إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور
ابن القيم
سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين (المقدمة) صنعة أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان [المجلد الأول] دار ابن الجوزي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين (الْمُقدمَة) [1]
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339
مقدمة المحقق
مقدمة المحقق إن الحمد للَّه، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ باللَّه من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده اللَّه؛ فلا مضل له، ومن يُضلل؛ فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]. {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)} [النساء: 1]. {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)} [الأحزاب: 70، 71]. أما بعد: فهذه طبعة جديدة من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" للإمام الرباني، وشيخ الإسلام الثاني (ابن قيم الجوزية)، رحمه اللَّه تعالى، يأخذ مكانه اللائق به في المكتبة التراثية، بعد ضبط نصه، ومقابلته على عدة نسخ خطية (¬1)، والتعليق عليه (¬2)، وتخريج أحاديثه وآثاره، وتوثيق نقولاته، مع مقارنة مواضعه بمواطن بحثها في كتبه الأخرى (¬3). * نسبة الكتاب لمؤلفه: نسبة هذا الكتاب لابن القيم صحيحة بيقين، والأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، منها: ¬
أولًا: نسبه له بعنوان: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" جماعة من العلماء ممن ترجم له، منهم: تلميذه ابن رجب في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450)، وقال: "ثلاث مجلدات"، وعنه ابن العماد في "شذرات الذهب" (6/ 169). وذكر له أيضًا بالعنوان نفسه: ابن حجر في "الدرر الكامنة" (3/ 402)، والداودي في "طبقات المفسرين" (2/ 603)، والسيوطي في "بغية الوعاة" (1/ 63)، والشوكاني في "البدر الطالع" (2/ 144)، والعليمي في "المنهج الأحمد" (5/ 94)، و"الدر المنضد" (2/ 522)، وابن ضويان في "رفع النقاب" (320)، وحاجي في "كشف الظنون" (1/ 125)، والبغدادي في "هدية العارفين" (2/ 158)، والزِّركلي في "الأعلام" (6/ 56)، والطريقي في "معجم مصنفات الحنابلة" (4/ 276). ونسبه له بعنوان مقارب (¬1): تلميذه خليل بن أيبك الصفدي في "أعيان العصر" (4/ 369)، و"المنهل الصافي" (3/ ق 62). ثانيًا: ذكره المصنف في ثلاثة من كتبه: "الفوائد" (ص 30 - ط دار اليقين)، و"التبيان في أقسام القرآن" (ص 146 - ط طه شاهين)، و"إغاثة اللهفان" (1/ 22 - ط الفقي)، وأحال في هذه الكتب على مباحث موجودة في كتابنا "الإعلام"، وسيأتي بيان هذا مفصلًا قريبًا تحت عنوان (ضبط اسمه). ثالثًا: الموجود على النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق (¬2)، وغيرها، فإنها جميعًا مطبقة على صحة نسبة هذا الكتاب لابن القيم. رابعًا: نقولات العلماء الكثيرة المستفيضة على اختلاف أمصارهم وأعصارهم، وتنوِّع مذاهبهم وفنونهم ومشاربهم منه، وهذا النقل قد يقع بالحرف، على طول فيه أحيانًا، أو اختصار، أو بالإحالة على بحث مسألة على وجه فيه تحرير وتدقيق، وهذا بعض ما يدلّل على ذلك، واللَّه الموفق: 1 - قال برهان الدين إبراهيم بن محمد بن مفلح (ت 884 هـ) في كتابه "المبدع" (7/ 68): "وقوى في "إعلام الموقعين"، أن الرجل أشدُّ شهوة من المرأة، وأنَّ حرارته أقوى من حرارة المرأة، والشهوة تتبعها الحرارة، بدليل أن الرجل إذا جامع امرأة، أمكنه مجامعة غيرها في الحال"، وهذا موجود في نشرتنا (2/ 326). ¬
ضبط اسمه
2 - وقال أيضًا في (7/ 74): "وفي "إعلام الموقعين": وظاهره أنه إذا لم يجد طولًا لحرة مسلمة ووجد طولًا لحرة كتابيه أن له نكاح الأمة، قاله في "الانتصار" لظاهر الآية، وصرح الأكثر بعدم اشتراط الإسلام. . . " وهذا موجود في نشرتنا (4/ 268). 3 - ونقل في (7/ 86)، مسألة (تزويج عبده بمطلقته) (¬1)، وقال: "قاله في "إعلام الموقعين"" وهذا موجود في نشرتنا (4/ 448 - 449). في نقولات عديدة جدًّا، تراها مزبورة في هذه المقدمة، تحت العناوين: (ضبط اسمه)، (أهمية الكتاب وفائدته وأثره فيما بعده)، (موضوعه). * ضبط اسمه (¬2): ذُكِر هذا الكتاب على وجوه وألوان، الصحيح والقوي منها اثنان: الأول: "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وبهذا اشتهر عند العلماء والباحثين، مع التنويه على اختلافهم (¬3) في ضبط همزة (إعلام) هل هي بالكسر أم بالفتح؟ فذهب بعضهم إلى أنه بالكسر، وهذا هو الدارج على ألسنة علماء العصر، وسمعتُه هكذا -بالكسر- بالنطق من مجموعة من المشايخ والعلماء، منهم: شيخنا المحدث محمد ناصر الدين الألباني، وشيخنا الفقيه العلامة مصطفى الزرقاء، مع قوله: "لا يوجد -فيما أعلم- دليل يصلح للقطع بأن مؤلفه رحمه اللَّه وضعه هكذا أو هكذا، لأني أتذكر أني تتبعتُ الدلائل كثيرًا، فلم أصل إلى نتيجة قطعية. ولكلٍ دليل: فذِكرُه -أي ابن القيم- كبارَ أهل الفُتيا والقضاء من الصحابة والتابعين على نطاق واسع: يُوحي بالفتح جمعًا (لِعَلَم) (¬4). وكونُه -أي الكتابْ- يتضمّن كثيرًا من الفقه والتوجيه والتأصيل الشرعي في رأيهِ وفهمِه واجتهاده: يُوحي بالكسر، ¬
كأنما هو خطاب للمتصدّين للفتوى والقضاء، الموقّعين عن اللَّه، فهو إعلام لهم. فتكون القضية فيه قضيةَ ترجيح لأحد الوجهين، استحسانًا باختلاف التقدير، لا قضيةَ خطأ وصواب، لأنّ مدار الخطأ والصواب في أحدهما إنما هو معرفةُ ما وضَعَ المؤلف وأراد، وهذا لم يُعرف". وأما الفتح، فهذا الذي ذهب إليه الأستاذ العلامة الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، في الطبعة التي اعتنَى بإخراجها، وطُبعت بمطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1374 في أربعة أجزاء، فقد أَثبت الهمزة فوق الألف في كلامه لبيان اختتام كل جزء من الأجزاء الأربعة، وفي مفتتح فهرس كل جزء منها، وفي ختام كل فهرس منها أيضًا، مما دَلَّ على أن ذلك مقصود له للإشارة إلى هذا الضبط. وقد قوّى الشيخ بكر أبو زيد (الفتح) وجوز (الكسر) في جهد بذله في مطابقة العنوان للمضمون فقال: "الإعلام -بكسر الهمزة- بمعنى (الإخبار) "، كما قال الراغب وغيره. والموقع بمعنى المفتي والقاضي. فيكون المعنى مع تقدير متعلق الخبر (إخبار الموقعين من القضاة والمفتين عن ربّ العالمين بأحكام أفعال العبيد). وهذا التقدير لمتعلق الخبر واضح من قول ابن القيم في مقدمته للكتاب: "أما بعد: فإن أولى ما يتنافس فيه المتنافسون، وأحرى ما يتسابق في حلبة سباقه المتسابقون، ما كان بسعادة العبد في معاشه ومعاده كفيلًا، وعلى طريق هذه السعادة دليلًا" (¬1). ثم قال: "ولما كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا، وشرفه لشرف معلومه تابعًا، كان أشرف العلوم على الإطلاق علم التوحيد، وأنفعها علم أحكام أفعال العبيد" (¬2). وقد أفاض ابن القيم رحمه اللَّه تعالى في أجزاء الكتاب بأحكام أفعال العبيد في جملة من أبواب الدين ومسائله. ويضاف إلى هذا التوجيه: أن عامة الذين ذكروا هذا الكتاب من مترجميه جاء رسمه بكسر الهمزة، لكن -في الواقع- أن هذا لا يعني كثيرًا من الناسخ أو الطابع أو غيرهما". ¬
ثم ذكر الفتح، ووجهه بقوله: "ولم يزل في نفسي معرفة توجيه هذا القول من علماء الآفاق الذين ينطقونه هكذا (أعلام. .) بفتح الهمزة فوجدتهم يطبقون على التوجيه بأن ابن القيم رحمه اللَّه تعالى، قد ذكر في صدر كتابه جماعة من فقهاء الأمصار من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- فمن بعدهم فهو جمع (عَلَم) بمعنى شخص له أثره؛ جمعه (أعلام). فالمعنى (كبار أهل العلم من القضاة والمفتين الموقعين عن ربّ العالمين) "، ثم ذكر طرفًا من كلام شيخنا الزرقا السابق، فيه توجيه الفتح بنحو الذي ذكره، ورده بقوله: "وفي الواقع أن هذا التوجيه ليس بالقائم، فإن ما ذكره ابن القيم في هذا الكتاب من كبار أهل الفتيا والقضاء هو: في نحو عشرين صحيفة في صدر الكتاب. والكتاب يقع في أربعة مجلدات تحوي نحو ألف صحيفة مادتها مباحث في الفقه والتوجيه والتقعيدات الشرعية فيكون هذا الاسم (أعلام. .) بهذا التوجيه لا يصدق إلا على نحو عشرين صحيفة لا غير، والاسم لا بد من دلالته على المسمى. فالتسمية والحالة هذه لا تدل عليه. فالفتح إذًا بناء على هذا التعليل سبيله الرفض واللَّه أعلم" ثم قال تحت عنوان (توجيه آخر) ما نصه: "وإنني بعد التأمل والرجوع إلى مادة (عَلَم) في كتب اللغة تبين لي أن الذي ينبغي التعليل والتوجيه به لمن قال (أعلام الموقعين) بفتح الهمزة هو أن يقال: إن العلَم في اللغة ما ينصب في الفلوات للاهتداء به وما يجعل على الطرق من منارات ومعالم ليستدل به على الأرض. وجمعه (أعلام) بالفتح. ومنه قيل للراية (علَم) والجمع (أعلام). وقيل أيضًا للجبل (علم) ويجمع أيضًا على (أعلام). وعليه يكون معنى الكتاب بالفتح (أعلام الموقعين. . .) هو: (الأحكام التي تصدر عن القضاة والمفتين الموقعين عن رب العالمين) فهي أعلام لهم تدلهم وتهديهم إلى الطريق السّوي والمَشْرع الرّوي. وهذا تساعد عليه مادة الكتاب التي تدور في معظمها على الأحكام لا على الأعلام وتتركز على أحكام الأشخاص. ونستطيع من هذا أن نقول: بجواز الفتح والكسر لهمزة (أعلام) وهو بكسر الهمزة أشهر، وبالفتح أولى؛ لعدم الحاجة إلى تقدير متعلق للخبر كما تقدم" (¬1). ¬
ووقعت تسميته هكذا -بهمزة في أوله-: "إعلام الموقعين" في مطبوعات كثير من الكتب، وبعضها لتلاميذ المصنف والمعتنين بكتبه، المهتمين بها، مثل: "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450) لابن رجب (ت 795 هـ)، و"المبدع" (7/ 68، 74، 86) لبرهان الدين إبراهيم بن مفلح (ت 884 هـ) و"تصحيح الفروع" (6/ 281، 428 - ط دار الكتب العلمية) و"الإنصاف" (6/ 345 - ط الفقي و 20/ 433 - ط التركي) كلاهما لعلاء الدين المرداوي (ت 885 هـ) و"التوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح" (2/ 794) لأحمد بن محمد الشويكي (ت 939 هـ)، و"شرح الكوكب المنير" (4/ 526، 545، 546) لابن النجار (ت 972 هـ) وذكره ابن حجر (ت 852 هـ) هكذا في "الدرر الكامنة" (3/ 402) وذكره في "فتح الباري" (12/ 336) مختصرًا هكذا "الإعلام"، وكذا في زياداته على "تهذيب الكمال" في "تهذيب التهذيب" ترجمة (يحيى بن أبي إسحاق الهنائي) (¬1) (11/ 157)، في جمع آخرين، يأتي ذكر بعضهم. وهكذا سمِّي في جُلِّ النسخ الخطية (¬2) المعتمدة في التحقيق، وهكذا يسميه المعاصرون في أبحاثهم ومؤلفاتهم وتحقيقاتهم، ومن صنف في التراجم منهم، مثل: عمر رضا كحالة في "معجم المؤلفين" (9/ 107) والزِّركلي في "الأعلام" (6/ 56)، وهكذا وقع اسمه في "كشف الظنون" (1/ 125). والآخر: "معالم الموقعين عن رب العالمين". هكذا سماه خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ) -وهو من تلاميذ المصنف- في "الوافي بالوفيات" (2/ 196) و"أعيان العصر وأعوان النصر" (4/ 369) و"المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي" (3/ ق 62)، وأبو ذر أحمد بن الإمام برهان الدين سبط بن العجمي (ت 884 هـ) في كتابه "تنبيه المعلم مبهمات صحيح مسلم" (ص 107 - بتحقيقي) ذكره مختصرًا هكذا: "معالم الموقعين". وقد ذكره ابن القيم (المصنف) مختصرًا هكذا "المعالم" في غير كتاب من كتبه، وهذا الذي وقفتُ عليه منها: - قال في "الفوائد" (ص 30 - ط دار اليقين) بعد كلام: "وقد ذكرنا هذا القياس وأمثاله من المقاييس الواقعة في القرآن في كتابنا "المعالم"؛ بيّنا بعض ما ¬
فيها من الأسرار والعبر" وهذا البيان في نشرتنا (1/ 251 - 253). - وقال في "التبيان في أقسام القرآن" (ص 146 - ط طه شاهين): "وقد بيّنّا في كتاب "المعالم" بطلان التحيل وغيره من الحيل الربوية من أسماء الرب وصفاته" قلت: وهذا في نشرتنا (1/ 126 - 127). - وقال في "إغاثة اللهفان" (1/ 22 - ط الفقي) بعد ذكر المثالين: الناري والمائي في أوائل سورة البقرة (الآية 17، 18): "وقد ذكرنا الكلام على أسرار هذين المثلين وبعض ما تضمّناه من الحكم في كتاب "المعالم" وغيره". وكلامه على هذه الحكم في نشرتنا (1/ 270 - 271). فهذه ثلاثة مواطن صرح فيها المصنف باسم كتابه هذا: "المعالم" هكذا، وهو "معالم الموقعين" على ما ذكر بعض مترجميه والناقلين عنه فيه. وأثبت ناسخ أصل (ك) على طرة الجزء الثالث منه: "كتاب "معالم الموقعين عن رب العالمين" وضرب على "معالم" وأثبت فوقها "إعلام"، وعنوان الكتاب في نسخة (ن): "معالم الموقعين عن رب العالمين" (¬1). قال الشيخ العلامة بكر أبو زيد -حفظه اللَّه تعالى- بعد ذكره التسميتين السابقتين: "إعلام" و"معالم": "وهذا غير ممتنع أن يسمي المؤلف كتابه باسمين، وله نظائر في أسماء مؤلفاته، وهو مسلك مألوف عند أهل العلم. وهذه تسمية سليمة تنتظم موضوع، الكتاب ومادتَه، لأن (معالم) جمع (معلم) ومعلم الشيء دلالته، ومنه معلم الطريق، وما يستدل به عليه من أثر ويجمع على (معالم). وتكون تسمية الكتاب بهذا (معالم الموقعين) مطابقة تمامًا لمن سماه بلفظ (أعلام الموقعين) بناء على التوجيه الذي استظهرته قريبًا واللَّه أعلم". بقي بعد هذا التنبيه على ورود اسم الكتاب على وجهٍ فيه تطبيع أو خطأ، وجاء هذا أيضًا على وجهين، هما: الأول: "إعلام -بكسر الهمزة- الموفقين -بالفاء- عن رب العالمين" هكذا أُثبِت في مطبوع "هدية العارفين" (2/ 158) للبغدادي، وهذا خطأ قطعًا، يُعلم ¬
حجمه
ذلك يقينًا من خلال المرور على الكتاب، فإن الأوهام والأخطاء والتطبيعات كثيرة فيه، والآخر: "أعلام -بفتح الهمزة- الموفقين -بالفاء- أيضًا". هكذا ذكره محمد أنور الكشميري (ت 1352 هـ) في كتابه "فيض الباري على صحيح البخاري" (2/ 267) عند كلامه على مسألة (قبض اليدين في الصلاة)، قال وأغرب قلمه: "ومر عليه ابن القيم في "أعلام الموقعين" (والصحيح أنه "أعلام الموفقين")، وقال: إن الحديث رواه ابن خزيمة. . . ". قلت: هذا الوجه كالذي قبله، "غريب، يُعدُّ من سبق القلم، وتغيير الاسم العَلَم، وهو ليس بجائز إلا بنصٍّ عن صاحبه. وقد تابعه على هذه التسمية تلميذه الشيخ محمد بدر عالَم الميرتهي رحمه اللَّه في تعليقاته على "فيض الباري" وهي من إملاءات الكشميري أيضًا، وذلك في مواضع، منها: (2/ 259 و 3/ 241)، فأثبته "أعلام الموفّقين". وقد علمت ما فيه، فلا تَهِم فيه" (¬1). والخلاصة أن الصواب "إعلام الموقعين" و"معالم الموقعين". "وأنه ليس هناك نص من المؤلف أو من قدماء النقلة على فتح الهمزة أو كسرها في "إعلام"، وأن كسر الهمزة هو الأكثر المستفيض، والاستفاضة طريق من طرق الحكم الشرعي في فك الخصام وفي النزاع برد الحقوق إلى مستحقيها، فهي هاهنا من باب الأولى والأحرى. فيجوز النطق بكسرها. كما يجوز نطقه بفتحها؛ لأنه تضمن قواعد وأحكامًا يُهتدى بها، والفتح بهذا التعليل يساعده ويقويه ورود تسمية الكتاب بلفظ (معالم الموقعين)، وأن تعليل فتح الهمزة بأنه يحوي جملة من أسماء القضاة والمفتين غير متوجه، كما أن تسميته بلفظ (أعلام الموقعين) لا مستند لها، بل هي تسمية غريبة وشاذة، واللَّه أعلم" (¬2). * حجمه: طبع الكتاب أكثر من مرة (¬3)، وجل طبعاته في أربع مجلدات وأصله في ثلاث، وقد وصفه تلميذ المصنف صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ) بقوله في "أعيان العصر" (4/ 369) و"الوافي بالوفيات" (2/ 196) ¬
موضوعه ومباحثه
عنه: "سِفر كبير"، وقال ابن رجب (¬1) في "ذيل طبقات الحنابلة" (2/ 450): "ثلاث مجلدات"، وكذلك قال الداودي في "طبقات المفسرين" (2/ 63) وصديق حسن خان في "أبجد العلوم" (3/ 140) والحجوي في "الفكر السامي" (2/ 20 - ط الرباط و 2/ 292 - ط الباز). وقال علاء الدين المرداوي في "الإنصاف" (20/ 433 - ط عبد اللَّه التركي) بعد مسألة: "قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" في الجزء الثالث في "الحيل" وقال في "تصحيح الفروع" (6/ 428 - ط دار الكتب العلمية أو 6/ 494 - ط عالم الكتب) في مسألة في (الحيل) -وهي (تضمين المفتي) -: "قال ابن القيم في "إعلام الموقعين" في الجزء الأخير. . "، فحاصل هذين النَّقلين أن نسخته ثلاثة أجزاء، فتأمل. وظهر الكتاب مطبوعًا في ثلاثة أجزاء في مطبعة فرج اللَّه الكردي (¬2)، سنة 1325 هـ - 1907 م، بمصر وهكذا وقعت تجزئة الكتاب في كثير من أصوله الخطية، مثل نسخة (¬3) (ك) من أصولنا المعتمدة، وكذلك النسخة المحفوظة في العراق بخط نعمان الآلوسي رحمه اللَّه تعالى، وغيرهما. * موضوعه ومباحثه: - توطئة: زعم بعض المعاصرين (¬4) أنه كتاب في (التوحيد)! وهذا ليس بصحيح، وفي الحقيقة أن ترتيب مؤلفات ابن القيم بالنسبة إلى موضوعها، أعني: العلم الذي يبحث فيه كل مؤلف -بحيث نقول: إن هذا الكتاب في التوحيد، وهذا في الحديث، والآخر في الأصول- أمر عسر، لأنّ أي مؤلف من مؤلفاته لا يعالج موضوعًا وفنًّا واحدًا، فكتابنا هذا على الرغم أنه ليس في التوحيد، إلا أن فيه استطرادات (¬5) في ¬
التوحيد، لا تكاد تجدها بالوضوح والقوة المطروقة فيه في الكتب المختصّة بذلك، وهكذا. ومن هاهنا؛ نستطيع أن نقرر أن الغالب على كتابنا هذا (مباحث أصولية) واستطرادات (فقهية) (¬1)، جمعها عقدُ (أسرار الشريعة)، وأنها (قواعد) مطردة، والغالب عليها أنها (معلَّلة)، ولم يشذ منها شيء عن (العقل) الصحيح، و (القلب) السليم، و (الذوق) الجيد، التابع ذلك كله لنصوص الوحيين الشريفين، وآثار السلف الصالحين ومنهجهم في التلقِّي والاستنباط والفتوى، البالغ (الذروة)، بحيث اصطفاهم اللَّه لنبيِّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما اصطفى (نبيَّه) -صلى اللَّه عليه وسلم- لسائر الخلق، فهم القدوة، وفي منهجهم -فقط- يُعبد اللَّه بحق، وتأتي -حينئذٍ - العبادة بثمارها وبركاتها وآثارها، فينال صاحبها خيري الدنيا والآخرة، ويتقلب في مرضاة اللَّه عز وجل في الدور الثلاثة: الدنيا، والبرزخ، والآخرة. ¬
رد مؤاخذة، وبيان أمر كلي على عجالة
نعم، هنالك استطرادات في معالجة مسائل امتُحِن بسببها المصنف وشيخه ابن تيمية، هي ثمار لتلك القواعد والأصول والأسرار التي قامت بقوة في نفس صاحبها، وتبرهنت عنده أدلة جليّة قوية تخصّها، وقوّتها عنده لما رآها قد وردت على وجه القطع في عموم نصوص الشريعة، فزادته تقريرًا وزانت في أعين الناظرين إليها، ووزنت حجج المخالفين لما تقع المقارنة بينها. - رد مؤاخذة، وبيان أمر كلّي على عجالة: وينبغي أن ينظر إلى هذه الاستطرادات بالسياق والوقت الذي كتبت فيه، فهي -في الجملة- من انفرادات ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في ذلك الوقت، ووقع تشغيب عليهما بسببها، فلا أقلّ من أن تذكر بتأصيل وتفصيل، وتعالج معالجة علمية منصفة متجردة، بعيدة عن (المألوف) آنذاك، منسجمة مع (أصولها) و (حِكَمها) و (أشباهها) و (نظائرها)، لتوضع موضعها، ويراعى فيها (الحق) و (العدل)، فلا مندوحة في هذا الاستطراد لمن راعى هذه المسوِّغات (¬1)، وهي بمثابة (المسائل الأنموذجية) العلمية العملية، على تلك الموائمة الرائعة بين (الألفاظ) و (المعاني)، والتخريج العلمي الرزين بين (الأصول) و (الفروع)، والربط المحكم الوثيق بين (الأحكام) و (الحِكَم). ومما ينبغي أن لا ينسى أن هذه المسائل التي نسجها ذلك العقد من (الحِكَم) و (الأسرار) وتضمنتها تلك (المسائل) و (الفروع) القائمة على (الأصول) و (النصوص) و (الآثار)، حواها جميعًا ثوبٌ زاهٍ قَشيبٌ، ربطت فيه -كلٌّ بمقداره وموقعه منه-، وهو موضوع (الفتوى) و (المفتين)، ومعالجة ما يقعون فيه من تجاوزات، والخروج عن (السابلة)، وتورطهم في الوقوع بـ (الحيل). - فصول نافعة وأصول جامعة في القياس: وهذه كلمات مجموعة من العلماء والباحثين والمطلعين، فيها إبراز لمباحث مميزة في هذا الكتاب: - قال صديق حسن خان في "ظفر اللاظي بما يجب في القضاء على القاضي" في آخر (مقدمته) (ص 28): "وفي "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فصولٌ نافعة، وأصول جامعة في ¬
تقرير القياس، والاحتجاج به، ولعلك لا تظفر بها في غير ذلك الكتاب، ولا بقريب منه" (¬1) انتهى. قلت: نعم، في كتابنا هذا فصول ثلاثة عن القياس تكاد لا تجدها في كتاب، وهي: الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس، وبطلانها مع وجود النص. الثالث: في بيان أنَّ أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح، وليس فيما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح. قال ابن القيم في كتابنا (2/ 116) بعد ذكره هذه الفصول الثلاثة: "وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبيّن للعالِم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما هو عامُّ الرسالة إلى كل مكلف، فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه، ودقيقه وجليله، فكما لا يخرج أحدٌ عن رسالته، فكذلك لا يخرج حكم تحتاج إليه الأمة عنها، وعن بيانه له". قال: "ونحن لا نعلم أنا لا نوفِّي هذه الفصول حقَّها ولا نقارب، وأنها أجلُّ من علومنا، وفوق إدراكنا، ولكن ننبه أدنى تنبيه، ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها، وينهج طرقها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان". قرر هذا بعد ذكره خطأ القياسيين من خمسة أوجه (¬2)، وركز في مباحث الفصول الثلاثة على ضرورة التنبيه على: "التمييز بين صحيح القياس وفاسده مما يخفى كثيرٌ منه على أفاضل العلماء فضلًا عمن هو دونهم، فإن إدراك الصفةِ المؤثرةِ في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي عُلِّقت بها الأحكام من أشرف العلوم، فمنه الجليُّ الذي يعرفه أكثر الناس، ومنه الدقيقُ الذي لا يعرفه إلا خواصُّهم، فلهذا صارت أقْيِسَةُ كثيرٍ من العلماء تجيءُ مخالفةً للنصوص لخفاء ¬
القياس الصحيح، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام" (¬1). ولم يأتِ في هذا الذي قرره ببدع من القول، بل هو الجادة المطروقة، وقد صرح هو بذلك؛ فأصغ إليه وهو يقول في (2/ 256): "لم أجد أجود الأقوال إلا أقوال الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمت قولًا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه، لكن العلم بصحيحِ القياسِ وفاسدِه من أجَلِّ العلوم، وإنما يَعرف ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام، واللَّه أعلم" (¬2). واشتهر هذا المبحث عن ابن القيم، وصرح في كتابنا هذا أنه كان هو السبب في تقرير شيخه ابن تيمية إياه (¬3)، قال في (2/ 165): "وسألتُ شيخنا -قدس اللَّه روحه- عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس (¬4). . . فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس" قال: "وأنا أذكر ما ¬
عناية المصنف بكتاب عمر في القضاء
حصَّلته من جوابه بخطّه ولفظه، وما فتح اللَّه سبحانه لي بيُمن إرشاده، وبركة تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه". وقال في (3/ 158) بعد كلام: "وهذا مما حصّلته عن شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه- وقت القراءة عليه، وهذه كانت طريقته، وإنما يقرر أن القياس الصحيح هو ما دل عليه النص، وأنَّ من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معًا". قلت: فهذا المبحث إذن عند مصنفنا وهو في أصوله من بركات وحسنات شيخه ابن تيمية، ولذا قال محمد بن أحمد الفتوحي، الشهير بـ (ابن النجار) (ت 972 هـ) في كتابه النافع "شرح الكوكب المنير" (4/ 225): "وقد ذكر الشيخ تقي الدين -وتبعه ابن القيم- أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وما لا يُعقل معناه، وبيّنَا ذلك بما لا مزيد عليه". وظفرت بنحوه للمرداوي (ت 885 هـ)، قال في "التحبير في شرح التحرير" (7/ 3539): "قلت: قد ذكر الشيخ تقي الدين وتبعه ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس ولا ما لا يعقل معناه، وبيَّنوا ذلك بما لا مزيد عليه، واللَّه أعلم". ولخَّص العلامة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني في رسالته المسّماة: "الاقتباس لمعرفة الحق من أنواع القياس" كلام ابن القيم هذا، وتصرف فيه، ولم يخرج عنه، وإن لم يصرح بالنقل عن ابن القيم فيها، إلا أن اسمها "الاقتباس" يدلل على ذلك، وكذلك قوله في آخرها (ص 53): "انتهى ما أردتُ نقله، وتقريبه للناظرين، وتحقيقاته للمتناظرين، وبيان طرق القايسين، وشعب الطرق بهم ذات الشمال وذات اليمين، فمن حقق ما قربناه، وكرر النظر فيما سُقناه؛ اتضح له ما كان خفيًّا، وصار بعد ذلك أمرًا جليًا، بنشرنا ما كان مجملًا ومطويًا" وصدق رحمه اللَّه فيما قال. - عناية المصنف بكتاب عمر في القضاء: وكانت هذه المباحث البديعة التي لا تكاد تجدها في غير كتابنا هذا استطرادًا عند شرح ابن القيم كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري في القضاء (¬1). وهذا الكتاب مهمٌّ، وله موقعٌ بارزٌ في "إعلام الموقعين" وأخذ شرحُه مساحة ¬
واسعة منه (¬1)، وقد نبه على هذا العلماء. قال صديق حسن خان في "ظفر اللاظي" (باب وجوب نصب ولاية القضاء والإمارة وغيرهما) (ص 76 - 77) بعد أن أورد الكتاب بطوله، قال: "قال الحافظ ابن القيم في "إعلام الموقعين": "هذا كتاب جليل، تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوجُ شيء إليه، وإلى تأمّله (¬2)، والتَّفقّه فيه. . . " (¬3) انتهى. ثم شرح هذا الكتاب، وأطال إطالة حسنةً تُستطاب، وأتى بالعجب العُجاب في ضمن الفصول إلى آخر الكتاب" انتهى. وقال الشيخ محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي (¬4) في كتابه "الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي" (¬5): "وهذا الكتاب كاف في سعة مدارك عمر في الفقه والتشريع وأحكام الضوابط، وفيه التنصيص على أصول مهمة كقياس الشبه، وتقديم الكتاب على السنة، ثم هي على الرأي، ولذلك خص بالشرح، وشرحه في "إعلام الموقعين" بنحو ثلاثة أسفار (¬6) فانظره تَرَ ما استنبط منه من الأحكام والأسرار، ومنه استنبطت كيفية القضاء وأحكامه". وقد أشاد جمع من المعاصرين بصنيع ابن القيم في شرحه كتاب عمر، وهذه جملة من النقولات التي تدلل على ذلك: * قال أستاذنا العلامة مصطفى الزرقا رحمه اللَّه في كتابه "المدخل الفقهي العام" (1/ 74 - 75) بعد أن نقله بتمامه: "وقد تولى ابن القيم شرحه بإسهاب في مواطن عديدة من "إعلام الموقعين"". * وقال المستشار علي منصور في "نظم الحكم والإدارة" (ص 293): "جمع -أي عمر -رضي اللَّه عنه- فيها، جل الأحكام، واختصرها بأجود الكلام، وجعل الناس ¬
هل كتاب "الأعلام" شرح لكتاب عمر في القضاء؟
بعده يتخذونها إمامًا ولا يجد محقُّ عنها معدلًا، ولا ظالم عن حدودها محيصًا" ثم ذكر أنه نقلها عن ابن القيم، وأنه شرحها في "إعلام الموقعين" في أكثر من أربع مئة صفحة. *وقال الشيخ الأستاذ مناع القطان رحمه اللَّه في كتابه: "التشريع والفقه الإسلامي تاريخًا ومنهجًا" (ص 126): "وكتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، كتاب فريد في بابه، يجمع كثيرًا من قواعد الأصول والفقه واستنباط الأحكام، ويدل على أصالة رأي، ودقّة فهم، وحسن بصيرة" قال: "وقد شرحه العلامة ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" شرحًا مستفيضًا واستخلص منه علمًا غزيرًا". - هل كتاب "الأعلام" شرح لكتاب عمر في القضاء؟ بل ذهب بعض المعاصرين إلى أكثر من هذا، فجعلوا كتابنا هذا "إعلام الموقعين" خاصًا بشرح كتاب عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري! قال الحجوي الثعالبي في "الفكر السامي" (2/ 20) بعد كلام عن كتاب عمر: "وشرحه في "إعلام الموقعين" بنحو ثلاثة أسفار، فانظره تَرَ ما استنبط منه من الأحكام والأسرار، ومنه استُنْبِطَتْ كيفية القضاء وأحكامه". وقال الأستاذ عبد العزيز مصطفى المراغي في تحقيقه الجيد لكتاب "أخبار القضاة" لوكيع، خص هامش (1/ 73 - 74) لهذا الكتاب، ومما قاله فيه: "وقد تولى تفسيره كثير، منهم:. . . و"إعلام الموقعين" لابن القيم يكاد يكون كتابًا موضوعًا لشرح كتاب عمر، اتخذ التعليق عليه وسيلة للإفاضة في كثير من أسرار التشريع التي نصب ابن القيم نفسه لبيانها، والدفاع عنها". وتصريح الأستاذ محيي هلال السرحان أوضح في الدلالة على ذلك، قال بعد كلام: "إن ابن القيم قد ألف كتابه "إعلام الموقعين" بشرحه لخصوصه" (¬1). قال أبو عبيدة: في كلامه هذا تجوّز، نعم، عناية ابن القيم بشرح كتاب عمر ¬
مباحث كتاب "الأعلام" لغاية إيراد المصنف كتاب عمر في القضاء
في القضاء لا تنكر، ولكن جعل كتاب "الأعلام" شرحًا له فحسب، فهذا أمر غير صحيح، وبهذه المناسبة نقرر الآتي: إن مادة كتاب "الإعلام" بالجملة هي الفقه وأصوله، وذكرت المسائل الفقهية خدمة لأصول عالجها وأفاض فيها على طريقة لا تكاد تجدها، لا من حيث المضمون ولا الأسلوب في بطون الكتب الأصولية المطروقة (¬1)! ويعجبني كلام الشيخ بكر أبو زيد في وصف مباحث الكتاب: قال عنه: "الجامع لأمهات الأحكام، وحقائق الفقه، وأصول التشريع، وحكمته وأسراره" (¬2). وإليك وصف عام لكتابنا هذا حتى الوصول إلى ما بدأنا به من الكلام على القياس (¬3): - مباحث كتاب "الأعلام" لغاية إيراد المصنف كتاب عمر في القضاء: كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين" ذخيرة جليلة، عامرة بمباحث قيمة في الفقه والأصول والأحكام والقضاء يعتد بها أهل السنة على اختلاف مذاهبهم، ويقدِّرون ما تميَّزت به من سعة الأفق وشمول النظر ودقة التناول وقوة الحجة في الدفاع عن مذاهب أصحاب السنة. الفصول الأولى من "الأعلام" خصصت للكلام عن الفتوى (¬4) وكونها توقيعًا ¬
عن اللَّه تعالى (¬1)، وأول من وقع عنه، سبحانه، الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وفيهم مكثرون من الفتوى ومتوسطون ومُقلُّون- ومن صارت إليه الفتوى من التابعين، ثم من فقهاء الأمصار الإسلامية بالمشرق والمغرب، تليها فصول عن الأصول الخمسة لفتاوى الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه-: النص من الكتاب والسنة، وما أفتى به الصحابة، فإذا اختلفوا في فتاويهم فأقربها إلى الكتاب والسنة، ثم الأخذ بالحديث المرسل وبالضعيف إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه، ثم القياس. ومنه عقد فصولًا في: كراهة العلماء التسرع في الفتوى والجرأة عليها، وخطر ولاية القضاء، وخطر القول على اللَّه تعالى بغير علم. وإطلاق الأئمة لفظ الكراهة على ما هو حرام، وكلامهم في أدوات الفتيا وشروطها، وهل تجوز الفتوى بالتقليد؟ وتحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرأي إلا ما كان منه مقبولًا محمودًا، وذلك هو رأي الصحابة، والرأي المفسر للنصوص، ¬
مباحث (الفتوى) في الكتاب
والذي تواطأت عليه الأمة وتلقاه الخلف عن السلف، فإن لم يجد المفتي، أو القاضي، ذلك، اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب اللَّه تعالى وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام وأقضية أصحابه -رضي اللَّه عنهم-. وهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضًا عليه. . . وهنا ساق المصنف (كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء)، عند وصوله إلى (الرأي المقبول) بأنواعه الأربعة، أورده في النوع الأخير منها. - مباحث (الفتوى) في الكتاب: ولا بد هنا من إبراز (مباحث الفتوى) (¬1) في كتابنا هذا، إذ كاد أن يكون أوسع معلمة فيها، ولذا قال صديق حسن خان في "إكليل الكرامة" (ص 80 - 81) بعد كلام: "فالكلام في شروط المفتي وما يُعتبر به مبسوط في كتب الأصول والفقه، وقد أوضحها. . . والحافظ الإمام ابن القيم في "إعلام الموقعين عن رب العالمين" بما يشفي العليل، ويروي الغليل، فإنْ شئت الاطلاع، فارجع إليه، يتَّضح لك الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، ولا تكن من الممترين" (¬2). وذكر عبد القادر بدران في "المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل" (ص 392) مسائل في (الفتوى)، وقال: "واعلم أن أمثال هذه المباحث، يُكْثِر من ذكرها الفقهاء في كتب الفروع في (باب آداب القاضي والمفتي)، فلا نطيل بها هنا، وقد أوسع المجال في هذا المقال الإمامُ شمس الدين محمد ابن قيم الجوزية في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" بما لا مزيد عليه، فليُراجعه من أراد استطلاع الحقّ مِنْ برُوجه، فَجزاه اللَّه خيرًا" انتهى. وصدق رحمه اللَّه تعالى، إذ إن اختياراته في (مباحث الفتوى) ظاهرة عند كثير من العلماء والباحثين والمطلعين، على حسب ما يأتي بيانه تحت عنوان (أهمية الكتاب وفائدته وأثره فيما بعده). - الرأي وأنواعه: وأما (الرأي وأنواعه) فتقسيمات المصنف له بديعة، واستدلالاته لها غالية، ¬
أصول الإمام أحمد
رفيعة، فيها حق وعدل، وإنزال للآثار السلفية في موضعها، على وجه لا تجده بهذا التأصيل والتقسيم والتفريع والتدليل في كتاب (¬1)، ولذا كان محط إعجاب وتقدير كثير من الباحثين المعاصرين (¬2). - أصول الإمام أحمد: بقي الكلام على (أصول الإمام أحمد)، فإن المصنف أولاها (عناية فائقة)، بسبب معرفته القويّة لها، وحذْقه وإعجابه بها، وسيأتيك نقل طويل من كلامه يدلل على ذلك تحت مبحث (مصادر المصنف وموارده) وقد نقل ابن بدران هذه الأصول في (العقد الثالث) -وهو خاص بها- في كتابه "المدخل" (ص 121 - 129)، قال في آخرها: "هذا مجمل مسالك الإمام أحمد في الفتيا والاجتهاد واستنباط الأحكام" (¬3). هذه أهم المباحث التي تطرق إليها المصنف، قبل سرده كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء. - كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء (¬4): يأخذ شرح (كتاب عمر في القضاء إلى أبي موسى الأشعري) موضعًا هامًا وواسعًا من كتابنا هذا، فهو يأتي في نشرتنا هذه في جزئين (الأول والثاني)، فهو ¬
يبدأ من (ص 158) من (المجلد الأول) إلى (آخره) ومن (بداية) (المجلد الثاني) إلى (ص 438) منه، وأما بالنسبة إلى الأصول الخطية فهو عبارة عن جل المجلد الأول، فشرحه ينتهي بنهاية المجلد الأول على تقسيم المصنف (¬1)، فهو نحو ثلث الكتاب (¬2)، عدا ما أدرجه من مباحث (سبق ذكرها) بين يديه. ويندرج تحت هذا الشرح (عناوين) (¬3) فرعية لـ (فصول) (¬4) و (مباحث) و (تفريعات) و (مسائل)، بلغ عددُها فيما أحصيتُ (ثلاثًا وأربع مئة) عنوانًا، لما هو شرح (كتاب القضاء) هذا. أدرج ابن القيم هذا الكتاب في (النوع الرابع) من (الرأي المقبول)، فذكره بسند أبي عبيد القاسم بن سلام من كتابه "القضاء" -بواسطة ابن حزم، كما سيأتي بيانه عند الحديث عن الموارد- وعقب عليه بقوله (1/ 163): "وهذا كتاب جليل تلقَّاه العلماءُ بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة" ثم بدأ في شرحه، فمضت الفقرات الأولى منه مشروحة بإيجاز، مع استطراد يسير إلى ما يتعلق بها من مسائل، ومن بديع تأصيلاته هنا ما يخص (فقه الواقع) (¬5)، الذي كثر الخوض فيه بحق دون عدل، أو بظلم مع تجاوز للأحكام الشرعية، من إهمال أو تنقيص في العلماء الربانيين، وكلام المصنف في هذا الباب هو البلسم الشافي والدواء الكافي، قال في (1/ 165): "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فقه الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا. ¬
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم اللَّه الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، فمن بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا". قال: "فالعالم مَنْ يتوصل بمعرفة الواقع، والتفقه فيه، إلى معرفة حكم اللَّه ورسوله. . . " ثم قال بعد كلام في (1/ 166): "ومن تأمل الشريعة، وقضايا الصحابة، وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله". قلت: صدق رحمه اللَّه، لو اطلع على هذا المتنازعون في هذه (المسألة)، التي وقع بسببها (التهاجر) و (التصارم)، وسوء (الظن)، والقيل والقال، لأراحوا واستراحوا، وجمعوا (الحق) إلى (العدل)، فاكتمل الخير، وظهرت ثمرته وبركته على طلبة العلم، واللَّه الواقي والهادي. وأطال الاستطراد عندما ورد في كتاب عمر -رضي اللَّه عنه-: "البَيِّنة على من ادعى، واليمين على من أنكر"، فأسهب جدًّا في الكلام على البينة، وغلط المتأخرين في تفسيرها، ونصاب الشهادة، وما يتعلق بشهادة الزنا وغيرها، وحكم شهادة العبد، وشهادة اليمين، والحكم بشهادة الواحد إذا ظهر صدقه، وتشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين، ولا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلًا، ولم يردّ الشارعُ خبرَ العدل، وجانب التحمل غير جانب الثبوت، ثم تعرض للحاكم وصفاته وما يشترط فيه، وأنه يجب تولية الأصلح للمسلمين، واستطرد في التدليل على ذلك لأهميته، ونبَّه على سر استطراده بقوله في (1/ 199): "ولا تستطل هذا الفصل، فإنه من أنفع فصول الكتاب، واللَّه المستعان، وعليه التكلان" ثم تكلم عن الصلح بين المسلمين، وجره ذلك إلى بيان أن (الحقوق نوعان)، وأن منها المردود ومنها النافذ، وأن للقاضي أن يؤجل الحكم بحسب الحاجة، وأن حكمه قد يتغير بتغيّر اجتهاده. واستكمل مباحث الشهادة عندما ورد في كتابه: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" فبيّن (من ترد شهادته) (وشهادة القريب لقريبه أو عليه) و (منع شهادة الأصول للفروع) و (عكسه) و (دليله) و (ردود العلماء على بعضهم بعضًا) في هذه المسألة، و (شهادة الأخ لأخيه)، ثم صوب شهادة الابن لأبيه والعكس. وبعدها شرح قول عمر في الكتاب: "إلا مجربًا عليه شهادة زور أو مجلودًا
عودة إلى مباحث (القياس) في الكتاب
في حد"، واستطرد في الكلام عن شهادة الزور وأنها من الكبائر، والحكمة في رد شهادة الكذاب، ورد شهادة المجلود في حد القذف، وحكم شهادة القاذف بعد توبته، ورد الشهادة بالتّهمة، وشهادة مستور الحال. وقدم ابن القيم في هذه المباحث آراء العلماء، وأدلتهم، وتوجيه الأدلة، والكلام على صحتها، واستطرد في الاحتجاج برواية (عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده) ليؤكد صحة بعض اختياراته، ولم يقتصر في هذا على شرح ما جاء في كتاب عمر فقط، واستغرق ذلك (1/ 168 - 247). - عودة إلى مباحث (القياس) في الكتاب: وتابع الشرح بإيجاز إلى وصوله إلى قول عمر: "ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك، مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال". فانصرف إلى تأصيل (القياس) (¬1)، وما ترك القول فيه حتى استوفاه في صفحات عديدة، استغرقت من (ص 247) في (المجلد الأول) إلى (نهايته)، ومن (أول) (المجلد الثاني) إلى (ص 425) منه من نشْرتنا هذه، قال في نهايته بعد استطرادات وتفريعات فيها تأصيلات بديعات: "فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين: "واعرف الأشباه والنظائر"". وفي لفظ: "واعرف الأمثال. . . " قال: "فلنرجع إلى شرح باقي كتابه". فموضوع القياس بلغ في نشرتنا هذه (ست مئة وستين صفحة)، فلا غرو أن يربط العلماء بين (كتابنا) و (موضوع القياس)، كما قدمنا في مطلع هذا البحث. وبدأ المصنف ببيان أن الصحابة كانوا متفقين على القول بالقياس، وأخذ في تقرير أنه أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه، وبيّن أن اللَّه أرشد عباده في غير موضع إليه، وقال في (1/ 248): "وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلًا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره، والتسوية بينهما في الحكم". وقال في (1/ 248): "وقالوا: ومدار الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، فإنه إما استدلال بمعين على معين، أو بمعين ¬
على عام، أو بعام على معين، أو بعام على عام، فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال". وبيَّنَ كل ضرب من الأربعة، واستدل له بنصوص من القرآن الكريم، ونبه على أن القياس ينقسم إلى حق وباطل، فهو إما صحيح أو فاسد، قال (1/ 251): "فالصحيح هو الميزان الذي أنزله تعالى مع كتابه، والفاسد ما يضاده، كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقياس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها، بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح: هذا بسبب من الآدميين وهذا بفعل اللَّه، ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعمالَه والاستدلالَ به، وهذا حق وهذا حق. . . ". وانتقل إلى الحديث عن الأقيسة الثلاثة المستعملة في الاستدلال: (قياس علة) و (قياس دلالة) و (قياس شبه). وقد وردت كلها في القرآن الكريم بشاهد من الآيات التي تقصاها لكل من الأقيسة الثلاثة، واقتضى الموضوع، في قياس العلة وقياس الدلالة، أن يستدل بما جاء في القرآن الكريم من آيات بتحليل الأحكام، وما ورد في السنة من علل الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها طردًا وعكسًا، ذكرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ليدل على ارتباطها بها وتعديها بتعدي أوصافها وعللها. . . وقد قرب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، الأحكام إلى أمته بذكر نظائرها وأسبابها وضرب لها الأمثال. . . وجوز للحاكم أن يجتهد رأيه، وجعل له على خطئه في اجتهاد الرأي أجرًا واحدًا، إذا كان قصده معرفة الحق واتباعه. وقد كان أصحاب رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره. وتخلل ذلك استطرادات عجيبة في الاستنباطات القرآنية، وتوظيفها في كون القياس ميزانًا، والوقوف على أسرار بديعة من الآيات، لعلك لا تظفر بها في كتاب (¬1). ولم ينس ابن القيم خلال هذه المباحث ذكر لفتات تاريخية من أحداث جرت له مع مخالفيه من المنحرفين، فقال مثلًا في (1/ 272): "وقد شاهدنا نحن ¬
وغيرنا كثيرًا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة إذا سمعوا شيئًا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين. . . ". والمتتبع لكلامه في هذا المبحث يحسب أنه يقرأ في كتاب تفسير، يركز صاحبه على أوجه الهداية منه، وفيه أيضًا بيان أثر العقيدة على صاحبها، وذكر أمثلة للمؤمنين والكفار، وبعضها يخص اللَّه رب العالمين، من حيث الأسماء والصفات، ويكاد ينسى ما بدأ به من ذكر لتوجيه عمر ووصيته لأبي موسى في كتابه المذكور. واستطرد في بيان السر في ضرب الأمثال، وفرع عليه أصل (عبارة الرؤيا)، وذكر قواعد جامعة وكليات نافعة لتعبير (الرؤى)، بعضها مدلل بأحاديث نبوية (¬1)، ورجع إلى تأصيل كون أمثال القرآن أصولًا وقواعد لعلم التعبير، ثم ربط ذلك كله بموضوع (القياس)، من إلحاق النظير بالنظير، وإنكار التفريق بين المتماثلين. وجره هذا إلى الكلام على (مراد المتكلم) وأن ذلك يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علّته، والأمور تتضح بأضدادها -كما يقولون- وبناء عليه قرر أنه "قد يعرض لكل من أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني ما يخلُّ بمعرفة مراد المتكلّم، فيعرض لأرباب الألفاظ: 1 - التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة. 2 - وبتحميلها فوق ما أريد بها تارة. ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ". قال في (1/ 387): "فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين" قال: "ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك، ليعتبر بها غيره"، وأخذ في الاسترسال بذكر قواعد شرعية مبنية على النصوص، قلَّ أن يؤصلها إلا من وفقه اللَّه لذلك. ثم عقد مقارنةً -بناءً على تأصيله السابق- بين (القياسيين) و (الظاهرية)، وبيَّن ¬
أن كلًا منهما مفرط، وذلك من خلال أمثلة في فهم بعض النصوص الشرعية وذكر وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقّهما، وذكر أمثلة توضيحية تدلّل على مراده، وفيها ما يدلّل على عبقريته في وضع الأشياء في أماكنها، وبعد ضرب هذه الأمثلة، تفرغ للرد على (نفاة القياس)، وبدأه مُجمِلًا ما سبق بقوله في (1/ 400): "قد أتينا على ذكر فصول نافعة، وأصول جامعة، في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تجده في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منه". قال أبو عبيدة: وكلامه -واللَّه- حق، فقد طرق موضوع القياس بما يخدم النصوص، وبناه عليها، وفصل الجيد من الرديء، والسليم من السقيم، والصحيح من الضعيف، بوجه فيه اتباع للسلف، وبُعد عن المباحث الكلامية التي لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب (الأصول) المعروفة. وتعرض بعد ذلك في صفحات عديدة من (1/ 403 - 425) بسرد أمثلة ذكرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم صاغ بعد ذلك إشكالات عليها وعلى الأمثلة السابقة، ذَكَرها من القرآن على لسان (نفاة القياس)، واستطرد في ذكر (أدلة نفاة القياس)، متعرضًا إلى ما ورد عن الصحابة والتابعين من نهيهم عنه، وأن القياس يعارض بعضه بعضًا (¬1)، وأن أهله متناقضون، مع إيراد أمثلة تدل على ذلك، ثم مثل على ما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات، وأنهم راعوا بعض الشروط دون بعضها الآخر في بعض المسائل، وهذا من تناقضهم، وعرض تحت هذا مسائل فقهية عديدة، أطال النَّفس في بعضها، ثم عقد مقارنة بين (القائسين) و (معارضيهم) بلغة قوية، فقال في (2/ 88 - 89) وعلى لسان (المعارضين): "وهذا غَيْضٌ من فيضٍ، وقطرة من بحر، من تناقض القياسيين الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أو أولى منه وخروجهم في القياس عن موجب القياس، كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك، فليوجدنا القياسيون حديثًا واحدًا صحيحًا صريحًا غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، فإن كان مخالفةُ القياس ذنبًا فقد أريناهم مخالفته صريحًا، ثم نحن أَسعدُ الناس بمخالفته منهم؛ لأنا إنما خالفناه للنصوص؛ وإن كان حقًّا، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فانظر إلى هذين البَحْرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما، والحزبين اللذين قد ¬
ارتفع في مُعتركِ الحَرْب عَجَاجُهما، فجرَّ كلُّ منهما جيشًا من الحجج لا تقوم له الجبال، وتتضاءل له شجاعةُ الأبطال، وأدلى كل منهما من الكتاب والسنّة والآثار بما خضعت له الرقاب، وذَلَّت له الصِّعاب، وانقاد له علم كل عالم، ونفَّذَ حكمه كلُّ حاكم، وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه، ويحيط علمًا بما أَصَّلَاه وفصَّلاه؛ فليعرف الناظر في هذا المقام قدره، ولا يتعدى طوره، وليعلم أن وراء سويقتيه بحارًا طامية، وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السُّهي عالية، فمن وثق من نفسه بأنه من فرسان هذا الميدان، وجملة هؤلاء الأقران، فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين، ويحكم بما يرضي اللَّه ورسوله بين هذين الحزبين، فإن الدين كله للَّه، وإن الحكم إلا للَّه، ولا ينفع في هذا المقام: قاعدة المذهب كيت وكيت، وقطع به جمهور من الأصحاب، وتحصَّل لنا في المسألة كذا وكذا وجهًا، وصحح هذا القول خمسة عشر، وصحح الآخر سبعة، وإن علا نسبُ علمه قال: "نصَّ عليه" فانقطع النزاع، ولزم ذلك النص في قرن الإجماع، واللَّه المستعان وعليه التكلان". ثم قرر ما رضيه، فقال على لسان -ما سماهم- (المتوسطين بين الفريقين): "قد ثبت أن اللَّه سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان، فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض؛ فلا يناقض القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا". وفصل الأمر بتقرير قاعدة مهمة هي: بيان إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين، وبجميع الحوادث، ورد على ما هو شائع في كتب الأصول بأن الأصول متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، وزيّفه من وجوه ثلاثة، وضرب أمثلة عديدة تؤتد ذلك، ثم عرج على بطلان القول بنفي الحكمة والتعليل، وربط موضوع (القياس) وبيان انحراف الغالين فيه والمنكرين له بأصول عقدية (¬1) تخالف معتقد أهل السنة، قال في (2/ 96، 97): ¬
"ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يُنكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط؛ فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين لِلحِكَم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية، ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل، وعامة البدع المحدثة في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية، والجهمية رؤوس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة اللَّه ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة، والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته؛ فأولئك أثبتوا نوعًا من الملك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من الحمد بلا ملك؛ فأنكر أولئك عُمومَ حَمْدِه، وأنكر هؤلاء عموم مُلكه، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه؛ فله كمال الملك وكمال الحمد؛ فلا يخرج عينٌ ولا فعلٌ عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراطٍ مستقيم، وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به لأجله. والمقصود أنهم كما انقسموا ثلاث فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه -وهو القياس- إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحِكَم والتعليل والأسباب؛ والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين وأنها أحالت على القياس، ثم قالت غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرًا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها إلا به" قال: "والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية: وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان، وقد تخفى دلالةُ النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا؛ وفي نفس الأمر لا بد من موافقته أو مخالفته، لكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته". ثم قوّم أهل القياس ونفاته، بقوله في (2/ 98): "وكل فرقة من هذه الفرق سَدُّوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق؛ ¬
فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر مما تحتمله؛ فنفاة القياس لما سدّوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله اللَّه احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحمَّلوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يَسعَانه، فحيث فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه. ولكن أخطأوا من أربعة أوجه. . . " وذكرها (¬1). وفصَّل في أخطاء القياسيين، وتعرض إلى (الاستصحاب): معناه وأقسامه، وعاد إلى ذكر أخطاء أهل القياس الخمسة (¬2). وتفرغ ابن القيم بعد ذلك للرد على من أبطلوا القياس، فتعقّب أقوالهم وفندها، وكأنه في هذا المبحث يتعقب كل ما ذكره ابن حزم في رسالة "إبطال القياس" (¬3) ومبحث (القياس) من كتابه "الإحكام" (¬4) بحيث يمكن اعتبار ما في (إعلام الموقعين) من مباحث في القياس، رسالة مستقلة في إثباته، والرد على إبطال الظاهرية له. ويعفيني -القارئ الكريم- من متابعة التعريف بجهد المصنف في (القياس) بما ذكرته في مطلع هذا الفصل تحت عنوان (فصول نافعة وأصول جامعة في القياس)، فإنه متمم للمذكور هنا، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن الكتاب بين يديه، والإكثار من سياق فقراته فيه تطويل، وجميع مباحثه في هذا الباب ماتعة، نافعة، قوية، رائعة، تستحق الوقوف عندها (¬5)، ليُعلم الفرق بين (التحقيق) و (التفتيش) من جهة، و (الجمع) و (التقميش) ¬
إلماحة في رد كون كتابنا شرحا لكتاب عمر في القضاء فحسب
من جهة أخرى، ولا سيما في باب الأصول وتخريج فروعه عليه على وفق منهج أهل السنة والجماعة، المعظمين للأثر، الواقفين عند الدليل. ورحم اللَّه صديق حسن خان، فإنه تكلم عن القياس، وأنواعه المستعملة في الاستدلال، وقال: "وأمثلة هذه الأقيسة على وجه البسط والتفصيل ذكرها ابن القيم رحمه اللَّه في "الأعلام" لا يتسع هذا المختصر لذكرها" (¬1). وأخيرًا. . . فإن المصنف بعد ذكره مباحث القياس، التي طالت وتشعبت وتفرعت، رجع إلى كتاب عمر في القضاء، قال في (2/ 425): "فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه-: "واعرف الأشباه". . . ": وهنا تنتهي مباحث القياس، قال: "فلنرجع إلى شرح باقي كتابه" ومضى بعد ذلك في شرح ما بقي من فقراته في (2/ 425 - 438). - إلماحة في رد كون كتابنا شرحًا لكتاب عمر في القضاء فحسب: مما مضى يتبيَّن بجلاء؛ أن ابن القيم أولى كتاب عمر في القضاء أهمية واضحة، ولكن كتابه أوسع منه، حتى خلال شرحه لفقراته، فإنه ذكر مسائل وأصولًا ما كان أصبره عليها! وأطول نفسه في عرضها ومناقشتها! وكان يعنون في خروجه عنه بـ (فصل) تارة، ويفرع ويدلل من باب تأصيل ما قاله عمر في كتابه المهيب الذي أرسى فيه قواعد عامة للقضاة (¬2). وتكرار المصنف لفقراته في مواطن من كتابه لا يأذن للمنصف أن يقرر أنه عبارة عن شرح له، فقد أورده -مثلًا- بتمامه البيهقي في "سننه الكبرى" في (كتاب القضاء)، ثم ذكر فقرات منه في كتب (الشهادة) و (البيّنة) و (اليمين)، ولم يقل أحد أن "سنن البيهقي" شرح لكتاب عمر -رضي اللَّه عنه-! - تحريم الفتوى بغير علم: بدأ المصنف بعد إتمامه شرح كتاب عمر، وما يتعلق به من استطراد وتفصيل ¬
تفصيل القول في التقليد
وتأصيل وتدليل بتقرير حرمة الإفتاء في دين اللَّه بغير علم، وأن الواجب على من لا يعلم أن يقول: لا أدري، وبيَّن أنّ هذه طريقة السلف الصالح، وكان ذلك تمهيدًا لبحث: - تفصيل القول في التقليد: لا يخفى أنّ مسألة الاجتهاد والتقليد قد أخذت طورًا خطيرًا، ودارت كثيرًا على ألسنة أهل العلم، وتناولتها أقلام كتابنا، ونجم عنها سوءُ تفاهم، وتفرق كلم، واختلاف عظيم بين المجددين لعهد السلف، وبين المقلدين الحريصين على اتباع سبل أشياخهم، وحملوا على بعضهم حملاتٍ شديدة الوطأة، حتى كاد بعضهم يكفر بعضًا، ومنشأ ذلك استرسال الفريقين في صرف القول على إطلاقه، بدون قيد ولا شرط ولا تفصيل (¬1). - وعمل ابن القيم في كتابنا هذا إلى ضبط أنواع التقليد، فقال في أول مباحثه (2/ 447): (ذكر تفصيل القول إلى التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه، والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب). وقسَّم كلَّ نوع إلى أقسام، وذكر الفرقَ بين الاتباع والتقليد، وحُججَ كل فريق، وما قاله الأئمة الأربعة عن تقليدهم، ثم خص (فصلًا) في (2/ 470 - 574، و 3/ 5 - 36) (في عقد مجلس مناظرة بين مقلّد وصاحب حجة منقاد للحق حيث كان) وأطال النفس جدًّا في هذه المباحث التي أشاد الباحثون والعلماء بها، وأحالوا إليها (¬2)، قال ¬
الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في (رسائله الشخصية) (¬1) في رسالة له إلى الشيخ عبد اللَّه بن محمد بن عبد اللطيف: "والحاصل أن صورة المسألة: هل الواجب على كل مسلم أن يطلب علم ما أنزل اللَّه على رسوله، ولا يعذر أحد في تركه البتة؟ أم يجب عليه أن يتبع "التحفة" (¬2) -مثلًا-" قال: "فأعْلمُ المتأخرين وسادتهم، منهم ابن القيم، قد أنكروا هذا غاية الإنكار، وأنه تغيير لدين اللَّه" وقال بعد كلام: "فعندكم كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم، فقد بسط الكلام فيه على هذا الأصل بسطًا كثيرًا، وسرد من شبه أئمتكم ما لا تعرفون أنتم ولا آباؤكم، وأجاب عنها، واستدلّ لها بالدلائل الواضحة القاطعة .. . . " (¬3)، وقال فيها أيضًا: "وإنْ أردتَ النظر في "إعلام الموقعين" فعليك بمناظرةٍ في أثنائه عقدها بين مقلد وصاحب حجة. . . " (¬4). وقال فيها بعد أن أورد نصًّا طويلًا منه ومن كتاب "الإيمان" لابن تيمية: "فتأمل هذا الكلام بشراشر قلبك، ثم نزِّله على أحوال الناس وحالك، وتفكَّر في نفسك، وحاسبها بأيّ شيء تدفع هذا الكلام، وبأي حجة تحتج يوم القيامة على ما أنت عليه" (¬5). وقال صديق حسن خان بعد كلام: "وهاهنا أبحاثٌ في التَّقلِيد وانقسامه إلى ما يُحْرَمُ القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، إلى ما يسوغ من غير إيجاب. قد أطال الحافظُ ابنُ القيِّم في "الأعلام" في تفصيل القول في ذلك إلى كراريس طويلة، وحرَّر احتجاج المقلِّدين وأدلَّتهم، وأجاب عن كل حُجَّةٍ ودليل لهم، جوابًا شافيًا كافيًا وافيًا، لم يغادر شيئًا من الرَّدِّ على المقلِّدين. وذكر إحدى وثمانين وجهًا في الاحتجاج ¬
وجوب إعمال النصوص
عليهم، وليس الكلام على ذلك من غرضنا في هذا الكتاب، وما أحقَّ أبحاثَه هذه بالإفراز وجعلها كتابًا مستقلًا، مع ضَمِّ كلام القاضي العلَّامة محمد بن علي الشوكاني في مؤلَّفاته في التَّقلِيد -وهو أيضًا كثير جدًّا- في مؤلَّفات مستقلَّة، وغضون أبحاثٍ ومسائل في تفسيره "فتح القدير" وغيره" (¬1). وقد أفصح ابن القيم: أن مبحثه في (التقليد) كمبحثه في (القياس) فيه جدّة وإحاطة وشمول على وجه تخلو منه الكتب، قال في (3/ 36) ما نصه: "وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لَهُم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا، وذلك بحول اللَّه وقوته ومعونته وفتحه، فله الحمد والمنة، وما كان فيه من صواب فمن اللَّه، هو المانُّ به، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، وليس اللَّه ورسوله ودينه في شيء منه، وباللَّه التوفيق". ومن نافلة القول: أن عدم إدخال ابن القيم ربقة التقليد في عنقه، من أسباب نضج عقله، وسمو فكره، ووقوفه على الشيء الكثير من أسرار الشريعة، ولو كان غيره سلك هذا المسلك لصار الناس إخوانًا، ولكان للشريعة وضع آخر، فكم أفسد التقليد عقولًا، وكم أهوت العصبية المذهبية بالأفكار إلى مكان سحيق، فقتلت المواهب، ونصبت النزاع في مواضع الوفاق، وفرقت كلمة المسلمين. - وجوب إعمال النصوص: ثم عاد بعد ذلك إلى التركيز على إعمال النصوص، وأن الاجتهاد والقياس إنما يعمل به عند الضرورة، والواجب رد المتشابه إلى المحكم، لا العكس، ثم ذكر ثلاثة وسبعين مثالًا لمن أبطل السنن بظاهر القرآن تمسكًا بالمتشابه في ردّ المحكم، وقال قبل سردها في (3/ 58): "ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدّة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب" وبدأها في الرد على بدع عقدية، قال بها الجهمية والقدرية والجبرية والخوارج والمعتزلة، واستطرد في (المثال الثاني عشر) فذكر ثمانية عشر دليلًا على (علوّ اللَّه على خلقه وكونه فوق عباده) وصرح بأنه اختصر الأدلة عليها، قال في (3/ 75): "فهذه أنواع من الأدلة ¬
الزيادة على النص
السمعية المحكمة إذا بُسطت أفرادُها كانت ألفَ دليل على علوّ الرَّبّ على خلقه واستوائه على عرشه"، واقتصر على التوحيد إلى آخر (المثال الثالث عشر)، ثم شرع في ذكر أمثلة في مسائل فقهية، جُلُّها في الرد على أهل الرأي والقياس، أعني النوع الذي أصَّل ردّه فيما سبق لمخالفته نصوص الوحي. - الزيادة على النص: ولم تخل مباحث هذه الأمثلة من تأصيل وتقعيد، وتفريع، فذكر -مثلًا- تحت (المثال الثامن عشر) مسألة (الزيادة على النَّصّ) وقرر أن "السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه" (¬1)، وسرد أمثلة كثيرة جدًّا، فيها الرد على معطلي الاستدلال بالسنة بحجة الزيادة على النّص وألزمهم بأنهم فعلوا ذلك في مسائل عديدة (¬2). ثم نقل عن أهل الرأي أنواع دلالة السنة الزائدة على القرآن، وناقشهم في التأصيل والتنويع، ورده عليهم من اثنين وخمسين وجهًا، قال قبل ذكر الأخير منها (3/ 132): "فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن، فتكون ناسخة؛ فلا تقبل" (¬3). وذكر تحت (المثال الخامس والعشرين) النصوص التي فيها الرجوع عن الهبة، واعتنى بألفاظها، واضطر ليظهر الحق فيها إلى التخريج والكلام في الرواة، والعناية بالثابت من الألفاظ (¬4). ¬
وذكر تحت (المثال السابع والعشرين) نظائر للمسالة التي أدرجها تحته، وهي مسائل قال بها (القياسون) بـ (دعوى أنّ ذلك موجب الأصول) (¬1)، وكان ذلك استطرادًا حسنًا، يدلل على ملكة ابن القيم الفقهية القوية. وذكر تحت (المثال الثامن والعشرين) استطرادًا وتأصيلًا أن (أحكام الابتداء غير أحكام الدوام)، وبرهن أن النص والإجماع والقياس فرَّق بينهما (¬2). وشد النفس في (المثال السادس والخمسين) (¬3)، فجمع الأحاديث في المسألة المبحوثة وعزاها إلى دواوين السنة، وتكلم على درجتها، وبيَّن ما يخالفها، ثم استطرد فـ (تكلم على عمل أهل المدينة) (¬4)، وذكر أمثلة تخرّج على هذا الأصل، وتعرض لمنهج البخاري في "صحيحه" (¬5)، وحجيَّة فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- وإقراره، ثم تعرض إلى "نقلهم لتركه -صلى اللَّه عليه وسلم-" وأنه نوعان، وكلاهما سنة، ثم تعرض لنقل العمل المستمر، للعمل الذي طريقه الاجتهاد، وحال خبر الواحد معه، ومنزلته منه، وحكم العمل في المدينة بعد انقراض عصر الصحابة، وتغير عمل أهل المدينة من عصر إلى عصر، ثم لخص ذلك بقوله في (3/ 273): "وخذ بلا حسبان ما شاء اللَّه من سُننٍ قد أهملت وعُطِّل العملُ بها جملة، فلو عمل بها من يعرفها، لقال الناس: تركت السنة، فقد تقرر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل ألبتة، وإنما يقع من طريق الاجتهاد، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودًا، وكل عملٍ طريقه النقل، فإنه لا يخالف سنة صحيحة ألبتة" (¬6). ثم ذكر (المثال السابع والخمسين) وذكر فيه (3/ 273 - 279) اختلاف ¬
العرف وحجيته
الرواة في حكم الجهر بالتأمين، وأيَّد الجهر بستة مرجِّحات حديثيَّة. وكذلك أطال النفس الحديثي بتتبع ما ورد في (وضع اليدين في الصلاة) وذلك في (المثال الثاني والستين) (¬1). - العرف وحجيته: وذكر في (المثال السبعين) مسألة (انتفاع المرتهن بالمرهون)، واستدل للجواز بأصلين، وأيده بأنه مأذون فيه عرفًا، ثم استرسل في (مسألة العرف)، وقال في (3/ 316): "وقد أُجري العرف مجرى النطق في أكثر من مئة موضع. . . " وأخذ يسرد الكثير منها، ثم تعرض إلى أن (الشرط العرفي كالشرط اللفظي)، وأخذ يفرع على ذلك أمثلة لا صلة لها بعين المسألة المذكورة تحت المثال اللهم إلا الاشتراك في موضوع (العرف) فحسب. فهو يرجح بالنظائر، ويؤكد أن الشريعة قواعد مطردة، ومن خلالها يُوضِح الحقَّ في (المسائل الأصولية)، فالقارئ يعجب من طول نفس المصنف، وتفريعاته، وتحليلاته، واستدلالاته، وإيراده كلام الخصوم، وكيفية توجيهه وردّه، على وجه لا يقدر عليه إلا من آتاه اللَّه بسطة في العلوم والفهوم، وتفننًا في الموضوعات والرسوم. ولا يُنسَى في هذا المقام المثال قبل الأخير، وهو: (المثال الثاني والسبعون) في (الجمع بين الصلاتين للعذر) (¬2)، فإنه وضع المسألة في مكانها الشرعي اللازم، وربطها بأوقات الصلوات، وأنها خمسة في السعة والرفاهية، وثلاثة في الضيق والشدة، وأن القرآن ذكر الأوقات على هذين النَّحوَيْن، وفي هذا إشارة إلى دلالة القرآن على مشروعية الجمع للعذر والحاجة. ورد على المعترضين بكلام لا تكاد تجده عند أحد غير المدرسة التي ينتسب إليها ابن القيم (¬3). ¬
تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد
- تغير الفتوى بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد: ثم عقد بعد ذلك (فصلًا) في (تغيّر الفتوى، واختلافها بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) هو من نفائس هذا الكتاب، وفرائد مباحثه، ونبه على ذلك المصنف بقوله في أوله (3/ 337): "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيم على الشريعة أوْجَبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به. فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عَدْل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَمَّ دلالةٍ وأصدَقَها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكل خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها، ولولا رسومٌ قد بقيت لخَرِبَت الدنيا وطِوِيَ العالم، وهي العصمة للناس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السموات والأرض أن تزولا". ثم أخذ في تفصيل ما أجمله فيه بالتمثيل، فذكر أولًا: الأمر بالمعروف وأنه على مراتب، بعضها مشروع، والآخر ممنوع. ثم مثل بـ (النهي عن القطع الأيدي في الغزو)، ثم استطرد فذكر (سقوط الحد بالتوبة)، وأورد النصوص الواردة في ذلك، والإشكالات، وحلها، ثم تطرق إلى (اعتبار القرائن وشواهد الأحوال في التهم). ثم ذكر أمثلة أخرى، ووصل إلى (المثال السادس) وهو طواف الحائض بالبيت، وذكر مذاهب العلماء، وفصل في المسألة على وجه لا تجده في المطوّلات، فذكر أن الحائض لا تخلو من ثمانية أقسام، وسردها في (3/ 357 -
358) ورجح الثامن منها، ورجع إلى الأقسام المتبقيَّة وأبطلها، وتعيّن الثامن بقوّة، ودفع أربعة اعتراضات عليه، ثم اضطره هذا الاختيار إلى التعرض لحكم طواف الجنب والمحدث والعريان بغير عذر، ثم تعرض للنصوص التي فيها منع الحائض من الطواف، وعالجها من ناحية حديثية بإعلالها وإسقاطها على النحو المقرر عند أئمة هذا الشأن. ثم رجع إلى الفرق بين الحائض والجنب، وفرع مسألة (قراءة القرآن) لهما عليها، ثم ربط ذلك كله بطواف الحائض. ورد تشبيه الطواف بالصلاة من جميع الوجوه، ثم ذكر (الجوامع والفوارق بين الطواف والصلاة) على وجه تكاد تخلو منه كتب (الأشباه والنظائر)، وختم المبحث بـ (فصل) خصه في حكم الطهارة للطواف، واستغرقت هذه المسألة في نشرتنا عشرين صفحة (¬1)، وهي مبحوثة فيه بحثًا نموذجيًا، من حيثية ذكر الأقوال والمذاهب، وأدلتهم، وذكر الاعتراضات والمناقشات، وسبب الخلاف، وأشباه المسألة ومؤيِّداتها مع ذكر الأحوال التي تعتري الحائض، وكل هذا بمبحث أصولي، فقهي، حديثيّ، وعرض سلس وأسلوب مشوق ماتع، ولذا نعود ونقرر أن القول بأن كتابنا له موضوع خاص ما خرج عنه غير دقيق، على النحو الذي أومأنا إليه في مطلع هذا المبحث، واللَّه الموفق. وكذلك فعل في (المثال السابع) وهو في (حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد)، فإنه بحثه بإسهاب، وله "الباع الطويل في شرحه والكلام عليه، ونصرة القول بوقوع الطلاق الثلاث طلقة واحدة فقط، كما هو معروف مشهور" (¬2). وأورد اعتراضات المخالفين، من قولهم: "فتوى صحابي الحديث على خلافه"، فأصَّل المسألة، وذكر الأمثلة التي تخرَّج عليها، وأقوال العلماء فيها، وألزمهم بتناقضهم في هذا الاعتراض، وقال بعد أن سرد عشرات المسائل، وأومأ إلى أدلتها في المرفوع، ومخالفة راويها: "وهذا باب يطول تتبّعه، وترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديثُ يوافق قولَ مَنْ قلَّده وقد خالفه راويه يقول: الحجة فيما رَوَى، لا في قوله، فإذا جاء قولُ ¬
الراوي موافقًا لقول مَنْ قلده والحديث بخلافه قال: لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نَسْخُه، وإلا كان قَدْحًا في عَدَالته، فَيَجْمَعُونَ في كلامهم بين هذا وهذا، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد، وهذا من أقبح التناقض. والذي ندينُ اللَّه به ولا يَسَعُنا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخْذُ بحديثه وتَرْك كل ما خالفه، ولا نتركه لخلاف أحدٍ من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره؛ إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديثَ، أو لا يَحْضُره وقتَ الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارَضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفَتُه لما رواه سقوطَ عدالتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك" (¬1). ثم عاد وربط هذا المثال بأصله (تغير الفتوى)، فقال في (3/ 408): "وإذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفَتْوَى بها بحسب الأزمنة كما عرفت؛ لما رأته الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مَفْسَدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لَعَنَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعله (¬2) مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق اللَّه في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره". قال صديق حسن خان ملخصًا لمباحث السابقة: "وفي "الأعلام" فصلٌ مستقلٌّ في تحريم الإفتاء، والحكم في دين اللَّه بما يخالف النُصوص، وسقوط الاجتهاد والتَّقليد عند ظهور النَّص، وذكر إجماع ¬
العلماء على ذلك، لا نطول الكلام بذكر ما فيه من الأدلَّة. والآياتُ الدَّالَّةُ على وجوب اتِّباع الرَّسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا كثيرةٌ جدًّا، وكذلك أمثلةُ رَدِّ النُصوص المحكمة بالمتشابه لا تكاد تنحصر، ذكرَ جملةً صالحةً منها في "الإعلام"، وبلَّغها إلى المثال الثالث والسبعين، ثم حرَّر فصولًا نفيسةً طَيِّبَةً في بيان تغيير الفتوى واختلافها بحسب الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد؛ وهو فصلٌ عظيمُ النفع جدًّا وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيمٌ على الشَّريعة، أوْجَبَ من الحرج والمشقَّة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يُعْلَمُ أن الشَّريعةَ الباهرة التي هي في أعلى رُتَبِ المصالح لا تأتي به" (¬1). ثم ذكر ابن القيم إلماحة تاريخية عما يجري في عصره بسبب عدم القول بهذه الفتوى (¬2)، وقال في (3/ 408 - 412):. "وأما في هذه الأزمان التي قد شكت الفروجُ فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحللون، مما هو رمد -بل عمى- في عين الدِّين، وشجًى في حلوق المؤمنين، من قبائحَ تُشْمِتُ أعداء الدين به وتمنع كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رَسْمَه، وغيّرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وقد زعم أنه قد طيّبها للحليل، فيا للَّه العجب! أيُّ طيب أعارَها هذا التيسُ الملعون؟ وأيُّ مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدُّون؟ أترى وقوفَ الزوجِ المطلِّق أو الولي على الباب والتيسُ الملعونُ قد حل إزارها وكشف النقاب وأخَذ في ذلك المرتع والزوجُ أو الولي يُنَاديه: لم يقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة أو أوليائها بك رضًا ولا فرح ولا ابتهاج، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضِّرَاب، الذي لولا هذه البَلْوَى لما رضينا وقوفَكَ على الباب؛ فالناس يُظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصَى بكتمان هذا الداء العُضال ونجعله أمرًا مستورًا؛ بلا نِثَار ¬
ولا دُفٍّ ولا خِوَان ولا إعلان، بل التواصي بهُسَّ ومسَّ والإخفاء والكتمان؛ فالمرأة تُنكَح لدينها وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فإنه لا يمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، واللَّه تعالى قد جحل كل واحد من الزوجين سكَنًا لصاحبه، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصودُ هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شَرَعَهُ لأجلها العزيزُ الحكِيم، فسَلِ التيسَ المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟ وسَلْه: هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا يأوي إليه؟ ثم سَلْها: هل رضيت به قط زوجًا وبعلًا تُعَوِّلُ في نوائبها عليه؟ وسل أولي التمييز والعقول: هل تزوجت فلانة بفلان؟ وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا من أمته نكح نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار (¬1)، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟ وكيف تُعَيَّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك التيس بين النسوان؟ وسل التيس المستعار: هل حَدَّثَ نفسَه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدثت نفسها به هنالك؟ وهل طلب منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا؟ وسل عقول العالمين وفِطَرَهم: هل كان خير هذه الأمة أكثرهم تحليلًا، أو كان المحلل الذي لعنه اللَّه ورسوله أهداهم سبيلًا؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به: هل تجمَّلَ أحد منهما بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسبٍ أو مالٍ أو جمالٍ؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيسُ المستعار أو يتسرّى، أو تركه أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته؟ وسل التيس المستعار: هل سأل قط عما يسأله عنه مَنْ قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب المِلَاح؟ وسَله: هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي نفقة هذا العرس أو حُطِّي؟ وسَلْه: هل تحمَّلَ من كُلْفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟ وسله عن وليمة عُرْسه: هل أوْلَم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحدًا من ¬
أصحابه فقضى حقه وأتاه؟ وسَلْه: هل تحمَّل من كلفة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس الأصحابُ والمهنئون؟ وهل قيل له: بارك اللَّه لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية، أم لعن اللَّه المحلل والمحلَّل له لعنة تامة وافية؟ ثم سَلْ مَنْ له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حُرَّة مَصُونة أنْشَبَ فيها المحلل مخالِبَ إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردًا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان؟ فلعمر اللَّه! كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العُشَرَاء والخدناء؟ ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القَنَا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها. وسَلْ أهل الخبرة: كم عَقَدَ المحلل على أم وابنتها؟ وكم جمع ماءَه في أرحام ما زاد على الأربع وفي رحم الأختين؟ وذلك مُحَرَّم باطل في المذهبين، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تفرد بالذكر وهي كموجة واحدة من الأمواج، ومن يستطيع عد أمواج البحر؟! وكم من امرأة كانت قاصِرَةَ الطّرْف على بعلها، فلما ذاقت عُسَيْلَة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها، ومن كان هذا سبيله فكيف يحتمل أكمل الشرائع وأحكمها تحليله؟! ". وأخذ في سرد الأحاديث، عازيًا لها إلى دواوين السنة، ذاكرًا من أعلّها، وحجتهم في ذلك، ثم رد عليهم بتقرير ثبوتها، على منهج أهل العلم. ثم عقد فصلًا عن (التيس المستعار)، الذي كثر وجوده بسبب القول بأن جمع الطلاق الثلاث بلفظ واحد يعدُّ ثلاث تطليقات، وفضل في أدلة تحريمه، وعدم إدراجه تحت معاني النكاح ومقاصده، وعدم وجوده في الصحابة ثم لخص مراده من هذا كله بقوله في (3/ 425): "وإنما المقصود أن هذا شأن التحليل عند اللَّه ورسوله وأصحاب رسوله، فألزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جَمَعُوها ليكُفُّوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به، وأنه لا سبيل إلى عَوْدِها بالتحليل، فلما تغيَّر الزمانُ، وبَعُدَ العهدُ بالسنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس؛ فالواجب أن يُرَدَّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخليفته من الإفتاء بما يعطِّل سوق التحليل أو يقللها
ويخفف شرها، وإذا عرض على مَنْ وفَّقه اللَّه وبَصَّره بالهدى ووَفَقَّهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووَازَنَ بينهما تبيَّن له التفاوتُ، وعلم أيَّ المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين. فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك، وقد أُهديت -إنْ قبلتها- إليك، وما أظن عَمَى التقليد إلا يزيد الأمر على ما هو عليه، ولا تدع التوفيق يقودك اختيارًا إليه، وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة تُطلع العالم على ما وراءها، وباللَّه التوفيق". وقد أحسن الشاعر الشهير معروف الرصافي (ت 1364) في الانتصار لمذهب ابن القيم في قصيدته (¬1) (المطلقة)، وهذا مقتطف من خاتمتها: ألا قُل في الطلاق لموقعيه ... بما في الشرع ليس له وجوبُ غلوتم في ديانتكم غلُوًّا ... يضيق ببعضه الشرع الرحيبُ أراد اللَّه تيسيرًا وأنتم ... من التعسير عندكم ضروبُ وقد حلّت بأمتكم كروب ... لكم فيهن -لا لهم- الذنوبُ وَهَى حَبْل الزواجِ وَرَقّ حتى ... يكادُ إذا نَفخْتَ له يذوبُ كخيطٍ من لعاب الشمس أدلت ... به في الجوّ هاجرة حلوبُ يمزّقه من الأفواه نفث ... ويقطعه من النسم الهبوبُ فدى ابن القيّم الفقهاء كم قد ... دعاهم للصواب فلم يجيبوا ففي "أعلامه" للناس رشد ... ومزدجر لمن هو مستريبُ نحا فيما أتاه طريق علمٍ ... نحاها شيخه (¬2) الحبر الأديبُ وبيّن حكم دين اللَّه لكن ... من الغالين لم تَعِهِ القلوبُ لعلّ اللَّه يحدث بعدُ أمرًا ... لنا فيخيب منه من يخيبُ وقال الأستاذ محمد رشيد رضا في "مناره" (¬3) عند كلامه على هذه المسألة: "وأطال ابن القيم في تخريج أحاديث الباب والكلام عليها، وأثبته بالكتاب والسنّة، واللغة والعرف، وعمل أكثر الصحابة" ثم قال: "واقترح بعض الفقهاء والعقلاء على حكومتنا المصرية الرجوع فيها إلى أصل الكتاب والسنّة، الذي كان أوّل من بسط دلائله شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ¬
المحقق ابن القيّم في كتبه: "إعلام الموقعين" و"إغاثة اللهفان" و"زاد المعاد" ووافقهما وأيّدهما من أعلام السنّة وفقهاء الحديث بعدهما. . . " إلخ كلامه. قال أبو عبيدة: ومن سنن اللَّه الكونية الشرعية معًا: أنه لا يبقى إلا الأصلح، وثمار كثير من المصلحين لا تظهر إلا بعدهم، وهكذا كان في هذه المسألة التي أطنب المصنف في التدليل عليها، وأصبحت علمًا عليه، وأصبح علمًا عليها (مع شيخه ابن تيمية)، فإننا نشاهد ونسمع في جل بلاد الإسلام اليوم أن قوانين المحاكم الشرعية (¬1) على المذهب الذي ارتضاه المصنف (¬2). ثم ذكر المثال الثامن، وهو في (موجبات الأيمان والأقارير والنذور)، وهذا أوسع باب، وفيه أظهر أمثلة على تغير الأحكام بتغير الزمان، إذ مدار ذلك على العرف من جهة، وعلى الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية من جهة أخرى، وفي هذا يقول أستاذنا مصطفى الزرقا رحمه اللَّه: "وقد اتفقت كلمة فقهاء المذاهب على أن الأحكام التي تتبدّل بتبدّل الزمان وأخلاق الناس هي الأحكام الاجتهادية من قياسية ومصلحية، أي: التي قررها الاجتهاد بناء على القياس أو على دواعي المصلحة، وهي المقصودة بالقاعدة الآنفة الذكر: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان". أمّا الأحكام الأساسية التي جاءت الشريعة لتأسيسها وتوطيدها بنصوصها الأصلية الآمرة الناهية كحرمة المحرمات المطلقة، وكوجوب التراضي في العقود، والتزام الإنسان بعقده، وضمان الضرر الذي يلحقه بغيره، وسريان إقراره على نفسه دون غيره، ووجوب منع الأذى وقمع الإجرام وسدّ الذرائع إلى الفساد، وحماية الحقوق المكتسبة، ومسؤولية كل مكلف عن عمله وتقصيره، وعدم مؤاخذة بريء بذنب غيره. . . إلى غير ذلك من الأحكام والمبادئ الشرعية الثابتة التي جاءت الشريعة لتأسيسها ومقاومة خلافها، فهذه لا تتبدَّل بتبدُّل الأزمان بل هي الأصول التي جاءت بها الشريعة لإصلاح الأزمان والأجيال، ولكن وسائل تحقيقها وأساليب تطبيقها قد تتبدل باختلاف الأزمنة المحدثة. فوسيلة حماية الحقوق مثلًا -وهو القضاء- كانت المحاكم فيه تقوم على أسلوب القاضي الفرد، وقضاؤه على درجة واحدة قطعية؛ فيمكن أن تتبدَّل إلى ¬
أسلوب محكمة الجماعة، وتعدد درجات المحاكم بحسب المصلحة الزمنية التي أصبحت تقتضي زيادة الاحتياط لفساد الذمم. فالحقيقة: أن الأحكام الشرعية التي تتبدَّل بتبدل الزمان، مهما تغيَّرت باختلاف الزمن؛ فإن المبدأ الشرعي فيها واحد، وهو إحقاق الحق، وجلب المصالح، ودرء المفاسد، وليس تبدُّل الأحكام إلا تبدُّل الوسائل والأساليب الموصلة إلى غاية الشارع؛ فإن تلك الوسائل والأساليب في الغالب لم تحددها الشريعة الإسلامية، بل تركتها مطلقة؛ لكي يختار منها في كل زمان ما هو أصلح في التنظيم نتاجًا وأنجح في التقويم علاجًا" (¬1). وقد حمَّل بعض الناس (¬2) كلام ابن القيم رَحمه اللَّه ما لا يحتمل، حتى إنهم جعلوه وكأنه يقرر جواز تفسير النصوص أو تغيير الاجتهاد المبنى عليها تبعًا للمصلحة! هكذا على الإطلاق!! والذي يظهر -بل هو المتيقن- أن ابن القيم رحمه اللَّه ما أراد ذلك، ويتبين هذا بأمور منها: أولًا: أن الأمثلة التي أوردها ابن القيم في ذلك الفصل تدور كلها على الحالات التالية: الأولى: الحالة التي يُثبِتُ تَغيرَ النصِ فيها نصٌّ آخرُ، كنهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تقطع الأيدي في الغزو (¬3). وفي هذا المثال عطل الحد في ظرف خاص بنصٍّ خاص، بل وجد مانع شرعي من قيام الحد، دل عليه النص، وهذه الحال تختلف تمامًا عن الدعوى التي حمل عليها كلام ابن القيم، وينادي بها العقلانيون (أصحاب الفكر المستنير)!! زعموا! الثانية: الحالة التي تتعارض فيها المصالح التي تثبتها النصوص، كترك إنكار المنكر إذا كان يستلزم ما هو أنكر منه، وهذه الحال كسابقتها، لا تدخل في الدعوى التي ادّعي أن كلام ابن القيم يدل عليها. الثالثة: حالة يستعمل فيها القياس، وإلحاق الأشباه والنظائر بأمثالها التي تثبتها النصوص، كما في حديث المصرّاة: "من اشترى شاة مصراة، فهو فيها ¬
بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها، وإن شاء ردّها وردّ معها صاعًا من تمر" (¬1)، فذكر التمر لأنه الغالب في قوت البلد؛ فيخرج في كل موضع صاعًا من قوت ذلك البلد الغالب، فيخرج في البلاد التي قوتهم البر صاعًا من بر، وإن كان قوتهم الأرز فصاعًا من أرز. . . وهكذا. وهذه الحال خارجة محلّ الدعوى؛ إذ هي قائمة على ما أثبته النص بالقياس عليه، بل لا يعدم ذلك ما يشير إليه، واللَّه أعلم. الرابعة: حالة استثنائية قاهرة خاصة بحالة العجز والضرورة، ومثالها صحة طواف الحائض إذا خشيت أن تفوتها رفقتها في الحج؛ تنزيلًا لها منزلة العجز؛ كما صحت الصلاة ممن لا يستطيع القيام، مع أن القيام ركن، بل جعلوا ذلك بمنزلة سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز. وهذه الحال لا دليل فيها على الدعوى. الخامسة: الحالات التي اعتبر الشارع فيها العرف والعادة؛ كالتراضي في العقود وألفاظ الأيمان، والطلاق. . . ونحو ذلك. وبتأمل هذه الحالات لا نجد حالة واحدة قدِّمت فيها المصلحة أو العرف على النص. ثانيًا: عند النظر في كلام ابن القيم وتتبعه نجده يدور حول تقرير قيام الشرع في نصوصه وما دلت عليه من أحكام على مراعاة المصلحة والعوائد بحسب الأزمان والأماكن؛ فهو ينفي وجود تعارض أو مخالفة بين المصلحة ونصوص الكتاب والسنة؛ فكيف يقال: إنه يقول بتقديم المصلحة على النص، أو تفسيره بها؟! ثالثًا: لابن القيم رحمه اللَّه كلام يؤكد أن المذكور مراده، وهو قوله رحمه اللَّه في معرض إجابة عن سؤال عن طائفة من أهل العلم أنهم قالوا: -وسياق كلامه يدل أنه معهم-: "الأحكام نوعان: نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة، ولا اجتهاد الأئمة؛ كوجوب الواجبات، وتحريم المحرمات، والحدود المقدرة ¬
بالشرع على الجرائم. . . ونحو ذلك؛ فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه. والنوع الثاني: ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانًا ومكانًا وحالًا؛ كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها، فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة" (¬1). وهذا الكلام منه رحمه اللَّه يدلّ على أنه لا يقول بتغيير دلالة النصوص بحسب المصلحة، إنما يُعمِلَ المصلحة فيما أعملته فيه النصوص، وباللَّه التوفيق (¬2). ومبحث كتابنا في "تغير الفتوى" لاقى قبولًا حسنًا عند العلماء، وصرح غير واحد ممن اعتنى في هذه المسألة بذلك (¬3). وأخيرًا، لا بد من التنويه هنا على أمور: الأول: إن تغير الفتوى بالمعنى الذي قرره وأصّله المصنّف، ومثَّل عليه إنما هو إعمال لما أمرت به الشريعة، وراعته في أصولها الكلية وجزئياتها الفرعية، إذ من الفتيا ما يكون من حيثيات الحكم فيها مراعاة العرف والمصلحة، فإذا تغير ¬
العرف أو تخلّفت المصلحة، تغيّرت الحيثيّة، فتتغيّر لذلك الفتيا (¬1). الثاني: أسهب المصنف في ذكر مسائل يختلف حكمها لتغير العرف والعادة، فبدأ بجملة من مسائل الأيمان، أناط الحكم فيها على نية حالفها وقصده وأنه إذا أطلق اعتبر سبب اليمين وما هيَّجها، وقام ذلك مقام القصد والنية، ثم تعرض إلى حكم الطلاق حال الغضب وقرر فيه أن الإنسان لا يؤاخذ حين يخطئ من شدة الغضب، ثم ذكر حكم يمين اللغو باللَّه وبالطلاق، وحكم تعليق الطلاق على الشرط، وصور وقوعه وعدمه، وقرر في خلال هذه المباحث -نصرةً لاختياره- ضرورة اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ، وفرع عليه أيمان وعقود المخطئ والمكره والمستهزئ والهازل، ثم تعرض إلى حكم الحلف بالحرام، ومذاهب العلماء فيه، واستطرد فذكر (أيمان البيعة) و (أيمان المسلمين) واختلاف العلماء وأقوالهم في ذلك. الثالث: ذكر المصنف في أواخر تعرضه (للمثال الثامن) كلمة جامعة مهمة في هذا الموضوع، نسوقها لأهميتها، قال في (3/ 470) ما نصه: "وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العُرْف شيء فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين" وقال أيضًا: "وهذا محض الفقه، ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضلَّ وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان". إن كثيرًا من الموضوعات الفقهية ذات العلاقة بالمعاملات، وعيوب النكاح، وقضايا القصاص والجراح بنى الفقهاء المتقدمون الأحكام فيها حسب التصورات، ¬
والخبرات، والمستوى العلمي الذي بلغته عصورهم، ومجتمعاتهم، ليس من المناسب اليوم، بل ومن غير المعقول أن تكرر تلك الأحكام، وتردد تلك المسائل دون وعي وإدراك لتغير العرف فيها، أو ما استحدث من تقدم علمي في معالجتها، مثلًا: كان الفقهاء يعدون بعض الأمراض موجبًا لفسخ النكاح لأنها كانت مما يستعصي علاجه مثل الرتق، والفتق، والبخر، منها الخاص بالرجال، ومنها الخاص بالنساء، ومنها المشترك بينهم، أصبح معظمها في الوقت الحاضر -بحمد اللَّه- سهل العلاج، سريع البرء، وما سطره الفقهاء، وما قدموه من تصورات فيه دلالة على وعيهم التام بأحوال مجتمعاتهم، فجاءت الأحكام منسجمة متوافقة مع بيئاتهم التي عاشوها، واللوم كله يقع على الذين يفرضون الماضي على الحاضر دون وعي بالاختلاف والتباين بين العصرين، فيجترون ويكررون ما في كتب التراث الفقهي، لا يعيشون عصرهم، ولا يدرون ما يحدث فيه من تطورات اجتماعية، وعلمية وإيثارًا للطريق السهل، وتفاديًا لعناء البحث ومتاعبه. الأمانة العلمية تقتضي بذل أقصى الجهد للتوصل إلى الحقائق العلمية، والمتغيرات الاجتماعية في كافة مراحل البحث بتصور واع، وإدراك لحقائق الأمور، وتفتح كامل دون تفريط حتى تكون صادقة، متطورة، متجددة تصدر الأحكام والدراسات عن تصورات ومفاهيم مشتركة بين الباحث والقارئ، فيشعر أنه طرف فيها، وجزء منها، تتحدث عن واقع يعيشه (¬1). الرابع: ختم ابن القيم الكلام على (تغير الفتوى) بمسألة (المهر) وحكم تأجيل (بعضه)، وأنه يستحق -بناء على العرف العام- المطالبة به بموت أو فرقة، ودلّل على المسألة بالآثار، وأن الليث حكى الإجماع عليه، واستطرد هنا بذكر رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، فأوردها بطولها من "المعرفة والتاريخ" للفسوي، وموطن الشاهد في (3/ 483) خمسة سطور منها، ثم عاد إلى التفريع على مسألة (المهر المؤجل)، فذكر (مهر السر ومهر العلن)، وصوره السبعة (¬2)، وأدار الأحكام على المسائل المتقدمة كلها بالقصد والنية، قال في (3/ 496): "فدل على أن القصد روح العقد ومصححه ومُبطله، فاعتبار القصود في العقود ¬
المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات كما هي معتبرة في العبادات
أولى من اعتبار الألفاظ" (¬1) وذكر أن هذا هو العدل، وقال في ضرورته للمفتي والعالم في (3/ 497): "واللَّه تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضلُ حِلْية تحلَّى بها الرجل، خصوصًا من نصب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال اللَّه تعالى لرسوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] فورثةُ الرسولِ منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل أحدُهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكونُ الحقُّ مطلوبه يَسِيرُ بسيرِه وينزل بنزوله، ويدين بدين العدل والإنصاف ويحكّم الحجة، وما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فهو العلم الذي قد شَمَّرَ إليه، ومطلبه الذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عنه عذل عاذل، ولا تأخذهُ فيه لومة لائم، ولا يصده عنه قول قائل". وأكد ذلك بأحكام النائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، وبمنع بعض المباحات لما هو مقصود بالحرمة. - المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات كما هي معتبرة في العبادات: وأكد هذه القاعدة بقوله في (3/ 499): "وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هدمُها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات، كما هي معتبرة في التقربات والعبادات" وقال في (3/ 550): "ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر"، وأخذ يستدل ويفرع بمسائل كثرت الحاجة إليها في عصره، وجمد علماء الألفاظ على الموجود في بطون الكتب، فتعرض لـ (أنواع شروط الواقفين) وحكم كل نوع، ثم أخذ في ذكر مسائل فقهية مدللة، وتأصيل بعض الكليات التي لها تعلّق بهذه المسائل، مثل: (النية لها تأثير في العقود) (¬2) و (إبطال كل شرط يخالف القرآن) (¬3)، وعقد بعد ذلك مناظرة ¬
الحيل
بين الجامدين على اللفظ والعاملين بالمعنى والقصد. قال في (3/ 513 - 514): "فانظر ملتقى البحرين، ومُعْتَرَكَ الفريقين، فقد أبرز كل منهما حجته، وخاض بحر العلم فبلغ منه لُجَّتَه، وأدْلى من الحجج والبراهين بما لا يُدفع، وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم: قل؛ يُسْمَعْ، وحُججُ اللَّه لا تتعارض، وأدلة الشرع لا تتناقض، والحق يُصدّق بعضه بعضًا، ولا يقبل معارضة ولا نقضًا، وحرامٌ على المقلد والمتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول، أو يكون على قوله وبحثه إذا حقَت الحقائق المُعَوَّل، فليجرب المدعي ما ليس له والمدعي في قوم ليس منهم نفسَه وعملَه وما حصَّله في الحكم بين الفريقين، والقضاء للفصل بين المتغالِبَيْن، وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين، ليسلم له قول إحدى الطائفتين، وإلا؛ فليلزم حدَّه، ولا يتعدى طَوْرَه، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعًا يقصر عن الوصول إليه، ولا يَتَّجر بنقدٍ زائفٍ ولا يروج عليه، ولا يتمكن من الفصل بين المقالين إلا من تجرد للَّه مسافرًا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي، مُنْزِلًا نفسَه منزلَةَ من يتلقاه غضًّا طريًّا مِنْ في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها". وأخذ في تقرير قاعدة الإعمال لا الإهمال، وعدّ عشرة أشياء (¬1) لا يؤاخذ اللَّه المكلف بها، لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به، وراح يدلّل عليها، بما لا يدع مجالًا للشك في ذلك، ورجع إلى بيان أقسام الألفاظ الثلاثة (¬2) بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونيّاتهم وإراداتهم، وبيَّن متى يحمل الكلام على ظاهره، ومتى لا يحمل؟ - الحيل: وبعد هذه التوطئة المهمة، أخذ في الكلام المفصَّل على (الحيل) وصوره، وأقسامه، وقرر أنّ أصحاب الحيل وقفوا مع الظواهر والألفاظ ولم يراعوا المقاصد والمعاني، وأنهم استحلوا (حقائق) المحرمات، بتسميتها بأسماء لا نصيب لها من الشرع إلا (الألفاظ) ومن الأمثلة على ذلك قوله في (3/ 530) بعد كلام: "وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تُسميه ولاة الجور سياسة وهيبة وناموسًا ¬
وحرمة للملك، فهو أظهر من أن يذكر" (¬1) وقوله في (3/ 532): "ولو أوْجَبَ تبديلُ الأسماء والصور تبدُّلَ الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبُدِّلت الشرائع، واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَعَ المشركين تسميتهم أصنامَهم آلهةً وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نَفَعهم تسمية الإشراك باللَّه تقربًا إلى اللَّه؟ وأي شيء نَفَع المعطِّلين لحقائق أسماء اللَّه وصفاته تسميةُ ذلك تنزيهًا؟ وأي شيء نفع الغلاةَ من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها من دون اللَّه تسمية ذلك تعظيمًا واحترامًا؟ وأي شيء نفع نُفَاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعة أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلًا؟ وأي شيء نَفَعهم نفيهم لصفات كماله تسمية ذلك توحيدًا؟ وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن اللَّه لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيي الموتى ولا يبعث مَنْ في القبور ولا يعلم شيئًا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلًا يأمرونهم بطاعته تسمية ذلك حكمة؟ وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلًا معيشيًا وقَدْحَهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويُدَاهن في دين اللَّه؟ وأي شيء نفع المَكَسَة تسمية ما يأخذونه ظلمًا وعدوانًا حقوقًا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع اللَّه ودينه شرع الديوان؟ وأي شيء نفع أهل البِدَعِ والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم، وعند أهل العلم والدين والإيمان عقليات وبراهين؟ وتسمية كثير من المتصوّفة الخيالات الفاسدة والشطحات حقائق؟ فهؤلاء كلهم حقيق أن يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] ". وبناءً عليه، ذكر أن المحتال لا يجوز أن يحصل على مقصوده، وفرق بينه وبين المكره واستطرد في ذكر الهازل وحكم عقوده، وفرع عليه حكم نكاحه وأن الشارع رتب عليه حكمًا، لأن "عقد النكاح يشبه العبادات في نفسه" (¬2)، وخلص من خلال ما مضى إلى أن "ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أن يُقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة اللَّه ورسوله، ولم يُؤمر أن يُنقِّب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم، بل يُجْرِي عليهم أحكام اللَّه في الدنيا إذا دخلوا في دينه، ويجري أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونيّاتهم؛ ¬
سد الذرائع وتوظيفه للمنع من الحيل
فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان" (¬1). واستَخْلَص من ذلك أسرارَ الشرع في جملة مسائل، ذكر الراجح عنده فيها، وناقش كلامًا للشافعي، ووجهه على ما ذكره آنفًا، موردًا عليه أجوبة علمية تظهر أسرار الشرع وحكمه، مزيلًا ما قد يحصل تشويش على الذي قعّده بسببه، وأظهر في هذه المسائل أقوال المذاهب وسبب اختلافهم، وأدلتهم، ومناقشاتهم ورجح فيها أنه متى "قام دليل على الباطن لم يلتفت إلى ظاهر قد عُلم أن الباطن بخلافه" (¬2)، وبناءً عليه فرق بين توبة الكافر الأصلي وتوبة الزنديق، وعدم توبة الأخير إلا إن ظهر منه حسن الإسلام، وتوبة نصوح قبل رفعه إلى السلطان، ثم تعرض لـ (الشروط وأثرها على العقد) ورد قول من قال إن الشرط المتقدم لا يؤثر شيئًا، وقال عنه: "وهل هذا إلا فتح لباب الحيل؟ بل هو أصل الحيل وأساسها" (¬3) وهو أقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عدمه وإبطاله. - سد الذرائع وتوظيفه للمنع من الحيل: ومن ثم تعرض لقاعدة سد الذرائع، بتأصيل على وجه بديع غاية، قال في (3/ 552): "ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها" وذكر تحتها أنواع الوسائل (¬4)، وحكم كل نوع، وقرر أنه لا يجوز الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام، وإن كان جائزًا، واستدل على ذلك من تسعة وتسعين وجهًا (¬5). قال في (4/ 65): "ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء اللَّه الحسنى التي مَنْ أحصاها دخل الجنة، تفاؤلًا بأنه من أحصى هذه الوجوه وعلم أنها من الدين وعمل بها دخل الجنة؛ إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب تعالى ومعرفة أحكامه، وللَّه وراء ذلك أسماء وأحكام". وقال أيضًا: "وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان؛ أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ¬
ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المَفْسَدة، فصار سد الذرائع المُفْضِية إلى الحرام أحد أرباع الدين" (¬1). ولذا، فإن سد الذرائع "يمثل الدور الدفاعي والوقائي بالنسبة لمقاصد الشريعة، ولا سيما أن المصلحة ينبغي أن ينظر إليها من جانبين: الوجود والعدم" ولذا فإن جماع المقاصد وقوامها جلب المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وهذا يلتقي مع ضرورة النظر في (مآلات الأفعال) (¬2). ويقودنا هذا إلى القول بأن الأخذ بسد الذرائع يمثل سدًا لأبواب التحيل على الشرع، وحسمًا لمادة الشر والفساد، لعلم الشارع بما جبلت عليه النفوس، من خفي هواها الذي لا يزال يسري بها حتى يقودها إلى الهلكة، فسدّ الذرائع يمثل تقويمًا لمسار المكلفين ومقاصدهم، ويحملهم على أن يوافقوا قصد الشارع في تكاليفه وأحكامه، وعلى ألا يتحذلقوا على الشارع، فربما أوقعهم ذلك في الكفر أو الابتداع أو الفسوق أو العصيان (¬3). واستفاد ابن القيم من التقرير السابق أن القول بتجويز الحيل يناقض سد الذرائع، قال في (4/ 66): "فهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها تدل على تحريم الحيل والعمل بها والإفتاء بها في دين اللَّه" وأخذ في سرد أدلة تحريم الحيل، وذم السلف لها، وبيَّن أن القول بحرمتها أقوى من القياس (¬4)، قال في (4/ 93 - 94): ¬
"فكل مَنْ له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصف لم يَشُكَّ أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعُهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك. فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت، وانضم إلى هذا أن التابعين موافقون لهم على ذلك، فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد اللَّه بن مسعود من أهل الكوفة، وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشَّعْثاء والحسن وابن سيرين، وكذلك أصحاب ابن عباس. وهذا في غاية القوة من الاستدلال، فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انصرم، ورقعة الإسلام متسعة، وقد دخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع، وكثُر من كان يتعدى الحدود، وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودًا، فلم يُحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر بها أو دلَّ عليها، بل المحفوظ عنهم النهي والزجر عنها؛ فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجلٌ منهم، ولكانت مسألة نزاع كغيرها. بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها، ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار". وأخذ في سرد مفردات الحيل في أبواب متعددة من أبواب الفقه، وقرر أنه لا يجوز أن ينسب القول بجواز الحيل إلى إمام، لأن ذلك قدح في إمامته، وأن الأئمة برءاء مما نسب إليهم من ذلك، ثم أخذ في سرد الأدلة العقلية على ذم الحيل وتحريمها، وفصَّل في ذكر حِكم الشرع (¬1) في أحكام متعددة، وبيّن أن أكثر الحيل تناقض أصول الأئمة، وأنها تقتضي رفع التحريم من عشرة وجوه (¬2). وبعد هذا كله، رجع إلى حجج الذين جوَّزوا الحيل، وذكر أدلتهم من القرآن والسنة وعمل السلف، وادعاءهم أن في المذاهب فروعًا ينبني عليها تجويز ¬
الحيل، وكرّ عليها بمناقشة المبطلين لها، وأجوبتهم عنها. والمصنف في عرضه ورده، يختار أقوى الأدلة، ويعرضها بأبلغ عبارة وأنصعها وأقواها، ويوجه الأدلة على المنع ثم على الجواز، ثم على المنع بما يدهش ويحيّر اللبيب، سبحان اللَّه الواهب الفتاح، المعطي، الكريم، الجواد، الواسع. وهذا يدل على تفنُّن مصنِّفنا، وأنه شبعان ريان من استحضار النصوص، وفهمها، وتوجيهها، وعلى ذكرٍ بأشباهها ونظائرها، وعلى قدرة فائقة في رد انتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، فرحمه اللَّه رحمة واسعة، ورضي عنه. وتعرض رحمه اللَّه في أثناء هذه الردود إلى عقد مقارنة بين شريعتنا وشريعة من قبلنا (¬1)، وأوجه الوفاق والفراق بينهما في بعض الأمور، ولم ينس بعض المباحث (العقدية) كالكلام على (كيد اللَّه) (¬2) وأنواعه، ولا على بعض المباحث (الأصولية)، كالكلام على (دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام) (¬3)، وقوى توجيهاته بذكر (الحِكَم) في بعض ما احتج به القائلون بالحيل، فضيق عليهم، بإلزامات مقنعة، وتفريعات عديدة عجيبة، ونظائر ونقولات شهيرة، وتفريقات كثيرة، كتفرقته بين (الحيل) و (المعاريض) (¬4) و (الذريعة) (¬5)، وفرع عليه الكلام على (فقه المعاريض)، والضابط في أحكامها، وأنواعها، وكتفرقته بين (العقود) و (الحيل)، وقال تحت هذا في (4/ 186): "فهذا موضع الكلام في الحيل، وانقسامها إلى الأحكام الخمسة" (¬6). وهنا أخذ في التأصيل، فبيّن معنى (الحيلة)، واشتقاقها، وأقسامها، وأمثلة كل قسم، وأورد تحت هذه الأمثلة: (مسائل يفضي ثبوتها إلى إبطالها) (¬7) و (مسائل يؤدي ثبوتها إلى نفيها) (¬8) وطول الكلام على (المسألة السريجية) و (الطلاق الثلاث جملة)، وقرر أن "المتأخرين أحدثوا حيلًا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إلى الأئمة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم، ولهم مع الأئمة موقف بين ¬
يدي اللَّه عز وجل، ومن عرف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم. . . " (¬1). وذكر هنا أمرين مهمين جدًا، قال في (4/ 234 - 235): "ولا بد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر، وهو: * النصيحة للَّه ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث اللَّه به رسوله من الهدى والبيِّنات، التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه، وإن أدخلها فيه مَنْ أدخلها بنوع تأويل. * والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يُوجب اطِّراح أقوالهم جملة وتنقّصهم والوقيعة فيهم. فهذان طرفان جائران عن القصد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثّم ولا نَعْصم، ولا نسلك بهم مسلك الرافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك بهم مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثّمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: * جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم. * أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله. ومن له علم بالشرع والواقع؛ يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهَفْوة والزَّلَّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين". وأخذ في التدليل على هذا التأصيل، وقرر أخيرًا "أن القول بتحريم الحيل ¬
مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد
قطعي ليس من مسالك الاجتهاد" (¬1) و"قد اتفق السلف على أنها بدعة محدثة" (1). - مسائل الخلاف ومسائل الاجتهاد: وذكر هنا أصلًا على وجه الاستطراد، بيَّن فيه خطأَ إطلاق قوله (مسائل الخلاف لا إنكار فيها) (¬2)، وفرق بين (مسائل الاجتهاد) و (مسائل الخلاف)، وقال في (4/ 243): "وإنما دخل هذا اللبس (أي قولهم: مسائل الخلاف لا إنكار فيها) من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس، ممن ليس لهم تحقيق في العلم". وتقرير هذا الأصل اليوم مهم، ويعمل على تقويم تلك العبارة الشائعة القائلة "ليعاون بعضنا بعضًا فيما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه" (¬3) فالإعذار إنما يكون في (المسائل الاجتهادية) لا (الخلافية)، فيزاد في آخرها "مما له وجه"، ويجب على قائلها ألا يطرح البحث والنظر في الراجح، ويتكئ على الخلاف، ويبقى راتعًا في جهله، نعم، الواجب عدم التشنيع على المخالف، والتعنيف له في المسائل الاجتهادية، ولكن مع المناصحة واتباع الدليل والسعي لإزالة الخلاف إن أمكن. ثم قال المصنف بعد ذلك في (4/ 248): "فلنرجع إلى المقصود، وهو بيان بطلان هذه الحيل على التفصيل. . . " وأخذ في سرد حيل الوقف والأيمان وإسقاط حق الحضانة، وجعل تصرفات المريض نافذة، والسَّلَم، والشفعة، وتفويت حق القسمة، والمزارعة، والهبة، والوصية، والميراث، والأروش وإسقاط الحدود: السرقة، والزنا؛ والنكاح، والبنيان، والضمان، والظهار، والإيلاء، والزكاة، والبيع، والطلاق، ثم ذكر أعاجيب متناقضات أرباب الحيل، وقاعدة في أقسام الحيل ومراتبها، وذكر من هؤلاء (السراق)، وقال عنهم: "وهم أنواع لا تحصى، فمنهم السراق بأيديهم، ومنهم السراق بأقلامهم، ومنهم السراق بأماناتهم، ومنهم السراق بما يظهرونه من الدين والفقر والصلاح والزهد، وهم في الباطن بخلافه، ¬
ومنهم السراق بمكرهم وخداعهم وغشهم، وبالجملة، فحيل هذا الضرب من الناس أكثر الحيل" (¬1)، وذكر نوعي أرباب الحيل، وأنواع الحيل المحرمة الثلاثة (¬2)، وذكر تحتها مئة وسبع عشرة مثلًا. واستطرد في بعض هذه الأمثلة، وأوجز في بعضها الآخر، ولم تخلُ انفرادات شيخه ابن تيمية منها، فذكر -مثلًا- (المثال الثاني والستين) وهو في (مسألة الحلف بالطلاق)، وذكر أثر ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: "العتق ما ابتغي به وجه اللَّه، والطلاق ما كان عن وطر" (¬3)، وقال: "فتأمل هاتين الكلمتين الشريفتين الصادرتين عن علم قد رسخ أسفلُه، وبَسَقَ أعلاه، وأينعت ثمرتُه، وذللت للطالب قطوفُه، ثم احكم بالكلمتين على أيمان الحالفين بالعتق والطلاق، هل تجد الحالفَ بهذا ممن يبتغي به وجه اللَّه، والتقربَ إليه بإعتاق هذا العبد؟ وهل تجد الحالفَ بالطلاق ممن له وطر في طلاق زوجته؟ فرضي اللَّه عن حَبْرِ هذه الأمة لقد شَفَتْ كلمتاه هاتان الصدورَ، وطبقتا المفصلَ، وأصابَتَا المحزَّ، وكانتا برهانًا على استجابة دعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- له أن يعلمه اللَّه التأويل ويفقهه في الدين، ولا يوحشنَّك مَنْ قد أقرَّ على نفسه هو وجميع أهل العلم أنه ليس من أولي العلم، فإذا ظفرتَ برجل واحد من أولي العلم طالب للدليل مُحَكم له متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة، ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجّة ويكفّرك أو يُبَدِّعُكَ بلا حجة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة، وسيرته الذميمة، فلا تفتر بكثرة هذا الضرب، فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم بعدل بملء الأرض منهم" (¬4). وأخذ بعد ذلك في ذكر الآثار الدالة على أن الجماعة صاحب الحق، وإن ¬
كان وحده (¬1)، ثم قال في آخر المثال: "وكان الإمام أحمد هو الجماعة، ولما لم تحمل هذا عقول الناس، قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين! أتكون أنت وقضاتك وولاتك والفقهاء والمفتون كلهم على الباطل وأحمد وحده هو على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك؛ فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل؛ فلا إله إلا اللَّه، وما أشبه الليلة بالبارحة، وهي السبيل المَهْيَع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)} [الأحزاب: 23] ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم" (¬2). واستطرد في (المثالى الثالث بعد المئة) وهو في (حيلة يتخلّص بها من غريم يريد الإنقاص أو التأجيل) وختمها بـ (الفرق بين المضطهد والمكره)، وقال عنها في (4/ 434): "وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب، والجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة ولا الهدى إلا الضلالة". واستطرد جدًا في (المثالى السابع عشر بعد المئة) وهو في (المخارج من الوقوع في التحليل في الطلاق)، وفرع في (المخرج الرابع) وهو يشتمل على (حكم الاستثناء في الطلاق) وذكر الخلاف فيه، وأقوال الأئمة، ثم ذكر (تعليق الطلاق على فعل يقصد به الحض والمنع)، وحقق هذه الفروع، وفصل في أنواع (التعليق)، وزيّف كلام بعض الفقهاء، فقال في (4/ 477) ما نصه: "من أقبح القبائح، وأبْيَن الفضائح، التي تشمئز منها قلوب المؤمنين، وتنكرها فطر العالمين، ما تمسَّك به بعضكم، وهذا لفظه بل حُرُوفه، قال: لنا أنَّه علَّق الطلاق بما لا سبيل لنا إليه فوجب أن يقع؛ لأن أصله الصفات المستحيلة، مثل قوله: "أنت طالق إنْ شاء الحَجَرُ" أو "إنْ شاء الميتُ"، أو "إن شاء هذا المجنون المطبق الآن"، فيا لك من قياس ما أفسده، وعن طريق الصواب ما أبعده! وهل يستوي في عقل أو رأي أو نظر أو قياس مشيئة الرب -جلَّ جلاله-، ومشيئة الحجر والميت والمجنون عند أحد من عقلاء الناس؟ وأقبحُ من هذا -واللَّه المستعان، وعليه التكلان، وعياذًا به من الخذلان، ونزغات الشيطان- تمسّك بعضهم بقوله: "علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ لا تُعْلم مشيئته فلم يصح التعليق"، كما لو قال: "أنت طالق إن شاء إبليس"، فسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، ¬
وتعالى جدُّك، ولا إلهَ غيرُك، وعياذًا بوجهك الكريم، من هذا الخذلان العظيم، ويا سبحان اللَّه! لقد كان لكم في نصرة هذا القول غنًى عن هذه الشبهة الملعونة في ضروب الأقيسة، وأنواع المعاني والإلزامات فسحة ومتسع، واللَّه شرف نفوس الأئمة الذين رفع اللَّه قدرهم، وشاد في العالمين ذكرهم، حيث يأنفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات التي تسودُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلُّ بقمر الإيمان المحاقَ". وعاد إلى تقرير صحة التعليق بالمشيئة، وقال عنه: "فهذا أمر معقول شرعًا، وفطرة، وقدرًا" (¬1) وقال عنه: "وهذا في غاية الظهور لمن أنصف" (¬2). وسرد الأحاديث والآثار، وتكلّم على صحتها، وضعّف بعضًا مما يؤيد اختياره، قال في (4/ 482): "ولو كنا ممن يفرح بالباطل -ككثير من المصنفين، الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيّدًا لقوله- لفرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غنية، فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" وأخذ في بيان عللها، ومناقشة المانعين، وأطال النفس جدًا في ذلك، وراح في تفصيل الكلام على نية الاستثناء، ومتى تعتمد؟ وهل يشترط فيه النطق به؟ وقال في (4/ 496): "وهذا بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب". وكذلك فعل في (المخرج الخامس) وهو في (فعل المحلوف عليه مع الذهول)، ففرق بيت (الذهول) و (النسيان)، و (الجاهل) بالمحلوف عليه و (المخطئ)، واستطرد في ذكر (التأويل) و (درجاته الثلاث)، وأقوال من أفتى بعدم الحنث، وذكر حكم فعل المحلوف عليه مكرهًا وخص فصلًا في (حكم المتأول، والجاهل، والمقلد) وأورد وقائع وأدلة تجفي هذه الأحكام، ثم عقد فصلًا في (تعذر فعل المحلوف عليه، وعجز الحالف عنه). وفصل جدًا في (المخرج الثاني عشر) وهو في (بحث أن يمين الطلاق من الأيمان المكفَّرة)، وذكر رأي شيخ الإسلام ابن تيمية، ومحنته بسبب هذه المسألة (¬3)، وأنه رحمه اللَّه حكاه عن جماعة من العلماء الذين سمت هممُهم وشرفت ¬
نفوسُهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض إلى أوج النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون به عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له برد هذه الحجة قبل، وأما ما سواها فبيَّن فساد جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض، وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره من الأئمة زهاء أربعين دليلًا وصار إلى ربه وهو مقيم عليها داع إليها مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه، وأوقاته لمستفتيه؛ فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا؛ فعطلت لفتاواه مصانع التحليل، وهدمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشَّعت سحائب اللعنة عن المحلِّلين، والمحلَّل لهم من المطلقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حبس تقليد المذهب المعيّن به من كرمت عليه نفسه من المستبصرين، فقامت قيامة أعدائه وحُسّاده ومن لا يتجاوز ذكر أكثرهم باب داره أو محلته، وهجنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين، فمن استخفّوه من الطغام وأشباه الأنعام قالوا: هذا قد رفع الطلاق بين المسلمين، وكثَّر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنده مسكة عقل ولب قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلّق بالشرط، وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حل بيعة السلطان من أعناق الحالفين، ونسوا أنهم هم الذين حلوها بخلع اليمين، وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، فلا يحل لمسلم حل بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين (¬1). وقال: "ولعمر اللَّه لقد مني من هذا بما مُني به من سلف من الأئمة المرضيين، فما أشبه الليلة بالبارحة للناظرين، فهذا مالك بن أنس تواصل أعداؤه إلى ضربه بأن قالوا للسلطان: إنه يحل عليك أيمان البيعة بفتواه أن يمين المكره لا تنعقد، وهم يحلفون مكرهين غير طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع لما ¬
حجية قول الصحابي
أخذه اللَّه في الميثاق على من آتاه اللَّه علمًا أن يبينه للمسترشدين، ثم تلا على أثره محمد بن إدريس الشافعي فوشى به أعداؤه إلى الرشيد أنه يحل أيمان البيعة بفتواه أن اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد، ولا تطلق إن تزوجها الحالف، وكانوا يُحلِّفونهم في جملة الأيمان: "وإن كل امرأة أتزوجها فهي طالق"، وتلاهما على آثارهما شيخ الإسلام فقال حسَّاده: هذا ينقض عليكم أيمان البيعة، فما فَتَّ ذلك في عضد أئمة الإسلام، ولا ثَنَى عزماتهم في اللَّه وهممهم، ولا صدهم ذلك عما أوجب اللَّه تعالى عليهم من اعتقاده والعمل به من الحق الذي أداهم إليه اجتهادهم، بل مضوا لسبيلهم، وصارت أقوالهم أعلامًا يهتدي بها المهتدون، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24)} [السجدة: 24] " (¬1). - حجية قول الصحابي: ونقله عن جمع من العلماء من لدن الصحابة إلى من قال به في عصره، واستطرد في هذا المقام بالاحتجاج بالآثار السلفية، والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ من آراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قُربها من الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحط على المانعين بالأخذ بها، وصور حال بعض المفتين في عصره، بقوله في (4/ 545 - 546): "فكيف إذا عيَّن الأخذ بها (أي: أقوال الأئمة الأربعة) حكمًا وإفتاءً، ومنع الأخذ بقول الصحابة، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها، وشهد عليه بالبدعة والضلالة، ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام؟ تاللَّه لقد أخذ بالمثل المشهور: (رمتني بدائها وانْسَلَّتْ)، وسمَّى ورثة الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح ويقول ويعلن أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ وغيرهم من الصحابة، وهذا كلامٌ مَن أخذ به وتَقَفَده، ولاه اللَّه ما تولى، ويجزيه عليه يوم القيامة الجزاء الأوفى، والذي ندين اللَّه به ضد هذا القول". - وعمل على ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة، فبدأ بترجيح أقوال أبي ¬
فوائد تتعلق بالفتوى
بكر (¬1)، ثم ذكر قول الصحابي إن لم يخالف قول صحابي آخر، وفصل في مذهب الشافعي وأقواله في الاحتجاج بقول الصحابي، ورد الاعتراضات على ذلك، واحتج على وجوب اتباعهم بالآيات والأحاديث والآثار والمعقول، وذكر ستة وأربعين (¬2) وجهًا في وجوب العمل بقول الصحابي (¬3). قال صديق حسن خان عن مباحث المصنف في كتابنا هذا: "ثم حرَّر فصلًا في جواز الفتوى بالآثار السَّلَفِيَّةِ، والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ بها من آراء المتأخِّرين وفتاويهم، وأن قربَها إلى الصَّواب بحسب قُرْب أهلِها من عصر الرَّسول صلوات اللَّه وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه؛ فكلَّمَا كان العهدُ بالرَّسُول أقرب، كان الصَّواب أغلب، وهذا حكمٌ بحسب الجنس لا بحسب كلِّ فرْدٍ فرْد من المسائل، لكن المفضَّلون في العصر المتقدِّم أكثرُ من المفضلين في العصر المتأخِّر، وهكذا الصَّواب في أقوالهم أكثرُ من الصَّواب في أقوال من بعدهم، فإن التَّفاوت بين علوم المتقدِّمين والمتأخِّرين كالتَّفاوت الذي بينهم في الفضل والدِّين" (¬4). - فوائد تتعلق بالفتوى: ثم ختم كتابه بفوائد تتعلق بالفتوى، قال في (5/ 40): "ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى". وذكر سبعين من الفوائد الفرائد التي تتعلق بذلك، وهذه نماذج تدل على ذلك: أورد تحت (الفائدة الثالثة والعشرين) (صفات المفتي) ومن بينها (الإخلاص) و (الحلم والوقار والسكينة)، وأخذ يفصل في هذه الأخلاق، ولا ¬
سيما (السكينة) منها، فذكر أسبابها وأنواعها، ثم ذكر من بقية الصفات: (العلم) و (الكفاية) و (معرفة الناس)، وتكلم عليها في (5/ 106 - 114) بكلام تربويّ علمي تأصيلي، يندر أن تجده عند غيره، واللَّه الموفق. وذكر في آخر (الفائدة الرابعة والخمسين) وجوب تعظيم حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال في (5/ 179 - 180): "وقد كان السَّلفُ الطَّيِّبُ يشتدُّ نكيرُهم وغضبُهم على مَنْ عارض حديثَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنًا من كان، ويهجرون فاعل ذلك، وينكرون على من يضرب له الأمثال، ولا يسوِّغون غير الانقياد له والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وبقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)} [النساء: 65]، وبقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)} [الأعراف: 3] وأمثالها، فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم: "ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال كذا وكذا"، يقول: من قال بهذا؟! ويجعل هذا دفعًا في صدر الحديث، يجعل جهله بالقائل به حجة له في مخالفته وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثل هذا الجهل، وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد أن الإجماع منعقد على مخالفته تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقبح من ذلك: عذرُه في دعوى هذا الإجماع، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث، فعاد الأمر إلى تقديم جهله على السنة، واللَّه المستعان. ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام ألبتة قال: لا نعمل بحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نعرف من عمل به، فإن جَهِلَ مَنْ بلغه الحديث مَنْ عَمِل به لم يحل له أن يعمل به، كما يقول هذا القائل". وفصل في (الفائدة الخامسة والخمسين) -وهي في (عدم جواز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي) - فذكر ذم العلماء للكلام وأهله،
فتاوى النبي -صلى الله عليه وسلم-
وبيَّن أن "أصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده اللَّه ورسوله بكلامه، وهل وقعت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيرة إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل" (¬1) وبيّن أن فساد الأديان السابقة إنَّما وقع بالتأويل (¬2)! وذكر (دواعي التأويل) وبعض (آثاره)، وسرد الشرور التي وقعت في الأمة على وجه استقرائي، ورد ذلك كله إلى (التأويل) المذموم، ثم ذكر أمثلة له. - فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: وختم كتابه بسرد فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، فقال في (5/ 209): "ولنختم الكتاب بذكر فصولٍ يسيرٍ قدرها، عظيم أمرها من فتاوى إمام المفتين، ورسول رب العالمين، تكون روحًا لهذا الكتاب، ورَقْمًا على جلة هذا التأليف" فبدأ بفتاوى في العقيدة، ثم بالفقه: الطهارة، والصلاة وأركانها، وبالموت والموتى (الجنائز)، والزكاة، والصوم، وقال عنها في (5/ 300): "فللَّه ما أجلَّ هذه الفتاوى! وما أحلاها! وما أنفعها! وما أجمعها لكل خير! فواللَّه! لو أن الناس صرفوا همهم إليها؛ لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، واللَّه المستعان". ثم ذكر فتاوى الصوم، والحج، وفتاوى في بيان فضل بعض سور القرآن، وفتاوى في بيان فضل بعض الأعمال (¬4)، وفتاوى في الكسب والأموال، وإرشادات لبعض الأعمال، وفتاوى في أنواع البيوع، وفتاوى في الرهن والدين، وفتاوى في تصدُّق المرأة، وفي مال اليتيم، واللقطة، والهدية وما في حكمها، والمواريث، والعتق، والزواج، وأحكام الرضاع، والطلاق، والخلع، والظهار، واللعان، والعِدَد، وثبوت النسب، والحداد، ونفقة المعتدة وكسوتها، والحضانة ومستحقِّيها، وجرم القاتل وجزائه، والديات، والقسامة، وحد الزنى، وأثر اللوث، والعمل بالسياسة، وساق تحته كلامًا يرحل إليه، ومما قال بعد كلام: "قلت: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعترك ¬
صعب فَرَّطَ فيه طائفة فعطَّلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق، ظنًا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع، والذي أُوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها فلما رأى وُلَاةُ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتِيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن اللَّه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان فذلك من شرع اللَّه ودينه ورضاه وأمره، واللَّه تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته، وأماراته في نوع واحد ويبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيَّن بما شرعه من الطرف أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وفي شَرْعِهِ سبيل للدلالة عليها وهل يُظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك؟ ولا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي وإلا فإذا كانت عَدْلًا فهي من الشرع" (¬1). وساق أمثلة عديدة مليحة على السياسة العادلة من سنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وسيرته، وسيرة خلفائه الراشدين ومن بعدهم (¬2)، ثم قال (5/ 517): "وتقسيمُ بعضهم طرقَ الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة، وكتقسيم آخرين الدينَ إلى عقل ونقل، وكل ذلك تقسيم باطل، بل ¬
السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد؛ فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم وأعمالهم، وأنه لم يحوج أمته إلى أحدٍ بعده، وإنما حاجتهم إلى مَنْ يبلّغهم عنه ما جاء به، فلرسالته عمومات محفوظات لا يتطرق إليها تخصيص عموم بالنسبة إلى المرسل إليه وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَنْ بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به". ثم قال بعد ذلك (5/ 518 - 519) عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولم يحوجهم اللَّه إلى أحد سواه فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعة أكمل منها ناقصةٌ تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وَفَق اللَّه له أصحاب نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم الذين اكتفوا بما جاء به واستغنوا به عما سواه وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر -صلى اللَّه عليه وسلم- يمنع من الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فاللَّه المستعان". وقال أيضًا (5/ 519): "وياللَّه العجب كيف كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى اللَّه بنيانها من القواعد وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس والأوضاع؟ أهل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا على خلاف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم باللَّه وأسمائه وصفاته، وما يجب له، وما يمتنع عليه منهم؟ فواللَّه لأن يَلقى اللَّه عبده بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل".
أمور جملية لا بد منها
ثم نقل كلامًا للإمام أحمد وللإمام مالك في السياسة الشرعية، وقال في (5/ 521): "وأبعد الناس من الأخذ بذلك الإمام الشافعي، مع أنه اعتبر قرائن الأحوال في أكثر من مئة موضع، وقد ذكرنا منها كثيرًا في غير هذا الكتاب" وسرد أمثلة عليها. ثم قال بعد ذلك في (5/ 522): "فلنرجع إلى فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، وذكر طرف من (فتاويه) في الأطعمة وساقها، ثم ذكر فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيقة، وفي الأشربة، وفي الأيمان، وفي النذور، والنيابة في فعل الطاعة، وفي الجهاد، وفي الطب، والطيرة، والفأل، والاستصلاح، ثم ذكر فتاويه في أبواب متفرقة (¬1)، ثم ختم الكتاب بـ (فصل) عنونه بـ (مستطرد من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- فارجع إليها) (¬2). والملاحظ أن هذه الفتاوى أشبه ما تكون بالمادة الحديثية، فقد ذكر المصنف ألفاظ الأحاديث وعزاها إلى دواوين السنة، وحكم على بعض أسانيدها. - أمور جملية لا بد منها: وأخيرًا لا بد من ذكر أمور جُمْليَّة مهمة، بها نختم هذا المبحث: الأول: كتابنا هذا يؤكد بيقين أن ابن القيم فقيه النفس، وله اختيارات مذكورة في كتب المتأخرين، وأنه متفنن في العلم وهذا يترجم ما ذكره غير واحد عنه بأنه يحسن الفقه وغيره، قال الذهبي -مثلًا- عنه: "وكان يشتغل في الفقه، وُيجيد تقريره" (¬3) ونعته بـ "الفقيه الإمام المفتي المتفنن" (¬4) و"الإمام العلامة ذو الفنون" (¬5) وقال السخاوي: "العلامة الحجة المتقدّم في سعة العلم، ومعرفة الخلاف، وقوة الجنان،. . . انتفع به الأئمة" (¬6)، وقال ابن تغري بردي: "كان بارعًا في عدة علوم، ما بين تفسير وفقه وعربيَّة ونحو وحديث وأصول وفروع" (¬7)، وقال الصفدي: ¬
"وكان ذا ذهن سيّال، وفكر إلى حل الغوامض ميّال، قد أكبّ على الاشتغال، وطلب من العلوم كلَّ ما هو نفيسٌ غالٍ، وناظر وجادل وجالد الخصوم وعادل، قد تبحّر في العربية وأتقنها، وحرّر قواعدها ومكّنها، واستطال بالأصول، وأرهف منها الأسنة والنُّصُول، وقام بالحديث وروى منه، وعرف الرجال وكلَّ من أُخذ عنه. وأما التفسير فكان يستحضر من بحاره الزخّارة كلَّ فائدة مِهمّة، ومن كواكبه السيارة كل نيّر يجلو حَنَادس الظُّلمة. وأمّا الخلاف ومذاهب السلف فذاك عُشه الذي مِنه دَرَج، وغابُه الذي ألفه لَيْثُه الخادر ودخل وخرج. وكان جريء الجنان ثابت الجأش لا يُقَعقع له بالشنان، وله إقدام وتمكن أقدام، وحظّه موفور" (¬1)، وقال عنه أيضًا: "وأكب على الطلب، وصنَّف، وصار من الأئمة الكبار في علم التفسير والحديث والأصول، فقهًا وكلامًا والفروع والعربية" (¬2). وقال ابن حجر: "وكان جريء الجنان (¬3)، واسع العلم، عارفًا بالخلاف، ومذاهب السلف" (¬4)، وقال الشوكاني: "برع في جميع العلوم، وفاق الأقران، واشتهر في الآفاق، وتبحّر في معرفة مذاهب السلف" ونعته بـ "العلامة الكبير المجتهد المطلق" (¬5). وقال ابن رجب: "وتفقه في المذهب وأفتى وبرع وتفنن في علوم الإسلام، وكان عارفًا بالتفسير لا يجارى فيه، وبأصول الدين وإليه فيهما المنتهى، وبالحديث ومعانيه وفقهه ودقائق الاستنباط منه لا يلحق في ذلك وبالفقه وأصوله وبالعربية وله فيها اليد الطولى وبعلم الكلام والنحو وغير ذلك من كلام أهل ¬
جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب
التصوف وإشاراتهم ودقائقهم له في كل فن من الفنون اليد الطولى والمعرفة الشاملة" (¬1)، ونقله صديق حسن خان وزاد: "وكان عالمًا بالملل والنحل، ومذاهب أهل الدنيا علمًا أتقن وأشمل من أصحابها" (¬2). وقد أقر كبار العلماء من المفسرين والمحدثين والمحققين البارزين والأتقياء الصالحين سلفًا وخلفًا بفضل شيخ الإسلام ابن القيم ونبوغه وتفوقه وعبقريته في الذكاء وسعة الاطلاع والذاكرة الحادة ودقة النظر وقوة الاستنباط وملكة الاجتهاد وبما فيه من دواعي الإصلاح والتجديد والاجتهاد وأدواته وحرية الفكر والعمل وإصابة الرأي واتباع الكتاب والسنة والتمسك بهما والاعتماد عليهما وغيرها من الخصائص والميزات، كما اعترفوا بزهده وورعه وتقواه وتفانيه في اللَّه وإخلاصه وغيرته على دين اللَّه والحمية الدينية، وأشادوا بخدماقه ووجهوا تحية تقدير واحترام إليه. الثاني: قرأ المصنف على مجموعة من الشيوخ كتبًا فقهية وأصولية مهمة، استفاد منها في كتابنا، فقرأ -مثلًا- "المقنع" و"مختصر الخرقي" على الشيخ مجد الدين إسماعيل بن محمد الحراني، وأخذ الفرائض أولًا عن والده، وكان له فيها يد، ثم اشتغل على إسماعيل المذكور، وقرأ عليه أكثر "الروضة" لابن قدامة، وقرأ على ابن تيمية قطعة من "المحرر"، وقطعة من "المحصول" ومن كتاب "الأحكام" للآمدي، وعلى الصفي الهندي أكثر "الأربعين" و"المحصل" وقرأ قطعة من الكتابين على ابن تيمية أيضًا، وكثيرًا من تصانيفه (¬3). * جهود العلماء والباحثين في التعريف بموضوع الكتاب: الثالث: قامت محاولات في التعريف بموضوع الكتاب من قبل العلماء والمطّلعين (¬4)، وعلى رأسهم: الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، -رحمه اللَّه ¬
تعالى- وسيأتي كلامُه تحت (الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه) تحت وصف (النسخة الثالثة) المرموز لها بـ (ن)، إذ أثبت ناسخها كلامًا مجملًا حسنًا له في ذلك. ومن بين هؤلاء صاحب كتاب "معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة"، قال عنه (ص 40): "ليس خاصًا في أصول الفقه، إلا أن معظم مباحثه تتعلق بالأصول"، وقال (ص 41 - 42): "أما كتاب "إعلام الموقعين" فقد ذَكَرَ فيه ابن القيم مباحث أصولية مهمة أفاض الكلام عليها. فمن هذه المباحث: القياس، الاستصحاب، التقليد، الزيادة على النص، قول الصحابي، الفتوى، دلالة الألفاظ على الظاهر، سد الذرائع وتحريم الحيل، ليس في الشريعة ما يخالف القياس. وهناك مباحث أخرى نفيسة ازدان بها هذا الكتاب. فمن ذلك: * ذكر أئمة الفتيا من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. * شرح خطاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء. * أنواع الرأي المحمود والمذموم. * مسائل في الطلاق والأيمان. * فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيدة وفي الأبواب الفقهية. * أمثلة على الحيل المباحة والباطلة. * أمثلة على رد المحكم بالمتشابه. * أمثلة على رد السنن بظاهر القرآن. وقد امتاز هذا الكتاب بكثرة الأمثلة الفقهية على عدد من المسائل الأصولية، وامتاز أيضًا ببيان حكمة التشريع ومقاصد الشريعة، إضافة إلى حسن البيان وجمال الأسلوب، كما أن الكتاب جامعٌ لكثير من الأحاديث النبوية والآثار المروية عن الصحابة والتابعين، وفيه نُقُولٌ مطوَّلة مهمة عن بعض الأئمة. فهو بذلك غاية في منهج أهل السنة والجماعة وعمدة في بيان طريقة السلف. ¬
والكتاب يحتاج إلى تخريج آثاره وفهرسة مباحثه ومطالبه، وحقيقٌ بدراسة تبرز محاسنه وتُفْصح عن منهج مؤلفه ومصادره فيه ومقاصده منه. قلت: ستأتي (ميزات) كتابنا هذا بالتفصيل، وأرجو أن أكون قد قمت بما يحتاجه هذا الكتاب من خدمة لائقة به، واللَّه الموفق للخيرات، والهادي للصالحات. وللشيخ محمد رشيد رضا كلمة جامعة في التعريف بالكتاب، قال رحمه اللَّه تعالى: "لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى، وما يتعلق بذلك، كبيان الرأي الصحيح والفاسد، والقياس الصحيح والفاسد، ومسائل الحيل وغير ذلك من الفوائد التي لا يستغني عن معرفتها عالم من علماء الإسلام" (¬1). ووجدت مقالة بعنوان: "ابن القيم وإعلام الموقعين" (¬2)، للكطيف أحمد، استعرض فيه بعض مباحث "الأعلام" وهذا نصه كلامه: "بعد تقديم خطبة الكتاب، بدأ المؤلف بإبراز ما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون المسلمون، وهو "العلم النافع، والعمل الصالح" اللذان لا سعادة للعبد إلَّا بهما، واللذان بسببهما انقسم الناس إلى: مرحوم ومحروم، ولما كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا كان أفضل العلوم هو التوحيد، ولا سبيل إلى اقتباسه إلَّا من حياض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي يكون التلقي منه على نوعين: بواسطة، وبدون واسطة، فالذين تلقوا عنه بلا واسطة هم أصحابه رضوان اللَّه عليهم، والذين يجب ألَّا يحيد عن طريقهم من يختار نهج اللَّه. . والذين تلقوا عنه بواسطة هم الفقهاء. بعد ذلك قدم المؤلف جملة فصول كل منها يتناول قضية من القضايا الإسلامية التي يجب على المسلم الاطلاع عليها، منها: كلام التابعين في الرأي -كلام السلف- آراء في الرأي المحمود -الصلح جائز بين المسلمين. . بيان أهل الهدى وأهل الضلالة- بيان أسرار آيات القرآن. . وسوف أركز على فصل في الجزء الثاني خاص بالتقليد والمقلدين". ¬
ثم قال تحت عنوان: (بطلان التقليد): "ركز ابن القيم تركيزًا كبيرًا على عدة مسائل منها: محاربة التقليد، ومنع الحيل في الأحكام. . وقد واجه القضية الأولى مواجهة علمية فذة، وبحثها بحثًا مستفيضًا لم يسبقه إليه أحد من فقهاء المذاهب جميعًا، إذ عقد في كتابه "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فصلًا مطولًا بلغ أكثر من سبعين صفحة، وساق إحدى وثمانين حجة من المنقول والمعقول في تأييد ما ذهب إليه من بطلان التقليد، وخلص إلى القول بأن التقليد الذي يحرم القول فيه والإفتاء به ثلاثة أنواع: - الإعراض عما أنزل اللَّه، وعدم الالتفات إليه اكتفاء بتقليد الآباء. - تقليد من لا يعلم المقلِّد أنه أهل لأن يُؤْخَذَ بقوله. - التقليد بعدم قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلِّد. وقد ذم اللَّه سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه. فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)} [البقرة: 170]. وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36]، والتقليد ليس بعلم. وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67)} [الأحزاب: 67]. وما دام التقليد بكل أنواعه باطلًا، فيبقى التسليم والرجوع إلى الأصول وهي: الكتاب والسنة وما كان في معناهما. . والابتعاد عن التأويلات التي لا تستند إلى أي أثر، لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لا أخاف على أمتي من بعدي، إلَّا من أعمال ثلاثة؛ قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: أخاف عليهم زلة عالم، ومن حكم جائر، ومن هوى متبع". وقد جمع المصنفون في السُّنَّة بين فساد التقليد وإبطاله، وبين زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزلّ ولا بد، إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، ويُنَزَّلُ قوله منزلة قول المعصوم -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير عن أبيه عن جده مرفوعًا: "اتقوا زلة العالم، وانتظروا فيأته". . وقال عبد اللَّه بن المعتز:
"لا فرق بين بهيمة تنقاد، وبين إنسان يقلد". وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذموا من أخذ أقوالهم بغير حجة، فقال الشافعي: "مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري" ذكره البيهقي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "لا يحل لأحدٍ أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه". وهكذا سلك الإمام ابن القيم في طرحه لإشكالية التقليد منهجًا علميًا، إذ قدم المعطيات كما هي، متحليًا بما يجب أن يكون عليه العالم الحقيقي، المزود بثقافة شمولية واستقلال في الرأي من تجرد، ثم ناقش كل واحدة على حدة، مستدرجًا محاوريه إلى الاقتناع بوجهة نظره، والتسليم ببطلان الجمود الفكري، بل بتناقض المقلدين فيما يأتون به من حجج، حيث يصورهم (خشبًا مسندة) ليس لها شخصية، بل هي ظلال لغيرها، تجتر الأفكار، وتسلك النهج السهل، بل تتجرأ -من حيث لا تدري- فتخالف أمر اللَّه وأمر رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، فاللَّه أمر برد ما تنازع عليه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نردُّه إلى من قلَّدناه. وقد ورد عن الرسول الكريم -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا" وهو ذم للمختلفين، وتحذير من سلوك سبيلهم .. وإنما كثر الاختلاف وتفاقم أمره بسبب التقليد وأهله؛ وهم الذين فرقوا الدين وصيروا أهله شيعًا". ثم ختم مقاله بعنوان (دروس من ابن القيم) قال فيه: "من هذه القراءة السريعة يمكن أخذ الدروس الآتية من الإمام ابن قيم الجوزية وهي: - الإسلام ضد التقليد الأعمى. - تراثنا الإسلامي نابض بالحياة، وقابل للأخذ والعطاء. - يجب محاصرة الخلاف، والدعوة إلى توحيد العالم الإسلامي. - يجب التجنيد في سبيل الدعوة الإسلامية قولًا وعملًا. - الدفاع عن قضايانا بطرق تربوية مرنة بعيدًا عن كل تشنج وعصبية. - الرجوع بالأمة الإسلامية إلى الصفاء الروحي الأول: القرآن، والسنة، مقتدين بمعاذ بن جبل حين سأله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن: "كيف تصنع إن
عرض عليك قضاء؟ " قال: أقضي بما في كتاب اللَّه. قال: "فإن لم يكن في كتاب اللَّه؟ " قال: فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. قال: "فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه؟ " قال: أجتهد رأيي لا آلو. قال: فضرب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صدري ثم قال: "الحمد للَّه الذي وفق رسول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما يرضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-". فلنحاول أن نسلك هذا النهج القويم، وأن نرضي اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، مبتعدين عن الخلافات والشبهات، مرددين قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] " انتهى كلامه (¬1). ثم ظفرتُ بكلمة لسعاد مسلَّم حماد في أطروحتها الماجستير "منهج ابن القيم في دراسة الأديان" (¬2)، عرفت بكتابنا هذا بقولها: "إعلام الموقعين عن رب العالمين" مجلدان في أربعة أجزاء تناول ابن القيم في هذا الكتاب الأصول التي يجب أن يعتمد عليها المسلمون في فتواهم، وطريقة الصحابة في الإفتاء، ثم تناول الشروط الواجبة فيمن يبلِّغ عن اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. ثم تناول الأصول التي أقام عليها الأئمة فتواهم وطريقتهم في الإفتاء، كذلك تناول كل أصل من أصول الإفتاء بالتفصيل، وتناول مسائل فقهية تناولها لأئمة المسلمين من قبله، وبين فيها أحكامهم من خلال ما اعتمدوا عليه من كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. من هذه المسائل: الزواج والطلاق والطهارة والحج والميراث والزكاة والأيمان والبيوع. ثم ذكر فتاوى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيدة وكل الأمور التي تهم المسلمين في حياتهم. ويعتبر هذا الكتاب من المؤلّفات الثرية بآراء ابن القيم في الفتوى والاجتهاد ويتضح فيه منهجه الذي يسير عليه، ويدعو إليه جميع المسلمين خاصة من يقوم بالإفتاء إلى أن يجعل كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- هما الأساس الذي يجب أن يعتمد عليه، وبالإضافة إلى ذكره لمذاهب أئمة المسلمين الذين ساروا على نهج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحابته. ¬
وقد وضح الإمام ابن القيم شروطًا لمن يبلغ عن اللَّه ورسوله منها: العلم والصدق، لأنه لا تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق وحسن طريقة عرض السيرة، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق. وأول من تحققت فيه هذه الشروط هو: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان الهدف من هذا الكتاب عند ابن القيم هو التأويل الصحيح لأحكام اللَّه بناءً على النصوص من كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وفتاوى الصحابة، والخبر المتواتر ثم القياس للضرورة، وبين خطر التقليد والقول بالرأي القائم على الهوى دون اعتماد على كتاب اللَّه وسنة رسوله". ومن الكلمات الجوامع في التعريف بهذا الكتاب ما قاله الدكتور صبحي محمصاني في كتابه "المجاهدون في الحق" (¬1) عند ذكره ابن القيم، قال بعد كلام: "المهم أن نشير إلى اجتهاد ابن القيم في مسائل المعاملات الشرعية، وإلى نواحي التجدد في اجتهاده. ونحن نرى أنه كان من طبقة المجتهدين في المذهب الحنبلي، ونرى أنه برهن في ذلك على نظر ثاقب، وتفكير صائب. فاعتمد على روح الشريعة الحقيقية، وعلى حكمتها العادلة. فقال في بعض المسائل أقوالًا جريئة، لم يقل بها أحد قبله ولا بعده من الفقهاء المسلمين. وتوسع في مسائل أخرى توسعًا، يدل على مرونة الشريعة، وعلى مسايرتها للتطور والمدنية. فوصل بالنتيجة إلى تحليلات ونظريات، شبيهة بالنظريات القانونية العصرية. ونحن لا نرى مجالًا لإيضاح جميع نظرياته وآرائه الفقهية. إنما نكتفي، على سبيل المثال، بتلخيص ما قاله في بعض المسائل المهمة الحساسة، لأجل تبيين النهج العلمي، الذي اتبعه، والنحو العادل الذي انتحاه، ولأجل إثبات أن ما وصل إليه هذا الفقيه المجدد في بعض المسائل، وهو من اتباع المذهب الحنبلي الذي اشتهر بالمحافظة الشديدة، لم يصل إليه اتباع مدرسة أهل الرأي ولا مؤسسها الإمام الأعظم. وأهم المسائل التي أرى تلخيصها في هذا المعرض هي: محاربة التقليد والجمود، واعتماد القصد في التصرفات، وحرية التعاقد، ومنع الحيل في الأحكام، وإحياء أعمال الفضولي المحسن، والمحافظة على حقوق الغرماء، والتوسع في قواعد البينات. وإني أعتمد في هذا التلخيص، بوجه خاص، على كتاب "إعلام الموقعين"". ¬
ثم تكلم على هذه المسائل بإفاضة وتفصيل، وقال تحت عنوان (الخلاصة): "نحن نستبين مما تقدم أن ابن قيم الجوزية لم يكن من الفقهاء العاديين. بل كان من النوابغ، الذين نظروا إلى الشريعة الإسلامية على حقيقتها، والذين تحروا عن مقاصدها وغاياتها، وتمسكوا بها غير مبالين بما قاله غيرهم. وعلى هذا حارب ابن القيم التقليد الأعمى، والجمود والخرافات الشكلية، والتفصيلات الآرائية، ودقق في الاجتهاد. فاعتبر المقاصد أساسًا للحكم في تصرفات الناس ومعاملاتهم، وأفتى بتحريم التحيل على الشرع، وتوسع في أصول المحاكمات وطرق البينات. فتوصل بذلك كله إلى نظريات عصرية، كنظرية المنفعة في أعمال الفضولي، ومبدأ حرية التعاقد، ومبدأ تقدير قيمة الشهادات، وعدم تجزئة الإقرار، وفسخ عقود المديون المضرة، ومبدأ تغير الأحكام بتغير الأزمان والأمكنة والأحوال، وما شابه من النظريات والمبادئ، التي لا نراها اليوم إلا في أحدث الشرائع. وذلك كله في زمن سابق لها بعدة قرون. وما هذا كله إلا دليل من الأدلة الكثيرة، على أن الشريعة الإسلامية تحوي من الأسس القويمة، ما جعلها تماشي المدنية في الماضي، وما يجعلها اليوم قابلة لأن تساير كل تطور في الحاضر والمستقبل. وإذا كان الأمر على عكس ذلك، في وقت من الأوقات، فلم يكن مرده إلا إلى جمود بعض المتأخرين، وإلى تقصيرهم في تفهم معاني الشريعة الحقيقية، كما يجب أن تفهم، وكما فهمها أمثال شمس الدين أبي عبد اللَّه ابن قيم الجوزية". قال أبو عبيدة: نستطيع أن نقرر بكل أريحية من خلال العرض السابق: أن لابن القيم في كتابه هذا اختيارات أصولية وفقهية كثيرة، تدل على اطلاع غزير، وأفق واسع، وإدراك لمصالح الناس، ولبّ الفقه والشريعة، وهو بهذا مصلح ومجدد (¬1)، ورحم اللَّه صديق حسن خان لما قال عنه وعن شيخه ابن تيمية: "وقد جدد اللَّه بهما الدين الحنيف، والأعمال القيمة العظيمة التي قام بها ¬
الشيخان لم يعهد مثلها لا من السلف ولا من الخلف، وقد شحنت الكتب والدواوين والسجلات والوثائق التاريخية وكتب السير من ذكر مآثر هؤلاء" (¬1). ولا يمكن لأحدٍ ينظر في كتابنا هذا، أن ينكر الجهود التي بذلها ابن القيم في خدمة الفقه، ومنزلته الرفيعة في ذلك، ودقة فهمه، وحدة ذهنه، وسعة معرفته، بل نستطيع أن نقرر من خلال كتابنا هذا أنه رحمه اللَّه أحيا مدرسة الحديث والسنة في عصره، وأحيا الاجتهاد، والرجوع إلى النصوص الشرعية، وتحكيم الدليل، فلم يكتف بالهجوم على التقليد المتعصب فحسب، بل زاول الاجتهاد، ورجّح المسائل غير مكترث لمخالفة الكثرة مستعملًا أصول السلف فلم يخترع للمسائل التي اجتهد فيها أصولًا جديدة، بل استطاع أن يطبق أصول السلف وينزع عنها أحكامًا للقضايا المستجدة، ويمكن أن نردد مع مالك بن نبي قوله عنه وعن شيخه ابن تيمية: "قدما الترسانة (!!) الفكرية التي استمدت منها كل الحركات الإسلامية التي جاءت بعده". ¬
مصادر المصنف وموارده في كتابه هذا
مصادر المصنف وموارده في كتابه هذا * توطئة: الإمام ابن القيم -رحمه اللَّه تعالى- واسع الاطلاع: "شديد المحبّة للعلم وكتابته ومطالعته، وتصنيفه، واقتناء الكتب، واقتنى من الكتب ما" (¬1) "لا يتهيأ لغيره تحصيل عشره من كتب السلف والخلف" (¬2). قال صلاح الدين الصفدي عنه: "ما جمع أحد من الكتب ما جمع، لأن عمره أنفقه في تحصيل ذلك، ولما مات شيخنا فتح الدين اشترى من كتبه أمهات وأصولًا كبارًا جيّدة، وكان عنده من كل شيء في غير ما فنّ ولا مذهب بكل كتاب نسخٌ عديدة، منها ما هو جيد نظيف، وغالبها من الكرندات، وأقام أولاده شهورًا يبيعون منها غير ما اصطفوه لأنفسهم" (¬3). وقال ابن حجر -رحمه اللَّه تعالى- عنه: "وكان مغرى بجمع الكتب، فحصّل منها ما لا يحصر، حتى كان أولاده يبيعون منها بعد موته دهرًا طويلًا، سوى ما اصطفوه منها لأنفسهم" (¬4)؛ ومنعم النظر في كتابنا هذا، يجد مصداق هذا النقل، ومما ينبغي ذكره هنا: أولًا: إن ابن القيم نقل من كثير من الكتب بواسطة. ثانيًا: إن ابن القيم نقل أقوالًا ونصوصًا من كتب، لم يصرح بأسماء عناوينها. ثالثًا: إن ابن القيم نقل من بعض المصادر وأكثر من ذلك، ونقل من مصادر أخرى، ولم يكثر. ¬
كتب البيهقي
رابعًا: أكثر ابن القيم النقل عن شيخه ابن تيمية فيما شافهه فيه، ومن كثير من كتبه (¬1). خامسًا: للمصنف منهج علمي في النقل، فجل النقولات معزوة إما لأصحابها (وهو الغالب) وإما لأسماء مؤلّفيها، وفي بعض الأحايين ينقل من غير عزو. سادسًا: للوقوف على مصادره في النقل فوائد عظيمة، أهمها: أن ذلك يفيد كثيرًا في ضبط النص، والوقوف على اللفظ بعينه عند التخريج، وكشف الخطأ والوهم الذي يمكن أن يقع فيه الناقل. وظفرتُ من هذا النوع الأخير على أشياء مهمة، مثل: * كتب البيهقي: تبيَّن لي أن المصنف -رحمه اللَّه تعالى- يكثر من النقل من "الخلافيات" (¬2) للبيهقي، -ولم يسمه (¬3) - ويورد كثيرًا من النصوص (الأحاديث والآثار وكلام أئمة الجرح والتعديل) منه، ومن بين ما نقل منه، قوله: "وقد قال الدارقطني: "كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فضالة، ويقول:. . . " وهذا القول في "الخلافيات" وغيره لعمرو -بفتح العين لا ضمها- ابن علي وهو الفلاس، فتحرفت في نسخة المصنف إلى "عمر بن علي" فظنها المصنف للدارقطني! انظر (3/ 299). ووقع سقط في جميع طبعات "الإعلام" أثبتناه منه، انظر -مثلًا- (3/ 300). وهنالك نصوص جهدتُ في البحث عنها، فلم أجدها مسندة إلا فيه: انظر -مثلًا- (3/ 194، 195). والأدلة على نقل المصنف من "الخلافيات" كثيرة جدًا، وتكاد النصوص التي يسردها في الاحتجاج في كثير من المسائل لا تخرج عما فيه، وإن كان بعضها في "الصحيحين" أو أحدهما، فالمصنف ينقل بفهم وحذق، وعلم ودراية، ¬
كتب الشافعي
وتنقيح وتحقيق، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولا نطيل بالسرد وإنما نكتفي بالإحالة على ما يلي: (3/ 188 - 197، 214 - 219، 220 - 223، 225 - 228، 228 - 231، 231 - 239، 273 - 278، 284، 293 - 294، 295، 299 - 301، 301 - 302، 303 - 304)، وغيرها كثير. ومن الكتب التي ينقل منها المصنّف، ويكثر: كتب البيهقي الأخرى غير "الخلافيات"، مثل: "السنن الكبرى"، وقد صرح باسمه في ستة مواضع من كتابه هذا، هي (1/ 70، 71 و 3/ 181، 199 و 4/ 458، 479)، ونقل منه في مواطن عديدة جدًا غير هذه المواطن، وصرح فقط بعزو الكلام للبيهقي، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 70، 71، 240، 241، و 3/ 142، 173، 181، 276، 438، و 4/ 458، 460، 479، 481). ونقل أيضًا من كتابه "معرفة السنن والآثار" إذ وجدتُ أقوالًا معزوة للبيهقي، وهي بالحرف في "المعرفة"، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 142، 173، 274، 392 - 394، 507، و 4/ 193). ونقل أيضًا من كتابه "المدخل إلى السنن الكبرى"، وسماه في مواطن من كتابه هذا، هي: (3/ 41، 43 و 4/ 551)، ونقل كثيرًا من أقوال الشافعي وأحواله بواسطته، ووقع النقل منه دون تسمية في مواطن، منها: (2/ 469، 470، 3/ 41 - 42، 43، 47 و 4/ 389، 552 - 553) وغيرها. ونقل أيضًا من كتابه "مناقب الشافعي" وصرح باسمه في (5/ 1185، وكان قد نقل منه -قبل- في مواطن أخرى، مثل (1/ 150 و 3/ 40، 45، 46، 47، 49، 51، 52، 73). * كتب الشافعي: والملاحظ أن المصنف ينقل عن الشافعي (من كتبه وكتب أصحابه، ومذهبه، وكتب تراجمه وتراجم علماء المذهب) كثيرًا، وهاك التفصيل: صرح المصنّف بالنقل من مجموعة من كتب الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رضي اللَّه عنه-، هي: 1 - "إبطال الاستحسان" (¬1)، ونقل خطبته برمتها في (3/ 52) وصرح باسمه. ¬
2 - "الاختلاف مع الإمام مالك" (¬1)، نقل منه مرات، وصرح باسمه في (2/ 560 و 3/ 42 و 4/ 551). 3 - "الرسالة" (¬2) وذكرها بأكثر من عنوان، فتارة هكذا: "الرسالة" كما في (5/ 185)، وتارة بـ "الرسالة البغدادية" كما في (1/ 150) وقال عنها: "التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني"، وتارة كما في (3/ 5): "الرسالة القديمة"، وتارة كما في (3/ 51): "الكتاب القديم" "رواية الزعفراني". ومن الجدير بالذكر هنا أن "رسالة الشافعي" القديمة العراقية (¬3)، لم تصل إلينا كاملة، ولكن نقولات ابن القيم تدلل على أنها كانت موجودة في القرن الثامن الهجري، اللهم إلا إذا كانت نقولاته بواسطة مَنْ قبله، وهذا هو الغالب على الظن، إذ وجدتُ النُّقولاتِ التي عزاها له موجودة بالحرف في "مناقب الشافعي" للبيهقي، قارن ما في هنا (1/ 150) بما في "مناقب الشافعي" (1/ 442)، وما في هنا (3/ 51) بما في "المناقب" (1/ 485). وأما "رسالته" الجديدة، فقد وضعها في مصر بعد أن قدم إليها، واستقر فيها، وبعد أن ظهرت له حقائق علمية مهمة، اضطرته إلى إعادة تأليفها، والتعديل في أبوابها، والتغيير في أحكامها، ويبدو أنه قد ألفها من حفظه، إذ لم تكن كتبه كلها معه حينما ارتحل إلى مصر، وقد جاء فيها ما يدل على ذلك، قال: "وغاب عني بعض كتبي، وتحققت بما يعرفه أهل العلم مما حفظت، فاختصرتُ خوف طول الكتاب، فأتيتُ ببعض ما فيه الكفاية، دون تقصِّي العلم في كل أمره" (¬4). وقد أملاها الشافعي على كبار أصحابه المصريين، وعلى رأسهم الربيع بن سليمان المرادي، وقد رواها الناس عنه وعن غيره، وهذه "الرسالة" المصرية وصلت إلينا كاملة، وهي المطبوعة. ¬
ونَقْلُ المصنِّف من "الرسالة" كثير، إذ وقع له منها نقولات واكتفى بعزوها لصاحبها، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 53 و 2/ 565 و 3/ 38، 39، 40 و 4/ 551). ووقع في (5/ 100) ذكر لـ"شرح الرسالة" للجويني، ولا نعرف الآن شيئًا عن شروح لهذا الكتاب العظيم، وتصريح المصنف لا يدل على وجود هذا الشرح في زمانه، إذ النقل منه -كما صرح هو به- إنما وقع بواسطة ابن الصلاح. 4 - "الأم" (¬1) نقل منه كثيرًا، وسمّاه في موطن واحد، هو (2/ 489) وقال: "في رواية الربيع" وذكر في (1/ 151) رواية الربيع عن الشافعي، ولم يسمّ كتابًا. ونقْلُ المصنف منه كثير، انظر -على سبيل المثال-: 1/ 150 و 2/ 210 و 3/ 45، 49، 51، 73، 173، 277، 430 و 4/ 193). ومما يجدر ذكره أن المصنف نقل من هذا الكتاب في عدة مواضع، وسمّاه "الكتاب الجديد"، قال في (1/ 150): "قال الشافعي في "الجديد" في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة" وساق ما في "الأم" (4/ 85)، ونقل في (2/ 482) عدة نصوص عن الشافعي، وقال في آخرها: "وقد قال -أي الشافعي- في موضع آخر من "كتابه الجديد". . . ". وقال في (4/ 551): "وقد صرح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه. . . ". 5 - "المسند" (¬2). ¬
كتب الشافعية
ووجدتُ نقولات عديدة في كتابنا هذا من "المسند" للإمام الشافعي، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 238 - 239 و 2/ 387 و 3/ 38، 42، 49، 203، 204 - 205، 507 و 4/ 322 و 5/ 273، 323) ولعل بعض هذه النقولات وقعت له بواسطة البيهقي، ولم يصرح المصنف باسمه. * كتب الشافعية: ولم يقتصر نَقلُ المصنف على كتب الإمام الشافعي، وإنما تعداه إلى أصحابه، فنقل -مثلًا- من: - "مختصر المزني" (¬1)، وصرح باسمه في (2/ 469)، ونقل منه في (1/ 47، 222، 359، و 2/ 103، 462 و 4/ 204، 206، 208، 334، 454 و 5/ 126). ¬
ونقل من كثير من كتب الشافعية المتأخرين، مثل: - "شرح التنبيه" وصرح باسمه في (3/ 446) وعزاه لأبي القاسم بن يونس، وصرح به في (4/ 518) قال بعد مسألة: "والوجوه الثلاثة في مذهب الشافعي، حكاها شارح "التنبيه" وغيره". والظاهر أن مراده: أبو القاسم بن يونس السابق، ولكن يا ترى من أبو القاسم هذا؟ وما هو شرحه؟ الشروح على "التنبيه" للشيرازي كثيرة جدًا، ذكر منها أستاذنا محمد عقلة -حفظه اللَّه- في أطروحته للدكتوراه في الأزهر "الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأثره في الفقه" ثمانية وأربعين شرحًا وذكر فيه (1/ 142) من بينها: - "غنية الفقيه في شرح التنبيه" (¬1) لشرف الدين أبي العباس أحمد بن كمال الدين بن يونس الأربلي الموصلي (المتوفى سنة 622 هـ)، فلعله المراد هنا، وإن اختلفت الكنية! إذ هو مذكور في كتب التراجم بـ (أبي الفضل) كما في "التكملة لوفيات النقلة" للمنذري (3/ 145 رقم 2033)، و"السير" (22/ 248) وغيرهما؛ خلافًا للمثبت على النسخ الخطية من "شرحه" هذا (أبو العباس)؛ وخلافًا لما في الأصول الخطية وجميع طبعات كتابنا "الإعلام" (¬2): "أبو القاسم"، ولعل ابن السبكي أهمل لذلك كنيته في "طبقات الشافعية الكبرى" (8/ 39 - 40)، مع عنايته التامة بالشافعية المتأخرين، والتفصيل في ذكر أحوالهم واختياراتهم. وعملتُ جاهدًا في النظر في فهارس المخطوطات لأعثر على شيء يسعف بشأن هذا الكتاب، فلعل هناك ابن يونس آخر شرح "التنبيه"، فلم أفز بشيء، وذكرتُ ما وقفتُ عليه من نسخ (¬3) لهذا الكتاب في التعليق على (3/ 446). ووجدته ينقل أيضًا من: ¬
- "المهذب" للشيرازي، كما في (4/ 217) ولم يسمّه. - "بحر المذهب" لأبي المحاسن الروياني، صرح به في (5/ 150)، ولكن ضمن كلام عزاه لابن الصلاح، وهو في "أدب المفتي والمستفتي" له، فهو إذًا ينقل منه بواسطة. - "نهاية المطلب في دراية المذهب" (¬1) للجويني، صرح باسمه مختصرًا هكذا "النهاية" في (4/ 454)، ونقل منه دون تصريح في مواطن، منها (4/ 515). - "التتمة" للمتولّي أبو سعد عبد الرحمن بن مأمون النيسابوري، صرح باسمه والنقل منه في (3/ 467)، وعرَّفْتُ به وبنسخه الخطية في التعليق على نشرتنا هذه. - "الذخائر" كذا ذكره في (4/ 533)، ونقل منه مذهب الحنفية في مسألة من (الأيمان) وهي في (الفصل السادس: في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة) منه، إلا أني رأيته في "زاد المعاد" (5/ 505 - ط مؤسسة الرسالة) يذكره ضمن كتب الشافعية، ولم يسمّ صاحبه؛ وفي "كشف الظنون" (1/ 822): ""الذخائر في فروع الشافعية" (¬2) للقاضي أبي المعالي [علي بن] مجلّي بن جميع المخزومي الشافعي (المتوفى سنة 550)، وهو من الكتب المعتبرة في هذا المذهب" ولم أظفر له -بعد بحث- بأية نسخة خطية. - "فتاوى القفال" ذكره بهذا الاسم في (4/ 228، 517)، وهكذا مذكور في "كشف الظنون" (2/ 1228) دون أيّ إيضاح، ونقل المصنف عن صاحبه في (4/ 543 و 5/ 167) أيضًا، ولم يرد له ذكر (¬3) في كتب المصنف الأخرى! ثم استدركتُ، فقلت: وجدته مذكورًا في "إغاثة اللهفان" (2/ 91 - ط الفقي)، قال: "وأما الشافعية، فقال ابن يونس في "شرح التنبيه". . . " إلى قوله: "وقال القفال في "فتاويه" (¬4). . . " ثم قال: "هذا لفظه" أي: لفظ ابن يونس، واستفدنا ¬
كتب الحنفية
من هذا أمرين: الأول: إن المصنف ينقل منه بواسطة، والآخر: إن الكتاب من كتب الشافعية، وقد صرح المصنف بذلك في (5/ 167). وأخيرًا. . مما يجدر التنبيه عليه أن المصنّف ينقل عن الشافعي، ويفرق بين مذهبه الجديد والقديم، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 550)، ويبيّن غلط العلماء عليه وعلى مذهبه، وزيف ما ادّعاه بعض المتأخرين من أقوال نسبت للشافعي وهو منها بريء، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 80 و 3/ 11 و 4/ 232، 550)، وتعرض لتاريخ وجود الحيل في هذا المذهب وسببه في (4/ 232). وجميع هذا يدل على معرفة المصنف بهذا المذهب على وجه جيد قوي، ويدل أيضًا على معرفة أعلامه وكتب تراجمه، فقد نقل من "طبقات الفقهاء" لأبي إسحاق الشيرازي في (5/ 77) -ولم يسمه- وسماه في (4/ 525): "طبقات أصحاب الشافعي" ونقل من "آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم (5/ 181) -ولم يسمه- وسبق أن قررنا نقله من "مناقب الشافعي" للبيهقي. * كتب الحنفية: ينقل المصنف في كتابه هذا من جملة من كتب الحنفية، وهذا ما وقفت عليه منها: - "الأصل" لمحمد بن الحسن الشيباني، صرح باسمه في (2/ 489) على أنه من الكتب المعتمدة عند الحنفية، ولم أظفر بنقل المصنف منه. - "الجامع الكبير" لمحمد بن الحسن أيضًا، صرح باسمه في (1/ 78). - "المخارج في الحيل" المنسوب (¬1) لمحمد بن الحسن أيضًا، نقل أخبارًا وأقوالًا وأحكامًا هي في مطبوع الكتاب هكذا بالحرف، ولم يسم الكتاب وعزى المصنف بعضها لمحمد بن الحسن، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 117، 118، 119، 120، 122، 413، 414). ¬
- "المبسوط" للسرخسي، نقل عن صاحبه ولم يسمه في (4/ 423). - "الحيل" للخصاف، نقل منه المصنف وصرح باسمه في (2/ 367 و 4/ 118)، ونقل منه فيما عدا ذلك مرات أيضًا، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 117، 119، 120، 121، 122، 441). - "الذخيرة" نقل منه المصنّف في أكثر من موطن، وسماه، ولم يصرح باسم مؤلّفه، مع "ذكره في سياق مذهب الحنفية" (¬1)، قال في (4/ 493) بعد كلام: "كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة، قال صاحب "الذخيرة" في (كتاب الطلاق) في (الفصل السادس عشر) منه:. . . " وقال في (4/ 496): "قال أصحاب أبي حنيفة -واللفظ لصاحب "الذخيرة"-: .. . . "، وقال في (4/ 517): "قال صاحب "الذخيرة" من الحنفية:. . . " ونقل نصًا طويلًا. فمن هو صاحب هذا الكتاب؟ وما هو خبره؟ وما تتمة اسمه؟ وهل طبع أم لا؟ أقول وباللَّه التوفيق: ذهب بعض المعاصرين (¬2) أنه لابن طاهر! وليس كذلك، فكتاب ابن طاهر: "الذخيرة" ليس في الفقه الحنفي، وإنما هو في ترتيب أحاديث "الكامل في تراجم الضعفاء وعلل الحديث" لابن عدي على الحروف، وهو مطبوع (¬3)، وهو المذكور في "زاد المعاد" (4/ 277 - ط مؤسسة الرسالة)، فهما كتابان لا كتاب واحد! وهذا الكتاب الذي أكثر المصنف النقل عنه، والذي اعتمده في نقل مذهب الحنفية إنما هو -في نظري- "الذخيرة البرهانية" (¬4) أو "ذخيرة الفتاوى" لمحمود بن ¬
الصدر السعيد تاج الدين أحمد بن الصدر الكبير برهان الدين عبد العزيز بن عمر بن مازة (ت 616 هـ) اختصره من كتابه "المحيط البرهاني في الفقه النعماني" (¬1)، وله نسخ خطية عديدة (¬2)، جلها في إستانبول ومصر، والأحمدية بحلب، ثم ظفرتُ بنسخة منه في تشستربتي (¬3) بدبلن في إيرلندا، وتأكّد لي من خلالها أنه مراد المصنف، وهذا البيان: أولًا: نقل المصنف في (4/ 477) نصًا طويلًا، ولم يعزه لأحد، وقال قبله: "وهذا لفظه بل حروفه"، وهو في "الذخيرة البرهانية" (ق 154/ ب). ثانيًا: الفصل السادس عشر من كتاب "الذخيرة" هو في (الاستثناء في الطلاق) والمذكور عند المصنف في (4/ 493) هو فيه بالحرف (ق 104/ ب) أيضًا. ثالثًا: عزى المصنف في (3/ 496) نقلًا له هو فيه (ق 104/ ب) أيضًا بحروفه. رابعًا: عند المصنف في (3/ 517) نقلًا هو فيه (ق 101/ أ). - "شرح القدوري" (¬4) ذكره في معرض ذكره مذهب الحنفية في (4/ 517)، والصحيح أنه نقل منه بواسطة الكتاب السابق "الذخيرة" إذ النص المنقول في كتابنا ¬
كتب المالكية
هذا موجود في "إغاثة اللهفان" بحروفه (2/ 91 - ط الفقي) وقال المصنف فيه عقب الفقرة التي فيها اسم هذا الكتاب: "هذا كله لفظ صاحب "الذخيرة"". ومن الملاحظ جليًا أنّ ذكر الحنفية كثير في الكتاب (¬1)، وأنه اعتنى بمذهبهم، ونقله من كتبهم وأشار إليه من خلال ما في "الخلافيات" للبيهقي (¬2) إذ أفرد فيه المسائل التي وقع فيها خلاف بين (الشافعية) و (الحنفية) خاصة، وأنه اعتنى بالمسائل التي خالفوا فيها الدليل، بـ (نفس فقيه) في عبارات انتصر فيها للحق، وعالج ذلك بالعدل، من غير شطط بل ربما رجح في بعض الأحايين مذهب أبي حنيفة على ما سواه. وأخيرًا. . . فقد نقل المصنف في (4/ 413، 414)، من كتاب سماه "مناقب أبي حنيفة" ولم يعزه لأحد، والموجود فيه مذكور في كتابَيِ الكردري والموفق، وهما مطبوعان. * كتب المالكيّة: لا يقلّ نقل المصنف من كتب المالكية عن سائر نقولاته من المذاهب الأخرى، وقد نقل عن كتب الإمام مالك، وأكثر من ذلك، وهذه أسماء الكتب التي نقل منها: * كتب الإمام مالك: * "الموطأ" (¬3) صرح باسمه مرات، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 131 و 2/ 317، 387، 412، 3/ 287، و 4/ 380، 550)، ونقل المصنف أحاديث وآثارًا وأقوالًا عديدة جدًّا وعزاها لمالك، دون تصريحه بنقلها من كتابه هذا وهي فيه، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 371 و 7/ 312، 387 و 3/ 183، 188، 287 و 4/ 380، 494، 550 و 5/ 264، 303، 537، 557، 560، 563، 601) ولم يقتصر نقل المصنف على "الموطأ" وإنما تعدّاه إلى "شروحاته" وقد صرح ببعضها، وهذا البيان: ¬
شروح "الموطأ"
* شروح "الموطأ": - "التمهيد" لابن عبد البر، صرح باسمه في (2/ 430 و 3/ 288) ووجدتُ نقولاتٍ كثيرة وقعت للمصنف منه، ولم يعزها له، واكتفى بعزوها لابن عبد البر فقط، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 412، 413، 435، و 288/ 3 و 4/ 377). - "الاستذكار" له أيضًا، صرح باسمه في (4/ 237)، ونقل المصنف منه في مواطن ولم يصرح باسمه، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 317 و 3/ 238، 289 (مهم)، 291 (مهم)، 471، 546)، وصرح في (3/ 288) بالنقل من الشرحين السابقين. - "المنتقى" للباجي، نقل منه ولم يصرح باسمه في (3/ 471). * كتب ابن عبد البر الأخرى: أكثر المصنف من النقل من كتب ابن عبد البر، ولم يقتصر نقله من "التمهيد" و"الاستذكار" فحسب، وإنما نقل أيضًا من كتبه التالية: - "جامع بيان العلم" صرح باسمه في مرتين، هما (1/ 66 و 2/ 450) بينما نقل منه وصرح باسم صاحبه دونه مرات عديدة جدًا، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 11، 67، 83، 98، 101، 102، 103، 106، 110، 118، 119، 120، 122، 123، 127، 128، 131، 132، 133، 134، 137، 139، 141، 142، 143، 144، 147، 148، 149، 153، 156، 157، 158، 163، 164، 194، 207، 359، 360، 361، 467، 468، 471، 477، و 2/ 450 - 453، 457، 459 - 465، 467، 479، و 3/ 13 و 4/ 237، 238، 239، 240). - "الانتقاء" نقل منه وصرح باسمه في (4/ 520)، وهو في مناقب الأئمة: أبي حنيفة ومالك والشافعي رحمهم اللَّه تعالى. - "الكافي" ناقل منه وصرح باسمه في (4/ 531)، وهو في فروع الفقه المالكي. * كتب المالكية الفقهية الأخرى: نقل المصنّف من كثير من كتب المالكية، والذي وجدتُه من خلال عملي في الكتاب: أنه غالبًا ينقل المذهب والأقوال فيه من كتاب ابن شاس الذي سماه
"الجواهر" (¬1) وصرح باسمه مرتين في (3/ 355 و 4/ 531). وهنالك نصوص كثيرة، وبعضها طويل جدًّا، في كتابنا هذا موجودة بالحرف في مطبوع "الجواهر" هذا، ولم تعز له، ولا لصاحبه، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 225 - 226، 226 و 3/ 459، 469 - 470، 474 - 475، 4/ 380 - 381، 494، 514، 532). ونقل المصنف أيضًا من: "المدونة" (¬2) وصرح باسمه في (2/ 489)، ونقل منه في مواطن، منها (3/ 293، 355)، ونقل عنه بواسطة الكتاب السابق، وعزى الكلام لابن القاسم، فحسب واعتمد ما في هذا الكتاب أيضًا بواسطة "تهذيب المدونة" (¬3) للبراذعي، وصرح باسمه في (1/ 226 و 4/ 380 - 381)، مختصرًا هكذا "التهذيب" ولم يذكر اسم مؤلفه. - "التفريع" لابن الجلاب، نقل منه ولم يسمه في (4/ 405). ونقل أيضًا من: ¬
- "شرح التلمساني" عليه، وصرح باسمه في (3/ 388 و 4/ 227)، وعرفت بالكتاب والشرح في تعليقي على (3/ 388)، واللَّه الموفق. - "المقدمات الممهدات" لأبي الوليد بن رشد، ونقل منه وصرح باسمه في (4/ 519). - "الفروق" للقرافي، نقل منه نصًا طويلًا ولم يسمه في (3/ 469، 470). - "مختصر أبي مصعب" (¬1) نقل منه، وسماه في (3/ 267). وأبو مصعب هذا هو أحمد بن أبي بكر الزهري (ت 242 هـ) له كتاب "مختصر في قول مالك" مشهور، وصاحبه فقيه أهل المدينة من غير مدافع (¬2). ونَقْلُ المصنفِ من هذا الكتاب بواسطةٍ نَقْلٌ طويلٌ عن القاضي عبد الوهاب، وهو في حجية إجماع أهل المدينة، ولعبد الوهاب كتاب "أصول الفقه" نقل منه جمع (¬3)، ولكن هذا النقل عند ابن تيمية (¬4) في "صحة أصول أهل المدينة" (33)، فالظاهر أن النقل عن أبي مصعب والقاضي عبد الوهاب إنما هو بالواسطة؛ وهنالك ذكر في (فهرس الأعلام) لعشرات الفقهاء من المالكية، ينقل المصنف عنهم بواسطة الآخرين، فمثلًا في (2/ 464) ينقل المصنف عن ابن خويز منداد وعن محمد بن حارث في "أخبار سحنون بن سعيد" وإنما وقع له ذلك بواسطة ابن عبد البر في "الجامع" كما أوضحناه في التعليق عليه، وفي (3/ 459)، نقل عن "المبسوط" لعبد الملك، ووقع له ذلك بواسطة ابن شاس في "الجواهر" وفي (3/ 267)، نقل عن أبي الحسن بن أبي عمر (¬5) في "مسألته التي صنفها على أبي بكر الصيرفي" وهي في إجماع أهل المدينة، وهي منقولة بالواسطة أيضًا وكذلك النقل عن ابن خويز منداد في كتاب له، في (4/ 464) فهو بواسطة ابن عبد البر في "الجامع"، ومثلها كثير كثير (¬6). ¬
كتب الإمام أحمد والحنابلة
ولا ينسى في هذا المقام ما أورده المصنّف في (3/ 267، 477) بواسطة الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (¬1) من المكاتبة العلمية الرفيعة بين الإمامين مالك والليث بن سعد، ومجاوب بعضهما بعضًا، بما يصلح أن يقتدي به العلماء، ولا سيما في هذا الزمان، الذي كثر فيه الهرج والمرج، وغاب الأدب مع العلماء الكبار، وإلى اللَّه المشتكى، ولا قوة إلا باللَّه. * كتب الإمام أحمد والحنابلة: الإمام أحمد بن حنبل وكتبه ومسائله على اختلاف رواتها، وكتب أصحابه ومذهبه هي أكثر ما يذكر في كتابنا هذا. * كتب الإمام أحمد ومسائل أصحابه له: ينقل المصنف كثيرًا من "المسند" للإمام أحمد (¬2). ولكثير من كتب الإمام أحمد غير "المسند" ذكر في كتابنا هذا مثل: - "طاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-". قال في (2/ 53): "وقد صنف الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- كتابًا في طاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ردّ فيه على من احتجّ بظاهر القرآن في معارضة سنن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وترك الاحتجاج بها، فقال في أثناء خطبته. . . " وأورد نصًا طويلًا جدًّا منه. وأفاد في "مختصر الصواعق" (2/ 530) أن ابنه صالحًا رواه عنه، ونقل النّص نفسه، ووجدتُ أن أبا يعلى الفراء يكثر من النقل عنه في كتابه "العدة في أصول الفقه" (¬3) أيضًا. - "الرد على الزنادقة والجهمية" وهو مطبوع. نقل منه في (1/ 13) خطبة كتابه، وصرَّح باسمه. - "الزهد". ¬
نقل منه في (2/ 431) أثرًا لعائشة بإسناده، ولم يصرح باسمه. - "رسالة أحمد إلى مسدد". نقل منها في (5/ 63)، ووقع له هذا النقل بواسطة أبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى في كتابه "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد". ومن الجدير بالذكر أنه ذكر في (الفائدة الثامنة) من (الفوائد التي تتعلق بالفتوى) مسائل عديدة عن أحمد بروايات جمع من أصحابه، مأخوذة بالحرف من هذا الكتاب، انظر نشرتنا (5/ 55 - 64) ولم يقع تصريح باسم هذا الكتاب (¬1)، ولا النقل عن مؤلفه، بل قال في (5/ 57) بعد جملة مسائل: "ذكر هذه المسائل القاضي أبو علي الشريف" وهذه عبارة القاضي أبي الحسين ابن القاضي أبى يعلى في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" (ص 38)!. ومن هذا وغيره ندرك بيقين أن "المسائل" للإمام أحمد لمجموعة من تلاميذه المذكورةَ في كتابنا هذا، لم ينقل المصنف منها جميعًا، وإنما وقع له بعضها بواسطة غيره، ولا سيما القاضي أبي يعلى الفراء وغيره من الحنابلة. وهذه قائمة بكتب "المسائل" للإمام أحمد مرتبة على أسماء أصحابها من أصحاب الإمام وتلاميذه، مع ذكر أماكن ذكرها في نشرتنا هذه: - رواية الأثرم، نقل منها في (1/ 76 و 3/ 382، 388، 440، 489 و 4/ 527). - رواية أحمد بن الحسين، نقل منها (بالواسطة) في (2/ 5). - رواية أحمد بن القاسم، نقل منها في (4/ 516). - رواية إسحاق بن إبراهيم بن هانئ (وهي مطبوعة)، نقل منها في (1/ 49، 50، 55، 60، 396، و 4/ 495 و 5/ 116). - رواية إسحاق بن منصور الكوسج (¬2)، نقل منها في (1/ 76 و 2/ 75، 76 و 3/ 489، 494، و 4/ 468، 494، و 5/ 61، 520) ووقع في بعض هذه المواطن نقل بواسطة ابن تيمية تارة، وأبي الحسين في "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" تارة أخرى، وبواسطة القاضي أبي يعلى مرة ثالثة، وتصرف في ألفاظ بعض المسائل، كما تراه في (2/ 76). ¬
- رواية إسماعيل بن سعيد الشالنجي، نقل منها في (2/ 68، 75، 233، 373، و 3/ 351 و 4/ 94، 259، 492). والملاحظ أنه ينقل منه بالحرف، كما صرح في الموطن الأخير. ونقل المصنف أيضًا من شرح لهذه الرواية، وهو: - كتاب "المترجم" (¬1) للسعدي الجوزجاني (إبراهيم بن يعقوب). قال في (3/ 351) بعد كلام: "وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفصلين جميعًا. ففي "مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي" التي شرحها السعدي بكتاب سماه "المترجم"" (¬2). ومن الجدير بالذكر أن المصنف أكثر من النقل عن "المترجم" وأورد آثارًا بالإسناد منه، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 68 - 71 و 3/ 350، 351، 417، 437 - 438 و 4/ 473، 493). ووجدتُ بعض هذه النقولات مأخوذة من "بيان الدليل" (¬3) لشيخ المصنف ابن تيمية رحمهما اللَّه تعالى. - رواية ابن بدينا (¬4)، ذكرها المصنف في (3/ 488) بواسطة "بيان الدليل" أيضًا. - رواية بكر بن محمد (¬5)، ذكرها المصنف في (4/ 94، 436) والنقل في الموطن الأول بواسطة "بيان الدليل" (¬6) أيضًا، والآخر بواسطة القاضي أبي يعلى في "الفصول"، كما صرح به المصنف. - رواية جعفر بن محمد النسائي، ذكرها في (1/ 77). - رواية أبي الحارث الصانع (¬7)، ذكرها في (1/ 60، 84 و 2/ 559 و 3/ ¬
489 و 4/ 94، 99 - 100، 273، 454، 457، 468، 516 و 5/ 114). ووقعت له هذه النقول -أبو بعضها- بواسطة القاضي أبي يعلى في "العدة" وابن تيمية في "بيان الدليل"، كما تراه موضحًا في التعليق على بعض المواطن المذكورة. - رواية حرب بن إسماعيل، ذكرها في (1/ 76 و 4/ 172، 495، و 5/ 520) ووقعت له في بعض المواطن بواسطة القاضي أبي يعلى، كما صرح هو بذلك. - رواية أبي حرب الجرجرائي، ذكرها في (3/ 320، 4/ 348). - رواية حنبل، ذكرها في 1/ 76، 84 و 2/ 373، 426 و 3/ 429 و 4/ 455، 468، 527 و 5/ 114، 520)، ونقل المصنف بعض هذه المواطن من "العدة" لأبي يعلى، كما تبرهن لي بيقين، وبعضها من "زاد المسافر" لأبي بكر عبد العزيز كما صرح هو نفسه بذلك. - رواية الخلال، ذكرها في (3/ 370). وذكر المصنف كتابًا آخر له سيأتي -إن شاء اللَّه قريبًا-، وورد له ذكر في إسناد بعض الأخبار، انظر (1/ 49، 473). - رواية أبي داود السجستاني (¬1). نقل منها المصنف في (1/ 61، 76 و 2/ 250، 469 و 4/ 99 و 5/ 115، 116، 117). - رواية ابنه صالح، نقل منها المصنف في (1/ 83، 87 و 3/ 489 و 4/ 94، 100، 515، 516، 527 و 5/ 58، 59، 114). ومن الجدير بالذكر هنا الأمور الآتية: أولًا: بعض المسائل المنسوبة لصالح ليست في القسم المطبوع منه. ثانيًا: وجدتُ بعضها مسندة عند الخطيب وغيره من طريق صالح عن أبيه، ولم أعثر عليه في المطبوع من "مسائله" بطبعتَيْه. ثالثًا: وجدتُ بعض هذه النقول في "محنة الإمام أحمد" لصالح، كما في (5/ 58) مثلًا. ¬
رابعًا: اختصر المصنف بعض هذه النقولات من هذه المسائل، انظر (4/ 100). - رواية أبي طالب، ذكرها المصنف في (1/ 396 و 2/ 392، 559 و 3/ 371 و 4/ 95، 100، 454، 457، 468، 516 و 5/ 62) وكثير من هذه النقولات وقعت للمصنف بواسطة القاضي أبي يعلى وابنه أبي الحسين وغيرهما. - رواية ابنه عبد اللَّه، نقل المصنف منها في مواطن عديدة، هي: (1/ 53، 61 - 62، 76، 84، 144، 145، 149، و 2/ 76، 558 - 559 و 3/ 47، 369، و 4/ 449، 527 و 5/ 114 - 115، 115). ومن الجدير بالذكر هنا الأمور الآتية: أولًا: صرح المصنف ببعض النقولات من هذه "المسائل"، ولم أظفر بها في طبعتَي الكتاب، ووجدتها في مصادر أخرى للمصنف، مثل: "جامع بيان العلم" لابن عبد البر، و"الفقيه والمتفقه" للخطيب، و"المدخل" للبيهقي، كما تراه في (1/ 61) وانظر (2/ 76 و 4/ 527). ثانيًا: ظفرتُ ببعض النقولات المعزوة لعبد اللَّه إنما هي عند الميموني، كما في (1/ 61 - 62). ثالثًا: تصرف المصنف في ألفاظ بعض المسائل، كما في (1/ 76، 84، 145). رابعًا: نقل المصنف بعض هذه المسائل بالواسطة، كما في (1/ 84، 144، 145، 149، و 2/ 559 و 3/ 47، و 5/ 114 - 115، 115). خامسًا: بعض هذه النقولات عن عبد اللَّه عن أبيه ليست في "المسائل" وإنما هي في "العلل ومعرفة الرجال" مثل ما في (3/ 369). - رواية عبد الخالق بن منصور، ذكرها في (4/ 95)، ونقل منها بواسطة "بيان الدليل"، كما بيّنتُه في التعليق على الموطن المذكور. - رواية عبد الملك بن عبد الحميد أبي الحسين الميموني، ذكرها في (1/ 60 و 3/ 371، 372، و 4/ 94، 100، 374، 453، 469، 513 و 5/ 60 (وفيها ثلاث روايات)، 63). ومن الجدير بالذكر أن نقل المصنف من هذه المسائل إنما كان بالواسطة، وقد صرح في بعض المواطن بذلك، مثل (3/ 371، 372 و 4/ 453، 513) وانظر (4/ 94، 100، و 5/ 60، 63).
