كذا في جميع الروايات التي وقفت عليها وكلام أبي نعيم في "المستخرج" يشعر بأنه قال فيه: "حدثنا" وقد وصله جعفر الفريابي في كتاب "القدر"، والجوزقي في "الجمع بين الصحيحين" والإسماعيلي من طرق عن أصبغ. أقول: وهو في "القدر" للفريابي (437) حدثني محمد بن إسحاق أبو بكر أخبرني أصبغ به. وفي جميع النسخ المطبوعة: "فاختصر على ذلك" بدل "فاختصِ" والمثبت من (ك) ومصادر التخريج. (¬3) رواه أحمد (2/ 173)، وابن عدي (2/ 855 - 856) من طريق ابن لهيعة: حدثني حيي بن عبد اللَّه بن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص به، وزاد: "والقيام". وهذا إسناد ضعيف لسوء حفظ ابن لهيعة. والحديث ذكره شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (1830)، وذكر له شاهدين ضعيفين، وقوّى الحديث بهما، دون لفظة: "القيام". وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع وأثبتناه من (ك). (¬4) "الدثور: جمع دثر، وزن قلب: المال الكثير، ويقع على الواحد والاثنين والجميع" (و).

في الحلال كان له أجر" (¬1)، ذكره مسلم. وأفتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أراد أن يتزوج امرأة بأن ينظر إليها (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- المغيرة بن شعبة عن امرأة خَطَبها، قال: "اذهب، فانظر إليها، فإنه أجدر أن يُؤدم (¬3) بينكما" فأتى أبويها فأخبرهما بقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكأنَّهما كرها ذلك، فسمعت ذلك المرأةُ وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرك أن تنظر، فانظر، وإلا فإني أنشدك، كأنَّها عظمت ذلك عليه، قال: فنظرتُ إليها فتزوجتها فذكر من موافقتها له (¬4)، ذكره أحمد وأهل "السنن". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- جرير عن نظرة الفجاءة فقال: "اصرف بَصَرك" (¬5)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، وما ملكت يمينك" قال قلت: يا رسول اللَّه إذا كان القوم ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1006) في (الزكاة): باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، من حديث أبي ذر. وذكر في (ك) التحميد مكان التسبيح، والتسبيح مكان التحميد، وجاء في المطبوع: "فكذلك إذا كان وضعها. . ." وما أثبتناه من (ك) و"صحيح مسلم". (¬2) رواه مسلم (1424) في (النكاح): باب ندب النظر إلى وجه المرأة وكفيها لمن يريد تزويجها، من حديث أبي هريرة. (¬3) قال (د): "في المصريتين: أن يدوم"، وأشار إليه (و). (¬4) رواه أحمد (4/ 244 - 245 و 246)، وابن أبي شيبة (4/ 355)، والدارمي (2/ 134)، وسعيد بن منصور (516 و 517 و 518)، والترمذي (1088) في (النكاح): باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة، والنسائي (6/ 69 - 70) في (النكاح): باب إباحة النظر قبل التزويج، وابن ماجه (1866) في (النكاح): باب النظر إلى المرأة إذا أراد أن يتزوجها، وابن الجارود (675)، والدارقطني (3/ 252 و 253)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 14)، والبيهقي (7/ 84 و 84 - 85)، والبغوي (2247) من طريق ثابت وعاصم الأحول عن بكر بن عبد اللَّه المزني عن المغيرة بن شعبة به، وعند بعضهم الاقتصار على المتن فقط. قال الترمذي: هذا حديث حسن. وروى المتن منه عبد بن حميد (1254)، وابن ماجه (1865)، وابن الجارود (676)، وأبو يعلى (3438)، وابن حبان (4043)، والدارقطني (3/ 253)، والحاكم (2/ 165)، والبيهقي (7/ 84) من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس أن المغيرة بن شعبة. . . (فذكره). وصححه الحاكم على شرط الشيخين. (¬5) رواه مسلم (2159) في (الآداب): باب نظر الفجأة.

بعضهم في بعض؟ فقال: "إن استطعت أن لا يرينها أحد، فلا يرينها" قال: قلت: يا رسول اللَّه إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "اللَّه أحق أَن يُستحيا منه" (¬1)، ذكره أهل "السنن". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أن يزوجه امرأة فأمره أن يصدقها شيئًا ولو خاتمًا من حديد فلم يجده فقال: "ما معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا. قال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن" (¬2) متفق عليه. وأستأذنته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة في الحجامة فأمر أبا طيبة أن يحجمها، قال: "حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة أو غلامًا لم يحتلم" (¬3)، ذكره مسلم. وأمر -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة وميمونة أن يحتجبا من ابن أم مكتوم، فقالتا: أليس [هو] أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ قال: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ " (¬4)، ذكره ¬

_ (¬1) رواه أحمد (5/ 3 - 4 و 4)، وعبد الرزاق (1106)، وأبو داود (4017) في (الحمام): باب ما جاء في التعري، والترمذي (2769) في (الأدب): باب ما جاء في حفظ العورة، و (2794) باب ما جاء في حفظ العورة، وابن ماجه (1920) في (النكاح): باب التستر عند الجماع، والنسائي في "عشرة النساء" (86)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1381 و 1382)، والحاكم (4/ 179 - 180)، والبيهقي (1/ 199 و 2/ 225 و 4/ 179 - 180 و 7/ 94) من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وعلق البخاري في "صحيحه" الجملة الأخيرة منه بصيغة الجزم في (الغسل): باب من اغتسل عريانًا وحده في الخلوة (278). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه مسلم (2206) في (السلام): باب لكل داء دواء، واستحباب التداوي من حديثها. وتحرف اسم "أبي طيبة" في (ك) إلى: "أبي ظبية"!! (¬4) رواه أحمد (6/ 296)، وأبو داود (4112) في (اللباس): باب في قوله عز وجل {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}، والترمذي (2783) في (الأدب): باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال، والنسائي في "عشرة النساء" (359 و 360)، وإسحاق بن راهويه (1848، 1939)، وابن سعد في "الطبقات الكبرى" (8/ 175، 178)، وأبو يعلى (6922)، وابن حبان (5575)، والطبراني في "الكبير" (23/ رقم 678، 956)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (288 و 289)، والبيهقي في "الكبرى" (7/ 91 - 92)، وفي "الآداب" (886)، وابن حبان (5575 و 5576)، والخطيب في "تاريخه" (3/ 17 و 8/ 338 - 339)، والمزي في "تهذيب الكمال" (29/ 313) من طرق عن الزهري عن نبهان مولى أم سلمة عن مولاته أم سلمة به. =

أهل "السنن" وصحَّحه الترمذي فأخذت طائفة بهذه الفتوى وحرمت على المرأة نظرها إلى الرجل، وعارضت طائفة أخرى هذا الحديث بحديث عائشة في "الصحيحين" أنها كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد (¬1)، وفي هذه المعارضة نظر إذ لعل قصة الحبشة كانت قبل نزول الحجاب؟ وخصَّت طائفة أخرى ذلك بأزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهن. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- عن الجارية ينكحها أهلها أتستامر أم لا؟ فقال: "نعم تُستأمر" قالت عائشة -رضي اللَّه عنها- فإنها تستحي؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فذاك إذنها إذا هي سكتت" (¬2)، متفق عليه. وبهذه الفتوى نأخذ، وأنه لا بد من استئمار البكر، وقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأيم أحقُّ بنفسها من وليها والبكر تستامر في نفسها وإذنها صماتها" (¬3)، وفي ¬

_ = قال الترمذي: حديث حسن صحيح!! وقال النسائي: ما نعلم أحدًا روى عن نبهان غير الزهري. أقول: نبهان هذا روى عنه أيضًا محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة (وهو ثقة)، وذكره ابن حبان في "الثقات"، لكن قال أحمد بن حنبل: نبهان روى حديثين عجيبين، انظر: "المغني" (6/ 563). وقد اضطرب الحافظ ابن حجر في الحكم على هذا الحديث، فقال في "الفتح" (1/ 550): وهو حديث مختلف في صحته، وقال في (9/ 337): وإسناده قوي، وأكثر ما علل به انفراد الزهري بالرواية عن نبهان، وليس بعلة قادحة، فإن من يعرفه الزهري ويصفه بأنه مكاتب أم سلمة، ولم يجرحه أحد لا ترد روايته. وحديثه هذا معارض بحديث فاطمة بنت قيس عند مسلم (1480)، وفيه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وكان أعمى، تضع عنده ولا يراها، ولذلك قال أبو داود بعد أن أخرج حديث أم سلمة: هذا لأزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ألا ترى إلى اعتداد فاطمة بنت قيس عند ابن أم مكتوم؟! وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) رواه البخاري في مواطن منها: (454) في (الصلاة): باب أصحاب الحراب في المسجد، ومسلم (892) بعد (17 - 21) في (صلاة العيدين): باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه أيام العيد، من حديث عائشة. (¬2) هو بهذا اللفظ في "صحيح مسلم" (1420) في (النكاح): باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق والبكر بالسكوت، من حديث عائشة. وهو في "صحيح البخاري" (5137 و 6946 و 6971) من الطريق نفسه لكن في لفظه اختلاف. (¬3) اللفظان المذكوران رواهما مسلم في "صحيحه" (1421) من حديث ابن عباس.

لفظ: "والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وإذنها صماتها"، وفي "الصحيحين" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" (¬1)، وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- جارية بكر فقالت: إن أباها زوجها وهي كارهة فخيَّرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5136) في (النكاح): باب لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاهما، و (6968 و 6970) في (الحيل): باب في النكاح، ومسلم (1419) من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه أحمد (1/ 273)، وأبو داود (2096) في (النكاح): باب في البكر يزوجها أبوها ولا يستأمرها، والنسائي في "الكبرى" (5387)، وابن ماجه (1875) في (النكاح): باب من زوج ابنته وهي كارهة، وأبو يعلى (2526)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 365)، والدارقطني (3/ 235)، والبيهقي (7/ 117) من طرق عن حسين بن محمد: حدثنا جرير بن حازم عن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس أن جارية بكرًا أتت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت أن أباها زوجها وهي كارهة فخيرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ورواه أبو داود (2097)، والبيهقي (7/ 117) من طريق محمد بن عبيد عن حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. قال أبو داود: لم يذكر ابن عباس، وكذلك رواه الناس مرسلًا. وقال البيهقي: فهذا حديث أخطأ فيه جرير بن حازم عن أيوب السختياني، والمحفوظ: عن أيوب عن عكرمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال أبو حاتم -كما في "علل ابنه" (1/ 417) -: وهو خطأ إنما هو كما روى الثقات حماد بن زيد، وابن علية عن أيوب عن عكرمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، وهو صحيح، فقلت له: الوهم ممن؟ فقال: ينبغي أن يكون من حسين فإنه لم يروه عن جرير بن حازم غيره. أقول: وقد رد الخطيب ذلك كما في "نصب الراية" (3/ 190) وقال: قد رواه سليمان بن حرب عن جرير بن حازم أيضًا، كما رواه حسين فبرئت عهدته. ورحم اللَّه أبا حاتم فتعصيب الجناية يجب أن تكون في جرير بن حازم، وليس في حسين بن محمد، وحسين هذا من الثقات، وجرير كذلك إلا أنه كان يهم في الشيء، فإعلال الحديث به أولى، كما يفهم من كلام أبي داود والبيهقي. وقد رد الحافظ في "التلخيص الحبير" (3/ 161) على إعلاله بالإرسال وتوهيم جرير بن حازم فقال: رواه معمر بن جدعان الرقي عن زيد بن حبان عن أيوب موصولًا. أقول: ورواية زيد هذه أخرجها النسائي في "الكبرى" (5389) وابن ماجه بعد الحديث السابق والدارقطني (3/ 235)، لكن زيد بن حبان ضعفه أحمد وابن معين والعقيلي والدارقطني، ووثقه ابن معين في رواية. قال ابن حجر: ورواه أيوب بن سويد عن الثوري عن أيوب موصولًا. أقول: وأيوب بن سويد هذا ضعفه ابن المبارك والبخاري والنسائي وأبو حاتم وابن حبان، وقال ابن عدي: يكتب حديثه في جملة الضعفاء، وضعفه الساجي، وأبو داود والجوزجاني وأحمد وابن معين. =

فقد أمر باستئذان البكر، ونهى عن إنكاحها بدون إذنها (¬1)، وخير -صلى اللَّه عليه وسلم- من نكحت ولم تُستأذن فكيف بالعدول عن ذلك كله ومخالفته بمجرد مفهوم قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها"؟ كيف ومنطوقه صريح في أن هذا المفهوم الذي فهمه من قال: تُنكح بغير اختيارها غير مراد؟ فإنه قال عقيبه: "والبكر تستأذن في نفسها" بل هذا احتراز منه -صلى اللَّه عليه وسلم- من حمل كلامه على ذلك المفهوم، كما هو المعتاد في خطابه كقوله: "لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬2)، فإنه لما نفى قتل المسلم بالكافر أوهم ذلك إهدار دم الكافر، وأنه لا حرمة له، فرفع هذا الوهم بقوله: "ولا ذو عهد في عهده" ولما كان الاقتصار على قوله: "ولا ذو عهد" يوهم أنه لا يُقتل إذا ثبت له العهد من حيث الجملة رفع هذا الوهم بقوله: "في عهده" وجعل ذلك قيدًا لعصمة العهد فيه، وهذا كثير في كلامه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن تأمله كقوله: "ولا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها"، فإن نهيه عن الجلوس عليها لما كان ربما يوهم التعظيم المحذور رفعه بقوله: "ولا تصلوا إليها" (¬3)، والمقصود أن أمره ¬

_ = وبعد كل هذا يقول الحافظ في "التقريب": صدوق يخطئ. مع أني لم أجد فيه كلمة تشعر بتوثيقه، ورواية أيوب هذه رواها الدارقطني (3/ 235)، ومما يدل على ضعف أيوب هذا أن الدارقطني (3/ 234)، والبيهقي (7/ 117) روياه من طريق عبد الملك بن عبد الرحمن الذماري عن سفيان الثوري عن هشام عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة عن ابن عباس به. قال الدارقطني: هذا وهم من الذماري وتفرد بهذا الإسناد والصواب عن يحيى بن أبي كثير عن المهاجر عن عكرمة مرسل، وهم فيه الذماري عن الثوري وليس بالقوي. وأخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 365) من طريق وكيع عن سفيان عن أيوب عن عكرمة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فرق بين رجل وبين امرأة زوجها أبوها وهي كارهة، وكانت ثيبًا. وقال: "فثبت بذلك عندهم خطأ جرير في هذا الحديث من وجهين: أما أحدهما: فإدخاله ابن عباس فيه. وأما الآخر: "فذكر فيه أنها كان بكرًا، وإنما كانت ثيبًا". أقول: فهذه الطرق التي تمسكوا بها إذن كلها فيها مقال، فالصواب في هذا الحديث إذن هو الإرسال لأن الذين أرسلوا هم من الثقات الأثبات. أما ابن القطان فصححه، كما في "نصب الراية" (3/ 190)، وأظن هذا على قاعدته أن الثقة إذا وصل حديثًا فالحكم له، ولو خالفه جماعة من الثقات، وفي الباب عن جابر وعائشة انظر: "التلخيص" (3/ 161)، و"نصب الراية" (3/ 191)، و"تهذيب السنن" (3/ 40 - 41) للمصنف، وتعليقي على "الإشراف" (3/ 294 - 295). (¬1) قال (د): "في نسخة: بدون استئذانها"، وهي كذلك في (ك). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) تقدم.

باستئذان البكر ونهيه عن نكاحها بدون إذنها وتخييرها حيث لم تستأذن لا معارض له فيتعين القول به، وباللَّه التوفيق. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صداق النساء فقال: "هو ما اصطلح عليه أهلوهم" (¬1)، ذكره الدارقطني، وعنده مرفوعًا: "أنكحوا اليتامى" قيل: يا رسول اللَّه ما العلائق بينهم؟ قال: "ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبًا من أراك" (¬2). ¬

_ (¬1) رواه الدارقطني (3/ 242)، والبيهقي (7/ 239) من طريق علي بن عاصم عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري به. وأبو هارون هذا هو عُمارة بن جوين ضعفه شعبة وأبو حاتم وأبو زرعة، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بشيء، وقال البخاري: تركه يحيى القطان، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال السعدي: كذاب مفتر، وقال ابن حبان: يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه. وله طريق آخر عن أبي هارون العبدي في "سنن البيهقي" (7/ 239)، وقال: أبو هارون غير محتج به، وقد روي من وجه آخر ضعيف عن أبي سعيد مرفوعًا. (¬2) رواه الدارقطني (3/ 244)، -ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (3/ ق 88)، وابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 94 رقم 2030) - والطبراني في "الكبير" (12990)، وابن عدي (6/ 2189)، والبيهقي (7/ 239) عن صالح بن عبد الجبار عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه عن ابن عباس به. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 280): فيه محمد بن عبد الرحمن البيلماني وهو ضعيف. أقول: بل ضعفه أشد، فقد قال البخاري وأبو حاتم والنسائي وغيرهم: منكر الحديث. وأبوه أيضًا ضعيف. لذلك قال الحافظ ابن حجر في "التلخيص الحبير" (3/ 190): إسناده ضعيف جدًا. وقد رواه ابن البيلماني هذا على وجه آخر. أخرجه ابن عدي (6/ 2189)، والبيهقي (7/ 239) من طريق، محمد بن الحارث عنه عن أبيه عن ابن عمر به. قال ابن عدي: وهذه الأحاديث مع غيرها الذي يرويها ابن البيلماني عن أبيه عن ابن عمر، وابن عباس، وكل ما روي عن ابن البيلماني فالبلاء فيه من ابن البيلماني، وإذا روى عن ابن البيلماني محمد بن الحارث هذا فجميعًا ضعيفان محمد بن الحارث وابن البيلماني، والضعف على حديثهما بيّن. أقول: وقد رواه عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن بن البيلماني عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. أخرجه أبو داود في "المراسيل" (215)، والبيهقي (7/ 239) قال البيهقي: وقد قيل =

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن أبي زوَّجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء (¬1)، ذكره أحمد والنسائي. ولما هلك عثمان بن مظعون ترك ابنة له فزوَّجها عمها قدامة من عبد اللَّه بن عمر، ولم يستأذنها فكرهت نكاحه وأحبت أن يتزوجها المغيرة بن شعبة فنزعها من ابن عمر وزوَّجها المغيرة، وقال: إنها يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = عن عبد الملك عن عبد الرحمن بن البيلماني عن عمر وليس بمحفوظ، وانظر: "بيان الوهم والإيهام" (2/ 149 - 150) وتعليقي على "الإشراف" (مسألة 1186). (¬1) رواه أحمد (6/ 136)، والنسائي (6/ 86) في (النكاح): باب البكر يزوجها أبوها وهي كارهة، والدارقطني (3/ 233)، والبيهقي (7/ 118) من طرق عن كهمس بن الحسن، عن عبد اللَّه بن بريدة عن عائشة. قال الدارقطني ونقله عنه البيهقي: هذا مرسل لم يسمع عبد اللَّه بن بريدة من عائشة. وقال ابن التركماني: عبد اللَّه بن بريدة ولد سنة خمس عشرة، وسمع جماعة من الصحابة، وقد ذكر مسلم في مقدمة كتابه أن المتفق عليه أن إمكان اللقاء والسماع يكفي للاتصال، ولا شك في إمكان سماع ابن بريدة من عائشة. أقول: ولم أجد من نفى سماع ابن بريدة من عائشة فاللَّه أعلم، مع أن كلام ابن التركماني متجه، ورواه البيهقي في "المعرفة" (10/ رقم 13592)، وجعل بين (عبد اللَّه بن بريدة، وعائشة): (يحيى بن يعمر)، ولكن على وجه فيه خطأ، بيّنه البيهقي نفسه. والحديث رواه ابن ماجه (1874) في (النكاح): باب من زوج ابنته وهي كارهة من طريق وكيع (وهو شيخ أحمد في هذا الحديث في "المسند") عن كهمس بن الحسن عن ابن بريدة عن أبيه به. فجعله من مسند بريدة. قال البوصيري (1/ 330): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. . . أقول: لم يذكر -رحمه اللَّه- شيئًا عن الاختلاف في إسناده، ولا أدري ممن هذا، وفي سماع عبد اللَّه بن بريدة من أبيه شيئًا، قال الجوزجاني: قلت لأبي عبد اللَّه -يعني: أحمد بن حنبل- سمع عبد اللَّه من أبيه شيئًا؟ قال: لا أدري عامة ما يروى عن بُريدة عنه، وضعف حديثه، وقال إبراهيم الحربي: عبد اللَّه أتم من سليمان، ولم يسمعا من أبيهما شيئًا، وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3497، 3498). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 130)، والدارقطني (3/ 230)، -ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 12) وفي "المعرفة" (10/ 53 رقم 13626) وفي "الخلافيات" (3/ ق 68)، وابن الجوزي في "التحقيق" (8/ 315 رقم 1967) - من طريق ابن إسحاق: حدثني عمر بن حسين بن عبد اللَّه مولى آل حاطب عن نافع مولى ابن عمر عن عبد اللَّه بن عمر، فذكره، وفيه قصة، وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات رجال مسلم غير ابن إسحاق، =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- مرثد الغَنَويّ فقال: يا رسول اللَّه أنكح عَنَاقًا، وكانت بغيًا بمكة فسكت عنه فنزلت [الآية]: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] فدعاه فقرأها عليه، وقال: "لا تنكحها" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل آخر عن نكاح امرأة يُقال لها أم مهزول كانت تسافح فقرأ عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الآية (¬2)، ذكره أحمد. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله (¬3)، وأخذ بهذه الفتاوى التي ¬

_ = فقد أخرج له استشهادًا لا احتجاجًا، وهو حسن الحديث إذا صرَّح بالسماع. وابن إسحاق متابع، فقد رواه الحاكم (2/ 167)، ومن طريق البيهقي (7/ 121) من طريق ابن أبي ذئب عن عمر بن حسين به. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وهو على شرط مسلم فقط، عمر بن حسين لم يخرج له البخاري. ورواه الدارقطني (3/ 230) من طريق عبد اللَّه بن نافع الصائغ: حدثنا عبد اللَّه بن نافع مولى ابن عمر، عن أبيه، عن ابن عمر. لكن عبد اللَّه بن نافع مولى ابن عمر ضعيف، فالعمدة على ما سبق. (¬1) رواه أبو داود (2051) في (النكاح): باب في قوله تعالى: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً}، والترمذي (3190) في (التفسير): باب ومن سورة النور، والنسائي (6/ 66) في (النكاح): باب تزويج الزانية، وابن أبي حاتم في "التفسير" (8/ رقم 14144)، والحاكم (2/ 166)، والبيهقي (7/ 153)، وإسحاق بن راهويه والبزار في "مسنديهما" -كما في تخريج الزيلعي على "الكشاف" (1/ 57 - مخطوط) - من طريق عبيد اللَّه بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 159 و 225)، والنسائي في "تفسيره" (2/ 110)، وابن أبي حاتم (8/ رقم 14140)، وابن جرير في "تفسيريهما" (18/ 71) من طريق معتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن الحضرمي عن القاسم بن محمد عن عبد اللَّه بن عمرو به. قال الهيثمي (7/ 73): ورواه أحمد والطبراني في "الكبير" بنحوه، ورجال أحمد ثقات. أقول: الحضرمي هذا يظهر أنه آخر غير الحضرمي بن لاحق وهو المشهور في هذه الطبقة، قال عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عن الحضرمي الذي يروي عنه التيمي فقال: ليس به بأس، وليس هو بالحضرمي بن لاحق، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وباقي رجال السند ثقات، فالحديث جيد إن شاء اللَّه تعالى. (¬3) رواه أبو داود (2052)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 817)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 166)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (8/ رقم 14133) من طريق عبد الوارث بن سعيد عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

لا معارض لها الإمام أحمد، ومن وافقه وهي من محاسن مذهبه رحمة اللَّه عليه، فإنه لم يجوِّز أن يكون الرجل زوج قحبة، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلًا قد ذكرناها في مواضع أخر (¬1). وأسلم قيس بن الحارث وتحته ثمان نسوة، فسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك فقال: "اختر منهن أربعًا" (¬2)، وأسلم غيلان وتحته عشر نسوة فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يأخذ منهن أربعًا (¬3)، ذكرهما أحمد وهما كالصريح في أن الخيرة إليه بين الأوائل والأواخر. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "موضع آخر" والمثبت من (ك). (¬2) رواه ابن أبي شيبة (3/ 405)، وأبو داود (2241 و 2242) في (الطلاق): باب في من أسلم وعنده نساء أكثر من أربع أو أختان، وابن ماجه (1952) في (النكاح): باب الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، وأبو يعلى (6872)، والعقيلي (1/ 299)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1054 و 2737)، وابن سعد في "الطبقات" (6/ 40)، والطبراني في "الكبير" (18/ 922)، وسعيد بن منصور في "سننه" (1863)، والدارقطني (3/ 270)، والبيهقي (7/ 183) من طريقين عن ابن أبي ليلى عن حُميضة بن الشَّمَرْدل عن قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس به. وهذا إسناد ضعيف؛ ابن أبي ليلى سيء الحفظ. وحميضة بن الشمردل هذا وقع في كثير من المصادر "بنت"، وهو رجل، قال البخاري: فيه نظر، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وذكره ابن عدي في "الضعفاء" وقال: له حديثان أو ثلاثة، وذكره ابن الجارود في "الضعفاء"، وقال ابن القطان: لا يعرف. وقد تناقض الأخ الفاضل الدكتور باسم الجوابرة محقق "الآحاد والمثاني" في حكمه على إسناد الحديث، ففي الموطن الأول قال: إسناده حسن، وفي الثاني قال: ضعيف. ورواه الطبراني في "الكبير" (18/ 923)، والدارقطني (3/ 270) من طريق الكلبي عن حميضة به. والكلبي هذا هو محمد بن السائب، متهم بالكذب. ورواه الدارقطني (3/ 271)، والبيهقي (7/ 183) من طريق معلى بن منصور عن هشيم عن مغيرة عن الربيع بن قيس أن جده الحارث بن قيس به، والربيع هذا لم أعرفه. قال ابن عبد البر في "الاستيعاب" (في ترجمة الحارث بن قيس) (2/ 309): ليس له إلا حديث واحد، ولم يأت من وجه صحيح. أما الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه- فذكره في "الإصابة" في الحارث بن قيس وقال: يأتي في القاف، وفي قيس بن الحارث أحال على الحارث بن قيس! ويشهد لمعناه الحديثان بعده. (¬3) تقدم تخريجه.

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيروز الديلمي فقال: أَسلمت وتحتي أُختان؟ فقال: "طلِّق أيتهما شئت" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- بَصْرة بن أَكثم فقال: نكحت امرأة بكرًا في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولدُ عبد لك فإذا ولدت فاجلدوها" وفرَّق بينهما (¬2)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو داود (2131) في (النكاح): باب في الرجل يتزوج المرأة فيجدها حبلى، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2212)، والدارقطني (3/ 250 - 251)، والحاكم (2/ 183)، والطبراني في "الكبير" (1243)، والبيهقي (7/ 157) من طرق عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن صفوان بن سليم عن سعيد بن المسيب عن رجل من الأنصار يقال له: نضرة فذكره. وقد اختلف في اسم صحابي هذا الحديث فقيل بصرة بن أكثم، وقيل: بسر، وقيل: نضرة بن أبى نضرة، وقيل: نضلة، وقد رجح الحافظ في "الإصابة": بصرة بن أكثم، وهذا هو الموجود في بعض النسخ العتيقة من "سنن أبي داود" (3/ 41 - ط. عوامة)، وانظر لـ"نضرة" "توضح المشتبه" (1/ 555). قال الدارقطني: قال عبد الرزاق: حديث ابن جريج عن صفوان هو ابن جريج عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم. وقال ابن أبي حاتم في "علله" (1/ 418) نقلًا عن أبيه: وما رواه ابن جريج عن صفوان بن سليم عن ابن المسيب عن نضرة ليس هو من حديث صفوان بن سليم، ويحتمل أن يكون من حديث ابن جريج عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان لأن ابن جريج يدلس عن ابن أبي يحيى عن صفوان بن سليم غير شيء، وهو لا يحتمل أن يكون منه. أقول: وقد رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (10704) قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد عن صفوان به، ورواه (10705) عن ابن جريج حُدِّثت عن صفوان به. فصح أن ابن جريج لم يسمعه من صفوان، وإنما أخذه عن إبراهيم هذا وهو الأسلمي متروك. وقد أسنده الدارقطني (3/ 251)، والبيهقي (7/ 175) من طريقين عن إبراهيم الأسلمي هذا عن صفوان بن سليم به، وذلك للدلالة على أن مدار الحديث عليه، وأن ابن جريج أسقطه. وقد أُعل الحديث أيضًا بالإرسال، قال أبو داود بعد روايته: روى هذا الحديث قتادة، عن سعيد بن يزيد عن ابن المسيب. ورواه يحيى بن أبي كثير عن يزيد بن نعيم عن سعيد بن المسيب، وعطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب أرسلوه كلهم. وقد أعله بالإرسال أيضًا أبو حاتم (2/ 418) قال: هذا حديث مرسل ليس بمتصل، ورغم كل هذا قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه!! =

ولا يشكل من هذه الفتوى إلا جعل (¬1) عبودية الولد واللَّه أعلم. وأسلمت امرأة على عهده -صلى اللَّه عليه وسلم- فتزوجت فجاء زوجها [الأول] (¬2) فقال: يا رسول اللَّه إني كنت أسلمت وعَلِمَت بإسلامي، فانتزعها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من زوجها الآخر، وردها إلى الأول (¬3)، ذكره أحمد وابن حبان. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقًا حتى مات فقضى لها على صداق نسائها وعليها العدة، ولها الميراث (¬4)، ذكره أحمد وأهل "السنن" وصححه الترمذي وغيره، وهذه فتوى لا معارض لها، فلا سبيل إلى العدول عنها. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن امرأة تزوجت ومرضت فتمعَّط شعرها، فأرادوا أن يصلوه، ¬

_ = وطريق يحيى بن أبي كثير المرسل، أخرجه أبو داود (2132)، والحاكم (2/ 183)، والبيهقي (7/ 157) من طريقين عن علي بن المبارك عن يزيد بن نعيم عن سعيد بن المسيب أن رجلًا يقال له: بصرة. . . لكن في "مستدرك الحاكم" جعله عن سعيد عن نضرة ليس على صورة الإرسال، وهو يروله من طريق أبي داود نفسه! فهو خطأ وانظر: "زاد المعاد" (4/ 4، 20 - 21)، و"تهذيب السنن" (3/ 60 - 63). (¬1) كذا في (ك) وفي سائر النسخ المطبوعة: "مثل". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من النسخ المطبوعة وأَثبتناه من (ك). (¬3) رواه أحمد (1/ 232 و 323)، وأبو داود (2239) في (الطلاق): باب إذا أسلم أحد الزوجين، وابن ماجه في (النكاح) (2008): باب الزوجين يسلم أحدهما قبل الآخر، وأبو داود الطيالسي (2674)، وعبد الرزاق (12645)، وابن الجارود (757)، وأبو يعلى (2525)، والحاكم (2/ 200)، والبيهقي (7/ 188 و 189)، والبغوي (2290) من طرق عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. أقول: ورواية سماك بن عكرمة فيها اضطراب كما قرر أهل الجرح والتعديل، وله شاهد من حديث ابن عباس أيضًا مخرّج في مكان آخر، وهو رد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زينب لزوجها بالنكاح الأول. (تنبيه): عزا ابن القيم -رحمه اللَّه- الحديث لابن حبان، لكن الذي رواه ابن حبان (4159)، وأحمد أيضًا (1/ 232)، وأبو داود (2238)، الترمذي (1146)، وأبو يعلى (2525) من طريق سماك عن عكرمة عن ابن عباس أيضًا أن امرأة أسلمت على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فجاء زوجها فقال: يا رسول اللَّه إنها قد كانت أسلمت معي، فردّها عليه. (¬4) هو مخرج من قبل وهو جزء من حديث في قضائه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بروع بنت واشق من حديث ابن مسعود.

فقال: "لعن اللَّه الواصلة والمستوصلة" (¬1)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العَزْل، قال: "أو إنكم لتفعلون؟! " قالها ثلاثًا: "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" متفق عليه. ولفظ مسلم: "لا عليكم أن لا تفعلوا ما كتب اللَّه عز وجل خَلْق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا عن العزل، فقال: "ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد اللَّه خلق شيء لم يمنعه شيء" (¬3)، وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إن لي جارية، وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل موءودة صغرى، فقال: "كذبت اليهود، لو أراد اللَّه أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه" (¬4)، ذكرهما أحمد وأبو داود. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5934) في (اللباس): باب وصل الشعر، ومسلم (2123) في (اللباس): باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة، من حديث عائشة. (¬2) اللفظ المذكور من "صحيح البخاري" هو فيه (5210) في (النكاح): باب العزل ورواه نحوه في مواطن انظر أطرافه عند (2229) في (البيوع): باب بيع الرقيق ولفظ "صحيح مسلم" فيه (1438) في (النكاح): باب حكم العزل من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) رواه مسلم (1438) بعد (133) ما بعده بدون رقم في (النكاح): باب حكم العزل من حديث أبي سعيد الخدري رحمه اللَّه. وقد عزاه المؤلف -رحمه اللَّه- لأحمد وأبي داود! (¬4) رواه أحمد (3/ 51 و 53)، وأبو داود (2171) في (النكاح): باب ما جاء في العزل، والنسائي في "عشرة النساء" (194 - 197)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1916 و 1917)، والبيهقي (7/ 230) من طرق عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي مطيع (ويقال أبي رفاعة) عن أبي سعيد به. أبو مطيع هذا ويقال: أبو رفاعة، اسمه رفاعة بن عوف الأنصاري، لم يرو عنه غير محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، فهو في عداد المجاهيل، ولكنه متابع فقد رواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (1918) من طريق ابن وهب قال: أخبرني عياش بن عقبة عن موسى بن وردان عن أبى سعيد به مختصرًا. وإسناده لا بأس به. ورواه الطحاوي (1919) من طريق آخر عن أبي سعيد. ورواه النسائي (199) من طريق أبي سلمة عن عبد الرحمن عن رجل عن أبي سعيد. وفي الباب عن جابر، رواه الترمذي (1138)، والنسائي في "عشرة النساء" (193)، وإسناده صحيح. وعن أبي هريرة، رواه النسائي (198)، وأبو يعلى (6011)، والبزار (1452)، والبيهقي (7/ 230)، وإسناده حسن.

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: عندي جارية، وأنا أعزل عنها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن ذلك لا يمنع شيئًا إذا أراد اللَّه"، فجاء الرجل فقال يا رسول (¬1) اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال: "أنا عبد اللَّه ورسوله"، ذكره مسلم، وعنده أيضًا: "إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا (¬2)، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: "اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها"، [فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: "إن الجارية قد حملت"، فقال: "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها"] (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر عن ذلك فقال: "لو أنَّ الماء الذي يكون منه الولد اهرقته على صخرة لأخرجه اللَّه منها وليخلقنَّ اللَّه عز وجل نفسًا هو خالقها" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) في المطبوع: "لرسول" والمثبت من (ك). (¬2) كذا في (ك) وفي "صحيح مسلم" وفي المطبوع: "وساقيتنا"!! (¬3) الحديث بلفظيه في "صحيح مسلم" (1439) بعد (134 و 135) في (النكاح): باب حكم العزل من حديث جابر، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 140)، وابن أبي عاصم في "السنة" (366)، والبزار (2163) من طريق أبي عاصم: ثنا مبارك بن الخياط قال: سألت ثمامة بن عبد اللَّه بن أنس عن العزل؟ فقال: سمعت أنس بن مالك يقول: جاء رجل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وسأل عن العزل، فذكره. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 296): إسناده حسن. وقال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (3/ 322 رقم 1333): هذا سند حسن، أو محتمل للحسن، رجاله ثقات رجال الستة غير مبارك، الخياط أبو عمرو، قال الحافظ في "تعجيل المنفعة": روى عنه أبو عامر العقدي وأبو عاصم النبيل، ذكره ابن أبي حاتم وقال: بصري جاور بمكة، وذكره ابن حبان في "الثقات". أقول: وقد عزا الحديث الحافظ ابن حجر في "الفتح" (7/ 309) لابن حبان في "صحيحه"، وكذا السيوطي والألباني، ولم أجده فيه من حديث أنس، نعم روى ابن حبان (4194) حديثًا في العزل من حديث جابر، وقال في آخره: فذكرت ذلك لإبراهيم فقال: كان يقال: لو أن النطفة التي قدر منها الولد وضعت على صخرة لأخرجت. وهذا الأثر عن إبراهيم النخعي، رواه عبد الرزاق (12569) عن سفيان الثوري عن الأعمش عنه، قال: كانوا يقولون. . . ورواه عبد الرزاق (12568) ومن طريقه الطبراني (9664) عن أبي حنيفة عن حماد بن سلمة عن علقمة عن ابن مسعود نحوه موقوفًا. قال الهيثمي (4/ 297): فيه رجل ضعيف لم أُسمِّه، وبقية رجاله رجال الصحيح. =

فصل

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال: "لِمَ تفعل ذلك"؟ فقال: أشفق على ولدها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كان ذلك ضارًا ضر فارس والروم" وفي لفظ: "إن كان كذلك فلا، ما ضرَّ ذلك فارس والروم" (¬1)، ذكره مسلم. فصل وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة من الأنصار عن التَّجبِيَة وهي وطء المرأة في قُبُلها من ناحية دبرها فتلا عليها قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] صمامًا واحدًا (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: يا رسول اللَّه هلكت، قال: "وما أهلكك؟ قال: ¬

_ = ورواه سعيد بن منصور (2221) عن هشيم: حدثنا منصور عن الحارث العكلي عن إبراهيم قال: سئل ابن مسعود نحوه. وهذا منقطع. والحديث له شاهد من حديث ابن عباس، رواه الطبراني في "الأوسط" (8189) قال الهيثمي (4/ 296): وفيه من لم أعرفه. وقد عزا الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 307 - 308) حديث ابن عباس هذا للطبراني في "الكبير" وليس فيه، وذكر له شاهدًا آخر من حديث ابن مسعود في "الأوسط" للطبراني. أقول: هو في الطبراني "الكبير" كما سبق موقوفًا عليه! (¬1) رواه مسلم (1443) في (النكاح): باب جواز الغيلة وهي وطء المرضع، من حديث أسامة بن زيد. وفي المطبوع: "إني اشفق على ولدها" والمثبت من (ك)، و"صحيح مسلم". (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 305 و 310 و 318 - 319)، والترمذي (2985) في (التفسير): باب ومن سورة البقرة، وأبو يعلى (6972)، والدارمي (1/ 256)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 42 - 43)، والطبري في "تفسيره" (2/ 396)، والبيهقي (7/ 195) كلهم من طرق عن عبد اللَّه بن عثمان بن خثيم عن عبد الرحمن بن سابط عن حفصة بنت عبد الرحمن عن أم سلمة به. قال الترمذي: حديث حسن، ويروى في سِمَام واحد. أقول: وهو على شرط مسلم. وقال عبد اللَّه بن أحمد (6/ 310) بعد أن رواه من طريق معمر عن عبد اللَّه بن عثمان به، وقال: قال أبي في موضع آخر: معمر عن ابن خثيم عن صفية عن أم سلمة. وهذا لعله من أخطاء معمر، ورواية الجماعة أولى من روايته أو أن يكون ابن خثيم رواه على الوجهين. وروى مسلم (1435) بعد (119) من حديث جابر: "إن شاء مجبية، وإن شاء غير مجبية غير أن ذلك في صمام واحد.

حوَّلتُ رحلي البارحة، فلم يرد عليه شيئًا فأوحى اللَّه إلى رسوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أقبل وأدبر واتقوا الحيضة والدبر (¬1)، ذكره أحمد والترمذي، وهذا هو الذي أباحه اللَّه ورسوله، وهو الوطء من الدبر لا في الدبر، وقد قال: "ملعونٌ مَنْ أتى امرأته في دبرها" (¬2)، وقال: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدَّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد" (¬3)، وقال: "إن اللَّه لا ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 297)، الترمذي (2986) في (التفسير): باب ومن سورة البقرة، والنسائي في (التفسير) (رقم 60) -المطبوع وحده- وفي "عشرة النساء" (91)، وأبو يعلى (2736)، وابن حبان (4202)، والطبري (2/ 397)، والطبراني في "الكبير" (12317)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (465)، والبيهقي (7/ 198) من طرق عن يعقوب القمي: حدثنا جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 444 و 479)، وأبو داود (2162) في (النكاح): باب في جامع النكاح، والنسائي في "عشرة النساء" (129)، من طريق سفيان عن سهيل بن أبي صالح عن الحارث بن مخلد عن أبي هريرة به. أقول: الحارث هذا قال فيه البزار: ليس بمشهور، وقال ابن القطان: "لا تعرف حاله"، وذكره ابن حبان في "الثقات" بل وذكره ابن شاهين في "الصحابة" ولذلك ذكره الحافظ في "الإصابة" وقال: "والحارث معروف بصحبة أبي هريرة"، وقال الذهبي في "الكاشف": صدوق. وقد رواه مسلم بن خالد الزنجي عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. أخرجه أبو يعلى (6462)، ومسلم هذا ضعيف، وقد خالف في إسناده كما رأيت. والحديث رواه الحارث بن مخلد عن أبي هريرة مرفوعًا، لكن بلفظ: "لا ينظر اللَّه إلى رجل يأتي المرأة في دبرها". (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 408 و 476)، والدارمي (1/ 259)، وأبو داود في "سننه" (3904) في (الطب): باب في الكاهن، والترمذي (135) في (الطهارة): باب ما جاء في كراهية إتيان الحائض، وابن ماجه (639) في الطهارة، باب النهي عن إتيان الحائض، والنسائي في "عشرة النساء" (130 و 131)، وابن عدي (2/ 637)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 45)، والعقيلي (1/ 318)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 16)، والبيهقي في "سننه الكبرى" (7/ 198) كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن حكيم الأثرم، عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة به. قال الترمذي: لا نعرف هذا الحديث إلا من حديث حكيم الأثرم عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي هريرة، وضعَّف محمد هذا الحديث من قبل إسناده. أقول: ذكره البخاري في ترجمة حكيم الأثرم، وقال: هذا حديث لا يتابع عليه، ولا يعرف لأبي تميمة سماع من أبي هريرة. =

يستحيي من الحق لا تأتوا النِّساء في أدبارهن" (¬1). ¬

_ = وقال البزار كما في "التلخيص" (3/ 180): هذا حديث منكر وحكيم لا يحتج به، وما انفرد به فليس بشيء. وقال الذهلي عن ابن المديني: أعيانا هذا (أي حكيم الأثرم)، ورغم ما قيل في حكيم هذا، إلا أن أبا داود قال: ثقة، وقال النسائي: لا بأس به، ونقل ابن أبي شيبة عن ابن المديني في "سؤالاته" (رقم 5) قوله فيه: ثقة عندنا. أقول: الذهلي أوثق من ابن أبي شيبة، وهو محمد بن عثمان، وقد تكلم فيه بعضهم، فالعبارة الأولى وهي: أعيانا هذا أصح، واللَّه أعلم. وقد تمسك بتوثيق ابن المديني وأبي داود العلامتان أحمد شاكر في "تعليقه على سنن الترمذي"، وشيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (7/ 69)، وحكما بصحة الإسناد. وممن صححه أيضًا الحافظان الذهبي والعراقي كما في "فيض القدير" للمناوي. والحديث أُعل بالوقف، قال العقيلي بعد روايته للحديث: وهذا رواه جماعة عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة موقوفًا. أقول: وهذا الموقوف رواه النسائي في "عشرة النساء" (132 - 135) من طرق عن ليث به. وليث هذا ضعيف. وانظر: "إرواء الغليل"، و"التلخيص الحبير" (3/ 180). (¬1) هو حديث خزيمة بن ثابت، وله عنه طرق: فقد رواه أحمد (5/ 213 و 214 و 215)، وسعيد بن منصور (368 - ط. الصميعي)، والبخاري في "تاريخه الكبير" (8/ 256)، وابن ماجه (1924) في (النكاح): باب النهي عن إتيان النساء في أدبارهن، والنسائي في "عشرة النساء" (97 - 99)، وابن حبان (4198 و 4200)، والدارمي (1/ 261 و 2/ 145)، والطحاوي (3/ 44)، والطبراني في "الكبير" (3733 و 3739 و 3740 و 3741 و 3742 و 4743)، و"الأوسط" (981)، والدوري في "ذم اللواط" (102، 104)، والبيهقي (7/ 197 و 198)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (5/ ق 7) من طرق عن هرمي بن عبد اللَّه الواقفي عنه به. وهرمي هذا روى عنه جمع وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال ابن حجر في "التقريب": "مستور"، وفي "التلخيص" (3/ 180): لا يعرف حاله. ورواه أحمد (5/ 213)، والحميدي (436)، وسعيد بن منصور (369)، والنسائي في "عشرة النساء" (96)، وابن أبي حاتم في "مناقب الشافعي" (ص 215)، وابن الجارود (728)، والطحاوي (3/ 43)، والطبراني (3716)، والبيهقي (7/ 197) وفي "مناقب الشافعي" (2/ 15)، وابن حزم (11/ 289) من طرق عن سفيان بن عيينة عن يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد، عن عمارة بن خزيمة عنه. وهذا إسناد رواته ثقات، رجال الشيخين غير عمارة وهو ثقة. لكن قال البيهقي: مدار هذا الحديث على هرمي بن عمارة، وليس لعمارة بن خزيمة =

وقال: "لا ينظر اللَّه إلى رجل أتى رجلًا أو امرأة في الدُّبر" (¬1)، وقال في ¬

_ = فيه أصل إلا من حديث ابن عيينة، وأهل العلم بالحديث يرونه خطأ واللَّه أعلم"، وقارن بما في "العلل" لابن أبي حاتم (1/ 403). وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (3/ 180): وقد قال الشافعي: "غلط ابن عيينة في إسناد حديث خزيمة" وقال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "إرواء الغليل" (67) بعد أن صحح طريق عمارة هذه: "ولكنهم أعلوه بما لا يظهر". ورواه الشافعي (2/ 92)، والنسائي في "عشرة النساء" (106 و 107 و 108)، والطحاوي (3/ 43)، والطبراني (3744)، والبيهقي (7/ 196) من طريق محمد بن علي بن شافع أخبرني عبد اللَّه بن السائب، عن عمرو بن أحيحة بن الجلاح الأنصاري عنه. قال الشافعي: عمي ثقة، وعبد اللَّه بن علي ثقة، وأخبرني محمد (أي ابن علي شيخه في هذا الحديث) عن الأنصاري المحدث أنه أثنى عليه خيرًا، وخزيمة ممن لا يشك عالم في ثقته، فلست أرخص فيه بل أنهى عنه. وقال الحافظ في "التلخيص" (3/ 179)، وفي هذا الإسناد عمرو بن أميمة، وهو مجهول الحال. ورواه أحمد (5/ 213)، والنسائي (109)، والحاكم في "معرفة علوم الحديث" (ص 160) من طريق عبد الرحمن بن مهدي (وسقط في إسناد الحاكم خطأ والصواب إثباته كما يفهم من تعليقه عليه) عن سفيان، عن عبد اللَّه بن شداد الأعرج، عن رجل عنه. فهذه طرق مختلفة وفيها مقال، وقد نقل الحافظ عن البزار أنه قال: وكل ما روي فيه عن خزيمة بن ثابت من طريق فيه فغير صحيح. وكأني ألمح من الحافظ في "التلخيص" إلى أنه يميل إلى عدم تقويته. (¬1) رواه ابن أبي شيبة (3/ 363)، والترمذي (1167) في (الرضاع): باب في كراهية إتيان النساء في أدبارهن، والنسائي في "عشرة النساء" (115)، وأبو يعلى (2378)، وابن الجارود (729)، وابن عدي (3/ 1130)، وابن حبان (4203 و 4204 و 4418)، من طريق أبي خالد الأحمر عن الضحاك بن عثمان، عن مخرمة بن سليمان، عن كريب، عن ابن عباس به. وعند بعضهم: "لا ينظر اللَّه إلى رجل أتى امرأة في دبر" دون "أتى رجلًا". قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. أقول: رواته كلهم من رواة الصحيح لكن أبو خالد الأحمر، سليمان بن حيان في حفظه شيء، قال ابن معين: صدوق وليس بحجة؛ وقال ابن عدي: له أحاديث صالحة، وإنما أتي من سوء حفظه ويخطئ وهو في الأصل كما قال ابن معين: صدوق وليس بحجة، وقال البزار: ليس ممن يلزم زيادته حجة لاتفاق أهل العلم بالنقل أنه لم يكن حافظًا. =

الذي يأتي امرأته في دبرها: "هي اللوطية الصغرى" (¬1)، وهذه الأحاديث جميعها ¬

_ = ومما يدل على أنه أخطأ هنا، أن وكيعًا (وهو أوثق منه بدرجات) رواه عن الضحاك به موقوفًا على ابن عباس. أخرجه النسائي في "عشرة النساء" (116). قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 181): وهو أصح عندهم من المرفوع. وله عند النسائي طرق أخرى موقوفة. (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 182 و 210)، والطيالسي (1593 - منحة)، والنسائي في "عشرة النساء" ("1)، و"البزار" (1455)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 303). و"الصغير" (1/ 273)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 44)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 198) من طرق عن همام عن قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الهيثمي (4/ 298): ورجال أحمد والبزار رجال الصحيح. لكن أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 46)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 303)، و"الصغير" (1/ 273) من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد اللَّه بن عمرو موقوفًا. وقال البخاري: والمرفوع لا يصح، وقال ابن كثير في "تفسيره" (1/ 270): وهذا أصح. أقول: سعيد بن أبي عروبة هو أوثق وأثبت أصحاب قتادة، فانظر "شرح علل الترمذي" (2/ 694). ورواه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعًا كذلك، عامر الأحول؛ أخرجه النسائي (110) من طريق زائدة بن أبي الرقاد عنه. وقال: زائدة لا أدري ما هو، هو مجهول، وقال البخاري عن زائدة: منكر الحديث، وزائدة متابع. فقد أخرجه ابن عدي (1/ 342) من طريق أيوب بن خوط عن عامر به، وأيوب هذا ساقط، تركه جماعة وكذبه الأزدي. ورواه النسائي (112) من طريق عبد الرحمن بن سفيان الأعرج عن عمرو بن شعيب عن عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا، فأسقط (عن أبيه). لكن خالف عبد الرحمن هذا سفيان الثوري، فرواه عن عمرو بن شعيب به موقوفًا (بإسقاط عن أبيه كذلك). أخرجه النسائي (113)، وعلقه البخاري في "التاريخ الصغير" (1/ 273) بذكر (عن أبيه) وتابع سفيان أيضًا يزيدُ بن هارون. أخرجه عبد بن حميد كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 270) مثل معلق البخاري، لكن قال الدارقطني في "علله" (2/ 83/ ب): وقيل: عن حمبد بن الأعرج عن عمرو بن شعيب عن جده عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. =

فصل [فتاوى في أحكام الرضاع]

ذكرها أحمد في "المسند" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما حق المرأة على الزوج (¬2)؟ قال: "أن يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت" (¬3)، ذكره أحمد وأهل "السنن". فصل [فتاوى في أحكام الرضاع] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة أم المؤمنين فقالت: إن أفلحَ أخا أبي القعيس استأذن عليَّ، وكانت امرأته أرضعتني، فقال: ائذني له فإنه عمك" (¬4) متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثاء رضعة أو رضعتين، فقال: "لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان" (¬5)، ذكره مسلم. ¬

_ = ونحن لم نعرف هذا الذي رفعه عن حميد، وقد وقفه سفيان ويزيد -كما ذكرت- وهما في الثقة والتثبت من هما، ثم عبارة الدارقطني تشعر أن الصحيح الوقف. ورواه أبو نعيم في "مسند أبي حنيفة" (ص 92) من طريق أبي حنيفة عن حميد الأعرج عن رجل عن أبي ذر مرفوعًا، ذكره الدارقطني في "علله" وقال: ولم يتابع على هذا أبو حنيفة. ورواه النسائي في "عشرة النساء" (114) من طريق مطر الوراق عن عمرو بن شعيب من قوله. إذن فالصحيح -كما ترى- في الحديث الوقف. قال الحافظ في "التلخيص" (3/ 181): وأخرجه النسائي وأعله والمحفوظ عن عبد اللَّه من قوله. أما الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه- فقد قال في "تعليقه على المسند" (11/ 163) -ردًا على ابن كثير وابن حجر-: "وهذا منهما ترجيح للموقوف على المرفوع، دون دليل، والرفع زيادة من ثقة بل من الثقات". أقول: قد رأيت من رفعه ومن وقفه والحق مع من وقف، واللَّه أعلم. (¬1) انظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- في اللوطية الصغرى ومفاسدها في "زاد المعاد" (3/ 148 - 150)، و"تهذيب السنن" (3/ 86)، وانظر كتاب: "الحدود والتعزيرات" (ص 163 - 165) للعلامة الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه-. (¬2) كذا في المطبوع، وفي (ك): "الرجل". (¬3) سيأتي تخريجه. (¬4) تقدم تخريجه، وفي المطبوع: "إنه عمك". (¬5) رواه مسلم (1451) في (الرضاع): باب في المصة والمصتان من حديث أم الفضل.

وسألته سهلة بنت سهيل فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا فقال: "أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة" فرجعت، فقالت: "إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة" (¬1)، ذكره مسلم. فأخذت طائفة من السلف بهذه الفتوى منهم عائشة، ولم يأخذ بها أكثر أهل العلم (¬2)، وقدَّموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرِّم بما قبل الفطام، وبالصغر، وبالحولين لوجوه أحدها: كثرتها، وانفراد حديث سالم، الثاني: أن جميع أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلا عائشة رضي اللَّه عنهن في شق المنع، الثالث: أنه أحوط، الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحمًا ولا ينشر عظمًا، فلا تحصل به البعضية التي هي سبب التحريم، الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصًا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته، السادس: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل على عائشة وعندها رجل قاعد فاشتد ذلك عليه وغضب فقالت: إنه أخي من الرضاعة فقال: "انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة" (¬3)، متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي قصة سالم مسلك آخر، وهو أن هذا كان موضع حاجة، فإن سالمًا كان قد تبنَّاه أبو حذيفة وربَّاه، ولم يكن له منه [بد] (¬4) ومن الدخول على أهله بد فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك وإليه كان شيخنا (¬5) يجنح واللَّه أعلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ينكح ابنة حمزة فقال: "لا تحلُّ لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" (¬6)، ذكره مسلم. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1453) بعد (27) في (الرضاع): باب رضاعة الكبير من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها-. (¬2) انظر تفصيل ذلك في "الإشراف" (4/ 53) للقاضي عبد الوهاب، وتعليقي عليه. (¬3) رواه البخاري (2647) في (الشهادات): باب الشهادة على الأنساب، و (5102) في (النكاح): باب من قال: لا رضاع بعد حولين، ومسلم (1455) في (الرضاعة): باب الرضاعة من المجاعة من حديث عائشة. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع وأثبتناه من (ك). (¬5) انظر: "مجموع فتاوى ابن تيمية" (34/ 60)، "الجامع للاختيارات الفقهية لشيخ الاسلام ابن تيمية" (2/ 855 - 859). (¬6) رواه البخاري (2645) في (الشهادات) و (5100) في (النكاح): باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن الحارث فقال: تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فقالت: أرضعتكما، وهي كاذبة، فأعرض عنه فقال: إنها كاذبة فقال: "كيف بها، وقد زعمت بأنها أرضعتكما؟ دعها عنك" ففارَقَهَا، ونكحها غيره (¬1)، ذكره مسلم، وللدارقطني: "دعها عنك لا خير لك فيها" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ما يُذهب عنّي مَذِمَّة الرضاع؟ فقال: "غُرَّة: عبدٌ أو أمة" (¬3)، ذكره الترمذي وصححه. والمذمة -بكسر الذال- من الذمام لا من الذم ¬

_ = أَرْضَعْنَكُمْ}، ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، ومسلم (1447) في (الرضاع): باب تحريم ابنة الأخ من الرضاعة، من حديث ابن عباس. ورواه مسلم (1446)، من حديث علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-. (¬1) تقدم تخريجه، وفي المطبوع: "وأنكحت غيره" والمثبت من (ك). (¬2) رواه الدارقطني (4/ 177) من طريق يزبد بن هارون عن ابن أبي عروبة، عن أيوب عن ابن أبي مليكة عن عقبة بن الحارث به. وإسناده صحيح رجاله ثقات، ويزيد سمع من ابن أبي عروبة قبل الاختلاط. (¬3) رواه الترمذي (1155) في (الرضاع): باب ما يذهب مذمة الرضاع، وأحمد (3/ 450)، وعبد الرزاق (13956)، والدارمي (2/ 157)، وأبو داود (2064) في (النكاح): باب في الرضخ عند الفصال، والنسائي (6/ 108) في (النكاح): باب حق الرضاع وحرمته، والحميدي (877)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2379)، وأبو يعلى (6836)، والبخاري في "تاريخه الكبير" (2/ 371)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (692 و 693)، وابن حبان (4230 و 4231)، والطبراني في "الكبير" (3199 و 3201 - 3208)، -وعنه أبو نعيم في "المعرفة" (2/ رقم 1945) - والبيهقي (7/ 464) كلهم من طرق عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن الحجاج الأسلمي عن أبيه به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. . هكذا رواه يحيى بن سعيد القطان، وحاتم بن إسماعيل، وغير واحد عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن حجاج عن أبيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وروى سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن حجاج بن أبي حجاج عن أبيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحديث ابن عيينة غير محفوظ. والصحيح ما روى هؤلاء عن هشام بن عروة عن أبيه. أقول: حديث سفيان أخرجه الطبراني في "الكبير" (3200)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2/ رقم 1944) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين عنه عن هشام عن أبيه عن حجاج، وهو خطأ كما قال الترمذي، وقد رواه الحميدي عنه عن هشام به، كما رواه الجماعة. أخرجه في "مسنده" (877)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (3205)، ورواه البخاري في "التاريخ" (2/ 371)، والطبراني في "الكبير" (3205) من طريق ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير، عن حجاج بن حجاج بن مالك صاحب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. هذا إسناد البخاري، ويظهر أنه سقط منه (عن أبيه): لأن الصحابي اسمه حجاج بن =

الذي هو نقيض المدح والمعنى أن للمرضعة (¬1) على المرضع حقًا وذمامًا فيذهبه عبد أو أمة فيعطيها إياه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما الذي يجوز من الشهود في الرضاع؟ فقال: "رجل أو امرأة" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = مالك الأسلمي، ثم وجدته في "مشكل الآثار" (694)، و"معرفة الصحابة" لأبي نعيم (2/ رقم 1947) من نفس الطريق بإثبات (عن أبيه)، وقرن الحماني -في رواية أبي نعيم- مع عروة هشام، وهذا خطأ، وفي إسناد الطبراني وقع: (عن الحجاج بن مالك الأسلمي عن أبيه) وهو خطأ أيضًا. ورواه البخاري في "التاريخ" (2/ 371) من طريق آخر عن ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة عن حجاج بن حجاج الأسلمي أنه سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا خطأ أيضًا وروي على وجوه وألوان أخر، تراها عند أبي نعيم في "المعرفة" (2/ رقم 1946، 1948، 1949) والصواب رواية الجماعة عن هشام بن عروة كما سبق. واعلم أن تصحيح الترمذي للحديث فيه نظر، فإن الحجاج بن الحجاج هذا لم يرو عنه غير عروة فقط، وذكره ابن حبان في "الثقات" كعادته. ولذلك قال الحافظ ابن حجر في "التقريب": مقبول: أي عند المتابعة، ولم يتابع هنا. وقد نقل الأخ الفاضل محقق "مسند أبي يعلى" عن الحافظ ابن حجر أنه قال فيه: (مجهول)، ولم يرتض هذا الحكم، وقال: لا يلتفت مع هذا إلى ما قاله الحافظ ابن حجر في "تقريبه": مجهول. أقول: الحافظ قال فيه: مقبول، وقد انتقل بصره إلى الذي بعده، وقد رد قول ابن حجر بناءً على توثيق ابن حبان والعجلي!، وهما من نفس البابة في توثيق المجاهيل، إن لم يكن العجلي -رحمه اللَّه- أكثر تساهلًا، فإن التابعين عنده كلهم على التوثيق. ولذا فتصحيح المعلق على "مسند أبي يعلى" للحديث فيه نظر، واللَّه أعلم. وقد ذكر الحافظ الحديث في "الإصابة" في ترجمة حجاج بن مالك الأسلمي، ولم يزد على أن عزاه لأصحاب "السنن" فقط، ولم يتكلم عليه بشيء. (¬1) في (د): "للمرضة". (¬2) رواه عبد الرزاق (13982 و 15437)، ومن طريقه أحمد في "مسنده" (2/ 35) عن شيخ من أهل نجران قال: سمعت ابن البيلماني يحدث عن أبيه عن ابن عمر فذكره. ولفظه في الموطن الأول عند عبد الرزاق: رجل وامرأة، وفي الموطن الثاني: رجل أو امرأة، ولفظ مطبوع "المسند": رجل وامرأة وامرأة! قال أحمد شاكر معلقًا في طبعته ("المسند" (7/ 58): في (ح) (م) هكذا، وهو خطأ في العطف بالواو بدل (أو)، وتكرر كله (وامرأة) وصححناه من (ك) و"مجمع الزوائد". قلت: وهو على الجادة -كما عند المصنف- في "إتحاف المهرة" (8/ 558) بينما هو في (8/ 510، 511 - ط. مؤسسة الرسالة): "رجل وامرأة". =

فصل من فتاويه -صلى الله عليه وسلم- في الطلاق

فصل من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الطلاق ثبت عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه سأله عن طلاق ابنه امرأته وهي حائض فأمر بأن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أن يطلق بعد فليطلِّق (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن امرأتي، وذكر من بذائها، فقال: "طلّقها" فقال: إن لها صحبة وولدًا، قال: "مُرْها وقل لها، فإن يكن فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظَعينَتك ضَرْبَك أَمتَك" (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = ورواه ابن أبي شيبة (3/ 323)، ومن طريقه أحمد في "مسنده"، وابنه عبد اللَّه في "زوائده" (2/ 35 و 109) والبيهقي (7/ 464) عن معتمر بن سليمان، عن محمد بن عثيم، عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر. لكن وقع في "سنن البيهقي" عن أبيه عن أبي عبيد، وهو خطأ قطعًا، وقد تحرفت أسماء الرواة في "مصنف ابن أبي شيبة" تحريفًا فاحشًا، وهو على الجادة في الطبعة الهندية (4/ 195 - 196 و 14/ 176). قال البيهقي: هذا إسنادٌ ضعيفٌ لا تقوم بمثله الحجة؛ محمد بن عثيم يرمى بالكذب، وابن البيلماني ضعيف، وقد اختلف عليه في متنه، فقيل هكذا رجل وامرأة، وقيل رجل وامرأتان. وقد عزاه الهيثمي في "المجمع" (4/ 201) للطبراني في "الكبير" أيضًا، وقال: فيه محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني وهو ضعيف. أقول: محمد بن عثيم هذا، قال فيه النسائي وغيره: متروك، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه، وقال ابن معين: كذاب، وضعفه الدارقطني وابن عدي (6/ 2245)، وابن البيلماني تركه غير واحد؛ كما سبق والحديث معارض للأحاديث الصحيحة. (¬1) رواه البخاري (4908) في (التفسير): باب سورة الطلاق، و (5251) في (الطلاق): باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، و (5252): باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق، ومسلم (1471) في (الطلاق): باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، من حديث ابن عمر، عن عمر. وفي (ك): "يطلق" بدل "فليطلق". (¬2) هو جزء من حديث طويل؛ رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (80)، ومن طريقه أحمد في "مسنده" (4/ 33) عن ابن جريج: أخبرني إسماعيل بن كثير، عن عاصم بن لقيط بن صبرة، عن أبيه أو جده به. هكذا هو في رواية عبد الرزاق على الشك: عن أبيه أو جده. وقد رواه الطبراني في "الكبير" (19/ 479) من طريق إسحاق الدبري عن عبد الرزاق به، دون شك قال: عن أبيه، وهذا هو الصواب؛ إذ هو هكذا في جميع الروايات. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس قال: "غيِّرها إنْ شِئت" لفظ: "طلقها" قال: إني أخاف أن تتبعها نفسي، قال: "فاستمتع بها" (¬1). ¬

_ = فقد رواه أحمد في "مسنده" (4/ 211)، وأبو داود (143) في (الطهارة): باب في الاستنثار، والبيهقي (1/ 51 - 52) من طريق يحيى بن سعيد القطان، والدارمي (1/ 179) من طريق أبي عاصم، كلاهما عن ابن جريج به. ورواه الشافعي في "مسنده" (1/ 32 - 33)، وأبو داود (142)، وابن حبان (1054)، والطبراني في "الكبير" (19/ 485)، والبيهقي (7/ 303) من طرق عن يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير به. ورواه الحاكم (1/ 148) من طريق داود العطار، عن إسماعيل بن كثير، عن عاصم به مختصرًا، وهذا حديث صحيح رجاله كلهم ثقات. (¬1) رواه النسائي (6/ 67) في (النكاح): باب تزويج الزانية، والبيهقي (7/ 154) من طريق حماد بن سلمة عن هارون بن رئاب، عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير، وعبد الكريم عن عبد اللَّه بن عبيد بن عمير عن ابن عباس، عبد الكريم يرفعه إلى ابن عباس، وهارون لم يرفعه. هذا لفظ وسياق النسائي، ثم قال: هذا حديث ليس بثابت، وعبد الكريم ليس بالقوي، وهارون بن رئاب أثبت منه، وقد أرسل الحديث، وهارون ثقة، وحديثه أولى بالصواب من حديث عبد الكريم. ثم رواه النسائي (6/ 170) في (الطلاق): باب ما جاء في الخلع من طريق حماد بن سلمة عن هارون بن رئاب، عن عبيد اللَّه بن عبيد عن ابن عباس به، ثم قال: هذا خطأ والصواب مرسل. والطريق المرسل الذي أشار إليه النسائي ذكره البيهقي قال: ورواه ابن عيينة عن هارون بن رئاب مرسلًا. ورواه البيهقي (7/ 155) من طريق عبيد اللَّه بن عمرو الرقي عن عبد الكريم بن مالك عن أبي الزبير عن جابر مرفوعًا به، ورواته كلهم ثقات لولا عنعنة أبي الزبير، وذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 272) من طريق البيهقي لكن سقط منه (جابر)، قال ابن حجر في "التلخيص" (3/ 225): مع أنه أورده بإسناد صحيح. ثم نقل ابن الجوزي عن الإمام أحمد أنه قال: هذا الحديث لا يثبت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس له أصل. والحديث رواه أبو داود (2049) في (النكاح): باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، والنسائي (6/ 169) من طريق الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد عن عمارة بن أبي حفصة عن ابن عباس فذكره. وإسناده صحيح، رواته كلهم من رواة الصحيح. قال ابن حجر في "التلخيص" (3/ 225): "وإسناده أصح، أي من إسناد عبد اللَّه بن عبيد بن عمير عن ابن عباس" وأطلق النووي عليه الصحة. =

فعورض بهذا الحديث المتشابه الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزويج البغايا، واختلفت مسالك المُحرِّمين لذلك فيه فقالت طائفة: المراد باللامس ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة، وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر، وإنما المانع ورود العقد على زانية، فهذا هو الحرام، وقالت طائفة: بل هذا من التزام أَخف المفسدتين لدفع أعلاهما، فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حرامًا فأمره حينئذ بإمساكها إذ مواقعتها بعد عقد النكاح أقل فسادًا من مواقعتها بالسفاح، وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت، وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية، وإنما فيه أنها لا تمتنع ممن لمسها أو وضع يده عليها أو نحو ذلك فهي تعطي الليان لذلك، ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى، ولكن هذا لا يُؤمن معه إجابتها لداعي الفاحشة، فأمره بفراقها تركًا لما يَريبه إلى ما لا يريبه، فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها رأى مصلحة إمساكها أرجح من مفارقتها لما يكره من عدم انقباضها عمن يلمسها فأمره بإمساكها، وهذا لعله أرجح المسالك واللَّه أعلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن زوجي طلقني، يعني ثلاثًا، وإني تزوجت زوجًا غيره، وقد دخل بي فلم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب فلم يقربني إلا هنة (¬1) واحدة، ولم يصل منّي إلى شيء أفأحلُّ لزوجي الأول؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا فيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخي الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها؟ قال: "لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر" (¬3)، ذكره النسائي. ¬

_ = أقول: وقول أحمد عن الحديث: إنه ليس له أصل، كأنه استنكار منه للمتن، وقد فسر الحافظ ابن حجر قوله: "لا ترد يد لامس" في "التلخيص"، ونقل أقوال أهل العلم، فارجع إليه. (¬1) في المطبوع: "بهنة" والمثبت من (ك). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه النسائي (6/ 148 - 149) في (الطلاق): باب أمرك بيدك، والبيهقي (7/ 375) من طريق شعبة عن علقمة بن مرثد، قال: سمعت سلم بن زرير يحدث عن سالم بن عبد اللَّه بن عمر، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر. ورواه أحمد (2/ 25، 62) والنسائي (6/ 149)، والبيهقي (7/ 375)، (وهذا هو لفظ الحديث الذي ذكره المؤلف) من طرق عن سفيان عن علقمة عن رزين بن سليمان الأحمري عن ابن عمر به. قال النسائي: هذا أولى بالصواب. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التيس المستعار فقال: "هو المحلّل"، ثم قال: "لعن اللَّه المحلِّل والمحلَّل له" (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة عن كفر المنعَّمين، فقال: "لعل إحداكنَّ أن تطول أيمتها بين يدي أبويها تعنس، فيرزقها اللَّه زوجًا ويرزقها منه مالًا وولدًا، فتغضب الغضبة فتقول: ما رأيت منه يومًا خيرًا قط" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: "أيُلعب بكتاب اللَّه، وأنا بين أظهركم؟ " حتى قام رجل فقال: يا رسول اللَّه ألا أقتله (¬3)، ذكره النسائي. ¬

_ = ونقل البيهقي عن الحكم أنه قال: وبلغني أن محمد بن إسماعيل وهّن حديث شعبة وسفيان، وعن أبي زرعة أنه قال: حديث سفيان أصح، ثم روى البيهقي عن شعبة أنه كان يقول: سفيان أحفظ مني، وقال يحيى القطان: إذا اختلفا أخذت بقول سفيان، ثم رواه البيهقي من طريق قيس بن الربيع، عن علقمة عن رزين به. وسفيان لا يحتاج إلى متابع مثل قيس هذا فإنه ضعيف. أقول: ورزين بن سليمان الأحمري قال عنه الحافظ في "التقريب": مجهول! فإسناده ضعيف. وشاهده الحديث الذي قبله. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أحمد (6/ 425 - 453 و 458)، وإسحاق بن راهويه (2296، 2297) في "مسنديهما"، وابن أبي شيبة (8/ 634)، والطبراني في "الكبير" (24/ 418 و 436 و 445)، والحميدي (366)، والبخاري في "الأدب المفرد" (1047) من طرق عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد الأنصارية به. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 311): وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وقد وثق. أقول: هو كذلك، وفي الرواة عن شهر: عبد الحميد بن بهرام قال أحمد بن حنبل: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، وشهر هذا متابع. قال البخاري في "الأدب المفرد" (1080) حدثنا مخلد حدثنا مبشر بن إسماعيل وإسحاق بن راهويه (2308)، والطبراني في "الكبير" (24/ 184) من طريق أبي نعيم الفضل بن دكين كلاهما عن ابن أبي غنية عن محمد بن مهاجر عن أبيه عن أسماء به. وهذا إسناد رجاله رجال الصحيح غير مهاجر، وهو ابن أبي مسلم، روى عنه جماعة من الثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات"، ولذلك صححه شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (823). (¬3) رواه النسائي في "الصغرى" (6/ 142) وفي "الكبرى" (5594) في (الطلاق): باب الثلاثة المجموعة، وما فيه من التغليظ من طريق ابن وهب قال: أخبرني مخرمة عن أبيه عن محمود بن لبيد به. =

وطلَّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها حزنًا شديدًا فسأله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كيف طلَّقتها؟ فقال: طلقتها ثلاثًا فقال: "في مجلس واحد"؟ فقال: نعم، قال: "إنما تلك واحدة فارجعها إن شئت" قال: فراجعها فكان ابن عباس يَرَى أنما الطلاق عند كل طهر، ذكره أحمد قال: حدثنا سعد بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس (¬1)، فذكره وأحمد يصحح هذا الإسناد ويحتج به، وكذلك الترمذي، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جُرَيج قال: أخبرني بعض بني رافع مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوتِه أم ركانة ونكح امرأة من مُزينة جاءت ¬

_ = ثم قال: -كما في "الفتح" (9/ 362) - وليس هو في "سننه"، ولم يذكره المزي في "تحفة الأشراف" -: لا أعلم أحدًا رواه غير مخرمة بن بكير يعني ابن الأشج عن أبيه. ثم رأيت العبارة في "السنن الكبرى". قال الحافظ: ورجاله ثقات، لكن محمود بن لبيد ولد في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يثبت له منه سماع، وإن ذكره بعضهم في الصحابة فلأجل الرؤية، وقد ترجم له أحمد في "مسنده" وأخرج له عدة أحاديث ليس فيها شيء صريح فيه بالسماع، ورواية مخرمة عن أبيه عند مسلم في عدة أحاديث وقد قيل: إنه لم يسمع من أبيه. أقول: وقد ذكر الحافظ -رحمه اللَّه- محمود بن لبيد في كتابه "الإصابة" في القسم الأول! مع أنه يجب أن يكون في القسم الثاني حسب كلامه في "الفتح". ثم ذكر حديثًا في "مسند أحمد" من طريق محمود بن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة: حدثني محمود بن لبيد قال: أتانا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . .! ثم ذكر عن ابن حبان أنه ذكره في التابعين، وقال: يروي المراسيل. ثم قال: وذكرته في الصحابة لأن له رؤية. والحديث قال عنه في "بلوغ المرام": رجاله موثقون. وقال الحافظ ابن كثير: إسناده جيّد. (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 265): حدثنا سعد بن إبراهيم به، وفي المطبوع: "سعيد" والمثبت من (ك) ومصادر التخريج. ورواه البيهقي (7/ 339) من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، به ورواه أبو يعلى (2500) من طريق يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق به. أقول: وهذا إسناد ضعيف، رجاله ثقات لكن في رواية داود عن عكرمة اضطراب، قال ابن المديني: ما روى عن عكرمة فمنكر، وقال أبو داود: أحاديثه عن شيوخه مستقيمة، وأحاديثه عن عكرمة مناكير. ومع هذا فقد صحح المؤلف إسناد هذا الحديث، وصححه في "زاد المعاد" (5/ 263).

النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[حميته] فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون أن فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانًا منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد يزيد: طلقها، ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال: "قد علمتُ راجعها" وتلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1). قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الرزاق فذكره (¬2)، فهذه طريقة أخرى متابعة لابن إسحاق، والذي يخاف من ابن إسحاق التدليس، وقد قال: "حدثني" وهذا مذهبه وبه أفتى ابنُ عباس في إحدى الروايتين عنه صح عنه ذلك (¬3)، وصح عنه إمضاء الثلاث موافقة لعمر -رضي اللَّه عنه- (¬4)، وقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ الثلاث كانت واحدة في عهده وعهد أبي بكر وصدرًا من خلافه عمر -رضي اللَّه عنهما- (¬5)، وغاية ما يقدر مع بعده أَنَّ الصحابة كانوا على ذلك، ولم يبلغه، وهذا وإن كان كالمستحيل، فإنه يدل على أنهم كانوا يفتون في حياته، وحياة الصديق بذلك، وقد أفتى هو -صلى اللَّه عليه وسلم- به، فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أَخذ باليد، ولا معارض لذلك وَرَأَى عمر -رضي اللَّه عنه- أَنْ يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجرًا لهم لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه -رضي اللَّه عنه- غايته أن يكون سائغًا لمصلحة رآها، ولا يُوجب ترك ما أفتى به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء، وباللَّه التوفيق. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل، قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق ثلاثًا، فقال: "تزوَّجْها، فإنه لا طلاق إلا بعد النكاح" (¬6). ¬

_ (¬1) هو في "المصنف" (11334)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) هو في "سننه" (2196) من طريق عبد الرزاق به، قال الخطابي في "معالم السنن" (3/ 236): في إسناد هذا الحديث مقال؛ لأن ابن جريج رواه عن بعض بني رافع، ولم يسقه، والمجهول لا تقوم به الحجة. ولحديث رُكانة هذا طرق، قال الخطابي: وكان أحمد بن حنبل يضعف طرق هذا الحديث كلها. وقد تقدم تخريج كثير من طرق هذا الحديث. (¬3) مضى تخريجه. (¬4) مضى تخريجه. (¬5) مضى تخريجه. (¬6) رواه الدارقطني (4/ 35 - 36) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 134 رقم =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة، فهي طالق، فقال: "طلَّق ما لا يملك" (¬1)، ذكرهما الدارقطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبدٌ فقال: إن مولاتي زوجتني وتريد أن تفرِّق بيني وبين امرأتي، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: "ما بال أقوام يزوجون عبيدهم إماءهم، ثم يريدون أن يفرقوا بينهم ألا إنما يملك الطلاق من أخذ بالساق" (¬2)، ذكره الدارقطني. ¬

_ = 2056) - من طريق علي بن قرين: حدثنا الوليد بن مسلم عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أبي ثعلبة الخشني به. أقول: هذا إسناد مركب مسروق، علي بن قرين هذا قال فيه ابن معين: كذاب خبيث، وقال موسى بن هارون الحمَّال: كان يكذب، وقال أبو حاتم: متروك الحديث، وقال العقيلي: كان يضع الحديث، وقال ابن عدي: كان يسرق الحديث! قال ابن عبد الهادي في "تنقيح التحقيق" (3/ 208) وكما في "نصب الراية" (3/ 233): قال شيخنا: هذا حديث باطل لا أصل له، وضغفه ابن قطلوبغا في "الدر المنظوم" (رقم 184). (¬1) رواه الدارقطني (4/ 16) -ومن طريقه ابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 135 رقم 2057) - من طريق عبد الرحمن بن مُسهر عن أبي خالد الواسطي، عن أبي هاشم الرماني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر به. قال ابن عبد الهادي في "التنقيح" (3/ 208) وكما في "نصب الراية" (3/ 231): قال شيخنا: حديث باطل، وأبو خالد الواسطي هو عمرو بن خالد وهو وضاع، وقال أحمد ويحيى: كذاب، وانظر: "تنقيح" الذهبي. (¬2) رواه الدارقطني (4/ 37)، والبيهقي (7/ 360) من طريق أبي عتبة أحمد بن الفرج: حدثنا بقية بن الوليد: حدثنا أبو الحجاج المهري، عن موسى بن أيوب الغافقي، عن عكرمة عن ابن عباس به. أقول: أبو الحجاج المهري، هو رشدين بن سعد وهو ضعيف، وأحمد بن الفرج ضعفه محمد بن عوف الطائي، وقال ابن عدي: لا يحتج به، وقال ابن أبي حاتم: محله الصدق. وموسى بن أيوب الغافقي وثقه ابن معين وأبو داود، وذكره العقيلي والساجي في "الضعفاء". ورواه ابن ماجه (2081) في (الطلاق): باب طلاق العبد، من طريق ابن لهيعة عن موسى بن أيوب به. وابن لهيعة ضعيف أيضًا، واختلف عليه فيه. ورواه الدارقطني (4/ 37)، ومن طريقه البيهقي (7/ 360) من طريق موسى بن داود عن ابن لهيعة عن موسى بن أيوب عن عكرمة مرسلًا. قال البيهقي: وروي من وجه آخر مرفوعًا وهو ضعيف. =

[الخلع]

[الخلع] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ثابت بن قيس هل يصلح أنْ يأخذ بعض مال امرأته ويفارقها؟ قال: "نعم"، قال: فإني قد أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خذهما وفارقها" (¬1)، ذكره أبو داود، وكانت قد شكته إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وتحب ¬

_ = أقول: يشير إلى الحديث الذي رواه الطبراني (11800) من طريق يحيى الحماني، عن يحيى بن يعلى عن موسى بن أيوب عن عكرمة عن ابن عباس به. ويحيى الحماني هذا قال الحافظ ابن حجر: حافظ إلا أنهم اتهموه بسرقة الحديث، ويحيى بن يعلى هو الأسلمي الكوفي أبو زكريا، وليس أبا المحياة الثقة، كما ذهب إليه شيخنا في "الإرواء" (7/ 110)، وفرق بينهما الخطيب في "المتفق" (3/ 2069، 2070)، والأسلمي هذا ضعيف، وهو مضطرب الحديث، كما قال البخاري في "التاريخ الصغير" (2/ 254)، وانظر له "تهذيب الكمال" (32/ 50 - 53). وقد قوّى الحديث شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (7/ 109) بطريقي ابن عباس السابقين فقال: ولعل حديث ابن عباس بمجموع طريقيه عن موسى بن أيوب يرتقي إلى درجة الحسن. أقول وفيه نظر لما عرفت من حالهما، وإعلالهما بالإرسال، واللَّه أعلم. وله شاهد من حديث عصمة بن مالك، أخرجه الدارقطني (4/ 37)، وابن عدي (6/ 2040) من طريق الفضل بن المختار، عن عبيد اللَّه بن وهب عنه، والفضل هذا قال ابن عدي: لا يتابع على حديثه لا إسنادًا ولا متنًا. وقال أبو حاتم: أحاديثه منكرة يحدث بالأباطيل، وقال الأزدي: منكر الحديث جدًا، وذكر عصمة في الصحابة ابن حجر وقال: له أحاديث أخرجها الدارقطني والطبراني وغيرهما ومدارها على الفضل بن المختار، وهو ضعيف جدًا، فهو شاهد ساقط، وانظر "العلل المتناهية" (2/ 646) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3922). (¬1) بهذا اللفظ والسياق رواه أبو داود (2228) في (الطلاق): باب في الخلع من طريق أبي عمرو السدوسي المديني، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عمرة عن عائشة أن حبيبة بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس. . . (فذكره) وإسناده على شرط مسلم. ورواه مالك في "الموطأ" (2/ 564)، ومن طريقه الشافعي في "مسنده" (2/ 50 - 51)، وأحمد (6/ 433 - 434)، وأبو داود (2227)، والنسائي (6/ 169) في (الطلاق): باب ما جاء في الخلع، ابن الجارود (749) وابن حبان (4280)، والطبراني (24/ 222 - 224)، والبيهقي (7/ 312 - 313) عن يحيى بن سعيد، عن عمرة بن عبد الرحمن عن حبيبة بنت سهل نحوه. وإسناده على شرط الشيخين غير الصحابية فلم يرويا لها. وأخرجه عبد الرزاق (11762) أخبرنا ابن جريج قال أخبرني يحيى بن سعيد به. =

فراقه، كما ذكره البخاري أنها قالت: يا رسول اللَّه ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق، ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال: "أتردِّين عليه حديقته"؟ قالت: "نعم" فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" (¬1)، وعند ابن ماجه: إني أكره الكفر في الإسلام، ولا أطيقه بغضًا، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداد (¬2)، وعند النسائي أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أفتاها أن تتربص حيضة واحدة (¬3)، ¬

_ = وأخرجه إسحاف في "مسنده" (2272) من طريق بكير بن عبد اللَّه بن الأشج عن سليمان بن يسار أن حبيبة بنحوه. وهو مرسل صحيح. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه ابن ماجه (2056) في (الطلاق): باب المختلعة تأخذ ما أعطاها، والبيهقي (7/ 313) من طريق عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، عن عكرمة عن ابن عباس به. قال البيهقي: كذا رواه عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن سعيد بن أبي عروبة موصولًا، وأرسله غيره عنه، ثم رواه من طريق عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، ومحمد بن أبي عدي عنه مرسلًا. أقول: عبد الأعلى الذي وصل الحديث عن سعيد قال ابن عدي: أرواهم عنه عبد الأعلى السامي، وقد روى الشيخان له عن سعيد بن أبي عروبة، فإرسال من أرسل لا يعل الموصول، واللَّه أعلم. وله عن عكرمة طرق أخرى، انظر "إتحاف المهرة" (7/ 541 - 542) و"الإرواء" (2036) وتعليقي على "سنن الدارقطني" (رقم 3953). (¬3) رواه النسائي (6/ 186) في (الطلاق): باب عدة المختلعة من طريق شاذان بن عثمان: حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، قال: أخبرني محمد بن عبد الرحمن أن الربيع بنت مُعوّذ أخبرته. . . فذكره، وفيه قصة. ورواته ثقات وفي رواية علي بن المبارك عن يحيى إرسال في رواية الكوفيين عن علي، وهنا يروي عنه عثمان بن جبلة وهو مروزي، وشاذان هذا روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات". ورواه النسائي (6/ 186 - 187)، وابن ماجه (2058) في (الطلاق): باب عدة المختلعة، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3336)، والطبراني في "الكبير" (24/ 672) من طريق يعقوب بن إبراهيم: حدثني أبي عن ابن إسحاق: حدثني عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، عن الربيع. . . أنها اختلعت من زوجها ثم جاءت عثمان بن عفان فقال: لا عدة عليك إلا أن تكوني حديثة عهد به، فتمكثي حتى تحيضي حيضة، قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه، وهذا إسناد حسن، رواته رواة الصحيح غير ابن إسحاف وهو حسن الحديث. =

وعند أبي داود أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرها أن تعتد بحيضة واحدة (¬1). وأفتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن المرأة إذا ادَّعت طلاق زوجها فجاءت على ذلك بشاهد عدل استحلف زوجها، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد، وإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر وجاز طلاقه (¬2)، ذكره ابن ماجه من رواية عمرو بن أبي سلمة، وقد روى له مسلم في "صحيحه". ¬

_ = وله طريق آخر رواه الطبراني في "الكبير" (24/ 671)، وابن أبي عاصم (3337)، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو ضعيف. (¬1) رواه أبو داود (2229) في (الطلاق): باب في الخلع، والترمذي (1188) في (الطلاق): باب ما جاء في الخلع، والطبراني في "الكبير" ("513) و"الأوسط" (4585 - ط. الطحان)، والدارقطني (3/ 255، 256 و 4/ 46)، -ومن طريقه الخطيب في "تاريخ بغداد" (10/ 95)، وابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 157 - 158 رقم 2073)، والحاكم (2/ 206)، والبيهقي (7/ 450) من طريق هشام بن يوسف، عن معمر، عن عمرو بن مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس به، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. قال أبو داود: وهذا الحديث رواه عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم عن عكرمة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. وهذا المرسل رواه عبد الرزاق (11858) ومن طريقه الدارقطني (3/ 256 و 4/ 46)، والحاكم (2/ 206)، وهشام بن يوسف هذا من الثقات بل قدمه ابن معين على عبد الرزاق في روايته عن ابن جريج وسفيان، وقال عبد الرزاق نفسه: إن حدثكم القاضي -يعني هشام بن يوسف- فلا عليكم أن لا تكتبوا عن غيره، وقال أبو حاتم -وحسبك به-: ثقة متقن. إذن فوصله للحديث وصل ثقة، ورواية عبد الرزاق ليست أولى منه. لكن فيه عمرو بن مسلم وهو الجندي اليماني ضعفه أحمد، وقال مرة: ليس بذاك، وقال ابن معين: ليس بالقوي، وذكره يحيى بن سعيد فحرّك يده وقال: ما أرى هشام بن حجير إلا أمثل منه، قلت له -القائل ابن المديني-: أضرب على حديث هشام؛ قال: نعم، وقال النسائي: ليس بالقوي. وليس فيه توثيق إلا رواية عن ابن معين قال: لا بأس به! وضعّفه في جميع الروايات فهو إذن إلى الضعف أقرب، واللَّه أعلم، وانظر له: "تاريخ الدوري" (2/ 453) و"الضعفاء الكبير" (3/ 291) و"الجرح والتعديل" (6/ 259) و"ثقات ابن حبان" (7/ 217)، وانظر تعليقي على "سنن الدارقطني" (الأرقام 3570 - 3572، 3954، 3955). (¬2) رواه ابن ماجه (2038) في (الطلاق): بات الرجل يجحد الطلاق، والدارقطني (4/ 64)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 45) من طريق عمرو بن أبي سلمة التِّنيسي عن زهير بن معاوية عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به. =

فصل [الظهار واللعان]

فصل [الظهار واللعان] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها قبل أن يُكَفِّر، قال: "وما حملك على ذلك يرحمك اللَّه"؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: "لا تقربها حتى تفعل ما أمرك اللَّه عز وجل" (¬1)، حديث صحيح. ¬

_ = قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 352): هذا إسناد حسن رجاله ثقات. أقول: لكن فيه علل: الأولى: عمرو بن أبي سلمة ضعفه قوم ووثقه آخرون. الثانية: زهير بن محمد ثقة، لكن رواية أهل الشام عنه فيها مناكير، وهذه منها، فإن عمرو بن أبي سلمة دمشقي. الثالثة: ابن جريج مدلس وقد عنعن. الرابعة: قال البخاري عن ابن جريج: "لم يسمع من عمرو بن شعيب" وقال الدارقطني: "عن عمرو بن شعيب مرسلًا". والحديث ذكره ابن أبي حاتم في "علله" (1/ 432)، وسأل عنه أباه فقال: هذا حديث منكر، وهو في "ضعيف سنن ابن ماجه" (443). (¬1) الحديث رواه الحكم بن أبان، وقد اختلف عليه. فرواه معمر عنه عن عكرمة عن ابن عباس به. أخرجه أبو داود (2225) في (الطلاق) باب في الظهار، والترمذي (1202) في (الطلاق) باب في المظاهر يواقع قبل أن يكفر، والنسائي (6/ 167) في (الطلاق): باب الظهار، وابن الجارود (747)، من طريق الفضل بن موسى، ورواه ابن ماجه (2065) في (الطلاق): باب المظاهر يجامع قبل أن يكفر من طريق غندر (محمد بن جعفر) كلاهما (الفضل بن موسى وغندر) عن معمر به موصولًا، قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. لكن رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (11525)، ومن طريقه النسائي (7/ 167) عن معمر عن عكرمة مرسلًا دون ذكر ابن عباس. أقول: الفضل ثقة ثبت ومثله غندر فرواية الإرسال لا تعل الوصل. ورواه عن الحكم بن أبان موصولًا إسماعيل ابن علية أخرجه أبو داود (2223): حدثنا زياد بن أيوب عنه، وإسماعيل من الثقات، وكذا الراوي عنه. لكن ذكر المزي في "تحفة الأشراف" (5/ 122) أن رواية أبي داود من طريق إسماعيل هذه مرسلة، ثم وجدته في "سنن سعيد بن منصور" (1826) من هذا الطريق مرسلًا، فترجح ما ذكره المزي، ولعله هناك خطأ في نسخة أبي داود المطبوعة واللَّه أعلم، ثم تأكّد لي هذا، فهي على الجادة في نسخة ابن حجر التي نشر محمد عوامة طبعته عن أصولها (3/ 85 - 86 رقم 2217)، وانظر تعليقه. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لو أنَّ رَجلًا وَجَدَ مع امرأته رجلًا فتكلَّم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، فقال: "اللهم افتح" وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان، فابتُلي به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتلاعَنَا (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل آخر: إنَّ امرأتي ولدت على فراشي غلامًا أسود، وإنّا أهل بيتٍ لم يكن فينا أسود قط، قال: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم، "فما ألوانها؟ " قال: حمر، قال: "هل فيها من أوْرَق؟ " قال: نعم، قال: "فأنى كان ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نَزَعَهُ عِرْق، قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق" (¬2)، متفق عليه. وحكم بالفرقة بين المتلاعنين، وأن لا يجتمعا أبدًا وأخذ المرأة صداقَهَا، وانقطاع نسب الولد من أبيه وإلحاقه بأمه، ووجوب الحد على مَنْ قَذَفه أو قذَف أَمه، وسقوط الحد عن الزوج، وأنه لا يلزمه نفقة، ولا كسوة، ولا سكنى بعد الفرقة (¬3). ¬

_ = ورواه عنه موصولًا كذلك حفص بن عمر العدني، أخرجه الحاكم (2/ 204)، ومن طريقه البيهقي (7/ 386)، وحفص هذا ضعيف، وقد رواه جماعة عن الحكم عن عكرمة مرسلًا منهم: سفيان بن عيينة، أخرجه من طريقه أبو داود (2222)، والبيهقي (7/ 386)، والمعتمر بن سليمان. أخرجه من طريقه سعيد بن منصور (1825)، وأبو داود (2225)، والنسائي (6/ 167). وابن جريج: أخرجه من طريقه عبد الرزاق (11526)، والبيهقي (7/ 386)، ورواه أبو داود (2224) من طريق عبد العزيز بن المختار عن خالد (أظنه الحذاء) قال: حدثني محدِّث عن عكرمة مرسلًا. أقول: وقد رجح الإرسال في هذا الحديث النسائي فقال: المرسل أولى بالصواب من المسند، ونقل الحافظ في "التلخيص" (3/ 222) عن ابن حزم: رواته ثقات ولا يضره إرسال من أرسله. وقد رواه الحاكم (2/ 204)، والبيهقي (7/ 386) من طريق علي بن هاشم عن إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس به، وإسماعيل بن مسلم هذا هو المكي ضعيف الحديث، وقد ذكر الحاكم طريق إسماعيل شاهدًا للطريق السابق! وذكر الحافظ في "التلخيص" (3/ 222) طريقًا أخرى للحديث في "مسند البزار" من طريق خصيف عن عطاء عن ابن عباس. ولم يتكلم عليه الحافظ مع أن خصيف بن عبد الرحمن قال عنه في "التقريب": صدوق سيء الحفظ. (¬1) رواه مسلم (1495) في (اللعان)، من حديث ابن مسعود. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أما التفريق بين المتلاعنين وأنهما لا يجتمعان أبدًا فثابت عند البخاري (5309) في =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سلمة بن صخْر البَيَاضي فقال: ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فلم أَلبث [إلا] (¬1) أن نَزَوْتُ عليها، فقال: "أنت بذاك يا سلمة" فقلت: أنا بذاك، وأنا صابرٌ لأمر اللَّه عز وجل، فاحكم فيَّ بما أراك اللَّه، قال: "حَرِّرْ رقبة" قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربْتُ صفحة رقبتي، قال: "فَصُمْ شهرين متتابعين" فقلت: وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلا من الصيام؟ قال: "فأطعم وسقًا من تمر بين ستين مسكينًا". قلت: والذي بعثك بالحق نبيًا لقد بتنا وحشين (¬2) ما لنا من طعام، قال: "فانطلق إلى صاحب صدقة بني زُرَيْق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر وكلْ أنت وعيالكَ بقيتها" فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّعَة وحسن الرأي وأمر لي بصدقتكم (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = (الطلاق): باب التلاعن في المسجد، ومسلم (1492) بعد (2) و (3)، من حديث سهل بن سعد. وأما أخذ المرأة صداقها فثابت أيضًا في حديث رواه البخاري (5312) في (الطلاق): باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب، و (5350) باب المنعة للتي لم يفرض لها، ومسلم (1493) بعد (5) في (اللعان) من حديث ابن عمر. وأما انقطاع نسب الولد من أبيه، وإلحاقه بأمه فثابت في حديث رواه البخاري (5315) في (الطلاق): باب يلحق الولد بالملاعنة، و (6748) في (الفرائض): باب ميراث الملاعنة، ومسلم (1494) بعد (8) في (اللعان)، من حديث ابن عمر. وأما وجوب الحد على من قذفه أو قذف أمه فتقدم، وأما سقوط الحد على الزوج فمفهوم من الأحاديث السابقة حيث لم يقم الحد عليه. وأما أنه لا يلزمه سكنى ولا نفقة فقد ورد في حديث رواه أحمد في "مسنده" (1/ 238)، وأبو داود (2256)، وأبو يعلى (2745) (2741)، والبيهقي (7/ 394)، إسحاق بن راهويه في "مسنده" -كما في "نصب الراية" (3/ 252) - من طريق عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في حديث طويل ولفظ (إسحاق في "مسنده") أصرحها في الدلالة على ما ذكر ابن القيم لكن رواية عباد بن منصور عن عكرمة معلولة فقد قال البخاري وغيره إنه دلس أحاديث إبراهيم بن أبي يحيى عن عكرمة، فجعلها عن عكرمة وإبراهيم هذا متروك. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع وأثبتناه من (ك). (¬2) في (د): "وحشيين"، وقال (و): "رجل وحش: جائع لا طعام له". (¬3) رواه أحمد (4/ 37 و 5/ 436)، وأبو داود (2213) في (الطلاق): باب في الظهار، والترمذي (3310) في (التفسير): باب ومن سورة المجادلة، وابن ماجه (2062) في =

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- خَوْلَة بنت مالك فقالت: إن زوجها أوسَ بن الصامت ظاهَرَ منها وشكته إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجادلها فيه بقوله: "اتقي اللَّه، فإنه ابن عمك" فما برحت حتى نزل القرآن؛ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي ¬

_ = (الطلاق): باب الظهار، والدارمي (2/ 163 - 164)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2185)، وابن خزيمة (2378)، وأبو القاسم البغوي في "معجم الصحابة" (ق 128/ أ)، والدارقطني (3/ 317، 318)، وابن الجارود (744)، والطبراني في "الكبير" (6333)، والحاكم (2/ 203)، والبيهقي (7/ 390)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ رقم 3400)، والمزي في "تهذيب الكمال" (11/ 289 - 290) كلهم من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن عمرو بن عطاء عن سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي به. قال الترمذي: هذا حديث حسن، قال محمد (أي البخاري): سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر قال: ويقال: سلمة بن صخر، ويقال: سليمان بن صخر. وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي! وحسن الحافظ إسناده في "الفتح" (9/ 433) مع أنه نقل في "التلخيص" (3/ 221) عن البخاري أنه أعل الحديث بالانقطاع! والحديث أيضًا فيه عنعنة ابن إسحاق ولم يصرح بالسماع عند الجميع، وابن إسحاق متابع، تابعه بكير بن الأشج، أخرجه أبو داود (2217)، وابن الجارود (745)، وابن أبي عاصم (2186)، والطبراني (6334)، والدارقطني (3/ 318)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (5/ رقم 579)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ رقم 3401) لكن علة الانقطاع باقية. وله طريق آخر عن سلمة، رواه الترمذي (1203) في (الطلاق): باب ما جاء في كفارة الظهار، والطبراني (6331)، والحاكم (2/ 204)، والبيهقي (7/ 390) من طريق يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وأبي سلمة، أن سلمة جعل امرأته عليه. . . قال الترمذي: هذا حديث حسن. وصححه الحاكم على شرط الشيخين. قال شيخنا الألباني في "الإرواء" (7/ 178) وهو مرسل ظاهر الإرسال. أقول: فالحديث بطريقيه فيه انقطاع بين سلمة والرواة عنه، وسلمة ليس له مسندًا إلا هذا الحديث -كما قال البغوي- وقد قوّى شيخنا الألباني الحديث بطريقيه، وذكر له شاهدًا مختصرًا من حديث ابن عباس -تقدم في الصفحة السابقة- ثم حكم على الحديث بطرقه (وهما طريقان فقط)، وشاهده المختصر جدًا أنه صحيح. أقول: وكون طريقا الحديث منقطعين في نفس المكان، أخشى أن يكون الساقط واحدًا! واللَّه أعلم، وله شواهد، تأتي قريبًا، يتقوّى بها الحديث.

إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] الآيات: فقال: "يعتق رقبة" قالت: لا يجد قال: "فيصوم شهرين متتابعين"، قالت: إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: "فليطعم ستين مسكينًا" قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، فأُتي ساعته بعَرَق من تمر، قلت: يا رسول اللَّه إني أعينه بعَرَق (¬1) آخر، قال: " [قد] أحسنتِ اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا وارجعي إلى ابن عمك" (¬2)، ذكره أحمد وأبو داود. ولفظ أحمد؛ قالت: "فيَّ واللَّه وفي أوس بن الصامت أنزل اللَّه صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقه وضجر، قالت: فدخل عليّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت: ¬

_ (¬1) "عَرَقَ -بفتح الراء-: زبيل منسوج من نسائج الخوص، وكل شيء مضفور فهو عرق" (و). (¬2) رواه أبو داود (2214 و 2215) في (الطلاق): باب في الظهار، وأحمد في "مسنده" (6/ 410 - 411)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3257 و 3258)، وابن الجارود (746)، والطبراني في "الكبير" (24/ 633)، وابن حبان (4279)، والبيهقي في "سننه" (7/ 389 و 391) من طرق عن محمد بن إسحاق: حدثني معمر بن عبد اللَّه بن حنظلة عن يوسف بن عبد اللَّه بن سلام عن خولة بنت مالك (وعند بعضهم خويلة بنت ثعلبة وهي نفسها) به، بعضهم مثل لفظ أحمد، وبعضهم مثل لفظ أبي داود. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (9/ 433): إسناده حسن. أقول: لكن فيه معمر بن عبد اللَّه هذا قال فيه الحافظ نفسه في "التقريب": مقبول، أي: عند المتابعة، وإلا فلين الحديث، وقال الذهبي: كان في زمن التابعين لا يعرف، وذكره ابن حبان في "ثقاته"، ما حدث عنه سوى ابن إسحاق بخبر مظاهرة أوس بن الصامت. وله شاهدان مرسلان. الأول: رواه البيهقي (7/ 389 - 390) من طريق محمد بن أبي حرملة، عن عطاء بن يسار أن خويلة بنت ثعلبة، فذكره، وقال البيهقي: هذا مرسل وهو شاهد للموصول قبله. الثاني: رواه ابن سعد في "الطبقات" (8/ 378 - 379) من طريق إبراهيم بن سعد الزهري، عن صالح بن كيسان، وإسناده صحيح، وله شاهد موصول من حديث ابن عباس، رواه البيهقي (7/ 392) من طريق أبي حمزة الثمالي عن عكرمة عنه. وقال: كذا رواه أبو حمزة الثمالي، وهو ضعيف، ورواه الحاكم بن أبان عن عكرمة دون ذكر ابن عباس فيه. وشاهده أيضًا حديث سلمة بن صخر البياضي الماضي قريبًا. وما بين المعقوفتين سقط من المطبوع.

فصل في فتاويه -صلى الله عليه وسلم- في العدد

قلت: كلا، والذي نفس الخويلة بيده لا تخلص إليَّ، وقد قلتَ ما قلتَ حتى يحكم اللَّه ورسوله فينا بحكم، قالت: فواثبني فامتنعتُ منه فغلبته بما تغلب المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عنِّي، ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه فجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خُلُقه، فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي اللَّه فيه" قالت: فواللَّه ما برحت حتى نزل القرآن فتغشّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه فقال: يا خويلة قد أنزل اللَّه فيك وفي صاحبك، ثم قرأ عليَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 1 - 4] قالت: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مريه فليعتق رقبة" وذكر نحو ما تقدم. وعند ابن ماجه أنها قالت: يا رسول اللَّه أكلَ شبابي ونثرتُ له بطني حتى إذا كبر سنِّي، وانقطع وَلَدي ظاهَرَ منيّ، اللهم إني أشكو إليك فما برحْتُ حتى نزل جبرائيل عليه السلام بهؤلاء الآيات (¬1). فصل في فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في العدد ثبت أن سبيعة الأسلمية سألته، وقد مات زوجها، ووضعت حملها بعد موته، قالت: فأفتاني [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] أني قد حللتُ حين وضعت حَمْلي وأمرني بالتزويج إن بَدَا لي (¬2). وعند البخاري أنها سُئِلت كيف أفتاها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قالت: أفتاني إذا وضعتُ أن أنكح (¬3)، وكانت أم كلثوم بنت عقبة عند الزبير بن العوام فقالت له ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2063) في (الطلاق): باب الظهار، والنسائي (6/ 168) في الطلاق باب الظهار مختصرًا، والحاكم (2/ 481) من طريق الأعمش عن تميم بن سلمة عن عروة بن الزبير، عن عائشة به، وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وأصل الحديث مختصرًا في "صحيح البخاري" معلقًا قبل حديث (7386) في (التوحيد) وموصولًا عند أحمد (6/ 46)، وعبد بن حميد (1514)، وابن ماجه (188) في (المقدمة): من طريق الأعمش به. (¬2) تقدم تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه البخاري (5319) في (الطلاق) باب {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} من حديث سبيعة نفسها.

وهي حامل: طيّب نفسي بتطليقة، فطلَّقها تطليقة، ثم خرج إلى الصلاة فرجع، وقد وضعت فقال لها: خَدَعْتيني خَدَعَكِ اللَّه، ثم أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فسأله عن ذلك فقال: سبَقَ الكتابُ أجله اخْطُبها إلى نفسها (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- فُريعة بنت مالك فقالت: إن زوجي خرج في طلب أَعْبُدٍ له أبَقوا (¬2) حتى إذا كان بطرف القَدُوم لحقهم فقتلوه، فسألته أن ترجع إلى أهلها، ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2026) في (الطلاق): باب المطلقة الحامل إذا وضعت ذا بطنها بانت، (كذا في اسم الباب، وفي "مصباح الزجاجة": إذا وضعت ما في بطنها بانت). حدثنا محمد بن عمر بن هيّاج: حدثنا قبيصة بن عقبة: حدثنا سفيان بن عمرو بن ميمون، عن أبيه، عن الزبير بن العوّام به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (1/ 350): هذا إسناد رجاله ثقات إلا أنه منقطع، ميمون هو ابن مهران، أبو أيوب روايته عن الزبير مرسلة، قاله المزي في "الأطراف". قلت: هو في "تحفة الأشراف" (3/ 186)، و"تهذيب الكمال" (29/ 211). وأخرج البيهقي (7/ 421)، هذا الحديث من رواية عبيد اللَّه بن عبد الرحمن الأشجعي عن سفيان به، وفيه (عن أم كلثوم بنت عقبة) بدل (عن الزبير بن العوام). واستنادًا إلى هذه الرواية صحح شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (2117) الحديث! وذلك باعتبار أن الأشجعي أثبت في سفيان الثوري من قبيصة، وهذا حق، ولكنه قال: ". . . فإذًا هو أحفظ من قبيصة وأثبت منه في الثوري خاصة، وقد خالفه في إسناده، فجعله من مسند (أم كلثوم بنت عقبة)، وليس من مسند (الزبير) وعلى هذا فقد اتّصل الإسناد؛ لأنّ أم كلثوم هذه متأخّرة الوفاة عن الزبير، فقد تزوّجها عمرو بن العاص بعد أن طلقها الزبير، وذكر البلاذري أنها كانت مع عمرو بمصر". قلت: فالسند صحيح، واللَّه أعلم. قال أبو عبيدة: أم كلثوم هذه تزوَّجها عبد الرحمن بن عوف بعد أن طلقها الزبير، ثم مات عنها فتزوجها عمرو بن العاص، ووجودها معه في مصر كان في عهد عمر، وهذه الزيجات كانت في حياة الزبير، وماتت أم كلثوم في خلافة علي، وميمون بن مهران ولد سنة أربعين، كما في "تهذيب الكمال" (29/ 226) وغيره، وهي السنة التي توفي فيها علي، أي إنه ولد بعد وفاتها، فعلّة الإنقطاع مازالت موجودة. وقد أخرجه إسحاق بن راهويه في "مسنده" (5/ رقم 2336) أخبرنا وكيع ناسفيان عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه قال: كانت أم كلثوم بنت عقبة تحت الزبير بن العوام،. . . وذكره بنحوه. وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، وهذا هو الصواب في هذه الرواية، فوكيع مقدّم في روايته عن سفيان على الأشجعي. وانظر: "شرح العلل" لابن رجب (2/ 722). (¬2) "أبق العبد يأبق -من باب ضرب أو علم أو نصر- هرب" (و).

وقالت: إن زوجي لم يترك لي مَسْكنا يملكه، ولا نفقة فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نعم" قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة -أو في المسجد- ناداني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو أمر بي فنوديتُ له، فقال: "كيف قلت" فرددتُ عليه القصة التي ذكرت له، فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا فلما كان عثمان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به" (¬1)، حديث صحيح، ذكره أهل "السنن". وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاس وجميلة بنت عبد اللَّه بن أبيّ لما اختلعت من زوجها [فأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] أن تَتَربَّصَ (¬2) حَيْضة واحدة وتلحق بأهلها (¬3)، ذكره النسائي. وعند أبي داود والترمذي عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فامرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تعتد حيضة (¬4). ¬

_ (¬1) رواه مالك في "الموطأ" (1/ 591)، وأحمد في "مسنده" (6/ 370 و 420 - 421)، والشافعي في "مسنده" (2/ 53 - 54) و"الرسالة" (1214)، وعبد الرزاق (12076)، وابن أبي شيبة (5/ 184 - 185)، وسعيد بن منصور (1365)، وإسحاق بن راهويه في "المسند" (5/ رقم 2178 - 2181، 2188، 2189)، والدارمي (2/ 168)، وأبو داود (2300) في (الطلاق): باب في المتوفى عنها تنتقل، والترمذي (1207) في (الطلاق): باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها، والنسائي (6/ 199 و 199 - 200 و 200) في (الطلاق): باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل، وابن ماجه (2031) في (الطلاق): باب أين تعتد المتوفى عنها زوجها، وابن سعد (8/ 368)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3328 و 3329 و 3330 و 3331)، وابن الجارود (759)، وابن حبان (4292 و 4293)، والطبراني في "الكبير" (24/ 1074 - 1092)، والحاكم (2/ 208)، والبيهقي (7/ 434 و 435)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (6/ رقم 7806، 7807، 7808)، والبغوي (2386) من طرق عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن زينب بنت كعب بن عجرة عن الفُريعة به. وإسناده صحيح، ورجاله ثقات، وزينب بنت كعب زوج أبي سعيد الخدري، ذكرها ابن حبان في "الثقات"، واحتج بها مالك في "الموطأ" والشافعي، وروى عنها ابنا أخويها سعد بن إسحاق وسليمان بن محمد. قال الترمذي: حسن صحيح، وصححه محمد بن يحيى الذهلي وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وابن القطان وغيرهم. (¬2) "تتربص: تنتظر" (و)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) تقدم تخريجه وقوله هنا: "وجميلة بنت عبد اللَّه" يجب أن يكون دون الواو لأن زوجة ثابت هي جميلة. (¬4) تقدم تخريجه.

فصل [ثبوت النسب]

وعند الترمذي عن الربيّع بنت مُعَوِّذ أنها اختلَعَتْ على عهد رسول اللَّه فأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو أمرت- أن تعتد بحيضة (¬1). قال الترمذي: حديث الربيّع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وعند النسائي وابن ماجه -واللفظ له- عن الربيع قالت: اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان فسألت: ماذا عليَّ من العدَّة؟ فقال: "لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة" قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه (¬2). فصل [ثبوت النسب] واختصم إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعَة في الغلام فقال سعد: هو ابن أخي عُتبة بن أبي وقاص عهِدَ إليَّ أنه ابنهُ انُظْر إلى شَبَهِه، وقال عبدُ بن زَمْعة: هو أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: "هو لك يا عبد، الولد للفراش وللعاهر الحجَر، واحتجبِي منه يا سودة" فلم تره سودة قط (¬3) متفق عليه. وفي لفظ البخاري: "هو أخوك يا عبد" (¬4)، وعند النسائي: "واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ" (¬5)، وعند الإمام أحمد: أما الميراث فله، وأما أنْتِ ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (1187) في (الطلاق): باب ما جاء في الخلع من طريق سفيان أنبأنا محمد بن عبد الرحمن بن مولى آل طلحة عن سليمان بن يسار عن الربيع بنت معوذ به. ورواته كلهم ثقات من رجال الصحيح، وله طرق عن الربيع، تقدم بعضها. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه البخاري في مواطن منها (2053) في (البيوع): باب تفسير المشَبهات، و (2218) في باب شراء المملوك من الحربي، و (2421) في (الهبة): باب الخصومات، ومسلم (1457) في (الرضاع): باب الولد للفراش وتوقي الشبهات، من حديث عائشة. (¬4) هو في "صحيح البخاري" (4303) في (التفسير): باب (53). (¬5) رواه النسائي (6/ 180 - 181) في (الطلاق): باب إلحاق الولد بالفراش إذا لم ينفعه صاحب الفراش، وأبو يعلى (6813)، والبيهقي (6/ 87) من طريق جرير بن عبد الحميد، عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير، مولى لهم عن عبد اللَّه بن الزبير به. وهذا حديث قد تكلم فيه البيهقي في إسناده وفي متنه في قوله: "فإنه ليس لك بأخٍ"، وقد طعن في هذه اللفظة أيضًا الخطابي والنووي كما في "الفتح" (12/ 37). =

فاحتجبي منه، فإنه ليس لك بأخ" (¬1)، فحكم وأفتى بالولد لصاحب الفراش عملًا بموجب الفراش وأمر سَوْدة أن تحتجب منه عملًا بشبهه بعتبة، وقال: "ليس لك بأخ" للشبهة وجعله أخًا في الميراث فتضمن فتواه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الأمة فِرَاش، وأن الأحكام تتبعض في العين الواحدة عملًا بالاشتباه، كما تتبعض في الرضاعة وثبوتها يثبت بها الحرمة والمحرمية دون الميراث والنفقة [وليس ولدًا في الميراث والنفقة] (¬2) وكما في ولد الزنا هو ولد في التحريم وليس ولدًا في الميراث ونظائر ¬

_ = قال البيهقي: فإسناد هذا الحديث لا يقاوم إسناد الحديث الأول -أي حديث عائشة السابق-؛ لأن الحديث الأول رواته مشهورون بالحفظ والفقه والأمانة، وعائشة تخبر عن القصة وكأنها شهدتها. والحديث الآخر -أي هذا- في رواته من نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وهو جرير بن عبد الحميد، وفيهم من لا يعرف بسبب يثبت به حديثه، وهو يوسف بن الزبير، وقد قيل في غير هذا الحديث: عن مجاهد عن يوسف بن الزبير، كأنه لم يشهد القصة لصغره. ويحتمل أن يكون المراد بقوله -إن كان قاله-: "ليس لك بأخ" شبهًا، وإن كان لك بحكم الفراش أخًا، فلا يكون لقوله: "هو أخوك يا عبد" مخالفًا، فقد ألحقه بالفراش حتى حكم له بالميراث، واللَّه الموفق. وقد رد الحافظ ومن قبله ابن التركماني على البيهقي، فقال: "ورجال سنده رجال الصحيح إلا شيخ مجاهد، وهو يوسف مولى آل الزبير"، وقال من قبل: إسناده حسن. وقال: "وتعقب بأن جريرًا هذا لم ينسب إلى سوء حفظ، وكأنه اشتبه عليه بجرير بن حازم، وبأن الجمع بينهما ممكن، فلا ترجيح وبأن يوسف معروف في موالي آل الزبير، وعلى هذا فيتعين تأويله، وإذا ثبتت هذه الزيادة تعين تأويل نفي الأخوة عن سودة على نحو ما تقدم من أمرها بالاحتجاب منه". أقول: يوسف بن الزبير قال عنه الحافظ في "التقريب": مقبول! أي إذا توبع وإلا فليّن. وقد نقل في كتابه "التهذيب" عن ابن جرير أنه قال فيه: مجهول لا يحتج به، وقد وثقه ابن حبان. وقد رواه الطبري في "تهذيب الآثار" كما قال ابن حجر في "النكت الظراف" (5/ 333) من طريق إسرائيل عن منصور عن مجاهد عن مولى لابن الزبير عن سودة بإسقاط عبد اللَّه بن الزبير. ورواه أيضًا عبد الرزاق (13820)، ومن طريق أحمد (4/ 5) عن الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن الزبير. وهذا الإسناد الأخير إن سلم من الوهم إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات، ومجاهد أدرك ابن الزبير إدراكًا بينًا، لكن أخشى أن يكون عبد الرزاق وهم فيه. (¬1) انظر ما قبله. (¬2) ما بين المعقوفتين من (ك) و (ط. دار الحديث) وسقط من سائر النسخ.