- رواية علي بن سعيد، ذكرها في (4/ 408)، ونقل منها بالواسطة. - رواية أبي علي الشريف القاضي (¬1)، ذكرها في (5/ 56 - 57) على إثر جملة مسائلة منقولة عنها، والنقل إنما كان بواسطة أبي الحسين بن القاضي أبي يعلى، كما بيّنتُه في تعليقي على الموطن المذكور. - رواية الفضل بن زياد، ذكرها مرتين في (4/ 181 و 5/ 62) والنقل منها فيهما بالواسطة، كما بيّنتُه في تعليقي على الموطنين المذكورين. - رواية مثنى الأنباري، ذكرها في (4/ 180). - رواية محمد بن الحكم (¬2)، ذكرها في (3/ 371، 373 و 4/ 513) ووقع نقل المصنف من هذه "المسائل" بالواسطة، كما صرح هو بذلك في المواطن المذكورة. - رواية محمد بن عبيد اللَّه بن المنادي، ذكرها في (1/ 85 و 5/ 115) والنقل عنها بالواسطة، كما بيّنتُه في التعليق على الموطنين المذكورين. - رواية المروزي، ذكرها في (2/ 559، 3/ 394، و 4/ 117، 181، 492 و 5/ 520). - رواية ابن مشيش، ذكرها في (2/ 392). - رواية مهنأ بن يحيى الشامي، ذكرها في (2/ 57، 383 و 4/ 271، 372) ونقولات المصنف هذه بالواسطة. - رواية موسى بن سعيد الدِّنداني (¬3)، ذكرها المصنف في (2/ 76، 86 و 4/ 94)، ونقل المصنف منه بالواسطة كما بيّنته في التعليق على الموطن الأخير. - رواية يوسف بن موسى، ذكرها في (5/ 114)، ونقلها بواسطة "العدة" للقاضي أبي يعلى. هؤلاء هم رواة المسائل للإمام أحمد، الذين وقع ذكرهم في كتابنا هذا، والنقل عن كثير منهم إنما كان بواسطة كتب الحنابلة غالبًا. ¬
معرفة المصنف لمذهب أحمد وإعجابه به
* معرفة المصنف لمذهب أحمد وإعجابه به: ومن الجدير بالذكر أن مذهب الإمام أحمد في أصوله وفروعه ومسائله هو أكثر المذاهب تردادًا في كتابنا هذا، والمصنِّف عارف به، معتنٍ بكتبه، محرر له، مدقق في النقولات التي تذكر عن صاحبه، ولذا زيّف كثيرًا مما نسبه إليه أصحابُه مما لم يثبت عنه، فقد كشف رحمه اللَّه اللثام في مواطن كثيرة عن أخطاء نسبها أهل المذهب ومتأخروهم إلى الإمام أحمد، وهي ليست على النحو الذي ذكروه، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 57 و 3/ 371 و 4/ 327، 469) ولم يكتم الإمام ابنُ القيم إعجابه بمسائل الإمام أحمد وفتاويه، وأظهر جهود العلماء بهذا الخصوص، قال في معرض ذكره الإمام أحمد: "وكان إمام أهل السنة على الإطلاق الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعُه إلى يوم القيامة، وكان -رضي اللَّه عنه- شديدَ الكراهة لتصنيف الكتُب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يُكتب كلامُه، ويشتد عليه جدًّا، فعلم اللَّه حُسْنَ نيته وقَصْده، فكُتِب من كلامه وفَتْواه أكثرُ من ثلاثين سفرًا، ومَنَّ اللَّه سبحانه علينا بأكثرها؛ فلم يَفُتْنَا منها إلى القليل، وجمع الخَلَّالُ نصوصه في "الجامع الكبير" فبلغ نحو عشرين سِفْرًا أو أكثر (¬1)، ورُويت فتاويه ومسائله وحُدِّثَ بها قرنًا بعد قرن، فصارت إمامًا وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلِّدين لغيره لَيُعَظِّمونَ نصوصَه وفتاواه، ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأَمَّلَ فتواه وفتاوى الصحابة رأى مُطابقة كل منهما للأخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مِشْكاة واحدة، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تَحَرِّيه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه، بل أعظم، حتى إنه لَيُقَدِّمُ فتاواهم على الحديث المرسل" (¬2). ¬
كتاب "الجامع الكبير" للخلال
* كتاب "الجامع الكبير" للخلال: نقل المصنف في سائر مصنّفاته (¬1) من "الجامع الكبير" (¬2) للخلال، وأثنى عليه في كثير من كتبه (¬3)، ووقع النقل منه في مواطن من كتابنا هذا، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 59، 227) - هذا النقل بواسطة "المغني" كما صرح ابن القيم- و (1/ 473) -وهو بواسطة "الفقيه والمتفقه" للخطيب- و (3/ 370). * كتب القاضي أبي يعلى الفراء: ومن الحنابلة الذين يكثر جدًّا المصنف من النقل عنهم في كتابنا هذا: القاضي أبو يعلى الفراء، وقد صرح بالنقل من جملة من كتبه، مثل: - "إبطال الحيل" (¬4) للقاضي أبي يعلى، صرح باسمه في (4/ 395، 408، 411)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في مواطن عديدة منها: (4/ 414 - 416، 416). - "التعليق الجديد". - "التعليق القديم". ذكرهما في (3/ 494)، ولم ينقل منهما مباشرة، وإنما بواسطة شيخه ابن تيمية (¬5) في "بيان الدليل"، كما بيّنتُه في التعليق على الموطن المذكور. ¬
- "الجامع" (¬1) نقل منه وسماه في (3/ 492). - "المجرد" (¬2) نقل منه وسماه في (2/ 257، 3/ 492). - "الخلاف الكبير" (¬3) نقل منه وسماه في (3/ 492) ودون تسمية في (3/ 320) وغيره نقل المصنف من هذه الكتب بواسطة شيخه ابن تيمية أيضًا في كتابه "بيان الدليل"، كما صرح هو بذلك. - "الكفاية" (¬4) نقل منه وسماه في (5/ 146)، ونقل منه بواسطة ابن حمدان في "صفة الفتوى". هذه الكتب التي سماها للقاضي أبي يعلى، ونقل كثيرًا من كتاب لم يسمِّه له، وهو: ¬
كتب ابن القاضي أبي يعلى
- "العدة في أصول الفقه"، ونقل كثيرًا من "المسائل" على اختلاف رواياتها منه، كما أومأنا إليه عند سرد "المسائل لأحمد" على حسب أسماء رواتها. وللتَّيقُّن على نقل المصنف من "العدة" تنظر هذه المواطن من نشرتنا مع التأمل في التعليق على بعضها: (1/ 84، 85، 86، 351، و 2/ 280 (مهم)، 284، 559 (مهم) و 5/ 104، 114، 115). * كتب ابن القاضي أبي يعلى: وجدتُ المصنف ينقل من كتابين من كتب أبي الحسين ابن القاضي أبي يعلى، وصرح باسم واحد منها، ولم يذكر الآخر مع أنه أكثر من النقل منه، بل لم يَعْزُ النقولات إليه، وإنما أوردها على حسب ما فيه معزوة لأصحاب "المسائل" عن أحمد فحسب! وأما الذي صرح باسمه فهو، كتاب: - "التمام" كذا في (1/ 229) وتتمة اسم الكتاب "لما صح في الروايتين والثلاث والأربع عن الإمام، والمختار من الوجهين عن أصحابه العرانين الكرام"، وهو مطبوع. وأما الذي لم يصرح به فهو: - "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" نقل منه نقولات عديدة في (الفائدة الثامنة) من (الفوائد التي تتعلق بالفتوى)، انظر نشرتنا (5/ 55 - 64). * كتب أبي الخطاب الكلوذاني: نقل المصنف من غير كتاب من كتب أبي الخطاب؛ هذا ما وقفت عليه منها: - "الانتصار في المسائل الكبار" (¬1) لأبي الخطاب الكَلْوذاني، نقل منه وصرح باسمه في (3/ 539)، وهنالك نقولات عديدة في الكتاب عن أبي الخطاب غير معزوة لكتاب، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 257، 259 و 3/ 474، 494، و 4/ 173، 543 و 5/ 202)، وبعضها في "الانتصار" هذا ووجدتُ بعضها في: ¬
كتب الحنابلة الأخرى
- "الهداية" له أيضًا، انظر (3/ 474). - "التمهيد في أصول الفقه" نقل منه ولم يسمه، وإنما عزى الثقل لأبي الخطاب وهو في هذا الكتاب في (5/ 202). * كتب الحنابلة الأخرى: نقل المصنف من كتب أخرى كثيرة للحنابلة، هذه هي: - "الإرشاد" للشريف محمد بن أحمد بن أبي موسى، أبي علي الهاشمي القاضي (ت 428 هـ)، وهو من أصحاب القاضي أبي يعلى، وهو متن اعتمد مؤلفه المسائل التي يوجد للإمام فيها رواية أخرى، فما كان فيه روايتان فأكثر، ذكرها (¬1). نقل المصنف منه وصرح باسمه في (2/ 77 و 4/ 511، 535)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في (4/ 328، 331). - "شرح الإرشاد" (¬2) لابن أبي موسى أيضًا، نقل منه المصنف وسمّاه في (5/ 126). - "مختصر الخرقي" (¬3)، نقل منه المصنف وصرح باسمه مرات عديدة، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 341 و 4/ 370، 532). ونقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 76 و 3/ 492 و 4/ 328، 468). - وشرحه: "المغني" لابن قدامة المقدسي، نقل منه وصرح باسمه مرات، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 227، و 2/ 257، 261، و 3/ 345، 468 و 4/ 408، 449، 468، 494، 495، 513، 531، 532)، ونقل منه ولم يصرح في (3/ 341 و 4/ 450). - "الفصول" (¬4) لابن عقيل الحنبلي، نقل منه وسماه في (4/ 436). ¬
- "الفنون" لابن عقيل أيضًا، نقل منه نصًا فيه (مناظرة بين ابن عقيل وبعض الفقهاء) في (5/ 512)، وصرح المصنف في "الطرق الحكمية" (ص 15 - ط العسكري) أنها في كتابه "الفنون". ومن الجدير بالذكر أن المصنف نقل عن ابن عقيل (¬1) كثيرًا، ولم يسمّ إلا "الفصول" له، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 199، 213، و 40/ 172، 173، 201، 543) فلعل هذه النقولات منه. - "عمدة الأدلة" له، نقل منه في (2/ 400) ولم يسمه، وإنما قال: "واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته" وصرح بالمذكور المرداوي في "الإنصاف" (5/ 13). - "المحرر" (¬2) لمجد الدين أبي البركات ابن تيمية، نقل منه المصنف، وصرح باسمه في (4/ 408، 448)، ونقل منه، ولم يصرح به في (4/ 437 و 5/ 506، 507)، واكتفى في هذه المواطن بعزو النقولات لصاحبه. - "الشافي" (¬3) لأبي بكر عبد العزيز غلام خلال (ت 363)، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 426 و 3/ 371 و 4/ 453). - "زاد المسافر" (¬4) لأبي بكر عبد العزيز أيضًا، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 426 و 4/ 453، 455). ¬
ومن الجدير بالذكر أن المصنف نقل عن أبي بكر عبد العزيز، ولم يعز النقل لكتاب، كما تراه في (4/ 447، 513)، فالنقل من أحد هذين الكتابين، والظاهر من عبارات المصنف أنه ينقل منه مباشرة، واللَّه أعلم. - "المستوعِب" (¬1) لنصير الدين محمد بن عبد اللَّه السّامري (ت 616 هـ)، نقل المصنف منه وسماه في (4/ 527). - "الخلع" (¬2) لابن بطة، ذكره وسماه في (5/ 105) وإنما ينقل منه بواسطة القاضي في "العدة" كما بيّنته في التعليق على الموطن المذكور. - "إبطال الحيل" لابن بطة أيضًا، نقل منه في مواطن، ولم يصرح باسمه، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 233 - 234 و 5/ 135، 157). - "مكاتبات ابن بطة إلى البرمكي"، نقل منه وسماه في (1/ 86)، ونقل منه بواسطة "العدة" لأبي يعلى، كما بينته في التعليق على الموطن المذكور. ونقل المصنف عن ابن بطة في مواطن، ولم يسمّ كتابًا له، انظر (1/ 86 و 3/ 467، 499 و 4/ 80، 576، 577) وبعضها -كالموطن الأول- وقع له بواسطة "العدة" للقاضي أبي يعلى. "الرعاية" (¬3) لأبي عبد اللَّه بن حمدان (ت 695 هـ)، نقل منه وصرح باسمه في (4/ 431، 491). ووقع ذكر لابن حمدان في غير هذين الموطنين، ولا سيما في مباحث ¬
كتب فقهية أخرى
(الفتوى)، فهو ينقل من كتاب خاص له في ذلك، كما سيأتي تحت (كتب الفتاوى). - "تعاليق أبي حفص العكبري"، ذكره في (1/ 86)، ونقل منه بواسطة القاضي أبي يعلى كما صرح به المصنف، وتبيّن لي أن النقل من "العدة في أصول الفقه". هذا ما وقفتُ عليه من كتب الإمام أحمد وأصحابه وأهل مذهبه التي نقل عنها المصنف. * كتب فقهية أخرى: تبيَّن لنا من خلال الجولة السابقة أن المصنف متضلع في الفقه، متفنّن فيه، عنده أمات كتب المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة. وكان رحمه اللَّه حريصًا على فقه الأصحاب، ذاكرًا مذاهب علماء الأمصار ومن بعدهم، وأشار إلى جملة من الكتب في هذا الباب، هي: * فتاوى بعض السلف: - "فتيا عبد اللَّه بن عباس" ذكره في (1/ 18)، قال نقلًا عن ابن حزم في رسالته "أصحاب الفتيا من الصحابة": "وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب ابن أمير المؤمنين المأمون "فتيا عبد اللَّه بن عباس"، في عشرين كتابًا"، ولم يتبرهن لي أنه نقل منه، أو رآه، وإنما هو خبر عن كتاب، وكذا ذكره في "الوابل" (ص 100)، و"هداية الحيارى" (ص 122)، وذِكْرُهُ له جُمْلي، يغيب عند ذكر أقوال ابن عباس في المسائل، وهذا يرجِّح ما أومأتُ إليه من عدم وقوف المصنف عليه، واللَّه أعلم، ومثله: - "فتاوى محمد بن شهاب الزهري" ذكره في (1/ 42)، قال نقلًا عن ابن حزم أيضًا: "ومحمد بن شهاب الزهري، وجمع محمد بن نوح "فتاويه" في ثلاثة أسفار ضخمة على أبواب الفقه" (¬1). ولم يَرِدْ ذكرٌ لهذا الكتاب في غير هذا الموطن، ولا في سائر كتب ابن القيم، مما يجعلنا نرجح أنَّ ذِكرَهُ مجردُ خبر نقله عن ابن حزم فحسب، وعده مع الذي قبله (¬2) من (موارد المصنف) فيه نظر لا يخفى. ومن كتب الفقه التي نقل منها المصنف: ¬
كتب ابن المنذر
* كتب ابن المنذر: - "الإشراف على مذاهب أهل العلم" (¬1) لابن المنذر، ولم يصرح باسم الكتاب، وعزى أقوالًا لابن المنذر هي فيه، انظر (4/ 323). - "الإجماع" له أيضًا، كما في (4/ 406)، ولم يصرح باسمه. - "الإقناع" له أيضًا، كما في (1/ 227 و 5/ 140)، ولم يصرح باسمه. * كتب أخرى: - "الخراج" ليحيى بن آدم، نقل (¬2) منه وصرح باسمه في (2/ 374). - "البيوع" لمطين، ذكره وصرح باسمه في (4/ 79، 80)، ونقل منه بواسطة شيخه ابن تيمية في "بيان الدليل" كما بيّنته في التعليق على الموطن المذكور. ومن الكتب التي نقل منها المصنف وأكثر: * كتب ابن حزم: نقل المصنّف كثيرًا عن ابن حزم، واعتمد عليه في ذكر مذاهب بعض فقهاء السلف وعلماء الأمصار، وأورد من بعض كتبه آثارًا سلفية، وتبرهن لي كثرة نقله من: - "المحلى" صرح باسمه في (4/ 501، 521، 525)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 184، 208، 218، 220 - 221، 222، 224، 245، 236 - 237، 238، 239، 367، 368، 375 - 376، 393 - 394، و 2/ 20، 21 - 22، 143، 159، 161، 392، 394، 399، 450 و 3/ 372، 388، 421، 440، 441، 444، 448، 451، 452، 453، 454، 455، 456، 457، 458، 471، و 4/ 123، 125، 227، 433، 521، 522، 537، 542). ومما يلاحظ من هذه النقول الأمور الآتية: أولًا: في كثير من هذه المواطن نقولات عن ابن حزم في "المحلى"، ولم يَعزُها المصنف له ولا لكتابه. ثانيًا: جل هذه النقولات في تحرير مذاهب العلماء، وقد صرح المصنف بذلك لما قال -مثلًا- في (4/ 537): ". . . ثلاثة أقوال للسلف معروفة صرح بها ¬
أبو محمد بن حزم"، وقال في (4/ 542): ". . . وأما من بعد التابعين، فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم. . . ". ثالثًا: في كثير من هذه النقولات أحاديث وآثار، ذكر المصنف طرفًا من سندها، ونقله عن إمام مشهور من أئمة التصنيف من العلماء، كابن أبي شيبة وعبد الرزاق وأبي عبيد القاسم بن سلام (¬1) وسعيد بن منصور وغيرهم، وإنما هو عند ابن حزم بسنده إلى واحد من هؤلاء وغيرهم. رابعًا: ذكر المصنف في بعض هذه المواطن مذهب ابن حزم، واختيار أهل الظاهر، كما تراه -مثلًا- في (3/ 471 و 4/ 227، 525). خامسًا: مدح المصنف ابن حزم، ونعته في (4/ 123): "إمام الظاهرية في وقته"؛ وقال عنه في (4/ 227): "وهو مذهب حافظ الغرب وإمام أهل الظاهر في وقته أبو محمد بن حزم". سادسًا: لا يعني من كل ما سبق أن المصنف كان ينقل عن ابن حزم دون تحر ولا تدقيق، أو أنه كان يقبل كلامه جميعه، بل صرح بالرد عليه في مواطن، منها (1/ 377)، وردَّ على إهماله المعاني، وعدم إعماله القياس حتى الجلي منه، فقال في (2/ 277) بعد كلام: "الآن حَمِي الوطيسُ (¬2)، وحميت أنوف أنصار اللَّه ورسوله لنصرِ دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب الحق أن لا تأخذهم في اللَّه لومةُ لائم، وأن لا يتحيزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا اللَّه ورسوله بكل قولِ حَقٍّ قاله مَنْ قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قالته طائفتهم وفريقهم كائنًا ما كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا ما كان؛ فهذه طريقة أهل العصبية وحميَّة أهل الجاهلية، ولعمرُ اللَّه!! إن صاحب هذه الطريقة لمضمونٌ له الذمُّ إنْ أخطأ، وغير ممدوح إن أصاب، وهذا حالٌ لا يرضى بها من نصحَ نفسه وهُدي لرشده، واللَّه الموفق". - "الإحكام" له أيضًا، ولم يصرح باسمه، وأَكثرَ جدًّا من النقل عنه، وهذا الدليل: - نقل منه أسماء المفتين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في (1/ 18 - 22) قال ¬
ناسخ بعض الأصول الخطية عقبه: "هذا كله كلام ابن حزم" قلت: وهو في "الإحكام" له (5/ 92 - 104) ونحوه في رسالة "الفتيا من الصحابة ومن بعدهم على مراتبهم في كثرة الفتيا" (¬1) (ص 319 - 335). - ونقل منه في (1/ 40 - 48) من صارت إليه الفتوى من التابعين، وهو في "الإحكام" (5/ 95 - 103) ورسالة "الفتيا" (324 - 335) كلاهما لابن حزم. - نقل منه في (1/ 128 - 142) جملة أخبار هي موجودة في "الإحكام" (6/ 53 - 57) بالأسانيد التي عند المصنف. - وكذلك فعل فى (1/ 461 - 465، 467 - 471)، فنقل جملة من الآثار هي في "الإحكام" (8/ 28 - 36)، وبعضها أقوال للأئمة، وكذلك فعل في (2/ 451 - 452) قارن بما في "الإحكام" (6/ 179 - 180). - ونقل في (1/ 479) فقرةً هي في "الإحكام" (8/ 44) في (عدم حجية القياس). ونقل في (2/ 6) مذهب أبي بكر بن الفرج القاضي وأبي بكر الأبهري المالكيين، وكلامهما بالحرف في "الإحكام" (8/ 45)، وتعقَّبهما ابن حزم، ولم ينقل المصنف تعقّبه. ونقل في (2/ 448 - 449) نصًا طويلًا، موجودًا في "الإحكام" (6/ 124). ونقل في (2/ 455 - 457) أخبارًا هي عند ابن عبد البر في "الجامع" وابن حزم في "الإحكام" وقال على إثرها: "قال أبو عمر:. . . " يريد ابن عبد البر، ثم قال: "وقال غير ابن عبد البر:. . . " ونقل كلامًا هو بحروفه في "الإحكام" (6/ 44)، فهذه حيدة متقضدة من المصنف عن ابن حزم. ونقل في (2/ 457، 458، 475، 472) آثارًا هي في "الإحكام" -على الترتيب- (6/ 68، 97 - 98، 120 - 121، 127) وكذلك فعل في (2/ 473، 474) قارن بما في "الإحكام" (6/ 61، 62، 67). وذكر في (2/ 530) مقولة عمر "إني لأستحيي من اللَّه أن أخالف أبا بكر" وقال: "وهذا تقليد له منه، فجوابه من خمسة أوجه" قلت: هذه الأوجه الخمسة في "الإحكام" (6/ 65 - 67)، وذكر في (2/ 530 - 531) أمثلة على مخالفة عمر لأبي بكر هي جميعًا في "الإحكام" (6/ 66). ¬
كتب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام
وذكر في (2/ 534 - 537) أمثلة من مخالفة ابن مسعود لعمر هي جميعًا في "الإحكام" (6/ 61 - 62) وفي (2/ 538): نقل كلامًا بحروفه في "الأحكام" (4/ 214) وقارن ما هنا (2/ 543) بما في "الإحكام" (6/ 83)، وما هنا (2/ 554) بما في "الإحكام" (6/ 82 - 84) أيضًا. وذكر في (3/ 19 - 28) مسائل خفيت على أبي بكر، جلها في "الإحكام" (6/ 85 وما بعد). ونقل في (3/ 243) عبارة هي في "الإحكام" (4/ 206)، وفيه أيضًا (3/ 243 - 244) مثلين، هما في "الإحكام" أيضًا (4/ 206 - 207) وقارن ما هنا (3/ 245 - 246) بما في "الإحكام" (4/ 207 - 208). وذكر المصنف في (3/ 248) أن عمل أهل المدينة نوعان، وهما في "الإحكام" (4/ 209) وزاد المصنف عليهما تفريعًا وتأصيلًا وتقعيدًا، مع الإشارة التي استفاد ابن القيم فيها من ابن حزم. ونقل المصنف من "الإحكام" أيضًا في (5/ 75، 118). هذه النقولات تثبت استفادة المصنف الكثيرة من ابن حزم، ولعله يوجد في الكتاب غيرها، وما ذكرناه فيه غنية وكفاية على الدعوى التي ذكرناها، واللَّه الموفق والمسدد. ونقل المصنف من كتاب آخر لابن حزم، هو: - "مراتب الإجماع" له، نقل منه وصرح باسمه في (4/ 539). ونقل كذلك من كتابه "ملخص إبطال القياس والرأي والاستحسان والتقليد والتعليل" (¬1) ولم يصرح باسمه، وفي كتابنا جل النقولات السلفية التي فيه، واللَّه الموفق. * كتب الإمام أبي عبيد القاسم بن سلام: ومن الكتب الفقهية التي نقل المصنف منها: كتب الإمام أبي عبيد وصرح بأسماء اثنين منها، هما: - "القضاء" لأبي عبيد القاسم بن سلام، نقل منه وسماه في (1/ 115، 239). ونقل منه من دون تسمية في (1/ 116، 158 - 159، 221، 240، 244، 245، 245 - 246، 246). - "الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 240). ¬
كتب الفتوى
- "غريب الحديث" (¬1) لأبي عبيد أيضًا، نقل منه وصرح باسمه في (5/ 117)، ونقل منه دون تسميته في (1/ 218، و 4/ 459، 460). - "الأموال" نقل مذهبه في بعض المسائل هي في هذا الكتاب، ولم يسمه انظر (2/ 318). ونقل المصنف في (3/ 382) تضعيف أبي عبيد لبعض الأحاديث، ونقل في (3/ 474 و 4/ 469، 550) مذهبه في بعض المسائل الفقهية. ولا شك أن المصنف ينقل عن أبي عبيد في كثير من المواطن بالواسطة، ولا سيما من كتابه "القضاء"، وقد اعتمد في النقل عنه على "المحلى" لابن حزم، كما تراه في مواطن من المحالّ المذكورة، واللَّه الهادي والموفق. * كتب الفتوى: نقل المصنف من عدة كتب أُفردت في مباحث (الفتوى)، وصرح بأسماء بعضها، ونقل عن أصحاب بعضها الآخر دون تسمية لها، وهذا ما وقفت عليه منها: - "أدب المفتي والمستفتي" لابن الصلاح. نقل منه ولم يصرح باسمه، واكتفى بعزو الكلام لصاحبه، كما في (5/ 76 - 77، 100، 101، 144، 166). وهناك نصوص (¬2) في هذا الكتاب، لم تقع معزوة له ولا لمؤلفه، انظر (5/ 124، 134 - 135، 140، 141، 143، 146، 147). واعتماد المصنف على هذا الكتاب أصيل ومهم، وأرى أن تسمية المصنف لكتابنا مأخوذة منه، وكثير من تقسيمات المصنف وتفريعاته في مباحث (الفتوى) منه (¬3). - "تعظيم الفتيا" (¬4) لابن الجوزي. ¬
لم يصرح المصنف باسم هذا الكتاب، واكتفى بعزو بعض النقولات لمؤلفه أبي الفرج بن الجوزي، كما تراه في (5/ 131، 132، 133، 134). - "صفة الفتوى والمستفتي" (¬1) لأبي عبد اللَّه بن حمدان الحنبلي، نقل منه وسماه في (5/ 147) وتعقّبه في هذا الموطن، وهنالك نقولات أخرى منه في (5/ 118، 124، 144، 166). - "رسالة أصحاب الفتيا من الصحابة ومن بعدهم على مراتبهم في كثرة الفتيا" لابن حزم، نقل منها المصنف نقولات طويلة (1/ 18 وما بعد) وهي تشترك مع ما في "الإحكام" لابن حزم أيضًا، وقد بيّنّا ذلك عند الكلام على (كتب ابن حزم). وأشار المصنف في كثير من المواطن إلى (فتاوى شيخه ابن تيمية)، وسيأتي توضيح ذلك تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية) وكذلك إلى بعض فتاويه، فقال في (4/ 512) في مسألة (الرجل يمرُّ على المكاس برقيق له، فيطالبه بمكسهم، فيقول: هم أحرار، ليتخلص من ظلمه، ولا غرض له في عتقهم) قال: "لا يُعتقون" ثم قال: "وبهذا أفتينا نحن تجارَ اليمن لما قدموا منها، ومروا على المكاسين، فقالوا لهم ذلك". ومن الجدير بالذكر أن كثيرًا من النقولات والآثار في مبحث (الفتوى) نقله المصنف من: - "المسائل التي حلف عليها الإمام أحمد" لأبي الحسين بن القاضي أبي يعلى، وسبق بيان ذلك. - "جامع بيان العلم" لابن عبد البر، وقد سبق بيان ذلك. - "المحلى" لابن حزم. - "الإحكام" لابن حزم أيضًا، وسبق بيان ذلك أيضًا. - "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي. نقل منه المصنف وسماه في (1/ 87 و 4/ 450)، ونقل منه ولم يصرح باسمه في مواطن كثيرة، منها (1/ 83 - 84، 88، 351، 355، 465، 466، 470، 471، 472، 473، 474، و 5/ 134). ونقل كذلك كثيرًا في هذه المباحث من كتب (أصول الفقه)، ونخصها ¬
كتب أصول الفقه
بالكلام الآتي على وجه فيه إيجاز واختصار، واللَّه الموفق. * كتب أصول الفقه: سبق أن قررنا نقل المصنف من جملة من كتب الأصول المهمة، مثل: "الرسالة"، و"إبطال الاستحسان" كلاهما (¬1) للشافعي، و"العدة في أصول الفقه" للقاضي أبي يعلى (¬2)، "التمهيد في أصول الفقه" لأبي الخطاب الكلوذاني (¬3)، و"الإحكام" لابن حزم (¬4)، ولعله ينقل من "الواضح في أصول الفقه" لابن عقيل (¬5). وهنالك كتب أصولية غير مذكورة بعناوينها ينقل منها المصنّف، ولم يسمِّها تبرهن لي ذلك من خلال عرض النقولات التي عنده عليها، من مثل: - "الفصول في الأصول" لأحمد بن علي الرازي الجصاص (ت 370 هـ). نقل المصنف نصًا طويلًا في (2/ 279 - 280) هو فيه (4/ 86 - ط النشمي) بحروفه، واستفدتُ في (مواطن) منه لـ (تقويم النص)، ونقل نصًا طويلًا أيضًا (3/ 93 - 94) هو في "الفصول" أيضًا (2/ 315 وما بعد). - "الحاصل من المحصول" (¬6) لأبي عبد اللَّه الأرموي (ت 656 هـ). نقل المصنف مسألة عزاها للمؤلِّف، وعرف به، فقال في (3/ 471): "أفتى بها تاج الدين أبو عبد اللَّه صاحب "الحاصل"". والمسألة التي نقلها منه هي (الحلف بالأيمان اللازمة) لاغية، لا يلزم فيها شيء. ولا تدل عبارة المصنف أنه نقل من "الحاصل"، وإنما نقل مذهب صاحبه في مسألة، وينقل المصنف عنه بالواسطة كما صرح به ابن القيم (¬7)، ولم يرد لـ"الحاصل" ذكر في كتب ابن القيم في غير هذا الموطن (¬8)، و"الحاصل"، المذكور ¬
كتب الحيل
عند المصنف غير "التحصيل من المحصول" المطبوع لسراج الدين أبي الثناء الأرموي، ذلك أن صاحب "التحصيل" كنيته (أبو الثناء) بينما كناه المصنف (أبو عبد اللَّه)، ولقب الأول في كتب التراجم (سراج الدين) بينما لقب صاحب "التحصيل" (تاج الدين) وفرق بينهما جمع، منهم شيخ شيوخنا العلامة محمد راغب الطباخ في كتابه الماتع "الثقافة الإسلامية" (¬1) (ص 246 - ط الأولى سنة 1369 هـ). - "المحصول" (¬2) لابن الخطيب الرازي، نقل مسألة أصولية منه في (2/ 278). - "المعتمد" لأبي الحسين البصري، نقل مسألة أصولية منه في (2/ 278 - 279). - "الإحكام في أصول الأحكام" (¬3) للآمدي، نقل مسألة أصولية منه في (2/ 279). - "الكشف عن مناهج الأدلة" لأبي الوليد بن رشد، نقل منه وسماه في (5/ 189 - 190، 191). * كتب الحيل: سبق مما مضى أن ابن القيم نقل من أكثر من كتاب من كتب الحيل، لصلتها الوثيقة بكثير من مباحث الكتاب، وهذه هي الكتب التي نقل منها بهذا الخصوص: - "المخارج في الحيل" المنسوب (¬4) لمحمد بن الحسن، سبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنفية). - "الحيل" للخصاف، وسبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنفية). - "إبطال الحيل" للقاضي أبي يعلى، سبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنابلة). - "إبطال الحيل" لابن بطة، سبق الكلام عليه تحت عنوان (كتب الحنابلة). ¬
كتب التفسير
"بيان الدليل في بطلان التحليل" لابن تيمية، وأكثر جدًّا من النقل منه، كما سيأتي بيانُه تحت عنوان (بين المصنف وشيخه ابن تيمية). * كتب التفسير: نقل المصنف من جملة من كتب التفسير، ولم يسمّ أغلبها، وتبرهن لي ذلك نقله منها، وهذا التفصيل: - "تفسير ابن جرير الطبري" (¬1) نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 286) وهنالك كتب تفسير لبعض السلف، عزاها المصنف لأصحابها، ولم يصرح بنقله من كتاب، ولم يعزها لمخرج، وهي عند ابن جرير، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 290، 291، 293، 299، 301، 304، 305، 317). - "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 291، 292). - "تفسير سُنيد بن داود" نقل منه وصرح به في (2/ 22 و 3/ 444 و 4/ 523، 542) ونعته في الموطن الأخير بقوله: "المشهور"، ونقل منه بالواسطة ولم يصرح باسمه في (1/ 105، 106، 111، 138 - 139، 156). - "مجاز القرآن" (¬2) لأبي عبيدة معمر بن المثنى، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 293 - 294). - "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج، ذكر مقولة عزاها للزجاج في (1/ 265، 294) وهي في هذا الكتاب على وجه مقارب، ثم تبيّن لي أن النقل منه بواسطة: - "زاد المسير" لابن الجوزي، لم يصرح باسمه ولا اسم مصنفه، وهنالك نقولات فيه، مثل (1/ 294، 361 - 362). ¬
كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ
- "صحيفة علي بن أبي طلحة" ذكره وسماه في (1/ 299): "تفسير علي بن أبي طلحة"، ونقل منه في (1/ 94، 240). ونقل المصنف من هذه الصحيفة بواسطة التفاسير المسندة، مثل "تفسير ابن جرير"، إذ جميع المواطن المذكورة آنفًا هي عند ابن جرير، ولم يعزها له المصنف. - "تفسير يحيى بن سلام" نقل منه ولم يسمه في (1/ 322). - "تفسير عبد الرزاق" نقل منه وصرح باسمه في (1/ 253). - "الكشاف" للزمخشري، نقل منه، وسماه في (1/ 314) ورد على قول استشكله وذكر ثلاثة أجوبة، ونقل منه دون تسمية في (1/ 296) وبيَّن ما في كلامه من مخالفة عقدية، فقال بعد كلام: "فهذا منه شنشنة نعرفها من قَدَرِيّ نافٍ للمشيئة العامة، مُبْعدًا للنجعة، في جعل كلام اللَّه معتزليًا قدريًا. . . ". ومن الكتب التي نقل عنها المصنف، ولها تعلق بمادة التفسير: - كتاب "الناسخ والمنسوخ" لأبي جعفر النحاس، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 299). * كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ: نقل المصنف من مصادر عديدة في اللغة والأدب والتاريخ، وصرح بأسماء القليل منها، ووقفتُ على كتب أخرى، ووقع عزو النصوص لصاحبها دون التصريح باسمها، وهنالك نقولات في كتابنا تذكر عادة في كتب الأدب لم أستطع الوقوف على مصدر المؤلف فيها (¬1)، وهذا تفصيل ما وقع التصريح به، والوقوف عليه: - "الصحاح" للجوهري، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 265، 266، 397 و 5/ 234). - "غريب الحديث" لأبي عبيد، صرح باسمه في معرض بيان للإمام أحمد عنه في (5/ 117)، ونقل منه دون تصريح باسمه في (1/ 218 و 4/ 459، 460). - "غريب الحديث" لابن قتيبة، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 472). - "الكتاب" لسيبويه، نقل منه ولم يصرح باسمه في (1/ 314). - "التاريخ والمعرفة" (¬2) لأبي يوسف يعقوب بن سفيان الفسوي، نقل منه رسالة ¬
كتب التوحيد والعقائد
الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، وصرح باسمه في (3/ 477)، وقال عنه (¬1): "كتاب جليل غزير العلم، جم الفوائد". - "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" لم يصرح المصنف باسمه، ونقل أخبارًا هي فيه (1/ 242، 471 و 2/ 458)، وهي منقولة بواسطة "الإحكام" لابن حزم. - "التاريخ الأوسط". - "التاريخ الكبير" كلاهما للبخاري، نقل المصنف منهما، وسيأتي ذكره أيضًا عند الكلام على (موارد المصنف الحديثية)، وعلى الكلام على الرواة خاصة. ونقل بعض الأخبار من كتب في التاريخ، ولم يفصح عنها، فقال مثلًا في (1/ 168): "وقد رأيتُ في بعض التواريخ القديمة. . . " وذكر خبرًا. ومن الكتب التي لها تعلق بالأدب، ونقل منها المصنف: - "أمثال الحديث" للرامهرمزي، لم يسمه، وصرح في مواطن بعزو الكلام لمؤلفه، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 409، 411، 415، 416، 417، 418، 422، 423). * كتب التوحيد والعقائد: لا يخلو كتابنا من لفتات قوية في التوحيد (¬2)، على الرغم من أن الكتاب لم يصنّف في هذا الفنّ، وقد نقل المصنِّف استطرادًا بعض النقولات من كتب التوحيد، مثل: - "الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد، وقد صرح باسمه، ونقل منه، كما سبق بيانه تحت (كتب الإمام أحمد والحنابلة). - "الرسالة النظامية في الأركان الإسلامية" (¬3) لأبي المعالي الجويني، صرح باسمها ونقل منها نصًا طويلًا في (5/ 181 - 183). - "التفرقة" لأبي حامد الغزالي، نقل منه المصنف وصرح باسمه في (5/ 183، 183 - 184، 184). ¬
موارد المصنف الحديثية
* موارد المصنف الحديثية: نقل المصنّف في كتابه هذا كثيرًا من أحاديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وآثار السلف، بل كانت هذه النصوص هي عمدته في الكتاب، واعتمد في نقلها على كثير من دواوين السنة، وبعضها نقل منه بالواسطة، ونستطيع أن نجمل موارد المصنف الحديثية في كتابه هذا تحت هذه المحاور: * الصحف والنسخ الحديثية (ووقعت له هذه بالواسطة غالبًا). * دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم). * كتب أحاديث الأحكام وشروحها. * كتب العلل. * كتب مسندة تعتني بآثار السلف. * كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل. وهذه كلمة مفصّلة عن كل محور من هذه المحاور، وباللَّه التوفيق: * الصحف والنسخ الحديثية: أفردتُها لعلوّ إسنادها، وأهميتها، والنقل منها إنما يكون بواسطة ما سيأتي تحت المحاور الأخرى، والأمثلة عليها في كتابنا هي: - "صحيفة علي بن أبي طلحة" مضى الكلام عنها تحت (كتب التفسير). - "صحيفة سليمان اليشكري": نقل منها في (2/ 385) بواسطة الترمذي، فنقل عن البخاري قوله: "يحدث قتادة عن "صحيفة سليمان اليشكري" وكان له كتاب عن جابر بن عبد اللَّه". قال المصنف عقبها: "قلت: وغاية هذا أن يكون كتابًا، والأخذ من الكتب حجة". - "صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده": نقل منها في (1/ 184) حديثًا بالواسطة، وقال: "وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بـ"صحيفة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده"، ولا يعرف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها، واحتج بها. . . ". - "كتاب الحسن البصري عن سمرة بن جندب": نقل منه حديثًا في (2/ 380) بواسطة أبي داود والنسائي والترمذي في
"سننهم" وقال: "وقد صح سماع الحسن من سمرة، وغاية هذا أنه كتاب، ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديمًا وحديثًا، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب". - "كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري": نقله بتمامه واعتنى بشرحه (¬1) فقرة فقرة، وأطال النّفَس جدًّا بذلك، وصرح باسمه في (1/ 117) فقال: "وفي "كتاب عمر إلى أبي موسى": اعرف الأشباه. . . " وذكره (¬2) في (1/ 158 - 159) بتمامه، وقال عنه في (1/ 163): "وهذا كتاب جليل، تلقّاه العلماءُ بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله". - "كتاب عمر بن الخطاب إلى شُريح": ذكره ونقل منه بالواسطة في (1/ 115، 156، و 2/ 479، 557). - "كتاب آل عمرو بن حزم": ذكره ونقل منه بالواسطة في (2/ 332 و 3/ 21 و 5/ 553). - "مسائل عبد اللَّه بن سلام" للجويباري الكذّاب. والصحيح أن هذه المسائل واردة في حديث في "صحيح البخاري" (3329)، وهي ثلاثة فحسب، وقد ولَّدها بعض الكذابين فجعلها كتابًا مستقلًا. أورد المصنف في (5/ 218 - 219) مسألة من المسائل الواردة في الحديث، ثم قال: "وهذه إحدى مسائل عبد اللَّه بن سلام الثلاث، والمسألة الثانية. . . والثالثة. . . " ثم قال: "فولدها الكاذبون، وجعلوها كتابًا مستقلًا، سموه "مسائل عبد اللَّه بن سلام"، وهي هذه الثلاثة في "صحيح البخاري"". قلت: أشار إلى صحيفة "مسائل ابن سلام" من توليد أحمد بن عبد اللَّه الجويباري الكذاب، وللإمام البيهقي جزء مفرد في بيان ذلك، حققتُه عن أصلين خطيين، وهو مطبوع في (المجموعة الثانية) من "مجموعة أجزاء حديثية"، والحمد للَّه الذي بنعمته تتم الصالحات. ¬
دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم)
* دواوين السنة المشهورة (الصحاح، السنن، المسانيد والمعاجم): جل مادة المصنف الحديثية من دواوين السنة المشهورة، فهو لم يخرج عنها إلا في النادر، ونجمل الكلام عن هذه الدواوين، فنقول: - الصحاح وشروح "الصحيحين" ومستدركاتهما: أكثر المصنف من النقل من "الصحيحين" أو أحدهما، أعني: "صحيحي البخاري ومسلم"، فذكر مثلًا: - "الصحيحين" هكذا (¬1) في جملة مواضع، منها: (1/ 96، 228، 229، 306، 406، 408، 411، و 2/ 58، 87، 108، 247، 310، 332، 398، و 3/ 5، 6، 37، 181، 188، 196، 198، 205، 206، 209، 211، 213، 220، 225، 273، 280، 284، 301، 326، 329، 464، 465، 458، و 5/ 131، 156، 162، 242، 338، 436، 437، 543، 576، 578). وفي الكتاب أحاديث كثيرة جدًّا في "الصحيحين" معزوة لهما (¬2)، وقد لا تعزى في بعض الأحايين، ولعلها عزيت لأحدهما وهي فيهما (¬3) في أحايين أخر، انظر -على سبيل المثال-: (5/ 398، 400، 402، 420، 421، 422، 428، 443، 445، 461، 463، 465، 470، 473، 476، 477، 478، 481، 483، 484، 486، 487، 488، 492، 494، 495، 496، 497، 501، 503، 504، 525، 527، 531، 534، 546، 549، 550، 552، 559، 563، 566، 567، 576، 590، 591، 592، 594، 595، 597، 599، 601). - "صحيح البخاري" عزى المصنف له أحاديث، وسمى كتابه في مواطن منها (1/ 95، 398، 421، 426، 458، و 2/ 77، 87، 110، 158، 181، 268، 379، 387، 533، 571، و 3/ 44، 173، 202، 207، 210، 246، 286، 315، 431، 434، 504 و 4/ 88، 114، 261، 375، 394، 451، 578 و 5/ 45، 196، 219). ¬
وفي الكتاب أحاديث كثيرة جدًّا معزوة للبخاري دون التصريح باسم كتابه وغير معزوة، انظر منها -على سبيل المثال-: (2/ 158، 379، 387 و 3/ 249 و 4/ 405، 451 - 453 و 5/ 45، 196 - 197، 433، 464، 471، 474، 503، 525، 529، 535، 556، 558، 561، 598). ومن الجدير بالذكر هنا أمور: أولًا: إن المصنف نقل عن غير "الصحيح" للبخاري، فعزا آثارًا وأقوالًا هي عنده في "التاريخ الكبير" و"التاريخ الأوسط" (¬1) وغيرهما. ثانيًا: إن بعض هذه النقول كانت بالواسطة. ثالثًا: إن للمصنف عناية فائقة بمذهب البخاري ومنهجه فى "صحيحه"، وهذا الدليل: 1 - قال في (3/ 249) بعد كلام عن الأحاديث المدنية: "هي أُمّ الأحاديث النبويّة، وهي أشرف أحاديث أهل الأمصار، ومن تأمَّل (أبواب البخاري)، وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يُتْبِعها بأحاديث أهل الأمصار، وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وابن شهاب عن سالم عن أبيه، وابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وابن شهاب عن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس، ومالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة بن زيد، والزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب، وأمثال ذلك". 2 - قال في (4/ 405) عن مسألة رجحها: "وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدلُّ على اختياره هذا المذهب. . . " ثم ذكر ما في "صحيحه" وقال: "فتأمل هذا الاستدلال". 3 - وقال في (4/ 451 - 453) وأورد الترجمة من "صحيح البخاري" وما تحتها من معلقات على وجه الاحتجاج والرضى والقبول، وقال: "هذا لفظ الترجمة" ثم ساق بقية الباب. ¬
4 - وذكر في (5/ 45) تبويبًا للبخاري على وجه الاحتجاج بالذي تحته من حديث. 5 - وكذلك فعل في (5/ 196 - 197). رابعًا: نقل المصنف مذاهب بعض السلف من "صحيح البخاري" ولم يعزها له، كما في (2/ 168 - 169). خامسًا: المدقِّق في النقولات عن "الصحيح" يعلم يقينًا أنَّ المصنِّف متمكِّنٌ جدًّا من هذا الكتاب، عارفٌ به وبمباحثه وبمنهجه. سادسًا: نقل المصنّف من بعض شروحات هذا الصحيح، ولم يصرح باسم أيٍّ منها (¬1)، إلا أني وجدته ينقل في (3/ 523) من "أعلام الحديث" للخطابي، ولكن بواسطة شيخه ابن تيمية في "بيان الدليل". - "صحيح مسلم"، نقل منه كثيرًا جدًّا، وصرح باسمه في (1/ 183، 307، 460، و 2/ 108، 109، 280، 281، 286، 306، 387 و 3/ 41، 181، 183، 188، 199، 207، 220، 224، 225، 236، 295، 296، 297، 309، 377، 420، 464 و 4/ 575 و 5/ 5، 9، 72، 155، 214، 478، 527، 581). ونقل منه مرات عديدة جدًّا واكتفى بعزو الحديث لمسلم (¬2)، وأعل بعض ألفاظ وقعت فيه، كما في (5/ 558)، وأزال إشكالات عن بعض ألفاظ هي فيه أيضًا، كما في (5/ 499) ولم يكتفِ المصنف بالنقل عن "الصحيحين" أو أحدهما، وإنما تعدى إلى: - "صحيح ابن خزيمة"، نقل منه وسماه في (3/ 185، 186). - "صحيح ابن حبان"، نقل منه وسماه في (1/ 310 و 3/ 185، 196، 221، و 5/ 233، 377). ونقل منه في مواطن، وعزى الحديث له دون التصريح باسم "صحيحه"، في ¬
(2/ 237، 305، 309، 418 و 5/ 379، 380، 382، 383، 384، 385، 389، 444). ونقل المصنف من "سنن الدارمي" (¬1) وسماه في (2/ 158): "صحيح الدارمي" وكذلك من "مستدرك الحاكم" وسماه في (5/ 572، 574): "صحيح الحاكم"، وفي هذا تساهل كما هو مقرر عند علماء المصطلح. والنقل من "المستدرك" كثير، فنقل منه وسماه في (1/ 230 و 3/ 221، 378، 417، 420، و 5/ 31، 287، 572، 574). بينما نقل عن صاحبه دون تسمية الكتاب في مواطن أُخرى، منها: (2/ 366، 572، 574، و 3/ 46، 140، 171، 204، 214، 275، 297، 300، 524). ومن الجدير بالذكر أن النقولات ليست كلها أحاديث نبويّة، بل بعضها آثار سلفية، وبعضها أمور تقعيدية في (علم المصطلح) وغيره، فقال مثلًا في (5/ 31) في معرض كلام عن حجية قول الصحابي في (التفسير): "قال أبو عبد اللَّه الحاكم في "مستدركه": وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع". وهذا يدلل على دقة اطلاع المصنف على خفايا هذا الكتاب ومسائله، ودقائقه فضلًا عن نصوصه. ومن الجدير بالذكر أن المصنف كان يقول تارة بعد كلام: "وهي موجودة في "الصحاح""، هكذا بالتعميم دون تخصيص، وكان يقول في أحايين أخرى: "وفي "الصحيح": .. " هكذا أيضًا دون تعيين، كما تراه في (1/ 9، 179، 229، 277، 424، و 2/ 74، 375، 517 و 3/ 197، 295، 377، 451، و 4/ 120، 574، و 5/ 15، 16، 17، 46، 303، 322، 335، 430، 508). وهذه النصوص في "الصحيحين" أو أحدهما. وفي الكتاب نصوص معزوة لغير "الصحيحين" وهي فيهما أو في أحدهما، وبعضها معزو لـ"الصحيحين" وهي في أحدهما فقط، وبعضها معزو لأحدهما وهي فيهما، وسيأتي التمثيل على ذلك تحت عنوان (ملاحظاتي على مادة المصنّف الحديثيّة). ¬
السنن
* السنن: اعتمد المصنف في كتابه هذا على "السنن" كثيرًا، وأجمل في العزو إليها تارة، وفصّل أخرى، فذكرها هكذا "السنن" في مواطن، هي: (1/ 68 و 2/ 111، 229، 298، و 3/ 83، 185، 228، 286، 295، 329، 365، 537، و 4/ 87، 374، 413، 463، و 5/ 243، 411، 412، 415، 423، 424، 427، 434، 435، 436، 444، 452، 473، 478، 510، 552، 555، 581، 583). وذكرها بقوله في (1/ 71 و 2/ 382): "وفي "السنن الأربعة". . . "، "وروى أهل "السنن الأربعة". . . ". وأما المواطن التي فصَّل فيها، فهى كثيرة، ومدار الأحاديث عليها، وهذه هي عناوين "السنن" التي صرح بها: - "سنن أبي داود"، نقل منه وسماه في (1/ 69، 72، 181، و 2/ 71، 77، 78، 109، 110، 262، 263، 298، 316، 330، 380، 387 و 3/ 173، 204، 213، 215، 277، 378، 382، 414، و 4/ 455 و 5/ 480). وأما المواطن لم يصرح باسم "السنن"، واكتفى بعزو الحديث لصاحبها فكثيرة جدًّا، تطلب من فهرس الأعلام (¬1) في المجلد الأخير الخاص بالفهارس، واللَّه الموفق. ومن الجدير بالذكر هنا الأمور الآتية: أولًا: احتج المصنف ببعض تبويباته، فقال في (1/ 186) مثلًا: "ولهذا كان من تراجم بعض الأئمة على حديثه: (الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عُرِف صدقه) " قلت: وهذا في "سنن أبي داود" في (كتاب الأقضية) (3/ 308). ثانيًا: ذكر في بعض المواطن الحديث بسند أبي داود، وذكر كلامه في الاختلاف عليه، انظر مثلًا (2/ 316 - 317 و 3/ 192، 302). ثالثًا: حكم على أسانيد أبي داود بالصحة تارة، كما في (2/ 387) ويصححها بشواهدها تارة كما في (2/ 262 - 264، 299 و 4/ 84 - 85) ويحسنها تارة كما في (4/ 78) ويضعّفها تارة كما في (3/ 193). ¬
رابعًا: كان في بعض الأحايين يعزو الحديث و"السنن" ويورد لفظ أبي داود، كما في (4/ 463) مثلًا، ويصحح ألفاظه في بعض المواطن، كما في (2/ 77) ويعتني بها كما في (3/ 275 - 276 و 5/ 284، 318). خامسًا: نقل عنه تفسير بعض غريب الحديث، كما في (4/ 455). سادسًا: هنالك أحاديث معزوة لـ"السنن" هذه، وهي ليست في مطبوعها وبعضها فيه، ولكنها عند البخاري أو مسلم، كما سيأتي التنبيه عليه قريبًا تحت عنوان (ملاحظاتي على مادة المصنف الحديثية). - "جامع الترمذي"، نقل منه المصنف في مواطن وأكثر، وهذه التي صرح باسم الكتاب فيها (2/ 182، 365، و 3/ 200، 412، 416، و 4/ 463). وهنالك نقولات عديدة جدًّا، عزاها المصنف للترمذي ولم يسمّ كتابه، تراها في الكشف عن (الترمذي) في (فهرس الأعلام) من (المجلد الأخير) الخاص بالفهارس، واللَّه الهادي للصالحات. ومن الجدير بالذكر أمور: أولًا: اعتمد عليه في الحكم على بعقر الأحاديث، وأحال أحيانًا على كلامه أو على نقله عن شيخه البخاري أو على كليهما، كما تراه في (2/ 181 - 182، 299، 365 - 366، 379 - 380، و 3/ 174 - 175، 413، و 5/ 5، 9 - 10، 243، 324، 432، 436، 444، 454، 474، 492، 495، 499، 553، 562، 586، 587، 595، 597). ثانيًا: اعتمدنا على "جامع الترمذي" في إثبات نقص وقع في جميع النسخ المطبوعة من كتابنا هذا، كما تراه -مثلًا- في (2/ 365). ثالثًا: تكلم على أسانيد بعض الأحاديث التي نقلها من هذا الكتاب، وذكر الاختلاف فيها على الرواة، ونقدها، كما تراه في (2/ 374 - 375)، وحكم عليها بالتصحيح، كما في (2/ 379 و 4/ 463 - 464 و 5/ 537 - 538)، وبالتحسين كما في (5/ 374، 496)، وبالتضعيف كما في (3/ 174، 416 و 5/ 358). رابعًا: قرن في كثير من الأحاديث عزو الحديث لأحمد مع الترمذي، كما تراه في (1/ 120، 232، 407 و 2/ 451 و 3/ 414، و 5/ 432، 448، 553)، بل قرن حكمهما على إسناد، فإنهما يصححان مثله، انظر (5/ 460).
خامسًا: شرح المصنف غريب بعض الأحاديث التي عزاها للترمذي، انظر -على سبيل المثال-: (5/ 454 - 455). سادسًا: عزى المصنف بعض الأحاديث للترمذي، وهي في "جامعه" بلفظ آخر، انظر مثلًا: (2/ 365 و 5/ 389). سابعًا: وأخيرًا: إن تسمية المصنف لكتاب الترمذي "الجامع" هو أدق من تسميته بـ "السنن" إذ مادته أوسع من الأحكام الفقهية. - "سنن النسائي"، نقل المصنف من "السنن الصغرى" المسمى بـ "المجتبى" و"السنن الكبرى" كلاهما للنسائي، واكتفى بقوله "في "سنن النسائي"" أو "ذكره النسائي في "سننه"" ونحو ذلك، كما تراه في (2/ 71، 384 و 9/ 203، 347، 349، 412، 413). أما مجرد عزو الحديث للنسائى فقط دون ذكر اسمه: "سننه" فهذا كثير، يطلب من مجلد الفهارس (¬1). وبعض نقولات المصنف في "سننه الكبرى" كما تراه في (3/ 347 و 4/ 314). وحكم المصنف على أحاديث النسائي، وصرح بصحتها: فقال مثلًا في (2/ 379): "صحيح"، وفي (2/ 384): "على شرط مسلم"، وفي (3/ 347 - 348): "ليس فيه بحمد اللَّه إشكال"، وتعقّب حكمه في (2/ 264). وقال في (2/ 347): "رُوِّينا (¬2) في "سنن النسائي". . . ". ونقل في (1/ 188) على إثر حديث، قال: "ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث. . . " وأورد ترجمة النسائي عليه، ثم قال (1/ 189): "ثم ترجم عليه ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه" وذكر ترجمة أخرى له، وقال: "فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقولُ والفطر بها منها ولعمر اللَّه! إن هذا هو العلم النافع، لا خرص الآراء، وتخمين الظنون". ¬
وذكر أيضًا في (3/ 350) ترجمة للنسائي على حديث، وصرح بأنها له، وهي في "سننه الكبرى" (4/ 314). ومن الجدير بالذكر أنه عزى بعض الأحاديث للنسائي وهو في "صحيح مسلم"، كما تراه في (3/ 349 - 350) وكذلك فعل في حديث آخر وهو في البخاري، كما تراه في (5/ 311) وساق لفظ النسائي في (5/ 492) وعزاه لأبي داود، وعزى حديثًا للنسائي لم أجده فيه! كما في (5/ 594). - "سنن ابن ماجه"، نقل منه وصرح باسمه في (2/ 71، 301، 379، 381، 384، و 3/ 414، 416، 420، 528 و 4/ 87، 458، و 5/ 155). وفي الكتاب نقولات عديدة منه، اكتفى المصنف بعزوها لصاحبها، تطلب من المجلد الخاص بالفهارس (¬1). ولم تسلم بعض الأحاديث فيه من نقدات المصنف، فقد حكم بنكارة بعض الألفاظ، على الرغم من إيراد ابن ماجه لها بإسناد مشهور، كما تراه في (2/ 301 - 302)، وتردد في تضعيف بعضها كما في (3/ 420) ويورد شواهد لبعضها، كما في (3/ 528 - 529). وصحح أسانيد بعض الأحاديث فيه، كما تراه في (2/ 379، 381 - 382)، وحسّن بعضها كما في (4/ 87)، وقال عن بعضها كما في (2/ 384): "رجال هذا الإسناد محتج بهم في "الصحيح"" ورَدَّ تضعيف بعض العلماء لبعض الأحاديث فيه، انظر -مثلًا-: (3/ 416 - 419). وهنالك أحاديث في هذه "السنن" لم يعزها المصنف لها وعزاها لمصدر أبعد، كالبيهقي مثلًا، كما في (3/ 276)، ورأيت في نسخ كتابنا الخطية ومطبوعاته أحاديث معزوة لابن ماجه، وهي ليست في مطبوع "سننه" كما في (2/ 381 - 382). - "سنن الدَّارمي"، نقل منه المصنف وسماه في (2/ 158): "صحيح الدارمي" (¬2). - "سنن سعيد بن منصور"، نقل منه المصنف وسماه في (3/ 341، 405، 406، 421، و 4/ 88، 89)، ونقل عن صاحبه دون التصريح باسم كتابه في (1/ 106، 468 و 2/ 256، 388، و 3/ 291 - 292، 372، 395) ولا يبعد عندي ¬
أن بعض هذه المواطن منقولة بالواسطة، من خلال ابن عبد البر وابن حزم، كما هو موضح في التعليق على المواطن المذكورة. - "سنن الدارقطني" (¬1)، نقل منه المصنف وسماه في مواطن، هي (2/ 316، 317، و 3/ 199، 223، 419، 429، و 5/ 284). وأما النقل عن الدارقطني دون التصريح باسم "سننه"، فكثير جدًّا ينظر في (فهرس الأعلام) من المجلد الخاص بالفهرسة، واللَّه الموفق. وأعلّ المصنف بعض أحاديثه، كما في (2/ 316 - 317) ورجّح الوقف على الرفع، وضعّف بعضها كما في (3/ 140 - 143 و 5/ 308) واعتمد في بعض ذلك على قول الدارقطني عليها، وزاد تفصيلًا على قوله، كما تراه (3/ 140، 175، 192، 193، 223، 237، 284، 299)، واعتمد عليه في توهيم بعض الحفاظ في بعض الألفاظ، انظر (3/ 274). وينبغي هنا ذكر الأمور الآتية: أولًا: نقل المصنف من "سنن الدارقطني" في بعض الأحايين بالواسطة (¬2)، فنقل مثلًا في (3/ 234): "حديث عطاء بن أبي ميمونة عن أبيه عن الحسن عن سمرة: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلم مرة واحدة. . . " قال: "رواه الدارقطني" وهكذا وقع في "الأحكام الوسطى" (2/ 217) لعبد الحق الإشبيلي بإسقاط (روح بن) قبل (عطاء بن أبي ميمونة) كما هو في "سنن الدارقطني" (¬3) (1/ 358 - 359) أو رقم (1338 - بتحقيقي)، فتابع المصنِّفُ عبدَ الحق في هذا الإسقاط، وتعقب عبدَ الحق ابنُ القطان في "بيان الوهم والإيهام" (2/ 22). ثانيًا: حكم المصنف على بعض أسانيده بالصحة، كما في (5/ 310) أو ¬
المسانيد والمعاجم
الحسن كما في (5/ 312)، ونقل ذلك عنه، قال في (5/ 325) على إثر حديث: "قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات". ثالثًا: لم يكن دقيقًا في بعض هذه الأحكام، كما تراه في التعليق على (5/ 312). - "سنن البيهقي"، مضى الكلام عليه في أول الكلام على موارد المصنف، تحت (كتب البيهقي). - "سنن الأثرم" (¬1)، نقل منه أثرًا طويلًا، وصرح باسمه في (3/ 436) وفي الكتاب نقولات عديدة عن الأثرم، هي في "مسائله للإمام أحمد" كما سبق توضيحه. * المسانيد والمعاجم: صرح المصنف بالنقل من عدة (مسانيد) (¬2) في كتابه هذا، وكان أكثرها وأشهرها على الإطلاق: - "مسند الإمام أحمد بن حنبل"، نقل عنه وأكثر جدًّا، ولعله لم تقع له كثرة نقل من كتاب كما وقع له منه، وجلُّ هذه النقولات معزوة لأحمد (¬3)، دون تصريح باسم "المسند". وهذه المواطن التي صرح فيها باسم "المسند" (1/ 232، 280، 302، 308، 407، 410، 414، 420، 422، و 2/ 307، 451، و 3/ 75، 185، 186، 209، 214، 216، 228، 297، 329، 378، 382، 412، 413، 414، 415، 527، 528، و 4/ 38، 77، 85، 374، 413، 498، 581، و 5/ 9، 231، 243، 246، 279، 286، 452). ومن الجدير بالذكر هنا أمور، هي: أولًا: إعجاب المصنف الشديد بالإمام أحمد، فقد ذكر ذلك في مناسبات عديدة وألفاظ قوية، فقال -مثلًا- في (1/ 49) عنه: "إمام أهل السنة على ¬
الإطلاق"؛ و"الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعُه إلى يوم القيامة"؛ ومدح علمه جدًّا، وقال عن (فتاويه) و (مسائله): "حُدِّث بها قرنًا بعد قرن، فصارت إمامًا وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد، والمقلّدين لغيره، ليعظّمون نصوصَه وفتاواه، ويعرفون لها حقَّها وقُربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأمل فتواه وفتاوى الصحابة رأى مطابقة كلّ منهما للأُخرى، ورأى الجميع كأنها تخرج من مشكاة واحدة،. . . " وأسهب في بيان أصول فتاويه على وجه جيِّد. ثانيًا: لم يقع في عزو المصنف في غير موطن تمييز بين "المسند" و"زوائده" انظر -على سبيل المثال- (3/ 287 و 5/ 209، 212، 213، 314، 596)، وعزى بعض الأحاديث لأحمد وهي في "صحيح مسلم" كما في (1/ 410 و 5/ 332، 445)، أو "مجتبى النسائي"، كما فى (5/ 326)، بينما عزى بعض الأحاديث لابن عبد البر وهي في "المسند" كما في (2/ 288)، وللبزار وهي عند أحمد كما في (5/ 584). ثالثًا: عزى المصنف بعض الأحاديث لأحمد، وهي ليست بالألفاظ المذكورة في "المسند" كما تراه في (1/ 302 و 5/ 346)، وعزى بعضها له عن صحابي، وهي في "المسند" عن صحابي آخر، كما في (1/ 410 - 411)، وبعضها لم أجدها فيه بالكلية كما في (2/ 451 و 3/ 297 و 5/ 326). - "مسند البزار"، نقل منه وصرح به في (5/ 584)، ونقل في (2/ 543) عن البزار، بواسطة ابن حزم في "الإحكام". - "مسند الطيالسي"، نقل منه وصرح به في (3/ 210، 226)، ونقل منه دون تصريح إلا باسم صاحبه في (1/ 67 و 2/ 431 (¬1)، و 3/ 198، 204، 275 (¬2) و 4/ 413، 579). - "مسند أبي بكر بن أبي شيبة"، نقل منه وصرح به في (3/ 415). - "مسند عبد بن حميد"، نقل منه وصرح به في (1/ 99)، ونقل منه في (1/ 64 (¬3)، 109) (¬4). - "مسند أبي يعلى"، نقل منه وصرح به في (1/ 233). ¬
كتب أحاديث الأحكام وشروحها
- "المعجم الكبير" للطبراني، نقل منه وصرح به في (1/ 421، و 5/ 234، 235، 237)، ونقل منه (¬1) ولم يسمه في (4/ 580). * كتب أحاديث الأحكام وشروحها: نقل المصنف من بعض كتب (أحاديث الأحكام)، وهذا ما صرح به منها: - "الأحكام" (¬2) لأبي عبد اللَّه محمد بن عبد الواحد المقدسي الصالحي، المعروف بـ "ضياء الدين" (ت 643 هـ)، نقل منه في (5/ 422)، قال بعد أن ذكر حديثًا: "ذكره أبو عبد اللَّه المقدسي في "أحكامه"". - "الأحكام" لعبد الحق الإشبيلي، نقل منه بعض الأحاديث والآثار (¬3)، وسيأتي بيان ذلك في: - "شرح أحكام عبد الحق"، ذكره المصنف بهذا العنوان مرات، وسمى مؤلفه، ابن بزيزة، قال في (2/ 363)، ونقل عنه نصًا في مسألة (الحلف بالطلاق) وأنه لا يلزم، وقال عن هذا المذهب: "صحيح عن علي ولا يعرف له في الصحابة مخالف" وقال بعده مباشرة: "ذكره ابن بَزيزة في "شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي"، فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن، وكان حاصل ما ردوا به قولَه أربعة أشياء: أحدهما -وهو عمدة القوم- أنه خلاف مرسوم السلطان، والثاني: أنه خلاف الأئمة الأربعة، والثالث: أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: "إن أبرأتِنِي فأنتِ طالق" ففعلَتْ، والرابع: أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول، فلا يلتفت إليه، فنقَضَ -يريد ابن تيمية- حُجَجَهم وأقام نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول، وصنَّف في المسألة قريبًا من ألف ورقة، ثم مضى لسبيله راجيًا ¬
كتب العلل
من اللَّه أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون". وأعاد النقل عنه في (3/ 471) المسألة نفسها، ولكن زاد ذكر مذهب تاج الدين أبي عبد اللَّه الأرموي في المسألة. وسمى صاحبه واسم كتابه في (2/ 20 - 21) لما نقل حكم المسألة نفسها منه، قال: "وحكاه أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التَّميمي المعروف بـ (ابن بَزيرة) في كتابه المسمى بـ "مصالح الأفهام في شرح كتاب الأحكام في باب ترجمته: (الباب الثالث: في حكم اليمين في الطلاق أو الشك فيه): وقد قدمنا في كتاب (الأيمان) (¬1) اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والشرط وغير ذلك: هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب وشريح وطاوس: لا يلزم من ذلك شيء، ولا يقضى بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، قال: وصحح. . . ". وأعاد نقل مذهب علي في (4/ 520 - 521) وسمى الكتاب "شرح أحكام عبد الحق" وسمى مصنفه: "أبا القاسم التميمي". * كتب العلل: نقل المصنف من بعض (كتب العلل)، وصرح بأسماء كتابين منها، هما: ¬
كتب مسندة تعتني بالأحاديث وآثار السلف
- "العلل" للترمذي، نقل منه، وصرح باسمه في (3/ 175، 416، 417). - "التعاليق على كتاب العلل" ذكره وسماه هكذا في (1/ 85)، وهو لأبي إسحاق، والعبارة التي فيها ذكر لهذا الكتاب إنما هي لأبي يعلى الفراء في "العدة" (5/ 1597 - 1598)، فنقل المصنف منه بالواسطة. ونقل أيضًا من "العلل ومعرفة الرجال" لعبد اللَّه بن الإمام أحمد ولم يسمه كما في (3/ 369)، ولعله نقل من كتاب "العلل" للدارقطني أيضًا، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 142). * كتب مسندة تعتني بالأحاديث وآثار السلف: أكثر المصنف من النقل عن المصادر الأصلية المسندة، ولا سيما تلك التي تعتني بآثار السلف، وسبق قسم منها، مثل: "الخلافيات" و"السنن الكبرى" و"معرفة السنن والآثار" و"المدخل إلى السنن الكبرى" كلها للبيهقي، و"الأم" و"الرسالة" و"المسند" كلها للإمام الشافعي، و"الحيل" المنسوب لمحمد بن الحسن الشيباني، و"الحيل" للخصاف، و"الموطأ" للإمام مالك، و"التمهيد" و"الاستذكار" و"جامع بيان العلم" كلها لابن عبد البر، و"المدونة" و"مسائل الإمام أحمد" على اختلاف رواتها (¬1)، وبعض كتب القاضي أبي يعلى (¬2)، وبعض كتب ابن بطة، و"المترجم" للجوزجاني، و"المحلى" و"الإحكام" لابن حزم، و"الأموال" و"القضاء" -والنقل منه بالواسطة- و"الغريب" كلها لأبي عبيد، وكتب الفتوى (¬3): لابن الجوزي وابن الصلاح وابن حمدان، وبعض التفاسير (¬4) ولا سيما المسندة. وهنالك كتب أخرى نقل منها المصنف، وهي مسندة، مثل: - "أمثال الحديث" للرامهرمزي، نقل منه، ولم يسمه، واكتفى بنسبة بعض النصوص أحيانًا إلى المؤلف، والنقل -فيما ظفرتُ به- محصور في (1/ 409 - 423)، وتكاد تكون أغلب ما في هذه الصفحات منه، حتى الأحاديث المعزوة "للصحيحين"، فهي بلفظ الرامهرمزي! - "الجامع" للثوري، نقل منه وصرح باسمه في (3/ 223) والنقل منه بالواسطة، كما بيّناه في التعليق على الموطن المذكور. ¬
- "مصنف عبد الرزاق"، نقل منه وسماه في (4/ 521، 522) ولم يسمه في مواطن كثيرة (¬1)، منها (2/ 158). - "الخراج" ليحيى بن آدم، نقل منه وسماه في (2/ 374). - "مصنف ابن أبي شيبة"، نقل منه ولم يسمه في مواطن منها (4/ 457، 459، 461) ونقل منه في مواطن أخرى، انظر (2/ 69، 385، و 3/ 290، 546)، ووقع بعضها بالواسطة كما صرح به المصنف. - "مصنف وكيع"، نقل منه (¬2) وسماه فيه (3/ 448). - "جزء رفع اليدين" للإمام البخاري، نقل منه، ولم يسمه في (3/ 271). - "زهد ابن المبارك"، نقل منه (¬3) ولم يسمه في (1/ 62). - "شرح معاني الآثار" للطحاوي، نقل منه، ولم يسمه في (2/ 366، 375، 3/ 236)، وهنالك نقولات أخرى في الكتاب عن الطحاوي، مثل: (1/ 138، 143، 467، 468) جلها بواسطة ابن حزم في "الإحكام". - "تهذيب الآثار" لابن جرير الطبري، نقل منه وصرح باسمه في (1/ 148)، ونقل منه دون تصريح واكتفى بعزو الكلام لصاحبه في (1/ 36، 37، 38، 116). - "الفقيه والمتفقه" للخطيب البغدادي، نقل منه وصرح باسمه في (1/ 87 و 4/ 450)، ونقل منه دون تصريح باسمه في مواطن، منها: (1/ 83 - 84، 88، 351، 355، 465، 466، 470، 471، 472، 473، 474، و 5/ 134). - "صفة الجنة" لضياء الدين المقدسي، نقل منه، ولم يسمّه في (5/ 222، 223). - "الغيلانيات"، عزى له حديثًا في (3/ 141) قال: "وفي "الغيلانيات": ثنا إبراهيم بن أبي يحيى. . . " وساقه بالسند. ونقل المصنف هذا الحديث من "سنن الدارقطني" (3/ 44) وهو فيه من طريق يحيى بن غيلان حدثنا إبراهيم بسنده ولفظه، فظن أن الحديث في "الغيلانيات" لوجود يحيى بن غيلان! في سنده، فاراد أن يعلو بعزوه، والأمر ليس ¬
كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل
كذلك، إذ الحديث ليس في "الغيلانيات" بطبعاته الثلاثة، ولم يعزه غيره له (¬1)، و"الغيلانيات" نسبة إلى ما رواه أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز عن صاحبها أبي بكر محمد بن عبد اللَّه الشافعي، ولا صلة لها بـ (يحيى بن غيلان)، فتنبه لذاك، تولى اللَّه هداك. وعليه؛ فإن هذا الكتاب ليس من مصادر المؤلف في كتابه هذا، وإن ذكر عنوانه فيه! واللَّه أعلم. - "جامع ابن وهب"، نقل منه، وصرح به في (2/ 462)، والنقل بواسطة ابن عبد البر في "جامع بيان العلم"، كما وضحناه في التعليق على الموضع المذكور (¬2). وهنالك كتب كثيرة فيها أخبار وآثار، والنقل منها بالواسطة، ككتاب "الشبهات" للآجري، فيما وضحناه في التعليق على (4/ 139). * كتب التراجم والرواة والجرح والتعديل: سبق بيان نقل المصنف من بعض كتب التراجم والجرح والتعديل، مثل: "مناقب أبي حنيفة"، و"مناقب الشافعي" للبيهقي، و"آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم، و"الانتقاء" لابن عبد البر، و"طبقات الفقهاء" لأبي إسحاق الشيرازي، و"أخبار سحنون بن سعيد" (¬3) لمحمد بن الحارث. وهنالك كتب استخدمها المصنف في الحكم على الرواة جرحًا وتعديلًا، وصرح بأسماء بعضها تارة، ولم يصرح تارة أخرى، من مثل: - "الكمال في أسماء الرجال" لمحمد بن عبد الواحد المقدسي، نقل عن صاحبه ولم يصرح باسمه في (3/ 418). - "الكامل في الضعفاء" لابن عدي، نقل منه، وصرح باسمه في (4/ 479). والذي رأيته من خلال عملي في الكتاب أن غير نقل للمصنف في الرواة جرحًا وتعديلًا إنما كان بواسطة: ¬
المصادر الشفهية وما في حكمها
- "ميزان الاعتدال في نقد الرجال" (¬1) للذهبي، وهذه ثلاثة أدلة تدل على ذلك: الأول: نقل في (3/ 308 - 309) أقوالًا لأئمة الجرح والتعديل في (الحارث بن عبيد) جلها في "الميزان" (1/ 438)، وأعلّا حديثًا أورداه في ترجمته، ومفاد التعليل في عبارتيهما واحد. الثاني: نقل في (3/ 304 - 305) أقوالًا عن ابن لهيعة، هي في "الميزان" (2/ 477)، نقلها المصنف منه. الئالث: نقل في (3/ 237) أقوالًا في جملة من الرواة، منقولة من "الميزان"، كما في تعليقي على الموطن المذكور. وهنالك كتب سبق ذكرها، ونقل المصنف منها أحكام أئمة الجرح والتعديل على الرواة، مثل: "الجامع" و"العلل" كلاهما للترمذي، و"السنن" و"الخلافيات" كلاهما للبيهقي، و"سنن الدارقطني"، وغيرها. ونقل المصنف من الكتب المتخصصة في التراجم بعضر الأخبار والآثار، ووقع له ذلك بالواسطة، وهذا البيان: "التاريخ الكبير" للبخاري، نقل منه وسماه في (4/ 88) وكان ذلك بواسطة "بيان الدليل" لشيخه ابن تيمية، وفي كتابنا نقولات أخرى منه بواسطة "الإحكام" لابن حزم. وكذا "التاريخ الأوسط" للبخاري، و"تاريخ أبي زرعة الرازي"، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 242 - 471، و 2/ 458)، و"المعرفة والتاريخ" للفسوي، وسبق الحديث عن هذه الكتب فيما تقدم تحت عنوان (كتب اللغة والغريب والأدب والتاريخ). * المصادر الشفهية وما في حكمها: اعتمد المصنِّفُ على مصادر شفهيّة بالإضافة إلى ما قدمناه من كتب أصلية، تكاد تشمل جميع العلوم، وهذا البيان: قال في (مسألة عدم لزوم الطلاق للحالف فيه) في (4/ 542): "وعندنا بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها عن جماعة من أهل العلم، الذين ¬
هم أهله في عصرنا وقبله، أنهم كانوا يفتون بها أحيانًا" قال: "فأخبرني صاحبنا الصادق محمد بن شهوان، قال: أخبرني شيخنا الذي قرأتُ عليه القرآن -وكان من أصدق الناس- الشيخ محمد بن المحلى، قال: أخبرني شيخنا الإمام خطيب جامع دمشق عز الدين الفاروقي، قال: كان والدي يرى هذه المسألة، ويفتي بها ببغداد". وقال في (4/ 56): "وأخبرني رجل من علمائهم -أي: علماء الطبيعة- أنه أجلس قرابةً له يكحل الناس؛ فرمد، ثم برئ، فجلس يكحلهم، فرمد مرارًا، قال: فعلمتُ أن الطبيعة تنقل، وأنه في كثرة ما يفتح عينيه في أعين الرُّمْد، نقلت الطبيعة الرمد إلى عينيه" وقال في (5/ 76): "أن مفتيين اختلفا في جواب فكتب تحت جوابهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له: إنهما قد تناقضا فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا. وكان في زماننا رجل مشار إليه بالفتوى، وهو مقدَّم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى، فيكتب، يجوز كذا، أو يصح كذا، أو ينعقد بشرطه فأرسل إليه يقول له: تأتينا فتاوى منك فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبيّن شرطه، وإما أن لا تكتب ذلك. وسمعت شيخنا يقول: كلُّ أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أو يصح بشرطه أو يقبل بشرطه ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكده، وكذلك قول بعضهم في فتاويه: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، فيا سبحان اللَّه! واللَّه لو كان الحاكم شُريحًا وأشباهه لما كان مردُّ أحكام اللَّه ورسوله إلى رأيه، فضلًا عن حُكَام زماننا، فاللَّه المستعان". وقال في (5/ 97 - 98): "وأذكر لك من هذا مثالًا وقع في زماننا، وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير عمائمهم، وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين، فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم، وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإسلام وإذلال الكفرة ما قرَّت به عيون المسلمين؛ فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوَّروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغيار، وهي: ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة أُلزموا بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف، فحصل
لهم بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع وآذوهم غاية الأذى، فطُمِع بذلك في إهانتهم والتعدي عليهم؟ فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول، وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يُعرفون بها؟ وهل في ذلك مخالفة للشرع أم لا؟ فأجابهم مَنْ مُنِع التوفيق، وصُدَّ عن الطَّريق بجواز ذلك، وإن للإمام إعادتهم إلى ما كانوا عليه، قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلتُ: لا تجوز إعادتهم إلى ما كانوا عليه ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيَّروا الفتوى، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا، ثم أتوا بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المعينة، وإنْ خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان وتكلَّم عنده بكلامٍ عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم وللَّه الحمد. ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى، فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوَّروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف في الجامع وأخرجوها في قالب حسن، حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه، وسبحان اللَّه كم تُوُصِّل بهذه الطريق إلى إبطال حق وإثبات باطل! وأكثرُ الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال، وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم، ولا قريبًا من ذلك، فاللَّه المستعان". وفي الكتاب استطرادات حول (تعبير الرؤى) (¬1)، لم يعزها المصنف لأحد، والغالب أنها مأخوذة عن شيخه أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن بن سرور المقدسي (628 - 697 هـ)، وقد وجدته يصرح بذلك في كتابه "زاد المعاد" (فصل: قدوم وفد بني حنيفة) (¬2) فإنه نقل عنه جملة من (التعبير)، ثم قال: "وهذه كانت حال شيخنا هذا، ورسوخه في علم التعبير، وسمعتُ عليه عدة أجزاء، ولم يتفق لي قراءة هذا العلم عليه لصغر سنه، واخترام المنية له، رحمه اللَّه تعالى". ولشيخه هذا "البدر المنير في علم التعبير" وشرحه أيضًا، والكلام الموجود ¬
بين المصنف وشيخه ابن تيمية
عند المصنف قريب مما فيه في مواطن قليلة، مثل: (تأويل البقر) قارن كلام المصنف بما في "البدر المنير" (279 - 280). وذكر في (5/ 198) تحت (الفائدة الحادية والستين) من (آداب الفتوى) وهي في الإكثار من الدعاء عند الفتوى، قال: "وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجرَّبنا ذلك نحن، فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة". وتعدُّ موارد المصنف الشفهية في كتابنا هذا غيضًا من فيض موارده العلمية المتنوعة، وهي تدلل على تفنُّن المصنف، وتترجم حرصه واهتمامه بالكتب كما ذكره غير واحدٍ من مترجميه (¬1). ومن الواجب أن يُذَكر هنا أن المصنف لم يعن بذكر الكتب كعنايته بتحرير المسائل والمباحث، وأنه أكثر من النقل عن الكتب التي لها تعلق بمباحث الكتاب (¬2) من مثل: الفتوى ومباحثها وما يخدمها ويخدم المباحث المتفرعة عنها، وما يلزم القضاة والمفتين (وهم الموقِّعون عن رب العالمين). ومن المشايخ الذين أكثر المصنف ذكرهم وتردادهم في كتبه عامة، وفي كتابه هذا خاصة: شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم الحراني، الشهير بـ (ابن تيمية)، ونقولاته عنه كانت من كتبه ومؤلفاته، ومباحثه وتحريراته، وما سمعه من فمه، وألقاه اللَّه عز وجل على لسانه من حكم ومباحث ومواقف، وهذا ما سنوضّحه في المبحث التالي. وأخيرًا، لا بد من الإشارة إلى ذكر المصنف لبعض مؤلفاته هنا، وأحال عليها، فقال في (4/ 420 - 421) عند مسألة (المحلل في السباق)، وحكمه عند العلماء وتفاصيلهم في وجوده على أقوال، قال عنها: "وقد ذكرناها في كتابنا الكبير "الفروسية الشرعية"، وذكرنا فيه، وفي كتاب "بيان الاستدلال على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال" بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا، وبيّنّا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه، وكلام الأئمة في ضعفه، وعدم الدلالة منه على تقدير صحته". * بين المصنّف وشيخه ابن تيمية: كان ابن القيم معجبًا بشيخه شيخ الإسلام ابن تيمية أشد إعجاب، وكان له ¬
الأثر البالغ في "تكوين اتجاهه، وتغذية مواهبه، وإشباع نهمته بعلوم الكتاب والسنة، والرد إلى اللَّه والرسول، حتى صار أبرع تلاميذه، وألمعهم نجمًا، وأجلاهم اسمًا، فلا يكاد يُذَكر الشيخ ابن تيمية إلا ويذكر معه تلميذه ابن قيم الجوزية، وسرى نور هذين العلمين في آفاق المعمورة، بسعة العلم، وأصالة الفكر، والتجديد في دعوة الناس إلى صراط اللَّه المستقيم" (¬1). وكانت مدة ملازمة ابن القيم لشيخه ستة عشر عامًا (¬2)، منذ سنة (712 هـ) -وهي السنة التي عاد فيها ابن تيمية من مصر إلى دمشق- إلى سنة (728 هـ)، سنة وفاة ابن تيمية. وفي هذه المدة أخذ التلميذ من الشيخ علمًا جمًّا، وتأثّر بسَمْتِه وهديه، واستمع إلى نصائحه وتوجيهاته (¬3)، وعُرف به، وامتحن وأوذي مرات بسبب ذلك (¬4). وكان ابن القيم بارًا بشيخه، كثير الترداد لاسمه، والثناء عليه، وذكر اختياراته (¬5)، ولعل ذلك لم يقع في كتاب من كتبه كما وقع في كتابنا هذا. وهذه طاقة مهمة من النقولات من خلال جولة سريعة في كتابنا هذا فحسب؛ تدلّل على مدى تأثر المصنف بشيخه، وأنه تَصْدُق فيه مقولة ابن حجر: "غلب عليه حب ابن تيمية، حتى لا يخرج عن شيء من أقواله، بل ينتصر له في جميع ذلك، وهو الذي هذب كتبه ونشر علمه" (¬6) ومقولة الذهبي: "تفقه بشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، وكان من عيون أصحابه" (¬7)، ومقولة صلاح الدين ¬
الصفدي: "وكان يسلك طريق العلامة تقي الدين ابن تيمية في جميع أحواله ومقالاته التي تفرّد بها، والوقوف عند نص أقواله" (¬1) و"لم يُخلِّفِ الشيخ العلامة تقي الدين ابن تيمية مثله" (¬2)، ومقولة السخاوي عنه: "رئيس أصحاب ابن تيمية، بل هو حسنة من حسناته" (¬3). ومن أكثر كتب ابن تيمية التي نقل منها المصنف في كتابنا هذا "بيان الدليل في إبطال التحليل" (¬4)، وتكاد تكون النقولات الموجودة في كتابنا هذا نسخة أخرى منه، ولا غرو في ذلك، إذ قام المصنف بنسخ "البيان" في (430) ورقة، وما زالت نسخته محفوظة (¬5). قال ابن القيم بعد نقل طويل: "هذا كلام شيخ الإسلام في (مسألة مهر السر والعلانية) في كتاب "إبطال التحليل" نقلته بلفظه" (¬6). والملاحظ أن النقل من هذا الكتاب كثير، ويكون بلفظ المصنف تارة، ويتصرف فيه ويقتصر على المعنى تارة أخرى، ويتخلّله نقولات وإيضاحات ورد استشكالات على تقرير ابن تيمية تارة أخرى، ويكون بعضها من خلال مشاهداته وسماعه، فها هو يقول بعد نقل منه: "وكان شيخنا رحمه اللَّه يمنع من (مسألة التورّق)، روجع فيها وأنا حاضر مرارًا، فلم يرخص فيه" (¬7). ولم أظفر بتصريح ابن القيم باسم الكتاب إلا في موطن واحد (3/ 493)، ويسهب ابن القيم في توجيه كلام شيخه فيه، والتدليل عليه، ورد مؤاخذات وانتقادات المعارضين، مما يجعلنا نقول: إن القول بان ابن القيم نسخة عن شيخه فحسب، فرية بلا مرية، وهي من أكاذيب وبواطيل الخصوم، ولا تصدر إلا ممن ¬
لم يَخْبُرْ كلام ابن القيم، وإنما باعثها الحقد والحسد. وينظر لكثرة نقل المصنف من كتاب "بيان الدليل" هذه المواطن مع التنبّه لتعليقنا على بعضها (3/ 416 - 419، 473، 488 - 493، 494 - 495، 495، 523، 529 - 530، 538 و 4/ 6 هامش (7)، 17، 18، 21، 25، 27، 70، 71، 72 - 73، 78، 79، 83، 86، 87، 89، 90، 93، 94، 95، 96 - 99، 100، 101، 139، 140 - 141، 147، 148 - 163، 170، 174، 178 - 183، 234 - 236، 237 - 241، 242، 243، 248 - 250). ولم يقتصر نقل المصنف من "بيان الدليل"، بل تعداه لكتب أخرى، ففي (مسألة المعدول به عن القياس) (¬1) أكثر المصنف من النقل عن شيخه ابن تيمية، ووجدت هذه النقولات في "مجموع الفتاوى" (20/ 504 - 585 و 21/ 1 - 23)، وفي "مجموعة الرسائل الكبرى" بالقاهرة، سنة 1323 هـ، وسماها تلميذه محمد بن عبد الهادي في "العقود الدرية" (ص 45): "قاعدة في تقرير القياس في مسائل عدة، والرد على من يقول: هي على خلاف القياس"، وتذكر بعض فهارس دور الكتب الخطية ضمن مصنفات ابن تيمية "جواب عما يسمى بخلاف القياس الذي يقع في كلام الفقهاء" (¬2)، قال المصنف: "وسألتُ شيخنا -قدس اللَّه روحه- عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس. . . فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس". ¬
قال المصنف بعد ذلك مباشرة: "وأنا أذكر ما حصّلته من جوابه بخطّه ولفظه، وما فتح اللَّه سبحانه لي بيُمن إرشاده، وبركة تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه" (¬1). وكثرت النقولات والاستطرادات والمناقشات حول هذه المسألة، وتقع في نشرتنا في (2/ 165 - 237)، ونَقْلُ المصنف عن شيخه ابن تيمية في هذه المسألة -كنقله في التي قبلها- يظهر تارة، ويَختَفي أخرى، ويتخلله تقعيد وتأصيل وتدليل وتمثيل وتفريع. وهذه المسألة في القياس هي فصل من فصول ثلاثة (¬2)، قرر فيها ابن القيم مذهب شيخه (¬3) بقوة، وأطال النفس جدًّا في تبنّي ما ذهب إليه، كيف لا؟ وها هو يقول عنها: "هذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبيّن للعالم المنصف مقدارُ الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع" قال: "ونحن نعلم أنّا لا نوفِّي هذه الفصول حقَّها ولا نقارب، وأنّها أجلُّ من علومنا وفوق إدراكنا، ولكن ننبّه أدنى تنبيه، ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها، وينهج طرقها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان" (¬4). قال ابن النجار: "وقد ذكر الشيخ تقي الدين -وتبعه ابن القيم- أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وما لا يُعقل معناه، وبيّنا ذلك بما لا مزيد عليه" (¬5)، ¬
فمتابعة ابن القيم لشيخه في هذه المسألة أمر مشهور، كما يؤخذ من هذا النقل، واللَّه الموفق لا رب سواه. وكذلك في مسألة الحلف بالطلاق، فقد أكثر المصنف النقل عن شيخه ابن تيمية فيها، وأظهر عناية شيخه في هذه المسألة، قال (4/ 540): "وصنّف في المسألة ما بين مطوّل ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة (¬1)، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس، وقواعد إمامه خاصة، وغيره من الأئمة زهاء أربعين دليلًا" وقال عن شيخه بعد ذلك: "وصار إلى ربه وهو مقيم عليها، داع إليها، مباهل لمنازعيه، باذل نفسه وعرضه، وأوقاته لمستفتيه، فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا" (¬2). وبيَّن أثر فتياه هذه بقوله: "فعُطِّلتْ لفتاواه مصانع التحليل، وهدّمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشّعت سحائب اللعنة عن المحقلين، والمحلَّل لهم من المطلّقين، وقامت سوقُ الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية. . . " (¬3). وأطال المصنف الكلام في هذه المسألة، وأكثر النقل فيها عن شيخه أبي ¬
العباس، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 362، 3/ 341، 364 - 473، 450 - 473 و 4/ 520 - 525). ونقولات المصنف عن شيخه في مسائل الطلاق الأخرى كثيرة، من أهمّها المسائل الآتية: * (المسألة السريجية)، انظرها في نشرتنا (4/ 201 - 234)، وقارن بما في "مجموع الفتاوى" (32/ 289، وما بعد، 311 وما بعد)، و"بيان الدليل" (182، 215 وما بعد). * (مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحد)، تعرض لها المصنف في مواطن عديدة من هذا الكتاب (¬1)، ولم يخرج عن رأي شيخه فيها، ولشيخه "سؤال وجواب في الطلاق الثلاث" (¬2). * (مسألة الخلع هل هو طلاق؟)، تعرض لها المصنف في مواطن من كتابه هذا، ولم يخرج عن رأي شيخ الإسلام ابن تيمية (¬3)، ولابن تيمية: "رسالة في الخلع هل هو طلاق أم لا" (¬4) ويذكر له "مسائل الفرق بين الطلاق البدعي والخلع ونحو ذلك". * (فيما يحل ويحرم من مسائل الطلاق)، أكثر المصنف من التعرض لمسائل الطلاق وتفصيلاته (¬5)، وهو يقرر ما ذهب شيخه إليه بقوّة، وينتصر له بناءً على موافقته الدليل الشرعي، ولابن تيمية رسائل مفردة في هذا الباب (¬6). ¬
وهذه المسائل مبحوثه في مواطن من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1)، وحصل الوقوف على ما قررناه من تبنّي المصنف لآرائه، وإن لم نظفر بجميع النقولات بالحرف واللفظ من كتبه. والأمر ليس مقتصرًا على (مسائل الطلاق)، وإنما ذكرتها للتمثيل لا للحصر، وإلا فمسألة (الطهارة للطواف) مثلًا ذكرها المصنف هنا (¬2)، ونقلها بتطويل عن ابن تيمية، وظفرتُ بها -على طولها- في "مجموع الفتاوى" (26/ 176 - 218). ومسألة (ضمان البساتين)، لما ذكرها في كتابنا (2/ 213) وذكر الأقوال فيها، قال عن الجواز: "واختاره شيخنا، وأفرد فيه مصنفًا"، وانظر تعليقنا على الموطن المذكور، فهناك بيان اسم هذا المصنّف، ونسخه الخطية، واللَّه الموفق. وهكذا في مسائل كثيرة في مختلف العلوم، والناظر في الهوامش يجد عزوًا كثيرًا لـ"مجموع الفتاوى"، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 485 و 2/ 174، 190، 211، 212، 212 - 213، 214، 225، 228 - 229، 231، 237 - 238، 243، 244، 244 - 245، 247 - 248، 248 - 250، 250 - 253، 255 - 256، 272، 300، 319، 362، 363، 368، 393، 424، 428، 539 و 3/ 371، 382، 463 و 4/ 310، 330، 363، 397، 400، 417، 420، 423، 428، 456، 469، 470، 491، 505، 539 و 5/ 64، 230، 431، 453). ونَقلُ المصنف لم يقتصر من كتب ابن تيمية على هذا، وإنما نقل نصوصًا ¬
طويلة من "تفسير آيات أشكلت"، وعزاها لابن تيمية، ولم يسم الكتاب، انظر (2/ 73، 411، 397 - 414). ومما ينبغي ذكره هنا أمور: أولًا: كانت عبارات المصنف دقيقة، فتارة كان يصرح باختيار ابن تيمية، وتارة يقول: "وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى هذا القول" (¬1) و"كان شيخنا يجنح إليه" (¬2). ثانيًا: كان يرجِّح اختيار شيخه ابن تيمية على مذهب أحمد، فها هو -مثلًا- يقول في (مسألة شراء المسلم طفلًا كافرًا)، و (مسألة السابي) (¬3) هل يحكم بإسلامهما؟ قال: "نحكم بإسلامه، قاله شيخنا قدس اللَّه روحه" (¬4) ثم قال: "ولكن جادة المذهب أنه -أي السابي- باقٍ على كفره كما لو سُبي مع أبويه وأولى" قال: "والصحيح قول شيخنا، لأن. . . " (¬5). ثالثًا: كان يذكر أحيانًا اختياراته، ويقول: "وغيره من الأصحاب" هكذا بالإبهام، انظر -على سبيل المثال-: (4/ 491، 505)، ويقرنه أحيانًا بذكره لإمام من أئمة الفقه، انظر -مثلًا- (4/ 404). رابعًا: كان رحمه اللَّه يقرر أشياء بإجمال، وتفصيلها في كتب شيخه ابن تيمية، وأذكر مثالين، أحدهما صرح بذلك، والآخر لم يصرح. أما الأول، فقوله (2/ 428): "ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهًا، ذكرها شيخنا رحمه اللَّه في بعض تصانيفه" (¬6). وأما الآخر؛ فقوله بعد سرده مكفرات الذنوب: "فهذه عشرة أسباب تمحق أثر الذنب" (¬7)، وهي موجودة بتفصيل وتأصيل وتدليل في كلام شيخه ابن تيمية في ¬
"منهاج السنة النبوية" (6/ 205 - 239) و"مجموع الفتاوى" (7/ 487 - 501) وانظره أيضًا (4/ 432). خامسًا: من الأمور المهمة جدًّا: ذكر المصنف في كتابنا هذا أحوال شيخه، ونصائحه وتوجيهاته له، وأجوبته على أسئلته إياه أو أسئلة غيره مباشرة دون نقل من كتاب، وهي غنية بالفوائد الفرائد، وفي بعضها بيان اختيارات ابن تيمية وتعليق المصنف عليها بتوجيه ماتع، ودقة فائقة، وهذه أمثلة على ذلك: 1 - قال في مسألة (إقامة الإمام الحد على من جاء تائبًا): "وسألت شيخنا عن ذلك، فأجاب بما مضمونه:. . . " (¬1) وذكر كلامًا، ثم وجهه وقوّاه بالأدلة النقلية، وقال عنه: "وهذا المسلك وسط" قال: "وإذا تأملت السنة رأيتها لا تدل إلا على هذا القول الوسط" (¬2). 2 - قال: "ولقد أنكر بعضُ المقلّدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي، وهي وقف على الحنابلة، والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له" (¬3). 3 - وقال بعد تقرير لمسألة على وجه بديع: "وهذا مما حصلته عن شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه- وقت القراءة عليه، وهذه كانت طريقته، وإنما يقرر أنّ القياس الصحيح هو ما دلّ عليه النص، وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معًا" (¬4). 4 - ونقل إشكالًا في مسألة عن شيخه، وأنَّ حلَّه كان في منامٍ له، رأى فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأرشده إليه، قال (4/ 372): "وقال شيخنا: كان يشكل عليَّ أحيانًا حالُ من أُصلِّي عليه من الجنائز، هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام، فسألتُه عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: يا أحمد! الشرط الشرط، أو قال: علّق الدعاء بالشرط، وكذلك أرشد أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط. . . " (¬5) وأخذ في الاستدلال على ذلك. ¬
5 - قال في مسألة (البيع بما ينقطع به السعر) -وقرر الجواز-: "وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصر ومصر" قال: "وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخُنا، وسمعته يقول: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوةٌ بالناس، اخذ بما يأخذ به غيري. قال رحمه اللَّه ورضي عنه: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتاب اللَّه تعالى ولا سنة رسوله ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرمه. . . " (¬1) وأخذ بتأييده بسرده الأشباه والنظائر له. 6 - قال في مسألة (تبرع المديون بما يضر بأرباب الدين) -وقرر المنع-: "وسمعتُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد، أنه كان ينكر هذا المذهب، ويضعّفه، قال: إلى أنْ بُلِي بغريم تبرَّع قبل الحجر عليه، فقال: واللَّه، مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة" (¬2). 7 - قال مبيِّنًا حال شيخ الإسلام لما تُعيِيه المسائل: "وشهدتُ شيخ الإسلام -قدّس اللَّه روحه- إذا أعيته المسائل، واستعصت عليه، فرَّ منها إلى التوبة والاستغفار والاستغاثة باللَّه، واللجأ إليه، واستنزال الصواب من عنده، والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلَّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيَّتهنّ يبدأ، ولا ريب أن مَن وُفِّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا، وسار قلبه في ميادينه حقيقة وقصدًا، فقد أُعطِي حظه من التوفيق، ومن حُرِمه، فقد منع الطريق والرفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحق، فقد سلك به الصراط المستقيم، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم" (¬3). 8 - ذكر من (فقه المفتي): (إذا منع من محظور دلَّ على مباح) وقال عن شيخه بهذا الصدد: "ورأيت شيخنا -قدس اللَّه روحه- يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها" (¬4). 9 - قال: "وسمعتُ شيخ الإسلام يقول: حضرت مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلتُ له: ما هذه الحكومة؟ ¬
فقال: هذا حكم اللَّه! فقلت له: صار قول زفر هو حكم اللَّه الذي حكم به، وألزم به الأمة؟! قل: هذا حكم زفر، ولا تقل: هذا حكم اللَّه، أو نحو هذا من الكلام" (¬1). 10 - ونقل تعليقًا لابن تيمية على صنيع مفتٍ كان في زمانهم يكتب في فتاويه: "يجوز كذا أو يصح كذا، أو ينعقد، بشرطه" قال المصنف: "وسمعت شيخنا يقول: كل أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن أي مسألة وردت عليه، يكتب فيها: يجوز بشرطه، أو يصح بشرطه، أو يقبل بشرطه، ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكده" (¬2). 11 - ونقل المصنف عن شيخه ردًا على فهم مغلوط لبعض فقهاء عصره في فتاوى العلماء، فتعرض -مثلًا- لمسألة (الوقف على أهل الذمة) وأن بعض الفقهاء صححوه، قال: "فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء. . . " إلى قوله: "فغلظ طبع هذا المفتي، وكثف فهمه، وغلظ حجابه عن ذلك، ولم يميز" (¬3). 12 - ونقل فتوى عزيزة في لباس أهل الذمة وأنه "حصل لهم بذلك -أي: بإلزامهم بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف- ضرر عظيم في الطرقات والفلوات، وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع، وآذوهم غاية الأذى" وهل يجوز للإمام ردهم إلى زيهم الأول؟ قال: "فأجابهم مَنْ مُنع التوفيق، وصُدَّ عن الطريق بجواز ذلك" قال: "قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلت: لا تجوز إعادتهم إلى ما كانوا عليه، ويجب إبقاؤهم على الزي الذي يتميّزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيَّروا الفتوى، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا ثم أتوا بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المعينة، وإنْ خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان، وتكلم عنده بكلام عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم، وللَّه الحمد. ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى. . . " (¬4). 13 - وذكر في مسألة (دلالة العالم للمستفتي على غيره) قال: "وكان شيخنا -قدس اللَّه روحه- شديدَ التّجنُّبِ لذلك، ودللتُ مرة بحضرته على مُفْتٍ أو ¬
مذهب، فانتهرني. وقال: ما لك وله؟ دعه عنك، ففهمتُ من كلامه: إنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم، ولمن أفتاه، ثم رأيت هذه المسألة بعينها منصوصة عن الإمام أحمد. . . " (¬1). 14 - وذكر فائدة فقهية دقيقة عن شيخه في الفرق بين مسألتين، هما: إذا شهد الرجل جنازة، فرأى فيها منكرًا، لا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، بينما في وليمة العرس يرجع، قال المصنف: "فسألتُ شيخنا عن الفرق؟ فقال: لأن الحقّ في الجنازة للميّت، فلا يُترك حفه لما فعله الحيُّ من المنكر، والحقُّ في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أُتي فيها بالمنكر، فقد أسقط حقّه من الإجابة" (¬2). 15 - قال: "وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه، يكون عندهم في المسألة ثلاثة أقوال، أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل! " (¬3). 16 - وقال عند حديثه عمن أفتى الناس، وهو ليس بأهل للفتوى: "وكان شيخنا -رضي اللَّه عنه- شديد الإنكار على هؤلاء، فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أَجُعِلتَ محتسبًا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب؟! " (¬4). 17 - وقال في مسألة (ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى؟): "وسمعتُ شيخنا رحمه اللَّه تعالى يقول: حضرتُ عَقْدَ مجلس عند نائب السلطان في وقف، أفتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين، فقرأ جوابه الموافق للحق، فأخرج بعضُ الحاضرين جوابه الأول، وقال: هذا جوابك بضدّ هذا، فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم، فقلت: هذا من علمه ودينه، أفتى أولًا بشيء، ثم تبيّن له الصواب، فرجع إليه، كما يفتي إمامه بقول، ثم يتبيّن له خلافه، فيرجع إليه، ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة، فسُرَّ القاضي بذلك، وسُرِّي عنه" (¬5). ¬
18 - وذكر قصة طريفة، فيها فائدة وإنصاف وتربية عن شيخه، قال: "وقد سمعت شيخنا رحمه اللَّه يقول: جاءني بعض الفقهاء من الحنفية، فقال: أستشيرك في أمر. قلت: وما هو؟ قال: أريد أن أنتقل عن مذهبي. قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرًا تخالفه، واستشرتُ في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي، فقال لي: ولو رجعت عن مذهبك لم يرتفع ذلك من المذهب، وقد تقررت المذاهب، ورجوعك غير مفيد، وأشار عليَّ بعض مشايخ التصوف بالافتقار إلى اللَّه، والتضرع إليه، وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه، فماذا تشير به أنت عليَّ؟ فقلت له: اجعل المذهب ثلاثة أقسام: - قسم الحق فيه ظاهر بيِّن، موافق للكتاب والسنة، فاقضِ به، وأنت به طيب النفس، منشرح الصدر. - وقسم مرجوح، ومخالفُه معه الدليل، فلا تُفْتِ به، ولا تحكم به، وادفعه عنك. - وقسم من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإن شئت أن تدفعه عنك. فقال: جزاك اللَّه خيرًا، أو كما قال" (¬1). 19 - ونقل في مسألة (هل للمفتي المنتسب إلى مذهب إمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده؟) كلامًا عن شيخه، فيه حق وعدل، قال: "فسألت شيخنا -قدس اللَّه روحه- عن ذلك، فقال: أكثر المستفتين لا يخطر بقلبه مذهبٌ معين عند الواقعة التي يسأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه" (¬2). 20 - وذكر شيئًا عن حال شيخه ودعائه عند الفتوى، قال: "وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك (¬3)، وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: يا معلّم إبراهيم! علِّمني، ويكثر الاستغاثة بذلك، اقتداءً بمعاذ" (¬4). 21 - وأخيرًا. . . نقل عن شيخه فائدة في حكم إفتاء من جعل السؤال توصلًا إلى ¬
حصول أغراضهم بأي طريق وافق، وقرر أنه لا يجب على المفتي مساعدتهم، قال: "وقال شيخنا رحمه اللَّه مرة: أنا مخيّر بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لا يستفتون للدين، بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إليّ، بخلاف من يسأل عن دينه" (¬1). سادسًا: ومن الأمور المهمة أيضًا: أن المصنّف أقام وزنًا علميًا لفتاوى شيخه واختياراته، ودعى أن تكون مثل اختيارات غيره من علماء الحنابلة المحررين المعروفين، اسمع إليه وهو يقول: "ولا يختلف عالمان متحلّيان بالإنصاف أنّ اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب، بل وشيخهما أبي يعلى، فإذا كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتى بها في الإسلام، ويحكم بها الحكام، فلاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها، واللَّه المستعان، وعليه التكلان" (¬2). سابعًا: لا بد من التركيز على أصالة ابن القيم في اتباعه لابن تيمية. نعم هو معجب بمنهجه في الاستدلال، مرددًا أقواله، لكنه لم يكن مقلدًا له تقليدًا أعمى (¬3). وإنما كان متبعًا للكتاب والسنة والآثار، ولم يرض أن يجعل أحدًا -كائنًا من كان- عيارًا على الدين، فاستمع إليه وهو يقول عن التابعين: "لا يجعلون مذهبَ رجلٍ عيارًا على القرآن والسنن، فهؤلاء أتباعهم -أي السابقين الأولين- حقًا، جعلنا اللَّه منهم بفضله ورحمته" (¬4) وتأمل قوله بعد ذكره مسألة: "وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وعليه يدل النص والقياس" (¬5) وهكذا فعل في جُلّ اختيارات ابن تيمية (¬6)، فإنه ذكر أدلتها، وأيّدها بحجة قوية ودليل ظاهر، كيف لا، وهو قد أصّل في كتابه هذا حرمة التقليد، وعاب عليهم عدم الأخذ بالدليل، واتباع السلف، فاستمع إليه وهو يقرع المقلدين: "فلم تنكرون على من ¬
اقتدى بهما (أي: الكتاب والسنة)، وحَكَّمَهُما، وتحاكم إليهما، وعرض أقوال العلماء عليهما، فما وافقهما قبله، وما خالفهما ردّه؟ فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود، فلم تنكرون على من وصل إليه، وذاق حلاوته"؟ (¬1). ثامنًا: ومما له صلة بكتابنا أن ابن القيم أخذ الفقه عن كثير من المشايخ (¬2) غير ابن تيمية، ومن بين من أخذ عنهم: أخو الشيخ أحمد: أبو محمد شرف الدين (¬3)، وذكر في كتابنا هذا اختيارًا له، انظر (4/ 539). ومما ينبغي ذكره: أن مترجمي المصنف (¬4) ذكروا كتبًا قرأها على شيخه ابن تيمية، مثل: قطعة من "المحرر"، وقطعة من "المحصول" ومن كتاب "الأحكام" للآمدي، وقطعة من "الأربعين" و"المحصل" للصفي الهندي، وأنه قرأ عليه كثيرًا من تصانيفه، وقد سبق بيان بعضها، وأن ابن تيمية ألف بعضها إجابة على سؤال وجهه إليه تلميذه ابن القيم. والخلاصة: أن ابن القيّم أسهب وأصّل وقعّد ما كان يفتي به شيخه ابن تيمية، وأنه في تصانيفه "يدندن حول مفردات ابن تيمية وينصرها، ويحتج لها" (¬5)، وأنه "من ألمع تلاميذ ابن تيمية، ويعتبر تفكيره امتدادًا للحركة الإصلاحيّة الواسعة التي أقام صرحَها شيخُه، فقد كان الوارث لذلك التراث العلمي الضخم، الذي خلفه ابن تيمية، فعمل على تنظيمه وتبويبه ونشره. ونصب نفسه مدافعًا عن آرائه في حماس لا مزيد عليه، وإن كان يخالفه أحيانًا في بعض الفتاوى" (¬6) وأنه "اتخذه مثلًا أعلى، ولازمه مدةً طويلة، وأخذ عنه علمًا جمًّا، واقتبس منه اتجاهه الحر في البحث، واتّبع مذهبه، ونهج نهجه في مقاومة الطوائف الزائغة عن عقيدة السلف، وقد جَرَّتْ له هذه الصحبة، وهذا الاتحاد في المنهج أتعابًا ومحنًا، أصابه منها ما أصاب شيخه من أذى واعتقال" (¬7) وأنه على كثرة مشايخه لم "يتأثر ¬
بواحد منهم مثلما تأثّر بشيخه ابن تيمية، الذي كان يحل محل ابنه، يوجّهه ويرسم له المناهج القويّة، ويسدي إليه النصائح الرشيدة" (¬1) وأنه "تشبع بآراء أستاذه الجريئة، واقتنع بمبادئه الإصلاحئة، وتألّم مثله بما كان يشاهده في عصره من انحلالٍ اجتماعي وسياسي، وتناحر مذهبي وطائفي، جعل المسلمين في حال تشتت وفوضى، فانطلق يؤيده في كفاحه الإصلاحي في حياته، ويواصل تحقيق مراميه بعد مماته، وكانت هناك وحدة في الاتجاه، واتفاق في المقاصد والأغراض، فدعا مثل أستاذه إلى التحرر الفكري ونبذ التقليد، وبيَّنَ أن باب الاجتهاد (¬2) مفتوح على مصراعيه لكل من وجد فيه الأهلية وتوفرت لديه أدواته، كما دعا إلى الوحدة وجمع الكلمة بالرجوع إلى الكتاب والسنة وتحكيمهما في كل اختلاف واقع بين المذاهب، وبذلك يقع اختيار ما هو الأحسن والأوفق. اكتسب ابن القيم من شيخه قوة في الجدل وإقامة الحجة، غير أنه كان هادئًا صبورًا في جداله ومعارضاته عل خلاف ما عرفت من حدة وثورة في شيخه، ولعل ذلك يرجع إلى أن ابن تيمية كان زعيم هذه الحركة الإصلاحية وحامل لوائها فاشتد النزاع بينه وبين خصومه مما ألجأ كُلًّا من الطرفين أن يستعمل ما يملك من جهد للإطاحة بالآخر، فلما خلفه ابن القيم كان النزاع قد فترت حدته وخفت وطأته، لأن فكرة الإصلاح وجدت سبيلها إلى الأنفس وحصلت على مناصرين عديدين فصارت تعتمد على الهدوء والاتزان" (¬3). ¬
منهج ابن القيم في كتابه
منهج ابن القيم في كتابه يتضح لنا من خلال العرض السابق، والنظر الفاحص المتمعن في الكتاب، أن لصاحبه منهجًا مطردًا علميًّا فيه، نجمله في المحاور الأربعة الآتية: المحور الأول: الاستدلال والاستنباط: ابن القيم إمام ربانيّ، لا يطوي قلبه، ولا يسطر يَراعُهُ حكمًا في مسألة من غير دليل، يشمل هذا كتابنا وغيره، وذكر ذلك العلماء في ترجمته، فيقول -مثلًا- الشوكاني عنه: "كان متقيّدًا بالأدلة الصحيحة، معجبًا بالعمل بها، غير معوّل على الرأي، صادعًا بالحق، لا يحابي فيه أحدًا" (¬1). * وجوب ذكر الدليل والتحقق من صحته: وقال: "وليس له على غير الدليل معول في الغالب، وقد يميل نادرًا إلى مذهب الذي نشأ عليه، ولكنه لا يتجاسر على الدفع في وجوه الأدلّة بالمحامل الباردة، كما يفعله غيره من المتمذهبين، بل لا بد له من مستند في ذلك، وغالب أبحاثه الإنصاف، والميل مع الدليل حيث مال، وعدم التعويل على القيل والقال" (¬2). وقال عنه أيضًا: "وبالجملة؛ فهو أحد من قام بنشر السنة، وجعلها بينه وبين الآراء المحدثة أعظم جُنّة، فرحمه اللَّه، وجزاه عن المسلمين خيرًا" (¬3). ويركز ابن القيم في كتابه هذا تركيزًا شديدًا على ضرورة ذكر الدليل، فقال: "ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم ومأخذه ما أمكنه من ذلك، ولا يُلقيه إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه، وقلّة بضاعته من العلم" (¬4)، وبيّن أن هذا هو طريق أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلافًا لأهل الأهواء والبدع، فقال: ¬
"وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال اللَّه كذا، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، وفعل كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط فمن تأمَّل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبُعدُ الناسِ من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال اللَّه، وقال رسول اللَّه، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه وقول رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يُذكَرُ فيها نَصٌّ اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلَّدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء، والأموال على قول ذلك المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ ذلك الكتاب ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال ما أحلَّه ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه هذا. . . " (¬1). وقال أيضًا: "عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى، وهذا العيب أولى بالمُعيب، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان اللَّه عليهم والقياس الصحيح عيبًا؟ وهل ذكر قول اللَّه ورسوله إلا طراز الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم. وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة؟ ولا يجب الأَخذ به وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ له قبول قوله، وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها فيقول: قال اللَّه كذا، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا أو فعل كذا، فيشفى السائل، ويبلغ القائل، وهذا كثير جدًّا في فتاويهم لمن تأمَّلها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه وعلمه يأبى أن ¬
يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبَعُدَ العهد بالعلم وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلًا، ولا مأخذًا ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، واللَّه المستعان" (¬1). وقد اختار ابن القيم هذا الموقف في العصر الذي كان فيه التقليد بالمعين أمرًا سائدًا؛ بحيث كان يظن كل فقيه ومفت أن العمل على مذهب إمامه واجب، وأنه لا تجوز مخالفته في حالة ما، ولذلك كانت الطريقة المتبعة عند الفقهاء أنهم كانوا لا يستدلون على المسائل الطارئة من النصوص الشرعية، بل كانوا يكتفون بذكر المقتبسات من الكتب الفقهية أو بنقل آراء الفقهاء، ولكن العلامة ابن القيم قد خالف هذا المنهج، والتزم عند استنباط المسائل واستخراجها طريقة منفردة منه، وروجها وعممها، وهي: أنه كان يرجع أولًا للعلم بوجهة الشريعة في المسائل الطارئة إلى الكتاب والسنة ويستأنس فيها بآثار الصحابة والتابعين، وكان يذكر في هذا الصدد آراء أئمة الفقه أيضًا، وإن كان يضطر إلى اختيار أثر من آثار الصحابة والتابعين وقول من أقوالهم، أو إلى رأي من آراء الفقهاء في مسألة عند عدم وجود نص صريح واضح من الكتاب والسنة فيها، فكان يقبل ويرجح قطعيًا في هذه الحالة رأيًا أقرب إلى الكتاب والسنة وإن لم يوافق ذلك مذهبه الفقهي، وكان يتبع هذا المنهج أيضًا عند الاجتهاد في المسائل المتجددة فكان يقوي ويبرهن فتواه وقوله بنصوص من الكتاب والسنة وآثار الصحابة والتابعين لا بأقوال الفقهاء، ولا يعني هذا أنه لا يوجد ذكر الكتاب والسنة قطعًا لدى تشريح المسائل الفقهية وتوضيحها أو تفريعها عند غيره من الفقهاء المعاصرين له، بل الاستشهاد والاستئناس بالنصوص الشرعية عندهم أيضًا يوجد بدون شك، ولكنه تبعًا لأنهم كانوا يذكرون مواقف أئمتهم من الفقهاء المجتهدين وحججهم بدلًا من أن ينتفعوا بهذه النصوص مباشرة، فيكتفون بنقل النصوص الواردة في دلائل أئمتهم، أما ابن القيم فعندما كان يتعرض للمسائل الفقهية كان يستأنف التفكير في الكتاب والسنة وبعد التفكير وإمعان النظر في الأدلة كان يستنتج النتائج، ثم إن لم يكن بد من مزيد التصريح والتوضيح فيستأنس بآراء الفقهاء القدامى. ¬
معنى كتاب الله عند ابن القيم
ومحصل الكلام أنه رحمه اللَّه لم يوجب على نفسه تقليد الأشخاص والرجال واتباعهم في الفقه وغيره من الأمور، بل كان يعتبر الكتاب والسنة وآثار الصحابة أسوة وقدوة لنفسه، وإن هذه الوجهة تضاعف بها التوطيد والتدعيم في ارتباط الفقه مع القرآن والسنة وبها قوي واستحكم أمر إجالة الفكر والنظر والاجتهاد في المسائل الفقهية. وهذه السمة في منهجه الفقهي منحته رفعة وعظمة وقبولًا عند جميع المنصفين. - ترتيب الأدلة: * معنى كتاب اللَّه عند ابن القيم (¬1): - من خلال النقولات السابقة نجد أن ابن القيم اعتبر النصوص أصلًا أولًا للاستنباط، ويراد بالنصوص، نصوص الكتاب والسنة، ولم يهتم ابن القيم بإعطاء تعريف للكتاب والسنة، إلا ما جاء عرضًا، حيث نجده يبيّن من خلال رسالة عمر إلى أبي موسى المراد من لفظ (كتاب اللَّه) الوارد في "ما كان من شرط ليس في كتاب اللَّه. . . " (¬2)، فيقول: "ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعًا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل علمت من السنة، فعلم أن المراد بكتاب اللَّه حكمه، كقوله {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كتاب اللَّه القصاص في كسر السن" (¬3) فكتابه سبحانه يطلق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬4). * منزلة القرآن والسنة من الاستنباط: يظهر من خلال ما سبق أن القرآن والسنة عند ابن القيم في منزلة واحدة، ويؤكد ذلك أمور: أولًا: قال في معنى (الذكر): "اللَّه أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو ¬
القرآن، والحديث الذي أمر اللَّه نساء نبيّه أن يذكرنه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، فهذا هو الذكر الذي أمرنا اللَّه باتباعه" (¬1). فجعل رحمه اللَّه الكتاب والسنة في منزلة واحدة. ثانيًا: لما عدّ أصول الإمام أحمد (¬2)، اعتبر الكتاب والسنة شيئًا واحدًا أو أصلًا واحدًا، فعبر عنه بالنصوص، فهو بذلك يضعهما في رتبة واحدة، للتلازم بين الكتاب والسنة، من حيث أن السنة مبيّنة ومفصّلة وموضّحة لمجمل القرآن. ثالثًا: ذكر أن اللَّه عز وجل نصب رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "منصب المبلغ المبتن عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن اللَّه أن هذا شرعه ودينه" (¬3) قال: "ولا فرق بين ما يبلِّغه عنه من كلامه المتلو، ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا" (¬4). فهذا تصريح منه في وجوب امتثال أوامر الكتاب والسنة، واجتناب نواهيهما. رابعًا: قال في معنى (الرد) الواجب عند التنازع في قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، "إن الناس أجمعوا أنّ الرد إلى اللَّه سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الرد إليه نفسه في حياته، وإلى سنّته بعد وفاته" (¬5). وجاء هذا الرد في سياق واحد، لخروجهما من مشكاة واحدة. خامسًا: لما تحدث عن إتيان السنة بأحكام زائدة عن القرآن، قال: "فما كان منها زائدًا عن القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب اللَّه، بل امتثال لما أمر اللَّه به من طاعة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬6). سادسًا: قوله عند شرح حديث: "إني قد خلفت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب اللَّه وسنتي، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض" (¬7): "فلا يجوز ¬
ضرورة الاحتجاج بالسنة
التفريق بين ما جمع اللَّه بينهما، ويرد أحدهما بالآخر" (¬1)، ويدل على هذا استدلاله بحديث: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه" (¬2). سابعًا: يظهر هذا جليًا عند حديث ابن القيم عن (بيان السنة للقرآن)، نعم، هو مسبوق (¬3) بما قرره في كتابنا هذا، ولكنه فَصّل في هذا المبحث تفصيلًا دقيقًا جدًّا، يدل على عمق تفكره، وجعله عشرة أقسام (¬4)، ومن هذه الأقسام: 1 - بيان نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أن كان خفيًا. 2 - بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك. 3 - بيانه بالفعل. 4 - بيان ما سئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن، فنزل القرآن ببيانها. 5 - بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا. 6 - أن يحكم القرآن بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويحيل اللَّه على رسوله في بيانها. فهذه الأقسام الست في درجة القرآن من حيث الاحتجاج، تساويه وتدانيه، وهي وإياه في مرتبة واحدة، والأنواع الأخرى تلحق بها، و"أن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يقول ولا يفعل ولا يقر ما يخالف القرآن، فهو المبلّغ عن ربه، الخبير بمقاصد الشريعة، والمعصوم من الخطأ" (¬5). * ضرورة الاحتجاج بالسنّة: قرر ابن القيم أن العمل بالسنة والرجوع إليها أمر واجب كالقرآن، فقال عنها: "وهي في وجوب اتباعها وتحكيمها والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحد من المسلمين العدول عنها ما وجد إليها سبيلًا"، وقال في مسألة: "وقد دلت السنة الصحيحة الصريحة على ذلك، فلا عبرة بخلاف من خالفها" (¬6)، وقال: "وهذا صحيح بلا تردد" (¬7)، بل يرى أن الرد إليها من موجبات الإيمان ¬
الاحتجاج بالصحيح من السنة دون الضعيف
ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان (¬1)، واستدل على حجيتها بالكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة، ولا سيما المتبوعين منهم، وصار كلامه مرجعًا لمن ألّف في ذلك (¬2). * الاحتجاج بالصحيح من السنة دون الضعيف: ركز ابن القيم رحمه اللَّه على ضرورة الاحتجاج بالثابت دون المطروح، وبالصحيح دون السقيم، فقال مثلًا -بعد كلام-: "فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا، وجب الانقياد لها، والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحة لم يؤخذ بشيء مما فيها، فإما أنْ تصحح ويؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضَعَّف، أو. . . "، وقال في موطن آخر: "إن هذه الأحاديث لم تثبت، ولو ثبتت لم تحل مخالفتها، ووجب العمل بها"، وقال أيضًا: "والذي ندين اللَّه به ولا يسعنا غيره. . أن الحديث إذا صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه، وترك كل ما خالفه" (¬3). ونقل عن أحمد وغيره أن من الصفات اللازمة للمفتي معرفة الحديث الضعيف، وتمييز الإسناد القوي من الضعيف. وهنالك عشرات الأمثلة التطبيقية في الكتاب، يرد فيها ابن القيم على المخالفين بتضعيف أدلتهم، وينقل كلام أئمة الجرح والتعديل، فها هو يقول مثلًا: "وأما تلك الآثار التي رويتموها، ففيها ضعف" (¬4) وأخذ في سرد ما يدلل على ذلك ومن دقته في هذا الباب: التمييز بين الثابت في الموقوف والمرفوع (¬5)، ويعتني بالألفاظ الثابتة في الأحاديث دون غير الثابت في الحديث نفسه عند اختلاف الرواة (¬6). ومن إنصافه: تضعيفه آثارًا فيها ما يدل على ترجيحه، فقال: "ولو كنا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنِّفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيِّدًا لقوله، فرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غنية، فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على ¬
مؤاخذات حديثية على المصنف
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬1). وساق الآثار، وقد تعلَّق بها المختلفون في المسألة، إذ فيها الجواز وعدمه، وقال عنها ملخّصًا حالها: "والمقصود أن الآثار من الطرفين لا مُستراح فيها" (¬2). * مؤاخذات حديثيّة على المصنّف: لم تسلم للمصنّف جميع نقداته للأسانيد، وكلامه عليها (¬3)، ويمكن حصر المؤاخذات عليه في هذا الباب بالأمور الجملية الآتية: أولًا: عزوه أحاديث لمصادر هي ليست فيها، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 72، 310، 2/ 381 - 382 و 5/ 295، 426، 494). ثانيًا: هنالك أحاديث عزاها المصنف لبعض دواوين السنة البعيدة، وهي في "الصحيحين" أو أحدهما، من المثال على ذلك: ما في (4/ 580) حيث عزاه للطبراني وهو في البخاري، وما في (5/ 584) حيث عزاه للبزار، وهو في "الصحيحين"، وما في (5/ 580) حيث عزاه للطبراني وأبي نعيم وهو في البخاري، وما في (5/ 311) حيث عزاه للنسائي وهو في البخاري وما في (3/ 349 - 350) حيث عزاه للنسائي وهو في مسلم، وما في (5/ 487) حيث عزاه لأبي داود وهو في البخاري، وما في (5/ 445) حيث عزاه لأحمد وأبي داود وهو في مسلم. ثالثًا: هنالك مؤاخذات في العزو لـ"الصحيحين" أو أحدهما، فمثلًا، أورد المصنف في (1/ 411) حديثًا عزاه لـ"الصحيحين" ولم يورد لفظهما أو لفظ أحدهما، وإنما أورد لفظ الرامهرمزي في "الأمثال"، وكذلك فعل في (1/ 306) حيث عزى حديثًا و"الصحيحين" وأورد لفظًا ليس فيهما، وأورد في (5/ 155، 210)، حديثًا عزاه لمسلم، ولفظه ليس في "صحيحه" وعزى في (3/ 296) حديثًا ¬
لمسلم عن أنس، وهو عنده عن عبد اللَّه بن عمرو، وفي (3/ 280) حديثًا آخر لمسلم عن ابن عمر، وهو عنده عن ابن أبي أوفى، ومثله خارج "الصحيح"، انظر (2/ 466) و (1/ 424)، وعزى في (5/ 313) حديثًا لـ"الصحيحين"، وهو فقط عند البخاري معلقًا. رابعًا: لم يميز المصنف في بعض الأحايين في عزوه الأحاديث لـ"مسند أحمد"، و"زوائد ابنه عبد اللَّه" عليه، انظر (3/ 287 و 5/ 209، 212، 213، 314، 596)، وساق في (5/ 331) حديثًا نقله عن أحمد، ولفظه ناقص، وعزى في (1/ 410 - 411) حديثًا لأحمد عن المستورد وهو فيه عن أبي موسى. خامسًا: أورد المصنف أحاديث، هي مركبة من حديثين، انظر (2/ 268، و 5/ 505، 548). سادسًا: هنالك بعض النصوص في الكتاب أوردها المصنف مرفوعة، وهي لم تثبت إلا موقوفة، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 416، و 5/ 422 و 4/ 63 - 64، 259)، والعكس، كما في (2/ 191 - 192)، وانظر (1/ 255 و 2/ 504 - 505، 5/ 110 - 111، 290). سابعًا: هنالك ألفاظ وروايات أوردها المصنف ولم يعزها لأحد، انظر -على سبيل المثال-: (3/ 276، 281، 282، 283). ثامنًا: هنالك أحكام للمصنف على بعض الأحاديث فيها كلام، والصنعة الحديثية تقضي بخلاف ما قرره (¬1)، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 459 و 5/ 211، 310 - 311)، وأورد المصنف بعض الأحاديث وسكت عليها في موطن، وضعّفها في موطن آخر، انظر -مثلًا- (5/ 34 - 35)، وسكت على أحاديث لم تثبت، انظر -مثلًا- (3/ 284، 499). تاسعًا: هنالك آثار عزاها المصنف لغير أصحابها، انظر (1/ 395 و 3/ 305 و 5/ 29). هذه ملاحظات في مواطن يسيرة (¬2)، لا تضرّ معرفة المصنف الدقيقة، وتبحره العميق في علوم الحديث: دراية ورواية، فإنه أورد نصوصًا كثيرة جدًّا، وتكلّم عليها بدقة متناهية، ووُفِّق في جُل ذلك، وللَّه الحمد. ¬
تقديم الأدلة النقلية على غيرها
ومما يدل على سعة معرفة المصنف ودقته (¬1)، عدم عثوري على ألفاظ أوردها المصنف، مع محاولة شد النفس، والنظر في الفهارس والمسانيد والمعاجم والأجزاء الحديثية، انظر -مثلًا- (3/ 386، 390، و 5/ 335). * تقديم الأدلة النقلية على غيرها: ومن المباحث التي تعرض لها ابن القيم، ولها صلة بـ (ترتيب الأدلة): تقريره تقديم خبر الآحاد على عمل أهل المدينة (¬2)، خلافًا للمالكية، وأن "السنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارًا على السنة" (¬3) وأن العمل الذي يؤخذ به إنما هو "عمل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه والصحابة، فذاك هو السنة" بخلاف العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال، "فالواجب المصير إلى الخبر، فإنه دليل منفرد عن مسقط أو معارض" (¬4)، فلا ينبغي أن "يخلط أحدهما بالآخر، فنحن لهذا العمل أشد تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشد تركًا" (¬5). وأن المعارضة بين الخبر والعمل على نوعين: - نوع لم يعارضه نص، ولا عمل قبله، ولا عمل مصر آخر غيره. - نوع عارضه واحد من الثلاثة. والتسوية بين النوعين تسوية بين المختلفات، التي فرق العقل والنص بينها، والتفريق بينها يتوقف على دليل يعتمد في التمييز بين ما هو معتبر وما هو غير معتبر، وأكد ابن القيم أن أي دليل يذكر لتقديم العمل، إلا كان دليل تقديم النص أقوى (¬6). وكذلك رد على الحنفية الذين ردوا خبر الواحد إذا كان الراوي له غير فقيه على زعمهم (¬7)! ورد قول من قال بعدم أخذ رواية الراوي المخالفة لرأيه (¬8)، إذ ¬
"من الممكن أن ينسى الراوي الحديث، أو لا يحضره وقت الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، يقوم في ظنه ما يعارضه، ولا يكون معارضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه؛ لاعتقاده أنه أعلم منه، وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفتُهُ لما رواه سقوطَ عدالَتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك" (¬1). وهذا يتمشى مع ما رسمه ابن القيم من منهج له في تقديم نصوص الوحي على غيرها، ومن هذا الباب: تقديم فتوى الصحابي على الحديث المرسل، لضعفه. والمرسل عنده حجة إذا توفرت فيه شروط، قال: "والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس، أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفًا باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عمل به" (¬2). وأما بالنسبة للإجماع، فقد رد كثيرًا من الإجماعات المكذوبة، التي يعطل بعض المنتسبين للفقه بسببها العمل بأحاديث صحيحة خالفتها، وقرر أن الإجماع المعترف بوجوده هو إجماع الصحابة، ولذلك جعله وراء النصوص مباشرة، ومقدمًا على الأحاديث الضعيفة غير الموضوعة (¬3)، قال: "فإن علِمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة، أَسْهلُ عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحكم، وهذا إن لم يكن متعذّرًا فهو أصعب شيء وأشقه، إلا فيما هو من لوازم الإسلام" (¬4). ¬
ويرد على المتوسعين بدعاوى الإجماع، بأنه "ليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدم عدم العلم على أصل العلم كله (¬1)؟ ثم كيف يسوغ له ترك الحق المعلوم إلى أمر لا علم له به؟ وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه، متساويًا أو راجحًا" (¬2). ورد بقوة على من زعم اشتراط انقراض عصر المجمعين، وأنه لما "نشأت هذه الطريقة، تولد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُجَّ عليه بالقرآن والسنة، قال: هذا خلاف الإجماع! وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه" (¬3). والخلاصة: أن إجماع الصحابة فقط حجة قاطعة، بل هي أقوى الحجج وآكدها (¬4)، و"إنما يصار إليه فيما لم يعلم فيه كتابًا ولا سنة، هذا هو الحق" (¬5). ومما ينبغي أن يذكر في هذا الباب: رد ابن القيم بالآثار السلفية الشهيرة على دعوى الإجماع وما عليه السواد الأعظم، حيث جعلوا ذلك عيارًا على السنة، وجعلوا السنة بدعة، لقلّة أهل الحق، وقال عنهم: "قلبوا الحقائق" وذكَّرهم أنه في زمن الإمام أحمد شذ الناس كلهم إلا نفرًا يسيرًا، فكانوا هم الجماعة، وكان القضاة والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذُّودن، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة (¬6). والذي جعله يذكر هذا عدم الاغترار بما عليه الناس في مقابل النصوص. وكذلك مبحثه في (أقوال الصحابة) وحجيّتها، فاجزاء الكتاب جميعًا لا تخلو من هذا الموضوع، وأن القول بالحجيّة راجع إلى إعمال النصوص وتقديمها على الرأي، إذ "أنهم شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬7) ولذا فـ "أفهام الصحابة فوق أفهام جميع الأمة، وعلمهم بمقاصد نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- وقواعد دينه وشرعه، أتم من علم كل من جاء بعدهم" (¬8) وقد أطال ابن القيم في ذكر الأدلة على حجية أقوالهم، ودعَّم ذلك بست وأربعين وجهًا (¬9)، ¬
الاستدلال بالنظر والقياس الصحيح والمعقول
بعضها من القرآن، والآخر من السنة، وبعضها من أقوال السلف، وختم بالأدلة العقلية. وفصّل في القول بالحجيّة، وفرع معتمدًا على مخالفة بعضهم بعضًا، أو مع عدم وجود المخالفة فيما بينهم، أو وجود أبي بكر وعمر مع أحد الفريقين، أو اختلاف أبي بكر وعمر، وهكذا، على وجه استوعب فيه الكلام على كل حالة (¬1). وألحق تفسير الصحابة بفتاويهم، وعد ذلك من الرأي المحمود (¬2). وأما التابعون والاحتجاج بفتاويهم، فالأمر عند ابن القيم "كلما كان العهد بالرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أقرب كان الصواب أغلب" وبيّن أن هذا حكم بحسب الجنس، لا بحسب كل فرد من المسائل (¬3). وقول التابعي إذا لم يعلم له مخالف، فليس كقول الصحابي، لأن "التابعين انتشروا انتشارًا لا ينضبط؛ لكثرتهم، وانتشرت المسائل في عصرهم، فلا يكاد يغلب على الظن عدم المخالف، لما أفتى به الواحد منهم" (¬4). وأشاد بهم، بتقريره أنهم أعلم الأمة بكلام اللَّه ورسوله ومعانيه، وأن الشافعي صرح في موضع بأنه قلد عطاءً (¬5)، وأن أحمد له قولان في الاحتجاج بتفسير التابعي، قال: "ومن تأمل كتب الأئمة ومن بعدهم وجدها مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي" ولذا قال: "إنما الحجة في الآثار" (¬6)، وفي هذا رد على من زعم (¬7) أن ابن القيم لم يأخذ بقول التابعين بإطلاق! الاستدلال بالنظر والقياس الصحيح والمعقول: وبعد هذه الاستدلالات التي مرجعها النقل، يأتي دور الاستدلال بالنظر والاعتبار والقياس الصحيح (¬8) والمعقول، وهذا هو النوع الرابع من الرأي المحمود عنده، شريطة أن ينظر صاحبه إلى "أقرب ذلك من كتاب اللَّه وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سوَّغه الصحابة واستعملوه، ¬
عمل أهل المدينة
وأقرّ بعضُهم بعضًا عليه" (¬1). ومن الأمور المهمة التي قعّدها ابن القيم وركز عليها: استدلاله بالعرف، وسيأتي هذا قريبًا عند كلامنا على الاستنباط ووجوه الاستدلال. - عمل أهل المدينة: ومما ينبغي أن يذكر في هذا الصدد: كلامه التقعيدي على (عمل أهل المدينة) (¬2). تناول ابن تيمية في "فتاويه" (¬3) عمل أهل المدينة فذكر أن مذهب أهل المدينة على عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم هو أصح مذاهب أهل الأمصار الإسلامية في الأصول والفروع، وأنه لم يقل أحد بحجية مذهب أهل مصر من الأمصار، كما قال جمهور الأئمة بحجية مذهب أهل المدينة وإن اختلفوا في بعضه. وأن مذهب أهل المدينة على أربع مراتب: حجة باتفاق، وحجة قوية، وحجة مرجحة للدليل، والرابعة: حجة عند بعض أهل المغرب من أصحابه. وتناول ابن القيم بدوره الحديث عن عمل أهل المدينة، وأبان من خلاله عن شخصيته المستقلة عن شيخه، ولم يكرر ما توصل إليه شيخه. فهو يميز بين عمل أهل المدينة زمن الخلفاء الراشدين، وعملهم بعد موتهم، وبعد انقراض عصر من كان بها من الصحابة، فالأول اعتبره كالسنة، فقال بحجيته وتحكيمه، والثاني لا فرق بينه وبين عمل غيرهم، فإذا خالف السنة، يترك (¬4). فابن القيم لا يوافق شيخه في أن مذهب أهل المدينة على عهد التابعين وتابعيهم، أصح مذاهب أهل الأمصار في الأصول والفروع، وإنما يقصر الأمر على عصر الخلفاء الراشدين فقط. - أقسام العمل عند ابن القيم: حتى يتبين العمل المقبول من المردود، قسم ابن القيم العمل إلى ¬
قسمين رئيسيين (¬1): القسم الأول: ما كان من طريق النقل والحكاية، وهو على ثلاثة أضرب: أولًا: نقل الشرع مبتدأ من جهة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أربعة أنواع: 1 - نقل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: وهو الأحاديث المدنية التي هي أم الأحاديث النبوية وأشرف أحاديث أهل الأمصار، ومن تأمل أبواب البخاري وجده أول ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يتبعها بأحاديث الأمصار. 2 - نقل فعله -صلى اللَّه عليه وسلم-: كنقلهم أنه توضأ من بئر بضاعة، وخروجه كل عيد إلى المصلى ليصلي هو والناس، وكيف كان يخطبهم. 3 - نقل تقريره لهم على أمر شاهدهم عليه أو أخبرهم به: كنقلهم إقراره لهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرم عليهم فيها الغش والتوسل بها إلى المحرمات، وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة، وذكر أيام الجاهلية والمسابقة على الأقدام، وكإقراره لهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرض لكيفية وقوعها، وإنما أنكر منها ما لا مساغ له في الإسلام حين الدخول فيه، إلى غير ذلك مما أقرهم عليه. 4 - نقلهم لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله: - فإما أن يصرحوا بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقولهم في شهداء أحد: ولم يغسلهم ولم يصل عليهم. - وإما ألا ينقلوا ما لو فعله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو أحد منهم على نقله، فما دام لم ينقله واحد منهم قط ولا حدث به في مجمع أبدًا، علم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفظ بالنية عند دخوله في الصلاة، وغير ذلك، ومن هنا يعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنة، فإن تركه سنة كما أن فعله سنة. ثانيًا: نقل العمل المتصل زمنًا بعد زمن من عهده -صلى اللَّه عليه وسلم-: كتركهم أخذ الزكاة من الخضروات مع أنها كانت تزرع بالمدينة، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والخلفاء بعده لا ¬
يأخذون منها. وكنقل الأذان للصبح قبل الفجر، وتثنية الأذان وإفراد الإقامة، وغير ذلك، فهذا النقل حجة يجب اتباعها. ثالثًا: نقل لأماكن وأعيان ومقادير لم تتغير حالها: كنقلهم الصاع والمد، وتعيين موضع المنبر، ومسجد قباء، وتعيين الروضة والبقيع ونحو ذلك، ونقل هذا جار مجرى نقل مواضع المناسك، كالصفا والمروة ومنى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة ومواضع الإحرام. وهذا القسم ينبغي ألا يختلف فيه، لأنه من باب النقل المتواتر ولا فرق بين القول والفعل والإقرار، كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي، فإنهم عدد كثير وجم غفير يستحيل تواطؤهم على خلاف الصدق. القسم الثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال، وهذا القسم وقع فيه خلاف بين المالكية، كما نقل ذلك ابن القيم عن القاضي عبد الوهاب، وهذا الخلاف على ثلاثة أوجه: - أحدها: أنه ليس بحجة أصلًا، وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل، ولا يرجح به أيضًا أحد الاجتهادين على الآخر، وهذا قول معظم المالكية. وقد أنكروا أن يكون هذا مذهبًا لمالك، أو لأحد من معتمدي أصحابه. - الوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة، فإنه يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم، وهو قول بعض المالكية، وبه قال أصحاب الشافعي. - والوجه الثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجة، وإن لم يحرم خلافه، كإجماعهم من طريق النقل، وهذا مذهب قوم من المالكية وحكوه عن مالك، وفي رسالةَ مالك إلى الليث بن سعد (175 هـ) ما يدل عليه (¬1). ومن الجدير بالذكر أن الدكتور الجيدي (¬2) ذكر أن الذين انتقدوا عمل أهل المدينة ورفضوا الأخذ به يظهر من كلامهم أنهم نظروا إليه باعتبار أنه إجماع، خلافًا لما ذهب إليه محققو المالكية. وهذا الكلام لا ينطبق على ابن القيم لأنه: 1 - على معرفة دقيقة بعمل أهل المدينة. ¬
2 - ينطلق في حديثه عن العمل مما ذكره محققو المذهب كالقاضي عبد الوهاب، وينطلق من الأحكام التي أصلها العمل، مبينًا ترجيح المالكية للعمل على سنن ثابتة بحجة أنها من أخبار الآحاد. 3 - في رده ليس هناك ما يدل على أنه يقصد فهم الإمام مالك للعمل، وإنما يقصد المتعصبين للمذهب الذين يأخذون بالعمل بإطلاق، دون التمييز بين ما طريقه النقل وما طريقه الاستدلال. وقد صرح ابن القيم -كما تقدم- أن ما طريقه النقل موضع اتفاق، ولا يتصور وجود نص صحيح يعارضه. يقول الباجي: "إن مالكًا إنما عول على أقوال أهل المدينة وجعلها حجة فيما طريقه النقل. . . " (¬1)، "وأما مسائل الاجتهاد فالمالكية وغيرهم سواء" (¬2). وعلق الدكتور الجيدي (¬3) على موقف ابن القيم من العمل بأنه متناقض، حيث ما نص عليه في "إعلام الموقعين" من أن عمل أهل المدينة منه ما هو حجة ومنه ما ليس كذلك، ناقضه في كتابه "الطرق الحكمية" (¬4) حيث أشاد به واعتبره حجة. وحتى يتبين هذا الأمر نعرض ما جاء عن العمل في "الطرق الحكمية": قال ابن القيم: ". . . ومن ذلك قول أهل المدينة -وهو الصواب- أنه لا يقبل قول المرأة: أن زوجها لم يكن ينفق عليها ويكسوها فيما مضى من الزمن، لتكذيب القرائن الظاهرة لها، وقولهم في ذلك هو الحق الذي ندين اللَّه به ولا نعتقد سواه" (¬5). فوَصْفُه قولَ أهل المدينة بالصواب، لا يفهم منه أنه يعمم الصواب على كل أقوال أهل المدينة، ووصفه بأنه الحق الذي يدين اللَّه به ولا يعتقد سواه، يقصد به ابن القيم هذه المسألة بالذات ولا يعمم. وعن مذهب أهل المدينة في الدعاوى يقول: "وهو من أَسَدِّ المذاهب وأصحها" (¬6)، ويقول: "هذا مذهب مالك وأصحابه وهو الصواب" (¬7)، في موضوع الدعاوى بالخصوص. ¬
الاستصحاب
هذا الفهم هو الذي يبدو أن كلام ابن القيم المتقدم يحتمله، فليس إذَنْ في مَوقِفِهِ مِنَ العمل أَيَّ تناقض. ثم إن قوله برأي للمالكية في مسألة لا يلزمه أن يقول بكل آرائهم، ورفضه لرأي لهم لا يعني بالضرورة وجوب رفضه لكل آرائهم، فهو يقول بالرأي الذي يؤيده الدليل، سواء كان رأيًا للمالكية أو لغيرهم. - الاستصحاب: وتكلم المصنف على حجية (الاستصحاب) في معرض رده على القائلين بنفي القياس. وقرر أن هؤلاء أخذوا بالاستصحاب على وجه مبالغ فيه، وبيّن أنه على أقسام (¬1): الأول: استصحاب البراءة الأصلية. الثاني: استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه. الثالث: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. وذكر الخلاف في القسم الثالث على قولين، ومثّل على جميع هذه الأقسام (¬2)، وقرر أن الاستصحاب حجة ودليل ضعيف يدفع بالأدلة الشرعية: بالعموم والمفهوم، والقياس (¬3)، ويؤخذ به حيث لا دليل، وتنبني عليه مبادئ وقواعد فقهية، مثل: (اليقين لا يزول بالشك) (¬4) و (الأصل بقاء ما كان على ما كان) (¬5). - كلمة في حجية القياس: ولا يجوز في هذا المقام بأي حال من الأحوال إهمال (القياس)، فإن المصنف أسهب في الكلام عليه جدًّا، وظهر ذلك جليًّا عند مبحثنا المُعَنْوَنِ بـ (موضوع الكتاب ومباحثه)، ولكن أرى هنا ضرورة التركيز على النقاط الآتية: أولًا: بناءً على تبنّي المصنف بقوّة كون الشريعة معلّلة (¬6)، توسّع في القياس ¬
الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال
من جهة، وضيَّقه من جهة أخرى، وأحسن في الحالتين. أما من حيث التضييق، فعلى ما قدّمنا من حيث تقديم النصوص عليه (¬1). وأما من حيث التوسّع، فبناءً على إعمال المعاني، وعدم إهدارها، ولذا فإن "النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلْنا اللَّه ولا رسوله على رأي ولا قياس، بل قد بيَّن الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق للنصوص، فهما دليلان للكتاب والميزان، ولا تخفى دلالة النص، أو لا تبلغ العالم، فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص، فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له، فيكون فاسدًا" (¬2). واستشكل العلماء هذا التقرير من ابن القيم، ومحل بسط ذلك في: * الاستنباط وبيان وجوه الاستدلال: نادى ابن القيم باستثمار الأحكام الشرعية من النصوص، باعتبار دلالتها في ذاتها، وباعتبار دلالة إضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة فكره وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف باختلاف الناس وتفاوتهم في مراتب الفهم عن اللَّه وعن رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). وبهذا يكون ابن القيم قد ضيق الخناق على القياس (¬4)، ومن مؤسسي بناء ¬
الشريعة وأحكامها على مقاصدها وحِكَمِها وأسرارها القائمة على النصوص الشرعية، وعدم الإسراف في القياس. وثمرة ذلك بناء الأحكام على اليقين المنبثق من (تعليل الأحكام)، و (استقراء) المقاصد، والاعتناء بـ (الأشباه والنظائر) و (تتبع الحكم والأسرار) لنصوص الوحيين الشريفين وذلك خير من بنائها على الظن والتخرص المستند إلى القياس (¬1). هذا هو عمدة الاجتهاد الذي نادى به ابن القيم، وهو مدار الفقه عنده، والخصوصية التي يتميز بها الفقيه -عنده- هي "الدليل، وقوة الفهم، وجودة الفكر، ووفور العلم، والاستنباط، فلا أثر للكثرة، فالشخص الواحد، قد يكون أكثر تحقيقًا وتدقيقًا وفهمًا من كثيرين" (¬2). وضرب ابن القيم أمثلة عديدة مما اختلف فيه السلف ومن بعدهم، وقد بيّنت النصوص أحكامها، ومع هذا فقد سلك (القياسيون) طريقًا وعرًا، من مثل (المسألة المشتركة في الفرائض) (¬3) و (مسألة ميراث البنات) (¬4) وكذلك دخول (النباش) في عموم قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. ثانيًا: كأني بالمصنف -بناء على ما سبق- يقرر الآفة عند الفقهاء، وهي التوسع في (إِعمال الرأي) مقابل (النصوص) و (فتاوى الصحابة)، ولجوئهم إلى (العقل) دون (النقل)، ذلك "أن الفقيه قد يجد قولًا للسلف في حكم معين، ولكنه لا يهتدي إلى كيفية استخراج ذلك القول من نصوص الكتاب والسنة، فالذي ينبغي لمثل هذا الفقيه هو أن يبحث ويجتهد حتى يتوصل إلى القول الراجح، وإلى كيفية استنباطه من الكتاب والسنة، ثم ضبط الاستنباط بضوابط تعم أفراد النوع الواحد، غير أن بعض الفقهاء إذا وجد مثل تلك الأقوال، ولم يعرف كيف استخرجها الصحابي أو التابعي أو الإمام من النص، فإنه يستسهل أن يزعم بأن القضية لا نص فيها من الكتاب والسنة، وإن الصحابي أو الإمام قال قوله كدليل أو حكم ثالث: هو الرأي أو القياس أو المصلحة!! وكتب المتأخرين والمعاصرين مملوءة بهذا النمط من التخريج، وهو مسلك فاسد جدًّا، يصرف طلبة العلم عن وسائل الاستنباط، ¬
ويقطع عليهم سبل الاجتهاد؛ وذلك لأن الطالب هنا جعل جهله حجة فقطع على نفسه السبيل، ووقف قبل أن يبلغ غايته التي هي الفقه في الكتاب والسنة، ثم يفني هذا الفقيه عمرًا يتبحر في دليل أو حكم لا تتناوله نصوص الكتاب والسنة بعموم ولا إطلاق ولا مقتضى أمر ولا نهي ولا منطوق ولا مفهوم ولا ظاهر عبارة ولا عبارة مصروفة عن ظاهرها ولا شبه ذلك مما يفيده الاستنباط المباشر من النص، فلا شك أنه حكم موهوم ودليل لا حقيقة له، ومن المحال ضبطه وإتقانه لأنه مما افتعله البشر، وليس مما أنزل اللَّه تعالى. ولذلك تجد مسالك القياس عند المتأخرين في غاية الوعورة والتعقد إلى حد يعجز القائسون أنفسهم عن إدراكها، والانتفاع بها، لما يتجدد من الوقائع ويحدث من القضايا، ولننظر مثلًا إلى لفظ المؤثر والمناسب والمخيل وقياس الشبه والطرد، وهي من الاصطلاحات المهمة في القياس، واعتمد عليها الأصوليون في فهم القياس وضبطه، بحيث يتوقع أن عامة أهل القياس يفهمونها حق الفهم، ولكن قال أبو حامد الغزالي رحمه اللَّه تعالى: "وقد أطلق الفقهاء المؤثر والمناسب والمخيل والملائم والمؤذن بالحكم والمشعر به، واستبهم على جماهير العلماء والأفاضل، إلا من شاء اللَّه دركُ المَيزِ والفصلُ بين هذه الوجوه، واعتاص عليهم طريق الوقوف على حقائقها بحدودها وخواصها. واتصل بأذيال هذه الأجناس قياس الشبه والطرد، وهي المغاصة الكبرى والغمرة العظمى، فلقد عز على بسيط الأرض من يعرف معنى الشبه المعتبر ويحسن تمييزه عن المخيل، والطرد وإجراءه على نهج لا يمتزج بأحد الفنين" (¬1). ومن أراد شهودًا على كلام الغزالي، فلْيقرأ مباحثَ القياس في كتب المتكلمين. وقد شعر بعضهم بأثر القياس في الصد عن الاستنباط المباشر من القرآن والسنة، ونقل بعض القائسين هذا الأثر كحجة لنفاة القياس، قال علاء الدين البخاري: "قال القاضي الإمام في "التقويم": قالوا: وفي الحجر عن القياس أمران بهما قوام الدين ونجاة المؤمنين، فإنا متى حجرنا عن القياس لزمنا المحافظة على النصوص والتبحر في معاني اللسان. وفي محافظة النصوص إظهار قالب الشريعة كما شرعت، وفي التبحر في معاني اللسان إثبات حياة القالب؛ فتموت البدع بظهور القالب، ويسقط الهوى بحياة القالب؛ لأن القالب لا يحيى ¬
إلا باستعمال الرأي في معاني النصوص، ومعانيها غائرة جمة لن تنزف بالرأي وإن فنيت الأعمار فيها، فلا يفضل الرأي للهوى؛ فيتم أمر الدين" (¬1). الحاصل من ذلك: أنه ينبغي توجيه الرأي في الدين على أنه القدرة العقلية على تفسير الكتاب والسنة والاستنباط منهما، وخدمة أحكامهما، وليس هو دليلًا ثالثًا معهما، فإذا أخذ الرأي هذه الوجهة صلح أمر أهل العلم الذين هم رؤساء الناس. وعلى أي حال؛ فإن كان القائسون يرون حصر الدين بالكتاب والسنة، ويريدون بالرأي الذهن المتوقد والقدرة العقلية على الاستنباط من الكتاب والسنة، وتنفيذ أحكامهما فلا خلاف معهم ولا إشكال في ادعاء إجماع الصحابة. وأما إن كانوا يريدون بالرأي أو القياس دليلًا ثالثًا في الدين سوى الكتاب والسنة فلا شبهة في بطلان ذلك، بل ليس ببعيد أن ندعي إجماع الصحابة على بطلانه" (¬2). وما أقعد ما قاله ابن القيم: "وقد تقدم مرارًا: أن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلما كان الرجلُ إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد" (¬3)! ثالثًا: من الأمور التي أخذها ابن القيم على نفاة القياس والمثبتين له والمتوسطين، موقفهم من التعليل: النفاة سدوا على أنفسهم باب التمثيل والتعليل واعتبار الحكم والمصالح. والقائلون به، غلاتهم، علقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها، واستنبطوا عللًا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها. والمتوسطون، مع إقرارهم بحجية القياس، فإنهم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب، ذلك أن علل الشرع ما هي إلا مجرد أمارات وعلامات فقط، وذهبوا إلى أن جميع ما وجد من الخلق والأمر مقترنًا بعضه ببعض، فأحدهما دليل على الآخر مقارن له اقترانًا عاديًا، وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة. وابن القيم يرى أن الصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو إثبات الحكم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره (¬4). ¬
رابعًا: إذا كان الفقهاء قد افترقوا في القياس فمنهم: نفاة، وغلاة، ومتوسطون، فإن لابن القيم موقفًا حسنًا، فكان بين ذلك قوامًا، حيث لم ينف القياس نفيًا باتًا كما فعل الظاهرية، ولم يغال في القياس مغالاة العراقيين، وإنما أخذ بالقياس، كما أكد ذلك في كتابه هذا، وما كان مبتدعًا بل كان متبعًا، فإن الصحابة الذين تخرج على فقههم، وإن كان بينه وبينهم الزمن الطويل، قد أخذوا بالقياس ونقل عنهم، وكثير من الأحكام التي استنبطوها بنيت عليه، وقد قال في هذا الشأن: "كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجتهدون في النوازل ويقيسون بعض الأحكام على بعض، ويعتبرون النظير بنظيره. . . " (¬1). فالقياس ضروري لكل من يتصدى للفتوى، ولا يمكن أن يستغني عنه فقيه. ولقد قال المزني، صاحب الشافعي: "الفقهاء من عصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يومنا وهلم جرا، استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا بان نظير الحق حق ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس" (¬2). ولعل ابن القيم من الذين أعطوا القياس عناية كبيرة، وقد دفعهم إلى ذلك حاجة الزمن، فإن الناس قد جدت لهم أحداث اضطروا فيها إلى أن يفتوا وأن يقيسوا على فتوى الصحابة والأمور المنصوص على حكمها، واضطروا أن يخرجوا على أقوال إمامهم، ولا بد لذلك من القياس، فسلكوا طريقه واجتهدوا واستنبطوا. خامسًا: نوع القياس الذي يأخذ به: يدل لفظ القياس عند ابن القيم على أمور ثلاثة: 1 - الرأي: بعد أن ذكر أن يحيى بن أكثم يرى أن الرجل يجب عليه أن يفتي إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر، قال ابن القيم: "يريد بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طردًا وعكسًا" (¬3). ¬
2 - الأمثال والأشباه والنظائر: يقول ابن القيم: "إن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر" (¬1). 3 - الميزان: وهو اللفظ الذي يرجح ابن القيم استعماله بدلًا من استعمال لفظ القياس. فبعد أن ذكر ابن القيم بعض الآيات التي ورد فيها لفظ الميزان، كقوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} [الرحمن: 7]، قال: "والميزان يراد به العدل والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده، والقياس الصحيح هو الميزان، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه اللَّه به، فإنه يدل على العدل، وهو اسم مدح، واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس، فإنه ينقسم إلى حق وباطل وممدوح ومذموم" (¬2). فابن القيم يقسم القياس إلى صحيح وفاسد، فالصحيح هو الميزان، والفاسد غير معتبر كقياس الكفار البيع على الربا في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} [البقرة: 274]، بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وكقياس الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق روح الميتة بفعل اللَّه، وإزهاق روح المذكى بفعل الذابح، قال ابن القيم: "ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به، وهذا حق وهذا حق" (¬3). وقد حدد ابن القيم ضابط معرفة القياس الصحيح والقياس الفاسد فقال: "إن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد" (¬4). وبين أن السلف قرروا العمل بالقياس عند الضرورة، وأنهم لم يلزموا أحدًا العمل به ولم يحرموا مخالفته، ولا اعتبروا مخالفه مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده (¬5). ومع أخذ ابن القيم بالقياس عند الضرورة، فهو يعتبر النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث وقد سبق الإشارة إلى ذلك (¬6). ¬
عنايته بمحاسن الشريعة وحكمها
هكذا يتضح لنا أن ابن القيم قد انتفع بالقياس الفقهي. وكان قياسه أحكم لأنه كان يوائم من الأقيسة وما أوتي من علم واسع شامل بالسنة وفتاوى الصحابة وأقضيتهم وطرائق استنباطهم، فهو قياس يستقي من ينابيع الأثر، ويشاكل تمام المشاكلة اجتهاد السلف الذي هو المشكاة لهم. ونجد في أقيسة ابن القيم أمرين: - أنه نظر في الأحاديث التي زعم الحنفية وغيرهم أنها ليست متفقة مع القياس، وأنها استثناء يؤخذ بها إن لم يعارضها، وبين اتفاقها مع القياس وعدم بعدها عن مراميه وغاياته. - أنه نظر في الأوصاف المشتركة بين الفرع والأصل في أقيستهم نظرة جامعة كلية. فاتجه إلى المقاصد الشرعية السامية التي تتجه إلى إيجاد جماعة فاضلة، تقوم على رعاية المصالح ودفع الأضرار في حياة دينية وخلقية تستمد النور من السماء. ونرى من هذا أن ابن القيم قد خص القياس ببيان أوفى، سلك فيه مسلك السلف الصالح وخاض فيه على ضوئهم، وبين مرامي الأقيسة التي نقلت في فروع الإمام أحمد، ووضح المقاصد التي سيقت لها الأحكام، وعرج في ذلك على مقاصد الشريعة وغايات الأحكام فيها، وهو في ذلك يوضح مناهج الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين، دون أن ننسى الإشارة إلى أن لشيخه أسبقيةً في ذلك. فابن القيم إذًا قد أفاد عمَلَه في القياس الفقهي اتساعًا في أبوابه، وسموًّا في غاياته، ونموًا في طرائقه، كما استفادت الآثار منه مدافعًا، يبيِّن غايتها ومقاصدها واتفاقها مع ما تنتجه المقاييس العقلية السليمة، وأفاد الاستنباط الفقهي عمومًا، فاستبان الشرع الإسلامي متجانسًا غير متنافر، فالأحكام الشرعية تشتمل على التسوية بين المتماثلين والتفريق بين المختلفين (¬1). * عنايته بمحاسن الشريعة وحِكَمها (¬2): اعتبر ابن القيم رحمه اللَّه معرفة حكمة الشريعة وأسرارها ومقاصدها ومحاسنها رأس أمر الفقه وذروة سنامه. ¬
وقد تفوق ابن القيم على غيره في هذا المضمار، وعلى الرغم من تبنِّيه كلام شيخه ابن تيمية فيه، إلا أنه جاء -ولا سيما في كتابنا هذا- بما هو متمم ومكمل له، وقد وسع الكلام عليه. وفصّله في المسائل الفقهية، موظفًا ذلك في خدمة الدليل الشرعي، وقد أفاد وأجاد في ذلك، وأتى بما لم يأتِ به أحد قبله. يقول بعض الباحثين (¬1) تحت عنوان (العلماء الذين قالوا: إن الأصل في العادات والعبادات التعليل). وذكر منهم (ابن القيم)، وقال: - "يؤكد ابن القيم -متبعًا شيخه- على أن اللَّه تعالى عرف عباده عموم جلائل خلقه وأمره دون دقائقها وتفاصيلها، وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها، وأما تفاصيل أسرار المأمورات والمنهيات فلا سبيل إلى علم البشر بها، ولكن اللَّه يطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها (¬2). فهذا "أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله، ويحصر اللسان عن التعبير عنه" (¬3) قال رحمه اللَّه: "الحق أن جميع أفعاله وشرعه سبحانه لها حكم وغايات لأجلها شرع وفعل، وإن لم يعلمها الخلق على التفصيل، فلا يلزم من عدم علمهم بها انتفاؤها في نفسها" (¬4). ويرى رحمه اللَّه أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يعقله من عقله، ويخفى على من خفي عليه (¬5). ويرى -كما يرى شيخه (¬6) - أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس، فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر (¬7). وفي معرض رده على الذين لا يعللون تقديرات العقوبات يقول: "إن من شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسًا وقدرًا فهو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة، كما أن التخصيصات والتقديرات ¬
الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعًا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شيء في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه، وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإِحكام أولى وأحرى. ومن لم يعرف ذلك مفصلًا لم يسعه أن ينكره مجملًا، ولا يكون جهله بحكمة اللَّه في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغًا له إنكاره في نفس الأمر" (¬1). ولقد خصص ابن القيم كثيرًا من كتبه لبيان حكم اللَّه ومقاصده في أفعاله وأحكامه سبحانه مثل: كتابنا هذا، و"مفتاح دار السعادة"، و"شفاء العليل". ولقد ذكر عللًا كثيرة لكثير من أحكام الشريعة، ففي الطهارة والصلاة ذكر حكمًا عديدة لقراءة سورة الفاتحة في الصلاة، وطهارة الأعضاء والثياب والمكان، وأخذ الزينة، واستقبال القبلة، ثم حكم هيئات الصلاة من الركوع والقيام منه ثم السجدتين والجلوس بينهما والجلوس للتشهد والترتيب بين هذه الأركان، كما أنه أفاض في ذكر حكم غسل أعضاء الوضوء والاغتسال (¬2). وبين الحكمة في التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار (¬3). وفي الصوم والزكاة والحج وفيما يتعلق بها من أوقات وأماكن ومقادير بين حكم الشريعة ومحاسنها فيها، إلى غير ذلك من المعاملات وأحكام الأسرة والعقوبات (¬4). كل ذلك قوى ظني وشد أزره بأن المراد من كلام الشاطبي الآتي هو ابن القيم -مما يثبت اطلاعه على كتب ابن القيم وابن تيمية واستفادته منهما، حيث يقول الشاطبي: "الحِكَم المستخرجة لما لا يعقل معناه على الخصوص في التعبدات، كاختصاص الوضوء بالأعضاء المخصوصة، والصلاة بتلك الهيئة من رفع اليدين والقيام والركوع والسجود، وكونها على بعض الهيئات دون بعض، واختصاص الصيام بالنهار دون الليل، وتعيين أوقات الصلوات في تلك الأحيان المعينة دون ما سواها من أحيان الليل والنهار، واختصاص الحج بالأعمال المعلومة، وفي الأماكن المعروفة، وإلى مسجد مخصوص، إلى أشباه ذلك مما لا تهتدي العقول إليه بوجه، ولا تطور (¬5) نحوه، فيأتي بعض الناس فَيُطرِّق إليه حِكَمًا ¬
يزعم أنها مقصودُ الشارع من تلك الأوضاع، وجميعها مبنى على ظنٍّ وتخمينٍ غير مطرد في بابه، ولا مبنيّ عليه عمل، بل كالتعليل بعد السماع للأمور الشواذ" (¬1). وهذا الموقف من الشاطبي هو الذي حمل الريسوني على أن ينسب إلى ابن القيم البعد في تعليل الأحكام، بما في ذلك الأحكام العادية والتعبدية، وقال: "ورغم أن ابن القيم بسبب إصراره على تعليل كل شيء قد وقع في تعليلات ضعيفة، كما في تعليله للفرق بين بول الصبي وبول الصبية، وكما في تعليله لكون صلاة النهار سرية وصلاة الليل جهرية" (¬2). لكن لو أنعمنا النظر في موقف الشاطبي لتبين لنا أنه تردد وقدم قدمًا وأخَّرَ أخرى (¬3). فهو مع أنه أنكر على بعض الناس تعليل اختصاص الصلاة بتلك الهيئات دون بعض إلى غير ذلك مما تقدم ذكره عنه، إلا أنه يذهب إلى تفصيل وتعليل كثير من العبادات كما قال الريسوني: "والشاطبي نفسه يسعفنا بتعليلات أكثر تفصيلًا في الأحكام التي نعى هو على غيره تعليلها وذكر حكمها" (¬4)، فيقول الشاطبي: "وذلك أن الصلاة مثلًا إذا تقدمتها الطهارة أشعرت بتأهُّب لأمر عظيم، فإذا استقبل القبلة أشعر التوجه بحضور المتوجَّه إليه، فإذا أحضر نية التعبد، أثمر الخضوع والسكون. ثم يدخل فيها على نسقها بزيادة السورة خدمة لفرض أمِّ القرآن، لأن الجميع كلام الرب المتوجِّه إليه، وإذا كبَّر وسبَّح وتشهَّد، فذلك كله تنبيه للقلب، وإيقاظ له أن يغفُل عما هو فيه من مناجاة ربِّه والوقوف بين يديه، وهكذا إلى آخرها، فلو قدَّم قبلها نافلةً؛ كان ذلك تدريجًا للمصلي واستدعاءً للحضور، ولو أتبعها نافلة أيضًا، لكان خليقًا باستصحاب الحضور في الفريضة. ومن الاعتبار في ذلك أن جُعلت أجزاء الصلاة غير خالية من ذكر مقرون بعمل، ليكون اللسانُ والجوارحُ متطابقةً على شيء واحد، وهو الحضور مع اللَّه فيها بالاستكانة والخضوع، والتَّعظيم والانقياد، ولم يخلُ موضعٌ من الصَّلاة من قول أو عمل، لئلا يكون ذلك فتحًا لباب الغفلة ودخول وساوس الشيطان" (¬5). ¬
وفي نظري فإن ابن القيم قد تكلم في كثير من علل الأحكام سواء في مجال العبادات أو المعاملات، مما لم يتطرق إليه ابن تيمية، حتى إنه ليعلل الأعداد والمقدرات التي جاءت بها الشريعة. فيذكر أن عدة المتوفى عنها زوجها كانت أربعة أشهر وعشرًا لأنها أولى المدد التي يعلم فيها بوجود الولد وعدمه، فكانت على وفق الحكمة والمصلحة (¬1). وأن المقادير التي جاءت بها الشريعة في الزكاة تحقق العدل والمصلحة لكل من الفقراء وأرباب الأموال (¬2). وإن إحداد المرأة على غير الزوج يناسبه ثلاثة أيام ترتاح فيها النفس وتقضي بها وطرًا من الحزن، بخلاف الإحداد على الزوج، فإنه تابع للعدة، وهو من مقتضياتها ومكملاتها (¬3). وكما قال الجويني، عند عرضه لمذاهب العلماء في عدد من تنعقد بهم بيعة الإمام وذكره بعض العلل لذلك قال: "ولو تتبع المتتبع الأعداد المعتبرة في مواقع الشرع، لم يعدم وجوهًا بعيدة عن التحصيل في التشبيه" (¬4). فلا يشترط أن تكون كل تلك التعليلات قد أصابت كبد الحقيقة، وأظهرت سر الشريعة، ولكنها اجتهادات قد تخطئ وقد تصيب". قال أبو عبيدة: هذه المباحث وغيرها؛ تدلل على أصالة ابن القيم في علمَي (الفقه) و (أصوله)، وأن له يدًا طولى فيه، وأن عنده فيه عقلية تحليلية إحصائية استقرائية تجمع المسائل تحت منضَبَطٍ واحد، والتمس من خلال ذلك "أسرار التشريع، وعلل الأحكام، ليظهر جمال شرع اللَّه تعالى، وكمال حكمته، ولطف علمه وخبرته، فعلل تلك الأحكام بما يناسبها من سر التشريع، وعمق المأخذ، وعلّة الحكم، ليجعل من تلك الأسرار التشريعية، والحِكَم الإلهية، قواعد وضوابط يبني عليها الكثير من جزئيات الأحكام. وهذه العلل المرفقة، والأسرار المنقحة في كتابنا الجليل -الذي لم يصنف في بابه على منواله- تدلل على غوص صاحبه في أغوار التشريع" (¬5) وفيها "قلائد وفوائد وموائد وفرائد، وكتب لها السلاسة مزية، ووضوح من غير تعقيد ولا ¬
تكلف ولا وكس ولا شطط، ومن واظب عليها دراسة ودراية وقراءةً وبحثًا وتنقيبًا وحفظًا وفهمًا، وقرأها على من هو أعلم منه، حصل على خير كثير" (¬1) ولا سيما أن "الحاجة إلى معرفة أسرار الشريعة الإسلامية صار أمرًا ضروريًا، لا سيما في هذا الزمن الذي كثر فيه أعداء اللَّه، حيث تحركت الأقلام القذرة والأيادي الملطخة بالكفر والزندقة لتشكك المسلم في دينه وعقيدته ليبقى في شراك الشك والحيرة يصطلي بنار الضلال ولا يبصر أمامه إلا سرمديًا. وهذا -أعني التشكيك- منهج قديم ومسار تليد لكنه نما وازداد في هذه الآونة الأخيرة، وصار تخصصًا يتفنن فيه أساتذته وطلابه، بتنويع الشبه وتزيين الاعتراض وعدم القبول وتقبيح الانقياد والخضوع بلا اقتناع" (¬2). وعلى الرغم من عناية ابن القيم المتميزة في كتابنا هذا بأسرار الشريعة (¬3) إلا أنه ليس خاصًا بها، وهنالك كلمة للمصنف ظفرتُ بها في "بدائع الفوائد" (2/ 179)، تدلل على أهمية هذا العلم عند المصنف، وفيها عزمه على إفراده بالتصنيف، قال رحمه اللَّه: "ومن فهم هذا انفتح له باب عظيم من أبواب العلم والإيمان، بل باب من أبواب الجنة العاجلة، يرقص القلب فيه طربًا ويتمنى أن له الدنيا وما فيها، وعسى اللَّه أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فيساعد على تعليق كتاب يتضمن ذكر بعض محاسن الشريعة وما فيها من الحكم البالغة والأسرار الباهرة، التي هي من أكبر الشواهد على كمال علم الرب تعالى وحكمته ورحمته وبره بعباده ولطفه بهم، وما اشتملت عليه من بيان مصالح الدارين والإرشاد إليها، وبيان مفاسد الدارين والنهي عنها، وأنه سبحانه لم يرحمهم في الدنيا برحمة، ولم يحسن إليهم إحسانًا أعظم من إحسانه إليهم بهذا الدين القيم وهذه الشريعة الكاملة". ومن الجدير بالذكر أن العناية بهذا اللون من التصنيف بقيت قاصرة (¬4)، على ¬
ابن القيم ومقاصد الشريعة
الرغم من الحاجة الماسة إليها، عسى اللَّه أن ييسر له علماء ربانيين، إنه ولي ذلك، والقادر عليه. * ابن القيم ومقاصد الشريعة: يجرُّنا ما سبق إلى بيان عناية ابن القيم بـ (مقاصد الشريعة)، وتجلَّى ذلك بالجملة في الأمور التالية (¬1): ¬
أولًا: اهتمامه بالتعليل وأساليبه في الكتاب والسنة، ومناقشة منكريه والتشنيع عليهم (¬1). ثانيًا: الاعتناء بإبراز أسرار الشريعة وحكمها (¬2). ثالثًا: معالجته لسد الذرائع والحيل (¬3). رابعًا: دفاعه عن تعارض الشريعة وعدم القول بوجود ما خالف القياس (¬4). خامسًا: الاهتمام بمقاصد المكلفين (¬5). سادسًا: حقق القول في مدى تمحض المصلحة والمفسدة في الوجود. سابعًا: ساهم في إرساء بعض قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد (¬6). ثامنًا: وظف القرائن والأحوال المقالية والحالية في معرفة مقاصد الشارع والمكلف (¬7). من خلال هذه المباحث وغيرها (¬8)، يظهر معنا بوضوح أن ابن القيم رحمه اللَّه اعتنى بالمقاصد ونبه على أهميتها واشتراطها للمجتهد، مقتفيًا في ذلك خُطَا شيخه وأستاذه. فهو ينقل قول ابن تيمية السابق في اعتبار العلم بصحيح القياس وفاسده من أَجَلِّ العلوم وأنه إنما يَعرِفُ ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإسلام من المحاسن والمصالح في المعاش والمعاد، والحكم البالغة (¬9). وعقد فصلًا عظيمًا في موسوعته هذه لبيان أن بناء الشريعة على مصالح ¬
العباد في المعاش والمعاد، وقال عنه: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، فأوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه، ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد. . . " (¬1). فابن القيم لا يختلف عن شيخه ابن تيمية في نظرته إلى اشتراط وجوب علم مقاصد الشريعة وحكمها وأهدافها، إذ ذاك ضروريٌّ للمجتهد عاصمٌ له من الجهل والغلط، ومن إيقاع المشقة والعنت بالمكلفين، وإذا كانت الشريعة مبنية على المقاصد والمصالح فكيف يصح أن يكون المجتهد الذي تربى في حجرها وارتضع من لبنها غير ملم بأسرارها ومقاصدها (¬2). ويستطيع الناظر في كثير من مباحث كتابنا هذا، وكتب ابن القيم الأخرى أن يقرر أن لابن القيم رحمه اللَّه نصيبًا وافرًا في هذا الباب، وأنه قد أولى هذه القضية عناية شديدة، واهتمامًا بالغًا، فقد ذكر -مثلًا- في "شفاء العليل" (ص 3) أن أهم ما يجب معرفته على المكلف النبيل، فضلًا عن الفاضل الجليل، ما ورد في القضاء والقدر والحكمة والتعليل، فهو من أسنى المقاصد، والإيمان به قطب رحى التوحيد ونظامه، ومبدأ الدين المبين وختامه، فهو أحد أركان الإيمان، وقاعدة أساس الإحسان، التي يرجع إليها، ويدور في جميع تصاريفه عليها، فبالقدر والحكمة ظهر خلق اللَّه وشرعه المبين. كما أنه يصرح دائمًا بأن: أوامر الرب تبارك وتعالى وشرائعه جاءت بما يحقق مصالح العباد في الدارين، وأن أحكم الحاكمين الذي بهرت حكمته العقول أولى بمراعاة مصالح عباده ومفاسدهم في الأوقات والأحوال والأماكن والأشخاص من مراعاة الطبيب للمريض، قال: "وهل وضعت الشرائع إلا على هذا" (¬3). ومع ذلك؛ فهو يذكر أن اللَّه بنى أمور عباده على أنْ عَرَّفَهم معاني جلائل خَلْقه وأمره، دون دقائقها وتفاصيلها، فعقول العالمين ومعارفهم وعلومهم وحكمهم تقصر عن الإحاطة بتفاصيل حكمة الرب سبحانه في أصغر مخلوقاته (¬4)، ¬
المحور الثاني: التفصيل والتأصيل والتحليل والاستيعاب وطول النفس مع التكامل والانسجام
فهذا أمر يضيق الجنان عن معرفة تفاصيله ويعجز اللسان عن التعبير عنه (¬1). بل إن ابن القيم يقرر أن الشريعة قائمة على أساس الحِكَم وقاعدة المصالح والعدل ووضع الأمور في نصابها؛ لأنها منزلة من حكيم حميد، فها هو يقول: "إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخِلَتْ فيها بالتأويل، فالشريعة عدل اللَّه بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتم دلالة وأصدقها (¬2). فَطَيُّ بساط الأسباب والعلل تعطيل للأمر والنهي والشرائع والحكم (¬3). والخلاصة: أن ابن القيم "جال في كتابنا "إعلام الموقعين" في موضوعات مختلفة بين الأصول والفقه، وأودع فيه فوائد وشوارد مقاصديّة كثيرة، خاصة في مباحث: القياس، والفتوى، وتغير الأحكام بتغيّر الأزمان، والحيل، وغيرها. والذي ينبغي الإشارة إليه هنا: هو أنك تجد تلك الفوائد والشوارد داخل استطرادات واسعة، مما يجعل ضبطها وتحديدها وتخليصها من غيرها يحتاج إلى جهد كبير" (¬4). المحور الثاني: التفصيل والتأصيل والتحليل والاستيعاب وطول النَّفس مع التكامل والانسجام: من السمات البارزة لمنهج ابن القيم العلمي في كتابه هذا (التفصيل) و (التحليل) و (الاستيعاب) و (طول النفس) مع التكامل والانسجام، ويظهر معنا هذا بوضوح في النقاط الآتية: أولًا: حشد الأدلة: أكثر المصنف في تعداد الأدلة وحشدها على مسائل أصولية وفقهية كثيرة، من مثل: - ذكر تسعة وتسعين دليلًا على اعتبار سدّ الذرائع (¬5). ¬
ثانيا
- ذكر ستة وأربعين دليلًا على حجية قول الصحابي (¬1). - طوّل جدًّا في ذكر حجية القياس، واستغرق ذلك في طبعتنا مئة وتسعًا وثلاثين صفحة (¬2). - ذكر واحدًا وثمانين دليلًا على تحريم التقليد (¬3). ثانيًا: أما المسائل الفقهية، فهو مشهور بطول النفس فيها، واستيعاب الكلام عليها. قال ابن حجر عن مصنفنا -رحمهما اللَّه-: "وهو طويل النفس في مؤلفاته، يعاني الإيضاح جهده، فيسهب جدًّا" (¬4). وقال الشوكاني أيضًا: "وإذا استوعب الكلام في بحث، وطوّل ذيوله، أتى بما لم يأت به غيره، وساق ما تنشرح له صدور الراغبين" (¬5). ثالثًا: وأما استيعابه وطول نفسه في المسائل، فيكمن في إكثاره من الشواهد والأمثال، وتكلمه في مآخذها، وذكر الحجج والكلام على صحتها وتوجيهها، وبسط ذلك مع أقوال الفقهاء، ومناقشة الآراء، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب الذي دل عليه الكتاب أو السنة أو أقوال الصحابة، أو مقاصد الشريعة، أو قواعدها، وقد أفصح عن منهجه هذا بقوله: "ونحن نذكر مآخذ هذه الأقوال، وما لكل قول وما عليه، وما هو الصواب من ذلك الذي دل عليه الكتاب والسنة على طريقتنا التي من اللَّه بها، وهو مرجو الإعانة والتوفيق" (¬6). رابعًا: هنالك دوافع وبواعث دعت المصنف إلى الاستطراد في هذه المسائل، كشفنا عن شيء منها فيما مضى (¬7). خامسًا: من الأمثلة على (المباحث) التي طول المصنف فيها النفس: - (القياس)، بلغ هذا المبحث في نشرتنا هذه (ست مئة وستين صفحة) استغرقت من (ص 247) من (المجلد الأول) إلى (آخره)، ومن (أول) المجلد الثاني إلى (ص 425) منه. ¬
وذكر العلماء طول نفس المصنف في هذا المبحث، وأشادوا به في عبارات سبق أن ذكرناها عنهم (¬1). - (شرح كتاب عمر في القضاء)، أخذ هذا المبحث موضعًا هامًا وواسعًا من كتابنا هذا، فبلغ من نشرتنا هذه (سبع مئة واثنين وستين صفحة). استغرقت من (ص 158) من (المجلد الأول) إلى آخره (ص 487) ومن بداية (المجلد الثاني) إلى (ص 438) منه، ويندرج تحت هذا الشرح (عناوين) فرعية و (فصول) و (مباحث) و (تفريعات) و (مسائل)، بلغ عددها فيما أحصيت (ثلاثًا وأربع مئة) عنوانًا، لما هو تحت شرح هذا الكتاب. وأشاد العلماء -كما تقدم (¬2) - بطول نفس المصنف في شرحه، بل بعضهم عدَّ كتابنا هذا مفردًا لشرحه فحسب! وهذا وهم، وقد نبهنا عليه (¬3)، واللَّه الموفق. - (التقليد)، طول المصنّف نفسه في هذا المبحث جدًّا، واستغرق ذلك في نشرتنا هذه مئة وثماني وخمسين صفحة، من (ص 447) من (المجلد الثاني) إلى (ص 36) من (المجلد الثالث)، حيث قال: "وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد"، وأشاد العلماء ببسط المصنف وتأصيله وتفصيله في هذا المبحث، وسيأتيك كلام الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب في ذلك (¬4). - (الحيل)، عالجها بإسهاب طويل، واستغرق من نشرتنا أربع مئة واثنتين وسبعين صفحة، فبدأ من (ص 66) وانتهى بـ (538) من (المجلد الرابع). - اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، أفاض وأسهب جدًّا في تقرير هذا المبحث، فاستغرق من نشرتنا مئة وتسعًا وعشرين صفحة، فبدأ من (ص 447) إلى (ص 455) من (المجلد الثالث) ومن (ص 5) إلى (ص 67) من المجلد (الرابع). ومن الأمثلة على (المسائل) التي استطرد فيها المصنف: - طواف الحائض بالبيت، استغرقت في نشرتنا عشرين صفحة، من (ص 356) إلى (ص 377) من (المجلد الثالث). - حكم اليمين بالطلاق، ابتدأ من (ص 440) وانتهى بـ (ص 447) من (المجلد ¬
سادسا
الثالث) مع ملاحظة تكرار بحث المصنف والإشارة إليها. - حكم الاستثناء في الطلاق، استغرقت في نشرتنا نحو أربع وثلاثين صفحة فبدأ من (ص 462) وانتهى بـ (ص 496) من (المجلد الرابع). سادسًا: من السِّماتِ المنهجية المهمة لفقه الإمام ابن القيم في كتابنا هذا التحليل والتأصيل وسعيه نحو التقعيد، فهو "يغوص في مدارك المسائل بنظره الثاقب، فيستخرج جميع الوجوه والاحتمالات، ثم يعطي كل احتمال حكمه الشرعي" (¬1). فالمصنف يعمل على تكييف المسألة من ناحية فقهية، ويذكر ما فيها من اختلاف الفقهاء وأقوالهم وآرائهم واجتهاداتهم (¬2)، على وجه يكون الغرض منه الاستفادة الشمولية الكلية لتأصيل وتقعيد أصولي أو منهجيّ، مدلل عليه، معروف عند السلف الصالح، وذلك من خلال فحص واختبار ما استدل به كل فريق، وإلغاء ما ليس مناسبًا، وإثبات الصالح المناسب، وهذا ما عنيناه بـ (التحليل)، الذي عُرِّف بأنه "عملية عقلية في جوهرها، وهو ينحصر في عزل صفات الشيء، أو عناصره بعضها عن بعض، حتى يمكن إدراكه بعد ذلك إدراكًا واضحًا" (¬3). فالمصنف يبحث المسائل على وجه عميق جدًّا، مجاوزًا المنهج التقليدي عند الفقهاء، ممن يعملون على عرض المسائل باعتماد طريقة الأبواب والفصول التي درج عليه فقهاء ذلك العصر، وأصبحت -بناء عليه- مجموعة من المسائل وبحكم مجموعة من المقدمات، من المسلّمات، فرأى ابن القيم أنها تحتاج إلى عرض جديد، بثوب جديد، على خلاف الطريقة المعهودة المطروقة، التي تنطلق من الجزئيات، فوظف الأمور الكلية الفطعية لنصرتها ورجحانها، بجانب الأحاديث النبوية، والآثار الصحابية والتابعية فكانت هذه (المعلمة) (الأصولية) الأصيلة و (الفقهية) التحليلية العميقة. ورحم اللَّه القرافي لما قال: "وأنت تعلم أن الفقه -وإنْ جلَّ- إذا كان مبددًا، تفرقت حكمته، وقلّت طلاوته، وضعفت في النفوس طُلْبَتُه، وإذا رتبت الأحكام مخرجة على قواعد الشرع، مبنية على مآخذها، نهضت الهمم حينئذٍ ¬
لاقتباسها، وأعجبت غاية الإعجاب بتقمص لباسها" (¬1). ويجد منعم النظر في كتابنا هذا تأصيلًا وتحليلًا لكثير من المسائل والمباحث، بلغت مرتبة النضوج والاكتمال وصيغت على هيئة قواعد (¬2) تجريدية ¬
متحررة من المذهبيّة، أو الطريقة التقليديّة في عرض مادة (الأصول) أو (الفقه) وهو قفزة علمية عملية من فوق (الركود) و (التراكم) -المعروفين في ذلك الزمن- إلى (النصوص) و (القواعد) المتبعة عند (السلف) في الاستدلال والاستنباط، مع تزييف ما خرج عنهما من (المسائل)، أو أدخل فيهما زورًا من (المبادئ) و (الكليات). وإن النهضة العلمية اليوم تتطلب من تلاميذها العكوف على مثل هذا النوع من المؤلفات، ودراستها بتمحيص من ناحية نظرية ليكون لها أثر علمي في (النوازل المستجدة)، لتتواصل مسيرة (الخير) و (العلم) على (منهج) واحد جامع بين (الأفهام) قائم على (الحق) و (العدل)، ولا سيما مع كثرة المستجدات في الوقت الحاضر في سائر ضروب وميادين الحياة، في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والطبية. ومن نافلة القول: إن صياغة القواعد الفقهية، أو الضوابط التي كانت معتبرة عند السلف تحتاج إلى قدرة بيانية، وكفاءة فقهية عالية، واستحضار تام لأغلب المسائل الفروعية، وأن هذه الأسباب والشروط تحققت في الإمام ابن القيم، فلا عجب أن يكون له فيها الباع الطويل. ¬
سابعا
سابعًا: ومن الخصائص والسمات والملامح لمنهج ابن القيم في كتابه هذا: تآخي الأصول مع الفقه، وتوافق التطبيق مع النظرية في انسجام وتكامل، يتجلى هذا تمامًا عند ذكره الأدلة. وتحليلها تحليلًا كافيًا، وإعطاء كل دليل حقه من الفهم والمعنى، فيستعين أخيرًا في استنباط الحكم الشرعي بالقواعد الأصولية ذات العلاقة، بحيث تتبيّن أهمية القاعدة الأصولية لاستنباط الحكم، فيمتزج الفقه بالأصول في منهج اجتهادي واضح الخطوات، بيِّن المعالم، يتضح فيه للباحث الفقيه كيفية بناء الحكم على ذلك الأصل، أو القاعدة الأصولية. هذا هو المنهج العلمي المثالي، إذ يمنح القارئ الثقة في الأحكام المستنبطة، كما ينمي لديه ملكة الاستنباط، حيث يقف بصورة عملية على الطريقة التي سلكها الأئمة المجتهدون في استنباط الأحكام، نظريًا وتطبيقًا (¬1). وأقام الإمام ابن القيم في (معلمته) هذه جسورًا قوية متماسكة بين (الأصول) و (الفقه)، وأثبت بما لا جدال فيه أنهما علمان متلازمان حسًا وذهنًا في كل مرحلة من مراحل الاستنباط، وتطبيق الأحكام، في التأليف والتدوين، لا تستقل مدونات الأصول عن الفروع، ولا تستغني الفروع عن الأصول، وهو جانب مهم وواضح في منهج ابن القيم في كتابه هذا، الذي يعتبر بأنه عقد منتظم من النظريات، والقواعد الأصولية، تدعمها الفروع الفقهية: تخريجًا واستشهادًا وتطبيقًا، وجاءت هذه التطبيقات بلا استكثار ولا تقصير، وجاءت دراساته فيها من كافة جوانبها: التنظير والتطبيق، والشرح والتحليل متوازية متعادلة (¬2). ثامنًا: وأما التفصيل في المسائل، فهذه سمة بارزة (¬3) في كتابنا هذا، إذ حوى كثيرًا من المسائل وفصَّلها، ودقَّق فيها، فلا يطلق ابن القيم الأحكام جزافًا، ¬
ولا يقف عند رسومها وألفاظها، أو يكتفي بأصولها الكليّة، دون التعرض لتفصيلاتها وتفريعاتها، وحقائقها، ولا سيما تلك المسائل التي اشتهر انفراده بها تبعًا لشيخه ابن تيمية، فكما أنه أولاها بالتأصيل والتدليل، فإنه لم ينساها من التفصيل، إذ (التفصيل) هو ثمرة (التأصيل) الحاصل من (التدليل). وهذا أمر ليس بمستغرب، إذ قد حذّر المصنفُ من إطلاق الجواب دون تفصيل، فقال: "ليس للمفتي أن يطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع، بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى تفصيل استفصله. . . " (¬1). ثم ذكر ضرورة مراعاة هذا، بأن دلل على كلامه، ثم بيَّن أن المفتي إن لم ينتبه لهذا المسلك ويعمل به، فإنه يَضلّ ويُضلّ، قال: "والمقصود التّنبيه على وجوب التفصيل إذا كان السّؤال محتملًا، وباللَّه التّوفيق، فكثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم، فالمفتي ترد إليه المسائل في قوالب متنوّعة جدًّا، فإن لم يتفطّن لحقيقة السّؤال وإلّا هلك وأهلك، فتارة تورد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلف؛ فصورة الصَّحيح والجائز صورة الباطل والمحرَّم ويختلفان بالحقيقة، فيذهل بالصّورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرَّق اللَّه ورسوله بينه، وتارة تورد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصّورة عن تساويهما في الحقيقة، فيفرّق بين ما جمع اللَّه بينه، وتارة تورد عليه المسألة مجملة تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمه إلى واحد منها، ويذهل عن المسؤول عنه منها، فيجيب بغير الصَّواب، وتارة تورد عليه المسألة الباطلة في دين اللَّه في قالب مزخرف ولفظ حسن، فيتبادر إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل، وتارة بالعكس" (¬2). وضرب على ذلك أمثلة، منها قوله رحمه اللَّه: "فإذا سئل المفتي عن رجل دفع ثوبه إلى قصَّار يقصره، فأنكر القصّار الثّوب ثمّ أقرّ به، هل يستحق الأجرة على القِصَارة أم لا؟ فالجواب بالإطلاق خطأ نفيًا وإثباتًا، والصّواب التّفصيل، فإن كان قصَّره قبل الجحود فله أجرة القصارة؛ لأنه قصَّره لصاحبه، وإن كان قصَّره بعد جحوده فلا أجرة له لأنه قصَّره لنفسه. ¬
تاسعا
وكذلك إذا سئل عن رجل حلف لا يفعل كذا وكذا، ففعله، لم يجز له أن يفتي بحنثه، حتى يستفصله، هل كان ثابت العقل وقت فعله؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختارًا في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختارًا فهل استثنى عقيب يمينه أم لا؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا مختارًا أم كان ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا مختارًا فهل كان المحلوف عليه داخلًا في قصده ونيته أو قصد عدم دخوله فخصَّصه بنيّته أو لم يقصد دخوله ولا نوى تخصيصه؟ فإنّ الحنث يختلف باختلاف ذلك كلّه" (¬1). ويكتمل المنهج التفصيلي عند ابن القيم بذكر الفروق بين مسألة وأخرى، يظن بادئ بدء تطابقهما في الحكم، فينبه على الفرق بينهما رفعًا للإبهام، وإزالة اللبس، وزيادة في الإيضاح. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، تجدها مجموعة في (فهرسة) خاصة، في (المجلد الأخير) الخاص بالفهارس على حسب ورودها في الكتاب، واللَّه الموفق للصواب. ومما ينبغي ذكره بهذا الصدد أن المسائل التي فصل ابن القيم فيها القول هي التي كانت دائرة آنذاك على ألسنة الفقهاء وتشغل مجالسهم، وهي صور حقيقية لما يجري في مجتمعاتهم، وهي شهادة صدق على كون ابن القيم مصلحًا، وهي عبارة عن نماذج واقعية للحياة التي عاشوها، ولذا تجد في كتابنا هذا توجعًا وتألمًا، وشذرات لأحوال المفتين، وذكرًا لبعض الحوادث التي ذكرت عرضًا، وبها تعلّق لبعض الأحداث التي كانت تجري آنذاك (¬2). تاسعًا: ترتب على ما سبق من سمات منهجية في عرض ابن القيم لمادته العلمية في كتابه هذا من (التأصيل) و (التحليل) و (التفصيل) و (الاستيعاب) وجود مباحث عزيزة لا تكاد توجد على النحو الذي توجد في كتابنا هذا، وقد صرح المصنف بذلك أكثر من مرة، فقال -مثلًا- عن تقرير (القياس) والاحتجاج به: "لعلك لا تجده في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منه" (¬3)، وقال أيضًا: "وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما، وما لهم وما عليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب ¬
المحور الثالث: الإنصاف والأمانة والتقدير والموضوعية والترجيح
من كتب القوم من أوَّلها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا، وذلك بحول اللَّه وقوّته ومعونته وفتحه، فله الحمد والمنة" (¬1) وقال بعد تحرير مسألة أخرى: "وهذا بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء، ولعلك لا نظفر به في غير هذا الكتاب" (¬2). وحقَّ لصاحبه أن يقول هذا، إذ لم يكتف ابن القيم في هذه المسائل وغيرها بتقرير الراجح عنده فيها مع التدليل عليها، بل كان له في عرضها منهج متميز، مع ما صحبه من نقاش واستنباط، يمثل القمة فكرًا وأسلوبًا وإبداعًا، ينمي الملكة ويستثير الموهبة في الطلبة والمطلعين. المحور الثالث: الإنصاف والأمانة والتقدير والموضوعية والترجيح: يزيِّن (الحقّ) العدلُ، فكما أنّ ابن القيم حرص على الوصول إلى الحق في (مباحثه) و (مسائله)، فإنه سلك إلى ذلك طريقًا سهلًا عدلًا، وهو المهيع الذي عليه الربانيون، وشُداة الحق الصادقون، وتمثل ذلك في الأمور الآتية: أولًا: نقل المذاهب عن أصحابها، وعزاها إلى الكتب المعتمدة (¬3) فيها، ¬
ثانيا
ونقل في كثير من الأحايين النصوص بطولها، واستقصى أدلتها واستوفاها، وعرضها عرضًا كاملًا، دون نقص أو تحريف أو تجاهل أو تزايد في صورة مفصلة موفية بالغرض المقصود من حيث الدقة والبيان، وبموضوعية متناهية وأكثر ما ظهر هذا في المسائل التي تفرد بها عن سائر فقهاء عصره. ثانيًا: نجد من منهج ابن القيم أنه يفسح المجال واسعًا لمناقشة الأقوال، وردِّ كل طائفة على الأخرى، ويبيّن مستند كل منهما، وسبب اختلافهما، ويسوق الأدلة النّقلية والعقلية لكل واحدة منهما، ويعرضها على صورة التأييد والتقوية، ويحللها كما يفهمها أصحابها وينتصرون لها، على وجه واضح، وبترتيب منطقي. ثالثًا: همُّ ابن القيم من ذلك إظهار الحق، ولذا ربما أبهم بعض أسماء المردود عليهم (¬1)، سواء من الفقهاء بأعيانهم، أو المذاهب، ولذا اضطر في بعض الأحايين إلى بيان ما ألصق في المذاهب وهو -على التحقيق- ليس منها (¬2). رابعًا: حرص ابن القيم في ذلك كله على الإنصاف والعدل، فقال -مثلًا- في مبحث (الحيل) بعد كلام: "ونحن نذكر ما تمسَّكتم به في تقرير الحيل، والعمل بها، ونبيّن ما فيه، متحرّين العدل والإنصاف" (¬3). وكان رحمه اللَّه يميل مع الدليل، ولا يقدم شيئًا عليه (¬4)، ولا يميل إلى قول مذهب أو شيخ دونه، فاسمع إليه -مثلًا- وهو يقول عن (القياس) بعد أن ذكر حجج المثبتين له والنافين: ¬
"الآن حَمِيَ الوطيس (¬1)، وحميت أنوف أنصار اللَّه ورسوله لنصر دينه وما بعث به رسوله، وآن لحزب اللَّه أن لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، وأن لا يتحيّزوا إلى فئة معينة، وأن ينصروا اللَّه ورسوله بكلِّ قولٍ حقٍّ قاله مَنْ قاله، ولا يكونوا مِنَ الّذين يقبلون ما قاله طائفتهم وفريقهم كائنًا مَنْ كان، ويردّون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا مَنْ كان، فهذه طريقة أهل العصبية، وحمية أهل الجاهليّة، ولعمر اللَّه!! إنّ صاحب هذه الطّريقة لمضمون له الذمّ إن أخطأ، وغير ممدوح إن أصاب، وهذا حال لا يرضى بها من نصح نفسه وهُدي لرشده، واللَّه الموفق" (¬2). وعندما بحث مسألة (من أقرّ أو حَلف أو وهب أو صالح لا عن رضا منه، ولكن منع حقه إلَّا بذلك)، وقرر أن حكمه حكم المكره لا يلزمه ما عقده من هذه العقود، ثم قال: "ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصاف أحبَّ إليه من التّعصب والهوى، والعِلمُ والحجّةُ آثرَ عنده من التَّقليد، لم يكد يخفى عليه وجه الصّواب، واللَّه الموفق" (¬3). ويقول في (مسألة من أكره على شراء أو استئجار) وقرر أنه لا يصح منه لعدم قصده وإرادته: ". . . فإن أهل الظّاهر تمسّكوا بألفاظ النّصوص وأجروها على ظواهرها حيث لا يحصل القطع بأنّ المراد خلافها، وأنتم تمسّكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأنّ المراد خلافها، فأهل الظّاهر أعذر منكم بكثير، وكلّ شبهة تمسّكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظّاهرية في تمسِّكهم بظواهر النّصوص أقوى وأصح، واللَّه يحبّ الإنصاف، بل هو أفضل حلية تحلى بها الرّجل، خصوصًا من نصب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال اللَّه -تعالى- لرسوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15]، فورثة الرّسول منصبهم العدلُ بين الطَّوائف وألَّا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل يكون الحقّ مطلوبه يَسيرُ بسيره وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف، ويحكم الحجة، وما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فهو العلم الذي قد شمّر إليه، ومطلوبه الّذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عَذلُ عاذلٍ، ولا تأخذه فيه ¬
خامسا
لومة لائم، ولا يصدّه عنه قول قائل" (¬1). كيف لا؛ وهو القائل: وتحلَّ بالإنصَافِ أَفْخَرَ حُلَّةٍ ... زِينَتْ بها الأَعْطَافُ والكَتِفَانِ (¬2) خامسًا: ابن القيم إمام في العلم والعمل، ومجتهد ومصلح ومُنْصِف، يضع الأمور مكانها، ومن بين ذلك: تقديره للعلماء، وقد دعى في كتابه هذا إلى أنه لا بد من "معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأنّ فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كلّ ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرَّسول، فقالوا بمبلغ علمهم، والحقّ في خلافها لا يوجب اطّراح أقوالهم جملة وتنقّصهم والوقيعة فيهم، فهذان طرفان جائران عن القصد، وقصد السّبيل بينهما، فلا نؤثِّم ولا نَعْصم، ولا نسلك بهم مسلك الرّافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشَّيخين، بل نسلك مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصَّحابة، فإنّهم لا يؤثمونهم ولا يعصمونهم، ولا يقبلون كلّ أقوالهم ولا يهدرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمّة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصَّحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنَّما يتنافيان عند أحد الرّجلين: جاهل بمقدار الأئمّة وفضلهم، أو جاهل بحقيقة الشّريعة التي بعث اللَّه بها رسوله، ومن له علم بالشَّرع والواقع يعلم قطعًا أنّ الرجل الجليل الَّذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة، وهو من الإسلام وأهله بمكان، قد تكون منه الهفوة والزّلّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده، فلا يجوز أن يتّبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين" (¬3). ولم يقتصر حرص ابن القيم على (معرفة فضل أئمة الإسلام) بالذكر العطر، والثناء الجميل لشخوصهم، وإنما تعداه إلى تبرئتهم مما ألصق بهم من أقوال تحط من قدرهم، فقال -مثلًا- في مسألة (تعليق الطلاق بالشرط): "وللَّه شرف نفوس الأئمّة الذين رفع اللَّه قدرهم، وشاد في العالمين ذكرهم، حيث يأنفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات الّتي تسودُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلّ بقمر الإيمان المحاق" (¬4). ¬
وقال عند تبرئته للأئمّة من الدّعوى إلى تقليدهم: "وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمّة، ولم يقل بها أحد من أئمة الإسلام، وهم أعلى رتبة وأجلّ قدرًا وأعلم باللَّه ورسوله من أن يلزموا النّاس بذلك" (¬1). ولم يكتف بهذا الإجمال، وإنما تعداه لمسائل مخصوصة، نسبت إلى أئمة معينين، كقوله -مثلًا- عن نسبة بعض الحيل إلى الشافعي وغيره: "والمتأخِّرون أحدثوا حيلًا لم يصحَّ القول بها عن أحد من الأئمّة، ونسبوها إلى الأئمّة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم، ولهم مع الأئمّة موقف بين يدي اللَّه عز وجل. ومن عرف سيرة الشَّافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنّه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدّلالة عليها، ولا كان يشير على مسلم بها، وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرّفاتهم، تلقّوها عن المشرقيين، وأدخلوها في مذهبه، وإن كان -رحمه اللَّه تعالى- يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيّته. . . فحاشاه ثم حاشاه أن يأمر النّاس بالكذب والخداع والمكر والاحتيال وما لا حقيقة له، بل ما يتيقّن أنّ باطنه خلاف ظاهره، ولا يظنّ بمن دون الشافعيِّ من أهل العلم والدّين أنّه يأمر أو يبيح ذلك. . . ". قال: "فواللَّه ما سوَّغ الشافعيُّ ولا إمام من الأئمّة هذا العقد قطّ، ومن نسب ذلك إليهم فهم خصماؤه عند اللَّه. . . " (¬2). وقال عن حيلة أخرى: "لا تتمشى على قواعد الشريعة، ولا أصول الأئمة، وكثير منها -بل أكثرها- من توليدات المنتسبين إلى الأئمة وتفريعهم، والأئمة براء منها" (¬3). وقال أيضًا في مقام آخر: "ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة" (¬4). وقال في مسألة عزاها القاضي أبو يعلى إلى الإمام أحمد: "ولا يخفى ما في هذا الحمل من مخالفة ظاهر كلام الإمام أحمد" ودلَّل على ذلك باستقراء أجوبته (¬5). وقال في مسألة أخرى عزاها أبو حامد الإسفرائيني وغيره لأحمد: "وهذا ¬
من غلطه على أحمد" (¬1). وقال في موضع آخر: "وما حكاه أبو حامد الإسفرائيني عن أحمد من القول فباطل عنه لا يصح ألبتة، وكل من حكاه عن أحمد، فمستنده حكاية أبي حامد الإسفرائيني أو من تلقَّاها عنه" (¬2)، ويدلّل هذا على فطنة ابن القيم، إذ يقف رحمه اللَّه على منشأ الغلط، وكذلك وقع له في (حجية قول الصحابي)، قال: "وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، أما القديم فأصحابه مُقِرُّونَ به، وأما الجديد؛ فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة، وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًّا" (¬3) ثم يذكر السبب الباعث على هذا الخطأ. وقال عنه: "وهذا تعلّق ضعيف جدًّا" (¬4)، ثم ذكر سببًا آخر، وقال عنه أيضًا: "وهذا أيضًا تعلق أضعف من الذي قبله" (¬5). فلم يقف رحمه اللَّه على تصحيح النسبة، وإنما عالج الخطأ، ووقف على سببه، وقوّمه بمنهج علمي أصيل، ظهر من خلاله الأصيل من الدخيل، ومن ذلك: تقريره أن (السلف) كانوا يستعملون (الكراهة) بمعنى (الحرام)، قال: "ولكن المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم" قال: "ثم حمل مَنْ حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغلط في ذلك" قال: "وأقبح غلطًا منه من حمل لفظ (الكراهة) أو لفظ (لا ينبغي) في كلام اللَّه ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث" (¬6). واعتنى المصنف في كثير من المسائل بمذهب الإمام الشافعي، وأنه نسب إليه ما لم يقل به، مثل (اللعب بالشِّطْرَنْج) قال الشافعي عنه: "أكرهه أو لا يتبين لي تحريمه" (¬7) قال ابن القيم: "فقد نص على كراهته، وتوقف في تحريمه، فلا يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح، فإنه لم يقل هذا، ولا ما يدل عليه" (¬8). ¬
سادسا
وقال عقب ذلك في مسألة (تزوج الرجل امرأته المخلوقة من ماء الزنا): "ولم يقل -أي الشافعي- إنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه الذي أحلّه اللَّه به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم" (¬1). سادسًا: مع تقدير ابن القيم للعلماء، وحرصه على نبذ ما أُلصق بهم من بواطيل وترهات، والاعتذار لهم عند الخطأ ومخالفة الدليل، فإنه كان جريئًا على الأدعياء، اللابسي ثوبي زور، والمتشبِّعين بما ليس فيهم، فنعتهم بـ (جامدي الفقهاء" (¬2) و"خفافيش البصائر، وضعفاء العقول" (¬3) و"محبوسون في سجن الألفاظ، ومقيدون بقيود العبادات" (¬4). وقال عنهم: "خلوف رغبوا عن النصوص" (¬5)، و"أهل الأهواء والبدع" (¬6)، و"الطغام وأشباه الأنعام" (¬7)، و"من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين" (¬8)، و"علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض" (¬9). و"عيب عندهم أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه، قال اللَّه، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه وقول رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلَّدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول ذلك المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ ذلك الكتاب ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال ما أحلَّه ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه هذا! " (¬10). وقال عنهم: "أقوام رؤيتهم قذى العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، ¬
وحمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض القلوب، إن أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف، وإن طلبته منهم، فأين الثريا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوى الباطلة وشقائق الهذيان، ولا واللَّه ما ابتلت من وَشَله (¬1) أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى والحق منه وجوه الدفاتر إذ بُلَّتْ بمدادِه أقلامُهم، أَنفقوا في غير شيء نفائسَ الأنفاس وأَتعبوا أنفسهم وحيَّروا مَنْ خلفهم من الناس، ضيَّعوا الأصول، فحُرِمُوا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في نهاية الحيرة وبيداء الضلالة" (¬2). وقال عنهم: "ليس لهم تحقيق في العلم" (¬3). ونعت ابن القيم هؤلاء فيما مضى بصيغة الجمع وكان كلامه معهم في بعض الأحايين بصيغة الإفراد، كقوله: "وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلّد المتعصّب، المقرّ على نفسه بما شهد عليه به جميعُ أهل العلم، أنه ليس من جملتهم، فذاك وما اختار لنفسه، وباللَّه التوفيق" (¬4) وقوله: "فأجابهم مَنْ مُنِع التوفيق، وصُدَّ عن الطريق" (¬5)، و"الجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة، ولا الهدى إلا ضلالة" (¬6)، و"الجاهل الظالم يخالفك بلا حجة، ويكفّرك ويبدّعك بلا حُجة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة، وسيرته الذميمة" (¬7). وقال عن هذا الصنف: "ليلزم حدّه، ولا يتعدّى طوره، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعًا يقصر عن الوصول إليه، ولا يتّجر بنقدٍ زائف لا يروج عليه" (¬8). ولا يعارض هذا ما قلناه من الإنصاف الذي يتحلى به ابن القيم، فإن كلامه هذا مع فرقة تلاعبت بأحكام الدين، وجعلت كلام أئمتها عيارًا على الكتاب ¬
سابعا
والسنة، فأحلوا الحرام، وحرموا الحلال، وأسقطوا الواجب، وأوجبوا ما لم يجب، فكانت هذه المؤاخذات والعبارات الشديدة من باب غيرة الإمام ابن القيم على الشريعة وأحكامها، ووضعه الأمور الشرعية في نصابها، وهذا من إنصافه أيضًا إذ ليس عنده وكس ولا شطط، واللَّه الهادي، لا ربّ سواه. سابعًا: ثمرة نقل الأقوال والخلاف والأدلة مع الإنصاف والأمانة وتقدير أهل العلم هو الكشف عن حكم اللَّه عز وجل، وبيان الراجح من الأقوال، وبهذا ينتهي عرض ودراسة ابن القيم لجل المسائل والمباحث التي في كتابنا، فهو يتوصل إلى القول الراجح بعد تحليل وتأصيل وتدليل، ونظر عميق، وتأمل طويل، وتفهم وتصور دقيق، ولذا فترجيحاته صحيحة، واختياراته مليحة، وهي تتطابق مع الأدلة، ومدعّمة بما يزيّنها من الحِكَم والأسرار والمقاصد، التي تستنبط من النصوص، بالاستقراء أو إعمال النظر. وترجيحاته قائمة على إعمال الأدلة جميعها، وقرر أنه "لا يجوز العمل والإفتاء في دين اللَّه بالتشهي والتخيير وموافقة الغرض" (¬1) وقال عن هذا: "من أفسق الفسوق، وأكبر الكبائر" (¬2) وكذلك "لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء من الأقوال والوجوه، من غير نظر في الترجيح" (¬3) وقال عن هذا: "حرام باتفاق الأمة" (¬4). وتمتاز ترجيحاته بالأمور الآتية: أولًا: الوضوح والجزم والقوة، فكان يقول: "وهو الصواب المقطوع به" (¬5) و"هذا هو الصواب الذي ندين به في المسألة" (¬6) و"هذا هو الصواب الذي لا ريب فيه" (¬7). ثانيًا: مراعاة جميع ما ورد في الباب من أدلة، قال في مسألة مثلًا: "والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا يحتمل سواه. . . " (¬8). ثالثًا: وجوب الخروج عن المذهب إذا جاء الدليل بخلافه، وعَدَّ من يقدم ¬
المحور الرابع: طريقته في العرض وأسلوبه في البحث
على الفتوى بما يغلب على الظن أن الصواب في خلافه: "خائنًا للَّه ورسوله، وللسائل، وغاشًا له" (¬1). ولذا رجح في بعض المسائل ما يخالف مذهب الحنابلة، الذي نشأ وتربى عليه، قال: "وكثيرًا ما ترد المسألة، نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده، فنحكي المذهب الراجح، ونرجّحه ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يؤخذ به، وباللَّه التوفيق" (¬2) بل خالف في بعض المسائل شيخه ابن تيمية (¬3). رابعًا: يؤخّر ترجيحه ورأيه، إذ يبدأ برأي الفقهاء، ويسرد حججهم، ثم يأتي في آخر الكلام برأيه. بعد المناقشة بروية وحجة، ويحاول إلزام المخالف بأمثلة قوية موضحة، فهو يذكر المؤيِّدات مع الترجيحات. خامسًا: يمتاز أسلوبه في الترجيح بأدب رفيع، وسمت حسن، فلا يسيء إلى مخالفه في الرأي، بتعبير يجرح شعوره، أو يسيء إليه. سادسًا: جميع ما سبق لا ينافي كون ابن القيم حنبليّ النزعة، وأنه يفضّل ويرجح مذهب الإمام أحمد بالجملة، لأنه يعتبره أقرب إلى النصوص، كما أوضح ذلك في نقل سبق أن ذكرناه عنه (¬4). ولذا نجده في كتابنا هذا يشيد بأحمد وبعلمه، ويعتني بأصول مذهبه، بل لا نجد ابن القيم اعتنى بأصول إمام مذهب مثل عنايته بأصول الإمام أحمد، ولا بأقوال إمام كأقواله، ولم ينقل عن فقهاء مذهب كمذهبه، بل قال في غير موطن: "أصحابنا" وهو يريدهم أو يريد بعضهم، ولا شك أنه أخذ العلم على كثير من مشايخ الحنابلة، ومع هذا فإنه كان يوقر العلماء حق التوقير، وأن فقهه كان فقه المجتهد، ولا يقلد ولا يتبع أحدًا بغير برهان ودليل، وهو في اختياراته متحيز مستنبط كما قدمناه، واللَّه الموفق. المحور الرابع: طريقته في العرض وأسلوبه في البحث: "ليس يكفي أن يكون الإنسان جمَّ المعرفة، غزير الثقافة، ليكون مؤلفًا ممتازًا، بل لا بد مع ذلك من طبيعة مواتية، وفكر مرتِّب، وعقل مركز، وذوق مصفَّى، وذهن ناقد، وبيان ¬
أولا: أسلوبه الأدبي
ساحر، وحافز نفسي غلَّاب" (¬1)، وهذه السمات بمجموعها موجودة في كتب ابن القيم بعامة، وقد لاحظ ذلك الشوكاني، فقال: "وكل تصانيفه مرغوب فيها بين الطوائف، وله من حسن التصرف في الكلام، مع العذوبة الزائدة، وحسن السياق ما لا يقدر عليه غالبُ المصنّفين، بحيث تعشق الأفهامُ كلامه، وتميل إليه الأذهانُ، وتحبّه القلوبُ" (¬2). ولكتابنا هذا "إعلام الموقعين" النصيب الأكبر من هذه السمات، فعلى الرغم من أنه كتاب في الفقه وأصوله، وعادة المؤلفين في هذه الأبواب الابتعاد عن الإبداع في الأسلوب الأدبي في عرض مادتها إلا أنّ ابن القيم "لم يخرج عن مألوفه فيه، ولم يخلع ربقة البلاغة من عنقه، فقد اهتم بالشكل كما اهتمّ بالمضمون" (¬3)، يظهر ذلك في الأمور الآتية: أولًا: أسلوبه الأدبيُّ: سبق أن قررنا أن لابن القيم مقدرة علمية، فائقة في استثمار النصوص ودلالاتها على الأحكام الشرعية، وأنه سلك في ذلك طريقًا صحيحًا، وفق منهج علميِّ متَّبع عند السلف، وكان هدفه من ذلك الوصول إلى الحق، وقد جاء عرض ذلك بعباراتٍ أدبيَّةٍ، صادقة اللهجة، تفوح بشذى العلم، وتنبض بروح الإيمان (¬4)، تتميز بالسُّهولة والوضوح والعذوبة، وقد مال في كثير من المواطن إلى الصور البيانية، والمحسِّنات البديعية من غير تكلف (¬5)، فهو يكتب على سجيّته، ويملي بفطرته، لا يتكلّف ولا يتصنَّع. وقدرة المصنف على الصناعة والصياغة الأدبية ساعدته على تقعيد كثير من المسائل بعبارات جامعة موجزة، وهذا ضرب من البلاغة، وسموّ البيان، الذي يتجانس مع دقة المعاني الشرعية وتشعّبها، ولا سيما أن صاحبنا رحمه اللَّه أخذ تقريراته ¬
ثانيا: حسن الترتيب واتساق الأفكار وتسلسلها
من نصوص الوحيين على وجه فيه تكامل وترابط، فترى النور والإيمان يشع من كلامه، حتى وهو يتكلم في الفقه وأصوله. ولا ينسى في هذا المقام توظيفه الشعر بما يحمل من معنى رائق، ولفظ فائق لتأكيد اختياراته وتقويتها، ولذا يذكرها غالبًا عرضًا دون عزوٍ لقائلها، ويضعها في مكانها اللائق بها، ولا داعي للتمثيل لكثرتها، ولسهولة الوقوف عليها، إذ خُصّتْ (¬1) بفهرسة خاصة لها، واللَّه الموفق والهادي. والملاحظ في أسلوبه: استخدامه أسلوب الحوار في غالب مناقشته لخصومه حتّى يعطي حيوية أكثر للموضوع؛ ويجعل القارئ يتابعه باهتمام وتركيز، ويشعر وكأنّه حضر مجلس مناظرة، وقد تقابل الخصمان، وتبارز الحزبان، فأدلى كلّ منهما بحجّته. وأشهر مثال في هذا المقام قوله في مبحث التقليد: "فصل في عقد مجلس مناظرة، بين مقلِّد وبين صاحب حجَّة منقاد للحقِّ حيث كان" (¬2). ثم ذكرها. ومضى فيما نقلناه سابقًا عدة أمثلة على هذا. ثانيًا: حسن الترتيب واتّساق الأفكار وتسلسلها: فكما تميز أسلوب ابن القيم بحسن السياق، وإحكام العبارة، فإنه رحمه اللَّه يستفرغ جهده باتساق أفكاره وتسلسلها، وجودة تبويبها، وإتقان ترتيبها وتفصيلها وتقسيمها وتنويعها وتحديدها، وهذا مما ساعد على تيسير مباحث الكتاب، ويجعل قارئه يستفيد منه، ويشدّه إليه شدًّا، ويجنّبه السآمة والملل، إذ لا يحسّ بحواجز بين علم الأصول وما يرتبط به من علوم، كما يجعله يدرك إدراكًا عميقًا أهمية (أصول الفقه) وغايته وثمرته وصلته بنصوص الوحي. وهذا ينمّ عن قدرة ابن القيم على توظيف (علم الأصول) توظيفًا عمليًا سهلًا بعيدًا عن (التنظير) و (غير الواقعية)، "ولو لم يكن له سوى هذه الميزة لكفاه شرفًا وفخرًا، ولكان ذلك وحده مؤهّلًا كافيًا لتصنيفه ضمن الأصوليين الكبار" (¬3). ومن الأمثلة على إتقانه التفصيل والتقسيم والتنويع ما نادى به نظريًا، ولفت إليه نظر المفتي بقوله: ¬
"إذا كان الحكم مستغربًا جدًّا ممّا لم تألفه النّفوس، وإنّما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطّئ قبله ما يكون مؤذنًا به كالدّليل عليه والمقدّمة بين يديه، فتأمل ذكره -سبحانه- قصَّة زكريّا وإخراج الولد منه بعد انصرام عصر الشَّبيبة وبلوغه السنّ الّذي لا يولد فيه لمثله في العادة، فذكر قصَّته مقدَّمة بين يدي قصَّة المسيح وولادته من غير أب؛ فإنّ النّفوس لما آنست بولد من بين شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سَهُل عليه التّصديق بولادة ولد من غَير أب، وكذلك ذكر -سبحانه- قبل قصَّة المسيح مُوافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبّانه، وهذا الَّذي شجَّع نفس زكريَّا وحرّكها لطلب الولد وإن كان في غير إبّانه، وتأمّل قصَّة نسخ القبلة لمَّا كانت شديدة على النفوس جدًّا كيف وطّأ -سبحانه- قبلها عدة موطئات. . . " ثم ذكرها إلى أن قال: "والمقصود أن المفتي جديرٌ أن يذكر ين يدي الحكم الغريب الذي لم يؤلف مقدّمات، تؤنس به، وتدلّ عليه، وتكون توطئة بين يديه، وباللَّه التوفيق" (¬1). ومن أمثلة ذلك: ما ذكره في مبحث العبرة بالمقاصد والنّيات، حيث وطّأ بين يدي القول الفصل في المسألة بأنَّ اللَّه عز وجل رتَب الأحكام على الإرادات والمقاصد بواسطة الألفاظ الدَّالة عليها، ولم يرتّب تلك الأحكام على مجرّد ما في النّفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ لم يقصد المتكلِّم معانيها بل تجاوز للأمّة عن ذلك كلّه وتجاوز لها عمّا تكلّمت به مخطئة أو ناسية أو مكرَهة أو غير عالمة، لأنّ هذه الأمور لا تدخل تحت الاختيار، فلو رتّب عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حرج ومشقّة. قال بعدها: "فإذا تمهّدت هذه القاعدة فنقول. . . ". فذكر أقسام الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلّمين وإراداتهم (¬2). ومن ذلك أنّه لمّا ذكر أدلّة نفاة القياس أنّ الشريعة قد فرَّقت بين مجتمعين وجمعت بين مفترقين، مهّد للجواب على هذه الشبهة فقال: "وهذه الجملة إنّما تنفصل بعد تمهيد قاعدئين عظيمتين"، ثمّ ذكر القاعدتين: أولاهما أن النّصوص الشّرعية محيطة بجميع أفعال المكلفين (¬3). والثانية: ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس (¬4)، في أمثلة كثيرة يصعب حصرها. ¬
ثالثا: التكرار
ثالثًا: التكرار: إنّ هذه الميزة بارزة في "إعلام الموقّعين"، فقد كان ابن القيّم رحمه اللَّه يبحث بعض المسائل في أكثر من موضع، ولكنّ هذا التّكرار لا يخلو من فائدة، وفي الإعادة إفادة، فقد كان رحمه اللَّه حريصًا على تأكيد الفكرة، وتقرير المسألة، كما أن ذلك التكرار لا يَخْلُو من إضافات مهمّة لم تذكر من قبل. ومن الأمثلة على ذلك: أنّه بحث مسألة تحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرّأي المذموم المتضمّن لمخالفة النّصوص، والرّأي الّذي لم تشهد له النّصوص بالقبول، وساق الأدلة على ذلك من الكتاب والسنّة انظر: (1/ 88)، ثمّ كرّرها في (3/ 37) وأتى بأدلة لم يأت بها في الموضع السّابق. ومن ذلك مسألة تحريم القول على اللَّه بلا علم، بحثها في (1/ 73 - 78) ثمّ أعاد ذكرها في (2/ 439) بزيادات وإضافات مع الإشارة إلى ما تقدم ذكره، فقال: "قد تقدم قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وأنّ ذلك يتناول القول على اللَّه بغير علم في أسمائه وصفاته، وشرعه ودينه، وتقدم حديث أبي هريرة المرفوع: "مَنْ أَفْتى بِفُتْيَا غَيْرِ ثَبَتٍ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ" (¬1)، وأضاف أدلة أخرى لم يذكرها من قبل. ثم كرَّرها مرة أخرى في (2/ 439)، وذلك لبيان خطورة القول على اللَّه بلا علم. ومن ذلك تحريم التّقليد، بحثه في مواضع متفرقة انظر: (1/ 10، 11 و 2/ 447 و 3/ 37). ومن ذلك مسألة شروط الواقف، كرّرها عدة مرّات انظر: (2/ 61 - 68 و 3/ 500 - 502 و 5/ 78 - 79، 86 - 89، 90) (¬2). واعتذر الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- لتكرار ابن القيم مسألة الطلاق الثلاث بلفظ واحدٍ (¬3) بعذر يكاد ينطبق على مسائل أخرى، قال: ¬
رابعا: الاستطراد
"ووجه البسط والتكرار المقتضي لها -أي لمسألة الطلاق الثَّلاث بلفظ واحد- من أوضح الأشياء وأبينها، ويكفي عذرًا له في ذلك أنه حبس لأجلها وامتحن وأوذي في ذلك: لأن الفتوى بجعل الطلاق الثلاث بلفظ واحد إنما يقع طلقة واحدة، أمر مستنكر لدى الأجلة من العلماء فضلًا عن طلاب العلم، وعامة الخلق. إذ هم يكادون أن يطبقوا على أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد: يقع ثلاثًا لا واحدة فلا تنقيص إذًا ولا ملامة إذا رأينا ابن القيم يكرر الحديث عن هذا المبحث ويزيده في البسط والبيان ليظهر ما يعتقده دينًا، وشرعًا، مؤيدًا له بشتى وجوه الأدلة من الكتاب والسنة، والمعنى، واللغة" (¬1). على أنّه إذا رأى أن لا فائدة من إعادة القول استغنى عن ذلك واكتفى بقوله: "تقدم بيان حكمة ذلك ومصلحته بما فيه كفاية" (¬2) و"ما أغنى عن إعادته" (¬3). رابعًا: الاستطراد (¬4): هذه الخصيصة عرف بها الإمام ابن القيّم رحمه اللَّه، واشتهرت في أبحاثه، فكان إذا بحث مسألة استرسل في الكلام واستطرد فيها حتّى يخرج عن موضوعه الأصلي إلى موضوع آخر قد يكون أنفع للنّاس من المسألة المبحوثة فيها أصلًا، وهذا ممّا يدلّ على غزارة فكره وعلى جوده بعلمه، وقد أرشد المفتي إلى هذا فقال: "يجوز للمفتي أن يجيب السّائل بأكثر ممّا سأله عنه، وهو من كمال نصحه وعلمه وإرشاده، ومن عاب ذلك فلقلّة علمه وضيق عطنه، وضعف نصحه، وقد ترجم البُخَارِي لذلك في "صحيحه" فقال: (باب من أجاب السّائل بأكثر ممّا سأل عنه)، ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- ما يلبس المحرم؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يلبسُ القُمُصَ، ولا العَمَائِمَ، ولا السَّرَاوِيلَاتِ، ولا الخِفَافَ، إلَّا أن لا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبِسِ الخُفَّيْنِ، ولْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ" (¬5)، فسئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمَّا يلبس المحرم فأجاب عمّا لا يلبس، وتضمّن ذلك الجواب عمّا يلبس، فإنّ ما لا ¬
يلبس محصورٌ، وما يلبسه غير محصور، فذكر لهم النّوعين، وبيّن لهم حكم لبس الخفّ عند عدم النّعل، وقد سألوه عن الوضوء بماء البحر، فقال لهم: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِل مَيْتَتُهُ (¬1) " (¬2). ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره في مبحث الفوائد المتعلّقة بالإفتاء، حيث نقل عن الإمام أحمد رحمه اللَّه خصالًا يجب تحقيقها في المفتي، وهي خمس خصال، منها: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، ثمّ استطرد في الكلام عن السّكينة، وقال: "ولشدّة الحاجة إلى السَّكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك بحسب علومنا القاصرة، وأذهاننا الجامدة، وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزّمان، والنّاس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكلّ زمان دولة ورجال" (¬3). وفي شرحه لكتاب عمر -رضي اللَّه عنه- في القضاء (¬4) استطرد في ضرب الأمثال في القرآن وقال: "لا تستطل هذا الفصل المعترض في المفتي والشّاهد والحاكم، فكلّ مسلم أشدُّ ضرورة إليه من الطّعام والشّراب، والنّفس، وباللَّه التوفيق". وفي فصول من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أبواب متفرِّقة، استطرد في الكلام إلى الكبائر وأنواعها في فصلين، ثم قال بعدها: "فصل: مستطرد من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فارجع إليها" (¬5). ومن ذلك في فصل من فتاوى النّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، استطرد في الكلام إلى العمل بالسّياسة، ثم قال بعدها: "فلنرجع إلى فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬6). ¬
خامسا: العناية بالجانب الوجداني وإيقاظ الشعور الإيماني
خامسًا: العناية بالجانب الوجداني وإيقاظ الشعور الإيماني (¬1): من السمات الظاهرة في كتابنا هذا: عناية ابن القيم بالجانب الوجداني، فإنه لم ينس أن يخاطب الإحساس والشعور الإيماني، فإن من متطلبات الفقيه حتى يكون ربانيًا، موفَّقًا في اختياراته، مصيبًا للحق فيها أن يكثر اللجوء إلى اللَّه عز وجل، فاسمع إليه وهو يقول في (الفائدة العاشرة) من (فوائد تتعلق بالفتوى): "ينبغي للمفتي الموفّق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقار الحالي لا العلم المجرّد إلى مُلْهِم الصّواب، ومعلِّم الخير، وهادي القلوب، أن يلهمه الصّواب، ويفتح له طريق السّداد، ويدلّه على حكمه الّذي شرعه لعباده في هذه المسألة، فمتى قرع هذا الباب فقد قرع باب التّوفيق، وما أجدر من أمّل فضل ربّه أن لا يُحرِمَه إيّاه، فإذا وجد من قلبه هذه الهمّة فهي طلائع بشرى التّوفيق، فعليه أن يوجّه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصّواب ومطلع الرّشد، وهو النّصوص من القرآن والسنّة وآثار الصحابة، فيستفرغ وسعه في تعرّف حكم تلك النّازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التّوبة والاستغفار والإكثار من ذكر اللَّه، فإن العلم نور اللَّه يقذفه في قلب عبده، والهوى والمعصية رياح عاصفة تطفئ ذلك النّور أو تكاد، ولا بدّ أن تضعفه، وشهدتُ شيخ الإسلام -قدّس اللَّه روحه- إذا أعيته المسائل واستصعبت عليه فرّ منها إلى التّوبة، والاستغفار، والاستغاثة باللَّه، واللَّجأ إليه، واستنزال الصّواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته، فقلّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مدًا، وتزدلف الفتوحات الإلهية إليه بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن مَنْ وفّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه بحقيقة وقصد فقد أعطي حظّه من التوفيق، ومن حرمه فقد منع الطَّريق والرَّفيق، فمتى أعين مع هذا الافتقار ببذل الجهد في درك الحقّ فقد سلك به الصّراط المستقيم، وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم" (¬2). ¬
وذكر في (الفائدة الحادية والستين) أن على المفتي أن يكون كثير الدعاء، وذكر أدعية كان يقولها جماعة من السلف، ومن ذلك قوله: "وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجربنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة" (¬1) ثم قال: "والمعوَّل في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول، معلم الرسل والأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم، فإنه لا يردُّ من صدق في التوجُّه إليه، لتبليغ دينه، وإرشاد عبيده، ونصيحتهم، والتخلص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيته ورغبته في ذلك لم يعدم أجرًا، إن فاته أجران، واللَّه المستعان" (¬2). وظهرت هذه السمة على وجه واضح عندما وجّه خطابه للمقصّرين والعصاة، فقال مخوّفًا (أهل الحيل) من اللَّه، فذكَّرهم بيوم الدين: "فحقيق بمن اتّقى اللَّه وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم اللَّه بأنواع الحيل والاحتيال، وأن يعلم أنّه لا يخلصه من اللَّه ما أظهره مكرًا وخديعة من الأقوال والأفعال، وأنّ للَّه يومًا تكع فيه الرّجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السّرائر، وتظهر فيه الضّمائر، ويصير الباطن فيه ظاهرًا، والسّر علانية، والمستور مكشوفًا، والمجهول معروفًا، ويحصّل ويبدو ما في الصدور، كما يبعثر ويخرج ما في القبور، وتجرى أحكام الربّ -تعالى- هناك على القصود والنيّات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، يوم تبيضّ وجوه بما في قلوب أصحابها من النّصيحة للَّه ورسوله وكتابه، وما فيها من البّرّ والصدق والإخلاص للكبير المتعال، وتسودّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والكذب والمكر والاحتيال، هناك يعلم المخادعون أنّهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، وما يمكرون إلّا بأنفسهم وما يشعرون" (¬3). ويقول مخوّفًا من يكفّر أو يجهّل العلماء من يفتي في مسألة (اليمين بالطلاق): "فكيف يحلّ لمن يؤمن بأنه موقوف بين يدي اللَّه ومسؤول أنْ يكفِّر أو يجهّل من يفتي بهذه المسألة ويسعى في قتله وحبسه. . . " (¬4). ¬
ويقول في مسألة عدم تحنيث المتأوِّل: "فلا يحلّ لأحد أن يفرّق بين رجل وامرأته لأمر يخالف مذهبه وقوله الّذي قلّد فيه بغير حجّة، فإذا كان الرّجل قد تأوّل وققد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحلّ له أن يحكم عليه بأنّه حانث في حكم اللَّه ورسوله ولم يتعمّد الحنث، بل هذه فرية على اللَّه ورسوله وعلى الحالف؛ وإذا وصل الهوى إلى هذا الحدّ فصاحبه تحت الدّرك، وله مقام وأي مقام بين يدي اللَّه يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلّده، واللَّه المستعان" (¬1). ويخوف من يفتي بخلاف ما تبرهن عنده من حق نصرةً لمذهبه، فقال: "ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي اللَّه -سبحانه- أن يفتي السّائل بمذهبه الّذي يقلّده، وهو يعلم أنّ مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا. . . " (¬2). وقال أيضًا محذرًا إياه: "يجب عليه الإفتاء بما هو راجح عنده وأقرب إلى الكتاب والسّنة من مذهب إمامه أو مذهب من خالفه، لا يسعه غير ذلك، فإن لم يتمكّن منه وخاف أن يؤدّي إلى ترك الإفتاء في تلك المسألة لم يكن له أن يفتي بما لا يعلم أنّه صواب؛ فكيف بما يغلب عى ظنّه أن الصّواب في خلافه ولا يسع الحاكم والمفتي غير هذا ألبتّة، فإنّ اللَّه سائلهما عن رسوله وما جاء به، لا عن الإمام المعين وما قاله، وإنما يسأل النّاس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فيقال له في قبره: ما كنت تقول في هذا الرّجل الذي بُعث فيكم؟ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65)} [القصص: 65] ولا يسأل أحد قطّ عن إمام ولا شيخ ولا متبوع غيره، بل يسأل عمن اتّبعه وائتمّ به غيره، فلينظر بماذا يجيب؟ وليعدّ للجواب صوابًا" (¬3). وقال في موطن آخر: "وعلى كلِّ حال فلا عذر عند اللَّه يوم القيامة لمن بلغه ما في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نبذها وراء ظهره، وقلّد من نهاه عن تقليده، وقال له لا يحلّ لك أن تقول بقولي إذا خالفَ السّنة، ¬
سادسا: بين التواضع والاعتزاز
وإذا صحّ الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتّى لو لم يقل له ذلك، كان هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة له فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يسعه إلّا اتّباع الحجّة. . . " (¬1). ونبّه المصنف على أثر أعمال طالب العلم على قلبه، وحال قلبه على علمه، فقال بعد أن سرد حكم جمع الشريعة بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم: "وهذه أمور إنما يصدّق بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة حكمها، وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقّاها صافية من مشكاة النبوة، وأحكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نور حقائقها ظلمة التأويل والتحريف" (¬2). وأخيرًا، فإن هذه السِّمة يلحظها المحظوظون والموفّقون، وهي لمن استقامت تصوراتُهم، وقويت إراداتُهم، فاستجابوا للحقّ، فجالت في نفوسهم، وعلقت في قلوبهم قوّةٌ عبروا عنها بالأدلة، ورافقها شعور وجداني، وحضور إيماني بأن هذا هو الحق لا سواه، وهو على حدّ ما قاله المصنف في كتابنا: "وسئل بعضهم عن كلام سمعه من متكلّم به، فقال: واللَّه! ما فهمتُ منه شيئًا، إلا أني رأيتُ لكلامه صولةً ليست بصولة مبطل" (¬3). سادسًا: بين التواضع والاعتزاز: كان الإمام ابن القيم مثلًا أعلى في التواضع (¬4)، يعتقد إنما أوتيه من الفضل والعلم إنما هو محض فضل اللَّه وإكرامه، فيقول -مثلًا- في مستهل حديثه عن الجواب المفصل على أدلة نفاة التعليل: "فنتصدّى للجواب المفصل بحسب الاستعداد، وما يناسب علومنا القاصرة، وأفهامنا الجامدة، وعقولنا الضعيفة، وعباراتنا القاصرة" (¬5). وقال عند تفسير قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً. . .} [إبراهيم: 24]: "فهذا بعض ما تضمنه هذا المثل العظيم الجليل من الأسرار والحكم، ولعلها قطرة من بحر، بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخطئة، ¬
وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجب التوبة والاستغفار، وإلا فلو طهرت منا القلوب، وصفت الأذهان، وزكت النفوس، وخلصت الأعمال، وتجردت الهمم للتلقّي عن اللَّه ورسوله لشاهدنا من معاني كلام اللَّه وأسراره وحكمه ما تضمحل عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارف الخلق" (¬1). وكرر هذه المعاني في مواطن من كتبه (¬2). وهذا لا يتنافى مع ما قدمناه عنه من اعتزازه بعلمه (¬3)، فإن العالم إذا شدّ النَّفَس، وأتعب البدن، وبذل الجهد في تأصيل مسألة وتقعيدها، أو لمّ شعثها وجزئياتها، فإنه يفرح بذلك، ويعتز، وفخر ابن القيم واعتزازه بالعلم وللعلم، وليس لذاته، ولذا قال بعد بحث مسألة: "فتأمل هذه المعاني التي لا تجدها في كتاب، وإنما هي روضة أنف، منح العزيز الوهاب فهمها، وله الحمد والمنة" (¬4) فلم يفخر ويعتز رحمه اللَّه بعلمه، بل في كلامه الأخير تواضع، وأن اللَّه هو الذي فهمه هذا، ولذا قال بعدها: "لو وجدناه لغيرنا لأعطيناه حقه من الاستحسان والمدح، وللَّه الفضل والمنة" (¬5). فالأمر أكبر من النفوس وحظوظها. فالفخر والاعتزاز عنده بالحق الذي قامت عليه الدلائل، ليكثُر الخير، ويُنتفع به، وهو يصنع هذا على حد قول علي: "إن هاهنا علمًا لو أصبت له حملة" (¬6) وعلى نسق طلب يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)} [يوسف: 55]، قال ابن القيم: "فمن أخبر عن نفسه بمثل ذلك، ليتكثر بما يحبه اللَّه ورسوله من الخير، فهو محمود، وهذا غير من أخبر بذلك؛ ليتكثّر به عند الناس ويتعظّم، وهذا يجازيه اللَّه بمقت الناس له، وصغره في عيونهم" (¬7). فابن القيم متواضع، ومع تواضعه يفتخر بالحق الذي علمه اللَّه إياه، ورحم اللَّه تلميذه ابن رجب لما قال عنه: "وليس هو بالمعصوم، ولكن لم أر في معناه مثله" (¬8). ¬
الجهود المبذولة في كتابنا هذا
الجهود المبذولة في كتابنا هذا بذلت جهود كثيرة في هذا الكتاب، نلخّصها في المحاور الآتية: الأول: إفراد بعض مواضيعه وفصوله في كتب مستقلّة: انبثق عن كتابنا هذا -قديمًا وحديثًا- كتب كثيرة، وهذا ما وقفتُ عليه منها: أولًا: "بلوغ السؤال من أقضية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-" أفردها وجعلها مستقلّة، وسماها بهذا الاسم صديق حسن خان القنوجي، وظهر طبع حجر في الهند، سنة 1292 هـ - 1875 م ثم سنة 1321 هـ (¬1)، وهو عبارة عما ختم به المؤلف كتابه هذا (¬2). وقد استلّ هذا القسم وحده قديمًا، وهنالك نسخ خطية يعود تأريخها إلى القرن العاشر الهجري تقريبًا. فيها فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خاصة، كما في نسخة (ت)، من النسخ المعتمدة، وسيأتي وصفها إن شاء اللَّه تعالى. ونشر هذا القسم مرات عديدة، فقد قام -مثلًا- قاسم الشّمَّاعي الرفاعي رحمه اللَّه بترتيب هذه الفتاوى على الأبواب الفقهية المطروقة، وطبعها على حدة، وكذا اعتنى بها -على ترتيب المصنف لها- محمد نزار تميم وهيثم نزار تميم، ونشراها بعنوان "فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-"، ونشرت عن غيرهما أيضًا، وحققت في رسالتين علميتين بجامعة الإمام محمد بن سعود (¬3)، ولم أرهما. ثانيًا: "درر البيان في تفسير أمثال القرآن" لبعض أئمة الدعوة من علماء نجد، طبع بالمطبعة السلفية بمصر. ثم ظهر بتحقيق ناصر الرشيد في مكة المكرمة، في (62 صفحة) بعنوان "أمثال القرآن". ¬
ثالثًا: "فصول في القياس" طبع ضمن كتاب "القياس في الشرع الإسلامي"، نشره محب الدين الخطيب سنة 1346 هـ، مع رسالة ابن تيمية في القياس أيضًا، وضمن "رسالتان في معنى القياس"، عن دار الفكر، عمان. رابعًا: "أسرار الشريعة من إعلام الموقعين" جمعه ورتبه (¬1) مساعد بن عبد اللَّه السلمان، وقدم له الشيخ عبد اللَّه البسام، والشيخ إبراهيم الجطيلي، مطبوع عن دار المسير، سنة 1418 هـ. خامسًا: "البيّنات السلفيّة على أنّ أقوال الصحابة حجة شرعية في إعلام الإمام ابن قيم الجوزية" لأحمد سلام، نقل فيه كلام ابن القيم على حجية أقوال الصحابة، مع تعليقات وإضافات مطبوع عن دار ابن حزم، سنة 1417 هـ (¬2). المحور الثاني: دراسات علمية قامت حوله أو دارت في موضوعه: تنوَّعت دراسات المعاصرين التي لها تعلُّقٌ بكتابنا هذا، ومن أهمها: أولًا: "القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين" لأبي عبد الرحمن عبد المجيد جمعة الجزائري، مطبوع بتقديم فضيلة الشيخ بكر أبو زيد، عن دار ابن القيم ودار ابن عفان، السعودية. ثانيًا: "مناهج الإفتاء عند ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين"" لأسامة عمر الأشقر، رسالة علمية قيد الإعداد، في الجامعة الإسلامية، بكوالا لامبور/ ماليزيا. ثالثًا: "منهج ابن القيم في القواعد الفقهية" لأنور صالح أبو زيد، رسالة دكتوراه، في الجامعة الإسلامية سجلت سنة 1418 هـ، كذا في "دليل الرسائل العلمية" (419). ¬
أهمية الكتاب وفائدته
والظاهر من عنوانها أنها ليست خاصة بـ "الإعلام"، ولكن مادته هي الأساسية والأصلية في مثل هذا المبحث، وكذلك: رابعًا: "ابن القيم أصوليًا"، لعبد اللَّه لخضر، رسالة دكتوراه، مقدمة لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في جامعة محمد الخامس بالرباط، وكذلك: خامسًا: "الإمام ابن القيم ومنهجه وآراؤه في أصول الفقه"، لمسعود عالم مولوي، رسالة ماجستير، مقدمة لقسم أصول الفقه في الجامعة الإسلامية، سنة 1397 هـ، كذا في "دليل الرسائل العلمية" (425). المحور الثالث: طبعات الكتاب: سيأتي الحديث عنها، وتقويم المشهور منها لاحقًا. المحور الرابع: مخطوطات الكتاب: اعتنى العلماء والنساخ بكتابنا هذا، وجهدوا في تملُّكه، وله نسخ خطية عديدة في سائر المكتبات المبثوثة في أنحاء العالم، وسيأتي بيان ذلك قريبًا إن شاء اللَّه تعالى. * أهمية الكتاب وفائدته: لكتابنا هذا أهمية عظيمة، وقد سمعت الشيخ العلامة بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- ينقل عن الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز رحمه اللَّه قوله: "كتاب الإسلام: "إعلام الموقعين"". وقال الشيخ محمد رشيد رضا عنه: "لم يؤلف مثله أحد من المسلمين في حكمة التشريع ومسائل الاجتهاد والتقليد والفتوى" (¬1). وقال الشيخ سليمان بن سحمان عنه: "كتاب جليل" وقال: "ليس له في المؤلَّفات نظير ولا مثيل" (¬2). قال أبو عبيدة: لا يقدر على تسطير ما فيه إلا شبعان ريان من علوم الشريعة وأصولها ونصوصها وحِكَمِها، ولا غرو في ذلك، فإن صاحبه له باع طويل، في جميع العلوم الإسلامية ومذاهب أهل الأديان على اختلاف مللهم ونحلهم، وله في كل فن مؤلفات واسعة، فإذا ما قرأ له المرء كتابًا في أي فنٍّ شاء حسب أنه لا ¬
يتقن سواه، ثم أيقن أنه لم يكتب في موضوعه أجود منه. ونجد ابن القيم، في كتابنا هذا إذا عرض لمسألة من المسائل استوعب الكلام فيها من جميع جوانبها، وذلك بأن يورد أقوال الطوائف فيها، ثم يتبع هذا بمناقشة أدلتهم، ثم ينتهي إلى رفض الآراء التي لا تثبت أمام النقد واختيار الرأي الذي يتفق مع العقل والنقل الصحيح في نظره (¬1). وتكلمنا فيما سبق (¬2) أن من منهجية المصنف في كتبه: التحليل والتأصيل، وأن النهضة العلمية اليوم تتطلب من تلاميذها العكوف على مثل نوع كتابنا من المؤلفات، ودراسته بتمحيص من ناحية نظرية، ابتغاء تحصيل ثمرته العملية، ولا سيما في استنباط الأحكام العلمية للنوازل الفقهية التي لا سبيل لمعرفتها إلا من خلال القواعد والمقاصد التي يتوصل إليها من خلال استيعاب المنصوص: جمعًا وتمعنًا وتحليلًا واستقراءً، وحينئذ يحسن إلحاق غير المنصوص به، أما الهجوم على غير المنصوص دون ذلك، فمن مظنة الخطأ والزلل، أو التعدي والقصور، أو الوقوع في التعالم، وعدم معرفة قدر النفس، وهذه هي آفة الفقه في هذا الزمان. وما أحوج أهل زماننا إلى مصنَّف يجمع أسرار التشريع وحِكَمَه على وفق العلوم التجريبية والإنسانية، يستعرض فيه جميع أبواب الفقه، على المنهج الذي سلكه ابن القيم، من تعظيم الدليل، والاهتمام بالنظرة المقاصدية، وضمّ الشبيه إلى الشبيه، بضابط فهم السلف، وعدم التأثر بضغط الواقع، وشُبَهِ المهزومين من الداخل. ومع ذلك، فإن لابن القيم في كتابه هذا مؤشر التقدم والإبداع، ذلك أنه تمثل بمسائله وقضاياه، والمشاكل التي تحدث عنها في عصره، قمة العطاء والتقدم آنذاك على وجه لم يوجد له شبيه، ولا ما يدانيه، أو ما يقاربه ويجاريه، وهو يحكي نبوغه المتفرد المتمثل بضرب من التقدم بتدوين مباحث في الفقه وأصوله نال الإعجاب والتقدير، بسبب ضوابطه المنهجية والتزامه به، على وجه لا يستغني عنه البحث العلمي الموضوعي في أيّ وقت، وهو ينمّ عن مقدرة أصولية، وظَّفها صاحبها توظيفًا لو لم يكن له سواه لكفاه تقدّمًا وفخرًا وشرفًا. وقد أصاب الشيخ بكر أبو زيد -حفظه اللَّه- كبد الحقيقة لما قال: "لو لم يكن من مؤلفاته إلا كتابه "زاد المعاد في هدي خير العباد" ذلك الكتاب النافع ¬
أثر الكتاب في مؤلفات ودراسات من بعده
المعطار، وكتابه الجامع لأمهات الأحكام، وحقائق الفقه، وأصول التشريع، وحكمه وأسراره، المسمى "إعلام الموقعين" وغيرهما مما يعجب ويطرب، لو لم يكن منها إلا هذان الكتابان لكفى" (¬1). * أثر الكتاب في مؤلفات ودراسات من بعده: كان لكتابنا "الأعلام" أثر ظاهر في مؤلفات من بعده من كبار العلماء، على اختلاف فنونهم ومشاربهم، وأخصُّ الحنابلة منهم، فإنهم أقاموا لاختياراته في كتبهم ومصنفاتهم وزنًا، وأحالوا عليها، ونقلوا منها، وهذه أمثلة تدلل على ذلك (¬2): * أثر كتابنا في كتاب "الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل" (¬3) لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي (ت 885 هـ) رحمه اللَّه تعالى. ¬
أكثر المرداوي في "الإنصاف" من النقل من كتابنا "إعلام الموقعين" وهذا البيان: 1 - قال في "الإنصاف" (5/ 420) في مسألة (مقاسمة الدَّيْن في الذمة): "تنبيه: مراده بقوله "في الذمة" الجنس. فمحل الخلاف: إذا كان في ذمتين فأكثر، قاله الأصحاب. أما إذا كان في ذمة واحدة: فلا تصح المقاسمة فيها، قولًا واحدًا، قاله في "المغني" و"الشرح" و"الفروع"، وغيرهم. وقال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه: يجوز أيضًا، ذكره عنه في "الاختيارات"، وذكره ابن القيم رحمه اللَّه رواية في "إعلام الموقعين"". 2 - وفي "الإنصاف" أيضًا (8/ 162 - 163) تحت (فائدة) في مبحث (نكاح المحلل) ما نصه: "لو اشترى عبدًا وزوَّجه بمطلقته ثلاثًا، ثم وهبها العبد أو بعضه، ليفسخ نكاحها: لم يصح. قال الإمام أحمد رحمه اللَّه: إذا طلقها ثلاثًا وأراد أن يراجعها، فاشترى عبدًا وزوجه بها: فهذا الذي نهى عنه عمر -رضي اللَّه عنه-، يؤدبان جميعًا. وهذا فاسد، ليس بكفء، وهو شبه المحلل. قال في "الفروع": وتزويجه المطلقة ثلاثًا لعبده بنية هبته، أو بيعه منها، ليفسخ النكاح: كنية الزوج. ومن لا فرقة بيده، ولا أثر لنيته. وقال ابن عقيل في "الفنون" فيمن طلق زوجته الأمة ثلاثًا، ثم اشتراها لتأسفه على طلاقها: حِلُّها بعيد في مذهبنا، لأنه يقف على زوج وإصابة، ومتى ¬
زوجها -مع ما ظهر من تأسفه عليها- لم يكن قصده بالنكاح إلا التحليل. والقصد عندنا يؤثر في النكاح، بدليل ما ذكره أصحابنا: إذا تزوج الغريب بنية طلاقها إذا خرج من البلد: لم يصح. ذكره في "الفروع". قال المصنف، والشارح: ويحتمل أن يصح النكاح إذا لم يقصد العبد التحليل. وقال العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين": لو أخرجت من مالها ثمن مملوك، فوهبته لبعض من تثق به، فاشترى به مملوكًا، ثم خطبها على مملوكه، فزوجها منه، فدخل بها المملوك، ثم وهبها إياه: انفسخ النكاح، ولم يكن هناك تحليل مشروط ولا منوي ممن تؤثر نيته وشرطه، وهو الزوج، فإنه لا أثر لنية الزوجة، ولا الولي، قال: وقد صرح أصحابنا بأن ذلك يحلها (¬1). فقال في "المغني": فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها. انتهى. وهذه الصورة غير التي منع منها الإمام أحمد رحمه اللَّه، فإنه منع من حلها إذا كان المطلق الزوج واشترى العبد وزوجه بإذن وليها ليحلها. انتهى" انتهى ما عند المرداوي. قلت: وهذا الكلام في نشرتنا (4/ 448 - 449). 3 - وفي "الإنصاف" (8/ 175) أيضًا تحت (فائدة) ما نصه: "لو أبيح للحر نكاح أمة، فنكحها، ولم يشترط حرية أولاده: فهم أرقاء لسيدها. على الصحيح من المذهب، وعليه الأصحاب. وعنه: أن ولد العربي يكون حرًا، وعلى أبيه فداؤه. ذكره الزركشي في آخر كتاب النفقات على الأقارب. وإن شرط حرية الولد، فقال في "الروضة" -فى إرث غرَّة الجنين-: إن شرط زوج الأمة حرية الولد: كان حرًا، وإن لم يشرط: فهو عبد. انتهى. ذكره في "الفروع" في أواخر "باب مقادير ديات النفس". قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" -في (الجزء الثالث في الحيل) - ¬
المثال الثالث والسبعون: إذا شرط الزوج على السيد حرية أولاده: صح، وما ولدته فهم أحرار". قلت: انظره في نشرتنا (4/ 406). 4 - وفي "الإنصاف" (8/ 424 - 425) أيضًا تحت (فوائد) وذكر (الفائدة الأولى)، وقال: "يحرم الخلع حيلة لإسقاط عين طلاق، ولا يقع على الصحيح من المذهب. جزم به ابن بطة في مصنف له في هذه المسألة. وذكره عن الآجري، وجزم به في "عيون المسائل"، والقاضي في "الخلاف"، وأبو الخطاب في "الانتصار"، وقال: هو محرم عند أصحابنا. وكذا قال المصنف في "المغني": هذا يفعل حيلة على إبطال الطلاق المعلق، والحيل خدع لا تحل ما حرم اللَّه. قال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه: خلع الحيلة لا يصح على الأصح، كما لا يصح نكاح المحلل، لأنه ليس المقصود منه الفرقة، وإنما يقصد به بقاء المرأة مع زوجها، كما في نكاح المحلل، والعقد لا يقصد به نقيض مقصوده. وقدمه في "الفروع". وقيل: يحرم، ويقع. وقال في "الرعايتين"، و"الحاوي الصغير": ويحرم الخلع حيلة، ويقع في أصح الوجهين. قال في "الفروع": وشذ في "الرعاية"، فذكره. قلت: غالب الناس واقع في هذه المسألة، وكثيرًا ما يستعملونها في هذه الأزمنة. ففي هذا القول فرج لهم. واختاره ابن القيم في "إعلام الموقعين". ونصره من عشرة أوجه (¬1). وقال في "الفروع": ويتوجه أن هذه المسألة، وقصد المحلل التحليل، وقصد أحد المتعاقدين قصدًا محرمًا، كبيع عصير ممن يتخذه خمرًا: على حد واحد، فيقال في كل منهما ما قيل في الأخرى". قلت: انظر نشرتنا (4/ 231). ¬
5 - وفيه (6/ 4 - 5) أيضًا (في الإجارة) عند قوله: (وفي لفظ البيع وجهان) قال: "بأن يقول: بعتك نفعها، وأطلقهما في "الهداية"، و"المذهب"، و"مسبوك الذهب" و"المستوعب"، و"الخلاصة"، و"الكافي"، و"الهادي"، و"المغني"، و"المذهب الأحمد"، و"التلخيص"، و"البلغة"، و"الشرح"، و"شرح ابن منجا"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير"، و"الفروع"، و"الفائق"، و"الزركشي"، و"القواعد الفقهية"، والطوفي في "شرح الخرقي". قال في "التلخيص" و"الفائق": وأما لفظ البيع: فإن أضافه إلى الدار لم يصح، وإن أضافه إلى المنفعة فوجهان. انتهيا. أحدهما: يصح. اختاره ابن عبدوس في "تذكرته"، والشيخ تقي الدين رحمه اللَّه فقال في "قاعدة له في تقرير القياس" -بعد إطلاق الوجهين- والتحقيق: أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت بأي لفظ كان من الألفاظ التي عَرَفَ به المتعاقدان مقصودهما. وهذا عام في جميع العقود، فإن الشارع لم يحدّ حدًّا لألفاظ العقود، بل ذكرها مطلقة. انتهى. وكذا قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين". قال في "إدراك الغاية": لا تصح بلفظ البيع في وجه. وقدمه ابن رزين في "شرحه". والوجه الثاني: لا يصح، صححه في "التصحيح"، و"النظم". قال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه -بعد ذكر الوجهين- بناء على أن هذه المعاوضة نوع من البيع، أو شبيهة به" (¬1). قلت: انظره في نشرتنا (2/ 198). 6 - وفيه (6/ 345) أيضًا تحت (فائدة جليلة) ما نصه: "تثبت الوديعة بإقرار الميت، أو ورثته، أو بينته. وإن وجد خط موروثه "لفلان عندي وديعة" وعلى كيس "هذا لفلان" عمل به وجوبًا، على الصحيح من المذهب. قال في "الفروع": ويعمل به على الأصح. ¬
قال الحارثي: هذا المذهب، نص عليه من رواية إسحاق بن إبراهيم في الوصية، ونصره، ورد غيره. وقال: قاله القاضي أبو الحسين، وأبو الحسن ابن بكروس، وقدمه في "المستوعب"، و"التلخيص"، وهو الذي ذكره القاضي في "الخلاف". وقيل: لا يعمل به، ويكون تركة. اختاره القاضي في "المجرد"، وابن عقيل، والمصنف، وقدمه الشارح، ونصره وجزم به في "الحاوي الصغير"، و"النظم". وإن وجد خطه بدين له على فلان: حلف الوارث، ودفع إليه، قطع به في "المغني"، و"الشرح"، و"الفروع"، و"شرح الحارثي"، و"إعلام الموقعين". وإن وجد خطه بدين عليه فقيل: لا يعمل به، ويكون تركة مقسومة. اختاره القاضي في "المجرد"، وجزم به في "الفصول"، والمذهب، وقدمه في "المغني"، و"الشرح". وقيل: يعمل به، ويدفع إلى من هو مكتوب باسمه. قال القاضي أبو الحسين: المذهب وجوب الدفع إلى من هو مكتوب باسمه، أومأ إليه، وجزم به في "المستوعب". وهو الذي ذكره القاضي في "الخلاف": هو ظاهر ما قطع به في "إعلام الموقعين"، وقدمه في "التلخيص"، وصححه في "النظم"، وهو المذهب عند الحارثي، فإنه قال: والكتابة بالديون عليه كالكتابة بالوديعة، كما قدمنا. حكاه غير واحد منهم السامري، وصاحب "التلخيص". انتهى". 7 - وفيه أيضًا (9/ 5) بعد كلام: "وذكر الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه أن قوله: "الطلاق يلزمني" ونحوه يمين باتفاق العقلاء والأمم والفقهاء، وخرجه على نصوص الإمام أحمد رحمه اللَّه. قال في "الفروع": وهو خلاف صريحها. وقال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه أيضًا: إن حلف به نحو "الطلاق لي لازم" ونوى النذر: كَفَّر عند الإمام أحمد رحمه اللَّه. ذكره عنه في "الفروع" في كتاب الأيمان، ونصره في "إعلام الموقعين"، هو والذي قبله (¬1). ¬
وقد ذكر أن أخا الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه اختار عدم الكفارة فيهما، وهو مذهب ابن حزم. فعلى المذهب: إذا لم ينو شيئًا، فأطلق المصنف هنا في وقوع الثلاث أو وقوع واحدة الروايتين، وأطلقهما في "القواعد الأصولية"، وابن منجا في "شرحه"". قلت: انظر نشرتنا (3/ 33، 4/ 301، 319، 334، 539). 8 - وفيه أيضًا (9/ 111) تحت (فائدتين)، وذكر الثانية منهما، فقال: "لو قالت امرأته "أريد أن تطلقني" فقال: "إن كنت تريدين" أو "إذا أردت أن أطلقك فأنت طالق" فظاهر الكلام: يقتضي أنها تطلق بإرادة مستقبلة ودلالة الحال على أنه أراد إيقاعه، للإرادة التي أخبرته بها. قاله ابن عقيل في "الفنون". ونصر الثاني العلامة ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين"". انتهى. قلت: انظره في نشرتنا (1/ 381 - 382، 3/ 484 - 485، 4/ 228، 517). 9 - وفيه أيضًا (9/ 127) تحت (فوائد): "فإن حلف على زوجته في شعبان بالثلاث أن يجامعها في نهار شهرين متتابعين فدخل رمضان. فالحيلة: أن يسافر بها. قدمه في "الهداية"، و"المستوعب"، و"الخلاصة"، و"الرعايتين"، و"الحاوي الصغير". واختاره المصنف، والعلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين"". 10 - وفيه أيضًا (10/ 391 - 392) تحت (تنبيه) في (التذكية بالسن)؛ ما نصه: "ظاهر قوله: "إلا السن" أنه يباح الذبح بالعظم، وهو إحدى الروايتين. والمذهب منهما. قال المصنف في "المغني": مقتضى إطلاق الإمام أحمد رحمه اللَّه إباحة الذبح به، قال: وهو أصح. وصححه "الشارح"، و"الناظم". وهو ظاهر كلامه في "الوجيز".
قال في "الهداية"، و"المذهب"، و"الخلاصة"، وغيرهم: وتجوز الذكاة بكل آلة لها حد يقطع وينهر الدم، إلا السن والظفر. قدمه في "الكافي"، وقال: هو ظاهر كلامه. والرواية الثانية: لا يباح الذبح به. قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" في (الفائدة السادسة) بعد ذكر الحديث: وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام: إما لنجاسة بعضها، وإما لتنجيسه على مؤمني الجن. واختاره ابن عبدوس في "تذكرته"، وقدمه ابن رزين في "شرحه". قال في "الترغيب": يحرم بعظم، ولو بسهم نصله عظم. وأطلقهما في "المحرر"، و"الرعايتين"، و"الحاويين"، و"الفروع" (¬1). قلت: وكلام ابن القيم في "الأعلام" في نشرتنا (5/ 50). 11 - وفيه (11/ 166 - 167) أيضًا وذكر نقلين من كتابنا هذا، قال تحت (فائدتين) وذكر (الثانية) فقال: "لو تعين عليه أن يفتي وله كفاية، فهل يجوز له الأخذ؟ فيه وجهان. وأطلقهما في "آداب المفتي"، و"الرعاية الكبرى"، و"أصول ابن مفلح"، و"فروعه". واختار ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" عدم الجواز (¬2). ومن أخذ رزقًا من بيت المال لم يأخذ أجرة لفتياه. وفي أجرة خطه وجهان: وأطلقهما في "الفروع". أحدهما: لا يجوز. قدمه ابن مفلح في "أصوله". واختاره الشيخ ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين". الثاني: لا يجوز. ونقل المروذي فيمن يُسأل عن العلم، فربما أهدى له؟ قال: لا يقبل، إلا أن يكافئ. ¬
ويأتي أيضًا حكم هدية المفتي عند ذكر هدية القاضي". قلت: واختيار ابن القيم الأول في نشرتنا (5/ 159)، والثاني في (5/ 158). 12 - وفيه أيضًا (11/ 861 - 187) عند الكلام على (صفات المفتي)، وهل تصح الفتوى من فاسق؟ قال: "ولا تصح من فاسق لغيره، وإن كان مجتهدًا، لكن يفتي نفسه ولا يسأل غيره. وقال الطوفي في "مختصره"، وغيره: لا تشترط عدالته في اجتهاده، بل في قبول فتياه وخبره. وقال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين": قلت: الصواب جواز استفتاء الفاسق، إلا أن يكون معلنًا بفسقه، داعيًا إلى بدعته، فحكم استفتائه حكم إمامته وشهادته" (¬1) ثم تكلم في الموطن نفسه عن (فتوى مستور الحال)، فقال: "ولا تصح من مستور الحال أيضًا، على الصحيح من المذهب. قدمه في "الفروع"، وغيره من الأصوليين. وقيل: تصح. قدمه في "آداب المفتي" وعمل الناس عليه. وصححه في "الرعاية الكبرى". واختاره الشيخ ابن القيم في "إعلام الموقعين". وقيل: تصح إن اكتفينا بالعدالة الظاهرة، وإلا فلا". قلت: انظر كلام ابن القيم عن (فتوى الفاسق) في نشرتنا (5/ 138)، وعن (فتوى مستور الحال) فيها أيضًا (138 - 139). 13 - وفيه (11/ 189) أيضًا: "وإن حدث ما لا قول فيه تكلم فيه حاكم ومجتهد ومفت. وقيل: لا يجوز في أصول الدين. قال في "آداب المفتي": ليس له أن يفتي في شيء من مسائل الكلام مفصلًا، بل يمنع السائل وسائر العامة من الخوض في ذلك أصلًا، وقدمه في "مقنعه". ¬
وجزم به في "الرعاية الكبرى". وقدم ابن مفلح في "أصوله": أن محل الخلاف في الأفضلية، لا في الجواز وعدمه، وأطلق الخلاف. وقال في خطبة "الإرشاد": لا بد من الجواب. وقال في "إعلام الموقعين" -بعد أن حكى الأقوال-: والحق التفصيل، وأن ذلك يجوز بل يستحب، أو يجب عند الحاجة، وأهلية المفتي والحاكم، فإن عدم الأمران: لم يجز، وإن وجد أحدهما: احتمل الجواز والمنع، والجواب عند الحاجة دون عدمها". انتهى. قلت: انظر كلامه في نشرتنا (5/ 208). 14 - وفيه (11/ 194 - 195) أيضًا في مسألة التّمذهب: "وقال ابن مفلح في "أصوله": وقال بعض الأصحاب: هل يلزم المقلد التمذهب بمذهب، والأخذ برخصه وعزائمه؟ فيه وجهان. قلت: قال في "الفروع" -في أثناء "باب شروط من تقبل شهادته"-: وأما لزوم التمذهب بمذهب، وامتناع الانتقال إلى غيره في مسألة: ففيه وجهان، وفاقًا لمالك والشافعي رحمهما اللَّه، وعدمه أشهر. انتهى. قال في "إعلام الموقعين": وهو الصواب المقطوع به. وقال (¬1) في "أصوله": عدم اللزوم قول جمهور العلماء، فيتخير. وقال في "الرعاية الكبرى": يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر فلا يقلد غير أهله. وقيل: بلى. وقيل: ضرورة. فإن التزم فيما يفتى به، أو عمل به، أو ظنه حقًا، أو لم يجد مفتيًا آخر: لزم قوله، وإلا فلا. انتهى. واختار الآمدي منع الانتقال فيما عمل به. وعند بعض الأصحاب: يجتهد في أصح المذاهب فيتبعه (¬2). ¬
وقال الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه: في الأخذ برخصه وعزائمه طاعة غير الرسول عليه الصلاة والسلام في كل أمره ونهيه، وهو خلاف الإجماع". انتهى. قلت: والكلام المشار إليه في نشرتنا (5/ 203 - 204). 15 - وفيه: (11/ 221) أيضًا في مسألة (فتيا الحاكم هل هي حكم منه؟)، قال: "قال القاضي في "التعليق"، والمجد في "المحرر": فعله حكم إن حكم به هو، أو غيره، وفاقًا، كفتياه. فإذا قال: "حكمت بصحته" نفذ حكمه باتفاق الأئمة. قاله الشيخ تقي الدين رحمه اللَّه. وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين": فتيا الحاكم ليست حكمًا منه. فلو حكم غيره بغير ما أفتى: لم يكن نقضًا لحكمه، ولا هي كالحكم. ولهذا يجوز أن يفتى للحاضر والغائب، ومن يجوز حكمه له ومن لا يجوز". انتهى. قلت: انظر نشرتنا (5/ 141). 16 - وفيه (11/ 318) أيضًا ما نصه: "وفي تضمين مفت ليس أهلًا: وجهان. وأطلقهما في "الفروع". واختار ابن حمدان في كتابه "أدب المفتي والمستفتي" أنه لا ضمان عليه (¬1). قال ابن القيم رحمه اللَّه في "إعلام الموقعين" في الجزء الأخير: ولم أعرف هذا القول لأحد قبل ابن حمدان. ثم قال: قلت خطأ المفتي كخطأ الحاكم أو الشاهد" (¬2). قلت: وكلامه في نشرتنا (5/ 147). هذا، ولم يقتصر نقل المرداوي في كتابه "الإنصاف" من كتابنا "الإعلام" ¬
وإنما نقل منه في كتبه الأخرى، مثل "تصحيح الفروع" (¬1)، وهنالك نقولات مشتركة بينه وبين "الإنصاف"، وقد أشرتُ إليها في محالّها، وللَّه الحمد. إلا أني ظفرتُ بمسألة هي فيه ليست في "الإنصاف"، وهي: قوله في "تصحيح الفروع" (1/ 386): "ولو سأل مفتيين واختلفا فهل يأخذ بالأرجح، أو الأخف، أو الأشد، أو يخيره؟ فيه أوجه، انتهى. أطلق الخلاف في عدة أقوال: أحدها: أنه يخير، اختاره القاضي وأبو الخطاب والشيخ الموفق في "الروضة"، نقله عنه المصنف في "أصوله"، ولم أره فيها وقطع به المجد في موضع من "المسودة"، قال أبو الخطاب: وهو ظاهر كلام الإمام أحمد وقدمه المصنف في "أصوله"، والوجه الثاني: يأخذ بالأرجح، ذكره ابن البناء، وغيره، وهو الصحيح، واختاره بعض الأصحاب، قاله المصنف في "أصوله"، قال في "إعلام الموقعين" يجب عليه أن يتحرى، ويبحث عن الراجح بحسبه وهو أرجح المذاهب السبعة". انتهى. قلت: انظر نشرتنا (5/ 205 - 206). وهنالك نقولات عديدة جدًّا عند كثير من متأخري الحنابلة من كتابنا هذا، وأقتصر على بيان ذلك بالتفصيل من: * كتاب "كشاف القناع" (¬2) للشيخ منصور بن يونس البهوتي (ت 1051 هـ). 1 - قال فيه (3/ 273) في آخر (فصل: في المصارفة وهي بيع نقد بنقد)، وتكلم استطرادًا عن الحيل، قال: "وقد ذكر ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين" من ذلك صورًا كثيرة جدًّا، يطول ذكرها، فَلْتعاود؛ لعموم الحاجة إليها". 2 - وقال في (3/ 405) (فصل: في أحكام الجوار): ¬
"وفي "المبهج": في (الأطعمة): ثمرةُ غصنٍ في هواءِ طريقٍ عامٍّ للمسلمين" قال بعده: "ومعناه أيضًا لابن القيم في "إعلام الموقعين"، لأنّ إبقاءه إِذْنٌ عرفًا في تناول ما سقط منه". 3 - وقال في (4/ 208) آخر (باب الجعالة): "ولو وقع الحريق بدار ونحوها فهدمها غير صاحبها بغير إذنه على النار لئلا تسري النار، أو هدم قريبًا منها إذا لم يقدر على الوصول إليها وخيف تعديها وعتوها لم يضمن. ذكره ابن القيم في "الطرق الحكمية"، ثم قال: "ولو رأى السيل يقصد الدار المؤجرة فبادر وهدم الحائط ليخرج السيل، ولا يهدم الدار كان محسنًا ولا يضمن" انتهى، وكذا في "إعلام الموقعين"". 4 - وقال في (5/ 271) (باب الاستثناء في الطلاق): "ويشترط في استثناء (نيةٍ قبل تمام المستثنى منه) فقوله: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة، لا يعتد بالاستثناء إلا إن نواه قبل تمام قوله: أنت طالق ثلاثًا (وقطع به جمع. و) تصح نيته (بعده) أي بعد تمام المستثنى منه (قبل فراغه) من كلامه بأن يأتي به ناويًا له عند تمامه قبل أن يسكت (واختاره) أي اختار القول بصحة نيته بعد تمام المستثنى منه قبل فراغه (الشيخ و) تلميذه ابن القيم في "إعلام الموقعين"، وقال الشيخ: دل عليه كلام أحمد ومتقدمي أصحابه". 5 - وقال في (5/ 290) (فصل: وإن قال العامي: أَنْ دخلت الدار، فأنت طالق، بفتح الهمزة وسكون النون): "ولا فرق عند الشيخ تقي الدين بين أن يطلقها لعلة مذكورة في اللفظ أو غير مذكورة فإذا يتبين انتفاؤها لم يقع الطلاق. وقال في "إعلام الموقعين": وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره، فإذا قيل له: امرأتك قد شربت مع فلان وباتت عنده، فقال: اشهدوا على أنها طالق ثلاثًا، ثم علم أنها كانت تلك الليلة في بيتها قائمة تصلي، فإن هذا الطلاق لا يقع قطعًا، وأطال فيه. (ولذلك أفتى ابن عقيل في "فنونه" فيمن قيل له: زنت زوجتك، فقال: هي طالق، ثم تبيَّن أنها لم تزن أنها لا تطلق وجعل السبب) الذي لأجله أوقع الطلاق (كالشرط اللفظي وأولى). قال في "الاختيارات": وهو قول عطاء بن أبي رباح، وأطال فيه. وقال القاضي: تطلق مطلقًا، سواء كانت دخلت أو لم تدخل، وهو ظاهر "المنتهى". ويؤيده نص أحمد في رواية المروذي في رجل قال لامرأته: إن
خرجت فأنت طالق، فاستعارت امرأة ثيابها فلبستها فرآها زوجها حين خرجت من الباب، فقال: قد فعلت أنت طالق، قال: يقع طلاقه على امرأته، فنص على وقوع طلاقه على امرأته مع أنه وإن قصد إنشاء الطلاق، فإنما أوقعه عليها لخروجها الذي منعها منه ولم يوجد. أشار إليه ابن نصر اللَّه في "حواشي القواعد الفقهية"". 6 - وقال في (6/ 308) في آخر (فصل: في أحكام تتعلق بالفتيا): "ولو سأل العامي مفتيين فأكثر، فاختلفا عليه، تخيَّر، صححه في "الإنصاف"، وقال الموفق في "الروضة": لزمه الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه، وقال الطوفي في "مختصرها": والظاهر الأخذ بقول الأفضل في علمه ودينه، وفي "إعلام الموقعين": يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه، وهو أرجح المذاهب السبعة انتهى. والقول الأول اختاره القاضي وأبو الخطاب. قال: وهو ظاهر كلام أحمد، وقطع به المجد في موضع من "المسودة" وقدمه صاحب "الفروع" في "أصوله"". وهنالك نقولات عديدة جدًّا؛ ظفرتُ بها في كثير من كتب فقهاء الحنابلة من كتابنا (¬1)، وفيما ذكرناه كفاية مع التنبه إلى ما أحلنا عليه في مبحث (نسبة الكتاب لمؤلفه) و (ضبط اسمه). ومما يحسن التنبيه عليه في هذا المقام: لقد كان لكتابنا هذا تأثير كبير على المنتسبين لمذهب الحنابلة في تقاصر خدمتهم لكتب المذهب، ونقطة تحول في سيرهم إلى الدليل، والأخذ بالدليل من النِّعم السوابغ، ورحمة من اللَّه -سبحانه- ¬
للمتبوع والتابع (¬1). هذا، ولم يقتصر الحنابلة على النقل من كتابنا في مباحثهم الفقهية، وإنما تعداه النقل إلى المباحث الأصولية، وهذه بعض الأمثلة التي تدلل على ذلك: نقل منه الشيخ الفقيه الفتوحي الحنبلي في مواطن من كتابه "شرح الكوكب المنير"، منها (1/ 312، 4/ 526 - 527، 545)، والمرداوي في "التحبير في شرح التحرير" في مواطن أيضًا، منها (8/ 3985، 4005، 4007، 4042، 4043، 4045، 4048، 4099) (¬2). وأكثر ما يظهر أثر هذا الكتاب في هذه الكتب في مباحث (الفتوى) (¬3) و (الاجتهاد) و (التقليد)، بل لا تكاد تجد أحدًا كتب في هذا الموضوع إلا ونقل من كتابنا هذا (¬4)، وأظهر مثال عليه رسالة "مبحث الاجتهاد والخلاف" (¬5) للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإنها برمتها منقولة من مواطن منه، وكذا "إيقاظ همم أولي الأبصار للاقتداء بسيد المهاجرين والأنصار وتحذيرهم عن الابتداع الشائع في القرى والأمصار من تقليد المذاهب مع الحميّة والعصبيّة بين فقهاء الأعصار" (¬6) للشيخ صالح بن محمد الفُلَّاني، فإن كثيرًا من مباحثها ونصوصها مأخوذة من كتابنا هذا، وقد صرح المصنف بذلك في مواطن منها، انظرها (ص 57، 99، 103، 107، 115، 120، 156، 162). ويظهر أثر كتابنا جليًّا في كتب الحديث أيضًا، فنقل منه غير واحد من شراح الحديث المتأخرين وسمَّوه "إعلام الموقعين"، مثل: صاحب "عون المعبود"، فأكثر من النقل عنه في موضع تقوية اختياره، كما تراه في (3/ 146، 209 و 4/ ¬
101 و 6/ 198، 200 و 8/ 5 و 9/ 365، 370 و 10/ 197 و 12/ 228 و 13/ 28 - ط دار الكتب العلمية) وكذلك فعل صاحب "تحفة الأحوذي"، انظر منه: (1/ 29، 34، 201، 409، 479 و 2/ 37، 60، 73، 241 و 3/ 212، 245 و 4/ 383، 386، 465 و 6/ 478 - ط دار الكتب العلمية). بل تجد لكتابنا هذا ذكرًا في الكتب الحديثية التي اعتنت بجمع الأحاديث المتواترة، فنقل منه -مثلًا- الكتاني في مواطن من كتابه "نظم المتناثر من الحديث المتواتر"، فذكر حديث "الإشارة بالسبابة في التشهد" وقال (ص 107): "وذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أمثلة ترك فيها المحكم للمتشابه، وعد منها هذا. . " ونقل كلامه بطوله، وذكر (ص 212) حديث "إن المدينة حرام" فقال: "ذكر ابن القيم في "إعلام الموقعين" أنه رواها بضعة وعشرون صحابيًا. . " وساق نص كلامه، بل نقل منه ابن حجر في "التهذيب" في زياداته على المزي في ترجمة (يحيى بن أبي إسحاق الهنائي) (¬1) لكلام صاحبه في هذا الراوي. وأما عن المعاصرين، وأثر هذا الكتاب في دراساتهم وأبحاثهم وتحقيقاتهم؛ فأمر لا يخفى على أحدٍ، وهو منتشر جدًّا، وواسع، ونذكر مثالًا واحدًا من أعيان الدراسات المهمة التي لها صلةٌ به، وذِكْرٌ له: * قال الباحث محمد بن إبراهيم في كتابه "الحيل الفقهية في المعاملات المالية" (ص 12) في معرض حديثه عن جهود العلماء في (الحيل)، قال: "أما الكتب القديمة، فهي رغم اغترافها من بعضها لدرجة التشابه، وأحيانًا التماثل غير مستوفية ولا مستوعبة، إذ بعضها أو جلها ينقصه التأصيل والتدليل، فهو يتحدث عن الحيل وكأنه يعلم الناس الفاتحة، على حد تعبير ابن القيم، زيادة على كزازة العبارة وغموضها أحيانًا، وبعد المصطلح الفقهي القديم عن المصطلحات الحديثة، بالإضافة إلى الخلط وعدم التفريق بين أقسام الحيل، وزيادة عن سوء الطبع ورداءة الإخراج، وكثرة الأخطاء المطبعية وغير المطبعية. ويتمثل هذا واضحًا في كتب أعتبرها من مصادري الأصلية مثل: "المخارج في الحيل"، لمحمد بن الحسن الشيباني (¬2)، و"الحيل والمخارج" للخصاف، و"الحيل في الفقه"، للقزويني الشافعي. ¬
ولا يستثنى من هذا إلا كتاب "إعلام الموقعين" لابن القيم، و"الفتاوى" لشيخه ابن تيمية. فهما قد ربطا بين التأصيل والتدليل، وبين التطبيق، مع حسن الطبع، والإخراج نسبيًا". واستعرض (ص 45 - 47) جهود المستشرقين في نشر كتب (الحيل) التراثية (¬1)، ثم قال (ص 47): "لقد سبق لابن تيمية وتلميذه ابن القيم أن نشرا كثيرًا من الحيل، ونشرا أدلة أصحابها بنصاعة ووضوح، خاصة ابن القيم الذي عرض أدلة أصحاب الحيل في قوة ونزاهة ونصاعة عبارة حتى لو وقف عندها القارئ غير المتفقه لآمن بأن الحيل من أصول التشريع الإسلامي قطعًا، ولكنهما، يشنان عليها حملة تفنيد ودحض لما لا يجوز منها، في نفس المستوى من القوة والتجرد ونصاعة العبارة وصلابة الحجة، هي في الحقيقة صلابة الحق والجد والبناء، لا الباطل واللعب والهزل والتخريب". ووصف (ص 159) جهد ابن القيم في موضوع (الحيل) بأنه "جهد عقلي خصب" وقال (ص 163) بعد كلام: "رحم اللَّه ابن القيم، فكأنه يتحدث عن زماننا، وما انتشر فيه من مفاسد وجرائم بمجرد تبديل الأسماء" وقال (ص 164): "هكذا يصور ابن القيم مفاسد عصره المتولدة عن حيل النفوس المريضة المتذرعة بالذرائع الفاسدة والحيل المرفوضة، فإذا هو رحمه اللَّه يعفينا من تصوير مفاسد عصرنا، التي هي بعينها، هان اختلفت الصور أحيانًا، والمظاهر والطرق والوسائل أحيانًا أُخرى" وقال (ص 198): "أسلوب ابن القيم أسلوب طلق واضح ومشرق". والأمثلة على استفادة المعاصرين من كتابنا كثيرة، ولكن الذي يذكر أيضًا أن بعضهم انتقد بعض مسائله، كالبوطي (¬2)، والجيدي (¬3)، وسبق (¬4) نقل كلامهما، والإيماء إلى ما فيه. ¬
الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه
الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه اعتمدنا في نشرتنا هذه على أربعة أصول خطية، هي: * النسخة الأولى: رمزتُ لها بـ (ك)، وهي نسخة باكستانية (¬1)، محفوظة في مكتبة الشيخ محب اللَّه الراشدي، بمنطقة سعيد آباد، وهي تامة في ثلاثة مجلدات، وهي مقابلة ومتقنة، وخطها واضح مقروء، الأول والثاني بخط الشيخ سليمان بن سحمان، كتبها سنة 1305 هـ، والمجلد الثالث بخط الشيخ عبد العزيز بن صعب بن عبد اللَّه التويجري، فرغ منها سنة 1306 هـ. أوله: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبه أستعين، ربّ يسِّر وأعن يا كريم". وجاء في آخره: "آخر (المجلد الأول) من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، يتلوه إن شاء اللَّه (المجلد الثاني) وذلك (تحريم الإفتاء في دين اللَّه بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك)، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم. وكان الفراغ من نسخ هذا الكتاب الجليل، الذي ليس له في المؤلّفات نظير ولا مثيل بعد العصر من يوم الاثنين لسبع خلت من رجب، من سنة 1305 هـ على يد عبده وابن عبده: سليمان بن سحمان، غفر اللَّه له، ولوالديه وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم. ويتلوه (المجلد الثاني)، وأوله: فصل في تحريم الفتوى في دين اللَّه بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك". وعلى هامشه: "بلغ مقابلة، بحمد اللَّه وحسن توفيقه، على الأصل الذي نسخ منه حسب الطاقة والإمكان". ¬
وتحته: "قد فرغت من مطالعة هذا الكتاب الشريف، أنا العبد الضعيف محمد فيض الكريم، 19 رجب المرجب/ سنة 1309 هـ، اللهم اغفر لي ولمالك هذا الكتاب وكاتبه، ولمن نظر فيه". ويقع هذا المجلد في (491 ورقة) في كل ورقة (23) سطرًا. وأما المجلد الثاني، ففي أوله، ما نصه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ربِّ يسِّر وأعن يا كريم، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه. قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية -تغمده اللَّه برحمته، وأسكنه بحبوح جنته، آمين". وجاء في آخره: "آخر (الجزء الثاني) من كتاب "إعلام الموقعين عن رب العالمين"، يتلوه (الجزء الثالث) إن شاء اللَّه تعالى: (فصل: قال أرباب الحيل)، والحمد للَّه رب العالمين. أنهاه كتابة الفقيرُ إلى ربِّه الرحيم المنان: عبدُهُ سليمانُ بنُ سحمان، وذلك ضحى يوم الثلاثاء، لخمس وعشرين، خلت من رمضان المشرف، من سنة 1305 هـ، والحمد للَّه على التمام، وصلى اللَّه على سيّد الأنام، محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين". ويقع هذا المجلد في (533) ورقة، في كل ورقة (23) سطرًا، وفيه هوامش علمية جيدة، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 50). ترجمة ناسخ المجلد الأول والثاني من هذه النسخة: ناسخ هذين المجلدين، هو: الشيخ العالم الفقيه الحنبلي سليمان بن سحمان بن مصلح بن حمدان النَّجْدي، الدَّوسري بالولاء، ولد سنة (1268 هـ - 1852 م) من علماء نجد، ولد في قرية (السَّقَا) -بتخفيف القاف- من أعمال (أبها) في عسير، وانتقل مع أبيه إلى الرياض، أيام فيصل بن تركي، فتلقى عن علمائها التوحيد والفقه واللغة، وتولى الكتابة للإمام عبد اللَّه بن فيصل برهة من الزمن، ثم تفرغ للعلم، وصنف كتبًا ورسائل، منها: "الضياء الشارق في رد شبهات الماذق المارق" (في الرد على كتاب لجميل صدقي الزهاوي)، "منهاج أهل الحق والاتباع"، "الفتاوى"، "الصواعق المرسلة"، "إرشاد الطالب إلى أهم المطالب"، "الهدية السنية"، "تبرئة الشيخين"، "رسالة في الساعة" (أنها صناعة لا سحر) (وجميعها مطبوعة)، وكف بصره في آخر حياته،
النسخة الثانية
وتوفي في الرياض سنة (1349 هـ - 1935 م)، رحمه اللَّه تعالى (¬1). وقد نسخ هذا الكتاب في ريعان شبابه، وكان عمره آنذاك سبعة وثلاثين عامًا. وأما المجلد الثالث -والأخير- من هذه النسخة، فهو بخط آخر. أولى: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وبه أستعين، وعليه أتوكل، قال شيخ الإسلام والمسلمين، الشيخ شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد ابن قيم الجوزية تغمده اللَّه برحمته وأسكنه فسيح جنته. . . ". وآخره: "آخر كتاب "إعلام الموقعين"، تحررت هذه المجلدة واللتين قبلها على يد أفقر عباد اللَّه وأحوجهم إلى رحمته، المعترف بالزلل والتقصير، الراجي عفو ربه اللطيف الخبير: عبد العزيز بن صعب بن عبد اللَّه التويجري، عفا اللَّه عنه، وعن والديه، وعن جميع المسلمين، آمين، آمين. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، ورضي اللَّه تعالى عن أصحاب رسول اللَّه أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وفق الفراغ من توقيعها وتكميلها في ست وعشرين من شوال، سنة 1306 هـ، وحسبنا اللَّه، ونعم الوكيل". وفي الهامش من جهة اليمين: "أسأل اللَّه الكريم أن يحسن لنا ولإخواننا العاقبة في الدنيا والآخرة". وفيه من جهة اليسار: "بمنّه ولطفه وكرمه وجوده وإحسانه وبره، لأنه الواحد الماجد، الفرد الصمد". ويقع هذا المجلد في (486) ورقة، في كل ورقة ما بين (19 - 23) سطرًا. * النسخة الثانية: رمزتُ لها بـ (ت)، وهي من محفوظات مكتبة تشستربتي في دبلن، بإيرلندا، وهي تحت رقم (2842) ضمن مجموع (¬2) وعلى طرتها: ¬
النسخة الثالثة
"من كتاب "إعلام الموقعين"، في (أدب المفتي)، لابن القيم -رحمه اللَّه تعالى-". وتحته: "حرره من فضل اللَّه تعالى القوي: أحمد بن يوسف العدوي، لطف اللَّه به، وجعله من حزبه، بمنه ويمنه، سنة 1003 هـ، أحسن اللَّه ختامها". وهذه النسخة تشكل قسمًا من آخر الكتاب، وهي ناقصة، وعليها إلحاقات، وعلامات التصحيح، وهي بخط أكثر من ناسخ، منهم أحمد بن يوسف العدوي، ويقدر أن بعضها نسخ قبل ذلك في القرن التاسع الهجري، وبعضها سنة 820 هـ (¬1). وأول هذه النسخة: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، قال شيخ الإسلام، أحد الأئمة الأعلام: شمس الدين أبو عبد اللَّه محمد بن أبي بكر الزرعي في آخر كتاب "إعلام الموقعين". (فصل): ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى" (¬2). وهي ناقصة من الآخر، وتنتهي بـ (الفائدة السادسة والستين) عند قول المصنف: "هل يلزم المستفتي أن يجتهد في أعيان المفتين. . . " إلى قوله: "وتقدم أنه إذا اختلف عليه مفتيان: أورع وأعلم، فأيُّهما يجب تقليده، فيه ثلاثة. . . " (¬3) وبهذا ينتهي الموجود في هذه النسخة. وتقع في (48) ورقة، في كل ورقة (20 - 22) سطرًا. * النسخة الثالثة: رمزتُ لها بـ (ن)، وهي من محفوظات مكتبة مسجد الحرم النبوي (¬4)، وهي من وقف الشيخ عبد العزيز الحصين -رحمه اللَّه تعالى- وهي مقابلة ومصححة، وهي ناقصة من الآخر، وهي في جزئين، وهذا وصفهما: الجزء الأول: يقع في (108) ورقات، في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة (21 - 30) سطرًا، أوله: "بِسْمِ اللَّهِ [الرَّحْمَنِ] (*) الرَّحِيمِ، رب يسّر وأعن يا كريم". ¬
وآخره: "آخر المجلد الأول من كتاب "معالم الموقعين عن رب العالمين" ثم أثبت الناسخ تحته: "المخلودا ليس لك بربِّ، ولست له بعبدٍ، وليس رِزْقُك ونفعك في يده، فلا يستحقّ شيئًا من حقّ اللَّه أبدًا". وتحته مقولة عمر بن عبد العزيز: "سن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وولاة الأمر من بعده. . . "، ثم بعدها في رأس الصفحة: "قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (¬1): "في قوله تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2)}، وأكثر المستعاذ منه نوعان. . . " وذكر الكلام بطوله في تمام (ق 105 و 106 ولوحة أ/ من ق 107) وختمه بقوله: "ويعظمهم في صدوركم، فلا تخافوهم، وأفردوني بالمخافة أكْفيكم إياهم". ثم في (لوحة ب/ من ق 107): "روي عن ابن عباس: إنّ للضلالة حلاوةً في قلوب أصحابها، قال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} وبعده: "قال ابن القيم في "المدارج": والتوكل معنى يلتئم من الأصلين. . . " إلى قوله: "هذا أحدها" (¬2) ثم قال: "فإن قلتْ ما معنى التوكل والاستعانة. . . " إلى قوله: "كانت له العاقبة الحميدة" (¬3) وبعده: "وقال أيضًا: "لا يكون العبد متحققًا بإياك نعبد إلا بأصلين عظيمين: أحدهما: متابعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-. والثاني: الإخلاص للمعبود فهذا تحقيق {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} " (¬4) وفيه: "قال أيضًا في غيره (¬5): "التوكل من لوازم الإيمان" قال اللَّه تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعل التوكل شرطًا في الإيمان، فدل على أن الإيمان منتف إذا انتفى التوكل: قول موسى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فجعل صحة الإسلام التوكل". ثم ذكر الناسخ ملخَّصًا لمباحث الكتاب، فأثبت ما نصه: "بان لي من كلام ابن القيم في كتابه: "إعلام (¬6) الموقعين عن رب العالمين": وأنه -كذا- تجريد اتباع الكتاب والسنة، وذكر أجوبة من اعترض عليهن، فذكر كلام أهل الرأي، وكلام أهل الظاهر، ونفاة التعليل، وردّ عليهم مسائل ظنوا أنها خلاف القياس، وبيَّن لهم الصواب، وذكر تحريم القول على اللَّه ¬
بلا علم، وذكر التقليد المذموم، والممدوح. ثم ذكر تحريم الإفتاء بما يخالف النَّصَّ، وسقوط الاجتهاد والتقليد معه، ثم ذكر أكثر من سبعين مسألة خولف فيها المحكم، واتبع المتشابه". وفي أول (لوحة أ/ من ورقة 108) كلام فيه بيان لمباحث الكتاب، وهذا المزبور ما فيه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ذكر ابن القيم رحمه اللَّه في هذا الكتاب، أنواعاً من الأصول والمهمات: النوع الأول: مرتبة الدعوة إلى اللَّه والتبليغ عن رسوله وأنواعها. النوع الثاني: ذكر أهل هذه المرتبة، فبدأ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وختم بأحمد بن حنبل رحمه اللَّه وذكر أن فتواه تدور على خمسة أصول، وذكر في هذا تحريم القول بلا علم، وتشديد السلف في الفتيا. النوع الثالث: ذكر الكلام في الرأي المذموم والممدوح، والأدلة والآثار، وأطال في ذلك، وشرح في هذا النوع كتاب عمر -رضي اللَّه عنه- لأبي موسى، فذكر في شرحه: النوع الرابع: وهو القياس الصحيح، وأدلته، والقياس الفاسد، وأدلة بطلانه، وأطال القول في ذلك، ثم ذكر في شرح الحديث: النوع الخامس: وهو الاكتفاء بالنص، وذكر مسائل اختلف السلف فيها، وقد بيّنه القرآن، ثم ذكر: النوع السادس: وهي المسائل التي زعم بعض الناس أنها خلاف القياس، ثم لما فرغ من شرح الحديث، ذكر بعده: النوع السابع: وهو تحريم الإفتاء بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك، ثم ذكر: النوع الثامن: وهو الفرق بين ما يجوز من التقليد وما لا يجوز. ثم ذكر: النوع التاسع: وهو مناظرة بين مقلد وصاحب حجة (¬1)، ثم ذكر: النوع العاشر: وهو تحريم الإفتاء بما يخالف النّص، وسقوط الاجتهاد والتقليد معه، ثم ذكر في هذا أكثر من سبعين مسألة، خولف فيها المحكم، واتبع ¬
فيها المتشابه، ورد في أثنائها على من رد بعض السنة، لزعمه أنها زائدة على القرآن بإحدى وخمسين وجهًا، ثم ذكر: النوع الحادي عشر: وهي مسائل يختلف الجواب فيها باختلاف الأحوال والأزمان والأمكنة، وفيها: مسائل (الأيمان والنذور) والأقارير، ومن جملتها: مسألة (الثلاث (¬1) المجموعة) ومسألة (الحلف بالطلاق) و (العتاق) و (الحرام) وغير ذلك، ثم استطرد إلى ذكر: النوع الثاني عشر: وهو سد الذرائع، وتحريم الحيل، وأطال جدًّا، ثم ذكر: النوع الثالث عشر: وهو وجوب الاقتداء بأقوال الصحابة، وأطال جدًّا، ثم ذكر: النوع الرابع عشر: وهو فوائد كثيرة، يحتاج إليها المفتي والمستفتي، وفضَّلها فائدة فائدة. ثم ختم الكتاب بذكر فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وفي كل نوع من هذه الأنواع الخمسة عشر من نفائس المسائل، وأوضح الدلائل، ما يجل عند أهله، وإن جهله من ليس منهم، والحمد للَّه رب العالمين". من كلام الشيخ محمد (¬2) غفر اللَّه له ورحمه". وتحته ما نصه: "ذكر أنّ من أسباب النصر والرزق: التوكل والإخلاص، ودعاء المؤمنين، وكون يعرف لطلب الرزق أسباب فهذا من أعظم الأسباب". وفي (ورقة 108/ ب) بخط مغاير نقل من "الداء والدواء" لابن القيم، وهذا صورة المزبور: "من "الداء والدواء" (¬3) لابن القيم: وفي "سنن ابن ماجه" (¬4) من حديث عبد اللَّه بن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنهما-، قال: كنتُ عاشر عشرةِ رهط من المهاجرين عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأقبل علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-بوجهه، فقال: "يا معشر المهاجرين! خمسُ خصال. . . " وذكر الحديث بتمامه، وبعده: "وذكر (¬5): ¬
ابن أبي الدنيا (¬1) عن إبراهيم الصنعاني قال: أوحى اللَّه إلي يُوشَعَ بن نون: إني مُهْلِكٌ من قومك أربعين ألفًا من خيارهم، وستين ألفًا من شرارهم، قال: يا رب! هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي، وكانوا يُواكلُونَهم ويُشارِبُونَهم". يعني: لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر". الجزء الثاني من هذه النسخة: على طرة هذا الجزء ما نصه: "الجزء الثاني من "معالم الموقعين عن رب العالمين" تصنيف الشيخ الإمام أبي عبد اللَّه إمام الجوزية، قدس اللَّه روحه، ونوّر ضريحه، آمين يارب، يارب العالمين". ثم على يساره: "العلم قال اللَّه قال رسوله ... قال الصحابةُ ليس خُلْفٌ فيه" وتحته: "وعن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: جلستُ مع. . . على الكرسي في الكعبة، فقال: لقد جلس هذا المجلس عمر، فقال: لقد هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمته، قلت: إنّ صاحبَيْكَ لم يفعلا، قال: هما المرآن أقتدي بهما. وفي لفظ: لقد هممتُ أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتُه بين المسلمين، فقلت: ما أنت بفاعل، قال: لم؟ قلت: لم يفعله صاحباك، قال: هما المرآن يُقتدى بهما، أخرجاه (¬2). . . ". ثم هناك فوائد موجودة في الكتاب، كقول مالك بن دينار، وقول عمر بن عبد العزيز، وعليه أيضًا: "إن الفقيه هو الفقيه بفعله، وكذا الغني هو الغني بقلبه، وكذا الرئيس هو الرئيس بخلقه" و"ليس الفقيه بنطقه ومقاله، ليس الغني بملكه وبماله، ليس الرئيس بقومه ورجاله" وعليه: "قال الشافعي: رتبة العلم: الورع والعلم" ثم عليه شعر له غير واضح. وقبل ما على طرته نقل طويل جدًّا عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا صورته: ¬
النسخة الرابعة
"بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، منقول من جواب للشيخ تقي الدين: الأعمال الظاهرة لا تكون مقبولة إلا بتوسط عمل القلب، فالقلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا خبث الملك خبث جنوده، ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-:. . . " إلخ ما فيه. وأول المخطوط: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رب يسّر وأعن برحمتك يا كريم، وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه وسلم. قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية تغمّده اللَّه تعالى برحمته: ذكر حرمة الإفتاء في دين اللَّه بغير علم، وذكر الإجماع على ذلك. . . ". وآخره: أبيات شعر ليحيى بن معاذ، كان ينشدها في مجالسه. وعلى الهامش ما نصه: "ومن فعل الكبائر، وأصرّ عليها، ولم يتب منها، فإن اللَّه يبغض منه ذلك، كما يحب منه ما يقوله من الخير، إذ حبه للعبد بحسب إيمانه وتقواه، من كلام ابن تيمية". ويقع هذا الجزء في (229 ورقة) في كل ورقة لوحتان، في كل لوحة (24 - 29) سطرًا. ومما ينبغى ذكره بخصوص هذه النسخة: أولًا: إنها نسخة مقابلة، ففي هوامشها إلحاقات وتصويبات. ثانيًا: لم يذكر اسم ناسخها، إذ هي ناقصة من الآخر، ولكنه يبدو من أهل العلم، إذ أثبت هوامش وعناوين وتنبيهات تنبئ عن ذلك. ثالثًا: كان الناسخ يختصر ويحذف أحيانًا، وكان يشير إلى ذلك، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 88، 92، 94، 95، 114، 134،. . .). * النسخة الرابعة: ورمزت لها بـ (ق)، وهي من محفوظات المعهد العلمي بحائل (¬1)، وهي نسخة متأخرة، على هوامشها تصحيحات وإلحاقات، أولها أبيات من نونية ابن القيم، والمثبت في أول الكتاب ما نصه: "وقف للَّه تعالى، لا يباع ولا يورث. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، عونك يا رب! ". وعلى طرته: "كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، تأليف الشيخ شمس الدين ¬
العالم العلامة محمد بن أبي بكر، المعروف بـ (ابن قيم الجوزية) رحمة اللَّه عليه". وتحت هذا العنوان على جهة اليسار: "قال عمر بن ذر: صعد عمر بن عبد العزيز يومًا المنبر، فحمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: إنما يريد الطبيب للوجع الشديد، ألا فلا وجع أشد من الجهل، ولا داء أشد من الذنوب، ولا خوف أخوف من الموت، ثم نزل". وهذه النسخة ناقصة من آخرها، فلا يوجد فيها ما يتعلَّق بفتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهي تنتهي بالفائدة السبعين (¬1) من الفوائد المتعلقة بالفتوى، ثم فيها: "ويتلوه فصل. . . ". وعلى الهامش: "بلغ مطالعة". وفي جهة اليمين تحته: "ذكر أنه عزل أمير في زمن ابن جرير، وولّى من هو أصلح منه، وكذلك القاضي، وذكر لابن جرير فقال: أظنّ هذا لا يتمّ، لأن الأمر ينقص، ولا تمّ، بل عزل القاضي، وقتل الأمير". وتحته: "ومما قيل في شمس الدين ابن القيم رحمه اللَّه: ولا غرو إنْ نقد المذاهب ناقد ... خبير بَزَيْف القول منها وجيّدِه وميزانه القرآن والسنة التي ... أبانت لنا الدين الحنيفي في يده وكيف لا؟! وهو العليم بمعضل ... الحديث وبالموقوف منه ومسنده" وتقع هذه النسخة في (765) ورقة في كل ورقة (30) سطرًا، ولم يذكر عليها اسم الناسخ ولا تأريخ النسخ، وهي مشوّشة الترتيب، وفيها سقط قليل، انظر -مثلًا-: (2/ 39 و 4/ 443). وفي هوامشها فوائد علمية قوية، وتفسير غريب، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 202، 380، 401 و 2/ 89، 102، 103، 106، 226، 265، 352، 407، 408، 424، 465، 490، 503، 243 و 3/ 158، 192، 225، 345، 409، 422 و 4/ 103، 209، 335، 438 و 5/ 17، 84، 85، 96، 150، 178) بل فيها ما يدلل على أن لناسخها معرفة قوية بآراء ابن القيم، انظر -مثلًا-: (4/ 279 و 5/ 178). ¬
هذه هي النسخ الخطية (¬1) التي اعتمدنا عليها في تحقيق هذا الكتاب. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
صورة عن الورقة الأولي من الجزء الأول من نسخة (ك).
صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة (ك).
صورة عن الورقة الأولي من الجزء الثاني من نسخة (ك).
صورة عن الورقة قبل الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة (ك).
صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة (ك).
صورة عن الورقة الأولي من الجزء الثاني من نسخة (ك).
صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الثالث من النسخة (ك).
صورة عن طرة الغلاف من نسخة (ت).
صورة عن الورقة الأولي من النسخة (ت).
صورة عن الورقة الأخيرة من النسخة (ت).
صورة عن الورقة الأولى من الجزء الأول من نسخة (ن).
صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الأول من نسخة (ن).
صورة عن طرة غلاف الجزء الثاني من نسخة (ن).
صورة عن الورقة الأخيرة من الجزء الثاني من نسخة (ن).
صورة عن طرة الغلاف من نسخة (ق).
صورة عن الورقه الأولي من نسخة (ق).
صورة عن الورقة الأخيرة من نسخة (ق).
أشهر طبعات الكتاب وتقويمها
أشهر طبعات الكتاب وتقويمها: أما المطبوعات، فقد حرصت على النظر في جميعها، واعتنيت عناية خاصة بالآتي منها: الأولى: طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد ورمزتُ لها بـ (د)، وهي في أربعة مجلدات، وعليها تعليقات من رأس القلم، جلها في بيان الغريب، ولذا أَثْبَتَ على طرتها: "حققه، وفصّله، وضبط غرائبه، وعلق حواشيه: محمد محيي الدين عبد الحميد، عفا اللَّه تعالى عنه". وأول ما ظهرت هذه الطبعة سنة 1374 هـ بمطبعة السعادة بمصر، ولم يذكر النسخ التي اعتمد عليها، والراجح أنه اعتمد على نشرة ظهرت سنة 1325 هـ - 1907 م في ثلاثة أجزاء (¬1)، عن مطبعة فرج اللَّه الكردي (¬2)، إذ التطابق كبير بين ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
هاتين النشرتين من حيث المضمون. وفي بعض المواطن يقارن بقوله: "فى نسخة" وظفرتُ بأشياء صرح فيها بتخطتئها وهو المخطئ، انظر (5/ 12). الثانية: طبعة عبد الرحمن عبد الوهاب الوكيل ورمزت لها بـ (و)، وهي في أربعة مجلدات، وعليها تعليقات يسيرة، تتشابه في كثير من الأحيان مع تعليقات الطبعة السابقة، إلا أن هذه الطبعة امتازت بميزات -كما هو مثبت في أولها (ص ج) - وهي: - "تصويب الآيات القرآنية، وترقيمها، مع ذكر السورة. - ضبط الأعلام والكلمات اللغوية. - تخريج العشرات من الأحاديث المهمة (¬1). - شرح ما غمض من الكلمات والمصطلحات، ومراجعته على المصادر الأصلية. - وضع عناوين كثيرة في صلب الكتاب تسهيلًا للقارئ. - إصلاح بعض أغلاط المحققين السابقين. - وضع ما سقط من النسخة الأصلية للكتاب، وهو منقول عن أستاذه ابن تيمية. - مراجعة نقول ابن القيم على مصادره التي نقل عنها، وأهمها: "فتاوى ابن تيمية". - تصحيح الكتاب تصحيحًا فنيًا دقيقًا". قال أبو عبيدة: لم يعتمد الوكيل رحمه اللَّه على أصول خطيّة، وإنما اعتمد على ¬
الطبعة السابقة، وظهر له فيها نقص فأتمَّه، وقد أفصح عن ذلك تحت قوله: (عملي في الكتاب) (¬1)، وهذا نص كلامه بتمامه: "أرى أن أهم عمل لي هو تصويب ما وقعت فيه جميع الطبعات السابقة من أخطاء قاتلة في الآيات القرآنية، وليست هي أخطاء مطبعية، وإنما هي أخطاء من الناسخ، ولم يتوجه فكر واحد من الذين أشرفوا على الطبعات السابقة إلى تصويب هذه الأخطاء -مثال ذلك ما ورد في (ص 236 ج 4) (ويوم القيامة يناديهم) صوابها {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ}، وما في (ص 252 ج 4) (وأما الذين في قلوبهم زيغ) صوابها {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ص 370 (أقم الصلاة) صوابها: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ}، ولا أستوعب، وإنما أضرب المثل. ثانيًا: ترقيم الآيات القرآنية مع ذكر اسم السورة، فكل الطبعات السابقة خلت من هذا، وبهذا الترقيم نضمن ألا نخطئ في الآيات القرآنية، فينقلها عنا التلاميذ والقارئون بخطئها، فيلعننا اللَّه والملائكة والناس. ثالثًا: ضبط الأعلام والكلمات اللغوية ضبطًا دقيقًا، ولم تأت الطبعات السابقة بشيء من هذا، سوى الطبعة الأخيرة فقد قامت بضبط بعض الأعلام وبعض الكلمات. رابعًا: تخريج العشرات من الأحاديث المهمة، ولم تأت طبعة سابقة بشيء من هذا. خامسًا: شرح ما غمض من الكلمات والمصطلحات -شرحًا دقيقًا- رفضت فيه الاعتماد على الذاكرة أو الحافظة، ورجعت إلى المصادر الأصلية الأصيلة لهذا، ونقلت عنها نقلًا دقيقًا. سادسًا: جعلت الكتاب مفصلًا ذا عناوين كثيرة في صلب الكتاب، حتى لا تخرج عين القارئ عن سبيلها إلى جهة أخرى. سابعًا: أصلحت بعض أغلاط المحققين السابقين كما حدث في مسألة بيع الجمع بالدراهم، فقد ظن محقق فاضل جليل أن الجمع هي الجميع، فغيّرها إلى هذا فصارت: بع الجميع في كل مواطنها من الكتاب، والصواب: الجمع، فالجمع: التمر الرديء. ¬
كما خطأ المحقق قول ابن القيم أن البخاري صدّر بحديث "إنما الأعمال بالنيات" كتاب إبطال الحيل. فقال المحقق: إنما صدّر به "صحيحه" فقط. والحق أن البخاري صدّر بهذا الحديث "صحيحه"، وصدّر به أيضًا كتاب (إبطال الحيل). كما كتب المحقق الفاضل عن مسألة التورق أنه لم يظهر له وجهه، وقد رجعت إلى ابن تيمية الذي وجدت المؤلف ينقل عنه، فنقلت عنه ما كتب عن التورق، وهي مسألة ربوية محرمة. ثامنًا: وضعت ما سقط من النسخة الأصلية للكتاب، وما ظهر مكانه خاليًا من الطبعات السابقة، ولم أضع الساقط من عندي، وإنما -كما ذكرت مرارًا- وجدت ابن القيم ينقل عن أستاذه الإمام ابن تيمية بالنص، فنقلت عنه ما سقط من الناسخ، وما أشارت إليه الطبعات السابقة أنه ساقط، وأشرت إلى ذلك في الهامش. تاسعًا: راجعت أكثر نقول ابن القيم في "الأعلام" على مصادره التي عنها نقل، ومصدره الكبير "فتاوى الإمام ابن تيمية"، فهو ينقل عنها نقلًا صريحًا باللفظ والمعنى، فاستقامت نصوص "الأعلام" بهذه المراجعة، وقد أشرت إلى ذلك في هوامش الكتاب" انتهى. وقد قام بهذا التحقيق وهو في إجازة علمية من قسم الدراسات الإسلامية العليا، بمكة المكرمة، في الفترة ما بين ربيع الآخر وجمادى الآخرة سنة (1389 هـ)، أو بين يوليو وأول سبتمبر سنة 1969 م (¬1). وأثبت على طرتها ما نصه: "إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام الجليل ابن قيم الجوزية المتوفى سنة (751 هـ)، تحقيق وضبط عبد الرحمن الوكيل، أستاذ العقيدة بقسم الدراسات الإسلامية العليا، بكلية الشريعة، مكة المكرمة" ونشرتها دار الكتب الحديثة، في القاهرة، وقدم لها اثنان من علماء ذلك العصر: الأول: الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف رحمه اللَّه تعالى، كتب له في 10 رمضان سنة 1389 هـ - 20 نوفمبر سنة 1969 م، ما نصه: "نحمد اللَّه تعالى على كثير نعمه، ونصلي على سيدنا محمد شمس الهداية ونبراس المعرفة. ¬
وبعد: فقد نظرتُ في الطبعة الجديدة لكتاب "إعلام الموقعين" لابن قيم الجوزية، التي نشرتها "دار الكتب الحديثة" فوجدتها طبعة تامة كاملة، بها استدراك ما نقص من النصوص في سائر الطبعات قديمها وحديثها، ولقيت بها عناية بتحرير النصوص من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وبها ضبط كثير من غريب الألقاب والمواضع والغريب من اللغة، ولذا كانت هذه الطبعة أنفع الطبعات وأسلم النسخ من التحريف، وأكملها نصًا وضبطًا. نفع اللَّه بها دارسها، ووفق طالبها للعمل بها، والحمد للَّه" (¬1). الثاني: الشيخ العلامة الفقيه السيد سابق -رحمه اللَّه تعالى-، فله كلمة مثبتة في أول هذه الطبعة جلها عن ابن القيم، ولم يتعرض لهذه الطبعة ولمحققها بذكر أو تنويه، وقبل كلمته ما نصه: "مقدمة بقلم الأستاذ الشيخ السيد سابق" وهذا نص كلمته على طولها (¬2): الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ابن القيم هو محمد بن أبي بكر بن سعد بن حريز الزرعي ثم الدمشقي، الملقب بشمس الدين، والمكنى بأبي عبد اللَّه، والمعروف بابن قيم الجوزية، والجوزية مدرسة كان أبوه قيِّمًا عليها. وقد ولد ابن القيم في 7 من صفر سنة 691 هـ، ونشأ في بيت علم وفضل، وتلقى علومه الأولى عن أبيه، وأخذ العلم عن كثير من العلماء الأعلام في عصره، وله في كل فن إنتاج قيم. وإلى جانب علمه كان يذكر اللَّه ذكرًا كثيرًا ويقوم الليل، وكان سمح الخُلق، طاهر القلب، وقد أعجب بابن تيمية إذ التقى به سنة 712 هـ ولازمه طول حياته، وتتلمذ عليه، وتحمَّل معه أعباء الجهاد، ونصر مذهبه، وحمل لواء الجهاد بعد وفاة شيخه ابن تيمية سنة 728 هـ، وظل يخدم العلم إلى أن توفي ليلة الخميس 13 من رجب سنة 751 هـ. ¬
وكان رحمه اللَّه بحرًا زاخرًا بألوان العلوم والمعارف، وكان مبرزًا في فقه الكتاب والسنة وأصول الدين واللغة العربية، وعلم الكلام، وعلم السلوك، وعبارات المتصوفين، وغير ذلك، وقد انتفع الناس به وتتلمذ عليه العلماء، ولا تزال مؤلفاته حتى اليوم مصادر إشعاع ومنارات توجيه. وعالم هذا شأنه لا بد أن يكون موضع إعجاب المنصفين، ومثار حقد الأعداء والحاسدين، فلقد كان مستقل الشخصية، لا يصدر رأيه في المسائل إلا بعد الوقوف على ما قالته الطوائف المختلفة، والنظر بعين فاحصة، ورأي ثاقب ينفي به الباطل، ويؤيد به الحق الذي يراه، جديرًا بأن تسلط عليه الأضواء، ومن هنا قام مذهب ابن القيم على الانتخاب، بمعنى أنه لا يتبع مذهبًا معينًا، وإنما ينشد الحق أينما وجد، ويحارب الباطل أينما وجد، دون أن يتأثر بارتباطات نفسية أو اتجاهات من أي نوع كان، إلا الارتباط بالحق، وبالحق وحده. وذلك الاتجاه يتمشى مع إصراره على محاربة التقليد الأعمى، والحرص على دعم اتجاهاته وآرائه بالكتاب والسنة، ومحاربة التأويل المستجيب للأهواء. ومن هنا التقى مع السلف في ترك التأويل، وإجراء ظواهر النصوص على مواردها، وتفويض معانيها إلى اللَّه تعالى، وقد كان يستهدف إخراج المسلمين من خلافاتهم، وتضارب آرائهم، وخصوصًا أن هذه الخلافات غريبة على المشتغلين بدين اللَّه، وأن روح الإسلام تأباها ولا تسمح بها، وأن الأوضاع العامة للمجتمع الإسلامي آنذاك كانت غاية في السوء من النواحي السياسية والاجتماعية والعلمية، ومن شأن هذه الخلافات أن تزيد الطين بلة، وأن تشغل المسلمين عن مقاومة عدوهم الذين تكالبوا عليهم في العصور الوسطى، وساعد العدو على تحقيق مآربه تمزق البلاد الإسلامية إلى ممالك صغيرة يحكمها العجم والمماليك، وضياع هيبة الخلافة التي وجدت اسمًا وتلاشت فعلًا، فاستغل التتار والصليبيون هذا الوضع السياسي أسوأ استغلال، وإن كانت الدائرة قد دارت على الأعداء في نهاية المطاف، والحمد للَّه. ولم تكن الناحية الاجتماعية أقل سوءًا من الناحية السياسية، فقد كان الناس يعيشون في رعب وفزع وخوف من سوء المصير، وخيم الفقر، وابتلى الناس بالجوع والغلاء مع نقص في الأموال والثمرات، وانطلق اللصوص ينهبون ويسلبون، واستعان الأمراء بهؤلاء اللصوص على تحقيق مآربهم، وظهر الفساد في المتاجر وفي كل نواحي الحياة.
وجو كهذا لا يمكِّن من طلب العلم بل إنه يصرف الأذهان عن نور المعرفة، وذلك هو الذي وقع في دنيا الناس حينئذ، ولذلك عاشوا عالة على السابقين، يقلدونهم تقليدًا أعمى، ويجمدون على ترسم خطواتهم، ولذلك خمدت القرائح وعجزت عن الابتكار والاجتهاد والتجديد، ولا ينقض هذا وجود بعض أفراد كان لهم إلى حد ما جهد يذكر فيشكر. في هذا الجو ظهر ابن القيم ظهور الغيور على أمته، المهتم بحاضرها، الباحث عن خير مصير لها في مستقبلها، الراغب في إنهاضها من كبوتها، وإقالتها من عثرتها، وإخراجها من ظلمات الخلافات، والعودة بها إلى طريق النور الذي سلكه سلفنا الصالح، فوصلوا في نهايته إلى أكرم الغايات في ضوء هذا الدين القويم، وبتوجيهات القرآن الكريم. من الملامح العلمية لابن القيم وجود الجنة والنار وخلودهما: يرى ابن القيم أن الجنة والنار موجودتان الآن (¬1): الجنة أُعدت للمتقين، والنار أعدت للعصاة والكافرين، وأنهما خالدتان، وأن أهلهما مخلَّدون فيهما، لكنه يرى أن عصاة المؤمنين الذين يعذبون في النار يخرجون بعد أن يلقوا جزاءهم ويدخلون الجنة. الحسن والقبح: يرى ابن القيم أن العقل يمكن أن يستقل بإدراك حُسن الحسن وقبح القبيح دون توقف على أمر الشارع ونهيه، ولكن العقاب على القبيح والثواب على الحسن لا يكون إلا بالرسالة التي هي المصدر الوحيد للقول الفصل في أمر الثواب والعقاب (¬2). المعاد: يرى ابن القيم أن رسل اللَّه اتفقوا على أن الروح باقية، وأنها منعَّمة أو معذَّبة في ¬
البرزخ، وأن المعاد ممكن وواقع، وأن اللَّه تعالى سيعيد الأجسام كما كانت عليه في الدنيا، ثم تتصل كل روح بجسمها، ويرى أن هذه الإعادة عن تفريق لا عن عدم. رأي ابن القيم في الصفات الخبرية: (وهي كل صفة للَّه تعالى يكون الدليل عليها مجرد خبر من الكتاب الكريم، أو من الرسول عليه الصلاة والسلام، من غير استناد إلى دليل عقليّ)، وذلك كإثبات الوجه واليد للَّه تعالى وغير ذلك. يرى ابن القيم أنه يجب أن يوصف اللَّه تعالى بكل ما وصف به نفسه حقيقة، وما وصفه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، بدون تأويل للنصوص، ولا تعطيل لها عن اتصاف اللَّه بها. ويرى أن ذلك من تعظيم حرمات اللَّه إذا نفيت مشابهتها لصفات المخلوقين، ويرى أن هذا الفهم يبعد به عن وصمة التشبيه والتجسيم (¬1). العقيدة والتصوف: دعا ابن القيم إلى عقيدة السلف، وحارب الفرق المختلفة، وصال وجال في مجالات التصوف، جاريًا على مذهبه الانتخابي، فكان حربًا على المنحرفين، منصفًا للمعتدلين، حارب القول بوحدة الوجود، والتفرقة بين الحقيقة والشريعة، وتحكيم الصوفية الذوق، وإعراضهم عن العلم. منابع علمه الصوفي (¬2): الكتاب والسنة، وما أثر من أقوال الصحابة والحكم البالغة، وما سمعه أو شاهده أو نقل إليه عن الصوفيين العارفين. هذا إلى جانب روحه الصافية المترفعة عن المادة وزخارفها. أثره في التصوف: تخليصه من الانحراف، ودعوته المتصوفة إلى الاقتداء برسول اللَّه، وتحديده مبادئ الصوفية، مناصرته للصحو، واهتمامه بالقلب، وغير ذلك. الأصول التي اعتمد عليها ابن القيم في استنباط أحكامه: الكتاب والسنة والإجماع، بشرط عدم العلم بالمخالف وفتوى الصحابي -إذا ¬
لم يخالفه أحد من الصحابة، فإن اختلفوا وقف موقف المختار، ثم فتاوى التابعين ثم فتاوى تابعيهم وهكذا- والقياس، والاستصحاب، والمصلحة، وسد الذرائع، والعرف. طريقته في البحث: كان يعتمد أولًا على النصوص، يستنبط منها الأحكام، ويكثر من الأدلة على المسألة الواحدة، ويعرض آراء السابقين، ويختار منها ما يؤيده الدليل، وقد يبين وجهة كل فقيه فيما ذهب إليه، ويعرض أدلة المخالفين ويفندها، ويستعين بالأحاديث على بيان معنى الآية، وهو في كل هذا لا يتعصب لمذهب معين، بل يجتهد، ويدعو إلى الاجتهاد، ويعمل فكره، ولا يدخر في ذلك وسعًا؛ وينشد الحق أينما كان. أغراضه: كان ابن القيم يرجو من وراء ذلك كله أن يقضي على اختلاف المسلمين الذي قادهم إلى الضعف والتفكك، وأن يجمعهم على الاقتداء بالسلف في أمر العقائد، لأنه رأى أن مذهب السلف أسلم مذهب؛ وكان يرجو أن يقود المسلمين إلى التحرر الفكري، ونبذ التقليد؛ وإبطال حيل المتلاعبين بالدين، وأن يكون الفهم المشرق الكامل لروح الشريعة الإسلامية السمحة، هو النبراس وهو الموجه الحقيقي في كل المواقف. وبعد: فتلك لمحة خاطفة عن هذا العالم الجليل؛ والمصلح الكبير، نقدمها في إجمال نجد تفاصيله مع تفاصيل الجوانب الأخرى لابن القيم في هذا الكتاب. نسأل اللَّه أن ينفع به؛ وأن يجزي مؤلفه خير الجزاء، وأن يعز دينه، ويرشد عباده بأمثال ابن القيم من العلماء الأجلاء، والفقهاء الذين أراد اللَّه بهم خيرًا، وأرادوا لأمتهم النفع والإرشاد، وما توفيقنا إلا باللَّه، عليه توكلنا وإليه أنبنا، وإليه المصير" (¬1) انتهى. وبعد ذلك مقدمة المحقق، وهذا نصُّها بتمامها (¬2): "الحمد للَّه رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة ¬
والسلام على من أرسله اللَّه رحمة للعالمين، محمد صلوات اللَّه عليه وعلى آله، الذين اهتدوا بهديه. وبعد؛ فالإمام الجليل ابن القيم علَم من أعلام علماء الكتاب والسنة ومنار من منارات الحق، في إشراقه هدى ونور ورحمة، فلقد حَيَّ -رضي اللَّه عنه- لربه وكتاب ربه، وسنة خاتم النبيين، حَيَّ حياة الصِّدِّيقين والشُّهداء، يفتح قلبه للنور، لأنه لا يحب أن يحيا إلا في النور. عاش يحطم طواغيت الشرك، وأصنام الوثنية، ويدمر تلك الحصون التي شيدتها شهوات الطغاة البغاة من أحلاس الرمم، ورادة الإثم من ردغة المواخير. عاش، والقرآن بين عينيه، وفي فكره، وفي قلبه، بل عاش والقرآن فلك لا تدور حياته إلا حوله، فأعاد هو وشيخه الجليل الإمام ابن تيمية إلى السنة بهاءها ورونقها، وخلّصاها مما شابها، وبيّنا لأكثر الحقائق الإسلامية مفهوماتها الصادقة الحقة، وجعلا لكل حقيقة ما هو لها دون نقص أو زيادة. ورفضا بقوة ودراية علمية ممتازة، ونباهة فكرية رائعة ما افتراه المحرفون والمؤولون والمعطلة والمشككة من مفهومات ومصطلحات، ودمغوهم بتجريد الكلمات المقدسة من حقائقها ومعانيها، ثم جاءوا لهذه الكلمات بما يحب اللَّه أن يكون لها. ولهذا عاشا يناضلان الفلسفة والتّصوّف والكلام، وأدعياء الفقه والأصول من عبدة الرأي والقياس ومحلّلي الإثم باسم الحيل، وأبيا في إصرار المؤمن وكبريائه أن يهطعا للبغي في سطوته الباغية، أو أن يرضيا السلامة يشتريانها بمداهنة الباطل، وممالأة الضلالة، واستحبا السجن على الحرية. ولم يرو لنا التاريخ بعد عصر الإمامين الجليلين قصة أستاذ وتلميذه تشبه قصة الإمام ابن تيمية وابن القيم، فهما أشبه بالمصباح ونوره، أو بالشمس وضوئها. فرضي اللَّه عنهما وأرضاهما. ولقد قدر لي أن يعهد إليَّ بتحقيق كتاب "إعلام الموقعين" للإمام الجليل ابن القيم؛ وهو كتاب جليل القدر، عظيم النفع، جم الفائدة، يجمع إلى جمال الحقيقة الشرعية قوة البرهان، ونصاعة الحجة، وإلزام الدليل. كتاب حث فيه المؤلف على اتباع الآثار النبوية، ثم بيَّن فيه مَن أَهْلُ السنة،
ومَن هم الذين تصدروا للفتيا من الصحابة والتابعين، وبيّن في جلاء ووضوح أن القول على اللَّه بغير علم هو كالشرك باللَّه أو أشنع منه، ثم بيّن مفهوم الكراهة عند الأئمة، وأنه عَيْنُ مفهوم الحرام، ثم بيّن حرمة الإفتاء بالرأي، ثم أقام أكثر الكتاب على شرح الكتاب الذي بعث به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري، الذي جعله الأئمة أصلًا في القضاء والأحكام. وأهم ما بسط الإمام فيه القول: الربا، المحلل، سد الذرائع، الحيل، القول بالرأي والقياس، التأويل، الشروط التي يجب أن تكون في المفتي، ثم سمو هذه المنزلة وهي منزلة الفتيا، كل هذا في بسط وشرح وإفاضة بالحجة الناصعة والبرهان المشرق المبين؛ كما عرض لمسألة الطلاق الثلاث وغيره من أمهات (¬1) المسائل. ثم ختم الكتاب بفصول مطوّلة عن فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم" (¬2). قال أبو عبيدة: وذكر بعد ذلك ما قدمناه قريبًا في التعريف بهذه الطبعة، وعنون له (عملي في الكتاب)، ثم ختم مقدمته بقوله بعد ذلك مباشرة: "واللَّه أسأل أن يكون عملي في الكتاب صالحًا يرضيه، وأن أكون ممن أعانوا على خير يقدمونه للناس، وصلى اللَّه وسلم وبارك على محمد وآل محمد أجمعين" (¬3). وللوكيل تعديلات وردود على النشرات التي سبقته، انظر نشرتنا (4/ 75، 163، 169) ففيها تعقبات وتصويبات على ما وقع في طبعة محمد محيي الدين عبد الحميد، أو طبعة طه عبد الرؤوف سعد. الثالثة: طبعة طه عبد الرؤوف سعد، ورمزت لها بـ (ط) أو المطبوع، وهي في أربعة مجلدات أيضًا، وعليها تعليقات يسيرة جلها في بيان الغريب، كسابقتَيْها، وعمل المحقق على تقسيم الكتاب إلى فقرات، ووضع تبويبات عليه، وقدم له بمقدمة فيها ترجمة لابن القيم، وختمها بذكر أربعين اسمًا من أسماء مؤلفاته، ختمها بـ"إعلام الموقعين عن رب العالمين"، وقال عنه: "وهو الكتاب الذي أقدّمه لك، ولن أقول عنه شيئًا، فحسبي منك أن تطالعه، فسوف ترى في ¬
مؤلفه فقيهًا إنْ أردت، أصوليًا إنْ رغبت، أديبًا نحويًا إذا شئت، منطقيًا إذا أحببت، قد بلغ الغاية في عرض الأفكار، وجمال الأسلوب، ودقة مسائله، والاستشهاد لها، حتى لتحسبن أن هذا الكتاب مؤلف في العصر الحديث، بعد أن استقرَّت طُرُق المناهج والبحث، وتوفرت المراجع والأصول" (¬1). ثم ذكر وفاة ابن القيم، وقال بعدها: "وبعد؛ فإني أستسمح القارئ الكريم إذا ما وجد في عملي هذا تقصيرًا، فبحر العلم لا قرار له، والساحل بعيد، والجهد قليل. وما أحسن ما قال العماد الأصفهاني (¬2): إني رأيت أنه لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يوم إلا قال في غده: لو غيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدّم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النّقص على جملة البشر" (¬3). الرابعة: طبعة دار الحديث بالقاهرة، ورمزت لها بـ (ح)، وعَنيَتْ بنشر هذه الطبعة وتصحيحها والتعليق عليها إدارة المطبعة المنيرية، بمصر، وهي في أربعة أجزاء في مجلدين، والتعليقات عليها قليلة، وتمتاز بضبط عباراتها، وقلّة أخطائها. الخامسة: طبعة دار الجيل، وهي في أربعة مجلدات، على طرتها: حققه وعلق عليه وعمل فهارسه (¬4) عصام فارس الحرستاني، خرج أحاديثه حسان عبد المنان (¬5). وتمتاز هذه الطبعة بأنها مقابلة على نسختين خطيتين (¬6)، وأن فيها تخريجًا ¬
تقويم الطبعات التي وقفت عليها وعملي في هذه النشرة والدافع لها
من رأس القلم للأحاديث القولية، دون الفعلية والإشارّية، ودون الآثار الواردة عن السلف، ودون توثيق النصوص. وأما التخريج الموجود فالنفس فيه ضعيف، وهو ناقص، وعليه مؤاخذات علمية قوية، يأتي الحديث عنها -إن شاء اللَّه تعالى- بالإجمال. * تقويم الطبعات التي وقفت عليها وعملي في هذه النشرة والدافع لها: بذل القائمون على الطبعات السابقة جُهدًا في ضبط النص والتعليق عليه، ولكن في تقديري أن الكتاب لم يُخْدم -على كثرة طبعاته- الخدمة اللائقة به، من حيثيات متعددة، هي: أولًا: العناية بنسخه الخطية، ومقابلة النسخ على المطبوع. ثانيًا: العناية بتوثيق النقول، وعرضها على مصادرها، ولا سيما المطبوع منها. ثالثًا: العناية بمقارنة المباحث التي عند المصنف في كتابه مع كتبه الأخرى، وربطها بكتب شيخه أبي العباس ابن تيمية رحمه اللَّه تعالى. رابعًا: العناية الجيّدة بتخريج الأحاديث والآثار وبيان درجتها من حيث الصحة والضعف، مع محاولة معرفة مصادر المصنف التي ينقل منها. خامسًا: الاستفادة من الجهود السابقة التي بذلت في خدمة الكتاب. سادسًا: العناية بتوثيق المسائل الأصولية والفقهية من مصادرها، ومحاولة الوقوف على الراجح، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 392، 402 و 2/ 197، 211، 301 و 3/ 254، 377، 384، 388 و 4/ 24، 109 - 110 و 5/ 136 - 137). سابعًا: فهرست الكتاب فهرسة علمية شاملة، تحوي نصوص الوحيين الشريفين: الكتاب والسنة، مع فهرس آثار السلف، مع أعلامه وفرقه وطوائفه وجماعاته، وأشعاره، وأسماء كتبه، وبلدانه وأماكنه، وغريبه، مع بيان فوائده العلمية وأبحاثه المحررة المحققة في سائر أنواع العلوم. فكانت هذه الأسباب هي الدافع لي على نشرتي هذه، وجهدتُ على سد النقص في الطبعات السابقة، فعملت على تحصيل ما أمكنني من مخطوطات الكتاب، وظفرتُ بأربعة منها (سبق وصفُها)، وقابلتها على متن الكتاب، بطبعاته المختلفة، وأثبتُ الفروق بينها في الهوامش.
وحاولت الوقوف على مصادر المصنف في كتابه، وتبيَّن لي أنه ينقل من كتب كثيرة، بعضها ما زال مخطوطًا، والآخر في عداد المفقود، وينقل من كتب لم يُسَمِّها، وصرح بأسماء مؤلفيها، وينقل من بعضها بالواسطة، ويكثر من النقل عن كتب شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية، وجهدتُ في ردّ هذه النقول إلى أصولها، وقابلت نص الكتاب على ما فيها، وأثبتُّ -في الغالب- الفروق المهمة في الهامش، وهذا مما ساعدني على ضبط النص، ولا سيما إن كان حديثًا أو أثرًا سلفيًا، وأثْبتُّ منها -أو صوبت- أشياء مهمة سقطت من جميع النسخ الخطية والمطبوعة التي وقفت عليها، انظر -على سبيل المثال-: (1/ 86، 101، 107، 109، 140، 148، 218، 409، 474 و 2/ 365، 446،449، 462، 465، 528 و 3/ 42، 50، 246، 300، 342، 350، 377، 379، 451 و 4/ 88، 97، 101، 375، 376، 481 و 5/ 58، 63، 77، 134، 157، 393، 394، 398، 402، 418). واستفدت كثيرًا من "التقريب لفقه ابن القيم" للعلامة الشيخ بكر أبي زيد -عافاه اللَّه وشفاه- في ذكر كتب ابن القيم التي بحثَتْ كل مسألة من مسائل كتابنا هذا، واعتمدتُ على ما في كتابه، وزدتُ ما علق بالخاطر من فوائد فرائد، ومباحث لها صلة بمادة علمية في كتابنا هذا ولها وجود في سائر كتب ابن القيم، وكذا حرصتُ على النظر في كتب ابن تيمية، ووجدت المصنف يكثر من النقل منها، كما سبق بيانه تحت عنوان (مصادر المصنف). وأما بالنسبة للطبعات السابقة، فقد استفدتُ منها على النحو التالي: أولًا: حرصتُ على النظر بدقّة فيها (وسبق ذكرها)، وتبيّن لي أنها لا تخلو من أخطاء مطبعية (¬1)، حتى المقابلة على النسخ الخطية (¬2) منها، وذكرت أهم الفروق بينها، والأمور المحتملة في الهوامش. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ثانيًا: استفدتُ من العناوين الفرعية الموجودة فيها، ووضعتها بين معقوفتين. ثالثًا: استفدتُ من التعليقات على هذه الطبعات، ونقلتُها في هوامش طبعتنا ¬
ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في الطبعات السابق ذكرها
هذه، واستوعبت نقل تعليقات الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، ورمزت لها بـ (د)، وتعليقات طه عبد الرؤوف ورمزتُ لها بـ (ط) وتعليقات عبد الرحمن الوكيل، ورمزت لها بـ (و)، ونظرتُ في سائر الطبعات، على النحو الذي بيّنته آنفًا تحت عنوان (الأصول المعتمدة في نشرتنا هذه). ولم أنقل شيئًا منها إلا ووضعت الرمز بعده، ووجدتُ في بعض الأحايين تشابهًا في العبارات، فأثبت الأتم، وكتبت بعده "نحوه في (..) "، وإذا وجدت زيادات في عبارات بعضهم، وضعتها بين معقوفتين، ونبهّتُ على ذلك. وهذه التعليقات بالجملة من رأس القلم، وهي في بيان الغريب، ولم ألتفت إلى ما يخص الحديث النبوي منها، من حيث التخريج وغيره، وكذا الآثار السلفية. واعتنيتُ بتوثيق المسائل من مصادرها الأصلية، فأحلتُ على أشهر المصادر الأصولية والفقهية، وأبرزتُ الجهود الخاصة للمعاصرين حول المسائل المبحوثة في الكتاب. * ملاحظاتي على تخريج الأحاديث في الطبعات السابق ذكرها: لم يُعْتَنَ بتخريج الأحاديث النبوية والآثار السلفية في جلّ الطبعات السابقة، وانفردت القليل منها بتخريج الأحاديث القولية، مع الحيدة عن المشكل منها، وهذه ملاحظات فيها نقدات وتقويم وبيان بعض النقص الواقع فيها: * طبعة عبد الرحمن الوكيل، أثبت على الغلاف قبل اسمه "تحقيق وضبط" وقال في المقدمة (ص ج) تحت (ميزات هذه الطبعة): "تخريج العشرات من الأحاديث المهمة"، ولم يخرج إلا أحاديث قليلة، وهذا ما وقع له في المجلد الأول: (ص 33) حديث: "أجرؤكم على الفتيا. . . " قال: "الدارمي عن عبيد اللَّه بن أبي جعفر مرسلًا". (ص 42) حديث: "إذا أرسلت كلبك" قال: "رواية أبي داود بإسنادٍ جيد". (ص 50) حديث: "لا طاعة لمخلوق. . . " قال: "أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عَمرو الغفاري". (ص 50) حديث: "إنما الطاعة في المعروف" قال: "أصل الحديث: "لا طاعة لأحد في معصية اللَّه، إنما الطاعة في المعروف" متفق عليه وأبو داود والنسائي عن علي".
(ص 50) حديث: "من أمركم منهم -أي: الأمراء- بمعصية اللَّه، فلا سمع له. . " قال: "أصله في "الصحيحين". (ص 51) حديث: "إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها" قال: "أخرجه الإمام أحمد بسنده عن علي" وساق لفظه، وقال: "وأخرجاه في "الصحيحين" من حديث الأعمش به". (ص 76) حديث: "من أبي يا رسول اللَّه" قال: "في حديث أخرجه البخاري ومسلم". (ص 86) حديث: في سبب نزول قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ. .} قال: "وردت في حديث متفق عليه". (ص 90) وكتب معلقًا على أثر نقله المصنف عن البخاري في غير "صحيحه": "قد أعجلني ما كنت فيه عن مراجعة الحديث في البخاري، فليراجع، ففيه هنا اضطراب ونقص"!! (ص 115) حديث: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" قال: "رواه أحمد والبخاري". (ص 474) حديث المصراة، ذكره في الهامش وشرحه، وعزاه إلى "الصحيحين". وهذا ما وقع له في المجلد الثاني: (ص 37) حديث شهادة خزيمة، سرده في الهامش، وقال: "رواه أبو داود والنسائي". (ص 45) علق عند قول ابن القيم: "وترك قطع المختلس والمنتهب والغاصب" قال: "عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ليس على خائن ولا منهب ولا مختلس قطع" رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وأخرجه الحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه". (ص 46) حديث جحد المرأة المتاع وقطع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يدها قال: "رواه أبو داود وأحمد والنسائي وأبو عوانة". (ص 164) حديث: "من أفتى بفتيا غير ثبت. . " قال: "رواه أبو داود والحاكم". (ص 164) حديث: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا. . " قال: "في مسلم: إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب".
(ص 185) حديث: "أصحابي كالنجوم. . . " قال: حديثه باطل، وإسناده واهٍ جدًّا". (ص 261) حديث: "استأجر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-دليلًا" قال: "رواية البخاري: واستأجر رسول اللَّه وأبو بكر رجلًا من بني الديل". (ص 268) حديث كتاب عمرو بن حزم، عزاه لجمع ونقل كلام ابن حجر عليه دون بيان المصدر. (ص 272) حديث: "إذا حكم الحاكم. . " قال: "متفق عليه". (ص 301) حديث: "لا عدوى ولا طيرة" قال: "أحمد ومسلم عن جابر". (ص 323) تفسير الزيادة في سورة يونس بأنها النظر إلى وجه اللَّه، قال في تخريجها: "رواه أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم". (ص 328) خرج ثلاثة أحاديث، عزى الأول للجماعة إلا ابن ماجه والترمذي، والثاني للجماعة، والثالث لأحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن حبان. (ص 334) حديث: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم" خرج في الهامش الأحاديث التي تدل على خلافه، لقطعه في مجن ثمنه ثلاثة دراهم، وقوله: "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا، ولم يتكلم على الحديث بشيء. (ص 337) حديث: "لا يقتل مسلم بكافر" قال: "جزء من حديث رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود والترمذي". (ص 362) حديث بيع جابر بعيره للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشرط ركوبه إلى المدينة، ذكره في الهامش وقال: "متفق عليه. وفي لفظ لأحمد والبخاري: "وشرطت ظهره إلى المدينة"". (ص 364) حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة" قال: "رواه أحمد ومسلم والبخاري". (ص 364) حديث: "ليس فيما سقت السماء والعيون. . " قال: "رواه الجماعة إلا مسلمًا. . . ". (ص 376) حديث: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك" (وهو في (وضع الجوائح))، قال: "ورواه أصحاب السنن".
(ص 377) علق عند قول المصنف: "والذين يتخذون القبور مساجد" أورد ثلاثة أحاديث تدل على ذلك، وعزى الأول للجماعة إلا البخاري وابن ماجه، والثاني للبخاري ومسلم، والثالث للبخاري ومسلم والنسائي. (ص 390) حديث: "كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم" قال: "الترمذي وابن ماجه". (ص 390) حديث: في زكاة الكرم: "يُخْرص كما يُخْرص النخل. . " قال: "رواه أبو داود والترمذي". (ص 390 - 391) حديث: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث" قال: "الخمسة إلا ابن ماجه". (ص 391) حديث: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث عبد اللَّه بن رواحة إلى يهود، فَيَخْرص النخلَ. . " قال: "أحمد وأبو داود". (ص 394) حديث صلاة الكسوف، قال: "البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي". (ص 434) علق على قول المصنف: "وإن صلاته كانت التغليس حتى توفّاه اللَّه" وأورد ثلاثة أحاديث تدل على ذلك، وأصولها في "الصحيحين". (ص 435) حديث: "أسفروا بالفجر. . " قال: "رواه الخمسة. . ". (ص 435) حديث: "وقت صلاة الظهر. . . " قال: "رواه أحمد والنسائي وأبو داود. وفي رواية لمسلم:. . . ". (ص 436) حديث: "كانوا يصلونها مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم يذهب أحدهم إلى العوالي. . . " عزاه إلى الجماعة إلا الترمذي. (ص 444) حديث: "عبد الرحمن بن عوف: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج نحو أحد، فخر ساجدًا. . . " قال: "رواه أحمد". (ص 444) حديث: "سعد في سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- شاكرًا لربه لما أعطاه ثلث أمته. . . " قال: "رواه أبو داود". (ص 444) حديث أبي بكر: "كان إذا جاءه أمر يسرُّ به خرّ ساجدًا" قال: "رواه الخمسة إلا النسائي، وقال الترمذي: هو حسن غريب". (ص 444 - 445) حديث: "أتاه بشير بظفر جُنْدٍ له على عدوهم، وخر ساجدًا" قال: "هذا لفظ أحمد".
(ص 445) حديث: "سجود كعب بن مالك لما بشر بتوبة اللَّه عليه" قال: "متفق على صحته". (ص 445) حديث: "سجود أبي بكر حين جاءه قتل مسيلمة" قال: "رواه سعيد بن منصور". (ص 445) حديث: "سجود علي حين وجد ذا الثُّدَيّة" قال: "أحمد في "مسنده" وقصة ذي الثدية -واسمه: المخدج- في مسلم وأبي داود". (ص 446) حديث: "الرهن يركب. . " قال: "رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي". وأما المجلد الثالث، فهذا ما وقع له فيه: (ص 61) حديث: "من استطاع منكم الباءة. . " قال: "رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي". (ص 61) حديث: "تزوجوا الودود الولود. . " قال: "أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد". (ص 61) حديث: "أربع من سنن المرسلين. . " قال: "أحمد في "مسنده" والترمذي والبيهقي في "الشعب"". (ص 61) حديث: "ثلاثة حق على اللَّه عونهم. . " قال: "رواه الترمذي -وقال: حديث حسن صحيح- وابن حبان في "صحيحه" والحاكم -وقال: صحيح على شرط مسلم- وأحمد في "مسنده" وابن ماجه". (ص 165) حديث: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه. . " قال: "جاء في حديث رواه الجماعة إلا مسلمًا والنسائي". (ص 193) علق على قول المصنف: "نهى عن بيعتين في بيعة، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر" بقوله: "لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك، الخمسة إلا ابن ماجه" وقال: "وعن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من باع بيعتين في بيعة، فله أوكسهما أو الربا" رواه أبو داود. وفي رواية: "نهى عن بيعتين في بيعة" رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه والشافعي ومالك في بلاغاته، وفي الحديث الأول محمد بن عمرو بن علقمة وقد تكلم فيه غير واحد". (ص 200) علق على عبارة المصنف: "حرم التفريق في الصرف" بقوله: "بيع
الذهب بالفضة وفي حديث: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الذهب بالوَرِق دينًا" أخرجه البخاري ومسلم والنسائي. (ص 212) حديث: "إنما الأعمال بالنيات" قال: "صدر البخاري بالحديث "صحيحه" في باب بدء الوحي، وأخرجه في الإيمان والعتق والهجرة والأيمان والنذور وترك الحيل. . ". (ص 213) حديث: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود. . " قال: "رواه ابن بطة". (ص 220) حديث: "لا يحل سلف وبيع. . " قال: "سبق الكلام عن الحديثين؛ الأول: رواه الخمسة إلا ابن ماجه، والآخر: رواه أبو داود". (ص 231) حديث: "لعن اللَّه اليهود حرمت عليهم الشحوم. . " قال: "متفق عليه". (ص 251 - 252) حديث: "لا نكاح إلا نكاح رغبة" قال: "سبق نسبته إلى عثمان وابن عمر، وقلت: إنه يروى موقوفًا ومرفوعًا" قلت: نعم، سبق (ص 208) دون عزو ولا تخريج. (ص 286) حديث: "من باع بيعتين في بيعة فله. . " قال: "رواه أبو داود". (ص 287) حديث: "لا يحل سلف وبيع. . " قال: "الخمسة إلا ابن ماجه". (ص 287) حديث: "بع الجمع بالدراهم. . " قال: "من حديث رواه البخاري ومسلم". (ص 288) حديث: "لعن اللَّه المحلِّل والمحلِّل له" قال: "أحمد والنسائي والترمذي -وصححه- من حديث ابن مسعود، والخمسة إلا النسائي من حديث علي مثله، وصحح حديث عليٍّ ابنُ السكن، وأعلّه الترمذي، فقال: روي عن مجالد عن الشعبي عن جابر، وهو وهم". (ص 468) حديث: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" قال: "رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وصححه". (ص 469) حديث: "فرار ماعز من الحد" قال: "وردت قصة ماعز في جل كتب السنة"! (ص 476) حديث: "لا يتمنى أحدكم الموت. . " قال: "البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي".
(ص 476) حديث: "المسلمون عند شروطهم. . " قال: "رواه الدارقطني والحاكم عن عمرو بن عوف المزني مرفوعًا، ورواه الحاكم عن أنس، والطبراني عن رافع بن خديج، والبزار عن ابن عمر، وفي رواية "المسلمون على شروطهم والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" أبو داود وأحمد والدارقطني عن أبي هريرة رفعه، وصححه الحاكم. وعلق البخاري: "المسلمون عند شروطهم" جازمًا به". (ص 479) حديث: "أحق الشروط أن توفوا به. . . " قال: "الصحيحان". (ص 479) حديث جابر: "بعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-بعيرًا، واشترطت. . " قال: "رواه البخاري في مواضع كثيرة بألفاظ مختلفة مطولًا ومختصرًا، ومسلم وأبو داود والترمذي -وصححه- وابن ماجه وأحمد". (ص 488) قول ابن مسعود: "عليكم بالجماعة، فإن يد اللَّه. . " قال: "رواه الترمذي -وحسنه- عن ابن عباس مرفوعًا، والطبراني عن عرفجة بن شريح -ويقال: ابن جريج-: يد اللَّه مع الجماعة. . . ". (ص 488) حديث: "اتبعوا السواد الأعظم. . " قال: "بقية الحديث -أي السابق- من كتاب "كشف الإلباس"". وأما المجلد الرابع والأخير، فهذا ما وقع له: (ص 64) أشار إلى شرب حمزة الخمر وقوله: "هل أنتم إلا عبيد لآبائي" وفسر في الهامش غريبه، وقال في آخره: "والحديث في البخاري وغيره". (ص 159) حديث: "وما يدريك أن اللَّه قد اطلع على أهل بدر. . " قال: "متفق عليه". (ص 175) حديث: "خير القرون القرن الذي بعثت فيه. . " تمم في الهامش لفظه، وقال: "متفق عليه". (ص 181) حديث: "هذان -أبو بكر وعمر- السمع والبصر" قال: "رواه الترمذي مرسلًا". (ص 182) حديث: "إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه" قال: "رواه الترمذي، وقال: حديث حسن". (ص 182) حديث: "قد كان فيمن خلا من الأمم أناس مُحَدَّثون" قال: "متفق عليه أيضًا".