[الإحداد على الميت]

ذلك أكثر من أن تذكر فتعين الأخذ بهذا الحكم والفتوى، وباللَّه التوفيق (¬1). [الإحداد على الميت] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحّلها؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا" (¬2) مرتين أو ثلاثًا متفق عليه. ومنع -صلى اللَّه عليه وسلم- المرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجٍ، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا، ولا تكتحل، ولا تطيب، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا ورخص لها في طهرها إذا اغتسلت في نُبْذة من قُسْط أو أَظفار (¬3) متفق عليه (¬4). وعند أبي داود والنسائي: "ولا تختضب" (¬5)، وعند النسائي: "ولا تمتشط" (¬6)، وعند أحمد: "لا تلبس المُعَصْفَر من الثياب، ولا [الشقة] الممشَّقة (¬7)، ولا الحليّ، ولا تختضب، ولا تكتحل" (¬8)، وجعلت أم سلمة -رضي اللَّه عنها- ¬

_ (¬1) انظر كلام ابن القيم -رحمه اللَّه- عن حديث عبد بن زمعة وبيان ما فيه من الأحكام في "بدائع الفوائد" (4/ 129)، و"تهذيب السنن" (3/ 179 - 183). (¬2) رواه البخاري (5336) في (الطلاق): باب مراجعة الحائض، و (5338) في الكحل للحادة، و (5706) في (الطب): باب الإثمد والكحل من الرمد، ومسلم (1488) في (الطلاق): باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، من حديث أم سلمة. (¬3) "قسط: ضرب من الطيب، والأظفار: جنس من الطيب لا واحد له من لفظه، وقيل: واحدة ظفر، وقيل: هو شيء من العطر أسود، والقطعة شبيهة بالظفر" (و). (¬4) رواه البخاري (313) في (الحيض): باب الطيب للمرأة عند غسلها من المحيض، و (5341) في (الطلاق): باب القسط للحادة عند الطهر، و (5342 و 5343) باب تلبس الحادة ثياب العصب، ومسلم (2/ 1127) بعد (66) في (الطلاق): باب وجوب الإحداد في عدة الوفاة، من حديث أم عطية. (¬5) "سنن أبي داود" (2302 و 2303) في (الطلاق): باب فيما تجتنبه المعتدة في عدتها بإسناد الصحيحين. وليس هو عند النسائي بزيادة الاختضاب في نفس سياق هذا الحديث، لكن عنده من حديث أم عطية أيضًا (6/ 204)، وعند الطبراني (25/ 138) ذكر الاختضاب بسياق آخر أخصر، وسنده صحيح أيضًا. (¬6) رواه النسائي (6/ 252 - 253) في (الطلاق): بإسناد الصحيحين أيضًا. (¬7) "مصبوغة بالمشق" (و)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬8) رواه أحمد (6/ 302)، أبو داود (2304)، والنسائي (6/ 203 - 204)، وابن الجارود (767)، وأبو يعلى (7012)، وابن حبان (4306)، والبيهقي (7/ 440) كلهم من طريق يحيى بن أبي بكير: أخبرني إبراهيم بن طهمان: حدثني بُديل العقيلي عن الحسن بن =

على عينيها صَبِرًا لما توفي أبو سلمة، فقال: "ما هذا يا أم سلمة"؟ قالت: إنما هو صبر ليس فيه طيب، قال: "إنه يَشُبُّ (¬1) الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء، فإنه خضاب، قلت: بأي شيء امتشط يا رسول اللَّه؟ قال: "بالسِّدر تغلِّفين به رأسك"، ذكره النسائي، وعند أبي داود: "فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- خالة جابر بن (¬3) عبد اللَّه، وقد طُلقِّت هل تخرج تجدُّ نخلها فقال: "فجُدِّي نخلك، فإنك عسى أن تتصدقي أو تفعلي معروفًا" (¬4)، ذكره مسلم. ¬

_ = مسلم، عن صفية بنت شيبة عن أم سلمة به. وهذا إسناد على شرط مسلم، لكن أخشى أن يكون إبراهيم بن طهمان قد وهم فيه، وهو وإن أخرج له الشيخان إلا أن له أوهامًا. فقد رواه عبد الرزاق (12114)، ومن طريقه البيهقي (7/ 440)، ورواه الطبراني في "الكبير" (23/ 838) من طريق سفيان كلاهما عن معمر عن بديل العقيلي به، موقوفًا على أم سلمة. ثم وجدت الحافظ في "التلخيص" (3/ 238) ينفي عن الحديث الإعلال بالوقف فقال: "والمرفوع رواية إبراهيم بن طهمان عن بديل، وإبراهيم ثقة من رجال الصحيحين، فلا يلتفت إلى تضعيف أبي محمد بن حزم له، وأن من ضعفه إنما ضعفه من قبل الإرجاء، كما جزم بذلك الدارقطني، وقد قيل: إنه رجع عن الإرجاء". فلا قول بعد قول الحافظ -رحمه اللَّه- وإليه نذهب، واللَّه المستعان. (¬1) قال (و): "الصبر -بفتح الصاد وكسر الباء- عصارة الشجر مر، ويشب: يلونه ويحسنه"، وقال (ط): "يشب الوجه: يحسنه". (¬2) رواه أبو داود (2305)، والنسائي (6/ 204 - 205) من طريق المغيرة بن الضحاك عن أم حكيم بنت أسيد عن أمها عن مولاة لها عن أم سلمة به. قال عبد الحق في "أحكامه" (3/ 223): ليس لهذا الحديث إشاد يعرف، وأقره الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 261). وقال الحافظ في "التلخيص" (3/ 239): وأعله عبد الحق الإشبيلي والمنذري بجهالة حال المغيرة، ومن فوقه، وأعل بما في "الصحيحين" عن زينب بنت أم سلمة، سمعت أم سلمة تقول: جاءت. . . فذكز الحديث المذكور، بينما حسنه في "بلوغ المرام" (ص 285)، وقال المصنف في "زاد المعاد" (5/ 357): "وأقل درجاته أن بكون حسنًا" وصححه ابن عبد البر في "التمهيد" (17/ 318)، وهو في "ضعيف سنن النسائي" (3537). والحديث رواه مالك (2/ 598): أنه بلغه أن أم سلمة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت لامرأة حادٍّ على زوجها اشتكت عيها فبلغ ذلك منها: اكتحلي بكحل الجلاء بالليل وامسحيه بالنهار. (¬3) في (ك): "و"!! (¬4) رواه مسلم (1483) في (الطلاق): باب جواز خروج المعتدة البائن والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها، من حديث جابر بن عبد اللَّه.

فصل في فتواه -صلى الله عليه وسلم- في نفقة المعتدة وكسوتها

فصل في فتواه -صلى اللَّه عليه وسلم- في نفقة المعتدة وكسوتها ثبت أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها البتة فخاصمته في السكنى والنفقة إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت: فلم يجعل لي سكنى، ولا نفقة، وفي "السنن" أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يا بنت آل قيس إنما السكنى والنفقة على مَنْ كانت له رَجْعةٌ" (¬1)، ذكره أحمد، وعنده أيضًا: "إنما السكنى والنفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة، فلا نفقة، ولا سكنى" (¬2). وفي "صحيح مسلم" عنها: طلقني زوجي ثلاثًا فلم يجعل لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سكنى، ولا نفقة (¬3). وفي رواية لمسلم أيضًا أن أبا عمرو بن حفص خرج مع علي [كرم اللَّه وجهه] (¬4) إلى اليمن فأرسل إلى امرأته بتطليقة بقيت من طلاقها وأمر عيَّاش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن يُنفقا عليها فقالا: واللَّه ما لها نفقة إلا أن تكون حاملًا، فأتت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت له قولهما فقال: "لا نفقة لك" فاستأذنته في الانتقال فأذن لها، فقالت له: أين يا رسول اللَّه؟ فقال: "عند ابن أم مكتوم" وكان أعمى تضع ثيابها ¬

_ (¬1) بهذا اللفظ رواه أحمد (6/ 415)، ونحوه عند الطبراني في "الكبير" (24/ 936 و 937) من طريق مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس به، وهذا إسناد ضعيف؛ لضعف مجالد، وهو متابع، انظر ما بعده، وهو والذي بعده أصلهما في "صحيح مسلم"، كما ذكره ابن القيم في الذي بعدهما. (¬2) رواه أحمد (6/ 416) من طريق مجالد عن الشعبي عن فاطمة به، وإسناده ضعيف أيضًا، ولكن مجالد توبع؛ فقد أخرجه الطبراني في "الكبير" (24/ 935) من طريق زكريا بن أبي زائدة، عن عامر الشعبي به، وزكريا هذا من الثقات، إلا أنه كان يدلس كثيرًا عن الشعبي كما قال غير واحد. وتابعه أيضا سعيد بن يزيد البجلي؛ أخرجه الطبراني (24/ 948) من طريق إسحاق بن إبراهيم الصواف عن بكر بن بكار عنه. ورواته ثقات غير سعيد بن يزيد فإنه صدوق، وبكر هذا إن كان هو المترجم في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، و"ميزان الذهبي"، فقد ضعفه النسائي، وابن معين، وأبو حاتم، وقال ابن حبان: ثقة يخطئ وقال أبو عاصم النبيل: ثقة" وأظنه هو، فإنه في هذه الطبقة، وإن كان غيره فإني لم أعرفه. (¬3) رواه مسلم (1480) بعد (51) في (الطلاق): باب المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها. (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

عنده ولا يراها، فلما مضت عدتها أنكحها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة بن زيد فأرسل إليها مروانُ قبيصةَ بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته فقال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حينْ بلغها قول مروان: بيني وبينكم القرآن قال اللَّه تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] الآية قالت: هذا لمن كانت له مُرَاجعة فأي أمر يحدُثُ بعد الثلاث؟ (¬1) وأفتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن للنساء على الرجال رزقهن وكسوتهن بالمعروف (¬2)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما تقول في نسائنا؟ فقال: "أَطْعِمُوهُنَّ مما تأكلون واكسوهنَّ مما تلبسون، ولا تضربوهنَّ، ولا تقبحوهنَّ" (¬3)، ذكره مسلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- هند امرأة أبي سفيان فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه، وهو لا يعلم، قال: "خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف" (¬4)، متفق عليه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1480) بعد (41). (¬2) هو جزء من حديث جابر الطويل في وصف حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، رواه مسلم (1218) في (الحج)! باب حجة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. (¬3) رحم اللَّه ابن القيم، فالحديث لم يروه مسلم، وإنما رواه بهذا اللفظ أبو داود (2144) في (النكاح): باب في حق المرأة على زوجها من طريق سعيد، عن بهز بن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه عن جده به، ورواه نحوه أبو داود (2143)، وأحمد (5/ 5)، والطبراني في "الكبير" (19/ 999 - 1002) من طرق عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، ورواه أحمد (4/ 447)، وأبو داود (2142)، وابن ماجه (1850) في (النكاح): باب حق المرأة على الزوج، والنسائي في "عشرة النساء" (289) وفي "التفسير" (رقم 124)، و (447)، وابن حبان (4175)، والطبراني في "الكبير" (19/ 1034) و (1037) و (1039)، والحاكم (2/ 187 - 188). والبيهقي (7/ 295 و 305) من طرق عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، وإسناده حسن من أجل حكيم بن معاوية. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه أحمد (3/ 446 - 447) من طريق أبي قزعة، عن عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية به. ورواه النسائي في "عشرة النساء" (298) من طريق سويد بن حجير، عن حكيم بن معاوية به، ورواه أحمد (5/ 3) عن عبد الرزاق عن ابن جريج، عن أبي قزعة، وعطاء عن رجل من بني قشير عن أبيه. ورواه البيهقي (7/ 295) من طريق سعيد بن حكيم -أخو بهز- عن أبيه عن جده. (¬4) رواه البخاري (2211) في (البيوع): باب من أجرى أمر الأمصار على ما يتعارفون بينهم =

فتضمنت هذه الفتوى أمور: أحدها: أن نفقة الزوجة غير مُقَدَّرة بل المعروف ينفي تقديرها، ولم يكن تقديرها معروفًا في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم. الثاني: أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الولد كلاهما بالمعروف. الثالث: انفراد الأب بنفقة أولاده. الرابع: أن الزوج أو الأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف. الخامس: أن المرأة إذا قَدَرَتْ على أخذ كفايتها من مال زوجها لم يكن لها إلى الفسخ سبيل. السادس: أن ما لم يقدره اللَّه ورسوله من الحقوق الواجبة فالمرجع فيه إلى العرف. السابع: أن ذم الشاكي لخصمه بما هو فيه حال الشكاية لا يكون غيبة، فلا يأثم به هو، ولا سامعه بإقراره عليه. الثامن: أن من منع الواجب عليه، وكان سبب ثبوته ظاهرًا فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هندًا (¬1)، وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- الضيف (¬2) إذا لم يَقْره مَنْ نزل عليه، كما في "سنن أبي داود" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ليلة الضيف حق على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا عليه إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه" وفي لفظ: "من نزل بقوم فعليهم أَن يَقْرُوه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" (¬3)، وإن كان سبب الحق خفيًا لم يجز له ذلك، كما أفتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ¬

_ = في البيوع، و (5370) في (النفقات): باب {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}، و (7180) في (الأحكام): باب القضاء على الغائب، ومسلم (1714) في (الأقضية): باب قضية هند، من حديث عائشة أم المؤمنين. (¬1) في حديث تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو داود (3750) في (الأطعمة): باب ما جاء في الضيافة، وابن ماجه (3677) في (الأدب): باب حق الضيف، وأحمد (4/ 130 و 132 - 133)، والبخاري في "الأدب المفرد" (رقم 765)، والطيالسي (2038 - منحة)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1839) و (2812) و (2813)، وفي "شرح معاني الآثار" (4/ 242)، والبيهقي (9/ 197)، والطبراني في "الكبير" (20/ 621 و 623 و 624) من طرق عن منصور عن الشعبي عن المقدام بن معدي كرب. قال الحافظ في "التلخيص" (4/ 159) بعد أن عزاه لأبي داود: وإسناده على شرط الصحيح. (¬3) رواه أحمد (4/ 131)، وأبو داود (4604) في "السنة" باب في لزوم السنة -ومن طريقه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (1/ 89) - وابن عدي (2/ 858) والطبراني في "الكبير" (20/ =

قوله: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: ["أمك" قال: ثم من؟ قال:] "أبوك" متفق عليه، زاد مسلم: "ثم أدْنَاكَ فأدْنَاكَ" (¬2). قال الإمام أحمد: للأم ثلاثة أرباع البر، وفال أيضًا: الطاعة للأب وللأم ثلاثة أرباع البر، وعند الإمام أحمد قال: "ثم الأقرب فالأقرب" (¬3). وعند أبي داود أن رجلًا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبر؟ قال: "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة" (¬4). ¬

_ = 668 و 670) من طرق عن حريز بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي عوف عن المقدام بن معدي كرب، فذكره وهو جزء من حديث طويل أَوله: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" -وهو مخرج بتفصيل في تعليقي على "الإعتصام" للشاطبي (2/ 27) - وهذا إسناد صحيح. ورواه الطبراني في "الكبير" (20/ 667 و 669) من طريق مروان بن رؤبة عن عبد الرحمن بن أبي عوف به. * تنبيه وقع في "مسند أحمد" جرير بن عبد الرحمن بن أبي عوف الجرشي وهو خطأ صوابه (حريز عن عبد الرحمن). وتوبع عبد الرحمن بن أبي عوف، تابعه الشعبي، عند: أحمد (4/ 130، 132، 133) وهناد (1055)، والطيالسي (1151)، والبخاري في "الأدب المفرد" (744)، وأبي داود (3750)، وابن ماجه (3677)، والطحاوي في "المشكل" (1839، 2812، 2813)، و"شرح معاني الآثار" (2/ 242) وتمام في "فوائده" (رقم 1274 - ترتيبه)، والطبراني (20/ 263، 264)، والبيهقي (9/ 197)، "والشعب" (7/ 92) وتابعهما أيضًا سعيد بن المهاجر عند أحمد (4/ 131، 133)، والدارمي (2043)، وأبي داود (3751) وللحديث شواهد عديدة انظر "السلسلة الصحيحة" (2204)، و"الإرواء" (2591). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (5971) في (الأدب): باب من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم (2548) في (البر والصلة): باب بر الوالدين وأنهما أحق به، من حديث أبى هريرة. وزيادة مسلم: (ثم أدناك فأدناك) عنده رقم (2548) بعد (2). وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه أحمد (5/ 305) وعبد الرزاق (20121) وأبو داود (5139) في (الأدب): باب في بر الوالدين، والبخاري في "الأدب المفرد" (3)، والترمذي (1902) في (البر): باب ما جاء في بر الوالدين، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1667) و (1668)، والحاكم (3/ 642 و 4/ 150)، والبيهقي (4/ 179 و 8/ 2)، والطبراني في "الكبير" (19/ 957 - 964) من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، وحسنه الترمذي، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حسن فقط على ما استقر قول أهل الفن في هذا الإسناد. (¬4) رواه أبو داود (5140) في (الأدب): باب في بر الوالدين، والبخاري في "التاريخ الكبير" =

[فصل] [فتاوى في الحضانة وفي مستحقها]

[فصل] [فتاوى في الحضانة وفي مستحقها] قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها خمس قضايا: إحداها: قضى بابنة حَمْزة لخالتها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقال: "الخالة بمنزلة الأم" (¬1) فتضمن هذا القضاء أن الخالة مقام الأم في الاستحقاق، وأن تزوجها لا يُسْقط حضانتها إذا كانت جارية. القضية الثانية: أن رجلًا جاء بابن له صغير لم يبلغ، فاختصم فيه هو وأمه، ولم تسلم الأم، فأجلس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأب هاهنا وأجلس الأم هاهنا، ثم خيَّر الصبي، وقال: "اللهم اهده" فذهب إلى أمه (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = (7/ 230) وفي "الأَدب المفرد" (47)، والبيهقي (4/ 179) من طريق الحارث بن مرة وضمضم بن عمرو الحنفي عن كليب بن منفعة عن جده قال: فذكره. . . قال ابن أبي حاتم في "علله" (2/ 211): "سألت أبي عن حديث رواه بعض البصريين عن كليب بن منفعة عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول اللَّه. . . ورواه الحارث بن مرة الحنفي عن كليب بن منفعة قال: أتى جدي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه مَنْ أبر؟ فقال أبي: المرسل أشبه، أقول: روايته عن أبيه عن جده لم أقف عليها". وفي ترجمة كليب بن منفعة من "التهذيب": يروي عن جده وقيل: عن أبيه عن جده. . روى عنه الحارث بن مرة وضمضم بن عمرو الحنفيان وذكره ابن حبان في "الثقات" وسمّى ابن منده جده كُليبًا أيضًا، وفي ترجمة كليب (الجد) في "الإصابة" قال: روى كليب بن منفعة عن أبيه عن جده حديثًا في البر أخرجه أبو داود والبخاري في "التاريخ" فقال: عن جده ولم يقل: عن أبيه ولم يُسم الجد وسماه ابن منده من طريق يحيى الحماني كليبًا واستغربه أبو نعيم وقال ابن أبي خيثمة: لا يعرف اسمه. أقول: لم يترجح لنا شيئًا في هذه التراجم فلم يبق لدينا إلا تصويب أبي حاتم لرواية كُليب عن جده وهي رواية عبيد اللَّه بن عمر القواريري عن الحارث، فيما أفاده أبو نعيم في "المعرفة" (5/ 2398) وقد حكم عليها بالإرسال كما سبق، واللَّه أعلم، ورواه التبوذكي عن ضمضم بن عمرو عن كليب قال: قال جدي: أتيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أفاده أبو نعيم أيضًا والحديث في "ضعيف الأدب المفرد" (رقم 10) وضعفه في "الإرواء" (837، 2163). (¬1) رواه البخاري (2699) في (الصلح): باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان بن فلان. . من حديث البراء بن عازب، وهو جزء من حديث طويل. (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 446)، وسعيد بن منصور (2276)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3089) من طريق هشيم: حدثنا عثمان البَتِّي قال: أخبرني عبد الحميد بن سلمة الأنصاري أن جدّه أسلم في عهد رسول اللَّه. . . فذكره، وفيه أنه رجع إلى أبيه وليس إلى أمه، كما ذكر ابن القيم هنا. =

القضية الثالثة: أن رافع بن سنان أسلم، وأبت امرأته أن تسْلم، فأتت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقالت: ابنتي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقعد ناحية"، وقال لها: "اقعدي ناحية" فأقعد الصبيّة بينهما، ثم قال: "ادْعُوَاها فمالت إلى أمها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم اهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها (¬1)، ذكره أحمد. القضية الرابعة: جاءته امرأته فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر [أبي] عنبة، وقد نفعني فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استهما عليه"، فقال زوجها: مَنْ يُحاقُني في ولدي؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت" فأخذ بيد أمه، فانطلقت به (¬2)، ذكره أبو داود. ¬

_ = ورواه الطحاوي في "مشكل الآثار" (3091) من طريق حماد بن سلمة، عن عثمان البتي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه: أن رجلًا. . .، وفيه: فاختار أباه. ورواه ابن أبي شيبة (10/ 162 و 11/ 377) وعنه ابن ماجه (2352) في (الأحكام): باب تخيير الصبي بين أبويه، وأحمد (5/ 446) من طريق إسماعيل ابن علية، عن عثمان البتي، عن عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، عن جده: أن أبويه اختصما وأحدهما مسلم والآخر كافر. . ولم يبين الأب من الأم. ورواه عبد الرزاق (12616) -ومن طريقه النسائي (6/ 185) في (الطلاق) باب إسلام أحد الزوجيين وتخيير الولد- وأحمد (5/ 447)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3092) عن سفيان عن عبد الحميد الأنصاري عن أبيه عن جده أنه أسلم. . وفيه أنه اختار الأب. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 34 - 35): هذا إسناد ضعيف رواه الدارقطني في "سننه" (4/ 43) من طريق عبد الحميد بن سلمة وقال: عبد الحميد وأبوه وجده لا يعرفون قال: ويقال: عبد الحميد بن يزيد بن سلمة، وقال العلائي صلاح الدين في "الوشي المعلم": هو عبد الحميد بن جعفر بن الحكم. أقول: حديث عبد الحميد بن جعفر يأتي ويظهر أنهم اثنان فانظر "نصب الراية" (3/ 270 - 271)، و"بيان الوهم والإيهام" (3/ 515)، و"الحنائيات" (رقم 228 - بتحقيقي). (¬1) رواه أحمد (5/ 446)، وأبو داود (2244) في (الطلاق): باب إذا أسلم أحد الأبوين لمن يكون الولد، والنسائي في "الكبرى" في الفرائض (رقم 6385/ 1) والطحاوي في "مشكل الآثار" (3090)، والدارقطني (4/ 43 - 44)، والحاكم (2/ 206) من طرق عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن أبيه عن جده رافع بن سنان فذكره. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (3/ 514): عبد الحميد بن جعفر ثقة وأبوه جعفر كذلك، وانظر "نصب الراية" (3/ 270). (¬2) رواه أبو داود (2277) في (الطلاق): باب من أحق بالولد، والنسائي (6/ 185) في (الطلاق): باب إسلام أحد الزوجين وتخيير الولد، وأحمد (2/ 246)، وعبد الرزاق =

فصل [فتاوى في جرم القاتل وجزائه]

القضية الخامسة: جاءته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه إن ابني هذا كان بَطْني له وعاءً، وثديي له سقاء، وحجري له حواءً (¬1)، وأن أباه طلقني، وأراد أنْ ينزعه مني، فقال لها: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (¬2)، ذكره أبو داود. فعلى (¬3) هذه القضايا الخمس تدور الحضانة، وباللَّه التوفيق. فصل [فتاوى في جرم القاتل وجزائه] ومن فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في باب الدماء والجنايات. سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الآمر والقاتل؟ فقال: "قسمت النار سبعين جزءًا فللآمر تسع وستون وللقاتل جزء" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ = (12611) و (12612)، والدارمي (2/ 170)، والشافعي في "مسنده" (2/ 62 - 63)، و"الأم" (5/ 92)، والترمذي (1361) في (الأحكام): باب ما جاء في تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا، وابن ماجه (2351) في الأحكام: باب تخيير الصبي بين أبويه، وسعيد بن منصور (2775)، والحميدي (1083)، والحاكم (4/ 97)، والبيهقي (8/ 3)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3085) و (3086)، وأبو يعلى (6131)، والبغوي (2399) من طرق عن زياد بن سعد عن هلال بن أبي ميمونة عن أبي ميمونة عن أبي هريرة به مطولًا ومختصرًا، وإسناده صحيح. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. ونقل عنه الحافظ في "التلخيص" (4/ 12) أنه قال: حسن، وصححه الحاكم. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) "أي مكان يضمه ويجمعه" (و). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) كذا في (ك) و (ط. دار الحديث) وفي سائر المطبوعات: "وعلى". (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 362): حدثنا يعلى بن عبيد: حدثنا محمد بن يزيد بن أبي حبيب، (وهو خطأ صوابه محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب، كما هو ظاهر في كلام الهيثمي، وليس في الرواة من اسمه محمد بن يزيد بن أبي حبيب ثم وجدته هكذا على الجادة في "أطراف مسند أحمد" (8/ 323 رقم 140/ 1) و"إتحاف المهرة" (16/ 2/ 649)) عن مرثد بن عبد اللَّه، عن رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . (فذكره). قال الهيثمي (7/ 299): رواه أحمد ورجاله رجال الصحبح غير محمد بن إسحاق، وهو ثقة ولكنه مدلس. وأخرجه البيهقي في "الشعب" (4/ رقم 5360) من طريق حماد بن زيد ثنا محمد بن إسحاق به. وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدري، رواه الطبراني في "الصغير" (526). =

وجاءه رجل فقال: إن هذا قتل أَخي، قال: "اذهب فاقتله، كما قتل أخاك"، فقال له الرجل: اتق اللَّه واعفُ عني، فإنه أعظم لأجرك وخير لك يوم القيامة فخلّى عنه، فأُخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسأله فاخبره بما قال له، فقال له: " [أما] إنه خير هو صانع بك يوم القيامة يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني" (¬1). وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل بآخر قد ضرب ساعده بالسيف فقطعَها من غير مفصل، فأمر له بالدية، فقال: أريد القصاص، فقال: "خذ الدية بارك اللَّه لك فيها"، ولم يقض له بالقصاص (¬2)، ذكره ابن ماجه. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يُقتل الذي قتل ويُحبس الذي أمسك (¬3)، ذكره الدارقطني. ¬

_ = قال الهيثمي في "المجمع" (7/ 299): فيه الحسين بن الحسن بن عطية، وهو ضعيف. أقول: وفيه أيضًا عطية العوفي وهو ضعيف. (¬1) رواه النسائي (8/ 17 - 18) من طريق خالد بن خداش: حدثنا إسماعيل بن حاتم عن بشير بن المهاجر، عن عبد اللَّه بن بُرَيدة به. وإسناده وإن كان على شرط مسلم إلا أن بشير بن المهاجر هذا قال فيه أحمد: منكر الحديث قد اعتبرت حديثه، فإذا هو يجيء بالعجب، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يُحتج به، وتكلم فيه أيضًا البخاري، وابن عدي، وابن حبان، والعقيلي، ووثقه ابن معين، وقال النسائي: ليس به بأس، ما بين المعقوفتين من (ك)، و"سنن النسائي" وسقط من سائر الأصول. وفيها أيضًا: "تقول: يا رب سل هذا فيم قتل أخي"، وما اثبتناه من (ك) و"سنن النسائي" وهو الصواب. (¬2) رواه ابن ماجه (2636) في (الديات): باب ما لا قود فيه، والطبراني في "الكبير" (2089 و 2090)، والدارقطني في "المؤتلف والمختلف" (1/ 435)، وأبو نعيم في "المعرفة" (2/ رقم 1652)، والبيهقي (8/ 65) من طرق عن دهثم بن قُرَّان، عن نمران بن جارية عن أببه به، قال البوصيري (2/ 84) وإسناد هذا الحديث فيه دهثم بن قران اليماني ضعفه أبو داود والنسائي، وابن عدي والعجلي والدارقطني، وتركه أحمد بن حنبل، وعلي بن الجنيد. أقول: وفيه نمران بن جارية، قال الذهبي: لا يُعرف، وقال ابن حجر: مجهول. وممن ضعف الحديث جدًا عبد الحق في "الأحكام الوسطى" (7/ 17) بقوله: "دهثم متروك"، وتبعه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (1/ 236)، وابن حجر في "الإصابة" في ترجمة جارية، والحديث في "ضعيف سنن ابن ماجه" (578)، وانظر "نصب الراية" (4/ 372). (¬3) الحديث يرويه إسماعيل بن أمية وقد اختلف في وصله وإرساله، فقد رواه الدارقطني (3/ 139) من طريق محمد بن الفضل عنه، عن سعيد بن المسيب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. =

ورُفع إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- يهودي قد رضَّ رأس جارية بين حجرين فأمر به أنْ يُرَضَّ رأسه بين حجرين (¬1)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن شِبْهَ العمد مغلظ مثل العمد، ولا يقتل صاحبه (¬2)، ذكره أبو داود. ¬

_ = ورواه عبد الرزاق (17892 و 17895)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 140)، عن معمر وابن جريج عنه مرفوعًا مرسلًا أو معضلًا. ورواه البيهقي (8/ 51) من طريق ابن المبارك عن معمر عنه مرفوعًا كذلك. ورواه سفيان الثوري عنه، واختلف عنه، فرواه وكيع عن سفيان عن إسماعيل بن أمية مرفوعًا، أخرجه الدارقطني (3/ 145)، ومن طريقه البيهقي (8/ 50)، وابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 275 رقم 2144). ورواه أبو داود الحفري عن سفيان الثوري عنه عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا موصولًا. أخرجه الدارقطني (3/ 145)، ومن طريقه البيهقى (8/ 50). قال البيهقي: هذا غير محفوظ -أي الموصول-، فتعقبه ابن التركماني في "الجوهر النقي" قائلًا: صحح ابن القطان رفعه، وقال: إسماعيل من الثقات، فلا يعد رفعه مرة وإرساله أخرى اضطرابًا، إذ يجوز للحافظ أن يرسل الحديث عند المذاكرة، فإذا أراد التحميل أسنده. أقول: الإسناد الموصول رجاله كلهم ثقات من رواة الصحيح، وإسماعيل بن أمية هذا من الثقات الأثبات، فلا مانع أن يصل الحديث أحيانًا، وأن يرسله أحيانًا عند المذاكرة، كما قال ابن القطان -رحمه اللَّه- في "بيان الوهم والإيهام" (5/ 415 - 418) واللَّه أعلم. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أبو داود (4565) في (الديات) باب ديات الأعضاء، وأحمد (2/ 183)، والبيهقي (8/ 70) من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به، وفيه زيادة. وهذا إسناد لا بأس به. وروى أحمد في "مسنده" (2/ 217) من طريق محمد بن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. . . فذكر حديثًا طويلًا منه هذا، وابن إسحاق مدلس، أخشى أن يكون دلَّسه عن سليمان بن موسى. وروى الحديث عبد الرزاق (17199) من طريق ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. وهذا لا يضر -إن شاء اللَّه تعالى- وقد بيّنت من قبل أن ابن جريج كثير الإرسال عن عمرو بن شعيب. وله شاهد من حديث ابن عباس، رواه البيهقي (8/ 45) من طريق الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن طاوس عنه، والوليد وابن جريج مدلسان وقد عنعنا. =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنين يسقط من الضربة بِغُرَّةِ: عبدٍ أو أمةٍ (¬1)، ذكره أبو داود أيضًا. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتل الخطأ شبه العمد بمئة من الإبل: أربعون منها في بطونها أولادها (¬2)، ذكره أبو داود. ¬

_ = وحديث ابن عباس رواه بمعناه إسحاق بن راهويه في "مسنده" -كما في "نصب الراية" (4/ 332) - من طريق إسماعيل بن مسلم عن عمرو بن دينار به. وإسماعيل هذا ضعيف. (¬1) الحديث عزاه ابن القيم -رحمه اللَّه- لأبي داود وهو في "صحيح البخاري" في مواطن منها: (5758 و 5759) في (الطب): باب الكهانة، و (6740) في (الفرائض): باب ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره، و (6740) في (الفرائض): باب ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره، و (6904) في (الديات): باب جنبن المرأة، ومسلم (1681) في (القسامة): باب دية الجنين، من حديث أبي هريرة. ورواه البخاري (6905 و 6906 و 6907 و 6908) في (الديات): باب جنين المرأة، و (7317 و 7318) في (الاعتصام): باب ما جاء في اجتهاد القضاء بما أنزل اللَّه، ومسلم (1682 و 1683) من حديث المغيرة بن شعبة. (¬2) رواه أبو داود (4547) في (الديات): باب الخطأ شبه العمد، والنسائي (8/ 40) في (القسامة)؛ باب كم دية شبه العمد، وابن ماجه (2627) في (الديات): باب دية شبه العمد مغلظة، وابن حبان (6011)، والبيهقي (8/ 45 و 68)، والمزي في "تهذيب الكمال" (20/ 190) من طرق عن حماد بن زيد عن خالد بن مهران الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن أوس عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. . . فذكره وعندهم زيادة. وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات. ورواه وهيب بن خالد بن مهران عن القاسم به. أخرجه أبو داود (4548)، وابن حبان (6011)، والدارقطني (3/ 104 - 105)، ووهيب هذا من الثقات أيضًا. ورواه عبد الرزاق (17213)، والشافعي (2/ 108)، وأحمد (5/ 411 - 412)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 393)، والنسائي (8/ 41 و 42)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 185 - 186)، والدارقطني (3/ 103 - 104 و 105)، والبيهقي (8/ 45) من طرق عن خالد الحذاء، عن القاسم بن ربيعة، عن يعقوب بن أوس عن رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويعقوب هذا هو نفسه عقبة، قال ابن معين -كما في "سنن البيهقي" (8/ 69) -: يعقوب بن أوس، وعقبة بن أوس واحد، وإبهام الصحابي لا يضر، قال أبو داود بعد حديث (4549): ورواه أيوب السختياني عن القاسم بن ربيعة، عن عبد اللَّه بن عمرو مثل حديث خالد (أي الحذاء)، ورواه حماد بن سلمة، عن علي بن زيد عن يعقوب السدوسي عن عبد اللَّه بن عمرو عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (كذا هنا عبد اللَّه بن عمرو، ولكن علي بن زيد جعل الحديث من مسند عبد اللَّه بن عمر، كما في مصادر =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يقتل مسلم بكافر (¬1)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يقتل الوالد بالولد (¬2)، ذكره الترمذي. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يعقل المرأة عَصَبتها مَنْ كانوا، ولا يرثون منها، إلا ما فَضَل عن ورثتها، وإن قُتلت فعقلها بين ورثتها فهم يقتلون قاتلها (¬3)، ذكره أبو داود. ¬

_ = التخريج على ما يأتي، وأظنه خطأ مطبعيًا). وطريق أيوب التي ذكرها أبو داود أخرجها (2/ 164 و 166)، والنسائي (8/ 40)، وابن ماجه (2627)، والدارقطني (3/ 104)، والبيهقي (8/ 44) من طرق عنه عن القاسم عن عبد اللَّه بن عمرو بإسقاط عقبة بن أوس. وطريق علي بن زيد أخرجها الشافعي (2/ 108)، وعبد الرزاق (17212)، والحميدي (702)، وابن أبي شيبة (9/ 129 - 130)، وأحمد (2/ 11، 36)، وأبو داود (4549)، والنسائي (8/ 42)، وابن ماجه (2628)، وأبو يعلى (5675)، والدارقطني (3/ 105)، والبيهقي (8/ 44)، والخلافيات (3/ ق 179)، والبغوي (2536) من طرق عنه عن القاسم بن ربيعة عن عبد اللَّه بن عمر. وعلي بن زيد هو ابن جدعان ضعيف، وقد بَيّن وهمه ابن معين فيما رواه عنه البيهقي (8/ 69)، وقال: الحديث حديث خالد الحذاء، وإنما هو عبد اللَّه بن عمرو بن العاص. وعلي بن زيد قد اضطرب فيه: فمرة يقول: عن القاسم بن ربيعة كما تقدم، ومرة يقول عن القاسم بن محمد، ومرة يقول: عن يعقوب السدوسي، كما هو في "مسند أحمد" (2/ 103). ورواه النسائي (8/ 40 - 41 و 42) من طريقين عن القاسم بن ربيعة مرسلًا، وبالنظر الصحيح نجد أن طريق خالد الحذاء هي أصح الطرق، ولا يضر أن جماعة رووه عنه فجعلوه من مسند "رجل من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وقد سماه الآخرون "عبد اللَّه بن عمرو"، فهذا لا يضر -إن شاء اللَّه-. ولهذا نقل الحافظ في "التلخيص" (4/ 15) عن ابن القطان قوله عن هذا الحديث: "هو صحيح، ولا يضره الاختلاف"، وانظر لزامًا: "إرواء الغليل" (7/ 256 - 258). (¬1) و (¬2) تقدما. (¬3) رواه أبو داود (4564) في (الديات): باب ديات الأعضاء، ومن طريقه البيهقي (8/ 58 و 107)، والنسائي (8/ 42 - 43)، وابن ماجه (2647) من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، فذكر حديثًا طويلًا، هذا منه. وإسناده لا بأس به؛ محمد بن راشد، وسليمان بن موسى فيهما كلام لا ينزل حديثهما عن درجة الحسن، وحديث عمرو بن شعيب جيّد. ورواه أحمد (2/ 217) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكر مثل حديث أبي داود، وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن فأخشى أن يكون دلس حديث سليمان بن موسى، وفي (ك): "أن لا يعقل عن المرأة"!!.

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الحامل إذا قَتلت عمدًا لم تُقتل حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها، وإن زَنَت حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها (¬1)، ذكره ابن ماجه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ من قُتل له قتيل فهو بخير النَّظرين إمَّا أن يفدي، وإما أن يقتل (¬2)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن مَنْ أصيب بدم أو خَبْل -والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يقتل أو يعفو، أو يأخذ الدية، فمن فعل شيئًا من ذلك فعاد، فإن له نار جهنم خالدًا فيها مخلدًا أبدًا (¬3)، يعني: قتل بعد عَفْوه وأَخذ الدية أو قتل غير الجاني (¬4). ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (2694) في (الديات): باب الحامل يجب عليها القود من طريق أبي صالح كاتب الليث عن ابن لهيعة عن ابن أنعم عن عبادة بن نُسي، عن عبد الرحمن بن غنم: حدثنا معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن الجَرّاح، وعبادة بن الصّامت، وشداد بن أوس به. قال البوصيري (2/ 94): هذا إسناد فيه ابن أنعم واسمه عبد الرحمن بن زياد، وهو ضعيف، وكذا الراوي عنه عبد اللَّه بن لهيعة. قال الألباني في "الإرواء" (7/ 282): وهذا إصناد مسلسل بالضعفاء أبو صالح وهو عبد اللَّه بن صالح كاتب الليث. . . ثم ذكر ابن أنعم وابن لهيعة. وشاهده حديث بريدة في المراَة الغامدية التي زنت فأمهلها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى تضع ثم أمرها بإرضاعه، رواه مسلم (1695)، وأبو داود (4442)، والبيهقي (8/ 229). (¬2) هو جزء من حديث رواه البخاري (112) في (العلم): باب كتابة العلم، و (2434) في (اللقطة): باب كيف تعرف لقطة أهل مكة، و (6880) في (الديات): باب من قتل له قتيل فهو بخير النظرين، ومسلم (1355) في (الحج): باب تحريم مكة وصيدها من حديث أبي هريرة. وانظر أحاديث التخيير في موجب القتل العمد في "زاد المعاد" (2/ 181 - 182 و 4/ 204)، وكتاب "أحكام الجناية" (ص 57 - 61 - الفرع الأول) للشيخ بكر أبو زيد. (¬3) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "خالدًا مخلدًا أبدًا فيها". (¬4) رواه أحمد (4/ 31)، وابن أبي شيبة (6/ 445)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 224)، وأبو داود (4496) في (الديات): باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، وابن ماجه (2623) في (الديات): باب من قتل له قتيل فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، والدارمي (2/ 188)، وابن الجارود (774)، والطبراني في "الكبير" (22/ 494 - 497)، والدارقطني (3/ 96)، والبيهقي (8/ 52) من طرق عن محمد بن إسحاق عن الحارث بن فضيل عن سفيان بن أبي العوجاء عن أبي شُريح الخزاعي به. وهذا إسناد ضعيف لضعف سفيان بن أبي العوجاء، وابن إسحاق مدلس، وقد صرّح =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يُقتص من جرح حتى يبرأ صاحِبُه (¬1)، ذكره أحمد. ¬

_ = بالسماع في بعض طرق الحديث، وقد فات هذا على شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (7/ 278) فقال: وابن إسحاق مدلس وقد عنعنه! وحديث أبي شريح هذا ورد من طريق اخر لكن فيه التخيير بين أمرين: القتل أو الدية، فقد أخرجه أبو داود (4504)، وأحمد (4/ 32 و 6/ 385)، والترمذي (1410) في (الديات): باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، والدارقطني (3/ 95 و 96)، والبيهقي (8/ 52 و 57) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عنه. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحبح. وانظر للفائدة "نصب الراية" (4/ 351)، "تنقيح التحقيق" (3/ 267)، وما كتبناه سابقًا. ويشهد لحديث أبي شريح في التخيير بين ثلاث ما رواه أبو داود (4499)، والنسائي (8/ 14 - 15)، والدارمي (2/ 191)، وابن أبي شيبة (6/ 445)، والبيهقى (8/ 60) من طريق عوف عن حمزة أبي عمر العائذي عن علقمة بن وائل عن أبيه. وهذا إسناد رواته ثقات إلا أن علقمة بن وائل بن حجر لم يسمع من أبيه. (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 217) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، فذكر قصة فيها هذا الحديث. قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 295 - 296): رواه أحمد ورجاله ثقات. أقول: في إسناده محمد بن إسحاق وهو مدلس وقد عنعن، بل وظاهر الإسناد أنه منقطع كما قال ابن عبد الهادي في "التنقيح" -كما في "نصب الراية" (4/ 377) -. وابن إسحاق توبع، فقد رواه الدارقطني (3/ 88 و 90)، والبيهقي (8/ 67)، وفي "الخلافيات" (3/ ق 181) والحازمي في "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ" (ص 290)، وابن الجوزي في "التحقيق" (9/ 290 رقم 2152) من طريق ابن جُريج عن عمرو بن شعيب به. قال الحازمي: "روي عن ابن جريج من غير وجه فإن صح سماع ابن جريج من عمرو ابن شعيب، فهو حديث حسن يقوي الاحتجاج به". أقول: لم أجد لابن جريج تصريحًا بالسماع من عمرو في هذا الحديث، وهو من المدلسين المعروفين، وقد انفرد محمد بن حمران عنه بوصله، قاله الدارقطني في "الغرائب" (4/ 35 - 31 - أطرافه). وقد رواه عبد الرزاق (17991)، والدارقطني (3/ 95) ومن طريقه البيهقي في "الخلافيات" (3/ ق 180) من طريق معمر عن أيوب عن عمرو بن شعيب مرسلًا. وله شاهد من حديث جابر رواه الدارقطني (3/ 89)، والبيهقي (3/ 90)، والحازمي (288)، وابن الجوزي (9/ 288 رقم 2151) من طريق أبي بكر وعثمان ابنا أبي شيبة: حدثنا ابن علية عن عمرو بن دينار عنه. وهذا إسناد رواته كلهم ثقات إلا أنه معلول؛ قال الدارقطني: قال أبو أحمد بن =

[فتاوى في الديات]

[فتاوى في الديات] وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأنف إذا أوعب جَدْعًا بالدية، وإذا جُدعت أرْنَبَتُه بنصف الدية (¬1). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في العين بنصف الدية [العقل] خمسين من الإبل أو عَدْلِهَا ذهبًا أو وَرِقًا أو مئة بقرة أو ألف شاة، وفي الرِّجْلِ نصف العقل، وفي اليد نصف العقل، والمأمومة (¬2) ثلث العقل، والمُنقِّلة خمس عشرة من الإبل، والموضِحة خمس من الإبل، والأسنان خمس خمس (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = عبدوس: ما جاء بهذا إلا أبو بكر وعثمان، وقال الشيخ: أخطأ فيه ابنا أبي شيبة، وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره، عن ابن علية عن أيوب عن عمرو مرسلًا، وكذلك قال أصحاب عمرو بن دينار، وهو المحفوظ مرسلًا. وقد رجح الإرسال أيضًا أبو زرعة -كما في "علل ابن أبي حاتم" (1/ 463) - بل رجح رواية حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة بن يزيد، لكن ابن القطان يرجح الوصل -كما في "نصب الراية" (4/ 378) -، وهي قاعدة عنده ذكرها في كنابه "الوهم والإيهام" مرارًا، وهي أن الوصل زيادة من ثقة تقبل دائمًا. وقد روي الحديث من طرق عن أبي الزبير عن جابر، ضعّفها البيهقي، وقال: وروي من وجه آخر عن ابن عباس. لكن له طريق جيد آخر عن جابر ذكره ابن التركماني في "الجوهر النقي" (8/ 67) بهامش "سنن البيهقي"، وعزاه للطحاوي وجوّد إسناده، وذكر له شواهد ثم قال: فهذا أمر قد روي من عدة طرق يشد بعضها بعضًا. ولذلك صححه الألباني في "الإرواء" أيضًا (7/ 298)، وانظر: "تهذيب السنن" (6/ 379 - 380)، و"زاد المعاد" (3/ 203 - 204)، و"أحكام الجناية" (ص 231 - 235). (¬1) هو جزء من حديث طويل رواه أبو داود (4564) في (الديات): باب ديات الأعضاء من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وهذا إسناد لا بأس به. ورواه أحمد (2/ 217) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب به، وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن بل ظاهره أنه لم يسمع من عمرو. (¬2) قال (ط): "المأمومة: التي تبلغ أم الدماغ حتى يبقى بينها وبين الدماغ جلد رقيق، والمنقلة: التي تنقل العظم، أي: تكسره حتى يخرج منها فراش العظام، والموضحة: الشجة التي تبدي وضح العظم" ونحوه في (و). (¬3) هو جزء من حديث طويل رواه أحمد في "مسنده" (2/ 217) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهذا إسناد ظاهره الانقطاع، وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الأسنان سواء الثّنِيَّةُ والضِّرْس سواء (¬1)، ذكره أبو داود. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في دية أصابع اليدين والرجلين بعشرٍ عشرٍ (¬2)، صححه الترمذي. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في العين العَوْرَاء السادَّة لمكانها إذا طُمست بثلث الدية وفي اليد الشلَّاء إذا قطعت ثُلُث ديتها (¬3)، ذكره أبو داود. ¬

_ = وقد رويت أجزاء من الحديث من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب به، وهو إسناد لا بأس به. فقد روى أبو داود (4564) دية اليد والرجل المأمومة والأسنان. وروى البيهقي (8/ 83) دية المأمومة، و (8/ 91) دية الرجل واليد، وروى الحربي في "غريب الحديث" (1/ 360) دية المواضح. وروى عبد الرزاق (17702) دية الأسنان، ورويت أجزاء أيضًا من طريق حسين المعلم، عن عمرو بن شعيب به، وإسناده جيد. فقد روى أبو داود (4563)، والنسائي (8/ 55) دية الأسنان، وروى أحمد (2/ 179 و 189 و 207)، وأبو داود (4566)، والترمذي (1394)، والنسائي (8/ 57)، وابن الجارود (785) دية المواضح. ورويت أجزاء من طريق مطر الوراق عن عمرو بن شعيب، وهذا إسناد جيد أيضًا. فقد روى أحمد (2/ 215)، وابن ماجه (2655) دية المواضح. وروى الدارمي (2/ 195)، والنسائي (8/ 55) دية الأسنان، ثم وجدت له شاهدًا قريبًا منه يرويه البزار في "مسنده" (1/ 386 رقم 261)، والبيهقي (8/ 86) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن عكرمة بن خالد، عن أبي بكر بن عبيد اللَّه بن عمر عن أبيه عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . قال الهيثمي في "المجمع" (6/ 296): وفيه محمد ابن أبي ليلى، وهو سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات، وما بين المعقوفتين من (ك) ومصادر التخريج. (¬1) رواه أبو داود (4559)، وابن ماجه (2650)، وابن الجارود (783) من طريق عبد الصمد بن عبد الوارث: حدثني شعبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات. وانظر: "أحكام الجناية" (298 - 299). (¬2) رواه الترمذي (1395) في (الديات): باب ما جاء في دية الأعضاء وابن الجارود (780) من طريق الفضل بن موسى عن الحسين بن واقد، عن يزيد بن عمرو النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. وانظر: "إرواء الغليل" (7/ 316 - 317). وانظر: "زاد المعاد" (3/ 204)، و"أحكام الجناية" (ص 296 - 297). (¬3) رواه النسائي (8/ 55)، والدارقطني (3/ 128 - 129) من طريق محمد بن عائذ عن =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في اللسان بالدية وفي الشفتين بالدية، وفي البيضتين بالدية، وفي الذكر بالدية وفي الصلب بالدية (¬1)، وفي العينين بالدية، وفي الرِّجل الواحدة نصف الدية، وأن الرَّجُل يُقتل بالمرأة (¬2)، ذكره النسائي ¬

_ = الهيثم بن حميد عن العلاء بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به، وهذا إسناد جيِّد. ورواه أبو داود (4567) من طريق مروان بن محمد عن الهيثم بن حميد به، لكن لفظه: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في العين القائمة السادة لمكانها بثلث الدية"، وليس فيه ذكر "العوراء" لكن يفسره رواية النسائي فإن العين الكاملة التي لا شيء فيها، دينها نصف الدية كما سبق. (¬1) انظر قضاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كسر الصلب في "زاد المعاد" (3/ 205)، و"أحكام الجناية" (ص 324 - 325)، وفي (ك): "الدية" دون حرف (الباء). (¬2) هو جزء من حديث طويل في كتاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرو بن حزم رواه مطولًا النسائي (8/ 57 - 58)، وابن حبان (6559)، والدارقطني (1/ 122)، والحاكم (1/ 397)، والبيهقي (4/ 89 - 90) من طريق الحكم بن موسى عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود قال: حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد عمرو بن حزم عن أبيه عن جده. إلا أنه معلول فقد رواه النسائي بعده (8/ 59) من طريق محمد بن بكار عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم قال: حدثني الزهري عن أبي بكر بن محمد بن حزم عن أبيه عن جده. وقال: وهذا أشبه بالصواب واللَّه أعلم، وسليمان بن أرقم: متروك الحديث، وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلًا. وقد أعله أيضًا أبو حاتم -كما في "علل ابنه" (1/ 222) - وكأنه كان يميل إلى أن سليمان بن داود في الإسناد الأول، هو سليمان بن أرقم المتروك الذي هو في الإسناد الثاني. وقال أبو داود في "مراسيله" بعد رقم (257): أُسنِدَ هذا ولا يصح، رواه يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه عن جده ثم أسنده من طرق عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم وقال: "والذي قال: سليمان بن داود وهم فيه". ونقل الذهبي في "ميزان الاعتدال" في ترجمة سليمان بن داود (2/ 200 - 202) عن أبي زرعة وصالح جزرة وأبي الحسن الهروي وابن منده أن الصواب سليمان بن أرقم كما هو في أصل كتاب يحيى بن حمزة. ثم قال الذهبي: ترجح أن الحَكَم وهم ولا بُدّ. وذكر الذهبي أن الإمام أحمد روى هذا الحديث في "مسنده"، وليس في المطبوع من المسند، مسند لعمرو بن حزم نهائيًا، ثم وجدت الحافظ ابن عساكر في ترتيبه لرواة "المسند" قد ذكره فيهم، فينظر "أطراف المسند المعتلي"، فإنه ليس بين يدي الآن ثم =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن من قُتِل خطأ فديته مئة من الإبل: ثلاثون بنت مَخَاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حِقة، وعشرة ابن لبون [ذكر]، ذكره النسائي (¬1). وعند أبي داود: عشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لَبُونَ، وعشرون ابن مخاض (¬2) ذكر (¬3). ¬

_ = راجعت أطراف المسند (5/ 131) ووجدت له فيما بعد (مسندًا) في طبعة مؤسسة الرسالة (39/ 476 - 480)، وفيه أحاديث، ليس هذا منها. ولفقراته شواهد، فانظر "نصب الراية" (4/ 370 - 376)، وأما قوله: وإن الرجل يقتل بالمرأة، فله شاهد من حديث أنس أن يهوديًا قتل جارية على أوضاح فقتله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ثابت في "الصحيح"، وقد خرجته من قبل. وفي قتل الرجل بالمرأة انظر: "زاد المعاد" (3/ 200 - 205)، و"أحكام الجناية" (ص 174 - 176). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 186 و 224)، وأبو داود (4541)، وابن ماجه (2630)، والدارقطني (3/ 176)، والبيهقي (8/ 74) من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. وإسناده لا بأس به. ورواه أحمد (2/ 217) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فذكر حديثًا طويلًا هذا منه، وما بين المعقوفتين من (ك) و"سنن أبي داود" (رقم 4529 - ط. دعاس). وليس هو في "سنن النسائي" كما قال المؤلف -رحمه اللَّه-. (¬2) قال (ط): "بنت مخاض: ما دخلت في الثانية، وكذلك ابن المخاض، بنت اللبون: ما دخلت في السنة الثالثة، وكذلك ابن اللبون، والحقة: ما دخلت في السنة الرابعة، والجذعة: ما دخلت في السنة الخامسة"، ونحوه في (و). (¬3) رواه أبو داود (4545)، والترمذي (1390) في (الديات): باب ما جاء في الدية كم هي من الإبل، والنسائي (8/ 43 - 44) في (القسامة): باب ذكر أسنان دية الخطأ، وابن ماجه (2631) في (الديات): باب دية الخطأ، وأحمد (1/ 384، 450)، والدارمي (2372)، وأبو يعلى (5210)، والدارقطني (3/ 173)، والبيهقي (8/ 75)، والمزي في "تهذيب الكمال" (8/ 250) من طرق عن الحجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن ابن مسعود به. قال أبو داود: هو قول عبد اللَّه. وقال الترمذي: لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وقد روي عن عبد اللَّه موقوفًا. وقال الدارقطني: هذا حديث ضعيف غير ثابت عند أهل المعرفة بالحديث، ثم ذكر وجوهًا في تضعيفه، ثم قال: لا نعلم رواه إلا خشف بن مالك، وهو رجل مجهول، لم يرو عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل ولا نعلم أحدًا رواه عن زيد بن جبير إلا الحجاج بن أرطاة، والحجاج رجل مشهور بالتدليس، وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه، ورواه جماعة من الثقات عن الحجاج فاختلفوا عليه فيه. . . ثم قال: وكيف ما كان =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن من قَتل متعمدًا دُفِعَ إلى أولياء المقتول، فإن شاؤا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة (¬1)، وما صُولحوا عليه فهو لهم (¬2)، ذكره الترمذي وحَسَّنه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أهل الإبل بمئة [من الإبل] وعلى أهل البَقَر بمئتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل مئتي حلة (¬3)، ذكره أبو داود. ¬

_ = فالحجاج بن أرطاة غير محتج به، وخشف بن مالك مجهول، والصحيح أنه موقوف على عبد اللَّه بن مسعود وانظر "العلل" له (5/ 49). وقد رواه الدارقطني والبيهقي من طرق عن ابن مسعود موقوفًا وفيها انقطاع أيضًا كما بيّن البيهقي. (¬1) "بفتح الخاء وكسر اللام: الناقة الحامل" (و). (¬2) رواه أحمد (2/ 183)، والترمذي (1391) في (أول الديات)، وابن ماجه (2626) في (الديات): باب من قتل عمدًا فرضوا بالدية، والدارقطني (3/ 177)، والبيهقي (8/ 71 - 72) من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به، قال الترمذي: حديث حسن غريب. ورواه أحمد (2/ 217) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. . . فذكر حديثًا طويلًا هذا منه. وابن إسحاق مدلس وقد عنعن، وفي (ك): "صالحوا" بدل "صولحوا". (¬3) رواه أبو داود (4543)، ومن طريقه البيهقي (8/ 78) من طريق حماد عن ابن إسحاق عن عطاء بن أبي رباح أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . (فذكره) مرسلًا. ثم رواه أبو داود (4544)، ومن طريقه البيهقي (8/ 78) من طريق أبي تميلة: حدثنا ابن إسحاق قال: ذكر عطاء بن جابر فذكره. ويظهر أن ابن إسحاق لم يسمع الحديث من عطاء، وهو مدلس معروف، وقد روى أبو داود (4564)، والبيهقي (8/ 77) نحوه من طريق محمد بن راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده في حديث طويل هذا منه دون قوله: "وعلى أهل الحلل مئتي حلة". وإسناده لا بأس به. وروى أحمد في "مسنده" (2/ 217) من طريق ابن إسحاق قال: وذكر عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حديثًا طويلًا هذا منه دون آخره كذلك. لكن روى أبو داود (4542)، ومن طريقه البيهقي (8/ 77) من طريق حسين المعلم عن عمرو بن شعيب به، وجعل الذي حدد هذا عمر بن الخطاب، وليس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحسين أوثق من سليمان. وروى البيهقي في "سننه" حديثًا مسندًا من حديث عبادة بن الصامت -وفيه ضعف- وآخر مرسل من مراسيل الزهري تؤيد رواية حسين المعلم، أنه من فعل عمر. =

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن عقْلَ المرأة مثلُ عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها (¬1)، ذكره النسائي (¬2). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن عَقْلَ أهل الذمة نصف [عقل] (¬3) المسلمين، ذكرهُ النسائي، وعند الترمذي: "عقل الكافر نصفُ عقل المؤمن" (¬4)، حديث حسن يصحح مثله أكثر أهل الحديث. وعند أبي داود: كانت قيمةُ الدية على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثمان مئة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذٍ النصف من دية المسلم، فلما كان عمر رفع دية المسلمين وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية (¬5). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنين امرأة ضربتها أخرى بغُرَّة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة ¬

_ = ثم ذكر رواية ابن إسحاق -التي ذكرت في البداية- وقال: كذا رواه محمد بن إسحاق بن يسار، ورواية من رواه عن عمر -رضي اللَّه عنه- أكثر وأشهر، واللَّه أعلم، وما بين المعقوفتين سقط من (ك) والمثبت من "سنن أبي داود" وسائر النسخ. (¬1) رواه النسائي (8/ 44 - 45)، والدارقطني (3/ 91) من طريق عيسى بن يونس: حدثنا ضمرة عن إسماعيل بن عياش عن ابن جريج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. وهذا إسناد ضعيف فيه علل: الأولى: إسماعيل بن عياش ضعيف في روايته عن غير أهل بلده، وهذه منها. الثانية: عنعنة ابن جريج، وهو مدلس مشهور. الثالثة: عيسى وضمرة فيهما بعض كلام. قال الشافعي -كما في "التلخيص" (4/ 25) -: "كان مالك يذكر أنه السنة وكنت أتابعه عليه، وفي نفسي منه شيء، ثم علمت أنه يريد شة أهل المدينة فرجعت عنه". (¬2) كذا في (ك) وهو الصواب وفي سائر النسخ: "مسلم"!! (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) رواه أحمد (2/ 180 و 183 و 217 و 224)، وأبو داود (4542 و 4583)، والترمذي (1417) في (الديات): باب ما جاء في دية الكُفَّار، والنسائي (8/ 45)، وابن ماجه (2644)، وابن خزيمة (2280)، والدارقطني (3/ 171)، والبيهقي (8/ 101) من طرف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده باللفظ الأول. وبعضهم باللفظ الثاني، وعند بعضهم: "دية المعاهد نصف دية الحر"، وحسنه الترمذي. (¬5) رواه أبو داود (4542)، ومن طريقه البيهقي (8/ 77) من طريق عبد الرحمن بن عثمان، عن الحسين بن المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به. وهذا إسناد جيّد. وانظر في ذلك: "تهذيب السنن" (6/ 374 - 377)، و"زاد المعاد" (3/ 205)، و"أحكام الجناية" (ص 255 - 268).

التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها (¬1)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في امرأتين قتلت إحداهما الأخرى ولكل منهما زوج بالدية على عاقله القاتلة وميراثها لزوجها وولدها، فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2): "لا، ميراثها لزوجها وولدها" (¬3) ذكره أبو داود. وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد صارخًا فقال: "مالك؟ " قال: سيِّدي رآني أُقبِّل جارية له فجبَّ مذاكيري، فقال: "عليَّ بالرجل" فطلب فلم يُقْدَرْ عليه، فقال: "اذهب، فأنت حر" قال: عَلَى مَن نصرتي يا رسول اللَّه؟ قال: "على كل مؤمن أو مسلم" (¬4)، ذكره ابن ماجه. ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6740) في (الفرائض): باب ميراث المرأة والزوج مع الولد وغيره، ومسلم (1681) بعد (35) في (القسامة): باب دية الجنين، من حديث أبي هريرة. (¬2) في المطبوع: "ميراثها لنا يا رسول اللَّه فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-" وما أثبتناه من (ك) و"سنن أبي داود" (رقم 4564 - ط. عوامة). (¬3) رواه أبو داود (4575) في (الديات): باب دية الجنين، وابن ماجه (2648) في (الديات): باب عقل المرأة على عصبتها، وأبو يعلى (1823) من طريق مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد اللَّه به، وهذا إسناد ضعيف لضعف مجالد وهو ابن سعيد. وشاهده حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يعقل المرأة عصبتها من كانوا ولا يرثون منها شيئًا إلا من فضل عن ورثتها. . . ". وإسناده لا بأس به، وقد تقدم. (¬4) رواه أبو داود (4519) في (الديات): باب من قتل عبده أو مَثَّل به أيقاد منه؟ وابن ماجه (2680) في (الديات)؛ باب من مثّل بعده فهو حر، من طريق سوار بن حمزة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وسوار هذا ضعيف، لكنه توبع، فقد رواه أحمد في "مسنده" (2/ 182) من طريق عبد الرزاق: أخبرني معمر أن ابن جريج أخبره عن عمرو بن شعيب به فذكره نحوه، وهذا إسناد رواته ثقات، ثم رأيته في "مصنف عبد الرزاق" (17932) عن معمر وابن جريج عن عمرو بن شعيب به، ورواه من طريقه الطبراني في "الكبير" (5301) فيمكن أن يكون عبد الرزاق رواه على الوجهين. قال الهيثمي بعد أن عزاه لأحمد (6/ 288 - 289): ورجاله ثقات. وقد أفاض الشيخ أحمد شاكر في الكلام عليه وبيان صحته (10/ 179) (رقم 6710). والحديث له طرق كثيرة عن عمرو بن شعيب، منها: طريق حجاج بن أرطاة، وهو ضعيف، أخرجه أحمد (2/ 225)، ومنها طريق المثنى بن الصباح، وهو ضعيف، أخرجه ابن منده -كما في "الإصابة" (1/ 533) - والبيهقي (8/ 36)، ومنها طريق ابن لهيعة،=

وقضى [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-]، بإبطال دية العاض لما انْتزَعَ المعضوضُ يَدَه من فيه فأسقط ثنيتَّه (¬1) متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن مَنِ اطّلَعَ في بيت قوم بغير إذنهم فخذفوه ففقؤوا عينه بأنه لا جُناح عليهم، متفق عليه. [وعند مسلم: "فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه"] (¬2). وعند الإمام أحمد من هذا الحديث: فلا دية له، ولا قصاص (¬3). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لا دِيَةَ في المأمومة، ولا الجائفة، ولا المنقلة (¬4)، ذكره ابن ماجه. وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل يقود آخر بِنِسْعَةٍ (¬5)، فقال: هذا قتل أخي، فقال: "كيف قتلته؟ " قال: كنت أنا وهو نختبط (¬6) من شجرة فسبَّني فأغضبني فضربته بالفأس ¬

_ = كما عند ابن سعد (7/ 506)، وابن عبد الحكم في "فتوح مصر" (ص 137)، ومنها طريق أسامة بن زيد، عند ابن سعد (7/ 505) وله شواهد من حديث زنباع وسندر. (¬1) تقدم تخريجه، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) تقدم تخريجه، وسقَط هذا الحديث بتمامه من (ك). (¬3) رواه أحمد (2/ 385)، والنسائي (8/ 61) في (القسامة): باب من اقتص وأخذ حقه دون السلطان، وابن الجارود (790)، وابن حبان (6004)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (939 و 940)، والبيهقي (8/ 338) من طرق عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة، وإسناده على شرط البخاري. (¬4) رواه ابن ماجه (2637) في (الديات): باب ما لا قود فيه، وأبو يعلى (6700 و 6702 و 6705)، والبيهقي (8/ 65)، والمزي في "تهذيب الكمال" (28/ 132) من طريق رشد ين بن سعد، عن معاوية، عن معاذ بن محمد الأنصاري، عن ابن صُهبان، عن العباس بن عبد المطلب به. قال البوصيري (2/ 85): هذا إسناد ضعيف؛ رشدين بن سعد ضعفه ابن معين وأبو حاتم الرازي، وأبو زرعة والنسائي وابن حبان والجوزجاني وابن يونس وابن سعد وأبو داود والدارقطني وغيرهم. أقول: وعقبة بن صهبان لم يدرك العباس، وإن كان غيره فهو مجهول، انظر "تهذيب الكمال" (34/ 453). "المأمومة: هي التي تصل أم الدماغ، وهي الغشاء الذي فيه الدماغ، والجائفة: هي التي وصلت إلى الجوف، والمنقلة: الجراحة التي نقلت العظم بعد الكسر، وإنما لم يحكم فيها بالقصاص لانعدام المماثلة، وفيها حكومة عدل،، وزاد (د): "ووقع في نسخة: "قضى بالدية في المأمومة والجائفة والمنقلة" وليس بشيء". (¬5) قال (و): النِّسعة -بكسر النور-: سير مضفور يجعل زمامًا للجمل". (¬6) قال (د): "في نسخة: "نحتطب من شجرة""، وكذا هو في (ك).

فصل [فتاوى في القسامة]

على قرنه فقتلته، فقال: "هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ " قال: مالي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذلك، فقال: "دونك صاحبك"، فانطلق به، فلمّا ولّى قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "إن قتله فهو مثله"، فرجع فقال: يا رسول اللَّه، بلغني أنك قلت: "إن قتله فهو مثله" وأخَذْتُه بأمرك، فقال: "أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ " قال: يا نبي اللَّه، بلى، فرمى بنسعته وخلَّى سبيله (¬1)، ذكره مسلم. وقد أشكل هذا الحديثُ على مَنْ لم يُحِطْ بمعناه، ولا إشكال فيه، فإن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن قتله فهو مثله" لم يرد به أنه مثله في الإثم، وإنما عنى به أنه إن قتله لم يبق عليه إثم القتل لأنه قد استوفى منه في الدنيا فيستوي هو والولي في عدم الإثم، أما الولي فإنه قتله بحق، وأما هو فلكونه قد اقتص منه، وأما قوله: "يبوء بإثمك وإثم صاحبك" فإثم الولي مظلمته بقتل أخيه وإثم المقتول إراقه دمه وليس المراد أنه يحمل خطاياك وخطايا أخيك، واللَّه أعلم. وهذه غير قصة الذي دَفَع إليه، وقد قتل، فقال: واللَّه ما أردت قتله، فقال: "أما إنه إن كان صادقًا فقتله دخل النار"، فخلاه الرجل (¬2)، صححه الترمذي، وإن كانت هي القصة فتكون هذه علة كونه إن قَتَله فهو مثله في المأثم، واللَّه أعلم. فصل [فتاوى في القسامة] وأقر -صلى اللَّه عليه وسلم- القَسَامة على ما كانت عليه قبل الإسلام وقضى بها بين ناس من ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1680) في (القسامة): باب صحة الإقرار بالقتل وتمكين ولي القتيل من القصاص، من حديث وائل بن حجر. (¬2) رواه الترمذي (1411) في (الديات): باب ما جاء في حكم ولي القتيل في القصاص والعفو، وأبو داود (4498) في (الديات): باب الإمام يأمر بالعفو في الدم، والنسائي (8/ 13) في (القسامة): باب القود، وابن ماجه (2690) في (الديات): باب العفو عن القاتل، وابن أبي شيبة (6/ 446)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (944) من طرق عن أبي معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. أقول: وهو على شرط الشيخين. وفي المطبوع و"سنن الترمذي": "فقتلته دخلت النار" والمثبت من (ك).

الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود (¬1)، ذكره مسلم. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في شأن محيِّصة بأن يُقْسِمَ خمسون من أولياء القتيل على رجل من المتهمين به فيُدفع برمته إليه، فأبوا فقال: "تبرئكم يهود بأيمان خمسين" فأبوا، فوداه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[بمئة] من عنده" (¬2)، متفق عليه وعند مسلم: "بمئة من إبل الصدقة" (¬3). وعند النسائي: "فَقَسَمَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دِيته عليهم وأعانهم بنصفها" (¬4). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه: "لا تَجْني نفس على أخرى، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده" (¬5)، والمراد أنه لا يؤخذ بجنايته، فلا تزر وازرة وزر أخرى. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1670) (7 و 8) من حديث رجل من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي القسامة ومشروعيتها انظر: "زاد المعاد" (3/ 201)، و"أحكام الجناية" (363 - 376). (¬2) رواه البخاري (3173) في (الجهاد): باب الموادعة والمصالحة مع المشركين بالمال وغيره، و (6143) في (الأدب): باب إكرام الكبير، و (6898) في (الديات): باب القسامة، و (7192) في (الأحكام): باب كتاب الحاكم إلى عماله، ومسلم (1669) في (القسامة): أوله من حديث سهل بن أبي حَثْمه ورافع بن خديج، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه مسلم (1669) بعد (5). (¬4) رواه النسائي (8/ 12) في (القسامة): باب تبرئة أهل الدم في القسامة: أخبرنا محمد بن معمر: قال حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا عبيد اللَّه بن الأخنس عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/ 234): "وهذا السند صحيح حسن"، كذا العبارة وأظنه "صحيح أو حسن". أقول: لكن في قوله: "فقسم ديته وأعانهم بنصفها" مخالف للأحاديث الصحيحة المذكورة. فقد روى القصة ابن ماجه (2678)، والدارقطني (3/ 109 - 110) من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب به، إلا أنه قال: "فوداه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من عنده". وحجاج كان كان فيه مقال إلا أن روايته موافقه للروايات الصحيحة. وانظر: الرواية المتقدمة. (¬5) رواه أحمد (3/ 498 - 499)، والترمذي (3096) في (تفسير سورة التوبة)، وابن ماجه (2669) في (الديات): باب لا يجني أحد على أحد، و (3055) في (المناسك): باب الخطبة يوم افحر، والبيهقي (8/ 27) من طريق شبيب بن غرقدة عن سليمان بن عمرو بن الأحوص عن أبيه قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وفي الباب عن جماعة من الصحابة تكلم على أحاديثهم بالتفصيل شيخنا الألباني في "الإرواء" (7/ 332 - 336)، وانظر: "التلخيص الحبير" (4/ 31).

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن "من قُتل في عِمِّيًا (¬1) أو رمِّيًا (¬2)؛ يكون (¬3) بينهم بحجر أو سوط فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمدًا فقَوَد يَدَيه فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين" (¬4)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) قال (د)، و (ح)، و (ط): "العمياء -بكسر العين وتشديد الميم مكسورة مقصور-: أي من قتل في حال يعمى [فيها] أمره فلا يتبين قاتله، وقوله: "فقود يديه" بإضافة القود إلى يديه [وقد] عبر عن النفس باليدين مجازًا"، وما بين المعقوفتين من (ط)، ونحوه في (و). (¬2) في (ك): "زمنًا" كذا، والمثبت من المطبوع ومصادر التخريج. (¬3) في المطبوع: "لكونه" والمثبت من (ك) ومصادر التخريج. (¬4) رواه أبو داود (4540) في (الديات): باب من قتل في عمياء بين قوم، والنسائي (8/ 39 - 40 و 40) في (الديات): باب من قتل بحجر أو سوط، وابن ماجه (2635) في (الديات): باب من قتل بين ولي المقتول وبين القود أو الدية، والطبراني في "الكبير" (11/ 10848)، والطحاوي في "المشكل" (12/ رقم 4900)، والدارقطني (3/ 94 و 95)، والبيهقي (8/ 25 و 45 و 53) من طريق سليمان بن كثير، عن عمرو بن دينار، عن طاوس عن ابن عباس به. وسليمان بن كثير هذا لا بأس به، وباقي الرواة الثقات. وتابعه على وصله عن عمرو جماعة. منهم: الحسن بن عمارة، أخرجه من طريقه عبد الرزاق (17203)، ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (10849)، والدارقطني (3/ 93)، والحسن هذا متروك. ومنهم: إسماعيل بن مسلم، أخرجه من طريقه الطبراني (10850)، والدارقطني (3/ 93)، والبيهقي، وإسماعيل هذا هو المكي ضعيف. ورواه الطبراني (11017) من طريق عبد الكريم أبي أمية عن طاوس عن ابن عباس به. وعبد الكريم هذا متروك. وقد رواه جماعة عن عمرو بن دينار عن طاوس مرسلًا. منهم: سفيان بن عيينة أخرجه من طريقه الشافعي في "مسنده" (2/ 100)، وأبو داود (4539)، والبيهقي (8/ 45). ومنهم: حماد بن زيد، أخرجه من طريقه أبو داود (4539)، والدارقطني (3/ 93) من طريقين عنه مرسلًا. لكن أخرجه الدارقطني (3/ 93) من طريق عمرو بن دينار عنه موصولًا، وعمرو هذا ثقة ثبت. ومنهم: ابن جريج، أخرجه عنه عبد الرزاق (17200)، ومن طريقه الدارقطني (3/ 95)، قال: أخبرني عمرو بن دينار فذكره. لكن أخرجه البيهقي (8/ 45) من طريق الوليد بن مسلم عنه موصولًا، والوليد مدلس وقد عنعن. =

فصل [فتاوى في حد الزنى]

"وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ المعدن جُبار (¬1) والعجماء جُبَار، والبئر جُبَار" (¬2)، متفق عليه. وفي قوله: "المعدن جُبار" قولان؛ أحدهما: أنه إذا استأجر من يحفر له معدنًا فسقط عليه فقتله فهو جُبَار، ويؤيد هذا القول [اقترانه بقوله: "البئر جُبار، والعجماء جبار"، والثاني: أنه لا زكاة فيه، ويؤيد هذا القول] (¬3) اقترانه بقوله: "وفي الركاز الخمس" ففرق بين المعدن والركاز، فأوجبَ الخمس في الركاز لأنه مال مجموع يؤخذ بغير كلفة، ولا تعب وأسقطها عن المعدن لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه، واللَّه أعلم. فصل [فتاوى في حد الزنى] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمئة شاة وخادم، وإني سألت رجالًا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مئة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال: "والذي نفسي بيده لاقضِيَّنَ بينكما بكتاب اللَّه، المئة والخادم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغْدُ يا أُنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فرجمها (¬4)، متفق عليه. ¬

_ = ورواه عبد الرزاق (17201)، ومن طريقة الدارقطني (3/ 95) عن ابن جريج قال أخبرنا ابن طاوس عن أبيه مرسلًا. إذن يظهر صحة الحديث موصولًا ومرسلًا حيث وصله سليمان بن كئير، وحماد بن زيد في رواية صحيحة عنه، قال ابن عبد الهادي في "التنقيح" -كما في "نصب الراية" (4/ 332) -: إسناده جيد لكنه روي مرسلًا. والحديث رواه جماعة من الضعفاء والهلكى فجعلوه عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة، انظر: "سنن الدارقطني" (3/ 93 و 94 و 95)، وتعليقي عليه (الأرقام 3093، 3094، 3098). (¬1) "جبار -بزنة غراب- أي هدر لا شيء فيه" كذا في (د)، ونحوه باختصار في (طـ)، و (و)، وتعليقي عليه (الأرقام 3093، 3094، 3098). "والعجماء: الدابة" (و). (¬2) رواه البخاري (1499) في (الزكاة): باب في الركاز الخمس، و (2355) في (الشرب): باب من حفر بئرًا في ملكه ولم يضمن، و (6912) في (الديات): باب المعدن جبار والبئر جبار، و (6913) باب العجماء جبار، ومسلم (1710) في (الحدود): باب جرح العجماء جبار والمعدن والبئر جبار، من حديث أبي هريرة. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من نسخة (ط). (¬4) تقدم تخريجه.

وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- فيمن زنى، ولم يُحصَنْ بنفي عام وإقامة الحد عليه (¬1)، ذكره البخاري. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الثيب بالثيب جلد مئة، ثم الرجم، والبكر بالبكر جلد مئة، ثم نفي سنة (¬2)، ذكره مسلم. وجاءه اليهود فقالوا: إن رجلًا منهم وامرأة زَنَيَا فقال لهم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدون، فقال عبد اللَّه بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها، وما بعدها فقال له عبد اللَّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما فرجما (¬3)، متفق عليه. ولأبي داود أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقالوا: اذهبوا به إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها منه واحتججنا بها عند اللَّه وقلنا: إنها فتيا نبي من أنبيائك، فأتوه وهو جالس في المسجد في أصحابه (¬4) فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مِدْراسهم (¬5) فقام على الباب فقال: "أنشدكم باللَّه الذي أنزل التوراة على ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6833) في (الحدود): باب البكران يجلدان وينفيان، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه مسلم (1690) في (الحدود): باب حد الزنا، من حديث عبادة بن الصامت. (¬3) رواه البخاري (3635) في (المناقب): باب قول اللَّه تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، و (4556) في (التفسير): باب {قُلْ فَأتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، و (6819) في (الحدود): باب الرجم في البلاط و (6841) باب أحكام أهل الذمة، و (7332) في (الاعتصام): باب من ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحض على اتفاق أهل العلم، و (7543) في (التوحيد): باب ما يجوز من تفسير التوراة وغيرها من كتب اللَّه بالعربية، ومسلم (1699) في (الحدود): باب رجم البهود أهل الذمة في الزنى، من حديث ابن عمر. (¬4) كذا في (ك) و"سنن أبي داود" وفي سائر النسخ "الصحابة". (¬5) قال (و): "قد يقصد بالمدراس: صاحب دراسة كتبهم، وقد يقصد به البيت الذي يدرسون فيه، ومفعال غريب في هذا المكان". ورده (ط) بقوله: "هكذا في جميع الأصول التي بين أيدينا، وقد شرحها أحد المعلقين زاعمًا أنه المكان الذي يدرسون فيه، وأصل هذه الكلمة "مدراشهم" بالشين، وهو ما يتضمن تقاليد اليهود". قلت: وهو الصواب؛ فالمدراس بالعبرية: المدراش، وهو مجموعة من الروايات =

موسى ما تجدون في التوراة على مَنْ زنى إذا أُحْصِن؟ " قالوا: يحَمَّمُ (¬1) ويُجَبَّهُ ويجلد، والتجبيه أن يُحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، فسكت شاب منهم فلما رآه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سكت [ألظ به النشدة] (¬2) فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فما أول ما ارتخصتم أمر اللَّه" قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرَةٍ من الناس فأراد رَجْمه فحال قومه دونه، وقالوا: لا يُرْجَمُ صاحبُنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما (¬3). وعند أبي داود أيضًا أنه دعا بالشهود فجاءه أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها. مثل المِيلِ في المُكْحُلة (¬4). ¬

_ = والنقول اليهودية التي تحتوي على شروح للأخبار منهم للكتب المقدسة، ومجاميعهم التشريعية والشفهية منذ عودتهم من بابل وبتأثير من عزرا ومدرسته، وهي تقابل التلمود والمثناة. انظر: "معجم الكتاب المقدس" (ص 1237 - 1238)، و"قاموس بنغوين للأديان" (ص 213) كلاهما باللغة الإنكليزية. (¬1) "يحمم: يسود وجهه" (و). (¬2) كذا في (ك) و"سنن أبي داود" (4446 - ط. عوامة) وهو الصواب، وفي سائر النسخ: "نظر إليه وأنشده". (¬3) رواه أبو داود (4450 و 4451) في (الحدود): باب في رجم اليهوديين مطولًا، و (3624 و 3625) في (الأقضية): باب كيف يحلف الذمي -مختصرًا-، والبيهقي (8/ 247) من طرق عن الزهري قال: سمعت رجلًا من مزينة ممن يتبع العلم، ويعيه عند سعيد بن المسيب: فحدثنا عن أبي هريرة. . . فذكره. وفي إسناده هذا الرجل المبهم الذي من مزينة. وله شاهد بمعناه رواه مسلم (1700) في (الحدود): باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنى، من حديث البراء بن عازب. وفي "العهد القديم" (سفر التثنية، الإصحاح الثاني والعشرين رقم 23 و 24): "إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فأخرجوهما عليهم إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا. . . ". وفيه في (رقم 22): "إذا وجد رجل مضطجع مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان الرجل المضطجع مع المرأة والمرأة". (¬4) هو جزء من حديث طويل، رواه أبو داود (4452)، والحميدي (1294)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (4539 و 4545) كلهم من طريق أبي أسامة حمد بن أسامة عن مجالد عن عامر الشعبي عن جابر بن عبد اللَّه. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ماعز بن مالك أنْ يُطَهّره، وقال: إني قد زنيت فأرسل إلى قومه: "هل تعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟ " قالوا: ما نعلمه إلا أوفى العقل من صالحينا فيما نرى، فأقر أربع مرات، فقال له في الخامسة: "أنكتها؟ " قال: نعم قال: "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ " قال: نعم، قال: "كما يغيب المِرْود في المكحلة والرشاء في البئر؟ " قال: نعم، قال: "فهل تدري ما الزنى؟ " قال: نعم، أتيتُ منها حَرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، قال: "فما تريد بهذا القول؟ " قال: أريد أن تطهرني، فأمر رجلًا فاستنكهه، ثم أمر به فرجم، ولم يحفر له فلما وجد مَسَّ الحجارة فر يَشْتَدُّ حتى برجل معه لحى جمل فضربه وضربه الناس حتى مات، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هلا تركتموه وجئتموني به" (¬1). ¬

_ = وهذا إسناد ضعيف لضعف مجالد بن سعيد. وروى المطول أبو داود (4453 و 4454) من طريقين عن الشعبي مرسلًا. (¬1) الحديث بهذا السياق كاملًا لم أجده، ويظهر أن المؤلف ساقه من روايات فمن أوله إلى قوله: أريد أن تطهرني ثم أمر به فرجم، رواه عبد الرزاق (13340)، ومن طريقه أبو داود (4428) في (الحدود): باب رجم ماعز بن مالك، والنسائي في "الكبرى" (4/ 276 رقم 1/ 7164)، وابن الجارود (814)، وابن حبان (4439)، والدارقطني (3/ 196 - 197) عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أنه سمع أبا هريرة فذكره. ورواه أبو داود (4429)، والنسائي في "الكبرى" (4/ 276 - 277)، وأبو يعلى (6140)، والبيهقي (8/ 227 - 228) من طريق الضحاك بن مخلد وابن عساكر (10/ 259 - 260) من طريق بكير بن معروف كلاهما عن ابن جريج عن أبي الزبير عن ابن عم أبي هريرة عن أبي هريرة به. وابن عم أبي هريرة هذا اسمه عبد الرحمن بن الصامت، ويقال: عبد الرحمن بن الهضاض، وقيل: ابن هضاض، وقيل: ابن الهضاب، قال البخاري: لا يعرف إلا بهذا الحديث، وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 114)!! وقال النباتي في "ذيل الكامل": "من لا يعرف إلا بحديث واحد ولم يشهر حاله، فهو في عداد المجهولين" كذا في "التهذيب" (6/ 198). ونقل ابن حجر فيه أيضًا عن البخاري: "وقال ابن جريج: عبد الرحمن بن الصامت، ولا أُراه محفوظًا ونقلها عنه ابن القطان في "بيان الوهم والإيهام" (4/ 525) وعنه الزيلعي في "نصب الراية" (3/ 308 - 309)، ولم أظفر بها في "تاريخه الكبير" ولا "الأوسط" (رواية الخفاف). وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (737)، وابن حبان (4400) من طريق زيد بن أبي أنيسة، والنسائي في "الكبرى" (4/ 277 - 278)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 143) من طريق حماد بن سلمة، والطيالسي (2473) من طريق همام، وأبو =

وفي بعض طرق هذه القصة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه" (¬1). ¬

_ = الشيخ في "أحاديث أبي الزبير عن غير جابر" (رقم 144) من طريق الحجاج بن الحجاج البصري أربعتهم عن أبي الزبير عن عبد الرحمن بن الهضاض عن أبي هريرة بنحوه. وأخرجه النسائي في "الكبرى" (4/ 288 - 289) من طريق الحسين بن واقد عن أبي الزبير عن عبد الرحمن بن هضاب عن أبي هريرة بنحوه. وأما أنه لم يحفر له فقد ورد في حديث أبي سعيد الخدري عند مسلم (1694) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا، وورد خلف ذلك، وسيأتى قريبًا قول المصنف عنه أنه "غلط". وأما أنه أمر رجلًا فاستنكهه فثابت في "صحيح مسلم" (1695) من حديث بريدة. وقوله: "فلما وجد مَسَّ الحجارة. . حتى مات". رواه أحمد في "مسنده" (2/ 450)، وابن ماجه (2554) في (الحدود): باب الرجم، وابن أبي شيبة (6/ 551)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (433)، والبيهقي (8/ 228) من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده حسن. وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: هلا تركتموه وجئتموني به. رواه أبو داود (4420)، وأحمد (3/ 381)، وابن أبي شيبة (6/ 553) من طريق محمد بن إسحاق قال: ذكرت لعاصم بن عمر بن قتادة قصة ماعز بن مالك فقال لي: حدثني حسن بن محمد بن علي بن أبي طالب: حدثني جابر بن عبد اللَّه في قصة، فذكر، حيث بَيّن أن وجه قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هلا تركتموه" أي ليستثبت من أمره، وليس كما فُهم في بعض الروايات بتركه. قال شيخنا الألباني في "إرواء الغليل" (7/ 354): إسناده جيد. وفي حديث أبي هريرة المذكور قبل هذا: "هلا تركتموه". وفي حديث نعيم بن هزال: "هلا تركتموه لعله يتوب، فيتوب اللَّه عليه"، وقد تكلمت عليه مطولًا من قبل. (¬1) رواه أبو داود (4426) في (الحدود): باب رجم ماعز بن مالك من طريق إسرائيل عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعترف بالزنا مرتين، فطرده، ثم جاء فاعترف بالزنا مرتين قال: "شهدت على نفسك أربع مرات، اذهبوا به فارجموه". وهذا إسناد على شرط مسلم. ورواه مسلم (1693)، وأبو داود (4425)، والترمذي (1431)، والنسائي في "الكبرى" (7171)، وأحمد (1/ 425 و 314 و 328)، وأبو يعلى (2580)، والطبراني في "الكبير" (12305) من طرق عن أبي عوانة عن سماك به، ولفظه قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لماعز بن مالك: "أحق. ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني عنك أنك وقعت على جارية بني فلان"، قال: نعم، فشهد أربع شهادات فأمر به فرجم.

وفي بعضها: فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أبك جنون؟ " قال: لا، قال: "هل أحصنت؟ " قال: نعم، قال: "اذهبوا به فارجموه" (¬1). وفي بعض طرقها أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى (¬2) هذا الذي ستر اللَّه عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رَجْمَ الكلب فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى بجيفة حمار شائل برجله فقال: "أين فلان وفلان؟ " فقالا: نحن ذان يا رسول اللَّه، فقال: "انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار"، فقالا: يا نبي اللَّه من يأكل من هذا؟ قال: "فما نلتما من عرض أَخْيكما آنفًا أشد أكلًا منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أَنهار الجنة ينغمس فيها" (¬3). وفي بعض طرقها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "لعلك رأيت في منامك لعلك استكرهت" (¬4)، وكل هذه الألفاظ صحيحة. ¬

_ (¬1) رواه البخاري في مواطن منها: (5270) في (النكاح): باب الطلاق في الإغلاق والمكره والسكران والمجنون و (6814) في (الحدود): باب رجم المحصن، و (6820) في الرجم بالمصلى، ومسلم (1691) بعد (16) من حديث جابر، ورواه البخاري (6816)، ومسلم (1691) بعد (16) من حديث أبي هريرة. (¬2) قال (د): "في نسخة انظر إلى هذا. . . إلخ". (¬3) هو جزء من حديث أبي هريرة الذي يرويه عنه ابن عمه المذكور سابقًا. (¬4) هذا لم يقله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لماعز -أقول هذا بعد تتبع طرق رجم ماعز فيما وقفت عليه من مصادر التخريج، ولكن ورد هذا في قول علي بن أبي طالب لشُراحة الهمْدانية أتت عليًا فقالت: إني زنيت فقال: لعَفك غيرى، لعلك رأيت في منامك، لعلك استكرهت؟ وكل ذلك تقول: لا، فجلدها يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب اللَّه، ورجمتها بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وهو هكذا مطولًا رواه أحمد في "مسنده" (1/ 140 و 141 و 143 و 153)، وفي "فضائل الصحابة" (1323)، والطحاوي في "المشكل" (3/ 5 - ط. الهندية)، والبيهقي (8/ 220) من طرق عن الشعبي عن علي بن أبي طالب به. وقد تكلم الحاكم في "علوم الحديث" (ص 111) في سماع الشعبي من علي، وكذا الحازمي في "الاعتبار" (ص 370). وقد تكلم الدارقطني في "علله" (4/ 96 و 97)، على هذا الحديث وبَيَّن وهم من أدخل بين الشعبي وعلي راويًا ثم بين -رحمه اللَّه- سماع الشعبي من علي هذا الحديث فقط، فقال: سمع منه حرفًا واحدًا ما سمعه غير هذا. أقول: ومما يدل على سماعه منه أن البخاري في "صحيحه" (6812) قد روى جزءًا من هذا الحديث من نفس طريق الشعبي عن علي، وهو الجزء الأخير، والبخاري -رحمه اللَّه- كما هو معلوم يشترط ثبوت اللقاء، وانظر "فتح الباري" (12/ 119).

وفي بعضها أنه أمر فحفُرِت له حفيرة، ذكره مسلم (¬1)، وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر، كان كان مسلم قد روى له في "الصحيح" فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم الرازي قد تكلما فيه، وإنما حصل الوهم من حفره للغامدية فسرى إلى ماعز واللَّه أعلم. وجاءته -صلى اللَّه عليه وسلم- الغامدية فقالت: إني قد زينت فطهّرني، وإنه ردَّها، فقالت: تردّني، كما رددت ماعزًا فواللَّه إني لحبلى، فقال: اذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، فقالت: هذا قد ولدته، فقال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتت به وفي يده كسرة من خبز، فقالت: هذا قد فطمته وأكَلَ الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبَّها، فسمع نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سبَّه إياها فقال: "مهلًا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مُكْس لغفر له"، ثم أمر بها فصلى عليها ودُفنت (¬2)، ذكره مسلم. ¬

_ (¬1) هو في "صحيحه" (1695) بعد (23) من حديث بريدة، في إسناده بشير بن المهاجر كما قال المؤلف، قال فيه أحمد: منكر الحديث وقد اعتبرت حديثه فإذا هو يجيء بالعجب، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به، وقال البخاري: يخالف في بعض حديثه. وقال ابن عدي: روى ما لا يتابع عليه، وهو ممن يكتب حديثه وإن كان فيه بعض الضعف. أقول: ومسلم إنما ساق حديث ماعز من طريق علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه، وليس فيه ذكر الحفر لماعز. ثم ساق طريق بشير هذا عن عبد اللَّه بن بريدة عن أبيه فذكر الحفر فيكون بشير قد خالف في هذا من هو أوثق منه، ومسلم إنما ساق حديثه في المتابعات. وقد روى أبو سعيد الخدري حديث الرجم -وقد تقدم قريبًا- وفيه: قال: فما أوثقناه ولا حفرنا له، وحديث أبي سعيد هذا عند الإمام مسلم أيضًا (رقم 1694) ورواته ثقات مشاهير لم يُتكلَّم في واحد منهم كما تكلم في بشير هذا. ومما يؤيد عدم الحفر ما ورد في حديث أبي هريرة -وقد تقدم- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اذهبوا به فارجموه، فرجمناه بالمصلى فلما أذلقته الحجارة هرب، فادركناه بالحرة فرجمناه". فرجمهم إياه بالمصلى وهروبه فيها دليل على أنه لم يحفر له، واللَّه أعلم. وأما البيهقي -رحمه اللَّه- فكأنه يميل إلى الحفر، فينه لما ذكر حديث أبي سعيد في عدم الحفر أتبعه بذكر حديث بريدة، ثم ذكر شاهدين في الحفر للمرأة (8/ 221). لكن حديث بريدة عرفت ما فيه، والحفر للمرأة لا يدل على الحفر للرجل، وحديث أبي سعيد أقوى وأنظف إسنادًا واللَّه أعلم. (¬2) رواه مسلم (1695) بعد (23) في (الحدود): باب من اعترف على نفسه بالزنا من حديث بريدة.

وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت حدًا فأقمه عليّ، ولم يسأله عنه وحضرت الصلاة فصلى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقام إليه الرجل فقال: يا رسول اللَّه إني أصبتُ حدًا فأقم فيَّ كتاب اللَّه، قال: "أليس قد صليت معنا"؟ قال: "نعم" قال: "فإن اللَّه قد غفر لك ذنبك أو قال حدَّك" (¬1)، متفق عليه. وقد اختلف في وجه هذا الحديث فقالت طائفة: أقرَّ بحد لم يُسَمِّه فلم يجب على الإمام استفساره (¬2)، ولو سمَّاه لحده، كما حد ماعزًا، وقالت طائفة: بل غفر اللَّه له بتوبته والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعلى هذا فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق اللَّه تعالى، كما سقطت (¬3) عن المحارب، وهذا هو الصواب واللَّه أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أصبتُ من امراة قُبلة فنزلت: {وَأَقِمِ (¬4) الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فقال الرجل: أبي هذه؟ فقال: "بل لمن عمل بها من أمتي" (¬5) متفق عليه. وقد استدل به من يرى أن التعزير ليس بواجب، وأن للإمام إسقاطه، ولا دليل فيه، فتأمله. وخرجت امرأة تريد الصلاة فتجلَّلها رجل فَقَضَى حاجته منها فصاحت وفرَّ ومرَّ عليها غيره فأخذوه فظنت أنه هو، وقالت: هذا الذي فعل بي فأتوا به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمر برجمه فقام صاحبها الذي وقع عليها فقال: أنا صاحبها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: اذهبي، فقد غفر اللَّه لك، وقال للرجل قولًا حسنًا، فقالوا: ألا ترجم صاحبها؟ فقال: "لا لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم" (¬6)، ذكره أحمد ¬

_ (¬1) رواه البخاري (6823) في (المحاربين): باب إذا أقر بالحد ولم يبين هل للإمام إن يستر عليه، ومسلم (2764) في (التوبة): باب قوله تعالى: {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، من حديث أنس. (¬2) "في نسخة: استفصاله" (د). (¬3) كذا في (ك) و (ط. دار الحديث) وفي سائر الأصول: "تسقط". (¬4) "في الأصل [و (د)]: أقم. والصواب: وأقم" (و). (¬5) رواه البخاري (526) في (مواقيت الصلاة): باب الصلاة كفارة، و (4687) في التفسير، ومسلم (2763) في (التوبة): باب قوله تعالى: " {إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} من حديث ابن مسعود. (¬6) بهذا اللفظ رواه أحمد في "مسنده" (6/ 399): حدثنا محمد بن عبد اللَّه بن الزبير قال: حدثنا إسرائيل عن سماك عن علقمة بن وائل عن أبيه فذكره، وهذا إسناد رواته ثقات. =

وأهل السنن [كلهم] (¬1)، ولا فتوى، ولا حكم أحسن من هذا، فإن قيل فكيف أمرهم (¬2) برجم البريء. قيل: لو أنكر لم يرجمه، ولكن لما أُخذ، وقالت: هو هذا، ولم يُنكر، ولم يحتج عن نفسه فاتفق مجيء القوم به في سورة المريب وقول المرأة: هذا هو، وسكوته سكوت المريب وهذه القرائن أقوى من قرائن حد المرأة، بلعان الرجل وسكوتها، فتأمله (¬3). ¬

_ = ورواه نحوه ابن الجارود (ص 279) والبيهقي (8/ 284 - 285) من طريق أسباط بن نصر عن سماك به. وأسباط بن نصر لا بأس به. لكن رواه أبو داود (4379) في (الحدود): باب في صاحب الحد يجيء فيقر، والترمذي (1458) في (الحدود): باب ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا، من طريق الفريابي عن إسرائيل به، وعندهما أنه أمر برجم الرجل الذي وقع على المرأة ثم قال: "لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم"، والفريابي ثقة متقن مشهور. قال الترمذي: حديث حسن غريب صحيح. وهذا اختلاف واضح وأنا أخشى أن يكون هذا من تخاليط سماك بن حرب، فهو وان أخرج له مسلم إلا أنه كان يغلط، وقد تكلم فيه غير واحد، ليس في روايته عن عكرمة فقط، نعم روايته عن عكرمة خاصة فيها اضطراب لكن الرجل كان له أخطاء. قال النسائي: كان ربما لقن، فإذا انفرد باصل لم يكن حجة؛ لأنه كان يلقن فيتلقن. أما شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- فقد رجح رواية ابن الزبير عن إسرائيل التي رواها أحمد على رواية الفريابي عن إسرائيل، وذلك لأن أسباط بن نصر وافقه ابن الزبير، فانظر "السلسلة الصحيحة" (900). أقول: بل رواية الفريابي أرجح فلو رجعنا إلى ترجمته وترجمة ابن الزبير في "التهذيب" لوجدنا أن الفريابي لم يتكلم فيه بأَدنى كلمة، أما ابن الزبير فعلى ثقته، فقد قال فيه أبو حاتم: عابد مجتهد حافظ اللحديث له أوهام. وأسباط بن نصر قد تكلم فيه غير واحد فالفريابي ترجح روايته واللَّه أعلم. ولما روى البيهقي الحديث بإسقاط الحد استشكل ذلك -وكأنه -رحمه اللَّه- لم تقع له رواية الفريابي مع أنها عند أبي داود، وهو كثير الرواية من طريقه، وقال: وقد وجد مثل اعترافه من ماعز والجهنية والغامدية، ولم يسقط حدودهم وأحاديثهم أكثر وأشهر، واللَّه أعلم. (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬2) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "كيف أمر برجم". (¬3) انظر: "الطرق الحكمية" (ص 1 - 63)، و"بدائع الفوائد" (3/ 117، 152)، و"الحدود والتعزيرات" (ص 70 - 71) للشيخ الدكتور بكر أبو زيد.

[أثر اللوث في التشريع]

[أثر اللوث في التشريع] وللوث (¬1) تأثير في الدماء والحدود والأموال: أما الدماء ففي القسامة، وأما الحدود ففي اللعان، وأما الأموال ففي قصة الوصية في السفر، فإن اللَّه سبحانه حكم بأنه إن اطّلع على أن الشاهدين والوصيين ظَلَما وغَدَرا أن يحلف اثنان من الورثة على استحقاقهما ويقضى لهم، وهذا هو الحكم الذي لا حكم غيره، فإن اللوث إذا أثر في إراقة الدماء وإزهاق النفوس بالحد (¬2)، فلأن يعمل [به] (¬3) في المال بطريق الأولى والأحرى، وقد حكم به نبي اللَّه سليمان بن داود صلوات اللَّه وسلامه عليهما في النسب مع اعتراف المرأة أنه ليس بولدها، بل هو ولد الأخرى فقال لها: "هو ابنك" (¬4). ومن تراجم النسائي على قصته: "التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله افعل [كذا] ليستبين به الحق" (¬5) ثم ترجم عليه ترجمة أخرى فقال: "الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه إذا تبين للحاكم إن الحق غير ما اعترف به"، وهذا هو العلم استنباطًا ودليلًا، ثم ترجم عليه ترجمة ثالثة فقال: "نقض الحاكم ما حكم به مَنْ هو مثله أو أجَلُّ منه". قلت: وفيه رد لقول من قال: يكون بينهما (¬6) إجراء للنسب مجْرَى المال، وفيه أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته في الباطن، وفيه نوع لطيف عجيب شريف من أنواع العلم النافع، وهو الاستدلال بقدر اللَّه على شرعه، فإن سليمان -عليه السلام- استدل بما قدره اللَّه وخَلَقَه في قلب الصغرى من الرحمة والشفقة بحيث أَبَتْ أنْ يُشَقَّ الولد على أنه ابنها وقوَّى هذا الاستدلال رضى الأخرى بأن يُشَق الولد، وقالت: نعم شُقَّه، وهذا قول لا يَصْدر من أم، وإنما يصدر من حاسد يريد أن يتأسّى بصاحب النعمة في زوالها عنه، كما زالت عنه هو، ولا أحسن من هذا الحكم، وهذا الفهم، واذا لم يكن مثل هذا في الحاكم أضاع حقوق الناس وهذه الشريعة الكاملة طافحة بذلك. ¬

_ (¬1) "اللوث: أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت أن فلانًا قتلني، أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما، أو تهديد منه" (و). (¬2) كذا في (ك)، وفي سائر النسخ: "وفي الحدود". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) سبق تخريجه. (¬5) مضى بيان ذلك وانظر: "الطرق الحكمية" (ص 3)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) في (ك): "ابنهما".

[العمل بالسياسة]

[العمل بالسياسة] وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل (¬1) وبين بعض الفقهاء، فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال [بحيث] (¬2) يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، كان لم يشرعه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا نزل به وحى، فإن أردت بقولك: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف (¬3) كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق عليّ [كرم اللَّه وجهه] (2) الزنادقة في الأخاديد (¬4)، ونفي عمر نَصْرَ بن حجاج (¬5). قلت: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعترك (¬6) صعب فَرَّطَ فيه طائفة فعطلُّوا (¬7) الحدود وضيعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس [بها] (8) أنها أدلة حق ظنًا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة [حقيقة] (¬8) الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها فلما رأى ¬

_ (¬1) في كتابه "الفنون" كما في "الطرق الحكمية" (ص 15 - ط. العسكري). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه البخاري (4987) في (فضائل القرآن)؛ باب جمع القرآن، من حديث أنس بن مالك. (¬4) رواه البخاري في "صحيحه" (3017) في (الجهاد): باب لا يُعذَّب بعذاب اللَّه، و (6922) في (استتابة المرتدين): باب حكم المرتد والمرتدة من طريق أيوب عن عكرمة قال: أتي علي -رضي اللَّه عنه- بزنادقة فأحرقهم فبلغ ذلك ابن عباس. . . ورواه أيضًا الترمذي (1462) في (الحدود): باب ما جاء في المرتد، والنسائي، وانظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 586)، و"سنن البيهقي" (8/ 195)، و"المجالسة" (3/ 454 - 455) وتعليقي عليه و"فتح الباري" (6/ 151). (¬5) خرجتُها في تعليقي على "الحنائيات" (رقم 266)، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬6) كذا في (ك)، وفي سائر النسخ: "في معترك". (¬7) في (ك): "فغلظوا". (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

وُلَاةَ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه، وأفرط [فيه] (¬1) طائفة أخرى فسبوغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن اللَّه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان [فذلك من] (¬2) شرع اللَّه ودينه ورضاه وأمره، واللَّه تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته، وأماراته في نوع واحد [ويبطل] (¬3) غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيَّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها (¬4) وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وفي (¬5) شِرْعَة سبيل للدلالة عليها وهل يُظن بالشريعة الكاملة خلف ذلك؟ ولا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي وإلا فإذا كانت عَدلًا [فهي] من الشرع (¬6)، فقد حبس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في تُهْمة وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم فمن أطلق كل متهم وخلّى سبيله أو حلَّفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونقب الدور وتواتر السرقات، -ولا سيما مع وجود المسروق عنه (¬7) - وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل أو إقرار اختيار وطوع ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين من المطبوع: "فثم". (¬3) بدل ما بين المعقوفتين في المطبوع: "وأبطل". (¬4) في المطبوع: "أسبابها" والمثبت من (ك). (¬5) في المطبوع: "وهي" والمثبت من (ك). (¬6) من الأمثلة لعمل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسياسة الشرعية في "الطرق الحكمية" (ص 12، 308)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "معه".

فقوله مخالف للسياسة الشرعية، وكذلك منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الغالَّ من الغنيمة سَهْمَه (¬1)، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه (¬2)، ومنع المسيء على أميره (¬3) سلب قتيله (¬4)، وأخذه شطر مال مانع الزكاة (¬5)، وإضعافه الغُرم على سارق ما لا قطع فيه وعقوبته بالجلد (¬6)، وإضعافه الغرم على كاتم الضالة (¬7)، وتحريق عمر بن الخطاب حانوت الخمَّار (¬8)، وتحريقه قرية يُباع فيها الخمر (¬9)، وتحريقه قصر سعد بن أبي وقاص ¬

_ (¬1) و (¬2) هما في حديث واحد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر حرَّقوا متاع الغال وضربوه، ومنعوه سهمه، وقد تقدم مخرجًا مفصلًا. (¬3) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "أمين"!! (¬4) أظنه يريد حديث أبي قتادة الذي أخرجه البخاري (3142) في (فرض الخمس): باب من لم يخمس الأسلاب، و (4321) في (المغازي): باب قول اللَّه تعالى: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا}، وعلقه في (4322)، ووصله (7170) في (الأحكام): باب الشهادة تكون عند الحاكم، ومسلم (1751) في (الجهاد): باب استحقاق القاتل سلب القتيل. (¬5) رواه أبو داود (1575) في (الزكاة): باب في زكاة السائمة، والنسائي (5/ 15) في (الزكاة): باب عقوبة مانع الزكاة، و (5/ 25) في سقوط الزكاة عن الإبل إذا كانت رسلًا لأهلها، ولحمولتهم، والدارمي (1/ 369)، وأحمد (5/ 2، 4)، وعبد الرزاق (6824)، والطبراني في "الكبير" (19/ 984 - 988)، والبيهقي (4/ 105 و 116) من طرف عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده به. وهذا إسناد حسن. (¬6) و (¬7) هما في حديث واحد يرويه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، تقدم تخريجه. (¬8) أخرجه ابن سعد (5/ 56)، وابن زنجويه في "الأموال" (410)، والدولابي في "الكنى والأسماء" (1/ 189 - ط. الهندية) من طرق عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عمر وذكره، وإسناده صحيح. وقد روى عبد الرزاق (10051، 17035) أخبرنا عبيد اللَّه بن عمر عن نافع عن صفية ابنة أبي عبيد، وأخبرنا معمر عن نافع عن صفية قالت: وجد عمر في بيت رجل من ثقيف خمرًا، وقد كان جلده في الخمر فحرَّق بيته وقال: ما اسمك؟ قال: رُوَيشد، قال: بل أنت فويسق. وإسناده صحيح، صفية هذه زوجة ابن عمر، ويقال: لها إدراك. ورواه أبو عبيد في "الأموال" (ص 96)، وابن زنجويه في "الأموال" أيضًا (رقم 409) من طريق يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر، وانظر ترجمة رويشد في "الإصابة". وانظر: "مصنف ابن أبي شيبة" (5/ 188) و"مصنف عبد الرزاق" (17036، 17039). (¬9) أخرجه أبو عبيد (رقم 268) وعنه ابن زنجويه (411) كلاهما في "الأموال" وابن حزم =

لما احتجب فيه عن رعيته (¬1)، وحلقه رأس نصر بن حجَّاج ونفيه (¬2)، وضربه صبيغًا بالدرة لما تتبع المتشابه فسأل عنه (¬3)، إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فسارت سنة إلى يوم القيامة، كان خالفها مَنْ خالفها. ولقد حدَّ أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم في الزنى بمجرد الحبل (¬4). وفي الخمر بالرائحة والقيء (¬5)، وهذا هو الصواب، فإن دليل القيء ¬

_ = في "المحلى" (9/ 9) من طريق ربيعة بن زكاء -أو زكار- قال: نظر علي بن أبى طالب إلى زرارة، فقال: ما هذه القرية؟ قالوا: قرية تدعى زرارة، تباع فيها الخمر. . . وفيه أن عليًا -لا عمر- حرقها. وربيعة ترجمه ابن أبي حاتم (1/ 2/ 278) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا، وفي إسناده عمر المكتب وحذلم لم أجدهما. (¬1) مضى تخريجه، وانظر: "زهد ابن المبارك" (ص 179) وعزاه المصنف في "الطرق الحكمية" (18) إلى "مسائل صالح" ولم أجده في طبعتيه. (¬2) خرجته مفصلًا في تعليقي على "الحنائيات" (رقم 266)، وانظر -غير مأمور-: "جزء ابن ديزيل" (رقم 9، 10، 11، 12)، و"طبقات ابن سعد" (3/ 285)، و"أخبار أبي القاسم الزجاجي" (209)، و"الإشراف" لابن أبي الدنيا (رقم 256)، و"مصنف عبد الرزاق" (7/ 152)، و"الجليس الصالح" (3/ 344) للمعافى، و"تاريخ دمشق" (17/ ق 538 - 541)، و"مسند الفاروق" (1/ 422) لابن كثير، و"تذكرة الحفاظ" (2/ 608)، و"فتح الباري" (12/ 159). (¬3) روى قصة صبيغ هذا الدارمي في "سننه" (1/ 54) من طريق يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن رجلًا يقال له: صبيغ قدم المدينة، وسليمان بن يسار من الفقهاء الكبار إلا أنه مات بعد المائة، فهو لم يدرك القصة قطعًا. ورواها الدارمي كذلك (1/ 55) من طريق الليث بن سعد عن ابن عجلان عن نافع مولى ابن عمر أن صبيغ العراقي. . . فذكرها. ونافع كذلك لم يدرك القصة. لكن ذكر الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة صبيغ في "القسم الثاني" لقصته طرفًا كثيرة وأسانيد، ولذلك جزم بصحتها فقال في بداية ترجمته: له إدراك وقصته مع عمر مشهورة، وخرجتها مفصلة في تعليقي على "الموافقات" (1/ 56)، و"الاعتصام" (1/ 130) كلاهما للشاطبي، وفي كتابي المفرد عن "درة عمر" يسر اللَّه إتمامه ونشره بخير وعافية. (¬4) تقدم تخريجه. وانظر: "تهذيب السنن" (3/ 62 - 63)، و"زاد المعاد" (4/ 40)، و"الطرق الحكمية" (ص 4). (¬5) أما إقامتهم الحد على السكران بمجرد الرائحة فقد روى البخاري (5001) في (فضائل =

والرائحة والحبل على الشرب والزنى أولى من البينة قطعًا فكيف يُظن بالشريعة إلغاء أقوى الدليلين، ومن ذلك تحريق [الصديق اللوطيَّ (¬1)، وإلقاء أمير المؤمنين علي كرم اللَّه وجهه له من شاهق على رأسه (¬2)، ومن ذلك تحريق] (¬3) عثمان المصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع الناس عليه (¬4)، وهو الذي بلسان ¬

_ = القرآن): باب القرَّاء من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومسلم (801) في (صلاة المسافرين): باب فضل استماع القرآن من حديث عبد اللَّه بن مسعود، وفيه أنه كان يحدِّث فوجد من أحدهم ريح خمر فحدَّه. وروى ابن أبي شيبة (6/ 532)، والبيهقي (8/ 315) من طريق الزهري عن السائب بن يزيد أن عمر ضرب في الريح. وأما إقامة الحد بالقيء فقد ثبت في "صحيح مسلم" (1707) في (الحدود): باب حد الخمر من طريق حضين بن المنذر أبو ساسان قال: شهدت عثمان بن عفان، وأتي بالوليد قد صلى الصبح ركعتين، ثم قال: أزيدكم؟ فشهد عليه رجلان أحدهما: حُمْران أنه شرب الخمر وشهد آخر أنه راه يتقيأ فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها فقال: يا علي قم فاجلده. وقد ورد ذلك عن عمر أيضًا فانظر: "سنن البيهقي" (8/ 315 - 316)، و"مصنف ابن أبي شيبة" (6/ 533). (¬1) ذكر المؤلف ذلك مطولًا في قصة ستأتي قريبًا لذلك خرجتها هناك، وكذلك في تعليقي على "الطرق الحكمية". (¬2) الذي وجدته عن علي بن أبي طالب، ما رواه ابن أبي شيبة (6/ 494)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (143)، وعبد الرزاق (7/ 363 - 364)، وابن حزم (11/ 381)، وابن الجوزي في "ذم الهوى" (163) من طريق ابن أبي ليلى عن القاسم بن الوليد، عن يزيد بن قيس أن عليًا رجم لوطيًا. وابن أبي ليلى ضعيف، وقد أبهم يزيد في رواية هشيم عنه، كما عند ابن المندر في "الأوسط" (4/ ق 217/ أ)، والبيهقي (8/ 232)، فقال: "عن رجل" ولم يسمه. ورواه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (رقم 129) والبيهقي (8/ 232) من طريق شريك عن القاسم بن الوليد عن بعض قومه أن عليًا رجم لوطيًا. والطريقة التي ذكرها المؤلف عن علي وجدتها عن ابن عباس فقد روى ابن أبي شيبة (6/ 494)، وابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (رقم 130)، والبيهقي (8/ 232) من طريق غسان بن مضر عن سعيد بن يريد عن أبي نضرة قال: سئل ابن عباس: ما حد اللوطي؟ قال: ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى بها منكَّسًا ثم يتبع بالحجارة. وإسناده صحيح. وقال المؤلف في "زاد المعاد" (5/ 40): قال ابن القصار وشيخنا: أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر: يرمى من شاهق، وقال علي -رضي الله عنه-: يُهدم عليه حائط، وقال ابن عباس: يقتلان بالحجارة. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) مضى تخريجه، وانظر: "علل الدارقطني" (3/ 229).