(ص 183) حديث: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" قال: "رواه البيهقي في "دلائل النبوة"". (ص 185) حديث: "قراءة ابن مسعود {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ. .}، وفاضت عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" قال: "رواه البخاري ومسلم وأحمد". (ص 187) حديث: "إنّ أمَنَّ الناس علينا في صحبته. . " قال: "متفق عليه". (ص 206) حديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" قال: "رواه أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم". (ص 270) حديث: "إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة. . " قال: "رواه أبو داود والحاكم والبيهقي في "المعرفة"". (ص 335) حديث: "إذا اجتهد الحاكم. . "قال: "متفق عليه". (ص 337) حديث: "هل تضارون في رؤية القمر. . " قال: "في "الصحيحين" من حديث أبي سعيد وأبي هريرة". (ص 337) حديث: "كان في عماء، ما فوقه هواء. . " قال: رواه الترمذي في "التفسير" وابن ماجه في "السنن"، وقال الترمذي: هذا حديث حسن". (ص 338) حديث: "كان اللَّه ولم يكن شيء غيره. . " قال: "مخرج في البخارى ومسلم بألفاظ كثيرة". (ص 341) حديث: "المرء مع من أحب" قال: "متفق عليه وأحمد". (ص 342) حديث عن الكوثر: "هو نهر أعطانيه ربي. . " قال: "رواه أحمد وابن جرير". (ص 349) حديث: "هو الطهور ماؤه. . " قال: "رواه الخمسة، وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه أيضًا ابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" والحاكم والدارقطني والبيهقي وابن أبي شيبة، وحكى الترمذي عن البخاري تصحيحه، وحكم ابن عبد البر بصحته". (ص 349) حديث: "الماء طهور لا ينجسه شيء" قال: "أحمد وأبو داود والترمذي -وقال: "حديث حسن"- وصححه أحمد". (ص 350) حديث: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" قال: "رواه الخمسة، بقوله: لم يحمل الخبث، وفي لفظ ابن ماجه ورواية لأحمد: لم ينجسه شيء، وقد رواه أيضًا الشافعي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم والدارقطني
والبيهقي، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، وقال ابن عبد البر في "التمهيد": ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر غير ثابت من جهة الأثر، لأنه حديث تكلم فيه جماعة من أهل العلم، ولأن القلتين لم يوقف على حقيقة مبلغهما في أثر ثابت ولا إجماع، وقال في "الاستذكار": حديث معلول رده إسماعيل القاضي وتكلم فيه، وقال ابن دقيق: هذا الحديث قد صححه بعضهم، وهو صحيح على طريقة الفقهاء، ثم أجاب عن اضطراب السند"! (ص 350) حديث أبي ثعلبة في آنية الكفار: "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء. . " قال: "رواه الترمذي وقال: حسن صحيح". (ص 353) حديث شاة ميمونة: "هلا أخذتم مسكها" قال: "رواه الجماعة إلا ابن ماجه، قال فيه: "عن ميمونة" جعله من مسندها، وليس فيه للبخاري والنسائي ذكر الدباغ، والرواية التي هنا عن شاة لسودة بنت زمعة قد ماتت. وقد رواه أحمد". (ص 354) حديث أُبيّ بن عمارة في المسح على الخفين فوق ثلاث: "قال أبو داود: وقد اختلف في إسناده، وليس بالقوي. وقال البخاري نحوه. وقال الإمام أحمد: رجاله لا يعرفون، وأخرجه الدارقطني، وقال: هذا إسناد لا يثبت. وفي إسناده ثلاثة مجاهيل: عبد الرحمن، ومحمد بن يزيد، وأيوب بن قطن، وبالغ الجوزجاني. فذكره في "الموضوعات". (ص 354) حديث: "إنّ الصعيد الطيب. . " قال: "أحمد والترمذي -وصححه- والنسائي وأبو داود وابن ماجه". (ص 355) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصلاة الوسطى: "هي صلاة العصر" قال: "في حديث متفق عليه أن العصر هي الوسطى، وفي هذا خلاف كبير. . . ". (ص 360) حديث كم بين بناء المسجد الحرام والمسجد الأقصى، قال: "أربعون عامًا" قال الوكيل: "يخالف الحديث الواقع! ولذا ضعِّف" (¬1)!! ¬
(ص 374 - 375) حديث ليلة القدر، وفيه: "أقسمتُ عليك بحقي عليك. . " قال: "وضع هذه الكلمة في الحديث، وعدم ذكر الغضب من أجلها يفيد ضعف الحديث، فما كان لإمام التوحيد، وخاتم النبيين أن يسكت على قَسمَ ينال من قدسية التوحيد" (¬1)!! (ص 384) حديث في فضل سورة الملك: "وأن رجلًا سمع إنسانًا يقرأ سورة الملك وهو في القبر" فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي المانعة. . " قال: "أيقرأ الميت! ولمَ لمْ يخرجه أصحاب "الصحيح"، وهو يتكلم عن حديث هام؟! ولقد رواه الترمذي، ثم قال: هذا حديث غريب من هذا الوجه". (ص 384) حديث في فضل سورة الإخلاص: "حبك إياها أدخلك الجنة" قال: "رواه البخاري تعليقًا مجزومًا به. ورواه الترمذي في "جامعه" عن البخاري، وقد رواه أحمد في "مسنده" متصلًا". (ص 389) حديث معاذ: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" قال: "أحمد والترمذي وابن ماجه". (ص 423) حديث: "تزوجوا الودود الولود. . " قال: "أبو داود والنسائي عن معقل بن يسار". (ص 473) حديث: "أمر الدم، واذكر اسم اللَّه" قال: "وفي "سنن أبي داود" والنسائي: أمرر. . ". (ص 498) حديث: "من حلف بغير اللَّه فقد أشرك" قال: "أحمد في "مسنده" والترمذي والحاكم عن ابن عمر". (ص 501) حديث: "لا يدخل الجنة سيّئ الملكة" قال: "رواه الترمذي وابن ماجه عن أبي بكر". (ص 501) حديث: "ملعون من مكر بمسلم. . " قال: "الترمذي عن أبي بكر". (ص 503) جوابه على سؤال معاوية بن حيدة: "يا رسول اللَّه أين تأمرني؟ قال: "هاهنا ونحا بيده نحو الشام" قال: "مثل هذه الأحاديث يشك في صحّتها، فإنها تثير عصبية حمقاء، وكراهية رعناء، عصبية لبلاد، وكراهية لبلاد، وكلها ¬
* طبعة دار الجيل
أرض اللَّه {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} " (¬1). (ص 503 - 504) قال في حديث آخر استشكله بعقله بعد كلام: "لننظر في سند الحديث، حتى لا نعرض خاتم النبيين -صلى اللَّه عليه وسلم- لبهتان أعدائه". (ص 508) حديث شق الصدر، قال عنه: "في الحديث مقال، ومعارض بغيره". هذه هي الأحاديث التي خرجها الأستاذ عبد الرحمن الوكيل، ويلاحظ على تخريجاته الأمور الآتية: أولًا: إنه ليس من أهل الصنعة الحديثية في قليل أو كثير، بل علق أشياء تدلل على جهل فاضح في هذا العلم، وأنه يعمل عقله ورأيه في التصحيح دون قواعد أهل الصنعة الحديثية. ثانيًا: إنه ليس بعارف في دواوين السنة، ولم يرجع إلى المصادر الحديثية الأصلية. ثالثًا: جل تخريجاته منقولة من "كشف الخفاء" وبعضها من "التلخيص الحبير" وغيرهما. رابعًا: الأحاديث المخرجة قليلة جدًّا جدًّا بالنسبة إلى الأحاديث الموجودة في الكتاب، ولا يوجد قيد وضابط للذي خرجه منها وللذي أهمله. خامسًا: كثير من الأحاديث المخرجة هي: في "الصحيحين" أو أحدهما، والقليل من غيرهما، وعلى الرغم من ذلك كان الكثير من هذا القليل لم يحكم عليه بصحة أو ضعف، فضلًا عن عدم عزوه إلى محاله ومظانه في دواوين السنة. سادسًا: بمقابلة تخريجاته على ما سطرناه يظهر للقارئ نقص كبير في العزو، وخلل في منهج التخريج! والخلاصة. . إن خدمة الوكيل للكتاب من ناحية حديثية فيها نقص شديد، والمثبت فيها قائم على منهج غير علمي، وخرجت منه فلتات تدلل على جهل فيه، وأنه ليس من أهل هذه الصنعة. * طبعة دار الجيل، أثبت على غلاف المجلدات الثلاثة الأولى منها: "حققه ¬
وعلق عليه وعمل فهارسه عصام فارس الحرستاني، خرّج أحاديثه حسان عبد المنان" وعلى الأخير -الرابع- منها: "حققه وعلق عليه وعمل فهارسه عصام فارس الحرستاني، خرّج أحاديثه أحمد الكويتي" (¬1). والعمل الحديثي ظاهر في هذه الطبعة، ولي عليه ملاحظات كثيرة، أوجزها فيما يلي: أولًا: فيه جرأة عجيبة على أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما، فعلى الرغم من عدم الإسهاب في التخريج، والاقتصار على الاختصار قدر الجهد فيه، إلا أن تضعيف أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما، ظاهر في التعليقات، انظر -على سبيل المثال-: (2/ 141، 142، 522 و 6/ 3، 70، 181، 198، 205، 201 و 3/ 206). ثانيًا: فيه أحاديث معزوة لـ"صحيح البخاري" مثلًا، وهي ليست فيه بالألفاظ التي ساقها المصنف، انظر -على سبيل المثال-: (5/ 183، 187، 190). ثالثًا: هنالك أحاديث في "صحيح البخاري" أو في "صحيح مسلم" ولم تقع معزوة لهما، وإنما عزيت لغيرهما، وهذه بعض الأمثلة تدلل على ذلك: - (2/ 272) قول ابن الزبير لما سئل عن الجد والإخوة، قال: أما الذي قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا. . . " إلخ، فقد عزاه المخرج إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي! وهو في "صحيح البخاري" (3658). - (2/ 244) حديث: يقول اللَّه عز وجل: "أنا أغنى الشركاء عن الشرك. . " قال: "أخرجه بنحوه أحمد وآخرون بإسنادٍ يُحسَّن من حديث أبي هريرة"! والحديث بحروفه في "صحيح مسلم" (2985). - (1/ 319) حديث "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم. . . " قال: "أخرجه أحمد (4/ 229)، والترمذي (2322) من حديث المستورد بإسناد صحيح". قلت: ليس كذلك، وفيه أمران: ¬
الأول: الحديث في "صحيح مسلم" (2858) من حديث المستورد، مختصرًا. الآخر: إسناد أحمد للحديث بطوله فيه مجالد بن سعيد، وأما الترمذي، فليس فيه بالرقم المذكور إلا لفظ مسلم! رابعًا: هنالك ألفاظ في "الصحيحين" أو أحدهما، ونفى المخرج وجودها فيهما، مثل: - (2/ 515) (حديث عزاه المصنف لمسلم "كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع اللَّه لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ربنا ولك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض. . . " قال: "أخرجه البخاري (735) ومسلم (390) وليس فيه "ملء السماوات. . . " قلت: هو في "صحيح مسلم" (476) بعد (202) باللفظ الذي أورده المصنف لكن عن ابن أبي أوفى لا ابن عمر" وانظر نشرتنا (3/ 280). خامسًا: هنالك أحاديث في "الصحيحين" لم تقع معزوة إلا لمسلم، من مثل: - ما في (2/ 547): "كان رسول اللَّه يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة. . " قال ابن القيم: "متفق عليه" وفي التخريج: "أخرجه مسلم (737) " قلت: والبخاري (1140) بلفظ نحوه، انظر نشرتنا (3/ 335) هامش (2). - وما في (1/ 316): "مثلي ومثل الأنبياء قبلي. . " عزاه لمسلم (2287) من حديث جابر، وهو في البخاري (3534) من حديثه أيضًا. وهنالك أحاديث معزوة لأحد "الصحيحين" على وجه غير صحيح، من مثل: - ما في (3/ 185) عند قول ابن القيم: "أنه أمر من صلى في رحله ثم جاء إلى المسجد أن يصلي مع الإمام، وتكون له نافلة" قال: "أخرجه مسلم (648) من حديث أبي ذر"!! قلت: لا صلة لما في "صحيح مسلم" مع كلام المصنف! وقارن بنشرتنا (4/ 35). - ومثله ما في (3/ 187) عند قول ابن القيم: "أنه نهى أن يبيت الرجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا رحم محرم" قال: "أخرج البخاري (3006) ومسلم (1341) من حديث ابن عباس مرفوعًا: "لا يخلونَّ رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم". قلت: صلة هذا الحديث بالكلام السابق ضعيفة! والصحيح أن المصنف يريد ما عند مسلم (2171) من حديث جابر: "ألا لا يبيتنّ رجل عند امرأة ثيِّب،
إلا أن يكون ناكحًا أو ذا محرم". - وما في (4/ 340) حديث سراقة بن مالك بن جعشم، عزاه المحقق لمسلم (2648)، والمذكور ليس لفظ مسلم، وإنما لفظ ابن حبان (337)، وانظر نشرتنا (5/ 240). ومثل ذلك كثير جدًّا، فمثلًا في (4/ 344) في الهامش الأول ما نصه: أخرجه مسلم (2760)، ولا صلة بين الحديث وما في "صحيح مسلم" نعم فيه نحوه، انظر نشرتنا (5/ 245 - 246). ومن هذا النوع من الأوهام (معزو إلى "الصحيحين" أو أحدهما على وجه غير صحيح): - ما في (1/ 270): "لا يتناجى اثنان دون الثالث، فإن ذلك يحزنه" ففي تخريجه: "أخرجه البخاري (6290) ومسلم (2184) من حديث ابن عمر"! والحديث في "الصحيحين" في الموطنين المشار إليهما عن ابن مسعود لا ابن عمر! هذه خمس ملاحظات تخص أحاديث "الصحيحين" أو أحدهما، وأما بالنسبة إلى أحاديث غير "الصحيحين" فالمؤاخذات كثيرة وعظيمة، من أهمها: سادسًا: ترك تخريج أحاديث قولية مصادرها بعيدة أو تحتاج إلى أناة (¬1)، وكذلك بالنسبة إلى الأحاديث الفعلية إذ الغالب عليها الإهمال انظر -على سبيل المثال-: (1/ 284، 285، 286، 288، 300، 303، 304، 334، 335، 336 (جملة أحاديث) و 2/ 173، 383، 419 و 4/ 88، 97، 279، 337). سابعًا: الأخطاء الكثيرة والتحريفات الشنيعة في أسماء الرواة، وتقدم طرف منها تحت عنوان (تقويم الطبعات التي وقفت عليها). ثامنًا: هنالك تعنت في الحكم على الأحاديث، وميل إلى التضعيف، والإعلال على غير مسلك أهل الصنعة الحديثية، وعدم العناية بتخريج لفظ المصنف، والعجلة في إطلاق الأحكام (¬2)، وعدم تتبع الطرق والشواهد، والنظر في أحكام الحفاظ والمخرجين، والتصريح بقواعد غير مسلوكة عندهم. ¬
منهجنا في تخريج الأحاديث والآثار في نشرتنا هذه
هذه ملاحظاتي السريعة على الجهود الحديثية المبذولة فى الطبعات السابقة من هذا الكتاب، أما بالنسبة إلى: * منهجنا في تخريج (¬1) الأحاديث والآثار في نشرتنا هذه فقد جهدنا في تخريج أحاديث وآثار الكتاب، واستطعنا -بحمد اللَّه ومنّه- الوقوف على كثير من المصادر التي ينقل منها المصنّف، وكانت خطتنا في التخريج على النحو التالي: أولًا: لم نسهب في تخريج أحاديث "الصحيحين"، أو أحدهما، إلا لضرورة أو فائدة. ثانيًا: اعتنينا بتخريج الأحاديث والآثار القولية والفعلية، وكذلك التي أومأ وأشار إليها المصنف. ثالثًا: بيَّنا درجة الأحاديث والآثار من حيث الصحة والحسن والضعف. رابعًا: حاولنا الوقوف على مصادر المصنّف من النقل، وتمييز حد الصحيح من الضعيف. خامسًا: اعتنينا بتخريج اللفظ الذي أورده المصنف. سادسًا: إذا كان المصنّف ينقل حديثًا ضعيفًا، كنتُ أُبيِّن ذلك، ثم أورد ما يغني عنه. ومن عملي في التحقيق أيضًا: أنني حرصتُ على صنع كشافات علميّة تحليلية (¬2) للكتاب، اشتملت على الأمور الآتية: أولًا: فهرس الآيات، ورتبته على حسب ورودها في القرآن الكريم. ثانيًا: فهرس الأحاديث والآثار حسب حروف المعجم. ثالثًا: فهرس الأحاديث حسب المسانيد. ¬
رابعًا: فهرس الآثار حسب القائلين. خامسًا: فهرس أعلام الكتاب حسب حروف المعجم. سادسًا: فهرس الفرق والجماعات والطوائف حسب حروف المعجم. سابعًا: فهرس الأشعار حسب الروي. ثامنًا: فهرس الجرح والتعديل حسب حروف المعجم. تاسعًا: فهرس الكتب والمسائل والروايات حسب حروف المعجم. عاشرًا: فهرس أسماء الحيوانات حسب حروف المعجم. حادي عشر: فهرس الغريب والاصطلاحات المشمروحة (في المتن والهامش)، حسب حروف المعجم. ثاني عشر: فهرس الفوائد العلمية، ورتبتُها حسب المواضيع الآتية: (التوحيد، علوم القرآن، مصطلح الحديث وعلومه، القواعد الفقهية، الأصول والقواعد، الفوائد الفقهية (¬1)، ورتبتُها على أبوابها المعتادة: الطهارة، الصلاة، الجنائز، الزكاة. . .). ثم أفردتُ بعض المباحث المهمة عند المصنف بالفهرسة، وهي: الأوائل، الأحاديث التي حكم عليها المصنف بالصحة والضعف، التصحيفات والتحريفات في الكتب المطبوعة، تعقبات المحقق على المصنف، تعقبات المحقق على المصنِّفين والمحققين، ردود وتعقبات العلماء بعضهم على بعض، تنبيه ابن القيم على أخطاء في فهم أحاديث صحيحة، الغلط على الأئمة، الفروق، المفاضلات. هذه كلمة في جهدي في خدمة هذا الكتاب، فإن أصبتُ -وذلك ما أرجو- فمن اللَّه وحده، لا شريك له، وإن أخطأتُ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر اللَّه منه، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وكتب أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان تحريرًا في الأردن - عمان السابع عشر من شعبان من سنة 1422 هـ ¬
سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الثاني] دار ابن الجوزي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [2]
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339
[خطبة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [وبه أَستعين، رب يسر وأعن يا كريم] (¬1) [خطبة الكتاب] الحمد للَّه الذي خلق خلقه أَطْوَارًا، وصَرَّفهم في أطوار التخليق كيف شاء عِزَّةً واقتدارًا، وأرسل الرسل إلى المُكَلَّفين إعذارًا منه وإنذارًا، فأتَمَّ بهم (¬2) على من اتبع سبيلَهم نعمته (¬3) السابغة، وأقام بهم على مَنْ خالف مَنَاهجهم حجته البالغة، فنصَبَ الدليلَ (¬4)، وأنار السبيل، وأزاح العِلَل، وقطع المعَاذير، وأقام الحجَّة، وأوضح المحَجَّة (¬5)، وقال: {هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام: 153]، وهؤلاء رسلي {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فعمَّهم بالدعوة على ألسِنَةِ رسلهم (¬6) حجّةً [منه] (¬7) وعَدْلًا، وخَصَّ بالهداية مَنْ شاء منهم نعمةً [منه] (¬8) وفضلًا، فقبِلَ نعمةَ الهداية مَنْ سبقت له [من اللَّه] (8) سابقة السعادة، وتَلَقَّاها باليمين، وقال: {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] , ورَدَّها مَنْ غَلَبَتْ عليه الشقاوة ولم يرفع بها رأسًا بين (¬9) العالمين, فهذا فضلُه وعَطَاؤه {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} (¬10) [الإسراء: 20] , ولا فَضْلُه بممنون (¬11)، وهذا عَدْله وقضاؤه فـ {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ ¬
وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] فسبحان مَنْ أفاض على عباده النعمة، وكَتَب على نفسه الرحمة، وأودع الكتابَ الذي كتبَه، أنَ رحمتَه تغلب غضبه، وتبارك (¬1) مَنْ له في كل شيء على ربوبيته ووحدانيته وعلمه وحكمته أعْدَلُ شاهد، ولو لم يكن إلَّا أنْ فاضَلَ بين عباده في مراتِب الكَمَال (¬2)، حتى عَدَل (¬3) الآلافَ المؤلَّفَةَ منهم بالرجل الواحد، ذلك ليُعلِم عباده أنه أنزل التوفيقَ مَنَازِلَه، ووضع الفضلَ مواضعه، وأنه يختصُّ برحمته مَنْ يشاء وهو العليم الحكيم، وأن الفضل بِيَدِ اللَّه يؤتيه من يشاء، واللَّه ذو الفضل العظيم. أحمدُه -والتوفيقُ للحمد من نعمه-، وأشكره -والشكرُ كفيلٌ بالمزيد من فضله [وكرمه] (¬4) وقَسْمِه-، وأستغفره، وأتوب إليه من الذنوب التي توجب زَوَالَ [نعمه، وحلول نقمه] (¬5). وأشهد أنْ لا إله إلا اللَّه -وحده لا شريك له-، كلمة قامت بها الأرض والسماوات، وفَطَر اللَّه عليها جميعَ المخلوقات، وعليها أُسِّسَتِ الملة، ونُصِبت القِبلة، ولأجلها جُرّدت سيوف الجهاد، وبها أمر اللَّه سبحانه جميعَ العباد؛ وهي (¬6) فطرة اللَّه التي فطر الناس عليها، ومفتاحُ عُبُوديته التي دعا الأمم على ألسن رُسُله إليها، وهي كلمة الإسلام، ومفتاح دار السَّلام، وأساس الفرض والسُّنَّة، ومَنْ كان آخر كلامه: لا إله إلا اللَّه؛ دخَل الجنة. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وخِيرَتُه (¬7) من خلقه، وحجته على عباده، وأمِينُه على وَحْيه، أرسله رحمةً للعالَمين، وقُدوةً للعالِمين (¬8)، ومَحَجَّةً للسالكين، وحُجَّةً على المعَاندين، وحَسْرةً على الكافرين. أرسله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى اللَّه بإذنه وسراجًا منيرًا، وأنعم به على أهل الأرض نعمةً لا يستطيعون لها شُكورًا، فأَمدَّه بملائكته المُقَرَّبين (¬9)، وأيَّده بنصره وبالمؤمنين، وأنزل عليه كتابه المبين، الفارقَ بين الهُدَى والضلال، [والغي والرشاد] (¬10)، والشك واليقين، فشرَحَ ¬
[أشرف العلوم ومن أين يقتبس]
[اللَّه] (¬1) له صَدْره، ووضع عنه وِزْرَه، ورفَع له ذِكْره، وجعل الذِّلَّة (¬2) والصَّغَار على مَنْ خالف أمره، وأقْسَم بحياته في كتابه المبين، وقَرَن اسمَه باسمه، فإذا ذُكر: ذكر معه -كما في الخُطَب والتَّشَهُّد والتأذين-، وافترض على العباد طاعَتَه ومحبته والقيام بحقوقه، وسَدَّ الطرق كلها إليه وإلى جنته؛ فلم يفتح لأحد إلا من طريقه؛ فهو الميزان الراجح الذي على أخلاقه وأقواله وأعماله تُوزَن الأخلاق والأقوال والأعمال، والفُرْقَانُ المُبين الذي باتِّباعه تميز (¬3) أهل الهدى من أهل الضلال. ولم يَزَلْ -صلى اللَّه عليه وسلم- مُشَمِّرًا في ذات اللَّه -تعالى- لا يرده عنه رادٌّ، صادعًا بأمره لا يصده عنه صادٌّ، إلى أن بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونَصَح الأمة، وجاهد في اللَّه حق الجهاد، فأشرقت برسالته الأرضُ بعد ظُلُماتها، وتألفت به القلوبُ بعد شَتاتها، وامتلأت به الأرضُ (¬4) نورًا وابتهاجًا، ودخل الناسُ في دين اللَّه أفواجًا، فلما أكمل اللَّه -تعالى- به الدين، وأتم به النعمة على عباده المؤمنين، استأثر به ونَقَله إلى الرفيق الأعلى، والمحلِّ الأسْنى، وقد ترك أمته على المحجة البيضاء، والطريق الواضحة الغراء، فصلَّى اللَّه، وملائكتُه، وأنبياؤه، ورسُلُه، والصالحون من عباده عليه [وآله] (¬5) -كما وحَّد اللَّه، وعرّف به، ودعا إليه- وسلم تسليمًا كثيرًا. [أشرف العلوم ومن أين يقتبس] أما بعد: فإن أولى ما يَتَنافَسُ (¬6) فيه (¬7) المتنافسون، وأحْرَى [ما يتسابق] (¬8) في حَلْبة (¬9) سِباقه المتسابقون (¬10): ما كان بسعادة العبد في مَعَاشه ومَعَاده كَفيلًا، وعلى طريق هذه السعادة دليلًا، وذلك العِلْم النافعُ، والعمل الصالح، اللذان (¬11) لا سعادَةَ للعبد إلا بهما، ولا نجاة (¬12) له إلا بالتعلُّقِ بسببهما، فَمَنْ رُزِقَهما: فقد ¬
[نوعا التلقي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-]
فاز وغنم، ومن حُرِمَهما: فالخيرَ كله حُرِم، وهما مورد انقسام العباد إلى مرحوم ومحروم، وبهما يتميز البر من الفاجر، والتقي من الغَوِيّ، والظالم من المظلوم. ولما كان العلم للعمل قرينًا وشافعًا، وشَرَفُه لشرف معلومه تابعًا، كان أشرفُ العلوم على الإطلاق علْمَ التوحيد، وأنفعها على أحكام [أفعال] (¬1) العبيد، ولا سبيل إلى اقتباس هذين النورين، وتلقي هذين العِلْمين؛ إلا من مِشْكَاة مَنْ قامت الأدلة القاطعة على عِصْمَته، وصَرَّحت الكتبُ السماوية بوجوب طاعته ومُتَابعته، وهو: الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 4]. [نوعا التلقي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] ولما كان التَّلَقِّي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- على نوعين: نوع بواسطة، ونوع بغير واسطة، وكان التَّلقي بلا واسطة حظَّ أصحابه الذين حازوا قصبات (¬2) السِّباق، واستولَوْا على الأمد (¬3)، فلا مَطْمَع (¬4) لأحد من الأمة بعدهم في اللحاق، ولكن المُبرِّز: من اتبع صراطهم (¬5) المستقيم، واقتفى منهاجهم القويم، والمتخلِّف: مَنْ عدل عن طريقهم ذات اليمين وذات الشمال؛ فذلك المنقطع التائه في بَيْداء المهالك والضلال. [ما كان عليه الصحابة من علم وعمل] فأي خَصْلة خير لم يسبقوا إليها؟ وأيّ خطَّة رُشدٍ لم يستولوا عليها؟ تاللَّه لقد وَرَدُوا رأسَ الماء من عين الحياة عَذْبًا صافيًا زُلالًا، وأطَّدوا (¬6) قواعد الإسلام فلم يَدَعُوا لأحد بعدهم مَقَالًا، فتحوا القلوب [بِعَدْلهم] (¬7) بالقرآن والإيمان، والقُرَى بالجهاد بالسيف (¬8) والسِّنان، وألْقَوا إلى التابعين ما تلقوه من مِشْكاة النبوة خالصًا صافيًا، وكان سَنَدُهم فيه عن نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، عن جبريل، عن رب العالمين ¬
[وقوف الأئمة والتابعين مع الحجة والاستدلال]
سَنَدًا صحيحًا (¬1) عاليًا، وقالوا: هذا عَهْدُ نبينا إلينا، وقد عهدنا (¬2) إليكم، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا، وهي وصيته وفرضه عليكم، فَجَرَى التابعون لهم بإِحسان على منهاجهم (¬3) القويم، واقْتَفَوْا على آثارهم صراطَهم المستقيم، ثم سلك تابعو التابعين هذا المسلك الرشيد، {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} (¬4) [الحج: 24]، وكانوا بالنسبة إلى مَنْ قبلهم -كما قال أصدق القائلين-: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14]. [وقوف الأئمة والتابعين مع الحجة والاستدلال] [ثم جاءت الأئمة من القرن الرابع المُفَضَّل (في إحدى الروايتين)، كما ثَبَتَ في "الصحيح"] (¬5) من حديث أبي سعيد، وابن مسعود، وأبي هريرة، وعائشة، وعِمْرَان بن حُصَين (¬6)، فسلكوا على آثارهم اقتصاصًا، واقتبسوا هذا ¬
[ليس المتعصب من العلماء]
الأمرَ من (¬1) مشكاتهم اقتباسًا، وكان دين اللَّه -سبحانه- أجَلَّ في صدورهم، وأعْظَمَ في نفوسهم، من أن يقدِّموا عليه رأيًا أو معقولًا أو تقليدًا أو قياسًا، فطار لهم الثناء الحسنُ في العالمين، وجعل اللَّه -سبحانه- لهم لسان صِدْقٍ في الآخرين، ثم سار على آثارهم الرَّعِيلُ الأول من اْتباعهم، ودَرَجَ على منهاجهم الموفَّقُون من أشياعهم، زاهدين في التعصب للرجال، واقفين مع الحجة والاستدلال، يَسيرون مع الحق أين سارت ركائبُه، ويستقلون مع الصواب حيث استقلت مَضَاربه، إذا بَدَا لهم الدليلُ باخذته (¬2) طاروا إليه زَرَافاتٍ ووُحْدانًا (¬3)، وإذا دعاهم الرسولُ إلى أمر انتدبوا إليه (¬4)، ولا يسألونه على ما قال برهانًا (¬5)، ونصوصه أجلّ في صدورهم، وأعظم في نفوسهم من أن يقدموا عليها قولَ أحدٍ من الناس، أو يُعَارضوها برأيٍ أو قياس. [ليس المتعصب من العلماء] ثم خَلَفَ من بعدهم خُلُوف، {فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ ¬
[العلماء ورثة الأنبياء]
فَرِحُونَ} [الروم: 22] تقطعوا أمرهم بينهم زبرًا، وكلٌّ إلى ربهم راجعون وجَعَلوا (¬1) التعصُّبَ للمذاهب ديانتَهم (¬2) التي بها يَدِينون، ورؤوسَ أموالهم التي بها يَتَّجرون، وآخَرُون منهم قَنَعُوا بِمَحْض التقليد؛ وقالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، والفريقان بمَعْزَلٍ عما ينبغي اتباعه من الصواب، ولسان الحق يتلو عليهم: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} [النساء: 123]؛ قال الشافعي -قدس اللَّه تعالى روحه-: "أجمع المسلمون على أن مَنْ استبانت له سنةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ لم يكن له أن يَدَعَها لقول أحدٍ من الناس"، وقال أبو عمر (¬3) وغيره من العلماء: أجمع الناسُ على أن المقلِّد ليس معدودًا من أهل العلم، وأنَّ العلم معرفَةُ الحق بدليله. وهذا كما قال أبو عمر -رحمه اللَّه [تعالى] (¬4) -؛ فإن الناس لا يختلفون أن العلم: هو المعرفة الحاصلة عن الدليل، وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد (¬5). فقد تضمَّن هذان الإجماعان: إخراجَ المتعصب بالهوى؛ والمقلد الأعمى عن زمرة العلماء، وسقوطهما باستكمال مَنْ فوقهما الفروض من وراثة الأنبياء. [العلماء ورثة الأنبياء] " فإن العلماء هم ورثة الأنبياء، فإن الأنبياء لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثُوا العلم، فمن أخذه أخَذَ بحظٍّ وافر" (¬6)، وكيف يكون من ورثة ¬
[فتنة التعصب والمتعصبين]
الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من يجهد ويكدح في ردِّ ما جاء به إلى قول مُقَلَّده ومتبوعه، ويُضيِّع [عليه] (¬1) ساعات عمره في التعصب والهوى، ولا يشعر بتضييعه!؟ [فتنة التعصب والمتعصبين] تاللَّه إنها فتنة عَمَّت فأَعْمَتْ، وَرَمَتِ القلوب فأصْمَتْ (¬2)، رَبَى عليها الصغير، وَهَرِمَ فيها الكبير، واتخذ (¬3) لأجلها القرآن مهجورًا، وكان ذلك بقضاء اللَّه وقَدَره في الكتاب مسطورًا، ولما عمَّت بها البليَّة، وعظمت بسببها (¬4) الرزيَّة، بحيث لا يعرفُ أكْثَرُ الناس سواها ولا يعدُّونَ العلم إلا إياها، فطالِبُ الحق من مَظَانِّه (¬5) لديهم مَفْتون، مُؤْثِره (¬6) على ما سواه عندهم مَغْبُون، نَصَبوا لمن خالفهم في طريقتهم (¬7) الحَبائل، وبَغَوْا له الغوائل، ورَمَوْه عن قوس الجهل والبغي والعناد, وقالوا لإخوانهم: {إِنِّي أَخَافُ (¬8) أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26]. فحقيقٌ بِمَنْ لنفسه عنده قَدْرٌ وقيمَة، ألَّا (¬9) يلتفت إلى هؤلاء، ولا يرضى لها بما لديهم، وإذا رُفِعَ له علم السنة النبوية شَمَّرَ إليه، ولم يَحْبِسْ نفسَه عليهم، فما هي إلا ساعة حتى يُبَعْثَر ما في القبور، ويحصَّل ما في الصدور، وتتساوى أقدام الخلائق في القيام للَّه، وينظر [كل عبد ما قدَّمت يداه، ويقع التمييز بين المحقّين والمُبْطِلين، ويعلم المعرضون عن كتاب ربهم] (¬10)، وسنة نبيهم؛ أنهم كانوا كاذبين. ¬
فصل [علماء الأمة على ضربين]
فصل [علماء الأمة على ضَربين] ولما كانت الدعوةُ إلى اللَّه [-عز وجل-] (¬1)، والتبليغ عن رسوله، [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (1) شِعَار حزبه المُفْلِحين، وأتباعه من العالمين، كما قال -تعالى-: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108]، وكان التبليغ عنه نوعين (¬2): تبليغ ألفاظ ما (¬3) جاء به، وتبليغ معانيه؛ كان العلماءُ من أمته منحصرين في قسمين: أحدهما: حُفَّاظ الحديث وجَها بذته، ونقَّاده (¬4) الذين هم أئمة الأنام، وزوامل الإسلام، الذين حفظوا على الأمة (¬5) مَعَاقد الدين ومَعَاقله، وحَمَوْا من التغيير والتكدير مواردَه وَمناهله، حتى وَرَدَ مَنْ سَبَقَتْ له من اللَّه الحسنى تلك المناهِلَ صافية من الأدناس لم تَشُبْها الآراء تغييرًا، ووردوا فيها (¬6) {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6]، وهم الذين قال فيهم الإمام أحمد بن حنبل [-قدس اللَّه روحه-] (1) في خطبته المشهورة، في كتابه [في] (1) "الرد على الزنادقة والجهمية" (¬7): "الحمدُ للَّه الذي جعل في كل زمان فترةٍ من الرسل، بقايا من أهل العلم يَدْعُونَ من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحْيُونَ بكتاب اللَّه -تعالى (¬8) - الموتى، ويبصّرون بنِور اللَّه أهلَ العَمَى، فكم من قتيل لإبليس قد أَحْيَوْهُ؟ وكم من ضال تائه قد هَدَوْه؟ فما أَحْسَنَ أَثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم! يَنْفُون عن كتاب اللَّه تحريف الغالينَ، وانتحالَ المبطلين، وتأَويلَ الجاهلين، الذين عقدوا أَلْوِيَةَ البدعةِ، وأطلقوا عِنان (¬9) الفتنة فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على اللَّه، وفي اللَّه، وفي كتاب اللَّه بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، وَيخْدَعُون جُهال الناس بما يُشَبهون عليهم؛ فنعوذ باللَّه من فتنة المُضِلِّينَ" (¬10). ¬
فصل [فقهاء الإسلام ومنزلتهم]
فصل [فقهاء الإسلام ومنزلتهم] القسم الثاني: فُقَهاء الإسلام (¬1)، ومَنْ دارت الفُتْيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خُصُّوا باستنباط الأحكام، وعُنُوا بضَبْط قواعد الحلال والحرام؛ فهم في الأرض بمنزلة النجوم في السماء، بهم يهتدي الحيران في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب، وطاعتهم أَفْرَضُ عليهم من طاعة الأمهات والآباء؛ بنص الكتاب، قال اللَّه -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. [من هم أولوا الأمر] قال عبد اللَّه بن عباس في إحدى الروايتين عنه، وجابرُ بن عبد اللَّه، والحسنُ البَصْري، وأبو العَالية، وعَطاء بن أبي رَبَاح، والضَّحاك، ومجاهد [ابن جبر] (¬2) في إحدى الروايتين عنه: أولو الأمر همُ العُلماء، وهو إحدى الروايتين عن [الإمام] (¬3) أحمد، [و] (¬4) قال أبو هريرة، وابن عباس في الرواية الأخرى، وزيد بن أسلم، والسُّديُّ، ومُقَاتل: هم الأمراء، وهو الرواية الثانية عن أحمد (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[طاعة الأمراء تابعة لطاعة العلماء]
[طاعة الأمراء تابعة لطاعة العلماء] والتحقيق أن الأمراء إنما يُطَاعون إذا أَمَرُوا بمقتضى العلم؛ فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، فإن الطاعة إنما تكون في المعروف، [وما أوجبه العلم] (¬1)، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول، فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، ولما كان قيام الإسلام بطائفتي العلماء والأمراء، وكان الناس كلهم لهم تبعًا، كان صلاحُ العالم بصلاح هاتين الطائفتين، وفساده بفسادهما، كما قال عبد اللَّه بن مبارك، وغيره من السلف: صنفان من الناس إذا صلحا (¬2) صلح الناس، وإذا فسدا (¬3) فسد الناس، قيل: من هم؟ قال: الملوك، والعلماء (¬4)، وقال (¬5) عبد اللَّه بن مبارك (¬6): رأيْتُ الذنوبَ تُمِيتُ القلوبَ ... وقد يورث الذُّلَّ إدْمانُهَا وتَرْكُ الذنوبِ حياةُ القلوب ... وخَيْرٌ لنفسِكَ عِصْيَانُها وهل أفسد الدينَ إلا الملوكَ ... وأحْبارُ سوءٍ ورُهْبَانُهَا فصل [ما يشترط فيمن يوقع عن اللَّه ورسوله أو صفات المبلغين عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-] ولما كان التبليغُ عن اللَّه -سبحانه- يعتمد العلم بما يبلغ، والصدقَ فيه، لم تصلح مرتبة التبليِغ بالرواية والفُتْيَا؛ إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالمًا بما يُبلِّغ، صادقًا فيه، ويكون مع ذلك حَسَنَ الطريقة، مرضِيَّ السيرة، عدلًا في أقوالِه وأفعاله، متشابه السِرِّ والعلانية في مَدْخله ومَخَرْجه وأحواله؛ وإذا كان ¬
فصل [أول من وقع عن الله هو الرسول أو منصب النبي -صلى الله عليه وسلم- في التبليغ والإفتاء]
مَنْصِبُ التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنْكَر فضله، ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السّنيات، فكيف [بمنصب التوقيع] (¬1) عن رب الأرض والسماوات؟. فحقيقٌ بمن أقِيمَ في هذا المنصب أن يُعِدَّ له عُدَّته، وأن يتأهب له أهْبَتَه، وأن يعلم قَدْرَ المقام الذي أُقيمَ فيه، ولا يكون في صدره حرج من قول الحق والصَّدْع به؛ فإن اللَّه ناصرُه وهاديه، وكيف (¬2) وهو المنصب الذي تولَّاه بنفسه ربُّ الأرباب؛ فقال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127]، وكفى بما تولاه اللَّه (تعالى- بنفسه) (¬3) شرفًا وجلالةً؛ إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176]، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه (¬4)، وليُوقِنْ أنه مسئول غدًا ومَوْقُوف بين يدي اللَّه. فصل [أول من وَقَّع عن اللَّه هو الرسول أو منصبُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في التبليغ والإفتاء] وأول من قام بهذا المنصب الشريف: سيد المرسلين، وإمام المتقين، وخَاتَم النبيين، عبدُ اللَّه ورسوله، وأمينه على وَحْيه، وسفيره بينه وبين عباده؛ فكان يُفتي عن اللَّه بوَحْيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص: 86]. فكانت فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- جوامعَ الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب، وهي في وجوب اتِّبَاعها، وتحكيمها، والتحاكم إليها ثانية الكتاب، وليس لأحدٍ من المسلمين العُدُولُ عنها ما وجَدَ إليها سبيلًا، وقد أمر اللَّه عباده بالرَّدِّ إليها (¬5) حيث يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]. فصل [الأصحاب -رضي اللَّه عنهم- الذين قاموا بالفتوى بعده -صلى اللَّه عليه وسلم-] ثم قام بالفتوى بَعْده بَرْكُ (¬6) الإسلام، وعِصَابة الإيمان، وعَسْكر القرآن، ¬
[المكثرون للفتوى من الصحابة]
وجند الرحمن، أولئك أصحابه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أَبرُّ (¬1) الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، وأحسنها بيانًا، وأصدقها إيمانًا، وأعمها نصيحةً، وأقربها إلى اللَّه وسيلة، وكانوا بين مُكْثِر منها ومُقِلٍّ ومتوسط. [المكثرون للفتوى من الصحابة] والذين حُفِظَتْ عنهم الفتوى من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) مئة ونَيِّف وثلاثون نفسًا، ما بين رجل وامرأة، وكان المكثرون منهم سبعة: عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وعبد اللَّه بن مسعود، وعائشة أم المؤمنين، وزيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عَبَّاس، وعبد اللَّه بن عمر. قال أبو محمد بن حَزْم (¬3): ويمكن أن يُجمع من فتوى كُلِّ واحد منهم سِفْر ضخم. قال: وقد جمع أبو بكر محمد بن موسى بن يعقوب بن أمير المؤمنين المأمون فُتْيَا عبد اللَّه بن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬4) - في عشرين كتابًا. وأبو بكر [محمد] (¬5) المذكور أحدُ أئمة الإسلام في العلم والحديث. [المتوسطون في الفتيا منهم] قال أبو محمد: والمتوسطون منهم فيما رُوي عنهم من الفُتيا: أبو بكر ¬
[المقلون من الفتيا منهم]
الصِّدِّيق، وأُمُّ سَلَمة، وأنسُ بن مالك، وأبو سعيد الخُدْري، وأبو هريرة، وعثمان بن عَفَّان، وعبد اللَّه بن عَمْرو بن العَاص، وعبد اللَّه بن الزُّبير، وأبو موسى الأشْعريّ، وسعد بن أبي وَقَّاص، وسَلْمان الفارسيّ، وجابر بن عبد اللَّه، ومعاذ بن جَبَل؛ فهؤلاء ثلاثة عشر يمكن أن يُجمع من فُتيا كل واحد منهم (¬1) جزءٌ صغير جدًّا، ويُضَاف إليهم: طَلْحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عَوْف، وعِمْرَان بن حُصَين، وأبو بَكْرة، وعُبَادة بن الصَّامِت، ومعاوية بن أبي سفيان. [المقلون من الفتيا منهم] والباقون منهم مُقِلُّون في الفتيا، لا يُروى عن الواحد منهم إلا المسألة والمسألتان (¬2)، والزيادة اليسيرة على ذلك؛ يمكن أن يُجمع من فتيا جميعهم جزءٌ صغير فقط، بعد التقصّي والبحث، وهم: أبو الدَّرْداء، وأبو اليُسر، وأبو سَلَمَة المخزوميّ، وأبو عُبَيدة بن الجَرَّاح، وسعيد بن زيد، والحسن والحسين ابنا علي، والنُّعمان بن بشير، وأبو مَسْعود، وأبيّ بن كعب، وأبو أيوب، وأبو طلحة، وأبو ذَرّ، وأم عطيّة، وصفية أم المؤمنين، وحَفْصة، وأم حبيبة، وأسامة بن زيد، وجعفر بن أبي طالب، والْبَرَاء بن عازب، وقُرَظة بن كعب، ونافع أخو أبي بكرة لأمه، والمِقْدَاد بن الأسود، وأبو السَّنابل، والجارود العَبْدي (¬3)، وليلى بنت قائِف، وأبو مَحْذُورة، وأبو شُرَيْح الكَعْبي، وأبو بَرْزَة الأسلمي، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شَريك، والحَوْلاء (¬4) بنت تُوَيْت (¬5)، وأُسيد بن الحُضير، والضَّحاك بن قَيْس، وحبيب بن مَسْلمة، وعبد اللَّه بن أنيس، وحُذَيفة بن الْيَمَان، وثُمامة بن أَثال، وعَمَّار بن ياسر، وعمرو بن العاص، وأبو الغَادية (¬6) السُّلَمي، وأم الدرداء الكبرى، والضحاك بن خليفة المازني، والحكم بن عمرو الغفاري، ووابصة بن ¬
مَعْبد الأسدي، وعبد اللَّه بن جعفر [البرمكي] (¬1)، وعَوْف بن مالك، وعديّ بن حاتم، وعبد اللَّه بن أبي أوفى، وعبد اللَّه بن سَلَام، وعمرو بن عَبَسة، وعَتَّاب بن أَسيد، وعثمان بن أبي العاص، وعبد اللَّه بن سَرْجِس، وعبد اللَّه بن رَوَاحة، وعَقيل بن أبي طالب، وعائذ بن عمرو، وأبو قَتَادة، [و] (¬2) عبد اللَّه بن معمر العَدوي (¬3)، [وعُمير بن سعد] (¬4)، وعبد اللَّه بن أبي بكر الصديق، وعبد الرحمن أخوه، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وعبد اللَّه بن عَوْف الزهري، وسعد بن مُعاذ، وسعد بن عُبادة، وأبو مُنيب، وقيس بن سعد، وعبد الرحمن (¬5) بن سهل، وسَمُرَة بن جُنْدُب، وسهل بن سعد الساعدي، ومعاوية (¬6) بن مُقَرن، وسويد بن مُقَرِّن، ومعاوية بن الحكم، وسَهْلة بنت سهيل، وأبو حذيفة بن عتبة، وسَلَمة بن الأكْوَع، وزيد بن أرقم، وجَرير بن عبد اللَّه البَجَلي، وجابر بن سَمُرَة (¬7)، وجُوَيْرِية أم المؤمنين، وحسَّان بن ثابت، وحبيب بن عدي، وقُدَامة بن مَظْعون، وعثمان بن مظعون، وميمونة أم المؤمنين، ومالك بن الحُويرث، وأبو أُمامة الباهليّ، ومحمد بن مسلمة، وخَبَّاب بن الأرَتّ، وخالد بن الوليد، وضمرة بن [العِيص] (¬8)، وطارق بن شهاب، وظُهَيْر بن رافع، ورافع بن خَديج، وسيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬9)، وفاطمة بنت قيس، وهشام بن حكيم بن حِزَام، وأبوه حكيم بن حزام، وشُرَحْبِيل بن السِّمْط، وأم سلمة، ودِحْيَة بن خليفة الكلبي، وثابت بن قيس بن الشَّمَّاس، وثَوْبَان مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، [وسُرّق]، ¬
والمغيرة بن شعبة (¬1)، وبُريدة بن الحُصَيْب (¬2) الأسلمي، ورُوَيْفَع بن ثابت، وأبو حميد، وأبو أُسيد، وفَضَالة بن عُبيد، وأبو محمد روينا عنه وجوب الوتر -قلت: [أبو محمد] (¬3) هو مسعود بن أوس الأنصاري، نَجَّاري بَدْري (¬4) - وزَيْنب بنت أم ¬
فصل [الصحابة سادة العلماء وأهل الفتوى]
سلمة، وعتبة بن مسعود، وبلال المؤذّن، وعَرَفة (¬1) بن الحارث، وسَيَّار بن رَوْح أو روح (¬2) بن سيار (¬3)، وأبو سعيد بن المُعلَّى، والعباس بن عبد المطلب، وبُسر بن [أبي] (¬4) أرْطَاة، وصهَيب بن سنان، وأم أيمن، وأم يوسف، والغامدية، ومَاعِز، وأبو عبد اللَّه البصري (¬5). فهؤلاء مَنْ نُقِلَتْ عنهم الفتوى من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[صريحة] (¬6)، [وما أدري بأيّ] (¬7) طريق عَدَّ معهم أبو محمد [بن حزم] (¬8): الغامدية وماعزًا، ولعله تخيَّل أن إقدامهما على جواز الإقرار بالزنا؛ من غير استئذان لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ذلك هو فتوى لأنفسهما بجواز الإقرار، وقد أُقِرَّا عليها (¬9)، فإن كان تَخَيَّلَ هذا فما أَبْعَدَهُ من خيال، أو لعله ظفر عنهما بفتوى في شيء من الأحكام. فصل [الصحابة سادة العلماء وأهل الفتوى] وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها فهم سادات المفتين والعلماء. قال الليث، عن مجاهد: العلماء أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال سعيد، عن قتادة في قوله -تعالى-: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6] قال: أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬10)، [وقال -تعالى-: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ ¬
[أعظم الصحابة علما]
إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16] [قالوا] (¬1): (فالذين أوتوا) العلم: أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2). [أعظم الصحابة علمًا] وقال يزيد بن عَميرة، لما حضر معاذَ بن جبل الموتُ؛ قيل: يا أبا عبد الرحمن! أوْصِنَا، قال: أجلسوني، إن العلم والإيمان مكانهما مَنْ ابتغاهما وَجَدَهما، يقول ذلك ثلاث مرات، التمسوا (¬3) العلم عند أربعةِ رهطٍ: عند عُويمر أبي الدرداء (¬4)، وعند سَلْمان الفارسي، وعند عبد اللَّه بن مسعود، وعند عبد اللَّه بن سَلَام (¬5). وقال مالك بن يَخَامِرَ: لما حضرت [معاذًا] (¬6) الوفاةُ بكيتُ، فقال: ما يُبكيك؟ قلت: واللَّه ما أبكي على دنيا [كنت] (¬7) أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللَّذَيْن كنت أتعلمهما منك، فقال: إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعةٍ، فذكر هؤلاء الأربعة، ثم قال: فإن عجز عنه هؤلاء فسائر أهل الأرض عنه أعْجَزُ، فعليك بمعلِّم إبراهيم (¬8)، قال: ¬
فما نزلت بي مسألة عجزت عنها إلا قلت: يا معلم إبراهيم (¬1). وقال أبو بكر بن عَيَّاش، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، قال: قال عبد اللَّه: علماء الأرض ثلاثة: فرجل بالشام، وآخر بالكوفة، وآخر بالمدينة، فأما هذان فيَسْألان الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء (¬2). وقال الشعبي: ثلاثة يَسْتفتي بعضُهُم من بَعْض [وثلاثة يستفتي بعضهم من بعض] فكان [عمر وعبدُ اللَّه وزيد بن ثابت يَستفتي بعضهم من بعض، وكان] عليّ وأُبيّ بن كعب وأبو موسى الأشعري يستفتي بعضهم من بعض، قال الشَّيباني: فقلت للشعبي: وكان أبو موسى بذاك؟ فقال: ما كان أعلمه، قلت: فأين معاذ؟ فقال: هلك قبل ذلك (¬3). وقال أبو البَخْتَري: قيل لعلي بن أبي طالب: حَدِّثنا عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: عن أَيِّهم؛ قالوا: عن عبد اللَّه بن مسعود، قال: قرأ القرآن، وعَلِم السُّنة، ثم انتهى، وكفاه بذلك. قالوا (¬4): فحدثنا عن حُذَيفة؛ قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين. قالواة فأبو ذر، قال: كُنَيِّف (¬5) مَليء علمًا عُجن فيه (¬6). قالوا: فعمار، قال: مؤمِنٌ نَسِيٌّ؛ إذا ذكرته ذكر، خَلَط [اللَّه] (¬7) الإيمان بلَحْمه (¬8) ودمه، ليس للنار فيه نصيب. قالوا: فأبو موسى قال: صبغ في العلم ¬
صبغة. قالوا: فسَلْمان، قال: علم العلم الأوَّل والآخِر، بَحْرٌ لا ينزح (¬1)، منا أهل البيت. قالوا؛ فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين، قال: إياها أردتم (¬2)، كنت إذا سُئِلْتُ أَعْطَيْت (¬3)، وإذا سكتُّ ابْتُدِيت (¬4). وقال مُسلم، عن مَسْروق؛ شامَمَت (5) أَصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: إلى علي، وعبد اللَّه، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبيّ ابن كعب، ثم شاممت (¬5) الستة فوجدت علمهم انتهى إلى عليّ وعبد اللَّه (¬6). وقال مسروق أيضًا: جالستُ أصحابَ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فكانوا كالإخَاذِ (¬7) الإخاذة ¬
تَروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة تروي العَشَرة (¬1)، والإخاذة لو نزل بها أهلُ الأرض لأصدرتهم (¬2)، وإن عبد اللَّه من تلك الإخاذ (¬3). وقال الشَّعبي: إذا اختلف الناسُ [في شيء] (¬4)؛ فخذوا بما قال عمر (¬5). وقال ابن مسعود: إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم (¬6). وقال أيضًا: لو أنَّ عِلْمَ عمر وضع في كِفَّة (¬7) الميزان ووُضع علم أهل الأرض في كِفَةٍ؛ لرجَحَ علم عمر (¬8). وقال حذيفة: كأَنَّ عِلْم الناس مع علم عمر دُسَّ في جحر (¬9). ¬
وقال الشعبي: قُضَاة هذه الأمة [أربعة]: عمر، وعلي، وزيد، وأبو موسى (¬1). وقال سعيد بن المسيب: كان عمر يتعوذ [باللَّه] (¬2) من مُعْضِلةٍ ليس لها أبو حسن (¬3). وشهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن مسعود بأنه غُلَيِّمٌ (¬4) مُعَلَّم (¬5)، وبدأ به في ¬
قوله: "خُذُوا القرآن من أربعة: من ابن أم عَبْد (¬1)، ومن أبي بن كعب، ومن سالم مولى أبي حذيفة، ومن معاذ بن جبل" (¬2). ولما ورد أهل الكوفة على عمر أجازهم، وفَضَّلَ أهلَ الشام عليهم في الجائزة، فقالوا: يا أمير المؤمنين تفضل أهل الشام علينا؟ فقال: يا أهل الكوفة أجزعتم أنْ فَضَّلت أهل الشام عليكم لبعد شُقَّتهم وقد آثرتكم بابن أم عَبْد؟ (¬3). وقال عقبة بن عمرو: ما أرى أحدًا أعلم بما أنزل [اللَّه] (4) على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من عبد اللَّه [بن مسعود] (¬4)، فقال أبو موسى: إنْ تَقُلْ ذلك فإنه كان يَسْمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل (¬5). ¬
وقال عبد اللَّه: ما أُنزلت سورة إلا وأنا أَعلم فيمَ (¬1) أُنزلت، ولو أني أعلم أن رجلًا أعلم بكتاب اللَّه مني تبلغه الإبل لأتيته (¬2). وقال زيد بن وهب: كنت جالسًا عند عمر فأقبل عبد اللَّه فدنا منه، فأكبَّ عليه وكَلَّمه بشيء، ثم انصرف، فقال عمر: كُنَيِّفٌ مليء علمًا (¬3). وقال الأعمش، عن إبراهيم: إنه كان لا يَعْدل (¬4) بقول عمر وعبد اللَّه إذا اجتمعا، فإذا اختلفا كان قول عبد اللَّه أعْجَبَ إليه؛ لأنه كان ألطف (¬5). وقال أبو موسى: لَمَجْلِسٌ كنت أجالسه عبدَ اللَّه أوْثَقُ في نفسي من عمل سَنَة (¬6). وقال عبد اللَّه بن ببريدة في قوله -تعالى (¬7) -: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، قال: هو عبد اللَّه بن مسعود (¬8). ¬
وقيل لمسروق: كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: واللَّه لقد رأيت الأحْبار (¬1) من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسألونها عن الفرائض (¬2). وقال أبو موسى: ما أشكل علينا أصحابَ محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثٌ قط؛ فسألناه عائشة إلا وجدنا عندها منه علمًا (¬3). وقال ابنُ سِيرين: كانوا يَرَوْنَ أن أعلمهم بالمناسك عثمان بن عفان، ثم ابن عمر بعده (¬4). وقال شهْر بن حَوْشب: كان أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا تحدثوا وفيهم مُعَاذ نظروا إليه هَيْبَةً له (¬5). وقال علي: أبو ذر أَوْعَى (¬6) علمًا، ثم أَوْكى (¬7) عليه، فلم يخرج منه شيئًا (¬8) حتى قُبض (¬9). وقال مسروق: قدمتُ المدينةَ فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم (¬10). ¬
[فضل ابن عباس]
وقال الجُرَيْري، عن أبي تَميمةَ: قدمنا الشام فإذا الناس مجتمعون يُطِيفون (¬1) برجل، قال: قلت: مَنْ هذا؟ قالوا: [هذا] (¬2) أفقه مَنْ بقي من أصحاب النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم-، هذا عمرو البِكَالي (¬4). وقال سعيد: قال ابن عباس -وهو قائم على قبر زيد بن ثابت-: هكذا يَذْهَب العلم (¬5). [فضلُ ابنِ عباس] وكان مَيْمون بن مِهْران إذا ذُكِر ابن عباس وابن عمر عنده؛ يقول: ابن عمر ¬
أوْرَعُهما، وابن عباس أعلمهما (¬1). وقال أيضًا: ما رأيت أفْقَه من ابن عمر، ولا أعْلَمَ من ابن عباس (1). وكان ابن سيرين يقول: اللهم أبْقِنِي ما أبقيتَ ابن عمر أقتدي به. وقال ابن عباس: ضَمَّنِي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: "اللهم علِّمه الحكمة"، وقال أيضًا: دعَانِي رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمَسحَ على ناصيتي، وقال: "اللهم علمه الحكمة، وتأويلَ الكتاب" (¬2). ولما مات ابن عباس قال محمد ابن الحنفيَّة: مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة (¬3). وقال عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتْبة: ما رأيت أحدًا أعلم بالسنة، ولا أجْلَد رأيًا، ولا أثقب نظرًا حين ينظر من ابن عباس (¬4)، وإن كان عمر بن الخطاب ¬
لَيَقُولُ له: قد طَرأتْ [علينا] عُضَلُ أقضيةٍ (¬1) أنتَ لها ولأمثالها (¬2). وقال عطاء بن أبي رَبَاح: ما رأيت مجلسًا قط أكرم من مجلس ابن عباس، أكثر فقهًا وأعظم، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن [عنده] (¬3)، وأصحاب الشعر عنده، يُصْدِرهم كلهم في وادٍ واسع (¬4). وقال ابنُ عَبَّاس: كان عمر بن الخطاب يسألني مع الأكابر من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5). وقال ابن مسعود: لو أنَّ ابن عباس أدرك أسناننا ما عَسَره (¬6) مِنَّا رجل (¬7). ¬
وقال مغيرة (¬1): قيل لابن عباس: أنَّى (¬2) أَصبتَ هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول (¬3). وقال مجاهد: كان ابن عباس يُسَمَّى البَحْر من كثرة علمه (¬4). وقال طاوس: أدركت نحوًا من خمسين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ذَكَر ابن عباس شيئًا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقرِّرُهم (¬5). ¬
وقيل لطاوس: أدركْتَ أصحابَ محمدٍ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم انقطعتَ إلى ابن عباس! فقال: أدركتُ سبعين من أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذا تَدَارَءُوا في شيء انتهوا إلى قول ابن عباس (¬1). وقال ابنُ أبي نَجيح: كان أصحاب ابن عباس يقولون: ابنُ عباسٍ أعلم من عُمر ومن عليّ ومن عبد اللَّه، ويعدون ناسًا، فيَثِبُ عليهم الناس، فيقولون: لا تَعْجَلوا علينا، إنه لم يكن أحد من هؤلاء إلا وعنده من العلم ما ليس عند صاحبه، وكان ابن عباس قد جَمَعه كُلَّه. وقال الأعمش: كان ابن عباس إذا رأيْتَه قلتَ: أجمل الناس، فإذا تكلَّم قلت: أفصح الناس، فإذا حدَّث قلت: أعلم الناس (¬2). وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا فَسَّر الشيء رأيت عليه النور (¬3). ¬
فصل [مكانة عمر بن الخطاب العلمية]
فصل [مكانة عمر بن الخطاب العلمية] قال الشعبي: مَنْ سَرَّه أن يأخذ بالوَثيقة في القضاء، فليأخذ بقول عمر (¬1). وقال مجاهد: إذا اختلف الناس في شيء فانظروا ما صنع عمر فخذوا به (¬2). وقال ابن المسيِّبِ: ما أعْلَم أحدًا بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعلم من عمر بن الخطاب (¬3). وقال أيضًا: كان عبد اللَّه يقول: لو سلك الناس واديًا وشِعْبًا، وسَلَك عمرُ واديًا وشعبًا، لسلكتُ وادي عمر وشِعْبَه (¬4). وقال بعض التابعين: دُفِعْتُ إلى عمر فإذا الفقهاء عنده مثل الصِّبيان، قد اسْتَعْلى عليهم في فقهه وعلمه (¬5). وقال محمد بن جَرير: لم يكن أحد له أصحاب معروفون حَرَّروا فُتْياه ومذاهبه (¬6) في الفقه غير ابن مسعود، وكان يترك مذهبه وقوله لقول عمر، وكان لا ¬
فصل [مكانة عثمان بن عفان العلمية]
يكاد يخالفه في شيء من مذاهبه، ويَرْجعُ من قوله إلى قوله (¬1). وقال الشعبي: كان عبد اللَّه لا يَقْنُت (¬2)، ولو قنت عمر لقَنَتَ عبدُ اللَّه (¬3) فصل [مكانة عثمان بن عفان العلمية] وكان من المُفْتِينَ عثمان بن عفان. قال ابن جرير: غير أنه لم يكن له أصحاب يعرفون (¬4)، والمبلغون عن عمر فُتياه ومَذَاهبه، وأحكامه في الدِّين بعده [كانوا] (¬5) أكثر من المبلغين عن عثمان والمؤدين عنه (¬6). [مكانة علي بن أبي طالب العلمية] وأما عليّ بن أبي طالب [عليه السلام] فانتشرت أحكامه وفتاواه (¬7)، ولكن (¬8) قاتلَ اللَّه الشيعة؛ فإنهم أفسدوا كثيرًا من علمه بالكذب عليه، ولهذا [تجد] (¬9) أصحاب الحديث من أهل الصحيح لا يعتمدون من حديثه وفتواه (¬10) إلا (¬11) ما كان من طريق أهل بيته، وأصحاب عبد اللَّه بن مسعود (¬12)، كعَبِيدة ¬
فصل [عمن انتشر الدين والفقه؟]
السَّلْماني، وشُريح وأبي وائل ونحوهم، وكان -رضي اللَّه عنه-[وكرم وجهه] (¬1) - يشكو عدم حَمَلَة العلم الذي أودِعَه، كما قال: إن ههنا علمًا لو أصبت له حملةَ. فصل [عمن انتشر الدين والفقه؟] والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد اللَّه بن عمر، وأصحاب عبد اللَّه بن عباس (¬2)؛ فعِلْمُ الناسِ عامَّتُه عن أصحاب هؤلاء الأربعة؛ فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت، وعبد اللَّه بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم (¬3) عن أصحاب عبد اللَّه بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد اللَّه بن مسعود. قال ابن جرير: وقد قيل: إن ابن عمر وجماعةً ممن عاش بعده بالمدينة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كانوا يُفْتُونَ بمذاهب زيد بن ثابت، وما كانوا أخذوا عنه، مما (¬4) لم يكونوا حفظوا فيه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قولًا. وقال ابن وَهْبٍ: حدثني موسى بن عُلَيّ اللَّخْمي، عن أبيه، أن عمر بن الخطاب خطب الناس بالجابية؛ فقال: مَنْ أراد أن يسأل عن الفرائض فَلْيَأْتِ ¬
[الآخذون عن عائشة]
زيدَ بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فَلْيَأْتِ مُعَاذ بن جَبَل، ومن أراد المال فليأتِنِي (¬1). [الآخذون عن عائشة] وأما عائشة فكانت مُقَدَّمةً في العلم بالفرائض (¬2)، والأحكام، والحلال، والحرام، وكان من الآخذين عنها -الذين لا يكادون يتجاوزون قولها، المتفقهين بها-: القاسمُ بن محمد بن أبي بكر، ابن أخيها، وعروةُ بن الزبير ابنُ أختها أسماء. قال مسروق: لقد رأيت [مَشْيَخة] (¬3) أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسألونها عن الفرائض (¬4). وقال عروة بن الزبير: ما جالستُ أحدًا قطُّ كان أعلم بقضاءِ ولا حديث الجاهلية (¬5)، ولا أَرْوى للشِّعر، ولا أعلم بفريضة ولا طِبٍّ من عائشة (¬6). ¬
فصل [من صارت إليه الفتوى من التابعين]
فصل [من صارت إليه الفتوى من التابعين] ثم صارت الفَتْوَى في أصحاب هؤلاء (¬1) كسعيد بن المسَيَّب راويةِ عُمر (¬2) وحاملِ علمه. قال جعفر بن ربيعة: قلت لعِرَاك بن مالك: مَنْ أفقه أهل المدينة؟ قال: أما أفقههم فقهًا، وأعلمهم بقضايا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقضايا أبي بكر، وقضايا عمر، وقضايا عثمان، وأعلمهم بما مضى عليه الناس فسعيد (¬3) بن المسيب؛ وأما أغزرهم حديثًا فعروة بن الزبير، ولا تشاء أن تَفْجُر من عبيد اللَّه [بن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود] (¬4) بحرًا إلا فَجرته. قال عراك: وأفقههم عندي ابنُ شهاب؛ لأنه جمع عِلمَهم إلى علمه (¬5). وقال الزهري: كنت أطلب العلم من ثلاثة: سعيد بن المسيب، كان أفقهَ الناس، وعروة بن الزبير وكان بحرًا لا تكدره الدِّلاء، وكنت لا تشاء أن تجد عند عبيد اللَّه طريقة من علم -لا تجدها عند غيره- إلا وجدت (¬6). وقال الأعمش: فقهاء [أهل] (¬7) المدينة [أربعة]: سعيد بن المسيب، وعُروة، وقَبيصة، وعبد الملك (¬8). ¬
[الفقهاء الموالي]
[الفقهاء الموالي] وقال عبد الرحمن بن زَيْد بن أسْلم: لما مات العَبَادِلة -عبدُ اللَّه بن عباس، [وعبدُ اللَّه بن عمر] (¬1)، وعبدُ اللَّه بن الزبير، وعبدُ اللَّه بن عَمْرو بن العاص-؛ صار الفقه في جميع البلدان إلى المَوالي؛ فكان فقيهَ أهل مكة: عَطَاء بن أبي رَبَاح، وفقيهَ أهل اليمن: طاوس، وفقيهَ أهل اليمامة: يحيى بن أبي كثير، وفقيهَ أهل الكوفة: إبراهيمُ، وفقيهَ أهل البصرة: الحسنُ، وفقيه أهل الشام: مكحولٌ، وفقيه أهل خُرَاسان، عطاء الْخُرَاساني، إلا المدينةَ فإن اللَّه خَصَّها بقرشي، فكان فقيهَ أهل المدينة سعيدُ بن المسيب غيرَ مُدَافَع. وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيَّب؛ قال: مررتُ بعبد اللَّه بن عمر، فسلَّمت عليه ومَضَيْتُ، قال: فالتفتَ إلى أصحابه؛ فقال: لو رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا لسَرَّه، فرفَع يديه [جدًّا وأشار بيده] (¬2) إلى السماء. وكان سعيد بن المسيَّب صِهْرَ أبي هريرة، زَوَّجه أبو هريرة ابنتَه، وكان إذا رآه قال: أسال اللَّه أن يجمع بيني وبينك في سوق الجنة (¬3)، ولهذا أكثر عنه من الرواية. فصل [فقهاء المدينة المنورة] وكان الْمُفْتونَ بالمدينة من التابعين: سعيد بن المسيب، وعُرْوة بن الزُّبير، والقاسم بن محمد، وخَارجة بن زيد، وأبا (¬4) بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن ¬
فصل [فقهاء مكة ومفتوها]
هشام، وسُليمان بن يَسَار، وعُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتْبة بن مسعود، وهؤلاء هم الفقهاء [السبعة] (¬1)، وقد نظمهم القائل، فقال (¬2): إذا قيل مَنْ في العلم سَبْعَة أَبْحُرٍ ... رِوَايتهم ليست عن العلم خَارِجَهْ فقل: هم عُبَيد اللَّه، عروة، قاسم، ... سعيدٌ، أبو بكرٍ، سُلَيْمان، خَارِجَهْ وكان من أهل الفتوى: أَبَانُ بن عثمان [بن عفان] (¬3)، وسالم [بن عبد اللَّه بن عمر الخطاب] (3) ونافع، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعلي بن الحسين. وبعد هؤلاء: أبو بكر بن محمد بن عَمْرو بن حَزْم، وابناه: محمد، وعبد اللَّه، وعبد اللَّه بن عَمرو (¬4) بن عثمان وابنه محمد، وعبد اللَّه والحسن (¬5) ابنا محمد ابن الْحَنَفِيَّة، وجعفر بن محمد بن علي، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن الْمُنْكَدِر، ومحمد ابن شهاب الزُّهْري، وجَمَعَ محمد بن نوح "فتاويه" في ثلاثة أسْفَار ضَخْمة على أبواب الفقه، وخَلْق سوى هؤلاء. فصل [فقهاء مكة ومفتوها] وكان المفتون بمكة: عَطَاء بن أبي رَبَاح، وطاوسُ بن كَيْسان، ومجاهد بن جبر، وعُبَيد (¬6) بن عُمَير، وعمرو بن دينار، وعبد اللَّه بن أبي مُلَيْكَة (¬7)، ¬
فصل [فقهاء البصرة]
وعبد الرحمن بن سَابِط، وعكرمة [مولى ابن عباس] (¬1). ثم [من] (¬2) بعدهم: أبو الزُّبير المكي، وعبد اللَّه بن خالد بن أَسِيد، وعبد اللَّه بن طاوس. ثم بعدهم: عبدُ الملك بن عبد العزيز بن جُرَيْج، وسُفْيان بن عُيَيْنَة، وكان أكثر فتواه (¬3) في المناسك، وكان يتوقف في الطلاق (¬4). وبعدهم: مسلم بن خالد الزَّنْجي، وسعيد بن سالم القَدَّاح. وبعدهما الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ثم عبد اللَّه بن الزُّبير الْحُمَيْدِي، وإبراهيم بن محمد الشَّافعي [ابنُ عم محمد] (¬5)، وموسى بن أبي الجارود، وغيرهم. فصل [فقهاء البصرة] وكان من المفتين بالبصرة عمرو بن سَلِمَة (¬6) الْجَرْمِي، وأبو مريم الحَنفَي، وكعب بن سُوْر (¬7)، والحسن البَصْري، وأدرك خمسَ مئة من الصحابة، وقد جمع بعضُ العلماء فتاويه في سبعة أسفارٍ ضخمة. قال أبو محمد بن حَزم (¬8): وأبو الشَّعْثاء جابر بن زيد، ومحمد ابن سِيرين، وأبو قِلابة عبدُ اللَّه بن زيد الجَرْمي، ومسلم بن يَسَار، وأبو العالية، وحُمَيد بن عبد الرحمن، ومُطَرِّف بن عبد اللَّه [بن] (¬9) الشِّخِّير، وزُرَارة بن أبي أوْفَى، وأبو بُرْدَة بن أبي موسى. ثم بعدهم: أيوب السِّخْتِيَاني، وسُليمان التَّيمي، وعبد اللَّه بن عون (¬10)، ويونس بن عُبَيْد، والقاسم بن ربيعة، وخالد بن أبي عمران، وأشعث بن عبد الملك ¬
فصل [فقهاء الكوفة]
الحُمْراني، وقَتَادة، وحفص بن سليمان، وإياس بن معاوية القاضي. وبعدهم: سَوَّار القاضي، وأبو بكر العَتَكي، وعثمان بن سليمان البَتِّيُّ (¬1)، وطلحة بن إياس القاضي، وعُبيد اللَّه بن الحسن العَنْبري، وأشعث بن جابر بن زيد. ثم بعد هؤلاء: عبد الوهاب بن عبد المجيد (¬2) الثَّقَفي، وسعيد بن أبي عَرُوبة، وحماد بن سَلَمة، وحماد بن زيد، وعبد اللَّه بن داود [الخُرَيبي] (¬3)، وإسماعيل ابن عُلَيَّة، وبِشْر بن المُفضَّل، ومُعاذ بن مُعَاذ العَنْبَري، ومَعْمَر بن راشد، والضَّحاك بن مَخْلد، ومحمد بن عبد اللَّه الأنصاري. فصل [فقهاء الكوفة] وكان من المفتين بالكوفة (¬4): عَلْقمة بن قَيْس النَّخَعي، والأسود بن يزيد النَخَعي -وهو عم علقمة-، وعَمرو بن شَرَحبيل الهمْدَاني (¬5)، ومسروق بن الأَجْدَع الهمداني، وعَبيدة السَّلْماني، وشُرَيح بن الحارث القاضي، وسليمان بن ربيعة الباهلي، وزيد بن صُوحان، وسُوَيْد بن غَفَلة، والحارث بن قيس الجُعْفي، وعبد الرحمن بن يزيد النَّخَعي، وعبد اللَّه بن عُتْبة بن مسعود القاضي، وخَيْثَمة بن عبد الرحمن، وسَلَمة بن صُهَيب، ومالك بن عامر، وعبد اللَّه بن سَخبرة، وزِرُّ بن حُبَيش، وخِلاس بن عَمرو، وعمرو بن ميمون الأوْدِي، وهَمَّام بن الحارث، والحارث بن سُوَيد، ويزيد بن معاوية النَّخَعي، والرَّبيع بن خُثَيْم، وعتبة بن فَرْقَد، ¬
وصِلَة بن زُفَر (¬1)، وشَرِيك بن حنبل، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وعُبيد (¬2) بن نَضْلة، وهؤلاء أصحاب علي، وابن مسعود. وأكابر التابعين كانوا (¬3) يُفْتُونَ [في الدين] (¬4)، ويستفتيهم الناسُ، وأكابرُ الصحابة حاضرون يُجَوِّزُون لهم ذلك، وأكثرهم أخذوا عن عمر وعائشة وعلي، ولقي عمرُو (¬5) بن ميمون الأوديُّ مُعَاذَ بن جبل، وصَحِبه، وأخذ عنه، وأوصاه معاذ عند موته أن يَلْحَق بابن (¬6) مسعود فيصحبه ويطلب العلم عنده، ففعل ذلك (¬7). ويضاف إلى هؤلاء: أبو عُبَيدة وعبد الرحمن، ابنا عبد اللَّه بن مسعود، وعبدُ الرحمن بن أبي ليلى، وأخذ عن مئة وعشرين من الصحابة، ومَيْسَرة، وزَاذَان، والضحاك. ثم بعدهم: إبراهيم النَّخَعي، وعامر الشَّعْبي، وسعيد بن جُبَير، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود، وأبو بكر بن أبي موسى، ومُحارب بن دثار، والحكم بن عُتَيْبة، وجَبَلة بن سُحَيم [وصحب ابن عمر] (¬8). ثم بعدهم: حَمَّاد بن أبي سليمان، ومنصور (¬9) بن المُعْتَمِر، وسليمان الأعمش، ومِسْعَر بن كِدَام. ثم بعدهم: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعبد اللَّه بن شُبْرُمة، وسعيد بن أشوع، وشَرِيك القاضي، والقاسم بن مَعْن، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة، والحسن بن صالح بن حَيّ. ثم بعدهم: حَفْص بن غِياث، ووَكيع بن الجَرَّاح، وأصحابُ أبي حنيفة، كابي يوسف القاضي، وزُفَر بن الهُذَيل، وحَمَّاد بن أبي حنيفة، [والجَرَّاح] (¬10)، والحسن بن زياد اللؤلؤي القاضي، ومحمد بن الحسن قاضي الرقَّة، وعافية ¬
فصل [فقهاء الشام]
القاضي (¬1)، وأسد بن عَمرو، ونُوح بن دَرَّاج القاضي، وأصحابُ سفيان الثَّوْري، كالأشْجَعي، والمُعَافى بن عمران، وصاحبي [الحسن بن حَيّ: حُمَيْد الرُّؤاسي] (¬2)، ويحيى بن آدم. فصل [فقهاء الشام] وكان من المفتين بالشام: أبو إدريس الخَوْلاني، وشُرَحبيل بن السِّمْط، وعبد اللَّه (¬3) بن أبي زكريا الخُزَاعي، وقَبيصة بن ذُؤَيب الخُزَاعي، وجُنادة ابن أبي أمية (¬4)، وسليمان بن حبيب الْمُحَاربي، والحارث بن عُمَيرة الزُّبَيْدي (¬5)، وخالد بن مَعْدان، وعبد الرحمن بن غَنْم الأشعري، وجُبَيْر بن نفير. ¬
فصل [فقهاء مصر]
ثم كان بعدهم: عبدُ الرحمن بن جبير بن نفير، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حَيْوة، وكان عبد الملك بن مروان يُعَدُّ في المُفْتِين قبل أن يلي ما وَلي، وحُدَير (¬1) بن كُرَيْب. ثم كان بعدهم: يحيى بن حمزة القاضي، وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو (¬2) الأوزاعي، وإسماعيل بن أبي المُهاجِر، وسُليمان بن موسى الأموي، وسعيد بن عبد العزيز، ثم مَخْلَد بن الحسين، والوليد بن مسلم، والعباس بن مَزْيَد (¬3) صاحب الأوزاعي، وشُعيب بن إسحاق صاحب أبى حنيفة، وأبو إسحاق الفَزَاري صاحب ابن المُبَارك. فصل [فقهاء مصر] في المُفْتِين من أهل مصر: يَزيد بن أبي حَبيب، وبُكَيْر بن عبد اللَّه ابن [الأشَجِّ] (¬4)، وبعدهما: عمرو بن الحارث -وقال ابن وهب: لو عاش لنا عمرو بن الحارث ما احتجنا معه إلى مالك ولا إلى غيره (¬5) - والليث بن سَعْد، وعُبَيد اللَّه بن أبي جعفر (¬6). وبعدهم: أصحابُ مالك [كعبد] (¬7) اللَّه بن وَهْب، وعثمان بن كِنانة، وأشْهَب، وابن القاسم على غلبة تقليده لمالك إلا في الأَقلِّ، ثم أصحاب الشافعي كالمُزَني، والبُويْطي، وابن عبد الحكم، ثم غلب عليهم تقليدُ مالك وتقليد الشافعي، إلا قومًا قليلًا لهم اختيارات كمحمد بن علي بن يوسف (¬8)، وأبي جعفر الطحاوي. ¬
[فقهاء القيروان]
[فقهاء القيروان] وكان بالْقَيْرَوَان: سَحْنُون بن سعيد، وله كثير في الاختيارات (¬1)، وسعيد بن محمد الحداد. [فقهاء الأندلس] وكان بالأندلس ممن له شيء من الاختيارات (¬2): يحيى بن يحيى، وعبد الملك بن حَبيب، وَبَقِيُّ بن مَخْلد، وقاسم بن محمد صاحب الوثائق، تحفظ لهم فتاوى يسيرة، وكذلك مَسْلمة بن عبد العزيز القاضي، ومُنْذِر بن سعيد. قال أبو محمد [بن حَزْم] (¬3): وممن أدركنا من أهل العلم على الصفة التي مَنْ بلغها استحقَّ الاعتدادَ به في الاختلاف (¬4): مسعودُ بن سليمان، ويوسف بن عبد اللَّه بن محمد بن عبد البرّ. فصل [فقهاء اليمن] وكان باليمن: مُطَرِّف بن مازن قاضي صَنْعاء، وعبد الرزّاق بن هَمَّام، وهشام بن يوسف، ومحمد بن ثور، وسِمَّاك بن الفَضْل. فصل [فقهاء بغداد] وكان بمدينة السلام (¬5) [من المفتين] (¬6) خلق كثير، ولما بناها المنصور أقْدَمَ إليها من الأئمة والفقهاء والمحدِّثين بشرًا كثيرًا، فكان (¬7) من أعيان المفتين بها: أبو عُبَيْد القاسمُ بن سَلَّام، وكان جَبلًا نُفخ فيه الرُّوح علمًا وجَلالةً ونبلًا وأدبًا، وكان منهم أبو ثَوْر إبراهيم بن خالد الكلبي صاحب الشافعي، وكان قد جالس ¬
[الإمام أحمد بن حنبل]
الشافعي وأخذ عنه، وكان أحمد يُعَظِّمه؛ ويقول: هو في مِسْلاخ الثوري (¬1). [الإمام أحمد بن حنبل] وكان بها إمام أهل السنة على الإطلاق: أحمد بن حنبل، الذي ملأ الأرض علمًا وحديثًا وسنة، حتى إن أئمة الحديث والسنة بعده هم أتباعُه إلى يوم القيامة، وكان [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) شديدَ الكراهة لتصنيف الكتُب، وكان يحب تجريد الحديث، ويكره أن يُكتب كلامُه، ويشتد عليه جدًّا، فعلم اللَّه حُسْنَ نيته وقَصْده، فكتب من كلامه وفَتْواه أكثر (¬3) من ثلاثين سفرًا، ومَنَّ [اللَّه سبحانه] (¬4) علينا بأكثرها؛ فلم يَفُتْنَا منها إلا القليل، وجمع الخَلَّالُ نصوصه في "الجامع الكبير" (¬5) فبلغ [نحو] (¬6) عشرين سِفْرًا أو أكثر، ورُويت فتاويه ومسائله وحُدِّثَ بها قرنًا بعد قرن، فصارت إمامًا وقدوة لأهل السنة على اختلاف طبقاتهم، حتى إن المخالفين لمذهبه بالاجتهاد والمقلِّدين لغيره لَيُعَظِّمونَ نصوصَه وفتاواه، ويعرفون لها حقها وقربها من النصوص وفتاوى الصحابة، ومن تأَمَّلَ فتواه (¬7) وفتاوى الصحابة رأى مُطابقة كل منهما للأخرى (¬8)، ورأى الجميع كأنها تخرج من مِشْكاة واحدة (¬9)، حتى إن الصحابة إذا اختلفوا على قولين جاء عنه في المسألة روايتان، وكان تَحَرِّيه لفتاوى الصحابة كتحري أصحابه لفتاويه ونصوصه، بل أعظم، حتى إنه لَيُقَدِّمُ فتاواهم على الحديث المرسل. قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في "مسائله": قلت لأبي عبد اللَّه: حديثٌ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مُرْسَل برجال ثبت أحَبُّ إليك، أو حديث عن ¬
[أصول فتاوى أحمد بن حنبل]
الصحابة والتابعين (¬1) متصل برجال ثبت؟ قال أبو عبد اللَّه [رحمه اللَّه]: عن الصحابة أعْجَبُ إليّ (¬2). [أصول فتاوى أحمد بن حنبل] وكانت (¬3) فتاويه مبنية على خمسة أصول (¬4): أحدها: النصوص، فإذا وُجد النَّص أفتى بموجَبه، ولم يلتفت إلى ما خالفه ولا مَنْ خالفه -كائنًا من كان-، ولهذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في المَبْتُوتة (¬5) لحديث فاطمة بنت قَيْس (¬6). ¬
ولا إلى خلافه في التَّيمم للجُنُب (¬1) لحديث عمار بن ياسر (¬2)، ولا [إلى] (¬3) خلافه في استدامة المحرِم الطيبَ الذي تطيب به قبل إحرامه (¬4) لصحة حديث عائشة في ذلك (¬5)، ولا [إلى] (3) خلافه في منع المفرد والقارن من الفَسْخ إلى التمتع (¬6) لصحة أحاديث الفسخ (¬7)، وكذلك لم يلتفت إلى قول عثمان، وعلي، ¬
وطلحة، وأبي أيوب، وأبيّ بن كعب في ترك الغُسْل من الإكسال (¬1)؛ لصحة حديث عائشة أنها فَعَلَتْه هي ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاغتسلا (¬2)، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس (وإحدى الروايتين عن علي) أن عِدَّةَ المتوفى عنها الحامل أقصى الأجلين (¬3) لصحة حديث سُبَيْعة الأَسْلَميَّة (¬4)، ولم يلتفت إلى قول مُعَاذ ومعاوية في توريث ¬
[ما أنكره الإمام أحمد من دعوى الإجماع]
المسلم من الكافر (¬1) لصحة الحديث المانع من التوارث بينهما (¬2)، ولم يلتفت إلى قول ابن عباس في الصَّرْف (¬3) لصحة الحديث بخلافه (¬4) ولا إلى قوله بإباحة لحوم الحُمُرِ كذلك (¬5)، وهذا كثير جدًّا. [ما أنكره الإمام أحمد من دعوى الإجماع] ولم يكن يُقَدِّمُ على الحديث الصحيح عملًا ولا [قولًا ولا] (¬6) رأيًا ولا قياسًا، ولا قولَ صاحب، ولا عدمَ علمه بالمخالف الذي يُسمّيه كثير من الناس (¬7) إجماعًا، ويقدمونه على الحديث الصحيح، وقد كَذَّبَ أحمدُ من ادَّعى هذا الإجماع، ولم يُسِغْ (¬8) تقديمَه على الحديث الثابت، وكذلك الشافعي [-أيضًا-] (¬9) نصَّ في "رسالته الجديدة" على أن ما لا يُعْلَم فيه خلاف (¬10) لا يُقال له إجماع، ولفظُه: ما لا يُعلم فيه خلاف فليس إجماعًا (¬11). وقال عبد اللَّه بن أحمد [بن حنبل] (9): سمعت أبي ¬
فصل [الأصل الثاني لأحمد: فتاوى الصحابة]
يقول: ما يَدَّعي فيه الرجلُ الإجماعَ فهو كذب، من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، ما يُدْرِيه، ولم يَنْتَه إليه؟ فليقل: لا نعلم (¬1) الناسَ اختلفوا، هذه دعوى بِشْر المِرِّيسيّ والأَصَم، ولكن (¬2) يقول: لا نعلم (1) الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك، هذا لفظه (¬3). ونصوصُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجَل عند الإمام أحمد -وسائِرِ أئمة الحديث- من أن يُقَدِّموا عليها ما توهِّمَ إجماعًا (¬4) مضمونه عدم العلم بالمخالف، [ولو ساغ لتعطَّلت النصوصُ، وساغ لكل مَنْ لم يعلم مخالفًا في حكم مسألة أن يُقَدِّمَ جهله بالمخالف على النصوص] (¬5)؛ فهذا هو الذي أنكره الإمام أحمد والشافعي من دَعْوى الإجماع، لا ما يظنه بعضُ الناس أنه استبعاد لوجوده. فصل [الأصل الثاني لأحمد: فتاوى الصحابة] الأصل الثاني من أصول (¬6) فتاوى الإمام أحمد: ما أفتى به الصحابة، فإنه إذا وجد لبعضهم فتوى لا يُعْرَف له مخالف منهم فيها لم يَعْدُها إلى غيرها، ولم يَقُل: إن ذلك إجماع، بل من وَرَعه في العبارة يقول: لا أعلم شيئًا يَدْفَعه، أو نحو هذا، كما قال (¬7) في رواية أبي طالب لا أعلم شيئًا يدفع قول ابن عباس وابن عمر وأحَدَ عشر (¬8) من التابعين عطاء ومجاهد وأهل المدينة على قبول شهادة العبد (¬9) وهكذا قال أنس بن مالك: لا أعلم أحدًا ردَّ شهادة العبد (¬10)، حكاه عنه الإمام أحمد (¬11)، وإذا وجد ¬
فصل [الثالث: الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا]
[الإمام] (¬1) أحمد هذا النوع عن الصحابة لم يقدم عليه عملًا ولا رأيًا ولا قياسًا. فصل [الثالث: الاختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا] الأصل الثالث من أصوله: إذا اختلف الصحابة تخيَّر من أقوالهم ما كان أقربَهَا إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم، فإن لم يتبين (¬2) له مُوَافقة أحد الأقوال حكى الخلاف فيها، ولم يجزم بقول. قال إسحاق بن إبراهيم بن هانئ في "مسائله": قيل لأبي عبد اللَّه: يكون الرجلُ في [قرية] (¬3) فيُسأل عن الشيء فيه اختلاف، قال: يُفْتي بما وافَقَ الكتابَ والسنة (¬4)، وما لم يُوافق الكتاب والسنة: أَمْسَك عنه، قيل له: أفتخاف عليه؟ (¬5) [قال] (¬6): لا (¬7). فصل [الرابع: الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف] الأصل الرابع: الأخذ بالمرسَل والحديثِ الضَّعيف، إذا لم يكن في الباب شيء [يدفعه] (¬8)، وهو الذي رجَّحَه على القياس، وليس المرادُ بالضعيف عنده الباطلَ، ولا المنكَرَ، ولا ما في رواته (¬9) مُتَّهم؛ بحيث لا يَسُوغ الذهابُ إليه والعمل به (¬10)، بل الحديث الضعيف عنده قَسِيم الصحيح (¬11) وقسم من أقسام ¬
[تقديم أبي حنيفة الحديث الضعيف على القياس]
الحَسَن (¬1) ولم يكن يُقَسِّم الحديث إلى: صحيح وحسن وضعيف، بل إلى: صحيح وضعيف، والضعيف (¬2) عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب (¬3) أثرًا (¬4) يدفعه، ولا قولَ صاحب، ولا إجماع على خلافه؛ كان العمل به عنده أولى (¬5) من القياس. وليس أحَدٌ من الأئمة [الأربعة] إلا وهو موافِقُه (¬6) على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا و [قد] (¬7) قَدَّم الحديثَ الضعيف على القياس. [تقديم أبي حنيفة الحديث الضَّعيف على القياس] فقدم أبو حنيفة حديثَ القهْقَهَة في الصلاة (¬8) على مَحْض القياس، وأجمع أهل الحديث على ضَعْفِه (¬9)، وقدم حديثَ الوضوء بنبيذ التمر (¬10) على القياس، وأكثر أهل الحديث يُضَعِّفه (¬11)، وقدَّم حديثَ: "أكْثَرُ الحيضِ عَشَرَةُ أيامٍ" (¬12) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[تقديم الشافعي الضعيف على القياس]
-وهو ضعيف باتفاقهم- على محض القياس؛ فإن [الدم] (¬1) الذي تراه في اليوم الحادي عشر (¬2) مُسَاوٍ في الحدِّ والحقيقة والصفة لدم اليوم العاشر (¬3)، وقَدَّم حديثَ: "لا مهر أقلّ من عشرة دراهم" (¬4) -وأجمعوا على ضعفه بل بطلانه- على مَحْض القياس، فإن بَذْلَ الصداق مُعَاوضة في مقابل (¬5) بذل البُضْع، فما تراضَيَا عليه جاز قليلًا كان أو كثيرًا (¬6). [تقديم الشافعي الضعيف على القياس] وقَدَّم الشافعي خبر تحريم صَيْد وَجٍّ (¬7) مع ضعفه على القياس، وقدم خبر ¬
[تقديم مالك المرسل، والمنقطع، والبلاغات]
جواز الصلاة بمكة في وقت النهي (¬1) مع ضعفه ومخالفته لقياس غيرها من البلاد، وقَدَّم في أحد قَوْليه حديث: "مَنْ قاءَ أو رُعِفَ فليتوضأ ولْيَبْنِ على صلاته" (¬2) على القياس مع ضعف الخبر (¬3) وإرساله. [تقديم مالك المرسل، والمنقطع، والبلاغات] وأما مالك فإنه يقدم الحديث المرسَلَ، والمنقطع، والبَلاغات، وقولَ الصحابي على القياس. [الأصل الخامس عند أحمد: القياس للضرورة] فإذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نصّ، ولا قول الصحابة، أو أحد (¬4) منهم، ولا أثر مرسل، أو ضعيف: عَدَل إلى الأصل الخامس -وهو القياس- فاستعمله للضرورة، وقد قال في "كتاب الخلَّال": سألت الشافعي عن القياس، فقال: إنما يُصَار إليه عند الضرورة (¬5)، أو ما هذا معناه. ¬
[وقال في "رواية أبي الحارث": ما تصنع بالرأي والقياس، وفي الحديث ما يغنيك عنه؟ وقال في "رواية عبد الملك المَيْموني": يَجْتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المُجْمَل والقياس] (¬1). فهذه الأصول الخمسة من (¬2) أصول فتاويه، وعليها مَدَارها، وقد يتوقف في الفتوى؛ لتعارض الأدلة عنده، أو لاختلاف الصحابة فيها، أو لعدم اطلاعه فيها على أثر أو قول أحد من الصحابة والتابعين. وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء في المسألة التي ليس فيها (¬3) أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام (¬4). وكان يُسَوِّغُ استفتاء فقهاء [أصحاب] (¬5) الحديث وأصحاب مالك، وَيدُلُّ عليهم، ويمنع من استفتاء مَنْ يُعْرِض عن الحديث، ولا يبني مذهبه عليه، ولا يسوِّع العمل بفتواه (¬6). قإل ابن هانئ: سألت أبا عبد اللَّه عن الذي جاء في الحديث: "أجْرَؤكم على الفُتْيا أجرؤكم على النار" (¬7)، قال أبو عبد اللَّه [رحمه اللَّه] (¬8): يُفتي بما لم يسمع (¬9). قال: وسألته عَمَّن أفتى بفتْيا [يعيى] (¬10) فيها؛ قال: فإثمها على من ¬
أفتاها، [قلت] (¬1): على أيِّ وجه يُفتي حتى [يعلم (ما)] (¬2) فيها؟ قال: يفتي بالبحث، لا يدري أيش أصلها (¬3). وقال أبو داود في "مسائله": ما أحْصِي ما سمعت أحمد سُئِل عن كثير (¬4) مما فيه الاختلاف [في] العلم فيقول: لا أدري (¬5). قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عُيَيْنة في [الفتوى] (¬6) أحسن فُتْيا منه، كان أهون عليه أن يقول: [لا أدري] (¬7). وقال عبد اللَّه بن أحمد في "مسائله": سمعت أبي يقول: قال (¬8) عبد الرحمن بن مهدي: سأل رجل من أهل الغرب (¬9) مالك بن أنس عن مسألة، فقال: لا أدري، فقال: يا أبا عبد اللَّه تقول لا أدري؟! [قال: نعم، فابلغ مَنْ وراءك أني لا أدري (¬10). وقال عبد اللَّه: كنت أسمع أبي كثيرًا يسأل عن المسائل؛ فيقول: لا أدري] (¬11) ¬
فصل [كراهة السلف التسرع في الفتوى]
[ويقف] (¬1) إذا كانت المسألة (¬2) فيها اختلاف، [وكثيرًا ما] (¬3) كان يقول: سَلْ غيري، فإن قيل [له] (¬4): مَنْ نسأل؟ قال: سَلوا العلماء (¬5)، ولا يكاد يُسمّي رجلًا بعينه (¬6). قال: وسمعت أبي يقول: كان ابن عُيَيْنة لا يفتي في الطلاق، ويقول: مَنْ يُحْسِن هذا؟! (¬7). فصل [كراهة السلف التسرع في الفتوى] وكان السَّلَف من الصحابة والتابعين يكرهون التَّسرُّعَ في الفَتْوَى، ويود كل واحد منهم أن (¬8) يكفيه إياها غيرُه؛ فإذا رأى أنها قد تعيَّنت عليه بَذَلَ اجتهادَهُ في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى. وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا (¬9) سفيانُ، عن عطاء بن السَّائب، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ قال: أدركت عشرين ومئة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أُراه قال: في المسجد، فما [كان] منهم مُحَدِّثٌ إلا وَدَّ أنَّ أخاه كَفَاه الحديث، ولا مُفْتٍ إلا ودَّ أن أخاه كفاه الفتيا (¬10). وقال الإمام [أحمد] (¬11): حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن ¬
[فتوى الطلاق ثلاث]
عبد الرحمن بن أبي ليلى؛ قال: أدركت عشرين ومئة من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-ما منهم رجل يُسْأل عن شيء إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه، ولا يحدِّثُ حديثًا إلا ودَّ أنَّ أخاه كفاه (¬1). [فتوى الطلاق ثلاث] وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، أن بُكير [بن] (¬2) الأشج أخبره عن معاوية بن أبي عياش، أنه كان جالسًا عند عبد اللَّه بن الزبير وعاصم بن عمر، فجاءهما محمد بن إياس بن البكير؛ فقال: إن رجلًا من أهل البادية طَلَّقَ امرأته ثلاثًا فماذا تَرَيَانِ؟ فقال عبد اللَّه بن الزبير: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد اللَّه بن عباس، وأبي هريرة، فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهبتُ، فسألتهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفْتِهِ [يا أبا هريرة] (¬3) فقد جاءتكَ مُعْضِلة، فقال أبو هريرة: الواحدة تُبينها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره (¬4). [عود إلى كراهية السلف التَّسرُّع في الفتيا] وقال مالك، عن يحيى بن سعيد؛ قال: قال ابن عباس: إن كلَّ من أفتى الناسَ في كل ما يسألونه [عنه] (¬5) لمجنون (¬6). قال مالك: وبلغني عن ابن مسعود ¬
[الجرأة على الفتوى]
مثل ذلك، رواه ابن وضاح، عن يوسف بن عَدي، عن عَبْد (¬1) بن حميد، عن الأعمش، عن شَقيق، عن عبد اللَّه، ورواه حَبيب بن [أبي] (¬2) ثابت [عن الأعمش] (¬3)، عن أبي وائل، عن عبد اللَّه (¬4). وقال (¬5) سحنون بن سعيد: أجْسَرُ الناس على الفتيا أقَلُّهم علمًا، يكون عند الرجل البابُ الواحد من العلم يظن أن الحق [كله] (¬6) فيه. [الجرأة على الفتوى] قلت: الجرأة على الفُتيا تكون من قلة العلم ومن غَزَارته وسَعَته، فإذا قلَّ علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتَّسَعت فُتْياه، ولهذا كان ابن عباس من أوْسَع الصحابة فتيا، وقد تقدم أن فتاواه (¬7) جُمِعَتْ [في] (¬8) ¬
[من يجوز له الفتيا]
عشرين سِفْرًا، وكان سعيد بن المسيب أيضًا واسعَ الفتيا، وكانوا يسمونه [الجريء] (¬1)، كما ذكر ابن وهب عن محمد بن سُليمان المُرادي، عن أبي إسحاق؛ قال: كنت أرى الرجلَ في ذلك الزمان وإنه لَيَدْخُل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس حتى يُدْفَع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية (¬2) الفتيا، قال: وكانوا يدعونه سعيد بن المسيب الجريء (¬3). وقال (¬4) سحنون: إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية اْقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعْجَلَ بالجواب [قبل الخبر] (¬5)، فَلِمَ أُلام على حبس الجواب؟ (¬6). [من يجوز له الفتيا] وقال ابن وهب: حدثنا أَشْهَل (¬7) بن حاتم، عن عبد اللَّه بن عَوْن، عن ابن سِيرين، قال: قال حذيفة: إنما يُفْتي الناسَ أحدُ ثلاثة: من يَعلم ما نُسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بدًا، أو أحمق متكلف، قال: فربما قال ابن سيرين: فلست بواحدٍ من هذين، ولا أُحبُّ أن أكون الثالث (¬8). ¬
[المراد بالناسخ والمنسوخ عند السلف والخلف]
[المراد بالناسخ والمنسوخ عند السلف والخلف] قلت (¬1): ومراده ومراد عامة السلف بالناسخ والمنسوخ رفع الحكم بجملته تارة -وهو اصطلاح المتأخرين-، ورفع دلالة العام والمطلق والظاهر وغيرها تارة، إما: بتخصيص، أو تقييد، أو حَمْل مُطْلق على مُقَيد (¬2)، وتفسيره وتبيينه، حتى إنهم ليسمون الاستثناء (¬3)، والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومَنْ تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه (¬4) ما لا يُحصى، وزال عنه به إشكالات أوجبها [حملُ كلامهم على الا] صطلاح الحادث المتأخر (¬5). وقال هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين؛ [قال] (¬6): قال حذيفة: إنما يفتي [الناس أحدُ ثلاثة: رجل يعلم ناسخ] (¬7) القرآن ومنسوخه، وأمير لا يجد بدًا، وأحمق متكلف، قال ابن سيرين: ([فأنا] (¬8) لست أحد هذين، وأرجو أن لا أكون أحمق متكلفًا) (¬9). [عود إلى كراهية الأئمة للفتيا] وقال أبو عمر بن عبد البر في كتاب "جامع فضل العلم": حدثنا خَلَف بن القاسم: ثنا يحيى بن الربيع: ثنا محمد بن حماد المصيصي: ثنا إبراهيم بن واقد: ثنا المطلب بن زياد؛ قال: حدثني جعفر بن حسين إمامنا؛ قال: رأيت أبا حنيفة في النوم، فقلت: ما فعل اللَّه بك يا أبا حنيفة؟ قال: غَفَر لي، فقلت له: ¬
[خطر تولي القضاء]
بالعلم؟ فقال: ما أضَرَّ الفتيا على أهلها! فقلت: فبم؟ قال: بقول الناس فيَّ ما لم يعلم اللَّه [أنه] مِنِّي (¬1). قال أبو عمر: وقال سحنون يومًا: إنا للَّه، ما أشقى المفتي والحاكم! ثم قال: ها أنذا يُتعلم مني ما تُضْرَب به الرقاب، وتُوَطأ به الفروج وتُؤخذ (¬2) به الحقوق، أما كنت عن هذا غنيًا (¬3)؟. قال أبو عمر: وقال أبو عثمان الحَدَّاد: القاضي أيْسَرُ مأْثمًا وأقرب إلى السلامة من الفقيه -يريد المفتي-؛ لأن الفقيه مِنْ شأنِهِ إصدار ما يَرد عليه من ساعته بما حَضَرَهُ من القول، والقاضي شأنه الأناة والتثبت، ومن تأنّى وتثبت تهيَّأَ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة (¬4). انتهى. وقال غيره: المفتي أقربُ إلى السلامة من القاضي؛ لأنه لا يلزم بفتواه، وإنما يخبر بها من استفتاه، فإن شاء قَبل قوله، وإن شاء تركه؛ وأما القاضي فإنه يلزم بقوله، فيشترك هو والمفتي في الإخبار عن الحكم، ويتميز القاضي بالإلزام (¬5)، والقضاء؛ فهو من هذا الوجه خَطرُه أشَدُّ. [خطر تولي القضاء] ولهذا جاء في القاضي من الوعيد والتخويف ما لم يأت نظيرُه في المفتي كما رواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة [-رضي اللَّه عنها-]، أنها ذكر عندها القُضَاة فقالت: سمعت رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يُؤتَى بالقاضي العَدْلِ يوم القيامة فَيَلْقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يَقْضِ بين اثنين في تمرة قط" (¬6). ¬
وروى الشعبي، عن مسروق، عن عبد اللَّه يرفعه: "ما مِنْ حاكم يحكم بين الناس إلا وُكِّلَ به مَلك آخذ بقَفَاه حتى يقف به على شَفير جهنم، فيرفع رأسه إلى اللَّه، فإن أمره أن يَقْذِف قَذَفه في مَهْوى أربعين خريفًا" (¬1). وفي "السنن" من حديث ابن بُرَيْدة، عن أبيه؛ قال: قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة؛ رجلٌ عَرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى بين الناس بالجهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار فهو في النار" (¬2). ¬
وقال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬1): ويل لدَيَّان مَنْ [في] (¬2) الأرض من ديان من في السماء، يوم يلقونه، إلا مَنْ أمر بالعدل، وقضى بالحق، ولم يقض على هوى، ولا على قرابة، ولا على رَغَب ولا رَهَب، وجعل كتاب اللَّه مرآة [بين] (¬3) عينيه (¬4) وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ طلب قضاء المسلمين حتى يناله، ثم غلب عَدْلُه جورَه فله الجنة، ومن غلب جَوْرُه عدله فله النار" (¬5) ¬
وفي "سنن البيهقي" من حديث ابن جُرَيْج (¬1)، عن عطاء، عن ابن عباس؛ قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللَّه مع القاضي ما لم يَجُرْ، فإذا جار برئ [اللَّه منه ولزمه الشيطان" (¬2) ¬
وفيه من حديث] (¬1) حُسَين المُعلِّم، عن الشَّيْباني، عن [ابن] (¬2) أبي أوفى قال: قال رسو [ل اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه مع القاضي] (1) ما لم يجر، فإذا جار وكَلَه إلى نفسه" (¬3). وفي "السنن الأربعة" من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قعد قاضيًا بين المسلمين فقد ذَبَحَ [نفسَه] بغير سكين" (¬4). وفي "سنن البيهقي" من حديث أبي حازم عن أبي هريرة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬
[الإفتاء]
قال: "وَيْلٌ للأمراء، وويل للعُرَفَاء، وويْلٌ للأمناء، ليتمنَّيَن (¬1) أقوامٌ يوم القيامة أن نواصيهم كانت معلقةً بالثريا، يتجلجلون بين السماء والأرض، وأنَّهم لم يَلُوا عملًا" (¬2). [الوعيد على الإفتاء] وأما المفتي: ففي "سنن أبي داود" من حديث مسلم بن يَسَار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قال عليّ ما لم أقل، فَلْيَتَبوَّأ بيتًا في جهنم، ومن أفتي بغير علم كان إثمُهُ على مَنْ أفتاه، ومن أشار على أخيه بامر يعلم الرُّشدَ في غَيْره فقد خانه" (¬3) فكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه مِنْ زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطر المفتي أعظم من جهة أخرى؛ فإن فَتْوَاه شريعة عامة تتعلق بالمستفتي وغيره. ¬
فصل [المحرمات على مراتب أربع، وأشدها: القول على الله بغير علم]
وأما الحاكم فحكمه جزئي (¬1) خاص، لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه وله؛ فالمفتي يفتي حكمًا عامًا كليًا أنَّ: مَنْ فَعَلَ كذا [ترتب عليه كذا] (¬2)، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاء معينًا على شخص معين، فقضاؤه خاص مُلْزِم، وفتوى العالم عامة غير ملزِمة، وكلاهما (¬3) أجْرُهُ عَظيم، وخَطَرُه كبير. فصل [المحرمات على مراتب أربع، وأشدها: القول على اللَّه بغير علم] وقد حرم اللَّه -سبحانه- القول عليه بلا علم (¬4) في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات (¬5)، بل جعله في المرتبة العليا منها، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] (¬6) وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فرتَّبَ المحرماتِ أربعَ مراتبَ، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريمًا وهو (¬7) الإثم والظلم، ثم ثلَّثَ بما هو أعظم تحريمًا منهما وهو الشرك به (¬8) سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشد تحريمًا من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعمُّ القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وفي دينه وشرعه. وقال تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]. فتقدم عليهم (¬9) سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما ¬
[النهي عن أن يقال: هذا حكم الله]
لم يحرمه: هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ إلا لما (¬1) علم أنَّ اللَّه سبحانه أحَلّه أو حرمه (¬2). وقال بعض السلف (¬3): ليتَّقِ أحَدُكم أن يقول: أحل اللَّه كذا (¬4)، وحرم كذا، فيقول اللَّه [له] (¬5): كذبت، لم أحل كذا، ولم أحرم كذا؛ فلا ينبغي أن يقول لما لا يعلمُ ورودَ الوحي المبين بتحليله وتحريمه (¬6): أحَلّه اللَّه، وحرَّمه اللَّه، [لمجرد التقليد أو بالتأويل] (¬7). [النهي عن أن يقال: هذا حكم اللَّه] وقد نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح أميرَهُ بريدة أن ينزل عدوه إذا حاصرهم على حكم اللَّه، وقال: "فإنَّكَ لا تَدْري أتصيبُ حكم اللَّه فيهم أم لا، ولكن أنْزِلْهُمْ على حكمك وحكم أصحابك" (¬8). فتأمل كيف فرَّق بين حكم اللَّه وحكم الأمير المجتهد، ونهى أن يُسمَّى حكم المجتهدين: حكم اللَّه. ومن هذا: لما كتب الكاتبُ بين يدي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-]، حكمًا حكم به؛ فقال: هذا ما أرى اللَّه أميرَ المؤمنين عمر، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قُلْ: هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (¬9). ¬
[لفظ الكراهة يطلق على المحرم ودليله، وغلط المتأخرين في ذلك وسببه]
وقال ابن وهب: سمعت مالكًا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من مضى من سَلَفِنا، ولا أدركت أحدًا أقْتدي به يقول في شيء: هذا حلال، وهذا حرام، ما كانوا (¬1) يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره كذا، ونرى هذا حسنًا؛ ونتقي هذا (¬2)، ولا نرى هذا (¬3). ورواه عنه عتيق بن يعقوب، وزاد: ولا يقولون: حلال ولا حرام، أما سمعت قول اللَّه [-تعالى- {قُلْ] أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، الحلالُ، ما أحلّه اللَّه ورسوله، والحرام ما حرمه اللَّه ورسوله (¬4). [لفظ الكراهة يطلق على المحرم ودليله، وغلط المتأخرين في ذلك وسببه] قلت: وقد غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم بسبب ذلك، حيث تورَّع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ الكراهة، فَنَفَى المتأخرون التحريمَ عما أطلق عليه الأئمة الكراهة، ثم سَهُل عليهم لفظ (¬5) الكراهة وخَفّتْ مؤنته عليهم؛ فحمَله بعضهم على التنزيه، وتجاوز به آخرون إلى كراهة ترك الأولى، وهذا كثير [جدًّا] (¬6) في تصرفاتهم؛ فحصل بسببه (¬7) غلط عظيم على الشريعة وعلى الأئمة (¬8)، و [قد] (¬9) قال الإمام أحمد في الجمع بين الأختين بملك اليمين: أكرهه، ولا أقول هو حرام، ومذهبه تحريمه، وإنما تورَّع عن إطلاق لفظ التحريم لأجل قول عثمان (¬10). ¬
وقال أبو القاسم [عمر بن الحسين] الخِرَقي (¬1) فيما نقله عن أبي عبد اللَّه: ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة (¬2). ومذهبه أنه لا يجوز، وقال في رواية أبي داود: ويستحب أن لا يدخل الحمام إلا بمئزر (¬3). وهذا استحبابُ وجوبٍ، وقال في رواية إسحاق بن منصور: إذا كان أكثر مال الرجل حرامًا فلا يعجبني أن يؤكل ماله (¬4)، وهذا على سبيل التحريم. وقال في رواية ابنه عبد اللَّه: لا يعجبني أكلُ ما ذُبح للزهرة ولا الكواكب (¬5) ولا الكنيسة، وكل شيء ذبِح لغير اللَّه، قال اللَّه [-عز وجل-]: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (¬6) [المائدة: 3]. فتأمَّل كيف قال: "لا يعجبني" فيما نَصَّ اللَّه [-سبحانه-] (¬7) على تحريمه، واحتج [هو] (¬8) أيضًا بتحريم اللَّه له في كتابه، وقال في رواية الأثرم: أكره لحومَ الجلَّالة وألبانَها (¬9)، وقد صَرَّح بالتحريم في رواية حَنْبل وغيره، وقال في رواية ابنه عبد اللَّه: أكره [(أكل) لحمِ] الحيَّةِ والعقرب؛ لأن الحية لها ناب والعقرب له حُمة (¬10)، ولا يختلف مذهبه في تحريمه، وقال في رواية حَرْب: إذا صاد الكلبُ من غير أن ¬
يُرْسَل فلا يعجبني؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ وسَمَّيْتَ" (¬1) فقد أطلق لفظة: "لا يعجبني" على ما هو حرام عنده، وقال في رواية جعفر بن محمد النَّسائي: لا يعجبني المُكْحُلة والمِرْوَد (¬2)، يعني من الفضة، وقد صرح بالتحريم في عدة مواضع، وهو مذهبه بلا خلاف؛ وقال جعفر بن محمد -أيضًا-: سمعت أبا عبد اللَّه سُئل عن رجل قال لامرأته: كل امرأة أتزوجها أو جاريةٍ أشتريها للوَطْء وأنت حية؛ فالجارية حرة والمرأة طالق، قال: إن تزوَّجَ لم آمُرْهُ أن يفارقها، والعتقُ أخشى أن يلزمه؛ لأنه مخالف للطلاق، قيل له: يَهَبُ له رجل جارية، قال: هذا طريق الحيل (¬3)، وكرهه، مع أن مذهبه تحريم الحِيَلِ وأنها لا تخلِّصُ من الأيمان، ونص على كراهة البطة (¬4) من جلود الحمر، وقال: [لا] (¬5) تكون ذَكِية، ولا يختلف مذهبه في التحريم، وسئل عن شعر الخنزير، فقال: لا يعجبني، وهذا على التحريم (¬6)، وقال: يكره القِدُّ (¬7) من جلود الحمير (¬8)، ذَكِيًّا وغير ذكي؛ [و] (¬9) لا يكون ذكيًا، وأكرهه لمن يعمل وللمستعمل؛ وسئل عن رجل ¬
[إطلاق المكروه على الحرام عند الحنفية]
حلف لا ينتفع بكذا، فباعه و (¬1) اشترى به غيره، فكره ذلك، وهذا عنده لا يجوز وسئل عن ألبان الأُتُنِ (¬2) فكرهه وهو حَرَام عنده، وسئل عن الخمر تتخذ (¬3) خلًا، فقال: لا يعجبني، وهذا على التحريم [عنده] (¬4)؛ وسئل عن بَيْع الماء، فكرهه، وهذا في أجوبته أكثر من أن يُسْتَقْصَى، وكذا (¬5) غيره من الأئمة. [إطلاق المكروه على الحرام عند الحنفية] وقد نص محمد بن الحسن (¬6) [على] (¬7) أن كل مكروه فهو حرام، إلا أنه لما لم يجد فيه نصًّا قاطعًا لم يطلق عليه لفظ الحرام (¬8)؛ وروى محمد أيضًا عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقْرَبُ؛ وقد قال في "الجامع الكبير" (¬9): يكره الشرابُ في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء، ومراده التحريم؛ وكذلك قال أبو يوسف ومحمد: يكره النومُ على فرش الحرير والتوسُّدُ على وَسَائده (¬10)، ومرادهما التحريم؛ وقال أبو حنيفة وصاحباه: يكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهبَ والحرير، وقد صَرَّح الأصحابُ أنه حرام، وقالوا: إن التحريم لما ثَبَتَ في ¬
[حكم المكروه عند المالكية]
حق الذكور، وتحريمُ اللبس يحرم الإلْبَاسَ، كالخمر لما حَرُم شربُهَا حرم سَقْيُها، وكذلك قالوا: يكره (¬1) مِنْدِيلُ الحرير الذي يُتَمَخطُ فيه ويتمسح من الوضوء، ومرادهم التحريم؛ وقالوا: يكره بيعُ العَذَرَة، ومرادهم التحريم؛ وقالوا: يكره الاحتكار في أقوات (¬2) الآدميين والبهائم إذا أضَرَّ بهم وضيَّق عليهم، ومرادهم التحريم (¬3)؛ وقالوا: يكره بيع السِّلاح في أيام الفتنة، ومرادهم التحريم؛ وقال أبو حنيفة: يكره بيع أرض مكة، ومراده (¬4) التحريم عنده؛ وقالوا (¬5): ويكره اللَّعِبُ بالشِّطْرَنْج، وهو حرام عندهم (¬6)؛ قالوا: ويكره أن يَجْعَل الرجلُ في عنق عبده أو غيره طَوْقَ الحديدِ الذي يمنعه من التحرك، وهو الغُلُّ، وهو حرام؛ وهذا كثير في كلامهم جدًّا. [حكم المكروه عند المالكية] وأما أصحاب مالك فالمكروه عندهم مَرْتبَةٌ بين الحرام والمُبَاح، ولا يطلقون عليه اسم الجَوَازِ، ويقولون: إن أكل كل ذي نابٍ من السباع مكروه غير مباح؛ وقد قال مالك في كثير من أجوبته: أكره كذا، وهو حرام (¬7)؛ فمنها أن مالكًا نص على كراهة الشّطْرَنْج، وهذا عند أكثر أصحابه على التحريم، وحمله بعضُهم على الكراهة التي هي دون التحريم. [رأي الشافعي في اللعب بالشِّطْرَنْج وتحريمه] و [كذلك] (¬8) قال الشافعي في اللعب بالشطرنج: هو (¬9) لَهْوٌ شبه الباطل، أكرهه، ولا يتبين لي تحريمُه (¬10)؛ فقد نصَّ على كراهته، وتوقَّف في تحريمه؛ فلا ¬
[حكم تزوج الرجل ابنته من الزنا عند الشافعي]
يجوز أن ينسب إليه وإلى مذهبه أن اللعب بها جائز وأنه مباح، فإنه لم يقل هذا ولا ما يدل عليه؛ والحق أن يقال: إنه كرهها، وتوقف في تحريمها، فأين هذا [من] (¬1) أن يُقال: إن مذهبه جواز اللعب بها وإباحتها (¬2)؟. [حكم تزوج الرجل ابنته من الزنا عند الشافعي] ومن هذا أيضًا أنه نصَّ على كراهة تَزَوَّج الرجل ابنتَه [المخلوقة] (¬3) من ماء الزنا، ولم يقل قَطُّ إنه مباح ولا جائز (¬4)، والذي يليق بجلالته وإمامته ومنصبه ¬
[استعمال السلف والخلف للفظ الكراهة]
الذي أحَلَّه (¬1) اللَّه به من الدين أن هذه الكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ الكراهة؛ لأن الحرام يكرهه اللَّه ورسوله (¬2)؛ وقد قال تعالى عقب (¬3) ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى قوله: [{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} إلى قوله:] (¬4) {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} إلى قوله: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى قوله: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} (¬5) [إلى قوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} إلى آخر الآيات؛ ثم قال]: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء:23 - 38]، وفي "الصحيح": "إن اللَّه [عز وجل] (4) كَرِهَ لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" (¬6). [استعمال السلف والخلف للفظ الكراهة] والسَّلَفُ (¬7) كانوا يستعملون الكراهَةَ في معناها الذي استعملت فيه في كلام اللَّه ورسوله، ولكِنِ المتأخرون اصطلحوا على تخصيص الكراهة بما ليس بمحرم، وتركُهُ أرْجَحُ من فعله، ثم حمل من حمل [منهم] (¬8) كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث، فغَلِطَ في ذلك، وأقْبَحُ غَلطًا منه مَنْ حمل لفظ الكراهة أو لفظ "لا ينبغي" في كلام اللَّه ورسوله على المعنى الاصطلاحي الحادث. ¬
[إطراد استعمال لا ينبغي في المحظور شرعا]
[إطراد استعمال لا يَنبغي في المحظور شرعًا] وقد اطَّرد في كلام اللَّه ورسوله استعمالُ "لا ينبغي" في المَحْظُور شرعًا أو قدرًا، وفي المستحيل الممتنع كقوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] وقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]، وقوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ [وَمَا يَسْتَطِيعُونَ]} (¬1) [الشعراء: 211] وقوله على لسان نبيه: "كذَّبَنِي ابنُ آدَمَ وما ينبغي له، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له" (¬2). وقوله - صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه لا يَنَامُ ولا ينبغي له أن ينام" (¬3) وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في لباس الحرير: "لا ينبغي هذا للمتقين" (¬4) وأمثال ذلك (¬5). [ما يقوله المفتي فيما اجتهد فيه] والمقصود أن اللَّه [سبحانه] (1) حَرَّمَ القول عليه بلا علم في أسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، والمفتي يخبر عن اللَّه [عز وجل] (1) وعن دِينه، فإن لم يكن خبره مطابقًا لما شَرَعَه (¬6) كان قائلًا عليه بلا علم، ولكن إذا اجتهدَ واستفرغ وُسْعَه في معرفة الحق وأخطأ لم يلحقه الوعيد، وعفى له [عن ما] (¬7) أخطأ به، وأثيب على اجتهاده، ولكن لا يجوز أن يقول لما أداه إليه اجتهاده، ولم يظفر فيه بنص عن اللَّه ورسوله (¬8): إن اللَّه حرم كذا، وأوجب كذا، وأباح كذا، أو (¬9) إن هذا هو حكم اللَّه؛ قال ابن وَضَّاح: ثنا يوسف بن عَديّ، ثنا ¬
فصول في كلام الأئمة في أدوات الفتيا، وشروطها ومن ينبغي له أن يفتي وأن يسع قول المفتي: "لا أدري"؟
عَبيدة بن حُميد، عن عطاء بن السائب قال: [قال] (¬1) الربيع بن خُثَيْم: إياكم أن يقول الرجل لشيء: إن اللَّه حرم هذا أو نَهى عنه، فيقول اللَّه: كذبت [عليَّ] (2) لم أحرمه ولم أنْهَ عنه، أو يقول: إن اللَّه أحَلَّ هذا أو أمَرَ به، فيقول اللَّه: كذبت [عليَّ] (¬2) لم أُحلّه ولم آمُرْ به (¬3). قال أبو عمر: وقد روي عن مالك أنه قال في بعض ما كان ينزل به فيُسْأل عنه فيجتهد فيه رأيَهُ: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (¬4) [الجاثية: 32]. فصول (¬5) في كلام الأئمة في أدَوَات الفُتْيا (¬6)، وشروطها ومَنْ ينبغي له أن يفتي وأنْ يَسَع قول المفتي: "لا أدري"؟ (¬7) [أدوات الفتيا] قال الإمام أحمد، في رواية ابنه صالح عنه: ينبغي للرجل إذا حَمَل نفسَه على الفُتْيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، عالمًا ¬
بالسُّنن، وإنما جاء خلافُ مَنْ خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقلة معرفتهم بصحيحها من سَقيمها (¬1). و [قال] (¬2) في رواية ابنه عبد اللَّه: إذا كان عند الرجل الكتُبُ المصنفة فيها قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، واختلاف الصحابة والتابعين، فلا يجوز أن يعمل بما شاء، ويتخير فيقضي به ويعمل به حتى يسأل أهل العلم ما يؤخذ به (¬3)؛ فيكون يعمل (¬4) على أمر صحيح (¬5). وقال في رواية أبي الحارث: لا يجوز الإفتاء إلا لرجلٍ عالمٍ بالكتاب والسنة (¬6). وقال في رواية حَنْبل: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالمًا بقول مَنْ تقدَّم، وإلَّا فلا يُفتي (¬7). وقال محمد بن عبيد اللَّه بن المُنادي: سمعت رجلًا يسأل أحمد: إذا حفظَ الرجلُ مئة ألفِ حديثٍ يكون فقيهًا؟ قال: لا، قال: فمئتي ألفٍ؟ قال: لا، قال: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قال: فأربع مئة ألف، قال بيده هكذا، وحرّك يده (¬8). ¬
قال أبو الحسن (¬1): وسألت جَدِّي محمدَ بن عبيد اللَّه، قلت: فكم كان يحفظ أحمد بن حنبل؟ قال: أخذ عن ست مئة ألف (¬2). قال أبو حفص (¬3): قال لي أبو إسحاق: لما جلستُ في جامع المنصور للفتيا ذكرت هذه المسألة، فقال لي رجل: فانت هو ذا [لا] (¬4) تحفظ هذا المقدار حتى تفتي الناس فقلت له: -عافاك اللَّه- إنْ كنتُ لا أحفظُ هذا المقدار، فإني هو ذا أفْتِي الناس بقول مَنْ كان يحفظ هذا المقدار وأكثر منه (¬5). قال القاضي أبو يَعْلَى (¬6): "وظاهر هذا الكلام [من أحمد] أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذ لم يحفظ من الحديث هذا القدرَ الكثير الذي ذكره، وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى. . . "، ثم ذكر حكاية أبي إسحاق لما جلس في جامع المنصور، قال: "وليس هذا الكلام من أبي إسحاق مما يقتضي أنه كان يُقَلِّد أحمد فيما يفتي به؛ لأنه قد نص في بعض "تعاليقه على كتاب العلل" على الدلالة على منع الفتوى بغير علم؛ لقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} " [الإسراء: 36]. ¬
[هل تجوز الفتوى بالتقليد؟]
[هل تجوز الفتوى بالتقليد؟] قلت: هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد (¬1): أحدها: أنه لا يجوز الفَتْوى بالتقليد؛ لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يُطْلَق عليه اسم عالم، وهذا قول أكثر الأصحاب وقول جمهور الشافعية. والثاني: أن ذلك يجوز فيما يتعلق بنفسه، فيجوز له أن يقلد غيره من العلماء إذا كانت الفَتْوَى لنفسه، ولا يجوز أن يقلد العالم فيما يُفتي به غيره، وهذا قول ابن بَطَّة وغيره من أصحابنا؛ قال القاضي (¬2): ذكر ابنُ بَطَّة في "مكاتباته إلى البرمكِي": لا يجوز له أن يفتي بما يسمع مَنْ يفتي، وإنما يجوز أن يقلد لنفسه، فأما أن يتقلد لغيره ويفتي (¬3) به فلا. والقول الثالث: أنه يجوز ذلك عند الحاجة وعدم العالم المجتهد، وهو أصح الأقوال، وعليه العمل، قال القاضي (¬4): ذكر أبو حَفْصٍ في "تعاليقه" قال: سمعت أبا علي الحسن بن عبد اللَّه النَّجَّاد يقول؛ سمعت أبا الحسن بن بشار (¬5) يقول: ما (¬6) أعِيبُ على [رجل] (¬7) يحفظ [عن أحمد] (¬8) خمسَ مسائل؛ استند إلى بعض سَوَاري المسجد يُفتي بها (¬9). ¬
[شرط الإفتاء عند الشافعي]
[شرط الإفتاء عند الشافعي] وقال الشافعي فيما رواه عنه الخطيبُ في كتاب "الفقيه والمتفقه" له: لا يحل لأحد [أن] (¬1) يفتي في دين اللَّه إلا رجلًا عارفًا بكتاب اللَّه بناسخه ومنسوخه (¬2)، وبمُحْكَمِه (¬3) ومُتَشَابهه، وتأويله وتنزيله، ومَكّيّه ومَدَنيّه، وما أُريد به، و [فيما أُنزل، ثم] (¬4) يكون بعد ذلك بَصيرًا بحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبالناسخ والمنسوخ (¬5)، ويعرف من الحديث مثلَ ما عرف من القرآن، ويكون [بصيرًا] (¬6) باللغة، بصيرًا بالشعر وما يحتاج إليه [للسنة] (¬7) والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، [وقلة الكلام،] (4) ويكون بعد هذا مُشْرِفًا على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحةٌ بعد هذا، فإذا كان [هذا] (4) هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكن (هكذا) [فليس له أن يفتي] (¬8). وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال: ينبغي للرجل إذا حَمَلَ نفسه على الفُتْيا أن يكون عالمًا بالسنن، عالمًا بوجوه القرآن، عالمًا بالأسانيد الصحيحة، وذكر الكلام المتقدم (¬9). ¬
فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول
وقال علي بن شقيق: قيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؛ قال: إذا كان عالمًا بالأثر، بصيرًا بالرأي (¬1). وقيل ليحيى بن أكثم: متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان بصيرًا بالرأي بصيرًا بالأثر (¬2). قلت: يريدان بالرأي القياسَ الصحيح والمعانيَ والعللَ الصحيحة التي عَلّق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طَرْدًا وعكسًا (¬3). فصل في تحريم الإفتاء في دين اللَّه بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص والرأي الذي لم تشهد له النصوص بالقبول قال اللَّه (¬4): {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (¬5) [القصص: 50] فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما: إمَّا الاستجابة للَّه والرسول وما جاء به، وإما اتباع الهوى، فكُلُّ ما لم يأتِ به الرسول فهو من الهوى. [(¬6) وقال تعالى: {يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ]} (¬7) [ص: 26] فقسَّم سبحانه طريق الحكم بين الناس إلى الحقِّ، وهو الوحي الذي أنزله اللَّه على رسوله (¬8)، وإلى الهَوَى، وهو ما خالفه. وقال تعالى لنبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (7): {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ ¬
أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) [إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ] (¬1) وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19] فقسَّم الأمر بين الشريعة التي جَعَله [هو] (¬2) سبحانه عليها وأوحى إليه العملَ (¬3) بها، وأمَرَ الأمة بها، وبين اتِّباع أهواء الذين لا يعلمون؛ فأمر بالأول، ونهى عن الثاني. وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، فأمر باتِّباع المنزِّل منه خاصة، وأعْلَمَ أن من اتَّبع غيره فقد اتبع من دونه أولياء. قال (¬4) تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، فأمر تعالى (¬5) بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غير عَرْضِ ما أمر به [على الكتاب، بل إذا أمر وجَبَتْ طاعتُه مطلقًا، سواء (¬6) كان ما أمر به] (¬7) في الكتاب أو لم يكن [فيه] (¬8)، فإنه أوتي الكتاب ومثلَه معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالًا، بل حذف الفعلَ، وجعل طاعَتَهم في ضمن طاعة الرسول؛ إيذانًا بأنهم إنما يُطَاعون تَبَعًا لطاعة الرسول، فَمَنْ أمَرَ منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومَنْ أمَر (¬9) بخلاف ما جاء به الرسولُ فلا سَمْع [له] ولا طاعة كما صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا طاعَةَ لمخلوق في معصية الخالق" (¬10) وقال: "إنما الطَّاعة في ¬
المَعْرُوف" (¬1)، وقال في ولاة الأمور: "مَنْ أمركم منهم بمعصية اللَّه فلا سَمْعَ [له] ولا طاعة" (¬2)، وقد أخبر -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الذين أرادوا دخولَ النار لمَّا أمرهم أميرُهم بدخولها: "أنّهُمْ لو دَخَلُوا لما خَرَجُوا منها" (¬3) مع أنهم إنما كانوا يدخلونها طاعةً لأميرهم، وظنًا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قَصَّرُوا في الاجتهاد، وبادَرُوا إلى [طاعة (¬4) مَنْ أمَرَ بـ] معصية اللَّه، وحَمَلُوا عموم الأمر بالطاعة بما (¬5) لم يُرِدْه الآمر [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (6)، وما قد عُلِمَ من دينه [إرادةُ] (¬6) خلافِهِ، ¬
[حكم تنازع العلماء]
فَقَصَّرُوا في الاجتهاد، وأقْدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبُّت وتبيُّن، هل ذلك طاعة للَّه ورسوله أم لا؟ فما الظنُّ بمنْ أطاع غيرَه في صريح مخالفة ما بَعَثَ اللَّه به رسولَه؟ ثم أمر تعالى برد ما تنازع فيه المؤمنون إلى اللَّه ورسوله إن كانوا مؤمنين، وأخبرهم أن ذلك خير لهم في العاجل، وأحسنُ تأويلًا في العاقبة (¬1). [حكم تنازع العلماء] وقد تضمن هذا أمورًا: منها: أن أهلَ الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيمانًا. [لم يختلف الصحابة في مسائل الصفات والأسماء والأفعال] ولكن بحمد اللَّه لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء والصفات والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتابُ والسنة كلمةً واحدة، من أولهم إلى آرهم، لم يَسُوموها تأويلًا، ولم يُحَرِّفُوها عن مواضعها تبديلًا، ولم يبدو لشيء منها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يَدْفَعُوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحد منهم: يجب صَرْفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تَلَقَّوْها بالقَبُول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمرًا واحدًا، وأجْرَوْها على سَنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهلُ الأهواء والبِدَع حيث جعلوها عِضِينَ، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها من غير فُرْقَان مبين، مع أن اللازم لهم فيما أنكروه (¬2) كاللازم فيما أقروا به وأثبتوه. [التنازع في بعض الأحكام لا يخرج عن الإيمان] والمقصُودُ: أن أهل الإيمان لا يُخْرِجُهم تنازعُهم في بعض مسائل الأحكام ¬
[الأمر بالرد دليل على أن الكتاب والسنة يشتملان على حكم كل شيء]
عن حقيقة الإيمان إذا رَدُّوا ما تنازعوا فيه إلى اللَّه ورسوله؛ كما شرطه اللَّه عليهم بقوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] ولا رَيْبَ أن الحكم المعلق على شرط ينتفي عند انتفائه. [الأمر بالرد دليل على أن الكتاب والسنة يشتملان على حكم كل شيء] ومنها: أن قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} نكرةٌ في سياق الشرط تعمُّ كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين دِقِّهِ وجِلِّهِ، جَلِيَّهِ وخَفِيِّهِ، ولو لم يكن في كتاب اللَّه ورسوله بيانُ حكم ما تَنَازعوا فيه ولم يكن كافيًا، لم يأمر بالردّ إليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع (¬1) إلى مَنْ لا يوجَد عنده فَصْلُ النزاع. ومنها: أن الناس أجمعوا أن الرد إلى اللَّه سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- هو الرد (إلى نفسِه) (¬2) في حياته، وإلى سنته بعد وفاته. [الرد إلى اللَّه والرسول من موجبات الإيمان] ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجِبَاتِ الإيمان ولوازمه، فإذا انْتَفَى هذا الرد انتفى الإيمان؛ ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين؛ فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد (¬3) خيرٌ لهم، وأن عاقبته أحْسَنُ عاقبة] (¬4). [المتحاكمون إلى الطاغوت] ثم أخبر سبحانه أن مَنْ تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسولُ، فقد حَكَّم الطاغوتَ وتحاكم إليه، والطاغوت: كُل ما تجاوز به العبدُ حدَّه من معبود أو متبوع أو مُطَاعٍ؛ فطاغوتُ كل قوم مَنْ يتحاكمون إليه غير اللَّه ورسوله، أو يعبدونه من دون اللَّه، أو يتبعونه على غير بصيرة من اللَّه، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة للَّه؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتَهَا وتأملت أحوالَ الناس معها، ¬
رأيت أكثرهم [ممن أعرض عن عبادة اللَّه] (¬1) إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى اللَّه ورسوله (¬2) إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريقَ (¬3) الناجِينَ الفائزين من هذه الأمة -وهم الصحابة ومن تبعهم- ولا قَصدوا قَصْدَهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معًا، ثم أخبرنا تعالى عن هؤلاء أنهم (¬4) إذا قيل لهم: تَعَالَوْا إلى ما أنزل اللَّه وإلى الرسول أعْرَضُوا عن ذلك، ولم يستجيبوا للداعي، ورَضُوا بحكم غيره، ثم توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم (¬5) وأموالهم؛ بسبب إعراضهم عما جاء به الرسولُ وتحكيم غيره، والتحاكم إليه؛ كما قال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة: 49]، اعتذروا بأنهم إنما قصدوا الإحسان والتوفيق، أي بفعل (¬6) ما يرضي الفريقين، ويوفق بينهما كما يفعله من يروم التوفيق بين ما جاء به الرسول وبين ما خالفه، ويزعم أنه بذلك محسن قاصد الإصلاح والتوفيق، والإيمان إنما يقتضي إلقاء الحرب بين ما جاء به الرسول، وبين كل ما خالفه من طريقة وحقيقة وعقيدة وسياسة ورأي؛ فمحضُ الإيمان في هذا الحربُ لا في التوفيق، وباللَّه التوفيق. [ثم أقسم سبحانه بنفسه على نفي الإيمان عن العباد حتى يُحَكِّمُوا رسولُه في كل ما شَجَرَ بينهم من الدقيق والجليل، ولم يكتف في إيمانهم بهذا التحكيم بمجرده حتى ينتفي عن صدورهم الحَرَجُ والضِّيقُ عن (¬7) قضائه وحكمه، ولم يكتف منهم -أيضًا- بذلك حتى يسلموا تسليمًا، وينقادوا انقيادًا. وقال [تعالى] (¬8): {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فأخبر سبحانه: أنه ليس لمؤمن أن يختار بعد قضائه وقضاء رسوله، ومَن تخير بعد ذلك فقد ضَلَّ ضلالًا مبينًا] (¬9). ¬
[معنى التقديم بين يدي الله ورسوله]
[معنى التقديم بين يدي اللَّه ورسوله] وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ]} (¬1) [الحجرات: 1]، أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تأمروا حتى يأمر، ولا تُفْتُوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمرًا حتى يكون هو الذي يحكم فيه ويُمْضِيه، روى (¬2) علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس [-رضي اللَّه عنهما-] (1): لا تقولوا خِلَافَ الكتاب والسنة (¬3)، وروى العوفي [عنه] (¬4) قال: نُهُوا أن يتكلموا بين يدي كلامه (¬5). والقول الجامع في معنى الآية: لا تعجلوا بقول ولا فعل قبل أن يقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو يفعل (¬6). وقال [تعالى] (¬7): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2] فإذا كان رَفْعُ أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم؛ فكيف تقديم آرائهم، وعقولهم، وأذواقهم، وسياساتهم، ومعارفهم، على ما جاء به ورفعها عليه؟ أليس (¬8) هذا أولى أن يكون مُحْبِطًا لأعمالهم (¬9)؟. وقال [تعالى] (7): {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} [النور: 62]، فإذا جعل من لوازم الإيمان أنهم لا يذهبون مذهبًا إذا كانوا معه إلا باستئذانه؛ فأولى [أن يكون] (¬10) من لوازمه أن لا ¬
[ينزع العلم بموت العلماء]
يذهبوا إلى قولٍ، ولا مذهبٍ [علميٍّ] (¬1)؛ إلا بعد استئذانه، وإذنُه يُعْرَفُ بدلالة ما جاء على أنه أذِن فيه (¬2). [ينزع العلم بموت العلماء] [وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي الأسود، عن عُرْوَة بن الزبير، قال: حَجَّ علينا عبد اللَّه بن عمرو بن العاص فسمعته يقول: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن اللَّه لا يَنْزعُ العلم بعد إذ أعطاكموه انتزاعًا، ولكن يَنْزِعُه مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يُسْتَفْتَوْنَ فيفتون برأيهم فيُضِلُّون ويضِلُّون" (¬3)، وقال وكيع: حدثنا هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ينزع اللَّه العلمَ من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بموت العلماء، فإذا لم يُبْقِ عالمًا اتَخَذَ الناس رؤسَاء جهالًا؛ فقالوا بالرأي، فضلُّوا وأضلوا" (¬4). ¬
وفي "الصحيحين" من حديث عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: يا ابن أختي بَلَغَنِي أن عبد اللَّه بن عمرو مارٌّ بنا إلى الحج، فالْقَهُ فاسأله؛ فإنه قد حَمَلَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- علمًا كثيرًا، قال: فلقيته فسألته عن أشياء يذكرها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال عروة: فكان فيما ذكر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه لا ينزع العلم من الناس انتزاعًا، ولكن يقبض العلماء، فيرفع العِلْم معهم، ويَبقى في الناس رؤوسٌ جهال، يُفْتُونَهم بغير علم، فيُضِلُّون ويَضِلُّون"، قال عروة: فلما حدثْتُ عائشةَ بذلك؛ أعظمت ذلك وأنكرته (¬1)، قالت: أَحَدَّثَكَ أنه سمع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول هذا؟ قال عروة: نعم، حتى إذا كان عام قابل قالت لي: إن ابن عَمْرو قد قدم، فالْقَه، ثم فاتحه حتى تسأله عن الحديث الذي ذكره لك في العلم، قال: فلقيتُه فسألته فذكرهُ لي نحو ما حدثني به في المرة الأولى، قال عروة: فلما أخبرتُها بذلك قالت: ما أحْسَبه إلا قد صَدَق، أراه لم يزد فيه شيئًا، ولم ينقص. وقال البخاري في بعض طرقه: "فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون"، وقال: فقالت عائشة: واللَّه لقد حفظ عبدُ اللَّه (¬2). ¬
[الوعيد على القول بالرأي]
[الوعيد على القول بالرأي] وقال نُعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك: ثنا عيسى بن يونس، عن حَرِيز بن عثمان الرَّحَبي (¬1): ثنا عبد الرحمن بن جُبير بن نُفير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تفترق أمتي على بِضْع وسبعين فرقة، أعْظَمُها فتنةً قومٌ يقيسون الدين برأيهم، يحرِّمون [به] (¬2) ما أحلَّ اللَّه، ويحلُّون ما حرم اللَّه" (¬3). ¬
قال أبو عمر بن عبد البر: "هذا هو القياس على غير أصل، والكلام في الدين بالْخَرْصِ والظن، ألا ترى إلى قوله في الحديث: "يحلّون الحرام ويحرّمون الحلال"، ومعلوم أن الحلال ما في كتاب اللَّه وسنة رسوله تحليلُه، والحرام ما في كتاب اللَّه وسنة رسوله تحريمُه، فمن جهل ذلك وقال (¬1) فيما سُئِل عنه بغير علم، وقَاسَ برأيه ما خرج به عن السنة (¬2)؛ فهذا الذي قاس الأمور برأيه فَضَلَّ وَأَضَلَّ، فأما من (¬3) رَدَّ الفروعَ إلى أصولها فلم يقل برأيه" (¬4). ¬
فصل فيما روي عن صديق الأمة وأعلمها من إنكار الرأي
وقالت طائفة من أهل العلم: مَنْ أداه اجتهادهُ إلى رأي رآه ولم تَقُمْ عليه حجة فيه بعد فليس مذمومًا (¬1)، بل هو معذور، خالفًا كان أو سالفًا، ومَنْ قامت عليه الحجة فعانَدَ وتمادى على الفتيا برأي إنسان بعينه، فهو الذي يَلْحَقه الوعيد؛ وقد رُوِّينا في "مسند عَبْد بن حُمَيدَ" (¬2): ثنا عبد الرزاق: ثنا سفيان الثوري، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قال في القرآن برأيه فَلْيَتَبَؤَأ مَقْعَدَه من النار" (¬3). فصل فيما روي عن صِدِّيقِ الأمة وأعلمها من إنكار الرأي روينا عن عَبْد بن حُمْيد: ثنا أبو أسامة، عن نافع، عن عمر الجُمحيّ، عن ابن أبي مليكة قال: قال أبو بكر [-رضي اللَّه عنه-] (¬4): أيُّ أرضٍ تُقِلني، وأيُّ سماء تُظِلني ¬
إن (¬1) قلت في آيةٍ من كتاب اللَّه برأيي، أو بما لا أعلم (¬2). ¬
فصل في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب [-رضي الله عنه-]
وذكر الحسن بن علي الحُلْواني: حدثنا عارم، عن حماد بن زيد، عن سعيد ابن أبي صدقة، عن ابن سيرين قال: لم يكن أحَدٌ أهْيَبَ بما (¬1) لا يعلم من أبي بكر [-رضي اللَّه عنه-] (¬2)، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهْيَبَ بما (1) لا يعلم من عمر [-رضي اللَّه عنه-] (2)، وإن أبا بكر نزلَتْ به قضيةٌ فلم يجد في كتاب اللَّه منها أصلًا، ولا في السنة أثرًا فاجتهد برأيه، ثم قال: هذا رأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خَطَأ؛ فمني وأستغفر اللَّه (¬3). فصل في المنقول من ذلك عن عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (2) [قال ابن وهب: ثنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-] (¬4) قال وهو على المنبر: يا أيها الناس إن (¬5) الرأي إنما كان من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مصيبًا، إن اللَّه كان يُرِيهِ، وإنما هو منا الظنُّ والتكلفُ (¬6). قلت: مُراد عمر [-رضي اللَّه عنه-] (7) قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، فلم يكن له رأي غير ما أراه اللَّه إياه، و [أما] (¬7) ما رأى غيره فظن وتكلف. قال سفيان الئوري: ثنا أبو إسحاق الشَّيْباني، عن أبي الضَّحى، عن مسروق، قال: كَتَب كاتبٌ لعمر بن الخطاب: "هذا ما رأى اللَّه ورأى عمر"، فقال: بئس ما قلت، قل: هذا ما رأى عمر، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمن عمر (¬8). وقال ابن وهب: أخبرني ابن لَهِيعَةَ، عن عبيد (¬9) اللَّه بن [أبي] (7) جعفر قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (7): السُّنَّةُ ما سَنَّهُ اللَّه ورسولُه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (7)، لا ¬
تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة (¬1). قال (¬2) ابن وهب: وأخبرني ابن لَهِيعَةَ، عن أبي الزِّناد، عن محمد بن إبراهيم التيمي أن عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) قال: أصبح أهلُ الرأي أعْدَاء السنن، أعيتهم أن يَعُوهَا وتَفَلَّتَتْ منهم أن يَرْوُوها، فاسْتَبَقُوهَا بالرأي (¬4). قال ابن وهب: وأخبرني عبد اللَّه بن عياش (¬5)، عن محمد بن عَجْلان، عن عبيد اللَّه بن عمر أن [عمر] بن الخطاب قال: اتَّقُوا الرأي في دينكم (¬6). وذكر ابن عجلان، عن صَدَقة بن أبي عبد اللَّه أن عمر بن الخطاب كان يقول: أصحابُ الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديثُ أن يحفظوها وتَفَلَّتَتْ [منهم] (¬7) أن يَعُوها، واسْتَحْيَوْا حين سُئلوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم (¬8). ¬
وذكر ابن الهادي (¬1)، عن محمد بن إبراهيم التَّيْمي قال: قال عمر بن الخطاب: إياكم والرأيَ، فإن أصحاب الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديثُ أن يَعُوهَا، وتفلتت منهم أن يحفظوها، فقالوا في الدين برأيهم (¬2). [و] (¬3) قال الشعبي: عن [عمرو بن حُرَيْث]، قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (3): إياكم وأصحابَ الرأي فإنهم أعداء السنن، أعْيتَهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا (¬4). وأسانيد هذه الآثار عن عمر في غاية الصِّحة. وقال محمد بن عبد السلام الخُشَنيّ: ثنا محمد بن بشار: حدثنا يونس ابن (¬5) عُبيد اللَّه العميري (¬6): ثنا مُبارك بن فَضَالة، عن عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيها الناس، اتَّهِمُوا الرأي في الدين، فلقد رأيتني وإني لأرُدُّ أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأيي فاجتهد ولا آلو، وذلك ¬
يوم أبي جَنْدَل (¬1)، والكتابُ يكتب وقال: اكتبوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقال: يكتب (¬2) باسمك اللهم، فرضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبيْتُ، فقال: يا عمر تراني قد رضيتُ وتأبى؟ (¬3) وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبدُ الأعلى، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مَعْمر بن أبي حَبيبة مولى بنت صَفْوَان، عن عُبيد بن رفاعة، عن أبيه رفاعة بن رافع قال: بينما أنا عند عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬4) إذ دَخَلَ عليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين هذا زيد بن ثابت يُفتِي الناسَ في المسجد برأيه في الغسل من الجنابة، فقال عمر: عليّ به، فجاء زيد، فلما رآه عمر، فقال عمر: أيْ عَدُوَّ نفسه قد بلغْتَ أن تفتي الناس برأيك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، واللَّه ما فعلْتُ، ولكن سمعتُ من أعمامي حديثًا فحَدَّثت به: من أبي أَيوب، ومن أُبيّ بن كعب، ومن رفاعة بن رافع، فقال عمر: عليّ برفاعة بن رافع، فقال: قد كنتم تفعلون ذلك إذا أصاب أحدكم المرأة فأكسل (¬5) أن يغتسل؟ قال (¬6): قد كنا نفعل ذلك على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، لم يأتنا فيه عن اللَّه تحريم، ولم يكن فيه عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيء، فقال عمر: ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعلم (¬7) ذلك؟ قال: ما أدري، فأمر عمر بجمع المهاجرين والأنصار، فَجُمِعُوا، فشاورهم فشار الناس أن لا ¬
قول عبد الله بن مسعود [في (ذم) الرأي]
غُسْلَ (¬1)، إلا ما كان من مُعَاذ وعلي، فإنهما قالا: إذا جاوز الختانُ الختان وجب الغسلُ، فقال (¬2) عمر: هذا وأنتم أصحابُ بَدْرٍ قد اختلفتم، فمن بعدكم أشَدُّ اختلافًا، فقال علي: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحَدٌ أعلم بهذا من شأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أزواجه، فأرسَلَ إلى حَفْصَة فقالت: لا علم لي (¬3)، فأرسل إلى عائشة فقالت: إذا جاوز الختان، الْخِتَانَ فقد وجب الغسل، فقال: لا أسمع برجلٍ فعل ذلك إلا أوْجَعْتُه ضربًا (¬4). قول عبد اللَّه بن مسعود [في (ذم) الرأي] (¬5) قال البخاري: حدثنا سُنيد (¬6): ثنا يحيى بن زكريا، عن مجالد، (عن الشعبي)، عن مسروق، عن عبد اللَّه قال: لا يأتي عليكم عامٌ إلا وهو شر من الذي قبله، أما إني لا أقول: أمير خير من أمير، ولا عامٌ أخْصَبُ من عام، ولكن فقهاؤكم يذهبون ثم لا تَجِدُون منهم (¬7) خَلَفًا، ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم (¬8). ¬
وقال ابن وهب: ثنا شقيق: عن مجالد به، قال: ولكن ذَهَابُ خياركم وعلمائكم، ثم يَحْدُث قوم يَقِيسُون [الأمور] برأيهم فينهدم الإسلام، ويثلم (¬1). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا أبو خالد الأحمر، عن مجالد، (عن الشعبي)، عن مسروق قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: عُلَماؤكم يذهبون، ويتخذ الناس رؤوسًا جهالًا يَقِيسون الأمور برأيهم (¬2). وقال سُنَيْد بن داود: حدثنا محمد بن فَضل (¬3)، عن سالم بن أبي حَفْصة، عن مُنْذر الثوري، عن الرَّبيع بن خُثَيْم أنه قال: قال عبدُ اللَّه: ما عَلّمَكَ اللَّه [من علم] (¬4) في كتابه فاحْمدِ اللَّه، وما استأثر به عليك من علم فكِلْه إلى عالمه، ولا تتكلف؛ فإن اللَّه [عز وجل] (¬5) يقول [لنبيه] (¬6): {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (¬7) [ص: 86]. يروى هذا عن الربيع بن خثيم وعن عبد اللَّه. وقال سعيد بن منصور: حدثنا خَلَف بن خَليفة: ثنا أبو يزيد، عن الشعبي قال: قال ابن مسعود: إياك وأرأيت [أرأيت] (6)، فإنما هَلَك مَنْ كان قبلكم بأرأيت [أرأيت] (5)، ولا تقيسوا شيئًا فتزلَّ قَدَمٌ بعد ثبوتها، وإذا سُئل أحدكم عما لا يعلم؛ فليقل: لا أعلم؛ فإنه ثلث العلم (¬8). ¬
قول عثمان بن عفان [-رضي الله عنه-] [في (ذم) الرأي]
وصح عنه في الْمُفَوِّضَة (¬1) أنه قال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسولُه بريء [منه] (¬2). قول عثمان بن عفان [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) [في (ذم) الرأي] (¬4) قال محمد بن إسحاق: حدثني يحيى بن عَبَّاد، عن عبد اللَّه (¬5) بن الزبير قال: أنا واللَّه مع عثمان بن عفان بالْجُحْفَة إذ قال عثمان وذُكِرَ له التمتع بالعمرة إلى الحج: أتموا الحجَّ وأخلصوه (¬6) في أشهر الحج، فلو أخرَّتم هذه العمرة حتى تزوروا هذا البيتَ زورتين كان أفضل؛ فإن اللَّه قد أوْسَعَ في الخير، فقال له علي (¬7): عمدت إلى سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورُخْصَة رَخّصَ اللَّه للعباد بها في كتابه (¬8) تُضَيِّقُ عليهم فيها وتنهى عنها، [وكانت لذي الحاجة ولنائي الدار] (¬9)، ثم أهلّ علي بعمرة وحج معًا، فأقبل عثمان بن عفان [-رضي اللَّه عنه-] (3) على الناس فقال: أَنَهَيْتَ عنها؟ إني لم أنهَ عنها، إنما كان رأيًا أشرتُ به، فمن شاء أخَذَه ومن شاء تركهُ (¬10). ¬
قول علي بن أبي طالب [-رضي الله عنه-] [في (ذم) الرأي]
فهذا عثمان يخبر عن رأيه أنه ليس بلازم للأمة الأخذُ به [بل مَنْ شاء أخذ به] (¬1) ومن شاء تركه، بخلاف سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنه لا يَسَعُ أحدًا تركها، لقول أحد كائنًا (¬2) من كان. قول علي بن أبي طالب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) [في (ذم) الرأي] (¬4) قال أبو داود: حدثنا أبو كُرَيْب محمد بن العلاء: ثنا حفص بن غِيَاث، عن الأعمش، عن أبي إسحاق [السَّبيعي] (3)، عن عبدِ خَيْر، عن علي [-رضي اللَّه عنه -] (3) أنه قال: لو كان الدينُ بالرأي لكان أسْفَلُ الْخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه (¬5). قول عبد اللَّه بن عباس [-رضي اللَّه عنه -] (3) [في (ذم) الرأي] (4) قال ابن وهب: أخبرني بِشْر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عَبْدَة بن أبي لُبَابة، عن ابن عباس أنه قال: مَنْ أحدث رأيا ليس في كتاب اللَّه ولم تَمْضِ به سنة [من] (3) ¬
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يدر على ما هو منه إذا لقي اللَّه [عز وجل] (¬1). وقال عفان بن مسلم الصَّفَّار: ثنا عبد الرحمن بن زياد: حدثنا الحسن بن عمرو الفُقَيْمي، عن أبي فَزَارة قال: قال ابن عباس: إنما هو كتاب اللَّه وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فمن قال بعد ذلك برأيه؛ فلا أدْرِي أفِي حسناته يجد ذلك أم في سيئاته (¬2). وقال عَبْدُ بن حُمَيد (¬3): حدثنا حُسين بن علي الجعفي، عن زائدة، عن ليث، عن بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار (¬4). ¬
قول سهل بن حنيف (-رضي الله عنه-) [في ذم الرأي]
قول سهل بن حُنيف (-رضي اللَّه عنه-) [في ذم الرأي] (¬1) قال البخاري: حدثنا موسى بن إسماعيل: ثنا أبو عَوَانة، عن الأعمش، عن أبي وَائِل قال، قال سهل بن حُنَيْف: أيها الناس [اتهِمُوا رأيَكم (على دينكم)] (¬2)، لقد رأيتُني يومَ أبي جَنْدل، ولو أستطيع أن أردَّ أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لرددته (¬3). قول عبد اللَّه بن عمر [في ذم الرأي] (¬4) (-رضي اللَّه عنه-) قال ابن وهب: أخبرني عمرو بن الحارث أن عمرو بن دينار قال: أخبرني طاوس، عن عبد اللَّه بن عمر أنه كان إذا لم يجد في الأمر يُسْأل عنه شيئًا قال: إن شئتم أخبرتكم بالظن (¬5). وقال البخاري: قال لي صدقة، عن الفضل بن موسى، عن موسى بن عُقبة، عن الضَّحاك، عن جابر بن زيد قال: لقيني ابنُ عمر فقال: يا جابر، إنك من فقَهَاء البصرة، وتُسْتَفْتَى فلا تفتيَنَّ إلا بكتاب ناطق أو سنة ماضية (¬6). ¬
قول زيد بن ثابت (-رضي الله عنه-) [في ذم الرأي]
وقال مالك، عن نافع عنه: العلم ثَلَاث: كتاب ناطق (¬1)، وسنة ماضية، ولا أدري (¬2). قول زيد بن ثابت (-رضي اللَّه عنه-) [في ذم الرأي] (¬3) قال البخاري: حدثنا سُنيد بن داود: ثنا يحيى بن زكريا مولى ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن (¬4) أبي خالد، عن الشَّعبي، قال: أتَى زيدَ بن ثابت قومٌ، فسألوه عن أشياء، فأخبرهم بها، فكتبوها ثم قالوا: [لو] أخبرناه، قال: فأتوه فأخبروه، فقال: أعذرًا لعل كل شيء حدثتكم خطأ، إنما اجتهدتُ لكم رأيي (¬5). قول مُعَاذ بن جبل (-رضي اللَّه عنه-) [في ذم الرأي] (¬6) قال حماد بن سلمة: ثنا أيوبُ السِّخْتِيَاني، عن أبي قلابة، عن يزيد بن عَميرة (¬7) عن مُعَاذ بن جبل قال: تكونُ فِتَنٌ فيكثر فيها المال، ويُفتح القرآن حتى ¬
قول أبي موسى الأشعري [في ذم الرأي]
يقرأه الرجل والمرأة والصغير والكبير والمنافق والمؤمن، فيقرؤه الرجلُ فلا يُتَّبع، فيقول: واللَّه لأقرأنَّهُ عَلَانيةً، فيقرؤه علانية فلا يتبع، فيتخذ مسجدًا، ويبتدع كلامًا ليس من كتاب اللَّه ولا من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإيَّاكم وإيَّاه؛ فإنه بِدْعَة وضلالة، قاله معاذ ثلاث مرات (¬1). قول أبي موسى الأشعري [في ذم الرأي] (¬2) قال البغوي: ثنا الحجَّاجُ بن المِنْهَال: ثنا حماد بن سلمة، عن حُميد، عن أبي رجاء العُطَارِدي قال: قال أبو موسى الأشعري: مَنْ كان عنده علم فَلْيُعَلِّمه الناسَ، وإن لم يعلم فلا يقولَنَّ ما ليس له به علم، فيكونَ من المتكلفين ويَمْرُقَ من الدين (¬3). ¬
قول معاوية بن أبي سفيان [في ذم الرأي -رضي الله عنه-]
قول معاوية بن أبي سفيان [في ذم الرأي -رضي اللَّه عنه-] (¬1) قال البخاري: حدثنا أبو اليَمَان: ثنا شُعيب، عن الزهري قال: "كان محمدُ بن جُبَير بن مُطَعم يحدث أنه كان عند معاوية في وَفْدِ من قريش، فقام معاوية فحمِدَ اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإنه قد بَلَغني أن رجالًا فيكم يتحدثون بأحاديثَ ليست في كتاب اللَّه، ولا تُؤْثَر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأولئكم جُهَّالكم (¬2). [إخراج الصحابة الرأي من العلم] فهؤلاء من الصَّحابة: أبو بكر الصِّدِّيق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعبدُ اللَّه بن مسعود، وعبدُ اللَّه بن عباس، وعبدُ اللَّه بن عُمَر، وزيدُ بن ثابت، وسهلُ بن حُنَيْف، ومُعَاذ بن جبل، ومعاويةُ خالُ المؤمنين (¬3)، وأبو موسى الأشعري يُخْرِجُونَ الرأيَ عن العلم، ويذمونه، ويحذرون منه، وَيَنْهَونَ عن الفُتْيَا به، ومن اضْطُر منهم إليه أخبَر أنه ظن، وأنه ليس على ثقةٍ منه، وأنه يجوز أن يكون منه ومن الشيطان، وأن اللَّه ورسوله برئ منه، وأن غايته أن يَسُوغ الأخذُ به عند الضرورة من غير لزوم لاتباعه ولا للعمل به، فهل يوجد عن (¬4) أحد منهم قَطُّ أنه جَعَلَ رأي رجل بعينه دينًا تُتْرَكُ له السنن الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويُبَدَّع ويُضَلَّل مَنْ خالفه إلى اتباع السنن؟ فهؤلاء بَرْكُ (¬5) الإسلام، وعصابة الإيمان، وأئمة الهدى، ومصابيح الدجى، وأنْصَحُ الأئمة للأمة، وأعلمهم بالأحكام وأدلتها، وأفْقَهُهُمْ في دين اللَّه، وأعمقهم علمًا، وأقلّهم تكلفًا، وعليهم دارت الفتيا، وعنهم انتشر العلم، وأصحابُهم هم ¬
فصل [تأويل ما روي عن الصحابة من الأخذ بالرأي]
فقهاء الأمة، ومنهم مَنْ كان مُقيمًا بالكوفة كعلي وابن مسعود، وبالمدينة كعمر بن الخطاب وابنه وزيد بن ثابت، وبالبَصْرَة كأبي موسى الأشعري، وبالشام كمُعَاذ بن جبل ومعاوية بن أبي سفيان، وبمكة كعبد اللَّه بن عباس، وبمصر كعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وعن هذه الأمصار انتشر العلم في الآفاق، وأكثر مَنْ رُوي عنه التحذير من الرأي مَنْ كان بالكوفة إرهاصًا بين يَدَيْ ما عَلِم اللَّه [سبحانه] (¬1) أنه يحدث فيها بعدهم] (¬2). فصل [تأويل ما روي عن الصحابة من الأخذ بالرأي] قال أهل الرأي: وهؤلاء الصحابةُ ومَنْ بعدهم من التابعين والأئمة -وإن ذَمُّوا الرأيَ، وحَذّروا منه، ونَهَوْا عن الفتيا والقضاء به، وأخرجوه من (¬3) جملة العلم- فقد رُوي عن كثير منهم الفُتْيَا والقضاء به، والدلالة عليه، والاستدلال به، كقول عبد اللَّه بن مسعود في المُفَوِّضة (¬4): أقول فيها برأيي (¬5)، [وقول عمر بن الخطاب لكاتبه: قل: هذا ما رأى عمر بن الخطاب (¬6)، وقول عثمان بن عفان في الأمر بإفراد العُمْرَة عن الحج: إنما هو رأيٌ رأيته (¬7)، وقول علي في أمَّهات الأولاد: اتفق رأيي ورأيُ عمر على أن لا يُبَعْنَ (¬8). ¬
[طريقة أبي بكر وعمر في الحكم على ما يرد عليهما]
وفي كتاب عمر بن الخطاب إلى شُرَيح: إذا وَجَدْتَ شيئًا في كتاب اللَّه فاقْض به، ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب اللَّه فاقْضِ بما سنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن أتاك ما ليس في كتاب اللَّه [ولم يَسُنَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاقضِ بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب اللَّه ولا] (¬1) سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئتَ أن تجتهد رأيَكَ فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخرَ إلا خيرًا لك، ذكره سفيان الثوري، عن الشَّيْبانيّ، عن الشعبي، عن شُرَيْح أن عمر كتب إليه (¬2). [طريقة أبي بكر وعمر في الحكم على ما يرد عليهما] وقال أبو عُبيد في كتاب "القضاء": ثنا كَثير بن هِشَام، عن جعفر بن بُرْقَان، عن مَيْمون بن مَهْران قال: كان أبو بكر الصِّدِّيق إذا ورَدَ عليه حكمٌ؛ نَظَرَ في كتاب اللَّه تعالى، فإن وَجَد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب اللَّه نَظَر في سنة رسول اللَّه -رضي اللَّه عنه- فإن وَجَد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناسَ: هل علمتم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَضَى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القومُ فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سُنَّةً سَنَّها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جَمَع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به (¬3). وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجدَ ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر [فيه] (¬4) قَضاءٌ قضى به، وإلا جَمَعَ علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيُهم على شيء قضى به (¬5). ¬
[طريقة ابن مسعود]
[طريقة ابن مسعود] وقال أبو عبيد: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن ابن مسعود قال: أكثروا عليه ذاتَ يوم فقال: إنه قد أتى علينا زمان وَلَسْنَا نقضي (¬1)، ولسنا هناك، ثم إن اللَّه بلَّغَنا ما ترون، فمن عُرِضَ عليه قضاء بعد اليوم فَلْيَقْضِ بما في كتاب اللَّه، فإن جاءه أمر ليس في كتاب اللَّه ولا قَضَى به نبيه (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم-[فليقض بما قضى به الصالحون، فإن جاءه أمر ليس في كتاب اللَّه ولا قضى به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) ولا قضى به الصالحون فليجتهد رأيه، ولا يقل: إنّي أرى، وإني أخاف؛ فإن الحلال بَيِّنٌ والحرام بيِّن، وبين ذلك مشتبهات (¬4)، فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يريبك (¬5). وقال محمد بن جَرير الطَّبري: حدثني يعقوب بن إبراهيم: أنا هُشَيْم: أنا سَيَّار، عن الشَّعْبي قال: لما بعث عمر شُرَيْحًا على قضاء الكوفة قال [له]: انْظُرْ ما يتبين لك في كتاب اللَّه فلا تسأل عنه أحدًا، وما لم يتبين لك في كتاب اللَّه فاتبع فيه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما لم يتبين لك فيه السنة فاجتهد فيه رأيك (¬6). ¬
[من قياس الصحابة]
[من قياس الصحابة] وفي كتاب عمر إلى أبي موسى: "اعْرِفِ الأشبَاهَ والأمثال، وقِسِ الأمور" (¬1). وقايَسَ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت في المكاتَبِ (¬2)، وقايسه في الجدِّ والإخوة؛ فشَبَّهه عليٌّ بسيلٍ انشعبت منه شُعْبة، ثم انشعبت من الشعبة شعبتان (¬3)، وقايسه (¬4) زيد على شجرة انشعب منها غُصْن، وانشعب من الغصن غصنان (¬5). وقولهما في الجد: إنه لا يحجب الإخوة (¬6)، وقاس ابنُ عباس الأضراس ¬
[حال ابن مسعود]
بالأصابع، وقال: اعتبرها بها (¬1)؛ وسئل عليٌّ (-رضي اللَّه عنه-) عن مَسِيره إلى صِفِّين: هل كان بعهدٍ عَهِدهُ إليه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أم رأْي رآه؟ قال: بل رأي رأيته (¬2). وقال عبد اللَّه بن مسعود وقد سئل عن المفوضة: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسوله منه بريء (¬3). [حال ابن مسعود] وقال ابنُ أبي خَيْثَمة: ثنا أبي: ثنا محمد بن خَازِم (¬4)، عن الأعمش، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: مَنْ عَرَضَ له منكم قضاء فَلْيَقْضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فَلْيَقْضِ بما قضى فيه نبيُّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن جاءَهُ أمرٌ ليس في كتاب اللَّه ولم يَقْضِ فيه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَلْيَقْضِ بما قضى به الصالحون، فإن جاءَهُ أمر ليس في كتاب اللَّه ولم يقض به نبيه ولم يقض به الصالحون فليجتهد رأيه، فإن لم يُحْسِن فَلْيَقُم ولا يستحيي (¬5). ¬
[حال ابن عباس]
[حال ابن عباس] وذكر سفيان بن عُيَيْنَة، عن عُبيد اللَّه بن أبي يزيد (¬1) قال: سمعت ابن عباس إذا سئل عن شيء فإن كان في كتاب اللَّه قال به، وإن لم يكن في كتاب اللَّه وكان عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال به، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان عن أبي بكر وعمر قال به، فإن لم يكن في كتاب اللَّه ولا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا عن أبي بكر وعمر اجتهد رأيه (¬2). [حال أبيّ بن كعب] وقال ابن أبي خَيْثمة: حدثني أبي: ثنا عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سُفيان، عن عبد الملك بن أبْجَر (¬3)، عن الشعبي، عن مسروق قال: سألتُ أبيَّ بن كعب عن شيء فقال: أكان هذا؟ قلت: لا، قال: فأجِمَّنَا (¬4) حتى يكون، فإذا كان اجتهدنا لك رأينا (¬5). [جملة من أخذ من الصحابة بالرأي] قال أبو عمر بن عبد البر: وروينا عن ابن عباس أنه أرسل إلى زيد بن ثابت: أفي كتاب اللَّه ثُلُثُ ما بقي؟ فقال: أنا أقول برأيي وتقول برأيك (¬6). ¬
وعن ابن عمر أنه سئل عن شيء فَعَلَهُ: أرأيتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعل هذا أو شيء رأيته؟ قال: بل شيء رأيته (¬1). وعن أبي هريرة أنه كان إذا قال في شيء برأيه قال: هذه من كِيسِي، ذكره ابن وهْبَ، عن سُليمان بن بلال، عن كثير بن زَيْد، عن وليد بن رَبَاح (¬2) عن أبي هريرة (¬3). وكان أبو الدرداء يقول: إيَّاكم وفِرَاسَةَ العلماء (¬4)، احذروا أن يشهدوا عليكم شهادَةً تكُبُّكُمْ على وجوهكم في النار، فواللَّه إنه للحَقُّ يقذف اللَّه في قلوبهم (¬5). قلت: وأصل هذا في الترمذي (¬6) مرفوعًا: "اتقوا فراسة المؤمن؛ فإنه ينظر بنور اللَّه، ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]. ¬
وقال أبو عمر: ثنا عبد الوارث بن سفيان: ثنا قاسم بن أصْبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخُشَنِي (¬1) ثنا إبراهيم بن أبي الفياض البَرْقّي الشيخ الصالح: ثنا سُليمان بن يَزيع الإسكندراني: ثنا مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد الأنصاريّ، عن سعيد بن المسَيَّبِ، عن علي، قال: قلت: يا رسول اللَّه الأمر ينزل بنا لم يَنْزِل فيه القرآن، ولم تَمْضِ فيه منك سنة، قال: "اجْمَعُوا له ¬
العالِمين (¬1) -أو قال: العابدين- من المؤمنين، فاجعلوه شُورى بينكم، ولا تَقْضُوا (¬2) فيه برأي واحد" (¬3). وهذا غريب جدًّا من حديث مالك، وابراهيم البَرْقي وسُليمان ليسا ممن يحتج بهما. وقال عمرُ لعلي وزيد: لولا رأيُكما لاجتمع رأيي ورأي أبي بكر، كيف يكون ابني ولا أكون أباه؟ يعني الجد (¬4). وعن عمر أنه لقي رجلًا فقال: ما صنعت؟ قال: قضى عليٌّ وزيدٌ بكذا، قال: لو كنت أنا لقضيت بكذا، قال: فما منعك والأمر إليك؟ قال: لو كنت أردُّك إلى كتاب اللَّه أو [إلى] سنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- لفعلت، ولكني أردك إلى رأيٍ، والرأي مشترك (¬5). فلم يَنْقُضْ ما قال علي وزيد. وذكر الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن مسعود أنه قال: إن اللَّه اطَّلَعَ في قلوب العباد فرأى قلب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- خير قلوب العباد؛ فاختاره لرسالته، ثم اطلع في قلوب العباد بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، فما ¬
رآه المؤمنون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رآه المؤمنون قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح (¬1). وقال ابن وهب عن ابن لَهِيعة: إن عمر بن عبد العزيز استعمل عُرْوَة بن محمد السَّعْدي على اليمن، وكان من صالحي عُمَّال عمر، وإنه كتب إلى عمر يسأله عن شيء من أمر القضاء، فكتب إليه عمر: لَعَمْرِي، ما أنا بالنشيط على الفتيا وما وجدت منها بُدًّا، وما جعلتك إلا لتكفيني، وقد حَمَّلتك ذلك، فاقض فيه برأيك (¬2). [و] (¬3) قال محمد بن سعد: أخبرني رَوْح بن عُبادة: ثنا حماد بن سلمة، عن الجُرَيْري أن أبا سلمة بن عبد الرحمن قال للحسن: أرأيت ما تُفْتِي به الناس، أشيء سمعته أم برأيك؟ فقال الحسن: لا واللَّه ما كُلُّ ما نفتي به سمعناه، ولكنْ رأيُنَا لهم خير من رأيهم لأنفسهم (¬4). وقال محمد بن الحسن: مَنْ كان عالمًا بالكتاب والسنة وبقول أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وبما استحسن فقهاء المسلمين وَسِعَهُ أن يجتهد رأيه فيما يُبتلى به، ويقضي به، ويمضيه في صلاته وصيامه وحجِّه وجميع ما أُمِرَ به ونُهي عنه، فإذا ¬
فصل
اجتهد ونَظَرَ وقاس على ما أشبه ولم يألُ؛ وَسِعَهُ العمل بذلك، دفين أَخْطَأَ الذي ينبغي أن يقول به (¬1). فصل ولا تعارض بحمد اللَّه بين هذه الآثار، عن السادة الأخيار، بل كلها حق، وكل منها له وجه، وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطِلِ الذي ليس من الدين والرأي [الحق] (¬2) الذي لا مَنْدُوحة [عنه] (2) لأحد من المجتهدين، فنقول وباللَّه المستعان: [معنى الرأي] الرأي في الأصل مصدر رَأَى الشَيءَ، يَرَاهُ، رَأْيًا (¬3)، ثم غلب استعماله على المْرئي نفسه من باب استعمال المصدر في المفعول، كالهَوَى في الأصل مصدر هَوِيه يَهْوَاهُ هَوًى (¬4)، ثم استعمل في الشيء الذي يُهْوَى؛ فيقال: هذا هَوَى فلانٍ، والعرب تفرق بين مصادر فعل (الرؤية) بحسب محلها (¬5) فتقول: رأى كذا في النوم رُؤْيا، ورآه في اليقظة رؤيةً، ورأى كذا -لما يعلم بالقلب ولا يرى بالعين- رَأيًا، ولكنهم خَصُّوه بما يراه القلب بعد فِكْرٍ وتأمل وطلب لمعرفة وجه الصواب مما تتعارض فيه الأمارات؛ فلا يقال لمن رأى بقلبه أمرًا غائبًا عنه مما يَحُسُّ به: إنه رأي (¬6)، ولا يقال أيضًا للأمر المَعْقُول الذي لا تختلف فيه العقولُ ولا تتعارض فيه الأمارات: إنه رأي، وإن احتاج إلى فكر وتأمل كدقائق الحساب ونحوها (¬7). ¬
[الرأي على ثلاثة أنواع]
[الرأي على ثلاثة أنواع] فإذا عُرِف هذا فالرأي ثلاثة أقسام: رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح، ورأي هو موضع الاشتباه؛ والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح، وعملوا به وأفْتَوا به، وسَوَّغُوا القول به، وذمُّوا الباطل، ومنعوا من العمل [به] (¬1) والفتيا والقضاء به، [وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله. والقسم الثالث: سَوَّغوا العمل والفُتْيَا والقضاء به] (¬2) عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بُدٌّ، ولم يلزموا أحدًا العمل به، ولم يُحرِّموا مخالفته، ولا جعلوا مُخالِفَه مخالفًا للدين، بل غايته أنهم خَيَّرُوا بين قبوله ورده؛ فهو بمنزلة ما أبيح للمضطر من الطعام والشراب الذي يحرم عند عدم الضرورة إليه، كما قال الإمام أحمد: سألت الشافعي عن القياس، فقال لي: عند الضرورة (¬3) وكان استعمالهم لهذا النوع بقدر الضرورة: لم يُفَرِّطُوا فيه ويُفَرِّعُوه ويُوَلِّدُوه ويُوَسِّعُوه كما صنع المتأخرون، بحيث اعتاضوا به عن النصوص والآثار، وكان أسهل عليهم من حفظها، كما يوجد كثير من الناس يضبط قواعد الإفتاء لصعوبة النقل عليه وتَعَسُّر حفظه، فلم يتعدَّوا (¬4) في استعماله قدر الضرورة، ولم يَبْغُوا العدول (¬5) إليه مع تمكنهم من النصوص والآثار؛ كما قال تعالى في المضطر إلى الطعام المُحَرَّم: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (¬6)} [البقرة: 173] فالباغي: الذي يبتغي الميتة مع قدرته على التوصُّل إلى المُذَكَّى، والعادي: الذي يتعدَّى قدر الحاجة بأكلها. [الرأي الباطل وأنواعه] فالرأي الباطل أنواع: أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام ¬
فصل [الرأي المتضمن تعطيل الأسماء والصفات الإلهية]
فسادُه وبطلانه، ولا تحلُّ الفتيا به ولا القضاء، وإن (¬1) وقع فيه مَنْ وقع بنوع تأويلٍ وتقليد. النوع الثاني: هو الكلام في الدين بالخرْص والظن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، فإنَّ مَنْ جهلها وقاسَ برأيه فيما سئل عنه بغير علم، بل لمجرد (¬2) قدر جامع بين الشَّيئين ألحق أحدهما بالآخر، أو لمجرد قدرٍ فارقٍ يراه بينهما، ففرق (¬3) بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار؛ فقد وقع في الرأي المذموم الباطل [فضلَّ وأضل] (¬4). فصل [الرأي المتضمن تعطيل الأسماء والصفات الإلهية] النوع الثالث (¬5): الرأيُ المتضمنُ تعطيلَ أسماءِ الربِّ وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة التي وضعها أهلُ البدع والضلال من الْجَهْمِيَّة والمُعْتَزلة والقَدَريَّة ومن ضَاهَاهُم، [حيث استعمل أهله قياساتِهِم الفاسدة وآراءَهم الباطلة وشُبَهَهَم الداحضة في رَدِّ النصوص الصحيحة الصريحة، فردوا لأَجلها ألفاظ النصوص التي وجدوا السبيل إلى تكذيب رواتها وتخطئتهم، ومعاني النصوص التي [لم يجدوا] (¬6) إلى رَدِّ ألفاظها سبيلًا، فقابلوا النوع الأول بالتكذيب، والنوع الثاني بالتحريف [والتأويل] (¬7)، فانكروا لذلك رؤية المؤمنين رَبَّهم في الآخرة، وأنكروا كلامه وتكليمه لعباده، وأنكروا مباينته للعالم، واستواءه على عرشه، وعُلوَّهُ على المخلوقات، وعموم قدرته على كل شيء، بل أخرجوا أفعال عباده من الملائكة والأنبياء والجن والإنس عن تعلُّقِ قُدْرَتِه ومشيئته وتكوينه لها، ونَفَوْا لأجلها حَقائقَ ما أَخبرَ به عن نفسه وأَخبرَ به رسولُه (¬8) من صِفاتِ كَمالهِ ونُعوتِ جَلَاله؛ وحرَّفوا لأجلها النصوص عن مَواضِعِها، وأخرجوها عن معانيها [وحقائقها] (¬9) بالرأي ¬
[نشأة الفساد من تقديم الرأي والهوى على الوحي]
المجرد الذي حقيقته أنه زُبالة الأذهان ونُخالة الأفكار وعُفارة (¬1) الآراء ووساوس الصدور، فملأوا به الأوراق سَوَادًا، والقلوب شُكوكًا، والعالم فسادًا. [نشأة الفساد من تقديم الرأي والهوى على الوحي] وكل من له مسْكَة من عقل، يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي، والهوى على العقل، وما استحكم هذان الأصلان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه، و [لا] (¬2) في أمة إلا فسد أمرها أتمَّ الفساد] (¬3)، فلا إله إلا اللَّه كم نُفِيَ بهذه الآراء من حق، وأُثْبِتَ بها من باطل، وأميت بها من هدًى، وأحيي بها من ضلالة؟ [وكم هُدِمَ بها من مَعْقَل الإيمان (¬4)، وعُمِّر بها من دين الشيطان؟ وأكثر أصحاب الجحيم هم أهل (¬5) الآراء الذين لا سَمْعَ لهم ولا عَقْل، بل هم شرٌّ من الحُمُر (¬6)، وهم الذين يقولون يوم القيامة: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] (¬7). [النوع الرابع من الرأي] النوع الرابع: الرأي الذي أُحدثت به البدع، وغُيِّرت به السنن، وعمَّ به البلاء، وتربَّى عليه (¬8) الصغير، وهَرِمَ فيه الكبير. فهذه الأنواع الأربعة من الرأي الذي اتفق سلف الأمَّة وأئمتها على ذمِّه وإخراجه من الدين. [النوع الخامس من الرأي] النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر عن جمهور أهل العلم أن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن أصحابه والتابعين [- رضي اللَّه عنهم-] (¬9) أنه ¬
[لعن من يسأل عما لم يكن]
القول في [أحكام] (¬1) شرائع الدين بالاستحسان والظُّنون، والاشتغال بحفظ المعْضِلات والأغلوطات، ورَدِّ الفروع [والنوازل] (¬2) بعضها على (¬3) بعضٍ قياسًا، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستُعْمِل فيها الرأي قبل أن [تنزل] (¬4)، وفُرِّعت وشُققت (¬5) قبل أن تقع، [وتُكّلِّم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن] (¬6)، قالوا: وفي الاشتغال بهذا والاستغراق فيه تعطيل السنن، والبعث على [جهلها] (¬7)، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب اللَّه [عز وجل] ومعانيه، واحتجوا (¬8) على [صحة] (¬9) ما ذهبوا إليه [من ذلك] (¬10) بأشياء. [لَعْنُ مَنْ يسأل عَمَّا لم يكن] ثم ذكر من طريق أسد بن موسى: ثنا شَرِيك عن لَيْث، عن طاوس، عن ابن عمر قال: لا تسألوا عما لم يكن، فإني سمعت عمر يلعن مَنْ سأل (¬11) عما لم يكن (¬12)، ثم ¬
ذكر من طريق أبي داود: ثنا إبراهيم بن موسى الرَّازي (¬1): ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن عبد اللَّه بن سعد، عن الصُّنابحي، عن معاوية [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن الأُغُلُوطات (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي بإسناده [مثله] (¬1)؛ وقال: فسَّره الأوزاعي يعني صِعَاب المسائل. وقال الوليد بن مسلم: عن الأوزاعي، عن عبد اللَّه بن سَعْد، عن عبادة بن [نسي، عن] (¬2) الصُّنَابحي، عن معاوية بن أبي سُفيان أنهم ذكروا المسائل [عنده] (¬3)، فقال: أتعلمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[نهى عن عُضَل المسَائِل (¬4). قال أبو عمر: واحتجوا أيضًا بحديث سهل [بن سعد] (¬5) وغيره أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6) كره المسائل وعَابَها (¬7)، وبأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه [عز وجل] (¬8) يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال" (¬9). [وقال ابن أبي خَيْثمة: ثنا أبي: [ثنا عبد] (¬10) الرحمن بن مهدي: ثنا مالك، عن الزُّهْري، عن سهل بن سعد قال: لعن رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المسائل وعابها (¬11). قال أبو بكر: هكذا ذكره أحمد بن زهير بهذا الإسناد، وهو خلاف لفظ "الموطأ" (¬12). ¬
قال أبو عمر: وفي سماع أشهب: سئل مالك عن قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال"، فقال: أما كثرة السؤال [فلا أدري أ] (¬1) هو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل؛ فقد كره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المسائل وعَابَها (¬2)، وقال اللَّه [عز وجل] (¬3): {لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101] فلا أدري أهو هذا أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء؟!. وقال الأوزاعي، عن عَبْدة بن أبي لُبَابة: وددت أن [حَظِّيَ] (¬4) من أهل هذا الزمان أن لا أسالهم عن شيء ولا يسألوني [عن شيء] (¬5)، يتكاثرون بالمسائل كما يتكاثر أهل الدَّراهم بالدَّراهم (¬6). ¬
[سؤال الصحابة عما ينفع]
قال: واحتجوا أيضًا (¬1) بما رواه ابن شِهَاب عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أنه سمع أباه يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "أعْظَمُ المسلمين في المسلمين جُرْمًا مَنْ سأل عن شيء لم يُحرَّم على المسلمين فحرَّم عليهم من أجل مسألته" (¬2). وروى ابن وهب أيضًا قال: حدثني ابن لَهيعة، عن الأعرج، عن أبي هريرة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ذَرُوني ما تركتكم؛ فإنما أهلك (¬3) [من كان قبلكم بكثرة] (¬4) سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فَخُذُوا منه ما استطعتم" (¬5). وقال سفيان بن عُيَيْنة، عن عمرو، عن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) وهو على المنبر: أحَرِّجُ باللَّه على [كل] (¬7) امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن اللَّه [عز وجل] (¬8) قد بَيَّين ما هو كائن (¬9). [سؤال الصحابة عما ينفع] وقال أبو عمر: وروى جَرير (¬10) بن عبد الحميد ومحمد بن فُضَيْل عن عطاء بن السَّائب، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: ما رأيت قومًا خَيْرًا من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض -صلى اللَّه عليه وسلم-، كلهن في القرآن: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} ما كانوا يسألونه إلا عما ينفعهم (¬11). ¬
[الأشياء التي نهي عن السؤال عنها]
قال أبو عمر: ليس في الحديث من الثلاث عَشْرَة مسألة إلا ثلاث (¬1). قلت: ومراد ابن عباس بقوله: "ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة" المسائل التي حكاها اللَّه في القرآن عنهم، وإلا فالمسائل التي سألوه عنها وبيّنَ لهم أحكامها بالسنة لا تكاد تحصى، ولكن إنما كانوا يسألونه عما ينفعهم من الواقعات، ولم يكونوا يسألونه عن المقدَّرات والأغلوطات وعُضَل المسائل، ولم يكونوا يشتغلون بتفريع المسائل وتوليدها، بل كانت همَمُهم مقصورة على تنفيذ ما أمرهم به، فإذا وقع بهم أمر سألوا عنه فأجابهم (¬2). [الأشياء التي نُهيَ عن السؤال عنها] وقد قال [اللَّه] (¬3) تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101 - 102]. وقد اختُلِف في هذه الأشياء المسؤول عنها: هل (¬4) أحكام قَدَريَّة أو أحكام شرعية؟ على قولين؛ فقيل: إنها أحكام شرعية عفا اللَّه عنها، أي سكتَ عن تحريمها فيكون سؤالهم عنها سبب تحريمها، ولو لم يسألوا ¬
[توضيح معنى آية النهي عن السؤال]
[عنها] (¬1) لكانت عفوًا، ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سُئل عن الحج-: "أفي كُلِّ عام؟ فقال: لو قُلتُ نعم لوجبت، ذَرُوني ما تركتكم، فإنما هَلَكَ مَنْ كان قبلكم بكثرة مَسَائِلِهم (¬2) واخِتلافِهِم على أَنْبِيائِهم" (¬3)؛ ويدل على هذا التأويل حديثُ أبي ثعلبة [المذكور] (¬4) "إن أعظم المسلمين في المسلمين جُرْمًا [من سَئل عن شيء لم يُحرّم، فحُرِّم من أجل مسألته" (¬5)]، ومنه الحديث الآخر: "إن اللَّه فَرَضَ فرائض فلا تضيِّعوها، وحد حدودًا فلا تَعْتَدُوها، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم [من] (¬6) غير نِسْيَانٍ فلا تبحثوا عنها" (¬7) وفُسِّرت بسؤالهم عن أشياء من الأحكام القدرية؛ كقول عبد اللَّه بن حُذَافة: "مَنْ أبي يا رسول اللَّه؟ " (¬8)، وقول آخر: "أيْنَ أبي (¬9) يا رسول اللَّه؟ " قال: "في النار" (¬10). [توضيح معنى آية النهي عن السؤال] والتحقيق أن الآية تعم النهيَ عن النوعين، وعلى هذا فقوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ ¬
لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [إما] (¬1) في أحكام الخلق والقدر، فإنه يسوءهم أن يبدوَ لهم [ما يكرهونه مما سألوا عنه، وإما في أحكام التكليف فإنه يسوءهم أن يبدوَ لهم] (¬2) ما يشقُّ عليهم تكليفه مما سألوه عنه. وقوله [تعالى] (¬3): {وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} فيه قولان: أحدُهما: أنَّ القُرْآن إذا نَزَل بها ابتداءً بغير سؤال فسَألتُم عن تفصيلِها وعِلْمها أُبديَ لكم وبُيّنَ لكم، والمراد بحين النزول زمنه المتصل [به] (¬4)، لا الوقت المقارن للنزول، وكأن في هذا إذنًا لهم في السؤال عن تَفْصيل المُنزَّل ومعرفته بعد إنزاله؛ ففيه رفعٌ لتوهُّمِ المَنْعِ من السؤال عن الأشياء مطلقًا. والقول الثاني: أنه من باب التهديد والتحذير، أي [إن] (¬5) سألتم عنها في وقتِ نُزولِ الوَحي جاءكم بيانُ ما سألتم عنه [ولا بد، وبَدا لكم ما يسُؤكم؛ (لأنه وقت وحي، فاحذروا أن يُوحيَ اللَّه إلى رسوله في بيان ما سألتم عنه ما] (¬6) يسوءكم والمعنى: لا تتعرضوا للسؤال عما يسوءُكُم) (¬7) بيانُه، وإن تعرضتم له في زمن الوحي أُبديَ لكم. وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} أي: عن بيانها خبرًا وأمرًا، بل طوى بيانَها عنكم رحمةً ومغفرةً وحلمًا (¬8) واللَّه غفور حليم. فعلى القول الأول: عفا اللَّه عن التكليف بها تَوْسِعَةَ عليكم، وعلى القول الثاني: عفا اللَّه عن بيانها لئلا يسوءكم بيانها (¬9). وقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)} أراد نوع تلك المسائل، لا أعيانها، أي قد تعرَّضَ قوم من قبلكم لأمثال هذه المسائل، فلما بُيِّنَت لهم كفروا بها، فاحذروا مشابهتَهُم والتعرُّضَ (¬10) لما تعرضوا له. ولم ينقطع حكم هذه الآية، بل [لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال] (¬11) عما ¬
فصل [الآثار عن التابعين في ذم الرأي]
إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه، ويأخذ بعفو اللَّه، ومن ههنا قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬1): يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا، لما سأله رفيقه عن مائِه أطاهر أم لا (¬2)؟ وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طَوَاه عنه وسَتَره، فلعلَّه يسوءه إن بَدَى له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرُّض لما يكرهه اللَّه؛ فإنه سبحانه يكره إبدائها، ولذلك سكت عنها، [واللَّه أعلم] (¬3). فصل [الآثار عن التابعين في ذم الرأي] قالوا: ومن تدبر الآثار المروية في ذم الرأي وجدَها لا تخرج عن هذه الأنواع المذمومة، ونحن نذكر آثار التابعين ومَنْ بعدهم بذلك؛ ليتبيَّن مرادهم: قال الخُشَني: ثنا محمد بن بَشَار: ثنا يحيى بن سعيد القَطَّان، عن مُجَالد عن الشعبي، قال: لعن اللَّه أَرأيتَ (¬4). ¬
قال يحيى بن سعيد: وثنا صالح بن مُسْلِم قال: سألت الشعبي عن مسألة من النكاح فقال: إن أخبرتُكَ برأيي [فَبُل] عليه (¬1). [قالوا: فهذا قول الشعبي في رأيه، وهو من كبار التابعين] (¬2)، وقد لَقي مئة وعشرين من الصحابة، وأخذ عن جمهورهم (¬3). وقال الطحاوي: ثنا سُليمان بن شُعَيْب: ثنا عبد الرحمن بن خالد: ثنا مالك بن مِغْوَل، عن الشعبي قال: ما جاءكم به هؤلاء عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فخذوه، وما كان من رأيهم فاطرحوه في الحشِّ (¬4). [وقال البخاري: حدثنا سُنيد بن داود: ثنا حماد بن زيد (¬5)، عن عمرو بن دينار قال: قيل لجابر بن زيد: إنهم يكتبون ما يسمعون منك، قال: إنا للَّه وإنا إليه ¬
راجعون، يكتبونه وأنا أرجع عنه غَدًا (¬1). وقال إسحاق بن راهويه] (¬2): قال سفيان بن عُيَينة: اجتهاد الرأي هو مشاورة أهل العلم، لا أن [يقول هو] (¬3) برأيه. [وقال ابن أبي خَيْثَمة: ثنا الحَوْطي: ثنا إسماعيل بن عَيَّاش، عن سوادة بن زياد وعَمرو بن المُهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى الناس: إنه لا رَأْيَ لأحد مع سنةٍ سَنَها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬4). قال أبو نَضْرَة (¬5): سمعت أبا سَلَمة بن عبد الرحمن يقول للحسن البصري: بَلَغني أنك تُفْتِي برأيك، فلا تُفْتِ برأيك إلا أن يكون سنةً عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). [وقال البخاري: حدثني محمد بن مَحْبوبِ: ثنا عبد الواحد: ثنا الزِّبْرقان بن عبد اللَّه الأسدي أن أبا وائل شَقِيق بن سَلَمة قالَ: إياك ومجالسَةَ من يقول: أرأيت أرأيت (¬7). ¬
وقال أبان بن عيسى بن دِينار، عن أبيه، عن ابن القاسم، عن مالك، عن ابن شِهَاب قال: دَعُوا السنة تمضي، لا تَعَرَّضُوا لها بالرأي] (¬1). وقال يُونُس، [ثنا ابن وهب أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن أبي الأسود -وهو محمد بن عبد الرحمن بن نَوْفَل- سمعت عُرْوة بن الزبير يقول: ما زال أمرُ بني إسرائيل معتدلًا حتى نشأ فيهم المولِّدون [أبناء] سَبَايا الأمم (¬2)، فأخذوا فيهم بالرأي، فأضَلُّوهم (¬3). ¬
وذكر ابن وَهْب، عن ابن شِهَاب أنه قال وهو يذكر ما وَقَعَ فيه الناسُ من هذا الرأي وتركهم السنن، فقال: إن اليهودَ والنصارى [إنما] (¬1) انسلخوا من العلم الذي بأيديهم حين اتَّبَعُوا الرأي وأخذوا فيه (¬2). [وقال ابن وَهْب: حدثني ابنُ لَهيعة أن رجلًا سأل سالم بن عبد اللَّه بن عمر عن شيء، فقال: لم أسمع في هذا شيئًا، فقال له الرجل: فأخبرني أصلحك اللَّه برأيك، فقال: لا، ثُمَّ أعاد عليه، فقال: إني أَرْضى برأيك (¬3)، فقال [سالم: إنِّي] لعلِّي إنْ أخبرتُك برأيي ثم تذهب فأرّى بعد ذلك رأيًا غيره فلا أجدك (¬4). وقال البُخاريُّ: حدثنا عبد العزيز بن عبد اللَّه الأُوَيْسيُّ: ثنا مالك بن أنس قال: كان رَبيعة يقول لابن شهاب: إن حالي ليس يُشْبه حالك، أنا أقول برأيي ¬
مَنْ شاء أخذه وعمل به ومَنْ شاء تركه (¬1). وقال الفريابي: ثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقي قال: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: سمعت حماد بن زيد يقول: قيل لأيوبَ السِّخْتِياني: مالك لا تنظر في الرأي؟ فقال أيوب: قيل للحمار مالك لا تَجترُّ (¬2)؟ قال: أكره مَضْغَ الباطل (¬3). وقال الفِرْيَابي: ثنا العَبَّاس بن الوليد بن مَزْيَد: أخبرني أبي قال: سمعت الأوزاعيَّ يقول: عليك بآثار مَنْ سَلَفَ وإن رَفَضَك الناسُ، وإياك وآراء الرجال وإن زَخْرَفوا لك القول (¬4). وقال أبو زرعة: ثنا أبو مُسْهِر قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه كان إذا سُئِل (¬5) لا يُجيبُ حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه، هذا الرأي، والرأيُ يخطئُ ويصيب] (¬6). ¬
[المتعصبون عكسوا القضية]
وقد روى أبو يوسف والحسن بن زياد كلاهما عن أبي حنيفة أنه قال: عِلْمُنَا هذا رأيٌ، وهو أحسن ما قَدِرْنا عليه، ومن جاءنا بأحْسَنَ منه قبلناه منه. [وقال الطحاوي: ثنا محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم: ثنا أشهب بن عبد العزيز قال: كنتُ عند مالك فسُئل عن ألبتَّة (¬1)، فأخَذْتُ ألواحي لأكتب ما قال، فقال لي مالك: لا تفعل، فعَسَى في العشيِّ أقول: إنها واحدة] (¬2). وقال مَعْنُ بن عيسى القَزَّاز: سمعت مالكًا يقول: إنما أنا بشر أُخطئ وأُصيب، فانظروا في قولي، فكلُّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وما لم يوافق الكتابَ والسنة فاتركوه (¬3). فرضيَ اللَّه عن أئمة الإسلام، وجَزَاهم عن نصيحتهم [للأمة] (¬4) خيرًا، ولقد امتثل وصيتَهم وسلك سبيلَهم أهلُ العلم والدين من أتباعهم. [المتعصبون عكسوا القضية] وأما المتعصبون فإنهم عكسوا القضية، ونظروا في السنة، فما وافق أقوالَهم منها قبلوه، وما خالفها تحيَّلوا في ردِّه أو ردِّ دلالته، وإذا جاء نظيرُ ذلك أو أضعفُ منه سندًا ودلالَةً وكان موافقًا (¬5) قولَهم قبلوه، ولم يستجيزوا رده، واعترضوا به على (¬6) منُازعيهم، وأشاحوا (¬7) وقرَّروا الاحتجاج بذلك السند ودلالته، فإذا جاء ذلك السندُ [بعينه] (¬8) أو أقوى منه، ودلالته كدلالة ذلك أو ¬
[كلام أئمة الفقهاء في الرأي]
أقوى منه في خلاف قولهم، دفَعُوهُ ولم يقبلوه، وسنذكر من هذا إن شاء اللَّه طَرَفًا عند ذكر غائلة (¬1) التقليد وفساده، والفرق بينه وبين الاتِّباع. [كلام أئمة الفقهاء في الرأي] و [قال بَقِيُّ بن مَخْلَد: ثنا سَحْنون والحارثُ بن مِسْكين] (¬2)، عن [ابن] (¬3) القاسم عن مالك أنه كان يُكثر أن يقول: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} (¬4) [الجاثية: 32]. وقال القعنبي: دخلت على مالك بن أنس في مَرَضِه الذي مات فيه، فسلّمْتُ عليه، ثم جلستُ، فرأيته يبكي، فقلت له: يا أبا عبد اللَّه، ما الذي يبكيك؟ فقال [لي]: يا ابن قعنب، ومالي لا أبكي؟ ومَنْ أحقُّ بالبكاء مِنِّي؟ واللَّه لودِدْتُ أني ضُربت بكلِّ (¬5) مسألة أفْتَيْتُ فيها بالرأي سَوْطًا، وقد كانت لي السَّعَة فيما قد سُبقت [إليه]، وليتني لم أفْتِ بالرأي (¬6). وقال ابنُ أبي داود: ثنا أحمد بن سِنان قال: سمعت الشافعيَّ يقول: مَثَلُ الذي يَنْظرُ في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عُولج حتى بَرأ فأعقل ما يكون قد هاج به (¬7). وقال ابن أبي داود: حدثنا عبد اللَّه بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: لا تكاد تَرَى أحدًا ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دَغَل (¬8). ¬
[أبو حنيفة يقدم الحديث الضعيف على الرأي والقياس]
وقال عبد اللَّه بن أحمد أيضًا: سمعت أبي يقول: الحديثُ الضعيف أحَبُّ إليَّ من الرأي، وقال عبد اللَّه (¬1): سألت أبي عن الرجل يكون ببلد لا يجدُ [فيه] إلا صاحبَ حديثٍ لا يعرف صحيحَه من سقيمه وأصحابَ رأيٍ، فتنزل بهم (¬2) النازلة؟ فقال أبي: يسأل أصحابَ الحديث، ولا يسأل أصحابَ الرأي، ضعيفُ الحديثِ أقوي من الرأي (¬3). [أبو حنيفة يقدم الحديث الضعيف على الرأي والقياس] وأصحاب أبي حنيفة [رحمه اللَّه] (¬4) مُجْمِعُونَ على أن مذهبَ أبي حنيفة أن ضعيف الحديث [عنده أولى] (¬5) من القياس والرأي، وعلى ذلك بَنَى مذهبه، كما قدَّم حديث القَهْقَهة (¬6) مع ضعفه على القياس والرأي، [وقَدَّم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السَّفر (¬7) مع ضَعْفه على الرأي والقياس، ومنع قَطْعَ السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم (¬8) والحديث فيه ضعيف، وجعل أكثرَ الحيض عشرةَ أيام (¬9) والحديث فيه ضعيف، وشَرَط في إقامة الجمعة المِصْرَ والحديثُ فيه كذلك (¬10) ¬
[المراد بالحديث الضعيف عند السلف]
وترك القياس المحْضَ في مسائل [الآبار] لآثار فيها غيرِ مرفوعةٍ (¬1)، فتقديمُ (¬2) الحديثِ الضعيفِ وآثار الصحابة على القياس والرأي (¬3) قولهُ، وقولُ الإمام أحمد. [المراد بالحديث الضعيف عند السلف] وليس المراد بالحديث الضعيف في اصطلاح السلف هو الضعيف في اصطلاح المتأخرين، بل ما يسميه المتأخرون حسنًا قد يسميه المتقدمون ضعيفًا كما تقدم بيانه] (¬4). [السلف جميعهم على ذم الرأي] والمقصود أن السلف جميعَهم على ذَمِّ الرأي والقياس المخالِفِ للكتاب والسنة، وأنه لا يحل العمل به لا فُتْيَا ولا قضاءً (¬5)، وأن الرأي الذي لا يُعلم ¬
مخالفته للكتاب والسنة ولا موافقته فغايته أن يسوغ العمل به عند الحاجة إليه، من غير إلزام ولا إنكار على من خالفه. [قال أبو عمر بن عبد البر: ثنا عبد الرحمن بن يحيى: ثنا أحمد بن سعيد بن حزم: ثنا عبد اللَّه بن يحيى [بن يحيى] (¬1)، عن أبيه أنه كان يأتي ابنَ وَهْبٍ فيقول له: من أين؟ فيقول له: من عند ابن القاسم، فيقول له ابن وهب: اتَّقِ اللَّه؛ فإن أكثر هذه المسائل رأي (¬2). وقال الحافظ أبو محمد: ثنا عبد الرحمن بن سلمة: ثنا أحمد بن خليل: ثنا خالد بن سعيد: أخبرني محمد بن عمر بن كنانة، ثنا أبان بن عيسى بن دينار قال: كان أبي قد أجْمَع على ترك الفتيا بالرأي، وأحَبَّ الفُتْيَا بما رُوي من الحديث، فأعجلته المنية عن ذلك (¬3). وقال أبو عمر: وروى الحسنُ بن واصل أنه قال: إنما هَلَكَ مَنْ كان قبلكم حين تشَعَّبَتْ بهم السُّبُلُ، وحادُوا عن الطَّريق، وتركوا الآثار، وقالوا في الدين برأيهم، فضلَّوا وأضلَّوا (¬4). قال أبو عمر: وذكر نُعَيْم بن حَمَّاد، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق: مَنْ يَرْغَب برأيه عن أمر اللَّه يَضِلُّ (¬5). وذكر ابن وهب قال: أخبرني بكر بن مضر (¬6) عن رجل من قريش أنه سمع ابنَ شِهاب يقول، وهو يذكر ما وقع فيه الناس من هذا الرأي وتركهم السنن، فقال: إن اليهود والنصارى إنما انْسَلَخُوا من العلم الذي كان بأيديهم حين اشتقوا الرأي وأخذوا فيه (¬7). ¬
وذكر ابن جَرير في [كتاب] (¬1) "تهذيب الآثار" له عن مالك قال: قُبِضَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد تمَّ هذا الأمر واستكمل؛ فإنما ينبغي (¬2) تَتّبع آثارَ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا تتبَّع (¬3) الرأي؛ فإنه من اتَّبع الرأي جاء رجلٌ آخر أقوى منه في الرأي فاتبعه، [فأنت] كلما جاء رجل غَلَبَكَ اتبعته (¬4). وقال نُعيم بن حماد: ثنا ابن المبارك، عن عبد اللَّه بن وَهْب أن رجلًا جاء إلى القاسم بن محمد، فسأله عن شيء، فأجابه، فلما ولّى الرجلُ دَعَاه فقال له: لا تَقُلْ إن القاسم زعمَ أن هذا هو الحق، ولكن إذا اضْطُرِرْتَ إليه عملتَ به (¬5). وقال أبو عمر: قال ابن وَهْب: قال لي مالك بن أنس، وهو يُنكر كثرةَ الجواب للمسائل: يا عبد اللَّه، ما علمتَه فَقُلْ به ودُلَّ عليه، وما لم تعلم فاسكت، وإياك أن تتقلد للناس قِلادَةَ سوء (¬6). وقال أبو عمر: وذكر محمد بن حارث بن أسد الخُشَني: أنبأنا أبو عبد اللَّه محمد بن عَبّاس (¬7) النَّحَّاس قال: سمعت أبا عثمان سعيد بن محمد الحداد يقول: سمعتُ سحنون بن سعيد يقول: ما أدري ما هذا الرأي! سُفِكت به الدِّماء، واسْتُحِلَّت به الفُرُوج، واسْتُحِقَّت به الحقوق، غير أنَّا رأينا رجلًا صالحًا فقلدناه] (¬8). ¬
فصل في الرأي المحمود، وهو أنواع
وقال سَلَمة بن شَبيب: سمعت أحمد يقول: رأيُ الشافعي ورأيُ مالك ورأيُ أبي حنيفة كلّه عنده رأي (¬1)، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار (¬2). وقال أبو عُمَر بن عبد البر: أنشدني عبد الرحمن بن يحيى: أنشدنا أبو علي الحسن بن الخضر الأسيوطي (¬3) بمكة أنشدنا محمد بن جعفر: أنشدنا عبدُ اللَّه بن أحمد بن حنبل عن أبيه: دينُ النبيِّ محمدٍ آثارُ (¬4) ... نِعْمَ المطيَّةُ للفتى الأخْبَارُ لا تُخدَعَنَّ عن الحديث وأهلِهِ ... فالرأيُ ليلٌ والحديثُ نَهَارُ ولربما جهل الفتى طُرُقَ الهُدَى ... والشمسُ طالعةٌ لها أنوارُ (¬5) ولبعض أهل العلم: العلم قال اللَّه قال رسوله ... قال الصَّحابةُ ليس خُلْفٌ فيهِ ما العلم نَصْبُكَ للخلاف سَفَاهَةً ... بين النصوص وبين رأي سَفِيهِ كلَّا! ولا نَصْبُ الخلاف جَهَالةَ ... بين الرسول وبين رأي فقيهِ كلَّا! ولا رَدُّ النُّصوصِ تعمُّدًا ... حَذَرًا من التَّجْسيم والتَّشبيهِ حاشا النُّصُوصَ من الذي رُمِيَتْ به ... من فرْقَةِ التَّعطيل والتَّمويهِ فصل في الرأي المحمود، وهو أنواع [النوع] (¬6) الأول: رأي أفقه الأمة، وأبَرِّ الأمة قلوبًا، وأعمقهم علمًا (¬7)، وأقلهم تكلَّفًا، وأصحهم قُصُودًا، وأكملهم فِطْرة، وأتمهم إدراكًا، وأصفاهم ¬
[قول الشافعي في الصحابة وآرائهم]
أذهانًا، الذين (¬1) شاهدوا التنزيل، وعَرَفوا التأويل، وفَهِمُوا مقاصد الرسول؛ فنسبة آرائهم وعلومهم وقصودهم إلى ما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- كنسبتهم إلى صحبته؛ والفرق بينهم وبين من بعدهم في ذلك كالفرق بينهم وبينهم في الفضل، فنسبة رأي من بعدهم إلى رأيهم كنسبة قَدْرهم إلى قَدْرهم. [قول الشافعي في الصحابة وآرائهم] قال الشافعي [رحمه اللَّه] (¬2) في "رسالته البغدادية" التي رواها عنه الحسن بن محمد الزعفراني (¬3)، وهذا لفظه: "وقد أثنى اللَّه تبارك وتعالى على أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في القرآن والتوراة والإنجيل، وسبق لهم على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الفضل ما ليس لأحد بعدهم، فرحمهم اللَّه وهنأهم بما آتاهم من ذلك ببلوغ أعلى منازل الصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصَّالحين، أدُّوا إلينا سُنَنَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشاهدوه والوحي (¬4) ينزل عليه، فعلموا ما أراد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عامًا وخاصًا وعزمًا وإرشادًا، وعرفوا من سنته ما عرفنا وجهلنا (¬5)، وهم فوقنا في كل عملٍ واجتهادٍ وورعٍ [وعقلٍ] (2) وأمرٍ استدرك به علم واستنبط به، وآراوْهم [لنا] (2) أحمد، وأولى بنا من رأينا عند أنفسنا، ومَنْ أَدْرَكنا ممن يُرْضى أو حُكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه سُنَّةً إلى قولهِم إن اجتمعوا، أو قول بعضهم إن تفرقوا، وهكذا نقول، ولم نخرج عن أقاويلهم، وإن قال أحدهم ولم يخالفه غيره أخذنا بقوله". ولما كان رأي الصحابة عند الشافعي بهذه المثابة قال [الشافعي] (¬6) في الجديد في كتاب الفرائض في ميراث الجد والإخوة (¬7): وهذا مذهب تلقيناه عن زيد بن ثابت، وعنه أخذنا أكثر الفرائض. قال: والقياس عندي قتل الرَّاهبِ لولا ما جاء عن أبي بكر -رضي اللَّه عنه- (¬8)، فترك ¬
[ليس مثل الصحابة أحد، وما وافق فيه عمر القرآن]
صريح القياس لقول (¬1) الصديق. وقال في رواية الربيع عنه: والبدعة ما خالف كتابًا أو سنةً أو أثرًا عن بعض أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فجعل ما خالف قول الصحابي (¬2) بدعة، وسيأتي إن شاء اللَّه تعالى إشباع الكلام في هذه المسألة، وذكر نصوص الشافعي عند ذكر تحريم الفتوى بخلاف ما أفتى به الصحابة، ووجوب اتّباعهم في فتاويهم، [وأن لا] (¬3) يخرج من جملة أقوالهم، وأن الأئمة متفقون على ذلك. [ليس مثل الصحابة أحد، وما وافق فيه عمر القرآن] والمقصود أن أحدًا ممن بعدهم لا يساويهم في رأيهم، و [كيف يساويهم] (¬4) وقد كان أحدهم يرى الرأي فينزل القرآن بموافقته؟ كما رأى عمر [في أَسَارَى] (¬5) بدر أن تُضرب أعناقُهم فنزل القرآن بموافقته (¬6)، ورأى أن تُحجب نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فنزل القرآن بموافقته (¬7)، ورأى أن يُتخذ من مقام إبراهيم مصلى فنزل القرآن بموافقته (¬8)؛ وقال لنساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما اجتمعن في الغيرة عليه: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5] فنزل القرآن بموافقته (¬9)، ولما توفي عبد اللَّه بن أبيّ قام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوبه، فقال: يا رسول اللَّه إنه منافق، فصلى عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأنزل اللَّه ¬
[حكم سعد بن معاذ وابن مسعود بحكم الله]
عليه: {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} (¬1) [التوبة: 84]. [حكم سعد بن معاذ وابن مسعود بحكم اللَّه] وقد قال سعد بن معاذ لما حكَّمه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بني قريظة: إني أرى أن تُقْتل مقاتلتُهم، وتُسبى ذرياتُهم (¬2)، وتُغنم أموالُهم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد حكمت فيهم بحكم اللَّه من فوق سبع سماوات" (¬3). ولما اختلفوا في [المفوضة (¬4) شهرًا إلى ابن مسعود قال]: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللَّه ورسوله بريء منه، أرى أن لها مَهْر نسائها لا وَكْس ولا شَطَطْ، ولها الميراث، وعليها العِدَّة، فقام ناس من أشْجَعَ فقالوا: نشهد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى في امرأة منا يُقال لها بَرْوَع بنت واشِق، بمثل ما قضيت [به]، فما فرح ابن مسعود بشيء بعد الإسلام فرحه بذلك (¬5). ¬
[رأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا]
[رأي الصحابة خير من رأينا لأنفسنا] وحقيق بمن كانت آراؤهم بهذه المنزلة أن يكون رأيهم لنا خيرًا من رأينا [لأنفسنا، وكيف لا] (¬1)، وهو الرأي الصادر من قلوب ممتلئة نورًا وإيمانًا وحكمةً وعلمًا ومعرفةً وفهمًا عن اللَّه ورسوله ونصيحةً للأمة، وقلوبهم على قلب نبيهم (¬2)، ولا واسطة بينهم وبينه، وهم ينقلون العلم والإيمان من مشكاة النبوة غَضًّا طريًا لم يَشُبْه إشكالٌ، ولم يَشُبه خلافٌ (¬3)، ولم تدنسه (¬4) معارضة، فقياس رأي غيرهم بآرائهم (¬5) من أفسد القياس. فصل النوع الثاني من الرأي المحمود الرأي الذي يفسر النصوص، ويبيّن وجه الدلالة منها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويُسهِّل طريق الاستنباط منها، كما قال عَبْدَان: سمعت عبد اللَّه بن المبارك يقول: "ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث" (¬6). وهذا هو الفهم الذي [يختص اللَّه سبحانه به] (¬7) من يشاء من عباده. ومثال هذا رأي الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬8) في العَوْل (¬9) في الفرائض عند تزاحم الفروض، ورأيهم في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوجين، ورأيهم في توريث المَبْتُوتَة في مرض الموت، ورأيهم في مسألة جَرِّ الولاء، ورأيهم في المُحْرم يقع على أهله بفساد حجه ووجوب المُضيّ فيه ¬
والقضاء والهَدْي من قابل، ورأيهم في الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا لكل يوم مسكينًا، ورأيهم في الحائض تَطْهُرُ قبل طلوع الفجر تصلي المغرب والعشاء، وإن طهرت قبل الغروب صلت الظهر والعصر، ورأيهم في الكلالة، وغير ذلك. قال الإمام أحمد: ثنا يزيد بن هارون: أنا عاصم الأحول، عن الشعبي قال: سُئل أبو بكر عن الكلالة، فقال: إني سأقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد (¬1). فإن قيل: كيف يجتمع هذا مع ما صح عنه من قوله: "أَيُّ سَمَاء تُظِلُّني؟ وأي أرض تُقِلُّني إن قلت في كتاب اللَّه برأيي" (¬2)، وكيف يجامع هذا الحديث الذي تقدم: "من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"؟ (¬3). فالجواب أن الرأي نوعان: أحدهما: رأي مجرد لا دليل عليه، بل هو خَرْص وتخمين، فهذا الذي أعاذ اللَّه الصديق والصحابة منه. والثاني: رأي مستندٌ إلى [استدلال واستنباط] (¬4) من النص وحده، أو من نص آخر معه، فهذا من ألطف فَهْمِ النصوص وأدقه، ومنه رأيه في الكلالة أنها ما عدا الوالد والولد، فإن اللَّه سبحانه ذكر الكلالة في موضعين من القرآن، ففي أحد الموضعين (¬5) وَرَّثَ معها الأخَ والأختَ من الأم، ولا ريب أن هذه الكلالة ما عد الوالد والولد، والموضع الثاني (¬6) وَرَّث معها ولد الأبو ين أو (7) الأب النصف أو (¬7) الثلثين، فاختلف الناس في هذه الكلالة، والصحيح فيها قول الصديق الذي ¬
فصل النوع الثالث من الرأي المحمود
لا قول سواه، وهو الموافق للغة العرب كما قال (¬1): وَرِثْتُم قَنَاةَ المَجْدِ لا عَنْ كَلالةٍ ... عَنْ ابْنَي مَنَافٍ: عَبْدِ شَمْسٍ وهَاشِمِ أي: إنما ورِثْتموها عن الآباء والأجداد، لا عن حواشي النسب (¬2)، وعلى هذا فلا يَرِثُ ولد الأب والأبوين، لا مع أب [ولا] (¬3) مع جد، كما لم يرثوا مع الابن ولا ابنه، وإنما ورثوا مع البنات؛ لأنهم عصبة فلهم ما فضل عن الفروض (¬4). فصل النوع الثالث من الرأي المحمود [الرأي] (¬5) الذي تواطأت عليه الأمة، [وتَلَقاه] (¬6) خلَفُهم عن سلفهم، فإنّ ما تواطئوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابًا، كما تواطئوا عليه من الرواية والرؤيا، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأصحابه وقد تعددت منهم رؤيا ليلة القدر في السبع (¬7) الأواخر من رمضان: "أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر [فمن كان منكم متحريها، فلْيتحرَّها في السبع الأواخر] " (¬8)، فاعتبر -صلى اللَّه عليه وسلم- تواطؤَ رؤيا المؤمنين؛ ¬
فالأمة معصومة فيما تواطأت عليه من روايتها ورؤياها [ورأيها] (¬1)، ولهذا [كان] (¬2) من سداد الرأي وإصابته أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد، وقد مدح اللَّه سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم، وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) ليس عنده فيها نصٌّ اللَّه ولا عن رسوله جَمَعَ لها أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم جعلها شورى بينهم (¬4). قال البخاري: حدثنا سُنيد: ثنا يزيد، عن العوَّام بن حَوْشَب، عن المُسيَّب بن رافع قال: كان إذا جاءه (¬5) الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة سمى صوافي الأمر فرفع إليهم، فجمع لهم أهل العلم، فإذا (¬6) اجتمع عليه رأيهم [فهو] الحق (¬7). وقال محمد بن سُليمان الباغَنْدي (¬8): ثنا عبد الرحمن بن يونس: ثنا عمر بن أيوب: أخبرنا عيسى بن المسيب، عن عامر، عن شُريح القاضي، قال لي عمر بن الخطاب: [أن] (¬9) اقضِ بما استبان لك من قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم تعلم [كل أقضية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬10)، فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضى به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واسْتَشِر أهل العلم والصلاح (¬11). ¬
فصل النوع الرابع من الرأي المحمود
وقال الحُميدي: ثنا سُفيان: ثنا الشَّيبانيّ، عن الشعبي قال: كتب عمر إلى شريح: إذا حضرك أمر لا بد منه، فانظر ما في كتاب اللَّه فاقض به، فإن لم يكن، ففيما (¬1) قضى به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يكن ففيما (1) قضى به الصالحون وأئمة العدل، فإن لم يكن فأنت بالخيار، فإنْ شئتَ أن تجتهد رأيك فاجتهد رأيك، وإنْ شئت أن تؤامرني، ولا أرى مؤامرتك إيايَّ إلا خيرًا لك، والسلام (¬2). فصل النوع الرابع من الرأي المحمود أن يكون بعد طلب عِلْم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة فبما قضى به الخلفاءُ الرَّاشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده، ففيما (¬3) قاله واحد من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬4)، [فإن لم يجده] (¬5) اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب اللَّه وسنة رسوله (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سَوَّغَه (¬7) الصحابة واستعملوه، وأقروا (¬8) بعضهم بعضًا عليه. قال علي بن الجَعْد: أنبأنا شعبة، عن سَيَّار (¬9)، عن الشعبي، قال: أخذ عمر فرسًا من رجل على سَوْم، فحَمَل عليه فَعَطِبَ، فخاصمه الرجل، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلًا، فقال الرجل: إني أَرْضى بشُريح العِراقي، فقال شُريح: ¬
[خطاب عمر إلى أبي موسى]
أخذته صحيحًا سليمًا، فأنتَ له ضامنٌ حتى تردَّه صحيحًا سليمًا، قال: فكأنه أعجبه فبعثه قاضيًا، وقال: ما استبان لك من كتاب اللَّه فلا تسأل عنه، فإن لم يستبن في كتاب اللَّه فمن السنة، فإن لم تجده في السنة فاجتهد رأيك (¬1). [خطاب عمر إلى أبي موسى] وقال أبو عبيد: [ثنا] (¬2) كثير بن هشام، عن جعفر بن بُرْقان، وقال أبو نعيم: عن جعفر بن بُرْقان، عن مَعْمَر البَصْري، عن أبي العَوَّام، وقال سفيان بن عيينة: ثنا إدريس [أبو عبد اللَّه بن إدريس] (¬3) قال: أتيت سعيد بن أبي بُرْدة فسألته عن رسائل (¬4) عمر بن الخطاب التي كان يكتب بها إلى أبي موسى الأشعري، وكان أبو موسى قد أوصى إلى أبي بُرْدة، فأخرج له (¬5) كُتُبًا، فرأيت [في كتاب] (¬6) منها، رجعنا إلى حديث [أبي] (6) العَوَّام، قال: كتب عمر إلى أبي موسى: " [أَمَّا بعد] (6)، فإن القضاء فريضةٌ محكمةٌ، وسنةٌ متبعةٌ، فَافْهَم إذا أُدْلي إليك، فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له، وآسِ (¬7) الناس في مَجْلِسِكَ، وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حَيْفِكَ، ولا يَيأس (¬8) ضعيف من عدلك، البينة على المُدَّعي، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حَرَّم حلالًا، ومن ادَّعى حقًا غائبًا أو بينة فاضرب له أمدًا ينتهي إليه، فإن [أحضر] (¬9) بَيِّنة أعطيتَه بحقِّه، وإن أعجزه ذلك اسْتَحْلَلْتَ (¬10) عليه القضية، فإن ذلك هو أبلغ في العذر وأجلى للعمى (¬11)، ولا يمنعنَّك قضاءٌ قضيتَ فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فَهُدِيتَ [فيه] (¬12) ¬
لرشدك أن تُراجعَ فيه الحق، فإن (¬1) الحقَّ قديمٌ لا يُبْطله شيءٌ، ومُراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجَرَّبًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حدٍ، أو ظنِّينًا في ولاءٍ أو قرابة، فإن اللَّه تعالى تولى من العباد السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبيِّنات والأَيْمان، ثم الفَهْمَ الفَهْم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في [قرآنٍ ولا سنة] (¬2)، ثم قايس الأمور عند ذلك واعرف الأمثال، ثم اعمد (¬3) فيما ترى إلى أحبِّها إلى اللَّه وأشبهها بالحق، وإيِّاك والغضب والقلق والضَّجر والتأذِّي بالناس والتنكُّر (¬4) عند الخصومة، أو الخصوم، شك أبو عبيد، فإن القضاء في مواطن الحق مما يُوجبُ اللَّه به الأجر، ويُحسنُ به الذِّكر. فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه اللَّه ما بينه وبين الناس، ومن تَزَيَّن بما ليس في نفسه شانَهُ اللَّه، فإن اللَّه تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصًا، فما ظنُّك بثواب عند اللَّه في عاجل رزقه، وخزائن رحمته، والسلام عليك ورحمة اللَّه" (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[شرح كتاب عمر في القضاء]
قال أبو عبيد: فقلت لكثير: هل أسنده جعفر؟ قال: لا. وهذا (¬1) كتاب جليل، تلّقاه العلماءُ بالقبول، وبَنَوْا عليه أصول الحكم والشهادة، والحاكم والمفتي أحوج شيء إليه، وإلى تأمله والتفقه فيه. [شرح كتاب عمر في القضاء] وقوله: "القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة" يريد به أن ما يحكم به [الحاكم] (¬2) نوعان: أحدهما: فرض محكم غير منسوخ، كالأحكام الكلية التي أحكمها اللَّه في كتابه. والثاني: أحكام سَنَّها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذان النوعان هما المذكوران في حديث عبد اللَّه بن عمرو (¬3) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العلمُ ثلاثةٌ فما سِوى ذلك فهو فَضْل: آيةٌ محكمةٌ، وسنةٌ قائمةٌ، وفريضةٌ عادلةٌ" (¬4). ¬
[صحة الفهم نعمة]
رواه ابنُ وَهْب: عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد اللَّه بن رافع عنه. ورواه بَقِيَّةُ عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن أبي هريرة "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل المسجد فرأى جَمْعًا من الناس على رجل، فقال: "ما هذا"؟ قالوا: يا رسول اللَّه، رجل علَّامة، قال: "وما العلامة"؟ قالوا: أعلم الناس [بأنساب العرب، وأعلم الناس بعربية، وأعلم الناس بالشعر (¬1)، وأعلم الناس] بما اختلف فيه العرب، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر" (¬2). وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "العلم ثلاثة، وما خلا فهو فَضْل: آية محكمة (¬3) أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة" (¬4). [صحة الفهم نعمة] وقوله: "فافهم إذا أُدلي إليك"، صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نِعم اللَّه التي أنعم بها على عبده، بل ما أُعطيَ عبدٌ عطاءً بعد الإسلام أفضل ولا أجلَّ منهما، بل هما ساقا الإسلام، وقيامُه عليهما، وبهما بايَنَ (¬5) العبدُ طريقَ المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم، وطريقَ الضَّالين الذين فسدت فهومهم (¬6)، ويصير من المُنْعَم عليهم الذين حَسُنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم، الذين أُمرنا أن نسأل اللَّه أن يهدينا صراطهم في كل صلاة، وصحة الفهم نور يقذفه اللَّه في قلب العبد، يميز به بين الصحيح والفاسد، والحق ¬
[التمكن بنوعين من الفهم]
والباطل، والهُدى والضلال، والغي والرشاد، ويمده حسن القصد، وتحري الحق، وتقوى الرب في السر والعلانية، ويقطع مادته اتباع الهوى، وإيثار الدنيا، وطلب محمدة الخلق، وترك التقوى. [التمكن بنوعين من الفهم] ولا يتمكن المفتي [ولا] (¬1) الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن (¬2) والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علمًا. والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حُكْم اللَّه الذي حَكَم به في كتابه أو على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بَذَلَ جَهْده واستفرغ وُسْعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا (¬3)؛ فالعالم مَنْ يتوصل بمعرفة الواقع [والتفقه فيه] (¬4) إلى معرفة حكم اللَّه ورسوله، كما توصل شاهد يوسف بشق القميص من دُبُرٍ إلى معرفة براءته وصدقه، وكما توصل سليمان -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5) بقوله: "ائتوني بالسكين حتى أشق الولد بينكما" (¬6) إلى معرفة عين الأم (¬7)، وكما توصَّل أميرُ المؤمنين علي -رضي اللَّه عنه- (¬8) بقوله للمرأة التي حملت كتاب ¬
حاطب لمَّا أنكرته: "لتخرجن الكتاب أو لنُجَرِّدَنَّك" إلى استخراج الكتاب منها (¬1)، وكما توصل الزبير بن العوام بتعذيب أحد ابني أبي الحقيق بأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى دلَّهم على كنز [حُيَي] (¬2) لما ظهر له كذبه في دعوى ذهابه بالإنفاق بقوله: "المال كثير والعهد أقرب من ذلك" (¬3) وكما توصل النعمان بن بشير بضرب المتهمين بالسرقة إلى ظهور المال المسروق عندهم، فإن ظهر وإلا ضرب من اتهمهم كما ضربهم، وأخبر أن هذا حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ومن تأَمَّل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومَنْ سلك غير هذا أضاع على الناس حقوقهم، ونسبه إلى الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله. ¬
وقوله: "فيما (¬1) أُدلي إليك" [أي ما توصل] (¬2) به إليك من الكلام الذي يُحكم به بين الخصوم، ومنه قولهم: أَدلى [فلان] (¬3) بحجَّتِه، وأدلى بنَسَبه، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] أي: تضيفوا ذلك إلى الحكام، وتتوصلوا بحكمهم إلى أكلها. فإن قيل: لو أُريد (¬4) هذا المعنى لقيل: "وتُدْلُوا بالحكام إليها" وأما الإدلاء بها إلى الحكام فهو التوصل بالبرطيل (¬5) بها إليهم، فَتَرْشُوا الحاكم لتتوصلوا (¬6) بِرِشْوَتِهِ إلى أكله (¬7) بالباطل. قيل: الآية تتناول النوعين: فكل منهما إدلاء إلى الحكام [بسببها] (¬8)، فالنهي عنهما معًا. وقوله: "فإنه لا ينفع تكلُّم بحق لا نفاذ له" ولايةُ الحق: نفوذُه، فإذا لم ينفذ كان ذلك عزلًا له عن ولايته، فهو بمنزلة الوالي العدل الذي في توليته مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، فإذا عزل عن ولايته لم ينفع، [ومراد عمر بذلك] (¬9): التحريض على تنفيذ الحق إذا فهمه الحاكم، ولا ينفع، تكلمه به إن (¬10) لم يكن له قوة [على] (¬11) تنفيذه، فهو تحريض منه على العلم بالحق والقوة على تنفيذه، وقد مدح اللَّه سبحانه أُولي القوة في (¬12) أمره، والبصائر في دينه فقال: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] [فالأيدي: القوي] (¬13) على تنفيذ أمر اللَّه، والأبصار: البصائر في دينه. ¬
[واجب الحاكم]
[واجب الحاكم] وقوله: "وآس الناس (¬1) في مجلسك وفي وجهك وقضائك، حتى لا يطمع شريف في حَيْفك، ولا ييأس ضَعيفٌ من عدلك" إذا عدل الحاكم في هذا بين الخَصْمين فهو عنوان عدله في الحكومة، فمتى خص أحد الخصمين بالدخول عليه، أو (¬2) القيام له، أو صَدْر المجلس، أو الإقبال عليه والبشاشة له، والنظر إليه، كان عنوان حَيْفِه وظلمه، وقد رأيت في بعض التواريخ [القديمة] (¬3) أن أحد قضاة العدل في بني إسرائيل أوصاهم إذا دفنوه أن ينبشوا قبره بعد مدة، فينظروا هل تغيَّر منه شيءٌ أم لا، وقال: إني لم أَجُرْ قط في حكم، ولم أحاب فيه، غير أنه دخل عليَّ خصمان كان أحدهما صديقًا لي فجعلت أصغي إليه بأُذُني أكثر من إصغائي إلى الآخر، ففعلوا ما أوصاهم به، فرأوا أذنه قد أكلها التراب، ولم يتغير جسده (¬4). [في تخصيص أحد الخصمين مفسدتان] وفي تخصيص أحد الخصمين بمجلس أو إقبال أو إكرام مَفْسَدَتان: إحداهما (¬5): طمعه في أن تكون الحكومة له، فيَقْوى قلبُه وجنانُه. والثانية: أن الآخر يَيْأس من عدله ويضعف قلبه، وتنكسر حجَّتُه. [معنى البينة] وقوله: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" البينة في كلام اللَّه و [كلام] (¬6) رسوله، وكلام الصحابة: [اسم] (¬7) لكل ما يُبين الحقَّ، فهي أعم من البينة في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشاهدين (¬8)، أو الشاهد واليمين، ولا حَجْر في الاصطلاح؛ ما لم يتضمن حَمْل كلام اللَّه ورسوله عليه، فيقع بذلك الغَلَط في فَهْم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم [منها] (¬9). ¬
[غلط المتأخرين في تفسير البينة]
[غلط المتأخرين في تفسير البينة] وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص، ونذكر من ذلك مثالًا واحدًا، وهو ما نحن فيه [من] (1) لفظ البينة، فإنها في كتاب اللَّه اسم لكل ما يبيِّن الحقَّ؛ كما قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25]، وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ [وَالزُّبُرِ]} (¬1) [النحل: 43، 44]، وقال: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 4]، وقال: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57]، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [هود: 17] وقال: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} [فاطر: 40] وقال: {بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [طه: 133]. وهذا كثير [في القرآن] (¬2)، لم يختص لفظ البينة بالشاهدين، [بل] (¬3) ولا استعمل في الكتاب فيهما ألبتة (¬4)، إذا عرف هذا فقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للمدَّعي: "ألك بينة" (¬5) وقول عمر: "البينة على المدعي"، وإن كان هذا قد روي مرفوعًا (¬6) المراد ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
به: كلُّ (¬1) ما يُبيّن الحق من شهود أو دلالة، فإنَّ الشارع في جميع المواضع يقصد ظهورَ الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يردُ حقًا قد ظهر بدليله أبدًا فيضيع حقوقَ اللَّه وعباده ويعطِّلها، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مُسَاواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحًا (¬2) لا يمكن جَحْده ودفعه، كترجيح شاهد الحال على مجرد اليد، في صورة مَنْ على رأسه عمامة وبيده عمامة وآخر خَلْفه مكشوف الرأس يعدو أثره، ولا عادة له بكشف رأسه، فبيِّنة الحال ودلالته هنا تُفيد من ظهور صدق المُدّعي أَضْعَاف ما يفيده مجرد اليد عند كل أحد، فالشارعُ لا يُهْمل مثل هذه البيِّنة والدلالة، ويضيّع حقًا يعلم كل أحد ظهوره وحجته، بل لمَّا ظنَّ هذا من ظَنَّه ضيَّعوا طريق الحكم (¬3)، فضاع كثير من الحقوق لتوقف ثبوتها عندهم على طريق معين، وصار الظالم الفاجر ممكَّنًا من ظلمه وفجوره، [فيفعل ما يريد] (¬4)، ويقول: لا يقوم عليَّ بذلك شاهدان اثنان، فضاعت حقوقٌ كثيرةٌ للَّه ولعباده، فحينئذٍ (¬5) أخرج اللَّه أمر هذا الحكم العام (¬6) من أيديهم، وأدخل (¬7) فيه من أمر الإمارة والسياسة ما يحفظ به الحق تارة ويَضِيعُ به أخرى، ويحصلُ به العدوان تارة والعدل (¬8) أخرى، ولو عَرفَ ما جاء به الرسول على وجهه لكان فيه تمام المصلحة المُغْنية عن التفريط والعدوان (¬9). ¬
[نصاب الشهادة في القرآن]
[نصاب الشهادة في القرآن] وقد ذكر اللَّه [سبحانه] (¬1) نصاب الشهادة في القرآن في خمسة مواضع؛ فذكر نصاب شهادة الزنا أربعة في سورة النساء وسورة النور، وأما في غير الزنا فذكر شهادة الرجلين، والرجل والمرأتين في الأموال؛ فقال في آية الدَّيْن: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282]، فهذا في التحمل والوثيقة التي يحفظ بها صاحب المال حَقَّه، لا في طريق الحكم وما (¬2) يحكم به الحاكم؛ فإن هذا شيءٌ وهذا شيءٌ، وأمر في الرجعة بشاهدين عَدْلين، وأمر في الشهادة على الوصية في السفر [باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخرين (¬3) من غيرهم، وغير المؤمنين هم الكفار، والآية صريحةٌ في قبول شهادة الكافرين على الوصية في السفر] (¬4) عند عدم الشاهدين المسلمين، وقد حكم بها (¬5) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة بعده ولم يجئ بعدها ما يَنْسَخُها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولًا، وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية مُعَارِضٌ ألبتة، ولا يصح أن يكون المراد بقوله: {مِنْ غَيْرِكُمْ} من غير قبيلتكم، فإن اللَّه [سبحانه] (1) خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] [ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: "من غيركم"] (¬6) أيتها القبيلة، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَفْهَم هذا من الآية بل إنما فهم [منها] (¬7) ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه (¬8) من بعده، وهو سبحانه ذَكَر ما تُحفظ به الحقوق من الشهود، ولم يذكر أن الحكام [لا يحكمون] (¬9) إلا بذلك، فليس في القرآن نَفْي الحكم بشاهد ويمين (¬10)، ولا بالنُّكُولِ ولا باليمين المردودة، ولا بأَيْمان القَسَامة، ولا بأَيْمان اللِّعان، وغير ذلك مما يُبيّن الحق ويُظهره ويدل عليه. وقد أجمع (¬11) المسلمون على أنه يقبل في الأموال رجل وامرأتان، وكذلك ¬
توابعها من البيع، [والأجل فيه] (¬1) والخِيار فيه، والرَّهْن، والوصية للمُعَيَّن، وهبته، والوقف عليه، وضمان المال وإتلافه، ودَعْوى رق مجهول النسب، وتسمية المهر، وتسمية عِوَض الخلع، و [يقبل في ذلك (كله) رجل وامرأتان] (¬2). وتنازعوا في العتق، والوكالة في المال، والإيصاء إليه [فيه] (¬3)، ودعوى قَتْل الكافر لاستحقاق سَلَبه، ودَعْوى الأسير الإسلامَ [السابق] (¬4) لمنع رقه، وجناية الخطأ والعَمْد التي لا قَوَد فيها، والنكاح، والرَّجْعة، هل يقبل فيها رجل وامرأتان أم لا بد من رجلين؟ (¬5) على قولين، وهما روايتان عن أحمد، فالأول قولُ أبي حنيفة، والثاني قول مالك والشافعي، والذين قالوا لا يقبل إلا رجلان قالوا: إنما ذكر اللَّه الرجل والمرأتين في الأموال، دون الرجعة والوصية وما معهما، [فقال لهم الآخرون] (¬6): ولم يذكر [سبحانه] (3) وصف الإيمان (¬7) في الرَّقبة إلا في كفارة القَتْل، ولم يذكر فيها إطعام ستين مسكينًا، وقلتم: نحمل (¬8) المطلق على المقيد إما بيانًا وإما قياسًا، وقالوا أيضًا (¬9): فإنه سبحانه إنما قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] [وفي الآية الأخرى] (¬10): {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [المائدة: 106] بخلاف آية الدَّيْن فإنه قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وفي الموضعين الآخرين لمّا لم يَقُل: {رَجُلَانِ} لم يَقُل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}. [فإن قيل: اللفظ مذكر؛ فلا يتناول الإناث] (¬11). قيل: قد استقرَّ في عُرْف الشارع أن الأحكام المذكورة بصيغة المذكَّرين إذا أُطْلِقَت ولم تقترن بالمؤنث فإنها تتناول (¬12) الرجال والنساء؛ لأنه يُغلَّب المذكر عند الاجتماع كقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] وقوله: {وَلَا ¬
يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (¬1)} [البقرة: 183] وأمثال ذلك، وعلى هذا فقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] يتناول الصنفين، لكن قد استقرت (¬2) الشريعة على أن شهادة المرأة نصفُ شهادة الرجل، فالمرأتان في الشهادة كالرجل الواحد، بل هذا أولى؛ فإن حضور النساء عند الرجعة أيسر من حضورهن عند كتابة الوثائق بالديون، [وكذلك حضورهن عند الوصية وقت الموت] (¬3)، فإذا جَوَّز الشارعُ استشهاد النساء في وثائق الديون (¬4) التي يكتبها الرجال مع أنها إنما تكتب غالبًا في مَجَامع الرجال فلأن يسوغ (¬5) ذلك فيما تشهده (¬6) النساء كثيرًا كالوصية والرَّجْعَة أولى. يوضِّحه: أنه قد شَرَعَ في الوصية استشهادَ آخرين من غير المسلمين عند الحاجة؛ فلأن يجوز استشهاد رجل وامرأتين بطريق الأولى والأحرى، بخلاف الديون فإنه لم يامر فيها باستشهاد آخرين من غيرنا؛ إذ كانت (¬7) مُدَاينة المسلمين تكون بينهم وشهودهم حاضرون، والوصية في السفر قد لا يشهدها إلا أهل الذمة، وكذلك الميت قد لا يَشهَدُه إلا النساء. وأيضًا فإنما أمر في الرَّجْعَة باستشهاد ذَوَي عَدْلٍ؛ لأن المستشهد هو المشهود عليه بالرجعة، وهو الزوج؛ لئلا يكتمها، فأمر بأن يستشهد أكمل النصاب، ولا يلزم إذا لم يشهد (¬8) هذا الأكمل أن لا (¬9) يقبل عليه شهادة النصاب الأنقص، فإن طرق الحكم أعم من طرق حفظ الحقوق (¬10)، وقد أمَرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الملتقطَ أن يُشهد عليه ذَوَي عدل، ولا يكتم، ولا يغيب (¬11)، ولو شهد عليه باللقطة رجل وامرأتان قُبِلتْ بالاتفاق، بل يحكم عليه بمجرد وصف صاحبها لها. ¬
وقال تعالى في شهادة المال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وقال في الوصية والرَّجْعَة: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] لأن المستشهد [هناك صاحب الحق فهو يأتي بمن يرضاه لحفظ حقه، فإن لم يكن عدلًا كان هو المضيَّع لحقه، وهذا المستشهد يستشهد] (1) بحق ثابت عنده، فلا يكفي رضاه به، بل لا بُدَّ أن يكون عَدْلًا في نفسه، وأيضًا فإن اللَّه سبحانه [وتعالى] (¬1) قال هناك: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] لأن صاحب الحق هو الذي يحفظ [حقه فيحفظه] (¬2) بمن يرضاه، وإذا قال مَنْ عليه الحق: أنا راض (¬3) بشهادة هذا عليَّ، ففي قَبُوله نزاع، والآية تدل على أنه يقبل، بخلاف الرجعة والطلاق فإن فيهما حقًا للَّه، وكذلك الوصية فيها حقٌّ لغائب. ومما يوضح ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في المرأة: " [أليست] (1) شهادتها نصف شهادة الرجل؟ " (¬4) فأطلق ولم يقيد، ويوضحه أيضًا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للمُدَّعي لمَّا قال: هذا غَصَبني أرضي، فقال: "شَاهِداكَ أو يَمينه" (¬5)، وقد عَرَف أنه لو أتى برجل وامرأتين حكم له، فعلم أن هذا يقوم مقام الشاهدين، وأن قوله: "شاهداك ¬
أو يمينه" إشارة إلى الحجة الشرعية (¬1) التي شعارها الشاهدان، فإما أن يُقال: لفظ "شاهدان" معناه دَليلان يَشْهدان، وإما أن يُقال: رجلان أو ما يقوم مقامهما والمرأتان دليل بمنزلة الشاهد. يوضحه أيضًا: أنه لو لم يأت المُدَّعي بحجة حَلَف المُدَّعى عليه، فيمينهُ كشهادة آخر (¬2)؛ فصار معه دليلان شاهدان، أحدهما: البراءة، والثاني: اليمين، وإن نَكَل (¬3) عن اليمين فمن قضى عليه بالنُّكُول؛ قال: النكول إقرار أو بدل (¬4)، وهذا جيد إذا كان المدعَّى عليه هو الذي يعرف الحق دون المدَّعي، [كما] (¬5) قال عثمان لابن عمر: تحلف أنك بعته وما به عَيْب تعلمه، فلما لم يحلف قَضَى عليه (¬6)، وأما الأكثرون فيقولون: إذا نكل [تُرد اليمين] (¬7) على المُدَّعي فيكون نكول الناكل دليلًا (¬8)، ويمين المُدَّعي دليلًا ثانيًا، فصار الحكم بدليلين: شاهد ويمين، والشارع إنما جعل الحكم في الخصومة بشاهدين؛ لأنَّ المُدَّعي لا يحكم له بمجرد قوله، والخصم منكر، وقد يحلف أيضًا، فكان أحدُ الشاهدين يقاومُ ¬
الخصم المنكر؛ فإن إنكاره ويمينه كشاهد، ويبقى الشاهد الآخر خبرَ عدلٍ لا مُعارضَ له؛ فهو حجة شرعية لا معارض لها. وفي (¬1) الرواية إنما يُقْبَل خبر الواحد إذا لم يعارضه أقْوَى منه، فاطَّرد القياس والاعتبار في الحكم والرواية. يوضحه أيضًا: أن [المقصود] (¬2) بالشهادة أن يُعلم بها ثبوت المَشْهودِ به، وأنه حقٌّ وصدق، فإنها خبر عنه، وهذا لا يختلف بكون المشهود به مالًا، أو طلاقًا، أو عتقًا، أو وصية، بل من صُدِّق في هذا صُدِّق في هذا، فإذا (¬3) كان الرجل مع المرأتين كالرجلين يُصدَّقان في الأموال، فكذلك صِدْقهما في هذا؛ وقد ذكر اللَّه [سبحانه] حكمة تَعَدُّد الأنثيين (¬4) في الشهادة، وهي أن المرأة قد تنسى الشهادة وتضل عنها فتذكِّرَها الأخرى، ومعلوم أن تذكيرها لها بالرجعة (¬5) والطلاق والوصية مثل تذكيرها لها بالدَّين وأولى، وهو سبحانه أمر بإشهاد امرأتين لتوكيد الحفظ؛ لأن عَقْلَ المرأتين وحفظهما يقوم مقام عقل رجل وحفظه، ولهذا جعلت على النصف من الرجل في الميراث والدِّية والعقيقة والعِتْق؛ فعتق امرأتين يقوم مقام عتق رجل، كما صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أعْتَقَ أمرأً مسلمًا أعتَقَ اللَّه بكل عضوٍ منه عضوًا [منه] (¬6) من النار، ومن أعتق امرأتين مسلمتين أعتَقَ اللَّه بكل عضو منهما عضوًا [منه] (¬7) من النار" (¬8) ولا ريب أن هذه الحكمة في التعدُّد هي ¬
عند التحمل (¬1)، فأما إذا عَقَلت المرأة وحَفِظت وكانت ممن يوثق بدينها فإنَّ المقصود حاصلٌ بخبرها، كما يحصل بأخبار الديانات، ولهذا تقبل شهادتها وَحْدَها في مواضع، ويحكم بشهادة امرأتين ويمين الطالب في أصح القولين، وهو قول مالك وأحد الوجهين في مذهب أحمد (¬2). قال شيخنا [-قدس اللَّه روحه-] (¬3): لو قيل يحكم بشهادة امرأة ويمين الطالب لكان متوجهًا، قال: لأن المرأتين إنما أقيمتا مقام الرجل في التحمل لئلا ¬
فصل [وجوب معرفة هذا الأصل العظيم]
تنسى إحداهما، بخلاف الأداء، فإنه ليس [في] (¬1) الكتاب ولا في السنة أنه لا يحكم إلا بشهادة امرأتين، ولا يلزم من الأمر باستشهاد المرأتين وَقْتَ التحمل ألا يحكم بأقل منهما؛ فإنه سبحانه (¬2) أمر باستشهاد رجلين في الديون، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، ومع هذا فيحكم بشاهد واحد (¬3) ويمين الطالب، ويحكم بالنكول والرد وغير ذلك. فالطرق التي يحكم بها الحاكم أوْسَعُ من الطرق التي أرشَدَ اللَّه صاحبَ الحق إلى أن يحفظ حقه بها، وقد ثبت في "الصحيح" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سأله عقبة بن الحارث، فقال: "إني تَزَوَّجْتُ امرأة، فجاءت أمة سوداء، فقالت: إنها أرضَعَتْنَا" فأمره بفراق امرأته، فقال: "إنها كاذبة"، فقال: "دَعْهَا عنك" (¬4) ففي هذا قَبُول شهادة المرأة الواحدة، وإن كانت أَمَةً، وشهادتها على فعل نفسها، وهو أصل في شهادة القاسم والخارِص والوَزان والكَيَّال [على فعل نفسه] (¬5). فصل [وجوب معرفة هذا الأصل العظيم] وهذا أصل عظيم؛ فيجب [أن يُعرف، غلط فيه] (¬6) كثير من الناس؛ فإن اللَّه [سبحانه] (¬7) أمر بما يُحْفَظُ به الحقُّ فلا (¬8) يحتاج معه إلى يمين صاحبه -وهو الكتاب والشهود- لئلا يجحد الحق [أو ينسى] (7)، ويحتاج صاحبه إلى تذكير مَنْ لم يذكر، إما جُحُودًا واما نسيانًا، ولا يلزم من ذلك أنه إذا كان هناك ما يدل على الحق لم يقبل إلا هذه الطريق التي أمره أن يحفظ حقَّه بها. ¬
فصل [ما يتعلق بشهادة الزنا وغيرها]
فصل [ما يتعلق بشهادة الزنا وغيرها] وإنما أمر اللَّه (¬1) [سبحانه] (¬2) بالعَدَد في شهود الزنا؛ لأنه مأمور فيه بالسَّتْر، [ولهذا غَلَّظَ فيه النِّصاب، فإنه] (¬3) ليس هناك أحق، (¬4) يضيع، [وإنما حد (¬5) وعقوبة، والعقوبات تُدْرَأ بالشُّبهات، بخلاف حقوق اللَّه وحقوق عباده التي تضيع إذا لم يقبل فيها قول الصادقين] (¬6)، ومعلوم أن شهادة العَدْل رجلًا كان أو امرأةً أقوى من استصحاب الحال، فإن استصحاب الحال من أضعف البيّنات (¬7)، ولهذا يُدفع (¬8) بالنكول تارة، وبا ليمين المردودة، [وبالشاهدين] (¬9) وبالشاهد واليمين، ودلالة الحال، وهو نظير رفع استصحاب الحال في الأدلة الشرعية بالعموم والمفهوم والقياس، [فيرفع بأضعف الأدلة، فهكذا] (¬10) في الأحكام يرفع بأدنى النصاب، ولهذا قدَّم الخبر الواحد في أخبار (¬11) الديانة على الاستصحاب، مع أنه يلزم جميع المكلفين، فكيف لا يقدم عليه فيما هو دونه؟ ولهذا كان الصحيح الذي دلت عليه السنة التي لا مُعارِضَ لها أن اللُّقَطَة إذا وصفها واصف صفةً تدلُّ على صدقه دُفعت إليه بمجرد الوصف (¬12)، فقام وَصْفُه لها مَقَامَ الشاهدين (¬13)، بل وصفه لها بيِّنة تبيِّن صدقَه وصحَّةَ دعواه، فإنَّ البيِّنة اسم لما يُبيِّن الحق (¬14). وقد اتفق العلماء أن مواضع الحاجات يقبل فيها من الشهادات (¬15) ما لا يقبل في غيرها من حيث الجملة، وإن تنازعوا في بعض التفاصيل، وقد أمر اللَّه [سبحانه] (2) بالعمل بشهادة شاهدين من غير المسلمين عند الحاجة، [في الوصية ¬
[حكم شهادة العبد]
في السفر] (¬1) مُنَبِّهًا بذلك على نظيره، وما هو أولى منه؛ كقبول شهادة النِّساء منفردات في الأعراس والحمَّامات والمواضع التي تنفرد النساء بالحضور فيها، ولا ريب أنَّ قبول شهادتهن هنا أولى من قبول شهادة الكفار على الوصية في السفر (¬2)، وكذلك عمل الصحابة وفقهاء المدينة بشهادة الصِّبيان على تَجارُحِ بعضهم بعضًا (¬3)، فإن الرجال لا يحضرون معهم في لعبهم، ولو لم تقبل شهادتهم وشهادة النساء منفرداتٍ لضاعت الحقوق وتعطَّلت وأُهملت مع غلبة الظن أو القطع بصدقهم، ولا سيما إذا جاءوا مجتمعين قبل تفرقهم ورجوعهم إلى بيوتهم وتواطئوا على خبر واحد، وفُرِّقُوا وقت الأداء واتفقت كلمتهم، فإنَّ الظن الحاصل حينئذٍ من شهادتهم أقوى بكثير من الظن الحاصل [من شهادة] (¬4) رجلين، وهذا مما لا يمكن دفعُه وجَحْدُه، فلا يُظَنّ (¬5) بالشريعة الكاملة الفاضلة المتضمنة (¬6) لمصالح العباد في المعاش والمَعَاد أنها تُهْمِلُ مثل هذا الحق وتضيّعه، مع ظهور أدلته وقوتها، وتقبله مع الدليل الذي هو دون ذلك. [حكم شهادة العبد] وقد روى أبو داود في "سننه" في قضية (¬7) اليهوديين اللّذين زَنَيا، فلما شهد أربعةٌ من اليهود عليهما أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[برَجْمهما] (¬8)،. . . . ¬
و [قد تقدم] (¬1) حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بشهادة الأمة الواحدة على فعل نفسها (¬2)، وهو يتضمن شهادة العبد، وقد حكى الإمامُ أحمد عن أنس بن مالك إجماعَ الصحابة على شهادته فقال: ما علمت أحدًا رَدَّ شهادة العبد (¬3)، وهذا هو الصواب، فإنه إذا قُبلت شهادتهُ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حكم يلزم [جميع] (¬4) الأمة، فلأَن تُقبل ¬
[حول شهادة اليمين]
شهادته على واحد من الأمة في حكم جزئيٍّ أولى وأحرى، وإذا قبلت شهادته على حكم اللَّه ورسوله في الفروج والدماء والأموال في الفتوى، فلأن تقبل شهادته على واحد من الناس أولى وأحرى، كيف وهو داخل في قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}؟ فإنه منا وهو عَدْل وقد عَدَّله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "يَحْمِلُ هذا العلم من كل خَلَفٍ عَدُولُه" (¬1) وعَدَّلَتْه الأمة في الرواية عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[والفتوى] (¬2)، وهو من رجالنا فيدخل في قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وهو مسلم فيدخل في قول عمر بن الخطاب: "والمسلمون عُدُولٌ بعضهم على بعض" (¬3) وهو صادق فيجب العمل بخبره، وأن لا يرد (¬4)، فإن الشريعة لا تردُّ خبر الصادق، بل تعمل (¬5) به، وليس بفاسق، فلا يجب التثبُّتُ في خبره وشهادته، وهذا كله من تمام رحمة اللَّه وعنايته بعباده، وإكمال دينهم لهم، وإتمام نعمته عليهم بشريعته؛ لئلا تضيع حقوق اللَّه وحقوق عباده مع ظهور الحق بشهادة الصادق، لكن إذا أمكن حفظ الحقوق بأعلى الطريقين، فهو أولى كما أمر بالكتاب والشهود؛ لأنه أبلغ في حفظ الحقوق. [حول شهادة اليمين] فإن قيل: أمرُ الأموال أسهل، فإنه يُحكم فيها بالنُكول، وباليمين المردودة، وبالشاهد واليمين، بخلاف الرَّجْعة والطلاق. قيل: هذا فيه نزاع، والحجة إنما تكون بنص أو إجماع، فأما الشاهد واليمين فالحديث الذي في "صحيح مسلم" عن ابن عباس: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بالشاهِدِ واليمين" (¬6) ليس فيه أنه في الأموال، وإنما هو قول عمرو بن دينار (¬7)، ولو كان مرفوعًا عن ابن عباس فليس فيه اختصاص الحكم بذلك في ¬
[الاحتجاج بصحيفة عمرو بن شعيب]
الأموال وحدها، فإنه لم يخبر عن شرع عام شَرَعَه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأموال، وكذلك سائر ما رُوي من حكمه بذلك، إنما هو في قضايا معينة قضى فيها بشاهد ويمين، وهذا كما لا يدل على اختصاص حكمه بتلك القضايا لا يقتضي اختصاص حكمه (¬1) بالأموال، كما أنه إذا حكم بذلك في الديون لم يدلَّ على أنَّ الأعيان ليست كذلك، بل هذا يحتاج إلى تنقيح المَنَاط، فيُنظر ما حكم لأجله إن وُجد في غير محل حكمه عُدِّيَ إليه. وفي حديث عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن المرأة إذا أقامت شاهدًا واحدًا على الطلاق، فإن حَلَف الزوج أنه لم يُطلِّق لم يُقضَ عليه، وإن لم يَحْلف حَلَفت المرأة، ويُقضى عليه" (¬2). [الاحتجاج بصحيفة عمرو بن شعيب] وقد احتج الأئمة الأربعة والفقهاء قاطبة بصحيفة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، ولا يُعْرَف في أئمة الفتوى إلا من احتاج إليها واحتجَّ بها (¬3)، وإنما طعن فيها من [لم] (¬4) يتحمَّل (¬5) أعباء الفقه والفتوى، كأبي حاتم البُسْتي (¬6) وابن حزم (¬7) وغيرهما (¬8)؛ وفي هذه الحكومة أن يُقضى في الطلاق بشاهد وما يقوم ¬
مقام شاهد آخر من النكول ويمين المرأة، بخلاف ما إذا أقامت شاهدًا واحدًا وحلف الزوج أنه لم يُطَلِّق، فيمينُ الزوج عارَضَتْ شهادةَ الشاهد، وترجح جانبه بكون الأصل معه؛ وأما إذا نكل الزوج فإنه يُجعل نكوله مع يمين المرأة كشاهد آخر، ولكن هنا لم يُقض بالشاهد ويمين المرأة ابتداءً؛ لأن الرجل أعلم بنفسه هل طلّق أم لا، وهو أحفظ [لما وقع منه] (¬1)، فإذا نكَلَ وقام الشاهد الواحد، وحلفت المرأة كان ذلك دليلًا ظاهرًا [جدًّا] (1) على صدق المرأة أفلم يقضي عليه بالنكول وحده، ولا بيمين المرأة، وإنما قضى بالشاهد المقوى بالنكول ويمين المرأة] (¬2). فإن قيل: ففي الأموال إذا أقام شاهدًا (¬3) وحلف (¬4) المدَّعِي حُكم له، ولا تُعْرَض اليمين على المُدَّعى عليه؛ وفي حديث عمرو بن شعيب: "إذا شهد الشاهد الواحد، وحلف الزوج أنه لم يُطَلِّق لم يُحكم عليه" (¬5). قيل: هذا من تمام حكمة هذه الشريعة وجَلالَتها، أن (¬6) الزوج لما كان أعْلَم بنفسه هل طلَّق أم لا، وكان أحفظ لما وقع منه وأعْقَل له وأعلم بنيَّته، وقد يكون [قد] (¬7) تكلم بلفظ مجمل أو بلفظ يظنه الشاهد طلاقًا وليس بطلاق، والشاهد يشهد بما سمع، والزوج أعلم بقصده ومراده، جعل الشارعُ يمين الزوج معارضةً لشهادة الشاهد الواحد، ويُقويّ جانبه الأصلُ واستصحابُ النكاح، فكان الظن المستفاد من ذلك أقوى من الظن المستفاد من مجرد الشاهد الواحد، فإذا نكَلَ قوي الأصلُ (¬8) في صدق الشاهد، فقاوم ما في جانب الزوج، فَقوَّاه الشارع بيمين المرأة، فإذا حلفت مع شاهدها ونكول الزوج قوي جانبها جدًّا، فلا شيء أحسن ولا أَبْيَن ولا أَعْدَل من هذه الحكومة، وأما المال المشهود به فإن المُدَّعي إذا قال: أقرضتُه أو بِعْتُه أو أعَرتُه، أو قال: غَصَبني أو نحو ذلك، فهذا الأمر لا يختص بمعرفته المطلوب (¬9)، ولا يتعلق بن يته وقصده، وليس مع المُدَّعى عليه من شواهد صدقه ما مع الزوج من بقاء عصمة النكاح، وإنما معه مجرد براءة الذمة، وقد عُهد كثرة اشتغالها بالمعاملات، فقويَ الشاهد الواحد والنكول أو يمين ¬
[يحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه]
الطالب على رَفْعها، فحُكم له، فهذا كله مما يبين حكمة الشارع (¬1)، وأنه يقضي بالبينة التي تبين الحق وهي الدليل الذي يدل عليه، والشاهد الذي يشهد به، بحسب الإمكان. [يحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا ظهر صدقه] بل الحق أن الشاهد الواحد إذا ظهر صِدقُه حكم بشهادته وحده (¬2)، وقد أجاز النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شهادة الشاهد الواحد لأبي قتادة بقتل المشرك وَدَفع إليه سَلَبه بشهادته وحده، ولم يُحَلِّف أبا قتادة (¬3)، فجعله بيِّنةً تامة، وأجاز شهادةَ خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته -صلى اللَّه عليه وسلم- الأعرابي (¬4) وجعل شهادته بشهادتين لما استندت إلى تصديقه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) بالرسالة المتضمنة تصديقه في كل ما يخبر به (¬6)، فإذا شهد المسلمون بأنه صادق في خبره عن اللَّه فبطريق الأَوْلى يشهدون أنه صادق (¬7) عن رجل من أمته، ولهذا كان من تَرَاجِم بعض الأئمة على حديثه (¬8): "الحكم بشهادة الشاهد الواحد إذا عُرف صِدْقُه" (¬9). ¬
فصل [تشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين]
فصل [تشرع اليمين من جهة أقوى المتداعيين] والذي جاءت به الشريعة أن اليمين تُشرع من جهة أقوى المتداعيين، فأي الخصمين تَرجَّح جانبه جُعلت اليمين من جهته، وهذا مذهب الجمهور كأهل المدينة وفقهاء الحديث كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم (¬1)؛ وأما أهل العراق فلا يحلِّفون إلا المُدَّعى عليه وحده، فلا يجعلون اليمين إلا من جانبه فقط، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، والجمهور يقولون: قد ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قضى بالشاهد واليمين (¬2)، وثبت عنه أنه عرض الأَيْمان في القسامة على المدَّعِين أولًا، فلما أبَوْا جعلها من جانب المُدَّعى عليهم (¬3)، وقد جعل اللَّه [سبحانه] (¬4) أيمان اللعان من جانب الزوج أولًا، فإذا نكَلَتِ المرأة عن معارضة (¬5) أَيْمانه بأَيْمانها وجب عليها العذاب بالحد، وهو العذاب المذكور في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] فإن المُدَّعي لما ترجَّح جانبه بالشاهد الواحد شُرعت اليمين من جهته، وكذلك أولياء الدَّم ترجَّحَ جانبهم باللَّوث فشُرعت اليمين من جهتهم وأُكِّدت بالعدد تعظيمًا لخطر النفس، وكذلك الزوج في اللعان جانبه أرجح (¬6) من جانب المرأة قطعًا، فإن إقدامه على إتلاف فراشه، ¬
ورميها بالفاحشة على رؤوس الأشهاد، وتعريض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة، وفضيحة أهله ونفسه على رؤوس الأشهاد، مما تاباه طباع العقلاء، وتَنفِرُ عنه (¬1) نفوسهم، لولا أن الزوجة اضْطَرَّتْهُ بما رآه وتيَّقنه (¬2) منها إلى ذلك، فجانبه أقوى من جانب المرأة قطعًا، فشُرعت اليمين من جانبه، ولهذا كان [الصواب] (¬3) القتل في القَسَامة واللِّعان وهو قول أهل المدينة، فأما فقهاء (¬4) العراق فلا يقتلون لا بهذا ولا بهذا، وأحمد يقتل بالقسامة دون اللعان، والشافعي يقتل باللعان دون القسامة (¬5)، وليس في شيء من هذا ما يعارض الحديث الصحيح، وهو قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6): "لو يُعطَى الناسُ بدَعْوَاهم لادَّعَى قومٌ دماءَ قومٍ وأموالَهم، ولكن اليمين على المُدَّعى عليه" (¬7) فإن هذا إذا لم يكن مع المُدَّعي إلا مجرد الدعوى، فإنه لا يُقضى له بمجرد الدعوى، فأما إذا ترجَّحَ جانبه بشاهد أو لَوْثٍ أو غيره لم يقض له بمجرد دَعْوَاه، بل بالشاهد المجتمع من ترجُّح (¬8) جانبه ومن اليمين، وقد حكم سُليمان بن داود عليه السلام لإحدى المرأتين بالولد لترجُّحِ (¬9) جانبها بالشفقة على الولد وإيثارها لحياته ورضى الأخرى بقتله، ولم يَلتفت إلى إقرارها للأخرى به، وقولها: "هو ابنها" (¬10)، ولهذا كان من تراجم الأئمة على هذا الحديث: "التَّوْسِعَة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله: [أفعل ليستبين الحق] (¬11) ¬
ثم ترجم [عليه] (¬1) ترجمة أخرى أحسن من هذه وأفقه فقال: "الحكم بخلاف ما يَعْترف به المحكوم [عليه] (¬2) إذا تبيّن للحاكم أن الحقَّ غير ما اعترف به" (¬3) فهكذا يكون فهم الأئمة من النصوص واستنباط الأحكام التي تشهد العقول والفِطَرُ بها [منها] (¬4)، ولعمر اللَّه: إنّ هذا هو العلم (¬5) النافع لا خَرْصُ الآراء وتخمين الظنون (¬6). فإن قيل: ففي القسامة يُقبل مجرد أَيمان المُدَّعين، ولا تُجعل أَيمان المُدَّعى (¬7) عليهم بعد أيمانهم دافعة للقتل، وفي اللعان ليس كذلك، بل إذا حلف الزوج مُكِّنَتِ المرأة أن تدفع عن نقسها بأيمانها، ولا تُقتل بمجرد أيمان الزوج، فما الفرق؟ قيل: هذا من كمال الشريعة وتمام عَدْلها [ومحاسنها] (¬8)؛ فإن المحلوف عليه في القَسَامة [حقٌّ] (8) لآدمي، وهو استحقاق الدم، وقد جُعلت الأيمان المكررة بيِّنة تامة مع اللَّوْث، فإذا قامت البينة لم يُلتفت إلى أَيمان المُدَّعى عليه (¬9)، وفي اللعان المحلوف عليه حقٌّ للَّه وهو حد الزنا، ولم يشهد به أربعة شهود، وإنما جُعل الزوج (¬10) أن يحلف أيمانًا مكررةً مؤكدةً باللعنة أنها جَنَت على فراشه وأفسدته، فليس له شاهد إلا نفسه، وهي شهادة ضعيفة، فمكنت المرأة أن تعارضها بأيمان مكررة [مثلها] (8)، فإذا نكلَتْ [ولم تُعارضها] (8) صارت أيمان الزوج [مع نكولها] (8) بينة قوية [لا معارض لها] (8)؛ ولهذا كانت الأيمان أربعة لتقوم مقام الشهود الأربعة، وأُكِّدت بالخامسة هي (¬11) الدعاء على نفسه [باللعنة] (8) ¬
[لا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلا]
إن كان كاذبًا، ففي القَسَامة جُعل اللوث وهو (¬1) الأمارة الظاهرة الدالة على أن المُدَّعى عليهم [قبلوه] (¬2) شاهدًا، وجُعلت الخمسين يمينًا شاهدًا آخر، وفي اللعان جُعلت أَيْمان الزوج كشاهد، ونكولها كشاهد آخر. [لا يتوقف الحكم على شهادة ذكرين أصلًا] والمقصود أن الشارع لم يَقف الحكم في [حفظ] (¬3) الحقوق [البتة] (¬4) على شهادة رجلين (¬5)، لا في الدماء ولا في الأموال ولا في الفروج ولا في الحدود، بل قد حَدَّ الخلفاء الراشدون والصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬6) في الزنا بالحبَل، وفي الخمر بالرائحة والقيء (¬7) ¬
وكذلك إذا ظهر (¬1) المسروق عند السارق (¬2) كان أولى بالحد من ظهور [الحبل و] (¬3) الرائحة في الخمر، وكل ما يمكن أن يقال في ظهور المسروق أمكن أن يقال في الحَبل والرائحة، بل أولى، فإن (¬4) الشبهة التي تعرض [في الحبل] (¬5) من الإكراه ووطء الشبهة؛ وفي الرائحة لا يعرض مثلها في ظهور العين [المسروقة] (¬6)، والخلفاء الراشدون والصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬7) لم يلتفتوا إلى هذه الشبهة التي هي إلى تجويز (¬8) غلط الشاهد ووهمه وكذبه أظهر منها [بكثير] (¬9)، فلو عُطِّل ¬
[لم يرد الشارع خبر العدل]
الحدُّ بها لكان تعطيله بالشبهة التي تكمن في شهادة الشاهدين أولى (¬1)، فهذا محض الفقه والاعتبار و [مصالح العباد، وهو] (¬2) من أعظم الأدلة على جلالة فقه الصحابة وعظمته (¬3) ومطابقته لمصالح العباد، وحكمة الرب وشرعه، وأن التفاوت الذي بين أقوالهم وأقوال من بعدهم كالتفاوت الذي [بين] (¬4) القائلين. [لم يردّ الشَّارعُ خبرَ العدل] والمقصود أن الشارع [صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله] (¬5) لم يَرُدَّ خبر العدل قط، لا في رواية ولا في شهادة، بل قَبلَ خبرَ العدل الواحد في كل موضع أَخْبر به، كما قبل شهادتَهُ لأبي قتادة بالقتيل (¬6) وقبل شهادة خزيمة وحده (¬7)، وقبل شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان (¬8). ¬
[جانب التحمل غير جانب الثبوت]
وقبل شهادة الأمة السوداء وحدها على الرضاعة (¬1)، وقبل خبر تميم وحده وهو خبر عن أمر حسي شاهده ورآه فقبله ورواه عنه (¬2)، ولا فرق بينه وبين الشهادة؛ فإن كلًا منهما [خبر] (¬3) عن أمر مستند إلى الحِسِّ والمشاهدة، فتميم شهد بما رآه وعاينه، وأخبر به النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فصدَّقه وقَبِل خَبَرَه، فأيُّ فرق بين أن يشهد العدل الواحد على أمر رآه وعَاينه يتعلق بمشهود له وعليه وبين أن يخبر بما رآه وعاينه مما يتعلق بالعموم؟. وقد أجمع المسلمون على قبول أذان المُؤذن الواحد، وهو شهادة منه بدخول الوقت، وخبر عنه يتعلق بالمخبر وغيره، وكذلك أجمعوا على قبول فتوى المفتي الواحد، وهي خبر عن حكم شرعي يعم المستفتي وغيره. [جانب التحمل غير جانب الثبوت] وسر المسألة أنه (¬4) لا يلزم من الأمر بالتعدد في (¬5) جانب التحمل وحفظ الحقوق الأمر بالتعدد في جانب الحكم والثبوت؛ فالخبر الصادق (¬6) لا تأتي الشريعة بردِّه أبدًا، وقد ذمَّ اللَّه في كتابه من [كذَّب بالحقِّ، و] (¬7) رَدُّ الخَبرِ الصَّادقِ تكذيبٌ بالحق (¬8)، وكذلك الدلالة الظاهرة لا ترد إلا بما هو مثلها أو أقوى منها، واللَّه سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق، بل أمر بالتثبت والتبين (¬9)، فإن ظهرت ¬
الأدلة على صدقه قُبِل خبرهُ، وإنْ ظهرت الأدلة على كذبه رُد خبره، وإن (¬1) لم يتبين واحد من الأمرين وُقف خبره؛ وقد قَبِلَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خبر الدليل المشرك الذي استأجره ليدله على طريق المدينة في هجرته لما ظهر له صدقه وأمانته (¬2)؛ فعلى المسلم أن يتبع هدي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قبول الحق، ممن جاء به، من وليٍّ وعدو، وحبيب وبغيض، وبَرٍّ وفاجر، ويرد الباطل على من قاله كائنًا من كان، قال عبد اللَّه بن صالح: ثنا الليث بن سَعْد، عن ابن عَجْلان، عن ابن شِهَاب أن معاذ بن جبل كان يقول في مجلسه كل يوم قَلَّما يخطئه أن يقول ذلك: "اللَّه حكم قِسْط (¬3)، هلك المرتابون، إن وراءكم فتنًا يكثر فيها المال، ويُفتح فيها القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصبي والأسود والأحمر، فيوشك أحدهم أن يقول: [قد] (¬4) قرأت القرآن، فما أظنُّ أن يتبعوني حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنَّ كلَّ بدعة ضلالة، وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإنَّ الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإنَّ المنافق قد يقول كلمة الحق، فتَلَقُّوا الحقَّ عن من جاء به، فإنَّ على الحق نورًا، قالوا: وكيف زَيْغة الحكيم؟ قال: هي الكلمة [تروعكم] (¬5) وتنكرونها وتقولون: ما هذا؟! فاحذروا زيغته، ولا يصدَّنَّكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء وأن يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة" (¬6). ¬
[الحاكم يحكم بالحجة التي ترجح الحق]
[الحاكم يحكم بالحجة التي ترجّح الحق] والمقصود أن الحاكم يحكم بالحجَّة التي ترجِّح الحقَّ إذا لم يعارضها مثلها، والمطلوب منه ومن كل من يحكم بين اثنين أن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب، فالأول مداره على الصِّدق، والثاني مداره على العدل (¬1)، وتمت كلماتُ (¬2) ربك صدقًا وعدلًا، واللَّه عليمٌ حكيم. [صفات الحاكم وما يشترط فيه] فالبيّنات والشهادات تظهر لعباده معلومة، وبأمره وشرعه يحكم بين عباده، والحكم إما إبداءً وإما إنشاءً؛ فالإبداء إخبارٌ وإثباتٌ وهو شهادة، والإنشاء [أمر و] (¬3) نهي وتحليلٌ وتحريم؛ والحاكم فيه ثلاث صفات؛ فمن جهة الإثبات (¬4) هو شاهد، ومن جهة الأمر والنَّهي هو مُفْتٍ، ومن جهة الإلزام بذلك هو ذو سلطان، وأقل ما يشترط فيه صفات الشاهد باتفاق العلماء؛ لأنه يجب عليه الحكم بالعدل، ¬
[يجب تولية الأصلح للمسلمين]
وذلك يستلزم أن يكون عدلًا في نفسه؛ فأبو حنيفة لا يعتبر إلا العدالة، والشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يعتبرون معها الاجتهاد. [يجب تولية الأصلح للمسلمين] وأحمد يوجب تولية الأصلح فالأصلح من الموجودين، وكل زمان بحسبه، فيُقدَّم الأدْيَنُ العَدْل على الأَعلم الفاجر، وقضاة السنة على قضاة الجهمية، وإن كان الجهميُّ أفْقَه، ولما سأله المتوكل عن القضاة أرسل إليه درجًا (¬1) مع وزيره، يذكر فيه تولية أناس [وعزل أناس] (¬2)، وأمسك عن أناس، وقال: لا أعرفهم، وروجع في بعض مَنْ سَمَّى لقلَّة علمه، فقال: لو لم يولوه لولّوا فلانًا، وفي توليته مضرة على المسلمين؛ ولذلك (¬3) أمر أن يُوَلَّى على الأموال الدَّيِّنُ السُّنِّي دون الدَّاعي إلى التَّعطيل؛ لأنَّه يضرُّ النَّاسَ في دينهم، وسئل عن رجلين أحدهما أنكى للعدو (¬4) مع شربه الخمر والآخر أَدْيَن، فقال: يُغْزى مع الأَنكى (¬5) في العدو؛ لأنه أنفع للمسلمين. [تولية الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- الأنفع على من هو أفضل منه] وبهذا مضتْ سَنّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فإنه كان يُوَلّي (¬6) الأنفع للمسلمين على من هو أفضل منه، كما وَلَّى خالد بن الوليد من حين أسلم على حروبه لنكايته في العدو، وقَدَّمه على بعض السابقين من المهاجرين والأنصار مثل عبد الرحمن بن عوف، وسالم مولى أَبى حُذيفة، وعبد اللَّه بن عمر (¬7)؛ وهؤلاء ممن أنفق [من] (¬8) قبل الفتح وقاتل، وهم أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا؛ وخالد كان (¬9) ¬
ممن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فإنه أسلم بعد صلح الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة الحَجَبي (¬1)، ثم إنه فعل مع بني جذيمة ما [تبرأ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه] (¬2)، حين رفع يديه إلى السماء، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" (¬3) ومع هذا فلم يعزله، وكان أبو ذر من أسبق السابقين وقال له (¬4): "يا أبا ذر إنِّي أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمَّرنَّ على اثنين، ولا تولَّيَنَّ مال يتيم. قال نعم" (¬5) وأمّر عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل (¬6)؛ لأنه كان يقصد أخواله بني عذرة؛ فعلم أنهم يطيعونه مَا لَا يطيعون غيره للقرابة؛ وأيضًا فلِحُسن سياسة عمرو وخبرته وذكائه ودهائه (¬7)، فإنه كان من أدهى العرب؛ ودهاة العرب أربعة هو أحدهم، ثم أردفه بأبي عبيدة، وقال: "تَطَاوعا ولا تَخْتلفا" فلما تنازعا فيمن يُصلِّي سَلَّم أبو عبيدة لعمرو؛ فكان (¬8) يصلي بالطائفتين وفيهم أبو بكر (¬9)؛ وأمَّر أسامة بن زيد مكان أبيه لأنه -مع كونه خليقًا للإمارة- أحرص على ¬
طلب ثأر أبيه من غيره (¬1)، وقَدَّم أباه زَيدًا في الولاية على جعفر ابن عمه مع أنه مولى (¬2)، ولكنه من أسبق الناس إسلامًا قبل جعفر، ولم يلتفت (¬3) إلى طَعْن الناس في إمارة أسامة وزيد، وقال: "إن تطعنوا في إمارة أسامة فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيْم اللَّه! إنه (¬4) خليقًا للإمارة، ومن أحبِّ الناس إليَّ" (¬5) وأَمَّر خالد بن ¬
فصل [الصلح بين المسلمين]
سعيد بن العاص وإخوته لأنهم من كبراء قريش (¬1) وساداتهم ومن السابقين الأولين، ولم يتول أحد (¬2) بعده (¬3). والمقصود أن هديه -صلى اللَّه عليه وسلم- تولية الأنفع للمسلمين وإن كان غيره أفضل منه، والحكم بما يظهر الحق ويوضحه إذا لم يكن هناك أقوى منه يعارضه، فسيرته تولية الأنفع والحكم بالأظهر، ولا تستطل هذا الفصل فإنه من أنفع فصول الكتاب [واللَّه المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إلا به] (¬4). فصل [الصُلح بين المسلمين] وقوله: "والصلح جائز بين المسلمين الا صلحًا أحَلَّ حرامًا أو حرم حلالًا" (¬5) هذا مروي (¬6) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، رواه الترمذي وغيره من حديث عَمرو بن عَوْف المُزَني أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الصُّلحُ جائزٌ بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحلَّ حرامًا" والمسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا" قال الترمذي: هذا حديث صحيح (¬7)؛ وقد ندب اللَّه سبحانه إلى الصلح بين المتنازعين (¬8) في الدماء فقال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] وندب الزوجين إلى الصلح عند التنازع في حقوقهما، فقال (¬9): {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وقال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] وأصلح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين ¬
بني عَمرو بن عوف فيما وقع بينهم (¬1)، ولما تنازع كعب بن مالك وابن أبى حَدْرَد في دَيْنٍ على [ابن] (¬2) أبي حَدْرد، أصلح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ بأن استوضع من دَيْن كَعْبٍ الشَّطْرَ و [أمر] (¬3) غريمه بقضاء الشطر (¬4)، وقال لرجلين اختصما عنده: "اذْهَبَا فاقْتَسما ثم توخَّيَا الحقَّ ثم اسْتهما ثم ليحلل كلٌّ منكما صاحبه" (¬5)، وقال: "من كانت عنده مظلمة لأخيه من عِرْض أو شيء فلْيتحلّله منه اليوم قبل أن لا يكون دينارٌ ولا درهمٌ، وإن كان له عملٌ صالح أُخِذَ منه بقدر مَظْلمته، وإنْ لم يكن له حسنات أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه" (¬6) وجَوَّز في دم العمد أن يأخذ ¬
أولياء القتيل ما صُولحوا عليه (¬1)، ولما أستشهد عبد اللَّه بن حَرَام الأَنصاريّ والد جابر -رضي اللَّه عنه- (¬2)، وكان عليه دَيْن، سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- غرماءه أن يقبلوا ثمر حائطه ويحلِّلوا أباه (¬3)؛ وقال عطاء، عن ابن عباس: إنَّه كان لا يرى باسًا بالمخارجة، يعني: الصلح في الميراث (¬4)؛ وسُمِّيت المخارجة لأنَّ الوارث يُعْطَى ما يُصَالَح عليه ويُخرجُ نفسه من الميراث، وصولحت امرأة عبد الرحمن بن عوف من نصيبها من ربع الثمن على ثمانين ألفًا (¬5)، وقد روى مِسْعَر، عن [أزهر، عن] (¬6) ¬
فصل [الحقوق ضربان حق الله تعالى وحق عباده]
مُحارب قال: قال عمر: "رُدُّوا الخصوم حتى يصطلحوا، فإنَّ [فصل] (¬1) القضاء يُحدثُ بين القوم الضَّغائن" (¬2)، وقال عمر أيضًا: "ردُّوا الخصوم [لعلهم أن يصطلحوا، فإنه آثر للصِّدْق، وأقل للخيانة" (¬3)، وقال عمر أيضًا: "ردُّوا الخصوم] إذا كانت بينهم قرابة، فإنَّ فصل القضاء يُورث بينهم الشنآن" (¬4). فصل [الحقوق ضربان حق اللَّه تعالى وحق عباده] والحقوق نوعان: حَقٌّ للَّه، وحَقٌّ لآدمي، فحق اللَّه [لا مَدْخَلَ للصلح فيه كالحدود والزكَوَات والكفارات ونحوها، وإنما الصلح] (¬5) بين العبد وبين ربه (¬6) ¬
في إقامتها، لا في إهمالها، ولهذا لا تقبل الشفاعة في الحدود (¬1)، وإذا بلغت السلطان فلَعَن اللَّه الشَّافع والمُشَفَّع. وأما حقوق الآدميين؛ فهي التي تقبل الصلح والإسقاط والمعاوضة عليها، والصلح العادل هو الذي أمر اللَّه به ورسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬2)، كما قال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9]، والصلح الجائر هو الظلم بعينه، وكثير من الناس لا يعتمد العدل في الصلح، بل يصلح صلحًا ظالمًا جائرًا، فيصالح بين الغريمين على دون الطفيف (¬3) من حق أحدهما، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- صالح بين كعب وغريمه [وصالح] (¬4) أعدل الصلح فأمره أن يأخذ الشطر ويدع الشطر (¬5)؛ وكذلك لما عزم على طلاق سَوْدَة رضيت بأن تَهبَ له ليلَتَها وتُبقي على حَقِّها من النفقة والكسوة (¬6)، فهذا ¬
فصل [الصلح إما مردود وإما جائز نافذ]
أعدل الصلح، فإن اللَّه سبحانه أباح للرجل أن يطلق زوجته ويستبدل بها غيرها، فإذا رضيت بترك بعض حقها وأخذ بعضه وأن يمسكها كان هذا من الصلح العادل، وكذلك أرشد الخصمين اللذين كانت بينهما المواريث (¬1) بأن يتوخيا الحق بحسب الإمكان ثم يحلل كل منهما صاحبه (¬2)؛ وقد أمر اللَّه [سبحانه] (¬3) بالإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين أولًا، فإن بغت إحداهما على الأخرى فحينئذٍ أمر بقتال الباغية لا بالصلح فإنها ظالمة، ففي الإصلاح مع ظلمها هضم لحق الطائفة المظلومة، وكثير من الظلمة المصلحين يصلح بين القادر والظالم والخصم الضعيف المظلوم، بما يَرْضَى به القادر رضًى لصاحب الجاه (¬4)، ويكون له فيه الحظ، ويكون الإغماص والحيف فيه على الضعيف، ويظن أنه قد أصلح، ولا يتمكن (¬5) المظلوم من أخذ حقه، وهذا ظلم، بل يُمكَّن المظلوم من استيفاء حقه، ثم يُطلب إليه برضاه أن يَتْرك بعض حقه بغير محاباة لصاحب الجاه، ولا يشتبه (¬6) بالإكراه للآخر بالمحاباة ونحوها. فصل [الصلح إما مردود وإما جائز نافذ] والصلح الذي يُحل الحَرام ويُحَرِّم الحلال كالصلح الذي يتضمن تحريم بُضْعٍ حلال، أو حل (¬7) بُضْعٍ حرام، أو ارقاق حُر، أو نقل نسب [أو ولاء] (¬8) عنَ محل إلى محل، أو أكل ربًا، أو إسقاط واجب، أو تعطيل حد، أو ظلم ثالث، وما أشبه ذلك؛ فكل هذا صلح جائر مردود. فالصلح الجائز بين المسلمين هو الذي يعتمد فيه رضى اللَّه [سبحانه] (3) ¬
ورضى الخصمين؛ فهذا أعدل الصلح وأحقه، وهو يعتمد العلم والعدل؛ فيكون المصلح عالمًا بالوقائع، عارفًا بالواجب، قاصدًا، للعدل؛ فدرجة هذا أفضل من درجة الصائم القائم، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بأفضل من درجة الصائم القائم؟! قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: إصلاح ذات البَيْن؛ فإن فساد ذات البَيْن [هي] (¬1) الحَالِقَة، أما إِنِّي لا أقول [تحلق] (2) الشَّعْر، ولكن [تحلق] (¬2) الدِّين" (¬3) وقد جاء في أثر: أصلحوا بين الناس، فإن اللَّه يصلح بين المؤمنين يوم القيامة (¬4)؛ وقد قال تعالى: ¬
فصل [يؤجل القاضي الحكم بحسب الحاجة]
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ] (¬1)} [الحجرات: 10]. فصل [يؤجل القاضي الحكم بحسب الحاجة] وقوله (¬2): "مَنْ ادّعى حقًا غائبًا أو بينةً فاضرِبْ له أمدًا ينتهي إليه" هذا من تمام العدل، فإن المُدّعي قد تكون حجته أو بينته غائبة، فلو عُجِّل عليه بالحكم بطل حقه، فإذا سأل أمدًا تحضر (¬3) فيه حجته أجيب إليه، ولا يتقيد ذلك بثلاثة أيام، بل بحسب الحاجة، فإن ظهر عناده ومدافعته للحاكم لم يضرب له أمدًا، بل يفصل الحكومة، فإنَّ ضرْب هذا الأمد إنَّما كان لتمام العدل، فإذا كانت فيه إبطال للعدل لم يُجَبْ إليه الخصم. [قد يتغير الحكم بتغير الاجتهاد] وقوله: "ولا يمنعنك قضاءٌ قَضيتَ به اليوم فراجعت فيه رأيك وهُديت فيه لرُشْدك (¬4) أن تُراجعَ فيه الحق، فإنَّ الحق قديم، ولا يبطله شيءٌ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل" يريد أنك إذا اجتهدت في حكومة ثم وقعت لك مرة أخرى فلا يمنعك (¬5) الاجتهاد الأول من إعادته، فإن الاجتهاد قد يتغير، ولا يكون الاجتهاد الأول مانعًا من العمل بالثاني إذا ظهر أنه الحق، فإن الحق أولى بالإيثار؛ لأنه قديم سابق على الباطل، فإن كان الاجتهاد الأول قد سبق الثاني والثاني هو الحق فهو أسبق من الاجتهاد الأول، لأنه (¬6) قديم سابق على ما سواه، ¬
[من ترد شهادته]
ولا يبطله وقوع الاجتهاد الأول على خلاف (¬1)، بل الرجوع إليه أولى من التمادي على الاجتهاد الأول. قال عبد الرزاق: حدثنا مَعْمر، عن سِماك بن الفَضْل، عن وهب بن مُنبِّه، عن الحكم بن مسعود الثقفي قال: قضى عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-]، (¬2) في امرأة توفيت وتركت زوجها وأمها وإخوتها (¬3) لأبيها وأمها وأخوتها (3) لأمها، فأشرك عمر بين الإخوة للأم والأب والإخوة للأم في الثلث، فقال له رجل: إنك لم تشرك بينهم عام كذا وكذا، قال (¬4) عمر: "تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم" (¬5)؛ فأخذ أمير المؤمنين (¬6) في كلا الاجتهادين بما ظهر له أنه الحق، ولم يمنعه القضاء الأول من الرجوع إلى الثاني، ولم ينقض الأول بالثاني؛ فجرى أئمة الإسلام بعده على هذين الأصلين (¬7). [من ترد شهادته] قوله: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مُجرَّبًا عليه شهادة زور، أو مجلودًا في حد، أو ظنِّينًا في ولاءٍ أو قرابة" لما جعل اللَّه سبحانه هذه الأمة أمة وسطًا، ليكونوا شهداء على الناس -والوسط: العدل الخيار- كانوا عدولًا بعضهم على بعض، إلا من قام به مانع الشهادة، [وهو أن يكون قد] (¬8) جُرِّب عليه شهادة ¬
[شهادة القريب لقريبه أو عليه]
الزور؛ فلا يوثق (¬1) بعد ذلك بشهادته، أو من جُلد في حد؛ لأنَّ اللَّه سبحانه نهى عن قبول شهادته، أو متَّهم بأن يجر إلى نفسه نفعًا من المشهود له، كشهادة السيد لعتيقه بمال أو شهادة العتيق لسيده إذا كان في عياله أو منقطعًا إليه يناله نَفْعُه، وكذلك شهادة القريب لقريبه لا تُقْبل مع التُّهْمة، وتقبل بدونها، وهذا هو الصحيح. [شهادة القريب لقريبه أو عليه] وقد اختلف الفقهاء في ذلك: فمنهم من جوَّز شهادة القريب لقريبه مطلقًا كالأجنبي، ولم يجعل القرابة مانعة من الشهادة بحال، كما يقوله أبو محمد بن حزم وغيره من أهل الظاهر (¬2)، وهؤلاء (¬3) يحتجُّون بالعمومات التي لا تُفرِّق بين أجنبي وقريب، وهؤلاء أسعد بالعمومات. [منع شهادة الأصول للفروع والعكس ودليله] ومنعت طائفة شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول خاصة، وجَوَّزت شهادة سائر الأقارب بعضهم لبعض، وهذا مذهب الشافعي (¬4) وأحمد (¬5)، وليس مع هؤلاء نص صريح صحيح بالمنع. واحتج الشافعي بأنه لو قبلت شهادة الأب لابنه لكانت [شهادة منه] (¬6) لنفسه لأنه منه؛ وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما فاطمة بضعة مِنّي يُريبني ما رَابَها، ويُؤذيني ما آذاها" (¬7) قالوا: وكذلك بنو البنات، فقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحسن: "إن ابني هذا ¬
سَيّد" (¬1) قال الشافعي: فإذا شهد له فإنما يشهد لشيء منه، قال: [وبنوه هم] (¬2) منه، فكأنه شهد لبعضه، قالوا: والشهادة تُردُّ بالتُّهمة، والوالد متَّهم في ولده؛ فهو ظنينٌ في قرابته، قالوا: وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأولاد: "إنكم لتُبَخِّلُونَ وتُجَبّنُون، وإنكم لمن ريْحَان اللَّه" (¬3) وفي أثر آخر: "الولد مَبخَلة مَجْبَنة" (¬4) قالوا: وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت ومالُكَ لأبيك" (¬5) فإذا كان مال الابن لأبيه فإذا شهد له الأب ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
بمالٍ كان قد شهد به لنفسه، قالوا: وقد قال أبو عبيد: ثنا مروان بن معاوية، عن يزيد الجزري (¬1)، قال: أحسبه يزيد بن سنان، قال الزهري: عن عروة، عن عائشة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ظنينٍ في ولاء ولا قرابة (¬2) ولا مجلود" (¬3) قالوا: ولأن بينهما من البعضية والجزئية ما يمنع قبول ¬
فصل [الرد على من منع شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول]
الشهادة، كما مُنعَ (¬1) من إعطائِه [من] الزكاة، [ومن قَتْله بالولد] (¬2)، وحَدِّه بقذفه؛ قالوا: ولهذا لا يثبُتُ له في ذمته دين عند جماعة من أهل العلم، ولا يطالب به، ولا يُحبس من أجله، قالوا: وقد قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61]، ولم يذكر بيوت الأبناء لأنها داخلة في بيوتهم (¬3) أنفسهم، فاكتفى بذكرها [دونها] (¬4)، وإلا فبيوتهم أقرب من بيوت مَنْ ذُكر في الآية؛ قالوا: وقد قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] أي: ولدًا، فالولد جزء؛ فلا تقبل شهادة الرجل في (¬5) جزئه. قالوا: وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6): "إن أطْيَبَ ما أكَلَ الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" (¬7) فكيف يشهد الرجل لكسبه؟ قالوا: والإنسان مُتَّهم في ولده، مَفْتُونٌ به، كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 25] فكيف تقبل شهادة المرء لمن قد جُعل (¬8) مفتونًا به؟ والفتنة محل التهمة. فصل [الرد على من منع شهادة الأصول للفروع والفروع للأصول] قال الآخرون: قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ ¬
حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] وقال [تعالى] (¬1): {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] و [قد] (1) قال [تعالى] (1): {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقد قال تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ [فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ] (1)} [البقرة: 282] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] ولا رَيْبَ في دخول الآباء والأبناء والأقارب في هذا اللفظ كدخول الأجانب؛ وتناولها للجميع بتناول واحد (¬2)، هذا مما لا يمكن دفعه، ولم يستثن [اللَّه سبحانه ولا رسوله] (¬3) من ذلك أبًا ولا ولدًا ولا أخًا ولا قرابة، ولا أجمع المسلمون على استثناء أحد من هؤلاء؛ فتلزم (¬4) الحجة بإجماعهم. وقد ذكر عبد الرزاق عن أبي بكر بن أبي سَبْرَة، عن أبي الزِّناد، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬5): تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، والأخ لأخيه (¬6). وعن عمرو بن سُليم الزُّرقيّ، عن سعيد بن المسيب مثل هذا (¬7). وقال ابن وهب: ثنا يونس، عن الزُّهريِّ قال: لم يكن يُتَّهم سَلَفُ المسلمين الصالح [في] (5) شهادة الوالد لولده، [ولا] (5) الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الزوج لإمرأته، ثم دَخِلَ الناسُ (¬8) بعد ذلك فظهرت منهم أمور حَمَلَتْ الوُلاة على اتهامهم، فتُرِكَت شَهادةُ من يُتَّهم إذا كانت من قرابة، وصار ذلك من الولد والوالد ¬
والأخ والزوج والمرأة، لم يُتَّهم إلا هؤلاء في آخر الزمان (¬1). وقال أبو عُبيد: حدثني الحسن بن عازب، عن جَدِّه شبيب بن غَرْقَدَة قال: كنتُ جالسًا عند شُرَيح، فأتاه علي بن كاهل وامرأة وخصم، فشهد لها عليُّ بن كاهل وهو زوجها، وشهد لها أبوها، فأجاز شريحٌ شهادتهما؛ فقال الخصم: هذا أبوها وهذا زوجها، فقال له شريح: أتعلم شيئًا تُجرِّحُ به شهادتهما؟ كلُّ مسلم شَهادتُه جائزة (¬2). وقال عبد الرزاق: ثنا سفيان بن عُيَينة، عن شَبيب بن غَرْقَدة قال: سمعت شُريحًا أجاز لامرأة شهادة أبيها وزوجها، فقال له الرجل: إنه أبوها وزوجها، فقال شريح: فمن يشهد للمرأة إلا أبوها وزوجها؟ (¬3). وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا شَبَابة، عن ابن أبي ذِئْب، عن سُليمان قال: شهدتُ لأمي عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم، فقضى بشهادتي (¬4). وقال عبد الرزاق: ثنا معمر، عن عبد الرحمن بن عبد اللَّه الأنصاري قال: أجاز عمر بن عبد العزيز شهادة الابن لأبيه إذا كان عَدْلًا (¬5). قالوا: فهؤلاء عمر بن الخطاب وجميعُ السلف وشُرَيح وعمر بن عبد العزيز وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حَزْم يجيزون شهادة الابن لأبيه والأب لابنه، قال ¬
ابن حزم (¬1): "وبهذا يقول إياس بن معاوية، وعثمان البَتِّيُّ، وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، والمزني، وأبو سُليمان وجميع أصحابنا" يعني: داود بن علي وأصحابه. وقد ذكر الزهري أن الذين رَدُّوا شهادة الابن لأبيه والأب لابنه والأخ لأخيه هم المتأخرون (¬2)، وأن السلف الصالح لم يكونوا يَرُدُّونها. قالوا: وأما حججكم (¬3) على المنع فَمَدَارها على شيئين: أحدهما: البعضية التي بين الأب وابنه، وأنها تُوجِب أن تكون شهادة أحدهما للآخر شهادة لنفسه، وهذه حجة ضعيفة؛ فإن هذه البعضية لا توجب أن تكون كبعضه في الأحكام، [لا في أحكام الدنيا ولا] (¬4) في أحكام الثواب والعقاب؛ فلا يلزم من وجوب شيء على أحدهما أو تحريمه وجوبُهُ على الآخر وتحريمه من جهة كونه بَعْضَه، ولا من وجوب الحد على أحدهما وجوبه على الآخر، وقد قال [النبي] (¬5) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يجني والدٌ على ولده" (¬6) فلا يَجْني عليه، ¬
ولا يُعَاقَب بذنبه، ولا يُثاب بحسناته، ولا تجب عليه الزكاة ولا الحج بغنى الآخر، ثم [قد] (¬1) أجمع الناس على صحة بيعِه منه وإجَارتِه ومُضاربتِه ومُشاركتِه، فلو امتنعت (¬2) له لكونه جزءًا منه؛ فيكون شاهدًا لنفسه لامتنعت هذه العقود؛ إذ يكون عاقدًا لها مع نفسه. فإن قلتم: هو مُتَّهم بشهادته له، بخلاف هذه العقود؛ فإنه لا يتهم فيها معه. قيل: هذا عَوْد (¬3) منكم إلى المأخذ الثاني، وهو مأخذ التهمة، فيقال: التهمة وحدها مستقلة بالمنع، سواء كان قريبًا أو أجنبيًا، ولا ريب أن تهمة الإنسان في صَدِيقِهِ وعَشِيره ومن يعنيه (¬4) مودته ومحبته أعظم من تهمته في أبيه وابنه، والواقع شاهد بذلك، وكثير من الناس يُحابي صَديقَه وعَشيرَه وذا وُدِّه أعظم مما يحابي أباه وابنه. فإن قلتم: الاعتبار بالمظنة، وهي التي تنضبط، بخلاف الحكمة؛ [فإنها] (¬5) لانتشارها وعدم انضباطها لا يمكن (¬6) التعليل بها. قيل: هذا صحيح في الأوصاف التي شهد لها الشرع بالاعتبار، وعَلَّق بها الأحكام، دون مظانها، فأين علق الشارع عدم قبول الشهادة بوصف الأبوة أو البنوة أو الأخوة؟ والتابعون إنما نظروا إلى التهمة، فهي الوصف المؤثر في الحكم، فيجب (¬7) تعليق الحكم به وجودًا وعدمًا، ولا تأثير لخصوص القرابة ولا عمومها، بل قد توجد القرابة حيث لا تهمة، وتوجد التهمة حيث لا قرابة، والشارع إنما علق قبول الشهادة بالعدالة وكون الشاهد مرضيًا، وعلَّق عدم قبولها بالفسق، ولم يُعلِّق القبول والرد بأجنبية (¬8) ولا قرابة. قالوا: وأما قولكم: "إنه غير متهم معه في تلك العقود" فليس كذلك، بل هو متهم معه في المحاباة، ومع ذلك فلا يوجب ذلك إبطالها، ولهذا لو باعه في ¬
مرض موته ولم يُحَابِهِ لم يبطل البيع، ولو حاباه بَطَلَ في قدر المحاباة، فعلق البطلان بالتهمة لا بمظنتها. قالوا: وأما قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1): "أنْتَ ومَالُكَ لأبيكَ" (¬2) فلا يمنع شهادة الابن لأبيه، فإن الأبَ ليس هو وماله لابنه، ولا يدل الحديث على [عدم] (¬3) قبول شهادة أحدهما للآخر، والذي دل عليه الحديث أكثَرُ منازعينا لا يقولون به، بل عندهم أن مال الابن له حقيقة وحكمًا، وأن الأب لا يتملك عليه منه شيئًا، والذي لم يدل عليه الحديث حمَّلتموه إياه، والذي دل عليه لم تقولوا به، ونحن نتلقى أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[كلها] (¬4) بالقبول والتسليم، ونستعملها في وجوهها (¬5)، ولو دل قوله: "أنت ومالك لأبيك" (2) على أن لا تُقبل شهادةُ الولد لوالده ولا الوالد لولده لكُنَّا أول ذاهب إلى ذلك، ولما سبقتمونا إليه، فأين موضع الدلالة؟ واللام في الحديث ليست للملك قطعًا، وأكثركم يقول: ولا للإباحة إذ لا يُبَاح مال الابن لأبيه؛ ولهذا فرَّقَ بعضُ السلف فقال: تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا تقبل شهادة الأب لابنه، وهو إحدى الروايتين عن الحسن والشَّعْبيّ (¬6) ونَصَّ عليه أحمد في رواية عنه (¬7)، ومن يقول: هي للإباحة أسْعَدُ بالحديث، وإلَّا تعطلت فائدته ودلالته، ولا يلزم من إباحة أَخْذَهِ ما شاء من ماله [أن لا] (¬8) تُقبل ¬
شهادته له بحال، مع القطع أو ظهور انتفاء التهمة، كما لو شهد له بنكاح أو حَدٍّ أو ما لا تلحقه به تهمة. قالوا: وأما كونه لا يُعطى من زكاته، ولا يُقاد به، ولا يحدُّ به (¬1)، ولا يَثْبُت له في ذمته دَيْن، ولا يُحْبس به؛ فالاستدلال إنما يكون بما ثَبَتَ بنص أو إجماع، وليس معكم شيء من ذلك، فهذه مسائل نزاع لا مسائل إجماع، ولو سلم ثبوت (¬2) الحكم فيها أو في بعضها لم يلزم منه عدم قبول شهادة أحدهما للآخر حيث تنتفي التهمة؛ ولا تَلَازُم بين قبول الشهادة وجَرَيان القصاص وثبوت الدَّين له في ذمته لا عقلًا ولا شرعًا، فإن تلك الأحكام اقْتَضَتها الأبوة التي تمنع من مساواته للأجنبي في حَدِّه به، وإقادته منه، وحَبْسه بدَيْنه، فإن منصب الأبوة (¬3) يأبى ذلك، وقبحه مركوز في فِطَر الناس، وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رأوْهُ قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح، وأما الشهادة فهي خَبَر يعتمد الصدق والعَدَالة، فإذا كان المُخْبِرُ به صادقًا مبرِّزًا في العدالة غير متهم في الأخبار (¬4) فليس قَبُولُ قوله قبيحًا عند المسلمين، ولا تأتي الشريعة برد خبر المخبر به واتهامه. قالوا: والشريعة مَبْنَاها على تصديق الصادق وقبول خبره، وتكذيب الكاذب والتوقف في خبر الفاسق المتهم؛ فهي لا تَردُّ حقًا، ولا تَقْبل باطلًا. قالوا: وأما حديث عائشة (¬5) فلو ثبت لم يكن فيه دليل، فإنّه إنما يدل على عدم قبول شهادة المتهم في قرابته أو ذي ولاية، و [نحن] (¬6) لا نقبل شهادته إذا ظهرت تُهمَته، ثم منازعونا لا يقولون بالحديث، فإنهم لا يردُّون شهادة كل قرابة، والحديث ليس فيه تخصيص لقرابة الإيلاد بالمنع، وإنما فيه تعليق المنع بتهمة القرابة، فألغيتم (¬7) وَصْفَ التهمة، وخَصَّصتم وصف القرابة بفردٍ منها؛ فكنا نحن أسْعَدَ بالحديث منكم، وباللَّه التوفيق. وقد قال محمد بن الحكم: إن أصحاب مالك يُجيزون شهادة الأب والابن ¬
[شهادة الأخ لأخيه]
[والأخ] (¬1) والزوج والزوجة على أنه وَكَّلَ فلانًا، ولا يجيزون شهادتَهم أن فلانًا وكَّلَه؛ لأن الذي يوكِّل لا يتهمان عليه في شيء (¬2). [شهادة الأخ لأخيه] وأما شهادة الأخ لأخيه فالجمهور يجيزونها، وهو الذي في "التهذيب" من رواية ابن القاسم (¬3) عن مالك، إلا أن يكون في عياله، وقال بعض المالكية: [لا تجوز إلا على شَرْط] (¬4)؛ ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: هو أن يكون مبرزًا في العدالة، وقال بعضهم: إذا لم تَنَلْه صِلتُه، وقال أشهب: تجوز (¬5) في اليسير دون الكثير، فإن كان مبرزًا جاز في الكثير وقال بعضهم: تقبل مطلقًا إلا فيما تتضح (¬6) فيه التهمة، مثل أن يشهد له بما يكسب (¬7) به الشاهد شرفًا وجاهًا (¬8). [الصحيح قبول شهادة الابن لأبيه، والأب لابنه] والصحيح أنه تقبل شهادة الابن لأبيه والأب لابنه فيما لا تهمة فيه، [ونص عليه أحمد (¬9)؛ فعنه في المسألة ثلاث روايات: المنع، والقبول فيما لا تهمة ¬
فيه] (¬1)، والتفريق بين شهادة الابن لأبيه فتقبل، وشهادة الأب لابنه فلا تقبل، واختار ابن المنذر (¬2) القبول كالأجنبي. وأما شهادة أحدهما على الآخر فنصَّ الإمام أحمد على قبولها (¬3)، وقد دل عليه القرآن في قوله [تعالى] (¬4): {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: 135]. وقد حكى بعض أصحاب أحمد عنه رواية ثانية أنها لا تقبل؛ قال صاحب "المغني": ولم أجد في "الجامع" -يعني "جامع الخلال"- خلافًا عن أحمد أنها تقبل (¬5)، وقال بعض الشافعية: لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص ولا حدِّ قَذْف، قال: لأنه لا يُقْتل بقَتْله، ولا يُحدُّ بقذفه، وهذا قياسٌ ضعيفٌ جدًّا؛ فإن [الحد والقتل] (¬6) في صورة المنع لكون المستحق هو الابن، وهنا المستحق أجنبي (¬7). ومما يدل على أن احتمال التهمة بين الولد ووالده لا يمنع (¬8) قبول الشهادة أن شهادة الوارث لمورِّثه جائزة بالمال وغيره، ومعلوم أن تَطَرُّقَ التهمة السببية مثلُ تطرقها إلى [الوالد والولد] (¬9)، وكذلك شهادة الابنين على أبيهما بطلاق ضَرَّةِ أُمِّهما جائزة، مع أنها شهادة للأم، ويتوفر حظها من الميراث، ويخلو لها وَجْه ¬
فصل [شاهد الزور]
الزوج، ولم تُرَدَّ هذه الشهادة باحتمال التهمة؛ فشهادة الولد لوالده (¬1) وعكسه بحيث (¬2) لا تُهمَة هناك أولى بالقبول، وهذا هو القول الذي نَدِينُ اللَّه به، وباللَّه التوفيق. فصل [شاهد الزور] وقوله (¬3): "إلا مُجربًّا عليه شهادة زور" يدل على أن المرة الواحدة من شهادة الزور تستقل برد الشهادة، وقد قَرَن اللَّه -سبحانه- في كتابه بين الإشراك وقول الزور، وقال تعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ (¬4)} [الحج: 31]، وفي "الصحيحين" [-أيضًا-] عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول اللَّه، قال: الشرك باللَّه، ثم عقوق الوالدين (¬5)، وكان متكئًا فجلس، ثم قال: ألا وقَوْل الزور، ألا وقول الزور (¬6)، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت" (¬7)، وفي "الصحيحين"، [عن أنس] عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أكبر الكبائر: الإشراك باللَّه، وقَتْلُ النفس، وعُقُوق الوالدين، وقول الزور أو قال: وشهادة الزور" (¬8). [الكذب في غير الشهادة من الكبائر] ولا خلاف بين المسلمين أن شهادة الزور من الكبائر، واختلف الفقهاء في ¬
الكذب في غير الشهادة: هل هو من الصغائر أو من الكبائر؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد، حكاهما أبو الحسين في "تمامه" (¬1)، واحتج مَنْ جعله من الكبائر بأن اللَّه [-سبحانه-] (¬2) جعله في كتابه من صفات شَرِّ البريّة، وهم الكفار والمنافقون، فلم يصف به إلا كافرًا أو منافقًا، وجعله عَلَمَ أهلِ النار وشِعارَهم، وجعل الصدق عَلَم أهل الجنة وشعارهم. وفي "الصحيح" من حديث ابن مسعود [قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): "عليكم بالصدق؛ فإنه يهدي إلى البِرّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصْدُق حتى يكتب عند اللْه صدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند اللَّه كَذَّابًا" (¬4). وفي "الصحيحين" مرفوعًا: "آيَةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا ائْتُمِنَ خان" (¬5)، وقال معمر، عن أيوب، عن [ابن] (¬6) أبي مُليكة عن عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: "ما كان خُلُقٌ أبغض إلى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكذب، ولقد كان الرجل يكذب عنده الكذبة، فما تزال (¬7) في نفسه حتى يعلم أنه قد أحدث منها توبة" (¬8)، ¬
وقال مروان الطَّاطَري (¬1): ثنا محمد بن مسلم: ثنا أيوب، عن [ابن] (¬2) أبي مليكة، عن عائشة قالت: "ما كان شيء أبْغَضَ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الكذب، وما جَرَّب على أحد كذبًا فرجع إليه ما كان حتى يعرف منه توبة" (¬3). حديث حسن، رواه الحاكم في "المستدرك" من طريق ابن وهب، عن محمد بن مسلم، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عائشة [-رضي اللَّه عنها -] (¬4) وروى [عبد الرزاق] (¬5)، عن مَعْمَر، عن موسى بن أبي شَيْبة (¬6) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبطَلَ شهادة رجل في كذبة كذبها" (¬7)، وهو مرسل، وقد احتج به أحمد (في إحدى الروايتين عنه)، وقال قَيْس بن أبي حَازم: سمعت أبا بكر الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (4) يقول: "إياكم والكذب، فإن الكذب مُجَانب الإيمان" يُروى موقوفًا ومرفوعًا (¬8)؛ ¬
وروى شعبة، عن سَلَمة بن كُهيل، عن مُصْعب بن سعد، عن أبيه قال: "المسلم يُطْبَعُ على كل طبيعة غير الخيانة والكذب" (¬1)، ويُروى مرفوعًا [أيضًا] (¬2). ¬
[أحاديث عن كبيرة شهادة الزور]
[أحاديث عن كبيرة شهادة الزور] وفي "المُسْنَد" والتِّرمذيِّ من حديث خُرَيْم بن فاتِك الأَسديّ، أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "صَلّى صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائمًا فقال: عَدَلَتْ شهادة الزور الشرك باللَّه" ثلاث مرات، ثم تلا هذه الآية: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ [حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ]} (¬1) [الحج: 31]. وفي "المسند" من حديث عبد اللَّه بن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بين يَديّ الساعة تسليمُ الخَاصَّة وفَشْو التِّجارة حتى تُعين المرأة زوجها (¬2) على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق" (¬3)، وقال الحسن بن زياد ¬
اللؤلؤي: ثنا أبو حنيفة قال: كُنّا عند محارب بن دِثار، فتقدم إليه رجلان، فادَّعى أحدهما على الآخر مالًا، فجحده المُدَّعَى عليه، فسأله البينة، فجاء رجل فشهد عليه، فقال المشهود عليه: لا واللَّه الذي لا إله إلا هو ما شهد عليّ بحق، وما علمته إلا رجلًا صالحًا، غير هذه الزلة؛ فإنه فَعَلَ هذا لحقدٍ كان في قلبه عليّ، وكان محارب متكئًا فاستوى جالسًا ثم قال: يا ذا الرجُلُ سمعتُ ابنَ عمر يقول: سمعتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ليأتينّ على الناس يومٌ تشيب فيه الوِلْدان، وتَضَع الحوامل ما في بطونها، وتضرب الطير بأذنابها، وتضع ما في بطونها من شدة ذلك اليوم، ولا ذنب عليها وإن شاهد الزور [لا تقار] (¬1) قدماه على الأرض حتى يُقْذَفَ به في النار" (¬2)؛ فإنْ كنْتَ شهدتَ بحقِّ فاتَّقِ اللَّه وأقم على شهادتك، وإنْ كنتَ شهدتَ بباطلٍ فاتَقِ اللَّه وغطِّ رأسك، وأخرُج من ذلك الباب (¬3) [فغطى الرجل رأسه وخرج من ذلك الباب] (¬4). وقال عبد الملك بن عُمير: كنت في مجلس محارب بن دثار، وهو في قضائه، حتى تقدم إليه رجلان، فادعى أحدهما على الآخر حقًا، فأنكره، فقال: ألك بينة؟ فقال: نعم، ادْعُ فلانًا، فقال المُدَّعى عليه: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، واللَّه إن شَهِدَ عليّ ليشهدن بزور، ولئن سألتَنِي (¬5) عنه لأزكِّينَّه؛ فلما جاء الشاهد قال محارب بن دثار: حدثني عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الطير لتَضْرِبُ بمناقيرها، وتقذف ما في حَوَاصلها، وتُحرِّك أَذْنابَها من هَوْل يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تقار [قدماه]، (¬6) على الأرض حتى يُقْذَفَ به في النار"، ثم قال للرجل: بم تشهد؟ قال: كنت "أُشْهِدْتُ" (¬7) على شهادة وقد أُنسيتها، أرجع فأتذكَّرها (¬8)، فانصرف ولم يشهد عليه بشيء (¬9)، ورواه أبو يعلى المَوْصلي في "مسنده" فقال: ثنا محمد بن بَكَّار، ثنا زَافِر، عن أبي علي قال: كنت عند محارب بن دثار، فاختصم إليه رجلان، فشهد على أحدهما شاهد، فقال الرجل: لقد شهد عليّ بزور، ولئن سُئلت عنه لأُزِّكينه (¬10)، وكان محارب متكئًا فجلس ثم ¬
قال: سمعت عبد اللَّه بن عُمر يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تزولُ (¬1) قدما شاهِدِ الزور من مكانهما حتى يوجب اللَّه له النار"، وللحديث طرقٌ إلى محارب (¬2). ¬
فصل [الحكمة في رد شهادة الكذاب]
فصل [الحكمة في رد شهادة الكذاب] وأقوى الأسباب في رد الشهادة والفُتيا والرواية الكذبُ؛ لأنه فسادٌ في نفس آلة الشَّهادة والفتيا والرواية، فهو بمثابة شهادة الأعمى على رؤية الهلال، وشهادة الأصم الذي لا يسمع على إقرار المقر؛ فإن اللسان الكذوب بمنزلة العُضو الذي [قد] (¬1) تعطل نَفْعُه، بل هو شر منه، فشرُّ ما في المَرْء لِسانٌ كَذوبٌ؛ ولهذا يجعل اللَّه [-سبحانه-] (1) شعارَ الكاذب عليه يوم القيامة، وشعارَ الكاذب على رسوله (¬2) سَوَاد وجوههم، [والكذبُ له تأثير عظيم في سواد الوجه، ويكسوه بُرْقُعًا من المقْت يراه كلُّ صادق؛ فسيما الكاذب في وجهه] (¬3) يُنادي عليه (¬4) لمن له عينان، والصادق يرزقه اللَّه مَهَابة وجَلالة (¬5)، فمن رآه هابه وأحبه، والكاذب يرزقه إهانة (¬6) ومَقْتًا، فمن رآه مَقَته واحتقره، وباللَّه التوفيق، [وإليه ننيب] (¬7). فصل [رد شهادة المجلود في حد القذف] وقول أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه- في كتابه: "أو مجلودًا في حد" المراد به القاذفُ إذا حُدَّ للقذف لم تقبل شهادته بعد ذلك، وهذا متفقٌ عليه بين الأمة قبل التوبة (¬8)، والقرآن نص فيه (¬9). [حكم شهادة القاذف بعد التوبة] وأما إذا تاب، ففي قبول شهادته، قولان مشهوران للعلماء: أحدهما لا تقبل، ¬
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأهل العراق (¬1)، والثاني تقبل، وهو قول مالك (¬2) والشافعي (¬3) وأحمد (¬4)؛ وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عَبَّاس: شهادةُ الفاسق (¬5) لا تجوز وإن تاب (¬6). وقال القاضي إسماعيل: ثنا أبو الوليد: ثنا قيس، عن سالم، عن قيس بن عاصم قال: كان أبو بكرة إذا أتاه رجل يُشهده قال: أشْهِدْ غيري، فإن المسلمين قد فَسَّقُوني. وهذا ثابت عن مجاهد وعكرمة والحسن ومسروق والشعبي، في إحدى الروايتين عنهم، وهو قول شُريح (¬7). ¬
واحتج أرباب هذا القول بأن اللَّه سبحانه أبَّدَ المنع من قبول شهادتهم (¬1) بقوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4]، وحكم عليهم بالفسق، ثم استثنى التائبين من الفاسقين، وبقي المَنْعُ من قبول الشهادة على إطلاقه وتأبيده. قالوا: وقد روى أبو جعفر الرَّازي، عن آدم بن فَائِد، عن عَمرو بنَ شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا محدود في الإسلام ولا محدودة، ولا ذي غَمْرٍ (¬2) على أخيه" وله طرق إلى عمرو، ورواه ابن ماجه من طريق حجاج بن أرطاة عن عمرو، ورواه البيهقي من طريق المثنى بن الصَّبَّاح عن عمرو (¬3)، قالوا: وروى يزيد بن أبي زياد الدِّمشقي، عن الزُّهريّ، عن عُروة، عن عائشة ترفعه: "لا تجوز شهادة خَائنٍ ولا خَائنةٍ، ولا مجلود في حَدٍّ، ولا ذي غَمْر لأخيه، ولا مُجَرَّب عليه [شهادة] (¬4) زور، ولا ظَنين في ولاء أو ¬
قرابة" (¬1)، وروى عن سعيد بن المسيب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا. قالوا: ولأن (¬2) المنع من قبول شهادته جُعِلَ من تمام عقوبته، ولهذا لا يترتب المنع إلا بعد الحد، فلو قَذفَ ولم يُحَد لم ترد شهادته، ومعلوم أن الحد إنما زاده طُهْرة وخَفَّف عنه إثم القَذْف أو رَفَعه، فهو [بعد الحد خيرٌ منه قبله، ومع هذا فإنما تُرد شهادته بعد الحد] (¬3)، فردُّها من تَمامِ عقوبته وحَدِّه، وما كان من الحدود ولوازمها فإنه لا يسقط بالتوبة، ولهذا لو تاب القاذف لم تمنع [توبتُه] (¬4) إقامةَ الحد عليه فكذلك شهادته، وقال سعيد بن جبير: تُقبل توبته فيما بينه وبين اللَّه من العذاب العظيم، ولا تقبل شهادته. وقال شريح: لا تجوز شهادته أبدًا، وتوبته فيما بينه وبين ربه (¬5). وسرُّ المسألة أن ردَّ شهادته جُعل عقوبة لهذا الذنب؛ فلا يسقط (¬6) بالتوبة كالحد. قال الآخرون، واللفظ للشافعي: والثُّنْيَا (¬7) في سياق الكلام على أول الكلام وآخره في جميع ما يذهب إليه أهلُ الفقه إلا إن يَفْرِق بين [ذلك] (¬8) خبر، وأنبأنا ابن عيينة قال: سمعت الزهري يقول: زعم أهلُ العراق أن شهادة المحدود لا تجوز، وأَشْهَد لأَخْبَرني (¬9) فلانٌ أن عمر قال لأبي بكرة: تُبْ أَقْبَلْ شهادتك، قال سفيان: نسيتُ اسمَ الذي حدث الزهري، فلما قمنا سألت مَنْ حضر، فقال لي ¬
عَمرو بن قيس: هو سعيد بن المسيب، فقلت لسفيان: فهل (¬1) شَككَتَ فيما قال لك؟ قال: لا هو سعيد غير شك (¬2). قال الشافعي: وكثيرًا ما سمعته يحدث فيُسَمِّي سعيدًا، وكثيرًا ما سمعته يقول: عن سعيد إن شاء اللَّه، وأخبرني [به] (¬3) من أثق به من أهل المدينة عن ابن شهاب، عن ابن (¬4) المسيب أن عمر لما جَلَد الثلاثة استتابهم، فرجع اثنان فقبل شهادتهما (¬5)، وأبى أبو بكرة أن يرجع فرد شهادته (¬6)، ورواه سُليمان بن كَثير، عن الزُّهريِّ، عن ابنِ المسيب أن عمر قال لأبي بكرة وشِبْل ونافع: مَنْ تاب منكم قُبِلَت شَهادته (¬7)، وقال عبد الرزاق: ثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن مَيْسَرة، عن ابن المسيب أن عمر قال للذين شهدوا على المغيرة: توبوا تُقبل شهادتكم، فتاب منهم اثنان وأبى أبو بكرة أن يتوب، فكان عمر لا يقبل شهادته (¬8). قالوا: والاستثناء عائد على جميع [ما تقدمه سوى الحد] (¬9)، فإن المسلمين مجمعون على أنه لا يَسْقُط عن القاذف بالتوبة، وقد قال أئمة اللغة: إن الاستثناء يرجع إلى ما تقدم كله (¬10). قال أبو عُبيد في "كتاب القضاء": وجماعة أهل ¬
الحجاز ومكة على قبول شهادته؛ وأما أهل العراق فيأخذون بالقول الأول (¬1) لا تقبل أبدًا، وكلا الفريقين إنما تأولوا القرآن فيما نرى، والذين لا يقبلونها يذهبون إلى أن المعنى انقطع [من] (¬2) عند قوله: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] ثم استأنف فقال: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4] فجعلوا الاستثناء من الفسق خاصة دون الشهادة؛ وأما الآخرون فتأولوا أن الكلام تَبعَ بعضُه بعضًا على نَسَق واحد فقالوا (¬3): {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فانتظم الاستثناء كلَّ ما كان قبله. قال أبو عُبيد: وهذا عندي هو القول المعمول به؛ لأن من قال به أكثر وهو أصح في النَّظَر، ولا يكون القول بالشيء أكثر من الفعل، وليس يختلف المسلمون في الزاني المجلود أن شهادته مقبولة إذا تاب (¬4). قالوا: وأما ما ذكرتم عن ابن عباس فقد قال الشافعي: بلغني عن ابن عباس أنه وإن يجيز شهادة القاذف إذا تاب (¬5)، وقال علي بن أبي طلحة عنه في قوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب اللَّه تقبل (¬6). وقال شَرِيك، عن أبي حَصين، عن الشعبي: يقبل اللَّه توبته ولا يقبلون شهادته (¬7)؟! وقال مُطَرِّف عنه: إذا فرغ من ضربه فأكذب ¬
نفسه ورجع عن قوله قبلت شهادته (¬1). قالوا: وأما تلك الآثار التي رويتموها ففيها ضعف؛ فإن آدم بن فائد غير معروف، ورواته عن عمرو (¬2) قسمان: ثقات، وضعفاء، فالثقات لم يذكر أحدٌ منهم: "أو مجلود في حد" وإنما ذكره الضُّعفاء كالمُثنَّى بن الصَّبَّاح وآدم والحَجَّاج (¬3)، وحديث عائشة فيه يزيد وهو ضعيف، ولو صحت الأحاديث لحُمِلت على غير التائب، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له (¬4)، وقد قبل شهادتَه بعد التوبة عمر وابن عباس (¬5)، ولا يُعلم لهما في الصحابة مخالف. قالوا: وأعظم موانع الشهادة الكفر والسحر [وقتل النفس] (¬6) وعقوق الوالدين [والزنا] (¬7)، ولو تاب من هذه الأشياء قُبلت شهادته اتفاقًا؛ فالتائب من القذف أولى بالقبول. قالوا: فأين جناية قتله من قذفه؟ قالوا: والحد يَدْرَأ عنه عقوبة الآخرة، وهو طُهْرة له؛ فإن الحدود طهرة لأهلها، فكيف تُقبل شهادته إذا لم يتطهر بالحد وترد [إذا كان] (¬8) أطهر ما يكون؟ فإنه بالحد والتوبة قد يَطْهُر طُهرًا (¬9) كاملًا. قالوا: ورد الشهادة بالقذف إنما هو مستند إلى العلَّة التي ذكرها اللَّه عقيب هذا الحكم، وهي (¬10) الفسق، وقد ارتفع الفسق بالتوبة، وهو (¬11) سبب الرد؛ فيجب ارتفاع ما ترتب عليه وهو المنع. ¬
قالوا: والقاذف فاسق بقذفه، حُدَّ أو لم يحد، فكيف تقبل شهادته في حال فسقه وترد شهادته بعد زوال فسقه؟. قالوا: ولا عهد لتا في الشريعة بذنب واحد أصلًا يُتَاب منه ويَبْقى أَثرُه المترتب عليه من رد الشهادة، وهل هذا إلا خلاف المعهود منها، وخلاف قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"؟ (¬1) وعند هذا فيقال: تَوْبته من القذف تُنزله منزلة من لم يقذف؛ فيجب قبول شهادته، [أو كما قالوا] (¬2). قال المانعون: القذف متضمن للجناية على حَقِّ اللَّه وحق الآدمي، وهو من أوفى الجرائم، فناسب تغليظ الزجر، وردُّ الشهادة من أقوى أسباب الزجر (¬3)، لما فيه من إيلام القلب والنكاية في النفس، إذ هو عَزْل لولاية لسانه الذي استطال به على عِرْض أخيه، وإبطال لها، ثم هو عقوبة في محل الجناية، فإن الجناية حصلت بلسانه، فكان أولى بالعقوبة فيه، وقد رأينا الشارع قد اعتبر هذا حيث قطع يد السارق، فإنه حد مشروع في محل الجناية؛ ولا يُنْتَقض هذا بأنه لم يجعل عقوبة الزاني بقطع العضو الذي جنى به لوجوه: أحدها: أنه عضو خفي مستور لا تراه العيون، فلا يحصل الاعتبار المقصود من الحد بقطعه. الثاني: أن ذلك يفضي إلى إبطال آلات التناسل وإنقطاع النوع الإنساني. الثالث: أن لذة البدن جميعه بالزنا كلذة العضو المخصوص، فالذي نال البدن (¬4) من اللذة المُحرَّمة مثل ما نال الفرج، ولهذا كان حد الخمر على جميع البدن. ¬
الرابع: أن قطع هذا العضو مُفْضٍ إلى الهلاك، [وغير المحصن لا تستوجب جريمتُه الهلاك] (¬1)، والمُحْصَن إنما يُناسب (¬2) جريمته أشنع القتلات، ولا يناسبها قطع بعض أعضائه؛ فافترقا (¬3). قالوا: وأما قبول شهادته قبل الحدِّ وردُّها بعده، فلِمَا تقدم أن رد الشهادة جُعِلَ من تمام الحد وتكملته؛ فهو كالصفة والتتمة للحد؛ فلا يتقدم عليه، ولأن إقامة الحد عليه يُنْقِص حاله عند الناس، وتقلّ حرمته، وهو قبل إقامة الحد قائم الحرمة غير منتهكها (¬4). قالوا: وأما التائب من الزنا والكفر والقتل، فإنما قبلنا شهادته؛ لأنَّ ردَّها كان نتيجة الفسق، وقد زال، بخلاف مسألتنا فإنا قد بينا أنَّ ردَّها من تتمة الحد، فافترقا. قال القائلون [بقبولها] (¬5): تغليظ الزجر لا ضابط له، وقد حصلت مصلحة الزجرِ بالحد، وكذلك سائر الجرائم جعل الشارع مصلحة الزجر عليها بالحد، وإلا فلا تَطْلُق نِساؤُه، ولا يُؤْخَذ مالُه، ولا يُعزل عن مناصبِه، ولا تَسْقط روايته؛ لأنه أغلظ [عليه] (5) في الزجر، وقد أجمع المسلمون على قبول رواية أبي بكرة [-رضي اللَّه عنه-] (¬6)؛ وتغليظ الزجر من الأوصاف المنتشرة التي لا تنضبط، وقد حصل إيلام القلب والبدن والنكاية في النفس بالضرب الذي أخذ من ظهره؛ وأيضًا فإن رد الشهادة لا ينزجر به أكثر القاذفين، وإنما يتأثر بذلك وينزجر أعيان الناس، وقَلَّ أن يُوجد القذف من أحدهم، وإنما يوجد غالبًا من الرَّعَاع والسَّقط ومَنْ لا يبالي برد شهادته وقبولها؛ وأيضًا فكم من قاذفٍ انقضى عمره وما أدى شهادة عند حاكم، ومصلحة الزجر إنما تكون في منع النفوس مما هي (¬7) محتاجة إليه، وهو كثير الوقوع منها، ثم هذه المناسبة التي ذكرتموها يعارضها ما هو أقوى منها؛ فإن رد الشهادة أبدًا تلزم منه مفسدة فوات الحقوق على الغير وتعطيل الشهادة في محل الحاجة إليها، ولا يلزم مثل ذلك في القبول؛ فإنه لا مفسدة فيه في حق الغير؛ من عدل تائب (¬8) قد أصلح ما بينه وبين اللَّه، ولا ريب أن اعتبار مصلحة يلزم منها ¬
فصل [رد الشهادة بالتهمة]
مفسدة أولى من اعتبار مصلحة يلزم منها عدة مفاسد في حق الشاهد وحق المشهود له وعليه، والشارع له تَطلُّع إلى حفظ الحقوق على مستحقيها بكل طريق وعدم إضاعتها، فكيف يُبطل حقًا قد شَهد به عَدْلٌ رَضِي (¬1) مقبول الشهادة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعلى دينه روايةً وفتوى؟ وأما قولكم: "إن العقوبة تكون في محل الجناية" فهذا غير لازم؛ لما تقدم من عقوبة الشارب والزاني وقد جعل اللَّه سبحانه عقوبة هذه الجريمة على جميع البدن دون اللسان، [وإنما جعل عقوبة اللسان] (¬2) بسبب الفسق الذي هو محل التهمة، فإذا زال الفسق بالتوبة فلا وجه للعقوبة بعدها (¬3). وأما قولكم: "إن رد الشهادة من تمام الحد" فليس كذلك؛ فإن الحد تَمَّ باستيفاء عَدَدِه، وسببه نفس القذف؛ وأما رد الشهادة فحكم آخر أوجبه الفسق بالقذف، لا الحد، فالقذف أوجب حكمين: ثبوت الفسق، وحصول الحد، وهما [حكمان] (¬4) متغايران. فصل [رد الشهادة بالتهمة] وقوله: "أو ظنينًا في ولاء أو قرابة" الظنين: المتَّهم، والشهادة تُردُّ بالتهمة، ودل هذا على أنها لا تُرَدُّ بالقرابة كما ترد (¬5) بالولاء، وانما ترد [بتهمتهما] (¬6)، وهذا هو الصواب كما تقدم؛ وقال أبو عبيد: ثنا حَجَّاج، عن ابن جريج قال: أخبرني أبو بكر بن عبد اللَّه بن أبي سَبْرة، عن أبي الزِّناد، عن عبد اللَّه بن عامر بن ربيعة، عن عمر بن الخطاب أنه قال: تجوز شهادة الوالد لولده، والولد لوالده، والأخ لأخيه، إذا كانوا عدولًا، لم يقل اللَّه حين قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] إلا والدًا وولدًا وأخًا (¬7)، هذا لفظه؛ وليس في ذلك عن عمر ¬
فصل [شهادة مستور الحال]
روايتان، بل إنما مَنعَ من شهادة المتهم في قرابته وولائه (¬1)؛ وقال أبو عبيد: حدثني يحيى بن بُكَيْر، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حَبيب، أن عمر بن عبد العزيز كتب أنه تجوز شهادة الولد لوالده (¬2). وقال إسحاق بن راهويه (¬3): لم تزل قُضَاة الإسلام على هذا، وإنما قُبلَ قولُ الشاهد لِظنِّ صدقه، فإذا كان مُتَّهمًا عارضت التُّهمةُ الظَّنَّ؛ فبقيت البراءة الأصلية [ليس] لها (¬4) معارض مقاوم. فصل [شهادة مستور الحال] وقوله: "فإن اللَّه تبارك وتعالى تولى من العباد (¬5) السرائر، وستر عليهم الحدود إلا بالبينات" يريد بذلك أن من ظهرت لنا منه علانية خيرٍ قبلنا شهادته ووكلنا سَرِيرَتَه إلى اللَّه [سبحانه] (¬6)، فإن اللَّه [سبحانه] (¬7) لم يجعل أحكام الدنيا على السرائر، بل على الظواهر، والسرائر تبع لها، وأما أحكام الآخرة فعلى السرائر، والظواهر تبع لها. وقد احتج بعض أهل العراق بقول عمر هذا على قبول شهادة كل مسلم لم تظهر منه ريبة وإن كان مجهول الحال (¬8)؛ فإنه قال: "والمسلمون عدول بعضهم على بعض" ثم قال: "فإن (¬9) اللَّه [تعالى] (7) تَوَّلى من عباده السرائر، وسَتَر عليهم الحدود" ولا يدلُّ كلامه على هذا المذهب، بل قد روى أبو عبيد: ثنا الحَجَّاج، عن المسعودي، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: [قال] (7) عمر بن الخطاب: لا ¬
[الحد والبينة]
يؤسر (¬1) أحد في الإسلام بشهداء السوء؛ فإنه لا يقبل إلا العدول (¬2). وثنا إسحاق بن علي، عن مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال: قال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬3): واللَّه لا [يؤسِرَنَّ] (1) رجل في الإسلام بغير العدول (¬4). وثنا إسماعيل بن إبراهيم (¬5)، عن الجُرَيْري، عن (¬6) أبي نَضْرة، عن أبي فِراس أن عمر بن الخطاب قال في خطبته: مَنْ أظهر لنا خيرًا ظننا به خيرًا وأحببناه عليه، ومن أظهر لنا شرًا ظننا به شرًا وأبغضناه عليه (¬7). [الحد والبيّنة] وقوله: "وستر عليهم الحدود" يعني المحارم، وهي حدود اللَّه التي نهى عن ¬
فصل [الأيمان في كتاب عمر]
قُرْبَانها، والحد يراد به الذنب تارة والعقوبة أخرى (¬1). وقوله: "إلا البينات (¬2) والأَيمان" يريد بالبينات الأدلة والشواهد، فإنه قد صح عنه الحد في الزنا بالحبل (¬3)، فهو بَيِّنة صادقة، بل هو أصدق من الشهود، وكذلك رائحة الخمر بينة على شربها عند الصحابة وفقهاء [أهل] المدينة [وأكثر فقهاء الحديث] (¬4). فصل [الأيمان في كتاب عمر] وقوله: "والأَيمان" يريد بها أيمان الزوج في اللِّعان، وأيمان أولياء القتيل في القسامة، وهي قائمة مقام البينة (¬5). فصل [القول في القياس] وقوله: "ثم الفَهْم الفهم فيما أُدلي إليك مما (¬6) وَرَدَ عليك مما ليس في قرآن ولا سنةِ، ثم قَايِس الأمور عند ذلك، واعْرِفْ الأمثال، [ثم اعمد] (¬7) فيما ترى [إلى] (¬8) أَحبِّها إلى اللَّه وأشبهها بالحق" هذا أحد [الآثار] (¬9) ما اعتمد عليه القَيَّاسون في الشريعة (¬10)، وقالوا: هذا كتاب عمر إلى أبي موسى، ولم ينكره ¬
[إشارات القرآن إلى القياس]
أحد من الصحابة، بل كانوا متفقين على القول بالقياس، وهو أحد أصول الشريعة، ولا يستغني عنه فقيه. [إشارات القرآن إلى القياس] وقد أرشد اللَّه [تعالى] (¬1) عباده إليه في غير موضع عن كتابه، فقاس (¬2) النَّشْأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان، وجعل النشأة الأولى أصلًا والثانية فرعًا عليها؛ وقاس حياة الأموات بعد الموت على حياة الأرض بعد موتها بالنبات؛ وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أَعداؤه على خلق السماوات والأرض، وجعله من قياس الأَوْلَى [كما جعل قياس النشاة الثانية على الأُوْلى من قياس الأَوْلى؛ وقاس] (¬3) الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم، وضرب الأمثال، وصَرَّفها في الأنواع المختلفة، وكلها أقيسة عقلية يُنبِّه بها عبادَهُ على أن حُكم الشَّيءِ حُكْمُ مثله، فإن الأمثال كلها قِياسات يُعلم منها حكم المُمثَّل عن الممثَّل به؛ وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلًا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]؛ فالقياس وضرب (¬4) الأمثال من خاصة العقل، وقد رَكَّز اللَّه في فِطَر الناس وعقولهم التسويَةَ بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما. [مدار الاستدلال] قالوا: ومَدَارُ الاستدلال جميعه على التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين؛ فإنه إما استدلال بمعين على معين، أو بمعين على عام، أو بعام على عام، [أو بعامٍّ على معيِّنٍ] (¬5)، فهذه الأربعة هي مَجَامِعُ ضروب الاستدلال. ¬
[الاستدلال بالمعين على المعين]
[الاستدلال بالمعيَّن على المعيَّن] فالاستدلالُ بالمُعيَّن على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه، فكلُّ ملزومٍ دليلٌ على لازمه، فإن كان التلازم من الجانبين كان كلٌّ منهما دليلًا على الآخر ومدلولًا له، وهذا النوع ثلاثة أقسام: أحدها: الاستدلال بالمؤثِّر على الأثَر. والثاني: الاستدلال بالأثر على المؤثر. والثالث: الاستدلال بأحد الأثَرَين (¬1) على الآخر. فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق، والثاني كالاستدلال (2) بالحريق على النار، والثالث كالاستدلال (¬2) بالحريق على الدخان، ومَدَارُ (¬3) ذلك كله على التلازم، فالتسوية بين المتماثلين، هو الاستدلال بثبوت أحد الأَثَرين على الآخر، وقياسُ الفَرْق هو الاستدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه، فلو جاز التفريقُ بين المتماثلين؛ لانسدَّت طرقُ الاستدلال وغُلِّقت أبوابه. قالوا: وأما الاستدلال بالمُعيَّن على العام، فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين؛ إذ لو جاز الفرقُ لما كان هذا المعينُ دليلًا على الأمر العام المشترك بين الأفراد (¬4)، ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذَّبهم على تكذيب رُسُله وعِصْيان أمره، على أن هذ الحكم عام شامل لكل (¬5) مَنْ سَلك سبيلهم واتَّصف (¬6) بصفتهم، وهو سبحانه قد نَبَّه عباده على نفس هذا الاستدلال، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم، كما قال تعالى عقيبَ إخباره عن عقوبات الأمم المكذِّبة لرسُلهم وما حَلَّ بهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ}؟ [القمر: 43]، فهذا مَحْض تعدية الحكم إلى مَنْ عدا المذكورين بعموم العلة، وإلا (¬7) فلو لم يكن حُكمُ الشيء حُكمَ مثله لما لزمت التعدية، ولا تمت الحجة؛ ومثلُ هذا قولهُ تعالى عَقيب إخباره عن عقوبة قوم عادٍ حين رأوا العارض في السماء فقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} فقال [تعالى] (¬8): {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ ¬
فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)} ثم قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف:24، 26]؛ فتأمل قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} وكيف تجد المعنى (¬1) أن حكمكم كحكمهم (¬2)، وأَنَّا إذا كُنا (1) قد أهلكناهم بمعصية رُسُلنا (¬3) ولم يدفع عنهم ما مُكّنُوا فيه من أسباب العيش فأنتم كذلك، تسوية بين المتماثلين، وأن هذا مَحْضُ عَدْلِ اللَّه بين عباده. ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10)} [محمد: 10]، فأخبر أن حُكْمَ الشيء حكمُ مثله. وكذلك كل موضع أمر اللَّه سبحانه فيه بالسَّيْر في الأرض، سواء كان السير الحسي على الأقدام والدوابِّ، أو السير المعنوي بالتفكر والاعتبار، أو كان اللفظ يَعمُّهما وهو الصواب، فإنه يدلُّ على الاعتبار والحذر أن يحل بالمُخَاطَبين ما حل بأولئك، ولهذا أمر اللَّه سبحانه أولي الأبصار بالاعتبار بما حَلَّ بالمكذبين، ولولا أن حكم النظير حكم نظِيرهِ حتى [تَعْبُر] (¬4) العقولُ منه إليه لَما حَصَلَ الاعتبار، وقد نفى اللَّه سبحانه عن حُكْمه وحِكْمته التسوية بين المختلفين في الحكم، فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)} [القلم: 35، 36]، فأخبر أن هذا حكمٌ باطل في الفِطَر والعقول، لا يليق نسبته إليه سبحانه، وقال [تعالى] (5): {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)} [الجاثية: 21]، وقال [تعالى] (¬5): {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28)} [ص: 28]، أفلا تَرَاه كيف ذَكّرَ العقول ونَبَّه الفِطَر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره، وعدم التسوية بين الشيء (¬6) ومُخَالِفه في الحكم؟ وكل هذا من الميزان الذي أنزله اللَّه مع كتابه وجَعَله قَرينه ووزيره، فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ ¬
[الأولى تسمية القياس بما سماه الله به]
لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25]، وقال [تعالى] (1): {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)} [الرحمن: 1، 2]، فهذا الكتاب، ثم قال: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)} [الرحمن: 7]، و [الميزان] (¬1) يُراد به العَدْلُ والآلة (¬2) التي يُعْرَفُ بها العدل وما يُضَاده. [الأولى تسمية القياس بما سَمَّاه اللَّه به] والقياس الصحيح هو الميزان؛ فالأولى (¬3) تسميتُه بالاسم الذي سمَّاه اللَّه به، فإنه يدل على العَدْل، وهو اسم مَدْح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، ولهذا لم يجئ في القرآن مَدْحُه ولا ذَمُّه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، فإنه مورد تقسم إلى صحيح وفاسد؟. فالصحيح (¬4) هو الميزان الذي أنزله مع كتابه. [أمثلة من القياس الفاسد أشار إليها القرآن] والفاسد ما يضاده، كقياسِ الذين قاسُوا البيعَ على الربا بجامع (¬5) ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقياسِ الذين قاسوا المَيْتَةَ على المذكَّى (¬6) في جَوَاز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح؛ هذا بسببٍ (¬7) من الآدميين وهذا بفعل اللَّه؛ ولهذا تجد في كلام السلف ذمَّ القياسِ وأنه ليس من الدِّين، وتجد في كلامهم استعمالَهُ والاستدلالَ به، وهذا حق [وهذا حق] (¬8) كما سنبينه إن شاء اللَّه تعالى. [أنواع القياس] والأقْيِسَةُ المستعملة في الاستدلال [ثلاثة] (¬9): قياس علة، وقياس دَلالَة، وقياس شَبه، وقد وردت كلها في القرآن. ¬
فأما قياس العلة؛ فقد جاء في كتاب اللَّه [عز وجل] (1) في مواضع، منها قوله [تعالى] (¬1): {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (¬2)} [آل عمران: 59]، فاخبر [تعالى] (1) أن عيسى نظير آدم في التكوين بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تَعلَّق به وجود [سائر المخلوقات، وهو مجيئها طَوْعًا لمشيئته (¬3) وتكوينه، فكيف يَستنكرُ وجودَ عيسى من غير أبٍ مَنْ يُقِرُّ بوجود، (¬4) آدم من غير أبٍ ولا أُمٍّ؟ ووجود حؤَاء من غير أم؟ فآدم وعيسى عليهما السلام نَظِيرَان يجمعهما المعنى الذي يصحُّ تعليقُ الإيجاد والخلق [به] (1)، ومنها قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ] (¬5)} [آل عمران: 137]، أي: قد كان (¬6) من قبلكم أممٌ أمثالكم فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات اللَّه ورسله، وهم الأصل وأنتم الفرع، والعِلَّةُ الجامعةُ: التَّكذيبُ، والحُكُم: الهلاك (¬7). ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6]، فذكر سبحانه (¬8) إهلاك مَنْ قبلنا من القرون، وبَيَّنَ أن ذلك كان لمعنى القياس (¬9)، وهو ذنوبهم، فهم الأصل ونحن الفرع، والذُّنوبُ العِلَّةُ الجامِعة، والحكم الهلاك فهذا محض قياس العلة، وقد أكَّده سبحانه بضَرْبٍ من الأوْلى، وهو أن مَنْ قبلنا كانوا أقوى منا فلم تَدفع عنهم قوتُهم وشدتُهم ما حلَّ بهم، ومنه قوله تعالى: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [التوبة: 69] ¬
وقد اختُلِفَ في محل هذه الكاف (¬1) وما يتعلق به، فقيل: هو رفع خبر مبتدأ محذوف، أي: أنتم كالذين من قبلكم، وقيل: نَصبٌ بفعل محذوف، تقديرُه فعلتم كفعل الذين من قبلكم، والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل، وقيل: إن التشبيه في العذاب، ثم قيل: العاملُ محذوف، أي لَعَنهم وعَذَّبهم كما لعن الذين من قبل، وقيل: بل العاملُ ما تقدم، أي وعد اللَّه المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولَعَنهم كلعنهم، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم. والمقصود أنه سبحانه ألحَقَهم بهم في الوعيد، وسَوَّى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال، وكَوْنُهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فَرْقٌ غير مؤثِّر، فعلَّق الحكم بالوصف الجامع المؤثر، وألغى (¬2) الوصفَ الفارق، ثم نَبَّه [سبحانه] (¬3) على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69]، فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامعُ، وقوله: {أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هو الحكم، والذين من قبل هم الأصل، والمخاطَبُون الفرع (¬4). قال عبد الرزاق في "تفسيره": ثنا مَعْمَر، عن الحسن في قوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ} قال: بدينهم (¬5). ويروى عن أبي هريرة (¬6). وقال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا (¬7). وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا (¬8). ¬
[الخلاق]
[الْخَلَاق] وحقيقة الأمر أن الخَلَاق هو النصيب والحظُ، كأنه الذي خُلِق للإنسان وقُدِّر له، كما يقال (¬1): قَسْمه الذي قُسِمَ له، ونصيبه الذي نصب له، أي: أُثبت، وقِطه الذي قُطَّ له، أي قُطِع. ومنه قوله [تعالى] (¬2): {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما يَلْبَسُ الحرير في الدنيا مَنْ لا خَلاق له [في الآخرة] " (¬3) والآية تتناول ما ذكره السلف كله، فإنه [سبحانه] (2) قال: {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة، وكذلك الأموال والأولاد، وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخَلَاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم وأولادهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخَلَاق الذي استمتعوا به، ولو أرادوا بذلك اللَّه والدارَ الآخرة لكان لهم خَلَاق في الآخرة، فتمتُّعهم بها أخْذُ حظوظهم العاجلة، وهذا حال مَنْ لم يعمل إلا لدنياه، سواء كان [عَمَله من] (¬4) جنس العبادات أو غيرها، ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ} فدلَّ هذا على أن حُكمَهم حُكمُهم، وأنه ينالهم ما نالهم؛ لأن حُكْمَ النظير حُكْم نظيرِهِ. ثم قال: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} فقيل: الذي صفة لمصدر محذوف، أي: كالخوض الذي خاضوا، وقيل: لموصوف محذوف، أي: كخوض القوم الذي خاضوا (¬5)، وهو فاعل الخوض، وقيل: {الَّذِي} مصدرية [كما] (¬6)، أي: كخوضهم، وقيل: هي موضع الذين. ¬
[أصل كل شر البدع واتباع الهوى]
[أصل كل شر البدع واتباع الهوى] والمقصود أنه [سبحانه] (¬1) جمع بين الاستمتاع بالخَلَاق وبين الخوْض بالباطل؛ لأنَّ فساد الدين، إما أن يقع بالاعتقاد الباطل والتكلم به وهو الخوض، أو يقع في العمل بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق، فالأول: البدَع، والثاني: اتّباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة [وبلاء] (1)، وبهما كُذَّبَت الرسل، وعُصِي الرب، ودُخِلت النار، وحَلَّت العقوبات، فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات، ولهذا كان (¬2) السلف يقولون: [احْذَرُوا من الناس صِنْفَين: صاحبَ هَوًى [فَتَنَه] (¬3) هواه، وصاحب دنيا أعجبته دنياه. وكانوا يقولون:] (¬4) احذروا فتنة العالم الفاجر والعابد الجاهل؛ فإن فتنتهما فتنة لكل مَفْتُون، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ويعملون بخلافه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم. وفي صفة الإمام أحمد [-رحمه اللَّه (¬5) -]: عن الدنيا ما كان أصْبَرَه، وبالماضين ما كان أشبهه، أتته البِدَعُ فنَفَاها، والدنيا فأباها. وهذه حال أئمة المتقين الذين وصفهم اللَّه في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فبالصبر تُتْرك الشهوات، وباليقين تُدفع الشبهات، كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]. وفي بعض المراسيل: "إنَّ اللَّه يحبُّ البصَرَ الناقد عند ورود الشبهات، ويُحبُّ العَقْلَ الكاملَ عند حلول الشهوات" (¬6). ¬
[في الآية أركان القياس الأربعة]
فقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ} إشارة إلى اتّباع الشهوات وهو داء العصاة، وقوله: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} إشارة إلى الشبهات وهو داء المبتدِعَةِ وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرًا ما يجتمعان، فَقَلَّ من تجده فاسدَ الاعتقاد إلا وفسادُ اعتقاده يَظْهر في عمله (¬1). والمقصود أن اللَّه أخبر أن في هذه الأمة مَنْ يستمتع بخَلاقَه كما استمتع الذين من قبلهم (¬2) بخَلَاقهم، ويخوض كخوضهم، وأنهم لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم، ثم حَضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70]. فتأمل صحةَ هذا القياس وإفادتَهُ لمن عُلِّقَ عليه من الحكم، وأن الأصل والفرعَ قد تساويا في المعنى الذي عُلّق به العقاب، وأكده كماِ تقدم بضَرْبٍ مِنَ الأَوْلى، وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد، فإن (¬3) لم يتعذَّر على اللَّه عقابُ الأقوى منهم بذَنْبه فكيف يتعذر عليه عقاب مَنْ هو دونه؟ ومنه قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]، فهذا قياس جَلِيٌّ، يقول سبحانه: إن شئتُ أذهبتُكم واستخلفتُ غيرَكم كما أذهبتُ مَنْ قبلكم (¬4) واستخلفتكم. [في الآية أركان القياس الأربعة] فذكر أركان القياس الأربعة: علة الحكم، وهي عُمومُ مَشيئتهِ وكمالِها، والحكم، وهو إذهابُه بهم (¬5) وإتيانه بغيرهم، والأصل، وهو مَنْ كان مِن قَبْل، والفرع، وهم المخاطبون. ¬
[عودة إلى أمثلة من القياس في القرآن]
[عودة إلى أمثلة من القياس في القرآن] ومنه قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ] (¬1)} [يونس: 39]، فاخبر أن مَنْ قَبْلَ المُكذِّبين (¬2) أصلٌ يُعْتبر به، والفرع نفوسهم، فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة. ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) [فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا] (¬3) وَبِيلًا (16)} [المزمل: 15، 16] فأخبر [سبحانه] (4) أنه أرسل محمدًا [-صلى اللَّه عليه وسلم- لينا] (¬4) كما أرسل موسى إلى فرعون، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذًا وبيلًا، فهكذا مَنْ عصى منكم محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، وهذا في القرآن كثير جدًّا (¬6)، فقد فُتح لك بابه. فصل [قياس الدلالة] وأما قياس الدَّلَالة فهو الجمع بين الأصل والفَرْعِ بدليل العلة ومَلْزَومها؛ ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]، فدَّل [سبحانه] (¬7) عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققَّوهُ وشاهَدوه على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياءٍ على إحياء، واعتبارُ الشيء بنظيره؛ والعلة الموجِبة هي عموم قدرته [سبحانه] (7)، وكمال حكمته؛ وإحياء الأرض دليل العلة. ومنه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]، فدلَّ بالنظير على النظير، وقَرَّبَ أحَدَهما من ¬
الآخر جدًّا بلفظ الإخراج، أي يَخْرجون (¬1) من الأرض أحياءً كما يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ومنه قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) [ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)] (¬2) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)} [القيامة: 36 - 40]. فبَيّن سبحانه كيفيةَ الخلقِ واختلافَ أحوال الماء في الرحم إلى أن صارَ منه الزوجان الذكر والأنثى، وذلك أمارة وجود صانع قادر على ما يشاء، ونَبَّه سبحانه (¬3) عباده بما أحْدَثَه في النطفة المَهِينة الحَقِيرة من الأطوار، وسَوْقها في مراتب الكمال من مرتبة إلى [مرتبة] (¬4) أعلى منها، حتى صارت بَشَرًا سَوِيًا في أحسن خَلْق (¬5) وتقويم - على أنه لا يحسن به أن يترك هذا البشر سُدَى مُهْمَلًا معطلًا لا يَأمُره ولا يَنْهاه ولا يقيمه في عبوديته، وقد ساقه في مراتب الكمال من حين كان نطفة إلى أن صار بَشَرًا سَويًا، فكذلك يسوقه في مراتب كماله طبقًا بعد طبَق، وحالًا بعد حال، إلى أن يصير جاره في داره، يتمتَّع بأنواع النعيم، وينظر إلى وجهه، ويسمع (¬6) كلامه. ومنه قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ] (¬7) يَشْكُرُونَ (58)} [الأعراف: 57، 58]، فأخبر سبحانه أنهما إحياءان، [وأن] (¬8) أحدهما معتبر بالآخر مَقِيس عليه، ثم ذكر قياسًا آخر، أنَّ مِن الأرض ما يكون أرضًا طيبةً فإذا أَنزل (¬9) عليها الماء أخرجتْ نباتَها بإذن ربها، ومنها ما تكون أرضًا خبيثة لا تُخرج نَباتَها إلا نكدًا، أي: قليلًا غير مُنْتَفع به، فهذه إذا أنزل عليها الماء لم تخرج ما أخرجت الأرض الطيبة، فشَبَّه سبحانه الوَحْيَ الذي أنزله من السماء على القلوب بالماء الذي أنزله على الأرض ¬
بحُصُول الحياة بهذا وهذا، وشَبَّه القلوبَ بالأرض إذ هي محل الأعمال، كما أنَّ الأرض محلُّ النبات، وأنَّ القلبَ الذي لا ينتفع بالوحي ولا يزكو عليه ولا يؤمن به كالأرض التي لا تنتفع بالمطر ولا تخرج نباتها به إلا قليلًا (¬1) لا ينفع، وأن القلب الذي آمن بالوحي وزَكَا عليه وعمل بما فيه كالأرض التي أخرجت نباتَها بالمطر؛ فالمؤمن إذا سَمعَ القرآن وعَقَله وتَدَبَّرَه بانَ أثرهُ عليه، فشُبِّه بالبَلدِ الطيب الذي يمرعُ ويخصب ويحسن أثر المطر عليه فيُنبت من كل زوج كريم، والمعْرِضُ عن الوحي عَكْسُه، واللَّه الموفق. ومنه قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ [ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ] (¬2) لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، يقول سبحانه: إن كنتم في ريب من البعث فلستم ترتابون في أنكم مَخْلُوقون، ولستم ترتابون في مبدأ خَلْقِكم من حال إلى حال إلى حين الموت، والبعث الذي وُعِدْتم به نظير النشأة الأولى، فهما نظيران في الإمكان والوقوع، فإعادتكم [بعد الموت] (¬3) خَلْقًا جديدًا كالنشأة الأولى التي لا ترتابون فيها، فكيف تنكرون إحدى النشأتين مع مشاهدتكم لنظيرها؟ وقد أعاد سبحانه (¬4) هذا المعنى وأبْدَاه في كتابه بأوْجَز العبارات، وأدَلِّها، وأفصحها، وأقْطَعها للعُذْر، وألزمها للحجة، كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) [نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61)] (2) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)} [الواقعة: 58 - 62]، فدلَّهم بالنشأة الأولى على الثانية، وأنهم لو تذكَّروا لعلموا أن لا فَرْقَ بينهما في تَعلُّق القدرة بكل واحدة منهما، وقد جمع سبحانه بين النشأتين في قوله؛ {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)} [النجم: 45 - 47] وفي (¬5) قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً ¬
[تضمن الآيات عشرة أدلة]
فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)} [إلى قوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ] (¬1) الْمَوْتَى} [القيامة: 37 - 40]، وفي قوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ (قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) [الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ] (¬2) وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83))} [يس: 78 - 83]. [تضمُّن الآيات عشرة أدلة] فتضمنت هذه الآيات عشرة (¬3) أدلة: أحدها: قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} فذَكَّره مبدأ خلقه ليدلَّه به على النشأة الثانية، ثم أخبر أن هذا الجاحِدَ لو ذَكَر خَلْقه لما ضربَ المثلَ، بل لمَّا نسي خَلْقه ضَرَب المثل؛ فَتَحْتَ قوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} ألطف جوابِ وأبينُ دليلِ، وهذا كما تقول لمن جَحَدَك أن تكون قد أعطيته شيئًا: فلانُ جَحَدَني الإحسان إليه ونسي الثياب التي عليه والمالَ الذي معه والدارَ التي هو فيها؛ حيث لا يمكنه جَحْدُ أن يكون ذلك منك؛ ثم أجيبَ عن سُؤالِه بما يتضمن أبلغ الدليلِ على ثبوت ما جَحَده فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فهذا جواب واستدلال قاطع، [ثم أكد] (¬4) هذا المعنى [بالإخبار] (¬5)، بعموم عِلْمِهِ بجميع خلقه (¬6)، فإنَ تعذُّرَ الإعادة عليه إنما يكون لقصور علمه أو قصور في قدرته، ولا قصور في علم مَنْ هو بكل خلق عليم، ولا قدرةَ فوق قدرةِ (¬7) مَنْ خلق السمواتِ والأرض، وإذا أراد شيئًا، قال (¬8) له: كنْ فيكون وبيده ملكوت كل شيء، فكيف تَعْجزُ قدرتُه وعلمُه عن إحيائكم بعد مماتكم ولم تعجز (¬9) عن النشأة الأولى ولا عن خَلْق السموات والأرض؟ ثم أرشد عباده إلى دليل واضح [جلي] (¬10) متضمن للجواب عن شُبَهِ المنكرين بألطف الوجوه ¬
وأبينها وأقربها إلى العقل، فقال: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)} فإذن (¬1) هذا دليل على تمام قدرته وإخراج الأموات من قبورهم كما أخرج النار من [الشجرة الخضراء] (¬2)، وفي ذلك جوابٌ عن شُبْهةِ من قال من مُنكري المعاد: الموتُ باردٌ يابسَ، والحياة طَبْعها الرطوبة والحرارة، فإذا حَل الموتُ بالجسم لم يمكن أن تحل فيه الحياة بعد ذلك لتضاد ما بينهما، وهذه شبهة تليق بعقول المكذبين الذين لا سَمْعَ لهم ولا عَقْل؛ فإن الحياة لا تجامع الموتَ في المحل الواحد ليلزم ما قالوا، بل إذا أوجَدَ اللَّه فيه الحياة وطَبْعَها ارتَفَع الموتُ وطبعُه، وهذا الشجر الأخضر طبعُه الرطوبة والبرودة تَخرجُ منه النار الحارة اليابسة، ثم ذكر ما هو أوضح للعقول من كل دليل، وهو خَلْق السَّموات والأرض مع عظَمتهما وسَعَتهما وأنه لا نِسبةَ للخلق الضعيف إليهما، و [مَنْ] (¬3) لم تعجز قدرته وعلمه عن هذا الخلق العظيم الذي هو أكبر من خلق الناس كيف تعجز عن إحيائهم بعد موتهم؟ ثم قَرَّر هذا المعنى بذكر وَصفين من أوصافه مُستلزمين لما أخبر به فقال: {بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} فكونه خَلاقًا عليمًا يقتضي أنه (¬4) يخلق ما يشاء، ولا يعجزه ما أراده من الخلق، ثم قرر هذا المعنى بأن عموم إرادته وكمالها لا يَقْصر عنه (¬5) ولا عن شيء أبدًا، فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} فلا يمكنه الاستعصاء عليه، ولا يتعذر عليه، بل يأتي طائعًا منقادًا لمشيئته وإرادته، ثم زاده تأكيدًا وإيضاحًا [بقوله] (¬6): {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فنَّزهَ نفسه عما يَظنُّ (¬7) به أعداؤه المنكرون للمَعَاد [مُعظِّمًا لها] (¬8) بأن مُلْك كلِّ شيء بيده يتصرف فيه تصرف المالكِ الحق في مملوكه الذي لا يمكنه الامتناعُ عن أي تصرف شاءه فيه، ثم ختم السورة بقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} كما أنهم ابتدأوا منه هو فكذلك مَرْجِعُهم إليه، فمنه المبدأ وإليه المَعَاد، وهو الأول والآخر: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم: 42]. ¬
ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}؟ [مريم: 66، 67]، فتأمل تضمن (¬1) هذه الكلمات -على اختصارها وإيجازها وبلاغتها- للأصل والفرع والعلة والحكم. ومنه قوله تعالى: {وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا}؟ [الإسراء: 49]، فردّ عليهم سبحانه ردًّا يتضمن الدليل القاطع على قدرته على إعادتهم خلقًا جديدًا فقال: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 50، 51] فلما استبعدوا أن يُعيدهم اللَّه خلقًا جديدًا بعد أن صاروا عظامًا ورفاتًا قيل لهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ}، سواء كان الموت أو السماء أو الأرض أو أي خلق [استعظمتموه وكبرُ في صُدوركِم] (¬2)؛ ومَضْمُونُ الدليل أنكم مَرْبُوبُون مخلوقون مقهورون على ما يشاء خالقكم، وأنتم لا تقدرون على تغيير أحوالكم مِنْ خِلْقَة إلى خِلْقة لا تقبل الإضمحلال كالحجارة والحديد، ومع ذلك فلو كنتم على هذه الخلقة من القوة والشدة لنفذت أحكامي فيكم وقدرتي ومشيئتي، ولم تسبقوني ولم تفوتوني، كما يقول القائل لمن هو في قَبْضَته: اصْعَدْ إلى السماء فإني لاحِقُكَ، أي لو صعدت إلى السماء لِحقتُك، وعلى هذا فمعنى الآية: لو كنتم حجارة أو حديدًا أو أعْظَمَ خلقًا من ذلك؛ لما أعجزتموني ولما فتُّموني (¬3) وقيل: المعنى كونوا حِجَارة أو حديدًا عند أنفسكم، أي صَوِّروا أنفسكم وقَدِّروها [كذلك] (¬4) خَلْقًا لا يضمحلُّ ولا ينحل، فإنَّا سنميتكم ثم نحييكم ونعيدكم خلقًا جديدًا، وبَيْن المعنيين فَرْقٌ لَطيف، فإنَّ المعنى الأول يقتضي أنكم لو قَدَرتُم على نَقْل خلقتكم (¬5) من حالة إلى حالة هي أشد منعها وأقوى لنفذت مشيئتنا وقدرتنا فيكم ولم تعجزونا، فكيف وأنتم عاجزون عن ذلك؟ والمعنى الثاني يقتضي أنكم صوروا أنفسكم وأنزلوها هذه المنزلة، ثم انظروا أتفوتونا وتعجزونا أم قدرتُنا ومشيئتُنا مُحيطة بكم ولو كنتم كذلك؟ وهذا من ¬
أبلغ البراهين القاطعة التي لا تعرض فيها شبهة البتة، بل لا تَجدُ العقولُ السليمة عن الإذعان والانقياد لها بُدًّا (¬1)، فلما علم القومُ صحة هذا البرهان وأنه ضروري انتقلوا إلى المطالبة بمن يُعيدهم فقالوا: مَنْ يعيدنا؟ وهذا سواء كان سؤالًا منهم عن تعيين المعيد أو إنكارًا منهم له فهو (¬2) من أقبح التعنّت وأَبينِه، ولهذا كان جوابه: {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ولمَّا علم القومُ أن هذا جوابٌ قاطع انتقلوا إلى باب آخر من التعنت، وهو السؤال عن وَقْت هذه الإعادة، فأنْغَضُوا إليه رؤوسهم (¬3) وقالوا: متى هو؟ فقال تعالى: {قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا} فليتأمل اللبيبُ لُطْفَ موضع (¬4) هذا الدليل، واستلزامه لمدلوله استلزامًا لا مَحِيدَ عنه، وما تضمنه من السؤالات (¬5) والجواب عنها أبلغ جواب وأصحه وأوضحه، فلله ما يفوت المعْرضين عن تدبُّر القرآن المتعوضين عنه بزبالة الأذهان ونُخَالة الأفكار (¬6). ومنه قوله تعالى: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) [ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا] (¬7) وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)} [الحج: 5 - 7]، وقوله [تعالى] (¬8): {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)} [فصلت: 39]، جعل [اللَّه] (8) سبحانه إحياء الأرض [بالنبات] (8) بعد موتها نظيرَ إحياء الأموات، وإخراج النبات منها نظير إخراجهم من القبور، ودلَّ بالنظير على نظيره. ¬
[في الآيتين دليل على خمسة مطالب]
[في الآيتين دليل على خمسة مطالب] وجعل ذلك آيةً ودليلًا على خمسة مطالب، أحدها: وجود الصانع، وأنه الحق المبين، وذلك يستلزم إثبات صفات كماله وقدرته وإرادته وحياته وعلمه وحكمته ورحمته وأفعاله. الثانى: أنه يحيي الموتى. الثالث: عمومُ قدرته على كل شيء. الرابع: إتيان الساعة وأنها لا ريب فيها. الخامس: أنه يخرج الموتى من القبور كما يخرج (¬1) النبات من الأرض. [لِمَ تكرر الاستدلال بإخراج النبات من الأرض على إخراج الموتى؟] وقد كَرَّر سبحانه ذكر هذا الدليل في كتابه مرارًا؛ لصحة مقدماته، ووضوح دَلَالته، وقُرْب تَنَاوله، وبُعْده من كل معارضة وشُبْهة، وجَعَلَه تبصرةً وذكرى كما قال تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8)} [ق: 7، 8]. [التذكر] فالمنيب إلى ربِّه يتذكَّر بذلك، فإذا تذكَّر تبصَّرَ به، فالتذكُّر قبل التبصُّر، وإن قُدِّمَ (¬2) عليه في اللفظ كما قال [تعالى] (¬3): {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201)} [الأعراف: 201]، والتذكر: تَفَعُّلٌ من الذِّكر، وهو حصول (¬4) صورة من المذكور في القلب، فإذا استحضره القلبُ وشاهدَهُ على وَجْهه أوْجَبَ له [البصيرة، فابْصَرَ] (¬5) ما جُعل دليلًا عليه، فكان في حقه تبصرةً وذكرى، والهدى مداره على هذين الأصلين: التَّذكُّر، والتَّبصُّر. [دعوة الإنسان إلى النظر] وقد دعا سبحانه الإنسانَ إلى أن ينظر في مبدأ خلقه [ورزقه] (3)، ويستدل بذلك على مَعَاده وصِدْق ما أخبرت به الرسل؛ فقال في الأول: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ ¬
[الصلب والترائب والنطفة]
خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) [إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ)}] (¬1) [الطارق: 5 - 9]، فالدافق على بابه، ليس فاعلًا بمعنى مفعول كما يَظُنُه بعضهم، بل هو بمنزلة ماءٍ جارٍ، وواقِفٍ، وساكِن. [الصُّلب والترائب والنطفة] ولا خلاف أن المراد بالطلب صلبُ الرجلِ، واخْتُلف في الترائب، فقيل: المراد بها ترائبه أيضًا، وهي عظام الصَّدْر ما بين التَرْقْوة إلى الثَّنْدُوَة (¬2)، وقيل: المرادُ ترائبُ المرأة، والأول أظهر؛ لأنه سبحانه قال (¬3): [{يَخْرُجُ] مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 7]، ولم يقل: يخرج من الصُّلْب والتَّرَائب، فلا بد أن يكون ماء الرجل خارجا من بين هذين المحِلَّيْن (¬4)؛ كما قال في اللَّبن: يخرج {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ} [النحل: 66]، وأيضًا فإنه سبحانه أخبر أنه خَلَقه من نطفة في غير موضع، والنطفة هي ماء الرجل، كذلك قال أهل اللغة، قال الجوهري (¬5): "النطفة الماء الصافي قَلَّ أو كَثُرَ، [والجمع: النطاف] (¬6)، والنطفة ماء الرجل، والجمع نُطَفُ؛ وأيضًا فإن الذي يُوصَفُ بالدَّفْقِ والنضح (¬7) إنما هو ماء الرجل، ولا يُقال: نَضَحَت المرأة الماء ولا دَفَقَتْه، والذي أوجَبَ لأصحاب القول الآخر ذلك أنهم رأوا أهلَ اللغة قالوا: الترائب مَوْضِعُ القلادة من الصَّدْر (¬8)، قال الزَّجَّاج (¬9): أهلُ اللغة مُجْمِعون على ذلك، وأنشدوا لامرئ القَيْس: ¬
[عود إلى الدعوة إلى النظر]
مُهفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرَائبُهَا مَصْقُولَة كَالسَّجَنْجَلِ (¬1) وهذا لا (¬2) يدلّ على اختصاص الترائب بالمرأة، بل يُطْلَق على الرجل والمرأة، قال الجوهري: التَّرَائب عِظَامُ الصدر ما بين التَّرْقُوة إلى الثنَّدُوة (¬3). وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)} الصحيح أن الضمير يرجع على الإنسان (¬4) أي: إن اللَّه على ردِّه [إليه لقادر يوم القيامة] (¬5)، وهو اليوم الذي تُبْلَى فيه السرائر، ومَنْ قال: "إن الضمير يرجع إلى (¬6) الماء أي: إن اللَّه على رَجْعه في الإحليل أو في الصَّدر أو حَبْسه عن الخروج لقادر" فقد أبْعَد، وإن كان اللَّه [سبحانه] (¬7) قادرًا على ذلك، ولكن السياق ياباه، وطريقه القرآن -وهي (¬8) الاستدلالُ بالمبدأ والنشأة الأولى على المعَاد والرجوع إليه- وأيضًا فإنه قَيَّده بالظرف، وهو: "يوم تُبلى السرائر". [عود إلى الدعوة إلى النظر] والمقصود أنه سبحانه دعا الإنسان أن ينظر في مَبْدَأ خلقه ورزقه، فإن ذلك يدلُّه دلالةً ظاهرة على مَعَاده ورجوعه إلى ربه. وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ ¬
شَقًّا (26) [فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا] (¬1) (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)} [عبس: 24 - 31]؛ فجعل سبحانه نَظَره في إخراج طعامه من الأرض دليلًا على إخراجه هو منها بعد موته، استدلالًا بالنظير على النظير. ومن ذلك قوله سبحانه ردًا (¬2) على الذين [قالوا: {(وَقَالُوا)] (¬3) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)} [الإسراء: 49]، {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [الإسراء: 99]، أي: مثلَ هؤلاءِ المكذِّبين، والمراد به النشأة [الثانية] (4)، وهي الخلق الجديد، وهي المثل المذكور في غير موضع، وهم [هم] (¬4) بأعيانهم، فلا تنافي في شيء من ذلك، [بل هو الحق] (¬5) الذي دل عليه العقل والسَّمْع، ومَنْ لم يفهم ذلك حَق فهمه تخبَّطَ عليه أمرُ المعاد، وبقي منه في أمر مَرِيج؛ والمقصودُ أنه دَلَّهم [سبحانه] (¬6) بخلق السموات والأرض على الإعادة والبَعث، وأكد هذا القياسَ بضرب من الأَوْلى، وهو أن خلق السَّموات والأرض أكْبرُ من خلق الناس، فالقادر على خلق ما هو أكبر وأعظم منكم أقْدَر على خلقكم، وليس أول الخلق بأهْوَنَ عليه من إعادته، فليس مع المكذبين بالقيامة إلا مجردُ تكذيب اللَّه ورُسُله وتعجيز قدرته، ونسبة علمه إلى القصور، والقدح في حكمته؛ ولهذا يخبر [اللَّه] (6) سبحانه عمن أنكر ذلك بأنه كافر بربه (¬7)، جاحد له، لم يُقِرَّ بربِّ العالمين فاطِرِ السموات والأرض (¬8) كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5]، وقال المؤمن للكافر الذي قال: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا (¬9) مُنْقَلَبًا (36)} [الكهف: 36]؛ فقال له: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37)} [الكهف: 37]، فمنكر المعاد كافر برب العالمين وإن زعم أنه مُقِر به. ومنه قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ ¬
فصل [قياس الشبه وأمثلة له]
النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} [العنكبوت: 20]، يقول تعالى: انظروا كيف بَدأتُ (¬1) الخَلْقَ؛ فاعتبروا الإعادة بالابتداء، ومنه قوله [تعالى] (¬2): {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)} [الروم: 19] (¬3)، وقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا] (¬4) إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50)} [الروم: 50]. وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) [وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا] (¬5) كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)} [ق: 9 - 11]، وقال [تعالى] (2): {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا} (¬6) [الأنبياء: 104]، والسِّجِّل: الورق المكتوب فيه، والكتاب: نفس المكتوب (¬7)، واللام بمنزلة على، أي: نطوي السماء كطيّ الدَّرْج (¬8) على ما فيه من السطور المكتوبة، ثم استدل على النظير بالنظير فقال: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا}. فصل [قياس الشبه وأمثلة له] وأما قياس الشبه فلم يحكه اللَّه سبحانه إلا عن المُبطلين؛ فمنه قوله تعالى إخبارًا عن إخوة يوسف أنهم قالوا لما وجدوا الصُّوَاع (¬9) في رَحْل أخيهم: {إِنْ ¬
يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف: 77]، فلم يجمعوا بين الأصل والفرع بعلة ولا دليلها، وإنما ألحقوا أحدهما بالآخر من غير دليل جامع سوى مُجَرَّد الشَّبَه الجامع بينه وبين يوسف، فقالوا: هذا مقيس على أخيه، بينهما شبه من وجوه عديدة، وذاك قد سرق فكذلك هذا، وهذا هو الجمع بالشبه الفارغ، والقياس بالصورة (¬1) المجردة عن العلة المقتضية (¬2) للتساوي، وهو قياس فاسد، والتساوي في قرابة الأخوة ليس بعلة للتساوي في السرقة لو كان (¬3) حقًا، ولا دليل على التساوي فيها؛ فيكون الجمع لنوع شبه خالٍ عن العلة ودليلها. ومنه قوله تعالى إخبارًا عن الكفار [أنهم قالوا] (¬4): {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} فاعتبروا مجرد صورة (¬5) الآدمية وشبه المجانسة، واستدلوا بذلك على أن حكم أحد الشبهين حكم الآخر؛ فكما لا نكون نحن رسلًا فكذلك أنتم، فإذا تساوينا في هذا الشبه فأنتم مثلنا لا مزية لكم علينا، وهذا من أبطل القياس؛ فإن الواقع من التخصيص والتفضيل جعل (¬6) بعض هذا النوع شريفًا وبعضه دنيًا (¬7)، وبعضه مرؤوسًا وبعضه رئيسًا، وبعضه ملكًا وبعضه سوقة، يبطل هذا القياس، كما أشار سبحانه إلى ذلك في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ [لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ] (4)} [الزخرف: 32]. وأجابت الرسل عن هذا السؤال بقولهم: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11]، وأجاب اللَّه [سبحانه] (4) عنه بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، وكذلك قوله [سبحانه] (4): {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34)} [المؤمنون: 33، 34]، فاعتبروا المساواة في البشرية وما هو من خصائصها من الأكل والشرب، وهذا مجرد (¬8) قياس شبه وجمع صوري، ونظير ¬
فصل [ضرب الأمثال في القرآن والحكمة فيه]
هذا قوله (¬1): {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6]. ومن هذا قياس المشركين الربا على البيع بمجرد الشبه الصوري، ومنه قياسهم الميتة على الذَّكيّ في إباحة الأكل بمجرد الشبه. وبالجملة فلم يجئ هذا القياس في القرآن إلا مردودًا مذمومًا، ومن ذلك قوله [تعالى] (¬2): {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 194، 195]، فبين سبحانه (¬3) أن هذه الأصنام أشباح وصور خالية عن صفات الإلهية، وأن المعنى المعتبر معدوم فيها، وأنها لو دعيت لم تجب؛ فهي صور خالية عن أوصاف ومعان تقتضي عبادتها، وزاد هذا تقريرًا بقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]، أي أن جميع ما لهذه (¬4) الأصنام من الأعضاء التي نحَتتْها أيديكم إنما هي صور عاطلة عن حقائقها وصفاتها؛ لأن المعنى المراد المختص بالرِّجلِ هو مَشْيُها، وهو معدوم في هذه الرجل؛ والمعنى المختص باليد هو بطشها وهو معدوم في هذه اليد؛ والمراد بالعين إبصارها وهو معدوم في هذه العين؛ ومن الأُذن سَمْعُها وهو معدوم فيها، والصور في ذلك كله ثابتة موجودة، وكلها فارغة خالية عن الأوصاف والمعاني، فاستوى وجودها وعدمها، وهذا كله مدحض لقياس الشبه الخالي عن العلة المؤثرة والوصف المُقْتضي للحكم، واللَّه أعلم (¬5). فصل [ضرب الأمثال في القرآن والحكمة فيه] ومن هذا ما وقع في القرآن من الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون؛ فإنها تشبيه شيء بشيء في حكمه (¬6)، وتقريب المعقول من المحسوس، أو أحد المحسوسين من الآخر، واعتبار أحدهما بالآخر، كقوله تعالى في حق المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ ¬
ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}] [البقرة: 17، 18] (¬1) إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)} [البقرة: 20]، فضرب للمنافقين بحسب حالهم مَثَلين: مثلًا ناريًا، ومثلًا مائيًا، لما في النار والماء من الإضاءة (¬2) والإشراق والحياة؛ فإن النار مادة النور، والماء مادة الحياة، وقد جعل اللَّه الوحي الذي أنزله (¬3) من السماء متضمنًا لحياة القلوب واستنارتها، ولهذا سماه روحًا ونورًا، وجعل قَابِلِيه أحياءَ في النور، ومن لم يرفع به رأسًا أمواتًا في الظلمات، وأخبر عن حال المنافقين بالنسبة إلى حظهم من الوحي أنهم (¬4) بمنزلة من استوقد نارًا لتضيء له وينتفع بها، وهذا لأنهم دخلوا في الإسلام فاستضاؤا به، وانتفعوا به، وآمنوا به، وخالطوا المسلمين (¬5)، ولكن لما لم يكن لصحبتهم مادة من قلوبهم من نور الإسلام طفئ عنهم، وذهب اللَّه بنورهم، ولم يقل بنارهم؛ فإن النار فيها الإضاءة والإحراق، فذهب اللَّه بما فيها من الإضاءة، وأبقى عليهم ما فيها من الإحراق، وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهذا حال من أبصر ثم عَمي، وعَرف ثم أنكر، ودخل في الإسلام ثم فارقه بقلبه، فهو لا يرجع إليه؛ ولهذا قال: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)} ثم ذكر حالهم بالنسبة إلى المثل المائي (¬6)، فشبههم بأصحاب صَيِّب -وهو المطر الذي يَصوب، أي؛ ينزل من السماء- فيه (¬7) ظلمات ورعد وبرق، فلضعف بصائرهم (¬8)، وعقولهم اشتدت عليهم زواجر القرآن ووعيده وتهديده وأوامره ونواهيه وخطابه الذي يشبه الصواعق، فحالهم كحال من أصابه مطر فيه ظلمة ورعد وبرق، فلضعفه وخوره جعل أصبعيه في أذنيه، وغمض عينيه خشية من صاعقة تصيبه (¬9). ¬
[مخانيث الجهمية والمبتدعة]
[مخانيث الجهمية والمبتدعة] وقد شاهدنا نحن وغيرنا كثيرًا من مخانيث تلاميذ الجهمية والمبتدعة (¬1) إذا سمعوا شيئًا من آيات الصفات وأحاديث الصفات المنافية لبدعتهم رأيتهم عنها معرضين. {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)} [المدثر: 50، 51] ويقول مخنثهم (¬2): سُدُّوا عنا هذا الباب، واقرؤوا شيئًا غير هذا، وترى قلوبهم مولية وهم يجمحون؛ لثقل معرفة الرب سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته على عقولهم وقلوبهم (¬3)، وكذلك المشركون على اختلاف شركهم، إذا جُرِّدَ لهم التوحيد وتُليت عليهم النصوص (¬4) المُبطلة لشركهم اشمأزت قلوبهم، وثقلت عليهم (¬5)، ولو وجدوا السبيل إلى سد آذانهم لفعلوا، وكذلك (¬6) تجد أعداء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إذا سمعوا نصوص الثناء [على الخلفاء] (¬7) الراشدين وصحابة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثقل ذلك عليهم جدًّا، وأنكرته قلوبهم؛ وهذا كله شَبَه ظاهر، ومَثَل مُحقَّق من إخوانهم من المنافقين في المثل الذي ضربه اللَّه لهم [بالماء] (¬8) فإنهم لمّا تشابهت قلوبهم تشابهت أعمالهم [نسال اللَّه العفو والعافية] (¬9). ¬
فصل [المثل المائي والناري في حق المؤمنين]
فصل [المثل المائي والناري في حق المؤمنين] وقد ذكر اللَّه المثلين المائي والنَّاري في سورة الرعد، ولكن في حق المؤمنين؛ فقال [تعالى] (¬1): {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ [ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ] (¬2) كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)} [الرعد: 17]، فشبه [سبحانه] (¬3) الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات، وشبه القلوب بالأودية، فقلب كبير يسع علمًا عظيمًا كواد كبير يسع ماءً كثيرًا، وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير، فسالت أودية بقدرها، واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها؛ وكما أن السيل إذا خالط الأرض ومرَّ عليها احتمل غثاءً وزبدًا فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوبَ أثار ما فيها من الشَّهوات والشُّبهات ليَقْلَعَها ويُذهبها، كما يثير الدواءُ وقتَ شُرْبه من البدن أخلاطَه [فيتكدَّر بها شاربه] (¬4)، وهي من تمام نفع الدواء، فإنه أثارها ليذهَب بها، فإنه لا يجامعها ولا يساكنها (¬5)؛ وهكذا يضرب اللَّه الحق والباطل. ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهو الخَبَثُ الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتُخرجُه النار وتميِّزه وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيُرمى ويُطرح ويذهب جُفاءً؛ فكذلك الشهوات والشبهات يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزَّبدَ والغُثاءَ والخبث، ويستقر في قرار الوادي الماءُ الصَّافي الذي يستقي منه الناسُ ويزرعون ويسقون أنعامهم، كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمانُ الخالصُ الصَّافي الذي يَنفع صاحبه ويَنْتفع به غيره؛ ومن لم ¬