قريش، ومن ذلك تحريق الصديق للفجاءة السُّلَمي (¬1)، ومن ذلك اختيار عمر رضي اللَّه عنه للناس إفراد الحج، وأن يعتمروا في غير أشهر الحج (¬2)، فلا يزال البيت الحرام معمورًا بالحجاج والمعتمرين، ومن ذلك منع عمر -رضي اللَّه عنه- من بيع أمهات الأولاد (¬3)، وقد باعوهن في حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وحياة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- وأرضاه (¬4)، ومن ذلك إلزامه بالطلاق الثلاث لمن أوقعه بفم واحد عقوبة له، كما صرَّح هو بذلك (¬5)، وإلا فقد كان على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من إمارته هو يجعل واحدة (¬6) إلى أضعاف [أضعاف] (¬7) ذلك من السياسات العادلة التي ساسوا بها الأمة وهي مشتقة من أصول الشريعة وقواعدها. وتقسيمُ بعضهم طرقَ الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة وكتقسيم آخرين الدينَ إلى عقل ونقل، وكل ذلك [تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك] (8) ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد؛ فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم [وأعمالهم] (¬8)، وأنه لم يحوج أمته إلى أحدٍ بعده، وإنما حاجتهم إلى مَنْ يبلّغهم عنه ما جاء به (¬9)، فلرسالته عمومات محفوظات (¬10) لا يتطرق إليهما تخصيص [عموم بالنسبة إلى المرسل إليه] (¬11) وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَنْ بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به. ¬

_ (¬1) انظر تفصيل ذلك في "تاريخ الطبري" (3/ 264 - ط. المعارف)، وفي سائر النسخ: "الفجاءة" والمثبت من (ك). (¬2) و (¬3) و (¬4) و (¬5) و (¬6) مضى تخريج ذلك، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. (¬7) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬9) انظر كلام المصنف -رحمه اللَّه- حول قاعدة "شمول الشريعة لأحكام المكلفين وكمالها، وأنها محيطة باحكام الحوادث" في "مفتاح دار السعادة" (ص 324 - 334)، و"مدارج السالكين" (2/ 458 - 459)، و"الصواعق المرسلة" (1/ 5، 88، 90)، و"اجتماع الجيوش الإسلامية" (ص 3). (¬10) في المطبوع: "عمومان محفوظان" والمثبت من (ك). (¬11) ما بين المعقوفتين مكرر في (ك) وفي المطبوع: "إليهم" بدل "إليه".

[بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- جميع أحكام الحياة والموت]

[بيَّن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- جميع أحكام الحياة والموت] وقد توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما طائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا ذَكَر للأمة منه علمًا، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود والأكل والشرب والركوب والنزول والسفر والإقامة، والصَّمْت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة، وما فيه حتى كأنه رأي عين وعرَّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله وعرَّفهم الأنبياء وأممهم، وما جَرَى لهم، [وما جرى عليهم] (¬1) معهم حتى كأنهم كانوا بينهم وعرَّفهم من طرق الخير والشر دقيقَها وجليلها ما لم يعرِّفه نبي لأمته قبله، وعرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من أحوال الموت، وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرّف به نبي غيره، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم-[من] (¬2) أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة مِنْ بعده اللهم إلا إلى مَنْ يبلّغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفي عليه، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعَقَلوه (¬3) ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبدًا، وكذلك عرَّفهم عهو من مكايد إبليس وطرقه التي تأتيهم منها، وما يتحرَّزون به من كيده ومكره، وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من أمور معاشهم (¬4) ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة. وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولم يحوجهم اللَّه إلى أحد سواه فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعةٌ أكمل منها ناقصةٌ تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع. (¬3) في (ك): "وعملوه". (¬4) كذا في (ك)، وفي سائر النسخ: "معايشهم".

هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وَفَّق اللَّه له أصحاب نبيه صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنهم الذين اكتفوا بما جاء به واستغنوا به عما (¬1) سواه وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يمنع من الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن (¬2)، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فاللَّه المستعان. وقد قال اللَّه تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا (¬3) عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] وكيف يُشفي ما في الصدور كتاب لا يفي هو وما تبينه السنة بعشر معشار الشريعة؟ أم كيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يستفاد منه اليقين في مسألة واحدة من مسائل معرفة اللَّه وأسمائه وصفاته وأفعاله؟ أو عامتها ظواهر لفظية دلالتها موقوفة على انتفاء عشرة أمور لا يُعلم انتفاؤها، سبحانك هذا بهتان عظيم. وياللَّه العجب كيف كان الصحابة رضي اللَّه عنهم والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى اللَّه بنيانها من القواعد وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس [والأوضاع؟ أهل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا] (¬4) على خلف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم باللَّه وأسمائه وصفاته، وما يجب له، و [ما] (¬5) يمتنع عليه منهم؟ فو اللَّه لأن يَلقى اللَّه عبده بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل. ¬

_ (¬1) في (ط) و (ح): "عما ما سواه" والمثبت من (ك) وسائر النسخ. (¬2) خرجته بتفصيل في تعليقي على "الحنائيات" (رقم 89)، فانظره هناك، وانظر: "ذم الكلام" للهروي (3/ 248 - 249 و 4/ 8 - 9) مع تعليق محققه الشيخ عبد الرحمن الشبل حفظه اللَّه. (¬3) قال (و): "في النسخ المطبوعة: "وأنزلنا" والصواب ما أثبته". قلت: وهو على الخطأ في (د). (¬4) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

فصل [كلام أحمد في السياسة الشرعية]

فصل [كلام أحمد في السياسة الشرعية] وهذه نبذة يسيرة من كلام الإمام أحمد رضي اللَّه عنه في السياسة الشرعية. قال في رواية المروزي وابن منصور: [و] (¬1) المخنث يُنفى، لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله، كان خاف عليهم (¬2) حبسه. وقال في رواية حنبل فيمن شرب خمرًا في نهار رمضان أو أتى شيئًا نحو هذا: أقيم الحد عليه وغلظ عليه مثل الذي يُقتل في الحرم دية وثلث. وقال في رواية حرب: إذا أتت المرأة المرأة تعاقبان وتؤدبان. وقال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي بالنار فله ذلك لأن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر -رضي اللَّه عنهما- أنه وَجَدَ في بعض ضواحي (¬3) العرب رجلًا يُنْكَح كما تنكح المرأة، فاستشار أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنهم وفيهم [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب (¬4)، وكان أشدهم قولًا فقال: إن هذا الذنب لم تعصِ [اللَّه] (1) به أمة من الأمم إلا واحدة فصنع [اللَّه] (1) بهم ما قد عملتم، أرى أن يحرقوا (¬5) بالنار، فأجمع رأي أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنهم على أن يحرقوا (5) بالنار، فكتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنهما- أن (¬6) يُحرِّقوا فحرقهم، ثم حرقهم ابن الزبير رضي اللَّه عنهما، ثم حرَّقهم هشام بن عبد الملك (¬7). ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفثين سقط من (ك). (¬2) كذا في (ك) و (ط. دار الحديث) وفي سائر النسخ: "به عليهم". (¬3) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "نواحي". (¬4) كذا في (ك)، وما بين المعقوفتين سقط منها، وفي سائر النسخ: "علي كرم اللَّه وجهه". (¬5) كذا في (ك)، وفي سائر النسخ: "يحرقوه". (¬6) كذا في (ك)، وفي سائر النسخ: "بأن". (¬7) رواه ابن أبي الدنيا في "ذم الملاهي" (رقم 145) والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 232)، و"الشعب" (4/ 357)، والآجري في "تحريم اللواط" (رقم 29)، وابن الجوزي في "ذم الهوى" (ص 163) من طريق عبد العزيز بن أبي حازم، عن داود بن بكر، عن محمد بن المنكدر، عن صفوان بن سُليم، أن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر الصديق. . . وليس فيه: ثم حرقهم ابن الزبير. =

ونص الإمام أحمد رحمه اللَّه ورضي عنه عنه فيمن طعن على الصحابة رضوان اللَّه عليهم أنه قد وجب على السلطان عقوبته وليس للسلطان أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة. وصرح أصحابنا في أن النساء إذا خيف عليهن المساحقة حرم خلوة بعضهن ببعض. وصرحوا بأن من أسلم وتحته أختان، فإنه يجبر على اختيار إحداهما، فإن أبى ضُرب حتى يختار. قالوا: وهكذا كل من وجب عليه حق فامتنع من أدائه، فإنه يضرب حتى يؤديه. وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك فمشهور. وأبعد الناس من الأخذ بذلك [الإمام] (¬1) الشافعي رحمه اللَّه ورضي عنه مع أنه اعتبر قرائن (¬2) الأحوال في أكثر من مئة موضع، وقد ذكرنا منها كثيرًا في غير هذا الكتاب، منها جواز وطء الرجل المرأة ليلة الزفاف، وإن لم يرها، ولم يشهد عدلان أنها امرأته، بناء على القرائن، ومنها قبول الهدية التي يوصلها إليه صبي أو عبد أو كافر وجواز أكلها والتصرف فيها، وإن [لم] (¬3) يشهد عدلان أن فلانًا أهدى لك كذا بناء على القرائن، ولا يشترط تلفظه، ولا تلفظ الرسول، بلفظ الهبة والهدية، ومنها جواز تصرفه في بابه بقَرْع حلقته ودَقِّه عليه، وإن لم يستأذنه في ذلك، ومنها استدعاء المستأجر للدار والبستان لمن شاء من أصحابه وضيوفه، وإنزالهم عنده مدة، كان لك يستأذنه نطقًا، كان تضمن ذلك تصرفهم في منفعة ¬

_ = وقال: هذا مرسل. أقول: قال الحافظ ابن حجر في "الدراية": "وهو ضعيف جدًا، ولو كان صحيحًا لكان قاطعًا للحجة". ولا أدري لماذا حكم فيه الحافظ ابن حجر بأنه ضعيف جدًا مع أن رجال إسناده ثقات، لكنه مرسل، كما قال البيهقي؛ لأن صفوان بن سليم لم يدرك خالد بن الوليد، وجوّد السفاريني إسناده في "قرع السياط" (ص 52)!!. وقد رواه أيضًا الواقدي في كتاب "الردة"، كما في "نصب الراية" (3/ 342): حدثني يحيى بن عبد اللَّه بن أبي فروة، عن عبد اللَّه بن أبي بكر بن حزم به. والواقدي متروك. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع والمثبت من (ك). (¬2) في (ك): "قوانين". (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك).

فصل

الدار وإشغالهم الكنيف وإضعافهم السلم ونحوه، ومنها جواز الإقدام على الطعام إذا وضعه بين يديه، وإن لم يصرح له بالإذن لفظًا، ومنها جواز شربه من الإناء، وإن لم يقدمه إليه، ولا يستأذنه، ومنها جواز قضاء حاجته في كنيفه، وإن لم يستأذنه، ومنها [جواز] (¬1) الاستناد إلى وسادته، ومنها أخذ ما ينبذه رغبة عنه من الطعام وغيره، وإن لم يصرح بتمليكه له، ومنها انتفاعه بفراش زوجته ولحافها، ووسادتها، وآنيتها، وإن لم يستأذنها نطقًا إلى أضعاف أضعاف ذلك. وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب، وهي الاعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة والظن الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثير تارة؟ وهذا باب واسع، وقد تقدم التنبيه عليه مرارًا، ولا يستغني عنه المفتي والحاكم. فصل فلنرجع إلى فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر طرف من فتاويه في الأطعمة. [فتاوى في الأطعمة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الثوم أحرام هو؟ قال: "لا، ولكني أكرهه من أجل رائحته" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو أيوب: هل يحل لنا البصل؟ فقال: "بلى، ولكني يغشاني ما لا يغشاكم" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه مسلم (2053) في (الأشربة): باب إباحة أكل الثوم، من حديث أبي أيوب الأنصاري. (¬3) رواه أحمد (5/ 414)، والنسائي في "الكبرى" (3/ 497) مختصرًا و (4/ 148) مطولًا، من طريق بقية بن الوليد عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان عن جبير بن نفير عن أبي أيوب الأنصاري أطول مما هو هنا. ورواته كلهم ثقات لكن فيه عنعنة بقية بن الوليد، وهو مدلس مشهور يدلس تدليس التسوية، والحديث له طريق آخر وسياق آخر من حديث أبي أيوب أيضًا وآخره: "أستحي من ملائكة اللَّه وليس بمُحرَّم"، رواه ابن خزيمة (1670)، وابن حبان (2092)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 239)، والطبراني في "الكبير" (3996 و 4077) من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن سفيان بن وهب عنه، وإسناده صحيح. وله طريق آخر أيضًا أخرجه أحمد (5/ 95 - 96، 103، 106)، والطيالسي (1/ 329 - =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الضب أحرام هو؟ فقال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" (¬1)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجُبن والسمن والفِرَا، فقال. "الحلال ما أحلَّه اللَّه في كتابه والحرام ما حرمه اللَّه في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬2)، ذكره ابن ماجه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الضبع، فقال: "أو يأكل الضبع أحد؟! " (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الذئب فقال: "أو يأكل الذئب أحدٌ فيه خير؟! " (¬4)، ذكره ¬

_ = المنحة)، والطبراني في "الكبير" (1972)، وابن حبان (2094) من طريق حماد بن سلمة (وروايته عند الطيالسي مقرونة مع شعبة، وأخرجه الطحاوي (4/ 239) من طريق شعبة فقط) عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة عنه، وآخره: "فيها ريح ثوم ومعي ملك". وإسناده على شرط مسلم. وله طريق آخر عن أم أيوب أخرجه أحمد (6/ 362 و 433)، والحميدي (339)، وابن أبي شيبة (2/ 511 و 8/ 301)، والدارمي (2/ 102)، والترمذي (1815) في (الأطعمة): باب ما جاء في الرخصة في الثوم مطبوخًا، وابن ماجه (3364) في (الأطعمة): باب أكل الثوم والبصل، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 239)، وابن حبان (2093)، وابن خزيمة (1671)، والطبراني في "الكبير" (25/ 329)، والمزي في "تهذيب الكمال" (35/ 332) من طريق سفيان بن عيينة عن عبيد اللَّه بن أبي يزيد عن أبيه عنها. قال الترمذي: حسن صحيح غريب. لكن أبو يزيد لم يرو عنه إلا ابنه، وذكره ابن حبان في "الثقات" فهو في عداد المجاهيل. وحديث أبي أيوب في "صحيح مسلم" (2053) (170 و 171)، وليس فيه ذِكْر الملك وإنما فيه: "ولكني أكرهه من أجل ريحه". وشاهده حديث جابر الذي رواه البخاري (855)، ومسلم (564) (73)، وفيه: "فإني أناجي من لا تناجي". وأحاديث الباب في النهي عن أكل الثوم والبصل، وتأذي الملائكة منها كثيرة، استوعبتُها في تعليقي على "تحقيق البرهان في شأن الدخان" للشيخ مرعي الكرمي (ص 116 - 121). (¬1) رواه البخاري (5391) في (الأطعمة): باب ما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يأكل حتى يُسمى له فيعلم ما هو، و (5400) باب الشواء، و (5537) في (الذبائح): باب الضب، ومسلم (1945) في (الصيد): باب إباحة الضب. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) و (¬4) هما حديث واحد رواه الترمذي (1797) في (الأطعمة): باب ما جاء في أكل الضبع،=

الترمذي، وعند ابن ماجه: قال: قلت: يا رسول اللَّه ما تقول في الضبع؟ قال: "ومن يأكل الضبع؟! " (¬1). وإن صح حديث جابر في إباحة الضبع (¬2)، فإن في القلب منه شيئًا كان هذا الحديث يدل على ترك أكله تقذرًا أو تنزهًا، واللَّه أعلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- فقالت: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم اللَّه ¬

_ = وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (رقم 1026)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1412)، والطبراني في "الكبير" (3797)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (2/ رقم 2379، 2380، 2381، 2382، 2384) من طريق إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم بن أبي المخارق، عن حبان بن جزي عن أخيه خزيمة بن جزي، فذكره، وعند الطبراني مطولًا. قال الترمذي: هذا حديث ليس إسناده بالقوي لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم عن عبد الكريم أبي أمية، وقد تكلم بعض أهل الحديث في إسماعيل وعبد الكريم أبي أمية، وهو عبد الكريم بن قيس بن أبي المخارق. وروى ابن أبي شيبة (8/ 249، 251)، وأبو بكر الشافعي في "الغيلانيات" (رقم 1028) وابن ماجه (3235) في (الصيد): باب الذئب والثعلب وأبو نعيم (2383) من طريق محمد بن إسحاق عن عبد الكريم به ذكر الذئب والثعلب، وانظر ما بعده. (¬1) هو من الحديث السابق رواه بعضهم بهذا اللفظ وهو جزء من حديث طويل روى ابن ماجه في (3237) هذا الجزء منه، وفي (3235) جزء آخر كما سبق- ورواه مطولًا ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1411) -ومن طريقه المزي في "تهذيب الكمال" (5/ 335) -، والطبراني في "الكبير" (3795 و 3796)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (3/ 206)، كلهم من طريق عبد الكريم بن أبي المخارق عن حبان بن جزي عن أخيه خزيمة بن جزي به. ووقع جزي عند بعضهم "جزء". قال البخاري بعد روايته: "ولا يتابع عليه" ذكره في ترجمة خزيمة، وضعفه ابن حزم في "المحلى" (8/ 147)، وابن الجوزي في "الواهيات" (2/ 173)، وابن حجر في "التلخيص الحبير" (4/ 152)، وفي "الإصابة" (1/ 426)، وفي "الفتح" (9/ 662 و 663)، وترجم الحافظ خزيمة هذا في "التهذيب" فقال: "خزيمة بن جزي بفتح الجيم وكسر الزاي بعدها ياء السلمي له حديث في الضب والضبع وغير ذلك. وأخرجه الترمذي وابن ماجه والباوردي وابن السكن وقالا: لم يثبت حديثه، ورويناه في "الغيلانيات" مطولًا، ومداره على أبي أمية ابن أبي المخارق أحد الضعفاء. وترجمه في"التقريب" خزيمة بن جَزْء بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة صحابي لم يصح الإسناد إليه، والحديث في "ضعيف سنن ابن ماجه" (695، 696). (¬2) يشير إلى حديث جابر في سؤال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الضبع: "أصيد هي" وقد تقدم تخريجه.

عليه أم لا، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سموا أنتم وكلوا" (¬1)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[اليهود فقالوا] (¬2): أنأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل اللَّه؟، فأنزل اللَّه: {وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] إلى آخر الآية (¬3) هكذا، ذكره أبو داود وأن الذي سأل هذا السؤال هم اليهود، والمشهور في هذه القصة أَنَّ المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال، وهو الصحيح ويدل عليه كون السورة مكية وكون اليهود يحرِّمون الميتة، كما يحرمها المسلمون، فكيف يوردون هذا السؤال وهم يوافقون على هذا الحكم؟ ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، فهذا سؤال مجادل في ذلك ¬

_ (¬1) رواه البخاري (2057) في (البيوع): باب من لم ير الوساوس ونحوها، و (5507) في (الذبائح): باب ذبيحة الأعراب ونحوهم، و (7398) في (التوحيد): باب السؤال بأسماء اللَّه تعالى والاستعاذة، من حديث عائشة. (¬2) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "رجل فقال". (¬3) رواه أبو داود (2819) في (الأضاحي): باب في ذبائح أهل الكتاب، من طريق عثمان بن أبي شيبة والطبري (5/ 328 رقم 13829) من طريق محمد بن عبد الأعلى، وسفيان بن وكيع، والبزار -كما في "تفسير ابن كثير" (2/ 177) - من طريق محمد بن موسى الحرشي، والطبراني (12295) من طريق عبد اللَّه بن عمر بن أبان، والبيهقي (9/ 240) من طريق محمد بن أبي بكر ستتهم عن عمران بن عيينة عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. ورواه ابن أبي حاتم (4/ 1378 رقم 7832) من طريق أبي سعيد الأشج عن عمران بن عيينة به مرسلًا دون ذكر ابن عباس. أقول: عطاء بن السائب هذا كان اختلط ولم يرو عنه هنا أحد مما سمع منه قبل الاختلاط، وقال أحمد بن حنبل: كان يرفع عن سعيد بن جبير أشياء لم يكن يرفعها، وقد كان اختلاطه شديدًا. ومما يدل على وهم عطاء واختلاطه أنه ذكر هنا أن السائل عن هذا اليهود، والسورة هذه مكية. قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (2/ 177) بعد أن ذكر هذا الخبر: وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة: أحدها: أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا. الثاني: أن الآية من الأنعام وهي مكية. الثالث: ذكر فيه رواية الترمذي الآتية، ولفظه: أتى ناس النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. . . " وهي من رواية عطاء بن السائب نفسه!! والحديث له روايات عن ابن عباس، وليس فيها أن السائل هو اليهود، وانظر "تفسير الطبري" و"تفسير ابن كثير".

واليهود لم تكن تجادل في هذا، وقد رواه الترمذي، بلفظ ظاهره أن بعض المسلمين سأل هذا السؤال ولفظه: أتى ناس إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: يا رسول اللَّه أنأكل مما نقتل، ولا نأكل مما قتل اللَّه؟ فأنزل اللَّه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلى قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] (¬1)، وهذا لا يناقض كون المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال فسأل عنه المسلمون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أحسب قوله إن اليهود سألوا عن ذلك إلا وهمًا من أحد الرواة، واللَّه أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمتُ عَلَيَّ اللحم، فأنزل اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 87، 88] (¬2)، ذكره الترمذي. ¬

_ (¬1) رواه الترمذي (3069) في (التفسير): باب ومن سورة الأنعام عن محمد بن موسى الحرشي، عن زياد بن عبد اللَّه البكائي: حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به، وقال: حسن غريب. أقول: عطاء بن السائب تكلمنا عليه في الحديث السابق، وشيخ الترمذي قال ابن حجر عنه في "التقريب": بين الحديث، وقد رواه -كما ذكرت من قبل- عن عمران بن عيينة عن عطاء مثل الرواية السابقة، وانظر ما قبله، وما ذكرته هناك. وقد روى أبو داود (2818)، وابن ماجه (3173)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (4/ 1380 رقم 7845)، والبيهقي (9/ 241) من طرف عن إسرائيل عن سماك بن حرب، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} يقولون: ما ذبح اللَّه فكلوا، وما ذبحتم أنتم فكلوا، فأنزل اللَّه عز وجل: {وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}، وصحح إسناده ابن كثير مع أن رواية سماك عن عكرمة فيها اضطراب. (¬2) رواه الترمذي (3064) في (التفسير): باب ومن سورة المائدة، وابن جرير الطبري (10/ 520 رقم 12350)، وابن عدي (5/ 1817)، والطبراني في "الكبير" (11981)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (4/ رقم 6687)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص 198) من طرق عن الضحاك بن مخلد، عن عثمان بن سعد: حدثنا عكرمة عن ابن عباس فذكره. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلًا ليس فيه عن ابن عباس ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلًا. (أما في "تحفة الإشراف" (5/ 15) فذكر عن الترمذي أنه قال: ورواه خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس). وأنا أُصَوّب العبارة الموجودة في "السنن" المطبوعة: خالد عن عكرمة مرسلًا، إذ أن عثمان بن سعد هذا ضعفه ابن معين، وكان يحيى بن سعيد يُضعّف حديثه في "التفسير"، وضعفه النسائي، وقال ابن عدي: مع ضعفه يكتب حديثه فلو رواه خالد موصولًا لكانت متابعة قوية، ولكن رواه مرسلًا، وهو الصواب في هذا الحديث، فتحسين الترمذي -رحمه اللَّه- فيه نظر.

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة الخُشَني -رضي اللَّه عنه- فقال: إن أرضنا أرض أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا" قال: قلت: يا رسول اللَّه ما يحل لنا، وما يحرم علينا؟ قال: "لا تأكلوا لحم الحمر الإنسية، ولا يحلُّ كل ذي ناب من السباع" (¬1)، ذكره أحمد، وقد ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" (¬2)، وهذان اللفظان يبطلان قول من تأول نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع بأنه نهي كراهة فإنه تأويل فاسد قطعًا، وباللَّه التوفيق. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللّبة؟ فقال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" (¬3)، ذكره أبو داود، وقال: هذا ذكاة المُتردِّي، وقال يزيد بن ¬

_ = وأما المرسل، فقد أخرجه ابن جرير (10/ 514، 515، 520 - 521 رقم 12337، 12338، 12340، 12351) -بأسانيد- من طريق يزيد بن زريع وإسماعيل بن إبراهيم (ابن علية) وعبد الوهاب الثقفي ثلاثتهم عن خالد الحذاء عن عكرمة مرسلًا، وهذا إسناد صحيح إلى عكرمة. والحديث عزاه السيوطي في "الدر المنثور" إلى ابن مردويه. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه أبو داود (2825) في (الأضاحي): باب في ذبيحة المتردية، والترمذي (1485) في (الصيد): باب ما جاء في الذكاة في الحلق واللّبة، والنسائي (7/ 228) في (الضحايا): باب ذكر المتردية في البئر التي لا يوصل إلى حلقها، وابن ماجه (3184) في (الذبائح): باب ذكاة الناد من البهائم، وعبد اللَّه بن أحمد (4/ 434)، والدارمي (2/ 82)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 22)، وأبو يعلى (1503، 1504)، وابن عدي (1/ 209)، والطبراني في "الكبير" (6719 - 6721)، وابن الجارود (901)، وأبو نعيم (6/ 257 و 341)، والبيهقي (9/ 246)، والمزي في "تهذيب الكمال" (34/ 86) من طرق عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه. قال أبو داود: "هذا لا يصلح إلا في المتردية والمتوحش". قال الترمذي: "حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة، ولا نعرف لأبي العشراء عن أبيه غير هذا الحديث". وقال البخاري في "التاريخ" في ترجمة أبي العشراء: في حديثه واسمه وسماعه من أبيه نظر. وقال الحافظ ابن حجر في "التلخيص" (4/ 134) عن أبي العشراء: "ولا يعرف حاله". وقال في "التقريب": "أعرابي مجهول".=

هارون رحمه اللَّه: هذا للضرورة، وقيل: هو في غير المقدور عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجنين يكون في بطن الناقة أو البقرة أو الشاة أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم، فإن ذكاتَه ذكاةُ أمه" (¬1)، ذكره أحمد، وهذا يبطل تأويل من تأول الحديث أنه يُذَكَّى، كما تذكى أمه ثم يؤكل، فإنه أمرهم بأكله وأخبر أن ذكاة أمه ذكاة له، وهذا لأنه جزء من أجزائها فلم يحتج إلى أن يفرد بذبح كسائر أجزائها. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رافع بن خديج رضي اللَّه عنه فقال: إنا لاقو العدو غدًا، وليست معنا مدى أفنذكي باللِّيطة؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أنهر الدم وذُكِر اسم اللَّه عليه فكل إلا ما كان من سنّ أو ظفر، فإن السن عظم والظفر مدى الحبشة" (¬2)، متفق عليه واللَّيطة: الفلقة من القَصَب. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عدي بن حاتم -رضي اللَّه عنه- فقال: إن أحدنا ليصيب الصيد وليس معه سكين أيذبح بالمروة (¬3) وشقة العصى؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمِرِ (¬4) الدمَ واذكر ¬

_ = وقال الذهبي في "الميزان": "قلت: ولا يُدرى من هو، ولا من أبوه، انفرد عنه حماد بن سلمة". وقال الحافظ في "الفتح" (9/ 641): وكأن المصنف لمح بضعف الحديث الذي أخرجه. . . فذكره لكن مَنْ قوّاه حمله على الوحش والمتوحش، وفي الباب عن أنس بن مالك، رواه الطبراني في "الأوسط" قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 34): وفيه بكر بن الشرود، وهو ضعيف. (¬1) الحديث ورد من طريق جمع من الصحابة، وقد صححه غير واحد فانظر: "نصب الراية" (4/ 189)، و"التلخيص" (4/ 156 - 158)، و"إرواء الغليل" (8/ 172)، وقد تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري في مواطن منها (2488) في (الشركة): باب قسمة الغنم، و (5503) في (الذبائح والصيد): باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، و (5506) باب لا يذكى بالسن والعظم والظفر. ومسلم (1968) في (الأضاحي): باب جواز الذبح بكل ما أنهر الدم، من حديث رافع بن خديج. (¬3) المروة: هو حجر أبيض له برقان، والمراد به هنا: ما كان حادًا يصلح للذبح. قال (ط) معرفًا له: "نوع من الحجارة" فقط. (¬4) من مار يمور إذا جرى، قال الخطابي: أصحاب الحديث يرونه مشدد الراء، وهو غلط، وفي رواية: "إمر" -بكسر الهمزة وسكون الميم- أي: استخرجه وآجره، وفي "سنن أبي داود" و"النسائي": "أمرر": اجعل الدم يمر، أي: يذهب، وعلى هذا يكون من شدد الراء أدغم الراءين، فلا يكون التشديد خطأ" (و).

اسم اللَّه" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شاة حلَّ بها الموت فأخذت جارية حجرًا فذبحتها به فأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأكلها (¬2)، ذكره البخاري. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شاة نيب فيها الذئب فذبحوها بمروة فرخص لهم في أكلها (¬3)، ذكره النسائي. سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكل الحوت الذي جَزَر البحر عنه، فقال: "كلوا، رزقًا ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 256 و 258 و 377)، والطيالسي (1742 - منحة)، وعبد الرزاق (8621)، وأبو داود (2824) في (الأضاحي): باب في الذبيحة بالمروة، والنسائي (7/ 225) في (الضحايا): باب إباحة الذبح بالعود، وابن ماجه (3177) في (الذبائح): باب ما يذكى به، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 183)، وابن حبان (332)، والطبراني في "الكبير" (17/ 245 - 248)، والحاكم (4/ 240)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/ 279 و 9/ 281)، والمزي في "تهذيب الكمال" (27/ 415) من طرق عن سماك بن حرب، عن مريّ بن قطري، عن عدي بن حاتم به مطولًا ومختصرًا. وصححه الحاكم على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي. قال الحافظ في "التلخيص" (4/ 135): ومداره على سماك بن حرب، عن مري بن قطري. وقال الذهبي عن مري هذا: لا يعرف تفرد عنه سماك. وهو لم يوثقه إلا ابن حبان فقط، ولذلك قال الحافظ في "التقريب": مقبول، أي: عند المتابعة. (¬2) رواه البخاري (2304) في (الوكالة): باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة نموت. . . و (5501 و 5502) في (الذبائح والصيد): باب ما أنهر الدم من القصب والمروة والحديد، و (5504) باب ذبيحة المرأة والأمة من حديث ابن عمر. (¬3) رواه النسائي (7/ 225) في (الضحايا): باب إباحة الذبح بالمروة، و (7/ 227 - 228) باب ذكاة التي قد نيب فيها السبع، وابن ماجه (3176) في (الذبائح): باب ما يذكى به، وأحمد (5/ 183 - 184)، وابن حبان (5885)، والطبراني في "الكبير" (4832)، والحاكم (4/ 113 - 114)، والبيهقي (9/ 250)، والمزي في "تهذيب الكمال" (5/ 322) من طريق شعبة عن حاضر بن المهاجر أبي عيسى الباهلي، عن سليمان بن يسار، عن زيد بن ثابت به. ورجاله ثقات مشهورون غير حاضر بن المهاجر هذا، فلم يرو عنه إلا شعبة. وقال أبو حاتم: مجهول. وذكره ابن حبان في "الثقات"! أما الحاكم فصححه ووافقه الذهبي! ويشهد له حديث ابن عمر قبله، وحديث رافع بن خديج المتقدم.

أخرجه اللَّه لكم وأطعمونا إن كان معكم" (¬1)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة الخُشَني فقال: إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي المعلّم وبكلبي الذي ليسس بمعلّم فما يصلح لى؟ فقال: "ما صدت بقوسك فذكرت اسم اللَّه عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلَّم فذكرت اسم اللَّه عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلَّم فأدركت ذكاته فكل" (¬2)، متفق عليه، وهو صريح في اشتراطه التسمية لحل الصيد ودلالته على ذلك أصرح من دلالته على تحريم صيد غير المعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عدي بن حاتم فقال: إني أرسل كلابي المعلَّمة فيمسكن عليَّ وأذكر اسم اللَّه؟ فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم اللَّه فكل ما أمسك عليك" قلت: وإن قَتلنَ قال: "وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها" قلت: فإني أرمي بالمِعْراض (¬3) الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض، فخزق (¬4) فكله، وإن أصابه بعرضه، فلا تأكله" (¬5)، متفق عليه. وفي بعض ألفاظه هذا الحديث: "إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره". وفي بعض ألفاظه: "إذا أرسلت كلبك المكلَّب فاذكر اسم اللَّه، فإن أمسك عليك فأدركته حيًا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أَخذَ الكلب ذكاتُه"، وفي بعض ألفاظه: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم اللَّه" وفيه: "فإن غاب عنك اليومين أو الثلاثة، ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، كان ¬

_ (¬1) رواه البخاري (4362) في (المغازي): باب غزوة سيف البحر، ومسلم (1935) في (الصيد والذبائح): باب إباحة ميتات البحر، من حديث جابر. (¬2) رواه البخاري (5478) في (الذبائح والصيد): باب ما أصاب المعراض بعرضه، و (5488) باب ما جاء في التصيد، و (5496) باب آنية المجوس والميتة، ومسلم (1930) في (الصيد): باب الصيد بالكلاب المعلمة. (¬3) "المعراض: سهم بلا ريش، دقيق الطرفين، غليظ الوسط، يصيب بعرضه دون حده". (¬4) "خزق: أصاب الرمية ونفذ فيها" (و)، ونحوه باختصار في (ط). (¬5) رواه البخاري في مواطن منها (175) في (الوضوء): باب الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، و (5475) في (الذبائح والصيد): باب التسمية على الصيد، و (5476) باب صيد المعراض، و (5484) باب الصيد، إذا غاب عنه يومين أو ثلاثة، و (5487) باب ما جاء في التصيد، ومسلم (1929) في أول الصيد والذبائح، وهذا لفظ مسلم.

وجدته غريقًا في الماء، فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة الخشني فقال: يا رسول اللَّه إن في كلابًا مكلَّبة فأفتني في صَيْدها؟ فقال: "إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك" فقال: يا رسول اللَّه ذكيٌّ (¬1)، وغير ذكي؟ قال: ذكيّ وغير ذكيّ"، قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه" قال: يا رسول اللَّه أفتني في قوسي، قال: "كُل ما أمسكت عليك قوسك" قال: ذكيّ وغير ذكيّ؟ قال: "ذكي وغير ذكي" قال: كان تغيب عنّي؟ قال: "وإن تغيب عنك ما لم يصلّ (¬2) -يعني: يتغير- أو تجد فيه أثرًا غير أثر سهمك" (¬3)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) "الذكي: ما أمسك عليه، فأدركه قبل زهوق روحه فذكاه في الحلق أو اللبة، وغير الذكي: ما زهقت نفسه قبل أن يذكيه قبل أن يدركه مما جرحه الكلب بسنة أو ظفره" (و). (¬2) "ينتن" (و). (¬3) رواه أحمد (2/ 184)، وأبو داود (2857) في (الصيد): باب في الصيد، والدارقطني (4/ 294)، والبيهقي (9/ 237 و 243)، و"المعرفة" (13/ 445 رقم 18786)، من طريق حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال ابن عبد الهادي في "التنقيح": إسناده صحيح، وقال ابن حجر في "الفتح" (9/ 602): "سنده لا بأس به" وحكمه في "التلخيص الحبير" (2/ 136) أدق، وذلك عند قوله: "أعله البيهقي" كما سيأتي، وتعنت ابن حزم بتضعيفه إياه في "المحلى" (7/ 471) بأنه صحيفة! ورواه النسائي (7/ 191) من طريق عبيد اللَّه بن الأخنس عن عمرو به. وليس فيه: "وإن أكل منه"، وليس فيه السؤال عن آنية المجوس. وقد رواه أيضًا عن عمرو المثنى بن الصباح، وابن لهيعة، كما ذكر الدارقطني في "علله" (1/ 87/2 مخطوط). أقول: وهذا الحديث معلول بعلتين: الأولى: الاختلاف على عمرو. فقد ذكر الدارقطني في "علله" أن حماد بن سلمة رواه عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبي ثعلبة أي مرسلًا. أقول: وقد وصله عن حبيب جماعة من الثقات. فقد علقه البيهقي (9/ 238) من طريق شعبة عن عبد ربه بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن رجل من هذيل أنه سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكلب يصطاد قال: "كل أكل أو لم يأكل"، ثم قال البيهقي: فصار حديث عمرو بهذا معلولًا. وعبد ربه هذا من الثقات، وحبيب المعلم وابن الأخنس من الثقات أيضًا فقد يكون عمرو رواه على الوجهين. =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ورواه عمرو بن الحسن، عن عمرو بن شعيب عن مولى لشرحبيل بن حسنة عن عقبة بن عامر وحذيفة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. ذكره الدارقطني في "علله" (2/ 87/ 1) وعمرو هذا لم أهتد إليه. وقال الدارقطني أيضًا: وقيل: عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبي ثعلبة. أقول: وهذا لا يضر أيضًا؛ لأنه صدره بصيغة التمريض، ولا نعرف حال الإسناد للأوزاعي. الثانية: وهي المهمة، وهي قوله في الحديث: "وإن كل منه" فقد روى البخاري في مواطن منها (5476)، ومسلم (1929) بعد (3) من حديث عدي بن حاتم وفيه: "فإن أكل فلا تأكل". وقد ذكرت لك أن رواية عبيد الأخنس عن عمرو بن شعيب ليس فيها هذه اللفظة. وقد وجدت شواهد تؤيدها منها: ما رواه أبو داود (2852)، والبيهقي (9/ 237)، وابن عبد البر في "الإستذكار" (15/ 285 رقم 21939) من طريق داود بن عمرو عن بسر بن عبيد اللَّه عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم اللَّه عليه فكل وإن أكل منه". قال ابن عبد الهادي في "التنقيح" (3/ 450): "إسناده جيد" وانظر: "نصب الراية" (4/ 312)! وجود إسناده أيضًا ابن كثير في "تفسيره" (2/ 19) وأخطا في اسم الراوي عن أبي إدريس. لكن فيه داود بن عمرو قال الذهبي في "الميزان": انفرد بحديث: "إذا أرسلت. . . "، وهذا حديث منكر، أي قوله فيه: "كان أكل منه"، وفصلت ذلك في تعليقي على "الموافقات" (4/ 363)، وانظر: "المحلى" (7/ 471) و"الميزان" (2/ 17 - 18). وحديث أبي ثعلبة هذا في "الصحيحين"، وليس فيه هذه اللفظة. ومنها: ما رواه ابن جرير الطبري (4/ 436) من طريق سعيد بن المسيب عن سلمان الفارسي مرفوعًا: "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه، وقد أكل منه فليأكل ما بقي". وقال: هذا خبر في إسناده نظر، فإن سعيدًا غير معلوم له سماع من سلمان، وانظر "تنقيح التحقيق" (3/ 450). وروي عن سلمان موقوفًا، أخرجه ابن أبي شيبة (4/ 611) قوله: "إذا أرسلت كلبك وبازك فكل، كان أكل ثلثه" وإسناده ضعيف، فيه محمد بن زيد العبدي مقبول، ولم يتابع. ومنها ما ذكره ابن كثير في "تفسيره" (2/ 19) قال: وقد روى عن سماك بن حرب عن عدي قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما كان من كلب ضار أمسك عليك فكل"، قلت: وإن أكل؟ قال: "نعم".=

ولا يناقض هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعدي بن حاتم: "وإن أكل [منه] (¬1)، فلا تأكل"، فإن حديث عدي فيما أكل منه حال صيده إذ يكون ممسكًا على نفسه وحديث أبي ثعلبة فيما أكل منه بعد ذلك، فإنه يكون قد أمسك على صاحبه، ثم أكل منه بعد ذلك، وهذا لا يحرم، كما لو أكل مما ذكاه صاحبه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الذي يدرك صيده بعد ثلاث، فقال: "كُلْه ما لم ينتن" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل بيت كانوا في الحرَّة (¬3) محتاجين ماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم فرخص لهم في أكلها فعصمتهم بقية شتائهم (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ = ثم قال: وروى عبد الملك بن حبيب: حدثنا أسد بن موسى عن أبي زائدة عن الشعبي عن عدي بمثله. أقول: لم أقف على كلا الطريقين، وقد روى أبو نعيم، وعبد اللَّه بن نمير، عن ابن أبي زائدة لم يذكرا فيه: "وإن أكل منه"، كما هو عند البخاري (5475)، ومسلم (1929) (4) بل لفظ مسلم: "ما أمسك عليك ولم يأكل منه فكله". وحديث عدي بن حاتم في "الصحيحين" من طرق عن الشعبي -كما ذكرت من قبل- تنص على أنه: "إن أكل منه فلا تأكل". إذن فقوله في حديث عمرو بن شعيب: "وإن أكل منه" لفظة معلولة، بعد أن رأيت ما حققته لك، لكن حاول بعض العلماء الجمع بين اللفظين فقال ابن كثير في "تفسيره" (2/ 19): وقد توسط آخرون فقالوا: "إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم وللعلة التي أشار إليها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه"، وأما إن أمكسه ثم انتظر صاحبه، فطال عليه وجاع، فأكل منه لجوعه فإنه لا يؤثر في التحريم وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخشني، وهذا تفريق حسن، وجمع بين الحديثين صحيح". وانظر تعليق المؤلف على "سنن أبي داود" (8/ 59) مع "عون المعبود"، و"فتح الباري" (9/ 602)، و"شرح النووي على صحيح مسلم" (13/ 77)، و"الموافقات" (4/ 362). (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه مسلم (1931) بعد (10) في (الصيد): باب إذا غاب عنه الصيد ثم وجده. (¬3) في (ك): "بالحرة"، والمثبت من سائر النسخ. (¬4) رواه أحمد (5/ 87 و 88)، والطيالسي (1653)، وأبو يعلى الموصلي (7448) من طريق شريك عن سماك بن حرب عن جابر بن سمرة به. ولفظه "مات عندهم ناقة أو بعير لهم. . . "، ولفظ الطيالسي مغاير لكنه رواه من طريق شريك فذكرته هنا. وهذا إسناد ضعيف لضعف شريك، لكنه توبع، فقد رواه -قريبًا من هذا- أحمد (5/ 89، 97)، وأبو يعلى (7445)، والحاكم (4/ 125) من طريق أبي عوانة عن سماك عن =

وعند أبي داود: "أن رجلًا نزل بالحرَّة ومعه أهله، وولده فقال له رجل: إن لي ناقة قد ضلت، فإن وجدتها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت فقالت امرأته: انحرها فأبى فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نقدِّد شحمها ولحمها نأكله فقال: حتى أسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأتاه فسأله فقال له: "هل عندك غناء يغنيك (¬1)؟ قال: لا، قال: "فكلوه" قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك (¬2)، وفيه دليل على جواز إمساك الميتة للمضطر. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: مِنَ "الطعام طعامٌ نتحرَّجُ منه، فقال: "لا يختلجنَّ في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية" (¬3)، ذكره أحمد، ومعناه -واللَّه أعلم- النهي ¬

_ = جابر قال: مات بغل، وقال حماد بن سلمة: ناقة -قال ابن حجر في "إتحاف المهرة" (3/ 85): "وهو الصواب"- عند رجل فأتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يستفتيه فزعم جابر بن سمرة أن رسولا اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لصاحبها: أما لك ما يغنيك عنها؟ قال: لا قال: اذهب فكلها، هذا لفظ أحمد، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. ورواه حماد بن سلمة عن سماك أيضًا انظر ما بعده. (¬1) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "ما يغنيك". (¬2) رواه أبو داود (3816) في (الأطعمة): باب المضطر إلى الميتة: حدثنا موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة عن سماك عن جابر بن سمرة، وهذا إسناد جيد، وانظر ما قبله. (¬3) رواه أحمد (5/ 226 و 227) وابنه عبد اللَّه في "زياداته في المسند" (5/ 226، 227)، وأبو داود (3784) في (الأطعمة): باب في كراهية التقذر للطعام، والترمذي (1561) في (السير): باب ما جاء في طعام المشركين، وابن ماجه (2830) في (الجهاد): باب الأكل في قدور المشركين، والطبراني في "الكبير" (22/ 226)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2493 - 2495)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (15/ رقم 2145)، 2146، 2147)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ رقم 6565)، والبيهقي (7/ 279)، والمزي في "تهذيب الكمال" (23/ 496) من طرق عن سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب عن أبيه. قال الترمذي: هذا حديث حسن. أقول: قبيصة هذا لم يرو عنه إلا سماك بن حرب، وقال ابن المديني: مجهول، وكذا قال النسائي، ووثقه العجلي، وابن حبان، وهما من نفس البابة في التوثيق!! وقد اضطرب فيه سماك، فهو كان روى له مسلم إلا أن له أوهامًا، فقد رواه أحمد (4/ 258 و 377)، والطيالسي (1742 - منحة)، والطبراني في "الكبير" (17/ 251)، وابن حبان (332)، والبيهقي (7/ 379) من طرق عن شعبة عنه، عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم، ومري هذا قال الذهبي: لا يعرف تفرد عنه سماك. =

عما شابه طعام النصارى يقول: لا تشكنَّ فيه، بل دعه؟ فأجابه بجواب عام وخص النصارى دون اليهود لأن النصارى لا يحرمون شيئًا من الأطعمة، بل يبيحون ما دبَّ ودرج من الفيل إلى البعوض. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن عامر رضي اللَّه عنه فقال: إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يَقرُوننا فما ترى؟ فقال: "إن نزلتم بقوم فأَمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوه، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" (¬1)، ذكره البخاري. وعند الترمذي: إِنا نمر بقوم، فلا يضيفوننا، ولا يؤدّون ما لنا عليهم من الحق، ولا نحن نأخذ منهم، فقال: "إن أبوا إلا أن تأخذوا قِرًى فخذوه" (¬2). وعند أبي داود: "ليلةُ الضيف حقٌّ على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا عليه إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه" (¬3)، وعنده أيضًا: "مَنْ نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" (¬4). وهو دليل على وجوب الضيافة وعلى أخذ الإنسان نظير حقه ممن هو عليه إذا أبى دفعه، وقد استدل به في مسألة الظفر، ولا دليل فيه لظهور سبب الحق هاهنا، فلا يتهم الآخذ، كما تقدم في قصة هند مع أبي سفيان رضي اللَّه عنهما (¬5). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عوف بن مالك رضي اللَّه عنه فقال: الرجل أمرُّ به، فلا يقريني، ¬

_ = فهذه من تخاليط سماك بن حرب كما رأيت، والحديث يدور على مجهولين! وقد ذكر الترمذي -رحمه اللَّه- هذا الخلاف من سماك. وهذا جزء من حديث، سبق تخريج جزء آخر منه ورقمه الرابع عشر من (الفتاوى في الأطعمة). (¬1) رواه البخاري (2461) في (المظالم): باب قصاص المظلوم إذا وجد مال ظالمه و (6137) في (الأدب): باب حق الضيف، ومسلم (1727) في (اللقطة): باب الضيافة ونحوها، من حديث عقبة بن عامر. (¬2) رواه الترمذي (1593) في (السير): باب ما يحل من أموال أهل الذمة، من طريق قتيبة بن سعيد عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير عن عقبة بن عامر به، ولفظ آخره عند الترمذي: "إلا أن تأخذوها كرهًا فخذوا". وقال: هذا حديث حسن، وقد رواه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حبيب أيضًا. أقول: هو الحديث السابق. (¬3) و (¬4) تقدم تخريجهما. (¬5) "حين استأذنت أن تأخذ دون علم أبي سفيان ما يكفيها وأولادها من نفقة، لأن أبا سفيان -كما قالت-: رجل شحيح" (و).

فصل [فتاوى في العقيقة]

ولا يضيفني، ثم يمر بي أفأجزيه؟ قال: "لا، بل أقْرِه" قال: ورآني -يعني: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رثَّ الثياب فقال: "هل لك من مال؟ " قال: قلت: مِنْ كل المال قد أعطاني اللَّه من الابل والغنم، قال: "فليرَ عليك" (¬1)، ذكره الترمذي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن جائزة الضيف؟ فقال: "يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يُخرِجه" (¬2)، متفق عليه. فصل [فتاوى في العقيقة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العقيقة، وكان (¬3) كره الاسم، وقال: "مَنْ ولد له مولود فأحب أنْ ينسك عنه فليفعل" (¬4)، ذكره أحمد، وعنده أيضًا: أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العقيقة، فقال: "لا يحبُّ اللَّه العقوق" كأنه كره الاسم قالوا: يا رسول اللَّه إنما نسألك عن أحدنا يولد له [ولد]، قال: "من يولد له [ولد] فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتين متكافئتين وعن الجارية شاة" (¬5). ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (6135) في (الأدب): باب حق الضيف، ومسلم (3/ 1352) في (اللقطة): باب الضيافة ونحوها من حديث أبي شريح الكعبي، وهذا لفظ البخاري. (¬3) قال (د): "كذا، ولعله: "وكأنه لما كما فيما يليه". (¬4) و (¬5) هما حديث واحد رواه أحمد في "مسنده" (2/ 182 - 183 و 184)، وأبو داود (2842) في (الأضاحي): باب في العقيقة، والنسائي (7/ 162) في أول العقيقة، وعبد الرزاق في "مصنفه" (7961)، والحاكم (4/ 238)، والبيهقي (9/ 312) من طرق عن داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به. قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقد اختلف في إسناده. فرواه أبو داود (282)، والبيهقي (9/ 312) من طريق القعنبي، عن داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب مرسلًا. ورواه النسائي (7/ 168) من طريق عبيد اللَّه بن عبد المجيد أبو علي الحنفي: حدثنا داود بن قيس، قال: سمعت عمرو بن شعيب عن أبيه وزيد بن أسلم مرسلًا أيضا. أقول: وهذا الإرسال لا يضر، فقد رواه جماعة من الثقات المشهورين (عبد الرزاق، ووكيع، وعبد الملك العقدي وأبي نعيم) كلهم عن داود بن قيس، عن عمرو بن شعيب به موصولًا، ولا يضرهم من خالفهم. =

فصل [فتاوى في الأشربة]

فصل [فتاوى في الأشربة] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لا أَروى من نَفَس واحدة، قال: "فأَبِنِ القَدَح عن فيك ثم تنفَّس" قال: فإني أَرى القذاة فيه، قال: "فأهرقها" (¬1)، ذكره مالك، وعند الترمذي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة (¬2) أراها في ¬

_ = ولذلك قال المؤلف -رحمه اللَّه- في "تعليقه على سنن أبي داود" (8/ 43 مع عون المعبود): "وقد اختلف فيه على عمرو بن شعيب، وأحسن أسانيده ما ذكره عبد الرزاق قال: أخبرنا داود بن قيس. . . فذكره موصولًا". وقد ورد العق عن الغلام شاتين، وعن الجارية شاة، من حديث عائشة وأم كرز وابن عباس وغيرهم، فانظر: "مجمع الزوائد" (4/ 58)، و"فتح الباري" (5/ 592)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) رواه مالك (2/ 925)، ومن طريقه الترمذي (1892) في (الأشربة): باب ما جاء في كراهية النفخ في الشراب، وسياقه ليس كسياق مالك في "الموطأ"، وأحمد (3/ 26 و 32 و 68 - 69)، والدارمي (2/ 119)، وابن أبي شيبة (8/ 32)، وابن حبان (5327)، والحاكم (4/ 139)، والبغوي (3036)، عن أيوب بن حببب مولى سعد بن أبي وقاص، وعند بعضهم مولى بني زهرة، عن أبي المثنى الجهني، عن أبي سعيد الخدري به. وفي مطبوع "سنن الدارمي" وقع أيوب بن حبيب عن الزهري عن أبي المثنى، وهذا خطأ إذ أن أيوبًا هذا زهري فتصحفت إلى "عن الزهري"، ووقعت على الجادة في "إتحاف المهرة" (5/ 492)، و"فتح المنان" (8/ 276). قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. أقول: الحديث رواته ثقات غير أبي المثنى الجهني هذا، ففد قال ابن المديني: مجهول لا أعرفه، وقال ابن معبن: ثقة، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وروى عنه اثنان. قلت: ما دام ابن معين عرفه ووثقه فالعمدة على ما قال، فلا علينا إذ لم يعرفه ابن المديني. أما الحافظ ابن حجر فقال في "التقريب": مقبول! ونحن على ما قال ابن معين، واللَّه أعلم. قال الزرقاني في "شرح الموطأ" (4/ 293): والأمر بإبانة القدح إنما يخاطب به من لم يَزوَ من نفس واحد بغير عبّ، وإلا فلا إبانة، قاله في "المفهم" وفي "التمهيد" (1/ 392) عن مالك: فيه إباحة الشرب من نفس واحد، لأنه لم ينه الرجل عنه، بل قال له ما معناه: إن كنت لا تروى من واحد، فابن القدح، وقيل: يكره مطلقًا، لأنه شرب الشيطان، ولأنه من فعل البهائم، قال ابن عبد البرة وقد رويت آثار عن بعض السلف فيها كراهة الشرب في نفس واحد، وليس فيها شيء تجب به حجة. (¬2) "ما يقع في الماء والشراب والعين من تراب أو نتن أو وسخ أو غير ذلك" (و).