فصل [مثل الحياة الدنيا]
يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ولعرف ما يُراد منهما فليس من أهلهما، واللَّه الموفق (¬1). فصل [مثل الحياة الدنيا] ومنها قوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ [حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ] (¬2) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)} [يونس: 24]، شبَّه سبحانه الحياة الدنيا بأنها (¬3) تتزين في عين الناظر [فتروقُه] (¬4) بزينتها وتُعجبه فيميل إليها ويهواها اغترارًا منه بها، حتى إذا ظنَّ أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها، فشَبَّهها بالأرض التي ينزل الغيث عليها فتَعْشُب ويحسنُ نباتُها ويروق منظرها للناظر، فيغتزُ بها، ويظن أنه قادرٌ عليها، مالكٌ لها، فيأتيها أمر اللَّه فتدرك نباتَها الآفةُ بغتةَ، فتصبح كأن لم تكن قبل، فيخيب ظنه، وتصبح يداه صفرًا (¬5) منها؛ فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء؛ وهذا من أبلغ التشبيه والقياس، ولما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات، والجنة سليمة [منها] (¬6) قال: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} فسماها هنا (¬7) دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا، فعمَّ بالدعوة إليها، وخصَّ بالهداية مَنْ يشاء، فذاك عدله وهذا فضله. ¬
فصل [مثل المؤمنين والكافرين]
فصل [مثل المؤمنين والكافرين] ومنها قوله [تعالى] (1): {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)} [هود: 24]؛ فإنه [سبحانه] (¬1) ذكر الكفار، ووصفهم بأنهم ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون، ثم ذكر المؤمنين، ووصفهم بالإيمان والعمل الصالح والإخبات (¬2) إلى ربهم، فوصفهم بعبودية الظاهر والباطن، وجعل أحد الفريقين كالأعمى والأصم من حيث كان قلبه أعمى عن رؤية الحق أصم عن سماعه؛ فشُبِّه بمن بصره (¬3) أعمى عن رؤية الأشياء، وسمعه أصم عن سماع الأصوات، والفريق الآخر بصير القلب سميعه، كبصير العين وسميع الأذن؛ فتضمنت الآية قياسين وتمثيلين للفريقين، ثم نفى التسوية عن الفريقين بقوله: {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا}. [مثل الذين اتخذوا الأولياء] ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] فذكر سبحانه أنهم ضعفاء، وأن الذين [اتخذوهم أولياءَهم] (¬4) أضعف منهم، فهم في ضعفهم وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتًا، وهو أوهن البيوت وأضعفها؛ وتحت هذا المثل أن [هؤلاء] (5) المشركين أضعف ما كانوا حين اتخذوا من دون اللَّه أولياء فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفًا، كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: 81، 82]، وقال [تعالى] (¬5): {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ [وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ] (¬6)} [يس: 74، 75]، وقال بعد أن ذكر إهلاك الأمم المشركين: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ¬
[من اتخذ أولياء من دون الله أشرك]
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} (¬1) [هود: 101]. [من اتخذ أولياء من دون اللَّه أشرك] فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون اللَّه وليًا يتعزَّز به ويتكبّر (¬2) به ويستنصر به لم يحصل له به إلا ضد مقصوده، وفي القرآن أكثر من ذلك، وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك وخسارة صاحبه وحصوله على ضدِّ مقصوده. فإن قيل: فهم يعلمون أنّ أوهن البيوت بيت العنكبوت، فكيف نَفى عنهم علم ذلك بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. فالجواب: أنه [سبحانه] (¬3) لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت، وإنما نفى عنهم علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه كالعنكبوت اتخذت بيتًا، فلو علموا ذلك لما فعلوه، ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزًا وقوة (¬4)، فكان الأمر بخلاف ما ظنُّوه، [ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم] (¬5). فصل [تمثيل أعمال الكافرين بالسَّراب] ومنها قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ] (¬6)} [النور: 39، 40]. ¬
[المعرضون عن الحق نوعان]
[المعرضون عن الحق نوعان] ذكر سبحانه (¬1) للكافر مثلين: مثلًا للسراب (¬2)، ومثلًا بالظلمات المتراكمة، وذلك لأن المعرضين عن [الهدى و] (¬3) الحق نوعان: أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له (¬4) عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم، فإذا انكشفت الحقائق تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء، وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب [بقيعة] (3)، يُرى في عين الناظر [ماءً] (¬5) ولا حقيقة له. [الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير أمره] وهكذا الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير أمره، يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك، وهذه الأعمال التي قال اللَّه [عز وجل] (3) فيها: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23)} [الفرقان: 23]، وتامَّل [تشبيه] (¬6) اللَّه سبحانه السراب بالقِيعة -وهي الأرض القفر الخالية من [البناء والشجر والنبات] (¬7)، والعالم- فمَحَلُّ (¬8) السَّرابِ أرضٌ قَفْر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له، وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى. وتامل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً}، والظمآن الذي قد اشتدَّ عطشه، فرأى السراب فظنه ماءً فتبعه فلم يجده شيئًا، بل خانه أحوج ما كان إليه (¬9)، فكذلك هؤلاء، لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول (¬10)، ولغير اللَّه، جُعلت كالسراب، فرفعت لهم أظمأ ما كانوا وأحوج ما كانوا إليها، فلم يجدوا شيئًا، ووجدوا اللَّه [سبحانه ثَمَّ] (¬11)؛ فجازاهم بأعمالهم ووفَّاهم حسابهم. وفي "الصحيح" من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في حديث التجلِّي يوم القيامة: "ثم يُؤتى بجهنم تُعْرَض كأنها السراب، فيُقال لليهود: ما كنتم ¬
فصل [أصحاب مثل الظلمات المتراكمة]
تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عزيرًا ابن اللَّه، فيُقال: كذبتم، لم يكن للَّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن اللَّه، فيقال لهم: كذبتم، لم يكن للَّه صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا، فيقال لهم: اشربوا، فيتساقطون" (¬1) وذكر الحديث. وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه، فإن الباطل لا حقيقة له، وهو كاسمه باطل؛ فإذا كان الاعتقاد غيرَ مطابق ولا حق كان مُتعلّقه باطلًا؛ وكذلك إذا كانت غايةُ العمل باطلةً -كالعمل لغير اللَّه، وعلى (¬2) غير أمره- بطل العملُ ببطلان غايته، وتضرَّر عامله ببطلانه، وبحصول ضدِّ [ما كان يأمِّله، فلم يذهب عليه عملُه واعتقادُه، لا له ولا عليه، بل صار مُعذبًا بفوات نَفْعِه، وبحصول ضد] (3) النفع، ولهذا قال [تعالى] (¬3): {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39)} [النور: 39] فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى. فصل [أصحاب مثل الظلمات المتراكمة] النوع الثاني: أصحاب [مثل] (4) الظلمات [المتراكمة] (¬4)، وهم الذين عرفوا الحقَّ والهدى، وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال، فتراكمت عليهم ظلمة الطَّبْع وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغَيّ والهوى، فحالهم كحال من كان في بحر لُجّيّ لا ساحل له، وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج، ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر ¬
[أصحاب مثلي السراب والظلمات]
وظلمة الموج وظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه اللَّه منها إلى نور الإيمان، وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهما (¬1) الماء والظلمات المضادة للنور نظير المثلين اللذين ضربهما اللَّه للمنافقين والمؤمنين، وهما (¬2) المثل المائي والمثل الناري، وجعل حظَّ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور والموت المضاد للحياة؛ فكذلك الكفار في هذين المثلين، حظُهم من الماء السراب الذي يغُرّ الناظر ولا حقيقة له، وحظهم (¬3) الظلمات المتراكمة، وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي؛ فيكون المثلان (¬4) صفتين لموصوف واحد؛ ويجوز (¬5) أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة، بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف، فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى، وآثروا الباطل على الحق، وعَمُوا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا (¬6) حال المغضوب عليه، والأول (¬7) حال الضالين؛ وحال الطائفتين مخالف لحال المنعم عليهم المذكورين في قوله [تعالى] (8): {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [الْمِصْبَاحُ]} (¬8) إلى قوله: [{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}] (¬9) [النور:30، 38] فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة: المُنْعَم عليهم وهم أهل النور، والضالين وهم أصحاب السراب، والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة، واللَّه أعلم. [أصحاب مثلي السراب والظلمات] فالمثل الأول من المثلين لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع، والمثل الثاني لأصحاب [العلوم والنظر والأبحاث الذي لا ينفع (¬10)، فأولئك أصحاب ¬
العمل الباطل، وهؤلاء أصحاب] (¬1) العلم (¬2) الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق، ولهذا مَثَّل حال الفريق الثاني في (¬3) تلاطم أمواج [لشكوك و] (¬4) الشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشُّبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سُحُبُ الغَي والهوى والباطل، فليتدبر اللبيبُ أحوال الفريقين، وليطابق بينهما وبين المثلين، يعرف عظمة القرآن وجلالته، وأنه تنزيل من حكيم حميد. وأخبر سبحانه أن الموجب لذلك أنه لم يجعل لهم نورًا، بل تركهم على الظلمة التي خلقوا فيها فلم يخرجهم منها إلى النور؛ [فإنه سبحانه ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور] (¬5)، وفي "المسند" من حديث عبد اللَّه بن عمرو أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه خَلَقَ خَلْقَه في ظلمة، وألقى عليهم من نوره، فمن أصابه [من] (5) ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضلَّ" (¬6) فلذلك أقول: جَفَّ القلم على علم اللَّه، فاللَّه [سبحانه] (4) خلق الخلق في ظلمة، فمن أراد هدايته جعل له نورًا وجوديًا يُحيي به قلبه وروحه، كما يحيي بدنه بالروح التي ينفخها فيه، فهما حياتان: حياة البدن بالروح، وحياة الروح والقلب بالنور، ولهذا سَمّى سبحانه الوحي روحًا لتوقُّف الحياة الحقيقية عليه، كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2]، [وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ ¬
فصل [تمثيل الكفار بالأنعام]
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15]] (¬1)، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا]} (¬2) [الشورى: 52]؛ فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحيه بهذا (¬3) الروح فهو ميت، ومن لم يجعل له نورًا فهو في الظلمات ما له من نور (¬4). فصل [تمثيل الكفار بالأنعام] ومنها قوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} [الفرقان: 44]؛ فشَبَّه أكثر الناس بالأنعام، والجامع بين النوعين التساوي في عدم قبول الهدى والانقياد له، وجعل الأكثرين أضل سبيلًا من الأنعام؛ لأن البهيمة يهديها سائقُها فتهتدي وتتبع الطَّريقَ، فلا تحيد عنها يمينًا ولا شمالًا، والأكثرون يدعوهم الرسلُ (¬5) ويهدونهم السَّبيلَ فلا يستجيبون ولا يهتدون ولا يفرقون بين ما يضرُّهم وبين ما ينفعهم، والأنعام تُفَرِّق بين ما يضرها من النبات والطريق فتجتنبه وما ينفعها فتؤثره، واللَّه تعالى لم يخلق للأنعام قلوبًا تعقل بها، ولا ألسنةً تنطق بها، وأعطى اللَّه ذلك لهؤلاء، ثم لم ينتفعوا بما جعل لهم من العقول والقلوب والألسنة والأسماع والأبصار، فهم أضلُّ من البهائم، فإنَّ من لا يهتدي (¬6) إلى الرُّشْدِ وإلى الطريق -مع الدليل إليه- أضلُّ وأسوأ حالًا ممن لا يهتدي حيث لا دليل معه. فصل [ضرب لكم مثلًا من أنفسكم] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ¬
مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ [فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ] (¬1) كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28)} [الروم: 28]، وهذا دليل قياس (¬2) احتج اللَّه سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عَبيده ومُلْكه شركاء، فأقام عليهم حُجة يعرفون صحتها من نفوسهم، لا (¬3) يحتاجون فيها إلى غيرهم، ومن أبلغ الحِجَاج أن يُؤخذ (¬4) الإنسان من نفسه، ويُحتج عليه بما هو في نفسه، مُقَرَّرٌ عندها، معلومٌ لها، فقال: هل لكم مما ملكت أيمانكم من عبيدكم وإمائِكم شُركاءَ في المال والأهل؟ أي: هل يُشارككم عَبيدُكُم في أَموالكم وأهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها، ويستأثرون ببعضها عليكم، كما يخافُ الشَّريكُ شَريكَه؟ وقال (¬5) ابن عباس: تخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضُكم بعضًا (¬6)، والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبدُه شَريكَه في ماله وأهله حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو (¬7) يخاف أن ينفرد في ماله بأمرٍ يتصرف فيه كما يخاف غيره من الشُّركاءِ الأَحرار؟ فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي؟ فإن كان هذا الحكم باطلًا في فطركم وعقولكم -مع أنه جائز عليكم ممن في حقكم؛ إذ ليس عبيدكم ملكًا لكم حقيقة، وإنما هم إخوانكم جعلهم اللَّه تحت أيديكم، وأنتم وهم عبيد لي (¬8) - فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي، مع أنّ مَنْ جعلتموهم (¬9) لي شُركاءَ عَبيدي ومُلْكي وخَلْقي؟ فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول (¬10). ¬
فصل [مثل من قياس العكس (التمثيل بالعبد المملوك)]
فصل [مثل من قياس العكس (التمثيل بالعبد المملوك)] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ [وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ] (¬1) وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)} [النحل: 75، 76] (¬2) هذان مثلان متضمنان قياسين من قياس العكس، وهو نفي الحكم لنفي علته وموجبه، فإن القياس نوعان: قياس طرد يقتضي إثباتَ الحكم في الفرع لثبوت علَّة الأصل فيه؛ وقياس عكس يقتضي نفيَ الحكم عن الفرع لنفي علة الحكم فيه؛ فالمثل الأول [ما] (¬3) ضربه اللَّه سبحانه لنفسه وللأوثان، فاللَّه سبحانه هو المالك لكل شيء ينفق كيف يشاء على عبيده سرًا وجهرًا وليلًا ونهارًا، يمينه ملأى لا يغيضها نفقة سحَّاء (¬4) الليل والنهار، والأوثان مملوكة عاجزة لا تقدر على شيء، فكيف تجعلونها [شركاء لي] (¬5) وتعبدونها من دوني مع هذا التفاوت العظيم والفرق المبين؟ وهذا قول مجاهد وغيره (¬6)؛ وقال ابن عباس: هو مثل ضربه اللَّه للمؤمن والكافر، ومثل المؤمن في الخير الذي عنده [بمن] (¬7) رزقه منه رزقًا حسنًا فهو ينفق منه على نفسه وعلى غيره سرًا وجهرًا، والكافر بمنزلة عبد مملوك [عاجز] (¬8) لا يقدر على شيء؛ لأنه لا خير عنده، فهل يستوي الرجلان عند أحد من العقلاء؟ (¬9) والقول الأول أشبه بالمراد، فإنه (¬10) ¬
فصل [مثل ضربه الله لنفسه]
أظهر في بطلان الشرك، وأوضح عند المخاطب، وأعظم في إقامة الحجة، وأقرب نسبًا بقوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ [إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ] (¬1)} [النحل: 73، 74]؛ ثم قال: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} ومن لوازم هذا المثل وأحكامه أن يكون المؤمن الموحِّد كمن رزقه منه رزقًا حسنًا، و [الكافر] (¬2) المشرك كالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء، فهذا مما نَبَّه عليه المثل وأرشد إليه، فذكره ابن عباس مُنَبِّهًا [به] (¬3) على إرادته لا (¬4) أن الآية اختصَّت [به] (1)، فتأمله فإنك تجده كثيرًا في كلام ابن عباس وغيره من السلف في فهم القرآن، فيظن الظان أن ذلك هو معنى الآية التي لا معنى لها غيره فيحكيه قوله (¬5). فصل [مثل ضَرَبَه اللَّه لنفسه] وأما المثل الثاني فهو مثل ضربه اللَّه [سبحانه وتعالى] لنفسه ولما يُعبد (¬6) من دونه أيضًا، فالصنم الذي يعبد من دونه بمنزلة رجل أبكم لا يعقل ولا ينطق، بل هو أبكم القلب [واللسان] (¬7)، قد عدم النطق القلبي واللساني، ومع هذا فهو عاجز لا يقدر على شيء البتّة، ومع هذا فأينما أرسلته لا يأتيك بخير، ولا يقضي لك حاجة، واللَّه سبحانه حي قادر متكلم، يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، وهذا وصف له بغاية الكمال والحمد، فإن أمره بالعدل -وهو الحق- يتضمن أنه سبحانه عالم به، مُعلِّم به (¬8)، راض به، آمرٌ لعباده به، محبٌّ لأهله، لا يأمر بسواه، [بل تنزَّه عن ضدِّه الذي هو الجور والظلم والسّفه والباطل، بل أمره] (¬9) وشرعه عدلٌ كله، وأهل العدل هم أولياؤه وأحباؤه، وهم المجاورون له عن يمينه على منابر من نور (¬10)، ¬
[إن ربي على صراط مستقيم]
وأمره بالعدل يتناول الأمر الشرعي الديني والأمر القدري الكوني، وكلاهما عدل لا جور فيه بوجه ما، كما في الحديث الصحيح: "اللهم إني عبدك [ابنُ عبدك] (¬1) ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عَدْلٌ فيَّ قضاؤك" (¬2) فقضاؤه هو أمره الكوني، فإنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له: كن فيكون، فلا يأمر إلا بحق وعدل، وقضاؤه وقدره (¬3) القائم به حق وعدل، وإن كان في المقضي المقدر ما هو جور وظلم فالقضاء غير المقضي، والقدر غير المقدر. [إنَّ ربي على صراط مستقيم] ثم أخبر سبحانه أنه على صراط مستقيم، وهذا نظير قول رسوله هود (¬4): {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56]؛ فقوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} نظير قوله: "ناصيتي بيدك" (2) وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، نظير قوله: "عدل فيَّ قضاؤك" (2)؛ فالأول ملكه، والثاني حمده، وهو سبحانه له الملك وله الحمد، وكونه [سبحانه] (¬5) على صراط مستقيم يقتضي أنه لا يقول إلا الحق، ولا يأمر إلا ¬
بالعدل، ولا يفعل إلا ما هو مصلحة [ورحمة] (¬1) وحكمة وعدل؛ فهو على الحق في أقواله وأفعاله؛ فلا يقضي على العبد بما يكون ظالمًا له به، ولا يأخذه بغير ذنبه، ولا ينقصه من حسناته شيئًا، ولا يحمل عليه من سيئات غيره التي لم يعملها ولم يتسبب (¬2) إليها شيئًا، ولا يؤاخذ أحدًا بذنب غيره، ولا يفعل قط ما لا يُحمد عليه، ويُثنى به عليه، ويكون له فيه العواقب الحميدة، والغايات المطلوبة، فإن كونه على صراط مستقيم يأبى ذلك كله. قال محمد بن جرير الطبري (¬3): وقوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقول: إن ربي على طريق الحق، يُجازي المحسن من خلقه بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام له، والإيمان به. ثم حكى عن مجاهد من طريق شِبْل [عن] (¬4) ابن أبي نجيح عنه: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: الحق (¬5)، وكذلك رواه ابن جُرَيْج عنه. وقالت فرقة: هي مثل قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14]، وهذا اختلاف عبارة، فإن كونه بالمرصاد هو مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وقالت فرقة: في الكلام حذف، تقديره: إن ربي يحثُّكم على صراط مستقيم ويحضكم عليه؛ وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية التي أريد بها فليس كما زعموا، ولا دليل على هذا المُقدَّر، وقد فَرَّق [اللَّه] (¬6) سبحانه بين كونه آمرًا بالعدل وبين كونه على صراط مستقيم؛ وإن أرادوا أن حَثّه على الصراط المستقيم من جملة كونه على صراط مستقيم فقد أصابوا. وقالت فرقة أخرى: معنى كونه على صراط مستقيم أن مَردَّ العباد والأمور كلها إلى اللَّه لا يفوته شيء منها، وهؤلاء إن أرادوا أن هذا معنى الآية فليس كذلك، وإن أرادوا أن هذا من لوازم كونه على صراط مستقيم ومن مقتضاه وموجبه فهو حق. ¬
فصل
وقالت فرقة أخرى: معناه كل شيء تحت قدرته وقهره وفي ملكه وقبضته، وهذا وإن كان حقًا فليس هو معنى الآية، وقد فَرَّق [عليه السلام] (¬1) بين قوله: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} وبين قوله: {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فهما معنيان مستقلان. فالقول قول مجاهد: وهو قول أئمة التفسير (¬2)، ولا تحتمل العربية غيره إلا على استكراه؛ وقال (¬3) جرير يمدح عمر بن عبد العزيز: أمير المؤمنين على صراط ... إذا اعوجَّ الموارد مستقيم (¬4) وقد قال تعالى: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 36]. وإذا كان سبحانه هو الذي جعل رسله وأتباعهم على الصراط [المستقيم] (¬5) في أقوالهم وأفعالهم؛ فهو [سبحانه] (5) أحق بأن (¬6) يكون على صراط مستقيم في قوله وفعله، [وإن كان صراط الرسل وأتباعهم هو موافقة أمره؛ فصراطه الذي هو سبحانه عليه هو ما يقتضيه حمده وكماله ومجده من قول الحق وفعله] (¬7)، وباللَّه التوفيق. فصل وفي الآية قولٌ ثان مثل الآية الأولى، سواء أنه مثل ضربه اللَّه للمؤمن والكافر، وقد تقدم ما في هذا القول، (وباللَّه التوفيق) (¬8). فصل [في تشبيه من أعرض عن كلام اللَّه وتدبره] ومنها قوله تعالى في تشبيه مَنْ أعرض عن كلامه وتدبُّره: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ ¬
فصل [مثل الذي حمل الكتاب ولم يعمل به]
مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51]، شبَّههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن [بحُمر رأت الأسدَ أو الرماة] (¬1) فَفرَّت منه، وهذا من بديع القياس التمثيلي (¬2)، فإن القوم في جهلهم بما بعث اللَّه به رسوله كالحُمُر، وهي لا تعقل شيئًا، فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور، وهذا غاية الذم لهؤلاء، فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها، وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة؛ فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضًا وحضه على النفور، فإن في (الاستفعال) من الطلب قدرًا زائدًا على الفعل المجرد، فكأنها تواصت بالنفور، وتواطأت عليه، ومن قرأها بفتَح الفاء (¬3)، فالمعنى أن القسورة استنفرها وحملها على النفور ببأسه وشدته. فصل [مثل الذي حُمِّل الكتاب ولم يعمل به] ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] (¬4)} [الجمعة: 5]؛ فقاس من حَمَّلَه [سبحانه] (¬5) كتابَهُ ليؤمنَ به ويتَدَبَّره ويعملَ به ويدعُوَ إليه، ثم خالف ذلك، ولم يحمله إلا على ظَهْر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تَفهُّم ولا اتباع له ولا تحكيم له (¬6) وعمل بموجَبه، كحمارٍ على ظهره زَامِلَةُ أسفارٍ لا يدري ما فيها، وحَظُّه منها حملها على ظهره ليس إلا؛ فحظُّه من كتاب اللَّه كحظِّ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره؛ فهذا المثلُ وإنْ كان قد ضُرِبَ لليهود فهو مُتناوِل من حيث المعنى لمن حَمل القرآن فترك العَمَل به، ولم يؤدِّ حقه، ولم يَرْعَه حقَّ رعايته (¬7). ¬
فصل [مثل من انسلخ من آيات الله]
فصل [مثل من انسلخ من آيات اللَّه] ومنها: قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) [وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ] (¬1) يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف: 175، 176] (¬2) فشبه سبحانه من آتاه كتابَهُ وعَلّمه العلم (¬3) الذي [منعه] (¬4) غيرَه، فترك العملَ به، واتَّبع هواه، [وآثر سَخَطَ اللَّه على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوقَ على الخالق] (¬5) بالكلب الذي هو من أخْبَث الحيوانات، وأوضَعها قَدْرًا، وأخَسِّها (¬6) نفسًا، وهمتُه لا تتعدَّى بطنه، وأشدها شرهًا (¬7) وحرصًا، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمَّمُ ويستروح (¬8) حِرْصًا وشرهًا، ولا يزال يشم دبره دون سائر أجزاءه، وإذا رميت إليه بحَجَر رجع إليه ليعضه من فرط نهمته (¬9) وهو من أمهَنِ الحيوانات، وأحملها للهَوَان، وأرضاها بالدنايا، والجِيَفُ القذرة المُروحَة (¬10) أحبُّ إليه من اللحم الطري، والعذرة أحبُّ إليه من الحلوى (¬11)، وإذا ظفر بميتة تكفي مئة كلب لم يَدع كلبًا واحدًا (¬12) يتناول [معه] (13) [منها شيئًا] (¬13) ¬
[سر بديع في تشبيه من آثر الدنيا بالكلب]
إلا هَرَّ عليه (¬1) [وقهره] (¬2)، لحرصه وبخله وشَرَهه، ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دَنيَّة وحال رزِية نَبَحه وحَمَل عليه، كأنّه يتصور مشاركته له ومنازعته في قوته، وإذا رأى ذا هَيْئة حَسَنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض، وخَضَع له، ولم يرفع إليه رأسه. [سر بديع في تشبيه من آثر الدنيا بالكلب] وفي (¬3) تشبيه من آثر الدنيا وعاجِلَها على اللَّه والدار الآخرة -مع وفور علمه- بالكلب في حال لهفه (¬4) سرٌّ بديع، وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره اللَّه من انسلاخه من آياته واتباعه هواه؛ إنَّما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن اللَّه والدار الآخرة، فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم (¬5) في حال إزعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخَوَان (¬6) في اللفظ والمعنى، قال ابن جُريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، [إن تحمل عليه يلهث أو (¬7) تتركه يلهث، فهو مثل الذي يترك الهدى، لا فؤاد له] (¬8) إنما فؤاده منقطع (¬9). قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنّه ليس له فؤاد يَحْمله على الصبر وترك اللهث؛ وهكذا الذي انسلخ من آيات اللَّه، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها، فهذا يلهف على الدنيا من قلِّة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبرًا عن الماء، وإذا عطش أكلَ الثرى من العطش، وإنْ كان فيه صبر على (¬10) الجوع؛ وعلى كل حال فهو من أشد الحيوانات لهثًا، يلهث قائمًا وقاعدًا وماشيًا [وواقفًا] (¬11)، وذلك لشِّدة حرصه؛ فحرارة الحرص في كبِدِه [توجب له دوامَ اللهث] (8)، فهكذا مُشَبَّههُ شدة الحرص ¬
وحرارة الشهوة (¬1) في قلبه توجب له دوام اللهف، فإن حملتَ عليه بالموْعِظة (¬2) والنصيحة فهو يلهف، [وإنْ تركته ولم تعظه فهو يلهف]، (¬3) قال مجاهد: وذلك مثل (¬4) الذي أُوتي الكتاب ولم يعمل به (¬5)، وقال ابن عباس: إنْ تحملْ عليه الحكمةَ لم يحملها، وإنْ تركته لم يهتد إلى خير، كالكلب إنْ كان رابضًا لهث، وإنْ طرد لهث (¬6)، وقال الحسن: "هو المنافق لا يثبت على الحق، دُعِيَ أو لم يُدْعَ، وُعِظَ أو لم يوعَظْ، كالكلب يلهث طُرِدَ أو ترك (¬7) " وقال عطاء: ينبح إن حملت عليه أو لم تحمل عليه، وقال أبو محمد بن قتيبة: "كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عَطَش [أو علة] (¬8) [إلا] (¬9) الكلب فإنه يلهث في حال الكَلال (¬10) وحال الراحة وحال الصحة وحال المرض [وحال الريّ] (¬11) والعطش. فضربه اللَّه مثلًا لمن كذب بآياته، وقال (¬12): إنْ وعظته فهو ضال، وإن تركته فهو ضال كالكلب إنْ طردته [وزجرته، فسعى] لهث وإن تركته على حاله لهث، ونظيره قوله [سبحانه] (¬13): {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ ¬
[إيتاؤه الآيات والانسلاخ]
أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} " (¬1) [الأعراف: 193]. [إيتاؤه الآيات والانسلاخ] وتأمَّل ما في هذا المثل من الحكم والمعاني (¬2): فمنها قوله: {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فاخبر سبحانه أنه هو الذي آتاه آياته، فإنها نعمة، واللَّه هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها، وفارقها فراق الجلد يُسْلَخ عن اللحم، ولم يقل: فسلخناه منها، لأنه هو الذي تسبِّبَ إلى انسلاخه [منها] (¬3) باتّباع هواه، ومنها قوله [سبحانه] (¬4): {فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ} أي: لحقه وأدركه؛ كما قال [تعالى في فرعون و] (¬5) قوم فرعون: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ} [الشعراء: 60]، وكان (¬6) محفوظًا محروسًا بآيات اللَّه، مَحْمِي الجانب بها من الشيطان، لا ينال منه شيئًا إلا على غِرَّة [وخطفة] (3)، فلما انسلخ من آيات اللَّه ظفر به الشيطان ظَفْرَ الأسدِ بفريسته، فكان من الغاوين العاملين بخلاف عِلْمِهم (¬7)، الذين يعرفون الحقَّ، ويعملون بخلافه، كعلماء السوء. [رفعناه بها] ومنها: أنه [سبحانه] (4) قال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} فأخبر سبحانه أن الرِّفعة عنده ليست بمجرد العلم، فإن هذا كان من العلماء، وإنما هي باتباع الحق وإيثاره وقَصْدِ مرضاة اللَّه، فإنَّ هذا كان من أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه اللَّه بعلمه ولم ينفعه به، فنعوذُ باللَّه من علم لا ينفع، وأخبر سبحانه أنه هو الذي يرفع عبده إذا ¬
[أخلد إلى الأرض]
شاء بما آتاه من العلم، وإن لم يرفعه اللَّه فهو موضوع لا يرفع أحدٌ به رأسًا (¬1)، فإنَّ (1) الخافضَ الرافعَ سبحانَه (¬2) خَفَضَه ولم يرفعه (¬3)، والمعنى: لو (¬4) شئنا فصَّلناه وشَرَّفْنَاه ورفَعْنَا قَدْرَه ومنزلته بالآيات التي آتيناه، قال ابن عباس: ولو شئنا لرفعناه بعلمه بها (¬5)، وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنَاهُ} عائد على الكفر، والمَعْنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكُفْرَ بما مَعَه من آياتنا، قال مجاهد وعطاء: لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعَصْمناه (¬6)؛ وهذا المعنى حق، والأول هو مراد الآية، وهذا من لوازم المراد، وقد تقدم أن السلف كثيرًا ما ينبهون على لازم معنى الآية فيظن الظَّانُّ أن ذلك هو المراد منها. [أخلد إلى الأرض] وقوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} قال سعيد بن جبير: ركَن إلى الأرض (¬7) وقال مجاهد: سكن (¬8)، وقال مقاتل: رَضي بالدنيا وقال أبو عبيدة: لزمها وأَبطأ، والمخلد (¬9) من الرجال هو: الذي يُبْطئ (¬10) مشيته، ومن الدواب: ¬
[اتبع هواه]
التي (¬1) تبقى ثناياه إلى أن تخرج رَبَاعيته (¬2)، وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود وهو الدوام والبقاء (¬3)، ويقال: أخلد فلان بالمكان: إذا أقام به، قال مالك بن نُوَيْرَة (¬4): بأبناء حَيٍّ من قَبائِلِ مالكٍ ... وَعَمرو بْنِ يَرْبُوع أقاموا فأخْلَدُوا (¬5) قلت: ومنه قوله [تعالى] (¬6): {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17]؛ أي قد خلقوا للبقاء؛ [لذلك] (¬7) لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سن واحد [أبدًا] (7)، وقيل: هم المقَرَّطُون في آذانهم والمسَوَّرُون في أيديهم، وأصحاب هذا القول فسَّرُوا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد (¬8) على ذلك السن، فلا تنافي بين القولين. [اتبع هواه] وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} قال الكلبي: اتبع مسافلَ الأمور وترك مَعَاليها، وقال أبو روق (¬9): اختار الدنيا على الآخرة، وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه، ¬
[تفسير الاستدلال في الآية]
وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم (¬1)، يعني: الذين حاربوا موسى وقومه، وقال يمان: اتبع امرأته (¬2) لأنها هي التي حملته على ما فعل. [تفسير الاستدلال في الآية] فإن قيل: لكن للاستدراك؛ فيقتضي أن يثبت بعدها نفي ما قبلها، أو نفي ما أثبت (¬3)، كما تقول: لو شئت لأعطيته لكنِّي لم أُعطِه، ولو شئت لما فعلت كذا لكني فعلته؛ فالاستدراك يقتضي: ولو شئنا لرفعناه بها [ولكنَّا لم نشأ أو لم نرفع، فكيف استدرك بقوله] (¬4): {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} بعد قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا}؟ قيل: هذا من الكلام الملحوظِ فيه جانب المعنى المعدولِ فيه عن مُرَاعاة الألفاظ إلى المعاني، وذلك أن مضمون قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أنه لم يَتَعَاط الأسباب التي تقتضي رَفْعَه (¬5) بالآيات من إيثار اللَّه ومَرْضَاته على هَوَاه، ولكنه آثَرَ الدنيا وأخلد إلى الأرض واتَّبَعَ هواه. وقال الزمخشري: "المعنى ولو لَزِمَ [العمل بالآيات ولم ينسلخ منها] (¬6) لرفعناه بها، [وذلك أن مشيئة اللَّه تعالى رَفْعه تابعة للزومه الآياتِ، فذُكرت] (¬7) المشيئة والمرادُ ما هي تابعة له ومُسَببة (¬8) عنه، كأنه [قيل: ولو لزمها لرفعناه ¬
فصل [مثل من القياس التمثيلي (مثل المغتاب)]
بها] (¬1)، قال: ألا ترى إلى قوله: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} (¬2) فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أن يكون {وَلَوْ شِئْنَا} في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: لو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ" (¬3). فهذا منه شِنْشِنة نعرفها من قَدَرِيٍّ [نافٍ للمشيئة العامة، مُبْعد للنُّجْعة] (¬4) في جعل كلام اللَّه معتزليًا قدريًا، فأين قوله: {وَلَوْ شِئْنَا} من قوله: "ولو لزمها" ثم إذا كان الملزوم لها (¬5) موقوفًا على مشيئة اللَّه وهو الحق بطل أصله، وقوله: "إن مشيئة اللَّه تابعة للزومه الآيات" مِنْ أفْسَدِ الكلام وأبْطَلِهِ، بل لزومُه لآياته تابع (¬6) لمشيئة اللَّه، فمشيئة اللَّه سبحانه متبوعة، لا تابعة، وسبب لا مسبب، وموجبٌ مقتضٍ لا مقتضًى، فما شاء اللَّه وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده (¬7). فصل [مثل من القياس التمثيلي (مثل المغتاب)] منها (¬8) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ] (¬9) إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)} [الحجرات: 12]، وهذا من أحسن القياس التمثيلي، فإنه شَبَّه تمزيق عِرْضِ الأخ بتمزيق لحمه، ولما كان المُغْتَابُ يمزق ¬
فصل [مثل بطلان أعمال الكفار]
عرضَ أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطع لحمه في حال غيبة روحه عنه بالموت، ولما كان المغتاب عاجزًا عن دَفْعِه عن نفسه بكونه غائبًا عن ذمِّه كان بمنزلة الميت الذي يقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه، ولما كان مُقْتَضَى الأخوة التراحُمَ والتواصُلَ والتناصر فعلّق عليها المغتاب ضدَّ مقتضاها من الذم والعَيْب والطعن كان ذلك نظيرَ تقطيع لحم (¬1) أخيه، والأخوة تقتضي حِفْظَه وصيانته والذبَّ عنه، ولما كان المغتاب [متمتعًا بعرض أخيه] (¬2) متفكهًا بِغِيبته (¬3) وذمه متحلِّيًا بذلك شُبِّه [بآكل لحم أخيه بعد تقطيعه، ولمَّا كان المغتاب محبًا لذلك مُعْجَبًا به شُبَّه] (¬4) بمن يُحب أكل لحم أخيه ميتًا، ومحبته لذلك قَدْرٌ زائد على مجرد أكله، كما أن أكله قدرٌ زائد على تمزيقه (¬5). فتأمل هذا التشبيهَ والتمثيلَ وحُسْنَ مَوْقِعه ومُطابقةَ المعقول فيه المحسوس، وتأمل إخباره عنهم بكراهة أكْلِ لحم الأخ ميتًا، ووصْفهم بذلك في آخر الآية، والإنكار عليهم في أولها أن يُحِبَّ (¬6) أحدهم ذلك، فكَمَا أن هذا مكروه في طباعهم فكيف يحبون ما هو مثله ونظيره؟ فاحتجَّ عليهم بما كرهوه على ما أحبوه، وشَبَّه لهم ما يحبونه بما هو أكره شيء إليهم، وهو أشدُّ شيء نُفْرَةً عنه؛ فلهذا يوجِبُ العقلُ والفِطْرَة والحكمة أن يكونوا أشدَّ شيء نفرةً عما هو نظيره ومشبهه، وباللَّه التوفيق. فصل [مثل بطلان أعمال الكفار] ومنها قوله [تعالى] (¬7): {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)} [إبراهيم: 18]؛ فشبه تعالى (¬8) أعمالَ الكفار في بُطْلانها وعدم الانتفاع بها برمَادٍ مَرَّتْ عليه ريحٌ شديدة في يوم عاصف، فشَبَّه [سبحانه] (¬9) أعمالهم -في حُبُوطها ¬
[أنواع الأعمال]
وذَهَابها باطلًا كالهَباء المنثور لكونها على غير أساس من الإيمان والإحسان، وكَوْنِها لغير اللَّه [عز وجل] (1) وعلى غير أمره- برمادٍ طَيَّرَتْهُ الريحُ العاصفُ فلا يقدر صاحبُه على شيء منه وقتَ شدة حاجته إليه؛ فلذلك قال: {لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ}، لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، فلا يرون له أثرًا من ثواب ولا فائدة نافعةً، فإن اللَّه لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا لوجهه، موافقًا لشَرْعه. [أنواع الأعمال] والأعمالُ أربعة، فواحِدٌ مقبول وثلاثة مردودة؛ فالمقبولُ: الخالصُ الصوابُ، فالخالص أن يكون للَّه لا لغيره، والصواب أن يكون مما شَرعه [اللَّه] (¬1) على لسان رسوله، والثلاثة المردودة ما خالف ذلك. [في تشبيه الأعمال المردودة سرٌّ بديع] وفي تشبيهها [بالرماد سرٌّ بديع، وذلك للتشابه الذي بين أعمالهم وبين الرماد] (¬2) في إحراق النار وإذهابها لأصل هذا وهذا، فكانت الأعمال التي لغير اللَّه وعلى غير مُرَاده طعْمَةً للنار، وبها تسَعَّر النار على أصحابها، ويُنشئُ اللَّه [سبحانه] (1) لهم من أعمالهم الباطلة نارًا وعذابًا، كما ينشئ لأهل الأعمال الموافقة لأمره [ونهيه] (1) التي هي خالصة لوجهه من أعمالهم نعيمًا ورَوْحًا (¬3)، فأثرَّت النار في أعمال أولئك حتى جعلتها رَمادًا، فهم وأعمالهم وما يعبدون من دون اللَّه وقود النار. فصل [مثل الكلمة الطيبة] ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ [أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ] (¬4)} [إبراهيم: 24]؛ فشَبَّهَ سبحانه [وتعالى] (1) ¬
[مفهوم الكلمة الطيبة والأصل الثابت والفرع الذي في السماء]
الكلمةَ الطيبة بالشجرة الطيبة؛ لأن الكلمة الطيبة تُثْمِرُ العملَ الصالح، والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع. [مفهوم الكلمة الطيبة والأصل الثابت والفرع الذي في السماء] وهذا طاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون: "الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا اللَّه"، فإنها تُثْمِر جميعَ الأعمال الصالحة الظاهرة والباطنة، وكل عمل صالح مَرْضِيٍّ للَّه ثمرة هذه الكلمة، وفي "تفسير علي بن أبي طلحة"، عن ابن عباس قال: "كلمة طيبة: شهادة أن لا إله إلا اللَّه، كشجرة طيبة وهو المؤمن، أصلها ثابت: قول لا إله إلا اللَّه، في قلب المؤمن، وفرعُها في السماء، يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء" (¬1). وقال الربيع بن أنس: "كلمة طيبة هذا مثل الإيمان؛ فالإيمان (¬2): الشجرة الطيبة، وأصلها الثابت الذي لا يزول: الإخلاص فيه، وفَرْعه في السماء: خشية اللَّه" (¬3) والتشبيه على هذا القول أصَحُّ وأظْهَر وأحسن؛ فإنه سبحانه شَبَّه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتةِ الأصْلِ الباسِقَةِ الفَرْع في السماء علوًا، التي لا تزال تُؤتي ثمرتها كل حين، وإذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقًا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب، التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدةٌ إلى السماء. [أثر التوحيد في عبادة الإنسان وسلوكه وخُلُقه] ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت، بحسب ثباتها في القلب، ومحبة القلب لها، وإخلاصه فيها، ومعرفته بحقيقتها، وقيامه بحقوقها (¬4)، ومُرَاعاتها حق رعايتها، فمن رَسَخَت هذه الكلمةُ في قلبه بحقيقتها التي هي ¬
[أثر كلمة التوحيد]
حقيقتها واتَّصَف قلبُه بها وانْصَبَغَ بها بصبغة اللَّه التي لا أحسن صبغةً منها، فعرف حقيقة الإلهيَّة التي يُثْبتها (¬1) قلبه للَّه ويَشهد بها (¬2) لسانُه وتُصَدِّقها جوارحه، ونَفَى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى اللَّه، وواطأ قلبُه لسانَه في هذا النفي والإثبات، وانقادتْ جوارحُه لمن شهد (¬3) له بالوحدانية طائعةً سالكةً سبلَ ربه ذُللًا غير ناكبةٍ عنها ولا باغيةٍ سواها بدلًا، كما لا يبتغي القلبُ سوى معبوده الحق بدلًا؛ فلا ريب أنَّ هذه الكلمة مِنْ هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تُؤتي ثمرها (¬4) من العمل الصالح الصاعِدِ [إلى اللَّه كل وقت؛ فهذه] (¬5) الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح الصاعد (¬6) إلى الربِّ [تعالى] (¬7)، وهذه الكلمة الطيبة تُثمرُ كَلِمًا (6) كثيرًا طيِّبًا يقارنه (¬8) عملٌ صالح فيرفعُ العملُ الصَّالحُ الكلمَ الطيب، كما قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]؛ فأخبر سبحانه (¬9) أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب، وأخبر أن الكلمة الطيبة تُثْمر لقائلها عملًا صالحًا كل وقت. [أثر كلمة التوحيد] والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد بها المؤمنُ عارفًا بمعناها (¬10) وحقيقتها نفيًا وإثباتًا مُتَّصفًا بموجَبها قائمًا قلبُه ولسانه وجوارحه بشهادته، فهذه الكلمة [الطيبة هي التي رَفَعَتْ هذا العمل] (¬11) من هذا الشاهد، أصلها ثابت راسخ في قلبه، وفروعها مُتَّصلة بالسماء، وهي مخرجة لثمرتها كل وقت. [الشجرة الطيبة] ومن السلف من قال: إن الشجرة الطيبة هي النخلة، ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح (¬12)، ومنهم من قال: هي المؤمن نفسه، كما قال محمد بن سعد: ¬
[من المقصود بالمثل؟ وأسرار المثل]
حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} يعني بالشجرة الطيبة المؤمن، ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء، يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ عمله وقوله السماء وهو في الأرض (¬1)، وقال عطية العَوْفي في قوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} قال: ذلك مثل المؤمن، لا يزال يخرُجُ منه كلامٌ طيب وعمل صالح يصعد إلى اللَّه (¬2)، وقال الربيع بن أنس: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} قال: ذلك المؤمن، ضُرب مثلُه في الإخلاص للَّه وحده وعبادته وَحْدَه لا شريكَ له، أصلها ثابت، قال: أصل عمله ثابت في الأرض، وفرعها في السماء، قال: ذِكرُه في السماء (¬3)، ولا اختلاف (¬4) بين القولين. [من المقصود بالمَثَل؟ وأسرار المَثَل] فإن المقصود (¬5) بالمَثَل المؤمن، والنخلة مُشبَّهةٌ به وهو مُشبَّه بها، وإذا كانت النخلة شجرةً طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك، ومن قال من السلف: إنها شجرة في الجنة، فالنخلة من أشرف أشجار الجنة. [بعض أسرار تشبيه المؤمن بالشجرة] وفي هذا المثل من الأسرار والعلوم والمعارف ما يليق به، ويقتضيه علمُ الذي تكلم به وحكمته. ¬
فمن ذلك أن الشجرة لا بد لها من عروق [وساقٍ وفروع] (¬1) وورق وثمر، فكذلك شجرة الإيمان والإسلام؛ ليطابق المُشَبَّه المشبَّه به؛ فعروقها العلم والمعرفة واليقين، وساقها الإخلاص، وفروعُها الأعمال، وثمرتُها ما توجبه الأعمال الصالحة من الآثار الحميدة والصِّفات الممدوحة والأخلاق الزكيَّة والسَّمْتِ الصالح والهَدْي والدَّلِّ المرضِيِّ، فيُستدل على غَرْسِ هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه الأمور، فإذا كان العلمُ صحيحًا مطابقًا لمعلومه الذي أنزل اللَّه كتابه به، والاعتقادُ مطابقًا لما أخبر به عن نفسه وأخبرت به عنه رسُلُه، والإخلاصُ قائم في القلب، والأعمال موافقة للأمر، والهدْي والدَّلُّ والسَّمْت مُشَابه لهذه الأصول مناسبة (¬2) لها، عُلِمَ أن شَجرةَ الإيمان في القلب أصلُها ثابت وفرعها في السماء، وإذا كان الأمر بالعكس عُلِم أن القائم بالقلب إنما هو الشجرة الخبيثة التي اجْتُثَّتْ من فوق الأرض ما لها من قَرار. ومنها: أن الشجرة لا تَبْقَى حيةً إلا بمادة تَسْقيها وتُنْميها، فإذا قُطِعَ (¬3) عنها السقي أوشَكَ (¬4) أن تيبس، فهكذا شجرة الإسلام في القلب إنْ لم يتعاهَدْهَا صاحبُها بسَقْيِها كلَّ وقت بالعلم النافع (¬5) والعمل الصالح والعَوْد بالتّذكُّرِ على التَّفكُّر والتَّفكُّر على التذَّكُّر، إلا أوشَكَ (4) أن تَيْبس، وفي "مسند الإمام أحمد" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الإيمان يَخْلَقُ في القلب كما يَخْلَقُ الثَّوبُ، فجدِّدُوا إيمانكم" (¬6)، وبالجملة فالغَرْسُ إن لم يتعاهده صاحبه ¬
أوشَكَ أن يهلك، ومن هنا تعلم شدة حاجة العباد إلى ما أمر اللَّه به من العبادات على تعاقب الأوقات وعظيم رحمته وتمام نعمته وإحسانه إلى عباده بأن وظَّفَها عليهم (¬1)، وجعلها مادةً لسَقْي غراس التوحيد الذي غَرَسَه في قلوبهم. ومنها: أن الغرس والزرع النافع قد أجرى اللَّه [سبحانه] (¬2) العادةَ [أنه] (2) لا بُدَّ أن يُخَالطه دَغَل ونَبْتٌ غريب ليس من جنسه، فإنْ تَعَاهده رَبُّه ونَقَّاه وقَلَعه كمل (¬3) الغرس والزرع، واستوى، وتَمَّ نباتُه، وكان أوْفَرَ لثمرته، وأطيَبَ وأزكى، وإنْ تركه أوشَكَ أن يغلب على الغرس والزرع، ويكون الحكم له، أو يضعف الأصل ويجعل الثمرة ذميمة (¬4) ناقصة بحسب كثرته وقلَّته، ومَنْ لم يكن له فِقْهُ نفسٍ في هذا ومعرفة به، فاته (¬5) ربْحٌ كبير (¬6) وهو لا يشعر؛ فالمؤمن دائمًا سعيُه في شيئين: سَقْي هذه الشجرة، وتنقية ما حولها، [فبسقيها تبقى] (¬7) وتدوم، [وبتنقية ما حولها] (¬8) تكمل (¬9) وتتم، واللَّه المستعان وعليه التُّكْلَان. [ولا حول ولا قوة إلا به] (¬10). فهذا بعض ما تَضَمَّنه هذا المثلُ العظيم الجليل من الأسرار والحِكم، ولعلها ¬
فصل [مثل الكافر: مثل الكلمة الخبيثة]
قَطْرة من بَحْرٍ بحسب أذهاننا الواقفة، وقلوبنا المخبطة (¬1)، وعلومنا القاصرة، وأعمالنا التي توجبُ التوبةَ والاستغفار، وإلا فلو طَهُرَتْ منا القلوب، وصفت الأذهانُ، وزكَتِ النفوسُ، وخَلُصت الأعمالُ، وتجرَّدت الهِمَم للتَلقِّي عن اللَّه ورسوله؛ لشَاهَدْنَا من معاني كلام اللَّه وأسراره وحِكَمه ما تضمحِلُّ عنده العلوم، وتتلاشى عنده معارفُ الحق، وبهذا تعرف (¬2) قدرَ علوم الصحابة ومعارفهم [رضي اللَّه عنهم] (3)، وأنَّ التفاوت الذي بين علومهم وعلوم مَنْ بعدهم كالتفاوت الذي بينهم في الفضل، واللَّه أعلم حيث يجعل مواقعَ فضله، ومَنْ يختصُّ برحمته. فصل [مثل الكافر: مثل الكلمة الخبيثة] ثم ذكر [سبحانه] (¬3) مثل الكلمة الخبيثة (¬4) فشبَّهها بالشَّجرة الخبيثة التي اجْتُثَّتْ من فوق الأرض [ما لها من قرار] (3)، فلا عِرْقٌ ثابت، ولا فَرعْ عالٍ، ولا ثمرة زاكية، ولا ظل، ولا جَنًى، ولا ساقٌ قائم، ولا عرق في الأرض ثابت، فلا أسفلها مُغْدِق، ولا أعلاها مُوْنِق، ولا جَنَى لها، ولا تعلوا بل تُعْلى. واذا تأمل اللبيبُ [أكثر] (¬5) كلام هذا الخلق في خطابهم وكُتبهم (¬6) وجَدَه كذلك؛ فالخسران [كل الخسران] (¬7) الوقوفُ معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه. قال الضحاك: ضرب اللَّه مثلًا للكافر بشجرة اجْتُثَّتْ من فوق الأرض ما لها من قرار، يقول: ليس لها أصل ولا فرع، وليس لها ثمرة، ولا فيها منفعة (¬8)، كذلك الكافر ليس يعمل (¬9) خيرًا ولا يقوله، ولا يجعل اللَّه فيه بركة ولا منفعة (¬10). ¬
وقال ابن عباس: ومثلُ كلمةٍ خبيثة -وهي الشرك- كشجرة خبيثة، يعني: الكافر، [قال]: {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}، يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان، ولا يقبل اللَّه مع الشرك عملًا (¬1)، فلا يُقبل عملُ المشرك، ولا يصعد إلى اللَّه، فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء؛ يقول: ليس له عمل صالح في [الدنيا ولا في الآخرة] (¬2). وقال الربيع بن أنس: مثل الشجرة الخبيثة مثلُ الكافر، ليس لقوله ولا لعمله أصل ولا فرع، [ولا يستقر قولُه ولا عملُه على الأرض] ولا يصعد إلى السماء (¬3). وقال سعيد، عن قتادة في هذه الآية: إن رجلًا لَقِيَ رجلًا من أهل العلم فقال له: ما تقول في الكلمة الخبيثة؟ قال: لا أعلم لها في الأرض مستقرًا، ولا في السماء مَصْعدًا، إلا أن تلزم عُنُقَ صاحبها حتى يوافي [بها يوم القيامة] (¬4). وقوله: {اجْتُثَّتْ} أي: استُؤْصِلَت من فوق الأرض، ثم أخبر سبحانه عن فضله وعَدْله في الفريقين، أصحاب الكلم الطيب والكلم الخبيث، فأخبر أنه يُثَبِّتُ الذين آمنوا بإيمانهم بالقول الثابت أحْوَجَ ما يكونون إليه في الدنيا والآخرة، وأنه يُضِل الظالمين وهم المشركون عن القول الثابت، فأضَلَّ هؤلاء -بعَدْله- لظُلْمهم (¬5)، وثَبَّتَ المؤمنين -بفضله- لإيمانهم. ¬
[يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت, وما فيه من أسرار]
[يثبت اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت, وما فيه من أسرار] وتحت قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} كنز عظيم مَنْ وُفقَ (¬1) لمظنته وأحْسَنَ استخراجَه واقتناءه وأنفق منه فقد غَنِم، ومن حُرِمَه فقد حُرم، وذلك أن العبد لا يستغني عن تثبيت اللَّه له طَرْفَةَ عينٍ، فإنْ لم يثبته وإلا زالَتْ سماءُ إيمانه وأرضه عن مكانهما، وقد قال تعالى لأكرم خَلْقه عليه عبده ورسوله: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74]، وقال [تعالى لأكرم خلقه] (¬2): {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنفال: 12]، وفي "الصحيحين" من حديث التَّجلِّي (¬3): قال: "وهو يسألهم ويثبِّتُهم" (¬4) وقال تعالى لرسوله: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120]؛ فالخلق (¬5) كلهم قسمان: مُوَفَّق بالتثبيت، ومَخْذُول بترك التثبيت، ومادةُ التثبيتِ أصله ومنشأه من القول الثابت وفعلِ ما أُمِرَ به العبدُ، فبهما يُثبِّتُ اللَّه عبدَه، وكل من كان (¬6) أثبتَ قولًا وأحسنَ فعلًا كان أعظَمَ تثبيتًا؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)} [النساء: 66]؛ فأثبتُ الناسِ قلبًا أثبتهم قولًا، والقول الثابت هو القول الحق والصدق، وهو ضد القول الباطل الكذب؛ فالقول نوعان: ثابت له حقيقة، وباطل لا حقيقة له، وأثبتُ القول كلمة التوحيد ولوازمها، فهي أعظم ما يثبت اللَّه بها عباده (¬7) في الدنيا والآخرة؛ ولهذا ترى الصَّادقَ من أثبت الناس وأشْجَعِهم قلبًا، والكاذبَ مِنْ أمْهَن الناس وأجبنهم (¬8) وأكثرهم تَلَوُّنًا وأقلهم ثباتًا، وأهلُ الفِرَاسة يعرفون صدق الصادق من ثَبَات قلبه وقت الاختبار (¬9)، وشجاعَتِهِ ¬
[سؤال القبر والتثبيت فيه]
ومَهَابته، ويعرفون كذبَ الكاذب بضد ذلك؛ ولا يخفى ذلك إلا على ضعيف البصيرة. وسئل بعضُهم عن كلام سَمِعَه من مُتكلِّم به، فقال: واللَّه ما فهمتُ منه شيئًا، إلا أني رأيتُ لكلامه صَوْلَةً ليست بصَوْلة مُبْطِل، فما مُنِحَ العبدُ منحةً أفْضَلَ من منحة القول الثابت، ويجد أهلُ القول الثابت ثمرته أحوجَ ما يكونون إليه في قبورهم ويوم مَعَادهم، كما في "صحيح مسلم" من حديث البَرَاء بن عازب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن هذه الآية (¬1) نَزَلت في عذاب القبر (¬2). [سؤال القبر والتثبيت فيه] وقد جاء [هذا] (¬3) مُبيَّنًا في أحاديث صحاح؛ فمنها ما في "المسند" من حديث داود بن أبي هند، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال: "كنا مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنازة، فقال: يا أيها الناس إنّ هذه الأمة تُبْتَلَى (¬4) في قبورها، فإذا الإنسان دُفن وتَفرَّق عنه أصحابه جاءه مَلَكٌ بيده مِطْرَاق فأقعده، فقال: ما تقول في هذا الرجل؟ فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فيقول له: صدقتَ، فيُفتح له بابٌ إلى النار فيُقال له: هذا منزلك لو كَفَرْتَ بربِّك، فأما إذا آمنتَ فإنَّ اللَّه أبْدَلَكَ به هذا، ثم يُفتح له بابٌ إلى الجنة، فيريد أن ينهض له، فيُقال له: اسْكُنْ، ثم يُفْسَح له في قبره، وأما الكافر والمنافق؛ فيُقال له: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، فيقال له: لا دَرَيْتَ ولا اهْتَدَيْتَ، ثم يُفتح له بابٌ إلى الجنة، فيُقال له: هذا منزلك لو آمَنْتَ بربك، فأما إذا كفرتَ، فإن اللَّه أبدلك به هذا، ثم يُفتح له بابٌ إلى النار، ثم يقمعه المَلَكُ بالمطراق قمعةً يسمعه خلقُ اللَّه كلهم إلا الثقلين، قال (¬5) بعض أصحابه: يا رسول اللَّه، ما مِنَّا من أحد يقوم على رأسه مَلَكٌ بيده مِطْرَاق إلا ¬
هِيلَ (¬1) عند ذلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُثَبِّتُ اللَّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل اللَّه الظالمين، ويفعل اللَّه ما يشاء" (¬2). وفي "المسند" نحوه من حديث البراء بن عازب، وروى المِنْهَال بن عَمرو، عن زَاذَان، عن البَرَاء قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذَكَرَ قَبْضَ روحِ المؤمن فقال (¬3): يأتيه آتٍ -يعني في قبره- فيقول: مَنْ رَبُّكَ؟ وما دينُكَ؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي اللَّه، والإسلام ديني (¬4)، ونبيي محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: فينتهِرُه (¬5) فيقول: من (¬6) ربك؟ وما دينك؟ وهي في آخر فتنة تعرض على المؤمن، فذلك قولُ اللَّه تعالى (¬7): {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، فيقول: ربي اللَّه، وديني الإسلام، ونبيي محمد (¬8)، فيقال له: صدقت" وهذا حديث صحيح (¬9). ¬
وقال حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ [وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ]} (¬1) قال: إذا قيل له في القبر: مَنْ رَبُّك؟ وما دينك؟ فيقول: ربي اللَّه، وديني الإسلام، ونَبِيِّي محمد، جاءنا بالبينات [والهدى] (¬2) من عند اللَّه، فآمنْتُ به وصَدَّقتُ، فيقال له: صَدقْتَ: على هذا عشْتَ، وعليه متَّ، وعليه تُبْعَثُ" (¬3) وقال الأعمش، عن المِنْهال بن عمرو، وعن زَاذَان، عن البراء بن عازب قال: "قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر قَبْضَ روح المؤمن، قال: فترجِعُ روحه في جَسَده، ويُبْعَثُ إليه ملكان شديدا الانتهار، فيجلسانه وَينْتَهِرَانه (¬4) ويقولان (¬5): مَنْ ربك؟ فيقول: اللَّه، وما (¬6) دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل أو النبي الذي بُعث فيكم؟ فيقول: محمد رسول اللَّه، فيقولان (¬7) له: وما يُدْرِيك؟ قال: فيقول (¬8): قرأت كتاب اللَّه فآمنت به وصَدَّقْتُ، فذلك (¬9) قول اللَّه تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ ¬
الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} رواه ابن حبَّان في "صحيحه" (¬1)، والإمام أحمد، وفي "صحيحه" أيضًا من حديث أبي هريرة يرفعه، قال: "إن الميت ليَسْمَعُ خَفْقَ نعالهم حين يُوَلون عنه مُدْبِرين، فإذا كان مؤمنًا كانت الصلاةُ عند رأسِهِ، والزكاة عن يَمينه، والصيام (¬2) عن يساره، وكان فعلُ الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيُؤتَى من عند رأسه؛ فتقول الصلاة: ما قِبَلي مدخل، فيُؤتى عن يمينه، فتقول الزكاة: ما قِبلي مَدْخَل، فيُؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قِبلي مَدْخل، فيُؤتى من عند رجليه، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس: ما قِبلي مَدْخل، فيقال له: اجلس، فيجلس قد مُثِّلت [له] (¬3) الشَّمس قد دَنَتْ للغروب، فيقال له: أخبرنا عن ما نسألك عنه؟ فيقول: دعُوني حتى أصلي، فيقال: إنك ستفعل، فأخبرنا عما نسألك، فيقول: وعمَّ تسالوني؟ فيقال له: أرأيْتَ هذا الرجُلَ الذي كان فيكم، ماذا تقول فيه؟ وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد [-صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فيقال] (¬4): نعم، فيقول: أشهد أنه رسول اللَّه، وأنه جاء بالبينات من عند اللَّه فَصَدَّقناه، فيقال له: على ذلك حَيِيتَ، وعلى ذلك مِتَّ، وعلى ذلك تُبْعَثُ إن شاء اللَّه، ثم يُفْسَحُ له في قبره سبعون ذراعًا، وينَوَّر له فيه، ثم يفتح له بابٌ إلى الجنة، فيقال له: انظر إلى ما أعَدَّ اللَّه لك فيها (¬5)، فيزداد غبطَةً وسرورًا، ثم تُجعل نسمته في النَّسَم (¬6) الطيب، وهي طير خُضْر تعلَق بشجر الجنة، ويعاد الجسدُ إلى ما بدأ منه من التراب، وذلك قول اللَّه تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} " (¬7). ¬
فصل [مثل المشرك]
ولا تستَطِلْ هذا الفصلَ المعترض في المفتي والشاهد والحاكم، [بل] (¬1) وكل مسلم أشد ضرورة إليه من الطعام والشراب والنفس، وباللَّه التوفيق، [وإليه الملجأ] (¬2). فصل [مثل المشرك] ومنها قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)} [الحج: 30، 31]، فتأمل هذا المثلَ ومطابَقَتَهُ لحال مَنْ أشرك باللَّه وتعلَّق بغيره، ويجوز لَكَ في هذا التشبيه أمران: أحدهما: أن تجعله تشبيهًا مركَّبًا، ويكون قد شبه مَنْ أشْرَك باللَّه، وعَبَدَ معه غيرَه [برجل] (¬3) قد تسبَّب إلى هَلاكَ نفسه هلاكًا لا يُرْجَى معه نجاةٌ، فصَوَّرَ حاله بصورة حالِ مَنْ خَرَّ من السماء فاختطفته الطيرُ في الهوى فتمزَّق مِزعًا (¬4) في حواصلها، أو عَصَفَتْ به الريحُ حتى هَوَتْ به (¬5) في بعض المطارح البعيدة، وعلى هذا لا تنظر (¬6) إلى كل فرد من أفراد المشبَّه ومُقَابِله (¬7) من المُشَبَّه به. والثاني: أن يكون من التشبيه المُفَرَّقِ، فيقابَلُ كلُّ واحدٍ من أجزاء الممثَّلِ بالممثَّل به، وعلى هذا فيكون قد شَبَّهَ الإيمانَ والتوحيدَ في عُلُوه وسَعَته [وشَرَفه] (1) بالسماء التي هي مصْعَدُهُ ومَهْبطُه، فمنها يهبط إلى الأرض، وإليها يصعد منها، وشبَّه تارك الإيمان والتوحيد بالسَّاقط من السماء إلى أسفل سافلين من حيث الضيق (¬8) الشديدُ والآلام المتراكمة والطيرُ التي تخطف (¬9) أعضاءه وتمزِّقُه كل ممزَّقٍ بالشياطين التي يُرْسِلُها اللَّه سبحانه [وتعالى] (1) عليه وتَؤُزُّهُ أزًّا ¬
فصل [قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون الله]
وتزعجه [وتقلقه] (¬1) إلى مَظَانِّ هلاكه (¬2)؛ فكل شيطانٍ له مزعة من دِينِه وقلبه، كما أن لكل طير مزعة من لحمه وأعضائه، والريح التي تهوي به في مكان سحيق هو هَوَاه الذي يحمله على إلقاء نفسه في أسفلِ مكانٍ وأبعدِه من السماء. فصل [قدرة الذين يدعوهم المشركون من دون اللَّه] ومنها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ [وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ] (¬3) إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)} [الحج: 73، 74]، حقيق على كل عبد أن يستمع قلبُه لهذا المثل، ويتدبره حقَّ تدبره، فإنه يقطع مواردَ (¬4) الشرك من قلبه، وذلك أن المعبود أقلُّ درجاته أن يقدِرَ على إيجاد ما ينفع عابدَه وإعدام ما يضرُّه، والآلهةُ التي يعبدها المشركون من دون اللَّه لن تقدرَ على خَلْق الذباب (¬5) ولو اجتمعوا كلهم لخلقه، فكيف ما هو أكبر [منه] (¬6)؟ ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سَلَبهم شيئًا مما عليهم من طِيب ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلَقْ الذباب الذي هو من أضعفِ الحيواناتِ ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سَلَبهم (¬7) إياه، فلا أعْجَزَ من هذه الآلهة، ولا أضعف منها، فكيف يَستحسن عاقلٌ عبادتها من دون اللَّه؟ وهذا المثلُ من أبلغ ما أنزل اللَّه [سبحانه في بُطْلَان الشرك] (¬8)، وتجهيل أهله، وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تَلاعَبَ بهم أعْظَمَ من تلاعب الصبيان بالكرة حيث أعْطَوا الإلهيِّة التي مِنْ بعض لوازمها القدرةُ على جميع المقدورات، والإحاطة بجميع المعلومات، والغنى عن جميع المخلوقات، وأن يُصْمدَ (¬9) إلى الربِّ في جميع الحاجات، وتفريج الكُرُبات، وإغاثة اللهفات، ¬
فصل [مثل المقلدين والمقلدين]
وإجابة الدعوات، فأعطوها صورًا وتماثيل يمتنع عليها (¬1) القدرةُ على أقلِّ مخلوقاتِ الإله (¬2) الحق وأذلِّها وأَصْغرِها وأَحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه. وأدلُّ من ذلك على عَجْزهم وانتفاء [إلا هيَّتهم] (¬3) أن هذا الخلقَ الأقلَّ الأذلَّ العاجز الضعيفَ لو اختطَفَ منهم شيئًا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك، ولم يقدروا عليه، ثم سَوَّى بين العابد والمعبود في الضَّعْف والعجز بقوله: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} قيل: الطالب العابد، والمطلوب المعبود، فهو عاجزٌ متعلِّق بعاجز، وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب، وهو تسوية بين الآلهة (¬4) والذباب في الضَّعْف والعَجْز؛ وعلى هذا فقيل: الطالبُ: الإله الباطل، والمطلوب: الذباب يطلب منه ما استلبه منه (¬5)، وقيل: الطالب الذباب، والمطلوب الإله؛ فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه، والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع، فضَعُف العابدُ والمعبودُ، والمُستلِب والمُستَلَب (¬6)؛ فمَنْ جعل هذا إلهًا مع القوي العزيز فما قَدَرَه حقَّ (¬7) قَدْره، ولا عَرَفه حقَّ معرفته، ولا عَظَّمه حق تعظيمه (¬8). فصل [مثل المقلِّدين والمقلَّدين] ومنها قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)} [البقرة: 171]، فتضمَّن هذا المثلُ ناعقًا، أي: مُصَوِّتًا بالغنم وغيرها، ومنعوقًا به وهو الدوَابُّ، فقيل: الناعق العابد، وهو الداعي للصنم، والصنم هو المَنْعُوقُ به المدعُوُّ، وإنَّ حالَ الكافر في دعائه كحال من يَنْعق بما لا يسمعه، هذا قول طائفة منهم عبد الرحمن بن زيد وغيره (¬9). ¬
واستشكل صاحبُ "الكشاف" وجماعة معه هذا القول، وقالوا: قوله: {إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً} لا يساعد عليه؛ لأن الأصنام لا تسمع دعاءً ولا نداءً (¬1). وقد أجيب عن هذا الاستشكال (¬2) بثلاثة أجوبة: أحدها: أن "إلا" زائدة، والمعنى بما لا يسمع دعاء ونداء، قالوا: وقد ذكر ذلك الأصمعيُّ في قول الشاعر: حَرَاجِيحُ ما تَنْفَكُ إلَّا مُنَاخَةً (¬3) أي: ما تنفك مُنَاخة، وهذا جواب فاسد، فإن "إلا" لا تزاد في الكلام. الجواب الثاني: أن التشبيه وقَعَ في مطلق الدعاء لا في خصوصيات المدعو. الجواب الثالث: [أن المعنى] (¬4) أن مَثَل هؤلاء في دعائهم آلهتَهم التي لا تفقَه دعاءهم كمثل الناعِقِ بغنمه، فلا ينتفع من نعيقه (¬5) بشيء، غير أنه هو في دعاء ونداء. وكذلك (¬6) المشركُ ليس له من دعائه وعبادته إلا العَنَاء. وقيل: المعنى: ومَثَلُ الذين كفروا كالبهائم التي لا تَفْقَهُ مما (¬7) يقول الراعي أكْثَرَ من الصوت؛ فالراعي هو داعي الكُفَّار، والكفار هم البهائم المَنْعوق بها. [قال سيبويه: [المعنى] (¬8): ومثلكَ يا محمد ومَثلُ [الذين كفروا] (¬9) كمثل الناعق والمنعوق به] (¬10)؛ وعلى قوله فيكون [المعنى] (8): ومثل الذين كفروا ودَاعيهم كمثل الغنم والناعق بها. ¬
فصل [مثل المنفقين في سبيل الله]
ولك أنْ تجعلَ هذا من التشبيه المركَّب، وأن تجعله من التشبيه المُفرَّق، فإنْ جعلتَه من المركب كان تشبيهًا للكفار -في عَدَم فِقْههم (¬1) وانتفاعهم- بالغنم التي يَنْعِقُ بها الراعي فلا تفقهُ من قوله شيئًا غيرَ الصَّوتِ المجرَّد الذي هو الدعاء والنداء (¬2)، وإنْ جعلتَه من التشبيه المفَرَّق، فالذين كفروا بمنزلة البهائم، [ودعاءُ داعيهم إلى الطَّريق والهدى بمنزلة الذي ينعق بها] (¬3) ودعاؤهم إلى الطريق والهدى بمنزلة النعيق (¬4)، وإدراكهم مجرد الدعاءِ والنداءِ كإدراك البهائم مجردَ صوت الناعق، واللَّه أعلم (¬5). فصل [مثل المنفقين في سبيل اللَّه] ومنها قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة: 261]؛ شبه سبحانه المُنْفِقَ في سبيله، سواء كان المراد به الجهاد، أو جميع سبل الخير من كل بر، بمن بَذَرَ بَذْرًا فأنبتتْ كل حبةٍ منه سبعَ سنابل، اشتملَتْ كلُّ سنبة على مئة حبة، واللَّه يضاعف [لمن يشاء فوق] (¬6) ذلك بحسب حال المُنْفِق وإيمانه وإخلاصه وإحسانه ونَفْع نفقته وقَدْرها ووقُوعها موقعَهَا؛ فإن ثواب الإنفاق يتفاوت بحسب ما يقوم بالقلب من الإيمان والإخلاص والتثبيت عند النفقة، وهو إخراجُ المال بقلبٍ ثابت قد انشرح صدرُه بإخراجه، وسَمَحَتْ به نفسُه، وخَرَجَ من قلبه قبلَ خروجه من يده، فهو ثباتُ (¬7) القلب عند إخراجه، غيرُ جَزع ولا هَلع ولا مُتْبعَه نفَسه ترجُفُ يدُه وفؤاده، ويتفاوت بحسب نفع الإنفاق ومَصَارفه بمواقعه (¬8)، وبحسب طِيبِ المنفق وزكاته (¬9). ¬
[مثل المنفق ماله لغير الله]
وتحت هذا المثل من الفقه أنه سبحانه شَبَّه الإنفاق بالبذَر، فالمُنْفق ماله الطيَّب للَّه لا لغيره باذر ماله في أرضٍ زكية، فمَغِلَّه بحسب بَذْره وطِيب أرضه وتعاهُدِ البذر بالسقي ونَفْي (¬1) الدَّغَل والنبات الغريب عنه، فإذا اجتمعتْ هذه الأمور ولم تحرقِ (¬2) الزرعَ نارٌ ولا لحقته جائحةٌ جاء أمثالَ الجبال، وكان مثله كمثل جنَّةٍ بربوةٍ، وهي المكان المرتفع الذي تكون الجنةُ فيه نصب الشمس والرياح فتتربى (¬3) الأشجارُ هناك أتمَّ تربية فنزل عليها من السماء مطرٌ عظيمُ القَطْر مُتَتَابع فرَوَّاها ونَمَّاها فآتت أُكُلَها ضِعْفي ما يؤتيه (¬4) غيرها بسبب ذلك الوابل، فإنْ لم يُصبها وابلٌ فطَلٌّ: مطر صغير القَطْر، يكفيها لكرم مَنْبَتِها، تزكو على الطل وتنمو عليه، مع أن في ذكر نَوْعي الوابل والطل إشارة إلى نوعي الإنفاق الكثير والقليل. [مثل المنفق ماله لغير اللَّه] فمن الناس من يكون [إنفاقه] (¬5) وابلًا، ومنهم من يكون إنفاقه طَلًّا، واللَّه لا يضيع مثقالَ ذرة، فإنْ عَرَضَ لهذا العامل ما يغرق أعماله ويُبْطل حسناته كان بمنزلة رجل {لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} [البقرة: 266]، فإذا كان يومُ استيفاءِ الأعمال وإحراز الأجور وَجَدَ هذا العاملُ عملَه قد أصابه ما أصاب صاحبَ هذه الجنة، فحسْرَتُهُ حينئذٍ أشَدُّ من حَسْرة هذا على جنته؛ فهذا مثل ضربه اللَّه [سبحانه] (¬6) في السيرة لسَلْب النعمة عند شدة الحاجة إليها مع عِظِم قَدْرِها ومَنْفَعتِها، والذي ذهبت عنه قد أصابه الكبرُ والضَّعفُ فهو أحْوَجُ ما كان إلى نعمته (¬7)، ومع هذا فله ذرية ضعفاء لا يقدرون على نَفْعه والقيام بمصالحه، بل هم في عِيَاله، فحاجَتُه إلى جنته (¬8) حينئذٍ أشَدُّ ما كانت لضعفه وضعف ذريته، فكيف يكون (¬9) حالُ هذا إذا كان له بستان عظيم فيه من جميع الفواكه والثمر؟ وسلطانُ ثمره أجلُّ الفواكه [وأجملها] (¬10) وأنفعها، وهو ثمر ¬
فصل [آفة الإنفاق الرياء، والمن، والأذى، يبطل الأعمال]
النخيل والأعناب، فمغلّه يقومُ بكفايته وكفاية ذريته، فأصبح يومًا وقد وجده محترقًا كله كالصَّريم، فأيُّ حسرةٍ أعظمُ من حسرته؟. قال ابن عباس: هذا مثلُ الذي يُختم له بالفساد في آخر عُمُره (¬1). وقال مجاهد: هذا مثلُ المفرط في طاعة اللَّه حتى يموت (¬2). وقال السُّدِّي: هذا مثل المُرَائي في نفقته الذي يُنْفِقُ لغير اللَّه، ينقطع عنه نفعُهَا أحوج ما يكون إليه (¬3)، وسأل عمر بن الخطاب (¬4) الصحابة يومًا عن هذه الآية، فقالوا: اللَّه أعلم، فغضب عمر، وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، قال: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك، قال: ضُرب مثلًا لعمل (¬5)، قال: لأي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل بالحسنات (¬6) ثم بعث اللَّه له شيطانًا فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كُلَّها" (¬7)، قال الحسن: هذا مثلٌ قلَّ واللَّه مَنْ يعقله من الناس، شيخ [كبير] (¬8) ضَعُف جِسْمُه، وكثُر صِبْيانه، أفقرَ ما كان إلى جنته، وإن أحَدَكم واللَّه أفْقَرُ ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا (¬9). فصل [آفة الإنفاق الرياء، والمن، والأذى، يبطل الأعمال] فإنْ عَرَضَ لهذه الأعمال من الصَّدقات ما يُبْطلها من المَنِّ والأذى والرياء؛ فالرياء يمنع انعقادها سببًا للثواب، والمنُّ والأذى يُبطل الثواب [الذي كانت سببًا ¬
فصل [من ينفق ماله في غير طاعة الله ورضوانه]
له] (¬1)، فمثلُ صاحبها وبطلان عمله كمثل صَفْوَان -وهو الحجر الأمْلَسُ- عليه تراب فأصابه وابلٌ -وهو المطر الشديد- فتركه صَلْدًا لا شيء عليه، وتأمَّلْ أجزاء هذا المثل [البليغ] (¬2)، وانطباقها على أجزاء الممثَّل به، تعرفْ عظمةَ القرآن وجلالَتَه، فإنَّ الحجرَ في مقابلة قَلْب هذا المرائي والمانِّ والمؤذي؛ فقلبه في قَسْوَته عن الإيمان والإخلاص [والإحسان] (¬3) بمنزلة الحجر، والعملُ الذي عمله لغير اللَّه بمنزلة التراب الذي على ذلك الحجر؛ فقسوة ما تحته وصلابته تمنعه من الثبات والنَّبَات عند نزول الوابل؛ فليس له مادةٌ متَصلة بالرّي (¬4) تقبل [الماء] (3) وتُنبت الكلأ، وكذلك قلب المرائي ليس له ثباتٌ عند وابل الأمر والنهي والقضاء والقدر، فإذا نزل عليه وابلُ الوَحْي انكشف عنه ذلك الترابُ اليسيرُ الذي كان عليه، فبرز ما تحته حجرًا صَلْدًا لَا نبات فيه؛ وهذا مثلٌ ضربه اللَّه [سبحانه] (3) لعمل المُرَائي ونفقته، لا يقدر يومَ القيامة على ثواب شيء منه أحْوَجَ ما كان إليه، وباللَّه التوفيق (¬5) [ولا حول ولا قوة إلا به] (3). فصل [من ينفق ماله في غير طاعة اللَّه ورضوانه] ومنها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ [وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ]} (¬6) [آل عمران: 116، 117]، هذا مثلٌ ضَرَبه اللَّه [تعالى] (3) لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته، فشبَّه سبحانه ما يُنفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكَسْب الثناء وحُسْن الذكر لا يبتغون به وَجْه اللَّه، وما ينفقونه لِيَصُدُّوا به عن سبيل اللَّه واتِّباع رسله، بالزرع الذي زرَعه صاحبُه يرجو نفعه وخيره ¬
فصل [مثل الموحد والمشرك]
فأصابته ريحٌ شديدةُ البردِ جدًّا، يحرق بردُها ما يمر (¬1) عليه من الزرع والثمار، فأهلكت ذلك الزرعَ وأيْبسته. واخْتُلف في الصِّر؛ فقيل: البرد الشديد، وقيل: النار، قاله ابن عباس (¬2). قال ابن الأنباري: وإنَّما وُصفت النار بأنها (¬3) صِرٌّ لِتَصْرِيتها عند الالتهاب. وقيل: الصر: الصوتُ الذي يصحبُ الريحَ من شدة هُبُوبها، فالأقوالُ الثلاثة متلازمة؛ فهو بَرْد شديد مُحْرِق بيبسه (¬4) للحَرْث كما تحرقه النار، وفيه صوت شديد. وفي قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ} تنبيهٌ على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظُلْمهُم؛ فهو الذي سَلَّط عليهم الريحَ المذكورةَ حتى أهلكتْ زرعهم وأيبسته، فظلمهم هو الريح التي أهلكتْ أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها، [واللَّه المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به] (¬5). فصل [مثل المُوحِّد والمشرك] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29)} [الزمر: 29]، هذا مثل ضربه اللَّه [سبحانه] (¬6) للمشرك والموحِّدِ؛ فالمشركُ بمنزلة عبد يملكه (¬7) جماعةٌ متنازعون مختلفون متشاحنون، والرجل الشَّكِسُ (¬8): الضَّيقُ الخُلُق، فالمشرك [لمَّا كان يعبد آلهة شَتَّى شُبِّه بعبد يملكه جماعة متنافسون] (¬9) في خدمته، لا يمكنه أن يبلغ رضاهم أجمعين، والموحِّدُ لمَّا كان يعبد اللَّه وحده فمثله كمثل عبدٍ لرجلٍ ¬
فصل [مثل للكفار ومثلان للمؤمنين]
واحدٍ (¬1)، قد سَلَّم (¬2) له، وعلم مَقَاصده، وعرفَ الطَّريقَ إلى رضاه، فهو في راحة من تشاحُنِ الخُلَطاء فيه، بل هو سالم لمالكه من غير تنازع فيه، مع رأفة مالكه به، ورحمته له، وشفقته عليه، وإحسانه إليه، وتولِّيه (¬3) لمصالحه، فَهَل يستويان هَذَان العَبْدان؟ وهذا من أبلغ الأمثال: فإنَّ الخالصَ لمالكٍ واحدٍ يستحق (¬4) من مَعُونته وإحسانه والتفاته (¬5) إليه وقيامه بمصالحه ما لا يستحق صاحبُ الشركاء [المتشاكسين] (¬6) الحمد للَّه، بل أكثرهم لا يعلمون (¬7). فصل [مَثَلَ للكفار ومَثَلان للمؤمنين] ومنها قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ [كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)] (¬8) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ [إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (¬9)} [التحريم: 10 - 12]، فاشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مَثَل للكفار، ومَثلين للمؤمنين. [مثل الكافر] فتضمَّن مَثلُ الكُفَّار: أنَّ الكافر يُعاقَبُ على كفره وعداوته للَّه ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لُحْمَةِ نسب أو وُصْلَة (¬10) صِهْر أو سَبَب من أسباب الاتصال؛ فإن الأسباب كلها تنقطع يوم ¬
فصل [مثلا المؤمنين]
القيامة إلا ما كان منها متصلًا باللَّه وحده على أيدي (¬1) رسله، فلو نفعت وُصْلَةُ القرابة والمصاهرة (¬2) أو النكاح مع عدم الإيمان لنفعت الوُصْلَةُ التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما، [فلما لم] (¬3) يُغْنِيَا عنهما من اللَّه شيئًا، قيل (¬4) لهما: {ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} (¬5) قطعت الآيةُ حينئذٍ طمع من ارتكب (¬6) معصية اللَّه وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبي، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال، فلا اتصال فَوْقَ اتصال البنوَّة والأبوة والزوجية، فلم يُغْن نوح عن ابنه، ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولا لوط عن امرأتيهما من اللَّه شيئًا، قال اللَّه تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3]، وقال [تعالى] (7): {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 19]، وقال [تعالى] (¬7): {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 123]، وقال: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا [إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ] (7)} [لقمان: 33]، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أنَّ مَنْ تعلَّقوا به من دون اللَّه من قَرَابةٍ أو صِهْرٍ أو نكاح أو صُحْبة ينفعهم (¬8) يوم القيامة، أو يُجيرُهم من عذاب اللَّه، أو [هو يشفع] (¬9) لهم عند اللَّه، وهذا أصْل ضَلالِ بني آدم وشِرْكِهِم، وهو الشرك الذي لا يغفره اللَّه، وهو الذي بعث اللَّه جميع رسله وأنزل جميع كتبه بإبطاله ومحاربة أهله ومعاداتهم. فصل [مَثَلا المؤمنين] وأما المثلان اللذان للمؤمنين: فأحدهما: امرأة فرعون، ووَجْهُ المثلِ أن اتصال المؤمن بالكافر لا يَضُره شيئًا إذا فارقه في كُفره وعملِه، فمعصية العاصي (¬10) لا تضر [المؤمن] (7) المطيع ¬
[في هذه الأمثال أسرار بديعة]
شيئًا في الآخرة، وإنْ تَضَرَّرَ بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحلُّ بأهل الأرض إذا أضاعوا أمرَ اللَّه فتأتي عامة؛ فلم يَضُرَّ امرأة فرعون اتصالُها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأةَ نوح ولوطٍ اتصالُهما بهما وهما رسولا رب العالمين. المثل الثاني للمؤمنين: مريمُ التي لا زَوْجَ لها، لا مؤمن ولا كافر، فذكر ثلاثة أصناف [من] (¬1) النساء: المرأة الكافرة التي لها وُصْلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وُصْلة بالرجل الكافر، والمرأة العزبة (¬2) التي لا وُصْلَة بينها وبين أحد. فالأولى: لا تنفعها وصلتها وسببها، والثانية: لا تضرها (¬3) وصلتها وسببها، والثالثة: لا يضرها عدم الوصلة [شيئًا] (¬4). [في هذه الأمثال أسرار بديعة] ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياقَ السورة؛ فإنها سِيقَتْ في ذكر أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والتحذير من تظاهرهنَّ عليه (¬5)، وأنهن إن لم يُطِعْنَ اللَّه ورسوله ويُرِدْنَ الدارَ الآخرة لم ينفعهن اتصالهن برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب اللَّه في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة. قال يحيى بن سَلَّام: ضرب اللَّه المثلَ الأولَ يحذر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرِّضْهما على التمسك بالطاعة (¬6). وفي ضَرْب المثل للمؤمنين [بمريم] (¬7) أيضًا اعتبارٌ آخَرُ، وهو أنها لم يضرها عند اللَّه شيئًا قَذْفُ أعداء اللَّه اليهود لها، ونسبتُهم إياها وابنها إلى ما بَرَّأهما اللَّه عنه، مع كونها الصِّدِّيقَةَ الكبرى المصطفاة على نساء العالمين؛ فلا يضرُّ الرجلَ الصالحَ قَدْحُ (¬8) الفجار والفساق فيه، وفي هذا تَسْلِية لعائشة أُمِّ المؤمنين (¬9) إن ¬
[السر في ضرب الأمثال]
كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك (¬1)، أو توطين نفسها على ما قال فيها الكاذبون إنْ كانت قبلها (¬2)، [كما في] (¬3) ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذيرٌ لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فتضمنت هذه الأمثالُ التحذيرَ لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسليةَ وتوطينَ النفس لمن أوذِيَ منهن وكُذِب عليه. وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون. قالوا: فهذا بعضُ ما اشتملَ عليه القرآنُ من التمثيل والقياس والجمع والفرق، واعتبار العلل والمعاني، وارتباطها بأحكامها تأثيرًا واستدلالًا. [السر في ضرب الأمثال] قالوا: قد (¬4) ضرب اللَّه [سبحانه] الأمثالَ وصَرَّفها قدرًا وشرعًا ويقظةً ومنامًا، ودَلَّ عباده على الاعتبار بذلك، وعُبُورهم من الشيء إلى نظيره، واستدلالهم بالنظير على النظير. [أصل عبارة الرؤيا] بل هذا أصل (¬5) عبارة الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة ونوعٌ من أنواع الوحي؛ فإنها مبنيةٌ على القياس والتمثيل، واعتبار المعقول بالمحسوس، ألا تر أنَّ الثيابَ في التأويل كالقُمُصِ (¬6) تدلُّ على الدِّين، فما كان فيها من طول أو قصر أو نظافة أو دَنَس فهو في الدين، كما أوَّل النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- القُمص (¬7) بالدِّين والعلم (¬8)، ¬
[الرؤيا الحلمية وتأويلها]
والقَدْرُ المشترك بينهما أن كُلًّا منهما يستر صاحبه ويُجَمِّلُه بين الناس، فالقميصُ يستر بدنه، والعلم والدين يستر روحه وقلبه، ويجمِّله بين الناس. [الرؤيا الحُلْمية وتأويلها] ومن هذا تأويل اللَّبَن بالفطرة لما في كل منهما من التغذية الموجِبَةِ للحياة وكمال النشأة، وأن الطفل إذا خُلِّي وفطرتَهُ لم يعدل عن اللبن؛ فهو مفطور على إيثاره على ما سواه، وكذلك فطرة الإسلام التي فَطَر اللَّه عليها الناسَ. ومن هذا تأويلُ البقر [باهل الدين والخير الذين بهم عمارة الأرض كما أن البقر] (¬1) كذلك مع عدم شَرِّها وكثرة خيرها وحاجة الأرض وأهلها إليها؛ ولهذا لما رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقرًا تُنْحَر كان ذلك نحرًا في أصحابه (¬2). ومن ذلك تأويل الزرع والحرث بالعمل؛ لأن العامل زارعٌ للخير والشر، ولا بد أن يخرج له ما بَذَرَه كما يخرج للباذر زرع ما بذره؛ فالدنيا مزرعة، والأعمالُ البذار (¬3)، ويومُ القيامة يوم طلوع الزرع [للباذر] (1) وحصاده. ومن ذلك تأويلُ الخشب المقطوع المتساند بالمنافقين، والجامع بينهما أن المنافقَ لا رُوحَ فيه ولا ظل ولا ثمر، فهو بمنزلة الخشب الذي هو كذلك؛ ولهذا شَبّه [اللَّه تعالى] (¬4) المنافقين بالخشُبِ المسَنَّدة؛ لأنهم أجسامٌ خالية عن الإيمان والخير، وفي كونها مُسَنَّدة نكتةٌ أخرى، وهي أن الخشب إذا انتُفع به جُعل في سَقْف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكًا فارغًا غير مُنْتَفع به جُعل مُسنَدًا بعضه إلى بعض، فشبَّه المنافقين بالخشب في الحالة التي لا ينتفع [فيها بها] (¬5). ومن ذلك تأويل النار بالفتنة لإفساد كلٍّ منهما ما يمُرُّ عليه ويتصل به، فهذه تحرقُ الأثاثَ والمتاعَ والأبدانَ، وهذه تحرق القلوبَ والأديانَ [والإيمانَ] (¬6). ¬
ومن ذلك تأويل النجوم بالعلماء والأشراف؛ لحصول هداية أهل الأرض بكل منهما، ولارتفاع الأشراف بين الناس كارتفاع النجوم. ومن ذلك تأويلُ الغيثِ (¬1) بالرحمة والعلم والقرآن والحكمة وصلاح حال الناس. ومن ذلك خروج الدم في التأويل يدل على خروج المال، والقَدْرُ المشترك أنَّ قِوامَ البدن بكل واحدٍ منهما. ومن ذلك الحدَثُ في التأويل يدل على الحدث في الدين؛ فالحدث الأصغر ذَنْبٌ صغير، والأكبر ذنب كبير. ومن ذلك أن اليهودية والنصرانية [في التأويل] (¬2) بِدْعَة في الدين؛ فاليهودية تدل على فساد القَصْد واتباعِ غير الحق، والنصرانية تدل على فساد العلم والجهل والضلال. ومن ذلك الحديدُ في التأويل وأنواع السلاح يدل على القوة والنصرة بحسب جوهر ذلك السلاح ومرتبته. ومن ذلك الرائحة الطيبة تدلُّ على الثَّناء الحسن وطيب القول والعمل، والرائحة الخبيثة بالعكس، والميزان يدل على العدل، والجراد يدل على الجنود والعساكر والغَوْغاء (¬3) الذي يَموجُ بعضُهم في بعض، والنَّحلُ يدل على مَنْ يأكل طيبًا ويعمل صالحًا، والديك رجلٌ عالي الهمة بعيدُ الصيت، والحية عدو أو صاحب بدعة يهلك بسمِّه، والحشرات أوْغَاد (¬4) الناس، والخُلْد (¬5) رجل أعمى يتكفَّفُ الناسِ بالسؤال، والذِّئْبُ رجل غَشوم (¬6) ظلوم غادر فاجر، والثعلب رجل ¬
[من كليات التعبير]
غادر محتال مَكَّار مراوغ عن الحق، والكلب عدو ضعيف كثير الصخب والشر في كلامه وسبابه، أو رجلٌ مبتدع متبع هَوَاه مُؤثر له على دينه، والسِّنَّوْرُ العبد والخادم الذي يطوف على أهل الدار، والفأرة امرأة سوء فاسقة فاجرة، والأسد رجل قاهر مسلط، والكبش الرجل المنيعُ المتبُوع. [من كليات التعبير] ومن كليات التعبير أن كل ما كان وعاءً للماء فهو دال على الأثاث، وكل ما كان وعاءً للمال كالصندوق والكيس والجراب فهو دال على القلب، وكل مدخولٍ بعضُه في بعض وممتزج ومختلط فدالٌّ على الاشتراك والتعاونِ أو النكاح، وكلُّ سُقوطٍ وخُرور من علوٍ إلى سفل فمذموم، وكل صعود وارتفاع فمحمود إذا لم يجاوز العادَة [وكان ممن] (¬1) يليق به، وكل ما أحرقته النار فجائحة وليس يُرجى صلاحُهُ ولا حياتُه، وكذلك ما انكسر من الأوعية التي لا ينشعب (¬2) مثلها؛ وكل ما خُطِفَ وسُرِق من حيث لا يُرى خَاطفُه ولا سارقه فإنه ضائع لا يُرجى، وما عُرف خاطفه أو سارقه أو مكانه أو لم يغب عن عين صاحبه فإنه يُرْجَى عَوْدُهُ، وكل زيادة محمودة في الجسم والقامة واللسان والذكر واللحية واليد والرجل فزيادة خير، وكل زيادة متجاوزة للحد في ذلك فمذمومة وشر وفضيحة، وكل ما رؤي (¬3) من اللباس في غير موضعه المختص به فمكروهٌ، كالعمامة في الرِّجل، والخف في الرأس، والعقد في الساق، وكل مَنْ اسْتَقضى أو اسْتَخَلَف أو أَمَّر أو استوزر أو خَطَب ممن لا يليق به ذلك ناله بلاءٌ من الدنيا وشرُّ وفضيحة وشهوة قبيحة (¬4)، وكل ما كان مكروهًا من (¬5) الملابس فخَلِقُهُ أَهْوَنُ على لابسه من جَديده، والجَوْز مالٌ مكنوز، فإن تفقَّع (¬6) كان قبيحًا وشرًا، ومَنْ صار له ريش أو جناح صار له مال، فإنْ طار سافر، وخروجُ المريض من داره ساكتًا يدلُّ على موته، ومتكلِّمًا يدل على حياته، والخروجُ من الأبواب الضيقة يدل على النجاة ¬
[أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم التعبير]
والسلامة من شرٍّ [وضيق] (¬1) هو فيه وعلى تَوْبة، ولا سيما إنْ كان الخروجُ إلى فضاء وسَعَة فهو خيرٌ محض، والسفرُ والنقلةُ من مكان إلى مكان انتقالٌ من حال إلى حال بحسب حال المكانين، ومن عاد في المنام إلى حال كان فيها في اليقظة عاد إليه ما فارقه من خير أو شر، وموت الرجل ربما دلَّ على توبته ورجوعه إلى اللَّه، لأنَّ الموت رجوع إلى اللَّه، قال تعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62] , والمرهون مأسور بدَيْن، أو بحقٍّ عليه للَّه أو لعبيده (¬2)، ووَدَاعُ المريض أهله أو توديعهم له دالٌّ على موته. [أمثال القرآن أصول وقواعد لعلم التعبير] وبالجملة فما تقدم من أمثال القرآن كلها أصول وقواعد لعلم التعبير لمن أحسن الاستدلالَ بها، وكذلك مَنْ فهم القرآن فإنه تُعبَّر به الرؤيا أحسنَ تعبير، وأصول التعبير الصحيحة إنما أُخذت من مشكاة القرآن (¬3)، فالسفينة تعبر بالنجاة، لقوله تعالى: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ} [العنكبوت: 15]، وتعبر بالتجارة، والخشب بالمنافقين، والحجارة بقساوة القلب (¬4)، والبَيْض بالنساء، واللباس أيضًا بهنّ، وشرب الماء بالفتنة، وأكل لحم الرجل بغيبته، والمفاتيح بالكسب، والخزائن والأموال، والفتح يُعبَّر مرة بالدعاء ومرة بالنصر، وكالمَلِك (¬5) يُرى في محلَّةٍ لا عادةَ له بدخولها يعبر بإذلال أهلها وفسادها، والحبل يُعبَّر بالعهد والحق والعضد (¬6)، والنعاس قد يعبر بالأمن، والبقل والبصل والثوم والعدس يُعبَّر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئًا أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار، والمرض يعبر بالنفاق والشك وشهوة الرياء (¬7)، والطفل الرضيع يعبر بالعدو, لقوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: ¬
8]، والنعاج بالنساء (¬1)، والرماد بالعمل الباطل؛ لقوله [تعالى] (¬2): {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18]، والنور يُعبَّر بالهدى، والظلمة بالضلال، ومن ههنا قال عمر بن الخطاب (¬3) لحابس بن سعد الطائي وقد ولاه القضاء، فقال له: يا أمير المؤمنين! أني رأيت الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم بينهما نصفين، فقال عمر: مع أيهما كنتَ؟ قال: مع القمر على الشمس، قال: كنتَ مع الآية الممْحُوَّة، اذهب فلست تعمل لي عملًا، ولا تُقْتَل إلا في لَبْس من الأمر، فقتل يوم صفين (¬4). وقيل لعابر: رأيت الشمس والقمر دخلا في جوفي، فقال: تموت، واحتج بقوله [تعالى] (¬5): {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) [يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ]} (¬6) [القيامة: 7 - 10] وقال رجل لابن سيرين: رأيت معي أربعة أرغفة حين طلعت الشمس (¬7)، فقال: تموت إلى أربعة أيام، ثم قرأ قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا ¬
[عن الرؤيا وتعبيرها]
ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)} [الفرقان: 45، 46]، وأخذ هذا التأويل أنه حَمَل رزقه (¬1) أربعة أيام، وقال له آخر: رأيت كيسي مملوءً أَرَضَةً، فقال: أنت ميت، ثم قرأ: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ} [سبأ: 14]، والنخلة تدل على الرجل المسلم وعلى الكلمة الطيبة، والحنظلة على ضد ذلك، والصنم يدل على العبد السوء الذي لا ينفع، والبستان يدل على العمل، واحتراقه يدلُّ على حبوطه؛ لما تقدم في أمثال القرآن، ومن رأى أنه ينقض غزلًا أو ثوبًا ليعيده (¬2) مرة ثانية فإنه ينقض عهدًا وينكثه، والمشي سَويًّا في طريق مستقيم يدل على استقامته على الصراط المستقيم، والأخذ في بُنَيَّاتِ الطريق يدل على عُدُوله عنه إلى ما خالفه، وإذا عُرض له طريقان ذات يمين وذات شمال، فسلك أحدهما فإنه من أهلها، وظهورُ عورة الإنسان له ذنب يرتكبه ويُفْتَضحُ به، وهروبه (¬3) وفراره من شيء نجاةٌ وَظَفَرٌ، وغرقه في الماء فتنة في دينه ودنياه، وتعلّقه بحبل بين السماء والأرض تمسكه بكتاب اللَّه وعهده واعتصامه بحبله، فإن انقطع به فارَقَ العصمةَ إلا أن يكون ولي أمرًا فإنه قد يقتل أو يموت (¬4). [عن الرؤيا وتعبيرها] فالرؤيا أمثال مضروبة يضربها المَلَكُ الذي قد وكَلَهُ اللَّه بالرؤيا، ليستدلَّ الرائي بما ضُرب له من المثل على نَظيره، ويَعْبر منه إلى شبهه، ولهذا سُمِّي (¬5) تأويلُها تعبيرًا، وهو تفعيلٌ من العُبُور، كما أنَّ الاتعاظ يُسمَّى اعتبارًا وعِبْرة للمتَّعِظِ (¬6) من النظير إلى نظيره، ولولا أن حكم الشيء حكمُ مثله، وحكم النظير حكم نظيره، لبطَل هذا التعبير والاعتبار، ولما وجد إليه سبيل. [قيمة المثل في القرآن] وقد أخبر اللَّه [سبحانه] (¬7) أنه ضرب الأمثال لعباده في غير موضع من ¬
[التسوية بين المتماثلين في الأحكام الشرعية]
كتابه (¬1)، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقلها، والتفكر فيها، والاعتبار بها، وهذا هو المقصود بها. [التسوية بين المتماثلين في الأحكام الشرعية] وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلُّها هكذا، تجدها مشتملةً على التسوية بين المتماثلين، وإلحاق النظير بنظيره، واعتبار الشيء بمثله، والتفريق بين المختلفين، وعدم تسوية أحدهما بالآخر (¬2)، وشريعته سبحانه مُنَزَّهة أن تنهى (¬3) عن شيء لمفسدة فيه تُبيح (¬4) ما هو مشتملٌ على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيدَ منها، فمن جَوَّز ذلك على الشريعة فما عرفها حقَّ معرفتها؛ ولا قدَّرها حَقَّ قدرها. وكيف يُظَنُّ بالشريعة أنها تبيح شيئًا لحاجة المكلف إليه ومصلحته، ثم تحرم ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر، وهذا من أمْحَل المحال. [لا يشرع اللَّه الحيل التي تبيح الواجب وتسقط المحرم] ولذلك كان من المستحيل أن يَشْرَعَ اللَّه ورسوله من الحِيَل ما يُسْقِط به ما أوجبه، أو يبيح به ما حَرَّمه، ولَعَنَ فاعله، وآذنه بحربه وحرب رسوله، وشَدّد فيه الوعيد؛ لما تضمنه من المفسدة في الدنيا والدين، ثم بعد ذلك يسوغ التوصل إليه بأدنى حيلة، ولو أن المريض اعتمد هذا فيما يحميه منه الطبيب ويمنعه منه لكان مُعينًا على نفسه، ساعيًا في ضرره، وعُدَّ سفيهًا مفرطًا. [أحكام فطرية في النفس] وقد فطر اللَّه سبحانه عباده على أنَّ حكم النظير حكم نظيره، وحكمَ الشيء حكم مثله، وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين، [وعلى إنكار] (¬5) الجمع بين المختلفين، والعقل والميزان الذي أنزله اللَّه شرعًا وقدرًا يأبى ذلك. [الجزاء من جنس العمل] ولذلك (¬6) كان الجزاء مماثلًا للعمل من جنسه في الخير والشر، "فمن ستر ¬
مسلمًا ستره اللَّه، ومن يَسَّر على معسر يَسَّر اللَّه عليه في الدنيا والآخرة، ومن نَفَّس عن مؤمن كربة من كُرَب الدنيا نَفّس اللَّه عنه كربة من كرب يوم القيامة" (¬1)، "ومن أقال نادمًا أقاله (¬2) اللَّه عَثْرَته [يوم القيامة] " (¬3)، و"من تَتَبعَ عَوْرة أخيه تتبع اللَّه عورته" (¬4)، و"من ضارَّ مسلماَ ضارَّ اللَّه به، ومن شاق شاق اللَّه [عليه] " (¬5)، و"من خَذَل مسلمًا في موضع يحب نُصْرَته فيه خَذَله اللَّه في موضع يحب نصرته فيه" (¬6)، ¬
و"من سمع سمع اللَّه به" (¬1)، و"الراحمون يرحمهم الرحمن" (¬2)، و"إنما يرحم اللَّه من عباده الرحماء" (¬3)، و"من أنفق أُنفق عليه" (¬4)، و"من أوعى أُوعي عليه" (¬5)، ¬
[أصل الشرع الحاق النظير بالنظير والقرآن يعلل الأحكام]
و"من عفا عن حقه عفا اللَّه له عن حقه"، و"من تجاوز تجاوز اللَّه عنه" (¬1)، و"من استقصى استقصى اللَّه عليه" (¬2). [أصل الشرع الحاق النظير بالنظير والقرآن يعلل الأحكام] فهذا شرع اللَّه وقدره، ووحيه وثوابه وعقابه، كله قائمٌ بهذا الأصل، وهو إلحاق النظير بالنظير، واعتبار المثل بالمثل، ولهذا يَذْكر الشارع العلل والأوصاف المؤثرة والمعاني المعتبرة في الأحكام القدرية والشرعية والجزائية (¬3) ليدلَّ بذلك على تعلق الحكم بها أين وجدت، واقتضائها لأحكامها، وعدم تخلُّفها عنها إلا لمانع يعارض اقتضاءها ويُوجبُ تخلف آثارها عنها، كقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13]، وقوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12]، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35] {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد: 26] {وَذَلِكُمْ (¬4) ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]. [الحروف التي يجيء بها التعليل في القرآن] وقد جاء التعليل في الكتاب العزيز بالباء تارة، وباللام تارة، وبأنْ تارة، وبمجموعها (¬5) تارة، [وبكي تارة] (6)، ومن أجل تارة، وترتيب [الجزاء على الشرط تارة، وبالفاء المؤذْنة بالسببية تارة، وترتيب] (¬6) الحكم على الوصف المُقْتض له تارة، وبلمَّا (¬7) تارة، وبأنَّ المشددة تارة، وبلعل تارة، وبالمفعول ¬
[له] (¬1) تارة (¬2)؛ فالأول كما تقدم [من قوله: {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ} وأشباهه،] (¬3)، واللام كقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [المائدة: 97]، وأنْ كقوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]؛ ثم قيل: التقدير لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا، [وأن] (¬4) واللام كقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وغالب ما يكون هذا النوع في النفي فتأمله، [وكي كقوله] (¬5): {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] والشرط والجزاء كقوله: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]، والفاء كقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} [الشعراء: 139] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]، {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16]، وترتيب الحكم على الوصف كقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، وقوله: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقوله: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)} [الأعراف: 170]، {وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56)} [يوسف: 56]، {وَأَنَّ (¬6) اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)} [يوسف: 52]، ولمَّا كقوله: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]، {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)} [الأعراف: 166] وإنَّ المشددة كقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)} [الأنبياء: 77]، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74)} [الأنبياء: 74]، ولعل كقوله: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه: 44] , {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (¬7) {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)} (¬8)، والمفعول له كقوله: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ ¬
[ما ورد في السنة من تعليل الأحكام]
رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 19 - 21]، أي: لم يفعل ذلك جزاءَ نعمة أحد من الناس، إنما (¬1) فعله ابتغاء وجه ربه الأعلى، ومن أجل كقوله: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (¬2)} [المائدة: 32]. [ما ورد في السنة من تعليل الأحكام] وقد ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عِلَلَ الأحكام والأوصاف المؤثرة فيها؛ ليدلَّ على ارتباطها بها، وتَعَدِّيها بتعدِّي أوصافها وعللها، كقوله في نبيذ التمر: "تَمْرَةٌ طيبة وماء طهُور" (¬3). ¬
وقوله: "إنما جُعِلَ الاستئذانُ مِنْ أجل البصر" (¬1)، وقوله: "إنما نَهَيْتُكُم من أجل الدَّافَّة" (¬2)، وقوله في الهرة: "لَيْسَتْ بنجس، إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوافات" (¬3). ¬
[أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك عن القرآن]
ونهيه عن تغطية رأس المحرم الذي وقَصَتْه (¬1) ناقته وتقريبه الطيب، وقوله: "فإنه يُبْعَثُ يَوْمَ القيامة مُلَبيًا" (¬2)، وقوله: "إنكم إذا فعلتم ذلك قَطَعْتُم أرحامكم" (¬3) ذكره تعليلًا لنهيه عن نكاح المرأة على عمتها وخالتها. [أخذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ذلك عن القرآن] وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222]، وقوله في الخمر والميسر: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91]. [عود إلى الحديث] وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سئل عن بيع الرُّطَب بالتمر: "أَيَنْقُصُ الرطب إذا جَفَّ؟ قالوا: نعم، فَنَهَى عنه" (¬4)، وقوله: "لا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك ¬
يُحْزِنُه" (¬1)، وقوله: "إذا وَقَعَ الذبابُ في إناء أحدكم فامقُلُوه (¬2)، فإن في أحد جناحيه داءً وفي الآخر دواءٌ، وإنه يَتّقِي بالجناح الذي فيه الداء" (¬3)، وقوله: "إن اللَّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمُر فإنها رجس" (¬4)، وقوله وقد سئل عن مَسِّ الذكر هل ينقض الوضوء؟ فقال: "هل هو إلا بضعة منك" (¬5)، وقوله في ابنة ¬
حمزة: "إنها لا تحلُّ لي؛ إنها ابنة أخي من الرضاعة" (¬1)، وقوله في الصدقة: "إنها لا تحل لآل محمد، إنما هي أوساخُ الناس" (¬2). وقد قَرَّب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأحكام لأمته (¬3) بذكر نظائرها وأسبابها، وضَرَبَ لها الأمثال، فقال له عمر: يا رسول اللَّه صَنَعْتُ اليوم أمرًا عظيمًا (¬4)؛ قَبَّلْتُ وأنا صائم، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: أرأيت لو تَمَضْمَضْتَ بماء وأنت صائم؟ فقلت (¬5): لا بأس بذلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: فَصُمْ" (¬6) ولولا أنَّ حكم المثل حكم مثله، وأنَّ المعاني والعِلَلَ مؤثرة في الأحكام نفيًا وإثباتًا لم يكن لذكر هذا التشبيه معنى، فذكرهُ ليدل به على أنَّ حكم النظير حكمُ مثله، وأن نسبة القُبْلة التي هي وسيلة للوطء كنسبة وَضْع الماء في الفم الذي هو وسيلة إلى شُرْبِه، فكما أن هذا الأمر ¬
لا يضر فكذلك الآخر (¬1)، وقد [قال -صلى اللَّه عليه وسلم- للرجل الذي] (¬2) مسألة فقال: إنَّ أبي أدركه الإسلام وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوبَ الرَّحْلِ، والحجُّ مكتوب عليه، أفأحجُّ عنه؟ قال (¬3): "أنْتَ أكْبَرُ ولده؟ قال: نعم، قال: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يُجْزي عنه؟ قال: نعم، قال: فَحُجَّ عنه" (¬4) فقرَّب الحكمَ من الحكم، وجعل دَيْن اللَّه [سبحانه] (¬5) في وجوب القضاء أو في قبوله بمنزلة دَيْن الآدمي، وألحق النظير بالنظير، وأكَد هذا المعنى بضَرْب من الأوْلى، وهو قوله: "اقْضُوا اللَّه؛ فاللَّه أحَقُّ بالقَضَاء" (¬6) ومنه الحديث الصحيح أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: ¬
"وفي بُضْع أحَدكم صدقة، قالوا: يا رسول اللَّه يأتي أحَدُنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضَعَها في حرام أكان يكن (¬1) عليه وِزْر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر" (¬2) وهذا من قياس العكس الجَليّ البيّن (¬3)، وهو إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع لثبوت ضد علته فيه، ومنه الحديث الصحيح: "أن أعرابيًا أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: إن امرأتي وَلَدَتْ غلامًا أسْوَدَ، وإني أنكَرْتُه، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل لَكَ من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حُمْر، قال: هل فيها من أوْرَقَ؟ قال: إن فيها لوُرْقًا، قال: فأنَّى ترى ذلك جاءها؟ قال: يا رسول اللَّه عِرْق نَزَعه، قال: ولعلَّ هذا عرق نزعه" (¬4)، ولم يرخَّصْ له في الانتفاء منه، ومن تراجم البخاري على هذا الحديث "باب مَنْ شَبَّه أصلًا معلومًا بأصل مُبين قد بَيِّن اللَّه حكمهما ليفهم السائل" ثم ذكر بعده حديث ابن عباس: "أن امرأة جاءت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: إن أمي نَذَرَتْ أن تحجَّ فماتت قبل أن تحج، أفأحجُّ عنها؟ قال: نَعَمْ حُجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمك دين أكنتِ قاضيتَهُ؟ قالت: نعم، فقال: اقضوا اللَّه [فإن اللَّه] (¬5) أحقُّ بالوفاء" (¬6). ¬
[ذكر البخاري فصل النزاع في القياس]
[ذكر البخاري فصل النزاع في القياس] وهذا الذي ترجمه البخاري هو فَصْلُ النزاع في القياس، لا كما يقوله المفْرِطون فيه ولا المفرِّطون؛ فإن الناس فيه طرفان ووسط، فأحد الطرفين مَنْ ينفي العلَل والمعاني والأوصاف المؤثرة (¬1)، ويجوز ورود الشريعة بالفرق بين المتساويين والجمع بين المختلفين، ولا يثبت أن اللَّه أسبحانه، (¬2) شرع الأحكامَ لعلل ومصالح، ورَبَطها باوصاف مؤثرة فيها مقتضية لها طَرْدًا وعكسًا، وأنه قد يوجبُ الشيءَ ويحرم نظيره من كل وجه، ويحرِّم الشيء ويبيح (¬3) نظيره من كل وجه، وينهى عن الشيء لا لمفسدة فيه، ويأمر به لا لمصلحة، بل لمحض المشيئة المجردة عن الحكمة والمصلحة، وبإزاء هؤلاء قوم أفرطوا فيه، وتوسَّعُوا جدًّا، وجمعوا بين الشيئين اللذين فَرَّقَ اللَّه بينهما بأدنى (¬4) جامع من شَبَهٍ أو طَرْدٍ أو وَصْفِ يتخيَّلونه علةً يمكن أن يكون علته و [يمكن] (¬5) أن لا يكون، فيجعلونه هو السبب الذي عَلَّق اللَّه ورسوله عليه الحكم بالخَرْصِ والظَّنِّ، وهذا هو الذي أجمع السلفُ على ذمِّه كما سيأتي إن شاء اللَّه [تعالى] (2). والمقصود أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر في الأحكام العللَ والأوصافَ المؤثرة فيها طَرْداَ وعَكْسًا؛ كقوله للمستحاضة التي سألته: هل تَدَعُ الصلاة زمن استحاضتها؟ فقال: "لا، إنما ذلك عِرْقٌ ولَيْسَ بالحَيْضَةِ" (¬6) فأمَرَها أن تصلي مع هذا الدم، وعلل بأنه دم عِرْق وليس بدم حيض، وهذا قياس يتضمن الجمع والفرق. ¬
[قد تغني العلة عن ذكر الأصل]
[قد تغني العلة عن ذكر الأصل] فإن قيل: فشرطُ صحَّةِ القياس ذكر الأصل المقيس عليه، ولم يذكر في الحديث؟. قيل: هذا من حُسْن الاختصار، [والاستغناء] (¬1) بالوصف الذي يستلزم ذكر الأصل [المقيس عليه] (¬2)؛ فإن المتكلَّم قد يُعَلل بعلةٍ يغني ذكرُها عن ذكر الأصل، ويكون تركه لذكر الأصل أبَلَغَ من ذكره، فيعرف السامع الأصْلَ حين يسمع ذكر العلة؛ فلا يُشْكِل عليه، ورسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حين علَّل عدمَ وجوب (¬3) الصلاة مع هذا الدم بأنه عِرقٌ صار الأصل الذي يُرَدُّ إليه هذا الكلام معلومًا، فإنَّ كل سامعٍ سَمِعَ هذا يفهم منه أن دم العرق لا يوجب ترك الصلاة، [ولو قال: "هو عرق فلا يوجب ترك الصلاة] (¬4) كسائر دم العروق"؛ لكان عيًّا، وعُدَّ من الكلام الركيك، ولم يكن لائقًا بفصاحته، وإنما يليق هذا بِعَجْرفة المتأخّرين وتكلُّفهم وتطويلهم. ونظيرُ هذا قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) لمن سأله عن مَسِّ ذكره: "هلْ هُوَ إلا بضعة منك" (¬6) فاستغنى بهذا عن تكلف قوله: كسائر البضعات. ومن ذلك قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (5) للمرأة التي سألته: "هل على المرأة من غسْلٍ إذا هي احتلَمَتْ؟ فقال: نعم، فقالت أم سليم: أَوَ تحتلمُ المرأةُ يا رسول اللَّه؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما النساء شَقَائِقُ الرجال" (¬7) فَبيَّن أن النساء والرجال شقيقان ¬
فصل [حديث معاذ حين بعثه الرسول إلى اليمن]
ونَظيران لا يتفاوتان ولا يتباينان في ذلك، وهذا يدل على أنه من المعلوم الثابت في فِطَرهم أن حكم الشقيقين والنظيرين حكم واحد، سواء كان [ذلك] (¬1) تعليلًا منه -صلى اللَّه عليه وسلم- للقدر أو للشرع أو لهما؛ فهو دليل على تساوي الشقيقين وتشابه القرينين، وإعطاء أحدهما حكم الآخر. فصل [حديث معاذ حين بعثه الرسول إلى اليمن] وقد أقر (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- معاذًا على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه [نصًا] (¬3) عن اللَّه ورسوله (¬4)، فقال شعبة: حدثني أبو عَون، عن الحارث بن عمرو، عن أناس من أصحاب معاذ [عن معاذ] (3) أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لما بعثه إلى اليمن قال (¬5): كيف تَصنع إن عَرَضَ لك قضاء؟ قال: أقضي بما في كتاب اللَّه، قال: فإن لم يكن في كتاب اللَّه؟ قال: فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: أجتهد رأيي، لا آلو (¬6)، قال: فَضَرَبَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- صدري، ثم قال: الحمدُ للَّه الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ اللَّه لما يُرضي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬7) فهذا حديث وإن كان [عن] (3) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
غير مُسمَّيْنَ فهم أصحاب معاذ فلا يضره ذلك؛ لأنه يدل على شهرة الحديث، وأن الذي حَدَّث به الحارث بن عمرو عن جماعة من أصحاب معاذ، لا واحد منهم، وهذا أبلغ في الشهرة من أن يكون عن واحد منهم لو سُمّي، كيف وشهرة أصحاب معاذ بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى؟ ولا يُعْرف في أصحابه مُتهم وكذاب (¬1) ولا مجروح، [بل أصحابه] (¬2) من أفاضل المسلمين وخيارهم، لا يشك أهل العلم بالنقل في ذلك، كيف وشعبة حامل لواء هذا الحديث (¬3)؟ وقد قال بعض أئمة الحديث: إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدُدْ يديك به، قال أبو بكر الخطيب (¬4): "وقد قيل إن عُبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غُنم عن معاذ، وهذا إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، على أن أهل العلم قد نقلوه (¬5) واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم، كما وقفنا على صحة قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا وصية لوارث" (¬6) وقوله في البحر: "هُوَ ¬
الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته" (¬1) وقوله: "إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمةٌ ¬
تحالفا وترادَّا البيع" (¬1) وقوله: "الدِّيَة على. . . . . . . . ¬
فصل [كان أصحاب النبي يجتهدون ويقيسون]
العاقلة" (¬1) و [إن] (¬2) كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة الإسناد (¬3)، لكن لما تلقتها (¬4) الكافة عن الكافة غنُوا بصحتها عندهم عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديثُ معاذ لما احتجوا به جميعًا غَنُوا عن طلب الإسناد له" انتهى كلامه. وقد جَوَّز النبي [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) للحاكم أن يَجتَهِدَ رأيهُ وجعل له على خطئِه في اجتهاد الرأي أجرًا واحدًا إذا كان قصدُه معرفة الحقَ وأتباعَهُ (¬6). فصل [كان أصحاب النبي يجتهدون ويقيسون] وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجتهدون في النَّوَازل، ويقيسون بعض الأحكام على بعضِ، ويعتبرون النَّظيرَ بالنظير. قال أسد بن موسى: ثنا شعبة، عن زُبيد اليامي (¬7)، عن طلحة بن ¬
مُصَرِّف (¬1)، عن مرَّة [الطَّيَّب] (¬2)، عن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- (¬3): "كلُّ قومٍ على بينة [من أمرهم] ومصلحة من أنفسهم يُزرُون (¬4) على مَن سواهم، ويُعرفَ الحق بالمقايسة عند ذوي الألباب" (¬5)، وقد رَوَاه الخطيبُ وغيره مرفوعًا، ورفعهُ غير صحيح. وقد اجتهد الصحابةُ في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كثير من الأحكام ولم يعنِّفهم، كما أمرهم يوم الأحزاب أن يُصفوا العصر في بني قريظة (¬6)، فاجتهد بعضُهم وصلَّاها في الطَّريق، وقال: لم يُرِدْ منا التأخير، وإنما أراد سُرعة النهوض، فنظروا إلى المعنى، واجتهد آخرون وأخّرُوها إلى بني قريظة فَصَلّوْها ليلًا، نَظَروا إلى اللفظ، وأولئك (¬7) سَلَفُ أهل الظاهر، وأولئك سلف أصحاب المعاني والقياس (¬8). ولمّا كان علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬9) باليمين أتاه ثلاثة نفرٍ يختصمون في غلَامٍ، فقال ¬
كلٌّ منهم: هو ابني، فأقرع علي بينهم، فجعل الولد للقارع (¬1)، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبَلَغَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فضحك حتى بدت نوَاجِذُه من قضاء علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬2). واجتهد سعد بن معاذ في بني قُرَيظة وحكم فيهم باجتهاده، فصوَّبه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: "لَقَدْ حَكَمتَ فيهم بحكم اللَّه من فوق سبع سموات" (¬3). واجتهد الصحابيان اللذان خَرَجا في سفر، فحضرت الصلاة وليس معهما ماءٌ فصليا، ثم وجدا الماء في الوقت، فَأعاد أحدُهما ولم يعد الآخر، فصوَّبهما النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال للذي لم يعد: "أصَبْتَ السنةَ، وأجزأتْكَ صلاتك" وقال للآخر: "لك الأجْرُ مرتين" (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولما قاس مُجزَّز المدلجي وقافَ (¬1)، وحكم بقياسه وقيافته على أنَّ أقدام زيدٍ وأسامة ابنه بعضها من بعض سُرَّ بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى برقت أساربرُ وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق (¬2)، وكان زيدٌ أبيضَ وابنه أسامة أسود، فأَلحق هذا القائف الفرع بنظيره وأصله، وألغى وصفَ السواد والبياض الذي لا تأثيرَ له في الحكم. وقد تقدّم قولُ الصديق [-رضي اللَّه عنه-] في الكلالة: "أقولُ فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، أراه ما خلا الوالد والولد" (¬3) فلما اسْتُخْلِف عمر قال: "إني لأستحي من اللَّه أن أردَّ شيئًا قاله أبو بكر" (¬4) وقال الشعبي، عن شُريح قال: قال لي عمر: اقضِ بما استبانَ لك من كتاب اللَّه، فإنْ لم تعلم كلَّ كتاب اللَّه فاقض بما استبان لك من قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنْ لم تعلم كلَّ أقْضِيَةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاقْضِ بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإنْ لم تعلم كل ما قَضَتْ به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واستشرْ أهل العلم والصلاح (¬5). وقد اجتهد ابن مسعود في المفَوِّضة وقال: أقول فيها برأيي (¬6)، ووفقه اللَّه للصواب، وقال سفيان، عن (¬7) عبد الرحمن الأصبهاني، عن عكرمة ¬
[اجتهاد الصحابة بالقياس]
قال: أرسلني ابن عباس إلى زيد بن ثابت أساله عن زوج وأبوين، فقال: للزوج النصف، وللأم ثلث ما بقي، وللأب بقية المال، فقال: تجده في كتاب اللَّه أو تقوله برأيك؟ قال: أقوله برأيي، ولا أفضِّلُ أمًا على أب (¬1). [اجتهاد الصحابة بالقياس] وقايَسَ [علي بن أبي طالب -كرم اللَّه وجهه- وزيد بن ثابت في المكاتب (¬2)، وقايسه في الجد والإخوة (¬3)، وقاس] (¬4) ابن عباس الأَضْراس بالأصابع، وقال: عَقْلها سواء، اعتبروها بها (¬5). [ما أجمع الفقهاء عليه من مسائل القياس] قال المزني: الفقهاء من عصر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى يومنا وهلَمَّ جرًا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا [بأن] (¬6) نظير الحقِّ حقٌّ، ونظيرَ الباطل باطلٌ؛ فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها (¬7). قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه (¬8): ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا المكلَّب (¬9) من الجوارح قياسًا على الكلاب، لقوله (¬10): {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]. وقال [عز وجل] (¬11): {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4]، فدخل في ذلك المحصنون قياسًا، وكذلك قوله في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ ¬
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} (¬1) [النساء: 25]، فدخل في ذلك العبد (¬2) قياسًا عند الجمهور، إلا من شذَّ (¬3) ممن لا يكاد يُعدُ [قوله] (¬4) خلافًا؛ وقال في جزاء الصيد المقتول في الحرم (¬5): {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: 95]؛ فدخل فيه قتل الخطأ قياسًا عند الجمهور إلا من شذ (¬6)؛ [لأنه أتلف ما لا يملك قياسًا على مال غيره إذا أتلفه عمدًا أو خطأ] (¬7)، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، فدخل في ذلك الكتابيات قياسًا [فكل من تزوج كتابية وطلقها قبل المسيس؛ لم يكن عليها عدة، والخطاب قد ورد بالمؤمنات] (¬8)، وقال في الشهادة في المداينات: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} (¬9) [البقرة: 282]، فدخل في معنى [قوله] (8) {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282] قياسًا [على الدين] (¬10): المواريثُ (¬11) والودائع والغُصُوب وسائر الأموال. وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسًا على الأختين [وهذا كثير جدًّا ¬
[جواب نفاة القياس، ورده]
يطول الكتاب بذكره] (¬1)، وقال عَمَّن (¬2) أعسَرَ بما بقي عليه من الربا: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فدخل في ذلك كلُّ مُعسِرٍ بدَيْنٍ [حلالٍ] (¬3)، وثبت ذلك قياسًا [واللَّه أعلم] (¬4). ومن هذا الباب توريثُ الذَّكَر ضِعْفي ميراث الأنثى منفردًا، وإنما ورد النص في اجتماعهما بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، وقال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176]، ومن هذا الباب أيضًا قياسُ التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم، [لأن العلة أن يكون المتظاهر بها رحمًا محرمًا] (¬5)، وقياس الرقبة في الظِّهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان، وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع [بينهن] (¬6) في التَّسرِّي [والنكاح] (¬7)، قال (¬8): وهذا لو تَقَضَيتُه (¬9) لطال به الكتاب [واللَّه الموفق للصواب] (¬10). قلت: بعض هذه المسائل فيها نزاع، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف. [جواب نفاة القياس، ورده] وقد رام بعض نُفَاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية؛ فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات، وجعل المحصنات صفةً للفروج لا للنساء، وأدخل صيدَ الجوارح كلها في قوله: [{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]، وقوله:] (¬11) {مُكَلِّبِينَ} وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مُغْرِين لها ¬
على الصيد، قاله مجاهد والحسن، وهو رواية عن ابن عباس (¬1)، وقال أبو سليمان الدمشقي: مكلبين معناه معلِّمين، وإنما قيل لهم مكلبين لأنّ الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب. وهؤلاء وإنْ أمكنهم ذلك، في بعض المسائل، كما جزموا بتحريم [أجزاء] (¬2) الخنزير لدخوله في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه [دون المضاف] (¬3)، فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع، وهم مضطرون فيها -ولا بد- إلى القياس، أو القول بما لم يَقُلْ به غيرُهم ممن تقدَّمهم، فلا نعلم أحدًا من أئمة الفتوى يقول في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقد سئل عن فأرة وقعت في سَمْن: "ألقوها وما حولها وكُلُوه" (¬4) إن ذلك مختصٌّ بالسَّمن دونَ سائرِ الأَدهان والمائعات، هذا مما يقطعُ بأنَّ الصَّحابة والتابعين وأئمة الفتوى (¬5) لا يُفَرِّقون فيه بين السَّمن والزيت والشيرج والدِّبْس (¬6) كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك (¬7)، وكذلك نَهْي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الرطُّب بالتمر (¬8)، لا ¬
يفرِّق عالمٌ يفهم عن اللَّه ورسوله بين ذلك وبين بيع العنب بالزبيب. ومن هذا أن اللَّه سبحانه قال في المطلقة ثلاثًا: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} أي فإن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا، والمراد به تجديد العقد، وليس ذلك مختصًا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط، بل متى تفارقا بموت أو خُلْع أو فَسْخ أو طلاق حَلَّت للأول، قياسًا على الطلاق. ومن ذلك قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تأكلوا في آنية الذهب والفضة، ولا تشربوا في صِحافِها فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة" (¬1)، وقوله: "الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يُجرجر في بطنه نارَ جهنم" (¬2) وهذا التحريم لا يختصُّ بالأكل والشرب، بل يعمّ سائرَ وجوهِ الانتفاع؛ فلا يحلُّ له أن يغتسل بها، ولا يتوضَّأ بها، ولا يَدّهن فيها، ولا يكتحل منها، وهذا أمر لا يشك فيه عالم (¬3). ومن ذلك نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المُحْرِم عن لبس القميص والسراويل والعمامة ¬
والخفين (¬1)، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط، بل يتعدى النَّهيُ إلى الجباب والدُّلوق والمُبَطَّنات والفَرَاجِي والأقْبِيَة والعرقشينات (¬2)، وإلى [القبع] (¬3) والطاقية والكوفية والكلوتة والطيلسان والقلنسوة، وإلى الجَوْرَبَيْنِ والجُرْمُوقَيْنِ والزربول ذي الساق، وإلى التُّبَّانِ ونحوه (¬4). ¬
ومن هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا ذهب أحدكم إلى الغَائط فليذهب معه بثلاثة أحجار" (¬1) فلو ذهب معه بخرقة وتنظِّف (¬2) أكثرَ من الأحجار أو قطن أو صوف أو خَزٍّ أو نحو ذلك جاز، وليس للشارع غَرضٌ في غير التنظيف (¬3) والإزالة، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز [بل] (¬4) أولى؛ ومن ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته (¬1)، ومعلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة، فلا يحل له أن يُؤجِّر على إجارته، وإنْ قُدِّر دخول الإجارة في لفظ البيع العام، وهو بيع المنافع، فحقيقتها غير حقيقة البيع، وأحكامها غير أحكامه. ومن ذلك قوله سبحانه في آية التيمم: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6]، فألحقت الأمةُ أنواعَ الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط، والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه أو على اللَّمْس على قول مَنْ فسَّره بما دون الجماع، وألحقتِ الاحتلامَ بملامسة النساء، وألحقت واجَد ثمن الماء بواجده، وألحقت مَنْ خاف على نفسه أو بهائِمه من العطش إذا توضَّأ بالعادم؛ فجوَّزت له التَّيممَ وهو واجدٌ للماء، وألحقت مَنْ خشيَ المرض من شدة برد الماء (¬2) بالمريض في العدول عنه إلى البدل؛ وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب مَنْ له فهمٌ عن اللَّه ورسوله في قَصْدِ عمومها وتعليق الحكم به وكونه متعلقًا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عموماتٍ لفظية بعيدةٍ التناول لها ليست بحرية (¬3) الفهم مما لا ينكر تناول العمومين لها؛ فمن الناس من يتنبَّه لهذا، ومنهم من يتنبَّه لهذا، ومنهم من يتفطَّن لتناول العمومين لها. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283]، وقاست الأمةُ الرَّهنَ في الحضر على الرهن في السفر، والرهن مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه، فإن استُدل على ذلك بأنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رَهَنَ دِرْعَه في الحضر (¬4)؛ فلا عمومَ في ذلك، فإنَّما رهنها على شعير استقرضه من ¬
يهودي، فلا بُدَّ من القياس إما على الآية وإما على السنة؛ ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمرَ أهلِ الذمة وأخذه في العشور التي عليهم، فبلغ عمر فقال: قاتل اللَّه سمرة، أما علم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لَعَنَ اللَّه اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشحوم فجَمَلوها (¬1) وباعوها وأكلوا أثمانها" (¬2) وهذا محض القياس من عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬3)؛ فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين، وكما يحرم ثمن الشحوم المحرَّمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام. ومن ذلك أن الصحابة [-رضي اللَّه عنه-] (4) جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعِدَّةِ، قياسًا على ما نص اللَّه عليه من قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25]، قال عبد الرزاق: أنا سفيان بن عُيينة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سليمان بن يَسار، عن عبد اللَّه بن عتبة بن مسعود، عن عمر بن الخطاب [رضي اللَّه عنه] (¬4) قال: يَنْكِحُ العبد اثنتين (¬5). وقال عبد الرزاق: أنبأنا سفيان الثوري وابن جريج قالا: ثنا جعفر بن ¬
محمد، عن أبيه أن علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬1) قال: ينكحُ العبد اثنتين (¬2). وذكر الإمام أحمد عن محمد بن سيرين قال: سأل عمر بن الخطاب الناسَ: كم يتزوج العبد؟ فقال (¬3) عبد الرحمن بن عوف: "ثنتين، وطلاقه ثنتان" (¬4)، وهذا كان بمَحْضَر من الصحابة فلم ينكره أحد. وقال محمد بن عبد السلام الخُشَني (¬5): حدثنا محمد بن المثنى: ثنا عبد الرحمن بن محمد (¬6) المحاربي، عن ليث بن أبي سُلَيم، عن عطاء قال: أجمع أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن العبد لا يجمع بين النساء فوق اثنتين (¬7). وروى حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس أن عمر قال: لو استطعت (¬8) أن أجعل عِدَّةَ الأمَةِ حَيْضَةً ونصفًا لفعلت، فقال رجل: يا أمير المؤمنين فاجعلها شهرًا ونصفًا، فسكت (¬9). ¬
[صور من قياس الصحابة]
وقال عبد اللَّه بن عتبة، عن (¬1) عمر: عِدَّةُ الأمَةِ إذا لم تحض شهران كعدتها إذا حاضت حيضتين (¬2). وروى ابن عيينة، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن سليمان بن يسار، عن عبد اللَّه بن عتبة عن عمر: ينكح العبد امرأتين، ويطلق طلقتين، وتعتدُّ الأمة حيضتين، وإن لم تكن تحيض فشهرين أو شهرًا ونصفًا (¬3). وقال علي (¬4): عدةُ الأمَةِ حيضتان، فإن لم تكن تحيض فشهر ونصف (¬5). والمقصود أن الصحابة نصَّفُوا ذلك قياسًا على تنصيف اللَّه [سبحانه] (6) الحدَّ على الأمَة. [صور من قياس الصحابة] ومن ذلك أن الصحابة قَدَّمُوا الصِّدِّيق في الخلافة وقالوا: رضِيَهُ رسول اللَّه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6) ¬
لديننا، أفلا نرضاه لدُنيانا؟ (¬1) فقاسوا الإمامة الكبرى على إمامة الصلاة، وكذلك اتِّفاقهم على كتابة المصحف وجمع القرآن فيه، وكذلك اتفاقهم على جمع الناس على مصحف واحد وترتيب واحد وحرف واحد (¬2)، وكذلك مَنْعُ عمر وعلي من ¬
بيع أمهات الأولاد برأيهما (¬1)، وكذلك تسوية الصِّدِّيق بين الناس في العطاء برأيه (¬2)، وتفضيل عمر برأيه (¬3)، وكذلك إلحاق عمر حدَّ الخمر بحد القذف برأيه (¬4) وأقرَّهُ الصحابة (¬5)، وكذلك توريث عثمان بن عفان [-رضي اللَّه عنه-]، (¬6) المبتوتة في مرض الموت برأيه (¬7)، ووافقه الصحابة، وكذلك قول ابن عباس في نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
عن بيع الطعام قبل قبضه (¬1)، قال: أحْسِبُ كل شي بمنزلة الطعام (¬2)، وكذلك عمر وزيد لما وَرَّثا الأم ثُلُثَ ما بقي [في مسألة زوج وأبوين وامرأة وأبوين قاسا وجودَ الزوج على أما إذا لم يكن زوج] (¬3)؛ فإنه حينئذٍ يكون للأب ضعفي ما للأم] (¬4)، فقدَّرا أن [يكون] (¬5) الباقي بعد الزوج والزوجة كل المال (¬6)، وهذا من أحسن ¬
[قياس الصحابة حد الشرب على حد القذف]
القياس؛ فإنَّ قاعدةَ الفرائض أن الذكر والأنثى إذا [اجتمعا وكانا] (¬1) في درجة واحدة فإما أن ياخذ الذكرُ ضعفَ ما تأخذه (¬2) الأنثى كالأولاد وبني الأب، وإما أن تساويه كولد الأم، وإما أنَّ الأنثى تأخذ ضعفَ ما يأخذ الذكر مع مساواته لها في الدرجة (¬3) فلا عَهْدَ به في الشريعة، فهذا من أحسن الفهم عن اللَّه ورسوله، وكذلك أخذ الصحابة في الفرائض بالعَوْل (¬4) وإدخال النَّقْص على جميع ذوي الفروض قياسًا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مالُ المُفْلِسِ عن توْفيتهم، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للغرماء: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك" (¬5) وهذا مَحْضُ العَدْل، على أنَّ تخصيصَ بعض المستحقين بالحرمان وتوفية بعضهم بأخذ نصيبه ليس (¬6) من العدل. [قياس الصحابة حد الشرب على حد القذف] وقال عبد الرزاق: أنبأنا مَعمر، عن أيوب السَّخْتياني، عن عكرمة أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- شاور الناس في حد الخمر، وقال: إن الناس قد شربوها واجترؤوا عليها، فقال له علي: إن السكران إذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى، فاجعله حد ¬
الفرية، فجعله عمر حد الفرية ثمانين (¬1). ورواه مالك عن ثور بن زيد الدِّيلي (¬2) أن عمر شاور الناس (¬3)، ورواه وكيع: حدثنا ابن أبي خالد (¬4)، عن الشعبي قال: استشارهم عمر، فذكره، ولم ينفرد علي بهذا القياس، بل وافقه عليه الصحابة؛ قال الزهري: أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن وبرة الصلتي قال: بعثني خالد بن الوليد إلى عمر، فأتيته وعنده عليّ وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف مُتَّكئون في المسجد، فقلت له: إن خالد بن الوليد يقرأ عليك السلام، ويقول لك: إن الناس انبسطوا في الخمر، وتحاقروا العقوبة، فما ترى؟ فقال عمر: هم هؤلاء عندك، قال: فقال علي: أراه إذا سكر هَذَى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فاجتمعوا على ذلك، فقال عمر: بَلِّغ صاحبك، ما قالوا، فضرب خالد ثمانين، وضرب ¬
[قياس الصحابة في الجد مع الإخوة]
عمر ثمانين، قال: وكان عمر إذا أُتي بالرجل القوي المنهمك (¬1) في الشراب ضربه ثمانين، وإذا أتي بالرجل الذي كانت منه الزلة (¬2) الضعيف ضربه أربعين، وجعل ذلك عثمان أربعين وثمانين (¬3)، وهذه مراسيل ومُسندات من وجوه متعددة يقوي بعضها بعضًا، وشهرتها تغني عن إسنادها. [قياس الصحابة في الجد مع الإخوة] وقال عبد الرزاق: حدثنا سفيان الثوري، عن عيسى بن أبي عيسى الخَيَّاط، عن الشعبي قال: كره عمر (¬4) الكلام في الجد حتى صار جدًا، وقال: إنه كان من [رأي] (¬5) أبي بكر أن الجد أولى من الأخ، وذكر الحديث، وفيه: فسأل عنها زيدَ بن ثابت فضرب له مثلًا بشجرة خرجت ولها أغصان، قال: فذكر شيئًا لا أحفظه، فجعل له الثُّلُث، [قال الثوري] (¬6): وبلغني أنه قال: يا أمير المؤمنين، شجرة نَبتت، فانشعب منها غُصْن، فانشعب من الغصن غصنان، فما جعل الغصن الأول أولى من الغصن الثاني، وقد خرج الغصنان من الغصن الأول؟ قال: ثم سأل عليًا، فضرب له مثلًا واديًا سال [فيه سيلٌ] (5)، فجعله أخًا فيما بينه وبين ستة، فأعطاه السُّدس، وبلغني أن عليًا [كرم اللَّه وجهه] (5) حين سأله عمر جعله سيلًا، قال: فانشعب منه شُعْبة، ثم انشعبت (¬7) شعبتان، فقال: أرأيت لو أنَّ هذه الشعبة الوسطى تيبس (¬8) أما ¬
كانت ترجع إلى الشعبتين جميعًا؟ قال الشعبي: فكان (¬1) زيد يجعله أخًا حتى يبلغ ثلاثة هو ثالثهم، فإنْ زادوا على ذلك أعطاه الثلث، وكان عليٌّ يجعله أخًا ما بينه وبين ستة وهو سادسهم، ويعطيه السدس، فإن زادوا [على ستة] (¬2) أعطاه السدس، وصار ما بقي بينهم (¬3). وقال القاضي إسماعيل بن إسحاق: حدثنا إسماعيل بن أبي أُويس: حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه أن عمر بن الخطاب لما استشار في ميراث الجد والإخوة، قال زيد: وكان رأَيي (¬4) [يومئذٍ أن الإخوة أحق بميراث أخيهم من الجد، وعمر بن الخطاب يرى] (¬5) يومئذٍ أن الجد أولى بميراث ابن ابنه من إخوته، فتحاورتُ أنا وعمر محاروةً شديدةً، فضربت له في ذلك مثلًا، فقلت: لو أنَّ شجرةَ تشعَّبَ من أصلها غصن، ثم تشعَّب في ذلك الغصن خُوطَان (¬6) ذلك الغصن يجمع الخوطَيْنَ دون الأصل ويغْذُوهما، ألا ترى يا أمير المؤمنين أنَّ أحدَ الْخُوطَيْن أقربُ إلى أخيه منه إلى الأصل؟ قال زيد: فانا أُعْذِلُه وأضربُ له هذه الأمثال، وهو يأبى إلا أنَّ الجدَّ أولى من الإخوة، ويقول: واللَّه لو أنِّي قضيت اليوم لبعضهم لقضيتُ به للجدِّ كله، ولكن لعَلّي لا أخيب منهم أحدًا، ولعلهم أن يكونوا كلهم ذوي حق، وضرب علي وابن عباس لعمر يومئذٍ مثلًا معناه: لو أن سَيْلًا سألَ فخلج (¬7) منه خليج، [ثم خلج من] (¬8) ذلك الخليج شعبتان (¬9). ¬
ورَأْيُ الصديق (¬1) أولى من هذا الرأي وأصح في القياس، لعشرة أوجه ليس هذا موضع ذكرها. والجواب عن هذه الأمثلة: أنَّ المقصود أن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر، ولا يُلتفت إلى مَنْ (¬2) يقدح في كل سند من هذه الأسانيد وأثر من هذه الآثار، فهذه في تَعَدُّدها (¬3) واختلاف وجوهها وطرقها جارية مجرى التواتر المعنوي، الذي لا يشك فيه، وإنْ لم يثبت كل فرد من الأخبار به (¬4)، وقال عبد الرزاق: حدثنا ابن جُرَيْج [قال] (¬5): أخبرني عمرو، قال: أخبرني حيي (¬6) بن يعلى بن أمية أنه سمع أباه يقول، وذكر قصة الذي قتلته امرأة أبيه وخليلها (¬7)، أن عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-]، كتب إليّ أن اقْتُلْهُمَا فلو اشترك فيه أهلُ صنعاء كلهم لقتلتُهم (¬8)، قال ابن جريج: فأخبرني ¬
[بين ابن عباس والخوارج]
عبد الكريم وأبو بكر قالا جميعًا: إن عمر كان يشك (¬1) فيها حتى قال له عليّ: يا أمير المؤمنين، أرأيتَ لو أنَّ نفرًا اشتركوا في سرقة جَزُور، فأخذ هذا عضوًا وهذا عضوًا، أكنتَ قاطعَهم؟ قال: نعم، قال: وذلك حين استخرج له الرأي (¬2). [بين ابن عباس والخوارج] وقال عبد اللَّه بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بُكير بن الأشج عَمّن حدثه عن ابن عباس قال: أرسلني على إلى الحَرورية (¬3) لأكلّمهم، فلما (¬4) قالوا: "لا حَكَمَ إلا اللَّه" قلت: أجل، صدَقْتُم (4)، لا حكم إلا اللَّه، وأن اللَّه قد حَكَّم في رجل وامرأته، وحَكَّم في قتل الصيد؛ فالحكم في رجل وامرأته، والصيد أفضل أم الحكم في الأمَّة يرجع بها، وَيحْقن دماءها، وَيلُمُّ شعثها؟ (¬5). وقال عبد اللَّه بن المبارك: حدثنا عكرمة بن عمار: ثنا سِمَاك الحنفي قال: سمعت ابنَ عباس يقول: قال على: لا تُقَاتلوهم حتى يخرجوا، فإنهم سيخرجون، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أَبْرِد بالصلاة، فإنِّي أريد أن أدخل عليهم فأسمع من كلامهم وأكلّمَهُم، فقال علي: أخشى عليكَ منهم، قمال: وكنتُ (¬6) رجلًا حسن الخلق لا أوذي أحدًا، قال: فلبستُ أحسنَ ما يكون من اليمنية، وترجّلتُ، ثم دخلتُ عليهم وهم قائلون، فقالوا [لي] (¬7): ما هذا اللباس؟ فَتَلَوْتُ عليهم القرآن: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ولقد رأيتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يلبس أحسن ما يكون من اليمنية، فقالوا: لا بأس، فما جاء بك؟ فقلتُ: أتيتُكم من عند صاحبي، وهو ابنُ عمِّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، [وخَتْنه] (¬8)، ¬
وأصحابُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعلمُ بالوحي منكم، وعليهم نزلَ (¬1) القرآنُ، أبلِّغُكم عنهم وأبلغهم عنكم، فما الذي نقمتم؟ فقال بعضهم: إنّ قريشًا قوم خَصِمون قال اللَّه [عز وجل] (2): {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]، فقال بعضهم: كلموه، فانتحى لي رجلان منهم أو ثلاثة، فقالوا: إنْ شئتَ تكلَّمتَ، وإنْ شئتَ تكلَّمنا، فقلتُ: بل تكلَّموا، فقالوا: ثلاث نقمناهن عليه، جعل الحكم إلى الرجال، وقال اللَّه [عز وجل] (¬2): {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، فقلت: قد جعلَ اللَّه الحكمَ من أمره إلى الرجال في رُبع درهم في الأرنب، وفي المرأة وزوجها: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم، قالوا: وأُخرى مَحَا نَفْسَه أن يكون أمير المؤمنين، فإن لم يكن أميرَ المؤمنين فأمير الكافرين هو؟ فقلت لهم: أرأيتم إن قرأتُ [من] (2) كتاب اللَّه عليكم وجئتكم به من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أترجعون؟ قالوا: نعم، قلتُ: قد سمعتُم أو أُراه قد بَلَغكم، أنه لما كان يوم الحديبية جاء سهيل بن عمرو إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي: أكتبْ هذا ما صالح عليه محمد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقالوا: لو نعلم أنك رسولُ اللَّه لم نقاتلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعلي: "امحُ يا علي"، أفخرجتُ من هذه؟ قالوا: نعم، قال: وأما قولُكم: قَتَلَ ولم يَسْب ولم يغنم، أفَتَسْبُون أُمَّكم وتَسْتحلُّون منها ما تستحلُّون من غيرها؟ فإن قلتم: نعم فقد كفرتم بكتاب اللَّه، وخرجتم من الإسلام، فأنتم بين ضلالتين، وكلَّما جئتُهم بشيء من ذلك أقول: أفخَرجتُ منها؟ فيقولون: نعم، قال: فرجع منهم ألفان وبقي ستةُ آلاف (¬4)، وله طرق عن ابن عباس، وقياسُه المذكور من أحسن القياس وأوضحه. وقد أنكر ابنَ عباس على زيد [بن ثابت مخالفته للقياس في مسألة الجد ¬
والإخوة، فقال: ألا يتقى اللَّه زيد؟] (¬1) يجعلُ ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أبَ الأبِ أبًا؟ (¬2) وهذا محض القياس. ولما خَصَّ الصِّدِّيق أُمَّ الأم بالميراث دون أم الأب، قال له بعض الأنصار: لقد وَرَّثتَ امرأةً من ميتٍ، لو كانت هي الميتة لم يَرثْها، وتركتَ امرأةً لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت، فشَرَّك بينهما. قال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عُيينة، عن يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد قال: جاءت جَدَّتان إلى أبي بكر، فأعطى الميراث أمَّ الأم دون أم الأب، فقال له رجل من الأنصار من بني حارثة يقال له: عبد الرحمن بن سهل (¬3): يا خليفة رسول اللَّه، قد أعطيتَ الميراث التي لو ماتت لم يرثها، فجعل الميراث بينهما (¬4). ولما شهد أبو بكرة وأصحابُه على المغيرة بن شعبة بالحدِّ، ولم يكمَّلوا النصاب حَدَّهم عمر (¬5)، قياسًا على القاذف، ولم يكونوا قَذَفَةً بل شهودًا؛ وقال عثمان لعمر: إن نتَّبع رأيك فرأيك أسَدُّ (¬6)، وإن نتبع مَنْ قبلك فلنعم ذو الرأي ¬
[اختلافهم في المرأة المخيرة]
كان (¬1)؛ وقال علي: اجتمع رأيي ورأيُ عمر في بيع (¬2) أمهات الأولاد أن لا يُبَعْنَ، ثم رأيت بيعهن، فقال له قاضيه عَبيدة السَّلْماني: [يا أمير المؤمنين] (¬3) رأيك مع رأي عمر في الجماعة أحَبُّ الينا من رأيك وَحْدك في الفرقة (¬4). ولما أرسل عمرُ إلى المرأة فاسقطت جنينها استشار الصحابةَ؛ فقال له عبد الرحمن بن عوف وعثمان: إنما أنت مُؤَدِّب، ولا شيء عليك؛ وقال له علي: أما المأثَم فأرجو أن يكونَ محطوطًا عنك، وأرى عليك الدية (¬5)، فقاسه عثمان وعبد الرحمن على مؤدِّب امرأته وغلامه وولده، وقاسه عليّ عَلَى قاتل الخطأ، فاتَّبع عمرُ قياس علي. ولما احتُضِرَ الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) أوصى بالخلافة إلى عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬7)، وقاس ولايتَه لمن بعده إذ هو صاحب الحلِّ والعقد على ولاية المسلمين له إذ (¬8) كانوا هم أهل الحل والعقد، وهذا من أحسن القياس. [اختلافهم في المرأة المُخَيَّرة] وقال علي: سألني أمير المؤمنين عمر عن الخيار، فقلت: إنْ اختارت ¬
زوجها فهي واحدة، وهو أحقُّ بها، وإنْ اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، فقال: ليس كذلك، إنْ اختارت نفسها فهي واحدة، وهو أحق بها، وإن اختارت زوجها فلا شيء، فاتبعته على ذلك، فلما خلص الأمرُ إليَّ، وعلمتُ أني أُسأل عن الفروج عُدتُ إلى ما كنت أرى، فقال له زاذان: لأمرٌ جامعت عليه أمير المؤمنين وتركت رأيك له أحبُّ ألينا من أمر انفردت به، فضحك وقال: أما إنه قد أرسل إلى زيد بن ثابت، وخالفني وإياه (¬1)، وقال: إن اختارت زوجَها فهي واحدة، وزوجها أحقُّ بها، وإن اختارت نفسها فهي ثلاث (¬2)، وهذا رأيٌ منهم كُلُّهم [-رضي اللَّه عنه-] (3)؛ ورأي عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) أقوى وأصح. وقال عمرُ لِعَليٍّ: إني قد رأيت في الجد رأيًا فاتَّبعوني، فقال علي: إن نتبع رأيك فرأيك رشيد، كان نتبع رأي من قبلك فنِعمَ ذو الرأي كان (¬4). وهل مع زيد بن ثابت في مسائل الجد والإخوة والمعَادَّة والأكدرية (¬5) نصٌّ من قرآن أو سنة أو إجماع إلا مجرد الرأي؟ ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لامرأته: "أنت عليَّ حرام"؛ فقال شيخا الإسلام وبَصَرا الدِّين وسَمْعُه أبو بكر وعمر [-رضي اللَّه عنهما-] (3): هو يمين (¬6)، وتبعهما حبرُ ¬
[الصحابة فتحوا باب القياس والاجتهاد]
الأمة وتَرجُمانُ القرآن ابن عباس (¬1)؛ وقال سيف اللَّه علي بن أبي طالب وزيد: هو طلاق ثلاث (¬2)؛ وقال ابن مسعود: طلقة واحدة (¬3)، وهذا من الاجتهاد والرأي. [الصحابة فتحوا باب القياس والاجتهاد] [فالصحابة -رضي اللَّه عنهم-] (¬4) مَثَّلوا الوقائع بنظائرها، وشَبّهوها بأمثالها، وردُّوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء بابَ الاجتهاد، وَنَهَجُوا لهم طريقه، وبيّنوا لهم سبيله، وهل يستريبُ عاقل في أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غَضْبَان" (¬5) إنما كان ذلك لأن الغضب يُشوِّشُ عليه قلبَه وذهنَه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويُعَفي عليه طريقَ العلم ¬
[العمل بالقياس مركوز في فطر الناس]
والقصد، فمن قَصَرَ النَّهيَ (¬1) على الغضب وحده دون الهَمّ المزعج، والخوف المقلق، والجوع والظمأ الشديد، وشُغْل القلب المانع من الفهم؛ فقد قَلَّ فِقهُه وفهمُه (¬2)، والتعويل في الحكم على قَصْد المتكلِّم، والألفاظُ لم تقصد لنفسها وإنما هي مقصودة للمعاني، والمتوصل (¬3) بها إلى معرفة مراد المتكلِّم، ومُراده يظهر من عموم لفظه تارة، ومن عموم المعنى الذي قصده تارة، وقد يكون فَهْمُه من المعنى أقوى، وقد يكون من اللفظ أقوى، وقد يتقاربان؛ كما إذا قال الدليل لغيره: لا تَسْلُكْ هذا الطريقَ فإن فيها مَنْ يقطع الطريق، أو هي مَعْطَشَة مخوفة؛ عَلِمَ هو وكلُّ سامع أنَّ قصدَه أعمُّ من لفظه، وأنه أراد نَهْيه عن كل طريق هذا شأنها؛ فلو خالفه وسلك طريقًا أخرى عَطِبَ بها حَسُنَ لومه، ونُسِبَ إلى مخالفته ومعصيته، ولو قال الطبيب للعليل وعنده لحم ضأن: لا تأكل الضأن فإنه يزيد في مادة المرض، لَفَهِمَ كُلُّ عاقل منه أن لحم الإبل والبقر (¬4) كذلك، ولو أكل منهما لَعُدَّ مخالفًا، والتحاكمُ في ذلك إلى فِطَرِ الناس وعقولهم، ولو مَنَّ عليه غيره بإحسانه فقال (¬5): واللَّه لا أكلت له لقمةً، ولا شربتُ له ماءً، يريد خلاصه من مِنَّتهِ عليه، ثم قَبِلَ منه الدراهم والذهب والثياب (¬6) والشاة ونحوها لَعَدَّهُ العقلاءُ واقعًا فيما هو أعظم [مما] (¬7) حَلَف عليه، ومُرتكبًا لذروة سَنَامه؛ ولو لَامَه عاقلٌ على كلامه لمن لا يليق به [مُحَادثته] (¬8) من امرأة أو صبي فقال: واللَّه لا كَلَّمته، ثم رآه خاليًا به يُؤاكله ويشاربه ويُعَاشره ولا يكلمه لَعَدُّوه مرتكبًا لأشدِّ مما حلف عليه وأعظمه. [العمل بالقياس مركوز في فطر الناس] وهذا مما فطر اللَّه عليه عباده؛ ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] جميعَ وجوهِ الانتفاع من اللبس والركوب والسكنى (¬9) وغيرها. ¬
[العبرة بإرادة المتكلم لا بلفظه]
وفهمت من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] إرادة النَّهي عن جميع أنواع الأذى بالقول والفِعل، وإنْ لم تَرِد (¬1) نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى، فلو بَصَقَ رجل في وَجْه وَالديه وضَرَبهما بالنعل (¬2)، وقال: إني لم أقل لهما: أُفٍّ، لَعَدَّهُ الناس في غاية السَّخافة والحماقة والجهل من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه، وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره، ومَنْعُ هذا مكابرةٌ للعقل والفهم والفطرة، فمَنْ عَرف مراد المتكلِّم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تُقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يُستدلُّ بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده، ووضَحَ بأيِّ طريق كان؛ عُمِلَ بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو إيماء أو دلالة عقلية، أو قرينة حاليَّة، أو عادة [له] (¬3) مطّردة لا يُخِلُّ بها، أو مِنْ مُقتضى كماله وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته (¬4)، وأنه يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله [وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثلة ونظيره] (¬5) ومشبهه، فيقطع العارفُ به وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا ويكره هذا، ويحبُّ هذا [ويبغض هذا] (3)، وأنت تجد من له اعتناءٌ شديد بمذهب رجل [وأفتى له] (¬6) كيف يفهم مراده من تصرفه ومذهبه (¬7)؟ ويخبر عنه بأنه يفتي بكذا، ويقوله، وأنه لا يقول بكذا ولا يذهب إليه، لما لا يجد في كلامه صريحًا، وجميع أتباع الأئمة مع أئمتهم بهذه المثابة. [العبرة بإرادة المتكلم لا بلفظه] وهذا [أمر] (3) يَعُمُّ أهلَ الحقِّ والباطلِ، لا يمكن دفعه؛ [فاللفظ الخاص قد ينتقل] (¬8) إلى معنى العموم بالإرادة، [والعام قد ينتقل إلى معنى الخصوص بالإرادة] (¬9)، فإذا دُعي إلى غَداء فقال: واللَّه لا أتغدَّى، أو قيل له: "نَمْ" فقال: ¬
واللَّه لا أنام، أو: "اشرب هذا الماء" فقال: واللَّه لا أشرب، فهذه كلها ألفاظ عامة نُقلت إلى معنى الخصوص بإرادة المتكلم التي يَقْطع السامعُ عند سماعها بأنه لم يُرِد النَّفيَ العام إلى آخر العمر (¬1)، والألفاظ ليست تَعَبُّديَّة (¬2)، والعارفُ يقول: ماذا أراد، واللفظي يقول: ماذا قال، كما كان [يقول] الذين لا يفهمون (¬3) إذا خرجوا من عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقولون: ماذا قال آنفًا؛ وقد أنكر اللَّه سبحانه عليهم وعلى أمثالهم بقوله: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78]؛ فذمَّ من لم يفقه كلامه، والفقه أخص من الفهم؛ وهو فهم مراد المتكلم من كلامه، وهذا قدر زائد على مجرد فهم وَضْعِ اللفظ في اللغة، وبحسب تفاوت مراتب الناس في هذا تتفاوت (¬4) مراتبهم في الفقه والعلم. وقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يستدلون على إذن الرب تعالى وإباحته بإقراره، وعدم إنكاره عليهم في زمن الوحي، وهذا استدلال على المراد بغير لفظ، بل بما عرف من مُوجب أسمائه وصفاته، وأنه لا يُقرُّ على باطل حتى يبينه، وكذلك استدلال الصِّدِّيقة الكبرى أم المؤمنين خديجة بما عَرَفته من حكمة (¬5) الرب تعالى وكمال أسمائه وصفاته ورحمته، أنه لا يُخْزي محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنه (¬6) يصلُ الرَّحم، ويحملُ الكَلَّ، ويَقْرِي الضَّيف، ويُعين على نوائب الحق (¬7)، وأَنَّ مَنْ كان بهذه المثابة فإنَّ العزيزَ الرحيم الذي هو أحكم الحاكمين وإلهُ العالمين لا يُخزيه، ولا يُسَلِّط عليه الشَّيطانَ، وهذا استدلال منها قبل ثبوت النبوة والرسالة، بل استدلال على صحتها وثبوتها في حقِّ مَنْ هذا شأنه؛ فهذا معرفة منها بِمُرادِ الرب تعالى وما يفعله من أسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وإحسانه ومجازاته المُحْسنَ (¬8) بإحسانه، وأنه لا يُضيع أَجر المحسنين، وقد كانت الصحابةُ أَفْهَمَ الأمة لمراد نبيّها وأتْبَعَ ¬
[بم يعرف مراد المتكلم؟]
له، وإنما وكانوا يُدَنْدِنُونَ حول معرفة مراده ومقصوده، ولم يكن أحد منهم يظهر له مُرَادُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم يَعْدِلُ عنه إلى غيره ألبتة. [بم يعرف مراد المتكلم؟] والعلمُ بمراد المتكلم يُعرفُ تارةً من عموم لفظه، وتارةً من عموم علَّته، والحوالة على الأول أوضَحُ لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضَحُ لأرباب المعاني والفهم والتدبر. [أغلاط أصحاب الألفاظ وأصحاب المعاني] وقد يعرض لكلٍّ من الفريقين ما يُخِلُّ بمعرفة مراد المتكلِّم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصيرُ بها عن (¬1) عمومها، وهضْمُها تارة، وتحميلها فوقَ ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربعُ آفاتٍ هي منشأ غلط الفريقين. ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره، فنقول: [بعض الأغلاط التي وقع فيها أهل الألفاظ وأهل المعاني] قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90]؛ فلفظ الخمر عام في كل مُسكر، فإخراج بعض الأشربة المُسكرة عن شمول اسم الخمر لها تقصيرٌ به وهضمٌ لعمومه، بل الحق ما قاله صاحب الشرع: "كل مسكر خمر" (¬2)، وإخراجُ بعضِ أنواع الميسر عن شمول اسمه لها تقصير أيضًا به، وهضم لمعناه (¬3) فما الذي جعل النردَ الخالي عن (¬4) العِوَضِ من الميسر وأخرج الشطْرَنْجَ عنه، مع أنها من أظهر أنواع الميسر؟ كما قال غير واحد من السلف: إنه مَيْسِر (¬5). وقال ¬
عليُّ [-رضي اللَّه عنه-]: هو مَيْسر المعجم (¬1). وأما تحميلُ اللفظ فوق ما يحتمله؛ فكما حُمّل لفظ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، وقوله في آية البقرة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] مسألة العينة (¬2) التي هي ربًا بحيلة، وجعلها من التجارة، ولَعَمْرُ اللَّه إنَّ الربا الصريح تجارةٌ للمُرابي وأيُّ تجارة (¬3)، وكما حُمِّل قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] [على] (¬4) مسألة التحليل، وجعل التيس المستعار الملعون على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- داخلًا في اسم الزوج (¬5)، وهذا في التجاوز يقابل الأول في التقصير. ¬
ولهذا كان معرفةُ حدود ما أنزل اللَّه على رسوله أصل العلم وقاعدته وآخِيَّته التي يرجع إليها، فلا يخرج شيئًا من معاني ألفاظه عنها، ولا يدخل فيها ما ليس منها، بل يُعطيها حقَّها، ويفهم المراد منها. ¬
[ومن هذا] (¬1): لفظ الأيْمَانِ والْحَلِفِ، أخرجت طائفةٌ من الأيمان الالتزامية التي يلتزم (¬2) صاحبُها بها إيجابَ شيء أو تحريمه، وأدخلت طائفةٌ فيها التعليق المحض الذي لا يقتضي حضًّا ولا منعًا، والأول نَقْصٌ من المعنى، والثاني تحميلٌ له فوق معناه. ومن ذلك لفظُ الربا، أدخلتْ فيه طائفةٌ ما لا دليل على تناول اسم الربا له، كبيع الشَّيْرَج بالسِّمسِم، والدِّبْس بالعنب، والزيت بالزيتون، وكل ما استخرج من ربويٍّ وعمل منه بأصله، وإنْ خرج عن اسمه ومقصوده وحقيقته، وهذا لا دليلَ عليه يوجب المصيرَ إليه لا من كتاب، ولا من سنة، ولا إجماع ولا ميزان صحيح، وأدخلت فيه من مسائل مُد عَجْوَة ما هو أبعد شيء عن الربا، وأخرجت طائفة أخرى منه ما هو من الربا الصريح (¬3) حقيقة وقصدًا وشرعًا (¬4)، كالحيل الربوية التي هي أعظم مَفْسدةً من الربا الصريح، ومفسدة الربا البَحْت الذي لا يتوصل إليه بالسلاليم أقلُّ بكثير، وأخرجت منه طائفةٌ بيع (¬5) الرطب [بالتمر] (¬6)، وإن كان كونه من الربا أخفى من كون الحيل الربوية منه، فإن التماثُلَ موجودٌ فيه في الحال دون المآل، وحقيقةُ الربا في الحيل الربوية أكملُ وأتم منها في العقد الربوي الذي لا حيلة فيه. ومن ذلك لفظ البينة (¬7)، قَصَّرَتْ به (¬8) طائفة، فأخرجتْ منه الشاهدَ واليمين (¬9)، وشهادة العبيد (¬10) العُدُول الصادقين المقبولي القول على اللَّه ورسوله، وشهادة النساء منفردات (¬11) في المواضع التي لا يحضرهنّ فيه الرجالُ، كالأعراس ¬
والحمامات، وشهادة الزوج في اللِّعان إذا نَكَلتِ المرأة (¬1)، وأَيْمان المدَّعِين الدمَ إذا ظهر اللَّوْثُ (¬2)، ونحو ذلك مما يبيِّن الحق أعظم من بيان الشاهدين، وشهادة القاذف (¬3)، وشهادة الأعمى (¬4) على ما يتيقنه، وشهادة أهل الذمة على الوصية في السفر إذا لم يكن هناك مسلم (¬5)، وشهادة الحال في تداعي الزوجين متاعَ البيت (¬6)، وتداعي النجار والخياطِ آلَتَهُما ونحو ذلك، وأدخلت فيه طائفة ما ليس منه كشهادة مجهول الحال، الذي (¬7) لا يُعرف بعَدَالة ولا فسق (¬8)، وشهادة وجوه الآجر (¬9) ومعاقد القمط (¬10) ونحو ذلك (¬11)؛ والصَّوابُ أنَّ كلَّ ما يُبيِّنُ الحق فهو بينة، ولم يعطل اللَّه ولا رسوله حقًا بعد ما تبين بطريق من الطرق أصلًا، بل حكم اللَّه ورسوله الذي لا حكم له سواه، أنه متى ظهر الحقُّ ووضَح بأي طريق كان، وجب تنفيذه ونصره، وحَرُمَ تعطيلُه وإبطالُه، وهذا بابٌ يطول استقصاؤه، ويكفي المستبصر التنبيه عليه، وإذا فهم هذا في جانب اللفظ فهم نظيره في جانب المعنى سواء. ¬
[القياسيون والظاهرية مفرطون]
[القياسيون والظاهرية مفرطون] وأصحاب الرأي والقياس حَمَّلوا معاني النصوص فوق ما حَمَّلها الشارع، وأصحاب الألفاظ الظواهر (¬1) قَصَّروا بمعانيها عن مراده، فأولئك قالوا: إذا وقعت قَطْرةٌ من دم في البحر، فالقياس أنه ينجس، ونَجَّسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء ألبتة بتلك القطرة، وهؤلاء قالوا: إذا بال جَرَّةً [من بول] (¬2) وصَبَّها في الماء لم تنجسه (¬3)، وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نَجَّسَه (¬4)، فنَجَّسَ ¬
أصحابُ الرأي والقياس (¬1) القناطير المقنطرة، ولو كانت ألف ألف قنطار من سمن أو زيت أو شَيْرَج بمثل رأس الإبرة من البول والدم، والشعرة الواحدة من الكلب والخنزير عند من يُنجِّس شَعْرَهما، وأصحاب الظواهر والألفاظ عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو (¬2) أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت أو شَيْرَج أو خَلٍّ أو دبْس أو وَدَكٍ غير السمن أُلقيت الميِّتةُ فقط، وكان ذلك المائع حلالًا طاهرًا كله، فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو خنزير أو أي نجاسة كانت، فهو طاهر حلال ما لم يتغيِّر. ومن ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تَنْتَقِبُ المرأة ولا تلبس القُفَّازَيْنِ" (¬3) يعني في الإحرام، فسوَّى بين يَدَيها ووجهها في النهي عما صنع على قدر العضو، ولم يمنعها من تغطية وجهها، ولا أمَرَها بكشفه ألبتة، ونساؤه -صلى اللَّه عليه وسلم- أعلم الأمة بهذه المسألةُ، وقد كُنَّ يُسْدِلْنَ على وجوههن إذا حاذاهن الركبانُ، فإذا جاوزوهن كَشَفْنَ وجوهَهن (¬4)، وروى وَكيع عن شعبة عن يزيد الرشك (¬5) عن مُعَاذَة العدَوية قالت: سألتُ عائشة: ما تَلْبَسُ المحرمة؟ فقالت: لا تنتقب، ولا تتلثم، وتُسْدِل الثوب على وجهها (¬6)، فَجَاوَزَتْ (¬7) طائفةٌ ذلك، ومنعتها من تغطية وجهها جملة، قالوا: فإذا سَدَلت على وجهها فلا تَدَعُ الثوبَ يمسُّ وجهها، فإن مسه افتَدَتْ، ولا دليل ¬
[على هذا] (¬1) البتة، وقياسُ قولِ هؤلاء أنها إذا غطَّتْ يَدَها (¬2) افتدت، فإنَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوَّى بينهما في النهي، وجعلهما كَبَدَنِ المحرم، فنهى عن لبس القميص والنقاب والقفازين، هذا للبدن وهذا للوجه وهذا لليدين، ولا يحرم ستر البدن (¬3)، فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر اللَّه لها أنْ تُدْنِيَ عليها من جلبابها لئلا تعرف، ويفتتن بصورتها؟ (¬4) ولولا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في المحرم: "ولا يُخَمَّرُ رأسُه" (¬5) لجاز تغطيته بغير العمامة. وقد روى الإمام أحمد عن خمسة من الصحابة: عثمان وابن عباس وعبد اللَّه بن الزبير وزيد بن ثابت وجابر، أنهم كانوا يُخَمِّرون وجوههم وهم محرمون (¬6)؛ فإذا كان هذا في حق الرجل، وقد أمر بكشف رأسه (¬7)؛ فالمرأة بطريق الأولى [والأحْرَى] (¬8). ¬
وقَصَّرت طائفةٌ أخرى فلم تمنع المحرمة (¬1) من البُرْقُعِ ولا اللِّثام، قالوا: إِلا أن يدخلا (¬2) في اسم النقاب فتُمنع منه، وعُذْرُ هؤلاء أنَّ المرجعَ إلى ما نَهَى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ودخل في لفظ المَنْهي عنه [فقط] (¬3)، والصَّوابُ النهيُّ عما دخل في عموم لفظه وعموم معناه وعلَّته؛ فإنَّ البرقع واللثام وإن لم يُسمَّيا نقابًا، فلا فرق بينهما وبينه، بل إذا نُهِيَتْ عن النقاب فالبرقع واللِّثام أولى؛ ولذلك منعتها أم المؤمنين من اللثام. ومن ذلك لفظ الفدْيَة، أدخل فيها طائفةٌ خُلْعَ الحيلة على فعل المحلوف عليه مما هو ضد الفدية؛ إذ المراد بقاء النِّكاح بالْخَلاص من الحِنْث، وهي إنّما شُرِعت لزوال النكاح عند الحاجة إلى زواله، وأخرجت منه طائفة ما فيه حقيقة [الفدية] (¬4) ومعناها، واشترطت له لفظًا معينًا، وزعمت أنه لا يكون فدية وخلعًا إِلا به، وأولئك تجاوزوا به، وهؤلاء قصروا به؛ والصواب أن كل ما دخله المال فهو فدية بأي لفظ كان، والألفاظ لم تُرَدْ لذواتها ولا تعبدنا بها (¬5)، وإنما هي وسائل إلى المعاني؛ فلا فرق قَطُّ بين أن تقول: "اخلعني بألف"، أو: "فَادِني بألف" (¬6) لا حقيقة ولا شرعًا، ولا لغة ولا عرفًا؛ وكلامُ ابن عباس والإمام أحمد عام في ذلك، لم يقيده أحدهما بلفظ، ولا استثنى لفظًا دون لفظ، بل قال ابن عباس: عامة طلاق أهل اليمن الفداء (¬7)، وقال الإمام أحمد: الخلع فرقة، وليس بطلاق، وقال: الخلع ما كان من جهة النساء (¬8)، وقال: ما أجازه المال فليس بطلاق، وقال: إذا خالَعَهَا بعد تطليقتين فإن شاء راجَعَها فتكون معه على واحدة. ¬
وقال في رواية أبي طالب: الخلعُ مثلُ حديث سَهْلة إذا كرهت المرأة الرجل وقالت: لا أبرُّ لَكَ قسَمًا، ولا أطيعُ لك أمرًا، ولا أغتسلُ لك من جنابة، فقد حلَّ له أن يأخذ منها ما أعطاها (¬1)؛ لأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أتَرُدِّينَ عليه حَدِيقَتَهُ" قلت: وقد قال في الحديث: "اقْبَلِ الحدِيقَة وطلِّقها تطليقة" (¬2) وجعل أحمد ذلك فداء. وقال ابن هانيء: سُئل أبو عبد اللَّه عن الخلع: أفسخ [نكاح] أم [خلع] طلاق (¬3) هو؟ أم تذهب إلى حديث ابن عباس كان يقول: فرقة وليس بطلاق؟ فقال أبو عبد اللَّه: كان ابن عباس يتأول هذه الآية: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ} (¬4) [البقرة: 229]، وكان ابن عباس يقول: هو فداء (¬5)، قال ابن عباس: ذكر اللَّه الطلاقَ في أول الآية، والفداءَ في وسطها، وذكر الطلاق بعد؛ فالفداء ليس هو بطلاق (¬6)، [و] (¬7) إنما هو فداء (¬8)، فجعل ابن عباس وأحمد الفداءَ فداءً [لمعناه لا للفظه] (¬9)، وهذا ¬
[وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقهما]
هو الصواب؛ فإنَّ الحقائق (¬1) لا تتغير بتغيير الألفاظ، وهذا باب يطول تتبعه. [وجوب إعطاء اللفظ والمعنى حقّهما] والمقصود أن الواجب فيما عَلَّق عليه الشارعُ الأحكام من الألفاظ والمعاني أن لا يُتجاوز بألفاظها ومعانيها، ولا يُقصر بها، ويُعطى اللفظ حقَّه والمعنى حقَّه؛ وقد مدح اللَّه [تعالى] (¬2) أهلَ الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهلُ العلم؛ ومعلوم أنَّ الاستنباطَ إنما هو استنباطُ المعاني والعلل ونسبة بعضها إلى بعض، فيُعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومُشَبَّهه (¬3) ونظيره، ويَلغى ما لا يصح، هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط؛ قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج (¬4)؛ ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإنَّ ذلك ليس طريقة الاستنباط؛ إذ موضوعات الألفاظ لا تُنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني والأشباه والنظائر ومقاصد المتكلم؛ واللَّه سبحانه ذَمَّ مَنْ سمع ظاهرًا مجردًا فأذاعه وأفشاه، وحمد مَنِ استنبط من أولي العلم حقيقته ومعناه. يوضِّحه أنَّ الاستنباطَ استخراجُ الأمر الذي من شأنه أن يَخفى على غير مُستنبِطِه، ومنه (¬5) استنباطُ الماء من أرض البئر والعين؛ ومن هذا قول علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-، وقد سئل: هل خَصَّكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بشيء دون النَّاس؟ فقال: لا، والذي فلق الحبَّة وبرأ النَّسمة، إِلا فهمًا يؤتيه اللَّه عبدًا في كتابه (¬6). ومعلوم أنَّ هذا الفهَم قدرٌ زائدٌ على معرفة موضوع اللفظ أو عمومه (¬7) أو خصوصه، فإن هذا قدر مشترك بين سائر من يعرف لغة العرب، وإنما هذا فهم لوازم المعنى ونظائره، ومراد المتكلم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه، بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد. ¬
وأنت إذا تأملت قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 77 - 79]، وجدتَ الآية من أظهر الأدلة على نبوة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن هذا القرآن جاء من عند اللَّه، وأن الذي جاء به روح مطهر (¬1)، فما للأرواح الخبيثة عليه سبيلٌ، ووجدت الآية أُخْتَ قوله: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء: 210 - 211]، ووجدتها دالَّةً بأحسن الدلالة على أنه لا يمسَّ المصحف إِلا طاهر (¬2)، ووجدتها دالة -أيضًا- بألطف الدلالة على أنه لا يجد حلاوتَه وطعمه إِلَّا من آمن به وعمل به، كما فهمه البخاريُّ من الآية فقال في "صحيحه" في باب: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} (¬3) [آل عمران: 93]: "لا يمسه": لا يجد طَعْمه ونفعه، إِلَّا من آمن بالقرآن ولا يحمله بحقه إِلَّا [الموقن] (¬4)؛ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5]، وتجد تحته -أيضًا-[أنه] (¬5) لا يَنَال معانيه ويفهمه كما ينبغي إِلَّا القلوبُ الطاهرة، وأنَّ القلوب النجسة ممنوعةٌ من فهمه مصروفة عنه، فتأمل هذا النسبَ القريبَ، وعَقْدَ هذه الأخوة بين هذه المعاني، وبين المعنى الظاهر من الآية، واستنباط هذه المعاني كلها من الآية بأحسنِ وجه وأبينه. فهذا من الفهم الذي أشار إليه علي (¬6) -رضي اللَّه عنه-. وتأمل قوله تعالى لنبيّه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] كيف يفهم منه أنه إذا كان وجودُ بدنه وذاتِهِ فيهم، دفَعَ عنهم العذاب، وهم أعداؤُه، فكيف [وجود] (5) سِرِّه والإيمان به ومحبته ووجود ما جاء به إذا كان في قوم أو كان في شخص؟ أفليس دَفْعه (¬7) العذاب عنهم بطريق الأولى والأحرى؟ (¬8). ¬
وتأمل قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] كيف تجد تحته -بألطف دلالة وأدقها وأحسنها- أنه من اجتنب الشرك جميعه كُفِّرتْ عنه كبائرُه، وأن نسبة الكبائر إلى الشرك كنسبة الصغائر إلى الكبائر، فإذا وقعت الصغائر مكفَّرة باجتناب الكبائر، فالكبائر تقع مكفرة باجتناب الشرك، وتجد الحديث الصحيح؛ كأنه مشتقٌ من هذا المعنى، وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما يَروي عن ربه تبارك وتعالى: "ابن آدم إنك لو لَقيتني بقُراب (¬1) الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لقيتُكَ بقُرابها مغفرة" (¬2)، وقوله: "إن اللَّه حَرم على النار مَنْ قَال: لا إله إِلَّا اللَّه خالصًا من قلبه" (¬3) بل مَحْو التوحيدِ -الذي هو توحيد- الكبائر (¬4) أعظم من مَحْو اجتناب الكبائر للصغائر. وتأمل قوله [تعالى] (¬5): {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 12 - 14]، كيف نبَّههم (¬6) [بالسفر الحسي علي] (¬7) السفر إليه؟ وجمع لهم بين السفرين، كما جمع لهم [بين] (¬8) الزادين في قوله: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] فجمع لهم بين زاد سفرهم وزاد معادهم؟ وكما جمع بين اللِّباسين في قوله: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ¬
فصل [قول نفاة القياس وأدلتهم]
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26]، فذكر سبحانه زينة ظواهرهم و [زينة] (¬1) بواطنهم ونَبَّههم بالحِسِّيِّ على المعنوي؛ وفَهْمُ هذا القدر زائد على فَهْمِ مجرد اللفظ ووضعه في أصل اللسان، واللَّه المستعان، وعليه التُّكْلَان، ولا حول ولا قوة إِلَّا به (¬2). فصل [قول نفاة القياس وأدلّتهم] قد أتينا على ذكر فصول نافعة، وأصول جامعة، في تقرير القياس والاحتجاج به، لعلك لا تظفر بها في غير هذا الكتاب، ولا بقريب منها، فلنذكر مع ذلك ما قابلها من النصوص والأدلة الدالة على ذم القياس، وأنه ليس من الدين، وحصول الاستغناء عنه والاكتفاء بالوَحْيين، وها نحن نسوقها مفصَّلة مبينة بحمد اللَّه تعالى: قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59]، وأجمع المسلمون على أن الرد إلى اللَّه سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) هو الرد إليه في حضوره وحياته، وإلى سنَّته في غَيْبته وبعد مماته (¬4)، والقياس ليس بهذا ولا هذا. ولا يقال: الردُّ إلى القياس هو من الردِّ إلى اللَّه [ورسوله] (¬5)، لدلالة كتاب اللَّه وسنة رسوله [-عليه السلام-] (3)، كما تقدَّم تقريرُه؛ لأنَّ اللَّه سبحانه إنما رَدّنا إلى كتابه وسنة رسوله، ولم يردَّنا إلى قياس عقولنا وآرائنا قط، بل قال تعالى لنبيّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105]، ولم يقل: بما رأَيتَ أنتَ، وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (¬6)، {وَمَنْ لَمْ ¬
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ [إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ]} (¬1) [العنكبوت: 51]، وقال: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]، فلو كان القياسُ هُدًى لم ينحصر الهُدى في الوحي، وقال: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده (¬2)، وهو تحكيمه في حال حياته، وتحكيم سنته فقط بعد وفاته، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] أي: لا تقولوا حتى يقول. قال نُفَاةُ القياس: والإخبار عنه بأنه حَرَّمَ ما سكت عنه أو أوجبه قياسًا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدُّم بين يديه؛ فإنه إذا قال: "حَرَّمْتُ عليكم الربا في البر" فقلنا: ونحن نقيس على قولك البلوط (¬3)، فهذا مَحْضُ التَّقدُّم. قالوا: وقد حَرَّم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم، فإذا فعلنا ذلك فقد واقعنا (¬4) هذا المحرم يقينًا، فإنَّا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة، تحريمه في القَدِيد من اللحوم، وهذا قَفْوٌ منا ما ليس لنا به علم، وتعدٍّ لما حَدَّ لنا، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق: 1]، والواجب أن نقف عند حدوده، ولا نتجاوزها ولا نُقصِّر بها. ولا يقال: فإبطالُ (¬5) القياس وتحريمه والنهي عنه تقدُّمٌ بين يديّ اللَّه ورسوله، وتحريم ما (¬6) لم ينص على تحريمه، [و] (1) قَفْوٌ منكم ما ليس لكم به علم؛ قالوا: لأنا نقول: اللَّه سبحانه [وتعالى] (1) أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، وأنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله (¬7) يعلِّمنا الكتاب والحكمة، فما عَلَّمناه وبيّنه لنا فهو من الدين، وما لم يُعَلِّمناه ولا بَيَّنَ لنا أنه من الدين فليس من ¬
الدين ضرورة (¬1)، وكل ما ليس من الدين فهو باطل؛ فليس بعد الحق إِلَّا الضلال؛ [وقد] (2) قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فالذي أكمله اللَّه [سبحانه] (¬2) وبيَّنه هو ديننا، لا دينَ لنا سواه، فأين فيما أكمله لنا: قِيسوا ما سَكَتُّ عنه على ما تكلمت بإيجابه أو (¬3) تحريمه أو (3) إباحته سواء كان الجامع بينهما علة، أو دليل علة، أو وصفًا شَبيهًا، فاستعملوا ذلك [كُلَّه] (¬4) وانْسُبُوه إليَّ وإلى رسولي وإلى ديني، واحكموا به علي. قالوا: وقد أخبر سبحانه {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وأخبر رسوله: "أن الظَّنَّ أكذبُ الحديث" (¬5)، ونهى عنه، ومن أعظم الظَّن ظَنُّ القياسيين؛ فإنهم ليسوا على يقين أن اللَّه سبحانه [وتعالى] (¬6) حَرَّم بيع السِّمسم بالشيرج، والحلوى بالعنب، والنشا بالبُرِّ، وإنما هي ظنون مجردة لا تغني من الحق شيئًا. قالوا: وإنْ لم يكن قياس (الضُّرَاط) على (السلام عليكم) من الظن الذي نهينا عن اتباعه وتحكيمه، وأخبرنا أنه لا يغني من الحق شيئًا فليس في الدنيا ظن باطل، [فأين الضُّرَاط من "السلام عليكم"؟] (¬7)، وإن لم يكن قياس الماء الذي لاقى الأعْضَاء الطاهرة الطيبة عند اللَّه في إزالة الحدث على الماء الذي لاقى أخْبَثَ العذرات والميتات والنجاسات، ظنّا فلا ندري ما الظَّنُّ الذي حرم اللَّه [سبحانه] (6) القولَ به، وذمَّه في كتابه وسَلَخه من الحقِّ، وإنْ لم يكن قياس ¬
أعداء اللَّه ورسوله من عُبّاد الصُّلّبان واليهود الذين (¬1) هم أشد الناس عداوة للمؤمنين على أوليائه، وخيار خَلْقه، وسادات الأمة وعلمائها، وصلحائها في تكافؤ دمائهم وجَرَيان القِصاص بينهم، فليس في الدنيا ظَنٌّ يُذَمُّ أتباعه. قالوا: ومن العجب أنكم قِسْتُم أعداءَ اللَّه على أوليائه في جَرَيان القصاص بينهم، فقلتم: ألف ولي للَّه قتلوا نصرانيًا واحدًا يُجَاهرهم بسبِّ اللَّه ورسوله، وكتابه [علانيةً] (¬2)، ولم تقيسوا مَنْ ضربَ [رأسَ رجل] (¬3) بدبوس فَنَثَر دماغَه بين يديه على مَنْ طعنه بمسَلّة فقتله. قالوا: وسُنبيِّن لكم من تناقض أقيستكم واختلافها وشدة اضطرابها ما يُبيّن أنه من عند غير اللَّه (¬4). قالوا: واللَّه تعالى (¬5) لم يَكِلْ بيانَ شريعَتِهِ إلى آرائنا (¬6) وأقيستنا واستنباطنا، وإنما وَكَلَها إلى رسوله المبيِّنِ عنه، فما بيَّنه عنه وَجَبَ اتِّباعه، وما لم يبيِّنه فليس من الدين، ونحن نُنَاشدكم اللَّه: هل اعتمادكم في هذه الأقيسة الشّبَهية والأَوصاف الحَدْسِيّة التخمينية على بيان الرسول أم على آراء الرجال وظنونهم وحدسهم؟ قال اللَّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فأين (¬7) بيَّن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أني إذا حرمتُ شيئًا أو أوجبته أو أبحتُه، فاستخرجوا وصفًا ما شبهيًا (¬8) جامعًا بين ذلك وبين جميع ما سكتُ عنه، فألحقوه به، وقيسوا عليه. قالوا: واللَّه تعالى (¬9) قد نَهى عن ضَرْب الأمثال له، فكما لا تُضرب له الأمثال لا تُضرب لدينه، وتمئيل ما لم ينص على حُكمه بما نَصَّ عليه لِشَبهٍ (¬10) مَّا ضربُ الأمثال لدينه، وهذا بخلاف ما ضربه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأمثال في كثير من الأحكام التي سُئل عنها، كما أمرهم بقَضَاء الصلاة التي نامُوا عنها، فقالوا: ألَّا نصلِّيها لوقتها من الغد؟ فقال: "أينهاكم عن الرِّبا ويَقْبَله منكم" (¬11)، وكما قال ¬
[من الأمثال التي ضربها الله ورسوله]
لعمر وقد سأله عن القُبْلة للصائم: "أرأَيتَ لو تمضمضت بماء ثم مَجَجْتَه" (¬1)، وكما قال لمن سأَلَتْهُ عن الحجِّ عن أبيها: "أرأيتِ لو كان على أبيك دَيْن" (¬2)، وكما قال لمن سأله: هل يثابُ على وطْءِ زوجته؟ "أرأيتم لو وَضَعَها في الحرام؟ " (¬3). [من الأمثال التي ضربها اللَّه ورسوله] ومن أحسن هذه الأمثال وأبلغها وأعظمها تقريبًا إلى الأفهام: ما رواه الإمام أحمد والترمذي من حديث الحارث الأشعري أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه سبحانه أمر يحيى بن زكريا (¬4) بخمس كلمات ليعمل بها، ويأمرَ بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يُبطئ بها، فقال عيسى -عليه السلام-: إن اللَّه أمَرَكَ بخمس كلمات لتعمل بها، وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإمَّا أَن تَأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سَبَقْتَنِي أن يُخسف بي أو أُعذَّب، فجمع الناس في بيت ¬
المقدس، فامتلأ [المسجد] (¬1)، وقعدوا على الشُّرَف، فقال: إنَّ اللَّه أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهنَّ، وآمركم أن تعملوا بهن؛ أولاهن أنْ تعبدوا اللَّه، ولا تشركوا به شيئًا، وإنَّ مَثَلَ مَنْ أشرك بالته كمثل رجل اشترى عبدًا من خالص ماله بذهب أو وَرِقٍ، فقال: هذه داري وهذا عملي، فاعمل وأدِّ إليّ، فكان يعملُ ويؤدي إلى غير سيِّده، فأيكم يرضى أن يكون عبدُه كذلك؟ وإن اللَّه أمركم بالصَّلاة، فإذا صلَّيتم فلا تلتفتوا، فإنَّ اللَّه ينصبُ وَجْهَه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفتْ، وأمركم بالصيام؛ فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل في عِصَابة معه صُرَّة فيها مِسْك، وكُلُّهم يعجبه ريحُها، وإنّ ريح الصائم (¬2) أطْيَبُ عند اللَّه من ريح المسك، وأمركم بالصدقة، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل أَسَرَهُ العدو فأوثَقُوا يديه إلى عُنُقه وقَدَّموه ليضربوا عنقه، فقال: أنا أفتدي منكم بكل قليل وكثير، فَفَدى نَفْسه منهم، وأمركم أنْ تذكُروا اللَّه، فإنَّ مثل ذلك كمثل رجل خرج العدوُّ في أثره سِرَاعًا حتى إذا أتى على حِصْنٍ حصين فأحرز نفسه منهم، كذلك العبدُ لا يحرز نفسه من الشيطان إِلَّا بذكر اللَّه (¬3)، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: وأنا آمركم بخَمْسٍ اللَّه أمرني بهن: السمعُ، والطاعة، والجهاد، والهِجْرة، والجماعة؛ فإنَّه من فارق الجماعة قِيْدَ شبر فقد خلع رِبْقَة الإسلام من عنقه إِلا أن يُراجَع، ومن ادَّعى دَعْوَى الجاهلية فإنّه من جُثَّاء (¬4) جهنم، قالوا: يا رسول اللَّه وإنْ صلَّى وإنْ صام؟ قال: وإنْ صلى وإنْ صام، فادعُوا بدعوى اللَّه الذي سَمّاكم المسلمين المؤمنين عباد اللَّه" (¬5) حديث صحيح. ¬
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه (¬1) خمس مرات، هل يَبقى من دَرَنه شيء؟ قالوا: لا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه بهن الخطايا" (¬2)، ومَثَّلَ -صلى اللَّه عليه وسلم- المؤمن القارئ للقرآن بالأُتْرجَّة في طِيب الطعم والريح، وضده بالحنظلة، والمؤمن الذي لا يقرأ بالتمرة في طيب الطعم، وعدم الريح، والفاجر القارئ بالرَّيْحانة ريحها طيب وطعمها مُرّ (¬3)، ومَثَّل المؤمن بالخامة من الزرع لا تزال الرياح تُميلها ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومَثل المنافق بشجرة الأرز -وهي الصَّنَوْبرَة- لا تهتز ولا تميل حتى تُقْطَع مرةً واحدة (¬4)، ومثّل المؤمن بالنخلة في كثرة خيرها ومنافعها وحاجة الناس إليها وانتيابهم لها لمنافعهم بها (¬5)، وشَبَّه أمته ¬
بالمطر في نفع أوله وآخره (¬1)، وحياة الوجود به، ومَثّل أمته والأمتين الكتابيتين قبلها فيما خص اللَّه به أمته وأكرمها به بِأُجَرَاءَ عَمِلوا بأجرٍ مسمًى لرجل يومًا على أن يوفّيهم أجورهم، فلم يكملوا بقيّة يومهم وتركوا العمل من أثناء النهار، فعملتْ أمته بقيةَ النهار فأستكملوا أجرَ الفريقين (¬2)، وضرب له ولأُمَّته جبريلُ وميكائيلُ مثلَ ملك اتخذ دارًا، ثم بَنى (¬3) فيها بيتًا، ثم جعل مائدة، ثم بعث رسولًا يدعو الناسَ إلى طعامه، فمنهم مَنْ أجاب الرسول، ومنهم مَنْ تركه، فاللَّه هو الملك، ومحمد (¬4) الداعي، والدار الإسلام، والبيت الجنة، فمن أجابه دخلَ الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل دار الملك وأكلَ منها، ومن لم يُجبه لم يدخل داره، ولم يأكل منها (¬5). وفي "المسند"، والترمذي من حديث النَّوَّاس بن سَمْعان قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ اللَّه ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا، على كَنَفيّ الصراط سوران ¬
لهما (¬1) أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستورٌ مرخاةٌ، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجوا (¬2)، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك (¬3)! لا تفتحه، فإنَّك إنْ تفتحه تَلِجْهُ، فالصِّراطُ الإسلامُ، والسوران حدودُ اللَّه، والأبوابُ المفتَّحةُ محارمُ اللَّه، فلا يقع أحد في حد من حدود اللَّه حتى يكشف الستر، والداعي على رأس الصراط كتاب اللَّه، والداعي من فوق الصراط واعظُ اللَّه في قلب كلِّ مسلم" (¬4)، فليتأمَّل العارف قدر هذا المثل، وليتدبره حقَّ تدبُّره، ويزن به نفسه (¬5)، وينظر أين هو منه، وباللَّه التوفيق. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَثَلي ومَثَلَ الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إِلا موضع لَبِنَة، فجعل الناسُ يدخلونها ويتعجَّبون منها، ويقولون: لولا (¬6) موضعُ تلك اللبنة، فكنتُ [أنا] موضع تلك اللبنة"، رواه مسلم (¬7). وفي "الصحيحين" من ¬
حديث أبي هريرة وأبي سعيد عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارًا، فجعل الدواب والفراش يَقَعْنَ فيها، فأنا آخذ بحُجَزِكم عن النَّار، وأنتم تقتحمون فيها" (¬1). ومَثَّل مَنْ وقع في الشُّبهات بالراعي يرعى حول الحمى، وأنه يوشك أن يقع فيه (¬2). وقال الحافظ أبو محمد بن خَلَّاد الرامهرمزي (¬3): حدثنا أبو شعيب (¬4) الحَرّاني: ثنا يحيى بن عبد اللَّه البابلتي (¬5): ثنا صفوان بن عمرو قال: ثني سليم بن عامر قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نُصرت بالرعب [مسيرةَ شهر] (¬6)، وأُوتيت جوامع الكلم، وأوتيت الحكمة، وضرب لي من الأمثال مثل القرآن، وإني بينا أنا نائم إذ أتاني ملكان، فقام أحدهما عند رأسي، وقام الآخر عند رجلاي (¬7)، فقال للذي عند رأسي: اضرب مثلًا وأنا أُفسِّره، فقال الذي عند رأسي وأهوى إليّ: لِتَنَمْ عينُك، ولتسمع (¬8) أذنُك، ولْيَعِ قلبُك، قال: فكنتُ كذلك، أنها الأذن فتسمع، وأما القلبُ فيعي، وأما العين فتنام، قال: فضرب مثلًا فقال: بِرْكة فيها شجرة ثابتة، وفي الشجرة غصن خارج، فجاء ضاربٌ فضرب الشَّجرةَ، فوقع الغُصنُ، ووقع معه ورقٌ كثير، كل ذلك في البِركة لم يَعْدُها، ثم ضرب الثانية، فوقع ورقٌ كثير، كل ذلك في البركة لم يَعْدُها، ثم ضرب الثالثة فوقع ورقٌ كثير، لا أدري ما وقع فيها أكثر أو ما خرج منها، قال: ففسر الذي عند رجلاي (7)، فقال: أما ¬
البركة فهي الجنةُ، وأما الشجرة فهي الأمة، وأما الغصنُ فهو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما الضارب فملك الموت: ضرب الضربة الأولى في القرن الأول، فوقع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأهل طبقته، وضرب الثانية في القرن الثاني، فوقع كل ذلك في الجنة، ثم ضرب الثالثة في القرن الثالث فلا أدري ما وقع فيها أكثر أم ما خرج منها" (¬1). وفي "المسند" من حديث جابر: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا خطب احمرَّت عيناه، وَعلا صَوْتُه، واشتدَّ غضبُه، حتَّى كأنَّه نذيرُ جيشٍ يقول؛ صَبَّحكم ومَسّاكم (¬2)، ثم يقول: بعثُت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين أصبعيه: السبابة والوسطى" (¬3)، وفي حديث المسْتَوْرِد: "بُعثت في نَفَس الساعة سبقتها، كما سبقتْ هذه هذه، وأشار بأصبعيه" (¬4)، وفي "المسند" عنه (¬5): "إنَّ مَثَلي ومَثَلَ ما بعثني اللَّه، كمثلِ رجلٍ أتى ¬
قومه، فقال: يا قوم! إني رأيتُ الجيش بعيني، وأنا النَّذير العُرْيان فالنّجاءَ، فأطاعه طائفةٌ منهم فأدلجوا على مهلهم فنجوا، وكذبه (¬1) طائفة فأصبحوا مكانهم فصبَّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم، وكذلك مثل مَنْ أطاعني واتَّبع ما جئتُ به، ومثل من عصاني، وكَذَّب بما جئتُ به من الحق" (¬2)، وفي "الصحيحين" عنه (¬3): "مثلي ومثل ما بعثني اللَّه به من الهدى والعلم، كمثل غيث أصاب أرضًا، فكان منها طائفة قبلتِ الماءَ فأنبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكان منها أجَادِبُ أَمْسَكَت الماء، فبفع اللَّه بها الناس فشربوا وزرعوا وسَقَوا، وأصاب طائفةً أخرى منها إنما هي قيعانٌ، لا تمسك ماءً ولا تُنبت كلأ، فذلك مثل من فقُهَ في دين اللَّه ونفَعَه اللَّه بما بعثني به (¬4)، فعَلِمَ وعَلَّم، ومثلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقْبل هدى اللَّه الذي أُرْسِلتُ به" (¬5) وفي "الصحيحين" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه خطب الناس فقال: "واللَّه ما الفقرَ أخْشَى عليكم، وإنما أخشى عليكم ما يُخْرجُ اللَّه لكم من زهرة الدنيا، فقال رجل: يا رسول اللَّه أو يأتي الخيرُ بالشر؟ فَصَمَتَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم قال: كيف قلت؟ فقال: يا رسول اللَّه أو يأتي الخيرُ بالشر؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن الخير لا يأتي إِلا بالخير، وإنَّ مما يُنبتُ الربيعُ ما يقتل حَبَطًا أو يُلِمَّ، إِلَّا آكلة الخضرِ، أكلتْ حتى إذا امتدَّت خاصِرَتاها استقبلتِ الشمسَ فَثَلَطَتْ وبالت (¬6)، ثم ¬
اجتَرَّتْ (¬1) وعادت [فأكلت] (¬2)، فمن أخذ مالًا بحقِّه يُبارك له فيه، ومن أخذ مالًا بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكلُ ولا يشبع" (¬3). وقالت ميمونة: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعمرو بن العاص: "الدنيا حُلوة خَضِرَة، فمن اتقى اللَّه فيها وأصلح، وإلا فهو كالذي يأكلُ ولا يشبع، وبين الناس في ذلك كبُعد الكوكبين (¬4)، أحدهما يطلع في المشرق والآخر يغيب في المغرب" (¬5)، ومَثَّل نفسه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الدنيا براكب مَرَّ بأرض فَلاةٍ، فرأى شجرةً، فاستظل [تحتها] (¬6)، ثم راح وتركها (¬7). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وفي "المسند" والترمذي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما الدنيا في الآخرة إِلا كما يَضعُ أحدُكم أصبعه في اليَمّ، فلينظر بم يرجع" (¬1)، ومرَّ مع الصحابة بسَخْلة منبوذة، فقال: "أَتروْن هذه هانت على أهلها، فوالذي نَفْسي بيده للدُّنيا أهون على اللَّه من هذه على أهلها" (¬2)، وقال: "إنّما مَثَلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازةً ¬
غَبْراء لا يدرون ما قطعوا منها أكثر أو ما بقي منها، فحسرت ظهورهم، ونفد زادهم، وسقطوا بين ظَهْري المفازة، فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حُلّة يقطر رأسه، فقالوا: إن هذا لحديثُ عهدٍ بريفٍ، فانتهى إليهم، فقال: يا هؤلاء، ما شأنكم؟ فقالوا: ما ترى كيف حسرت ظهورنا، ونفدت أزوادنا بين [ظهري] (¬1) هذه المفازة، لا ندري ما قطعنا منها أكثر أم ما بقي؟ فقال: ما تجعلون لي إنْ أَوردتُكم ماءً رُواءً (¬2) ورياضًا خضرًا؟ قالوا: حكمك، قال: تُعطوني عهودَكم ومواثيقكم ألا تعصوني، ففعلوا، فمال بهم فأوردهم ماءً رواءً (¬3) ورِياضًا خُضْرًا، فمكث يسيرًا، ثم قال: هلُمُّوا إلى رياض أعشبَ من رياضكم هذه، وماءٍ أروى من مائكم هذا، فقال جُلُّ القوم: ما قدرنا على هذا حتى كدنا أنْ لا نقدر عليه، وقالت طائفةٌ منهم: ألستُم قد جعلتم لهذا الرجل عهودكم ومواثيقَكم أن لا تعصوه؟ فقد صدقكم في أول حديثه، فآخرُ حديثه مثل أوله، فراح وراحوا معه، فأوردهم رياضًا خضرًا وماءً رواءً، وأتى الآخرين العدوُّ من ليلتهم فأصبحوا ما بين قتيل وأسير" (¬4). وقال: "مثل المؤمن كمثل النَّخْلة، أكلت طيِّبًا ووضعت طيبًا، وإنَّ مثل المؤمن كمثل القطعةِ الجيدةِ من الذهب، أُدخلت النَّار فنُفِخَ عليها فخرجت جيدة" (¬5). ¬
وروى لَيْث، عن مجاهد، عن ابن عمر يرفعه: "مثل المؤمن مثل النخلة -أو النحلة- إنْ شاورته نفعك، وإنْ ماشَيْته نَفَعك، وإنْ شاركته نفعك" (¬1)، وقال: ¬
"مثل المؤمن والإيمان كمثل الفَرَس في آخيته (¬1) يجول ما يجول ثم يرجع إلى آخيته؛ وكذلك المؤمن يَقْتَرِف ما يقترف (¬2) ثم يرجع إلى الإيمان" (¬3)، وقال: "مثل المؤمنين في تَوَادهم وتراحُمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى شيء منه، تَدَاعى سائرُه بالسَّهَر والحمى" (¬4)، وقال: "مثل المنافق كمثل الشاة العَائِرة بين ¬
الغنمين (¬1)، تَكرُّ إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة" (¬2)، وقال: "مثل القرآن كمثل الإبل المُعقَّلة (¬3)، إن تعهَّد صاحبها عُقُلَها أمسكها، وإنْ أغفلها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن به ذكره، وإذا لم يَقُم به نسيه" (¬4)، وقال موسى بن عبيدة، عن مَاعِز (¬5) بن سُويد العَرْجي، عن عليّ بن أبي طالب -كرم اللَّه وجهه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مثلُ المؤمن الذي لا يُتِمُّ صلاته مثلُ المرأة التي حَمَلت حتى إذا دنا نِفاسُها أسقطت، فلا حامل ولا ذات رِضاع؛ ومثلُ المصلي كمثل التاجر لا يَخْلُص له الربح حتى يخلص له رأس المال؛ وكذلك المصلي لا يقبل اللَّه له نافلة حتى يؤدِّي الفريضة" (¬6). ¬
وقال حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أَوس بن خالد، عن أبي هريرة يرفعه: "مثل الذي يسمع الحكمةَ ولا يحملُ إِلا شَرَّها، كمثل رجل أتى راعيًا فقال: آجرني (¬1) شاةً من غنمك، فقال: انْطَلِقْ فخذ بأذُنِ شاة منها، فذهب فأخذ بأذُن كلب الغنم" (¬2)، وقال عبد اللَّه بن المبارك: ثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: حدثني أبو عبد ربه (¬3) قال: سمعت مُعَاوية يقول على هذا المنبر: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنما بَقي من الدنيا بَلَاء وفتنة، وإنما مَثَلُ عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاهُ طاب أسفلهُ، وإذا خَبُثَ أعلاه خبث أسفلهُ" (¬4). ¬
وفي "المسند" من حديث عبد اللَّه بن عمرو (¬1) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أن رجلًا كان فيمن كان قبلكم اسْتَضَاف قومًا فأضافوه، ولهم كلبة تَنْبح، قال: فقالت الكلبة: واللَّه لا أنبح ضَيف أهلي اللَّيلة، قال: فَعَوَى جِرَاؤُها في بطنها فبلغ ذلك نبيًّا لهم أو قَيْلًا لهم (¬2)، فقال: مثل هذه مثل أمة تكون بعدكم يقهر سفهاؤها حكماءَها، ويغلب سفهاؤُها علماءَها" (¬3). ¬
وفي "صحيح البخاري" من حديث النعمان بن بشير أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مثلُ القائم في حدود اللَّه والواقع فيها كمثل قومٍ اسْتَهَموا على سفينة، فأصاب بعضُهم أعلَاها، وبعضُهم أسفَلَها، فكان الذين في أسفلها إذا اسْتَقَوْا من الماء مَرُّوا على مَنْ فوقهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنَا في نصيبنا خَرْقًا، ولم (¬1) نُؤْذِ مَنْ فوقنا، فإنْ هم تركوهم، وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإنْ أخَذُوا على أيديهم نَجَوْا ونجوا جميعًا" (¬2). وفي "المعجم الكبير" عنه من حديث سهل بن سعد قال: "إياكم وَمُحَقّرَاتِ الذنوب، فإنَّ مَثَلَ ذلك كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء هذا بعُودٍ وهذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنَّ محقرات الذنوب متى يُؤخذ بها صاحبها تُهْلِكهُ" (¬3). ¬
وفي "المسند" من حديث أبيّ بن كعب يرفعه: "إن مَطْعَمَ ابن آدم قد ضُرب مثلًا للدنيا، فانظر ما يخرج من ابن آدم، وإن قزَّحه ومَلَّحَه (¬1) قد علم إلى ما يصير" (¬2). قال (¬3): أبو محمد بن خلاد: ثنا عبد اللَّه بن أحمد بن مَعْدان: ثنا يوسف بن مسلم المِصِّيصي: ثنا حَجَّاج الأعور، عن أبي بكر الهُذَليّ، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إني ضَرَبْتُ للدنيا مثلًا، ولابن آدم عند الموت، مَثَلُه مثلُ رجلٍ له ثلاث (¬4) أخِلَّاء، فلما حَضَرهُ الموتُ قال لأحدهم: إنك كنتَ لي خليلًا، وكنت أبرّ الثّلاثة عندي، وقد نزل بي من أمر اللَّه ما ترى، فماذا عندك؟ قال: يقول: وماذا عندي؟ وهذا أمرُ اللَّه قد غَلَبني، ولا أستطيع أن ¬
أنفِّس كُرْبَتك، ولا أفرّج غمَّك، ولا أؤخَّر ساعتك، ولكن ها أنذا بين يديك (¬1)، فخذني زادًا تذهب به (¬2) معك، فإنّه ينفعك، قال: ثم دعا الثاني، فقال: إنكَ كنتَ لي خليلًا، وكنت أبرّ الثلاثة عندي، وقد نزل بي من أمر اللَّه ما ترى، فماذا عندك؟ قال: يقول: وماذا عندي؟ وهذا أمر اللَّه [قد] (¬3) غلبني، ولا أستطيع أن أُنفِّس كربتك، ولا أفرج غمك، ولا أؤخر ساعتك (¬4) ولكن سأقوم [عليك] (¬5) في مرضك، فإذا مُتَّ أنْقَيْتُ غسلَك، وجَدَّدْتُ كسوتك، وسَتَرْتُ جَسَدك وعورتك، قال: ثم دعا الثالث فقال: قد نزل بي من أمر اللَّه ما ترى وكُنتَ أهْوَنَ الثلاثة عليّ، وكنتُ لك مُضَيعًا، وفيك زاهدًا، فما عندك؟ قال: عندي أني قرينكَ وحليفُكَ (¬6) في الدنيا والآخرة، أدخل معك قبرك حين تدخله، وأخرج منه حين تخرج منه، ولا أفارقك أبدًا، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذا ماله وأهله وعمله، أما الأول الذي قال: خذني زادًا، فمالُه، والثاني: أهلُه، والثالث: عمله" (¬7). وقد رواه -أيضًا- بسياق آخرَ من حديث أبيّ -أيضًا-، ولفظه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال يومًا لأصحابه: "أتدرون ما مَثَلُ أحدكم ومثل مالِه وأهلِه وعمله؟ قالوا: اللَّه ورسوله أَعْلَم، فقال: إنَّما مثلُ أحدكم ومثلُ أهله وماله وعمله، كمثل رجل له ثلاثة إِخْوَة، فلما حضرته الوفاةُ دعا بعضَ إخوته، فقال: إنه قد نزل بي من الأمر ما ترى، فمالي عندك؟ وما لديك؟ فقال: لك عندي أن أُمرِّضَك ولا أُزايلك، وأنْ أَقومَ بشأنك، فإذا مُتَّ غسَّلتُك وكَفَّنْتُكَ وحَمَلْتُكَ مع الحاملين، أحملك طورًا (¬8) وأميطُ عنك طورًا (8)، فإذا رجعتُ أثنيتُ عليك (¬9) بخيرٍ عند من يسألني عنك، هذا [أخوه] (¬10) الذي هو أهله، فما ترونه؟ قالوا: لا نسمع ¬
طائلًا يا رسول اللَّه، ثم يقول [للأخ الآخر] (¬1): أترى ما قد نزل بي؟ فما لي لديك؟ وما لي عندك؟ فيقول: ليس عندي [غناء] (¬2) إِلا وأنتَ في الأحياء، فإذا مُتَّ ذُهِبَ بك مذهبٌ، وذُهِبَ بي مذهب، هذا أخوه الذي هو ماله، كيف ترونه؟ قالوا: لا (¬3) نسمع طائلًا يا رسول اللَّه، ثم يقول لأخيه الآخر: أترى ما قد نزل بي، وما ردَّ عليَّ أهلي ومالي؟ فمالي عندك؟ وما [لي] (¬4) لديك؟ فيقول: أنا صاحبُكَ في لَحْدك، وأنيسُكَ في وَحْشَتِكَ، وأقعدُ يوم الوزن في ميزانك [فأثقِّل ميزانك] (4)، هذا أخوه الذي هو عَمَلُه، فكيف ترونه؟ قالوا: خيرُ أخٍ، وخيرُ صاحبٍ يا رسولَ اللَّه، قال: فإنَّ الأمر هكذا" (¬5). وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَثَلُ الجليس الصالح مثلُ صاحب المسك (¬6)، إما أن يُحْذِيْكَ، وإما أن يَبيعك، وإما أن تَجِدَ (¬7) منه ريحًا طيبة، ومثل جليس السوء كمثل صاحب الكِير، إنْ لم يُصبك مِنْ شَرَره أصابكَ من ريحه" (¬8). وفي "الصحيح" عنه (¬9) أنه قال: "مَثَلُ الْمُنْفِقِ والبخيل، مثل رجلين عليهما جُبَّتَان -أو جُنَّتان (¬10) - من حديد من لَدُن ثديهما إلى تَرَاقيهما، فإذا أراد الْمُنْفِقُ أن ينفقَ سبغت عليه حتى يجر (¬11) بنانه ويعفو أثره، وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت، ولَزمتْ كلُّ حلقة موضعها فهو يوسعها فلا تتسع" (¬12). ¬
فصل [فائدة ضرب الأمثال]
وقال: "مثل الذين يَغْزُونَ من أُمَّتي وَيَتَعَجَّلُونَ أجورَهم، كمثل أم موسى تُرَضعُ وَلَدَهَا وتأخُذ أجْرَها" (¬1). فصل [فائدة ضرب الأمثال] قالوا: فهذه وأمثالها من الأمثال التي ضرَبها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لتقريب المراد، وتفهيم (¬2) المعنى، وإيصاله إلى ذهن السامع، وإحضاره (¬3) في نفسه صورة (¬4) المثال الذي مَثَّل به، فإنه [قد] (¬5) يكون أقربَ إلى تَعقُّله وفهمه وضبطه واستحضاره له باستحضار نظيره؛ فإنَّ النفسَ تأنس بالنظائر والأشباه الأُنسَ التام، وتنفِرُ من الغُرْبة والوَحْدَة وعدم النظير؛ ففي الأمثال من تأنيس النفس وسرعة قبولها وانقيادها لما ضرب لها مثله من الحق أمرٌ لا يجحده أحد، ولا ينكره (¬6)، وكلما ظهرتْ لها الأمثال ازْدَادَ المعنى ظهورًا، ووضوحًا، فالأمثالُ شواهدُ المعنى المراد، ومزكية له، فهي: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]، وهي خاصة العقل ولبّه وثمرته. [فرق بين الأمثال المضروبة من اللَّه ورسوله وبين القياس] ولكن أين [في] (¬7) الأمثال التي ضربها اللَّه ورسوله على هذا الوجه، فهمنا ¬
أنَّ الصِّداق لا يكون أقل من ثلاثة دراهم أو عشرة قياسًا [وتمثيلًا] (1) على [أقل] (¬1) ما يقطع فيه السارق؟ هذا بالألغاز والأحاجيِّ أشبهُ منه بالأمثال المضروبة للفهم، كما قال إمامُ الحديثِ محمدُ بنُ إسماعيل البخاريُّ في "جامعه الصحيح": (باب مَنْ شبَّه أصلًا معلومًا بأصلٍ مبيَّن، قد بيَّن اللَّه حكمهما ليفهمَ السامع) (¬2)، فنحن لا ننكر هذه الأمثالَ التي ضَرَبها اللَّه ورسوله، ولا نجهل ما أريد بها، وإنما ننكر (¬3) أن يُسْتَفَادَ وجوب (¬4) الدم على مَنْ قطع من جسده أو رأسه ثلاث شعرات أو أربع من قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، وأنَّ الآيةَ تدلُّ على ذلك؛ وأن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- صدقة الفطر: "صاع من تمر، أو صاع من بُرٍّ، أو صاع من شعير، أو صاع من أقِطٍ، أو صاع من زبيب" (¬5) يفهم منه أنه لو أعطى صاعًا من إهليلج (¬6) جاز، وأنه يدلُّ على ذلك بطريق التمثيل والاعتبار؛ وأن قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬7): "الوَلدُ لِلْفِرَاشِ" (¬8) يُستفاد منه ومن دلالته أنه لو قال له الوليُّ بحضرة الحاكم: زوجتُك ابنتي -وهو بأقصى الشرق وهي بأقصى الغرب- فقال: قبلتُ هذا التَّزويجَ وهي طالق ثلاثًا، فأتت (¬9) بعد ذلك بولدٍ لأكثر من ستة أشهر أنه ابنه، وقد صارت فراشًا بمجرد قوله: "قبلتُ هذا التزويج" (¬10)، ومع هذا لو ¬
كانت له سُرِّيَّةٌ يطأها ليلًا ونهارًا لم تكن فراشًا [له] (¬1)، ولو أتت بولد لم يلحقه نسبه إِلا أن يَدَّعيه ويَسْتَلْحقه، [فإن لم يستلحقه فليس بولده] (¬2). وأين يفهم من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن في قَتْل الخطأ شِبْهِ العَمْد ما كان بالسَّوْطِ والعَصا مئةً من الإبل" (¬3)، أنه لو ضَرَبَهُ بحَجَر المنجنيق أو بكُور الحدَّاد (¬4) أو بِمَرَازب الحديد العظام، حتى خَلَطَ دماغَهُ [بلَحْمه] (¬5) وعَظْمه أن هذا خطأ شبه عمد لا يوجب قودًا. وأين يُفهم من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أدرؤُا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتم، فإنْ يكن له مخرج فخلُّوا سَبيله، فإنَّ الإمام أن يُخْطِئَ في العفو خيرٌ له من أن يخطئ في العقوبة" (¬6) أن ¬
مَنْ عَقَد على أُمِّه أو ابنته [أو أخته] (¬1)، ووطأها فلا حَدَّ عليه، وأنَّ هذا مفهومٌ من قوله: "ادْرَؤُوا الحدودَ بالشُّبهات" (¬2) فهذا في معنى الشبهة التي تُدْرَأ بها الحدود، ¬
وهي الشبهة في المحلِّ، أو في الفاعل، أو في الاعتقاد، ولو عرض هذا على فَهْم مَنْ فُرض من العالمين، لم يفهمه من هذا اللفظ بوجه من الوجوه، وأنَّ مَنْ يطأ خالته أو عمته بملك اليمين فلا حدَّ عليه مع علمه بأنَّها خالتُه أو عمتُه، وتحريم (¬1) اللَّه لذلك، ويفهم هذا مِنْ: "ادرؤوا الحدود بالشُّبهات" (¬2) وأَضْعاف [أضعاف] (¬3) هذا مما لا يكاد ينحصر. فهذا التمثيل والتشبيه هو الذي ننكره، وننكرُ أن يكونَ في كلام اللَّه ورسوله دلالةٌ على فهمه بوجهٍ ما. قالوا (¬4): ومن أين يُفهم من قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} [النحل: 66 والمؤمنون: 21]، ومن قوله: {فَاعْتبِرُواْ} [الحشر: 2] تحريم بيع الكشك باللبن، وبيع الخل بالعنب، ونحو ذلك؟ قالوا: وقد قال اللَّه تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، ولم يقل: "إلى قياساتكم وآرائكم" ولم يجعل اللَّه آراءَ الرجال وأقيستها حاكمة بين الأمة أبدًا. وقالوا (¬5): وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، فإنّما منعهم من الْخِيَرَةِ عند حكمه وحكم رسوله، [لا] (¬6) عند آراء الرِّجال وأقيستهم وظنونهم، وقد أمر اللَّه -سبحانه- رسولَه باتِّباع ما أوحاه إليه خاصة، وقال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: 50، يونس: 15]، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وقال [تعالى] (¬7): {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]، قالوا: فدل هذا النصُّ على أنَّ ما لم يأذن به اللَّه من الدين فهو شَرْعُ غيرِهِ الباطلُ. قالوا: وقد أخبر النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ربه تبارك وتعالى أنَّ كل ما سَكَتَ عن إيجابه أو تحريمه فهو عَفْوُ عَفَا عنه لعباده (¬8)، يباح إباحة العفو؛ فلا يجوزُ تحريمه ولا ¬
إيجابُه قياسًا على ما أَوْجبه أو حرَّمه بجامع بينهما؛ فإنَّ ذلك يستلزم رَفْعَ هذا القسم بالكليَّة وإلغاءه؛ إذ المسكوتُ عنه لا بدَّ أن يكون بينه وبين المُحرَّم شَبَهٌ ووصفٌ جامع (¬1)، أو بينه وبين الواجب، فلو جاز إلحاقُهُ به لم يكن هناك قِسْمٌ قد عُفي عنه، ولم يكن ما سكت عنه قد عفا عنه، بل يكون ما سكت عنه قد حَرَّمَه قياسًا على ما حرمه، وهذا لا سبيلَ إلى دفعه، وحينيذٍ فيكون (¬2) تحريم ما سكت عنه تبديلًا لحكمه، وقد ذَمَّ تعالى مَنْ بَدَّل غير القول الذي أُمر به؛ فمن بدَّل غيرَ الحكم الذي شَرَع له فهو أولى بالذم، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ مِن أعظم المسلمين [في المسلمين] جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرَّمْ فحُرِّم على الناس من أجل مسألته" (¬3)، فإذا كان (¬4) فيمن تسبَّب إلى تحريم الشارع صريحًا بمسألته عن حُكم ما سَكتَ عنه، فكيف بمن حَرَّم المسكوتَ عنه بقياسه وبرأيه؟ يوضِّحه أنَّ المسكوتَ عنه لما كان عَفْوًا عفا اللَّه لعباده عنه، وكان البحثُ عنه سببًا لتحريم اللَّه إيّاه لما فيه من مُقْتَضى التحريم، لا لمجرد السؤال عن ¬
حكمه، وكان اللَّه قد عفا عن ذلك وسامَحَ به عباده، كما يعفو عما فيه مَفْسَدة من أعمالهم وأقوالهم؛ فمن المعلوم أنَّ سكوته عن ذكر لَفْظٍ عام (¬1) يحرِّمه يدلُّ على أنه عَفْو عنه (¬2)، فمن حَرَّمه بسؤاله عن علَّة التحريم، وقياسِهِ على المحرَّم بالنص كان أدْخَلَ في الذَّمِّ ممّن سأله عن حكمه لحاجته إليه؛ فحُرَّم من أجل مسألته، بل كان الواجبُ عليه أن لا يبحثَ عنه، ولا يسأل عن حُكمه، اكتفاءً بسكوتِ اللَّه عن [عَفْوه] (¬3) عنه؛ فهكذا الواجبُ [عليه] (3) أن لا يُحرِّم المسكوت عنه بغير النَّص الذي حرَّم اللَّه أصْلَه الذي يُلْحَق به. قالوا: وقد دلَّ على هذا كتاب اللَّه حيث يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101، 102]، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "ذَرُونِي ما تركتُكُم، فإنما هَلَكَ الذين مِنْ قبلكم بكثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجْتَنِبُوهُ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" (¬4)، فأمرهم أن يتركوا من السؤال ما تركهم، ولا فَرْقَ في هذا في حياته (¬5)، و [بعد] (¬6) مماته، فنحن مأمورون أن نتركه -صلى الله عليه وسلم-، وما نصَّ عليه، فلا نقول [له] (3): لِمَ حرَّمت كذا؟ لِنُلحق به ما سكت عنه، بل هذا أبْلَغُ في المعصية من أن نسأله عن حكم شيء لم يحكمْ فيه، فتأمَّلْه فإنه واضحٌ. [ويدل عليه قوله في نفس الحديث: "وإذا نهيتكم عن شيء فاجْتَنبُوه، وإذا أمرتكم بأمرٍ فأتُوا منه ما استطعتم"] (¬7)، فجعل الأمور ثلاثةً، لا رابع لها: مأمور به، فالفَرْض عليهم فِعْلُه بحسب الاستطاعة، ومنهيٌّ عنه، فالفرض عليهم اجتنابُه بالكليَّة، ومسكوت عنه؛ فلا يُتَعَرَّضُ (¬8) للسُّؤَالِ والتفتيش عنه. وهذا حكم لا يختصُّ بحياته فقط، ولا يخصُّ الصَّحابةَ دون مَنْ بعدهم، بل ¬
فَرَضَ علينا نحن امتثالَ أمره بحسب الاستطاعة، واجتنابَ نهيه، وترك البحث والتفتيش عما سكت عنه، وليس ذلك التركُ جهلًا وتجهيلًا لحكمه، بل إثبات لحكم (¬1) العفو، وهو الإباحة العامة ورفع الحرج عن فاعله، فقد استوعَبَ الحديثُ أقسامَ الدِّينِ كُلِّها، فإنها إما واجب، وإما حرام، وإما مباح؛ والمكروه والمستحب فرعان: على هذه الثلاثة غير خارجين عن المباح؛ وقد قال تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 18 - 19]، فوَكَّل بيانَه إليه سبحانه لا إلى القياسيين والآرائيين (¬2)؛ و [قد] (¬3) قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، فقسم الحكم إلى قسمين: قِسمٌ أذنَ فيه [وهو الحق] (¬4) وقسم افْتُرِيَ عليه [فيه] (¬5)، وهو ما لم يأذنْ فيه، فأين أَذِن لنا أن نقيسَ البلَّوط على التمر في جريان الربا فيه؟ وأَنْ نقيسَ القزدير (¬6) على الذهب والفضة، والخردلَ على البُرِّ؟ فإن كان اللَّه ورسوله وَصَّانا بهذا فَسَمْعًا وطاعة للَّه ورسوله، وإلا فإنا قائلون [لمنازعينا] (4): {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا}؟ [الأنعام: 144] فما لم تأتِنَا به وصيةٌ من عند اللَّه على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو عينُ الباطل، وقد أمرنا اللَّه بردِّ ما تنازعنا فيه إليه وإلى رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فلم (¬7) يُبحْ لنا قطُّ أن نَرُدَّ ذلك إلى رأي، ولا قياس، ولا تقليد إمام، ولا منام، ولا كُشوف، ولا إلهام، ولا حديث قلب، ولا استحسان، ولا معقول، ولا شريعة الديوان، ولا سياسة الملوك، ولا عوائد الناس التي ليس (¬8) على شرائع المرسلين (¬9) أضرَّ منها، فكل هذه طواغيت مَنْ تحاكم إليها أو دَعَا (¬10) منازعَه إلى التحاكم إليها فقد حاكم إلى الطاغوت. و (¬11) قال تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74]، قالوا: ومن تأمل هذه الآية حق التأمل تبيِّن له أنَّها نصٌّ على إبطال القياس ¬
وتحريمه؛ لأنَّ القياس كله ضربُ الأمثال للدّين، وتمثيل ما لا نصَّ فيه [بما فيه نَصٌّ] (¬1)، ومَنْ مَثَّل ما لم ينص اللَّه على تحريمه أو إيجابه بما حَرَّمه أو أَوجبه فقد ضرب للَّه الأمثال، ولو علم سبحانه أن الذي سكت عنه مثل الذي نصَّ عليه لأعلَمنا به، ولَمَا أغْفَله [سبحانه] (¬2)، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ولبيِّن لنا ما نتقي، كما أخبر عن نفسه بذلك إذ يقول [سبحانه] (2): {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة: 115]، ولَمَا وكَله إلى آرائنا (¬3) ومقاييسنا التي ينقضُ بعضُها بعضًا، فهذا يقيس ما يذهب إليه على ما يزعم أنه نظيره، فيجيء مُنَازِعُه فيقيس ضد قياسِه من كلِّ وجهٍ، ويُبدي من الوصف الجامع مثلَ ما أبداه منازعُوه أو أظهرَ منه، ومحالٌ أن يكون القياسانِ معًا من عند اللَّه، وليس أحدهما أولى من الآخر، [فليسا من عنده] (¬4)، وهذا وحده كافٍ في إبطال القياس. وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، وقال: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فكل ما بيَّنه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعن ربه [سبحانه] (2)، بيَّنه بأمره وإذنه، وقد عَلِمنا يقينًا وقوعَ كل اسم في اللغة على مُسمَّاه فيها، وأن اسم البُرِّ لا يتناول [الخردل، وأسم التمر لا يتناول البلوط، واسم الذهب والفضة لا يتناول القزدير] (¬5)، وأن تقدير نصاب السرقة لا يدخل فيه تقدير المَهْر، وأن تحريم أكلِ الميتة لا يدل على أن المؤمن الطيب عند اللَّه حيًا وميتًا إذا مات صار نجسًا خبيثًا، وأن هذا [عن] (2) البيان -الذي وَلَّاه اللَّه رسولَه وبعثه به- أبعد شيء وأشده منافاة له، فليس هو مما بُعث به الرسول قطعًا، فليس إِذًا من الدين. وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بَعثَ اللَّه من نبيٍّ إِلَّا كان حقًا عليه أن يَدُلَّ أمته على خير ما يَعْلمُه لهم، وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم" (¬6)، ولو كان الرأيُ ¬
والقياس خيرًا لهم لدلَّهم [عليه] (¬1)، وأرشدهم إليه، ولقال لهم: إذا أوجَبْتُ عليكم شيئًا أو حرَّمتُهُ فقيسوا عليه ما كان بينه وبينه وَصْفٌ جامع أو ما أشبهه، أو قال ما يدل على ذلك أو يستلزمه، ولما حذّرهم من ذلك أشَدَّ الحَذَر كما ستقف عليه إن شاء اللَّه، وقد أحكم اللسانُ كلَّ اسمٍ على مُسمَّاه لا على غيره، وإنما بعث اللَّه [سبحانه] (2) محمدًا [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) بالعربيّة التي يفهمُها (¬3) العربُ من لسانها، فإذا نصَّ سبحانه في كتابه، أو نصَّ رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬4) على اسم من الأسماء، وعلَّق عليه حُكمًا من الأحكام، وَجَبَ ألا يُوقعَ ذلك الحكم إِلا على ما اقتضاه ذلك الاسمُ، ولا يُتعدَّى به الوضع الذي وضعه اللَّه [ورسوله] (2) فيه، ولا يُخرج عن ذلك الحكم شيءٌ مما يقتضيه الاسم؛ فالزيادةُ على ذلك زيادةٌ في الدين، [والنَّقصُ منه نقصٌ في الدين] (2)؛ فالأول القياس، والثّاني التخصيص الباطل، وكلاهما ليس من الدِّين، ومن لم يَقفْ مع النصوص، فإنه تارةً يزيد في النص ما ليس منه، ويقول: هذا قياس، ومرةً ينقص منه بعض ما يقتضيه ويخرجه عن حكمه، يقول (¬5): هذا تخصيص، ومرةً يترك النَّصَّ جملةً، ويقول: ليس العمل عليه، أو يقول: هذا خلاف [القياس، أو خلاف] (2) الأصول. قالوا: ولو كان القياس من الدِّين لكان أهلُه أتْبَعَ الناسِ للأحاديث، وكان كلما توغل فيه الرجُلُ (¬6) كان أشدَّ اتِّباعًا للأحاديث والآثار. قالوا: ونحن نرى أنَّ كلَّما اشتدَّ توغّلُ الرجل فيه اشتدَّتْ مخالفته للسُّنن، ولا نَرَى مخالفة (¬7) السنن والآثار إِلا عند أصحاب الرأي والقياس، فلله كم من سنةٍ صحيحةٍ صريحةٍ قد عُطِّلت [به] (¬8)؟ وكم من أثرِ دَرَسَ حُكمه بسببه؟ فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين (¬9) خاويةٌ على عُروشها، مُعطَّلة أحكامُها، معزولة عن سلطانها وولايتها (¬10)، لها الاسمُ ولغيرها الحكم، لها السِّكَةُ والخطبة، ولغيرها الأمرُ والنهي، وإلّا فلماذا تُرِك حديثُ العَرَايا (¬11)، وحديثُ قسم الابتداء [وأن] (8) ¬
للزوجة حق العقد سبع ليال إنْ كانت بكرًا، وثلاثًا إنْ كانت ثيِّبًا ثم يُقْسم بالسويَّة (¬1)، وحديث تغريب الزاني غير المحصَنِ (¬2)، وحديث الاشتراط في الحج، وجواز التحلل بالشرط (¬3)، وحديث الْمَسْح على الجوربين (¬4)، وحديث عمران بن حصين وأبي هريرة في أنَّ كلام الناسي والجاهل لا يبطل الصلاة (¬5)، وحديث دَفْع ¬
اللّقَطَة إلى مَنْ جاء فوصَفَ وعاءها ووكاءها وعِفَاصها (¬1) وحديث المصَرَّاة (¬2)، وحديث القُرْعَة بين العبيد إذا أُعتقوا في المرض ولم يحملهم الثلث (¬3)، [وحديث خِيار الْمَجْلس] (¬4)، وحديث إتمام الصَّوْم لمن أكل ناسيًا (¬5)، وحديث إتمام صلاة الصُّبح لمن طلعت عليه الشمسُ، وقد صَلَّى منها ركعة (¬6)، وحديث الصوم عن ¬
الميِّت (¬1)، وحديث الحج عن المريض المأيوس من بُرْئه (¬2)، وحديث الحكم بالقَافَةِ (¬3)، وحديث مَنْ وجد متاعَه عند رجل قد أفلس (¬4)، وحديث النهي عن بيع الرُّطب بالتمر (¬5)، وحديث بيع المدبَّر (¬6)، وحديث القضاء بالشاهد مع ¬
اليمين (¬1)، وحديث الولد للفراش إذا كان من أمة (¬2)، وهو سبب الحديث، وحديث تخيير الغلام بين أبويه إذا افترقا (¬3)، وحديث قطع السارق في رُبْع دينار (¬4)، وحديث رجم الكتابيين في الزنا (¬5)، وحديث من تزوج امرأة أبيه ¬
[أُمِر] (¬1) بِضَرْب عنقه وأخذ ماله (¬2). وحديث: "لا يقتل مؤمن بكافر" (¬3)، وحديث: "لعن اللَّه المحلِّل والمحلَّل له" (¬4)، وحديث: "لا نكاح إِلا بولي" (¬5)، وحديث المطلَّقة ثلاثًا لا سُكْنى لها ولا ¬
نفقة (¬1)، وحديث: "أعْتَقَ صفيةَ وجعل عتقها صداقها" (¬2)، وحديث: "أصْدِقْهَا ولو خاتمًا من حديد" (¬3)، وحديث إباحة لحوم الخيل (¬4)، وحديث: "كُلُّ مسكر حرام" (¬5) ¬
وحديث: "ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ صدقة" (¬1)، وحديث المزارعة والمساقاة (¬2)، وحديث: "ذكاةُ الجنين ذكاةُ أمّة" (¬3). ¬
وحديث: "الرهنُ مركوبٌ ومحلوب" (¬1)، وحديث النهي عن تخليل ¬
الخمر (¬1)، وحديث قسمة الغنيمة للراجل سهمٌ وللفارس ثلاثة (¬2)، وحديث: "لا تحرم المصَّة والمصَّتان" (¬3). وأحاديث حَرَم المدينة (¬4)، وحديث إشعار الْهَدْي (¬5) وحديث: "إذا لم يجد المُحْرم الإزار فليلبسْ السَّراويل" (¬6)، وحديث منع الرجل من تفضيل بعض ولده ¬
على بعض، وأنه جَوْرٌ لا تجوز الشهادة عليه (¬1)، [وحديث] (¬2): "أنت ومالُكَ لأبيك" (¬3)، وحديث القَسَامة (¬4)، وحديث الوضوء من لحوم الإبل (¬5)، وأحاديث الْمَسْح على العمامة (¬6)، وحديث الأمر بإعادة الصلاة لمن صَلَّى خَلْف الصف وحده (¬7). ¬
وحديث: مَنْ دخل والإمام يخطب يصلي تحية المسجد (¬1)، [وحديث ¬
الصلاة على الغائب (¬1)، وحديث الجهر بآمين في الصلاة،] (¬2) وحديث جَوَاز رجوع الأب فيما وَهبه لولده ولا يرجع غيره (¬3)، وحديث الكلب الأسود يقطع ¬
الصلاة (¬1). وحديث الخروج إلى العيد من الغد إذا علم بالعيد بعد الزوال (¬2)، وحديث نَضْح بَوْل الغلام الذي لم يأكل الطعام (¬3)، وحديث الصلاة على ¬
القبر (¬1)، وحديث: "مَنْ زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزَّرع شيء، وله نفقتُه" (¬2) وحديث بيع جابر بعيره واشتراط. . . . ¬
ظهره (¬1)، وحديث النهي عن جلود السِّباع (¬2)، وحديث: "لا يمنع أحدكم جاره ¬
أن يغرز خشبة في جداره" (¬1)، وحديث: "إن أحقَّ الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬2)، وحديث: "من باع عبدًا وله مال فماله للبائع" (¬3)، وحديث إذا أسلم وتحته أختان اختار أيتهما شاء (¬4)، وحديث الوتر على الراحلة (¬5). ¬
وحديث: "كُلُّ ذي نابٍ من السِّباع حَرَام" (¬1)، وحديث من السنة وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (¬2)، وحديث: "لا تجزئ صلاةٌ لا يقيم الرّجلُ فيها صُلْبَه من ركوعه وسجوده" (¬3)، وأحاديث رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه (¬4). وأحاديث الاستفتاح (¬5)، وحديث كان للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَكْتَتان في ¬
الصلاة (¬1)، وحديث: "تَحريمها التَّكبير وتَحليلها التَّسليم" (¬2). وحديث حمل الصِّبْية في الصلاة (¬3)، وأحاديث القُرْعَة (¬4). ¬
وأحاديث العقيقة (¬1)، وحديث: "لو أَن رجلًا اطَّلع عليك بغير إذنك" (¬2)، وحديث: "أَيَدعُ يَده في فيك تَقْضِمُها كما يقْضِم الفحل" (¬3)، وحديث: "إن بلالًا ¬
يُؤذِّن بليل" (¬1). وحديث النَّهي عن صوم يوم الجمعة (¬2)، وحديث النَّهي عن الذَّبح بالسِّنِّ والظّفُر (¬3)، وحديث صلاة الكسوف والاستسقاء (¬4)، وحديث النهي عن ¬
عَسْب الفَحْل (¬1)، وحديث: "المُحْرِم إذا مات لم يُخَمَّرْ رأسه ولم يقْرَبْ طيبًا" (¬2)، إلى أضعاف ذلك من الأحاديث التي كان تركها من [أجل] (¬3) القول بالقياس والرأي؟. فلو كان القياس حقًا لكان أهلُه أتبَعَ الأمة للأحاديث ولا حُفظ لهم تركُ حديث واحد إلا لنصٍّ ناسخٍ له، فحيثُ رأينا كلَّ مَنْ كان أشد توغّلًا في القياس، والرأي كان أشدَّ مخالفةً للأحاديث الصَّحيحة الصَّريحة علمنا أنَّ القياس ليس من الدين، وإنَّ شيئًا تُتْرَكُ (¬4) له السّننُ لأبينُ شيء منافاةً للدِّين، فلو كان القياس من عند اللَّه لطابقَ السُّنةَ أعظم مطابقة، ولم يخالف أصحابه حديثًا واحدًا منها، ولكانوا أسْعَدَ بها من أهل الحديث، فلْيُرُوا أهلَ الحديث والأثر حديثًا واحدًا صحيحًا قد خالفوه، كما أريناهم آنفًا ما خالفوه من السنة بجريرة القياس (¬5). قالوا: وقد أخذ اللَّه الميثاق على أهل الكتاب، وعلينا بعدهم، أن لا نقول على اللَّه إلا الحق، فلو كانت هذه الأقيسةُ المتعارضةُ المتناقضة التي ينقضُ بعضُها بعضًا بحيث لا يدري النَّاظرُ فيها أَيُّها الصواب (¬6) حقًا لكانت متَّفقةً يُصدِّق بعضُها بعضًا، كالسُّنَّة التي يصدِّق بعضُها بعضًا، وقال تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [يونس: 82] لا بآرائنا و [لا] (¬7) مقاييسِنا، وقال: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ¬
فصل [لم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقياس بل نهى عنه]
السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]، فما لم يَقُلْه [سبحانه] (¬1)، ولا هَدَى إليه فليس من الحق، وقال [تعالى] (1): {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]، فقسم الأمور قسمين (¬2) لا ثالث لهما: اتِّباعٌ لِما دعا إليه الرسول، واتباع الْهَوَى. فصل [لم يأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالقياس بل نهى عنه] والرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَدْعُ أمته إلى القياس قط، بل قد صحَّ عنه أنه أنكر على عمر وأسامة محض القياس في شأن الحُلَّتين اللتين أرسل بهما إليهما فلبسها أسامة قياسًا للبس على التَّملُّك والانتفاع [والبيع] (¬3) وكسوتها لغيره، وردها عمر قياسًا لتملكها على لبسها، فأسامة أباح، وعمر حَرَّم [قياسًا] (1)، فأبطل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كل واحد من القياسين، وقال لعمر: "إنما بعثت بها إليك لتسْتَمتِعَ بها"، وقال لأسامة: "إني لم أبعثها إليك لتلبَسَها، ولكن بعثت بها إليك (¬4) لتُشقِّقها خُمْرًا لنسائك" (¬5)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنَّما تقدَّم إليهم في الحرير بالنَّص على تحريم لبسه فقط (¬6)، فقاسا قياسًا أخطآ فيه، فأحدهما قاس اللبس على الملك، وعمر قاس التملك على اللبس، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أن ما حرَّمه من اللبس لا يتعدى إلى غيره، وما أباحه من التملك لا يتعدى إلى اللبس، وهذا عينُ إبطال القياس. وصح عنه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬7) ما رواه أبو ثعلبة الخُشَنيُّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "إن اللَّه فرض فرائض فلا تُضَيِّعُوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء ¬
فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمةً لكم غير نَسْيان فلا تبحثوا عنها" (¬1)، وهذا الخطاب كما يعمّ أَوَّلُه للصحابة ولمن بعدهم فهكذا آخره؛ فلا يجوز أن نبحث ¬
عما سكت عنه ليحرمه أو يوجبه (¬1). وقال عبد اللَّه بن المبارك: ثنا عيسى بن يونس، عن حَرِيز بن عثمان (¬2)، عن عبد الرحمن بن جُبير بن نُفَير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعيِّ قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تفترق أمتي على بِضْع وسبعين فِرْقة، أعظمها فتنة على أمتي قومٌ يقيسون الأمور برأيهم، فيحِلُّون الحرام، ويحرِّمون الحلال" (¬3). قال قاسم بن أصبغ: ثنا محمد بن إسماعيل الترمذي: ثنا نُعيم بن حَمَّاد: ثنا عبد اللَّه، فذكره. وهؤلاء كلهم أئمةٌ ثقات حُفاظ إلا حَريز (¬4) بن عثمان فإنه كان منحرفًا عن علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬5)، ومع هذا فاحتج به البخاري في "صحيحه"، [وقد رُوي عنه أنَّه تبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علي، ونُعيم بن حماد إمام جليل، وكان سيفًا على الجهمية، روى عنه البخاري في "صحيحه"] (¬6). وقد صح عنه صحة (¬7) تقرب من التواتر أنه قال: "ذروني ما تركتم، فإنما هلك الذين مِنْ قَبْلكم بكثرة مسائِلِهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتُكُم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكُم به فأتوا منه ما استطعتم" (¬8) فتضمن هذا الحديث أنَّ ما أَمر به [أَمْر] (¬9) إيجابٍ فهو واجبٌ، وما نَهَى عنه فهو حرام، وما سكت عنه فهو [عَفْو] (¬10) مباحٌ, فبطل ما سوى ذلك، والقياسُ خارجٌ عن هذه الوجوه الثلاثة؛ فيكون باطلًا، والمقيسُ مسكوتٌ عنه بلا ريب؛ فيكون عفوًا بلا ريب، فإلحاقه ¬
بالمحرم [تحريمٌ لما] (¬1) عفا اللَّه عنه، وفي قوله: "ذروني ما تركتكم" بيانٌ جليٌّ أَنَّ مَا لَا نصَّ فيه فليس بحرام ولا واجب. ودل الحديث على أن أوامره على الوجوب حتى يجيء ما يرفع ذلك، أو يُبيّن أن مراده الندب، وأن ما لا نستطيعه فساقط (¬2) عنا. وقد روى ابنُ المُغَلِّس: ثنا عبد اللَّه بن محمد بن عبد الرحمن: ثنا أبو قِلابة الرَّقاشِيُّ: ثنا أبو الربيع الزَّهرانيُّ: ثنا سيف بن هارون البُرْجُميُّ، عن سليمان التَّيميُّ، عن أبي عثمان النَّهديِّ، عن سلمان [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) قال: سُئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أشياء، فقال: "الحلال ما أحل اللَّه، والحرام ما حرم اللَّه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬4) وهذا إسناد جيدٌ مرفوع، واللَّه المستعان، وعليه التُّكْلَان. ¬
فصل [الصحابة نهوا عن القياس أيضا]
فصل [الصحابة نهوا عن القياس أيضًا] وأما الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬1) فقد قال أبو هريرة لابن عباس: إذا جاءك الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا تَضرِبْ له الأمثال (¬2). وفي "صحيح مسلم" من حديث سَمُرة بن جُنْدب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أحبُّ الكلام إلى اللَّه [عز وجل] (¬3) أربع" فذكر الحديث، وفي آخره: "لا تُسمينَّ غلامك يسارًا ولا رباحًا ولا نَجيحًا ولا أفلح، فإنّك تقول: أثمَّ هو؟ فيُقال: لا، إنما هن أربع فلا تزيدُن [عليّ" (¬4). قالوا: فلم يُجِزْ سمرة] (¬5) أن ينهى عما عدا الأربع قياسًا عليها، وجعل ذلك زيادة فلم يزد على الأربع بالقياس التسمية بسعد وفَرَج وخَير (¬6) وبَرَكة ونحوها، ومقتضى قول القياسيين (¬7) أن الأسماء التي سكت عنها النص أولى بالنَّهي؛ فيكون إلحاقها بقياس الأولى أو مثله. فإن قيل: فلعل قوله: "إنما هُنَّ أربع فلا تزيدُنَّ عليَّ" مرفوع من نفس كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو لعل سمرة أراد به (¬8)، إنما حفظتُ هذه الأربعَ فلا تزيدُنَّ عليَّ في الرواية. قيل: أما السؤال الأول فصريح في إبطال القياس، فإنَّ المعنى واحد، ومع هذا فخص النهي بالأربع (¬9)، وأما السؤال الثاني فقوله: "إنما هن أربع" يقتضي ¬
تخصيصَ الرواية والحكم بها، ونفي الزيادة عليها روايةً وحكمًا؛ فلا تنافي بين الأمرين. وقال شعبة: سمعت سُليمان (¬1) بن عبد الرحمن قال: سمعت عبيد (¬2) بن فيروز قال: قلت للبراء بن عازب: حدثني ما كَرِه أو نهى عنه النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أربعٌ لا تُجزيء في الأضاحي"، فذكر الحديث، قال: فإني أكره أن تكون ناقصة القَرْن أو (¬4) الأذن، قال: "فما كرهتَ منه فدَعْه، ولا تُحَرِّمه على أحد (¬5)، ولم يأذنْ له في القياس على الأربع، ولم يَقسْ عليها هو ولا أحد من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. وقال عمرو بن دينار، عن أبي الشَّعْثاء، عن ابن عباس، قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تَقَذُّرًا (¬6)، فبعث اللَّه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأنزل عليه كتابه، وأحلَّ حلاله، وحرَّم حرامه؛ فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو (¬7). ¬
وقال عمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬1): قد وضحت الأمور، وتبيَّنت السنة (¬2)، ولم يُترك لأحد منكم متكلم إلا أن يضلَّ عبدٌ (¬3). وقال ابن مسعود: مَنْ أتى الأمرَ على وجهه فقد بُيِّن له، وإلا فواللَّه ما لنا طاقة بكل ما تُحدِّثون (¬4)، ولو كان القياس من الدين لكان له ولغيره طاقة بقياس كل ما يَرد عليهم على نظيره بوصف جامع شبهي، وإذا كان القياسيون (¬5) لا يعجزون عن ذلك فكيف الصحابة؟ ولو كان القياس من الدين لكان الجميع مُبيّنًا، ولما قسم ابن مسعود وغيره ما يرد عليه إلى ما بيَّنه اللَّه وإلى ما لم يبينه؛ فإن اللَّه على قولكم قد بَيَّن الجميعَ بالنَّصِ والقياسِ. فإن قيل: فهذا (¬6) ينقلب عليكم، فإنكم تقولون: إن اللَّه [سبحانه] (¬7) قد بيَّن [الجميع (¬8). قلنا: ما بيَّنه اللَّه سبحانه نطقًا فقد بَيَّن حكمه، وما لم يبيِّنه نطقًا (بل) سكت عنه فقد بَيَّن لنا] (¬9) أنه عفو، وأما القياسيون (¬10) فيقولون: ما سكت عنه فقد بيَّن أنَّ حكمه حكم ما تكلم به، وفَرْقٌ عظيم بين الأمرين، ونحن أسعد بالبيان النطقي ¬
والسكوتي منكم لتعميمنا البيانين وعدم تناقضنا فيهما، وباللَّه التوفيق. وقد تقدم قول ابن مسعود: ليس عامٌ إلا والذي بعدهُ شر منه، لا أقول: عامٌ أَمطرُ من عام، ولا عام أخْصَبُ من عام، ولا أميرٌ خير من أمير، ولكن ذهابُ خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فينهدم الإسلامُ وينثلم (¬1). وتقدم قول [ابن] عمر: العلم ثلاثة: كتاب ناطق، وسنة ماضية، ولا أدري (¬2)، ¬
وقوله لأبي الشعثاء: لا تُفتِيَنَّ إلا بكتاب ناطق، أو سنة ماضية (¬1). وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق الشَّيْباني قال: سمعت عبد اللَّه بن أبي أوفى يقول: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نبيذ الجَرِّ (¬2) الأخضر، قلت: فالأبيض؟ قال: لا أدري (¬3). ولم يقل: [و] (¬4) أي فرق بين الأخضر والأبيض، كما يبادرُ إليه القياسيون (¬5). وقال الزهري: كان محمد بن جُبير بن مُطْعِم يحدث أنه كان عند معاوية في وفد من قريش، فقام فحمد اللَّه وأثنى عليه بما هو أهله (¬6)، ثم قال: أما بعد فإنه بلغني أن رجالًا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب اللَّه، ولا تُؤثر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأولئك جهالكم (¬7). ومعلومٌ أن القياس خارج عن كليهما. ¬
وتقدم قول معاذ: تكون فتنٌ يكثر فيها المال، ويُفتح [فيها] القرآن، حتى يقرأه الرجل والمرأة والكبير والصغير (¬1) والمؤمن والمنافق، ويقرأه الرجل فلا يُتَّبع، فيقول: واللَّه لأقرأنه علانية، فيقرؤه علانية فلا يتبع، فيتخذ مسجدًا ويبتدع كلامًا ليس من كتاب اللَّه ولا من سنة رسول اللَّه فإياكم وإياه فإنها بدعةٌ وضلالة (¬2). وقال عبد العزيز بن المطلب، عن ابن مسعود: إنَّكم إنْ عملتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرًا مما حُرِّم عليكم، وحرَّمتم كثيرًا مما أُحلَّ لكم (¬3). وقال الأوزاعي، عن عَبْدة بن أبي لُبابة، عن ابن عباس: منْ أحدث رَأيًا ليس في كتاب اللَّه ولم تمض به سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَدْرِ على ما هو منه إذا لقي اللَّه [عز وجل] (¬4). وقال أبو خيثمة: حَدّثنا جرير، [عن ليث بن أبي سليم] عن مجاهد أن عمر نَهى عن المُكايلة، يعني المقايسة (¬5). ¬
فصل [التابعون يصرحون بذم القياس]
وقال (¬1) الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا حفص بن غياث، عن أبيه عن مجاهد قال: [قال عمر] (¬2): إياك والمكايلة، يعني: المقايسة (¬3). وقال (1) الأثرم: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا حفص بن غِياث، عن الأعمش، عن حَبيب، عن أبي عبد الرحمن السُّلمي قال: قال عبد اللَّه: يا أيها الناس إنكم سَتُحْدثون (¬4) ويُحْدَث لكم، فإذا رأيتم مُحْدَثًا فعليكم بالأمر الأول (¬5) [وباللَّه التوفيق] (¬6). فصل [التابعون يصرحون بذمِّ القياس] وكذلك أئمة التابعين وتابعوهم (¬7) يصرِّحون بذم القياس، وإبطاله، والنهي عنه. ¬
قال الطحاوي: ثنا ابن عُلَيَّة: حدثني عَمرو بن أبي عِمْران (¬1): ثنا يحيى بن سُليم (¬2) الطائفي: حدثني داود بن أبي هند قال: سمعتُ محمد ابن سيرين يقول: القياسُ شُؤم، وأول من قاس إبليس [فهلك] (¬3)، وإنما عُبدتِ الشمسُ والقمر بالمقاييس (¬4). وقال ابن وهب: أخبرني مسلمة (¬5) بن علي أن شُريحًا الكندي -هو القاضي- قال: إن السنة سبقت قياسكم (¬6). وقال ابنُ أبي حاتم: ثنا محمد بن إسماعيل الأَحْمسي: ثنا وهب بن إسماعيل، عن داود الأوْدي (¬7) قال: قال لي الشعبي: احفظ عني ثلاثًا (¬8) لها شأن (¬9): "ذا سُئِلت عن مسألة فأجَبْتَ فيها فلا تتبع مسألتك: أرأيت؛ فإن اللَّه قال ¬
في كتابه: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] حتى فرغ من الآية الأولى؛ والثانية (¬1) إذا سئلت عن مسألة فلا تقسْ شيئًا بشيء، فربما حرمت حلالًا أو حَلَّلت حرامًا، وإذا سئلت عمَّا لا تعلم فقل: لا أعلم، وأنا شريكك (¬2). وقال ابن وهب: أخبرني يحيى بن أيوب، عن عيسى بن أبي عيسى، عن الشعبي أنه سمعه يقول: "إياكم والمقايسة؛ فوالذي نفسي بيده إنْ أخذتم بالمقايسة لتُحِلُّنَّ الحرام ولتُحَرِّمُنَّ الحلال، ولكن ما بلغكم عن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاحفظوه (¬3). وقال الطحاوي: ثنا يوسف بن يزيد القَرَاطيسي: ثنا سعيد بن منصور: ثنا جَرير بن عبد الحميد، عن المغيرة بن مِقْسَم، عن الشعبي قال: السنة لم توضع بالقياس (¬4). وقال الخُشَني: ثنا محمد بن بشار: ثنا يحيى بن سعيد القطان: ثنا صالح بن مسلم قال: قال لي عامر الشعبي يومًا، وهو آخذ بيدي: إنما هلكتم حين تركتم الآثار وأخذتم بالمقاييس (¬5). ¬
وقال عَبَّاس بن الفَرَج [الرياشي] (¬1) عن الأصمعي أنه قيل له: إن الخليل بن أحمد يُبطل القياس، فقال: أخذ هذا عن إياس بن معاوية (¬2). وقال علي بن عبد العزيز [البغوي] (¬3): ثنا أبو الوليد القرشي: أخبرنا محمد بن عبد اللَّه بن بَكَّار القرشي، ثنا سليمان بن جعفر، ثنا محمد بن يحيى الربعي، عن ابن شبرمة أن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين قال لأبي حنيفة: اتق اللَّه ولا تقس، فإنَّا نقف (¬4) غدًا نحن ومن خَالَفنا بين يدي اللَّه، فنقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال اللَّه. وتقول أنت وأصحابك: رأينا، وقسنا. فيفعل اللَّه بنا وبكم ما يشاء (¬5). وبهذا الإسناد إلى ابن شبرمة قال: دخلتُ أنا وأبو حنيفة على جعفر بن محمد ابن الحنفية، فسلَّمتُ عليه وكنت له صديقًا، ثم أقبلتُ على جعفر، وقلت [له] (3): أمْتَعَ اللَّه بك، هذا رجلٌ من أهل العراق، وله فِقْهٌ وعَقْل، فقال لي جعفر: لعله الذي يقيس الدين برأيه، ثم أقبل عليَّ فقال: أهو النعمان؟ فقال له أبو حنيفة: نعم، أصلحك اللَّه، فقال له جعفر: اتق اللَّه ولا تقس الدين برأيك، فإنَّ أول من قاس إبليس؛ إذ أمره اللَّه بالسجود لآدم، فقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص: 76]، ثم قال لأبي حنيفة: أَخْبرني عن كلمة أولها شرك وآخرها إيمان، فقال: لا أدري، قال جعفر: هي لا إله إلا اللَّه، فلو قال: "لا إله" ثم أمسك كان مشركًا؛ فهذه كلمة أولها شرك وآخرها إيمان، ثم قال له: ويحك! أيهما أعظمُ عند اللَّه: قتلُ النفس التي حَرَّم اللَّه، أو الزنا؟ قال: بل قتلُ ¬
النفس، فقال له جعفر: إن اللَّه [قد] (¬1) قبل في قتل النفس شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعة، فكيف يقوم لك قياس؟ ثم قال: أيها (¬2) أعظم عند اللَّه: الصوم، أو الصلاة؟ قال: بل الصلاة، قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام (¬3) ولا تقضي الصلاة؟ اتق اللَّه يا عبد اللَّه، ولا تقس، فإنا نقفُ غدًا نحن وأنت بين يدي اللَّه (¬4) فنقول: قال اللَّه [عز وجل] (¬5)، وقال رسول اللَّه (¬6) وتقول أنت وأصحابك: قِسْنَا، ورأينا، فيفعل اللَّه بنا وبكم ما يشاء (¬7). وقال ابن وهبٍ: سمعت مالك بن أنس يقول: الزَم ما قاله رسول اللَّه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (1) في حجة الوداع: "أمران تركتُهُما فيكم لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب اللَّه، وسنة نبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] " (¬8). [قال ابن وهب] (1): وقال مالك: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إمام المسلمين، وسيد العالمين، [يُسئل عن الشيء فلا يُجيب حتى يأتيه الوحي من السماء" (¬9). فإذا كان رسول رب العالمين] (1) لا يجيب إلا بالوحي، وإلا لم يُجبْ، فمن الجرأة العظيمة إجابة من أجاب برأيه أو قياس، أو تقليد من يُحْسَن به الظن (¬10)، أو عرف، أو عادة، أو سياسة، أو ذوق، أو كشف، أو منام، أو استحسان، أو خرصٍ، واللَّه المستعان وعليه التكلان. ¬
وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو: ثنا يزيد بن عبد ربه قال: سمعت وكيع بن الجَرَّاح يقول ليحيى بن صالح الْوُحَاظِيِّ: يا أبا زكريا، احذر الرأي فإنِّي سمعتُ أبا حنيفة يقول: البولُ في المسجد أحسن من بعض قياسهم (¬1). وقال عبد الرزاق: قال لي حماد بن أبي حنيفة: [قال أبي: مَنْ لم يدع القياس في مجلس القضاء لم يفقه (¬2). فهذا أبو حنيفة] (¬3) يقول: إنه لا يفقه من لم يترك القياس (¬4) في موضع الحاجة إليه، وهو مجلس القضاء، قالوا: فتبًا لكل شيء لا يفقه المرءُ إلا بتركه (¬5). وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن شبرمة: ما عُبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس (¬6). وقال داود بن الزِّبْرِقان، عن مُجالد بن سعيد قال: ثنا الشعبي يومًا، [قال]: يوشك أن يصيرَ الجهلُ علمًا والعلمُ جهلًا، قالوا: وكيف يكون هذا يا أبا عمرو؟ قال: كنا نتَّبع الآثار وما جاء عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، فأخذ الناس في غير ذلك وهو القياس (¬7). وقال وكيع: حدثنا عيسى الخَيَّاط، عن الشعبي قال: لأنْ أتعنَّى بِعَنيَّةٍ أحبُّ إليَّ من أنْ أقولَ في مسألة برأي (¬8). ¬
قلت: روأه أبو محمد بن قُتيبة (¬1) بالعين المهملة، وعَنية برزن غَنية، ثم فسره (بأن) العنية أخلاط تُنْقَع في أبوال الإبل، [وتترك] حينًا حتى تُظلى بها الإبلُ عن الجرب (¬2). وقال الأثرم: حدثنا قبيصة: حدثنا سفيان عن جابر، عن الشعبي، عن مسروق قال: لا أقيس شيئًا بشيء، [قيل]: لم؟ قال: أخشى أن تزلَّ رجلي (¬3). وسئل عن مسألة فقال: لا أدري. فقيل له: فقس لنا برأيك، فقال: أخاف أن تزلَّ قدمي (¬4). وكان يقول: إيَّاكم والقياس والرأي؛ فإنَّ الرأي قد يزلّ (¬5). ¬
وكان الشَّعبي يقول: لا تجالس أصحاب القياس فتحل حرامًا أو تحرم حلالًا (¬1). وقال الخَلَّال: ثنا أبو بكر المروزي قال: سمعت أبا عبد اللَّه أحمد بن حنبل ينكر على أصحاب القياس، ويتكلم فيه بكلام شديد (¬2). وقال الأثرم: ثنا محمد بن كُناسة: ثنا صالح بن مسلم، عن الشعبي قال: لقد بَغَّض إليَّ هؤلاء القوم هذا المسجدَ، حتى لهو أَبغضُ إليَّ من كناسة داري، قلتُ: من هم يا أبا عمرو؟ قال: هؤلاء الآرائيون: أرأيت [أرأيت] (¬3). وقال حماد بن زيد، عن مطر الوَرَّاق قال: ترك أصحاب الرأي الآثارَ واللَّه! (¬4). ¬
فصل [القياس يعارض بعضه بعضا]
وقال محمد بن خاقان: شيَّعنا (¬1) ابن المبارك في آخر خَرْجَة خَرَج، فقلنا له: أوْصنا، فقال: لا تتخذوا الرأي إمامًا (¬2). فصل [القياس يعارض بعضه بعضًا] [قالوا] (¬3): ولو كان القياسُ حجةً لَمَا تعارضت الأقيسةُ، وناقض بعضُها بعضًا، فترى كلَّ واحدٍ من المتنازعين من أرباب القياس يزعم أنَّ قوله هو القياس، فيُبدي مُنازعُه قياسًا آخر ويزعم أنه هو القياس، وحججُ اللَّه وبيِّناته لا تتعارض، ولا تتهافت. قالوا: فلو جاز القولُ بالقياس في الدين لأفضى إلى وقوع الاختلاف الذي حَذر اللَّه منه (¬4) ورسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5)، بل عامة الاختلاف بين الأمة إنما نشأ من جهة القياس، فإنه إذا ظهر لكل واحد من المجتهدين قياسٌ مقتضاه [نقيضُ] (3) حكم الآخر اختلفا (¬6)، ولا بد، وهذا يدل على أنه من عند غير اللَّه من ثلاثة أوجه: أحدها: صريح قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. الثاني: [أن] (3) الاختلاف سببه (¬7) اشتباه الحق وخفاؤه، وهذا لعدم العلم الذي يُميز [به] (¬8) بين الحق والباطل. ¬
الثالث: أن اللَّه سبحانه ذمَّ الاختلافَ في كتابه، ونهى عن التفرق والتنازع، فقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى] (¬1) أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران: 105]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]، وقال: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، والزبر: الكُتُب، أي كل فرقة صنفوا كتبًا أخذوا بها وعملوا بها [ودعوا إليها] (¬2) دون كتب الآخرين؛ كما هو الواقع سواء، وقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، قال ابن عباس: تبيضُّ وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودُّ وجوه أهل الفرقة والاختلاف (¬3). وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تختلفوا فتختلفَ قلوبُكم" (¬4)، وقال: "اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا" (¬5)، وكان التنازع والاختلاف أشد شيء ¬
[الاختلاف مهلكة]
على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان إذا رأى من الصحابة اختلافًا يسيرًا في فهم النصوص يظهر في وجهه حتى كأنّما (¬1) فقئ فيه حب الرُّمان ويقول: "أبهذا أمِرتُم؟ " (¬2)، ولم يكن أحدٌ بعده (¬3) أشد عليه الاختلاف من عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬4)، وأما الصديق فصان اللَّه خلافته عن الاختلاف المستقر في حكم واحد من أحكام الدين، وأما خلافة عمر فتنازع (¬5) الصحابة تنازعًا يسيرًا في قليل من المسائل جدًا، وأقر بعضهم بعضًا على اجتهاده من غير ذم ولا طعن، فلما كانت خلافة عثمان، اختلفوا في مسائل يسيرة [صَحِبَ] (¬6) الاختلاف فيها بعضُ الكلام (¬7) واللوم، كما لام عليٌّ عثمان في أمر المتعة وغيرها (¬8)، ولامه عمار بن ياسر وعائشة في بعض مسائل قسمة الأموال والولايات (¬9)، فلما أفضت الخلافة إلى علي -رضي اللَّه عنه- (¬10) صار الاختلافُ بالسيف. [الاختلاف مهلكة] والمقصود أنَّ الاختلاف منافٍ لما بعث اللَّه به رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬11)؛ قال عمر [-رضي اللَّه عنه-] (4): "لا تختلفوا؛ فإنكم إن اختلفتم كان مَنْ بعدكم أشدَّ اختلافًا" (¬12)؛ ولما ¬
سمع أُبيَّ بن كعب وابنَ مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين، صعد المنبر وقال: رجلان من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اختلفا، فعن أيِّ فتياكم يصدر المسلمون؟ لا أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت (¬1)؛ وقال علي [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬2) في خلافته لقُضَاته: اقْضُوا كما كنتم تقضون، فإني أكره الاختلاف (¬3)، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي (¬4). وقد أخبر النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ هلاك الأمم من قبلنا إنما (¬5) كان باختلافهم على أنبيائهم (¬6)؛ وقال أبو الدرداء وأنس وواثلة بن الأسقع: "خرج علينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونحن نتنازع في شيء من الدين، فغضب غضبًا شديدًا لم يغضب مثله، [قال] (7) ثم انتَهَرنا، قال: يا أمة محمد لا تهيجوا على أنفسكم وهج النار، ثم قال: أبهذا أمرتم؟ أو لَيْس عن هذا نُهيتم؟ إنما هَلَك مَنْ [كان] (¬7) قبلكم ¬
بهذا" (¬1)، وقال عمرو بن شعيب عن أبيه عن ابني العاص (¬2) أنهما قالا: "جلسنا مجلسًا في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ كأنه أشد اغتباطًا (¬3)، فإذا رجال عند حجرة عائشة يتراجعون في القدر، فلما رأيناهم اعتزلناهم، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[خَلْفَ الحجرة يسمع كلامهم، فخرج علينا رسول اللَّه] (¬4) مُغْضَبًا يُعرف في وجهه الغضبُ، حتى وَقفَ عليهم، وقال (¬5): يا قوم بهذا ضلَّتْ الأمُم قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتابَ بعضَه ببعض، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضَه ببعض، ولكن نزل القرآن يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، ما عرفتم منه فاعملوا به، وما تشابه فآمنوا به، ثم التفت فرآني [أنا] (¬6) وأخي جالسين، فغبطنا أنفسنا أن لا يكون رآنا معهم" (¬7)، قال البخاري: رأيت أحمد بن حنبل، وعلي بن عبد اللَّه، والحميدي (¬8)، وإسحاق بن إبراهيم (¬9)، [وأبا عبيد وعامة أصحابنا] (¬10) يحتجُّون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وقال أحمد بن صالح: أجمع آل عبد اللَّه [على] (6) أنها صحيفة عبد اللَّه (¬11). ¬
[ليس أحد القياسين أولى من الآخر]
[ليس أحد القياسين أولى من الآخر] قالوا: وأيضًا فإذا اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين (¬1) فإمَّا أنْ يُقال: كل مجتهد مصيب؛ فيلزم أن يكونَ الشيء وضدُّه صوابًا، وإمَّا أنْ يقال: المصيب واحد (¬2)، وهو القول الصواب، ولكن ليس أحد القياسين بأولى من الآخر، ولا سيما قياس الشَّبه فإن الفرع قد يكون فيه وصفان شبيهان للشيء وضده، فليس جعل أحدهما صوابًا دون الآخر بأولى من العكس (¬3). قالوا: وأيضًا فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال (¬4): "أوتيتُ جوامع الكلم، واختُصرتْ لي الحكمة اختصارًا" (¬5)، وجوامع الكلم: هي الألفاظ الكُليّة العامة المتناولة لأفرادها، فإذا انضاف ذلك إلى بيانه الذي هو أعلى رُتَب البيان (¬6) لم يُعْدَل عن ¬
الكلمة الجامعة التي [في غاية البيان لما دلَّت عليه إلى لفظ أطول منها وأقلّ بيانًا، مع أن الكلمة الجامعة] (¬1) تزيلُ الوهمَ وترفع الشَّكَ، وتبيِّن المرادَ؛ فكأن يقول: "لا تبيعوا (¬2) كلَّ مكيل ولا موزون بمثله إلا سواء بسواء"!! فهذا أخصرُ وأبينُ وأدلُّ وأجمعُ من أن يذكر ستة أنواع، ويدل بها على ما لا ينحصر من الأنواع، فكمالُ علمه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكمالُ شفقته ونصحه وكمالُ فصاحته وبيانه يأبى ذلك. قالوا: وأيضًا فحكمُ القياس إما أن يكون موافقًا للبراءة الأصلية، وإما أنْ يكون مخالفًا لها؛ فإنْ كان موافقًا لم يُفِدِ القياسُ شيئًا؛ لأنَّ مقتضاه متحقِّق بها، وإنْ كان مخالفًا لها امتنع القولُ به؛ لأنها متيقنة فلا ترفع بأمر لا تتيقن (¬3) [صحته؛ إذ اليقين يمتنع] (¬4) رفعه بغير يقين. قالوا: وأيضًا فإن غالب القياسات التي رأينا القياسيين يستعملونها رجمٌ بالظنون (¬5)، [وليس ذلك من العلم في شيء، ولا مصلحة للأمة في اقتحامهم وَرْطَات الرجم بالظنون] (¬6) حتى يخبطوا [فيها] (6) خَبْطَ عشواء [في ظلماء] (6)، ويحكموا بها على اللَّه ورسوله. قالوا: وأيضًا فقول (¬7) القياسي: هذا حلال وهذا حرام، هو خبر عن اللَّه [سبحانه] (¬8) أنه أحلَّ كذا وحرَّمه، وأنه أخبر عنه بأنه حلال أو حرام، فإن حُكمَ اللَّه خبرُه فكيف يجوز لأحد أن يشهد على اللَّه أنه أخبر بما لم يُخْبِر به هو ولا رسوله، قال اللَّه تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]. قالوا: وأيضًا فالقياسُ لا بدَّ فيه من علة مُسْتَنبطة من حكم الأصل، والحكم في الأصل احتمل (¬9) أن يكون مُعَللًا، وأن يكون غير معلل، وإذا كان معللًا احتمل [أن يكون لنا طريق إلى العلم بعلته واحتمل أن لا يكون لنا طريق، وإذا ¬
[لم يكن القياس حجة في زمن الرسول]
كان لنا طريق احتمل] (¬1) أن تكون العلة هي هذه المُعيَّنة، وأن تكون جزءَ علة (¬2)، وأنْ تكون العلة غيرها، وإذا ظهرت العلة احتمل أن لا تكون في الفرع، وإذا كانت فيه احتمل أنْ يتخلَّف الحكمُ عنها لمعارض آخر، وما هذا شأنه كيف يكون من حُجج اللَّه وبيناته وأدلةِ الأحكام التي هدى اللَّه بها عباده؟ قالوا: وأيضًا فلو كان القياس حُجَّة لأفْضَى ذلك إلى تكافؤ الأدلة الشرعية؛ وهو محال؛ فإنه قد يتردد فرعٌ (¬3) بين أصلين، أحدهما: التحريم، والآخر: الإباحة، فإذا ظهر في نظر المجتهد شبه الفرع بكل واحد منهما لزم الحكمُ بالحلِّ والحرمة في شيء واحد، وهو مُحالٌ. قالوا: وأيضًا فليس قياس الفرع على الأصل في تَعْديةِ حكمه (¬4) إليه أولى من قياسه عليه في عدم ثبوته بغير النص؛ فحينئذٍ نقول (¬5) حكمُ الفرعِ حكمٌ من أحكام الشرع، فلا يجوز ثبوتُه بغير النص كحكم (¬6) الأصل، فما الذي جعل قياسكم أولى من هذا؟ ومعلوم أن هذا (¬7) أقربُ إلى النصوص وأشد موافقةً لها من قياسكم، وهذا ظاهر. قالوا: وأيضًا فحكمُ اللَّه بإيجاب الشيء يتضمن محبته له، وإرادته لوجوده، وعلمه بأنه أوجبه، وكلامه الطَّلبي والخَبَري، وجَعْل فعله سببًا [لمحبته لعبده ورضاه عنه وإثابته عليه، وتركه سببًا] (¬8) لضدِّ ذلك، ولا سبيل لنا إلى العلم بهذا إلا من خبر اللَّه عن نفسه أو خبر رسوله [عنه] (¬9)، فكيف يُعلم ذلك بقياس أو رأي؟ هذا ظاهر الامتناع. [لم يكن القياس حجة في زمن الرسول] قالوا: ولو كان القياس من حجج اللَّه وأدلة أحكامه لكان حُجةً في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كسائر الحجج، فلما لم يكن حجة في زمنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن حُجةً بعده. وتقرير هذه الحجة بوجهين: ¬
أحدهما: أن الصحابة لم يكن أحد منهم يقيس على ما سمع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) ما لم يسمع (¬2)، ولو كان هو معقول النصوص لكان تعدية الحكم به وشمول المعنى كتعدية الحكم باللفظ وشموله لجميع أفراده، وذلك لا يختصُّ بزمان دون زمان، فلمَّا قلتم: لا يكون القياس في زمن النص عُلم أنه ليس بحجة. الوجه الثاني: أن تعلق النصوص بالصحابة كتعلّقها بمن بعدهم، ووجوب اتباعها على الجميع واحد. قالوا: ولأنا لسنا على ثقة من [عدم] (¬3) تعليق الشارع الحكمَ بالوصف الذي يُبديه القياسيون (¬4)، وأنه إنما علَّق الحكم بالاسم بحيث يوجد بوجوده وينتفى بانتفائه، بل تعليقُ الحكم بالاسم تعليق (¬5) بما لنا طريق إلى العلم به طردًا وعكسًا، بخلاف تعليقه بالوصف الشبهي فإنه خَرْصٌ وحَزْرٌ، وما كان هكذا لم تَرِدْ به الشريعة. قالوا: ولأن الأصلَ عدمُ العمل بالظنون، إلا فيما تيَّقنا أن الشرع أوجب علينا العملَ به؛ للأدلة الدالة على تحريم اتباع الظن (¬6)، فمعنا منعٌ يقينيٌّ من اتباع الظن، فلا نتركه إلا بيقين يُوجبُ اتباعه. قالوا: ولأن تشابه الفرع والأصل يقتضي أن لا يثبت الفرع إلا بما يثبت (¬7) به الأصل، فإن كان القياسُ حقًّا لزم توقُّفُ الفرع في ثبوته على النص كالأصل؛ فالقول بالقياس من أبينِ الأدلة على بطلان القياس. قالوا: ولأن الحكم لا يخلو إما أنْ يتعلَّق بالاسم وحده، أو بالوصف المشترك وحده، أو بهما، فإنْ تعلَّق بالاسم وحده أو بهما بطلَ القياس، وإن تعلق بالوصف المشترك بينهما لزم أمران محذوران: أحدهما: إلغاء الاسم الذي اعتبره الشارع؛ فإنَّ الوصف إذا كان أعم منه، وكان هو المستقل بالحكم كان الأخص؛ وهو الاسم عديم التأثير. الثاني: أنه إذا كان الاسمُ عديمَ التأثير لم يكن جَعْلُ ما دلَّ (¬8) عليه أصلًا ¬
لما سكت عنه أولى من العكس؛ إذ التأثيرُ للوصف وحده، بل يلزم أن لا يكون هناك فرعٌ وأصل، بل تكون الصورتان فردَين (¬1) من إفراد العموم المعنوي، كما يكون (¬2) إفراد العام لفظًا كذلك ليس بعضها أصلًا لبعض. قالوا: ولا ريب أنَّ البيانَ بالألفاظ العامة أعلى من البيان بالقياس، فكيف يعدل الشارعُ -مع كمال حكمته- عن البيان الجليِّ إلى البيان الأخفى؟. قالوا: ونسال القياسيَّ (¬3) عن محل القياس (¬4): أيجب في الشيئين إذا تشابها من كل وجه، أم إذا اشتبها من بعض الوجه وإن اختلفا في بعضها؟ فإن قال بالأول تَرَك قوله وادعى محالًا، إذ ما من شيئين إلا وبينهما جامع وفارق، وإن قال بالثاني قيل له: فهلَّا حكمتَ للفرع بضد حكم الأصل من أجل الوجه الذي خالفه [فيه] (¬5)؛ فإن (¬6) كانت تلك جهة وفاق (¬7) تدلُّ على الائتلاف فهذه جهةُ افتراق تدل على الاختلاف؛ فليس إلحاقُ صُور النزاع بموجب الوفاق أولى من إلحاقه بموجب الافتراق. قالوا: ولا ينفعه الاعتذار بأنه متى وقع الاتِّفاقُ في المعنى الذي ثبت الحكمُ من أجله عَدَّيْت الحكم، وإلا فلا. قيل له: إذا كانت (¬8) في الأصل عدة أوصافِ فتعيينُك أنَّ هذا الوصفَ الذي من أجله شُرع الحكم قولٌ بلا علم، وقد عارضكَ فيه منازعوك فادعوا أنَّ الحُكم شُرع لغير ما ذكرتَ، مثاله أنَّ الشَّارعَ لمّا نَصَّ على ربا الفضل في الأعيان المذكورة في الحديث (¬9) فقال قائل: إن المعنى الذي حرم التفاضل لأجله هو الكيل في المكيلات والوزن في الموزونات، قال له منازعه: لا، بل كونها (¬10) مطعومة، فقال آخر: لا، بل هو كونها مُقْتَاتَةٌ [و] (¬11) مُدَّخَرة، فقال آخر: لا، بل كونها (¬12) تجري فيها الزكاة، فقال آخر: لا، بل كونها (10) جنسًا واحدًا، وكل ¬
فريق يزعم أن الصواب ما ادعاه دون منازعه، ويقدح فيما ادعاه [الآخر، ولا] (¬1) يتهيأ له قدح في قول منازعه (¬2)، إلا ويتهيأ (¬3) لمنازعه مثله أو أكثر منه أو دونه، فلو ظن آخرون فقالوا: العلة كونها (¬4) مما تُنبته الأرضُ، واحتجَّ بأنَّ اللَّه سبحانه امتن على عباده بما تنبته لهم الأرض، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267]، وقال: إن من تمام النعمة فيه أن لا يُباع بعضُه ببعض متفاضلًا، لكان قولُه واحتجاجُه من جنس قول الآخرين واحتجاجهم، وما هذا سبيلُه فكيف يكون من الدين بسبيل؟ (¬5). قالوا: وأيضًا فإذا كان النَّصُّ [في الأصل قد دل على شيئين: ثبوت الحكم فيه نطقًا، وتعديته إلى ما في معناه بالعلة، فإذا نُسخ الحكم] (¬6) في الأصل هل يبقى الحكم في الفرع أو يزول؟ فإنْ قلتم: "يبقى" فهو محال، وإنْ قلتم: "يزول" تناقضتم؛ إذ من أصلكم أنَّ نسخَ بعض ما يتناوله النص لا يوجبُ نسخَ جميع ما يتناوله (¬7) كالعام إذا خُصَّ بعضُ أفراده لم يوجب ذلك تخصيصَ (¬8) غيره؛ فإذا كان حكم الأصل قد دلَّ على شيئين فارتفع أحدُهما فما الموجب لارتفاع الثاني؟ وإن قلتم: "يثبت بالقياس ويرتفع بالقياس" قيل: إنما أثبتُّموه لوجود العلة الجامعة عندكم، والعلة لم تزلْ بالنسخ، وهي سبب ثبوته، وما دام السبب قائمًا فالمسبَّب كذلك، ولو زالت العلة بالنسخ لأمكن تصحيحُ قولِكم. فإن قلتم: نسخُ حكمِ الأصلِ [يقتضي نسخ كون العلَّةِ علةً. قيل: هذه دعوى لا دليلَ عليها، فإن النص اقتضى ثبوتَ حكم الأصل] (6)، وكون وصف كذا علة تقتضي (¬9) التعدية على قولكم، فهما حكمان متغايران؛ فزوالُ أحدهما لا يستلزم زوالَ الآخر. قالوا: ولو كان القياسُ من الدين لقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لأمته: "إذا أمرتكم بأمرٍ أو نهيتكم عن شيء فقيسوا عليه ما كان مثله أو شبهه" ولكان هذا أكثر شيء في ¬
كلامه، وطرق الأدلة عليه متنوعة لشدَّة الحاجة إليه، ولا سيما عند غلاة القياسيين الذين يقولون: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الحوادث، وعلى قول هذا الغالي الجافي عن النصوص، فالحاجة إلى القياس أعظم من الحاجة إلى النصوص، فهلا جاءت الوصيةُ باتباعه ومراعاته، والوصية (¬1) بحفظ حدود ما أنزل اللَّه على رسوله وأن لا تُتعدى (¬2)؛ ومعلوم أن اللَّه سبحانه حَدَّ لعباده حدودَ الحلال والحرام بكلامه، وذمَّ مَنْ لم يعلم حدودَ ما أنزل اللَّه على رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3)، والذي أنزله هو كلامه؛ فحدود ما أنزله (¬4) اللَّه هو الوقوف عند حد الاسم الذي عَلَّق عليه الحِلَّ والحرمةَ، فإنه هو المنزلُ على رسوله وحده بما (¬5) وُضع له لغة أو شرعًا، بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه (¬6)، ومن المعلوم أنَّ حد البُرِّ لا يتناول الخردل، وحد التمر لا يدخل فيه البلوط، وحد الذهب لا يتناول القطن؛ ولا يختلف الناس أن حدّ الشيء ما يمنع دخول غيره فيه، ويمنع خروجَ بعضه منه. وقد تقدم تقريرُ هذا (¬7) وأعَدْنَاهُ لشدة الحاجة إليه، فإنَّ أعلمَ الخلق بالدين أعلمهم بحدود الأسماء التي عُلِّق بها الحل والحرمة، والأسماء التي لها حدود في كلام اللَّه ورسوله ثلاثة أنواع (¬8): نوع له حد في اللغة، كالشمس والقمر والبر والبحر والليل والنهار، فمن حمل هذه الأسماء على غير مُسمَّاها أو خَصَّها ببعضه أو أخرج منها بعضه (¬9) فقد تَعدَّى حدودها؛ ونوعٌ له حد في الشرع، كالصَّلاة والصيام والحج والزكاة والإيمان والإسلام والتقوى ونظائرها، فحكمها في تناولها لمسمياتها الشرعية كحكم النوع الأول في تناوله لمسماه اللغوي؛ ونوعٌ له حد في العُرف لم يحده اللَّه ولا رسوله (¬10) بحد غير المتعارف، ولا حد له في اللغة كالسفر والمرض المبيح للتَّرخُّص والسَّفَه والجنون الموجب للحَجْرِ، والشقاق الموجب لبعث الحكمين، والنشوز المسوِّغ لهجر الزوجة وضَرْبِها، والتراضي المسوغ لحلِّ التِّجارة، والضّرار المحرم بين المسلمين، وأمثال ذلك، ¬
وهذا النوع في تناوله لمسماه العرفي كالنوعين الآخرين في تناولهما لمسماهما، ومعرفة حدود هذه (¬1) الأسماء ومراعاتها مُغْنٍ عن القياس غير مُحوج إليه، وإنَّما يَحتاج إلى القياس مَنْ قصر في [معرفة] (¬2) هذه الحدود، ولم يُحط بها علمًا، ولم يعطها حقَّها من الدلالة. مثاله: تقصير (¬3) طائفة من الفقهاء في معرفة حد الخمر حيث خصُّوه بنوع خاص من المسكرات، فلما احتاجوا إلى تقرير تحريم كل مسكر سلكوا طريق القياس، وقاسوا ما عدا ذلك النوع في التحريم عليه، فنازعهم الآخرون في هذا القياس، وقالوا: لا يجري في الأسباب، وطال النزاع بينهم، وكَثُر السؤال والجواب، وكل هذا من تقصيرهم في معرفة حد الخمر؛ فإنَّ صاحب الشرع قد حدَّه بحد يتناول كلَّ فردٍ من أفراد المسكر فقال: "كل مسكر خمر" (¬4) فأغنانا (¬5) هذا الحدُّ عن بابٍ طويلٍ عريضٍ كثيرِ التَّعب من القياس، وأثبتنا التحريم بنصّه لا بالرأي والقياس. ومن ذلك أيضًا تقصيرُ طائفة في لفظ الميسر، حيث خصُّوه بنوع من أنواعه، ثم جاؤوا إلى الشَّطْرَنْج مثلًا فراموا (¬6) تحريمه قياسًا عليه، فنازعهم آخرون في هذا القياس وصحته، وطال النِّزاعُ، ولو أعطوا لفظ الميسر حقَّه، وعرفوا حدَّه؛ لعلموا أن دخول الشَّطْرَنْجَ فيه أولى من دخول غيره، كما صَرَّح به مَنْ صرح من الصحابة والتابعين [-رضي اللَّه عنهم-] (¬7)، وقالوا: الشطرنج من الميسر (¬8). ومن ذلك تقصيرُ طائفةٍ في لفظ السارق حيث أخرجوا منه نباش القبور، ثم راموا قياسه في القطع على السارق، فقال لهم منازعوهم: الحدود والأسماء لا تثبتُ قياسًا، فأطالوا وأعرضوا في الرد عليهم، ولو أعطوا لفظَ السَّارقِ حقّه (¬9) لرأوا أنه لا فرق في حدِّه ومسمَّاه بين سارق الأثمان و [سارق] (¬10) الأكفان، وأنَّ إثباتَ الأحكام في هذه الصور بالنصوص لا بمجرد القياس. ¬
ونحن نقول قولًا ندينُ اللَّه به، ونحمدُ اللَّه على توفيقنا [له] (¬1)، ونسأله الثَّبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس (¬2) قط، وأنَّ فيها غُنيةً وكفايةً عن كل رأي وقياس (¬3) وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفهم يؤتيه اللَّه عبدَه فيها، وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، وقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬4): "إلا فهمًا يؤتيه اللَّه عبدًا في كتابه" (¬5)، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن عباس "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" (¬6)، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)، وقال عمر لأبي موسى: "الفَهْمَ الفَهْمَ" (¬8). ¬
سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الثالث] دار ابن الجوزي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [3]
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339
فصل [تناقض أهل القياس دليل فساده]
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وبه ثقتي] (¬1) فصل [تناقض أهل القياس دليل فساده] قالوا (¬2): ومما يبين فساد القياس وبطلانه تناقض أهله فيه، واضطرابهم تأصيلًا وتفصيلًا. أما التأصيل فمنهم من يحتج بجميع أنواع القياس، وهي: قياس العلة، والدلالة، والشبه (¬3)، والطرد، وهم غُلاتهم كفقهاء ما وراء النهر وغيرهم، فيحتجون (¬4) في طرائقهم على منازعهم في مسألة المنع من إزالة النجاسة بالمائعات بأنه مائع لا تُبنَى عليه القناطر ولا تجري فيه السفن؛ فلا تجوز (¬5) إزالة النجاسة به كالزيت والشيرج، وأمثال ذلك من الأقيسة التي هي إلى التلاعب بالدين أقرب منها إلى تعظيمه (¬6). وطائفة يحتجون (¬7) بالأقيسة الثلاثة دونه، وتقول: قياس العلة أن يكون الجامع هو العلة التي لأجلها شُرع الحكم في الأصل، وقياس الدلالة: أن يُجمع بينهما بدليل العلة، وقياس الشبه: أن يتجاذب الحادثة أصلان حاظر ومبيح، ولكل واحد من الأصلين أوصاف، فتلحق الحادثة بأكثر (¬8) الأصلين شبهًا بها، مثل أن يكون بالإباحة أشبه بأربعة أوصاف وبالحظر بثلاثة؛ فيلحق بالإباحة. وقد قال الإمام أحمد في هذا النوع في رواية أحمد بن الحسين (¬9): القياس أن يقاس الشيء على الشيء إذا كان مثله في كل أحواله، فأما إذا أشبهه (¬10) في ¬
حال (¬1) وخالفه في حال، فأردتَ أن تقيس عليه فهذا خطأ، وقد خالفه في بعض أحواله ووافقه في بعضها، فإذا كان مثله في كل أحواله فما أقبلت به وأدبرت به فليس في نفسي منه شيء؛ وبهذا قال أكثر الحنفية (¬2) والمالكية (¬3) والحنابلة (¬4)؛ وقالت طائفة: لا قياس إلا قياس العلة فقط، وقالت فرقة بذلك، [و] (¬5) لكن إذا كانت العلة منصوصة. ثم اختلف (¬6) القياسيون في محل القياس فقال جمهورهم: يجري في الأسماء والأحكام؛ وقالت فرقة: [لا بل] (5) لا تثبت الأسماء قياسًا، وإنما محل القياس الأحكام. ثم اختلفوا فأجراه جمهورهم في العبادات واللغات والحدود والأسباب وغيرها، ومنعه طائفة في ذلك (¬7)، واستثنت طائفة الحدود والكفارات [فقط] (¬8)، واستثنت طائفة أخرى معها الأسباب (¬9). وكل هؤلاء قسموه إلى ثلاثة أقسام: قياس أولى، وقياس مثل، وقياس أدنى؛ ثم اضطربوا في تقديمه على العموم أو بالعكس على قولين، واضطربوا في تقديمه على خبر الآحاد الصحيح؛ فجمهورهم قدم الخبر. و [قد] (¬10) قال أبو بكر بن الفرج القاضي وأبو بكر الأبهري المالكيان (¬11): ¬
[أمثلة من تناقض القياسيين]
هو مقدم على خبر الواحد، ولا يمكنهم ولا أحد من الفقهاء طرد هذا القول ألبتة، بل لا بد من تناقضهم، واضطربوا في تقديمه على الخبر المرسل، وعلى قول الصحابي؛ فمنهم من قدم القياس، ومنهم من قدم المرسل وقول الصحابي، وأكثرهم -بل كلهم- يقدمون هذا تارة، وهذا تارة؛ فهذا تناقضهم في التأصيل. وأما تناقضهم في التفصيل فنذكر منه طرفًا يسيرًا يدل على ما وراءه من قياسهم في المسألة قياسًا وتركهم فيها مثله أو ما هو أقوى منه، أو تركهم نظير ذلك القياس أو أقوى منه في مسألة أخرى، لا فرق بينهما ألبتة. [أمثلة من تناقض القياسيين] فمن ذلك أنهم أجازوا الوضوء بنبيذ التمر، وقاسوا في أحد القولين عليه سائرَ الأنبذة، وفي القول الآخر لم يقيسوا عليه، فإن كان هذا القياس حقًا فقد تركوه، وإن كان باطلًا فقد استعملوه، ولم يقيسوا عليه الخل ولا فرق بينهما؛ وكيف كان نبيذ التمر تمرةً طيبةً وماءً طهورًا (¬1)، ولم يكن الخل عنبةً طيبةً وماءً طهورًا (1)، والمرق لحمًا طيبًا وماءً ظهورًا (¬2)، ونقيع المشمش [والزبيب] (¬3) كذلك؟ فإن ادعوا الإجماع على عدم الوضوء بذلك فليس فيه إجماع؛ فقد قال الحسن بن صالح بن حي، وحميد بن عبد الرحمن: يجوز الوضوء بالخل، وإن كان الإجماع (¬4) كما ذكرتم فهلا قستم المنع من الوضوء بالنبيذ على ما أجمعوا عليه من المنع من الوضوء بالخل؟ فإن قلتم: اقتصرنا على موضع النص ولم نقس عليه، قيل لكم: فهلا سلكتم ذلك في جميع نصوصه، واقتصرتم على محالها الخاصة، ولم تقيسوا عليها؟ فإن قلتم: لأن هذا خلاف القياس، قيل لكم: فقد صرحتم أن ما ثبت على خلات القياس يجوز القياس عليه، ثم هذا يبطل أصل القياس، فإنه إذا جاز ورود الشريعة (¬5) بخلاف القياس علم أن القياس ليس من الحق، وأنه عينُ الباطل؛ فإن الشريعة لا ترد بخلاف الحق أصلًا؛ ثم إن من قاعدتكم أن خبر الواحد إذا خالف الأصول لم يقبل، وفي أي الأصول وجدتم ما ¬
يجوز التطهير (1) به خارج المصر والقرية [ولا يجوز التطهير (¬1) به داخلهما] (¬2)؟ فإن قالوا: اقتصرنا في ذلك على موضع النص، قيل: فهلا اقتصرتم به على خارج مكة فقط حيث جاء الحديث، وكيف ساغ لكم قياس الغسل من الجنابة في ذلك على الوضوء دون قياس داخل المِصْر على خارجه؟ وقياس العنبة الطيبة والماء الطهور واللحم الطيب والماء الطهور والدِّبْس الطيب والماء الطهور على التمرة الطيبة والماء الطهور، فقستم قياسًا، وتركتم مثله، وما هو أولى منه، فهلا اقتصرتم على مورد الحديث ولا عديتموه [إلى] (¬3) أشباهه ونظائره؟ ومن ذلك أنكم قستم على خبر مرويّ: "يا بني المطلب إن اللَّه كَرِه لكم غسالة أيدي الناس" (¬4) فقستم على ذلك الماء الذي يُتوضأ به، وأبحتم لبني المطلب غسالة أيدي الناس التي نص عليها الخبر، وقستم الماء المستعمل في رفع الحدث (¬5) وهو طاهر لاقى أعضاءً طاهرة (¬6) على الماء الذي لاقى العذرة والدم والميتات، وهذا من أفسد القياس، وتركتم قياسًا أصح منه وهو قياسه على الماء المستعمل في محل التطهير من عضو إلى عضو ومن محل إلى محل، فأيّ (¬7) فرق بين انتقاله من عضو المتطهر الواحد إلى عضوه [الآخر] (3) وبين انتقاله إلى عضو أخيه المسلم؛ وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل المسلمين (¬8) في توادهم وتراحمهم [وتعاطفهم] (¬9) كمثل الجسد الواحد" (¬10)، ولا ريب عند كل عاقل أن قياس جسد المسلم على جسد أخيه أصح من قياسه على العَذِرَة والجِيَفِ والميتات والدم. ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي توضأ به الرجل على العبد الذي أعتقه في ¬
كفارته والمال الذي أخرجه في زكاته، وهذا من أفسد القياس، وقد تركتم قياسًا أصح في العقول والفطر منه، وهو قياس هذا الماء الذي قد أُدي به عبادة على الثوب الذي قد صُلِّي فيه، وعلى الحصى الذي رُمي به (¬1) الجِمَار مرة عند من يجوِّز منكم الرمي بها ثانية، وعلى الحجر الذي استُجمر به مرة إذا غسله أو لم (¬2) يكن به نجاسة. ومن ذلك أنكم قستم الماء الذي وردت عليه النجاسة فلم تغيِّر له لونًا ولا طعمًا ولا ريحًا على الماء الذي غيَّرت النجاسة لونه أو طعمَه أو ريحَه، وهذا من أبعد القياس عن الشرع والحس (¬3)، وتركتم قياسًا أصح منه، وهو قياسه على الماء الذي ورد على النجاسة؛ فقياس الوارد على المورود مع استوائهما (¬4) في الحد والحقيقة والأوصاف أصحُ من قياس مئة رطل [ماء وقع فيه شعرة كلب على مئة رطل] (¬5) خالطها مثلها بولًا وعذرة حتى غيّرها. ومن ذلك [أنكم] (¬6) فرَّقتم بين ماء جارٍ بقدر طرف الخنصر تقع فيه النجاسة فلم تغيره وبين الماء العظيم المستبحر إذا وقع فيه مثل رأس الإبرة من البول، فنجّستم الثاني دون الأول، وتركتم محض القياس فلم تقيسوا الجانب الشرقي من غدير كبيرٍ (¬7) في غربيِّه نجاسة على الجانب الشمالي والجنوبي، وكل ذلك مُمَاسٌّ لما قد تنجَّس عندكم مماسة مستوية. وقاسوا باطن الأنف على ظاهره في غسل الجنابة، فأوجبوا الاستنشاق، ولم يقيسوه عليه في الوضوء الذي أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه بالاستنشاق [نصًا] (¬8)، ¬
ففرقوا بينهما، وأسقطوا الوجوب في محل الأمر به، وأوجبوه في غيره، والأمر بغسل الوجه في الوضوء كالأمر بغسل البَدَن (¬1) في الجنابة سواء. ومن ذلك أنكم قستم النسيان على العمد في الكلام في الصلاة، وفي فعل المحلوف عليه ناسيًا، وفيما يوجب الفدية [من محظورات الإحرام] (¬2) كالطيب واللباس والحلق والصيد، وفي حَمْل النجاسة في الصلاة، ثم فرَّقتم بين النسيان والعمد في السلام قبل تمام الصلاة، وفي الأكل والشرب في الصوم، وفي ترك التسمية على الذبيحة، وفي غير ذلك من الأحكام، وقستم الجاهل على الناسي في عدة مسائل وفرَّقتم بينهما في مسائل أُخر، ففرقتم بينهما فيمن نسي أنه صائم فأكل أو شرب (¬3) لم يبطل صومه، ولو جهل فظن وجودَ الليل فأكل أو شرب فسد صومه، مع أن الشريعة تعذر الجاهل كما تعذر الناسي أو أعظم (¬4)؟ كما عذر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المسيء في صلاته بجهله بوجوب الطمأنينة فلم يأمره بإعادة ما مضى (¬5)، وعَذَر الحامل المستحاضة بجهلها بوجوب الصلاة والصوم عليها مع الاستحاضة ولم يأمرها بإعادة ما مضى (¬6)، وعَذَرَ عديَّ بن حاتم بأكله في رمضان حين تبين له الخيطان اللذان جعلهما تحت وسادته (¬7) ولم يأمره بالإعادة (¬8)، وعَذَر أبا ذر بجهله ¬
بوجوب الصلاة إذا عدم الماء فأمره بالتيمم ولم يأمره بالإعادة (¬1)، وعذر الذين ¬
تَمَعَّكوا في التراب كتمعك الدابة لما سمعوا فرض التيمم ولم يأمرهم بالإعادة (¬1)، وعذر معاوية بن الحكم بكلامه في الصلاة عامدًا لجهله بالتحريم (¬2)، وعذر أهل قباء بصلاتهم إلى بيت المقدس بعد نَسْخ استقباله لجهلهم (¬3) بالناسخ ولم يأمرهم بالإعادة (¬4)، وعذر الصحابةُ والأئمة بعدهم من ارتكب محرمًا جاهلًا بتحريمه فلم يحدّوه (¬5). ¬
وفرّقتم بين قليل النجاسة في الماء وقليلها في الثوب والبدن، وطهارة الجميع شرط لصحة الصلاة، وترك الجميع صريح القياس في مسألة الكلب؛ فطائفة لم تقس عليه غيره، وطائفة قاست عليه الخنزير وحده دون غيره كالذئب الذي هو مثله أو شر منه، وقياس الخنزير على الذئب أصح (¬1) من قياسه على الكلب، وطائفة قاست عليه البغل والحمار، وقياسهما على الخيل التي هي قرينتهما (¬2) في الذكر وامتنان اللَّه [سبحانه] (¬3) على عباده بها (¬4) بركوبها (¬5) واتخاذها زينة وملامسة (¬6) الناس لها أصح من قياس البغل [على الكلب (¬7)؛ فقد علم كل أحد أن الشبه بين البغل والفرس أظهر وأقوى من الشبه بينه وبين الكلب، وقياس البغل] (¬8) والحمار على السِّنَّوْر لشدة (¬9) ملامستهما والحاجة إليهما وشربهما من آنية البيت أصح من قياسهما على الكلب. وقستم الخنافسَ والزنابيرَ والعقاربَ والصِّرْدَانَ على الذباب في أنها لا تنجس بالموت بعدم النفس السائلة لها وقلة الرطوبات والفضلات التي توجب التنجيس فيها (¬10)، ونَجَّسَ من نَجَّس منكم العظام بالموت مع تعريها من الرطوبات والفضلات [جملة] (¬11)، ومعلوم أن النفس السائلة التي في تلك الحيوانات المقيسة أعظم من النفس المسائلة التي في العظام. وفرَّقتم بين ما شرب منه الصقر والبازي والحدأة والعقاب والأحناش (¬12) وسباع الطير وما شرب منه سباع [البهائم من غير فرق بينهما] (¬13)؛ [قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الفرق في هذا بين سباع] (¬14) الطيور وسباع ذوات الأربع، فقال: أما في القياس فهما سواء، ولكني أستحسن في هذا (¬15). ¬
وتركتم صريح القياس في التسوية بين نبيذ التمر والزبيب والعسل والحنطة ونبيذ العنب، وفرقتم بين المتماثلين، ولا فرق بينهما ألبتة، مع أن النصوص الصحيحة الصريحة قد سَوَّت (¬1) بين الجميع. وفرَّقتم بين من معه إناءان طاهر ونجس فقلتم: يريقهما ويتيمم، ولا يتحرّى فيهما (¬2)، ولو كان معه ثوبان كذلك يتحرى فيهما، والوضوء بالماء النجس كالصلاة في الثوب النجس، ثم قلتم: فلو كانت الآنية ثلاثة تحرى ففرقتم بين [الاثنين والثلاثة، وهو فرق بين] (¬3) متماثلين، وهذا على أصحاب الرأي، وأما أصحاب الشافعي ففرقوا بين الإناء الذي كلّه بول وبين الإناء الذي نصفه فأكثر بول، فجوّزوا الاجتهاد بين الثاني والإناء الطاهر، دون الأول، وتركوا محض القياس في التسوية بينهما. وقستم القيء على البول، وقلتم: كلاهما طعام أو شراب خرج من الجوف، ولم تقيسوا الجشوة (¬4) الخبيثة على الفسوة ولم تقولوا: كلاهما ريح خارجة من الجوف. وقستم الوضوء وغسل الجنابة على الاستنجاء وغسل النجاسة (¬5) في صحته بلا نية، ولم تقيسوهما على التيمم وهما أشبه به من الاستنجاء، ثم تناقضتم فقلتم: لو انغمس جنب (¬6) في البئر لأخذ الدلو ولم ينوِ الغسل لم يرتفع حدثه، كما قاله أبو يوسف ونقض أصله في أن مسَّ الماء لبدن الجنب يرفع حدثه وإن لم ينوِ، وقال محمد: بل يرتفع حدثه ولا يفسد الماء، فنقض أصله في فساد الماء الذي يرفع الحدث (¬7). ¬
وقستم التيمم إلى المرفقين على غسل اليدين إليهما (¬1)، ولم تقيسوا المسح على الخفين إلى الكعبين على غسل الرجلين إليهما، ولا فرق بينهما ألبتة، وأهل الحديث أسعدُ بالقياس منكم كما هم أسعد بالنص. وقستم إزالة النجاسة عن الثياب بالمائعات على إزالتها بالماء (¬2)، ولم تقيسوا إزالتها من القذر بها على الماء، فما الفرق؟ ثم قلتم: تُزَال من المَخْرَجين بكل مزيل جامد، ولا تزال من سائر البدن إلا بالماء، وقلتم: تزال من المخرجين بالروث اليابس، ولا تزال بالرجيع اليابس، مع تساويهما في النجاسة (¬3). وقستم قليل القيء على كثيره في النجاسة، ولم تقيسوه عليه في كونه حدثًا (¬4)، وقستم نوم المتورِّك على المضطجع في نقض الوضوء، ولم تقيسوا عليه نوم الساجد (¬5) وتركتم محض القياس المؤيد بالسنة المستفيضة في مسح العمامة (¬6) -[إذ] (¬7) هي ملبوس معتاد ساتر لمحل الفرض ويشق نزعه على كثير من الناس إما لحنك (¬8) [أو لكلاب] (¬9) أو لبرد- على المسح على الخفين، والسنة قد سَوّتْ بينهما (¬10) في المسح كما هما (¬11) سواء في القياس ويسقط فرضهما في التيمم، وقستم مسح الوجه واليدين في التيمم على الوضوء في وجوب الاستيعاب [ولم تقيسوا مسح الرأس في الوضوء على الوجه في وجوب الاستيعاب] (¬12)، والفعل ¬
والباء والأمر في الموضعين سواء (¬1). وقستم وجود الماء في الصلاة على وجوده خارجها في بطلان صلاة المتيمم به (¬2)، ولم تقيسوا القهقهة في الصلاة على القهقهة في خارجها (¬3)، وفرقتم بين تقديم الزكاة قبل وجوبها فأجزتموه وبين تقديم الكفارة [قبل وجوبها] (4) فمنعتموه، وقستم وجه المرأة في الإحرام على رأس الرجل [وتركتم قياس وجهها على يديها أو على بدن الرجل] (¬4)، وهو محض القياس وموجب السنّة فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوّى بين يديها ووجهها وبين يدي الرجل ووجهه حيث قال: "لا تلبس القفازين ولا النقاب" (¬5) وكذلك قال: "لا يلبس المحرمُ القميصَ ولا السَّراويل ولا تنتقب المرأة" (¬6) فتركتم محض القياس وموجب السنّة. وقستم المزارعة والمساقاة (¬7) على الإجارة الباطلة فأبطلتموهما، وتركتم محض القياس وموجب السنّة وهو قياسهما على المضاربة والمشاركة (¬8) فإنهما أشبه بهما منهما بالإجارة؛ فإن صاحب الأرض والشجر يدفع أرضه وشجره لمن يعمل عليهما وما رزق اللَّه من نماء (¬9) فهو بينه وبين العامل، وهذا كالمضاربة (¬10) سواء؛ فلو لم تأتِ السنّة الصحيحة بجوازها (¬11) لكان القياس يقتضي جوازها (11) عند القياسيين (¬12). ¬
واشترط (¬1) أكثرُ من جوزّها كون البذر من رب الأرض، وقاسها على المضاربة في كون المال من واحد والعمل من واحد. وتركوا محض القياس وموجب السنّة (¬2)؛ فإن الأرض كالمال في المضاربة، والبذر يجري مجرى الماء والعمل فإنه يموت في الأرض، ولهذا (¬3) لا يجوز أن يرجع إلى ربه مثلُ بذرة ويقتسما الباقي، ولو كان كرأس المال في المضاربة لجاز، بل اشترط (¬4) أن يرجع إليه [مثل] (¬5) بذرة كما [يشترط أن] (¬6) يرجع إلى رب المال مثل ماله، فتركوا [محض] (¬7) القياس كما تركوا موجب السنّة الصحيحة الصريحة وعمل الصحابة كلهم. وقستم إجارة الحيوان للانتفاع بلبنه على إجارة الخبز للأكل، وهذا من أفسد القياس، وتركتم محض القياس وموجب القرآن، فإن اللَّه سبحانه قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فقياس الشاة والبقرة والناقة للانتفاع بلبنها على الظئر أصح وأقرب إلى العقل من قياس ذلك على إجارة الخبز للأكل؛ فإن الأعيان المستخلفة شيئًا بعد شيء تجري مجرى المنافع كما جرت مجراها في المنيحة (¬8) والعارية والضمان بالإتلاف، فتركتم [محض القياس. وقستم على ما لا خفاء بالفرق بينه وبينه، وهو أن الخبز والطعام تذهب جملته بالأكل ولا يخلُفُه غيره، بخلاف اللبن ونقع البئر، وهذا من أجلى القياس. وقستم الصداق على ما يُقطع فيه يَدُ السارق، وتركتم] (¬9) محض القياس وموجب السنّة (¬10)؛ فإنه عقد مُعَاوضة فيجوز بما يتراضى عليه المتعاوضان ولو خاتمًا (¬11) من حديد. وقستم الرجل يسرقُ العين ثم يملكها بعد ثبوت القطع على ما إذا ملكها قبل ذلك، وتركتم محض القياس وموجب السنّة؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسقط القطع عن ¬
سارق الرداء بعدما وهبه إياه صَفْوَان (¬1)، وفرقتم بين ذلك وبين الرجل يزني بالأمة ¬
ثم يملكها فلم تروا ذلك مسقطًا للحد، مع أنه لا فرق بينهما. وقستم قياسًا أبعد من هذا فقلتم: إذا قُطع بسرقتها مرة ثم عاد فسرقها لم يقطع به ثانيًا، وتركتم محض القياس على ما إذا زنى بامرأةٍ فحُدَّ بها ثم زنى بها ثانية فإن الحد لا يسقط عنه، ولو قذفه [فَحُدَّ ثم قَذَفه] (¬1) ثانيًا لم يسقط [عنه] (¬2) الحد. وقستم نذر صوم يوم العيد في الانعقاد ووجوب الوفاء على نذر صوم اليوم القابل له شرعًا، وتركتم محض القياس وموجب السنّة (¬3)، ولم تقيسوه على صوم يوم الحيض، وكلاهما غير محل للصوم شرعًا فهو بمنزلة الليل. وقستم وجعلتم المحتقن بالخمر كشاربها في الفطر بالقياس، ولم تجعلوه كشاربها في الحد؛ وقستم (¬4) الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله به، ولم تقيسوه (¬5) على الحربي في إسقاط القود. ومن المعلوم قطعًا أن الشبه الذي بين المعاهد والحربى أعظم من الشبه الذي بين الكافر والمسلم، واللَّه سبحانه [وتعالى] (¬6) قد سوى بين الكفار كلهم في إدخالهم [نار] (6) جهنم، وفي قطع الموالاة بينهم وبين المسلمين، [وفي عدم التوارث بينهم وبين المسلمين] (6)، وفي منع قبول شهادتهم على المسلمين، وغير ذلك، وقطع المساواة بين المسلمين والكفار؛ فتركتم محض القياس -وهو التسوية بين ما سوى (¬7) اللَّه بينه- وسويتم بين ما فرّق اللَّه بينه. ومن العجب أنكم قِسْتُمُ المؤمنَ على الكافر في جَريان القصاص بينهما في النفس والطرف، ولم تقيسوا العبد المؤمن على الحُرِّ في جريان القصاص بينهما في الأطراف؛ فجعلتم حرمة عدوِّ اللَّه الكافر في أطرافه أعْظَمَ من حرمة وليه المؤمن (¬8)، ¬
وكان نقص المؤمن العبودية (¬1) الموجب للأجرين عند اللَّه أنقص عندكم من نقص الكفر، وقلتم: يقتل الرجلُ بالمرأة، ثم ناقضتم فقلتم: لا يؤخذ طرفه بطرفها، وقلتم: يقتل العبد بالعبد وإن كانت قيمة أحدهما مئة درهم و [قيمة] (¬2) الآخرة مئة ألف درهم، ثم ناقضتم فقلتم: لا يؤخذ طرفه بطرفه، إلا أن تتساوى قيمتهما، فتركتم (¬3) محض القياس؛ فإن اللَّه سبحانه ألغى التفاوتَ بين النفوس والأطراف في الفضل لمصلحة المكلفين، ولعدم ضبط التساوي؛ فألغيتم ما اعتبره اللَّه [سبحانه] (¬4) من الحكمة والمصلحة، واعتبرتم ما ألغاه من التفاوت، وقستم قوله: "إن كَلَّمتُ فلانًا أو بايعته فامرأتي طالق [وعبدي حر" على ما إذا قال: "إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق] (4) " ثم عديتم ذلك إلى قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانًا" ثم كلّمه، ولم تقيسوه على قوله: "إن كلّمت فلانًا فعليَّ صومُ سنة، أو حج إلى بيت اللَّه، أو فمالي صدقة" وقلتم: هذا يمينٌ (¬5) لا تعليق مقصود؛ فتركتم محض القياس؛ فإن (¬6) قوله: "الطلاق يلزمني لا أكلم فلانًا" يمين لا تعليق، وقد أجمع الصحابة على أن قصد اليمين في العتق يمنع من وقوعه، وحكى غيرُ واحدٍ إجماع الصحابة أيضًا على أن الحالف بالطلاق لا يلزمه الطلاق إذا حنث، وممن حكاه أبو محمد بن حزْم (¬7)، [وحكاه] أبو القاسم عبد العزيز بن إبراهيم (¬8) بن أحمد بن علي التميمي (¬9) المعروف بابن بَزيزة (¬10) في كتابه المسمى بـ"مصالح ¬
الأفهام في شرح كتاب الأحكام" (¬1) في بابٍ ترجمتُه: البابُ الثالث في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه. وقد قدمنا في "كتاب الأيمان" اختلاف العلماء في اليمين بالطلاق والعتق [والشرط] (¬2) وغير ذلك: هل يلزم أم لا؟ فقال علي بن أبي طالب وشُريح وطاوس: لا يلزم من ذلك شيء، ولا يُقضى بالطلاق على مَنْ حلف به فحنث (¬3)، ولا يُعرف لعلي (¬4) في ذلك مخالف من الصحابة؛ قال (¬5): وصح عن عطاء فيمن قال لامرأته: "أنت طالق إن لم أتزوج عليك" قال: إن لم يتزوج عليها حتى يموت أو تموت فإنهما يتوارثان (¬6)، وهو قول الحكم بن عُتَيْبة (¬7)، ثم حكى عن عطاء فيمن حَلَف بطلاق امرأته ليضربنَّ زيدًا فمات أحدهما أو ماتا معًا فلا حنث ¬
عليه ويتوارثان (¬1)، وهذا صريح في أَنَّ يمين الطلاق لا يلزم (¬2)، ولا تطلق الزوجة بالحنث فيها، ولو حنث قبل (¬3) موته لم يتوارثا، فحيث أثبت التوارث دلّ على أَنَّها زوجة عنده، وكذلك عكرمة مولى ابن عباس أيضًا عنده يمين الطلاق لا يلزم، كما ذكره عنه سُنيد (¬4) بن داود في "تفسيره" في سورة النور عند قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور: 21] ومن العجب أنكم قلتم: [إذا قال] (¬5): "إن شَفى اللَّه مريضي فعليَّ صوم شهر، أو صدقة، أو حَجة" (¬6) لزمه لأنه قاصدٌ للنذر، فإذا قال: "إن كَلَّمتُ فلانًا فعليَّ صوم، أو صدقة" لم يلزمه (¬7)؛ لأنه نذرُ لجاجٍ وغضب، فهو يمين فيه كفارة اليمين؛ فجعلتم قَصْده لعدم الوقوع مانعًا من ثلاثة أشياء: إيجاب ما التزم (¬8)، ووجوبه عليه، ووقوعه (¬9). وقلتم: لو قال: "إن فعلت كذا فعليَّ الطلاق" وفعله لَزِمه، ولم يمنع قصد الحلف من وقوعه، وهو أبغض الحلال إلى اللَّه (¬10)، ومنع من وجوب القُرُبات ¬
التي هي أحبُّ شيء إلى اللَّه؛ فخالفتم صريح القياس والمنقول عن الصحابة والتابعين بأصحَّ إسناد يكون، ثم ناقضتم القياس من وجه آخر فقلتم: إذا قال: "الطَّلاقُ يلزمني لأفعلنَّ كذا إن شاءَ اللَّه" ثم لم يفعله لم يحنث؛ لأنه أخرجه مخرج اليمين؛ وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَلفَ فقال: إن شاء اللَّه، فإن شَاء فَعل وإن شاء ترك" (¬1) فجعلتموه يمينًا، ثم قلتم: يلزمه وقوع الطلاق؛ لأنه تعليقٌ فليس بيمين، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو قال: "الطلاق يلزمني لا أجامعها سنة" فهو مُؤلٍ فيدخل في قوله [تعالى] (2): {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] والألية والإيلاء [والائتلاء] (¬2) هو الحلف بعينه كما في الحديث: ¬
"تأَلَّى على اللَّه أن لا يفعل خيرًا" (¬1)، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور: 22]، وقال الشاعر: قليل الألَايا حافظٌ لِيمينه ... وإن بَدَرتْ منهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ (¬2) ثم قلتم: وليس بيمين فيدخل في قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فياللَّه العَجَب: ما الذي أحلَّه عامًا وحَرَّمه عامًا، وجعله يمينًا وليس بيمين؟ ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: إن قال: "إن فعلتُ كذا فأنا كافر" وفَعَله لم يكفر؛ لأنه لم يقصد الكفر، وإنما قصد منع نفسه من الفعل بمنعها من الكفر؛ وهذا حق، لكن نقضتموه في الطلاق والعتاق مع أنه لا فرق بينهما ألبَتَّة في هذا المعنى الذي منع من وقوع الكفر، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن فعلتُ كذا فعليَّ أن أطلق امرأتي" فحنث لم يلزمه أن يطلقها، ولو قال: "إن فعلته فالطلاق يلزمني" فحنث وقع عليه الطلاق، ولم (¬3) تفرق اللغةُ [ولا] (¬4) الشريعة بين المصدر و [أن] (4) والفعل (¬5). فإن قلتم: الفرقُ بينهما أنه التزم (¬6) في الأول التطليق [وهو فعله] (¬7)، وفي الثاني وقوع الطلاق وهو أَثرُ فعله. قيل: هذا الفرق الذي تخيَّلتموه لا يُجدي شيئًا؛ فإن الطلاق هو التطليق بعينه، وإنَّما أَثَرُه كونُها طالقًا، وهذا غير الطلاق؛ فههنا (¬8) ثلاثة أمور مرتبة: ¬
التزام التطليق، وهذا غير الطلاق بلا شك، والثاني: إيقاع التطليق، وهو الطلاق بعينه الذي قال اللَّه فيه: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]، وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الطلاق لمن أخذ بالساق" (¬1). الثالث: صَيْرُورة (¬2) المرأة طالقًا وبينونتها؛ فالقائل: "إن فعلتُ كذا فعليَّ الطلاق" لم يُرد هذا الثالث قطعًا، فإنه ليس إليه ولا من فِعْله، وإنَّما هو إلى الشارع، والمكلفُ إنما يلزم ما يدخل تحت مقدرته (¬3) وهو إنشاء الطلاق؛ فلا فرق أصلًا بين هذا اللفظ وبين قوله: "فعليَّ أن أُطلِّق" فالتفريق بينهما تفريق بين متساويين، وهو عدول عن محض القياس من غير نص ولا إجماع ولا قول صاحب. يوضحه أن قوله: "فالطلاق لازم لي" إنما هو فعله الذي يلزمه بالتزامه (¬4)؛ وأما كونها طالقًا فهذا وصفها، فليس هو لازمًا له، وإنما هو لازم لها (¬5)، فلينظر ¬
اللبيبُ المُنصفُ الذي العلمُ أحب إليه من التقليد إلى مقتضى القياس المحض واتباع الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (¬1) والتابعين في هذه المسألة، ثم ليختر لنفسه ما شاء، واللَّه الموفق. ثم [ناقضتم] (¬2) أيضًا من وجه آخر فقلتم: لو قال: "إن حلفتُ بطلاقك أو وقع مني يمين بطلاقك" أو لم يَقُل: بطلاقك، بل قال: "متى حلفتُ أو أَوقعتُ (¬3) يمينًا فأنتِ طالق" ثم قال: "إن كَلَّمتُ فلانًا فأَنت طالقٌ" حنث وقد وقع عليه الطلاق؛ لأنه قد حلف وأوقع اليمين، فأدخلتم الحلف بالطلاق في اسم اليمين والحلف في كلام [المكلف، ولم تدخلوه في اسم اليمين والحلف في كلام] (¬4) اللَّه ورسوله، وزعمتم أنكم اتبعتم في ذلك القياس والإجماع، وقد أريناكم مخالفتكم لصريح القياس مخالفة لا يمكنكم الانفكاك عنها بوجه، ومخالفتكم للمنقول عن الصحابة والتابعين كأصحاب ابن عباس؛ فظهر عند المنصفين أَنَّا أَولى بالقياس والاتِّباع منكم في هذه المسألة، وباللَّه التوفيق. وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فصَدَّق الشهود سقط عنه الحد (¬5) وإن كَذَّبهم أُقيم عليه الحد؛ وهذا من أفسد قياس (¬6) في الدنيا؛ فإن تصديقهم إنما زادهم قوة، وزاد الإمام يقينًا وعلمًا أعظم من العلم الحاصلِ بالشهادة وتكذيبه، وتفريقكم -بأن البيِّنة لا [يُعمل بها إلا] (¬7) مع الإنكار فإذا أقرَّ فلا عمل للبينة، و [الإقرار مرةً لا يكفي فيسقط الحد- تفريقٌ باطلٌ؛ فإن العمل هاهنا بالبينة] (8) لا بالإقرار، وهو إنما [صدر منه تصديق البينة التي وجب الحكم بها بعد الشهادة، فسواء أقر أو لم يقر؛ فالعملُ إنما] (¬8) هو بالبينة (¬9). وقلتم: لو وجد الرجلُ امرأة في فراشه فظنَّ أنها امرأته [فوطئها (¬10) حُدَّ حَدَّ الزنا]، ولا يكون هذا شبهة مسقطة للحد، [ولو عقد على ابنته أو أُمِّه ووطئها كان ذلك شبهةً مسقطة للحد] (8)، ولو حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد وولدت مرة ¬
بعد مرة لم تحد، ولو تقايأ (¬1) الخمر كل يوم لم يُحد؛ فتركتم محض القياس والثابت عن الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬2) ثبوتًا لا شك فيه من الحد بالحبل ورائحة الخمر (¬3). وقلتم: لو شهد عليه أربعة بالزنا فطعن في عدالتهم حُبس إلا (¬4) أن يُزكى الشهود، ولو شهد عليه اثنان بمالٍ فطعن في عدالتهما لم يحبس قبل التزكية؛ فتركتم محض القياس وقستم دعوى المرأتين الولد وإلحاقه بهما وجعلهما أُمَّيْنِ له على دعوى الرجلين، وهذا من أفسد القياس؛ فإن خروج الولد من أمين معلوم الاستحالة، وتخليقه من ماء الرجلين ممكن بل واقع، كما شهد به القَائِف عند عمر وصَدَّقه (¬5). وقلتم: لو قال لأجنبي: "طلِّقِ امرأتي" فله أن يطلّق في المجلس وبعده، ولو قال لامرأته: "طلقي نفسك" فلها أن تطلق [نفسها] (¬6) ما دامت في المجلس، ثم فرقتم بينهما بأن "طلقي نفسك" تمليكٌ لا توكيل؛ لاستحالة أن يكون [الإنسان] (¬7) وكيلًا في التصرت لنفسه فيقيَّد بالمجلس، وأما بالنسبة إلى الأجنبي فتوكيل فلا يتقيد، [وهذا الفرق] (6) دعوى مجردة ولم تذكروا (¬8) حجة على أن قوله: "طلِّقي نفسك" تمليك، وقولكم: "الوكيل لا يتصرف لنفسه" جوابه له أن ¬
يتصرف لنفسه ولموكله، ولهذا كان الشريك وكيلًا بعد قبض المال والتصرف وإن كان متصرفًا لنفسه، فإن تصرفه لا يختص به، ثم ناقضتم هذا الفرق فقلتم: لو قال: "أبرئ نفسك من الدَّيْن الذي عليك" فإنه لا يتقيدُ بالمجلس، ويكون توكيلًا، مع أَنَّه تصرف مع نفسه؛ ففرَّقتم بين "طلِّقي نفسك" و"أبرئ نفسك مما عليك من الدين" وهو تفريق بين متماثلين، فتركتم محض القياس. وقالوا: من أقام شهود زور على أن زيدًا طَلَّق امرأته فحكم الحاكم بذلك فهي حلال لمن تزوجها من الشهود، وكذلك لو أقام شهود زور على أن فلانة تزوجته بولي ورضى فقضى القاضي بذلك فهي له حلال، وكذلك لو شهدوا عليه بأنه أعتق جاريته هذه فقضى القاضي بذلك فهي حلال لمن تزوجها ممن يدري باطن الأمر؛ فتركوا محض القياس وقواعد الشريعة، ثم ناقضوا فقالوا: لو شهدوا له زورًا بأنه وهب له مملوكته هذه أو باعها منه لم يحل له وطؤها [بذلك] (¬1)، ثم ناقضوا بذلك أعظم مناقضة فقالوا: [لو شهدا] (¬2) بأنه تزوجها بعد انقضاء عدتها من المطلق وكانا (¬3) كاذِبَيْن فإنها لا تحل وحَبْسها على زوجها أعظم من حبسها على عدته؛ فأحلّوها في أعظم العِصْمَتين، وحَرَّموها في أدناهما، وحرمة النكاح أعظم من حرمة العدة. وقلتم: لا يُحد الذميُّ إذا زنى بالمسلمة ولو كانت قُرشيَّة علوية (¬4) أو عَبَّاسية [ولا بسبِّ] (¬5) اللَّه ورسوله وكتابه ودينه جَهْرةً في أسواقنا ومجامعنا، ولا بتخريب مساجد المسلمين ولو أَنَّها المساجد الثلاثة (¬6)، ولا ينتقض عهده بذلك، وهو معصوم المال والدم، حتى إذا منع دينارًا واحدًا مما عليه من الجزية وقال: "لا أعطيكموه" (¬7) أنتقضَ بذلك عَهدُه (¬8)، وحَل ماله ودمه، ثم ناقضتم من وجه آخر فقلتم: لو سرق لمسلم عشرة دراهم لقُطِعت يده، ولو قذفه حُدَّ بقذفه؛ فيا للقياس الفاسد الباطل المُناقِض للدين والعقل الموجب لهذه الأقوال التي يكفي في ردها ¬
تصورها، كيف استجاز المستجيز تقديمها على السُّنن والآثار؟ [واللَّه المستعان] (¬1). وأجزتم شهادة الفَاسِقَيْن والمحدُودَيْن في القذف والأعميَيْن في النكاح، ثم ناقضتم فقلتم: لو شهد فيه عَبْدان صالحان عالمان يُفْتيان في الحلال والحرام لم يصح النكاح ولم ينعقد بشهادتهما؛ فمنعتم انعقاده بشهادة من عَدَّلَهُ اللَّه ورسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (1) وعقدتموه بشهادة من فَسَّقَهُ اللَّه ورسوله ومنع من قبول شهادته. وقلتم: لو شهد شاهد على زيد أنه غصب عمرًا مالًا اْو شَجَّه أو قذفه وشهد آخر بأَنه أقر بذلك ولم يتم النصاب لم يقض عليه بشيء (¬2)، ولو شهد شاهد بأنه طَلَّق امرأته أو أعْتَقَ عبده أو باعه وشهد آخر بإقراره بذلك تمت الشهادة وقُضي عليه. وقلتم: لو قال له: "بعتك هذا العبد [بألف] (¬3) " فإذا هو جارية أو بالعكس فالبيع باطل؛ فلو قال: "بِعتُك هذه النعجة بعشرة" فإذا هي كبشٌ أو بالعكس فالبيع صحيح، ثم فرَّقتم بأن قلتم: المقصودُ من الجارية والعبد مختلف، والمقصود من النعجة والكبش متقارب وهو اللحم، وهذا غير صحيح؛ فإن الدَّر والنَّسل المقصود من الأنثى لا يوجد في الذكر، وعسب الفحل وضرابه المقصود منه لا يوجد في الأنثى، ثم ناقضتم أبْيَنَ مناقضة بأن قلتم: لو قال: "بعتك هذا القمح" فإذا هو شعير أو "هذه الألية" فإذا هي شحمٌ لم يصح البيع مع تقارب القصد. وقلتم: لو باعه ثوبًا من ثوبين لم يصح البيع لعدم التعيين، فلو كان (¬4) ثلائة أثواب فقال: "بعتك واحدًا منها" صح البيع؛ فياللَّه العجب! كيف أبطلتموه مع قلة الجهالة والغرر وصححتموه مع زيادتهما؟ [أفترى زيادة] (¬5) الثوب الثالث خففّت الغرر ورفعت الجهالة (¬6)؟ وتفريقكم بأن العقد على واحد من اثنين يتضمن الجهالة والتغرير لأنه قد يكون أحدهما مرتفعًا والآخر رديئًا فيُفضي إلى التنازع والاختلاف، فإذا كانت ثلاثة فالثلاثة تتضمن الجيد والرديء والوسط، فكأَنه قال: ¬
"بعتك أوسطها" وذلك أقل غررًا من بيعه واحدًا من اثنين رديء وجيد، وإذا أمكن حملُ كلام المتعاقدين على الصحة فهو أولى من إلغائه، وهذا الفرق ما زاد المسألة إلا غررًا وجهالة؛ فإن النزاع كان يكون في ثوبين فقط وأما الآن فصار في ثلاثة، وإذا قال: "إنما وقع العقد على الوسط" قال الآخر: "بل على الأدنى، أو على الأعلى". وقلتم: لو اشترى جاريةً ثم أراد وطأها قبل الاستبراء لم يجز، ولو تيقَّنَّا فراغ رحمها بأن كانت بكرًا أو كانت بائعتها امرأة معه في الدار بحيث تيقَّن أنها غير مشغولة الرحم، أو باعها وقد ابتدأت في الحيضة ونحو ذلك، ثم قلتم: لو وطئها السيدُ البارحةَ ثم زوَّجها منه الغد جاز له وطؤها ورحمها مشتمل (¬1) على ماء الوطء (¬2)؛ فتركتم محض القياس والمصلحة وحكمة الشارع لفرقٍ مُتَخَيَّل (¬3) لا يُجْدي شيئًا، وهو أن النكاح لما صح كان ذلك حكمًا بفراغ الرحم، فإذا حكم بفراغ رحمها (¬4) جاز له وطؤها، فيُقال: ياللَّه العجب! كيف يُحكم بفراغ رحمها وهو حديث عهد بوطئها؟ وهل هذا إلا حكمٌ باطلٌ مخالف للحس والعقل والشرع؟ نعم لو أنكم قلتم: "لا يحل له تزوجها حتى يستبرئها ويحكم بفراغ رحمها" لكان هذا فرقًا صحيحًا وكلامًا متوجهًا، ويقال حينئذ: لا معنى لاستبراء الزوج؛ فله أن يطأها عقيب العقد فهذا محض القياس، وباللَّه التوفيق. وقلتم: من طاف أربعة أشواط من السبع فلم يكمله حتى رجع (¬5) إلى أهله أنه يجبره بدم وصح حَجُّه، إقامة للأكثر مقام الكل، فخرجتم عن محض القياس؛ لأن الأركان لا مدخل للدم في تركها، وما أمر به الشارعُ لا يكون المكلف ممتثلًا به حتى يأتي بجميعه، ولا يقوم أكثره مقام كله، كما لا يقوم الأكثر مقام الكل في الصلاة والصيام والزكاة والوضوء وغسل الجنابة، فهذا هو القياس الصحيح، والمأمور ما لم يفعل ما أُمر به فالخطاب متوجهٌ إليه بعد، وهو في عهدته والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسامح المتوضئ بترك لمعة في محل الفرض لم يصبها الماء (¬6)، ¬
ولا أقام الأكثر مقام الكل, والذي جاءت به الشريعة هو الميزان العادل، لا هذا الميزان العائل، وباللَّه التوفيق. وقستم الادِّهَانَ بالخل والزيت في الإحرام على الادهان بالمسك والعنبر في وجوب الفدية، ويا بُعد ما بينهما، ولم تقيسوا نبيذ التمر على نبيذ العنب مع قرب الأخوة التي بينهما. وقلتم: لو أفطر في نهار رمضان فلزمته الكفارة ثم سافر لم تسقط عنه؛ لأَنَّ سفره قد يُتخذ وسيلة وحيلة إلى إسقاط ما أوجب الشرعُ، فلا تسقط (¬1)، وهذا بخلاف ما إذا مرض أو حاضت المرأة فإن الكفارة تسقط؛ لأن الحيض والمرض ليس من فعله، ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم: لو احتال لإسقاط الزكاة عند آخر الحول فملَّك ماله لزوجته (¬2) لحظة فلما انقضى الحول استرده منها، واعتذاركم بالفرق -بأن هذا تحيُّل على [منع الوجوب، وذاك تحيل على] (¬3) إسقاط الواجب بعد ثبوته، والفرق بينهما ظاهر- اعتذار (¬4) لا يجدي شيئًا، فإنه كما لا يجوز التحيل لإسقاط ما (¬5) أوجبه اللَّه [ورسوله] (3) لا يجوز التحيل لإسقاط أحكامه بعد انعقاد أسبابها ولا تسقط بذلك. وإذا انعقد سبب الوجوب لم يكن للمكلف إلى إسقاطه (¬6) بعد ذلك سبيل، وسبب الوجوب هنا قائم (¬7) وهو الغِنَى بملك النِّصاب، وهو لم يخرج عن الغِنَى بهذا التحيّل. ولا يَعدُّه اللَّه ولا رسوله ولا أحد من خلقه ولا نفسه فقيرًا مسكينًا بهذا التحيل يستحق (¬8) أخذ الزكاة ولا تجب عليه الزكاة. هذا من أقبح الخداع والمكر، فكيف يَروجُ على من يعلم خفايا الأمور وخبايا (¬9) الصدور؟ وأين القياس والميزان والعدل الذي بعث اللَّه به [رسله من] (¬10) التحيّل على المحرمات وإسقاط الواجبات؟ وكيف تخرج الحيلة المفسدة التي في العقود المحرمة عن كونها مفسدة؟ أم كيف [يقلبها] (¬11) مصلحة محضة ومن ¬
المعلوم أن المفسدة تزيد بالحيلة ولا تزول وتُضاعَف (¬1) ولا تَضْعُف؟ فكيف تزول المفسدة العظيمة التي اقتضت لعنة اللَّه ورسوله للمُحلِّل والمُحَلَّل له (¬2) بأن يشترطا ذلك قبل العقد ثم يعقدا بنيَّة ذلك الشرط ولا يشترطاه (¬3) في صُلب العقد؟ فإذا أَخْلَيا صلب العقد من التلفظ بشرطه حسب، واللَّه ورسوله والناس وهما يعلمون أن العقد إنما عُقد على ذلك، فياللَّه العجب! أكانت هذه اللعنة [على مجرد ذكر الشرط في صُلب العقد، فإذا تقدم على العقد انقلبت اللعنة] (¬4) رحمة وثوابًا؟ وهل الاعتبار في العقود إلا بحقائقها ومقاصدها؟ وهل الألفاظ إلا مقصودة لغيرها قصد الوسائل؟ فكيف يُضاع المقصود ويُعدل عنه في عقد مساوٍ لغيره من كل وجه لأجل تقديم لفظ أو تأخيره أو إبداله بغيره والحقيقة واحدة؟ هذا مما تُنَزَّه عنه الشريعة الكاملة المشتملة على مصالح العباد في دينهم ودنياهم؛ فأصحاب الحيل تركوا محض القياس، فإن ما احتالوا عليه من العقود المحرمة مساوٍ من كل وجه لها في القصد والحقيقة والمفسدة والفارق أمر صوري أو لفظي لا تأثير له ألبتة، فأيُّ فرقٍ بين أن يبيعه تسعة (¬5) دراهم بعشرة ولا شيء معها وبين أن يضم إلى أحد العَوضَين خرقة تساوي فلسًا أو عود حطب أو أذن شاة ونحو ذلك؟ فسبحان اللَّه! ما أعجب حال هذه الضميمة الحقيرة التي لا تقصد! كيف جاءت إلى المفسدة التي أذن اللَّه ورسوله بحرب من توسل إليها بعقد الربا فأزالتها [ومحتها] (¬6) بالكلية، بل قَلَبتها مصلحة، وجعلت حرب اللَّه ورسوله سلمًا ورضًا؟ وكيف جاء مُحلِّل الربا المُستعار الذي هو أخو مُحلِّل النِّكاح إلى تلك المفاسد العظيمة فكشطها كشط الجلد عن اللحم بل قلبها مصالح بإدخال سلعة بين المُرَابيَيْن تعاقدا (¬7) عليها صورة ثم أُعيدت إلى مالكها؟ وللَّه (¬8) ما أفقه ابن عباس في الدين وأعلمه بالقياس والميزان! حيث سئل عما هو أقربُ من ذلك بكثير فقال: دراهم ¬
بدراهم دخلت بينهما حريرة (¬1)، فياللَّه العجب! كيف اهتدت هذه الحريرة لقلب مفسدة الربا مصلحة ولعنة آكله رحمة وتحريمه إذنًا وإباحة؟ ثم أين القياس (¬2) والميزان في إباحة العِينَة التي لا غرض للمرابيين (¬3) في السلعة قط، وإنما غرضهما ما يعلمه اللَّه ورسوله وهما والحاضرون من أخذ مئة حالة وبذل مئة وعشرين مُؤجّلة [في ذمته، ثم يبيعها بنقد] (¬4)، ليس لهما غرض وراء (¬5) ذلك ألبتة، فكيف يقول الشارع الحكيم: إذا أردتم حِلّ هذا فتحيَّلوا عليه بإحضار سلعة يشتريها آكلُ الربا بثمنٍ مؤجل في ذمته ثم يبيعها للمرابي بنقد حاضر فينصرفان على مئة بمئة وعشرين والسلعة حرف جاء لمعنى في غيره؟ وهل هذا إلا عُدُول عن محض القياس وتفريق بين متماثلين في الحقيقة والقصد والمفسدة من كل وجه؟ بل مفسدة الحيل الربوية أعظم من مفسدة الربا الخالي عن الحِيلة، فلو لم تأت الشريعة بتحريم هذه الحيل لكان محضُ القياس والميزان العادل يوجب تحريمها؛ ولهذا عاقب اللَّه سبحانه و [تعالى] (¬6) من احتال على استباحة (¬7) ما حَرَّمه بما لم يعاقب به من ارتكب ذلك المحرم عاصيًا؛ فهذا من جنس الذنوب التي يُتاب منها، وذاك من جنس البدع التي يظن صاحبها أنه من المحسنين. والمقصود ذكر تناقض أَصحاب القياس والرأي فيه، وأنهم يُفَرِّقون بين المتماثِلَيْن، ويجمعون بين المُخْتَلفيْن، [كما] (6) فَرَّقتم بين [ما] (6) لو وكَّل رجلين معًا في الطلاق فقلتم: لأحدهما أن ينفرد بإيقاعه، ولو وكلهما (معًا) في الخُلع لم يكن لأحدهما أن ينفرد به، وفرقتهم [بين الأمرين] (6) بما لا يجدي شيئًا، وهو أن الخلع كالبيع وليس لأحد الوكيلين الانفراد به لأنه أشرك بينهما في الرأي ولم يرض بانفراد أحدهما، وأما الطلاق فليس المقصود منه المال، وإنما هو تنفيذ قوله وامتثال أمره، فهو كما لو أمرهما بتبليغ الرسالة، وهذا فَرْق لا تأثير له ألبتة، ¬
بل هو باطل فإنَّ احتياج الطلاق (¬1) ومفارقة الزوجة إلى الرأي والخبرة والمشاورة مثلُ احتياج الخلع أو أعظم؛ ولهذا أمر اللَّه سبحانه ببعث الحَكميْن معًا، وليس لأحدهما أن ينفرد بالطلاق، مع أنهما وكيلان عند القياسيين، واللَّه تعالى (¬2) جعلهما حكمين، ولم يجعل لأحدهما الانفراد، فما بال وكيلي الزوج لأحدهما الانفراد؟ وهل هذا [إلا] (¬3) خروج عن محض القياس وموجب النص؟ وقلتم: لو قال لامرأته: "طلِّقي نفسك" ثم نهاها في المجلس ثم طَلَّقت نفسها وقع الطلاق، ولو قال ذلك لأجنبي ثم نهاه في المجلس ثم طلق لم يقع الطلاق؛ فخرجتم عن موجب (¬4) القياس، وفرقتم بأن قوله لها تمليك وقوله للأجنبي توكيل، وقد تقدم بطلان هذا الفرق قريبًا، وقلتم: لو وَصَّى إلى عبد غيره فالوصية باطلة وإن أجاز سيده، ولو وكَّل عبد غيره فالوكالة جائزة وإن ردها السيد ولكن تُكره بدون إذنه، وقلتم: إذا أَوْصى بأن يعتق عنه عبدًا بعينه فأعتقه الوارثُ عن نفسه وقع عن الميت، ولو أعتقه الوَصِيُّ عن نفسه لم يجز عن نفسه ولا عن الميت، وفرَّقتم بأن تصرف الوارث بحق الملك فنفذ تصرفه وإن خالف المُوصي، وتصرف الوصي بحق الوكالة فلا يصح فيما خالف المُوصي [وتصرف] (¬5)، وهذا فرقٌ لا يصح، فإن تعيين المُوصي للعتق (¬6) في [هذا] (3) العبد قطع ملك الوارث له، فهو كما لو أوصى إلى أَجنبي بعتقه سواء؛ وإنما ينتقل إلى الوارث من التركة ما زاد على الدَّيْن والوصية اللازمة. وقلتم: لو قال: "ثلث مالي لفلان وفلان" وأحدهما ميت فالثلث كله للحي [وقلتم:] (¬7) ولو قال: "بين فلان وفلان" وأحدهما ميت فللحي نصفه، وهذا تفريق بين متماثلين لفظًا ومعنًى وقصدًا، واقتضاء الواو للتشريك كاقتضاء "بين" ولهذا استويا في الإقرار وفي استحقاق كل واحد منهما النصف لو كانا حَيّين، وقلتم: لو أوصى له بثلث ماله وليس له من المال شيء، ثم اكتسب مالًا فالوصية لازمة في ثُلُثه، ولو أوصى له بثلث غنمه ولا غنم له ثم اكتسب غنمًا فالوصية باطلة؛ ¬
فصل [مثل مما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات]
فتركتم محض القياس، وفرقتم بفرق (¬1) لا تأثير له، ولا يتحصَّل منه عند التحقيق شيء، واللَّه المستعان وعليه التكلان. فصل [مَثلٌ مما جمع فيه القياسيون بين المتفرقات] وجمعتم بين ما فرَّق اللَّه بينه من الأعضاء الطاهرة والأعضاء النجسة؛ فنجَّستم الماء الذي يُلاقي هذه وهذه عند رفع الحدث، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من الوضوء والتيمم فقلتم: يصح أحدهما بلا نية دون الآخر، وجمعتم بين ما فرَّق اللَّه بينهما من الشُّعور والأعضاء فنجستم كليهما بالموت، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينهما من سباع البهائم فنجستم منها الكلب والخنزير دون سائرها، وجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه وهو الناسي والعامد والمخطئ والذاكر والعالم والجاهل؛ فإنه سبحانه (¬2) فرّق بينهم في الإثم فجمعتم بينهم في الحكم في كثير من المواضع، كمن صلى بالنجاسة ناسيًا أو عامدًا، وكَمَنْ فعل المحلوف عليه ناسيًا أو عامدًا، [وكمن تطيَّب في إحرامه أو قَلَّم ظُفره أو حلق شعره ناسيًا أو عامدًا] (¬3) فسويتم بينهما، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من الجاهل والناسي فأوجبتم القضاء على من أكل في رمضان جاهلًا ببقاء النهار دون الناسي، وفي غير ذلك من المسائل، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من عقود الإجارات كاستئجار الرجل لطحن الحب بنصف كُرٍّ (¬4) من دقيقٍ واستئجاره لطحنه بنصف كُرٍّ منه، فصححتم الأول دون الثاني، مع استوائهما من جميع الوجوه، وفرَّقتم بأَنَّ العمل في الأول [في] (¬5) العوض الذي استأجره به ليس مُسْتَحقًا عليه، وفي الثاني العملُ مستحقٌ عليه فيكون مستحقًا له وعليه، وهذا فرق صوري لا تأثير له ولا تتعلق (¬6) بوجوده مفسدةٌ قط، لا جهالة ولا ربا ولا غَرَر ولا تنازع ولا هي مما يمنع صحة العقد بوجه، وأيُّ غررٍ أو مفسدة أو مضرة للمتعاقِدَيْن في أن يدفع إليه غزله ينسجه ¬
ثوبًا بربعه وزيتونه يعصره زيتًا بربعه وحبه يطحنه بربعه؟ وأمثال ذلك مما هو مصلحة محضة للمتعاقدين لا تتم مصلحتهما في كثير من المواضع إلا به؛ فإنه ليس كل واحد يملك عوضًا يستأجر به من يعمل له ذلك، والأجير محتاج إلى جزء من ذلك، والمستأجر محتاج إلى العمل، وقد تراضيا بذلك، ولم يأت من اللَّه ورسوله نصٌ يمنعه، ولا قياسٌ صحيح، ولا قولُ صاحب، ولا مصلحةٌ معتبرة ولا مرسلة، ففرقتم بين ما جمع اللَّه بينه، وجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه، فقلتم: لو اشترى عنبًا ليعصره خمرًا أو سلاحًا ليقتل به مسلمًا ونحو ذلك إنَّ البيع صحيح، وهو كما لو اشتراه ليقتل به عدو اللَّه ويجاهد به في سبيله أو اشترى عنبًا ليأكله، كلاهما سواء في الصحة، وجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه فقلتم: لو استأجر (¬1) دارًا ليتخذها كنيسةً يَعبدُ فيها الصليب والنار جاز له كما لو استأجرها ليسكنهما، ثم ناقضتم أعظم مناقضة فقلتم: لو استأجرها ليتخذها مسجدًا لم تصح الإجارة، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه فقلتم: لو استأجر أجيرًا بطعامه وكسوته لم يجز، واللَّه سبحانه لم يفرِّق بين ذلك وبين استئجاره بطعام مُسمَّى وثياب معينة، وقد كان الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬2) يؤجر (¬3) أحدهم نفسه في السَّفر والغَزو بطعام بطنه ومركوبه (¬4)، وهم أفقه الأمة، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه من عقدين متساويين من كل وجه، وقد صرح المتعاقدان فيهما بالتراضي، وعلم اللَّه سبحانه تراضيهما والحاضرون، فقلتم: هذا عقد باطل لا يفيد الملك ولا الحِل حتى يصرحا بلفظ: بعتُ واشتريتُ، ولا يكفيهما أن يقول كل واحد منهما: أنا راضٍ بهذا كل الرضى، ولا قد رضيت بهذا عوضًا عن هذا، مع كون هذا اللفظ أدلَّ على الرضى الذي جعله اللَّه [سبحانه] (¬5) شرطًا للحل من لفظة: بعت واشتريت؛ فإنه [لفظ] (¬6) صريحٌ فيه، وبعت واشتريت إنما يدل عليه باللزوم؛ وكذلك عقدُ النكاح، وليس ذلك من العبادات التي تعبَّدنا الشارع فيها بألفاظ لا يقوم غيرها مقامها كالأذان وقراءة الفاتحة في الصلاة وألفاظ التشهد وتكبيرة الإحرام وغيرها، بل هذه العقود تقع من ¬
البرِّ والفاجر والمسلم والكافر، ولم يتعبدنا (¬1) الشارع فيها بألفاظ معينة، فلا فرق أصلًا بين لفظ الإنكاح (¬2) والتزويج وبين كل لفظ يدل على معناهما. وأفسدُ من ذلك اشتراط العربية مع وقوع النكاح من العرب والعجم والتُّرك والبربر ومن لا يَعْرِف كلمة عربية، والعجب أنكم اشترطتم تلفظه بلفظ (¬3) لا يَدري ما معناه ألبتة وإنما هو عنده بمنزلة صوتٍ في الهواء (¬4) فارغ لا معنى تحته، فعقدتم [العقد] (¬5) به، وأبطلتموه بتلفظه (¬6) باللفظ الذي يعرفه ويفهم معناه ويميز بين معناه وغيره، وهذا من أبطل القياس، ولا يقتضي القياس إلا ضد هذا، فجمعتم بين ما فرق اللَّه بينه، وفرقتم بين ما جمع اللَّه بينه. وبإزاء هذا القياس قياس من يُجوِّز قراءة القرآن بالفارسية، ويجوز انعقاد الصلاة بكل لفظ يدل على التعظيم -كسبحان اللَّه، وجَلَّ اللَّه، واللَّه العظيم، ونحوه- عربيًا كان أو فارسيًا، ويجوز إبدال لفظ التشهد بما يقوم مقامه، وكل هذا من جنايات الآراء والأقيسة، والصوابُ اتِّباعُ ألفاظ العبادات، والوقوف معها، وأما العقود والمعاملات فإنما تتبع مقاصدها والمراد منها بأي لفظ كان؛ إذ لم يشرع اللَّه ورسوله لنا التعبد بألفاظ معينة لا نتعداها (¬7). وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه من إيجاب النفقة والسكنى للمبتوتة وجعلتموها كالزوجة، وفرّقتم بين ما جمع اللَّه ورسوله بينه من ملازمة الرجعية المعتدة والمتوفى عنها زوجها منزلهما (¬8) حيث يقول [تعالى] (¬9): {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1]، وحيث أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المتوفى عنها أن تمكث في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله (¬10)، وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينهما من بول الطفل والطفلة ¬
الرَّضِيعينِ فقلتم: يُغْسَلان (¬1)، وفرّقتم بين ما جمعت السنّة بينه من وجوب غسل قليل البول وكثيره، وفرّقتم بين ما جمع اللَّه ورسوله بينهما من ترتيب أعضاء الوضوء وترتيب أركان الصلاة، فأوجبتم الثاني دون الأول، ولا فرق بينهما لا في المعنى ولا في النَّقل، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو المبين عن اللَّه سبحانه أَمْره ونهيه، ولم يتوضأ قط إلا مرتبًا ولا مرة واحدة في عمره (¬2) كما لم يُصَلِّ إلا مرتبًا، ومعلوم أن العبادة المنكوسة ليست كالمستقيمة، ويكفي هذا الوضوء اسمه وهو أنه وضوء منكس، فكيف (¬3) يكون عبادة؟ وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه من إزالة النجاسة ورفع الحدث فسوَّيتم بينهما في صحة كل منهما بغير نية، وفرّقتم بين ما جمع اللَّه بينهما من الوضوء والتيمم فاشترطتم النية لأحدهما دون الآخر، وتفريقكم بأن الماء يطهر بطبعه فاستغنى عن النية بخلاف التراب فإنه لا يصير مطهرًا إلا بالنية فرقٌ صحيح بالنسبة إلى إزالة النجاسة فإنه مزيلٌ لها بطبعه، وأما رفع الحدث فإنه ليس رافعًا له بطبعه؛ إذ الحدث ليس جسمًا محسوسًا يرفعه الماء بطبعه بخلاف النجاسة، وإنما يرفعه بالنية؛ فإذا لم تقارنه النية بقي على حاله، فهذا هو القياس المحض. ¬
وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه فسويتم بين بدن أطيب المخلوقات وهو وليُّ اللَّه المؤمن وبين بدن أخبث المخلوقات وهو عدوه الكافر، فنجستم كليهما بالموت، ثم فرقتم بين ما جمع اللَّه بينه فقلتم: لو غُسل المسلم ثم وقع في الماء لم ينجسه، ولو غُسل الكافر ثم وقع في ماء نجَّسه، ثم ناقضتم في الفرق بأن المسلم إنما غُسل ليُصَلَّى عليه فطهر بالغسل لاستحالة الصلاة عليه وهو نجس بخلاف الكافر، وهذا الفرق ينقض ما أصَّلتموه من أن النجاسة بالموت نجاسة عينية فلا تزول بالغسل لأن سببها قائم وهو الموت، وزوال الحكم مع بقاء سببه ممتنع، فأي القياسين هو المعتدُّ به في هذه المسألة؟ وفرقتم بين ما جمعت السنّة والقياس بينهما فقلتم: لو طلعت عليه الشمس وقد صَلَّى من الصبح ركعة بطلت صلاته، ولو غربت عليه الشمس وقد صلى من العصر ركعة صحت صلاته، والسنّة الصحيحة الصريحة قد سَوَّت بينهما (¬1)، وتفريقكم بأنه في الصبح خَرج (¬2) من وقت كامل إلى [غير] (¬3) وقت [كامل ففسدت صلاته وفي العصر خرج من وقت كامل إلى وقت] (¬4) كامل وهو وقت صلاة فافترقا (¬5)، ولو لم يكن في هذا القياس إلا مخالفته لصريح السنّة لكفى في بطلانه؛ فكيف وهو قياس فاسد (¬6) في نفسه؟ فإن الوقت الذي خرج إليه في الموضعين ليس وقت الصلاة الأولى، فهو ناقصٌ بالنسبة إليها، ولا ينفع كماله بالنسبة إلى الصلاة التي هو فيها. فإن قيل: لكنه خرج إلى وقت نَهْي في الصبح وهو وقت طلوع الشمس، ولم يخرج إلى وقت نهي في المغرب. قيل: [و] (¬7) هذا فرق فاسد؛ لأنه ليس بوقت نهي عن هذه الصلاة التي هو فيها بل [هو] (¬8) وقت أمر بإتمامها بنص صاحب الشرع حيث يقول: "فَلْيُتِمَّ صلاته" (¬9)، ¬
وإن كان وقت نهي بالنسبة إلى التطوع؛ فظهر أن الميزان الصحيح مع السنّة الصحيحة، [وباللَّه التوفيق] (¬1). وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه فقلتم: المختلعة البائنة التي قد ملكت نفسها يلحقها الطلاق، فسويتم بينها وبين الرجعية في ذلك، وقد فرّق اللَّه بينهما بأن جعل هذه مفتدية لنفسها مالكة لها كالأجنبية وتلك زوجها أَحقُّ بها، ثم فرّقتم بين ما جمع اللَّه بينه، فأوقعتم عليها مُرْسَلَ الطلاق دون مُعلَّقة وصريحه دون كنايته (¬2)؛ ومن المعلوم أن من مَلَّكه اللَّه أحد الطلاقين ملكه الآخر، ومن لم يملكه هذا لم يملكه هذا!! وجمعتم بين ما فرّق اللَّه بينه فمنعتم مِن أَكْل الضَّبَّ وقد أُكل على مائدة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو ينظر، فقيل له: أحرام هو؟ فقال: لا (¬3)، فقستموه على الأحناش والفيران، وفرقتم بين ما جمعت السنة بينه من لحوم الخيل التي أكلها الصحابة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لحوم الإبل وأذن اللَّه [تعالى] فيها (¬4)؛ فجمع اللَّه [سبحانه] (¬5) ورسوله بينهما في الحل، وفرّق اللَّه ورسوله بين الضب والحنش في التحريم، وجمعتم بين ما فرقت السنّة بينه من لحوم الإبل وغيرها حيث قال: "توضئوا من لحوم الإبل، ولا تتوضئوا من لحوم الغنم" (¬6) فقلتم: لا نتوضأ لا من هذا (¬7) ولا من هذا، وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينه فقلتم في ¬
القيء: إنْ كان ملء الفم فهو حَدَث (¬1)، وإن كان دون ذلك فليس بحدث، [ولا يُعرف في الشريعة شيء يكون كثيره حدثًا دون قليله، وأما النوم فليس بحدث] (¬2)، وإنما هو مظنة فاعتبر (¬3) ما يكون مظنة وهو الكثير، وفرَّقتم بين ما جمع اللَّه بينه فقلتم: لو فتح على الإمام في قراءته لم تبطل صلاته، ولكن تُكره (¬4)؛ لأن فتحه قراءة منه، والقراءة خلف الإمام مكروهة، ثم قلتم: فلو (¬5) فتح على قارئ غير إمامه بطلت صلاته؛ لأن فتحه عليه مخاطبة له فأبطلت الصلاة (¬6)، ففرقتم بين متماثلين؛ لأن الفتح إن كان مخاطبة في حق غير الإمام فهو مخاطبة في حق الإمام (¬7)، وإن لم يكن مخاطبة في حق الإمام فليس بمخاطبة في حق غيره، ثم ناقضتم من وجه (¬8) آخر أعظم مناقضةً فقلتم: لو نوى (¬9) الفَتْح على غير الإمام خرج عن كونه قارئًا إلى كونه مُخاطِبًا بالنية، ولو نوى الربا الصريح والتحليل الصريح وإسقاط الزكاة بالتمليك الذي اتخذه حِيلة لم يكن مرابيًا ولا مسقطًا للزكاة ولا محللًا بهذه النية (¬10). فياللَّه العجب! كيف أَثَّرت نية الفتح والإحسان على القارئ وأخرجته عن كونه قارئًا إلى كونه مخاطبًا ولم تُؤثِّر نية الربا والتحليل مع إساءته بهما وقصده نفس ما حرمه (¬11) اللَّه فتجعله مرابيًا محللًا؟ وهل هذا إلا خروج عن محض القياس وجمع بين ما فرّق الشارع بينهما وتفريق بين ما جمع بينهما؟ وقلتم: لو اقتدى المسافر بالمقيم بعد خروج الوقت لا يصح اقتداؤه، ولو اقتدى المقيم بالمسافر بعد خروج الوقت صح اقتداؤه. وهذا تفريق بين متماثلين، ولو ذهب ذاهب إلى عكسه لكان من جنس قولكم سواء، ولأمكنه تعليله بنحو ما عَلَّلتم به. ووجَّهتم (¬12) الفرق بأَنَّ مِنْ شرط صحة اقتداء المسافر بالمقيم أن ينتقل فرضُه إلى فرض إمامه، وبخروج الوقت استقر الفرض عليه استقرارًا لا يتغير بتغير ¬
حاله فبقي فرضه ركعتين؛ فلو جَوَّزنا له اقتداءَه بالمقيم بعد خروج الوقت جَوَّزنا اقتداء من فرضه ركعتان (¬1) بمن فرضه أربعٌ، وهذا لا يصح، كمُصلِّي الفجر إذا اقتدى بمصلي الظهر، وليس كذلك المقيم إذا اقتدى بالمسافر بعد خروج الوقت؛ إذ ليس من شرط [صحة] (¬2) اقتداء المقيم بالمسافر أن ينتقل (¬3) فرضه إلى فرض إمامه؛ [بدليل أنه لو اقتدى به في الوقت لم ينتقل فرضه إلى فرض إمامه، بخلاف المسافر، فإنه لو اقتدى بالمقيم في الوقت انتقل فرضه إلى فرض إمامه] (¬4). ثم ناقضتم وقلتم (¬5): إذا كان الإمام مسافرًا وخلفه مسافرون ومقيمون فاستخلف الإمام مقيمًا فإن فرض الإمام لا ينتقل إلى فرض إمامه وهو فرض المُقِيمين؛ مع أنَّ الفرق في الأصل مدخول. وذلك أن الصلاتين سواء في الاسم والحكم والوَضْع والوجوب، وإن اختلفتا في كون الإمام مصلِّيًا (¬6)، فإذا صلى [الإمام] (¬7) أربعًا وجب على المأموم أن يصلي بصلاته كما لو كان في الوقت، وخروج الوقت لا أثر له في ذلك، فإن الذي فرضه اللَّه عليه في الوقت هو بعينه فَرْضُه بعد الوقت، ولا سيما (¬8) إذا كان نائمًا أو ناسيًا؛ فإن وقت اليقظة والذكر هو الوقت الذي شرع اللَّه له الصلاة فيه، وعذر السفر قائم، وارتباط صلاته بصلاة الإمام حاصل، فما الذي فرّق بين الصورتين مع اتحاد السبب الجامع وقيام الحكمة المجوِّزة للقصر والمرجِّحة لمصلحة الاقتداء عند الانفراد؟ وفرقتم بين ما جمعت الشريعة بينهما -وهو الحيض، والنفاس- فجعلتم أقل الحيض محدودًا إما بثلاثة أيام أو بيوم (¬9) وليلة [أو يوم]، ولم تحدوا أقل النفاس (¬10)، وكلاهما دمٌ خارج من الفرج يمنع أشياء ويوجب أشياء، وليسا اسمين شرعيين لم يُعرفا إلا بالشريعة، بل هما اسمان لغويان رد الشارع أُمَّته فيهما إلى ما يتعارفه النساء حيضًا ¬
ونفاسًا، قليلًا كان أو كثيرًا. وقد ذكرتم هذا بعينه في النفاس، فما الذي فَرَّق بينه وبين الحيض؟ ولم يأتِ عن اللَّه ولا عن رسوله ولا عن الصحابة تحديدُ أقل الحيض بحد [أبدًا] (¬1)، ولا في القياس ما يقتضيه. والعجب أنكم قلتم: المرجع فيه إلى الوجود حيث لم يحدّه الشارع، ثم ناقضتم فقلتم: حد أَقلِّه يومٌ وليلة. وأما أصحابُ الثلاث فإنما اعتمدوا على حديث توهَّموه صحيحًا وهو غير صحيح باتفاق أهل الحديث (¬2)، فهم أعذر من وجه؛ قال المُفرِّقون: بل فرَّقنا بينهما بالقياس الصحيح؛ فإن للنفاس علمًا ظاهرًا يدل على خروجه من الرَّحم وهو تقدم الولد عليه، [فاستوى قليله وكثيره؛ لوجود علمه الدال عليه] (¬3)، وليس مع الحيض علم يدل على خروجه من الرحم، فإذا امتد زمنه صار امتداده علمًا ودليلًا على أنه حيض معتاد، وإذا (¬4) لم يمتد لم يكن معنا ما يدل عليه أنه حيض (¬5) فصار كدم الرُّعاف. ثم ناقضوا (¬6) في هذا الفرق نفسه أبْيَنَ مناقضة؛ فقال أصحاب الثلاث: لو امتد يومين ونصف يوم دائمًا لم يكن حيضًا حتى يمتد ثلاثة أيام. وقال أصحاب اليوم (¬7): لو امتد من غدوة إلى العصر دائمًا لم يكن حيضًا حتى يمتد إلى غروب الشمس؛ فخرجوا بالقياس عن محض القياس. ¬
وقلتم: إذا صلى جالسًا ثم تشهد في حال القيام سهوًا فلا سجودَ عليه، وإن قرأ في حال التشهد فعليه السجود، وهذا فرق بين متساويين من كل وجه؛ وقلتم: إذا افتتح الصلاة في المسجد فظن أنه قد سبقه الحَدَثُ فانصرف ليتوضأ ثم علم أنه لم يسبقه الحدث وهو في المسجد جاز له المضي في (¬1) صلاته، وكذلك لو ظن أنه قد أَتم صلاته ثم علم أنه لم يتم، ثم قلتم: لو ظن أن على ثوبه نجاسة أو أنه لم يكن متوضئًا فانصرف ليتوضأ أو يغسل ثوبه ثم علم أنه كان متوضئًا أو طاهر الثوب لم يجز له البناء طى صلاته، ففرَّقتم بين [متساوييْن] (¬2) لا فرق بينهما وتركتم محض القياس، وفرقتم بأنه لما ظن سبق الحدث فقد انصرف من صلاته انصراف استئنافٍ لا انصراف رفض، فإنه لو تحقق ما ظنه جاز له المضي، فلم يصر قاصدًا للخروج من الصلاة، فلم يمتنع البِناءُ, وكذلك (¬3) لو ظَنَّ أنه قد أتم صلاته فلم ينصرف انصراف رفضٍ، وإذا لم يقصد الرفض لم تصر الصلاة مرفوضة كما لو سَلَّم ساهيًا، وليس كذلك إذا ظن أنه لم يتوضأ أو [أن] (¬4) على ثوبه نجاسة لأنه انصرف منها انصراف رفضٍ ونوى الرفض مقارنًا لانصرافه؛ فبطلت كما لو سلم عامدًا، وهذا الفرقُ غير مجدٍ شيئًا، بل هو فرق بين ما جمعت الشريعة بينهما (¬5)، فإنه في الموضعين انصرف انصرافًا مأذونًا فيه أو مأمورًا به، وهو معذور في الموضعين، بل هذا الفرق حقيقٌ باقتضائه ضد ما ذكرتم، فإنه إذا ظن أنه لم يتوضأ فانصرافه مأمور به وهو عاصٍ للَّه بتركه، بخلاف ما إذا ظن أنه قد أتم صلاته فإن انصرافه مباحٌ مأذونٌ له فيه، فكيف تصحُّ الصلاة مع هذا الانصراف وتبطل بالانصراف المأمور به؟ ثم إنه أيضًا في انصرافه [حين] (¬6) ظَنَّ أنه قد أَتم صلاته ينصرف انصراف تركٍ حقيقةً لأنه يَظنّ أنه قد فرغ منها، فتَركها تَرْكَ مَنْ قد أكملها، ومن ظن أنه محدث فإنما تركها ترك قاصدٍ ليكملَهَا (¬7)، فهي أولى بالصحة. وقلتم: لو قال: "للَّه عَلَيَّ أن أُصلي ركعتين" [وقال آخر: "وأنا للَّه عَلَيَّ ¬
أصلي ركعتين"] (¬1) لم يجز لأحدهما أن يأتم بصاحبه؛ لأنهما فرضان بسببين، وهو نذر كل (¬2) واحد منهما، ولا يُؤدَّى فرضٌ خلف فرض آخر؛ ثم ناقضتم فقلتم: لو قال الآخر: "وأنا للَّه عليَّ أن أصلي الركعتين (¬3) اللتين أوجَبْتُ على نفسك" جاز لأحدهما أن يأتم بالآخر؛ لأنه أوجب على نفسه عين ما أوجبه (¬4) الآخر على نفسه، فصارتا كالظهر الواحدة، وهذا ليس يُجدي شيئًا؛ فإن سبب الوجوب مختلف كما في الصورة الأولى سواء، وهو نذر كل واحد منهما على نفسه وليس الواجب على أحدهما هو عين الواجب على الآخر، بل هو مثله، ولهذا لا يتأَدَّى أحدُ الواجبين بأداء الآخر، ولا فرق بين المسألتين في ذلك ألبتة، فإن كل واحد [منهما] (¬5) يجب عليه ركعتان نظير ما وجب على الآخر بنذره (¬6)، فالسبب مماثل (¬7)، والواجب مماثل، والتعدد في الجانبين سواء، فالتفريق بينهما تفريق بين متماثلين، وخروج عن محض القياس. وفرّقتم بين ما جمع النَّصُّ والميزان بينهما، فقلتم: إذا ظفر برِكَاز فعليه فيه الخمس، ثم يجوز له صرفه إلى أولاده وإلى نفسه إذا احتاج إليه، وإذا وجب عليه عُشْرُ الخارج من الأرض لم يكن [له] (¬8) صرفه إلى ولده ولا إلى نفسه، وكلاهما واجب عليه إخراجه لحق اللَّه (¬9) وشكر النعمة بما أنعم عليه من المال، ولكن لما كان [الركاز مالًا مجموعًا لم يكن نماؤه وكمالُه بفعله فالمؤنة فيه أيسر كان الواجب فيه أكثر، ولمَّا كان] (¬10) الزَّرع فيه من المُؤنة والكُلفة والعمل أكثر مما في الركاز كان الواجب فيه (¬11) نصفه وهو العشر، فإن اشتدت المؤنة بالسقي بالكلفة حُط الواجبُ إلى نصفه وهو نصف العشر، فإن اشتدت المؤنة في المال غيره بالتجارة والبيع والشراء كل وقت وحفظة وكراء مخزنه ونقله خفف إلى شطره وهو ربع العشر؛ فهذا من كمال حكمة الشارع [في] (¬12) اعتبار كثرة الواجب وقلَّته، ¬
فكيف يجوز له أن يعطي الواجب الأكثر الذي هو أقل مؤنة وتعبًا وكلفة لأولاده ويمسكه لنفسه وقد أضعفه عليه الشارع أكثر من كل واجب في الزكاة ومخرج الجميع وإيجابه واحد نصًا واعتبارًا؟ فالتفريق بينهما تفريق بين ما جمعت الشريعة بينهما حيث قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "في الركاز الخمس، وفي الرِّقَةِ (¬1) ربعُ العُشُرِ" (¬2). وقلتم: لو أَودعَ مَنْ لا يعرفه مالًا فغاب عنه سنين ثم عَرَفه فلا زكاةَ عليه؛ لأنه لا يقدر على ارتجاعه منه، فهو كما لو دفنه بمغارة فنسيه (¬3)، ثم ناقضتم فقلتم: لو أودعه من يعرفه فنسيه [سنين] (¬4) ثم عرفه فعليه زكاة تلك السنين الماضية كلها، والمال خارجٌ عن قَبْضَتِه وتصرفه، وهو غير قادر على ارتجاعه في الصورتين، ولا فرق بينهما، وقد صَرَّحتم في مسألة المغارة (¬5) أنه لو دفنه في موضع (¬6) منها ثم نسيه فلا زكاةَ عليه إذا عرفه بعد ذلك، ولا فرق في هذا بين المغارة (5) وبين المودع بوجه؛ ثم ناقضتم من وجه آخر وقلتم: لو دفنه في داره وخفي عليه موضعه سنين ثم عرفه وجبت عليه الزكاة لما مضى. وقلتم: لو وجبت عليه أربع شياه فاخرج ثنتين سمينتين تُساوي الأربع جاز، فطرد قياسكم هذا أنه لو وجب عليه عشرة أقفزة بُرّ فأخرج خمسة من بُرِّ مرتفع تُساوي قيمة العشرة التي هي عليه جاز، وطرده لو وجب عليه خمسة أبعرة فأخرج بعيرًا يساوي قيمة الخمسة أنه يجوز، ولو وجب [عليه] (¬7) صاع في الفطرة فأخرج ربع صاع يساوي الصاع الذي لو أخرجه لتأَدَّى به الواجبُ إنه يجوز، فإن طَرَدتم هذا القياس فلا يخفى ما فيه من تغيير المقادير الشرعية والعدول عنها، ولزمكم طرده في أَنَّ مَنْ (¬8) وجب عليه عتقُ رقبةٍ فأعتق عُشْرَ رقبة تساوي قيمة رقبة غيرها ¬
جاز؛ ومَنْ نذر الصدقة بمئة شاة فتصدَّق بعشرين تساوي قيمة المئة جاز، ثم ناقضتم فقلتم: لو وجب عليه أُضحيتان فذبح واحدًا سمينًا يساوي وسطين (¬1) لم يجز، ثم فرّقتم بأن قلتم: المقصود في الأضحية الذبح وإراقة الدم، وإراقةُ دم واحد لا تقوم (¬2) مقام إراقة دمين، والمقصود في الزكاة سدُّ خُلّة الفقير وهو يحصل بالأجود الأقل كما يحصل بالأكثر إذا كان دونه (¬3)؛ وهذا فرق إن صح لكم [في الأضحية لم يصح لكم] (¬4) فيما ذكرناه من الصور، فكيف ولا يصح في الأضحية؟ فإن المقصود في الزكاة (¬5) أمور عديدة منها: سدُّ خلَّة الفقير، ومنها إقامة عبودية اللَّه بفعل نفس ما أُمِرَ به، ومنها شكر نعمته عليه في المال، ومنها إحراز المال وحفظه بإخراج هذا المقدار منه، [ومنها المواساة بهذا المقدار لما علم اللَّه فيه من [المصلحة] (¬6) مصلحة رب المال ومصلحة الآخذ] (¬7). ومنها التعبد بالوقوف عند حدود اللَّه وأن لا يُنْقَص منها ولا تُغيَّر، وهذه المقاصد إن لم تكن أعظم من مقصود إراقة الدم في الأضحية فليست بدونه، فكيف يجوز إلغاؤها واعتبار مجرد إراقة الدم؟ ثم إنَّ هذا الفرق ينعكس عليكم من وجه آخر، وهو أن مقصود الشارع من إراقة دم الهدي والأضحية التقرب إلى اللَّه سبحانه بأجل ما يقدر عليه من ذلك النوع وأعلاه وأغلاه ثمنًا وأنفسه عند أهله، فإنَّه لن يَنَالَه سبحانه لحومُها ولا دماؤها وإنما يناله تقوى العبد منه، ومحبته له، وإيثاره بالتقرب إليه بأَحبِّ شيء إلى العبد وآثره عنده وأنفسه لديه، كما يتقرب المُحبُّ إلى محبوبه بأنفس ما يقدر عليه وأفضله عنده. ولهذا فطر اللَّه العباد على أن مَنْ تقرَّب إلى محبوبه بأفضل هدية يقدر عليها وأجلها وأعلاها كان أحظى لديه، وأحب إليه ممن تقرب إليه بألف واحد رديء من ذلك النوع. وقد نَبَّه سبحانه على هذا بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ ¬
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [البقرة: 267]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ (¬1)} [البقرة: 177]، وقال (¬2): {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] وسُئل النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أفضل الرقاب فقال: "أغلاها ثمنًا وأَنفَسُها عند أهلها" (¬3) ونذر عمر أن ينحر (¬4) نجيبةً فأعطى بها نجيبتين، فسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَن يأخذَهما بها وينحرهما، فقال: "لا، بل انحرها إياها" (¬5) فاعتبر في الأضحية عين المنذور دون ما يقوم مقامه وإن كان أكثر منه، فلأن يُعتبر في الزكاة نفس الواجب دون ما يقوم مقامه ولو كان أكثر منه أولى وأحرى. وطرد قياسكم أنه لو وجب عليه أربعُ شياهٍ جياد فأخرج عشرة مِنْ أردأ الشياه وأهزلها وقيمتهن قيمة الأربع، أو وجب عليه أربع حقاق (¬6) جياد فأخرج عشرين ابن لبون من أردأ الإبل وأهزلها أنه يجوز، فإن منعتم ذلك نقضتم (¬7) القياس، وإن طردتموه تيممتم الخبيث منه تنفقون، وسلَّطتم رب المال على إخراج رديئه ومعايبه عن جَيِّده، والمرجع في التقويم إلى اجتهاده، وفي هذا من مخالفة الكتاب والميزان ما فيه. ¬
وفرّقتم بين ما جمع الشارع بينه وجمعتم بين ما فرق بينه، أما الأول فقلتم: يصح صوم رمضان بنية من النهار قبل الزوال، ولا يصح صوم الظهار وكفارة الوطء في رمضان وكفارة القتل إلا بنية من الليل (¬1)، وفرّقتم بينهما بأن صوم رمضان لمَّا كان معينًا بالشرع أجزأ بنية من النهار، بخلاف صوم الكفارة، وبنَيْتُم على ذلك أنه لو قال: "للَّه عليَّ صوم يوم" فصامه بنية قبل الزوال لم يجزئه، ولو قال: "للَّه عليَّ أن أصوم غدًا" فصامه بنية قبل الزوال جاز، وهذا تفريق بين ما جمع الشارع بينه من صوم الفرض وأخبر أنه لا صيام لمن لم يبيِّتُه من الليل (¬2)، وهذا في صوم الفرض، وأما النفل فصح [عنه] أنه كان -صلى اللَّه عليه وسلم-، (¬3) يُنشئه بنية من النهار (¬4)، فسوَّيتم بينهما في أجزائهما بنية من النهار وقد فَرَّق الشارع بينهما. وفرّقتم بين بعض الصوم المفروض [دون] (¬5) بعض في اعتبار النية من الليل وقد سَوَّى الشارع بينهما. والفرق بالتعيين وعدمه عديم التأثير فإنه وإن تعيَّن لم يصر عبادة إلا بالنية؛ ولهذا لو أمسك عن الأكل والشرب من غير نية لم يكن صائمًا؛ فإذا لم تقارن النية جميع أجزاء اليوم فقد خرج بعضُه عن أن يكون عبادة؛ فلم يُؤد ما أمِرَ به، وتعيينه لا يزيد وجوبه إلا تأكيدًا واقتضاءً؛ فلو قيل: إن المُعيَّن أولى بوجوب النية من الليل من غير المعين لكان أصح في القياس، والقياس الصحيح هو الذي ¬
جاءت به السنّة من الفرق بين الفرض والنفل؛ فلا يصح الفرض إلا بنية من الليل، والنفل يصح بنية من النهار؛ لأنه يُتسامَح فيه ما لا يتسامح في الفرض، كما يجوز أن يُصلّي النفل قاعدًا وراكبًا على دابته إلى القبلة وغيرها. [وفي] (¬1) ذلك تكثير النفل وتيسير الدخول فيه، والرجل لما كان مخيَّرًا بين الدخول فيه وعدمه ويخير بين الخروج منه وإتمامه خُيِّر بين التبييت والنية من النهار؛ فهذا محض القياس وموجب السنّة. وللَّه الحمد. وفرّقتم بين ما جمع اللَّه بينهما من جماع الصائم والمعتكف فقلتم: لو جامع في الصوم ناسيًا لم يفسد صومه، ولو جامع المعتكف ناسيًا فسد اعتكافه وفرّقتم بينهما بأن الجماع من محظورات الاعتكاف، ولهذا لا يباح ليلًا ولا نهارًا، وليس من محظورات الصوم؛ لأنه يباح ليلًا. وهذا فرق فاسد جدًا؛ لأن الليل ليس محلًا للصوم فلم يحرم فيه الجماع؛ وهو محل للاعتكاف فحرم فيه الجماع؛ فنهار الصائم كليل المعتكف في ذلك، ولا فرق بينهما، والجماعُ محظورٌ في الوقتين، ووزان ليل الصائم اليوم الذي يخرج فيه المعتكف من اعتكافه، فهذا هو القياس المحض، والجمع بين ما جمع اللَّه بينه والتفريق بين ما فرق اللَّه بينه، وباللَّه التوفيق. وقلتم: لو دخل عَرَفَة في طلب بعيرٍ له أو حاجة ولم ينوِ الوقوف أجزأه عن الوقوف، ولو دار حول البيت في طلب شيءٍ سقط منه ولم ينوِ الطواف لم يجزئه، وهذا خروج عن محض القياس، وفَرّقتم تفريقًا فاسدًا فقلتم: المقصود الحضور (¬2) بعرفة في هذا الوقت وقد حصل، بخلاف الطواف؛ فإن المقصود العبادة ولا تحصل إلا بالنية، فيقال: والمقصود بعرفة العبادة أيضًا، فكلاهما ركنٌ مأمور به، ولم ينوِ المكلف امتثال الأمر لا في هذا [ولا في هذا؛ فما الذي صحح هذا وأبطل هذا؟ ولما تنبَّه بعضُ القياسيين لفساد هذا] (¬3) الفرق عدل إلى فرق آخر؛ فقال: الوقوف ركن يقع في نفس الإحرام، فنية الحج مشتملة عليه، فلا يفتقر إلى تجديد نية، كأَجْزَاء الصلاة من الركوع والسجود ينسحب (¬4) عليها نية الصلاة. ¬
وأما الطواف فيقع خارج العبادة (¬1) فلا تشتمل عليه نية الإحرام فافتقر إلى النية، ونحن نقول لأصحاب هذا الفرق: ردُّونا إلى الأول فإنه أقل فسادًا وتناقضًا من هذا، فإن الطواف والوقوف كلاهما جزء من أجزاء العبادة، فكيف تضمنت [جزءًا من أجزاء] (¬2) العبادة لهذا الركن دون هذا؟ وأيضًا فإن طواف المعتمر يقع في الإحرام، وأيضًا فطواف الزيارة يقع في بقية الإحرام، [فإنه إنما] (¬3) حل من إحرامه قبله تحللًا أول ناقصًا (¬4)، والتحلل الكامل موقوف على الطواف. وفرّقتم بين ما جمعت السنّة والقياس بينهما فقلتم: إذا أحرم الصبي ثم بلغ فجدد إحرامه قبل أن يقف بعرفة أجزأه عن حجة الإسلام، وإذا أحرم العبد ثم عتق فجدد إحرامه لم يجزئه عن حجة الإسلام، والسنّة قد سَوَّت بينهما، وكذا القياس، فإن إحرامهما قبل البلوغ والعتق صحيح وهو سبب للثواب، وقد صارا من أهل وجوب الحج قبل الوقوف بعرفة فأجزأهما عن حجة الإسلام، كما لو لم يوجد منهما إحرام قبل ذلك، فإن غاية ما وجد منهما من الإحرام أن يكون وجوده كعدمه، فوجود الإحرام السابق على العتق لم يضره شيئًا بحيث يكون عدمه أنفع له من وجوده، وتفريقكم بأن إحرام الصبي إحرام تخلق وعادة وبالبلوغ انعدم ذلك فصح منه الإحرام عن حجة الإسلام، وأما العبد فإحرامه إحرام عبادة لأنه مكلف فصح إحرامه موجبًا فلا يتأتَّى (¬5) له الخروج منه حتى يأتي بموجبه فرق فاسد (¬6)؛ فإن الصبي مثاب (¬7) على إحرامه بالنص، وإحرامه إحرام عبادة -وإن كانت لا تُسقط الفرض- كإحرام العبد سواء. وفرّقتم بين ما جمع القياس الصحيح بينه فقلتم: لو قال: ["أحِجُّوا فلانًا حجة" فله أن يأخذ النفقة ويأكل بها ويشرب ولا يحج، ولو قال] (¬8): "أحِجُّوه عني" لم يكن له أن يأخذ النفقة إلا بشرط الحج (¬9)، وفرّقتم بأن في المسألة الأولى أخرج كلامه مخرج الإيصاء بالنفقة له، وكأنه أشار عليه بالحج، ولا حق للمُوصي في الحج الذي يأتي به، فصححنا الوصية بالمال، ولم نُلزِم (¬10) المُوصى ¬
له بما لا حَقَّ للمُوصي فيه، وأما في المسألة الثانية فإنما قصد أن يعود نفعه إليه بثواب النفقة (¬1) في الحج، فإن لم يحصل له غرضه لم تنفع الوصية، وهذا الفرق نفسه هو المبطل للفرق بين المسألتين؛ فإنه بتعيُّن الحج قطع ما توهموه (¬2) من دفع المال إليه يفعل به ما يريد، وإنما قصد إعانته على طاعة اللَّه ليكون شريكًا له في الثواب، ذاك بالبدن وهذا بالمال، ولهذا عين الحج مصرفًا للوصية، فلا يجوز إلغاء ذلك وتمكينه من المال يصرفه في ملاذِّه وشهواته، هذا من أفسد القياس، وهو كما لو قال: "أعطوا فلانًا ألفًا ليبني بها مسجدًا أو سقاية أو قنطرة" لم يجز أن يأخذ الألف [إن لم] (¬3) يفعل ما أوصى به، كذلك الحج سواء. وفرّقتم بين ما جمع محض القياس بينهما فقلتم: إذا اشترى عبدًا ثم قال له: "أَنت حُرٌّ أمس" عتق عليه، ولو تزوجها ثم قال لها: "أنت طالق أمس" لم تطلق، وفرّقتم بأن العبد لما كان حرًا أمس اقتضى تحريم شرائه واسترقاقه [اليوم] (¬4)، وأما الطلاق فكونها مطلقة أمس لا يقتضي تحريم نكاحها اليوم، وهذا فرق صوري لا تأثير له ألبتة، فإن الحكم إن جاز تقديمه (¬5) على سببه وقع العتق والطلاق في الصورتين، وإن امتنع تقدمه [في الموضعين] (¬6) على سببه لم يقع واحد منهما، فما بال أحدهما وقع دون الآخر؟ (¬7). فإن قيل: نحن لم نفرِّق بينهما في الإنشاء، وإنما فرقنا بينهما في الإقرار والإخبار، فإذا أقرّ بأَنَّ العبدَ حر بالأمس [لزمه العتق، وإذا أقرّ بالطلاق] (¬8) لم يلزم بطلان النكاح اليوم؛ لجواز (¬9) أن يكون المُطلِّق الأول قد طلقها أمس قبل الدخول فتزوج هو بها اليوم. ¬
قلنا: إذا كانت المسألة على هذا الوجه فلا بد أن يقول: أنت طالق أمس من غيري، أو ينوي ذلك، فينفعه حيث يدين؛ فأما إذا أطْلق فلا فرق بين العتق والطلاق. فإن قيل: يمكن أن يطلقها بالأمس ثم يتزوجها اليوم. قيل: هذا يمكن في الطلاق الذي [لم] (¬1) يُستوف إذا كان مقصوده الإخبار، فأما إذا قال: "أنت طالق أمس ثلاثًا" ولم يقل من زوج كان قبلي ولا نواه فلا فرق أصلًا بين ذلك وبين قوله للعبد: "أنت حرّ أمس" فهذا التفصيلُ هو محض القياس، وباللَّه التوفيق. وجمعتم بين ما فرّقت السنّة بينهما فقلتم: يجب على البائن الإحداد كما يجب على المُتوفى عنها، والإحداد لم يكن من ذلك لأجل العدة، وإنما كان لأجل موت الزوج, والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نفى وأثبت وخصَّ (¬2) الإحداد بالمتوفى عنها زوجها (¬3)، وقد فارقت المبتوتة في وصف العدة وقدرها وسببها؛ فإن سببها الموت، وإن لم يكن الزوج دخل بها، وسبب عدة البائن الفراق وإن كان الزوج حيًا، ثم فرّقتم بين ما جمعت السنّة بينهما فقلتم: إن كانت الزوجة ذمية أو غير بالغة فلا إحداد عليها، والسنّة تقتضي التسوية كما يقتضيه القياس. وفرّقتم بين ما جمع القياس المحض بينهما فقلتم: لو ذبح المُحرم صيدًا فهو ميتة لا يحل أكله، ولو ذبح الحلال صيدًا حَرَميًا فليس بميتة وأكله حلال، وفرّقتم بأن المانع من (¬4) ذبح المحرم فيه، فهو كذبح المجوسي والوثني، فالذابح غير أهل، وفي المسألة الثانية الذابح أهل، والمذبوح محلٌّ للذبح إذا كان حلالًا، ¬
وإنما منع منه حُرْمة المكان، ألا ترى أنه لو خرج من الحَرَم حل ذبحه؛ وهذا من أفسد فرق، وهو باقتضاء عكس الحُكم أولى؛ فإن المانع في الصيد الحَرَمي في نفس المذبوح، فهو كذبح ما لا يؤكل، والمانع في ذبح المحرم في الفاعل، فهو كذبح الغاصب. وقلتم: لو أرسل كلبه على صَيْد في الحل فطرده حتى أدخله الحرم فأصابه لم يضمنه، ولو أرسل سهمه على صيد في الحل فأطارته (¬1) الريح حتى قَتَل صيدًا في الحرم ضمنه، وكلاهما تولَّد القتل فيه عن فعله، وفرّقتم بأن الرمي حصل بمباشرته وقوّته التي أمدّت السهم فهو محض فعله، بخلاف مسألة الكلب فإن الصيد فيه يُضاف إلى فعل الكلب، وهذا الفرق لا يصح، فإن إرسال السهم والكلب (¬2) كلاهما من فعله؛ فالذي (¬3) تولَّد منهما تولد عن فعله، وجَرَيانُ السَّهم وعَدْو الكلب كلاهما هو المتسبب فيه، وكون الكلب له اختيار والسهم لا اختيار له فرق لا تأثير له إذ (3) كان اختيار الكلب بسبب إرسال صاحبه له. وقلتم: لو رهن أرضًا مزروعة أو شجرًا مثمرًا دخل الزرع والثمر في الرهن، ولو باعهما لم يدخل الزرع والثمر (¬4) في البيع، وفرّقتم بينهما بأن الرهن متصل بغيره، واتصال الرهن بغيره يمنع صحته؛ للإشاعة (¬5)، فلو لم يدخل فيه الزرع والثمرة لبطل، بخلاف المبيع، فإن اتصاله بغيره لا يبطله، إذ الإشاعة لا تنافيه، وهذا قياس في غاية الضعف؛ لأن الاتصال هنا اتصال مجاورة، لا إشاعة، فهو كرهن زيت في ظروفه (¬6) وقماش في أعداله ونحوه. وقلتم: لو أُكره على هبة جاريته لرجل فوهبها له مالكها فأعتقها الموهوب له نفذ عتقُه، ولو باعها لم يصح بيعه، وهذا خروج عن محض القياس، وتفريقكم -بأن هذا عتق صدر عن إكراه والإكراه لا يمنع صحة العتق، وذلك (¬7) بيعٌ صدر عن إكراه والإكراه يمنع صحة البيع- لا يصح؛ لأنه إنما أكره على التمليك، ولم يكن للمكره غرض في الإعتاق، والتمليك لم يصح، والعتق لم يكره عليه فلا ينفذ كالبيع سواء، هذا مع أنكم تركتم القياس في مسألة الإكراه على البيع والعتق، ¬
فصححتم العتق (¬1) دون البيع، وفرّقتم بأن العتق لا يدخله خيار فصح مع الإكراه [كالطلاق، والبيع يدخله الخيار فلم يصح مع الإكراه] (¬2)، وهذا فرق لا تأثير له، وهو فاسد في نفسه؛ فإن الإقرار والشهادة والإسلام لا يدخلها خيار، ولا تصح مع الإكراه، وإنما امتنعت عقود المكره من النفوذ لعدم الرضى الذي هو مُصحِّحُ العقد، وهذا (¬3) أمر تستوي فيه عقوده كلها معاوضاتها (¬4) وتبرعاتها وعتقه وطلاقه وخلعه وإقراره، وهذا هو محض القياس والميزان؛ فإن المُكْرَه محمول على ما أكره عليه غير مختار له، فأقواله كأقوال النائم والناسي، فاعتبار بعضها وإلغاء بعضها خروج عن محض القياس، وباللَّه التوفيق. وقلتم: لو وقع في الغدير العظيم -الذي إذا حُرِّك (¬5) أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر- قطرة دم أو خمر أو بول آدمي نجَّسَه كله، وإذا وقع في آبار الفلوات والأمصار البعرُ والرَّوثُ والأخباثُ لا تنجِّسها (¬6) ما لم يأخذ وجه ربع الماء أو ثلثه، وقيل: أن لا يخلو دلوٌ عن شيء منه، ومعلوم أنَّ ذلك الماء أقرب إلى الطيب والطهارة حسًا وشرعًا من هذا؛ ومن العجب أنكم نجَّستُم الأدهان والألبان والْخَلَّ والمائعاتِ بأسرها بالقطرة من البول والدم، وعفوتم عما دون ربع الثوب من النجاسة المخففة، وعما دون [قدر] (¬7) الكف من المغلَّظة، وقستم العفو عن ربع الثوب على وجوب مَسْح ربع الرأس ووجوب حَلْق ربعه في الإحرام، وأين مسح الرأس من غسل النجاسة؟ ولم تقيسوا الماء والمائع على الثوب مع عدم ظهور أثر النجاسة فيها (¬8) ألبتة وظهور عينها ورائحتها في الثوب، ولا سيما عند محمد (¬9) حيث يعفو عن قدر ذراع [في ذراع] (¬10)، وعند أبي يوسف عن قدر شبر في شبر (¬11)، وبكل حال فالعفو عما هو دون ذلك بكثير مما لا نسبة له إليه ¬
فصل
في المائع (¬1) الذي لا يظهر أثر النجاسة فيه بوجه بل يحيلها ويذهب عينها وأثرها أولى وأحْرَى. وجمعتم بين ما فرّق الشرع والحس بينهما، فقستم المني الذي هو أصْلُ الآدميين على البول والعذرة، وفرّقتم بين ما جمع الشرع والحسُّ بينهما ففرّقتم بين بعض الأشربة المسكرة وغيرها مع استوائها (¬2) في الإسكار، فجعلتم بعضها نجسًا كالبول وبعضها طاهرًا طيّبًا كاللبن والماء، وقلتم: لو وقع في البئر نجاسة تنجَّس (¬3) ماؤها وطينها، فإن نزح منها دلو فرشرش (¬4) على حيطانها تنجست حيطانها، وكلما نزح منها شيء نبع مكانه شيء فصادف ماءً نجسًا وطينًا نجسًا، فإذا وجب نزح أربعين دلوًا مثلًا فنزح تسعة وثلاثون كان المنزوح والباقي كله نجسًا، والحيطان التي أصابها الماء والطين الذي في قرار البئر، حتَّى إذا نزح الدلو الأربعون قشقش النجاسة كلها، فطهر الطين والماء وحيطان البئر وطهر نفسه، فما رؤي أكرم من هذا الدلو ولا أعقل ولا أخير!! فصل [و] قالت الحنابلة والشافعية (¬5): لو تزوجها على أن يَحُجَّ بها لم تصح التسمية ووجب مهر المثل، وقاسوا هذه التسمية على ما إذا تزوجها على شيء لا يدرى ما هو، ثم قالت الشافعية: لو تزوج الكتابية على أن يعلمها القرآن جاز، وقاسوه على جواز إسماعها (¬6) إياهُ، فقاسوا أبعد قياس، وتركوا محض القياس، فإنهم صَرَّحُوا بأنه لو استأجرها ليحملها إلى الحج جاز، ونزلت الإجارة على العُرْفِ، فكيف صح أن يكون مورد العقد الإجارة ولا يصح أن يكون صداقًا؟ ثم ناقضتم أبين مناقضة فقلتم: لو تزوجها على أن يردَّ عبدَها الآبقَ من مكان كذا وكذا صح مع أنّه قد يقدر على رده وقد يعجز عنه؟ فالغَرَرُ الذي في هذا الأمر أعظم من الغرر الذي في حملها إلى الحج بكثير، وقلتم: لو تزوجها على أن يُعَلمها القرآن أو بعضَه صح، وقد تقبل التعليم وقد لا تقبله، وقد يطاوعها لسانها وقد يأبى عليها، وقلتم: لو تزوجها على مهر المثل صحت التسمية مع اختلافه ¬