الإناء؟ قال: "أهرقها" قال: إني لا أَروى من نَفَس واحدة؛ قال: "فأبِن القدح إذن عن فيك" (¬1) حديث صحيح. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البِتْع (¬2)، فقال: "كلُّ شراب أسكر فهو حرام" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو موسى رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه أَفْتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمين: البِتْع: وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمِزْر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتدّ، فقال: "كل مسكر حرام" (¬4)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- طارق بن سويد عن الخمر فنهاه أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء" (¬5). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من اليمن عن شراب بأرضهم يُقال له: المِزْر، قال: "أمسكرٌ هو؟ " قال: نعم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل مسكر حرام، وإن على اللَّه عهدًا لمن شرب المسكر أن يَسقيَه من طينة الخبال" قالوا: يا رسول اللَّه، وما طينةُ الخبال؟ قال: "عَرَقُ أهل النار" أو قال: "عصارةُ أهل النار" (¬6). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من عبد قيس فقال: يا رسول اللَّه ما ترى في شراب نصنعه في أرضنا من ثمارنا؟ فأعرض عنه حتى مسألة ثلاث مرات، حتى قام يصلي فلما قضى صلاته قال: "لا تشربه، ولا تسقه أخاك المسلم فوالذي نفسي بيده أو والذي يُحْلَف به لا يشربه رجل ابتغاء لذة سكر فيسقيه اللَّه الخمر يوم القيامة" (¬7)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) مضى تخريجه في الهامش قبل السابق. (¬2) "البتع: بكسر الباء وسكون التاء، وهو نبيذ العسل، وهو خمر أهل اليمن، وقد تحرك التاء بالفتح" (و). (¬3) رواه البخاري (242) في (الوضوء): باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ، ولا المسكر، و (5585 و 5586) في (الأشربة): باب الخمر من العسل، وهو البتع، ومسلم (2001) في (الأشربة): باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام، من حديث عائشة. (¬4) رواه البخاري (4343 و 4344 و 4345) في (المغازي): باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع، و (6124) في (الأدب): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يسروا ولا تعسروا"، و (7172) في (الأحكام): باب أمر الوالي، ومسلم (ص 1586) في (الأشربة): باب بيان أن كل مسكر خمر، من حديث أبي موسى الأشعري. (¬5) رواه مسلم (1984) في (الأشربة): باب تحريم التداوي بالخمر، والصحابي اسمه طارق بن سويد أو سويد بن طارق، والمثبت من (ك) وفي المطبوع: "طارق بن سعيد"!!. (¬6) رواه مسلم (2002) في (الأشربة): باب بيان أن كل مسكر خمر. (¬7) عزاه المصنف لأحمد، ولم أجده فيه بعد بحث طويل، وعزاه الهيثمي له في "المجمع" =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخمر تُتخذ خلًا، قال: "لا" (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو طلحة رضي اللَّه عنه عن أيتام ورثوا خمرًا فقال: "أهرقها" قال: أفلا نجعلها خلًا؟ قال: "لا"، ذكره أحمد وفي لفظ: أن يتيمًا كان في حجر أبي طلحة فاشترى له خمرًا فلما حرمت الخمر سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أيتخذها خلًا؟ قال: "لا" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- قوم فقالوا: إنا ننتبذ نبيذًا نشربه على غدائنا وعشائنا، وفي رواية: على طعامنا فقال: "اشربوا واجتنبوا كل مسكر" فأعادوا عليه، فقال: "إن اللَّه ينهاكم عن قليل ما أسكر، وكثيره" (¬3)، ذكره الدارقطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن فيروز الديلمي -رضي اللَّه عنهما- فقال: إنا أصحاب أعناب وكرم، وقد نزل تحريم الخمر فما نصنع بها؟ قال: "تتخذونه زبيبًا؟ " قال: نصنع بالزبيب ماذا؟ قال: "تنقعونه على غدائكم وتشربونه على عشائكم وتنقعونه على عشائكم وتشربونه على غدائكم" قال: قلت: يا رسول اللَّه نحن ممن قد علمت، نحن بين ظهراني من قد علمت فمن وليُّنا؟ فقال: "اللَّه ورسوله" قال: حَسْبِي يا رسول للَّه (¬4). ¬

_ = (5/ 70)، وقال: رجاله ثقات، وهو في "الأشربة" لأحمد (32). ورواه الطبراني في "المعجم الكبير" (8259) من طريق الحسن بن الربيع الكوفي: حدثنا ملازم بن عمرو الحنفي عن سراج بن عقبة عن عمته خلدة بنت طلق عن أبيها طلق بن علي فذكره. ورواته ثقات أيضًا غير خلدة بنت طلق وترجمها ابن حبان في "الثقات" (4/ 216) وسماها (خالدة)، ولم يذكر لها راويًا غير سراج بن عقبة، فهي في عداد المجاهيل. فإن كان إسناد أحمد مثل إسناد الطبراني -وأظنه كذلك ثم تاكد في هذا بالنظر في "أطراف المسند" (2/ 626)، و"إتحاف المهرة" (6/ 378) فعزاه ابن حجر فيهما لـ "مسند أحمد" قال: ثنا عبد الصمد ثنا ملازم به- فيكون قول الهيثمي فيه نظر، فإنه -رحمه اللَّه- كثيرًا ما يعتمد على توثيق ابن حبان. (¬1) رواه مسلم (1983) في (الأشربة): باب تحريم تخليل الخمر من حديث أنس. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه الدارقطني (4/ 258) من طريق سعيد بن مسلمة عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وهذا إسناد ضعيف لضعف سعيد بن مسلمة هذا. (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 232)، وأبو داود (3710) في (الأشربة): باب صفة النبيذ،=

فصل [فتاوى في الأيمان وفي النذور]

فصل [فتاوى في الأيمان وفي النذور] [في طرف من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأيمان والنذور] (¬1). وسأله سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول اللَّه إني حلفت باللات والعزى، وإن العهد كان قريبًا، فقال: "قل لا إله إلا اللَّه وحده [لا شريك له] (¬2) ثلاثًا، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوّذ (¬3)، ولا تعد" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ = والنسائي (8/ 332) في (الأشربة): باب ما يجوز شربه من الأنبذة وما لا يجوز، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2679 - 2681)، والطبراني في "الكبير" (18/ 846 و 847 و 849 و 851)، وأبو يعلى (6825)، والدارمي (2/ 116) وابن أبي الدنيا في "ذم المسكر" (رقم 9)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 227)، وابن قانع في "معجم "الصحابة" (12/ رقم 1530) من طرق عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني، عن عبد اللَّه بن فيروز الديلمي عن أبيه به مطولًا ومختصرًا. وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات، وقد تحرف "السيباني" في بعض المصادر إلى "الشيباني". (تنبيه): الحديث في كل المصادر من مسند "فيروز" الصحابي -رضي اللَّه عنه-، وقد عزاه ابن القيم لمسند ابنه عبد اللَّه، وهو ليس صحابيًا، فلا أدري هل هو خطأ مطبعي أم سبق قلم من ابن القيم -رحمه اللَّه-؟ وقد عزاه ابن حجر في "إتحاف المهرة" (12/ 683 - 684) إلى ابن حبان، ولم أظفر به في مظانه من "الإحسان". (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) في المطبوع: "ثم تعوذ" والمثبت من (ك). (¬4) رواه أحمد (1/ 183 و 186 - 187)، والنسائي في "الصغرى" (7/ 7 - 8 و 8) في (الأيمان والنذور): باب الحلف باللات والعزى، وفي "الكبرى" (11545)، وفي "عمل اليوم والليلة" (989 و 990)، والبزار (1140)، وأبو يعلى (719 و 736)، وابن ماجه (2097) في (الكفارات): باب النهي أن يحلف بغير اللَّه، وابن حبان (4364 و 4365)، والدورقي في "مسند سعد" (57 و 58) من طريق إسرائيل ويونس ابن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد عن أبيه. قال البزار: "هذا الحديث لا نعلمه يُروى عن سعد إلا من هذا الوجه من رواية أبي إسحاق عن مصعب بن سعد عن أبيه، ولا نعلمه يروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجه صحيح أصح من هذا الوجه". أقول: وهو على شرط الشيخين، وقد ضعّفه شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "الإرواء" (2563)! بسبب اختلاط أبي إسحاق!! ولذا وضعه في "ضعيف سنن ابن ماجه" (455) و"ضعيف سنن النسائي" (242)!! وإسرائيل ممن روى عنه قبل الاختلاط، =

ولما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حَرّم اللَّه عليه الجنة وأوجب له النار" سألوه -صلى اللَّه عليه وسلم-: وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: "وإن كان قضيبًا من أراك" (¬1)، ذكره مسلم. وأعْتَمَ (¬2) رجل عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم رجع إلى أهله فوجد الصِّبْيَة قد ناموا فأتاه أهله بطعام فحلف لا يأكل من أجل الصبية، ثم بدا له فاكل فأتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتها وليكفر عن يمينه" (¬3)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- مالك بن نضلة (¬4) رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه أرأيت ابن عم لي آتيه أسأله، فلا يعطيني، ولا يصلني، ثم يحتاج [إليَّ] (¬5) فيأتيني فيسألني، وقد حلفتُ أن لا أعطيه ولا أصله؟ قال: فأمرني أن آتي الذي هو خير وأكفِّر عن يميني (¬6). وخرج سُويد بن حَنْظلة، ووائل بن حُجر رضي اللَّه عنهما يريدان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع قومهما فأخذ وائلًا عدوٌّ له فتحزَج القوم أن يحلفوا أنه أخوهم وحلف سويد أنه أخوه فخلوا سبيله، فسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك، فقال: "أنت ¬

_ = وروايته عنه غاية في الإتقان، للزومه إياه، وله شاهد من حديث أبي هريرة، ولفظه: "من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا اللَّه" رواه البخاري (4860 و 6107 و 6310 و 6650)، ومسلم (1647). (¬1) رواه مسلم (137) في (الإيمان): باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار، حديث أبي أمامة. (¬2) "دخل في العتمة، أي: ظلمته" (و). (¬3) رواه مسلم (1650) في (الأيمان): باب ندب من حلف يمينًا فرأى غيرها خيرًا منها، من حديث أبي هريرة. (¬4) كذا في (ك) ومصادر التخريج، وفي سائر النسخ: "فضالة". (¬5) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬6) هو جزء من حديث طويل رواه أحمد (4/ 136 - 137 و 5/ 53)، -ومن طريقه الطبراني في "الكبير" (19/ 622) -، والحميدي في "مسنده" (883)، والبخاري في "في أفعال العباد" (167) والنسائي في "الكبرى" (3/ 128 رقم 4/ 4730)، و"المجتبى" (7/ 11)، وابن ماجه (2109) في (الكفارات): باب الاستثناء في اليمين، عند النسائي ماجه مختصرًا على موطن الشاهد هنا، عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن عمرو الزعراء، عن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة. وهذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات.

أبرُّهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ويصوم ولا يفطر بنهار، ولا يستظل، ولا يتكلم فقال: "مروه فليستظل وليقعد وليتكلم وليتم صومه" (¬2)، ذكره البخاري. وفيه دليل على تفريق الصفقة في النذر، وأن من نذر قربة [وغير قربة] (¬3) صح النذر في القربة وبطل في غير القربة وهكذا الحكم في الوقف سواء. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: إني نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: "أوف بنذرك" (¬4)، متفق عليه. وقد احتج به من يرى جواز الاعتكاف بغير (¬5) صوم، ولا حجة فيه لأن في بعض ألفاظ الحديث: "أن أعتكف يومًا أو ليلة" (¬6)، ولم يأمره بالصوم إذ الاعتكاف المشروع إنما هو اعتكاف الصيام (¬7) فيحمل اللفظ المطلق على المشروع. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 79)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (7/ 89 رقم 6465)، وأبو داود (3256) في (الأيمان والنذور): باب المعاريض في اليمين، وابن ماجه (2119) في (الكفارات): باب من ورّى في يمينه، والطبراني في "الكبير" (6464 و 5646)، والحاكم (4/ 299)، وابن قانع (6/ رقم 614)، والبغوي (ق 141/ ب) كلاهما في "معجم الصحابة"، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (3/ رقم 3527، 3528، 3529، 3530) من طرق عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن جدته عن أبيها سويد بن حنظلة به. وهذا إسناد رجاله ثقات غير جدة إبراهيم هذه، فلم أتبين من هي إذ أن الحافظ ابن حجر لم يذكرها في فصول المبهمات لا في الرجال ولا في النساء!! وهذا عجيب. وسويد ترجمه الحافظ في "الإصابة" ونقل عن ابن عبد البر أنه قال: لا أعلم له غير هذا الحديث، وقال الأزدي: ما أعلم روى عنه إلا ابنته. ولم يتكلم الحافظ على إسناد حديثه هذا، وابنته أظنها من المجهولات من النساء، واللَّه أعلم، ثم وجدت الحافظ قد ذكرها في (المجهولات) من "تعجيل المنفعة". (¬2) رواه البخاري (6704) في (الأيمان والنذور): باب النذور فيما لا يملك وفي معصية، من حديث ابن عباس. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك) وسقط من سائر الأصول. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "من غير". (¬6) تابع ما قبله. (¬7) كذا في (ك) وفي سائر الأصول: "الصائم".

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن امرأة نذرت أن تمشي إلى بيت اللَّه الحرام (¬1) حافية غير مختمرة فأمرها أن تركب وتختمر وتصوم ثلاثة أيام (¬2)، ذكره أحمد. وفي "الصحيحين" عن عقبة [بن عامر] (¬3) رضي اللَّه عنه قال: نَذَرت أختي أن تمشي إلى بيت اللَّه الحرام (1) حافية فأمرتني أن استفتي لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاستفتيتُه، فقال: "لتمش ولتركب" (¬4). وعند الإمام أحمد أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة" (¬5). ونظر وهو يخطب إلى أعرابي قائم في الشمس فقال: "ما شأنك؟ " قال: نذرت أن لا أزال في الشمس حتى يفرغ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[من الخطبة] (¬6)، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس هذا نذرًا إنما النذر فيما ابتغي به وجه اللَّه" (¬7)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) في (ك): "البيت الحرام". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) رواه البخاري (1866) في (جزاء الصيد): باب من نذر المشي إلى الكعبة، ومسلم (1644) في (النذر): باب من نذر أن يمشي إلى الكعبة. (¬5) تقدم تخريجه. (¬6) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬7) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 211) من طريق ابن أبي الزناد، والفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 237) من طريق الدراوردي كلاهما عن عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. وعبد الرحمن بن الحارث فيه ضعف. والحديث لم يذكره الهيثمي في "المجمع" مع أنه من الزوائد. ورواه الطبراني في "الأوسط" (1432) من طريق مسلم بن عمرو الحذاء، عن عبد اللَّه ابن نافع عن عبد الرحمن بن أبي الزناد [عن أبيه، وقد سقطت من المطبوع، وهي مثبتة في الطبعة الأخرى (1410 - ط. دار الحرمين) وظاهر كلام الطبراني يدل عليها] عن عمرو بن شعيب به. قال الهيثمي (4/ 187): وفيه عبد اللَّه بن نافع المدني، وهو ضعيف. أقول: وباقي رواته لا بأس بهم، وفي عبد الرحمن بن أبي الزناد كلام، لكن رواية أهل المدينة عنه لا بأس بها وهذه منها. وعبد اللَّه هذا توبع، فقد أخرجه الخطيب في "تاريخ بغداد" (6/ 48) من طريق آدم بن أبي إياس عن عبد الرحمن بن أبي الزناد به، وفيه زيادة، وآدم هذا من الثقات، لكنه بغدادي، ورواية أهل بغداد عن ابن أبي الزناد فيها نظر كما قلت، لكن قد تكون هنا صحيحة لموافقتها لرواية عبد اللَّه بن نافع رغم ضعفه. =

ورأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيخًا يُهادى (¬1) بين ابنيه فقال: "ما بال هذا؟ " فقالوا: نذر أن يمشي فقال: "إن اللَّه لغني عن تعذيب هذا نفسه" وأمره أن يركب" (¬2)، متفق عليه. ونظر إلى رجلين مقترنين يمشيان إلى البيت فقال: "ما بال القِرَان؟ " قالوا: يا رسول اللَّه نذرنا أن نمشي إلى البيت مقترنين، فقال: "ليس هذا نذرًا إنما النذر فيما ابتغي به وجه اللَّه" (¬3)، ذكره أحمد. ¬

_ = والحديث له شواهد منها حديث ابن عباس في الرجل الذي نذر أن يقوم في الشمس، أخرجه البخاري (6704) في (الأيمان والنذور): باب النذر فيما لا يملك وفي معصية. وانظر: "مجمع الزوائد" (4/ 186 - 188) و"التلخيص الحبير" (4/ 175). (¬1) "يمشي بينهما معتمدًا عليهما من ضعفه وتمايله" (و). (¬2) رواه البخاري (1865) في (جزاء الصيد)، و (6701) في (الأيمان والنذور): باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، ومسلم (1642) في (النذر)، من حديث أنس بن مالك. (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 183): حدثنا الحسين بن محمد وسريج قالا: حدثنا ابن أبي الزناد عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. . فذكره، قال سريج في حديثه: "إنما النذر ما ابتغي به وجه اللَّه عز وجل". قال الهيثمي (4/ 186): رواه أحمد وفيه عبد الرحمن بن أبي الزناد وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون. وقال أحمد شاكر (11/ 6 رقم 6714): إسناده صحيح!! أقول: الحديث فيه علتان: الأولى: عبد الرحمن بن أبي الزناد، والذي يظهر من ترجمته أن رواية أهل المدينة عنه حسنة، ورواية غيرهم فيها ضعف، والراويان عنه هنا وهما: سريج ومحمد بن الحسين كلاهما بغدادي! ومما يؤكد أن عبد الرحمن ضعيف في رواية أهل المدينة عنه، أن الخطيب قد روى الحديث من طريق آدم بن أبي إياس عنه عن أبيه عن عمرو بن شعيب به. فجعل الحديث عن أبيه بدلًا من عبد الرحمن بن الحارث، وآدم أصله خراساني نشأ ببغداد. لكن ابن أبي الزناد متابع، فقد أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (1/ 237) من طريق الدراوردي عن عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب به، وهي متابعة قوية، لكن بقيت العلة الثانية في الحديث، وهي ضعف عبد الرحمن بن الحارث. وله شاهد من حديث محمد بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس قال: مر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على رجلين مقرونين حاجين نذرًا، وقال؛ "انزعا قرانكما" فقالا: يا رسول اللَّه إنه نذر فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انزعا قرانكما ثم حجا". رواه ابن عدي (6/ 2255)، والطبراني في "الأوسط" (7/ رقم 7481). =

[النيابة في فعل الطاعة]

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن أُمي توفيت وعليها نذر صيام فتوفيت قبل أن تقضيه، فقال: "ليصم عنها الولي" (¬1)، ذكره ابن ماجه. [النيابة في فعل الطاعة] وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬2). فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقال: يُصام عنه النذر والفرض. وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يصام عنه نذر، ولا فرض. وفصلت طائفة فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه، وهو الصحيح لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يُسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين فيقبل قضاء الولي له، كما يقضي دينه، وهذا محض الفقه وطرد هذا أنه لا يحج عنه، ولا يزكى عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر فأما المفطر من غير عذر أَصلًا، فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض اللَّه تعالى التي فرَّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي، فلا تنفع توبه أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض اللَّه تعالى التي فرَّط فيها حتى مات، واللَّه أعلم. ¬

_ = قال الهيثمي (4/ 186): وفيه محمد بن كريب وهو ضعيف، وفي ترجمته ذكره ابن عدي وبيّن ضعفه. فلعله يتقوى بهذا الشاهد، واللَّه أعلم. (¬1) رواه ابن ماجه (2133) في (الكفارات): باب من مات وعليه نذر: حدثنا محمد بن يحيى: حدثنا يحيى بن بكير: حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن دينار، عن جابر به. قال البوصيري (1/ 366): هذا إسناد ضعيف لضعف عبد اللَّه بن لهيعة، وله شاهد من حديث عبد اللَّه بن عباس، رواه أصحاب الكتب الستة. أقول: هو يشير إلى حديث ابن عباس الذي رواه البخاري (1953)، ومسلم (1148) أن امرأة أتت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: إن أمي ماتت وعليها صيام شهر فقال: "أرأيت لو كان عليها دين أكنت تقضينه؟ قالت: نعم. وانظر الحديث الآتي. (¬2) رواه البخاري (1952) في (الصوم): باب من مات وعليه صوم، ومسلم (1147) في (الصيام): باب قضاء الصيام عن الميت من حديث عائشة.

وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفِّ، فقال: "أوفي بنذرك" قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان يذبح فيه أهل الجاهلية، قال: "لصنم؟ " قالت: لا، قال: "لوثن؟ " قالت: لا، قال: "أوفي بنذرك" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني نذرت أن أنحر إبلًا ببُوانَةَ، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، قال: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء بالنذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك ابن آدم" (¬2)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3312) في (الأيمان والنذور): باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ومن طريقه البيهقي (10/ 77) من طريق مسدد: حدثنا الحارث بن عبيد أبو قدامة عن عبيد اللَّه بن الأخنس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به. قال شيخنا الألباني في "الإرواء" (8/ 214): إسناده حسن. أقول: لكن الحارث بن عبيد قال فيه أحمد: مضطرب الحديث، وقال ابن معين: ضعيف، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي يكتب حديثه ولا يحتج به، وحسن فيه القول ابن مهدي فقال: كان من شيوخنا وما رأيت إلا خيرًا. فالرجل إلى الضعف أقرب. والجزء الأول من الحديث له شاهد من حديث بريدة، رواه أحمد (5/ 353 و 356)، والترمذي (3699) في (المناقب): باب في مناقب عمر، وابن حبان (4386)، والبيهقي (10/ 77)، قال: حدثني عبد اللَّه بن بريدة عنه قال: خرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض مغازيه، فلما انصرف جاءت جارية سوداء فقالت: يا رسول اللَّه، إني كنت نذرت إن ردك اللَّه سالمًا أن أضرب بين يديك بالدف، وأتغنى فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كنت نذرت فاضربي وإلا فلا". قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب. والجزء الثاني يشهد له الحديث الآتي. (¬2) رواه أبو داود (3313) في (الأيمان والنذور): باب ما يؤمر به من الوفاء بالنذر، ومن طريقه البيهقي (10/ 83)، والطبراني في "الكبير" (1341) من طريق داود بن رشيد عن شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير: حدثني أبو قلابة قال: حدثني ثابت بن الضحاك، فذكره. وهذا إسناد صحيح رواته كلهم ثقات. ورواه النسائي (7/ 19)، وابن منده في "الإيمان" (637)، والطبراني في "الكبير" (1336)، وابن حبان (4352) من طريق آخر عن الأوزاعي مختصرًا وله طرق عديدة عن يحيى بألفاظ متغايرة، انظرها مجملة في "معرفة الصحابة" (1/ رقم 1332) لأبي نعيم، و"معجم الصحابة" (3/ 963 - 965) و"إتحاف المهرة" (3/ 16 - 17).

فصل [فتاوى في الجهاد]

فصل [فتاوى في الجهاد] [في طرف من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجهاد] (¬1). سئل عن قتال الأمراء الظلمة فقال: "لا ما أقاموا الصلاة"، وقال: "خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبونكم، ويصلُّون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: أفلا ننابذهم؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" ثم قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية اللَّه فليكره ما يأتي من معصية اللَّه، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعته" (¬2)، ذكره مسلم. وقال: "يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره، فقد بريء، ومن أنكر، فقد سَلِم، ولكن مَن رضي وتابع" قالوا: أفلا نقاتلهم، قال: "لا، ما صلوا" (¬3)، ذكره مسلم، وزاد أحمد: "ما صلوا الخمس" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقَّنا ويسألوننا حقَّهم؟ قال: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حملتم" (¬5)، ذكره الترمذي. وقال: "إنها ستكون بعدي أَثَرة وأمور تنكرونها". قالوا: فما تأمر من أدرك منا ذلك (¬6)؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون اللَّه الذي لكم" (¬7)، متفق عليه. ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬2) رواه مسلم (1855) في (الإمارة): باب خيار الأئمة وشرارهم، من حديث عوف بن مالك الأشجعي. (¬3) رواه مسلم (1854). (¬4) رواه أحمد (6/ 295) بإسناد صحيح. (¬5) رحم اللَّه ابن القيم، فالحديث رواه مسلم (1846) في (الإمارة): باب في طاعة الأمراء وإن منعوا الحقوق. وهو في "سنن الترمذي" (2204) في (الفتن): باب ما جاء ستكون فتن كقطع الليل المظلم، من حديث وائل بن حجر. (¬6) كذا في (ك) وفي سائر الأصول: "تأمرنا من أدرك ذلك". (¬7) رواه البخاري (3603) في (المناقب): باب علامات النبوة في الإسلام، و (7052) في (الفتن): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سترون بعدي أمورًا تنكرونها"، ومسلم (1843) في (الإمارة): باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول من حديث ابن مسعود.

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: دلّني على عمل يعدل الجهاد، قال: "لا أجده"، ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ " قال: ومن يستطيع ذلك، فقال: "مثل المجاهد في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات اللَّه لا يفتر من صيام، ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل اللَّه" (¬1)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ فقال: "مؤمن يجاهد بنفسه، وماله في سبيل اللَّه" قال: ثم من؟ قال: "رجل في شعب من الشعاب يتقي اللَّه ويدع الناس من شره" (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إن قُتلتُ في سبيل اللَّه، وأنا صابر محتسب مُقبل غير مدبر يُكفر اللَّه عنّي خطاياي؟ قال: "نعم"، [ثم قال]: "كيف قلت؟ " فردَّ عليه كما قال، فقال: "نعم، فكيف قلت؟ " فرد عليه القول أيضًا، فقال: أرأيت يا رسول اللَّه إن قُتلت في سبيل اللَّه صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر يُكفِّر اللَّه عني خطاياي؟ قال: "نعم إلا الدَّيْن، فإن جبريل سارَّني بذلك" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: "كَفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" (¬4)، ذكره النسائي. ¬

_ (¬1) هذا الحديث مركب من حديثين أحدهما عند البخاري (2785) في أول كتاب (الجهاد)، ومسلم (1878) في (الإمارة): باب فضل الشهادة في سبيل اللَّه، وكلاهما من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه البخاري (2786) في (الجهاد): باب أفضل الناس مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل اللَّه، و (6494) في (الرقاق): باب العزلة راحة من خلاط السوء، ومسلم (1888) في (الإمارة): باب فضل الجهاد والرباط، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬3) رواه أحمد (2/ 308 و 330) من طريقين عن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري عن عياض بن عبد اللَّه بن أبي سرج عن أبي هريرة به. قال الهيثمي في "المجمع" (4/ 128): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وكذا قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه اللَّه- في "تعليقه على المسند" (15/ 214)، والحديث بنحو هذا اللفظ ثابت في "صحيح مسلم" (1885)، من حديث أبي قتادة الأنصاري، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬4) رواه النسائي (4/ 99) في (الجنائز): باب الشهيد، -وعنه السَّرَقُسْطي في "غريب الحديث" (2/ ق 165) - وابن أبي عاصم في "الجهاد": (230) من طريقين عن صفوان بن =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الشهداء (¬1) أفضل عند اللَّه تعالى؟ قال: "الذين يلقون في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا (¬2) أولئك ينطلقون في الغُرف العُلى من الجنة ويضحك إليهم ربك تعالى، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا، فلا حساب عليه" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يُقاتل شجاعة، ويقاتل حَميّة، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل اللَّه؟ قال: "مَنْ قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه" (¬4)، متفق عليه. وعند أبي داود أن أعرابيًا أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل اللَّه؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه" (¬5). ¬

_ = عمرو عن راشد بن سعد عن بعض أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- به. أقول: راشد بن سعد هذا ثقة، إلا أنه كثير الإرسال، وقد مات بعد المئة، فهل سمع هذا من أحد من الصحابة؟ الأمر يحتمل ففي سنده نظر مع ثقة رجاله، وصححه شيخنا في "أحكام الجنائز" (ص 50)، وهو في "صحيح سنن النسائي" (رقم 1940). (¬1) في (ك): "الشهيد". (¬2) في (ك): "الذين". (¬3) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 287)، وسعيد بن منصور في "سننه" (2566)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (8/ 95)، وابن أبي عاصم في "الجهاد" (228)، وفي "الآحاد والمثاني" (1277)، وأبو يعلى في "مسنده" (6855)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (14/ رقم 2033، 2034)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" (986) كلهم من طريق إسماعيل بن عياش عن بحير بن سعد، عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن نعيم بن همار (ويقال: هيّار) به. قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 292): ورجال أحمد وأبي يعلى ثقات. أقول: إسماعيل بن عياش صدوق في روايته عن أهل بلده، وهذه منها، فالحديث حسن. وقد وقع في إسناده اختلاف ذكره البخاري في "تاريخه الكبير"، وقد أجاب عن هذا الاختلاف محقق كتاب "الجهاد"، فأفاد وأجاد، وأغنى عن الإعادة فجزاه اللَّه خيرًا. (¬4) رواه البخاري (7458) في (التوحيد): باب قول اللَّه تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}، ومسلم (1904) (150) في (الإمارة): باب من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه، من حديث أبي مرسى الأشعري. (¬5) رواه أبو داود (2517) في (الجهاد): باب من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا، بإسناد صحيح. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه الرجلُ يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي (¬1) عَرَضًا من أعراض الدنيا؟ فقال: "لا أَجَرَ له" فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عُدْ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنك لم تفهمه، فقال: يا رسول اللَّه رجل يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا، فقال: "لا أجر له" فقالوا للرجل: عُدْ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له الثالثة، فقال: "لا أجر له" (¬2)، ذكره أبو داود. وعند النسائي أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-[فقيل] (¬3) أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذِّكر [مَا لَه]؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا شَيءَ له" فأعادها ثلاث مرات يقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا شيء له"، ثم قال: "إن اللَّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا [له] وابتُغي به وجهه" (¬4). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة رضي اللَّه عنها فقالت: يا رسول اللَّه يغزو الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل اللَّه تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] الآية (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ = وهو في "صحيح البخاري" (2810) في (الجهاد): باب من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا و (3126) في (فرض الخمس): باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره؟ ومسلم (1904) (149) من حديث أبي موسى أيضًا ولفظهما: "الرجل يقاتل للمغنم، ويقاتل ليذكر ويقاتل ليُرى مكانه". (¬1) في (ك): "يبغي". (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين سقط من المطبوع وأثبتناه من (ك). (¬4) رواه النسائي (6/ 25) في (الجهاد): باب من غزا يلتمس الأجر والذكر، والطبراني في "الكبير" (7628) من طريق معاوية بن سلام، عن عكرمة بن عمار (في "معجم الطبراني": عن معاوية عن هود بن عطاء، وكأنه كان يرويه على الوجهين)، عن شداد بن عبد اللَّه أبي عمار عن أبي أمامة به. وحسّن إسناده الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" (4/ 372)، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (6/ 28): وإسناده جيد. وصححه شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (52). أقول: الحديث عزاه الحافظ في "الفتح" لأبي داود أيضًا، وليس هو فيه! وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬5) رواه أحمد (6/ 322)، وسعيد بن منصور في "السنن" (رقم 624)، وعبد الرزاق في "التفسير" (1/ 154 رقم 563)، والترمذي (3030) في (التفسير)؛ باب ومن سورة النساء، وأبو يعلى (6959)، والطبري (8/ 262 رقم 9241)، والطبراني (23/ رقم 609)،=

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الشُّهداء، فقال: "من قُتل في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات ¬

_ = والواحدي في "أسباب النزول" (ص 143) والحاكم (2/ 305 - 306) من طرق عن سفيان عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة فذكره. قال الترمذي: هذا حديث مرسل، ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مرسلًا أن أم سلمة قالت: كذا وكذا. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين إذا كان سمع مجاهد من أم سلمة، ووافقه الذهبي. أقول: لم أر من تعرض لذكر سماع مجاهد من أم سلمة، وهو قد مات سنة (102) أو (103)، وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر، وأم سلمة توفيت سنة (61) فهو قد أدركها إدراكًا بينًا، لكن إدراكه إياها ليس بالضرورة أنه سمع منها، فهو قد أدرك جماعة من الصحابة، ولم يسمع منهم كما في "جامع التحصيل"، وحكم الترمذي على الحديث بالإرسال، وتشكيك الحاكم في سماعه من أم سلمة يجعل في النفس ريبة، ولكنها تزول إذا علمنا أن مجاهدًا ليس بمدلس قال ابن حجر في "التهذيب" (10/ 44): "ولم أر من نسبه إلى التدليس" وقال في "الفتح" (6/ 194) عنه: "وليس بمدلس". ثم وجدت عبارة الترمذي في "تحفة الأشراف" (13/ 31) تختلف تمامًا عما هي في السنن حيث قال: غريب، وقد روى بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد أن أم سلمة قالت:. . .، فاللَّه أعلم. ثم وجدت عبارة الترمذي في "تفسير ابن كثير" (1/ 499) كما هي في "تحفة الأشراف"، ونقلها ابن حجر في "العجاب" (2/ 862) عنه هكذا: ". . . وقد رواه بعضهم عن الثوري. . . " مثله. ويؤكد ذلك أن جماهير الرواة عن سفيان (وهو ابن عيينة) -مثل أحمد وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد (عند الواحدي) وداود بن عمرو الضبي (عند أبي يعلى) قالوا عن مجاهد قال: قالت أم سلمة، عدا محمد بن أبي عمر فقال عن سفيان (عن مجاهد عن أم سلمة أنها قالت، وكذا جماهير الرواة عن سفيان الثوري، كما عند ابن جرير (7/ 486 رقم 8367 و 8/ 261 رقم 9236، 9237) وابن أبي حاتم (3/ رقم 5224، 5225) كلاهما في "التفسير"، والحاكم (2/ 305 - 306، 416)، وانظر تعليق العلامة أحمد شاكر على "تفسير ابن جرير" (8/ 262 - 263)، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 507) إلى عبد بن حميد وابن المنذر أيضًا. وقد وجدت شاهدًا لبعضه وهو: "وإنما لنا نصف الميراث"، ونزول الآية من حديث ابن عباس، أخرجه ابن أبي حاتم في "التفسير" (3/ رقم 5223) من طريق أحمد بن عبد الرحمن: حدثني أبي: حدثنا أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير عنه قال: أتت امرأة إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: يا رسول اللَّه للذكر مثل حظ الأنثيين، وشهادة امرأتين برجل. . . فأنزل اللَّه: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)}، وإسناده جيد.

فصل [فتاوى في الطب]

في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد" (¬1)، ذكره مسلم. فصل [فتاوى في الطب] [في ذكر طرف من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الطب] (¬2). سأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: يا رسول للَّه أنتداوى؟ قال: "نعم، فإن اللَّه لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء عَلِمَه مَنْ علمه وجهله من جهله" (¬3)، ذكره أحمد. وفي "السنن" أن الأعراب قالت: يا رسول اللَّه ألا نتداوى؟ قال: "نعم، عباد اللَّه تداووا، فإن اللَّه لم يضع داءً إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد" قالوا: يا رسول اللَّه، وما هو؟ قال: "الهرم" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل تردُّ من قدر اللَّه شيئًا؟ قال: "هي من قَدَر اللَّه" (¬5)، ذكره الترمذي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل يُغني الدواء شيئًا؟ فقال: "سبحان اللَّه وهل أنزل اللَّه تبارك وتعالى من داء في الأرض إلا جعل له شفاء" (¬6)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب من أمته فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" (¬7)، متفق عليه. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (1915) في (الإمارة): باب بيان الشهداء، من حديث أبي هريرة. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ط). (¬3) هو من حديث أسامة بن شريك، رواه أحمد (4/ 278): حدثنا مصعب بن سلام: حدثنا الأجلح عن زياد بن علاقة عنه. ومصعب هذا ضعفه ابن معين، وابن المديني وأبو داود وابن حبان والبزار والساجي ومشّاه آخرون، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق له أوهام. أقول: وقد رواه الثقات من حديث أسامة بن شريك باللفظ الذي ذكره المؤلف بعده. (¬4) تقدم تخريجه مفصلًا. (¬5) تقدم. (¬6) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 371): حدثنا إسحاق بن يوسف: حدثنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف، عن ذكوان، عن رجل من الأنصار به. قال الهيثمي (5/ 84): ورجاله رجال الصحيح. (¬7) رواه البخاري (5705) في (الطب): باب من اكتوى أو كوى غيره، وفضل من لم يكتو،=

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آل عمرو بن حزم فقالو!: إنه كانت عندنا رُقية نَرقي بها من العقرب، وإنك نهيتَ عن الرُّقى (¬1)؟ قال: فعرضوا عليه، فقال: "ما أرى بأسًا من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" (¬2)، ذكره مسلم. واستفتاه عثمان بن أبي العاص -رضي اللَّه عنه- وشكا إليه وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال: "ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقُل: باسم اللَّه ثلاثًا، وقل سبع مرات، أعوذ بعزة اللَّه وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر" (¬3)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، الرجل يُبتلى على حَسَب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتُلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، فما يزال البلاء بالرجل حتى يمشي على وجه الأرض، وما عليه خطيئة" (¬4)، ذكره أحمد وصححه الترمذي. ¬

_ = و (5752) باب من لم يَرْقِ، و (6472) في (الرقاق): باب: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}، و (6541) باب يدخل الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، ومسلم (220) في (الإيمان): باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب، ولا عذاب من حديث ابن عباس. (¬1) بعدها في سائر الأصول: "قال: اعرضوا علي رقاكم"، وهي ساقطة من (ك) و"صحيح مسلم" وهو الصواب، وهي موجودة في حديث آخر عند مسلم (2200) عن عوف بن مالك الأشجعي. (¬2) رواه مسلم (2199) (63) في (السلام): باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة، من حديث جابر. (¬3) رواه مسلم (2202) في (السلام): باب استحباب وضع يده على موضع الألم مع الدعاء، من حديث عثمان بن أبي العاص. (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 172 و 174 و 180 و 185)، والطيالسي (215)، وابن أبي شيبة (3/ 233)، وعبد بن حميد (146) والنسائي في "الكبرى" (ق 98)، والترمذي (2403) في (الزهد): باب ما جاء في الصبر على البلاء، وابن ماجه (4023) في (الزهد): باب الصبر على البلاء، والدارمي (2/ 320)، وأبو يعلى (830)، والبزار في "مسنده" (1154 و 1155)، وأبو يعلى (830)، وابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" (رقم 3)، والدورقي في "مسند سعد" (41 و 42)، وابن سعد في "الطبقات" (2/ 209 - 210)، وابن حبان (2900 و 2901 و 2921)، والحاكم (1/ 41)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (3/ 372 - 373)، وفي "شعب الإيمان" (9775)، والبغوي (1434)، وأبو العرب التميمي في "المحن" (ص 57، 58) من طرق عن عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد عن أبيه به. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. =

وذكر ابن ماجه أنه سئل أيّ الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء"، [قال] قلت: يا رسول اللَّه، ثم من؟ قال: "ثم الصالحون إنَّ كان أحدهم ليبتلى بالفَقْر حتى ما يجد إلا العباءة تحويه، وإن كان أحدهم ليفرح بالبَلاء، كما يفرح أحدكم بالعافية" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: "كفارات" قال أبو سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: وإن قلَّت؟ قال: "وإن شوكة فما فوقها" فدعا أبو سعيد على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عن عمرة، ولا جهاد في سبيل اللَّه، ولا صلاة مكتوبة في جماعة فما مسَّه إنسان إلا وجد حرَّه حتى مات (¬2)، ذكره أحمد. ¬

_ = أقول: هو حسن لحال عاصم بن بهدلة هذا. وقد أخرجه الحاكم بلفظ أخصر من هذا من طريق خالد بن عبد اللَّه عن العلاء بن المسيب عن مصعب به، وصححه على شرط الشيخين. لكن رواه ابن حبان (2920) من طريق جرير بن عبد الحميد عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن سعد. والمسيب بن رافع لم يسمع من سعد. أقول: وأظن أن إسناد الحاكم أصح لأن خالد بن عبد اللَّه الطحان أوثق من جرير بن عبد الحميد حيث أن جريرًا أخطأ في أحاديث آخر عمره، كما في "التقريب". وقد رواه مختصرًا أيضًا البزار (1150) من طريق سماك بن حرب عن مصعب به. (¬1) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (510)، وابن ماجه (4024) في (الفتن): باب الصبر على البلاء، وأبو يعلى (1045)، وابن سعد (2/ 208)، وابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" (رقم 1)، والطحاوي في "المشكل" (2210)، وأبو العرب التميمي في "المحن": (ص 286 - 287)، والحاكم (1/ 40 و 4/ 307)، والبيهقي (3/ 372)، من طرق عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري به. قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بهشام بن سعد ثم له شواهد كثيرة. وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 302): هذا إسناد صحيح رجاله ثقات. ورواه أحمد (3/ 94)، وعبد بن حميد (960) من طريق عبد الرزاق -وهو في "مصنفه" (20626) -، عن معمر عن زيد بن أسلم، عن رجل، عن أبي سعيد الخدري به. وهذا إسناد فيه جهالة، ولكنه لا يضر فالرجل المبهم هو عطاء بن يسار كما صرّح به هناك، وما بين المعقوفتين من (ك). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (3/ 23)، وأبو يعلى (995)، وابن حبان (2928)، وابن أبي الدنيا في "المرض والكفارات" (رقم 10)، والحاكم (4/ 308)، والبيهقي في "الشعب" =

وقال أسامة -رضي اللَّه عنه-: شهدت الأعراب يسألون النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أعلينا حَرَج في كذا؟ أعلينا حرج في كذا؟ فقال: "عبادَ اللَّه وضع اللَّه تعالى الحرج إلا من اقترض من عِرْض أخيه شيئًا فذلك هو الحرج" فقالوا: يا رسول اللَّه هل علينا من جناح أن نتداوى؟ قال: تداووا عباد اللَّه، فإن اللَّه لم يضع داءً إلا وضع معه شفاء إلا الهرم"، قالوا: يا رسول اللَّه ما خير ما أُعطى العبد؟ قال: حسن الخلق" (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرُّقى، فقال: "اعرضوا عليّ رقاكم"، ثم قال: "لا بأس بما ليس فيه شرك" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- طبيب عن ضفدع يجعلها في دواء فنهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتلها (¬3)، ذكره أهل "السنن". وشكا إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهما ¬

_ = (7/ رقم 9971) كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن زينب بن كعب به. وقال ابن حبان: الرجل هو أُبيّ بن كعب: وفي "المسند" وغيره: "فدعا أُبيّ على نفسه". قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه! وقال الهيثمي (2/ 301 - 302): "رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله ثقات". أقول: زينب هذه ليست على شرط الشيخين، وهي زوجة أبي سعيد الخدري وأخت أبي إسحاق بن كعب بن عجرة روى عنها سعد بن إسحاق، وسليمان بن محمد ابنا كعب بن عجرة، وهما ثقتان، وذكرها ابن حبان في "الثقات" وعدّها بعضهم في الصحابة، فهي لا بأس بها، فإسناده حسن، وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" (2/ 698) إلى مسدد والطبراني في "الأوسط". (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه مسلم (2200) في "السلام": باب لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك، من حديث عوف بن مالك الأشجعي. (¬3) رواه أبو داود (3871) في (الطب): باب في الأدوية المكروهة، و (5269) في (الأدب): باب في قتل الضفدع، والنسائي (7/ 210) في (الصيد والذبائح): باب الضفدع، وأحمد في "مسنده" (3/ 453 و 499)، والطيالسي (1481 - منحة)، والدارمي (2/ 15 - 16)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (10/ رقم 1113، 1114)، والحاكم (4/ 411 و 445)، والبيهقي (9/ 258، 318)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ رقم 4596)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (5/ 199)، من طرق عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن خالد، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الرحمن بن عثمان به. قال الحاكم في الموطن الأول: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال البيهقي: وأقوى ما ورد في الضفدع. . . فذكره. =

القمل فأفتاهما بلبس قميص الحرير (¬1)، ذكره البخاري في "صحيحه". وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن من تطبَّب، ولم يُعرف منه طب فهو ضامن (¬2)، وهو يدل بمفهومه على أنه إذا كان طبيبًا وأخطأ في تطبيبه، فلا ضمانَ عليه. وشكا إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- المشاة في طريق الحج تعبهم وضعفهم عن المشي، فقال لهم: "استعينوا بالنَّسل (¬3) فإنه يقطع عنكم الأرض وتخِفُّون له" قالوا: ففعلنا فخففنا له (¬4)، والنَّسل العدو مع تقارب الخطا، ذكر أبو مسعود (¬5) الدمشقي هذا الحديث في مسلم وليس فيه، وإنما هو زيادة في حديث جابر رضي اللَّه عنه الطويل الذي رواه مسلم في صفة حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6) وإسناده حسن. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أسماء بنت عميس -رضي اللَّه عنها-، فقالت: يا رسول اللَّه: إن ولد جعفر تُسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: "نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" (¬7)، ذكره أحمد. ¬

_ = أقول: رواة الحديث ثقات، غير سعيد بن خالد هذا، وهو حليف بني زهرة، فقد ترجمه ابن حجر في "التهذيب" تبعًا للمزي، ونقل عن النسائي قوله: ضعيف، وقال الدارقطني: مدني يحتج به، وذكر ابن حبان في "الثقات". قال ابن حجر: قال النسائي في "الجرح والتعديل": ثقة، فينظر في أين قال: إنه ضعيف، ثم ذكر ابن حجر مُعَلَّقًا في "صحيح البخاري"، وبين أنه موصول في "طبقات ابن سعد" من طريق سعيد بن خالد هذا. أقول: وصَدَقَ الحافظ ابن حجر -رحمه اللَّه- فإنه ليس مترجمًا في "ضعفاء النسائي" المطبوع. فالرجل لا بأس به، ولذلك ترجمه الذهبي في "الميزان"، وقال: صدوق، ضعفه النسائي. وقد عرفت ما في تضعيف النسائي فالحديث جيّد، واللَّه أعلم. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) "النسل: هو الإسراع في المشي"، كما في "النهاية" (5/ 49). (¬4) رواه أبو يعلى (1880)، وابن خزيمة (2536 و 2537)، وابن حبان (2706)، والحاكم (1/ 443)، والبيهقي (5/ 256) من طريقين عن جعفر بن محمد، عن أبيه عن جابر به. وهو جزء من حديثه في خروج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى مكة عام الفتح. وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. (¬5) كذا في (ك) وهو الصواب، وفي سائر الأصول: "ابن مسعود"، ولا وجود لهذا الحديث في كتابه المطبوع: "الأجوبة عما أشكل الدارقطني على صحيح مسلم" وأصوله ناقصة. (¬6) تقدم تخريجه. (¬7) رواه أحمد (6/ 438)، وابن أبي شيبة (5/ 447)، والحميدي (330)، والنسائي (ق 99)، =

وعند مالك عن حميد بن قيس المكي قال: دخل عليّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: "مالي أراهما ضارِعَيْن؟ " (¬1)، فقالت: إنه لتسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك فقال: "استرقوا لهما، فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن النُّشرة، فقال: "هي من عمل الشيطان" (¬3)، ذكره أحمد وأبو داود. ¬

_ = والترمذي (2064) في (الطب): باب ما جاء في الرقية من العين، وابن ماجه (3510) في (الطب): باب من استرقى من العين من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عروة بن عامر (في "سنن ابن ماجه" عن عروة عن عامر، وهو خطأ) عن عبيد بن رفاعة أن أسماء بنت عميس فذكره، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. أقول: رواته رواة الصحيح غير عروة هذا، وهو ابن عامر القرشي الجهني، روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات" قال الحافظ ابن حجر في "التهذيب": أثبت غير واحد له الصحبة، وشك فيه بعضهم وروايته عن بعض الصحابة لا تمنع أن يكون صحابيًا. وذكره في "الإصابة" في القسم الأول، وقال: مختلف في صحبته، وذكر اختلاف العلماء فيه ولم يجزم بشيء. وعلى كل حال فهذا مما يقوي أمره، واللَّه أعلم. قال (و): "فنظرة عجلى من العين تورث حبًا يكمن حتى الموت، وبغضًا شرهًا مقتًا لا يعيش إلا على الدم المسفوح، أما ما يهول به العوام من قدر للعين أخرى فهي أوهام"!! قلت: العين حق، ولها أثر صدق، واستوعب ابن كثير -رحمه اللَّه- في "تفسيره" في آخر سورة القلم الأحاديث الواردة فيها، فانظره تجد الشفاء والكفاية. (¬1) "الضارع: النحيف الضاري الجسم" (و). (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 939) عن حميد بن قيس به معضلًا. ورواه ابن وهب في "جامعه" عن مالك، عن حميد بن قيس، عن عكرمة مرسلًا، وشاهده ما قبله. (¬3) رواه عبد الرزاق (19762)، ومن طريقه أحمد في "مسنده" (3/ 294)، وأبو داود (3868) في (الطب): باب في النشرة، والبيهقي (9/ 351) عن عقيل بن معقل، سمعت وهب بن منبه يحدث عن جابر بن عبد اللَّه به. هكذا وقع في جميع المصادر (وهب بن منبه)، وعند عبد الرزاق (همام بن منبه) مع أنهم كلهم رووه من طريق عبد الرزاق! والصواب (وهب) ولا رواية لهمام عن جابر في "تحفة الأشراف" ولا في "إتحاف المهرة"، وهذا إسناد حسن، عقيل هذا صدوق، ووهب وأخوه همام من الثقات. لكن قال البيهقي: "وروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا، وهو مع إرساله أصح! " فلا أدري لماذا رجح الإرسال. =

فصل [فتاوى في الطيرة والفأل وفي الاستصلاح]

والنشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل سحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، فإن السحر من عمله فيتقرب إليه الناشر والمنتشر (¬1) بما يحب فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز، بل مستحب وعلى النوع المذموم يحمل قول الحسن: "لا يحل السحر إلا ساحر". فصل [فتاوى في الطيرة والفأل وفي الاستصلاح] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الطاعون، فقال: "عذابًا كان يبعثه اللَّه على مَنْ كان قبلكم فجعله اللَّه رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد ويكون فيه فيمكث لا يخرج صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب (¬2) اللَّه له إلا كان له مثل أجر شهيد" (¬3)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- فروة بن مُسَيك -رضي اللَّه عنه- فقال: يا رسول اللَّه إنَا بأرض يُقال لها: أَبْيَن (¬4)، وهي ريفنا وميرتنا وهي وبية (¬5)، أو قال: وباها شديد، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دعها عنك، فإن من القرف (¬6) التلف (¬7) ". ¬

_ = وقد وجدت له شاهدًا من حديث أنس بن مالك، رواه البزار والطبراني في "الأوسط". قال الهيثمي (5/ 102): ورجال البزار رجال الصحيح. (¬1) في (ك): "الماشر والممتشر". (¬2) "أية قوة إذن تكون؟ وكيف يخشى سحرًا أو ساحرًا أو نعيًا أو باغيًا" (و). وفي "المسند": "هي أرض رفقتنا وميرتنا وإنها وبئة". (¬3) رواه البخاري (3474) في (الأنبياء): باب (54)، و (5734) في (الطب): باب أجر الصابر على الطاعون، و (6619) في (القدر): باب {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} من حديث عائشة. (¬4) "بفتح الهمزة وكسرها: مخلاف باليمن" (و). (¬5) "أصل الميرة: الطعام، ونحوه مما يجلب للبيع ووبية: موبوءة، والوبا: الطاعون والمرض العام" (و)، وفي "المسند": "هي أرض رفقتنا وميرتنا وإنها وبئة". (¬6) "القرف: ملابسة الداء ومداناة المريض، والتلف الهلاك، وهذا حق صريح" (و). (¬7) رواه عبد الرزاق في "مصنفه" (20162)، ومن طريقه رواه أحمد (3/ 451)، وأبو داود =

وفيه دليل على نوع شريف من أنواع الطب، وهو استصلاح التربة والهواء، كما ينبغي استصلاح الماء، والغذاء، فإن بصلاح هذه الأربعة يكون صلاح البدن واعتداله. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا طِيَرة (¬1)، وخيرها الفأل"، قيل: يا رسول اللَّه، وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" (¬2)، متفق عليه. وفي لفظ لهما: "لا عَدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل"، قالوا: وما الفأل؟ قال: "كلمة طيبة" (¬3). ولما قال: "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة" (¬4)، قال له رجل: أرأيت البعير يكون به الجرب فتجرب الإبل؟ قال: "ذاك القدر فمن أجرب الأول؟ " (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ = (3923) في (الطب): باب في الطيرة، وابن قانع في "معجم الصحابة" (12/ رقم 1546)، والرازي في "تاريخ صنعاء" (144) عن معمر، عن يحيى وفي مطبوع ابن قانع (معمر بن يحيى، فليصوب) بن عبد اللَّه بن بَحِير قال: أخبرني مَنْ سمع مِن فروة بن مسيك به. أقول: يحيى هذا لم يرو عنه إلا معمر، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فهو في عداد المجاهيل، وفيه رجل مبهم، لكن قال المزي في "تحفة الأشراف" (8/ 257): رواه عبيد اللَّه بن معاذ الصنعاني، عن معمر عن يحيى بن عبد اللَّه عن فروة. قلت: أخرج روايته هذه أبو نعيم في "معرفة الصحابة" (4/ رقم 5657). وهذا لا يعني شيئًا؛ لأنه بيّن في الرواية الأولى أن بينه وبين فروة رجلًا، ولم يسمّه، وعلى كل حال فيحيى مجهول كما سبق. (¬1) "التشاؤم بالشيء" (و). (¬2) رواه البخاري (5754) في (الطب): باب الطيرة، و (5755) باب الفأل، ومسلم (2223) في (السلام): باب الطيرة والفأل، من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه البخاري (5756) في (الطب): باب الفأل، و (5776) في (الطب): باب لا عدوى، ومسلم (2224)، من حديث أنس. (¬4) "هامة: طائر من طير الليل، وهو الصدى، وهو طائر يطير بالليل، وكانت الجاهلية تزعم أنه يخرج من رأس المقتول، أو أن عظام الميت تصير هامة، وتظل هذه الهامة تصيح حتى يؤخذ بثأر القتيل" (و). (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 24 - 25)، وابن ماجه (86) في (المقدمة): باب في القدر، و (3540) في (الطب): باب من كان يعجبه الفأل، ويكره الطيرة، من طريق أبي جناب الكلبي، عن أبيه عن ابن عمر به. قال البوصيري في "زوائده" (1/ 53): هذا إسناد ضعيف لضعف يحيى بن أبي حيّة =

ولا حجة في هذا لمن أنكر الأسباب، بل فيه إثبات القدر ورد الأسباب كلها إلى الفاعل الأول إذ لو كان كل سبب مستندًا إلى سبب قبله لا إلى غاية للزم التسلسل في الأسباب، وهو ممتنع فقطع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- التسلسل بقوله: "فمن أعدى الأول؟ " (¬1)، إذ لو كان الأول قد جرب بالعدوى، والذي قبله كذلك لا إلى غاية لزم التسلسل الممتنع. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة، فقالت: يا رسول اللَّه دار سكنَّاها والعددُ كثير [والمال]، وافر فقلَّ العدد وذهب المال، فقال: "دعوها ذميمة" (¬2)، ذكره مالك مرسلًا. وهذا موافق لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كان الشؤم في شيء فهو في ثلاثة: في الفرس و [في] الدار والمرأة" (¬3)، وهو إثبات لنوع خفي من الأسباب، ولا يطَّلع عليه أكثر ¬

_ = (أبو جناب الكلبي)، ولكونه يروي عن أبيه بالعنعنة، فإنه كان يدلس. لكن يشهد له حديث أبي هريرة الآتي فهو صحيح دون قوله: "ذاك القدر"، انظر: "السلسلة الصحيحة" (782). (¬1) رواه البخاري (5717) في (الطب): باب لا صفر، و (5770) باب لا هامة، و (5775) باب لا عدوى، ومسلم (2220) في (السلام): باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، من حديث أبي هريرة. (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 972) وعنه ابن وهب في "جامعه" (رقم 647) عن يحيى بن سعيد أنه قال فذكره مرسلًا أو معضلًا. وقد رواه موصولًا أبو داود (3924) في (الطب): باب في الطيرة، والبخاري في "الأدب المفرد" (944) باب الشؤم في الفرس، والبيهقي (8/ 140) من طريق بشر بن عمر الزهراني قال: حدثني عكرمة بن عمار، عن إسحاق بن عبد اللَّه بن أبى طلحة عن أنس فذكره. قال البخاري: في إسناده نظر. قال شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- في "السلسلة الصحيحة" (790) معقبًا على كلام البخاري: "ووجهه أن عكرمة بن عمار قد تكلَّم فيه بعض المتقدمين من قبل حفظه، وقد وثقه جمع واحتج به مسلم في "صحيحه" وقال الحافظ في "التقريب": "صدوق يغلط، وفي روايته عن يحيى بن أبي كثير اضطراب" قلت: وهذه ليس منها فالحديث على أقل الدرجات حسن الإسناد، فإن بقية رجاله ثقات أثبات". قلت: وله شواهد أخر انظرها عند ابن وهب في "الجامع" (رقم 648، 649)، وابن جرير في "التهذيب" (70)، والطبراني في "الكبير" (5639) و"مصنف عبد الرزاق" (10/ 411) و"سنن البيهقي" (8/ 140). وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه البخاري (5094) في (النكاح): باب ما يُتقى من شؤم المرأة، ومسلم (2225)

الناس، ولا يعلم إلا بعد وقوع مسببه، فإن من الأسباب ما يعلم سببه (¬1) قبل وقوع مسببه وهي الأسباب الظاهرة، ومنها ما لا يعلم سببه (4) إلا بعد وقوع مسببه وهي الأسباب الخفية، ومنه قول الناس: "فلان مشؤوم الطلعة ومدور الكعب" ونحوه فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أشار إلى هذا النوع ولم يبطله، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كان الشؤم في شيء فهو في ثلاثة" تحقيق لحصول الشؤم فيها (¬2)، وليس نفيًا لحصوله من غيرها كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كان في شيء تتداوون به شفاء ففي شرطة مِحْجم (¬3)، أو شربة عسل أو لذعة بنار، ولا أُحبُّ الكيّ" (¬4)، ذكره البخاري. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من ردَّته الطيرة (¬5) من حاجته، فقد أشرك"، قالوا: يا رسول اللَّه، وما كفارة ذلك؟ قال: "أن يقول: اللهم لا طير إلا طَيْرك، ولا خير إلا خيرك" (¬6)، ذكره أحمد. ¬

_ = (18) في (السلام): باب الطيرة والفأل من حديث ابن عمر بلفظ: "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة". ورواه أيضًا البخاري (2858) في (الجهاد): باب ما يذكر من شؤم الفرس، من حديث ابن عمر بلفظ: "إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار"، ورواه البخاري (2859 و 5059) من حديث سهل بن سعد الساعدي نحوه. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) في المكانين في المطبوع: "سببيته". (¬2) "إنما هو لبيان قيمة هذه الأشياء التي هي كالفلك من حياته، وإلا فلو كان الحديث يقصد بيان أن فيها شؤمًا لنفر كل مسلم من المرأة، أي الأسرة: والدار: أي السكن، والفرس: أي آلة الجهاد، أي: لنفر من أعظم مقومات الحياة الفردية والاجتماعية، بل أعظم مقومات الأمة بعد إيمانها القويم" (و). (¬3) "آلة الحجامة التي يجتمع فيها دم الحجامة عند المص، أو مشرط الحجام" (و). (¬4) رواه البخاري (5983) في (الطب): باب الدواء بالعسل، و (5702) باب الحجامة من الشقيقة والصداع، و (5704) باب من اكتوى أو كوى غيره، ومسلم (2205) بعد (71) في (السلام): باب لكل داء دواء من حديث جابر. (¬5) "في هذا تستعلن روح الإسلام التفائلية أو الإيجابية التي تتجاوب مع نعم اللَّه حمدًا ومحبة، وتسير في الحياة عملًا طيبًا، وقوة طيبة" (و). (¬6) رواه أحمد في "مسنده" (2/ 220): حدثنا حسن: حدثنا ابن لهيعة، عن ابن هبيرة، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد اللَّه بن عمرو به، وآخره: "ولا إله غيرك". قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 105): رواه أحمد والطبراني وفيه ابن لهيعة وحديثه حسن وبقية رجاله ثقات. أقول: ابن لهيعة حديثه صحيح إذا روى عنه أحد العبادلة ومن يلحق بهم، وقد روى =

فصول من فتاويه -صلى الله عليه وسلم- في أبواب متفرقة

فصول من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أبواب متفرقة [التوبة] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أصبت ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل لك من أم؟ " قال: لا، قال: "فهل لك من خالة؟ " قال: نعم، قال: "فبرها" (¬1)، ذكره الترمذي وصححه. وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: كان رجلٌ من الأنصار أسْلَم، ثم ارتد ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: هل له من توبة؟ فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، [آل عمران: 86 - 89] فأرسل إليه فأسلم (¬2)، ذكره النسائي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل أوجب فقال: "اعتقوا عنه" (¬3)، ذكره أحمد وقوله: أوجب، أي: فعل ما لم يستوجب به النار. [حق الطريق] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَتَأتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: ¬

_ = هذا الحديث عنه عبد اللَّه بن وهب في "جامعه" (رقم 655)، ومن طريقه ابن السني في "عمل اليوم والليلة" (رقم 292)، فصح الحديث بذلك والحمد للَّه. وله طرق عن عبد اللَّه بن عمرو قوله، أخرجه ابن وهب في "جامعه" (659، 660)، وأحمد في "الزهد" (ص 238)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 21)، ولعله أشبه. (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه أحمد (1/ 247)، والنسائي (7/ 107) في (تحريم الدم): باب توبة المرتد، و"السنن الكبرى": كتاب (التفسير) المفرد (رقم 85) والطبري في "تفسيره" (7360 و 7362)، وابن حبان (4477)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (2/ رقم 3789)، والحاكم (2/ 142) و (4/ 366)، والبيهقي (8/ 195)، والواحدي في "أسباب النزول" (ص 109) من طرق عن داود بن أبي هند عن عكرمة، عن ابن عباس، وصححه ابن حبان والحاكم، ووافقه الذهبي، وجوّد ابن كثير (2/ 58، 59) إسناده. قال ابن حجر في "العجاب" (1/ 709): "وأخرجه البزار عن عبد اللَّه بن بزيع عن يزيد بن زريع عن داود، فقال في أوله: "إلا أن قومًا أسلموا ثم ارتدوا، ثم أسلموا ثم ارتدوا، فأرسلوا إلى قومهم يسألون. .، فذكره. والبزار كان يحدث من حفظه فيهم، والمحفوظ ما رواه ابن جرير ومن واثقه" ونحوه في "الدر المنثور" (2/ 258) (¬3) تقدم تخريجه.

[الكذب]

29] , قال: "كانوا يخذفون أهل الطريق ويسخرون منهم وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه" (¬1)، ذكره أحمد. [الكذب] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيكون المؤمن جَبَانًا؟ " قال: نعم. قالوا: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: نعم قالوا: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: "لا" (¬2)، ذكره مالك. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن لي ضرَّة فهل عليَّ جُناح إن تشبَّعتُ من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال: "المتشبِّع بما (¬3) لم يُعط كلابس ثوبي زور" (¬4)، متفق عليه. وفي لفظ: أقول إن زوجي أعطاني ما لم يُعطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل، فقال: هل أكذب على امرأتي؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا خَيَر في الكذب"، فقال: يا رسول اللَّه أعدها وأقول لها؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا جناح" (¬5)، ذكره مالك. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (6/ 341 و 424)، والترمذي (3203) في (التفسير): باب ومن سورة العنكبوت، والطبري (10/ 136)، وابن أبي حاتم (9/ رقم 17271) كلاهما في "التفسير"، والطبراني في "المعجم الكبير" (24/ 1000 و 1001 و 1002)، والحاكم (2/ 409) من طرق عن سماك بن حرب: حدثنا أبو صالح باذام مولى أم هانئ عن أم هانئ به. قال الترمذي: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة سماك. أقول: باذام هذا ضعيف، اتفقت كلمة أهل الفن على ذلك، إلا رواية عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس! وتوثيق العجلي! وقد طعن فيه بعضهم جدًا، قال ابن عدي: ولم أر أحدًا من المتقدمين رضيه. (¬2) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 990) عن صفوان بن سُليم به، وهذا معضل. قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسندًا من وجه ثابت، وهو حديث حسن مرسل. (¬3) "المتكثر بأكثر مما عنده يحتمل بذلك كالذي يرى أنه شبعان، وليس كذلك، ومن فعله فإنما يسخر من نفسه، وهو من أفعال ذوي الزور، "نهاية" (و). (¬4) رواه البخاري (5219) في (النكاح): باب المتشبع بما لم ينل وما ينهى عن افتخار الضرة، ومسلم (2130) في (اللباس والزينة): باب النهي عن التزوير في اللباس، من حديث أسماء بنت أبي بكر. وقول ابن القيم بعده: وفي لفظ: أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني هو عند مسلم. (¬5) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 989) عن صفوان بن سُليم به. وهذا معضل. قال ابن عبد البر: لا أحفظه مسندًا بوجه من الوجوه.

[الشرك وما يلحق به]

[الشرك وما يلحق به] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقيل له: كيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول اللَّه؟ فقال: "قولوا اللهم إنا نعوذ بكأن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم" (¬1)، ذكره أحمد. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر"، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللَّه؟ قال: الرياء، يقول اللَّه تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً" (¬2). ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه أحمد (4/ 403)، والطبراني في "الأوسط" (4/ رقم 3503 - ط. الطحان) عن عبد اللَّه بن نمير: حدثنا عبد الملك ابن أبي سليمان العرزمي، عن أبي علي رجل من بني كاهل عن أبي موسى الأشعري به، وعزاه المنذري في "الترغيب والترهيب" للطبراني أيضًا وقال: ورواته إلى أبي علي محتج بهم في "الصحيح"، وأبو علي وثقه ابن حبان ولم أر أحدًا جرحه، ونحوه قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 223 - 224). وذكره شيخنا الألباني في "صحيح الترغيب" محسنًا له. أقول: أبو علي هذا لم يرو عنه إلا عبد الملك فقط، فهو في عداد المجاهيل. وله شاهد من لفظه، رواه أبو يعلى (58 و 59 و 60 و 61) من طرق عن ليث بن أبي سليم، عن أبي محمد ثم اختلف: ففي (58) قال: عن حذيفة عن أبي بكر -إما حضر ذلك حذيفة من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وإما أخبره أبو بكر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي (59) قال: عن معقل بن يسار عن أبي بكر، وفي (60 و 61) قال: عن معقل بن يسار قال: شهدت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أبي بكر أو قال: حدثني أبو بكر. قال الهيثمي في "المجمع" (10/ 244): رواه أبو يعلى من رواية ليث بن أبي سليم عن أبي محمد. . . وليث مدلس، وأبو محمد إن كان هو الذي روى عن ابن مسعود أو الذي روى عن عثمان بن عفان، فقد وثقه ابن حبان وإن كان غيرهما فلم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح. أقول: ليث مدلس، وضعيف كذلك، وأصح الطرق عن ليث رفعه دون واسطة، كما عند أبي محمد الضراب في "ذم الرياء" (رقم 18)، وله شواهد عديدة، انظرها في التعليق على "زهد وكيع" (2/ 577 - 579). (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (5/ 428) من طريق يونس، عن الليث بن سعد، عن يزيد بن الهاد، عن عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن محمود بن لبيد، فذكره. وهذا إسناد رواته ثقات، لكن محمود بن لبيد منهم من أثبت له الصحبة، ومنهم من نفى ذلك، وقد ذكره الحافظ في "الإصابة" في القسم الأول، وذكر قول البخاري فيه: له صحبة، وساق البخاري حديثًا، فرد الحافظ بأن الأمر يحتمل. . . =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = ونقل عن ابن حبان أنه قال: يروي المراسيل، وذكره في التابعين، ثم ذكره في الصحابة وقال: أكثر روايته عن الصحابة. وذكره الحافظ في "التقريب" وقال: صحابي صغير، وجل روايته عن الصحابة، وعمرو بن أبي عمرو، لا أدري هل له رواية عن محمود بن لبيد، ففي ترجمته أنه روى عن أنس بن مالك من الصحابة، وأنس مات قبل محمود، فيكون عمرو قد أدرك محمودًا، لكن هل له سماع؟ أقول هذا لأن أحمد روى الحديث (5/ 428) من طريق إبراهيم بن أبي العباس، و (5/ 429) من طريق إسحاق بن عيسى، والبيهقي في "الشعب" (5/ رقم 6831) من طريق ابن أبي مريم ثلاثتهم عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد به، فزاد ابنُ أبي الزناد عاصم بن عمر، بين عمرو ومحمود، وعاصم هذا معروف بالرواية عن محمود بن لبيد، وابن أبي الزناد قد قدمت لك مرارًا أن رواية أهل المدينة عنه جيدة، ورواية غيرهم عنه فيها تخليط. والرواة عنه هنا ليسوا من أهل المدينة! فحديثه فيه نظر؛ إلا أنه قد توبع فقد أخرجه أبو محمد الضراب في "ذم الرياء" (رقم 31) من طريق يعقوب -وهو ابن عبد الرحمن القارئ- و (رقم 12) من طريق إسماعيل بن جعفر كلاهما عن عمرو عن عاصم به. والعجيب أن شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- ذكر الحديث في "السلسلة الصحيحة" (رقم 951)، وذكر إسناده هكذا: عن عمرو بن أبي عمرو، وعن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد! فجعل الشيخ عمرًا وعاصمًا كلاهما متابعًا للآخر، وليس الأمر كذلك، والذي أوقعه في ذلك أن ظاهر كتابتها في "المسند" كذلك، لكن بالرجوع إلى تراجم الرواة يتبين لك صحة ما قلت، وانظر لزامًا: "إتحاف المهرة" (13/ 152) و"أطراف المسند" (5/ 266). والحديث رواه عبد اللَّه بن شبيب عن إسماعيل بن أبي أويس: حدثني عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد عن رافع بن خديج. أخرجه الطبراني (4301) فجعله من مسند رافع. قال المنذري في "الترغيب والترهيب": إسناده جيّد. وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 222): رجاله رجال الصحيح غير عبد اللَّه بن شبيب بن خالد وهو ثقة. أما شيخنا الألباني فقال في "السلسلة الصحيحة" (2/ 672): وعبد اللَّه بن شبيب واهٍ. أقول: والحق ما قاله الشيخ الألباني -رحمه اللَّه- فإن عبد اللَّه بن شبيب بن خالد الذي ذكر الهيثمي ليس هو الذي في هذا السند، فإن ابن خالد ذاك ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" وقال: رفيق أبي بمدينة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلًا. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأخسرين أعمالًا يوم القيامة، فقال: "هم الأكثرون أموالًا إلا من قال: هكذا وهكذا [إلى] من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليلٌ ما هم" (¬1). ولما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول اللَّه وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] (¬2)، متفق عليه. وخرج عليهم [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) وهم يتذاكرون المسيح الدجال فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم [عندي] من المسيح الدجال؟ " قالوا: بلى، قال: "الشرك الخفي" [قالوا: وما الشرك؟ قال]: "أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل آخر" (¬4)، ذكره ابن ماجه. ¬

_ = أما عبد اللَّه بن شبيب الذي في هذا السند فهو المترجم في "الميزان"، والمعروف بالرواية عن إسماعيل بن أبي أويس، قال فضلك الرازي: يحل ضرب عنقه، وقال ابن عدي: ولعبد اللَّه بن شبيب غير ما ذكرت من الأحاديث التي أنكرت عليه كثير. وقال أبو أحمد الحاكم: ذاهب الحديث، وقال الذهبي: إخباري علامة لكنه واهٍ. (¬1) رواه البخاري (6638) في (الأيمان والنذور): باب كيف كانت يمين النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ ومسلم (990) في (الزكاة): باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة، من حديث أبي ذر، وهذا لفظ مسلم، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) ما بين المعقوفتين من (ك) فقط. (¬4) رواه ابن ماجه (4204) في (الزهد): باب الرياء والسُّمعة، وأحمد في "مسنده" (3/ 30)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 1034)، وأحمد بن منيع في "مسنده" -كما في "زوائد البوصيري"- وحنبل بن إسحاق في "الفتن" (رقم 30) من طريق كثير بن زيد عن رُبيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، عن أبي سعيد فذكره. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 339): هذا إسناد حسن، كثير بن زيد وربيح بن عبد الرحمن مختلف فيهما. أقول: كثير هذا قال أحمد وابن معين في رواية: لا بأس به، ووثقه ابن عمار الموصلي، وقال ابن معين في رواية: صالح، وقال في رواية أخرى: ليس بذاك، وفي رواية: ليس بشيء، وقال يعقوب بن شيبة: ليس بذاك الساقط، وإلى الضعف ما هو، وقال أبو زرعة: صدوق فيه لين. وقال أبو حاتم: صالح ليس بالقوي يكتب حديثه، وقال النسائي: ضعيف. وأما رُبيح فقد قال أحمد: رجل ليس بالمعروف، وقال أبو زرعة: شيخ، وقال البخاري: منكر الحديث، وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به، وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول". =

[طاعة الأمراء]

[طاعة الأمراء] وسئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن طاعة الأمير الذي أمر أصحابه فجمعوا حطبًا فأضرموه نارًا، وأمرهم بالدخول فيها فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو دخلوها ما خرجوا منها إنَّما الطاعة في المعروف" (1)، وفي لفظ: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (1)، وفي لفظ: "مَنْ أَمَركم منهم بمعصية اللَّه، فلا تطيعوه" (¬1). فهذه فتوى عامة لكل من أمره أمير بمعصية اللَّه كائنًا من كان، ولا تخصيص فيها البتة. [من سد الذرائع] ولما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه"، [سألوه: كيف يشتم الرجل والديه؟] قال: "يسب أبا الرجل وأمه فيسب أباه وأمه" (¬2)، متفق عليه. وللإمام أحمد: "إن أكبر الكبائر عقوق الوالدين" قيل: وما عقوق الوالدين؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يسبُّ أبا الرجل وأمه فيسب أباه وأمه" (¬3). وهو صريح في اعتبار الذرائع وطلب الشرع لسدها، وقد تقدمت شواهد هذه القاعدة بما فيه كفاية. [الجوار] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما تقولون في الزنى؟ " قالوا: حرام. فقال: "لأن يزني الرجل ¬

_ = فعبارة ابن عدي هذه لينة، فمثل ربيح هذا لا أظنه يُحسّن حديثه، بل هو إلى الضعف أقرب، والحديث في "صحيح سنن ابن ماجه" (4204) و"صحيح الترغيب" (27)!!، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) هذه أحاديث ثلاث وتقدم تخريجها. (¬2) رواه البخاري (5973) في (الأدب): باب لا يسب الرجل والديه، ومسلم (90) في (الأيمان): باب بيان الكبائر وأكبرها من حديث عبد اللَّه بن عمرو، وهذا لفظ مسلم. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه أحمد (2/ 195، 214، 216)، وأبو عوانة (1/ 55) في "مسنديهما"، والترمذي (1902)، وأبو داود (5141)، وابن حبان (411، 412)، وأبو نعيم (3/ 172) من طرق عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد اللَّه بن عمرو. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم.

[الغيبة]

بعشر نسوة أيسرُ عليه من أن يزني بامرأة جاره، ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرام، قال: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره" (¬1)، ذكره أحمد. [الغيبة] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهته" (¬2)، ذكره مسلم. وللإمام أحمد، ومالك أن رجلًا سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما الغيبة؟ فقال: "أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع" فقال: يا رسول اللَّه، وإن كان حقًا؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا قلت باطلًا فذلك البهتان" (¬3). ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 8)، والبخاري في "الأدب المفرد" (103)، والطبراني في "الكبير" (20/ 605)، والبيهقي في "الشعب" (7/ رقم 9552) من طريق محمد بن فضيل: حدثنا محمد بن سعد الأنصاري قال: سمعت أبا ظبية الكلاعى يقول: سمعت المقداد بن الأسود فذكره. قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 168): ورجاله ثقات. وقال شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (65): "هذا إسناد جيّد، ورجاله كلهم ثقات، وقول الحافظ في الكلاعي هذا: "مقبول"، يعني عند المتابعة فقط، ليس بمقبول، فقد وثقه ابن معين، وقال الدارقطني: "ليس به بأس"، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فهو حجة". أقول: مع أن الذي نقل فيه هذا التوثيق هو الحافظ نفسه في "تهذيب التهذيب"!، وقد ذكره في "الفتح" (8/ 494) ساكتًا عليه. (¬2) رواه مسلم (2589) في (البر والصلة): باب تحريم الغيبة، من حديث أبي هريرة. (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 987)، وعنه المبارك في "الزهد" (704)، ومحمد بن الحسن الشيباني في "موطئه" (رقم 956 - ط. المصرية) من طريق الوليد بن عبد اللَّه بن صيّاد أن المطلب بن عبد اللَّه بن حنطب المخزومي أخبره. . . فذكره. أقول: هذا مرسل، قال الحافظ ابن حجر في "تعجيل المنفعة" في ترجمة الوليد: روى عن المطلب بن حنطب أنه أخبره. . . وهذا الحديث وصله العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن أبي هريرة (يشير إلى الحديث السابق)، والمطلب كان كثير الإرسال، ولم يصح سماعه من أبي هريرة، ولم يترجم ابن عبد البر للوليد هذا الذي روى عنه مالك. . . ولم يقع ذكره في "تاريخ البخاري"، ولا في كتاب ابن أبي حاتم، ولكن ذكره ابن حبان في الطبقة الثالثة من الثقات، ولم يزد فيه على ما في "الموطأ": لم يذكر شيخًا سوى المطلب، ولا راويًا عنه غير مالك. فهو في عداد المجاهيل إذن.

[الكبائر]

[الكبائر] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكبائر فقال: "الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وقتل النفس التي حرم اللَّه، والفرار يوم الزحف، واليمين الغموس (¬1)، وقتل الإنسان ولده خشية أن يطعم معه، والزنا بحليلة جاره، والسحر، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات" (¬2)، وهذا مجموع من أحاديث. فصل [تعداد الكبائر] ومن الكبائر: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وترك الحج مع الاستطاعة والإفطار في رمضان بغير عذر، وشرب الخمر، والسرقة، والزنى، واللواط، والحكم بخلاف الحق، وأخذ الرُّشا (¬3) على الأحكام، والكذب على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬

_ (¬1) "هي اليمين الكاذبة الفاجرة، كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموسًا؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار" (و). (¬2) الإشراك باللَّه وعقوق الوالدين والسحر والتولي يوم الزحف، وقتل النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وردت في حديث واحد، رواه البخاري (2766) في (الوصايا): باب قول اللَّه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)}، ومسلم (89) في (الإيمان): باب بيان الكبائر وأكبرها من حديث أبي هريرة، وفيه زيادة: "وأكل الربا". وقد روى البخاري (2654) في (الشهادات): باب ما قيل في شهادة الزور، ومسلم (87) من حديث أبي بكرة. . . فذكر من الكبائر: الشرك باللَّه، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور (أو قول الزور)، ونحو حديث أبي بكرة، ورد من حديث أنس عند البخاري (2653)، ومسلم (88)، وزاد: وقتل النفس. وأما اليمين الغموس فقد وردت في حديث رواه البخاري (6675) في (الأيمان): باب اليمين الغموس، من حديث عبد اللَّه بن عمرو. وأما قتل الإنسان ولده خشية أن يطعم معه، والزنا بحليلة الجار، فهما في حديث عبد اللَّه بن مسعود، قال: سألت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل للَّه ندًا، وهو خلقك. . . ثم أي: فذكرها. رواه البخاري في مواطن منها: (4477) في (التفسير): باب قوله تعالى: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، و (6001) في (الأدب): باب قتل الولد خشية أن يأكل معه، و (6811) في (الحدود): باب إثم الزناة، ومسلم (86) في (الأيمان): باب كون الشرك أقبح الذنوب. (¬3) "بكسر الراء وضمها: جمع رشوة -بضم الراء وكسرها-" (و).

والقول على اللَّه بلا علم في أسمائه وصفاته وأحكامه، وجحود ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- واعتقاد أنَّ كلامه وكلام رسوله لا يستفاد منه يقين أصلًا، وأن ظاهر كلامه وكلام رسوله باطل وخطأ، بل كفر وتشبيه وضلال، وترك ما جاء به لمجرد قول غيره، وتقديم الخيال المسمى بالعقل والسياسة الظالمة والعقائد الباطلة والآراء الفاسدة والإدراكات (¬1) والكشوفات الشيطانية على ما جاء به -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووضع المكوس، وظلم الرعايا، والاستيثار بالفيء، والكبر، والفخر، والعجب، والخيلاء، والرياء، والسمعة، وتقديم خوف المخلوق (¬2) على خوف الخالق، ومحبته على محبة الخالق، ورجائه على رجائه، وإرادة العلو في الأرض والفساد، وإن لم ينل ذلك، ومسبة الصحابة رضوان اللَّه عليهم، وقطع الطريق وإقرار الرجل الفاحشة في أهله وهو يعلم، والمشي بالنميمة، وترك التنزه من البول، وتخنث الرجل وترجل المرأة، ووصل شعر المرأة وطلبها ذلك، وطلب الوصل كبيرة وفعله كبيرة، والوشم والاستيشام، والوشر والاستيشار، والنمص والتنميص، والطعن في النسب، وبراءة الرجل من أبيه، وبراءة الأب من ابنه وإدخال المرأة على زوجها ولدًا من غيره، والنياحة، ولطم الخدود وشق الثياب وحلق المرأة شعرها عند المصيبة بالموت وغيره، وتغيير منار الأرض، وهو أعلامها، وقطيعة الرحم، والجور في الوصية، وحرمان الوارث حقه من الميراث، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، والتحليل وإستحلال المطلقة به والتحيّل على إسقاط ما أوجب اللَّه وتحليل ما حرم اللَّه، وهو استحبابه محارمه وإسقاط فرائضه بالحِيَل، وبيع الحر (¬3)، وإباق المملوك من سيده، ونشوز المرأة على زوجها، وكتمان العلم عند الحاجة إلى إظهاره، وتعلم العلم للدنيا والمباهاة والجاه، والعلو على الناس، والغدر، والفجور في الخصام، وإتيان المرأة في دبرها (¬4) وفي محيضها، والمن بالصدقة وغيرها من عمل الخير، وإساءة الظن باللَّه واتهامه في أحكامه ¬

_ (¬1) في (و): "والأذوقان"، وقال في الحاشية: "جمع ذوق"، وأثبتها (ط)، و (د) كما أثبتناها وقالا في الحاشية: "في نسخة: "والأذوقات" جمع ذوق، ولها وجه". وفي (ك): "والأذواق". (¬2) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "الخلق". (¬3) كذا في (ك) و (ط. دار الحديث) وفي سائر الأصول: "الحرائر"!! (¬4) انظر أحكام الوطء في الدبر بالتفصيل في "بدائع الفوائد" (4/ 100 - 101) للمصنف؛ فإنه مهم.

فصل

الكونية والدينية والتكذيب بقضائه وقدره واستوائه على عرشه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عرج به إليه، وأنه رفع المسيح عليه السلام إليه، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب، وأنه كتب كتابًا فهو عنده على عرشه، وأن رحمته تغلب غضبه، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل فيقول: من يستغفرني فأغفر له؟ وأنه كلَّم موسى تكليمًا، و [أنه] (¬1) تجلّى للجبل فجعله دكًا واتخذ إبراهيم خليلًا، وأنه نادى آدم وحواء ونادى موسى [على نبينا وعليه وعلى سائر أنبياء اللَّه صلوات اللَّه وسلامه وأنه تعالى ينادي عباده] (¬2) يوم القيامة، وأنه خلق آدم بيديه، وأنه يقبض سماواته بإحدى يديه والأرض باليد الأخرى يوم القيامة (¬3). فصل ومنها الاستماع إلى حديث قوم لا يحبون استماعه، وتخبيب المرأة على زوجها والعبد على سيده، وتصوير صور الحيوان سواء كان لها ظل أو لم يكن، وأن يُري عينيه في المنام ما لم ترياه، وأخذ الربا وإعطاؤه والشهادة عليه وكتابته، وشرب الخمر وعصرها واعتصارها وحملها وبيعها وأكل ثمنها، ولعن من لم يستحق اللعن، وإتيان الكهنة والمنجّمين والعرّافين والسحرة وتصديقهم والعمل بأقوالهم، والسجود لغير اللَّه والحلف بغير اللَّه، كما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حلف بغير اللَّه، فقد أشرك" (¬4)، وقد قصَّر ما شاء أن يقصر من قال: إن ذلك ¬

_ (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) بدل ما بين المعقوفتين في سائر النسخ: "وينادي نبينا" والمثبت من (ك). (¬3) "الإيمان باستواء اللَّه وعلوه، أو فوقيته وأنه بائن من خلقه، وأن الأفعال الاختيارية تقوم به، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، الإيمان بهذا أصل الإيمان وركنه الركين، وبدونه لن يكون المرء مؤمنًا" (و). (¬4) رواه أحمد (2/ 34 و 69 و 86 - 87 و 125)، وأبو داود (3251) في (الأيمان والنذور)، والترمذي (1539) في (النذور والأيمان): باب (9)، والطيالسي (1212 - منحة)، وعبد الرزاق (15929)، وابن حبان (4358)، والطحاوي في "المشكل" (825، 826، 830)، والحاكم (1/ 18، 52 و 297)، والبيهقي (1/ 290) من طرق عن سعد بن عبيدة، عن ابن عمر. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي مع أن في إسناد الحاكم رجلًا لم يخرج له البخاري أصلًا. ولهذا الطريق علّة خفيّة، فإن سعد بن عُبيدة وإن كان من ثقات أصحاب ابن عمر =

مكروه وصاحب الشرع يجعله شركًا فرتبته فوق رتبة الكبائر، واتخاذ القبور مساجد وجعلها أوثانًا وأعيادًا يسجدون لها تارة ويصلّون إليها تارة ويطوفون بها تارة ويعتقدون أن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في بيوت اللَّه التي شرع أن يُدعى فيها ويُعبد ويُصلّى له ويُسجد. ومنها معاداة أولياء اللَّه، وإسبال الثياب من الإزار والسراويل والعمامة وغيرها، والتبختر في المشي، واتباع الهوى [وطاعة الهوى] (¬1)، وطاعة الشُّح والإعجاب بالنفس وإضاعة من تلزمه مؤنته ونفقته من أقاربه وزوجته ورقيقه ومماليكه. والذبح لغير اللَّه، وهجر أخيه المسلم سنة، كما في "صحيح الحاكم" من حديث أبي خِرَاش الهُذلي السُّلمي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هجَر أخاه سنة فهو كقتله" (¬2) وأما هجره فوق ثلاثة أيام فيحتمل أنه من الكبائر ويحتمل أنه دونها واللَّه أعلم. ¬

_ = وأخرج له الشيخان من روايته عنه إلا أنه لم يسمع منه هذا الحديث خاصة، بل كان في مجلسه مع رجل من كندة -سماه في إحدى الروايات محمدًا الكندي وهو مجهول- ثم خرج سعد إلى عند سعيد بن المسيب فسمعه الكندي من ابن عمر، ثم جاء فحدث به سعد بن عبيدة، كما بَيّن ذلك منصور بن المعتمر في روايته، واستنادًا لما تقدم قال الطحاوي في "شرح المشكل" (2/ 300) "فوقفنا على أنَّ منصور بن المعتمر قد زاد في إسناد هذا الحديث على الأعمش وعلى سعيد بن مسروق عن سعد بن عبيدة رجلًا مجهولًا بينه وبين ابن عمر في هذا الحديث ففسد بذلك إسناده". وقال البيهقي: "هذا -أي الحديث- مما لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر (10/ 29) ". ومما تجدر الإشارة اليه أن الأعمش روى عن سعد بن عبيدة، قال: "كنتُ مع ابن عمر في حلقة، فسمع رجلًا في حلقة أخرى وهو يقول: لا وأبي، فرماه ابن عمر بالحصى، وقال: إنها كانت يمين عمر، فنهاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عنها، وقال: "إنها شرك". أخرجه أحمد عن وكيع، عنه (2/ 58 و 60). ولعل الحادثة تعددت، والحديث صحيح. (¬1) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه البخاري في "الأدب المفرد" (409 و 410) باب من هجر أخاه سنة، وأحمد في "المسند" (4/ 220)، وابن سعد في "الطبقات" (7/ 500)، وأبو داود (4915) في (الأدب): باب فيمن يهجر أخاه المسلم، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2735)، والدولابي في "الكنى" (1/ 26)، وأبو أحمد الحاكم في "الأسامي والكنى" (4/ 366 - 367)، والطبراني في "لكبير" (22/ رقم 779، و 780 و 781 و 782)، والعسكري في "تصحيفات المحدثين" (1/ 528)، والبيهقي في "الآداب" (رقم 303)، =

ومنها الشفاعة في إسقاط حدود اللَّه، لحديث (¬1) ابن عمر يرفعه: "مَنْ حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضادَّ اللَّه في أمره" (¬2)، رواه أحمد وغيره بإسناد جيد. ¬

_ = وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ رقم 6758)، والحاكم في "المستدرك" (4/ 163) كلهم من طريق الوليد بن أبي الوليد عن عمران بن أبي أنس، عن أبي خراش الأسلمي مرفوعًا به، ولفظه: "فهو كسفك دمه". قال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، في "التلخيص" و"الكبائر" (ص 215 - بتحقيقنا). وصححه كذلك الحافظ العراقي في "تخريجه على الإحياء" (2/ 223)، والحافظ ابن حجر في "الإصابة" (1/ 316) -وعزاه إلى الحارث بن أبي أسامة، وابن قانع وابن منده- وصححه ابن المرتضى اليماني في "إيثار الحق" (ص 425) وشيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (928). أقول: عمران بن أبي أنس من الثقات. وأما الوليد بن أبي الوليد فقد ذكره الحافظ في "التهذيب" (1/ 138)، ونقل كلام ابن حبان فيه: "ربما خالف على قلة روايته" فاستدرك عليه شيخنا العلامة الألباني أنه فاته قول أبي زرعة فيما نقله عنه ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (9/ 20): ثقة، وأزيد أن البخاري نقل عن الليث بن سعد (8/ 156) أنه قال: وكان فاضلًا من أهل المدينة، فالحديث صحيح -إن شاء اللَّه-. والحديث عزاه الحافظ ابن حجر في "الإصابة" (1/ 315) للحارث بن أبي أسامة وابن منده، وقد ذكره اسم الصحابي أنه حدرد بن أبي حدرد، ولكنه في الكنى ذكر ذلك على الشك. (¬1) كذا في (ك) و (ط. دار الحديث) وفي سائر الأصول: "وفي الحديث عن". (¬2) رواه أحمد (2/ 70)، وأبو داود (3597) في (الأقضية): باب من يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها، والحاكم (2/ 27)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (6/ 82)، و"شعب الإيمان" (5/ رقم 6735 و 6/ رقم 7673) من طريق زهير: حدثنا عمارة بن غزية، عن يحيى بن راشد عن ابن عمر مرفوعًا به وفيه زيادة. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. أقول: رجال هذا الحديث كلهم ثقات مشهورون. وزهير هو ابن معاوية. والحديث له طرق عن ابن عمر. فرواه أبو داود (3598)، والطبراني في "الأوسط" (3/ رقم 2921)، والخطيب (3/ 392)، والبيهقي (6/ 82) و (8/ 332)، و"الشعب" (5/ رقم 6736) من طرق عن مطر الوراق، عن نافع، عن ابن عمر ومطر فيه لين. ورواه الطبراني في "الكبير" (13084)، والحاكم (4/ 383) من طريق عبد اللَّه بن =

ومنها تكلم الرجل بالكلمة من سخط اللَّه لا يُلقي لها بالًا. ومنها أن يدعو إلى بدعة أو ضلالة أو ترك سنة، بل هذا من أكبر الكبائر، وهو مضادة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومنها ما رواه الحاكم في "صحيحه" من حديث المستورد بن شدَّاد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أكل بمُسلم أكلة أطعمه اللَّه بها أكلة من (¬1) نار جهنَّم يوم ¬

_ = جعفر عن مسلمة أبي مريم، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن ابن عمر به، وعبد اللَّه بن جعفر هذا هو والد ابن المديني وهو ضعيف. ورواه أحمد (2/ 82) من طريق أيوب بن سليمان عن ابن عمر به، وأيوب هذا قال الحافظ في "تعجيل المنفعة": فيه جهالة. ورواه الطبراني في "الكبير" (13435) من طريق القاسم بن أبي بزة، عن عطاء عن حمران عن ابن عمر به موقوفًا. ذكره الهيثمي في "المجمع" (10/ 91)، وقال: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن منصور وهو ثقة. ورواه ابن عدي (2/ 796)، والخطيب (8/ 201) من طريق حفص بن عمر الرملي عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عمر به. وحفص هذا قال فيه ابن معين: ليس بشئ. وقال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. على كل حال فالناظر في طرق هذا الحدلِث يجد أن له أصلًا بلا شك خاصة وأن الطريق الأول صحيح. وقد وجدت الحافظ ابن حجر في "الفتح" (12/ 87) يقول: وأخرجه ابن أبي شيبة من وجه آخر أصح منه عن ابن عمر موقوفًا. أقول: الطريق الأول رجاله ثقات مشاهير فلا يُعل. ثم إن الطرق المذكورة منها ما هو صحيح ومنها ما هو ضعفه يسير مما يؤيد أن الحديث مرفوع. ثم ذكر الحافظ للحديث شاهدًا من حديث أبي هريرة عزاه للطبراني في "الأوسط" وسكت عنه. أقول: الحديث رواه الطبراني في "الأوسط" (8/ رقم 8552)، والعقيلي في "الضعفاء" (2/ 60) من طريق رجاء أبي يحيى صاحب السقط قال: سمعت يحيى بن أبي كثير يحدث عن أبي سلمة عن أبي هريرة مرفوعًا به. ويحيى هذا قال فيه العقيلي: لا يتابع عليه. ثم قال: وهذا الحديث يروى بأسانيد مختلفة صالحة من غير هذا الطريق، وجوّد الذهبيُّ إسناده في كتابه "الكبائر" (ص 216) من حديث ابن عمر، كما فعل المصنف، واللَّه الموفق. . (¬1) "معناه: الرجل يكون صديقًا للرجل، ثم يذهب إلى عدوه، فيتكلم فيه بغير =

القيامة، ومن قام بمسلم مقام سمعة أقامه اللَّه يوم القيامة مقام رياء وسُمعة، ومن اكتسى بمسلم ثوبًا كساه اللَّه ثوبًا من نارٍ يوم القيامة" (¬1). ¬

_ = الجميل، ليجيزه عليه بجائزة، فلا يبارك اللَّه فيها، وهي بضم الهمزة وفتحها: بالضم اللقمة، وبالفتح: المرة من الأكل" (و). (¬1) رواه أحمد (4/ 229)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (رقم 2807)، وأبو يعلى (6858)، والطبراني في "الكبير" (20/ رقم 734)، وابن قانع في "معجم الصحابة" (14/ رقم 1937)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (5/ رقم 6271)، والحاكم في "المستدرك " (4/ 127) كلهم من طريق ابن جريج قال: قال سليمان بن موسى: حدثنا وقاص بن ربيعة أن المستورد حدّثهم. . . فذكره. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. أقول: بل فيه علل، هي: أولًا: ابن جريج مدلس، ولم يصرح بالسماع، وقد كان معروفًا بالتدليس عن الضعفاء والهلكى. أما شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- فقد قال في "السلسلة الصحيحة" (934): تابعه الضحاك بن مخلد عند أبي يعلى!! أقول: بل الضحاك روي عن ابن جريج عند أبي يعلى (6858)، واليزيدي في "الأمالي" (109)، والنسفي في "القند" (304)، والذي أوقع الشيخ في الخطأ أنه وقف على إسناد أبي يعلى عند ابن عساكر، وساقه من هناك، لأن "مسند أبي يعلى" لم يكن مطبوعًا، ولا يوجد في سنده ابن جريج، فلعله سقط من المخطوط أو سقط منه وهو ينقل. ثانيًا: سليمان بن موسى هذا تكلموا فيه، ويظهر أنه حسن الحديث. ثالثًا: وقاص بن ربيعة ترجمه البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلًا. وذكره ابن حبان في "الثقات" (5/ 496) كعادته! والعجب أن الذهبي قال في "الكاشف": ثقة!! وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول". مع أن أمثال هذا لا يزيد على أن يقول فيه: وثق. ورواه البخاري في "الأدب" (241)، وأبو داود (4881) في (الأدب): باب في الغيبة، والطبراني في "الكبير" (20/ رقم 735) من طريق بقية عن ابن ثوبان عن أبيه عن مكحول عن وقاص بن ربيعة عن المستورد به. وفي هذا الطريق، وان ذهبت عنعنة ابن جريج فقد وقعنا في عنعنة من هو أشد وهو بقية بن الوليد وتدليسه -كما هو معروف- من شر أنواع التدليس!! والحديث رواه ابن المبارك في "الزهد" (707) من طريق جعفر بن حيان عن الحسن مرسلًا. =

ومعنى الحديث أنه توصل إلى ذلك وتوسل إليه بأذى أخيه المسلم من كذب عليه أو سخرية [به] (¬1) أو همزة أو لمزة أو غيبة والطعن عليه والازدراء به والشهادة عليه بالزور والنيل من عرضه عند عدوه ونحو ذلك مما كثير من الناس واقع في وسطه (¬2) واللَّه المستعان. ومنها: التبجُّح والافتخار بالمعصية بين أصحابه وأشكاله، وهو الإجهار الذي لا يُعافي اللَّه صاحبه (¬3)، وإن عافى من ستر نفسه (¬4). ومنها: أن يكون له وجهان ولسانان فيأتي القوم بوجه ولسان ويأتي غيرهم بوجه ولسان آخر. ومنها: أن يكون فاحشًا بذيًا يتركه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه. ومنها: مخاصمة الرجل في باطل يعلم أنه باطل ودعواه ما ليس له، وهو يعلم أنه ليس له. ومنها: أن يدَّعي أنه من آل بيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس منهم أو يدَّعي أنه ابن فلان وليس بابنه، وفى "الصحيحين": "من ادّعى إلى غير أبيه فالجنّة عليه حرام" (¬5)، وفيهما أيضًا: "لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كافر" (¬6)، وفيهما أيضًا: "ليس من رجل ادّعى إلى غير (¬7) أبيه، وهو يعلمه إلا وقد كَفَر (¬8)، ¬

_ = والذي يظهر أن الحديث أصله مرسل. وأخرجه من طرق عن الحسن: عبد الرزاق (11/ 458)، وابن أبي الدنيا في "الصمت" (رقم 272)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (رقم 232). وفي الباب عن أنس مرفوعًا وإسناده ضعيف، والحديث حسن بمجموع طرقه، كما بيّنته في تعليقي على "المجالسة" (رقم 1823). (¬1) ما بين المعقوفتين من (ك). (¬2) كذا في (ك) وفي سائر النسخ: "مما يفعله كثير من الناس وأوقع في وسطه". (¬3) في (ك): "الذي لا يعافى صاحبه". (¬4) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "وإن عافاه من شر نفسه". (¬5) رواه البخاري (4326 و 4327) في (المغازي): باب غزوة الطائف، و (6766 و 6767) في (الفرائض): باب من ادّعى إلى غير أبيه، ومسلم (63) في (الإيمان): باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم، من حديث سعد وأبي بكرة. (¬6) رواه البخاري (6868) في (الفرائض): باب من ادعى إلى غير أبيه، ومسلم (62) في (الإيمان): باب بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم، من حديث أبي هريرة. (¬7) كذا في (ك) وفي سائر الأصول: "لغير". (¬8) "ما أكثر ما يحدث هذا في أيامنا هذه، ولا سيّما بين من يسمون أنفسهم رجال ونساء الفن!! " (و).

ومن ادّعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو اللَّه وليس كذلك إلا حَارَ عليه" (¬1). فمن الكبائر تكفير من لم يكفره اللَّه ورسوله، وإذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أمر بقتال الخوارج وأخبر أنَّهم شر قتلى تحت أديم السماء، وأنهم يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الزمية (¬2)، ودينهم تكفير المسلمين بالذنوب فكيف ¬

_ (¬1) رواه البخاري (3508) في (المناقب): باب (5)، و (6045) في (الأدب): باب ما ينهى من السباب واللعن، ومسلم (61) في الإيمان، من حديث أبي ذر. (¬2) أما الأمر بقتال الخوارج فثابت في أحاديث منها حديث علي بن أبي طالب، رواه البخاري (6930) في (إستتابة المرتدين): باب قتل الخوارج والملحدين بعد إقامة الحجة عليهم، ومسلم (1066) في (الزكاة): باب التحريض على قتل الخوارج. وأما أنهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، فهو في حديث رواه البخاري في مواطن كثيرة جدًا منها: (3344) في (كتاب الأنبياء): باب قول اللَّه تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}، وأطراف الحديث هناك، ومسلم (1064) في (الزكاة): باب ذكر الخوارج وصفاتهم من حديث أبي سعيد الخدري. ورواه مسلم (1063) من حديث جابر. وأما أنهم شر قتلى تحت أديم السماء، فقد رواه أحمد (5/ 253 و 256)، وابن أبي شيبة (15/ 307 - 308)، والطيالسي (1136)، والترمذي (3007) في (التفسير): باب ومن سورة آل عمران، وابن ماجه (176) في (المقدمة): باب ذكر الخوارج، والحميدي (908)، وعبد الرزاق (18663)، والطبراني في "الكبير" (8033 و 8040 و 8044 و 8049 و 8550 و 8052 و 8052 و 8055 و 8056)، و"الصغير" (2/ 117)، والطحاوي في "المشكل" (رقم 2519)، وابن أبي عاصم (68)، وابن نصر (ص 16 - 17)، واللالكائي (151، 152) كلهم في "السنة"، وابن أبي حاتم في "التفسير" (5/ رقم 8150)، والبيهقي (8/ 188)، والآجري في "الشريعة" (ص 35، 36)، وابن الجوزي في "الواهيات" (1/ 163 رقم 262) من طرق كثيرة عن أبي غالب حَزوَّر عن أبي أمامة، بألفاظ متقاربة وبعضهم اختصره. وأبو غالب تكلم فيه قوم ومشّاة آخرون، قال ابن عدي: قد روي عن أبي غالب حديث الخوارج بطوله، وهو معروف به. ولم أر في أحاديثه حديثًا منكرًا، وأرجو أنه لا بأس به. وقد توبع فقد أخرجه الطبراني (7553) من طريق أبي عزة الدباغ عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة به. وشهر لا بأس به في المتابعات والشواهد، لكن أبو عزة هذا ينظر في أمره. وتابعه أيضًا صفوان بن سليم -وهو ثقة- عند أحمد (5/ 269)، وابنه عبد اللَّه في "السنة" (رقم 1546)، وسنده صحيح، وكذلك سيار الأموي -وثقه ابن حبان (4/ 335) =

من كفرهم بالسنة ومخالفة آراء الرجال لها وتحكيمها والتحاكم إليها؟ ومنها: أن يحدث حدثًا في الإسلام أو يؤوي محدثًا وينصره ويعينه، وفي "الصحيحين": "مَنْ أحدث حَدَثًا (¬1) أو آوى مُحْدثًا فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صَرْفًا، ولا عدلًا" (¬2)، ومن أعظم الحدث تعطيل كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإحداث ما خالفهما ونصر من أحدث ذلك والذب عنه ومعاداة من دعا إلى كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومنها: إحلال شعائر اللَّه في الحَرَم والإحرام كقتل الصيد واستحلال القتال في حرم اللَّه. ومنها: لبس الحرير والذهب للرجال واستعمال أواني الذهب والفضة للرجال. وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الطيرة شرك" (¬3)، فيحتمل أن يكون من الكبائر، وأن يكون دونها. ¬

_ = في التابعين، وأعاده (6/ 423) في أتباع التابعين، وفي "التقريب": صدوق. ومن منهجه في مثله قوله: مقبول- عند أحمد (5/ 250) وله شاهد من حديث عبد اللَّه بن أبي أوفى، انظر تخريجي له مطولًا في التعليق على "الحنائيات" (رقم 225)، يسر اللَّه نشره بمنه وكرمه. (¬1) "الحدث: الأمر المحدث المنكر الذي ليس بمعروف ولا معتاد في السنة" (و). (¬2) رواه البخاري (1870) في (فضائل المدينة): باب حرم المدينة، و (3172) في (الجزية والموادعة): باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة، و (3179) باب إثم من عاهد ثم غدر، و (6755) في (الفرائض): باب إثم من تبرأ من مواليه، و (7300) في (الاعتصام): باب ما يكره من التعمق والتنازع والغلو في الدين، ومسلم (1370) في (الحج): باب فضل المدينة، و (2/ 1147) في (العتق): باب تحريم تولي العتيق غير مواليه، من حديث علي بن أبي طالب. وروى نحوه البخاري (1867 و 7306)، ومسلم (1366) من حديث أنس. وقال (و): "الصرف: التوبة، وقيل: النافلة، والعدل: الفدية، وقيل: الفريضة". (¬3) رواه أحمد (1/ 389 و 438 و 440)، وابن أبي شيبة (9/ 39)، والبخاري في "الأدب المفرد" (909)، وأبو داود (3910) في (الطب): باب الطيرة، والترمذي (1614) في (السير): باب ما جاء في الطيرة وفي "علله الكبير" (2/ 690)، وابن ماجه (3538) في (الطب): باب من كان يعجبه الفأل ويكره الطيرة، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 312)، وفي "المشكل" (827 و 829 و 1747 و 1748)، والطيالسي (356)، وابن حبان (6122)، والحاكم (1/ 17 - 18 و 18)، والبيهقي (8/ 139)، والبغوي (3257) من طرق عن سلمة بن كهيل، عن عيسى بن عاصم الأسدي عن زر بن حبيش عن ابن مسعود به. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ومنها: الغلول من الغنيمة، ومنها غش الإمام والوالي لرعيته (¬1)، ومنها أن يتزوج ذات [رحم] (¬2) محرم منه أو يقع على بهيمة. ومنها: المكر بأخيه المسلم ومخادعته ومضاررته، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ملعونٌ من مكر بمسلم أو ضارَّ به" (¬3). ومنها: الاستهانة بالمصحف وإهدار حرمته، كما يفعله من لا يعتقد أن فيه كلام اللَّه تعالى من وطئه برجله ونحو ذلك. ومنها: أن يُضل أعمى عن الطريق، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من فعل ذلك (¬4)، فكيف بمن أضل عن طريق اللَّه أو صراطه المستقيم؟! ومنها: أن يَسِم إنسانًا أو دابة في وجهها، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من فعل ذلك (¬5). ومنها: أن يحمل السلاح على أخيه المسلم، فإن الملائكة تلعنه (¬6). ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال اللَّه تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3]. ومنها: الجدال في كتاب اللَّه ودينه بغير علم. ومنها: إساءة الملكة برقيقه وفي الحديث: "لا يدخل الجنة سيء ¬

_ (¬1) في (ك): "الرعية". (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) سبق تخريجه. (¬4) هو جزء من حديث فيه: "ملعون من كَمَهَ أعمى عن الطريق". رواه أحمد في "مسنده" (1/ 217 و 309 و 317)، وأبو يعلى (2539)، والطبراني (11546)، وابن حبان (4418)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (8/ 31)، وفي "شعب الإيمان" (5373) من طرق عن عمرو بن أبي عمرو، عن عكرمة عن ابن عباس به. وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. (¬5) روى مسلم في "صحيحه" (2116) في (اللباس والزينة): باب النهي عن ضرب الحيوان في وجهه ووسمه فيه، من حديث جابر: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الضرب في الوجه، وعن الوسم في الوجه. وروى أيضًا (2117) من حديثه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مر عليه حمار قد وُسِمَ في وجهه فقال: "لعن اللَّه الذي وَسَمه". (¬6) روى مسلم في "صحيحه" (2616) في (البر والصلة): باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "من أشار إلى أخيه بحديدة، فإن الملائكة تلعنه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمه".

الملكة" (¬1). ومنها: أن يمنع المحتاج فضل ما لا يحتاج إليه مما لم تعمل يداه. ¬

_ (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 4 و 7 و 12)، وأبو داود الطيالسي (7 و 8)، والترمذي (1941) في (البر): باب ما جاء في الغش والخيانة، و (1946): باب ما جاء في الإحسان إلى الخدم، و (1963)، وابن ماجه (3691) في (الأدب): باب الإحسان إلى المماليك، وأبو يعلى (93 و 94 و 95)، والمروزي في "مسند أبي بكر"، و (97 و 98)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 164)، وابن أبي حاتم في "علله" (2/ 287)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 1394 و 6/ 2054) من طرق عن فرقد السبخي عن مرة الطيب عن أبي بكر مرفوعًا به، وعندهم زيادة. قال الترمذي في الموطن الأول: غريب، وقال في الثاني: هذا حديث غريب وقد تكلم أيوب السختياني وغير واحد في فرقد من قبل حفظه، وقال في الثالث: حسن غريب. أقول: الحديث مداره على فرقد السبخي قال أحمد: ليس هو بالقوي، وقال مرة: ضعيف، وقال أيوب: ليس بشيء، وقال مرة: لم يكن صاحب حديث، وقال أحمد أيضًا: روى عن مرة منكرات، ووثقه ابن معين مرة، وضعفه أخرى فنأخذ بالتضعيف؛ لأنه الموافق لرأي الجماعة. وقال ابن عدي: وليس هو بكثير الحديث. ورواه عبد الرزاق (20993) عن معمر عن فرقد عن مرة مرسلًا. وقد وجدت لفرقد في الطريق الموصولة متابعًا. أخرجه أبو يعلى (96): حدثنا أبو كريب: حدثنا معاوية بن هشام عن شيبان عن عامر عن مرة به. أقول: عامر هو الشعبي، وهذه متابعة قوية لولا معاوية هذا، فهو إن وثقه أبو داود وغيره، إلا أن ابن معين قال: صالح، وليس بذاك، وقال ابن حبان: ربما أخطأ، وقال عثمان بن أبي شيبة: رجل صدق، وليس بحجة. وقال الساجي: صدوق يهم، قال أحمد بن حنبل: هو كثير الخطأ، إذن فالرجل له أوهام فلا يقبل حديئه إذا انفرد أو إذا قُبل لا يرتقي عن الحسن، لكن كيف إذا خالف!! فقد رواه أبو نعيم في "الحلية" (4/ 164)، والخطيب في "تاريخ بغداد" (1/ 403) من طريق علي بن الحسن بن شقيق عن أبي حمزة السكري، عن جابر عن عامر بن شراحيل عن مرة به. وأبو حمزة هذا من الثقات جعله عن جابر، وهو ابن يزيد الجعفي الضعيف، وليس عن شبيان، ولا شك أن رواية أبي حمزة هذه أصح واللَّه أعلم. لكن هل تُقوّي هذه الطريق طريق فرقد المذكورة في الأول، فيحسّن بهما الحديث؟ الأمر يحتمل، واللَّه أعلم. وقال (و): "سيء الصنيع. . . ".

ومنها: القمار، وأما اللعب بالنَّرد فهو من الكبائر لتشبيه لاعبه بمن صبغ يده في لحم الخنزير ودمه (¬1)، ولا سيما إذا أكل المال به، فحينئذ يتم التشبيه به، فإن اللعب بمنزلة غمس اليد، وأكل المال بمنزلة أكل لحم الخنزير. ومنها: ترك الصلاة في الجماعة، وهو من الكبائر، وقد عَزَم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على تحريق المتخلِّفين [عنها] (¬2)، ولم يكن ليحرِّق مرتكب صغيرة، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: "ولقد رأيتنا، وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق معلوم النفاق" (¬3)، وهذا فوق الكبيرة. ومنها: ترك الجمعة، وفي "صحيح مسلم": "لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعِهمُ الجمعات أو ليختمنَّ اللَّه على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين" (¬4). وفي "السنن" بإسناد جيد [عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال]: "مَنْ ترك ثلاث جُمُع تهاونًا طبع اللَّه على قلبه" (¬5). ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2260) في (الشعر): باب تحريم اللعب بالنردشير من حديث بريدة. (¬2) رواه البخاري (644) في (الأذان): باب وجوب صلاة الجماعة, و (657) باب فضل العشاء في جماعة، و (2420) في (الخصومات): باب إخراج أهل المعاصي والخصوم من البيوت بعد المعرفة، و (7224) في (الأحكام): باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة، ومسلم (651) في (المساجد): باب فضل صلاة الجماعة، من حديث أبي هريرة، وانظر كتابنا "إعلام العابد" (ص 36 - ط. الثالثة)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) أخرجه مسلم في "صحيحه" (كتاب المساجد ومواضع الصلاة): باب صلاة الجماعة من سنن الهدى (1/ 453/ رقم 654) عن ابن مسعود، قال: "لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، وفي لفظ: "ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق". (¬4) أخرجه مسلم في "الصحيح" (كتاب الجمعة): باب التغليظ في ترك الجمعة (رقم 865) من حديث عبد اللَّه بن عمر وأبي هريرة. (¬5) ورد عن أبي الجعد الضمري بلفظ: "من ترك ثلاث جمع تهاونًا طبع اللَّه قلبه". أخرجه أبو داود في "السنن" (كتاب الصلاة): باب التشديد في ترك الجمعة (1/ 277/ رقم 1052)، والنسائي في "المجتبى" (كتاب الجمعة): باب التشديد في التخلف عن الجمعة (3/ 88)، و"الكبرى" (1582)، وابن ماجه في "السنن" (كتاب إقامة الصلاة): باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر (1/ 357/ رقم 1225)، والترمذي في "الجامع" (أبواب الصلاة) باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر (2/ 373/ رقم 500)، والدارمي (1579)، وأحمد في "المسند" (3/ 424)، وابن خزيمة في "الصحيح" (3/ 175 و 176/ رقم 1857 و 1858)، والطحاوي في "المشكل" (4/ 230)، وأبو يعلى =

ومنها: أن يقطع ميراث وارثه من تركته أو يدله على ذلك ويعلّمه من الحيل ما يخرجه به من الميراث. ومنها: الغلو في المخلوق حتى يتعدّى به منزلته، وهذا قد يرتقي من الكبيرة إلى الشرك. وقد صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إياكم والغُلّو، وإنما هلك من كان قبلكم بالغلو" (¬1). ¬

_ = (1600)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (2/ رقم 976)، وابن الجارود (288)، والطبراني (22/ رقم 915، 916، 917، 918)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 280 و 3/ 624)، وابن حبان في "الصحيح" (1/ 237 - 238/ رقم 258 و 4/ 198 رقم 2775 - الإحسان)، والبيهقي في "الكبرى" (3/ 172)، و"الصغرى" (رقم 600)، وأبو نعيم في "معرفة الصحابة" (1086)، والبغوي في "شرح السنة" (4/ 213 رقم 1053)، والدولابي في "الكنى والأسماء" (1/ 21 - 22)، والمروزي في "فضل الجمعة" (رقم 62)، والعبدويي في "جزئه" (رقم 11 - بتحقيقي)، وأبو طاهر بن أبي الصقر في "مشيخته" (96، 97) بإسناد قوي، كما قال الذهبي في "الكبائر" (ص 208 - بتحقيقي)، وصحح الحديث جماعة، انظر: "التلخيص الحبير" (2/ 52). وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬1) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 215)، وابن ماجه (3029) في (المناسك): باب قدر حصى الرمي، والنسائي (5/ 268) في (الحج): باب التقاط الحصى، وابن سعد في "الطبقات" (2/ 180 - 181)، وابن الجارود (473)، وابن خزيمة (2867)، وأبو يعلى (2427 و 2472)، وابن حبان (3871)، والطبراني (12747 و 12748)، والحاكم (1/ 466)، وأبو نعيم (2/ 223) من طرق عن عوف بن أبي جميلة عن زياد بن حصين عن أبي العالية عن ابن عباس. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. ورجاله ثقات رجال الشيخين غير زياد بن الحصين، فمن رجال مسلم وحده. ورواه البيهقي في "السنن الكبرى" (5/ 127) من طريق جعفر بن سليمان عن عوف به، لكن قال: عن ابن عباس عن الفضل بن عباس فجعله من مسند الفضل. ورواه أحمد (1/ 347) من طريق إسماعيل ابن علية ويحيى القطان، وابن خزيمة (2868) من طريق يحيى القطان عن عوف به. لكن شك عوف: عبد اللَّه أو الفضل. وعلى كل حال فإن هذا الشك لا يضر فإن أبا العالية أدرك الفضل، ومَنْ هو أسبق منه من الصحابة، فقد أدرك الجاهلية، وأسلم بعد وفاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بسنتين، ودخل على أبي بكر، وصلى خلف عمر، ورواه ابن أبي عاصم في "السنة" (98) من طريق حماد بن زيد عن عوف به، لكن أسقط زياد بن حصين، والحديث صحيح إن شاء اللَّه تعالى.

ومنها: الحسد وفي "السنن": "إنه يأكل الحسنات، كما تأكل النَّار الحطب" (¬1). ¬

_ (¬1) ورد من حديث أنس وأبي هريرة وابن عمر. أما حديث أنس فرواه ابن ماجه (4210) في (الزهد): باب الحسد، وأبو يعلى في "مسنده" (3656)، وابن عدي في "الكامل" (5/ 1887)، والخطيب في "الموضح" (1/ 146 - 147)، والقضاعي في "مسند الشهاب" (1049) من طريق ابن أبي فديك، عن عيسى بن أبي عيسى الحنَّاط، عن أبي الزناد عن أنس. قال البوصيري (2/ 340): هذا إسناد فيه عيسى بن أبي عيسى، وهو ضعيف. أقول: بل هو أشد، فقد قال ابن معين: ليس بشيء، وقال عمرو بن علي الفلاس، وأبو داود والنسائي والدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: وأحاديثه لا يتابع عليها متنًا ولا إسنادًا. ورواه ابن أبي شيبة في "مسنده" -كما في "مصباح الزجاجة" (2/ 340) - من طريق أبي معاوية عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس به. ورواه ابن عدي في "الكامل" (7/ 2554) من طريق واقد ويقال. وافد بن سلامة عن يزيد الرقاشي عن أنس به. ويزيد الرقاشي هذا متروك أيضًا. ثم رواه ابن عدي من طريق ابن عجلان عن واقد بن سلامة عن أنس به، فأسقط يزيد الرقاشي! وواقد هذا أو وافد ضعفوه. ورواه الخطيب في "تاريخ بغداد" (2/ 227) من طريق محمد بن الحسين بن حريقا البزار عن الحسن بن موسى الأشيب: حدثنا أبو هلال عن قتادة عن أنس مرفوعًا. وهذا إسناد ضعيف؛ محمد بن الحسين هذا ذكر الخطيب الحديث في ترجمته، ولم يذكر فيه شيئًا. وأبو هلال هو الراسبي في حفظه شيء. ومع هذا حسّن العراقي هذا الإسناد في "تعليقه على الإحياء" (1/ 45). وحديث أنس هذا مختصر، رواه أبو داود (4904)، وأبو يعلى (3694) من طريق سعيد بن عبد الرحمن بن أبي العمياء أن سهل بن أبي أمامة حدثه أنه دخل هو وأبوه على أنس فذكر حديثًا طويلًا وفيه: "إن الحسد يطفئ نور الحسنات". وسعيد هذا قال فيه الذهبي: وثق، وقال ابن حجر: مقبول، ولفظه قاصر عن حديث الترجمة. وأما حديث أبي هريرة، فرواه أبو داود (4903) في (الأدب): باب في الحسد، والبخاري في "التاريخ الكبير" (1/ 272) من طريق سليمان بن بلال عن إبراهيم بن أبي أسيد عن جده عن أبي هريرة به. قال الحافظ في "التقريب": إبراهيم بن أبي أسيد عن جده لا يعرف؛ أي: جده لا يُعرف. =

فصل مستطرد من فتاويه -صلى الله عليه وسلم- فارجع إليها

ومنها: المرور بين يدي المصلي ولو كان صغيرة لم يأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتال فاعله (¬1)، ولم يجعل وقوفه عن حوائجه ومصالحه أربعين عامًا خيرًا له من مروره بين يديه، كما في "مسند البزار" (¬2) واللَّه أعلم. فصل مستطرد من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- فارجع إليها [عود إلى فتاوى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الهجرة فقال: "إذا أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، فأنت ¬

_ = وقد ترجمه البخاري في "التاريخ الكبير": إبراهيم بن أبي أَسيد عن جده عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إياكم والحسد" روى عنه سليمان بن بلال. . . ويقال: ابن أبي أُسيد ولا يصح. فقوله: ولا يصح يعود عنى أُسيد بالضم؛ أي أن الصحيح أَسيد بالفتح، كما هو واضح. أما شيخنا الألباني -رحمه اللَّه- فجعل قوله: ولا يصح يعود على الحديث كما هو في "السلسلة الضعيفة" (1902)، وهذا لا يحتمله اللفظ كما هو واضح. وأما حديث ابن عمر، فرواه القضاعي في "مسند الشهاب" (1048) من طريق عمر بن محمد بن أبي حفصة أبي حفص الخطيب: حدثنا محمد بن معاذ بن المستملي قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر به. وعمر هذا ذكره الحافظ الذهبي في "الميزان"، وقال: "فهذا بهذا الإسناد باطل". فهذه طرق واهية لا يتقوى الحديث بها. ولذلك ذكره شيخنا الألباني في "السلسلة الضعيفة" (1901 و 1902) حاكمًا عليه بالضعف. (¬1) أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بمقاتلة المار بين يدي المصلي ثابت في "صحيح مسلم" (505) في (الصلاة): باب منع المار بين يدي المصلي، من حديث أبي سعيد الخدري. (¬2) رواه الدارمي (1/ 270)، وأحمد (4/ 116)، والبزار في "مسنده" -كما في "مجمع الزوائد" (2/ 61)،- عن بسر بن سعيد قال: أرسلني أبو جُهيم إلى زيد بن خالد أسأله عن المار بين يدي المصلي فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه كان لأن يقوم أربعين خريفًا خير له من أن يمر بين يديه، وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح، وقد رواه ابن ماجه غير قوله خريفًا. أقول: رحم اللَّه الهيثمي فالحديث نفسه في "صحيح البخاري" (510)، و"صحيح مسلم" (507)، لكن على العكس إذ إن زيد بن خالد أرسل بسر بن سعيد إلى أبي جُهيم، فذكر الحديث دون قوله: خريفًا، وهو كذلك في "الموطأ" (1/ 154)، وهو المحفوظ، قاله ابن حجر في "إتحاف المهرة" (5/ 12) وانظر: "فتح الباري" (1/ 585).

مهاجر، وإن مت بالحضرمة" يعني أرضًا باليمامة (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن حَوَالة أن يختار له بلادًا يسكنها، فقال: "عليك بالشام، فإنها خيرة اللَّه من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غَدَركم، فإنَّ اللَّه توكل (¬2) لي بالشام وأهله" (¬3)، ذكره أبو داود بإسناد صحيح. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) كذا في (ك) وفي سائر الأصول: "يتوكل". (¬3) هو جزء من حديث طويل رواه ابن أبي عاصم في "الآحاد المثاني" (2295)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1114)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 288 - 289)، ومن طريقه البيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 327)، من طريق يحيى بن حمزة قال: حدثنا نصر بن علقمة، عن جبير بن نفير عن عبد اللَّه بن حوالة. والحديث رواته ثقات، ونصر بن علقمة روى عنه جمع ووثقه دحيم، وابن حبان، وقال الحافظ فيه: مقبول! ونصر لم يسمع من جبير كما قال أبو حاتم، لكن ورد في آخر الحديث، قال: سمعت عبد الرحمن بن جبير، فيحتمل أن يكون القائل نصر بن علقمة، وأنه بيّن الواسطة بينه وبين جبير بن نفير، وهو عبد الرحمن، وعبد الرحمن هذا يروي عن أبيه وهو من الثقات. ورواه ابن حبان (7306) من طريق الوليد بن مزيد، والحاكم (4/ 510) من طريق بشر بن بكر كلاهما عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن أبي إدريس الخولاني عن عبد اللَّه بن حوالة. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. أقول: رواته كلهم ثقات، لكن سعيد بن عبد العزيز اختلط وبعضهم قال: تغيّر، ولم يذكروا من روى عنه بعد الاختلاط، وأخشى أن لا يكون أحد سمع منه بعد الاختلاط. وقد اختلف فيه على مكحول، فرواه أحمد (5/ 33 - 34) من طريق محمد بن راشد عنه عن عبد اللَّه بن حوالة دون ذكر أبي إدريس الخولاني. ومحمد بن راشد لا بأس به. لكن أظن أن مكحولًا لم يسمع من عبد اللَّه بن حوالة، ومكحول كان كثير الإرسال. ورواه أحمد (4/ 110)، وأبو داود (2483) في (الجهاد): باب في سكنى الشام من طريق بقية عن بحير عن خالد بن معدان، عن أبي قُتيلة عن ابن حوالة به. ورواته كلهم ثقات، وأبو قتيلة هذا صحابي اسمه مرثد بن وداعة له أحاديث قليلة، وله رواية عن بعض الصحابة، كما قال ابن حجر في "التقريب"، لكن بقي في الإسناد عنعنة بقية وهو صاحب تدليس قبيح. ورواه أحمد (5/ 288) من طريق حريز عن سليمان بن شمير عن ابن حوالة به. أقول: وسليمان بن شمير هذا لم يذكره الحافظ في "تعجيل المنفعة"! =

وسأله معاوية بن حِيَدة جدّ بهز بن حكيم، فقال: يا رسول اللَّه أين تأمرني؟ قال: "هاهنا" ونحا بيده نحو الشام (¬1)، ذكره الترمذي وصححه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- اليهود عن الرعد ما هو؟ فقال: "مَلَك من الملائكة موكَّل بالسحاب معه مخاريق (¬2) من نار يسوقه به حيث يشاء اللَّه تعالى" قالوا: فما هذا الصوت الذي يُسمع؟ قال: "زجره السحاب حتى تنتهي حيث أُمِرت" قالوا: صدقت، ثم قالوا: فأخبرنا عمَّا حرَّم إسرائيل على نفسه؟ قال: "اشتكى عِرْق النسا (¬3)، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها على نفسه" ¬

_ = وبعد فالحديث بطرقه لا شك أنه قوي، وقد قال شيخنا الألباني في "تخريج أحاديث فضائل الشام" (ص 10): هذا حديث صحيح جدًا. (¬1) رواه الترمذي بعد (2197) في (الفتن): باب ما جاء في الشام، والنسائي في "الكبرى": كتاب التفسير (451)، وأحمد في "مسنده" (5/ 3 و 5)، و"فضائل الصحابة" (1710، 1711)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (2/ 288، 296)، والطبراني (19/ رقم 975)، وابن أبي شيبة وأبو يعلى في "مسنديهما" -كما في "الإعلان بسن الهجرة إلى الشام" (ص 115) للبقاعي-، والحاكم (4/ 564)، والربعي (رقم 25، 27)، والسمعاني (رقم 5، 13) كلاهما في "فضائل الشام"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 80 - 86، 167) من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. قال (و): "مثل هذه الأحاديث يشك في صحتها؛ فإنها تثير في النفوس ما تثير من عصبية حمقاء، وكراهية وعناء، عصبية لبلاد، وكراهية لبلاده وكلها أرض اللَّه {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ". قلت: هذا جهل منه، ولا تسمع هذا الدعاوى العريضة، ولا يلتفت إليها، والعمدة في كل فن كلام أهله، واللَّه الموفق والهادي. وانظر -لزامًا- "مجموع فتاوى ابن تيمية" (24/ 263 - 264). (¬2) "جمع مخراق، وهو ثوب يلف به الصبيان بعضهم بعضًا، أراد أنه آلة تزجر بها الملائكة السحاب وتسوقه، وأقول: أسباب الرعد معروفة بيقين، واللَّه يرسل الرياح فتثير سحابًا كما ذكر القرآن، فالذي يسوق السحاب: الريح" (و). قلت: إِنْ صح الحديث فلا قيمة لهذا الكلام! (¬3) "عرق النسا: عرق يخرج من الورك، فيستبطن الفخذ، والأفصح أن يقال: النسا، لا عرق النسا، واليهود يذكرون -لعنهم اللَّه- سببًا آخر، وهو أن يعقوب لقي اللَّه -جل شأنه سبحانه- في الطريق فصارعه، وكاد يعقوب يغلب اللَّه، لولا أن ضربه هذا على حق فخذه، وإليك نصهم: "وصارعه إنسان حتى طلوع الفجر، ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه، فانخلع حق فخذ [يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني لأنه قد طلع الفجر فقال لا أطلقك] إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ فقال: يعقوب، فقال: =

قالوا: صدقت (¬1)، ذكره الترمذي وحسنه. ¬

_ = لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل: إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع اللَّه والناس وقدرت، وسأل يعقوب، وقال: أخبرني باسمك، فقال: لماذا تسأل عن اسمي، وباركه هناك، فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل قائلًا: لأني نظرت اللَّه وجهًا لوجه، ونجيت نفسي. . لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرف النسا الذي على حق الفخذ إلى هذا اليوم؛ لأنه ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النسا" سفر التكوين: إصحاح 32 فقرات 25 - 34 هذا ما يذكره اليهود -لعنهم اللَّه عن سبب تحريم عرق النسا، فكيف يقولون للرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: صدقت؟ لتنظر في سند الحديث، حتى لا نعرض خاتم النبيين لبهتان أعدائه" (و)، قلت: انظر الهامش الآتي. (¬1) رواه الترمذي (3128) في (التفسير): باب ومن سورة الرعد، وأحمد في "مسنده" (1/ 274)، والنسائي في "الكبرى" (9072)، والحربي في "غريب الحديث" (2/ 688)، والطبراني في "الكبير" (12429)، وفي "الدعاء" (2/ 1261)، وابن أبي الدنيا في "المطر والرعد" (رقم 108)، وأبو الشيخ في "العظمة" (4/ 1279 رقم 765)، وابن منده في "التوحيد" (48)، وأبو نعيم في "الحلية" (4/ 304 - 305) من طريق عبد اللَّه بن الوليد العجلي عن بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس فذكر قصة في سؤال اليهود للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أشياء، وهي: علامة النبي، وكيف تؤنث المرأة، وكيف تذكر، وما الذي حرمه إسرائيل على نفسه، وعن الرعد وعن جبريل. ورواية الترمذي مختصرة كما ساقها المؤلف. ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقال أبو نعيم: غريب من حديث سعيد تفرد به بُكير، وذكره الهيثمي (8/ 242)، وقال: رواه أحمد والطبراني ورجالهما ثقات. أقول: بُكير بن شهاب هذا روى عنه عبد اللَّه بن الوليد ومبارك بن سعيد الثوري، قال أبو حاتم: شيخ، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فمثله بحاجة إلى متابعة، وإن قال الذهبي في "الميزان": "صدوق". وقد رواه حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بذكر الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه فقط، أخرجه عبد الرزاق في "تفسيره" (1/ 126)، ومن طريقه الطبري (3/ 351)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (953)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (2/ 114) من طريق الأعمش وسفيان عن حبيب به. وحبيب من الثقات المشاهير. وله طريق آخر عن ابن عباس مطولًا دون ذكر (الرعد)، فقد أخرجه أحمد (1/ 273)، وابنه عبد اللَّه في "زوائد المسند" (1/ 278)، وابن سعد في "الطبقات" (1/ 174 - 176)، وعبد بن حميد في "تفسيره" كما في "تفسير ابن كثير" (1/ 134)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (951)، والطبري (1/ 476 - 477)، والطبراني في "المعجم الكبير" (13012)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (6/ 266 - 267) من طرق عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب عن ابن عباس. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود؟ فقال: "إن اللَّه لم ¬

_ = أقول: شهر تكلم فيه، لكن عبد الحميد بن بهرام انظر ماذا قال فيه أهل العلم. قال أحمد: لا بأس بحديث عبد الحميد بن بهرام عن شهر، وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: عبد الحميد في شهر كالليث في سعيد المقبري، قلت: ما تقول فيه؟ قال: ليس به بأس أحاديثه عن شهر صحاح لا أعلم روى عن شهر أحاديث أحسن منها. قلت: يحتج بحديثه؟ قال: لا، ولا بحديث شهر، ولكن يكتب حديثه. وقال أحمد بن صالح المصري: عبد الحميد بن بهرام ثقة يعجبني حديثه، أحاديثه عن شهر صحيحة. ورواه الطبري (1/ 477) من طريق آخر عن شهر مرسلًا دون ذكر ابن عباس. أعود فأقول: طريق بُكير التي فيها ذكر تفسير الرعد، قد ذكره شيخنا الألباني في "السلسلة الصحيحة" (4/ 492)، ونقل قول الترمذي: حسن صحيح غريب!! وقول ابن منده في "التوحيد": ورواته مشاهير ثقات. ثم نقل قول الذهبي في "الميزان": إنه صدوق، قال الألباني: ولعل مستنده في ذلك قول ابن أبي حاتم فيه: شيخ، مع ذكر ابن حبان له في "الثقات"، وتصحيح من صحح حديثه هذا ممن ذكرنا. أقول: تصحيح الترمذي قد رده الشيخ في مواطن كثيرة من كتبه، وتوثيق ابن حبان معروف، فتبقى كلمة ابن أبي حاتم فيه: (شيخ)، وهي عبارة تليين لا تمتين، ولذلك ليّن فيه العبارة ابن حجر في "التقريب" وقال: مقبول، وإن لم يقبلها الشيخ الألباني اعتمادًا على ما قال. ثم ذكر شاهدًا من حديث صحابي اسمه خزيمة بن ثابت، وليس بالأنصاري، وعزاه للطبراني في "الأوسط" -ووجدته فيه بإشارة الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (2/ 185) لما قال: في "آخر ترجمة المحمدين" فهو في (7/ رقم 7731) ضمن حديث طويل جدًا- عن أبي عمران الكوفي عن ابن جريج عن عطاء عن جابر عنه فذكره، وهو مختصر وسياقه يختلف. ثم قال الشيخ: وأبو عمران الكوفي لم أعرفه، وفي الرواة المعروفين بهذه الكنية إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه، ولكنه متقدم على هذا واللَّه أعلم. أقول: أبو عمران هذا هو الجوني، وقد ذكر إسناد الحديث الحافظ ابن حجر في "الإصابة" في ترجمة الصحابي خزيمة بن ثابت، أو خزيمة بن حكيم، وعزاه أيضًا لابن مردويه في "تفسيره"، وذكر أنه من طريق أبي عمران الجوني. وتكلم على الحديث وبيّن أنه معلول. ثم ذكر الشيخ شاهدًا موقوفًا على ابن عباس من طريق شهر بن حوشب، بلفظ: "الرعد ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الإبل بحدائه" وعزاه للخرائطي في "مكارم الأخلاق" (ص 85)، قلت: وأخرجه من الطريق نفسه أيضًا صالح في "مسائل أبيه أحمد" (588)، ومن طريقه يوسف بن عبد الهادي في "العشرة من مرويات صالح" (رقم 17) -وأبو نعيم في "ذكر أخبار أصبهان" (1/ 348 - 349) - وابن جرير (1/ 478)، وأبو الشيخ في "العظمة" (4/ رقم 771) وشهر ضعيف. =

يلعن قومًا قط فمسخهم فكان لهم نسل حتى يهلكهم، ولكن هذا خَلْق كان فلما غضب (¬1) اللَّه على اليهود مَسْخَهم جعلهم مثلهم" (¬2)، ذكره أحمد. وقال: "فيكم المُغرِّبون"، فقالت عائشة: وما المغربون؟ قال: "الذين يشترك فيهم الجن" (¬3)، ذكره أبو داود، وهذا من مشاركة الشياطين (¬4) للأنس في الأولاد وسموا المغربين لبعد أنسابهم، وانقطاعهم عن أصولهم، ومنه قولهم: "عنقاء مغرب". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أين أتَّزر؟ فأشار إلى عظم ساقه، وقال: "هاهنا أتَّزِر" قال: فإن أبيت؟ قال: "فههنا أسفل من ذلك، فإن أبيت فههنا فوق الكعبين، فإن ¬

_ = ثم قال الشيخ: وجملة القول أن الحديث عندي حسن على أقل الدرجات. أقول: وفي الأمر -مرفوعًا- نظر وأما الموقوف فوارد من طرق عن ابن عباس وغيره من الصحابة ووقع التصريح عند ابن أبي الدنيا أنه أخذه عن كعب الأحبار، وفي الباب عن أبي عمران الجوني قوله وقول غيره، أورد هذا صالح بن أحمد في "مسائل أبيه" (583 - 593)، وأبو الشيخ في "العظمة" (4/ 1279 - 1287)، وابن أبي الدنيا في "المطر والرعد" وهذا أشبه واللَّه أعلم. (¬1) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "كتب"! (¬2) رواه أحمد في "مسنده" (1/ 395 و 396 - 397 و 421)، وأبو يعلى (5314)، والطحاوي في "مشكل الآثار" (3272) من طرق عن داود بن أبي الفرات: حدثنا محمد بن زيد العبدي عن أبي الأعين، عن ابن الأحوص الجشمي عن ابن مسعود به. وهذا إسناد ضعيف، أبو الأعين العبدي ضعفه ابن معين، وقال ابن حبان في "المجروحين" (3/ 150): كان ممن يأتي بأشياء مقلوبة، وأوهام معمولة، كأنه تعمدها لا يجوز الاحتجاج به، ثم ذكر له نسخة بهذا الإسناد وقال: "ما لشيء منها أصل يرجع إليه". وهذا من تهويلاته -رحمه اللَّه- وأصل الحديث في "صحيح مسلم" (2663) في (القدر): باب بيان أن الآجال والأرزاق وغيرها لا تزيد ولا تنقص كما سبق به القدر، من حديث ابن مسعود أيضًا. وقال: وذُكرت عنده القردة قال مسعر: وأراه قال: والخنازير من مَسْخٍ؟ فقال: "إن اللَّه لم يجعل لمسخ نسلًا ولا عقبًا، وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك". وله لفظ آخر عنده أيضًا. (¬3) رواه أبو داود (5107) في (الأدب): باب في الصبي يولد فيؤذن في إذنه من طريق إبراهيم بن أبي الوزير: حدثنا داود بن عبد الرحمن العطار، عن ابن جريج عن أبيه عن أم حميد عن عائشة به. أقول: هذا إسناد فيه مقال؛ ابن جريج مدلس، وقد عنعن، وأبوه ليّن الحديث كما في "التقريب"، وأم حميد لا يعرف حالها كما في "التقريب" أيضًا، وانظر كتابي "فتح المنان بجمع كلام شيخ الإسلام ابن تيمية عن الجان" (1/ 422 - 423). (¬4) في (ك): "الشيطان".

أبيت، فإن اللَّه لا يحب كل مختال فخور" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- فقال: إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فقال: "إنك لست ممن يفعله خيلاء" (¬2)، ذكره البخاري. وقال: "من جرَّ إزاره خُيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهنّ؟ قال: "يُرخين شِبْرًا"، فقالت: إذًا تنكشف أقدامهن؟ قال: "يرخين ذراعًا لا يزدن عليه" (¬3). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمزق شعرها أفاصل فيه؟ فقال: "لعن اللَّه الواصلة والمستوصلة" (¬4)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إتيان الكهَّان، فقال: "لا تأتهم" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الطِّيرة، قال: "ذلك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يردنَّهم" (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخطِّ، فقال: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" (¬7). ¬

_ (¬1) الحديث في "مسند أحمد" (3/ 482)، وهو جزء من حديث أوله: "عليك السلام تحية الموتى"، وقد سبق تخريجه. (¬2) رواه البخاري (3665) في (فضائل الصحابة): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا"، و (5784) في (اللباس): باب من جرّ إزاره من غير خيلاء، و (6062) في (الأدب): باب من أثنى على أخيه بما يعلم، من حديث ابن عمر. (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 915)، ومن طريقه أبو داود (4117) في (اللباس): باب في قدر الذيل، وابن حبان (5451)، والبغوي (3082)، عن أبي بكر بن نافع، عن أبيه عن صفيّة بنت أبي عبيد عن أم سلمة. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. ورواه أحمد (6/ 295 - 296 و 309)، وإسحاق بن راهويه (1842) في "مسنديهما"، والنسائي (8/ 209) في (اللباس): باب ذيول النساء، وأبو يعلى (12/ 316، 411)، والطبراني في "الكبير" (23/ 840) و (1007 و 1008) من طرق عن نافع به. ورواه أحمد (6/ 293 و 315)، وإسحاق بن راهويه (1841)، وأبو داود (4118)، والنسائي (8/ 209)، وابن ماجه (3580)، وأبو يعلى (12/ 316)، والطبراني في "الكبير" (23/ 916) من طريق سليمان بن يسار عن أم سلمة به. (¬4) تقدم تخريجه، وفي (ك): "فامزق" بدل "فتمزق" والمثبت من سائر الأصول ومصادر التخريج. (¬5) و (¬6) و (¬7) هي حديث واحد، رواه مسلم (537) في (المساجد): باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحة، من حديث معاوية بن الحكم السُّلمي.

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكهان أيضًا، فقال: "ليسوا بشيء" فقال السائل: إنهم يحدثوننا أحيانًا بالشيء فيكون، فقال: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أُذن وليه من الإنس فيخلطون معها مئة كذبة" (¬1) متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]، فقال: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له" (¬2) ذكره أحمد. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- خديجة -رضي اللَّه عنها- عن ورقة بن نوفل فقالت: إنه كان صدقك، ومات قبل أن تظهر، فقال: "أريته (¬3) في المنام وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك" (¬4). ¬

_ (¬1) رواه البخاري (5762) في (الطب): باب الكهانة، و (6213) في (الأدب): باب قول الرجل للشيء: "ليس بشيء" وهو ينوي أنه ليس بحق، و (7561) في (التوحيد): باب قراءة الفاجر والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز حناجرهم، ومسلم (2228) في (السلام): باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان، من حديث عائشة. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) كذا في (ك)، وفي سائر الأصول: "رأيته". (¬4) رواه أحمد في "مسنده" (6/ 65) من طريق حسن عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة. وعزاه إليه الحافظ في "الإصابة" في ترجمة ورقة ساكتًا عليه، وكأنه لشهرة ابن لهيعة، وهو ضعيف في غير رواية ومن يلحق بهم -وقد ذكرناهم في موضع سابق- وليس الحسن منهم. ورواه الترمذي (2288) في (الرؤيا): باب ما جاء في رؤيا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الميزان والدَّلو، والحاكم (393) من طريق يونس بن بكير حدثني عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري عن عروة من عائشة به. قال الترمذي: "هذا حديث غريب، وعثمان بن عبد الرحمن ليس عند أهل الحديث بالقوي". وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: "قلت: فيه عثمان الوقّاصي متروك، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (3/ 9) عن إسناد أحمد: "هذا إسناد حسن، لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلًا، فاللَّه أعلم". قلت: رواه الزبير بن بكار -كما في "الروض الأنف" (1/ 273) - عن عبد اللَّه بن معاذ الصنعاني عن معمر عن الزهري عن عروة. ورواه عبد الرزاق (9719) عن معمر عن الزهري قال: وسئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ورقة بن نوفل -كما بلغنا فقال: فذكره وهذا مرسل. =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل رأى في المنام كأن رأسه ضُرب فتدحرج فاشتد في إثره، فقال: "لا تحدث [الناس] بتلعُّب الشيطان [بك] في منامك" (¬1)، ذكره مسلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم العلاء فقالت: رأيت لعثمان بن مظعون عينًا تجري، يعني بعد موته، فقال: "ذاك عمله يجري له" (¬2). وذكر أبو داود أن معاذًا سأله فقال: بم أقضي؟ قال: "بكتاب اللَّه" قال: فإن لم أجد؟ قال: "فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" قال: فإن لم أجد؟ قال: "استدق (¬3) الدنيا وعظّم في عينيك ما عند اللَّه واجتهد رأيك فسيسدّدك اللَّه بالحق" (¬4)، وقوله: "استدق (3) الدنيا" أي استصغرها واحتقرها. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- دحية الكلبي فقال: ألا أحمل لك حمارًا على فرس فتنتج لك بغلًا فتركبها؟ فقال: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ = وللحديث شواهد، منها: حديث جابر. رواه ابن عدي (1/ 313)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (602)، وابن السكن ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة في "تاريخه" -كما في "الإصابة" (6/ 609) - من طريق مجالد عن الشعبي عنه. ولفظه: "رأيته يمشي في بطنان الجنة، عليه حلة من سندس" وإسناده ضعيف، وله شاهد آخر ضعيف عند الحاكم (2/ 609) وقد قرر كثير من علماء الإسلام، وأعيان المسلمين وأئمة الدين إيمان ورقة برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، انظر: "طرح التثريب" (4/ 194) و"الإصابة" (3/ 634) و"زاد المعاد" (3/ 21) و"البداية والنهاية" (3/ 8 - 9)، و"إرشاد الساري" (1/ 67) و"شرح المواهب اللدنية" (1/ 224)، و"إمتاع الأسماع" (1/ 17)، و"نسيم الرياض" (3/ 262) وقد ألف برهان الدين البقاعي كتابًا مفردًا في إيمان ورقة، سماه "بذل النصح والشفقة للتعريف بصحبة السيد ورقة" وهو من محفوظات الظاهرية، وللدكتور عويّد المطرفي دراسة مطبوعة جيدة بعنوان: "ورقة بن نوفل في بطنان الجنة". (¬1) رواه مسلم (2268) (15) في (الرؤيا): باب لا يخبر بتلعب الشيطان به في المنام. وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬2) رواه البخاري (2687) في (الشهادات): باب القرعة في المشكلات، و (3929) في (مناقب الإنصار): باب مقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه المدينة و (7003 و 7004) في (التعبير): باب رؤيا النساء و (7018) في العين الجارية في المنام من حديث أم العلاء الأنصارية. (¬3) كذا في (ك) في الموضعين، وفي سائر الأصول: "استدن"، ولها وجه. (¬4) مضى تخريجه مطولًا جدًا. (¬5) رواه أحمد في "مسنده" (4/ 311): حدثنا محمد بن عبيد: حدثنا عمر من آل حذيفة عن الشعبي عن دحية الكلبي به. قال الهيثمي في "المجمع" (5/ 265): رواه أحمد والطبراني في "الأوسط" إلا أنه قال: عن الشعبي أن دحية، مرسل، وهو عند أحمد عن الشعبي عن دحية، ورجال أحمد =

ولما نزل التشديد في أكل مال اليتيم عزلوا طعامهم عن طعام الأيتام وشرابهم من شرابهم فذكروا ذلك لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم (¬1). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- عن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ]} [آل عمران: 7] فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى اللَّه فاحذروهم" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]، فقال: "كانوا ¬

_ = رجال الصحيح خلا عمر بن حسيل من آل حذيفة، ووثقه ابن حبان. أقول: وعمر بن حسيل هذا ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (6/ 103 - 104)، وذكر أنه روى عنه عيسى بن يونس، ووكيع وقال: وكان ثبتًا، فهذا توثيق من وكيع، وقال ابن أبي حاتم: روى عن الشعبي حديثا مرسلًا أن دحية الكلبي (فذكر هذا الحديث). وقال البخاري في "التاريخ الكبير" (6/ 147): عمر بن حسيل روى عنه يزيد بن عبد العزيز، ثم أشار إلى حديثه هذا عن الشعبي، مرسل. فاتفق البخاري وابن أبي حاتم أن حديث الشعبي عن دحية مرسل، ولم أجد هذا في "المراسيل"، ولا في "جامع التحصيل" فيزاد، وفي "جامع التحصيل" أن الشعبي لم يسمع من جماعة من الصحابة ماتوا بعد دحية الكلبي. والحديث في "المعجم الأوسط" للطبراني (5/ رقم 4993) من طريق وكيع عن عمر بن حسيل قال سمعت الشعبي يقول: قال دحية بن خليفة الكلبي: يا رسول اللَّه. . . بنحوه، وقال: "لم يرو هذا الحديث عن دحية إلا الشعبي ولا عن الشعبي إلا عمر بن حسيل" وقال: "تفرد به وكيع"!! وفي الباب عن علي بن أبي طالب، رواه أحمد (1/ 100، 158)، وابن أبي شيبة (12/ 540)، وابن سعد (1/ 491)، وأبو داود (2565)، والنسائي (6/ 224)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (3/ 271)، وفي "مشكل الآثار" (214 و 215)، وابن حبان (4663)، والبيهقي (10/ 22 - 23)، وإسناده صحيح، وعن ابن عباس، رواه البيهقي (10/ 23). (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه البخاري (4547) في (التفسير): باب {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ}، ومسلم (2665) في (العلم): باب النهي عن اتباع متشابه القرآن، من حديث عائشة. وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

يسمّون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قومهم" (¬1). وفي الترمذي أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147] كم كانت الزيادة؟ قال: "عشرون ألفًا" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة عن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] الآية فقال: "ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام، فإنّ من ورائكم أيام الصبر، الصبرُ فيهن (¬3) مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين يعملون مثل عملكم" (¬4)، ذكره أبو داود. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) رواه الترمذي (3243) في (التفسير): باب ومن سورة الصافات، من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن رجل عن أبي العالية عن أبي بن كعب به. ورواه الطبري (10/ 532) من طريق عمرو بن أبي سلمة عن زهير عمّن سمع أبا العالية: حدثني أبي بن كعب به. قال الترمذي: هذا حديث غريب. وهذا إسناد ضعيف، لإبهام الرجل. والحديث في "ضعيف سنن الترمذي" (633)، وفي سائر الأصول: "عشرة آلاف" والمثبت من (ك) و"جامع الترمذي". (¬3) كذا في (ك) و"سنن أبي داود" وهو الصواب، وفي سائر النسخ: "أيامًا الصبر فيهن". (¬4) رواه البخاري في "خلق أفعال العباد" (رقم 224 - مختصرًا)، وأبو داود (4341) في (الملاحم): باب الأمر والنهي ومن طريقه البيهقي (10/ 92)، والترمذي (3068) في (التفسير): باب ومن سورة (المائدة)، وابن حبان (385)، وابن وضاح في "البدع" (ص 76) -ومن طريقه الداني في "الفتن" (294) - ونعيم بن حماد في "الفتن" (1770 - مختصرًا)، والطبراني (22/ رقم 587)، وفي "مسند الشاميين" (753)، وابن نصر في "السنة" (رقم 31)، وابن أبي الدنيا (رقم 2) -ومن طريقه عبد الغني (19) كلاهما في "الأمر بالمعروف"-، وأبو نعيم في "الحلية" (2/ 30)، والبغوي في "شرح السنة" (4156)، و"التفسير" (2/ 92) والمزي في "تهذيب الكمال" (21/ 563) من طريق ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم: حدثني عمرو بن جارية اللخمي: حدثنا أبو أمية الشعباني عن أبي ثعلبة الخشني به. ورواه ابن ماجه (4041) في (الفتن): باب قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}، والطحاوي في "مشكل الآثار" (1171 و 1173)، وابن جرير الطبري (5/ 94)، وأبو عبيدة في "الناسخ والمنسوخ" (524)، ونعيم بن حماد في "الفتن" (1770)، والداني في "الفتن" (293، 295)، وابن أبي حاتم في "التفسير" (4/ رقم 6915)، =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- متى وجبت لك النبوة؟ فقال: "وآدم بين الروح والجسد" (¬1)، صححه الترمذي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما كان (¬2) بدء أمرك؟ فقال: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي (¬3) أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (¬4)، ذكره أحمد. ¬

_ = والطبراني في "مسند الشاميين" (رقم 754)، والتيمي في "الترغيب والترهيب" (رقم 1605 - ط. أيمن شعبان)، والبيهقي (10/ 91 - 92)، وفي "الإعتقاد" (ص 338 - ط. أبو العينين)، وفي "الآداب" (202) من طرق عن عتبة بن أبي حكيم به. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ومثله في "تحفة الأشراف" (9/ 137)، أما ابن كثير في "التفسير" فنقل عنه: حسن غريب صحيح! أقول: عتبة بن أبي حكيم مختلف فيه وأكثر أهل هذا الفن يضعفونه بل في رواية أبي دواد عن ابن معين قال: واللَّه الذي لا إله إلا هو إنه لمنكر الحديث. وعمرو بن جارية وأبو أمية الشعباني لم يوثقهما غير ابن حبان، وروى عنهما أكثر من واحد. وقد ذكره الحافظ في "الفتح" (7/ 6) عازيًا إياه لأبي داود والترمذي؛ ليجمع بينه وبين حديث: "خير القرون قرني". (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) كذا في (ك) و"المسند"، وفي سائر الأصول: "كيف كان". (¬3) كذا في (ك) و"المسند" وفي سائر الأصول: "ورؤيا أمي رأت". (¬4) رواه أحمد (5/ 262)، والطيالسي (2315)، وابن عدي (6/ 2055)، والطبراني في "الكبير" (7729) و"مسند الشاميين" (1582)، وابن سعد (1/ 102)، وأبو القاسم البغوي في "الجعديات" (3553)، والروياني (1267)، والحارث بن أبي أسامة (931 - بغية الباحث) -وكما في "إتحاف الخيرة المهرة" (9/ 15) - والبزار (2/ ق 218) في "مسانيدهم"، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/ 84)، والتيمي في "السنة" (1404) و"دلائل النبوة" (رقم 1)، وأبو نعيم في "الدلائل" (317) من طرق عن الفرج بن فضالة عن لقمان بن عامر عن أبي أمامه به. وصرّح الفرج بالتحديث عند أحمد. قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 222): "إسناده حسن وله شواهد تقويه". أقول: من شواهده حديث العرباض بن سارية، رواه أحمد (4/ 127 و 128)، والطبراني في "الكبير" (18/ 629 و 630 و 631)، و"مسند الشاميين" (1455)، وابن سعد (1/ 149)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (5/ 68) و"التاريخ الصغير" (1/ 13)، والفسوي (2/ 345)، وابن حبان (6370)، وابن أبي عاصم في "السنة" (409)، وابن جرير في "التفسير" (1/ 556)، وابن بشران في "الآمالي" (رقم 40)، والحاكم (2/ 418، 600)، والبيهقي في "دلائل النبوة" (1/ 83)، و"الشعب" (1322) والبغوي في "شرح السنة" (13/ 207)، و"التفسير" (1/ 116)، و"الدلائل" (رقم 4)، وأبو نعيم في "الحلية" (6/ 89). =

وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو هريرة: يا رسول اللَّه، ما أوَّل ما رأيت من النبوة؟ قال: إني لفي الصحراء ابن عشرين سنة وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجل يقول لرجل: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها لأحد قط وأرواح لم أجدها لخلق قط وثياب لم أرها على خلق قط، فأقبلا يمشيان حتى أخذ كُلٌّ منهما بعضدي لا أجد لأخذِهِما مسًّا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني، بلا قصر، ولا هصر فقال أحدهما لصاحبه: أفلق صدره، فحوى أحدهما صدري ففلقه فيما أرى، بلا دم، ولا وجع فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئًا كهيئة العَلَقة، ثم نبذها فطرحها، ثم قال له: أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هزَّ إبهامَ رجلي اليمنى فقال: اغد سليمًا، فرجعتُ بها رِقّةً على الصغير ورحمة على الكبير" (¬1)، ذكره أحمد. ¬

_ = قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 223): وأَحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وثقه ابن حبان. وشاهد آخر من حديث خالد بن معدان عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه ابن إسحاق (ص 51 ط. الفكر وص 28 ط. الرباط) وكما في "سيرة ابن هشام" (1/ 177)، ومن طريقه رواه ابن جرير في "تفسيره" (1/ 556) و"تاريخه" (2/ 165)، والحاكم (2/ 600)، والبيهقي (1/ 83) قال حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان به. قال الحاكم: خالد بن معدان من خيار التابعين صحب معاذ بن جبل فمن بعده من الصحابة فإذا أسند حديثًا إلى الصحابة فإنه صحيح الإسناد وإن لم يخرجاه، وقال ابن كثير في "البداية والنهاية" (2/ 298): "وهذا إسناد جيّد قويّ" وانظر: "السلسلة الصحيحة" (373) و (1546). (¬1) رواه عبد اللَّه في "زوائد المسند" (5/ 139) -ومن طريقه الضياء في "المختارة" (4/ رقم 1264)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (1/ 375 - السيرة) - والمحاملي في "أماليه" (454 - روايه ابن البيع) -ومن طريقه الضياء (1263)، وابن عساكر (1/ 374 - 375/ السيرة) - من طريق معاذ بن محمد بن [معاذ بن محمد بن] أبيّ بن كعب: حدثني أبي محمد بن معاذ، عن معاذ عن محمد عن أبي بن كعب أن أبا هريرة كان جريئًا على أن يسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أشياء لا يسأله عنها غيره فذكره. وروى ابن حبان (7155)، والحاكم (3/ 510)، وأبو نعيم في "الدلائل" (1/ 219 - 220) أوله فقط من طريق معاذ بن محمد بن معاذ بن أبي بن كعب عن أبيه عن جده عن أبي بن كعب. قال ابن حجر في "التهذيب" في ترجمة معاذ بن محمد بن معاذ: قال ابن المديني في "العلل" في مسند أبيّ في حديث: "أول ما رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من النبوة" رواه مالك بن محمد بن معاذ بن أبيّ عن أبيه عن جده حديث مدني وإسناده مجهول كله، ولا نعرف محمدًا ولا أباه ولا جده. =

وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث" (¬1) [ذكره مسلم] (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أحب النِّساء إليه، فقال: "عائشة" فقيل: ومن الرِّجال؟ فقال: "أبوها" فقيل: ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-" (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- علي والعباس: أيُّ أهلك أحبُّ إليك؟ قال: "فاطمة بنت محمد صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنها"، قالا: ما جئناك نسألك عن أهلك؟ قال: أحبُّ أهلي إليَّ من أنعم اللَّه عليه، وأنعمت عليه: أسامة بن زيد، قالا: ثم من؟ قال: علي بن أبي طالب، قال العباس: يا رسول اللَّه جعلت عمك آخرهم" قال: "إن عليًا سبقك بالهجرة" (¬4)، ذكره الترمذي وحسنه. وفي الترمذي أيضًا أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل: أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: "الحسن -رضي اللَّه عنه- والحسين -رضي اللَّه عنه-" (¬5). ¬

_ = أما الهيثمي فقال (8/ 223): ورجاله ثقات وثقهم ابن حبان!، وذكر أوله في (9/ 361)، وقال: رجاله ثقات، وعزاه لعبد اللَّه لا لأبيه! وقال (و): "في الحديث مقال، ومعارض بغيره". (¬1) رواه مسلم (2536) في (فضائل الصحابة): باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، من عائشة. ونحوه في "صحيح البخاري" (6429 و 6658)، ومسلم (2533) من حديث ابن مسعود. (¬2) ما بين المعقوفتين فقط من (ك). (¬3) رواه البخاري (3662) في (فضائل الصحابة): باب قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا"، و (4358) في (المغازي): باب غزوة ذات السلاسل، ومسلم (2384) في (فضائل الصحابة): باب من فضائل أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه-، من حديث عمرو بن العاص. (¬4) رواه الطيالسي (644) -ومن طريقه أبو القاسم البغوي في "مسند الحب بن الحب" (رقم 10) - والترمذي (3828) في (المناقب): باب مناقب أسامة بن زيد والبزار -كما في "تفسير ابن كثير" (3/ 499) - والطحاوي في "المشكل" (رقم 5298، 5299)، والحاكم (3/ 596)، والطبراني (158) من طريق أبي عوانة: حدثنا عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أسامة بن زيد به. قال الترمذي: حديث حسن، وكان شعبة يضعف عمر بن أبي سلمة. وكذا في "التحفة" (1/ 61) وفي بعض النسخ "حسن صحيح"!! والحديث ضعيف بسبب عمر بن أبي سلمة، وهو في "ضعيف سنن الترمذي" (800). (¬5) رواه البخاري في "التاريخ الكبير" (8/ رقم 3388)، والترمذي (3781) في (المناقب): =

[وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أحب إلى اللَّه؟ فقال: "الحبُّ في اللَّه والبغض في اللَّه (¬1)، ذكره أحمد.] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن امرأة كثيرة الصلاة والصيام والصدقة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: "هي في النار"، فقيل: إن فلانة فَذكَر [قلة] صلاتها وصيامها وصدقتها، ولا تؤذى جيرانها بلسانها، فقال: "هي في الجنة"، ذكره أحمد (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابًا" (¬3)، ذكره البخاري. ونهاهم عن الجلوس بالطرقات إلا بحقها فسُئل عن حق الطريق، فقال: "غضُّ البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي اجتاح مالي، فقال: ¬

_ = باب مناقب الحسن والحسين -رضي اللَّه عنهما-، وأبو يعلى (4294)، وابن عدي (7/ 2623 - 2624) من طريق يوسف بن إبراهيم التميمي عن أنس به. قال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه من حديث أنس. أقول: وهذا إسناد ضعيف، يوسف هذا قال فيه البخاري: صاحب عجائب، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، منكر الحديث، عنده عجائب، وقال ابن حبان: "يروي عن أنس ما ليس من حديثه لا تحل الرواية عنه ولا الاحتجاج به لما انفرد من المناكير عن أنس وأقوام مشاهير". (¬1) مضى تخريجه، وسقط هذا السؤال بتمامه من (ك). (¬2) رواه أحمد (2/ 440)، والبخاري في "الأدب المفرد" (رقم 119)، وإسحاق بن راهويه في "المسند" (رقم 293، 294) والبزار (1902)، وابن حبان (5764)، والحاكم (4/ 166)، والخرائطي في "مساوئ الأخلاق" (رقم 379)، والبيهقي في "الشعب" (9546) من طريق الأعمش: حدثنا أبو يحيى مولى جعدة عن أبي هريرة به، قال الهيثمي في "المجمع" (8/ 168 - 169): رجاله ثقات وهو في "صحيح الأدب المفرد" (88) وانظر: "السلسلة الصحيحة" (190)، وما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه البخاري (2259) في (الشفعة): باب أي الجوار أقرب، و (2595) في (الهبة): باب بمن يبدأ بالهدية، و (6020) في (الأدب): باب حق الجوار في قرب الأبواب، من حديث عائشة. (¬4) رواه البخاري (2465) في (المظالم): باب أفنية الدور والجلوس فيها، و (6229)، في (الاستئذان): باب قول اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}، ومسلم (2121) في (اللباس والزينة): باب النهي عن الجلوس في الطرقات وإعطاء الطريق حقه، من حديث أبي سعيد الخدري.

"أنت ومالك لأبيك، إنَّ أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عن الهجرة والجهاد [معه] (¬2)، فقال: "ألك والدان؟ " قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" (¬3)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر عن ذلك، فقال: "ويحك! أحية أمك؟ " قال: نعم. قال: "ويحك إلزم رجلها فثمَّ الجنة" (¬4)، ذكره ابن ماجه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من الأنصار، هل بقي عليَّ من برِّ أبويَّ شيء بعد موتهما؟ ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من (ك). (¬3) رواه مسلم (2549) (6) بعده بلا رقم في (البر والصلة): باب بر الوالدين وأنهما أحق به، من حديث ابن عمرو بن العاص. (¬4) رواه النسائي (6/ 11) في (الجهاد): باب الرخصة في التخلف لمن له والدة، وابن ماجه بعد (2781) في (الجهاد): باب الرجل يغزو وله أبوان، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (1371)، والطبراني في "الكبير" (2202)، وابن قانع (3/ رقم 298، 299)، وأبو القاسم البغوي (ق 39/ أ)، وأبو نعيم (2/ رقم 1714) كلهم في "الصحابة"، والطحاوي في "المشكل" (2132، 2133)، والحاكم (2/ 104 و 4/ 151)، والبيهقي (9/ 26)، وابن الأثير في "أسد الغابة" (1/ 315) من طرق عن ابن جريج: أخبرني محمد بن طلحة بن عبد اللَّه بن عبد الرحمن عن أبيه عن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال. . . فذكره. وهذا إسناد رواته ثقات غير طلحة بن عبد اللَّه فقد روى عنه جمع، وذكره ابن حبان في "الثقات"، وقال يعقوب بن شيبة: لا علم لي به، فإسناده لا بأس به. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال المنذري في "الترغيب" (5/ 5): "إسناده جيد" وقال الهيثمي في "المجمع": (8/ 138): "رواه الطبراني في "الأوسط" ورجاله ثقات" ولم ينسبه إلى "الكبير". وقد رواه أحمد (3/ 429) من طريق روح عن ابن جريج به، إلا أن فيه السائل معاوية، وليس جاهمة. وقد اختلف فيه على ابن جريج، وجعله بعضهم عنه عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن معاوية، وقد بين الحافظ هذا الاختلاف في ترجمة جاهمة من "الإصابة" ثم نقل عن البيهقي أنه رجح الإسناد الأول، وانظر "علل الدارقطني" (7/ 77 - 78). ورواه ابن ماجه (2781)، وابن أبي عاصم (1372) من طريق ابن إسحاق عن محمد بن طلحة به، إلا أنه جعل السائل معاوية، وابن إسحاق مدلس، وقد عنعن، فأخشى أن يكون دلّسه فإني وجدت في "سنن البيهقي" (6/ 29) رواية من طريقه: حدثني حجاج: حدثني ابن جريج عن محمد بن طلحة به.

قال: "نعم خِصالٌ أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رَحِمَ لك إلى من قِبَلها، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما حقُّ الوالدين على الولد (¬2)؟ فقال: "هما جنتك ونارك" (¬3)، ذكره ابن ماجه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن [إليهم] ويُسيئون وأعفو [عنهم] ويظلموني أفاكافئهم؟ قال: "لا إذًا تكونوا جميعًا، ولكن خذ الفضل وصِلْهم، فإنه لن يزال معك ظهير من اللَّه ما كنت على ذلك" (¬4)، ذكره أحمد، وعند مسلم: "لئن كنت، كما قلت فكأنمَّا تسفُّهم الملَّ ولن يزال معك ¬

_ (¬1) رواه أحمد (3/ 497 - 498)، وأبو داود (5142) في (الأدب): باب في بر الوالدين، وابن ماجه (3664) في (الأدب): باب صل من كان أبوك يصل، والبخاري في "الأدب المفرد" (35)، وابن حبان (418)، والطبراني في "الكبير" (19/ 592)، والحاكم (4/ 154)، والبيهقي (4/ 28)، والمزي في "تهذيب الكمال" (3/ 244) من طرق عن عبد الرحمن بن سليمان، عن أُسيد بن علي بن عُبيد الساعدي عن أبيه عن أبي أسيد به. هذا إسناد فيه مقال علي بن عبيد لم يرو عنه إلا ابنه، ولم يوثقه غير ابن حبان، فهو في عداد المجاهيل. (¬2) في (ك): "الوالد على الولد". (¬3) رواه ابن ماجه (3662) في (الأدب): باب بر الوالدين من طريق صدقة بن خالد عن عثمان بن أبي العاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة به. قال البوصيري في "مصباح الزجاجة" (2/ 240): هذا إسناد ضعيف، وقال الساجي: اتفق أهل النقل على ضعف علي بن يزيد. أقول: وعثمان قال فيه الحافظ ابن حجر: ضعفوه في روايته عن علي بن يزيد الألهاني. (¬4) رواه أحمد (2/ 181 و 208)، وهناد بن السري في "الزهد" (1012) من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده به. قال الهيثمي (8/ 154): رواه أحمد وفيه الحجاج بن أرطاة وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات. وقال ابن كثير (4/ 193): تفرد به أحمد من هذا الوجه. وصححه الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المسند" (10/ 173) (رقم 6700) و (11/ 145 رقم 6942)! كعادته -رحمه اللَّه- في تصحيح أحاديث المدلسين، وإن لم يصرحوا بالسماع. وشاهده حديث أبي هريرة بعده، وما بين المعقوفتين سقط من (ك).

من اللَّه ظهير ما دمت على ذلك" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: "يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا لبس، ولا يضرب لها وجهًا، ولا يُقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت" (¬2)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أستأذن على أمي؟ قال: "نعم"، فقال: إني معها في البيت؛ فقال: "استأذن عليها"، فقال: إني خادمها، قال: "استأذن عليها، أتحبُّ أن تراها عُريانة؟ " قال: لا، قال: "استأذن عليها" (¬3)، ذكره مالك. وسئل عن الاستئناس في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] , قال: "يتكلّم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت" (¬4)، ذكره ابن ماجه. وعطس رجل فقال: ما أقول يا رسول اللَّه؟ قال: قل: "الحمد للَّه"، فقال القوم: ما نقولُ له يا رسول اللَّه؟ قال: قولوا له: "يرحمك اللَّه"، قال: ما أقول لهم يا رسول اللَّه؟ قال: قل لهم: "يهديكم اللَّه ويصلح بالكم" (¬5)، ذكره أحمد. ¬

_ (¬1) رواه مسلم (2558) في (البر والصلة): باب صلة الرحم، وتحريم قطيعتها. (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) رواه مالك في "الموطأ" (2/ 963)، ومن طريقه البيهقي (7/ 97) عن صفوان بن سُليم، عن عطاء بن يسار مرسلًا. ورواه الطبري (9/ 298) من طريق ابن زياد، عن صفوان به. قال ابن عبد البر: مرسل صحيح، ولا أعلمه يستند من وجه صحيح ولا صالح. (¬4) تقدم تخريجه. (¬5) رواه أحمد (6/ 79)، وأبو يعلى (4946)، وإسحاق بن راهويه (994) في "مسانيدهم"، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (258)، والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 301) من طريق أبي معشر نجيح عن عبد اللَّه بن نجي عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة به. قال الهيثمي (8/ 57): رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه أبو معشر نجيح، وهو لين الحديث، وبقية رجاله ثقات. (تنبيه): وقع في "مسند أبي يعلى"، و"عمل اليوم والليلة" (عبد اللَّه بن يحيى)، وقال محقق أبي يعلى: وقد تحرف (يحيى) في "مسند أحمد" إلى (نجي)، وقال: عبد اللَّه بن نجي لم أجد له ترجمة. أقول: وهذا بعيد بل التحريف وقع في "مسند أبي يعلى" إذ إن عبد اللَّه بن نجي في هذه الطبقة، وهكذا ورد اسمه في "شرح معاني الآثار"، وهو صدوق كما في "التقريب". =

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬

_ = وشاهده حديث أبي هريرة في "صحيح البخاري" (6224) في (الأدب): باب إذا عطس كيف يشمت. وفي الباب عن جمع من الصحابة، انظر: "مجمع الزوائد"، و"شرح معاني الآثار". جاء في خاتمة النسخة (ك): "تحررت هذه المجلدة واللتين قبلها على يد أفقر عباد اللَّه وأحوجهم إلى رحمته المعترف بالزلل والتقصير الراجي عفو ربه اللطيف الخبير عبد العزيز بن صعب بن عبد اللَّه التويجري عفا اللَّه عنه وعن والديه وعن جميع المسلمين آمين آمين، اللهم صل اللَّه -كذا- على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، ورضي اللَّه تعالى عن أصحاب رسول اللَّه أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وافق الفراغ من توقيعها وتكميلها في ست وعشرين من شوال سنة 1306 وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل. أسأل اللَّه الكريم أن يحسن لنا ولإخواننا العاقبة في الدنيا والآخرة بمنه ولطفه وكرمه وجوده وإحسانه وبره لأنه الواجد الماجد الفرد الصمد". وجاء في آخر نسخة عبد الرحمن الوكيل: "بحمد اللَّه وعونه وفضله وهدايته تم الجزء الرابع من الكتاب الجليل "أعلام الموقعين" للإمام الكبير "ابن قيم الجوزية" وبهذا الجزء يتم الكتاب ونضرع إلى اللَّه سبحانه ضراعة مقر بعبوديته، مؤمن بربوبية اللَّه وحده وألوهيته وحده أن يجعل عملي في الكتاب خيرًا، وصالحة لي في الدنيا وفي الآخرة، وصلى اللَّه وبارك على محمد وآله". وفي آخر نسخة طه عبد الرؤوف سعد: "الخاتمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: أحمدك اللهم يا من بفضلك تتم الصالحات، وأشهد أنك واحد لا شريك لك. لك الملك ولك الحمد، ولا مانع لمن أعطيت ولا معطي لمن حرمت. وأصلي وأسلم على رسولك سيدنا محمد الذي بعثته رحمة للعالمين، بشيرًا ونذيرًا لمن ألقى السمع وهو شهيد. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اتبعه وسار على هديه، صلاة دائمة متتابعة إلى يوم الدين. وبعد: فقد تم بعون اللَّه الجزء الرابع من كتاب: أعلام الموقعين عن رب العالمين للعلامة ابن قيم الجوزية وبتمامه تم الكتاب. وإني أضرع إلى اللَّه سبحانه وتعالى أن يجزي اللَّه عني السادة العلماء والجهابذة الفضلاء الذين سبقوني بتحقيق هذا الكتاب فقد سرت على هدى من نورهم، وأن يوفق من يأتي بعدي حتى يزيد ويجيد ويتلافى ما وقعنا فيه من الخطأ والتقصير؛ فالجهد البشري ضعيف والزمن قصير ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم". =

آخر كتاب "إعلام الموقعين" ¬

_ = وفي آخر نسخة محمد محي الدين عبد الحميد: "قد تم -بمعونة اللَّه تعالى وتأييده- الجزء الرابع من كتاب "أعلام الموقعين، عن رب العالمين" للإمام ابن قيم الجوزيَّة، وبتمامه تم الكتاب، والحمد للَّه أولًا وآخرًا، وصلى اللَّه على نبينا محمد وآله وصحبه والعاملين من أمته". وفي آخر نسخة الطبعة المنيرية: "تم الكتاب والحمد للَّه أولًا وآخرًا، وصلى اللَّه على نبينا محمد وآله وصحبه والعاملين".

§1/1