فصل
لامتناع مَنْ يساويها من كل وجه أو لقربه (¬1) وإن اتفق مَنْ يساويها في النسب فنادر جدًا من يساويها (¬2) في الصِّفات والأحوال التي يقل المهر بسببها ويكثر، فالجهالة التي في حجه بها دون هذا بكثير، وقلتم: لو تزوجها على عبد مطلق صح ولها الوسط، ومعلوم أن في الوسط من التفاوت ما فيه، وقلتم: لو تزوجها على أن يشتري لها عبدَ زيدٍ صحت التسمية، مع أنه غرر ظاهر؛ إذ تسليم المهر موقوف على أمر غير مقدور له، وهو رِضَى زيد ببيعه، ففيه من الخطر ما في رد [عبدها] (3) السابق، وكلاهما أعظم خطرًا من الحج بها، وقلتم: لو تزوجها على أن يرعى غنمها مدة صح، وليس جهالة حملانها [إلى الحج] (¬3) بأعظم (¬4) من جهالة أوقات الرعي ومكانه، على أن هذه المسألة بعيدة من أصول أحمد ونصوصه، ولا تُعرف منصوصة عنه، بل نصوصه على خلافها، قال في رواية مهنأ، فيمن تزوج على عبد من عبيده جاز: وإن كانوا عشرةَ عبيدٍ يُعْطِي من أوسطهم، فإن تشاحَّا أقرع بينهما، قلت: وتستقيم القرعة في هذا؟ قال: نعم (¬5)، وقلتم: لو خالعها على كفالة ولدها عشر سنين صح، وإن لم يذكر قدر الطعام والإدام والكسوة، فياللَّه العجب (¬6)! أين جهالة هذا من جهالة حملانها إلى الحج؟! فصل وقالت (¬7) الشافعية: له أن يجبر ابْنَتَه البالغة المفتية (¬8) العالمة بدين اللَّه التي تفتي في الحلال والحرام على نكاحها بمن هي أكره الناس له، وأشد الناس نُفرة عنه بغيَر رضاها، حتَّى لو عينت كفوًا شابًا جميلًا ديِّنًا تحبّه وعَيَّنَ كفوًا شيخًا مشوّهًا دميمًا كان العبرة بتعيينه دونها، فتركوا مَحْضَ القياس والمصلحة ومقصود النكاح من الود والرحمة وحسن المعاشرة، وقالوا: لو أراد أن يبيع لها حَبْلًا (¬9) أو عُودَ أراكٍ من مالها لم يصح إلَّا برضاها، وله أن يرقَّها مدة العمر عند مَنْ هي ¬
أكرهُ شيء فيه بغير رضاها، قالوا: وكما خرجتم عن محض القياس خرجتم عن صريح السنة؛ فإنَّ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَيَّرَ جاريةً بكرًا زوَّجَها أبوها وهي كارهة (¬1)، وخيَّر أُخرى ثيبًا (¬2)، ومن العجب أنكم قلتم: لو تصرَّفَ في حبل من مالها على غير وجه الحفظ لها كان مردودًا، حتَّى إذا تصرَّف في بُضْعها على خلاف حظها كان لازمًا، ثم قلتم: هو أخبر بحظها منها، وهذا يرده الحس؛ فإنها أعلم بميلها ونفرتها وحظها ممن [تحب أن] (¬3) تعاشره وتكره عشرته، وتعلقتم بما رواه مسلم من حديث ابن عباس يرفعه: "الْأَيِّمُ أحَق بنفسها من وليها، والبكر تُسْتَأذن في نفسها، وإذْنها صُمَاتها" (¬4) وهو حجة عليكم، وتركتم ما في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة يرفعه: "لَا تُنْكَحُ الأيِّمُ حتى تستأمر، ولا البكر حتى تستأذن" (¬5) ¬
فصل
وفيهما أيضًا من حديث عائشة قالت: "قلت: يا رسول اللَّه تُسْتأمر النساء في أبْضَاعهن؟ قال: نعم، قلت (¬1): فإن البكر تُسْتَأذن فتستحيي، قال: إذْنُهَا صِمَاتهَا" (¬2) فنهى أن تنكح بدون استئذانها، وأمر بذلك وأخبر أنه (¬3) هو شَرْعه [وحكمه] (¬4)، فاتفق على ذلك أمره ونهيه وخبره، وهو محض القياس والميزان. فصل وقالت الحنابلة والشافعية والحنفية: لا يصح بيع المَقاثِي والمَباطِخ والباذنجان إلَّا لقطة (¬5)، ولم يجعلوا المعدوم تبعًا للموجود مع شدة الحاجة إلى ذلك، وجعلوا المعدوم مُنزلًا منزلة الموجود في منافع الإجارة للحاجة إلى ذلك، وهذا مثله من كل وجه؛ لأنَّه يُستخلف كما تُستخلف المنافع، وما يقدر من عروض الحظر له فهو مشترك بينه وبين المنافع، وقد جوَّزوا بيع الثمرة إذا بدا الصلاح في واحدة منها، ومعلوم أن بقية الأجزاء معدومة فجاز بيعها تبعًا للموجود، فإن فرّقوا بأن هذه أجزاء متصلة، وتلك أعيان منفصلة، فهو فرق فاسد من وجهين: أحدهما: أن هذا لا تأثير له ألبتة. الثاني: أن من الثَّمرة التي بدا صلاحها (¬6) ما يخرج أثمارًا متعددة كالتوت والتين فهو كالبطيخ والباذنجان من كل وجه، فالتفريق خروجٌ عن القياس والمصلحة، وإلزام بما لا يُقدر عليه إلَّا بأعظم كلفة ومشقة، وفيه مفسدة عظيمة يردها القياس؛ فإن اللقطة لا ضابط لها، فإنه يكون في المقاثي (¬7) الكبار والصغار وبين ذلك، فالمشتري يريد استقصاءَها، والبائع يمنعه من أخذ الصغار، فيقع بينهما من التنازع والاختلاف والتشاحن ما لا تأتي به شريعة (¬8)، فأين هذه ¬
فصل [من تناقض القياسيين مراعاة بعض الشروط دون بعضها الآخر]
المفسدة العظيمة التي هي منشأ النزاع التي من تأمَّل مقاصد الشريعة علم قصد الشارع لإبطالها وإعدامها إلى المفسدة اليسيرة التي في جعل ما لم يوجد (¬1) تبعًا لما وجد لما فيه من المصلحة؟ وقد اعتبرها الشارع، ولم يأتِ عنه حرف واحد أنه نهى عن بيع المعدوم (¬2)، وإنما نهى عن بيع الغرر (¬3)، والغررُ شيء وهذا شيء، ولا يُسمَّى هذا البيع غررًا لا لغة ولا عرفًا ولا شرعًا (¬4). فصل [من تناقض القياسيين مراعاة بعض الشروط دون بعضها الآخر] وقالت الحنفية والمالكية والشافعية: إذا شَرَطت (¬5) الزوجة أن لا يخرجها الزوج من بلدها أو دارها أو أن لا يتزوج عليها ولا يَتسرَّى فهو شرطٌ باطل، فتركوا محض القياس، بل قياس الأولى، فإنهم قالوا: لو شرطت في المهر تأجيلًا أو غير نقد البلد أو زيادة على مهر المثل لَزِمَ الوفاء بالشرط، فأين المقصود الذي لها في الشرط الأول إلى المقصود الذي في هذا الشرط؟ وأين فواته إلى فواته؟ وكذلك من قال منهم: لو شرط أن تكون جميلة شابة سويَّة فبانت عجوزًا شمطاء قبيحة المنظر أنه لا فسخ لأحدهما بفوات شرطه، حتَّى إذا فات درهم واحد من الصداق فلها الفسخ لفواته قبل الدخول، فإن استوفى المعقود عليه ودخل بها وقضى وَطَره منها ثم فات الصداق جميعه ولم تظفر [منه] (¬6) بحبةٍ واحدةٍ فلا فسخ لها، وقستم الشرط الذي دخلت عليه على شرط أن لا يؤويها ولا يُنفق عليها (¬7)، ¬
[هل يعتبر شرط الواقف مطلقا]
ولا يطأها و (¬1) لا ينفق على أولاده منها ونحو ذلك مما هو من أفسد القياس الذي فرّقت الشريعة بين ما هو أحقُّ بالوفاء منه وبين ما لا يجوز الوفاء به، وجمعتم بين ما فرَّق الشرع والقياس بينهما، وألحقتم (¬2) أحدهما بالآخر، وقد جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الوفاء بشروط النكاح التي يَستحلُّ بها الزوج [فرج] (¬3) امرأته أولى من الوفاء بسائر الشروط على الإطلاق (¬4)، فجعلتموها أنتم دون سائر الشروط وأحقها بعدم الوفاء وجعلتم الوفاء بشرط الواقف المخالف لمقصود الشارع كترك النكاح وكشرط الصلاة في المكان الذي شَرَطَ فيه الصلاة وإن كان وحده وإلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين (¬5)، وقد ألغى الشارع هذا الشرط في النذر الذي هو قُرْبَة محضةٌ وطاعة فلا تتعين عنده بقعة عَيَّنها الناذر للصلاة إلَّا المساجد الثلاثة، وقد شرط الناذر في نذره تعيّنه؛ فألغاه الشارع لفضيلة غيره [عليه] (¬6) أو مساواته له فكيف يكون [شرط الواقف] (¬7) الذي غيره أفضل منه وأحب إلى اللَّه ورسوله لازمًا يجب الوفاء به؟ وتعيين الصلاة في مكان مُعيَّن لم يرغب الشارع فيه ليس بقربة، وما ليس بقربة لا يجب الوفاء به في النذر، ولا يصح اشتراطه في الوقف. [هل يعتبر شرط الواقف مطلقًا] [فإن قلتم: الواقفُ لم يخرج ماله إلَّا على وجه معين، فلزم اتباعُ ما عَيَّنه في الوقف] (¬8) من ذلك الوجه، والناذر قصد القربة، والقُرَبُ متساوية في المساجد غير الثلاثة، فتعيّن (¬9) بعضها لغو. قيل: هذا الفرق [بعينه] (8) يوجب عليكم إلغاء ما لا قربة فيه من شروط ¬
الواقفين (¬1)، واعتبار ما فيه قربة، فإن الواقف إنما مقصوده بالوقف التقريب إلى اللَّه فتقربه بوقفه كتقربه بنذره؛ فإن العاقل لا يبذل ماله إلَّا لما له فيه مصلحة عاجلة أو آجلة؛ والمرء في حياته قد يبذل ماله في أغراضه، مباحة كانت أو غيرها وقد يبذله فيما يقربه إلى اللَّه، وأما (¬2) بعد مماته فإنما يبذله فيما يظن أنه يقرب إلى اللَّه، فلو (¬3) قيل له: "إن هذا المصرف لا يقرب إلى اللَّه [عز وجل] (¬4)، أو إن غيره أفضل وأحب إلى اللَّه منه وأعظم أجرًا" لبادر إليه، ولا ريب أن العاقل إذا قيل له: "إذا بذلت مالك في مقابلة هذه الشروط (¬5) حصل لك أجر واحد، وإن تركته حصل لك أجران" فإنّه يختار ما فيه الأجر الزائد، فكيف إذا قيل له: "إن هذا لا أجر فيه ألبتة" فكيف إذا قيل [له] (¬6): "إنه مخالف لمقصود الشارع مضاد له يكرهه اللَّه ورسوله"؟ وهذا كشرط العزوبية مثلًا وترك النكاح، فإنه شرط لترك واجب أو سنّة أفضل من صلاة النافلة وصومها أو سنَّة دون الصلاة والصوم، فكيف يلزم الوفاء بـ[شرط] (¬7) ترك الواجبات والسنن اتباعًا لشرط الواقف وترك شرط اللَّه ورسوله الذي قضاؤه أحق وشرطه أوثق؟ يوضحه أنه لو شرط في وقفه أن يكون على الأغنياء دون الفقراء كان (¬8) شرطًا باطلًا عند جمهور الفقهاء، قال أبو المعالي الجويني -هو إمام الحرمين-[-رضي الله عنه-] (¬9): ومعظم أصحابنا قطعوا بالبطلان، هذا مع أن وصف الغنى وصف مباح ونعمة من اللَّه وصاحبه إذا كان شاكرًا فهو أَفضل من الفقير مع صبره عند طائفة كثيرة من الفقهاء والصوفية (¬10)، فكيف يلغى هذا الشرط ويصح شرط الترهب (¬11) ¬
[عرض شروط الواقفين على كتاب الله]
في الإسلام الذي أبطله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "لا رهبانية في الإسلام" (¬1)؟ يوضحه أن من شرط التعزُّب فإنما قصد أن تركه أفضل وأحب إلى اللَّه، فقصد أن يتعبد الموقوف عليه بتركه، وهذا هو الذي تبرأ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه بعينه فقال: "مَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مِنِّي" (¬2)، وكان قصد أولئك الصحابة هو قصد هؤلاء الواقفين بعينه سواء، فإنهم قصدوا ترفيه (¬3) أنفسهم على العبادة وترك النكاح الذي يشغلهم تقربًا إلى اللَّه بتركه، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيهم ما قال، وأخبر أنه من رغب عن سنته فليس منه؛ وهذا في غاية الظهور، فكيف يحل الإلزام بترك شيء قد أخبر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَنَّ مَنْ رغب عنه فليس منه؟ هذا ممَّا لا تحتمله الشريعة بوجه. [عَرْض شروط الواقفين على كتاب اللَّه] فالصواب الذي لا تسوغ الشريعة (¬4) غيره عرض شروط الواقفين على كتاب اللَّه سبحانه وعلي شرطه، فما وافق كتابه وشرطه فهو صحيح، وما خالفه ¬
[خطأ القول بأن شرط الواقف كنص الشارع]
كان شرطًا باطلًا مردودًا، ولو كان مئة شرطٍ، وليس ذلك بأعظم من رد حكم الحاكم إذا خالف حكم اللَّه ورسوله، ومن رد (¬1) فتوى المفتي، وقد نص اللَّه سبحانه على رد وصية الجانف في وصيته والآثم فيها، مع أن الوصية تصح في غير قربة، وهي أوسع من الوقف، وقد صرح صاحب الشرع برد كل عمل ليس عليه أمره، فهذا الشرط مردود بنص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) فلا يحل لأحد أن يقبله ويعتبره ويصححه. ثم كيف يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما أخرج الواقف ماله لمن قام بها وإن لم تكن قربة ولا للواقفين فيها غرض صحيح، [وإنما غرضهم ما يقربهم إلى اللَّه] (¬3)، ولا يوجبون الوفاء بالشروط التي إنما بذلت المرأة بَضْعَها للزوج بشرط وفائه لها بها، ولها فيها (¬4) أصح غرض ومقصود، وهي أحق من كل شرط يجب الوفاء به بنص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)؛ وهل هذا إلَّا بخروج (¬6) عن محض القياس والسنّة؟ [خطأ القول بأن شرط الواقف كنص الشارع] ثم من العجب العجاب قول من يقول: إن شروط الواقف كنصوص الشارع، ونحن نبرأ إلى اللَّه من هذا القول، ونعتذر ممَّا جاء به قائله، ولا نعدل بنصوص الشارع غيرها أبدًا، وإن أحسنَّا الظن بقائل هذا القول حُمل كلامه على أنها كنصوص الشارع في الدلالة، وتخصيص عامِّها بخاصها، وحمل مطلقها على مقيدها، واعتبار مفهومها كما يعتبر منطوقها، وأما أن تكون كنصوصه في وجوب الاتِّباع وتأثيم من أخلّ بشيء منها فلا يُظن ذلك بمن له نسبة ما إلى العلم، فإذا كان حكمُ الحاكمِ ليس كنص الشَّارعِ، بل يرد ما خالف حُكمَ اللَّه ورسوله من ذلك، فشرط الواقف إذا كان كذلك كان أولى بالرد والإبطال، ¬
فقد (¬1) ظهر تناقضهم في شروط الواقفين وشروط الزوجات، وخروجهم [فيها] (¬2) عن موجب القياس الصحيح والسنّة، وباللَّه التوفيق. يوضح ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قَسَم يُعطي الآهل حَظَّين والعزب حظًا (¬3)، وقال: "ثلاثةٌ حق على اللَّه عونهم" (¬4) ذكر منهم الناكح يريد العفاف؛ ومصححو هذا الشرط عكسوا مقصوده، فقالوا: نعطيه ما دام عزبًا، فإذا تزوج لم يستحق شيئًا، ولا يحل لنا أن نُعينه؛ لأنَّه ترك القيام بشرط الواقف وإن كان قد فعل ما هو أحبُّ إلى اللَّه ورسوله؛ فالوفاء بشرط الواقف المتضمن لترك الواجب أو السنة المقدمة على فضل الصوم أو (¬5) الصلاة لا يحلُّ (¬6) مخالفته، ومن خالفه كان عاصيًا آثمًا، حتى إذا خالف الأحب إلى اللَّه ورسوله و [خالف] (¬7) الأرضى له كان بارًّا مثابًا قائمًا بالواجب عليه! يوضح بطلان هذا الشرط وأمثاله من الشروط المخالفة لشرع اللَّه ورسوله أنكم قلتم: كلُّ شرط يخالف مقصود العقد فهو باطل، حتى أبطلتم (¬8) بذلك شرط دار الزوجة أو بلدها، وأبطلتم اشتراط البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة، وأبطلتم اشتراط الخيار بعد (¬9) ثلاثة، وأبطلتم اشتراط نفع البائع في المبيع ونحو ذلك من الشروط التي صححها النَّصُّ والآثار عن الصحابة والقياس، كما صَحَّح عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان (¬10) اشتراط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوج عليها (¬11)، ودلَّت السنّة على أن ¬
الوفاء به أحقُّ من الوفاء بكل شرط (¬1)، وكما صححت السنّة اشتراطَ انتفاع البائع بالمبيع مدة معلومة (¬2)، فأبطلتم ذلك، وقلتم: يُخالِف مقتضى العقد، وصححتم الشروط المخالفة [بمقتضى عقد الوقف لعقد الوقف] (¬3)؛ إذ هو عقد قُربة مقتضاه التقريب إلى اللَّه تعالى (¬4) ولا رَيبَ أن شرط ما يخالف القُربة يناقضه مناقضة صريحة؛ فإذا شرط عليه الصلاة في مكان لا يُصلّي فيه إلَّا هو وحده أو واحدٌ بعد واحد أو اثنان فعدوله عن الصلاة في المسجد الأعظم الذي يجتمع فيه جماعة المسلمين مع قربه (¬5) وكثرة جماعته فيتعدَّاه إلى مكان أقل جماعة وأَنقص فضيلة وأقل أجرًا اتباعًا لشرط الواقف المخالف لمُقتضى عقد الوقف خروجٌ عن محض القياس، وباللَّه التوفيق. يوضحه أن المسلمين مُجمعون على أن العبادة في المساجد من الذِّكر والصلاةِ وقراءةِ القرآن أفضلُ منها عند القبور؛ فإذا منعتم فعلها في بُيوتِ اللَّه سبحانه وأوجبتم على الموقوف عليه فعلها بين المقابر إن أراد أن يتناولَ الوقف [وإلا كان] (¬6) تناوله حرامًا كنتم قد ألزمتموه بترك الأحبِّ إلى اللَّه الأنفع للعبد والعدول إلى الأنقص المفضول (¬7) أو المنهي عنه مع مخالفته لقصد الشارع تفصيلًا وقصد الواقف إجمالًا فإنه إنما يقصد الأَرْضى [للَّه] (¬8) والأحبَّ إليه؛ ولما كان في ظنّه أن هذا أرضى للَّه (¬9) اشترط؛ فنحن نظرنا إلى مقصوده ومقصود الشارع، وأنتم نظرتم إلى مجرد لفظه سواء وافق رضا اللَّه ورسوله ومقصوده في ¬
نفسه أو لا، ثم لا يمكنكم طردُ ذلك أبدًا، فإنه لو شَرَط أن يُصلي وحده حتى لا يخالط الناس بل يتوفر على الخلوة والذكر أو شرط أن لا يشتغل بالعلم والفقه ليتوفر على قراءة القرآن وصلاة الليل وصيام النهار أو شرط على الفقهاء ألا يجاهدوا في سبيل اللَّه ولا يصوموا تطوعًا ولا يصلوا النوافل وأمثال ذلك، فهل يمكنكم تصحيحُ هذه الشروط؟ فإن أبطلتموها فعقدُ (¬1) النكاح أفضل من بعضها أو مساوٍ له في أصل القُرْبة، وفعلُ الصلاة في المسجد الأعظم العتيق الأكثر جماعة أفضل (¬2) وذكر اللَّه وقراءة القرآن في المسجد أفضلُ منه بين القبور، فكيف تلزمون بهذه الشروط المفضولة وتبطلون ذلك؟ فما هو الفارق بين ما يصح من الشروط وما لا يصح؟ ثم لو شرط المبيت في المكان الموقوف ولم يشترط التعزُّب فأبحتم له التزويج فطالبته الزوجة بحقها من المبيت وطالبتموه بشرط الواقف منه فكيف تقسمونه بينهما؟ أم ماذا تُقدِّمون: ما أوجبه اللَّه (¬3) ورسوله من المبيت والقَسْم (¬4) للزوجة مع ما فيه من مصلحة الزوجين وصيانة المرأة وحفظها وحصول الإيواء المطلوب من النكاح، أم ما شرطه الواقف وتجعلون شرطه أحق والوفاء به أَلزم؟ أم تمنعونه من النكاح والشارع والواقف لم يمنعاه منه؟ فالحق أن مبيتَهُ عند أهله إن كان أحبَّ إلى اللَّه ورسوله جاز له، بل استحب ترك شرط الواقف لأجله، ولم يمنعه فعل ما يحبه اللَّه ورسوله من تناول الوقف، (¬5) بل ترك ما أوجبه سببًا لاستحقاق الوقف، فلا نص ولا قياس ولا مصلحة للواقف ولا للموقوف عليه ولا مرضاة للَّه ورسوله. والمقصود بيان [بعض] (¬6) ما في الرأي والقياس من التناقض والاختلاف الذي هو من عند غير اللَّه (¬7)؛ لأن ما كان من [عنده فإنه] (¬8) يصدِّق بعضه بعضًا، ولا يخالف بعضه بعضًا، وباللَّه التوفيق. ¬
فصل [هل في اللطمة والضربة قصاص؟]
فصل [هل في اللطمة والضربة قصاص؟] [وقالت الحنفية والشافعية والمالكية ومتأخرو أصحاب أحمد] (¬1): إنه لا قصاص في اللطمة والضربة، وإنما فيه التعزير، وحكى بعض المتأخرين في ذلك الإجماع (¬2)، وخرجوا عن محض القياس وموجب النصوص وإجماع الصحابة؛ فإن ضمان النفوس والأموال مبناه (¬3) على العدل، كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] فأمر بالمماثلة في العقوبة والقصاص؛ فيجب اعتبارها بحسب الإمكان، والأمثل هو المأمور [به] (¬4)؛ فهذا المَلْطُوم المضروب قد اعتُدي عليه، فالواجب أن يَفعل بالمُعْتَدي كما فَعَل به، فإن لم يمكن كان الواجب ما هو الأقرب والأمثل (¬5)، وسقط ما عَجِز عنه العبدُ من المساواة من كل وجه، ولا ريب أن لطمة بلطمة وضربة بضربة في محلهما بالآلة التي لطمه بها أو بمثلها (¬6) أقربُ إلى المماثلة المأمور بها حسًا وشرعًا من تعزيره بها بغير جنس اعتدائه وقدره وصفته، وهذا هو هَدْيُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه الراشدين ومحض القياس [وهو منصوص الإمام أحمد، ومن خالفه في ذلك من أصحابه فقد خرج عن نص مذهبه وأصوله كما خرج عن محض القياس] (¬7) والميزان، قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في [كتابه] (4) "المترجم" له: "باب في القصاص من اللطمة والضربة: حدثني إسماعيل بن سعيد قال: سألتُ أحمد [بن حنبل] (4) عن القصاص من اللطمة والضربة، فقال: عليه القود من اللطمة والضربة" وبه قال أبو داود وأبو خَيْثَمة ¬
وابنُ أبي شيبة، وقال إبراهيم الجوزجاني: وبه أقول: لما حدثنا شَبَابَة بن سَوَّار: ثنا شعبة، عن يحيى بن الحصين قال: سمعتُ طارق بن شهاب يقول: لَطَمَ أبو بكر رجلًا يومًا لطمة، فقال له: اقتصَّ، فعفا الرجل (¬1)، حدثنا شَبَابة: أنبأ شعبة (¬2)، عن مخارق قال: سمعت طارقًا يقول: لطم ابن أخ لخالد بن الوليد رجلًا من مُراد، فأقاده خالد منه (¬3)، حدثنا أبو بَهْز: حدثنا أبو بكر بن عَيَّاش قال: سمعتُ الأعمش، عن كُمَيل بن زياد قال: لطمني عثمان ثم أقادني فعفوتُ (¬4)، حدثني ابن الأصفهاني: حدثنا عبد السلام بن حرب، عن نَاجِيَة، عن عمه يزيد بن عربي قال: رأيت عليًا [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬5) أقاد من لطمة (¬6)، وحدثنا الحُميديُّ: ثنا سفيان: ثنا عبد اللَّه بن إسماعيل بن زياد ابن أخي عمرو بن دينار أن ابن الزبير أقاد من لَطْمة (¬7)، ثنا يزيد بن هارون: أنا الجُريريُّ، عن أبي نَضْرة، عن أبي فراس قال: خطبنا عمر فقال: إني لم أبعث عُمَّالي إليكم ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن إنما بعثتهم ليبلِّغوكم دينكم وسنَّة ¬
نبيكم ويقسموا فيكم فيئكم، فمَنْ فُعل به غير ذلك فليرفعه إليّ فوالذي نفسُ عمر بيده لأقصنَّه منه، فقام إليه (¬1) عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنْ كان رجلٌ [من المسلمين] (¬2) على رعية فأدَّب بعض رعيته لتقصنه منه؟ فقال عمر: ألا أقصه (¬3) منه وقد رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقصُّ من نفسه؟ (¬4) ثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن ابن حَرْملة قال؛ تلاحى رجلان فقال أحدهما: ألم أخنقك حتى سَلَحت؟ فقال: بلى، ولكن لم يكن لي عليك شهود، فاشهدوا على ما قال، ثم رفعه إلى عمر بن عبد العزيز، فأرسل في ذلك إلى سعيد بن المسيب فقال: يخنقُه ¬
كما خَنَقه حتى يُحدث أو يفتدي منه، فافتدى منه بأربعين بعيرًا، فقال ابن كثير: أحسِبُه ذكره عن عثمان (¬1)، ثنا الحسين بن محمد (¬2): ثنا ابنُ أبي ذئب، عن المُطَّلب بن السائب أن رجلين من بني ليث اقتتلا، فضرب أحدهما الآخر فكسر أنفه، فانكسر عظم كَفِّ الضارب، فأقاد أبو بكر من أنف المضروب ولم يُقد من كف الضارب، فقال سعيد بن المسيب: كان لهذا أيضًا القود من كَفِّه، قضى عثمان أن كل مقتتلين [اقتتلا ضمنا ما بينهما، فأقيد منه] (¬3)، فدخل المسجد وهو يقول: يا عباد اللَّه كسر ابنُ المسيب يدي (¬4)، قال الجوزجاني: فهذا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجلة أصحابه فإلى من يركن بعدهم؟ أو كيف يجوز خلافهم؟ ". قلت: وفي "السنن" لأبي داود، والنَّسائي من حديث أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقسم قسمًا أقبل رجل فأكبَّ [عليه] (¬5) فطعنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعُرْجُون كان معه، فجَرحَ وجهه (¬6)، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: تعال فاسْتِقدْ، فقال: بل عفوتُ يا رسول اللَّه (¬7)؛ وفي "سنن" النسائي، وأبي داود، وابن ماجه عن عائشة [-رضي اللَّه عنها-] (5): "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بعث أبا جَهْم بن حُذيفة مُصدقًا (¬8)، فلاحَاه (¬9) رجلٌ في صَدَقتِه، فضربه أبو جَهْم فشجَّه، فأتوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
فقالوا: القودُ يا رسول اللَّه، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لكم كذا وكذا" [فلم يرضوا [به] (¬1)، فقال النبي [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬2): "لكم كذا وكذا" فرضوا، فقال النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنني خاطب [العشية] (1) على الناس ومخبرهم برضاكم" فقالوا (¬4): نعم، فخطب رسول اللَّه (¬5) -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "إن هؤلاء أتوني يُريدون القصاص (¬6)، فعرضت عليهم كذا وكذا، فقال النَّبيُّ] (¬7): فَرَضوا، أرضيتُم؟ " فقالوا (8): لا، فهمَّ المهاجرون بهم، فأمرهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يكفُّوا عنهم، فكفوا عنهم، ثم دعاهم فزادهم، فقال: أرضيتم؟ فقالوا (¬8): نعم، [فقال: إني خاطبٌ على الناس ومخبرُهُم برضاكم، فقالوا: نعم، فخطب النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: أرضيتم؟ قالوا: نعم] " (¬9) وهذا صريحٌ في القَوَدِ في الشَّجّة، ولهذا صولحوا من القود مرة بعد مرة حتى رضوا، ولو كان الواجب الأَرْشُ (¬10) فقط لقال لهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين طلبوا القود: إنه لا حَقَّ لكم فيه (¬11)، وإنما حقكم في الأرش. فهذه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا إجماع الصحابة، وهذا ظاهر القرآن، وهذا محض القياس؛ فعارض المانعون هذا كله بشيء واحد وقالوا: اللطمة والضربة لا يمكن فيهما المماثلة، والقصاص لا يكون إلَّا مع المماثلة. ونَظَرُ الصحابة أكمل وأصح وأتبع للقياس، كما هو اتبع للكتاب والسنّة، فإن المماثلة من كل وجه متعذرة، فلم يبق إلَّا أحد أمرين؛ قصاصٌ قريب إلى المماثلة، أو (¬12) تعزيرٌ بعيد منها، والأول أولى؛ لأنَّ التعزير لا يعتبر فيه جنس الجناية ولا قدرها، بل قد ¬
يُعزِّر بالسوط والعصا، وقد يكون (¬1) لطمه أو ضربه بيده، فأين حرارة السوط ويبسه إلى لين اليد، وقد يزيد وينقص، وفي العقوبة بجنس ما فعله تَحَرِّ للمماثلة (¬2) بحسب الإمكان، وهذا أقربُ إلى العدل الذي أمر اللَّه به وأنزل به الكتاب والميزان: فإنه قصاص بمثل ذلك العضو في مثل المحل الذي ضرب فيه بقَدَرِه، وقد يساويه أو يزيد قليلًا أو ينقص قليلًا، وذلك عفو لا يدخل تحت التكليف، كما لا يدخل [تحت] (¬3) التكليف المساواة في الكيل والوزن في (¬4) كل وجه كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 152] فأمر بالعدل المقدور، وعفا عن غير المقدور منه، وأما التعزيرُ فإنه لا يسمى قصاصًا، فإن لفظ القصاص يدل على المماثلة، ومنه قَصَّ الأثرَ إذا اتَّبَعه وقَصَّ الحديثَ إذا أتى به على وجهه، والمقاصّة: سقوط أحد الدَّيْنين بمثله جنسًا وصفة، وإنما هو تقويم للجناية، فهو قيمة لغير المُثلى، والعدول إليه كالعدول إلى قيمة المتلف (¬5)، وهو ضَربٌ له بغير تلك الآلة في غير ذلك المحل، وهو إما زائدٌ وإما ناقصٌ، ولا يكون مماثلًا ولا قريبًا من المثل، فالأول أقرب إلى القياس، والثاني تقويم للجناية بغير جنسها كبدلِ المُتْلفِ، والنزاع أيضًا فيه واقع إذا لم يوجد مثله من كل وجه كالحيوان والعقار والآنية والثياب وكثير من المعدودات والمذروعات، فأكثر القياسيين (¬6) من أتباع الأئمة الأربعة قالوا: الواجبُ في بدل ذلك عند الإتلاف القيمة، قالوا: لأنَّ المثل في الجنس يتعذَّر (¬7)، ثم طَردَ أصحابُ الرأي قياسهم فقالوا: وهذا هو الواجب في الصيدُ في الحرم والإحرام إنما تجب قيمته لا مثله كما لو كان مملوكًا. ثم طردوا هذا القياس في القرض فقالوا: لا يجوز قرض ذلك لأنَّ موجب القرض رد المثل، وهذا لا مثل له. [ومنهم من خرج عن] (¬8) موجب هذا القياس في الصيد لدلالة القرآن والسنّة وآثار الصحابة [على أنه] (¬9) يضمن بمثله من النعم وهو مثل مقيد بحسب الإمكان وإن لم يكن مثلًا من كل وجه وهذا قول الجمهور منهم مالك والشافعي وأحمد، وهم ¬
يجوِّزون قرض الحيوان أيضًا كما دلت عليه السنّة الصحيحة؛ فإنه قد ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-[في الصحيح] (¬1) أنه استسْلَفَ بَكْرًا وقضى جملًا رباعيًا (¬2)، وقال: "إن خياركم أحسنكم قضاء" (¬3). ثم اختلفوا بعد ذلك في مُوجب قرض الحيوان، هل يجب رَدُّ القيمة أو المثل؟ على قولين، وهما في مذهب أحمد وغيره، والذي دَلَّت عليه سنّة رِسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة الصريحة أنَّه يجب رَدُّ المثل (¬4)، وهذا هو المنصوص عن أحمد، ثم اختلفوا في الغَصْب والإتلاف على ثلاثة أقوال، وهي في مذهب أحمد: أحدها: يضمن الجميع بالمثل بحسب الإمكان، والثاني: يضمن الجميع بالقيمة، والثالث: يضمن الحيوان بالمثل (¬5) وما عداه كالجواهر ونحوها بالقيمة. واختلفوا في الجِدار يُهدم، هل يضمن بقيمته أو يُعاد مثله؟ على قولين، وهما للشافعي، والصحيح ما دلت عليه النصوصُ وهو مقتضى القياس الصحيح، وما عداه فمناقض للنص والقياس (¬6)؛ لأنَّ الجميع يضمن بالمثل تقريبًا، وقد نص اللَّه سبحانه على ضمان الصيد بمثله من النَّعَم، ومعلوم أن المماثلة بين بعير وبعير أعظم من المماثلة بين النَّعامة والبعير وبين شاة وشاة أَعظم منها بين طير ¬
وشاة، وقد رَدَّ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بدل البعير الذي اقترضه مثله [دون قيمته] (¬1) ورد عوض القَصْعَة التي كسرتها بعض أزواجه بقصعة (¬2) نظيرها، وقال: إناءٌ بإناء وطعامٌ (¬3) بطعام (¬4)، فسوَّى بينهما في الضَّمان، وهذا عين العدل ومحض القياس وتأويل القرآن. وقد نص الإمام أحمد على هذا في (مسائل إسحاق بن منصور)، قال إسحاق: قلت لأحمد: قال سفيان: من كسر شيئًا صحيحًا: فقيمته صحيحًا، فقال (¬5) أحمد: إنْ كان يوجدُ مثله فمثله، وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته (¬6)، ونص عليه أَحمد في رواية إسماعيل بن سعيد فقال: سألت أحمد عن الرجل يكسر قصعة الرجل أو عصاه أو يشق ثوبًا لرجل (¬7)، قال: [عليه المثل في العصا والقصعة والثوب، فقلت: [أرأيت] (¬8) إن كان الشق قليلًا، فقال] (¬9): ¬
صاحب الثوب مُخيَّر في ذلك قليلًا كان أو كثيرًا. وقال في رواية إسحاق بن منصور: مَنْ كَسَر شيئًا صحيحًا فإن كان [شيئًا] (¬1) يوجد مثله [رد مثله] (¬2) وإن كان لا يوجد مثله فعليه قيمته، فإذا كَسَر الذهب فإنه يصلحه (¬3) إنْ كان خلخالًا، وإن كان دينارًا أعطى دينارًا آخر مكانه، قال إسحاق: كما قال (¬4)، وقال في رواية موسى بن سعيد (¬5): وعليه المثل في العصا والقَصْعَة والقصبة إذا كسر وفي الثوب، ولا أقول في العبد والبهائم والحيوان، وصاحب الثوب مُخيَّر إن شاء شق الثوب وإن شاء [أخذ] (¬6) مثله، واحتج في رواية ابنه عبد اللَّه (¬7) بحديث أنس فقال حُميد، عن أنس: "أنَّ رسول اللَّه (¬8) -صلى اللَّه عليه وسلم- كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين بقَصْعة (¬9) فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القَصْعة، فأخذَ النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الكسرتين فضم إحداهما (¬10) إلى الأخرى وجعل يجمع فيهما الطعام ويقول: غَارَت أُمُّكم، كلوا، فأكلوا، وجلس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬11) حتى جاءت قصعةُ التي هو في بيتها فدفع القصعة إلى الرسول، وحبس المكسورة ¬
في بيته" والحديث في صحيح البخاري (¬1)، وعند الترمذي فيه: ["فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2): طعام بطعام وإناء بإناء" وقال: حديثٌ صحيحٌ (¬3)، وعند أَبي داود، والنسائي [فيه] (2) قالت عائشة: "فقلت: يا رسول اللَّه ما كفارة ما صنعت؟ قال: إناء مثل إناء وطعام مثل طعام" (¬4)، وهذا هو مذهبه الصحيح عنه عند ابن أبي موسى، قال في "إرشاده" (¬5): ومن استهلك لإنسان (¬6) مَا لَا يُكال ولا يُوزن عليه (¬7) مثله إن وُجد، وقيل: عليه قيمته، وهو اختيار المحققين من أصحابه، وقضى عثمان وابن مسعود على مَنْ استهلك لرجل فصلانًا بفُصلانٍ مثلها (¬8)، وبالمثل قضى شُريح والعنبري، وقال به قتادة وعبد اللَّه بن عبد الرحمن الدَّارمي (¬9)، وهو الحق، وليس مع من أوجب (¬10) القيمة نص ولا إجماع ولا قياس، وليس معهم أكثر ولا أكبر من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أعتق شِرْكًا له في عبد فكان ¬
له من المال ما يَبلغُ ثَمَنَ العبدِ قُوِّمَ عليه [قيمة عدل] ولا وَكْسَ ولا شَطَط (¬1) فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد" (¬2) قالوا: فأوجب (¬3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في إتلاف نصيب الشريك القيمة لا المثل، فقسنا على هذا كل حيوان، ثم عَدَّيناه إلى كل غير مثليّ، قالوا: ولأن القيمة أضبط وأحصر بخلاف المثل، قال الآخرون: أما الحديث الصحيح فعلى الرأس والعين وسمعًا [له] (¬4) وطاعة، ولكن فيما دل عليه، وإلا فيما (¬5) لم يدل عليه ولا أريد به فلا ينبغي أن يُحمل عليه، وهذا التضمين الذي يضمنه ليس [هو] (¬6) من باب تضمين المتلفات، بل هو من باب تملُّك مال الغير بقيمته؛ فإن نصيب الشريك يملكه المُعتق ثم يُعتق عليه، فلا بد من تقدير دخوله في ملكه ليعتق عليه، ولا خلاف بين القائلين بالسراية في ذلك، ولأن (¬7) الولاء له، وإن تنازعوا: هل يسري عقيب عتقه، أو لا يُعتق حتى يُؤدي القيمة، أو يكون موقوفًا فإذا أدى تبيَّن أنه عتق من حين العتق؟ وهي في مذهب الشافعي (¬8)، والمشهور في مذهبه ومذهب أحمد القول الأول (¬9)، وفي مذهب مالك (¬10) القول الثاني، [وعلى هذا الخلاف ينبني (¬11) ما لو أَعتق الشريكُ نَصيبَه ¬
بعد عتق الأول؛ فعلى القول الأول لا يُعتق، وعلي القول الثاني] (¬1) يُعتق عليه ويكون الولاء بينهما، وينبني (¬2) على ذلك أيضًا إذا قال أحد الشريكين: "إذا عتق نصيبك فنصيبي حر" فعلى القول الأول لا يصح هذا التعليق ويعتق نصيبه من مال المعتق، وعلي القول الثاني يصح التعليق ويعتق على المعلق، والمقصود أن التضمين ههنا كتضمين الشفيع [الثمن] (¬3) إذا أخذ بالشفعة، فإنه ليس من باب ضمان الإتلاف، ولكن من باب التقويم للدخول في الملك، لكن الشفيع أَدخل الشارع الشقص (¬4) في ملكه بالثمن باختياره والشريك المعتقُ أدخل الشِّقْص في ملكه بالقيمة بغير اختياره، فكلاهما تمليك: هذا بالثمن، وهذا بالقيمة، فهذا شيء وضمان المتلف شيء، قالوا: وأيضًا فلو سلم أنه ضمان إتلاف لم يدخل على أن العبد الكامل إذا أتلف يضمن بالقيمة، والفرق بينهما أن الشريكين إذا كان بينهما مالًا ينقسم كالعبد والحيوان والجوهرة ونحو ذلك فحقُ كل واحدٍ منهما في نصف القيمة، فإذا (¬5) اتفقا على المُهايأة جاز، وإن تنازعا وتشاحا (¬6) بيعت [العينُ] (¬7) وقسم [بينهما] (¬8) ثمنها على قدر ملكيهما كما يقسم المثلي، فحقهما في المثلي في عينه، وفي المُتقوَّم عند التشاجر والتنازع في قيمته، فلولا أن حقه في القيمة لما أجيب إلى البيع إذا طلبه، وإذا ثبت ذلك [فإذا أَتلف له] (¬9) نصف عبد فلو ضمناه بمثله لفات حَقُّه من نصف القيمة الواجبة له شرعًا عند طلب البيع، والشريك إنما حقه في نصف القيمة، وهما لو [تقاسماه] (¬10) تقاسماه بالقيمة، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالقيمة، وعكسه المثلي لو تقاسماه تقاسماه بالمثل، فإذا أتلف أحدهما نصيب شريكه ضمنه بالمثل، فهذا هو القياس والميزان الصحيح طردًا وعكسًا الموافق للنصوص وآثار الصحابة، ومن خالفه فلا بد له من أحد أمرين: إما مخالفة السنة الصحيحة وآثار الصحابة إن طرد قياسه، وإما التناقض البيّن إن لم يطرده (¬11). ¬
فصل [حكومة النبيين الكريمين داود وسليمان]
فصل [حكومة النَّبيَّين الكريمين داود وسليمان] وعلي هذا الأصل تنبني الحكومة المذكورة في كتاب اللَّه [عز وجل] (¬1) التي حكم فيها النَّبيّان الكريمان داود وسليمان صلى اللَّه عليهما وسلم؛ إذ حكما في الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، والحرث: هو البستان، وقد رُوي أنه كان بستان عنب، وهو المُسمَّى بالكرم، والنَّفش: رعيُ الغنم ليلًا، فحكم داود بقيمة المُتْلَف، فاعتبر الغنم فوجدها بقدر القيمة، فدفعها إلى أصحاب الحرث، إما لأنهم (¬2) لم يكن لهم دراهم أو تعذر بيعها [ورضوا بدفعها] (1) ورَضي أولئك بأخذها بدلًا عن القيمة، وأما سليمان فقضى بالضمان على أصحاب (¬3) الغَنَم أن يضمنوا ذلك بالمثل بأن يَعْمروا البُستان حتى يعود كما كان، ولم يُضيّع عليهم مغله من (¬4) الإتلاف إلى حين العود، بل أعطى [أصحاب البستان] (¬5) ماشية أولئك ليأخذوا من نمائها بقدر نماء البستان فيستوفوا من نماء غنمهم نظير ما فاتهم من نَماءِ حَرْثهم، وقد اعتبر النماءين فوجدهما (¬6) سواء، وهذا هو العلم الذي خصَّه اللَّه به وأثنى عليه بإدراكه (¬7). وقد تنازع علماء المسلمين في مثل هذه القضية (¬8) على أربعة أقوال: أحدها: موافقة الحكم السُّليْمَاني في ضمان النَّفش وفي المثل (¬9)، وهو ¬
الحقُّ (¬1)، وهو أحد القولين في مذهب أَحمد، ووجه للشافعية والمالكية، والمشهور عنهم (¬2) خلافه. والقول الثاني: موافقته في ضمان النفش دون التضمين بالمثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك (¬3) والشافعي (¬4) وأحمد (¬5). والثالث: موافقته في التضمين بالمثل دون النفش كما إذا رَعَاها صاحبُها باختياره دون ما إذا انفلتت (¬6) ولم يشعر بها، وهو قول داود ومن وافقه (¬7). والقول الرابع: أن النفش لا يوجب الضمان بحال، وما وَجبَ من ضمان الراعي بغير النفش فإنه يضمن بالقيمة لا بالمثل، وهذا مذهب أبي حنيفة (¬8). وما حَكمَ به نبيُّ اللَّه سليمان هو الأقرب إلى العدل والقياس، وقد حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن على أهل الحَوائطِ حِفْظَهَا بالنهار وأَن ما أفسدت المواشي بالليل ضمانه على أهلها (¬9)، فصح بحكمه ضمان النفش، وصح بالنصوص السابقة ¬
[ما يفعل بالجاني على النفس]
والقياس الصحيح وجوب الضمان بالمثل، وصح بنص الكتاب الثناء على سليمان بتفهيم هذا الحكم، فصح أَنه الصواب، وباللَّه التوفيق. [ما يُفعل بالجاني على النفس] ومن ذلك المماثلة في القصاص في الجنايات الثلاث على النفوس والأموال والأعراض؛ فهذه ثلاث مسائل: [الأولى]: هل يُفعل بالجاني كما يُفعل بالمجني عليه (¬1)؟ فإن كان الفعل ¬
محرمًا لِحقِّ اللَّه كاللواط وتجريعه الخمر لم يُفعل به كما فعل اتفاقًا؛ وإن كان غير ذلك كتحريقه بالنار وإلقائه في الماء ورض رأسه بالحجر ومنعه من الطَّعام والشَّراب حتى يموت فمالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه يَفعلون به كما فَعَل، ولا فَرْق بين الجرح (¬1) المزهق وغيره، وأبو حنيفة وأحمد في رواية عنه يقولان (¬2): لا يقتل إلا بالسيف في العنق خاصة، وأحمد في رواية ثالثة يقول: إن كان الجرح مزهقًا فُعل به كما فَعَل، وإلا قُتِل بالسيف، وفي الرواية الرابعة يقول: إن كان مُزهقًا أو موجبًا للقود بنفسه لو انفرد فُعل به كما فَعل، وإن كان غير ذلك قُتل بالسيف، والكتاب والميزان مع القول الأول، وبه جاءت السنّة (¬3)، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رضَّ رأس اليهودي بين حجرين كما فعل بالجَارِية (¬4)، وليس هذا قتلًا لنقضه العهد [لأن ناقض العهد] (¬5) إنما يقتل (¬6) بالسيف في العنق، وفي أَثر مرفوع: "مَنْ حرّق حَرَّقناه، ومن غرَّق غرَّقناه" (¬7) وحديث: "لا قَوَدَ إلا بالسيف" (¬8) ¬
[ضمان إتلاف المال]
قال الإمام أحمد: ليس إسناده بجيد، والثابت عن الصحابة أنه يُفعل به كما فَعَل، فقد اتفق على ذلك الكتاب والسنّة والقياس وآثار الصحابة، واسم القصاص يقتضيه لأنه يستلزمُ المُماثَلة. [ضمان إتلاف المال] المسألة الثانية: إتلاف المال؛ فإن كان ممَّا له حُرمة كالحيوان والعبيد (¬1) ¬
فليس له أن يُتلف ماله كما أَتلف مَالَه، وإن لم تكن له حُرمة كالثوب يشقُّه والإناء يكسره فالمشهور أنه ليس له أَن يُتلف عليه نظير ما أتلفه، بل له القيمة في (¬1) المثل كما تقدم، والقياس يقتضي أن له أن يفعل بنظير ما أتلفه عليه كما فعله الجاني [به] (¬2)؛ فيشق ثوبه كما شق ثوبه، ويكسر عصاه كما كسر عصاه إذا كانا متساويين، وهذا من العدل، وليس مع من منعه نص ولا قياس ولا إجماع! فإن هذا ليس بحرام لِحقِّ اللَّه، وليست حرمة المال أعظم من حرمة النفوس والأطراف، وإذا مَكَّنه الشارع أن يُتلف طَرَفَه بِطرفه فتمكينه من إتلاف ماله في مقابلة ماله (¬3) هو أولى وأحرى، وإن حكمةَ القصاص من التَّشَفِّي ودرك الغَيْظ (¬4) لا تحصل إلا بذلك، ولأنه قد يكون له غرض في أذاه وإتلافِ ثيابه ويعطيه قيمتها، ولا يشق ذلك عليه لكثرة ماله، فيَشفي نفسَه منه (¬5) بذلك، وَيبقى المجني عليه بُغبنهِ وغيظِه، [فكيف يقع إعطاؤه القيمة من شفاء غيظه ودَرْك ثأره] (¬6) وبَرْد قلبه وإذاقة الجاني من الأذى ما ذاق هو (¬7)؟ فحكمة هذه الشريعة الكاملة الباهرة وقياسها [معًا] (2) يأبى ذل وقوله: {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، [وقوله] (2): {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يقتضي جواز ذلك، وقد صَرَّح الفُقهاء بجواز إحراق زروع (¬8) الكفار وقطع أشجارهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا، وهذا عين المسألة، وقد أقرّ اللَّه [سبحانه] (2) الصحابة على قطع نخل اليهود لما فيه من خِزْيِهِم (¬9)، وهذا يدل على أنه (¬10) سبحانه يُحبُّ خزي الجاني الظالم ويشرعُه، وإذا جَازَ تحريق متاع الغَالّ (¬11) لكونه تعديَّ على المسلمين في خيانتهم في شيء ¬
[كيف يجزى الجاني على العرض؟]
من الغنيمة فلأن يُحرق مالُه إذا حَرقَ مالَ المسلم المعصوم أولى وأحرى، وإذا شُرعت العقوبة المالية (¬1) في حَقِّ اللَّه الذي مسامحته به أكثر من استيفائه فلأن تُشرع في حق العبد الشحيح أولى وأحرى، ولأن اللَّه سبحانه شرع القصاص زجرًا للنفوس عن العدوان، وكان من الممكن أن يوجبَ الدية استدراكًا لظلامة المجني عليه بالمال، ولكن ما شرعه أَكمل وأَصلح للعباد، وأشفى لغيظ المجني عليه (¬2)، وأحفظ للنفوس والأطراف، وإلا فمن كان في نفسه من الآخر مِنْ قَتْله وقَطْع (¬3) طرفه قَتَله وقَطَع (3) طَرَفَه وأعطى ديته، والحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك، وهذا بعينه موجود في العدوان على المال. فإن قيل: فهذا ينجبرُ (¬4) بأن يعطيه نظيرَ ما أتلفه عليه. قيل: إذا رضي المجني عليه بذلك فهو كما لو رضي بدية طرفه، [فهذا هو محض القياس] (¬5)، وبه قال الأحمدان: أحمد بن حنبل وأحمد ابن تيمية (¬6)، قال في رواية موسى بن سعيد: وصاحب الشيء مُخيَّر (¬7)، إن شاء شَقَّ الثوبَ، وإن شاء [أخذ] (¬8) مثله. [كيف يُجزى الجاني على العرض؟] المسألة الثالثة: الجناية على العِرْض، فإن كان حرامًا في نفسه كالكذب عليه وقَذفهِ وسَبِّ والديه فليس له أن يَفعل به كما فُعل به اتفاقًا، وإن سَبَّه في نفسه أو ¬
سَخِرَ به أو هزأ به أو بال عليه أو بصق عليه أو دعا عليه فله أن يفعل به نظير ما فعل به متحريًا للعدل، وكذلك إذا كسعه أو صفعه فله أن يستوفيَ منه نظير ما فعل به سواء، وهذا أَقرب إلى الكتاب والميزان وآثار الصحابة من التعزير المخالف للجناية جنسًا ونوعًا (¬1) وقدرًا وصفة، وقد دلّت السنّة الصحيحة الصريحة على ذلك، فلا عبرة بخلاف من خالفها؛ ففي "صحيح البخاري": "أن نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَرسلنَ زَيْنب بنت جحش إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تكلمه في شأن عائشة، فأتته فأغلظت، وقالت: إن نساءَك يَنْشُدنك العَدْلَ في بنت (¬2) ابن أبي قُحافة، فرَفَعت صوتَها حتى تناولت عائشة وهي قاعدة، فسبَّتها، حتى إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لينظر إلى عائشة هل تتكلم، فتكلمت عائشة ترد على زينب حتى أسكتتها، قالت: فنظر النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى عائشة وقال: إنها بنتُ أبي بكر" (¬3)، وفي "الصحيحين" [في] (¬4) هذه القصة، قالت عائشة: فأرسل أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زينب بنت جحش زوج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-وهي التي كانت تُساميني في المنزلة عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت الحديث، وقالت: ثم وقعت فيَّ، فاستطالت عليَّ، وأنا أرقبُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأرقبُ طَرفَه: هل يأذن لي فيها؟ قالت: فلم تبرح زينب حتى عرفت أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يكره أن أَنتصر، فلما وقعت بها لم أَنْشَبها حتى أنحيت عليها (¬5)، قالت: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتبسَّم: "إنها ابنةُ أبي بكر"، وفي لفظ [فيهما]: "فلم أنشبها أن أثخنتها غلبة" (¬6) وقد حكى اللَّه سبحانه عن يوسف الصديق إنه قال لإخوته: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا [وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ] (¬7)} [يوسف: 77] لما قالوا: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} (¬8) [يوسف: 77] ¬
فصل [قوة أدلة الفريقين تحتاج إلى نظر دقيق]
للمصلحة (¬1) التي اقتضت كتمان الحال، ومن تأمل الأحاديث رأى ذلك فيها كثيرًا جدًا، وباللَّه التوفيق. فصل [قوة أدلة الفريقين تحتاج إلى نظر دقيق] قالوا: وهذا غَيْضٌ من فيضٍ، وقطرة من بحر، من تناقض القياسيين (¬2) الآرائيين وقولهم بالقياس وتركهم لما هو نظيره من كل وجه أو أولى منه (¬3) وخروجهم في القياس عن موجب القياس، كما أوجب لهم مخالفة السنن والآثار كما تقدم الإشارة إلى بعض ذلك، فليوجدنا القياسيون (¬4) حديثًا واحدًا صحيحًا [صريحًا] (¬5) غير منسوخ قد خالفناه لرأي أو قياس أو تقليد رجل، ولن يجدوا إلى ذلك سبيلًا، فإن كان مخالفةُ القياس ذنبًا (¬6) فقد أريناهم مخالفته صريحًا، ثم نحن أسعدُ الناس بمخالفته منهم؛ لأنا إنما خالفناه للنصوص؛ وإن كان حقًا فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فانظر إلى هذين البَحْرين اللذين قد تلاطمت أمواجهما، والحزبين اللذين قد ارتفع في مُعتركِ الحَرْب عَجَاجُهما، فجرَّ كلُّ منهما جيشًا من الحجج لا تقوم له الجبال، وتتضاءل له شجاعةُ الأبطال، وأدلى كل منهما (¬7) من الكتاب والسنة والآثار بما خضعت له الرقاب، وذَلَّت له الصِّعاب، وانقاد له علم كل عالم، ونفَّذَ (¬8) حكمه كلُّ حاكم، وكان نهاية قدم الفاضل النحرير الراسخ في العلم أن يفهم عنهما ما قالاه، ويحيط علمًا بما أضَّلاه وفضَّلاه؛ فليعرف الناظر في هذا المقام قدره، ولا يتعدى طوره، وليعلم أن وراء سويقتيه (¬9) بحارًا طامية، وفوق مرتبته في العلم مراتب فوق السُّهى (¬10) عالية، فمن وثق من نفسه بأنه (¬11) من ¬
فصل [القول الوسط بين الفريقين]
فرسان هذا الميدان، وجملة هؤلاء الأقران، فليجلس مجلس الحكم بين الفريقين، ويحكم بما يرضي اللَّه ورسوله بين هذين الحزبين، فإن الدين كله للَّه، وإن الحكم إلا للَّه، ولا ينفع في هذا المقام: قاعدة المذهب كيت وكيت، وقطع به جمهورٌ [من] (¬1) الأصحاب، وتحصَّل لنا في المسألة كذا وكذا وجهًا، [و] (1) صحح هذا القول خمسة عشر، وصحح الآخر سبعة، وإن على نسبُ علمه قال: "نصَّ عليه" (¬2) فانقطع النزاع، ولزم ذلك النص في قرن الإجماع (¬3)، واللَّه المستعان وعليه التكلان. فصل [القول الوسط بين الفريقين] قال المتوسطون بين الفريقين: قد ثَبتَ أن اللَّه سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان، [فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه فالميزان] (¬4) الصحيح لا يتناقض في نفسه ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض (¬5) دلالة النصوص الصحيحة، ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصحيح (¬6) والقياس الصحيح، بل كلها متصادقة متعاضدة متناصرة يصدق بعضها بعضًا، ويشهد بعضها لبعض؛ فلا يناقض القياس الصحيح النص الصحيح أبدًا، ونصوص الشارع نوعان: أخبار، وأوامر، فكما أن أخباره لا تخالف العقل (¬7) الصحيح، بل هي نوعان: نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة أو جملة وتفصيلًا، ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة، فهكذا أوامره سبحانه نوعان: نوع يشهد به القياس والميزان، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه، كما (¬8) أن القسم الثالث ¬
[إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين]
في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقلُ الصحيحُ (¬1) فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح. [إحاطة الأوامر الشرعية بأفعال المكلفين] وهذه الجملة إنما تنفصل بعد تمهيد قاعدتين عظيمتين: إحداهما (¬2) أن الذِّكر الأمري محيطٌ بجميع أفعال المكلفين أمرًا ونهيًا وإذنًا وعفوًا، كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علمًا وكتابةً وقدرًا، فعلمه وكتابه وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده وأمره ونهيه وإباحته وعفوه [الواقعة تحت التكليف وغيرها] (¬3)، قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية، فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري (¬4)، فقد بَيِّن اللَّه سبحانه على لسان رسوله بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمره (¬5) به وجميع ما نهى عنه وجميع ما أحلَّه وجميع ما حرمه وجميع ما عفا عنه، وبهذا يكون دينه كاملًا كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي] (¬6)} [المائدة: 3] ولكن قد يقصُر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص وعن وجه الدلالة وموقعها (¬7)، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن اللَّه ورسوله، لا يحصيه إلا اللَّه، ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقدام العلماء في العلم، ولما خص اللَّه سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى (¬8) عليه وعلي داود بالعلم والحُكْم (¬9)، وقد قال عمر لأبي موسى في كتابه إليه "الفَهْمَ الفَهْمَ فيما أُدلي إليك" (¬10)، وقال علي: "إلا فهمًا يؤتيه اللَّه عبدًا في كتابه" (¬11)، وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬12) ودعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن عباس أن ¬
فصل اختلفوا هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث
يُفَقِّهه (¬1) في الدين ويعلمه التأويل (¬2)، والفرق بين الفقه والتأويل أن الفقه هو فهمُ المعنى المراد (¬3)، والتأويل إدراك الحقيقة التي يؤول إليها المعنى التي هي آخيَّتُه وأصله، وليس كل من فقه في الدين عرف التأويل، فمعرفة التأويل يختص به الراسخون في العلم، وليس المراد به تأويل التحريف وتبديل المعنى؛ فإن الراسخين في العلم يعلمون بُطلانَه، واللَّه يعلم بطلانه. فصل [اختلفوا هل تحيط النصوص بحكم جميع الحوادث. رأي الفرقة الأولى] والناس انقسموا في هذا الموضع إلى ثلاث فرق: فرقة قالت: [إن] (¬4) النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، وغلا بعض هؤلاء حتى قال: ولا بعُشر معشارها (¬5)، قالوا: فالحاجة إلى القياس فوق الحاجة إلى النصوص، ولعمرُ اللَّه إن هذا مقدار [النصوص في] (¬6) فهمه وعلمه ومعرفته لا مقدارها في نفس الأمر، واحتج هذا القائل بأن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، وهذا احتجاج فاسد [جدًا] (4) من وجوه: أحدها: أن مالا تتناهى أفراده لا يمتنع أن يُجعل أنواعًا، فيُحكم لكل نوع منها بحكم واحد فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع. الثاني: أن أنواع الأفعال بل والأعراض كلها متناهية. الثالث: أنه لو قُدِّر عدم تناهيها فإن أفعال (¬7) العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية، وهذا كما تُجعل الأقارب نوعين: نوعًا مباحًا، وهو بنات العَمِّ والعمة وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام، وكذلك تجعل ما ينقض الوضوء محصورًا، وما سوى ذلك لا ينقضه، وكذلك ما يفسد الصوم، وما يوجب الغسل وما يوجب العدة، وما يُمنع منه المحرمُ، وأمثال ذلك، وإذا كان أرباب المذاهب ¬
يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يَحلُّ ويَحرمُ عندهم مع قصور بيانهم فاللَّه ورسوله المبعوث بجوامع الكلم أقدر على ذلك، فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- يأتي بالكلمة الجامعة وهي قاعدة عامة وقضية كليَّة تجمع أنواعًا وأفرادًا وتدل دلالتين دلالة طرد ودلالة عكس. وهذا كما سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه عن أنواع من الأشربة كالبتْع والمِزْر (¬1)، وكان قد أوتي بجوامع الكلم فقال: "كل مسكر حرام" (¬2)، و"كُلُّ عملٍ ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" (¬3)، و"كُل قرضٍ جر نفعًا فهو ربا" (¬4)، و"كُلُّ شرطٍ ليس في كتاب اللَّه فهو ¬
باطلٌ" (¬1)، و"كل المسلم على المسلم حرام دمُه وماله وعرضه" (¬2)، و"كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" (¬3)، و"كل مُحدثةٍ بدعة وكل بدعة ضلالة" (¬4)، ¬
و"كُلُّ معروفٍ صدقة" (¬1) وسَمَّى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الآية جامعة فاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} (¬2) [الزلزلة: 7، 8] ومن هذا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)} [المائدة: 90] فدخل في الخمر كل مسكرٍ، جامدًا كان أو مائعًا، من العنب أو من غيره، ودخل في الميسر كل أكل مالٍ بالباطل، وكل عمل محرم يُوقع في العداوة والبغضاء ويصدُ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، ودخل في قوله (¬3): {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] كل يمين منعقدة، ودخل في قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] كل طَيّبٍ من المطاعم والمشارب والملابس والفروج، ودخل في قوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ما لا تُحصى أفراده من الجنايات وعقوباتها حتى اللَّطمة والضَّربة والكَسْعة كما فهم الصحابة، ودخل في قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} [الأعراف: 33] تحريم كل فاحشة ظاهرة وباطنة، وكل ظلم وعدوان في مال أو نفس أو عرض، وكل شرك باللَّه وإن دَقَّ في قول أو عمل أو إرادة بأن يُجعل للَّه عدلًا بغيره (¬4) في اللفظ أو القصد أو الاعتقاد، [وكل قول على اللَّه لم] (¬5) يأتِ به نصٌّ عنه ¬
فصل الفرقة الثانية
ولا عن رسوله في تحريم أو تحليل أو إيجاب أو إسقاط أو خبر عنه باسم أو صفة نفيًا أو إثباتًا، أو خبرًا عن فعله؛ فالقول عليه بلا علم حرام في أفعاله وصفاته ودينه، ودخل في قوله {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، وجوبه في كل جرح يمكن القصاص منه، وليس هذا تخصيصًا، بل هذا (¬1) مفهومٌ من قوله: {قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وهو المماثلة، ودخل في قوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وجوب نفقة الطفل وكسوته ونفقة مرضعته على كل وارث قريبٍ أو بعيدٍ، ودخل في قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] جميع الحقوق التي للمرأة وعليها، وأن مرد ذلك إلى ما يتعارفه الناس بينهم ويجعلونه معروفًا لا منكرًا، والقرآن والسنة كفيلان بهذا أتم كفالةٍ. فصل الفرقة الثَّانية قابلت هذه الفرقة، وقالت: القياس كُلُّه باطلٌ، محَرَّم في الدين، ليس منه، وأنكروا القياس الجلي الظَّاهر حتى فرقوا بين المتماثلين، وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئًا لحكمة أصلًا، ونفوا تعليل خلقه وأمره، وجَوَّزوا -بل جزموا- بأنه يُفرّق بين المتماثلين، ويقرن بين المختلفين في القضاء [والشرع، وجعلوا كل مقدور فهو عدل، والظلم عندهم هو] (¬2) الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين. هذا (¬3) وإن كان قاله طائفة من أهل الكلام المنتسبين إلى السنة في إثبات القدر، [وخالفوا القدرية والنفاة؛ فقد أصابوا في إثبات القدر وتعليق] (¬4) المشيئة الإلهية بأفعال العباد الاختيارية كما تتعلق بذواتهم وصفاتهم، وأصابوا في إثبات (¬5) تناقض القدرية النفاة، ولكن (¬6) ردّوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سَلَّطوا عليهم به خصومهم، وصاروا ممن رد بدعة ببدعة، وقابل الفاسد بالفاسد، ومكَّنوا خصومهم بما نفوه من الحق من الرد عليهم، وبيان تناقضهم، ومخالفتهم الشرع والعقل. ¬
فصل الفرقة الثالثة
فصل الفرقة الثالثة (¬1) قوم نفوا الحكمة والتعليل والأسباب، وأقروا بالقياس كأبي الحسن الأشعري وأتباعه ومن قال بقوله من الفقهاء أتباع الأئمة، وقالوا: إن علل الشرع إنما هي مجرد أمارات وعلامات محضة كما قالوه في ترك الأسباب. وقالوا: إن الدعاء علامة محضة على حصول المطلوب، لا أنه سَببٌ فيه، والأعمال الصالحة والقبيحة علاماتٌ محضة ليست سببًا في حصول الخير والشر، وكذلك جميع ما وجدوه من الخلق والأمر مقترنًا بعضه ببعض قالوا: أحدهما دليل على الآخر، مقارنٌ له اقترانًا عاديًا، وليس بينهما ارتباط سببية ولا علة ولا حكمة، ولا له فيه تأثير بوجه من الوجوه. وليس عند أكثر الناس غير أقوال هؤلاء الفرق الثلاثة (¬2)، وطالب الحق إذا رأى ما في هذه الأقوال من الفساد والتناقض والاضطراب ومناقضة بعضها لبعض [ومعارضة بعضها لبعض] (¬3) بقي في الحيرة، فتارة يتحيز إلى فرقة منها له ما لها وعليه ما عليها، وتارةً يتردد بين هذه الفرق تميميًا (¬4) مرَّة وقيسيًا أخرى، وتارة يَلقى الحرب بينهما ويقف في النظارة (¬5)، وسبب ذلك خفاء الطريقة المثلى والمذهب الوسط الذي هو في المذاهب كالإسلام في الأديان، وعليه سلف الأمة وأئمتها والفقهاء المعتبرون من إثبات الحِكَم والأسباب والغايات المحمودة في خلقه سبحانه وأمره، وإثبات لام التعليل وباء السببية في القضاء والشرع كما دلت عليه النصوص مع صريح العقل والفطرة واتفق عليه الكتاب والميزان. ومن تأمل كلام سلف الأمة وأئمة أهل السنة رآه يُنكر قول الطائفتين المنحرفتين عن الوسط؛ فينكر قول المعتزلة المكذبين بالقدر، وقول الجهمية المنكرين للحِكَم والأسباب والرحمة، فلا يرضون لأنفسهم بقول القدرية المجوسية، ولا بقول القدرية الجبرية نفاة الحكمة والرحمة والتعليل، وعامة البدع المحدثة (¬6) في أصول الدين من قول هاتين الطائفتين الجهمية والقدرية، والجهمية ¬
[النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث]
رؤوس الجبرية وأئمتهم أنكروا حكمة اللَّه ورحمته وإن أقروا بلفظ مجرد فارغ عن حقيقة الحكمة والرحمة، والقدرية النفاة أنكروا كمال قدرته ومشيئته؛ فأولئك أثبتوا نوعًا من [الملك بلا حمد، وهؤلاء أثبتوا نوعًا من] (¬1) الحمد بلا ملك؛ فأنكر أولئك عُمومَ حَمْدِه، وأنكر هؤلاء عموم مُلكه، وأثبت له الرسل وأتباعهم عموم الملك وعموم الحمد كما أثبته لنفسه؛ فله كمال الملك وكمال الحمد؛ فلا يخرج عينٌ ولا فعلٌ عن قدرته ومشيئته وملكه، وله في كل ذلك حكمة وغاية مطلوبة يستحق عليها الحمد، وهو في عموم قدرته ومشيئته وملكه على صراطٍ مستقيم، وهو حمده الذي يتصرف في ملكه به لأجله (¬2). والمقصود أنهم كما انقسموا ثلاث (¬3) فرق في هذا الأصل انقسموا في فرعه -وهو القياس- إلى ثلاث فرق: فرقة أنكرته بالكلية، وفرقة قالت به وأنكرت الحِكَم والتعليل والأسباب (¬4)؛ والفرقتان أخلت النصوص عن تناولها لجميع أحكام المكلفين (¬5) وأنها أحالت على القياس، ثم قالت غلاتهم: أحالت عليه أكثر الأحكام، وقال متوسطوهم: بل أحالت عليه كثيرًا من الأحكام لا سبيل إلى إثباتها (¬6) إلا به. [النصوص محيطة بأحكام جميع الحوادث] والصواب وراء ما عليه الفرق الثلاث، وهو أن النصوص محيطة بأحكام الحوادث، ولم يُحِلنا اللَّه ولا رسوله (¬7) على رأي ولا قياس، بل قد بين الأحكام كلها، والنصوص كافية وافية بها، والقياس الصحيح حق مطابق (¬8) للنصوص، فهما دليلان: الكتاب والميزان، وقد تخفى دلالةُ النص أو لا تبلغ العالم فيعدل إلى القياس، ثم قد يظهر موافقًا للنص فيكون قياسًا صحيحًا، وقد يظهر مخالفًا له فيكون فاسدًا؛ وفي نفس الأمر (¬9) لا بد من موافقته أو مخالفته، ولكن عند المجتهد قد تخفى موافقته أو مخالفته. ¬
فصل [الرد على الفرق الثلاث]
فصل [الرد على الفرق الثلاث] وكل فرقة من هذه (¬1) الفرق سَدُّوا على أنفسهم طريقًا من طرق الحق؛ فاضطروا إلى توسعة طريق أخرى أكثر ممَّا تحتمله؛ فنفاة القياس لما سدّوا على أنفسهم (¬2) باب التمثيل والتعليل واعتبار الحِكَم والمصالح وهو من الميزان والقسط الذي أنزله اللَّه احتاجوا إلى توسعة الظاهر والاستصحاب، فحمَّلوهما فوق الحاجة ووسعوهما أكثر مما يَسعَانه، فحيث (¬3) فهموا من النص حكمًا أثبتوه ولم يبالوا بما وراءه، وحيث [لم يفهموا منه نفوه، وحملوا الاستصحاب] (¬4)، وأحسنوا في اعتنائهم بالنصوص ونصرها (¬5)، والمحافظة عليها، وعدم تقديم غيرها عليها من رأي أو قياس أو تقليد، وأحسنوا في رد الأقيسة الباطلة، وبيانهم تناقض أهلها في نفس القياس وتركهم له، وأخذهم بقياس وتركهم ما هو أولى منه. ولكن أخطأوا من أربعة أوجه: أحدها: رد القياس الصحيح، ولا سيما المنصوص على علته التي يجري النص عليها مجرى التنصيص على التعميم باللفظ، ولا يتوقف عاقل في أن قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما لعن عبدَ اللَّه حِمَارًا (¬6) على كثرة شُرْبه للخمر: "لا تلعنه، فإنه يُحِبُّ اللَّه ورسوله" (¬7) بمنزلة قوله: لا تلعنوا كل من يحب اللَّه ورسوله، وفي أن قوله: "إن اللَّه ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحُمُرِ فإنها رِجْسٌ" (¬8) بمنزلة قوله: ¬
[الاستصحاب: معناه وأقسامه]
ينهيانكم (¬1) عن كل رجس، وفي أن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] نهي عن كل رجس، وفي [أن] (¬2) قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في الهِرِّ (¬3): "ليست بنَجَس إنها من الطَّوافين عليكم والطوافات" (¬4) بمنزلة قوله: كل ما هو من الطوافين عليكم والطوافات فإنه ليس بنجس (¬5)؛ ولا يستريب أحد في أن من قال لغيره: "لا تأكل من هذا الطعام فإنه مسموم"، نَهْي [له] (¬6) عن كل طعام كذلك، وإذا قال: "لا تشرب هذا الشراب فإنه مسكر" نَهْي له عن كل مسكر، و"لا تتزوج (¬7) هذه المرأة فإنها فاجرة" وأمثال ذلك. الخطأ الثاني: تقصيرهم في فهم النصوص؛ فكم من حُكم دَلَّ عليه النص ولم يفهموا دلالته عليه، وسبب هذا الخطأ حصرهم الدلالة في مجرد ظاهر اللفظ، دون إيمائه وتنبيهه وإشارته وعُرفه عند المخاطبين، فلم يفهموا من قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] ضربًا ولا سبًا ولا إهانة غير لفظة أف، فقصَّروا في فهم الكتاب كما قصَّروا في اعتبار الميزان. الخطأ الثالث: تحميل الاستصحاب فوق ما يستحقه، وجزمهم بموجبه؛ لعدم علمهم بالناقل، وليس عدم العلم علمًا بالعدم. [الاستصحاب: معناه وأقسامه] وقد تنازع الناس في الاستصحاب، ونحن نذكر أقسامه ومراتبها (¬8) ¬
[استصحاب البراءة الأصلية]
فالاستصحابُ: استفعالٌ من الصحبة، وهي استدامة إثبات ما كان ثابتًا أو نفي ما كان منفيًا (¬1)، وهو ثلاثة أقسام: استصحاب البراءة الأصلية، واستصحاب الوصف المُثْبت للحكم الشرعي حتى يثبت (¬2) خلافه، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. [استصحاب البراءة الأصلية] فأما النوع الأول (¬3) فقد تنازع الناسُ فيه: فقالت طائفة من الفقهاء والأصوليين: إنه يصلح للدفع لا للإبقاء، كما قاله بعض الحنفية، ومعنى ذلك أنه يصلح لأن يدفع به من ادعى تغيير الحال [لا] (¬4) لإبقاء الأمر على ما كان، فإن بقاءه على ما كان إنما هو مستند إلى موجب الحكم، لا إلى عدم المُغيِّر له، فإذا لم نجد دليلًا ناقلًا ولا مثبتًا (¬5) أمسكنا، لا نثبت الحكم ولا ننفيه، بل ندفع (¬6) بالاستصحاب دعوى مَنْ أثبته (¬7)، فيكون حالُ المتمسك بالاستصحاب كحال المعترض مع المستدل؛ فهو يمنعه الدلالة حتى يثبتها، لا أنه (¬8) يقيم دليلًا على نفي ما ادعاه، وهذا غير حال المعارض؛ فالمعارض لون والمعترض لون، فالمعترض يمنع دلالة الدليل، والمعارض يسلم دلالته ويقيم دليلًا على نقيضه (¬9)، وذهب الأكثرون من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلى أنه يصلح لإبقاء الأمر على ما كان عليه، [قالوا: لأنَّه إذا غلب على الظن انتفاء الناقل غلب على الظن بقاء الأمر على ما كان عليه] (¬10). [استصحاب الوصف المثبت للحكم] ثم النوع الثاني استصحابُ الوصف المثبت للحكم حتى يثبت خلافه، وهو حجة، كاستصحاب حكم الطهارة وحكم الحدث واستصحاب بقاء النكاح (¬11) ¬
وبقاء الملك وشُغل الذمة بما تُشغل به (¬1) حتى يثبت خلاف ذلك، وقد دل الشارع على تعليق الحكم به في قوله في الصيد: "وإن وجَدْتهُ غريقًا فلا تأكله، فإنك لا تَدْري الماءُ قَتَله أو سهمُك" (¬2) وقوله: "فإن خالطها (¬3) كلامه من غيرها فلا تأكل، فإنك إنما سَمَّيت على كلبك ولم تُسمِّ على غيره" (¬4) لما كان الأصلُ في الذبائح التحريم وشَكَّ هل وجد الشرط المبيح أم لا بقي الصيدُ على أصله في التحريم، ولما كان الماء طاهرًا فالأصل (¬5) بقاؤه على طهارته ولم يزلها بالشك، ولما كان الأصل بقاء المتطهر على طهارته لم يأمره بالوضوء مع الشك في الحدث، بل قال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬6)، ولما كان الأصل بقاء الصلاة في ذمَّته أمر الشاكَّ أن يبنى على اليقين ويطرح الشك (¬7)، ولا يعارض هذا ¬
رفعهُ للنِّكاح المتيقِّن بقول الأمة السوداء إنها أرضعت الزوجين (¬1)؛ فإن أصل الأبضاع على التحريم، وإنما أبيحت الزوجة بظاهر الحال مع كونها أجنبية، وقد عارض هذا الظاهر ظاهرٌ مثله أو أقوى منه وهو الشهادة، فإذا تعارضا تساقطا (¬2) وبقي أصلُ التحريم لا معارض له؛ فهذا الذي حكم به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو عين الصواب ومحض القياس، وباللَّه التوفيق. ولم يتنازع الفقهاء في هذا النوع، وإنما تنازعوا في بعض أحكامه لتجاذب المسألة أصلين متعارضين، مثاله أن مالكًا منع الرجل إذا شك هل أحدث أم لا من الصلاة حتى يتوضأ، لأنه وإن كان الأصل بقاء الطهارة فإن الأصل بقاء الصلاة في ذِمّته (¬3)، فإن قلتم: لا نخرجه من الطهارة [بالشك] (¬4)، قال مالك: [ولا ندخله في الصلاة بالشك] (¬5)، فيكون قد خرج منها بالشك، فإن قلتم: يقين (¬6) الحدث قد ارتفع بالوضوء فلا يعود بالشك، قال منازعكم (¬7): وبقين البراءة الأصلية قد ارتفع بالوجوب فلا (¬8) يعود بالشك، قالوا: والحديث الذي تحتجون به من أكبر حُجَجِنا، فإنه مَنَع المصلي بعد دخوله في الصلاة بالطهارة المتيقَّنة أن يخرج منها بالشك، فأين هذا من تجويز الدخول فيها بالشك (¬9)؟ ومن ذلك لو شك هل طَلَّق واحدة أو ثلاثًا فإن مالكًا يلزمه بالثلاث؛ لأنه تيقن طلاقًا وشك هل هو ممَّا تُزيلُ أَثَره الرَّجعةُ أم لا، وقول الجمهور في هذه المسألة أصح؛ فإن النكاح متيقن فلا يزول بالشك، ولم يعارض يقين النكاح إلا شك محض فلا ¬
فصل [استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع]
يزول به، وليس هذا نظير الدخول في الصلاة بالطهارة التي شك في انتقاضها؛ فإن الأصل هناك شغل الذمة وقد وقع الشك في فراغها، ولا يُقال هنا (¬1): إن الأصل التحريم بالطلاق وقد شككنا في الحِل، فإن التحريم قد زال بنكاح متيقن وقد حصل الشك في ما يرفعه، فهو نظير ما لو دخل في الصلاة بوضوء متيقن ثم شك في زواله، فإن قيل: هو متيقن للتحريم بالطلاق شاك في الحل بالرَّجعة، فكان جانب التحريم أقوى، قيل: ليست الرجعية بمحرِّمَة، وله أن يخلو بها، ولها أن تتزين له وتتعرض له، وله أَن يطأها، والوطءُ رجعة عند الجمهور، وإنما خالف في ذلك الشافعيُّ وحده (¬2)، وهي زوجته في جميع الأحكام إلا في القسم خاصة، ولو سلم أنها محرمة فقولُكم: "إنه متيقن للتحريم" إن أردتم به التحريم المطلق فإنه (¬3) غير متيقن، وإن أردتم به مطلق التحريم لم يستلزم أن يكون بثلاث؛ فإن مطلق التحريم أعم من أن يكون بواحدة أو يكون بثلاث، ولا يلزم من ثبوت الأعم ثبوت الأخص، وهذا في غاية الظهور. فصل [استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع] النوع الثالث (¬4): استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع، وقد اختلف فيه الفقهاء والأصوليون هل هو حجة (¬5)؟ على قولين: أحدهما: أنه حجة، وهو قول المُزَنَي (¬6)، والصَّيْرفي (¬7) وابن شاقلا (¬8). . . . ¬
وابن حامد (¬1) وأبي عبد اللَّه الرَّازي (¬2)، والثاني: ليس بحجة، وهو قول أبي حامد (¬3)، وأبي الطيب الطَّبري (¬4) والقاضي أبي يعلى (¬5)، وابن عَقيل (¬6) وأبي الخَطَّاب (¬7) والحَلْواني (¬8) وابن الزَّاغُوني (¬9)، وحجة هؤلاء أن الإجماع إنما كان على الصفة التي كانت قبل محل النزاع كالإجماع على صحة الصلاة قبل رؤية الماء في الصلاة، فأما بعد الرؤية فلا إجماع، فليس هناك ما يُستصحب؛ إذ يَمتنع دعوى الإجماع في محل النزاع، والاستصحاب إنما يكون لأمر ثابت فيُستصحب ثبوتُه، أو لأمر منتفٍ (¬10) فيستصحب نفيه، قال الأولون: غاية ما ذكرتم أنه لا إجماع في محل النزاع، وهذا حق، ونحن لم نَدَّع الإجماع في محل النزاع، بل استصحبنا حال المجمع عليه حتى يثبت ما يزيلُه، قال الآخرون: الحكم إذا كان إنما ثبت بالإجماع (¬11)، وقد زال الإجماع، زال الحكم لزوال دليله (¬12)، فلو ثبتَ الحكم [بعد ذلك] (¬13) لثبتَ بغير دليل، وقال المُثبتون: الحكم كان ثابتًا، وعلمنا بالإجماع ثُبوتَه، فالإجماع ليس هو عِلَّةُ ثبوته ولا سبب ثبوته في نفس الأمر حتى يلزم من زوالِ العلةِ زوال معلولها، ومن زوال السبب زوال حكمه، وإنما الإجماع دليلٌ عليه، وهو في نفس الأمر مستندٌ إلى نص أو معنى [نص] (¬14)، فنحن نعلمُ أن الحكم المجمع عليه ثابتٌ في نفس الأمر، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من ¬
انتفاء الإجماع انتفاء الحكم، بل يجوز أن يكون باقيًا ويجوز أن يكون منتفيًا، لكن الأصل بقاؤُه، فإن البقاء لا يفتقر إلى سبب حادث، ولكن يفتقر إلى بقاء (¬1) سبب ثبوته، وأما الحكم المخالف فيفتَقِر إلى ما يُزيل [الحكم] (¬2) الأَوَّل، وإلى ما يُحدث الثاني، وإلى ما يُبينه (¬3)، فكان ما يفتقر إليه الحادثُ أكثر ممَّا يفتقر إليه الباقي، فيكون البقاء أولى من التغيير، وهذا مثلُ استصحاب حال براءة الذمة، فإنها كانت بريئة قبل وجود ما يُظنّ [به] (¬4) أنه شاغل، ومع هذا فالأصل البراءة، والتحقيق أن هذا دليل من جنس استصحاب البراءة، ومن لا يُجوِّز الاستدلال به إلا بعد معرفة المزيل فلا يجوز الاستدلال به لمن لم يعرف الأدلة الناقلة، [كما لا يجوز الاستدلال بالاستصحاب لمن يعرف الأدلة الناقلة] (¬5)؛ وبالجملة فالاستصحاب لا يَجوزُ الاستدلالُ به إلا إذا اعتقد انتفاء الناقل، فإن قَطَع المُسْتَدِل بانتفاء الناقل قطع بانتفاء الحكم، كما يُقطع ببقاء شريعة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأنها غير منسوخة، وإن ظَنَّ انتفاءَ النَّاقل أو ظن انتفاء دلالته ظن انتفاء النَّقلْ، وإن كان الناقل معنى مؤثرًا وتبيَّن له عدم اقتضائه تبيّن له انتفاء النقل، [وإن كان الناقل معنى مؤثرًا وتبين له عدم اقتضاءه تبيّن له انتفاء النقل] (¬6)، مثل رؤية الماء في الصلاة لا تنقض (¬7) الوضوء، وإلا فمع تجويزه لكونه ناقضًا للوضوء لا يطمئن ببقاء الوضوء، وهكذا كل مَنْ وقع النزاع في انتقاضِ وضوئه ووجوب الغسل عليه فإن الأصل بقاء طهارته، كالنزاع في بطلان الوضوء بخروج النجاسات من غير السبيلين، وبالخارج النادر منهما، وبمس النساء بشهوة (¬8) وغيرها، وبأكل ما مَسَّته النار، وغسل الميت، وغير ذلك، لا يمكنه اعتقاد استصحاب الحال فيه حتى يتيقن له بطلان ما يُوجب الانتقال، وإلا بَقي شاكًّا، وإن لم يتبين له صحة الناقل -كما لو أخبره فاسق بخبر (¬9) - فإنه مأمور بالتبيُّن والتَّثبت، لم يُؤمر بتصديقه ولا بتكذيبه (¬10) فإنَّ كليهما ممكن منه، وهو مع خبره لا يَستدلُّ باستصحاب الحال كما ¬
فصل [الدليل على أنه حجة]
كان يستدل به بدون خبره، ولهذا (¬1) جعل لوثًا وشُبهة، وإذا شهد مجهول الحال فإنه هناك شاك في حال الشاهد، ويلزم منه الشك في [حال] (¬2) المشهود به، فإذا تبين كونه عدلًا تم الدليل، وعند شهادة المجهولين تضعف البراءة أعظم مما [تضعف] عند شهادة الفاسق (¬3)، [لأنه ليس بدليل، لكن يمكن صدقه، وذلك] (¬4) قد يكون دليلًا ولكن لا تعرف دلالته، [وأما هناك فقد علمنا أنه ليس بدليل، لكن يمكن وجود المدلول [عليه] في هذه الصورة؛ فإن صِدْقَه ممكن] (¬5). فصل [الدليل على أنه حجة] ومما يدل على أن استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع حجة أن تبديل (¬6) حال المَحلِّ المُجمع على حكمه أو لا كتبديل (¬7) زمانه ومكانه وشخصه، وتبديل (¬8) هذه الأمور وتغيُّرها لا يمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبديل (¬9)، فكذلك تبدُّل وصفه وحاله لا يمنع الاستصحاب حتى يقوم (¬10) دليل على أن الشارع جعل ذلك الوصف الحادث ناقلًا للحكم مثبتًا لضده، كما جعل الدباغ ناقلًا لحكم نجاسة الجلد، وتخليل الخَمْرة للحكم بتحريمها (¬11)، وحدوث الاحتلام ناقلًا لحكم البراءة الأصلية، وحينئذ لا يبقى التمسك بالاستصحاب صحيحًا، وأما مجرد النزاع فإنه لا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع، والنزاع في رؤية الماء في الصلاة (¬12) وحدوث العَيْب عند المُشتري واستيلاد الأمة ¬
فصل [الأصلي في الشروط الصحة أو الفساد]
لا يُوجب رفع ما كان ثابتًا قبل ذلك من الأحكام؛ فلا يقبل قول المعترض: إنه قد زال حكم الاستصحاب بالنزاع الحادث؛ فإن النزاع (¬1) لا يرفع ما ثبت من الحكم؛ فلا يمكن المعترض رفعه إلا أن يقيم دليلًا على أن ذلك الوصف الحادث جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم، وحينئذ فيكون معارضًا في الدليل لا قادحًا في الاستصحاب، فتأمله فإنه التحقيقُ في هذه المسألة. فصل [الأصلي في الشروط الصحة أو الفساد] الخطأ الرابع لهم: اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة (¬2)، فإذا لم يقم عندهم دليل على صحة شرط أو عقدٍ أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأفسدوا بذلك كثيرًا من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من اللَّه بناء على هذا الأصل، وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح؛ فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم (¬3)، ومعلوم أنه لا حرامٌ إلا ما حَرَّمه اللَّه ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثمَّ اللَّه ورسوله به فاعله، كما أنه لا واجبَ إلا ما أوجبه اللَّه، ولا حرامَ إلا ما حرمه اللَّه، ولا دينَ إلا ما شرعه؛ فالأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم (¬4). والفرق بينهما أن اللَّه سبحانه لا يُعبدُ إلا بما شرعه على ألسنة رُسُلِه، فإن العبادة حَقُّه على عباده، وحَقُّه الذي أحقَّه هو ورضي به وشَرَعَه، وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو حتى يحرمها؛ ولهذا نعى اللَّه سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين (¬5) -وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما ¬
لم يشرعه- وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه لكان [ذلك] (¬1) عفوًا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله؛ فإن الحلال ما أحلَّه اللَّه، والحرام ما حرمه، وما سكت عنه فهو عفو، فكلُّ شَرْط وعَقْد ومعاملة سكت عنها فإنه لا يجوز القولُ بتحريمها؛ فإنه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال، فكيف وقد صرحت النصوص بأنها على الإباحة فيما (¬2) عدا ما حَرَّمه؟ وقد أمر [اللَّه تعالى] (¬3) بالوفاء بالعقود والعهود كلها؛ فقال [تعالى] (1): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34]، وقال: {وَالَّذِينَ [هُمْ] (1) لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)} [المعارج: 32]، وقال [تعالى] (1): {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]، وقال [تعالى] (1): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 2، 3]، وقال؛ {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)} [آل عمران: 76]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وهذا كثير في القرآن، وفي "صحيح مسلم" من حديث الأعمش، عن عبد اللَّه بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومَنْ كانت فيه خَصْلةٌ منها (¬4) كانت فيه خَصْلةٌ من النِّفاق [حتى يَدَعَهَا] (1): إذا حَدَّث كَذَب، وإذا عَاهَدَ غَدَر، وإذا وعد أخلَفَ، وإذا خَاصَم فَجَر" (¬5) وفيه من حديث سعيد بن المُسيَّب، عن أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من عَلاماتِ المنافقِ ثلاثٌ وإن صلى وصَامَ وزعم أنه مسلم: إذا حَدَّث كَذَب، وإذا وَعَدَ أخلف، وإذا ائتُمنَ خانَ" (¬6)، وفي "الصحيحين" من حديث ابن عمر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُرفعُ لكل غادرٍ لواء يوم القيامة بقدر غَدْرَته، فيُقال: هذه غَدْرَةُ فلان بن فلان" (¬7)، وفيهما من حديث عقبة بن عامر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن أحقَّ ¬
الشروط أن توفوا بها ما استحللتم به الفُروج" (¬1)، وفي "سنن أبي داود" عن أبي رافع قال: بعثتني قريش إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما رأيته أُلقيَ في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول اللَّه، واللَّه إني لا أَرجعُ إليهم أبدًا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لا أَخِيسُ (2) بالعهد، ولا أحبس البُرُدَ (¬2)، ولكن ارْجِع إليهم، فإنْ كانَ في نفسك الذي في نفسك الآنَ فارْجِع" قال: فذهبت ثم أتيتُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأَسلمتُ (¬3)، وفي "صحيح مسلم" عن حذيفة قال: "ما مَنَعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجتُ أنا وأبي حُسَيْلٌ، فاخَذَنَا كُفَّارُ قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فاخذوا مِنَّا عَهْدَ اللَّه وميثاقَه لننصرِفَنَّ إلى المدينة ولا نقاتل معه، فأتينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبرناه الخبرَ، فقال: "انْصرِفَا نَفِي (¬4) لهم بعهدِهم ¬
ونستعينُ اللَّه عليهم" (¬1)، وفي "سنن أبي داود" عن عبد اللَّه بن عامر قال: دعتني أمي يومًا ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاعد في بيتها، فقالت: تعال أُعْطِك، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أردت أن تعطيه؟ " فقالت: أعطيه تمرًا، فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما إنك لو لم تعطيه شيئًا كُتبت عليك كذبة" (¬2)، وفي "صحيح البخاري" من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "قال اللَّه عز وجل: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غَدَر، ورجلٌ بَاعَ حرًا [فأكل ثمنه]، ورجل استاجر أجيرًا [فاستوفى منه] ولم يُعْطِ أَجْرَه" (¬3)، وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن الخطاب أن يُوفي بالنَّذر الذي نذره في الجاهلية من اعتكافه ليلة عند المسجد الحرام (¬4)، وهذا عَقْدٌ كان قبل الشرع (¬5)، وقال ابن وهب: [ثنا هشام بن سعد، ¬
عن زيد بن أسلم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وأْيُ المؤمن واجب" (¬1) قال ابن وهب: و] (¬2) أخبرني إسماعيل بن عَيَّاش، عن أبي إسحاق أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقول: "ولا تَعِدْ أخاك عِدَةً وتخلفه، فإن ذلك يُورثُ بينك وبينه عداوة" (¬3)، قال ابن وهب: وأخبرني اللَّيثُ بن سعد، عن عُقيل بن خالد، عن ابن شِهاب، عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ قال لصبِيِّ: تعالَ هذا لك، ثم لم يعطهِ شيئًا فهي كذبة" (¬4)، وفي "السنن" من حديث كثير بن عبد اللَّه بن زيد بن عَمرو بن عوف عن أبيه عن جده يرفعه: "المؤمنون عند شروطهم" (¬5)، وله شاهد من حديث محمد بن ¬
فصل [أجوبة المانعين]
عبد الرحمن [بن] (¬1) البَيْلَماني عن أبيه، عن ابن عمر يرفعه: "النَّاسُ على شروطهم ما وافق الحق" (¬2)، وليست العمدة على هذين الحديثين، بل على ما تقدم. فصل [أجوبة المانعين] وأصحاب القول الآخر يجيبون عن هذه الحجج: تارة بنسخها، وتارة بتخصيصها ببعض العهود والشروط، وتارة بالقدح في سند ما يمكنهم القدح فيه، وتارة بمعارضتها بنصوص أخرى، كقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحديث الصحيح: "ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب اللَّه، ما كان من شَرطٍ ليس في كتاب اللَّه فهو باطلٌ وإن كان مئةَ شرط، كتابُ اللَّه أحق، وشرطُ اللَّه أوثقُ" (¬3)، وكقوله: "من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد" (¬4)، وكقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)} [البقرة: 229] ونظائر هذه الآية. قالوا: فصح بهذه النصوص إبطال كل عهد وعقد ووعد (¬5) وشرط ليس في كتاب اللَّه الأمرُ به أو النَّصُ على إباحته، قالوا: وكل شرط أو عقد ليس في النصوص إيجابه ولا الإذن (¬6) فيه فإنه لا يخلو من أحد وجوهٍ أربعةٍ: إما أن يكون ¬
فصل [رد الجمهور على أجوبة المانعين]
صاحبُه قد التزم فيه إباحةَ ما حَرَّم اللَّه ورسوله، أو تحريم ما أباحه، أو إسقاط ما أوجبه، أو إيجاب ما أسقطه، ولا خامس لهذه الأقسام البتة؛ فإن مَلَّكتُم المُشترط والمعاقد (¬1) والمعاهد جميع ذلك انسلختم من الدين، وإن ملكتموه البعض دون البعض تناقضتم، وسألناكم ما الفرق بين ما يملكه من ذلك وما لا يملكه؛ ولن تجدوا إليه سبيلًا. فصل [رد الجمهور على أجوبة المانعين] قال الجمهور: أما دعواكم النسخ [فإنها دعوى] (¬2) باطلة تتضمن أن هذه النصوص ليست من دين اللَّه، ولا يحل العمل بها، وتجب مخالفتها، وليس معكم برهان قاطع بذلك؛ فلا تسمع دعواه، وأين التحاكم (¬3) إلى الاستصحاب والتثبت (¬4) به ما أمكنكم؟ وأما تخصيصها فلا وجه له، وهو يتضمن إبطال ما دلت عليه من العموم، وذلك غير جائز إلا ببرهان من اللَّه ورسوله. وأما ضعف بعضها من جهة السند فلا يقدح في سائرها، ولا يمنع من الاستشهاد بالضعيف وإن لم يكن عمدة. وأما معارضتها بما ذكرتم فليس بحمد اللَّه بينها وبينه تعارض، وهذا إنما يعرف بعد معرفة المراد بكتاب اللَّه في قوله: "ما كان من شرط ليس في كتاب اللَّه" (¬5)، ومعلوم أنه ليس المراد به القرآن قطعًا، فإن أكثر الشروط الصحيحة ليست في القرآن، بل عُلمت من السنة؛ فعُلم أنَّ المرادَ بكتاب اللَّهِ حُكمُه كقوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} [النساء: 24]، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كتابُ اللَّه القصاصُ" (¬6) في ¬
كسر السن فكتابُه سبحانه يُطلَق على كلامه وعلى حكمه الذي حكم به على لسان رسوله، ومعلوم أن كل شرط ليس في حكم اللَّه فهو مخالف له فيكون باطلًا (¬1)؛ فإذا كان اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- قد حكم بأن الولاء للمُعتِق، فشرط خلاف ذلك يكون شرطًا مخالفًا لحكم اللَّه سبحانه، ولكن أين في هذا أن ما سكت عن تحريمه [من العقود والشروط يكون باطلًا حرامًا] (¬2) [وتعديًا لحدوده] (¬3)؛ وتعدِّي حدود اللَّه هو تحريم ما أحلَّه اللَّه أو إباحة ما حرمه أو إسقاط ما أوجبه، لا إباحة ما سكت عنه أو عفا عنه، بل تحريمه هو نفس تعدي حدوده. وأما ما ذكرتم من تضمن الشرط (¬4) لأحد تلك الأمور الأربعة ففاتكم قسم خامس وهو الحق، وهو ما أباح اللَّه سبحانه للمكلف تنويع أحكامه بالأسباب التي مَلَّكه إياها، فيباشر من الأسباب ما يُحلُّه له بعد أن كان حرامًا عليه، أو يُحرِّمه عليه بعد أن كان حلالًا له، أو يوجبه بعد أن لم يكن واجبًا، أو يُسقطه بعد وجوبه (¬5)، وليس في ذلك تغيير لأحكامه، بل كل ذلك من أحكامه سبحانه؛ فهو الذي أحل وحرم وأوجب وأسقط، وإنما إلى العبد الأسباب المقتضية لتلك الأحكام ليس إلا، فكما أن شراء (¬6) الأمة ونكاح المرأة يُحلُّ له ما كان حرامًا عليه قبله وطلاقها وبيعها بالعكس يحرمها عليه ويُسقط عنه ما كان واجبًا عليه من حقوقها، كذلك التزامه (¬7) بالعقد والعهد والنذر (¬8) والشرط؛ فإذا ملك تغيير الحكم بالعقد ملكه بالشرط الذي هو تابع له؛ وقد قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، فأباح التجارة التي تراضَى بها المتبايعان؛ فإذا تراضيا على شرطٍ لا يخالف حكم اللَّه جاز لهما ذلك، ولا يجوز إلغاؤه وإلزامهما بما لم يلتزماه ولا ألزمهما اللَّه و [لا] (¬9) رسوله به، ولا (¬10) يجوز إلزامهما بما لم يلزمهما اللَّه ورسوله به ولا هما التزماه ولا إبطال ما شَرطَاهُ مما لم يحرم اللَّه ورسوله عليهما شَرْطَه، ومُحرِّم الحلال كمحلل الحرام، فهؤلاء ألغوا من شروط ¬
فصل [أخطاء القياسيين]
المتعاقدين ما لم يلغه اللَّه ورسوله (¬1)، وقابلهم آخرون من القياسيين (¬2) فاعتبروا من شروط الواقفين ما ألغاه اللَّه ورسوله، وكلا القولين خطأ، بل الصوابُ إلغاءُ كل شرط خالف حكم اللَّه، واعتبار كل شرط لم يحرمه اللَّه ولم يمنع منه، وباللَّه التوفيق. فصل [أخطاء القياسيين] وأما أصحاب الرأي والقياس [فإنهم] (¬3) لمَّا لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافية بالأحكام ولا شاملة لها؛ وغلاتُهم على أنها لم تفِ بعُشر معشارها فوسَّعوا (¬4) طرق الرأي والقياس، وقالوا بقياس الشَّبَه، وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يُعلم أن الشارع عَلَّقها بها، واستنبطوا عللًا لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها، ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس، ثم اضطربوا فتارة يُقدِّمون القياس، وتارة يقدمون النص، وتارة يفرقون بين النَّص المشهور وغير المشهور، واضطرهم ذلك أيضًا إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنَّها شُرعت على خلاف القياس؛ فكان خطؤهم من خمسة أوجه: أحدها: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث. الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس. الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان والقياس، والميزان هو العدل، فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به هذه (¬5) الأحكام. الرابع: اعتبارهم عللًا وأوصافًا [لم يُعلم اعتبار الشارع لها وإلغاؤهم عللًا وأوصافًا] (¬6) اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه. الخامس: تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضًا. ونحن نعقد ههنا ثلاثة فصول: ¬
الفصل الأول [شمول النصوص وإغناؤها عن القياس]
الفصل الأول: في بيان شمول النصوص للأحكام، والاكتفاء بها عن الرأي والقياس. الفصل الثاني: في سقوط الرأي والاجتهاد والقياس، وبطلانها مع وجود النص. الفصل الثالث: في بيان أن أحكام الشرع كلها على وفق القياس الصحيح، وليس فيما جاء به الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم يخالف الميزان والقياس الصحيح. وهذه الفصول الثلاثة من أهم فصول الكتاب، وبها يتبين للعالم المنصف مقدار الشريعة وجلالتها وهيمنتها وسعتها وفضلها وشرفها على جميع الشرائع، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما هو عامُّ الرسالة إلى كل مكلف فرسالته عامة في كل شيء من الدين أصوله وفروعه ودقيقه وجليله، فكما لا يخرج أحدٌ عن رسالتِه فكذلك لا يخرج حكمٌ تحتاج إليه الأمة عنها وعن بيانه له، ونحن نعلم أنا لا نوفِّي هذه [الفصول] (¬1) حقَّها ولا نقارب، وأنَّها أَجلُّ من علومنا وفوق إدراكنا، ولكن ننبه أدنى تنبيه ونشير أدنى إشارة إلى ما يفتح أبوابها وينهج طرقها، واللَّه المستعان وعليه التكلان. الفصل الأول [شمول النصوص وإغناؤها عن القياس] في شمول النصوص وإغنائها (¬2) عن القياس. وهذا يتوقف على بيان مقدمة، وهي أن دلالة النصوص نوعان: حقيقية، وإضافية، فالحقيقية تابعة لقصد المتكلم وإرادته، وهذه الدلالة لا تختلف، والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه، وجودة [فكره] (¬3) وقريحته، وصفاء ذهنه، ومعرفته بالألفاظ ومراتبها، وهذه الدلالة تختلف اختلافًا متباينًا بحسب تباين السامعين في ذلك، وقد كان أبو هريرة وعبد اللَّه بن عمر (¬4) أحفظَ الصحابة للحديث وأكثرهم رواية له، وكان الصِّدِّيقُ وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما، بل عبد اللَّه بن عباس أيضًا أفقه منهما ومن عبد اللَّه بن عمر، وقد أنكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على عمر فهمه إتيانَ البيتِ الحرام عام الحُدَيبية من إطلاقِ قوله: ¬
"إنك ستأتيه وتطوف به" (¬1) فإنه لا دلالة في هذا اللفظ على تعيين العام الذي يأتونه فيه، وأنكر على عديّ بن حاتم فهمه من الخيط الأبيض والخيط الأسود نفسَ العقالين (¬2)، وأنكر على مَنْ فهم من قوله: "لا يدخلُ الجنةَ مَنْ كان في قلبه مثقالُ حبة خَرْدلةٍ من كِبْر" شمول لفظه لحسْن الثوب وحُسن النعل، وأخبرهم أنه: "بَطرُ الحق وغَمطُ الناس" (¬3) وأنكر على من فهم من قوله: "مَنْ أحبَّ لقاء اللَّه أحبَّ اللَّه لقاءَه، ومن كره لقاءَ اللَّهِ كره اللَّه لقاءه" أنه كراهة الموت، وأخبرهم أن هذا للكافر إذا احْتُضِرَ وبُشِّر بالعذاب فإنه حينئذ يكره لقاء اللَّه، واللَّه يكره لقاءه، وأن المؤمن إذا احْتُضِرَ وبُشِّر بكرامة اللَّه أحَبَّ لقاء اللَّه وأحبَّ اللَّه لقاءه (¬4)، وأنكر ¬
على عائشة (¬1) إذ فهمت من قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8] معارضته لقوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-]: "مَنْ نُوقش الحِسَاب عُذِّبَ" وبيَّن لها أن الحساب اليسير هو العَرْض، أي حساب العرض لا حساب المناقشة (¬2)، وأنكر على مَنْ فهم من قوله [تعالى] (¬3): {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123]، أن هذا الجزاء إنما هو في الآخرة وأنه لا يسلم أحدٌ من عمل السوء، وبيَّن لهم أن هذا الجزاء قد يكون في الدنيا بِالهَمِّ (¬4) والحَزَنِ والمرض والنَّصبِ وغير ذلك من مصائبها، وليس في اللفظ تقييد الجزاء بيوم القيامة (¬5)، وأنكر على مَنْ فهم من قوله [تعالى] (3): {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ] (3)} [الأنعام: 82] أنه ظُلم ¬
النَّفس بالمعاصي، وبيَّن لهم أنه الشرك، وذَكَر قولَ لقمان لابنه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 13] (¬1) مع أن سياق اللفظ عند (¬2) إعطائه حقه من التأمل يبين ذلك؛ فإن اللَّه سبحانه لم يقل ولم يظلموا أنفسهم، بل قال: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] ولَبْسُ الشيء بالشيء تغطيتهُ به وإحاطته به من جميع جهاته، ولا يغطي الإيمانَ ويحيطُ به ويلبسه إلا الكفرُ، ومن هذا قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)} [البقرة: 81] فإن الخطيئة لا تحيط بالمؤمن أبدًا، فإن إيمانه يمنعه من إحاطة الخطيئة به، ومع أن سياق قوله: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)} [الأنعام: 81] ثم حُكمُ اللَّه أعدلُ حُكمٍ وأصدقُه أَنَّ مَنْ آمن ولم يلبس إيمانه بظلم فهو أحق بالأمن والهُدى، فدل على أن الظلم الشِّرك، وسأله عمر بن الخطاب (¬3) -رضي اللَّه عنه- عن الكَلالَة وراجعه فيها مرارًا، فقال: تكفيك آية الصَّيف (¬4)، ¬
واعترف عمر بأنه خَفِيَ عليه فهمهما وفهمها الصديق (¬1)، وقد نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لحومِ الحُمرِ الأهلية ففهم بعض الصحابة من نهيه أنه لكونها لم تُخمَّس وفهم بعضهم أن النهي لكونها (¬2) كانت حمولة القوم وظهورهم، وفهم بعضهم [أنه لكونها] (¬3) كانت جوَّالي القرية، وفهم علي بن أبي طالب وكبار الصحابة -رضي اللَّه عنهم- ما قَصَدَه [رسول اللَّه] (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنهي وصَرَّح بعلَّته من كونها رجسًا (¬5)، وفهمت المرأة ¬
من قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] جواز المُغَالاة في الصَّداق فذكرته لعمر فاعترف به (¬1)، وفهم ابن عباس من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تَلدُ لستة أشهر، ولم يفهمه عثمان فهمَّ برجم امرأة ولدت لها حتى ذكَّره به ابنُ عباس فأقر به (¬2)، ولم يفهم عمر من قوله: ¬
"أُمرت أن أقاتلَ النَّاسَ حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه، فإذا قالوها عَصموا مِنِّي دِماءَهم وأَموالَهم إلا بحقها" قتال مانعي الزكاة حتى بَيّن له الصديق فأقرَّ به (¬1)، وفهم قُدامة بن مَظْعون من قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا} [المائدة: 93] رفع الجُناح (¬2) عن الخَمْر حتى بَيَّن له عمر أنه لا يتناول الخمر (¬3)، ولو تأمَّل سياق الآية لفهم المراد منها، فإنه إنما رفع الجُناح عنهم فيما طعموه مُتَّقين له فيه، وذلك إنما يكون باجتناب ما حَرَّمه من المطاعم؛ فالآية لا تتناول المحرَّم بوجه ما، وقد فهم من قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] انغماس الرجل في العدو حتى بَيَّن له (¬4) أبو أيوب الأنصاري أن هذا ليس من الإلقاء بيده إلى التَّهلُكة، بل هو من بيع الرجل نفسه ابتغاء مرضات اللَّه، وأن الإلقاء [بيده] (¬5) إلى التهلكة هو الإقبال على الدنيا وعمارتها وترك الجهاد (¬6)، وقال الصِّدِّيقُ -رضي اللَّه عنه-: أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتَضَعُونها على غير مواضعها (¬7): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] وإني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إنَّ الناس إذا ¬
رَأوا المنكر فلم يغيِّروه أوشك أن يعمَّهُم اللَّه بعقاب من عنده" (¬1) فأخبرهم أنهم يضعُونها على غير مواضعها في فهمهم منها خلافَ مَا أريد بها، وأشكل على ابن عباس أمْرُ الفِرْقَةِ الساكتة التي لم ترتكب ما نُهيت عنه من اليهود: هل عُذِّبُوا أو نَجَوا حتى بين له مولاه عِكْرِمة دخولهم في الناجين دون المعذبين، وهذا هو الحق؛ لأنه سبحانه قال عن الساكتين: {وَإِذْ [قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ] (¬2) لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف: 164] فأخبر أنهم أنكروا فعلهم وغضبوا عليهم، وإن لم يواجهوهم بالنهي فقد واجههم به مَن أدَّى الواجب عنهم، فإن ¬
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، فلما قام به أولئك سقط عن الباقين، فلم يكونوا ظالمين بسكوتهم، وأيضًا فإن اللَّه سبحانه إنما عذب الذين نَسُوا ما ذُكِّروا به وعَتْوا عمَا نُهوا عنه، وهذا لا يتناول الساكتين قطعًا، فلما بين عكرمة لابن عباس أنهم لم يدخلوا في الظالمين المعذبين كَسَاه بُرْدَة [وفرح به] (¬1)، وقد قال عمر بن الخطاب للصحابة: ما تقولون في: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1)} [النصر: 1] السورة؟ قالوا: أمر اللَّه نبيَّه إذا فَتحَ عليه أن يستغفره، فقال لابن عَبَّاس: ما تقول أنت؟ قال: هو أجلُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أعلمه إيَّاه، فقال: ما أعلمُ منها غيرَ ما تَعلم (¬2)، وهذا من أدق الفهم وألطفه، ولا يدركه كل أحد، فإنه سبحانه لم يُعلِّق الاستغفار بعلمه (¬3)، بل علّقه بما يحدثه هو سبحانه من نعمة من فَتْحِه على رسوله ودخول الناس في دينه، وهذا ليس بسببٍ للاستغفار، فعلم أن سببَ الاستغفار غيرُه (¬4)، وهو حضور الأجل الذي من تمام نعمة اللَّه على عبده توفيقه للتوبة النصوح والاستغفار بين يديه ليلقى ربه طاهرًا مطهرًا من كل ذنب فيقدم عليه مسرورًا راضيًا مرضيًا عنه، ويدل عليه أيضًا قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3] وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُسبِّح بحمده دائمًا (¬5)، فعلم أن المأمور به من ¬
ذلك التسبيح بعد الفتح ودخول الناس في هذا الدين أمرٌ أكبر (¬1) من ذلك المتقدم، وذلك مقدمةٌ بين يدي انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وأنه قد بقيت عليه من عبودية التسبيح والاستغفار التي تُرقيه إلى ذلك المقام بقيةٌ فأمره بتوفيتها، ويدل عليه أيضًا أنه سبحانه شرع التوبة والاستغفار في خواتيم الأعمال (¬2)، فشرعها (¬3) في خاتمة الحج وقيام الليل، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سَلَّم من الصلاة استغفر ثلاثًا (¬4)، وشرع للمتوضئ [بعد كمال وضوئه أن يقول] (¬5): "اللَّهم اجعلني من التوَّابين واجعلني من المتطهرين" (¬6) فعُلم أن التوبةَ مشروعةٌ عَقيب الأعمال الصالحة، فأمر رسولَه ¬
بالاستغفار عقيب توفيته ما عليه من تبليغ الرسالة والجهاد في سبيله حين دخل الناس في دينه أفواجًا، فكأنَّ التبليغَ عبادةٌ قد أكملها وأدَّاها، فشُرع له الاستغفارُ عقيبها، والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص، وأن منهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم [منها] (¬1) عشرة أحكام أو (¬2) أكثر من ذلك، ومنهم من [يقتصر فهمُه] (¬3) على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائِه [وإشارته وتنبيهِه] (¬4) واعتباره، وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر (¬5) متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك اللفظ بمفرده، وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يَنْتبه له إلا النادر من أهل العلم، فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به، وهذا كما فهم ابنُ عباس من قوله: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] أن المرأة قد تَلِدُ لستة أشهر (¬6)، وكما فهم الصدِّيقُ من آية الفرائض في أول السورة وآخرهَا أن الكلالةَ مَنْ لا ولدَ له ولا والِد، وأسقط الإخوةَ بالجدِّ (¬7)، وقد أرشد النَّبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عُمَر إلى هذا الفهم حيث سأله عن الكلالة وراجَعَه ¬
[المسألة المشتركة في الفرائض]
السؤال فيها مرارًا، فقال: يكفيك آية الصَّيْف (¬1)، وإنما أشكل على عمر قولُه: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176]، الآية، فدلَّه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما يبيِّن له المراد منها وهي الآية الأولى التي نزلت في الصيف، فإنه وَرَّثَ فيها ولَدَ الأم في الكلالة (¬2) السدس، ولا ريبَ أنَّ الكلالةَ فيها مَنْ لا ولد له ولا والد، وإن عَلَا. ونحن نذكر عدة مسائل مما اختلف فيها السَّلَفُ ومَنْ بعدهم، قد (¬3) بينتها النصوص، ومسائل قد احتُجُّ فيها بالقياس وقد بيَّنها النَّصُ وأغنى فيها عن القياس. [المسألة المشتركة في الفرائض] المسألة الأولى: [المشتركة في الفرائض] (¬4)، وقد دل القرآن على اختصاص ولَدِ الأم فيها بالثلث، بقوله (¬5) تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وهؤلاء ولد الأم، فلو أدخلنا معهم ولد الأبوين لم يكونوا شركاء في الثلث بل يزاحمهم فيه غيرهم، فإن قيل: بل وَلدُ الأبوين منهم، إلغاء لقرابة الأب، قيل: هذا وهم، لأن اللَّه سبحانه قال (¬6) في أول الآية: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] ثم قال: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فذَكَرَ حُكمَ واحدهم وجماعتهم حكمًا يختص به الجماعة منهم كما يختص به واحدُهُم، وقال في ولد الأبوين: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ¬
الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فذكر حكم ولد الأب والأبوين واحدُهُم وجماعتهم، وهو حكم يختص به جماعتهم [كما يختص به واحدهم] (¬1) فلا يشاركهم فيه غيرُهُم، فكذا حكم ولد الأم، وهذا يدل على أن أحد الصِّنفين غيرُ الآخر، فلا يشارك أحدُ الصنفين الآخر، وهذا الصنف الثاني هو ولد الأبوين أو الأب بالإجماع (¬2)، والأول هو ولد الأم بالإجماع، كما فسَّرته قراءةُ بعض الصحابة (¬3): "من أم" وهي تفسيرٌ وزيادةُ إيضاح، وإلا فذلك معلوم من السياق ولهذا ذكر سبحانه ولد الأم في آية الزوجين، وهم أصحاب فرض مُقَدَّر لا يخرجون عنه، ولا حَظَّ لأحد منهم في التعصيب، ولم يذكر فيها أحدًا من العصبة، بخلاف ذكر (¬4) في آية العمودين الآية التي قبلها؛ فإن لجنسهم حظًا في التعصيب، ولهذا قال في آية الإخوة من الأم والزوجين: {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] ولم يقل ذلك في آية العمودين، فإن الإنسان كثيرًا ما يَقْصِدُ ضِرَار الزوجين (¬5) وولد الأم لأنهم ليسوا من عصبته، بخلاف أولاده وآبائه فإنه لا يضَارهم في العادة، فإذا (¬6) كان النص قد أعطى ولد الأم الثلث لم يجز تنقيصهم منه، وأما ولد الأبوين فهم جنس آخر وهم عصبته (¬7) وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألِحْقُوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأوْلى رَجلٍ ذَكَر" (¬8) وفي ¬
هذه المسألة لم تُبْقِ الفرائضُ شيئًا، فلا شيء للعصبة بالنَّص، وأما قول القائس (¬1): "هَبْ أن أبانا كان حمارًا" فقول باطل حسًا وشرعًا، فإن الأبَ لو كان حمارًا لكانت الأم أتانًا، وإذا قيل: يُقدَّر وجوده كعدمه، قيل: هذا باطل، فإن الموجود لا يكون كالمعدوم، وأما بطلانه شرعًا فإن اللَّه سبحانه حكم في ولد الأبوين بخلاف حكمه في ولد الأم. فإن قيل: الأب إن لم ينفعهم لم يضرهم. قيل: بل قد يضرهم كما ينفعهم (¬2) فإن ولد الأم لو كان واحدًا وولد الأبوين مئة وفَضَل نصفُ سدس (¬3) انفرد ولد الأم بالسُّدُس، واشترك ولد الأبوين في نصف السدس، فهلَّا قبلتم (¬4) قولَهم ههنا: هَبْ أن أبانا كان حمارًا؟ وهلا قدَّرتم الأب مَعْدُومًا فخرجتم عن القياس كما خرجتم عن النص، وإذا جاز أن ينقصهم الأبُ جاز أن يحرمهم، وأيضًا فالقرابة المتصلة الملتئمة من الذكر والأنثى لا تفرق أحكامها، هذه قاعدة النسب في الفرائض وغيرها، فالأخ من الأبوين لا نجعله (¬5) كأخ من أب وأخ من أم فنعطيه السدس [فرضًا] (¬6) بقرابة الأم والباقي تعصيبًا بقرابة الأب. فإن قيل: فقد فرقتم بين القرابتين (¬7)، فقلتم في ابني عم أحدهما أخ لأم: يُعطى الأخ للأم بقرابة الأم السدسَ ويقاسم ابن العم بقرابة العمومة. قيل: نعم هذا قول الجمهور، وهو الصواب، وإن كان شُرَيْح ومَنْ قال (¬8) بقوله أعطى الجميع لابن العم الذي هو أخ لأم، كما لو كان ابن عم لأبوين، والفرقُ بينهما على قول الجمهور أن كليهما في بُنوَّة العم سواء، وأما الأخوة للأم فمستقلة ليست [مقترنة] (6) بأبوة حتى تُجعل كابن العم للأبوين، فههنا (¬9) قرابة الأم ¬
[المسألة العمرية]
منفردة عن قرابة العمومة، بخلاف قرابة الأم في مسألتنا فإنها متحدة بقرابة الأب. ومما يبين أن عدم التشريك هو الصحيح أنه لو كان فيها أخوات لأب لفرض لهنَّ الثلثان وعالَت الفريضة، فلو كان معهن أخوهن سَقَطْنَ به، ويُسمَّى الأخ المشئوم، فلما كنَّ بوجوده يَصِرْن عصبة صار تارة ينفعهن، وتارة يضرهن ولم يجعل وجوده كعدمه في حال الضرار فكذلك قرابة الأب لما صار الإخوة بها عَصَبة صار ينفعهم تارة ويضرهم أخرى، وهذا شأن العَصَبة فإن العَصَبة تارة تحُوزُ (1) المالَ وتارة تحوز (¬1) أكثره وتارة تحوز أقله وتارة تَخيبُ (¬2)؛ فمن أعطى العصبة مع استغراق الفروض المال (¬3) خرج عن قياس الأصول وعن موجب النص. فإن قيل: فهذا (¬4) استحسان. قيل: لكنه استحسان يخالف الكتاب والميزان، فإنه ظلمٌ للإخوة من الأم حيث يؤخذ ضهم ويُعطاه غيرهم، وإن كانوا يَعقِلُون عن الميت ويُنفِقون عليه لم يلزم من ذلك أن يشاركوا مَنْ لا يعقل ولا يُنفق في ميراثه، فعاقلة المرأة -من أعمامها وبني عمها وإخوتها- يعقلون عنها، وميراثها لزوجها وولدها كما قضى بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، فلا يمتنع أن يعقل ولدُ الأبوين ويكون الميراثُ لولد الأم. [المسألة العمرية] المسألة الثانية: العمريتان (¬6)، والقرآن يدل على قول جمهور الصحابة فيها كعمر وعثمان وعبد اللَّه بن مسعود وزيد بن ثابت: إن للأم ثُلثَ ما بقي بعد فَرْضِ [أحد] الزوجين (¬7)، وههنا طريقان: ¬
أحدهما: بيان عدم دلالته على إعطائِها الثلث كاملًا مع الزوجين، وهذا أظهر الطريقين. والثاني: دلالته على إعطائها ثُلثَ الباقي، وهو أدقُّ وأخفى من الأول، أما الأول فإن اللَّه سبحانه إنَّما أعطاها الثلث كاملًا إذا انفرد الأبوان بالميراث، فإن قوله سبحانه: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] شرطان (¬1) في استحقاق الثلث: عدمُ الولد، وتفردُهما بميراثه، فإن قيل: ليس في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] ما يدل على أنهما تفردا بميراثه، قيل: لو لم يكن [تفردُهما] (¬2) شرطًا لم يكن في قوله: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] فائدة، وكان تطويلًا يغني عنه قوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فلما قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] علم أن استحقاق الأم الثلث موقوف على الأمرين، وهو سبحانه ذكر أحوالَ الأم كُلِّها نصًا وإيماء، فذكر أن لها السدس مع الإخوة، وأن لها الثلث كاملًا مع عدمِ الولد وتفرُّدِ الأبوين بالميراث، بقي لها ¬
حالة ثالثة -وهي مع عدم الولد وعدم تفرد الأبوين بالميراث- وذلك لا يكون إلا مع الزوج والزوجة، فإما أن تُعطى في هذه الحال الثلث كاملًا وهو خلاف مفهوم القرآن، وإما أن تُعطى السُّدس فإنَّ اللَّه سبحانه لم يجعله فرضها إلا في موضعين مع الولد ومع الإخوة، وإذا امتنع هذا وهذا كان الباقي بعد فرضِ الزوجة (¬1) هو المال الذي يستحقه الأَبوان، ولا يشاركُهُما فيه مُشارِك، فهو (¬2) بمنزلة المال كله إذا لم يكن زوج ولا زوجة، فإذا تقاسماه أثلاثًا كان الواجب أن يتقاسما الباقي بعد فرض الزوجين كذلك. فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا ورثته الأم [مع] (¬3) مَنْ دون الأب كالجد والعم والأخ وابنه. قيل: إذا كانت تأخذ الثلث مع الأب فأخذُها له مع مَنْ دُونه من العصبات أولى، وهذا من باب التنبيه. فإن قيل: فمن أين أعطيتموها الثلثَ كاملًا إذا كان معها ومع هذه العَصَبة الذي هو دون الأب زوج أو زوجة، واللَّه سبحانه إنما جعل لها الثلث كاملًا إذا انفرد الأبوان بميراثِه على ما قرَّرتموه، فإذا كان جد وأم أو عم وأم أو أخ وأم أو ابن عم أو ابن أخ مع أحد الزوجين (¬4)، فمن أين أعُطيت الثلث كاملًا، ولم ينفرد الأبوان بالميراث؟ قيل: بالتنبيه ودلالة الأولى، فإنها إذا أخذت الثلث كاملًا مع الأب فلأن تاخذه مع [ابن] (¬5) العم أولى وأما إذا كان أحَدُ الزوجين مع هذه (¬6) العصبة فإنه ليس له إلا ما بقي بعد الفروض، ولو استوعبت الفروضُ المالَ سقط كأم وزوج وأخ لأم، بخلاف الأب. فإن قيل: فمن أين تأخذون حكمها إذا كان مع العَصَبَة ذو فرض غير البنات والزوجة؟ ¬
قيل: لا يكون ذلك إلا [مع] (¬1) ولد الأم أو الأخوات لأبوين أو لأب (¬2) واحدة أو أكثر، واللَّه سبحانه قد أعطاها السدس مع الإخوة، فدلَّ على أنها تأخذ الثلث مع الواحد إذ ليس بإخوة. بقي (¬3) الأختان والأخوان؛ فهذا مما تنازع فيه الصحابة فجمهورُهم أدخلوا الاثنين في لفظ الإخوة، وأبى ذلك ابنُ عباس (¬4)، ونَظَرُه أقرب إلى ظاهر اللفظ (¬5)، ونظر الصحابة أقربُ إلى المعنى وأولى به؛ فإن الإخوة إنما حجبوها ¬
إلى السدس لزيادة ميراثِهِم على ميراثِ الواحد، ولهذا لو كانت واحدةً أو أخًا واحدًا لكان لها الثلث معه، فإذا كان الإخوةُ ولدَ أمِ كان فرضُهم الثُّلثَ اثنين كانا (¬1) أو مئة، فالاثنان والجماعة في ذلك سواء، وكذلك لو كُنَّ أَخواتٍ لأب أو لأب وأم ففرضُ الثنتين (¬2) وما زاد واحد، فحجبُها عن الثلث إلى السدس باثنين كحَجْبها بثلاثة سواء، لا فرق بينهما ألبتة. وهذا الفهم في غاية اللطف، وهو من أدق فهم القرآن، ثم طرد ذلك في الذكور من ولد الأب والأبوين لمعنى يقتضيه (¬3)، وهو توفير السدس الذي حُجبت عنه لهم لزيادتهم على الواحد (¬4) نظرًا لهم ورعايةً لجانبهم، وأيضًا فإن قاعدة الفرائض أن كُلَّ حكم اختصَّ به الجماعة عن الواحد اشتركَ فيه الاثنان وما فوقهما كولدِ الأُمِّ والبناتِ وبناتِ الابنِ والأَخواتِ للأبوين أو للأب، والحَجْبُ ههنا قد اختص به الجماعة، فيستوي فيه الاثنان وما زاد عليهما، وهذا هو القياس ¬
الصحيح والميزان الموافق لدلالة الكتاب وفهم أكابر الصحابة؛ وأيضًا فإن الأمة مُجْمِعة على أن قوله [تعالى] (¬1): {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] يدخل في حكمه الثنتان (¬2)، وإن اختلفوا في كيفية دخولهما في الحكم كما سيأتي، فهكذا دخول الأَخَويْن في الإخوة؛ وأيضًا فإن لفظ الإخوة كلفظ الذكور والإناث والبنات والبنين، وهذا كله قد يُطلق ويراد به الجنس الذي جاوَزَ الواحد وإن لم يزد على اثنين، فكلُّ حكمٍ عُلِّق بالجمع من ذلك دخل فيه الاثنان كالإقرار والوصية [والوقف] (1) وغير ذلك؛ فلفظ الجمع قد يُرَاد به الجنس المتكثِّر أعم من تكثيره بواحد أو اثنين (¬3)، كما أن لفظ المثنَّى قد يراد به المتعدّد أعم من أن يكون تعدده بواحد أو أكثر، نحو: {ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ودلالتهما [حينئذ] (¬4) على الجنس المتكثر (¬5)، وأيضًا فاستعمال [الاثنين في الجمع بقرينة واستعمال] (4) الجمع في الاثنين بقرينة (¬6) جائز بل واقع، وأيضًا فإنه سبحانه قال: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] وهذا يتناول الأخَ الواحدَ والأخت الواحدة كما يتناول مَنْ فوقهما (¬7)، ولفظُ الإخوةِ وسائرُ ألفاظ الجمع [قد] (¬8) يُعْنَى به الجنسُ من غير قصد التعدد، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] وقد يُعْنَى به العددُ من غير قصد [لعدد معين بل لجنس التعدد، وقد يُعنى به العددُ مع قصدِ معدودٍ معيَّن] (¬9)، فالأول يتناول الواحدَ وما (10) زاد، والثاني يتناول الاثنين وما (¬10) زاد، والثالث يتناول الثلاثة فما زاد عند إطلاقه، وإذا قُيِّد اختص بما قيد به. ومما يدل على أن قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11] أن المراد به الاثنان فصاعدًا أنه سبحانه قال: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ ¬
شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فقوله: {كَانُوا} [النساء: 12] ضمير جمع، ثم قال: {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] فذكَرهم بصيغة الجَمْعِ المُضْمَر وهو قولُه: {فَهُمْ} [النساء: 12] والمْظْهَر وهو قوله: {شُرَكَاءُ} [النساء: 12] ولم يذكر قبل ذلك إلا قوله: {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] فذكر حكم الواحد وحكم اجتماعه (¬1) مع غيره، وهو يتناول الاثنين قطعًا؛ فإن قولَه: {أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء: 12] أي أكثر من أخ أو أخت، ولم يرد أكثر من مجموع الأخ والأخت، بل أكثر من الواحد، فدل على أن صيغةَ الجَمْعِ في الفرائض تتناول العدَدَ الزائد على الواحد مطلقًا، ثلاثةً كان أو أكثرَ منه؛ وهذا نظير قوله: {وَإِنْ (¬2) كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] ومما يوضح ذلك أن لفظ الجمع قد يختص بالاثنين مع البيان وعدم اللبس، كالجمع المضاف إلى اثنين مما يكون المضاف فيه جزءًا من المضاف إليه أو كجزئه، نحو "قلوبهما" و"أيديهما"، فكذلك يتناول الاثنين فما فوقهما مع البيان (¬3) بطريق الأَوْلَى، وله ثلاثةُ أحوالٍ: أحدها: اختصاصُه بالاثنين، الثانية: صلاحيتُه لهما، الثالثة: اختصاصُه بما زاد عليهما، وهذه الحالُ له عند إطلاقه، وأما عند تقييده فبحسب ما قُيِّد به، وهو حقيقةٌ في الموضعين، فإن اللفظ تختلف دلالته بالإطلاق والتقييد، وهو حقيقةٌ في الاستعمالين؛ فظهر أن فهم جمهور الصحابة أحسن من فهم ابن عباس في حَجْب الأم بالاثنين، كما أن فهمهم في العمريتين أتمُّ من فهمه؛ وقواعد الفرائض تشهد لقولهم؛ فإنه إذا اجتمع ذكرٌ وأنثى في طبقة واحدة كالابنِ والبنتِ والجدِّ والجدّةِ والأَبِ والأمِّ والأخِ والأختِ فإما أن يأخذ الذكر ضعفَ ما تأخذه (¬4) الأنثى أو يساويها؛ وأَمَّا أن تأخذ الأنثى ضعفَ الذَّكرِ فهذا خلاف قاعدة الفرائض التي أوجبها شرعُ اللَّه وحكمته؛ وقد عهدنا اللَّه سبحانه أعطى الأب ضعفَ ما أعطى الأم إذا انفرد الأبوان بميراث الولد، وساوى بينهما في وجود الولد، ولم يفضِّلها عليه في موضع واحد، فكان جعل الباقي بينهما بعد نصيبِ أحدِ الزوجين أثلاثًا هو الذي يقتضيه الكتاب والميزان؛ فإن ما يأخذه الزوج أو الزوجة من المال كأنه مأخوذٌ بدَيْنٍ أو وصية إذ لا قرابةَ بينهما، وما يأخذه الأبوان يأخذانه بالقرابة، فصارا هما المستقلين بميراث الولد بعد فرض الزوجين، وهما في طبقة واحدة، فقسم الباقي بينهما أثلاثًا. ¬
فإن قيل: فههنا (¬1) سؤالان: أحدهما: أنكم هلَّا أعطيتموها ثلثَ جميع المال في مسألة زوجة وأبوين؛ فإن الزوجة إذا أخذتِ الرُّبعَ وأخذت هي الثلث كان الباقي للأب وهو أكثر من الذي أخذته، فوفيّتُم حينئذ بالقاعدة، وأعطيتموها الثلثَ كاملًا، والثاني: أنكم هلَّا جعلتم لها ثلثَ الباقي إذا كان بدل الأب في المسألتين جَدٌّ. قيل: قد ذهب إلى كل واحد من هذين المذهبين ذاهبون من السلف الطيب، فذهب إلى الأول محمد ابن سيرين (¬2) ومَنْ وافقه، وإلى الثاني عبد اللَّه بن مسعود (¬3)، ولكن أبى ذلك جمهورُ الصحابة والأئمة بعدهم، وقولُهم أصحُّ في الميزان وأقرب إلى دلالة الكتاب؛ فإنا لو أعطيناها (¬4) الثلث كاملًا بعد فرض الزوجة (¬5) كنّا قد خَرَجْنَا عن قاعدة الفرائض وقياسها (¬6) وعن دلالة الكتاب، فإن الأب حينئذٍ يأخذ [رُبُعًا وسُدُسًا] (¬7)، والأم لا تساويه ولا تأخذ شطره، وهي في طبقته، وهذا لم يشرعه اللَّه قط، ودلالة الكتاب لا تقتضيه؛ وأما في مسألة الجد فإن الجد أبعد منها، وهو يُحجَب بالأب، وليس في طبقتها فلا يُحجبُها عن شيء من حَقِّها، فلا يمكن أن تُعطى ثُلثَ الباقي ويُفضل الجد عليها بمثل ما تأخذ، فإنها أقرب منه، وليس في درجتها، ولا يمكن أن تُعطى السُّدس؛ فكان فرضها الثلث كاملًا. وهذا مما فهمه الصحابة -رضي اللَّه عنهم- من النصوص بالاعتبار الذي هو في معنى ¬
الأصل، أو بالاعتبار الأولى، أو بالاعتبار الذي فيه إلحاقُ الفرع بأشبه الأَصْلين به، أو تنبيه اللفظ، أو إشارته وفَحْواه، أو بدلالة التركيب، وهي ضَمُّ نص إلى نص آخر، وهي غير دلالة الاقتران، بل هي ألطف منها وأدق وأصح كما تقدم. فالقياس المحض والميزان الصحيح أنَّ الأم مع الأب كالبنت مع الابن والأخت مع الأخ؛ لأنهما ذكرٌ وأُنثى من جنس واحد، وقد أعطى اللَّه [سبحانه] (¬1) الزوجَ ضِعْفَ ما أعطى الزوجة تفضيلًا لجانب الذُكورية، وإنما عدل عن هذا في ولد الأم لأنهم يُدْلُون بالرحم المجرَّدِ ويُدْلُون بغيرهم وهو الأم، وليس لهم تعصيبٌ [بحال] (¬2)، بخلاف الزوجين والأبوين والأولاد، فإنهم يُدْلُون بأنفسهم، وسائر العصبة يُدْلون بذكرٍ كولدِ البنين وكالإخوةِ للأبوين أو للأب، فإعطاءُ الذَّكرِ مثلُ حَظِّ الأنثيين معتبرٌ فيمن يُدْلي بنفسه أو بعصبة؛ وأما مَنْ يُدلي بالأمومة كولد الأم فإنه لا يُفضَّلُ ذكرُهم على أنثاهم، وكان الذكر كالأنثى في الأخذ، وليس الذكر كالأنثى في باب الزوجية ولا في باب الأبوة ولا البنوة ولا الأخوة؛ فهذا هو الاعتبارُ الصحيحُ، والكتاب يدل عليه كما تقدم بيانه. وقد تناظر ابنُ عباس وزيد بن ثابت في العمريتين، فقال له ابن عباس: أين في كتاب اللَّه ثُلثُ ما بقي؟ فقال زيد: وليس في كتاب اللَّه إعطاؤها الثلث كله مع الزوجين (¬3)، أو كما قال، بل كتابُ اللَّه يمنعُ إعطاءَها الثلث مع أحد الزوجين؛ فإنه لو أعطاها الثلثَ مع الزوج لقال: فإن لم يكن له ولد فلأمه الثلث، فكانت تستحقه مطلقًا، فلما خَصَّ الثلثَ ببعض الأحوال عُلم أنَّها لا تستحقه مطلقًا، ولو أعطيته مطلقًا لكان قولُه: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} [النساء: 11] زيادة في اللفظ ونقصًا في المعنى، وكان ذِكْرُه عديمَ الفائدة، ولا يمكن أن تُعطى السدس [لأنه إنما جُعلَ لها مع الولد أو الإخوة، فدل القرآن على أنها لا تُعطى السدس] (¬4) مع أحد ¬
الزوجين ولا تعطى الثلث؛ وكان قسمةُ ما بقي بعد فرض الزوجين بين الأبوين مثلَ قسمةِ أَصلِ المال بينهما، وليس بينهما فرقٌ أصلًا لا في القياس ولا في المعنى. فإن قيل: فهل هذه دلالةٌ خطابيةٌ لفظية أو قياسية محضة؟ قيل: هي ذات وجهين؛ فهي لفظيةٌ من جهةِ دلالةِ الخطاب، وضمِّ بعضه إلى بعض، واعتبارِ بعضِه ببعض؛ وقياسيةٌ من جهة اعتبار المعنى، والجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، وأكثر دلالات النصوص كذلك كما في قوله: "مَنْ أعتق شِرْكًا [له] في عبد" (¬1) وقوله: "أيما رجل وَجَدَ مَتَاعَه بعينِه عند رجلٍ قد أفْلَسَ فهو أحقُّ به" (¬2) وقوله: "من باع شركًا له في أرض أو رَبْعة (¬3) أو حائط (¬4) " حيث يتناول الحوانيت؛ وقوله (¬5): {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] فخص الإناث باللفظ، إذ كُنَ سببَ النزول، فنَصَّ عليهن بخصوصهن، وهذا أصح من فَهْم من قال من أهل الظاهر: المرادُ بالمحصناتِ: الفروجُ المحصناتُ، فإن هذا لا يفهمه السامع من هذا اللفظ ولا من قوله: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] ولا من قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ ¬
فصل [مسألة ميراث الأخوات مع البنات]
النِّسَاءِ} [النساء: 24] ولا من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النور: 23] بل هذا من عُرْف الشارع، حيث يُعبِّر باللفظ الخاص عن [المعنى] (¬1) العام، وهذا غير باب القياس؛ وهذا تارة يكون لكون اللفظ الخاص صار في العُرف عامًّا كقوله: {لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (¬2) [النساء: 53] {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} (¬3) [فاطر: 13] {وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} (¬4) [النساء: 49، الإسراء: 71] ونحوه، وتارة لكونه قد عُلم بالضرورة من خطاب الشارع تعميمُ المعنى لكل ما كان مماثلًا للمذكور، وأن التَّعيين في اللفظ لا يُراد به التخصيص بل التمثيل، أو لحاجة المخاطب إلى تعيينه بالذكر، أو لغير ذلك من الحِكَم. فصل [مسألة ميراث الأخوات مع البنات] المسألة الثالثة: ميراث الأخوات مع البنات وأنهن عصبة؛ فإن القرآن يدل عليه كما أوجبته السنة الصحيحة (¬5)، فإن اللَّه سبحانه قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] وهذا دليل على أن الأختَ ترثُ النِّصف مع عدم الولد، وأنه هو يرث المال كله مع عدم ولدها، وذلك يقتضي أن الأخت مع الولد لا يكون لها النِّصفُ مما ترك؛ إذ لو كان كذلك لكان قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] زيادة في اللفظ، ونقصًا (¬6) في المعنى، وإيهامًا لغير المراد، فدل على أنَّها مع الولد لا ترثُ النصفَ، والولد إما ذكر وإما أنثى، [فأما ¬
الذكر] (¬1) فإنه يُسْقطها كما يُسقط الأخ بطريق الأولى، ودل قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] على أن الولدَ يُسقطه كما يسقطها، وأما الأنثى فقد دلَّ القرآنُ على أنها إنما تأخذ النصفَ ولا تمنع الأخ عن النصف الباقي إذا كانت بنت وأخ، بل دل القرآن مع السنة والإجماع أن الأخ يفوز بالنصف الباقي، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألْحِقُوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأوْلى رجلٍ ذكرٍ" (¬2) وليس في القرآن ما ينفي ميراث الأخت مع إناث الولد بغير جهة الفرض، وإنما صريحُه ينفي أن يكون فرضُها النصفَ مع الولد (¬3)، فبقي ههنا ثلاثة أقسام: إما أن يُفرضَ لها أقل من النصف، وإما أن تُحرمَ بالكلية، وإما أن تكون عَصَبة، والأولُ مُحَال، إذ ليس للأخت فرضٌ مُقدر غير النصف، فلو فرضنا لها أقلَّ منه لكان ذلك وضع شرع جديد، فبقي إما الحِرمانُ وإما التعصيبُ (¬4)، والحرمانُ لا سبيل إليه؛ فإنها وأخاها في درجة واحدة، وهي لا تُزاحم البنت (¬5)، فإذا لم يسقط أخوها بالبنت لم تسقط هي بها أيضًا، فإنها لو سَقَطت بالبنت ولم يسقط أخوها بها لكان أقوى منها وأقربَ إلى الميت، وليس كذلك، وأيضًا فلو أسقطتها البنتُ إذا انفردت عن أخيها لأسقطتها مع أخيها، فإن أخاها لا يزيدُها قوةً، ولا يحَصِّلُ لها نفعًا في موضع واحد، بل لا يكون إلا مضرًا لها ضررَ نقصان أو ضرر حرمان، كما إذا خلَّفت زوجًا وأمًا وأخوين لأم وأختًا لأب وأم، فإنها يُفرض لها النصفُ عائلًا، وإن كان معها أخوها سَقَطَا معًا، ولا تنتفع به في الفرائض في موضع واحد؛ فلو أسقطتها البنتُ إذا انفردت لأسقطتها بطريق الأولى مع من يضعفها ولا يقويها؛ وأيضًا فإن البنت إذا لم تُسْقط ابنَ الأخ وابن العم [وابن عم الأب] (¬6) والجد وإن بَعُد فأنْ (¬7) لا تُسْقِطَ الأخت مع قربها بطريق الأولى، وأيضًا فإن قاعدة الفرائض إسقاط البعيد بالقريب، وتقديم الأقرب على الأبعد، وهذا عكس ذلك فإنه يقتضي (¬8) تقديم الأبعد جدًا الذي بينه وبين الميت وسائط كثيرة على الأقرب الذي ليس بينه وبين الميت إلا واسطة الأب وحده، فكيف يرثُ ابنُ عمِّ جَدِّ الميت مثلًا ¬
مع البنت وبينه وبين الميت وسائط كثيرة وتُحرم الأخت القريبة التي ركَضَتْ معه في صُلْب أبيه ورحم أمه؟ هذا من المحال الممتنع شرعًا؛ فهذا من جهة الميزان. وأما من جهة فهم النص فإن اللَّه سبحانه قال في الأخ: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] ولم يمنع ذلك ميراثه منها إذا كان الولد أنثى، فهكذا قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] لا ينفي أن ترث غيرَ النصف مع إناث الولد أو ترث (¬1) الباقي إذا كان نصفًا؛ لأن هذا غير الذي أعطاها إياه فرضًا مع عدم الولد، فتأمله فإنه ظاهر جدًا؛ وأيضًا فالأقسام ثلاثة: * إما أن يقال: يُفرضُ لها النصف مع البنت. * أو يقال: تَسقطُ معها بالكلية. * أو يقال: تأخذ ما فَضَلَ بعد فَرْضِ البنت أو البنات. والأول ممتنع للنص والقياس، فإن اللَّه سبحانه إنما فرض لها النصفَ مع عدم الولد، فلا يجوز إلغاءُ هذا الشرط وفَرْضُ النصف لها مع وجوده، واللَّه سبحانه إنما أعطاها النصف إذا كان الميتُ كَلَالة لا ولدَ له ولا والد، فإذا كان له ولد لم يكن الميتُ كلالةً فلا يفرض لها معه [منه] (¬2)؛ وأما القياس فإنها لو فُرض لها النصف مع وجود البنت لنقصت البنت عن النصف إذا عالت الفريضة [كزوجة أو زوج] (¬3) وبنت وأخت [وإخوة] (¬4)، والإخوة لا يزاحمون الأولاد لا بفرضٍ ولا تعصيب، فإن الأولاد أولى منهم، فبطل فرض النصف، وبطل سقوطها بما ذكرناه؛ فتعين القسم الثالث وهو أن تكون عصبة لها ما بقي، وهي أولى به من سائر العصَبَات الذين هم أبعد منها؛ وبهذا جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي قضى بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فوافَقَ قضاؤه كتابَ ربه والميزانَ الذي أنزله (¬5) مع كتابه؛ وبذلك قضى الصحابةُ بعده كابن مسعود ومُعاذ بن جبل وغيرهما. فإن قيل: لكن خرجتم عن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألحقُوا الفرائضَ بأهلها، فما بقي فلأوْلى رجلٍ ذكرٍ" (¬6) فإذا أعطينا البنت فرضها وجب أن يُعطى الباقي لابن الأخ ¬
أو العم أو ابنه دون الأخت؛ فإنه رجل ذكر، فأنتم عدَلتم عن هذا النص وأعطيتموه الأنثى، فكنا أسعدَ بالنص منكم، وعملنا به وبقضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث أعطى البنتَ النصفَ وبنتَ الابن السدسَ والباقي للأخت إذا لم يكن هناك أولى رجل ذكر (¬1)، فكانت الأختُ عصبةَ، وهذا توسط بين قولكم و [بين] (¬2) قول من أسقط الأخت بالكلية، وهذا مذهب إسحاق بن راهويه، وهو اختيار أبي محمد بن حزم (¬3)، وسقوطها بالكلية مذهب ابن عباس كما قال عبد الرزاق: أنبا معمر، عن الزُّهريِّ، عن أبي سلمة: قيل لابن عباس: رجلٌ تَركَ ابنته وأخته لأبيه وأمه، فقال: لابنته (¬4) النصفُ ولأمهِ السدسُ وليس لأخته شيءٌ مما ترك، وهو لعصبته، فقال له السائل: إنّ عُمر قضى بغير ذلك، جَعلَ للبنتِ النصفَ، وللأختِ النصفَ، فقال ابنُ عباس: أأنتم أعلم أم اللَّه؟ قال معمر: فذكرت ذلك لابن طاوس، فقال [لي] (2): أخَبَرني أبي أنه سمع ابن عباس يقول: قال اللَّه عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] فقلتم أنتم: لها النصفُ، وإن كان له ولد (¬5)، وقال ابنُ أبي مُليكة، عن ابن عباس: أَمرٌ ليس في كتاب اللَّه ولا في قضاءِ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وستَجِدُونه في الناس كُلِّهم: ميراثُ الأخت مع البنت (¬6). فالجواب أن نصوص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها حق يُصدِّقُ بعضُها بعضًا ويجب الأخذُ بجميعها، ولا يُترك له نصٌ إلا بنص آخر ناسخ له، لا (¬7) يُترك بقياسٍ ولا رأي ولا عملِ أهلِ بلدٍ ولا إجماع، ومحال أن تُجمعَ الأمةُ على خلاف نص له إلا أن يكون له نص آخر ينسخه؛ فقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فما أبْقَتِ الفرائضُ فلأوْلى رجلٍ ¬
ذكرٍ" (¬1) عامٌّ قد خص منه قوله: "تَحُوزُ المرأة ثلاثَ مواريث: عتيقَها، ولقيطَها، وولدَهَا الذي لاعَنَتْ عليه" (¬2) وأجمع الناسُ على أنها عَصبة عتيقها، واختلفوا في كونها عصبة لقيطها وولدها المنفي باللعان، وسُنَّةُ رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تقضي (¬3) بين المتنازعين، فإذا خُصَّت منه هذه الصور بالنص (¬4) وبعضها مجمعٌ عليه خصت منه هذه الصورة لما ذكرناه من الدلالة (¬5). فإن قيل: قولُه: "فلأولى رجل ذكر" إنما هو في الأقارب الوارثين بالنسب وهذا لا تخصيص فيه (¬6). قيل: فأنتم تقدمون المعتق على الأخت مع البنت، وليس من الأقارب، فخالفتم النصين معًا، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "فلأولى رجل ذكر" فأكده بالذكورة ليبين أن العاصب بنفسه المذكور هو الذكر دون الأنثى، وأنه لم يرد بلفظ الرجل ما يتناول الذكر والأنثى كما في قوله: "مَنْ وَجَدَ متاعَهُ عند رجل قد أفلس" (¬7) ونحوه مما يُذكر فيه لفظ الرجل والحكمُ يعمُّ النوعين، وهو نظير قوله في حديث الصدقات: "فابْنُ لَبُونٍ ذكر" (¬8) ليبين أن المراد الذكر دون الأنثى، ولم يتعرض في الحديث ¬
فصل [صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات]
للعاصب بغيره، فدلَّ قضاؤه الثابتُ عنه في إعطاء الأخت مع البنت وبنت الابن (¬1) ما بقي أن (¬2) الأخت عصبة بغيرها، فلا تنافي بينه وبين قوله: "فلأولى رجل ذكر" بل هذا إذا لم يكن ثَّمَّ عصبة بغيره، بل كان العصبة عصبة بأنفسهم، فيكون أولاهُم وأقربُهم إلى الميت أحقهم بالمال؛ وأما إذا اجتمع العصبتان (¬3) فقد دلَّ حديثُ ابن مسعود الصحيح أن تعصيب الأخت أولى من تعصيب مَنْ هو أبعدُ منها، فإنه أعطاها الباقي ولم يعطه لابن عمه مع القطع (¬4)، فإن العرب بَنُو عم بعضُهم لبعض، فقريب وبعيد، ولا سيما إن كان ما حكاهُ ابنُ مسعود من قَضَاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضاء عامًا كليًا، فالأمر حينئذ يكون أظهر وأظهر. فصل [صحة قول الجمهور في مسألة ميراث الأخوات] ومما يبين صحة قول الجمهور أن قوله تعالى: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] إنما يدل منطوقُه على أنها تَرِثُ النصف مع عدم الولد، والمفهوم إنما يقتضي أن الحكم في المسكوت ليس مماثلًا للحكم في المنطوق، فإذا كان فيه تفصيلٌ حصل بذلك مقصود المخالفة، فلا يجب أن تكون كل صورة من صُوَر المسكوت مخالفة لكل صور المنطوق، ومَنْ تَوَهم ذلك فقد توهم باطلًا، فإن المفهوم إنما يدل بطريق التعليل أو بطريق التخصيص، والحكم إذا ثبت لعلةٍ فانتفت في بعض الصور أو جميعها جاز أن يخلُفها علةٌ أخرى. وأما قصد التخصيص فإنه يحصل بالتفصيل، وحينئذ فإذا نَفَيْنَا إرْثَهَا مع ذكور ¬
فصل [المراد بأولى رجل ذكر في المواريث]
الولد ونفينا (¬1) إرثَها النصفَ [فرضًا] (¬2) مع إناثهم وَفَّينا بدليل الخطاب. فصل [المراد بأولى رجل ذكر في المواريث] ومما يبين أن المراد بقوله؛ "فلأولى رجل ذكر" العصبةُ بنفسه لا بغيره أنه لو كان بعد الفرائض إخوةٌ وأخواتٌ أو بَنُون وبنات [أو بنات] ابن وبنو ابن لم ينفرد الذكر (¬3) بالباقي دون الإناث بالنص والإجماع، فتعصيبُ الأختِ بالبنت كتعصيبها بأخيها؛ فإذا لم يكن قوله: "فلأولى رجل ذكر" موجبًا لاختصاص أخيها دونها لم يكن موجبًا لاختصاص ابن عم الجد (¬4) بالباقي دونها. يوضحه أنه لو كان معها أخوها لم تسقط، وكان الباقي بعد فرض البنات بينها وبين أخيها هذا، وأخوها أقربُ إلى الميت من الأعمام وبنيهم، فإذا لم يُسقطها [الأخ] (¬5) فَلأن لا يُسقطها ابنُ عم الجد بطريق الأولى والأحْرَى، وإذا لم يسقطها ورثت دونه، لكونها أقْرَبَ منه، بخلاف الأخ فإنها تشَاركه (¬6)، لاستوائهما في القرب من الميت، فهذا مَحْضُ القياس والميزان الموافق لدلالة الكتاب ولقضاء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)؛ وعلى هذا الطريق فلا تخصيص في الحديث، بل هو على عُمومِه، وهذه الطريقة (¬8) أفْقَه وألطف. يوضح ذلك أن قاعدة الفرائض أن جنس أهل الفروضِ فيها مُقَدَّمون على جنس العصبة، سواء كان ذا فَرْضٍ مَحْض أو كان له مع فَرْضِه تعصيبٌ في حال إما بنفسه وإما بغيره، والأخَوات من جنس أهل الفرائض؛ فيجب تقديمهنَّ على من هو أبعد منهن ممن لا يرث إلا بالتعصيب المحض كالأعمام وبنيهم وبني الإخوة، والاستدلال بهذا الحديث على حرمانِهنّ مع البناتِ كالاستدلال على حرمانِهنَّ مع إخوتِهنَّ وحرمانِ بناتِ الابن، بل البنات أنفسهن مع إخوتهن، وهذا (¬9) باطلٌ بالنص، والإجماع، فكذا الآخر. ومما يوضحه أنا رأينا قاعدة الفرائض أن البعيد من العَصَبات يعصبُ من هو ¬
فصل [ميراث البنات]
أقرب منه إذا لم يكن له فرضٌ، كما إذا كان بناتٌ وبناتُ ابنِ وأسفل منهن ابنُ ابنِ ابنٍ فإنه يعصبُهن فيحصل (¬1) لهن الميراث بعد أنْ كُنَّ محروماتٍ، وأما أن البعيد من العَصَبَات يمنع الأقرب من الميراث بعد أن كان وارثًا فهذا ممتنع شرعًا وعقلًا، وهو عكس قاعدة الشريعة، واللَّه الموفق. وفي الحديث مسلك آخر، وهو، أن قولَه: "ألحقوا الفرائض بأهلها" المراد به من كان من أهلها في الجملة، وإن لم يكن في هذه الحال من أهلها كما في اللفظ الآخر: "اقْسِمُوا المالَ بين أهل الفرائض" (¬2) وهذا أعم من كونه من أهل الفرائض بالقوة أو بالفعل، فإذا كانوا كلهم من أهل الفرائض بالفعل كان الباقي للعصبة، وإن كان فيهم مَنْ هو من أهلِ الفرائضِ بالقوةِ وإن حُجب عن الفرضِ بغيره دَخَلَ في اللفظ الأول وإن لم يكن لأولى رجلٍ ذكر معه شيءٌ، وإنما يكون له إذا كان أهل الفرائض مطلقًا معدومين، واللَّه أعلم. فصل [ميراث البنات] المسألة الرابعة: ميراث البنات، وقد دلَّ صريحُ النص على أن للواحدة النصف ولأكثر من اثنتين الثلثين، بقي الثِّنْتان (¬3)، فأشْكَلَ دلالة القرآن على حكمهما على كثير من الناس، فقالوا: إنما أثبتناه بالسنة الصحيحة، وقالت طائفة: بالإجماع، وقالت طائفة: بالقياس على الأختين. قالوا: واللَّه سبحانه نصَّ على الأختينِ دون الأَخوات، ونص على البنات دون البنتين، فأخذنا حكم كل واحدة من الصورتين المسكوت عنها من الأخرى. وقالت طائفة: بل أُخذ من نص (¬4) القرآن، ثم تنوعت طرقهم في الأخذ: فقالت طائفة: أخذناه من قوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] فإذا أخذ الذكرُ الثلثين والأنثى الثلثَ عُلم قطعًا أن حظ الأنثيين الثلثان، وقالت طائفة: إذا كان للواحدة مع الذكر الثلثُ، لا الربع، ¬
فلأن (¬1) يكون لها الثلث مع الأنثى أوْلى وأحْرَى، وهذا من تنبيه النص بالأدنى على الأعلى، وقالت طائفة: أخذناه من قوله سبحانه (¬2): {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فقيد النِّصفَ بكونها واحدةً، فدل بمفهومه على أنه لا يكون لها إلا في حال وَحْدَتها، فإذا كان معها مثلُها فإما أن تُنقصَها عن (¬3) النصفِ وهو محالٌ أو يشتركان فيه وذلك يُبطلُ الفائدةَ في قوله: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} [النساء: 11]، ويجعلُ ذلك لغوًا مُوهِمًا خلافَ المراد به وهو محال، فتعين القسم الثالث وهو انتقالُ الفرضِ من النصف إلى ما فوقه وهو الثُلثان. فإن قيل: فأيُّ فائدةٍ [في التقييد بقوله] (¬4): {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء: 11] والحكمُ لا يختص بما فوقهما؟ قيل: حسنُ ترتيب الكلامِ وتأليفهِ ومطابقةِ مضمرِه لظاهره أوجبَ ذلك؛ فإنه سبحانه قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11]، فالضمير في {كُنَّ} مجموعٌ يطابق الأولاد، أي: فإن كان الأولادُ نساءً فذكر لفظ الأولاد وهو جمع {كُنَّ} (¬5) وهو ضمير جمع، و {نِسَاءً} وهو اسم جمع، فلم يكن بد من فوق اثنتين، وفيه نكتة أخرى، وهي (¬6) أنه سبحانه قد ذكر ميراثَ الواحدةِ نصًا وميراث الثنتين تنبيهًا كما تقدم، فكان في ذكر العدد الزائد على الاثنتين دلالة على أن الفرضَ (¬7) لا يزيدُ بزيادتِهنَّ على الاثنتين كما زاد بزيادة الواحدة على الأخرى. وأيضًا فإن ميراثَ الاثنتين قد عُلم من النص، فلو قال: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} [النساء: 176] كان تكرارًا (¬8) ولم يُعلم منه حكم ما زاد عليهما، فكان ذكر الجمع في غاية البيان والإيجاز، ومطابقة أولُ الكلام وآخرُه وحسن تأليفه وتناسبه. وهذا بخلاف سياق آخر السورة فإنه قال: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176]، فلم يتقدم اسمُ جمعٍ ولا ضميرُ جمع يقتضي أن يقول: فإن كُنَّ [نساءً] (¬9) فوق اثنتين. ¬
فصل
وقد ذَكَر ميراثَ الواحدةِ وأنه النصفُ، فلم يكن بُدّ من [ذكر] (¬1) ميراث الأختين وأنه الثلثان؛ لئلا يُتوهَّم أن الأخرى إذا انضمت إليها أخذت نصفًا آخر، ودل تشريكُه بين البنات وإن كَثُرن [في الثلثين] (¬2) على تشريكه بين الأخوات وإن كثرن [في ذلك] (2) بطريق الأولى؛ فإن البناتِ أقربُ من الأخواتِ ويُسقطنَ فرضهن؛ فجاء بيانُه سبحانه في كُلِّ من الآيتين من أحسن البيان، فإنه لما بَيَّن ميراث الاثنتين (¬3) بما تقرر بين ميراث ما زاد عليهما، وفي آية الإخوة والأخوات لمَّا بين ميراثَ الأخت والأختين لم يحتج أن يبين ميراث ما زاد عليهما؛ إذ قد عُلمَ بيانُ الزائد على الاثنتين في مَنْ هن (¬4) أوْلى بالميراث من الأخوات، ثم بيَّن حُكمَ اجتماع ذكورهم وإناثهم، فاستوعب بيانُه جميعَ الأقسام. فصل المسألة الخامسة: ميراث بنت الابن السدس مع البنت، وسقوطها إذا استكمل البناتُ الثلثين (¬5)، ودلالة القرآن على هذا أخفى من سائر ما تقدم، وبيانها أنه تعالى (¬6) قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وقد عُلم أن الخطاب يتناول ولد البنين، دون ولد البنات، وأن قوله: {أَوْلَادِكُمْ} يتناول مَنْ ينتسب إلى الميت وهم ولدُه وولدُ بنيه، وأنه يتناولُهم على الترتيب، فيدخل فيه ولدُ البنين عند عدم ولد الصُّلبِ؛ فإذا لم يكن إلا بنتٌ فلها النصف، وبقي من نصيبِ البناتِ السدسُ، فإذا كان ابنُ ابنٍ (¬7) أَخذَ الباقي كله بالتعصيب للنص، فإن كان معه أخَواته شاركْنَه في الاستحقاق لأنهن معه عصبة، وهذ أحد ما يدل على [أن] (1) قوله: "فلأولى رجلٍ ذكر" (¬8) لا يمنع أن تأخُذ الأنثى إذا كانت عصبية (¬9) بغيرها؛ ولهذا أخذت الأختُ مع البنت الباقيَ بالتعصيب، لأنها عصبية (9) بها، وإن لم يكن مع البنت إلا بناتُ ابنٍ فقد كنَّ بصَدَد أخذ الثلثين لولا البنتُ، فإذا أخذت النصف فالسدس الباقي لا مانع لهن من أخذه فيفُزنَ به؛ ألا ترى أنه إذا استكمل البنات الثلثين لم يكن لهن ¬
شيءٌ، ولو لم يكن بناتٌ أخذنَ جميع الثلثين، فإذا قُدِّمت البنت عليهن بالنصف أخذن بقية الثلثين اللذين كُنَّ يفزن بهما جميعًا لولا البنت، وهذا حكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[سواء] (¬1). فإن قيل: فمن أين أعطيتم بناتِ الابنِ إذا استكمل البناتُ الثلثين وكان معهن أخوهن، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الباقي لأولى رجلٍ ذَكَر؟ قيل: قد تقدم بيان ذلك مستوفى، وأن هذا حكم كل عصبة معه وارث من جنسه في درجته كالأولاد والإخوة بخلاف الأعمام وبني الإخوة. فإن قيل: فكيف عَصَّبَ ابنُ ابنِ الابنِ مَنْ فوقه وليس في درجته؟ قيل: إذا كان يَعصبُ مَنْ [هو] (¬2) في درجته مع أنه أنزلُ ممن فوقه ولا يُسقطه فتعصيبه لمن (¬3) هو فوقه وأقرب منه إلى الميت بطريق الأولى؛ فإذا كان الأنْزلُ لا يقوى هو على إسقاطه فكيف يقوى على إسقاط (¬4) الأعلى (¬5)؟ على أن عبد اللَّه بن مسعود لا يُعصِّبُ به مَنْ في درجته ولا من فوقه، بل يخصه بالباقي (¬6). ووجه قوله ¬
فصل [ميراث الجد مع الإخوة]
أنَّها لا ترث مفردةٌ (¬1) فلا ترث مع أخيها، كالمحجوبة برقِّ أو كفرٍ، بخلاف ما إذا كانت وارثةً كبنتٍ وبنتِ ابنٍ معها أخوها فإنه يعصبها اتفاقًا لأنها وارثةٌ. وقولُ الجمهور (¬2) أصحُّ، فإنها وارثة في الجملة، وهي ممن يستفيدُ التعصيب بأخيها. وهنا إنَّما سقط ميراثها بالفرض لاستكمال من فوقها الثلثين، ولا يلزم من سقوطِ الميراثِ بالفرض سقوطه بالتعصيب مع قيام مُوجبهِ وهو وجودُ الأخِ، [وإذا كان وجودُ الأخِ] (¬3) يجعلُها عصبةً فيمنعها الميراثَ بالكلية ولولاه وَرِثت بالفرضِ وهو الأخُ المشئوم فالعَدْل يقتضي أن يجعلَها عصبةً فيورِّثَها إذا لم ترث بالفرض وهو الأخُ النافعُ، فهذا محض القياس والميزان، وقد فهمت دلالة الكتاب عليه. والنزاعُ في الأختِ للأب مع الأختِ أو الأخواتِ للأبوين كبنتِ الابنِ مع البنتِ والبناتِ (¬4) سواء، وباللَّه التوفيق. فصل [ميراث الجد مع الإخوة] المسألة السادسة: ميراث الجد مع الإخوة، والقرآن يدل على قول (¬5) الصدِّيق ومَنْ معه من الصحابة كأبي موسى وابن عباس وابن الزبير وأربعة عشر منهم -رضي اللَّه عنهم- (¬6)، ووجه دلالة القرآن على هذا القول قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ]} (¬7) [النساء: 176] إلى آخر الآية، فلم يجعل للإخوة ميراثًا إلا في الكلالة. ¬
وقد اختلف الناس في الكلالة، والكتابُ يدل على قول الصِّدِّيق أنها ما عدا الوالد والولد (¬1)، فإنه سبحانه قال في ميراثِ وَلدِ الأم: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: 12] فسَوَّى بين ميراث الإخوة في الكَلالةِ وإنْ فرَّق بينهم في جهةِ الإرثِ ومقداره، فإذا كان وجودُ الجدِّ مع الإخوة للأم لا يُدْخِلهم في الكلالة، بل يمنعهم من صِدْقِ اسم الكلالة على الميت أو عليهم أو على القرابة، فكيف أُدخل ولد الأب في الكلالة ولم يمنعهم وجودُه صدقَ اسمها؟ وهل هذا إلا تفريقٌ محض بين ما جمع اللَّه بينه؟ يوضحه الوجه الثاني، وهو أن ولد الولد يمنع الإخوة من الميراث، ويخرج المسألة عن كونها كلالة؛ لدخوله في قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] ونسبة أبي (2) الأبِ إلى الميت كنسبةِ ولدِ ولده إليه، فكما أن الولَد وإن نَزَلَ يُخرج المسألة عن الكلالة فكذلك أبو (¬2) الأب وإن علا، ولا فرق بينهما ألبتة. يوضحه الوجه الثالث، [وهو] (¬3) أن نسبة الإخوة إلى الجد كنسبة الأعمام إلى أبي الجد، فإن الأخَ ابنُ الأب والعم ابن الجد، فإذا خَلَفَ عَمَّه وأبا جده فهو كما لو خلف أخاه وجدَّه سواء، وقد أجمع المسلمون على تقديم أبي (2) الجد على العم، فكذلك يجب تقديم الجد على الأخ، وهذا من أبين القياس وإن لم يكن هذا قياسًا جليًا فليس في الدنيا قياسٌ جلي! يوضحه الوجه الرابع، وهو أن نسبة ابن الأخ إلى الأخ كنسبة أبي (2) الجد إلى الجد، فإذا قال الأخ: أنا أرِثُ (¬4) مع الجد لأني ابنُ أبي (2) الميت والجد أبو أبيه (¬5) فكِلانا في القُرب إليه سواء، صاحَ ابنُ الأخِ مع أبي (2) الجد (¬6) وقال: أنا ابنُ ابنِ أبي (2) الميت فكيف حَرَمتموني مع أبي أبي أبيه ودرجَتُنا واحدة؟ وكيف ¬
سمعتم قول أبي مع الجدِّ ولم تسمعوا قولي مع أبي الجد؟ فإن قيل: أبو الجدِّ جَدٌ وإنْ علا، وليس ابنُ الأخ أخًا. قيل: فهذا حجةٌ عليكم؛ لأنه إذا كان أبو الأب أبًا، و [أبو] الجدِّ جدًا، فما للإخوة ميراثٌ مع الأب بحال. فإن قلتم: نحن نجعل أبا الجَدِّ جدًا، ولا نجعل أبا الأب أبًا. قيل: هكذا فعلتم، وفرَّقتم بين المتماثلين، وتناقضتم أبين تناقض، وجعلتموه أبًا في موضع وأخرجتموه عن الأبوة في موضع. يوضحه الوجه الخامس، وهو أن نسبة الجد إلى الأب في العَمُود الأعلى كنسبة ابنِ الابنِ إلى الابن في العمود الأسفل، فهذا أبو أبيه، وهذا ابنُ ابنهِ، فهذا يُدْلي إلى الميت بأبي الميت (¬1)، وهذا يُدلي إليه بابنهِ، فكما كان ابنُ الابنِ ابنًا فكذلك يجب أن يكون أبو الأب أبًا، فهذا هو الاعتبار الصحيح من كل وجه وهذا معنى قول ابن عباس: ألَا يَتَّقي اللَّه زيدٌ؟ يجعل ابنَ الابن ابنًا ولا يجعل أبا الأب أبًا؟ (¬2) يوضحه الوجه السادس، وهو أن اللَّه سبحانه سَمَّى الجَدَّ أبًا في قوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] وقوله: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} [الأعراف: 27] وقوله: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: 76] وقول يوسف: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] وفي حديثِ المعراج: "هذا أبوك آدم، وهذا أبوك إبراهيم" (¬3) وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لليهود: "مَنْ أبوكم؛ قالوا: فلانٌ، قال: كذبتم، بل أبوكم فلانٌ، قالوا: صدقتَ" (¬4) وسَمَّى ابنَ الابنِ ابنًا كما في قولهْ {يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] و {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 47] وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارْمُوا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا" (¬5) والأبوةُ والبنوةُ من الأمور المتلازمة المتضايفة ¬
يمتنع ثبوت أحدهما بدون الآخر، فيمتنع ثبوتُ بنوَّةِ الابنِ (¬1) إلا مع ثبوت الأبوَّةِ لأبي الأب. يوضحه الوجه السابع، وهو أن الجد لو مات ورثه بنو بنيه دون إخوته باتفاق الناس، فهكذا الأب إذا مات يرثه أبو أبيه دون إخوته، وهذا معنى قول عمر بن الخطاب لزيد: كيف يرثني أولادُ عبدِ اللَّه دون إخوتي ولا أرثهم دون إخوتهم؟ (¬2) فهذا هو القياس الجلي والميزان الصحيح الذي لا مغمزَ فيه ولا تطفيف. يوضحه الوجه الثامن، [وهو] (¬3) أن قاعدة الفرائض وأصولها [أنه] (¬4) إذا كان ¬
قرابةُ المُدْلي من الواسطة من جنس قرابة الواسطة كان أقوى مما إذا اختلف جنس القرابتين، مثال ذلك أن الميت يُدْلي إليه ابنُه بقرابة البنوَّة، وأبوهُ يُدْلي إليه بقرابة الأبوة، فإذا أدلى إليه واحد ببنوَّةِ البنوة وإنْ بعُدت كان أقوى ممن يدلي إليه بقرابة بنوة الأبوة وإن قربت، فكذلك قرابةُ أبوة الأبوة وإن عَلَتْ أقوى من قرابة بنوة الأب وإنْ قرُبت، وقد ظهر اعتبار هذا في تقديم جَدِّ الجد، وإن عَلا على ابنِ الأخِ وإن قَرُب وعلى العم؛ لأن القرابة التي يُدْلي بها الجد من جنسٍ واحد وهي الأبوة، والقرابة التي يدلي بها الأخ وبَنُوه من جنسين وهي بنوة الأبوة، ولهذا قُدِّمت قرابةُ ابنِ الأخ على قرابة ابن الجد؛ لأنها قرابةُ بنوةِ أبٍ، وتلك قرابةُ بنوةِ أبي أب، فبين ابنُ (¬1) الأخ فيها وبين الميت جنسٌ واحد وهي الأخوةُ، فبواسطتها وَصَل إليه، بخلاف العم فإن بينه وبينه جنسين (¬2) أحدهما الأبوة والثاني بنوتها، وعلى هذه القاعدة بناء [باب] (¬3) العَصَبات. يوضحه الوجه التاسع، وهو أن كُلَّ بني أبٍ أدنى وإن بَعدُوا عن الميت يُقَدَّمون في التعصيب على بني الأبِ الأعلى وإن كانَوا أقربَ إلى الميت، فابنُ ابنِ ابنِ الأخ يُقدَّم على العَمِّ القريب، وابنُ ابنِ ابنِ العَمِّ وإن نزل يُقدَّم على عَمّ الأبِ، وهذا مما يبين أن الجنس الواحد يقومُ أقصاه مقام أدناه، ويقدَّم الأقصى على من يقدم عليه الأدنى، فيُقدم ابنُ ابنِ الابنِ على من يقدم عليه الابنُ، وابن ابن الأخ على من يُقدَّم عليه الأخُ، وابن ابن العم على من يقدم عليه العم، فما بال أبي (¬4) الأب وحدَه خرج عن (¬5) هذه القاعدة ولم يقدم على من يقدم عليه الأب؟ وبهذا يظهر بطلان تمثيل الأخ والجد بالشجرة التي خرج منها غصنان والنهر الذي خرج منه ساقيتان (¬6)، فإن القرابة التي من جنس واحد أقوى من القرابة المركبة من جنسين؛ وهذه القرابة البسيطة مقدمة على تلك المركبة بالكتاب والسنة والإجماع والاعتبار الصحيح، ثم قياس القرابة على القرابة والأحكام الشرعية على مثلها أولى من قياس قرابة الآدميين على الأشجار والأنهار مما ليس في الأصل حكم شرعي، ثم نقول: بل النهر الأعلى أولى بالجَدْول من الجدول التي (¬7) اشتق ¬
منه، وأصل الشجرة أولى بغصنها من الغصن الآخر، فإن هذا صِنْوه ونظيره الذي لا يحتاج إليه، وذلك أصله وحاكمله الذي يحتاج إليه، واحتياج الشيء إلى أصله أقوى من احتياجه إلى نظيره، فاصلُه أولى به من نظيره. يوضحه الوجه العاشر، [وهو] (¬1) أن هذا القياس لو كان صحيحًا لوجَبَ طَرْدُه، ولما انتقض، فإن طرده تقديم الإخوة على الجد، فلما اتفق المسلمون على بطلان طَرْده علم أنه فاسد في نفسه. يوضحه الوجه الحادي عشر، [وهو] (1) أن الجد يقوم مقام الأب في التعصيب في كل سورة من صُوره، ويُقدَّم على كل عصبة يقدم عليه الأب، فما الذي أوجب استثناء الإخوة خاصة من هذه القاعدة؟ يوضحه الوجه الثاني عشر، [وهو] (1) أنه إن كان الموجِبُ لاستثنائهم قربهم (¬2) وجب تقديمهم عليه، وإن كان مساواتهم له في القرب وجب اعتبارهم (¬3) في بنيهم وآبائه لاشتراكهم في السبب الذي اشترك فيه هو والإخوة، وهذا مما لا جوابَ [لهم] (¬4) عنه. يوضحه الوجه الثالث عشر، وهو أنه قد اتفق الناس على أن الأخَ لا يُساوي الجد، فإن لهم قولين: أحدهما: تقديمُه (¬5) عليه، والثاني: توريثُه معه، والمورِّثون لا يجعلونه كأخ مطلقًا، بل منهم مَنْ يقاسم به الإخوة إلى الثلث (¬6)، ومنهم من يُقاسمهم به إلى السدس (¬7)، فإن نَقَصَتْه المقاسمةُ عن ذلك أعطوه إياه فرضًا ¬
وأدخلوا النقصَ عليهم أو حَرموهم، كزوجٍ وأمٍ وجدٍّ وأخٍ، فلو كان الأخُ مساويًا للجد وأولى منه كما ادَّعى المورثون أنه القياس لساواه في هذا السدس أو قُدِّم عليه (¬1)، فعُلم (¬2) أنَّ الجدَّ أقوى، وحينئذ فقد اجتمع عَصَبتان وأحدهما أقوى من الآخر فيقدم عليه. يوضحه الوجه الرابع عشر، [وهو] (¬3) أن المورِّثين للإخوة لم يقولوا في التوريث قولًا يدل عليه نصٌ ولا إجماعٌ ولا قياسٌ مع تناقضهم، وأما المقَدِّمون له على الإخوة فهم أسْعَدُ الناس بالنص والإجماع والقياس وعدم التناقض، فإن من المورثين مَنْ يُزاحِم به إلى الثلث، ومنهم من يزاحم به إلى السدس، وليس في الشريعة مَنْ يكون عَصَبة يُقاسم عصبة نظيره إلى حد ثم يُفرض له بعد ذلك الحد، فلم يجعلوه معهم عصبةً مطلقًا، ولا ذا فرض مطلقًا، ولا قدموه عليهم مطلقًا، ولا ساوَوْهُ بهم مطلقًا، ثم فرضوا له سدسًا أو ثلثًا بغير نص ولا إجماع ولا قياس، ثم حَسَبُوا عليه الإخوة من الأب ولم يعطوهم شيئًا إذا كان هناك إخوة لأبوين، ثم جعلوا الأخواتِ معه عصبةً إلا في سورة واحدة فرضوا فيها للأخت، ثم لم يهنوها بما فرضوا لها (¬4)، بل عادوا عليها بالإبطال فأخذوه وأخذوا ما أصابه فقسموه بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ثم أعالوا هذه المسألة خاصةً من مسائل الجد والإخوة، ولم يُعِيلوا غيرها، ثم ردُّوها بعد العَوْل إلى التعصيب، وسَلِم المُقدِّمون له على الإخوة من هذا كله (¬5) مع فَوْزهم بدلالة الكتاب والسنة والقياس ودخولهم في حزب الصِّدِّيق. يوضحه الوجه الخامس عشر، [وهو] (3) أن الصِّديقَ لم يَختلف عليه أحدٌ من ¬
الصحابة في عهده أنه مقدَّم على الإخوة، قال البخاري في "صحيحه" في [باب] (¬1) ميراث الجد مع الإخوة: "وقال أبو بكر وابن عباس وابن الزبير: "الجَدُّ أبٌ"، وقرأ ابنُ عباس: {يَابَنِي آدَمَ} [الأعراف: 26] {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [يوسف: 38] ولم يذكر أن أحدًا خالف أبا بكر في زمانه، وأصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متوافرون، وقال ابن عباس: يرثني ابنُ ابني دون إخوتي ولا أرث أنا ابنَ ابني؟ ويُذكر عن عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أقاويل مختلفة" (¬2)، انتهى، وقال عبد الرزاق: ثنا ابنُ جُرَيج قال: سمعتُ ابنَ أبي مليكة يحدث أن ابنَ الزُّبير كتب إلى أهل العراق: إن الذي قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا حتى ألقى اللَّه سِوى اللَّه لاتخذتُ أبا بكر خليلًا" كان يجعل الجدَّ أبًا (¬3)، وقال الدارمي في "صحيحه": ثنا مُسلم (¬4) بن إبراهيم: ثنا وُهَيبٌ: ثنا أيوب: عن عكرمة، عن ابن عباس قال: جعله الذي قال [له] (¬5) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذته خليلًا ولكن أخوَّة الإسلام أفضل" يعني: أبا بكر جعله أبًا (¬6). ثنا محمد بن يوسف (¬7)، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي بُرْدَةَ ¬
قال: لقيتُ مروان بن الحكم بالمدينة فقال: يا ابن أبي موسى ألم أُخْبَرْ اْن الجدَّ لا ينزل فيكم منزلة الأب وأنت لا تنكر؟ قال: قلت: [ولو كنت] (¬1) أنت لم تنكر، قال مروان: فأنا أشْهَدُ على عثمان بن عفان أنه شهد على أبي بكر أنه جعل الجدَّ أبًا، إذا لم يكن دونه أب (¬2). ثنا يزيد بن هارون: ثنا أشعث، [عن عروة] (¬3)، عن الحسن قال: إن الجد قد مضت فيه سُنَّة، وإن أبا بكر جعل الجدَّ أبًا، ولكن الناس تحيَّروا (¬4)، وقال حماد بن سلمة: ثنا هشام بن عروة، عن عروة، عن مروان قال: قال لي عثمان بن عفان: قال لي عمر (¬5): إني قد رأيت في الجد رأيًا، فإن رأيتم أن تتَّبعوه فاتبعوه، فقال عثمان: إن نَتبعْ رأيَك فرأيك رشد (¬6)، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك فنعم ذو الرأي كان، قال: وكان أبو بكر يجعله أبًا (¬7)، والمورِّثون للإخوة ¬
بعدهم عمرُ وعثمانُ وعلي وزيد وابن مسعود (¬1)، فأما عمر فإن أقواله اضطربت فيه، وكان قد كتب كتابًا في ميراثه، فلما طُعِنَ دعا به فمحاه (¬2). وقال الخُشنيُّ: عن محمد بن بَشَّار (¬3)، عن محمد بن أبي عَدي، عن شُعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال عمر حين طُعِنَ: إني لم أقض في الجد شيئًا (¬4). وقال وكيع: عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: مات ابنٌ لابن عمر بن الخطاب، فدعا زيدَ بن ثابت فقال: شَعِّبْ ما كنت تشعّب إني لأعلم (¬5) أنَّي أولى به منهم (¬6)، وأما علي فقال عبد الرزاق: عن معمر: ثنا أيوب، عن سعيد بن جبير، ¬
عن رجل من مراد قال: سمعت عليًا يقول: مَنْ سرَّه أن يتقحَّمَ (¬1) جراثيم جهنم فَلْيَقْضِ بين الجد والإخوة (¬2)، وأما عثمان وابن مسعود فقال البَغويُّ: ثنا حجَّاجُ بن المِنْهال: ثنا حماد بن سلمة: أخبرنا اللَّيث بن أبي سُلَيْم، عن طاوس أن عثمان وعبد اللَّه بن مسعود قالا: الجدُّ بمنزلةِ الأب (¬3). فهذه أقوال المورثين كما ترى قد اختلفت في أصل (¬4) توريثهم معه، واضطربت في كيفية التوريث، وخالفت دلالة الكتاب والسنة والقياس الصحيح، بخلاف قول الصديق ومَنْ معه (¬5). يوضحه الوجه السادس عشر، [وهو] (¬6) أن الناس اليوم قائلان: قائلٌ بقول أبي بكر، وقائل بقول زيد، ولكن قول الصديق هو الصواب وقول زيد بخلافه، فإنه يتضمن تعصيبَ الجَدِّ للأخوات وهو تعصيبُ الرجل جنسًا آخر ليسوا من جنسه، وهذا لا أصل له في الشريعة، إنما يُعْرَف في الشريعة تعصيب الرجال للنساء إذا كانوا من جنس واحد كالبنين والبنات والإخوة والأخوات، ولا يُنتقض هذا بالأخوات مع البنات فإن الرجال لم يعصبوهنَّ، وإنما عصبهن البناتُ، ولما كان تعصيبُ البنين أقوى كان الميراث لهم دون الأخوات، بخلاف قول من عصَّب الأخوات بالجد، فإنه عصبهنَّ بجنس آخر أقوى تعصيبًا منهن، وهذا لا عهد به في الشريعة البتة. ¬
يوضحه الوجه السابع عشر، [وهو] (¬1) أن الجد والإخوة لو اجتمعوا في التعصيب لكانوا إما من جنس واحد أو من جنسين، وكلاهما باطل، أما الأول فظاهر البطلان لوجهين: أحدهما: اختلافُ جهة التعصيب، والثاني: أنهم لو كانوا من جنس واحد لاستووا في الميراث والحرمان كالإخوة والأعمام وبنيهم إذا انفردوا، وهذا هو التعصيب المعقول في الشريعة، وأما الثاني فبطلانُه أظهر، إذ قاعدة الفرائض أن العصبةَ لا يرثون في المسألة إلا إذا كانوا من جنس واحد، وليس لنا عصبة من جنسين يرثان مُجتَمِعيْن قط، بل هذا محال (¬2)، فإن العصبة حكمُه أن يأخذَ ما بقي بعد الفروض، فإذا كان هذا حكم هذا الجنس وجب أن يأخذَ دون الآخر، وكذلك الجنس الآخر فيفضي أحدهما (¬3) إلى حرمانهما، واشتراكهما ممتنع لاختلاف الجنس، وهذا ظاهر جدًا. يوضحه الوجه الثامن عشر، [وهو] (¬4) أن الجدَّ أبٌ في باب الشهادة وفي بابِ سقوط القصاص، وأبٌ في باب المنعِ من دفعِ الزكاة إليه، وأبٌ في باب وجوب إعتاقه (¬5) على ولد ولده، وأبٌ في باب سقوط القطع في السرقة، وأبٌ عند الشافعي في باب الإجبار في النكاح، وفي باب الرجوع في الهبة، وفي باب العتق بالملك، وفي باب الإجبار على النفقة، وفي باب إسلام ابن ابنهِ تبعًا لإسلامه، وأبٌ عند الجميع في باب الميراث عند عدم الأب فرضًا وتعصيبًا في غير محل النزاع، فما الذي أخرجه عن أبوَّته في باب الجد والإخوة؟ فإن اعتبرنا تلك الأبواب فالأمر في أبوته في محل النزاع ظاهر، وإن اعتبرنا باب الميراث فالأمر أظهرُ وأظهر. يوضحه الوجه التاسع عشر، [وهو] (¬6) أن الذين وَرَّثوا الإخوة معه إنما ورَّثوهم لمساواة تعصيبهم لتعصيبه (¬7)، ثم نقضوا الأصل، فقدَّموا تعصيبَهُم على تعصيبه في باب الوَلَاءِ وأسقطوه بالإخوة لقوة تعصيبهم عندهم، ثم نقضوا ذلك أيضًا فقدَّموا الجدَّ عليهم في باب ولاية النكاح، وأسقطوا تعصيبهم بتعصيبه، وهذا ¬
غاية التناقض والخروج عن القياس لا بنص ولا إجماع. يوضحه الوجه العشرون، وهو قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" (¬1) فإذا خَلَّفت المرأةُ زوجَهَا وأمها وأخاها وجدها (¬2)؛ فإن كان الأخ أولى رجل ذَكَر فهو أحقُّ بالباقي، وإن كانا سواء في الأولوية وجَبَ اشتراكُهما فيه، وإن كان الجَدُّ أولى وهو الحق الذي لا ريب فيه فهو أولى به، وإذا كان الجد أولى رجل ذَكَر وجب أن ينفرد بالباقي بالنص، وهذا الوجه وحده كافٍ وباللَّه التوفيق. وليس القصد هذه المسألة بعينها، بل بيان دلالة النص والاكتفاء به عما عداه، وأن القياسَ شاهدٌ وتابع، لا أنه مستقل في إثبات حكم من الأحكام لم تدل عليه النصوص. ومن ذلك الاكتفاء بقوله: "كُلٌّ مسكرٍ خَمْر" (¬3) عن إثبات التحريم بالقياس في الاسم أو في الحكم كما يفعله مَنْ لم يحسن الاستدلال بالنص. ومن ذلك الاكتفاء بقوله (¬4): {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] عن إثبات قطع النَّبَّاش بالقياس اسمًا أو حكمًا، إذ السارقُ يعمُّ في لغةِ العرب وعُرْفِ الشارع [سارقَ] (¬5) ثياب الأحياء والأموات. ومن ذلك الاكتفاء بقوله (4): {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ [لَكُمْ] (¬6) تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] في تناوله لكل يمينٍ منعقدةٍ يحلفُ بها المسلمون، من غير تخصيص إلا بنص أو إجماع، وقد بيَّن ذلك سبحانه (¬7) في قوله: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ [مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] (89)} (6) [المائدة: 89] فهذا صريحٌ في أنَّ كل يمين منعقدة فهذا كفارتها، وقد أدخلتِ الصحابةُ في هذا ¬
النص الحلفَ بالتزام الواجباتِ والحلف بأحب القُرباتِ المالية إلى اللَّه وهو العتقُ، كما ثبت ذلك عن ستة (¬1) منهم ولا مخالف لهم من بقيَّتِهم (¬2)، وأدخلت فيه الحلفَ بالبغيض إلى اللَّه وهو الطلاق كما ثبت ذلك عن علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه (¬3) ولا مخالف له منهم (¬4)، فالواجبُ تحكيمُ هذا النص العام والعملُ بعمومه حتى يثبت إجماع الأمة إجماعًا متيفنًا (¬5) على خلافه، فالأمة لا تُجمِع على خطأ البتة. ومن ذلك الاكتفاء بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" (¬6) في إبطالِ كُلِّ عقدِ نهى اللَّه ورسوله عنه وحَرَّمه، وأنه لغوٌ لا يُعتدُّ به، نكاحًا كان أو طلاقًا أو غيرهما، إلا أن تُجمع الأمة إجماعًا معلومًا على أن بعض ما نهى اللَّه ورسوله عنه وحَرَّمه من العقود صحيحٌ لازم معتدّ به غير مردود، فهي لا تجمع على خطأ، وباللَّه التوفيق. ومن ذلك الاكتفاء بقوله [تعالى] (¬7): {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] مع قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬8) فكل ما لم يبين اللَّه ولا رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- تحريمَه من المطاعم و [المشارب] (7) والملابس والعقود والشروط فلا يجوز تحريمها، فإن اللَّه سبحانه قد فصَّل لنا ما حرم علينا، فما كان من هذه الأشياء حرامًا فلا بد أن يكون تحريمه مفصلًا، وكما أنه لا يجوز [إباحة ما حرّمه اللَّه، فكذلك لا يجوز تحريم ما عفا عنه ولم يحرمه] (¬9)، وباللَّه التوفيق. ¬
الفصل الثاني [ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس]
الفَصل الثَّاني [ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس] في بيان أنه ليس في الشريعة شيء على خلاف القياس، وأن ما يُظن مخالفته للقياس فأحد الأمرين لازم فيه ولا بد: إما أن يكون القياس فاسدًا، أو (¬1) يكون ذلك الحكم لم يثبت بالنص كونه من الشرع (¬2). وسألت شيخنا قدس اللَّه روحه (¬3) عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: "هذا خلافُ القياس" لِما ثبت بالنص أو قول الصحابة أو بعضهم، وربَّما كان مجمعًا عليه، كقولهم: طهارةُ الماء إذا وقعت فيه نجاسةٌ [على] (¬4) خلاف القياس، وتطهيرُ النجاسةِ على خلاف القياس، والوضوءُ من لحوم الإبل، والفِطْر بالحجامة، والسَّلَم، والإجارة، والحوالة، والكتابة، والمُضَاربة، والمزارعة، والمساقاة، والقَرْض، وصحةُ صوم الأكل الناسي (¬5)، والمضيُّ في الحج الفاسد، كل ذلك على خلاف القياس، فهل ذلك صواب أم لا؟ فقال: ليس في الشريعة ما يخالف القياس. وأنا أذكر ما حصلته من جوابه بخطه ولفظه، وما فتح اللَّه سبحانه لي بِيُمن إرشاده، وبركة تعليمه، وحسن بيانه وتفهيمه (¬6). [لفظ القياس مجمل] [أصْلُ هذا أن لفظ] (¬7) القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح ¬
[شبهة من ظن خلاف القياس وردها]
والفاسد، والصحيح هو الذي وَرَدَتْ به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، فالأول قياس الطَّرْد، والثاني قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث اللَّه به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فالقياس الصحيح مثل أن تكون العلة التي علَّق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس لا تأتي الشريعة بخلافه قط، وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو أن لا يكون بين الصورتين فرقٌ مؤثر في الشَّرع، فمثل هذا القياس أيضًا لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكمٍ يفارق به نظائره فلابد أن يختص ذلك [النوع] (¬1) بوصف يوجب اختصاصه بالحكم ويمنع مساواته لغيره، لكن (¬2) الوصف الذي اختص به ذلك النوع وقد (¬3) يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح أن يَعْلم صحتَه كلُّ أحد، فمن رأى شيئًا من الشريعة مخالفًا للقياس فإنما هو مخالف للقياس الذي انعقد في نفسه، ليس مخالفًا للقياس الصحيح الثابت في نفس الأمر، وحيث علمنا أن النص [ورد] (¬4) بخلاف قياس علمنا قطعًا أنه قياس فاسد، بمعنى أن سورة النص امتازت عن تلك الصور التي يُظن أنها مثلها بوصفٍ أوجب تخصيصَ الشارع لها بذلك الحكم، فليس في الشريعة ما يخالف قياسًا صحيحًا، ولكن يخالف القياس الفاسد، وإن كان بعضُ الناس لا يعلم فساده، ونحن نبين ذلك فيما ذكر في السؤال. [شبهة من ظن خلاف القياس وردها] فالذين قالوا: "المضاربة والمُسَاقاة والمزَارعة على خلاف القياس" ظنّوا أن هذه العقود من جنس الإجارة؛ لأنها عملٌ بعوض، والإجارة يشترط فيها العلم بالعِوَض والمعوض، فلما رأوا العمل والرِّبْحَ في هذه العقود غير معلومين قالوا: هي على خلاف القياس (¬5)، وهذا من غلطهم؛ فإن هذه العقود من جنس ¬
[العمل المقصود به المال على ثلاثة أنواع]
المشاركات، لا من جنس المعاوضات المحضة التي يشترط فيها العلم بالعوض والمعوض، والمشاركاتُ جنسٌ غير جنس المعاوضات، وإن كان فيها شَوْبُ المعاوضة، وكذلك المقاسمة جنس غير جنس المعاوضة المحضة، وإن كان فيها شَوْبُ المعاوضة حتى ظن بعضُ الفقهاء أنها بيع يشترط فيها شروط البيع الخاص. [العمل المقصود به المال على ثلاثة أنواع] وإيضاح هذا أن العمل الذي يقصد به المال ثلاثة أنواع (¬1): أحدهما: أن يكون العمل مقصودًا معلومًا مَقْدُورًا على تسليمه، فهذه الإجارة اللازمة. الثاني: أن يكون العمل مقصودًا، لكنه مجهولٌ أو غَرَرٌ، فهذه الجَعَالة (¬2)، وهي عقدٌ جائزٌ ليس بلازم، فإذا قال: "مَنْ رد عبدي الآبق فله مئة" فقد يقدر على رده وقد لا يقدر، وقد يردُّه من مكان بعيد أو قريب، فلهذا لم تكن لازمة، لكن هي جائزة، فإن عَمِل العملَ استحق الجعل، وإلّا فلا، ويجوز أن يكون الجُعْلُ فيها إذا حصل بالعمل جزءًا شائعًا ومجهولًا جهالة لا تمنع التسليم، كقول أمير الغزو: "مَنْ دَلَّ على حصنٍ فله ثلث ما فيه" أو يقول (¬3) للسّريَّة التي يسيرُ بها: "لكم خمسُ ما تغنمون أو ربُعُه" وتنازعوا في السَّلَب: هل هو مُستحقٌ بالشرع كقول الشافعي (¬4) أو بالشرط كقول أبي حنيفة (¬5) ومالك (¬6)؟ [على قولين] (¬7) وهما ¬
فصل
روايتان عن أحمد (¬1)، فمن جعله مستحقًا بالشرط جعله من هذا الباب، ومن ذلك إذا جعل للطبيب جُعْلًا على الشفاء جاز، كما أخذ أصحابُ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- القطيع من الشَّاءِ الذي جعله لهم سَيِّدُ الحي، فَرَقَاه أحدُهم حتى برئ (¬2)، والجُعْل كان على الشفاء لا على القراءة، ولو استأجر طبيبًا إجارة لازمة على الشفاء لم يصح؛ لأن الشفاء غير مقدور له (¬3)، فقد يشفيه اللَّه وقد لا يشفيه، فهذه ونحوه مما تجوز فيه الجَعَالة، دون الإجارة اللازمة. فصل وأما النوع الثالث فهو: ما لا يُقْصَد فيه العمل، بل المقصود فيه المال، وهو المضاربة، فإن ربَّ المال ليس له قصدٌ في نفس العمل كما للجاعل (¬4)، والمستأجر [له] (¬5) قصد في عَملِ العامل، ولهذا لو عمل ما عمل ولم يربح شيئًا لم يكن له شيءٌ، وإن سَمَّى هذا جَعَالة بجزء مما يحصل من العمل كان [هذا] (¬6) نزاعًا لفظيًا، بل هذه مشاركة: هذا بنفعِ ماله، وهذا بنفع بدنه (¬7)، وما قسم اللَّه من ربح كان بينهما على الإشاعة؛ ولهذا لا يجوز أن يختص أحدُهما بربح مقدر؛ لأن هذا يخرجهما عن العَدْل الواجب في الشركة، وهذا هو الذي نهى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المزارعة، فإنهم كانوا يشترطون لربِّ الأبيض زرعَ بقعة بعينها، وهو ما نبت على الماذياناتِ (¬8) وأقبال الجداول ونحو ذلك، فنهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه (¬9)، ولهذا قال الليث بن سعد وغيره: " [إن] (5) الذي نَهَى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرٌ لو نَظرَ فيه ذو البصيرة ¬
بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز" (¬1)، فتبين (¬2) أن النهي عن ذلك مُوجَبُ القياس، فإن هذا لو شرط في المضاربة لم يجز، فإن مبنى المشاركات (¬3) على العدل بين الشريكين، فإذا خُصَّ أحدهما بربح دون الآخر لم يكن ذلك عدلًا، بخلاف ما إذا كان لكل منهما جزء مشاع (¬4) فإنهما يشتركان في المَغْنَمِ والمَغْرم، فإن حصل ربح اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في المغرم، وذهب نفعُ بَدَنِ هذا كما ذهب نفعُ مال هذا، ولهذا كانت الوضيعة على المال؛ لأن ذلك في مقابلة ذهاب نفع المال، ولهذا كان الصواب أنه يجب في المضاربة الفاسدة ربح المثل (¬5)، فيُعْطَى العامل ما جرت العادة أن يُعطاه (¬6) مثله إما نصفه أو ثلثه، فأما أن يُعطى شيئًا مقدَّرًا مضمونًا في ذمة المالك كما يُعطى في الإجارة والجَعَالة فهذا غلط ممن قاله، وسببُ غلطه (¬7) ظنُّه أن هذه إجارة فإعطاءه في فاسدها عوضَ المثلِ كما يعطيه في الصحيح المُسمَّى، ومما يبين غلط هذا القول أن العامل قد يعمل عشر سنين أو أكثر، فلو أُعطي أجرة أُعطي (¬8) أضعاف رأس المال، وهو في الصحيح (¬9) لا يستحق إلا جزءًا من الربح إن كان هناك ربح، فكيف يستحق في الفاسدة أضعاف ما يستحقه في الصحيحة؟ وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة (¬10) ظنوا أنهما إجارة بعوض مجهول فابطلوهما، وبعضُهم صحَّح منهما (¬11) ¬
[الأصل في جميع العقود العدل]
ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها، وجوَّزوا من المزارعة ما يكون تبعًا للمساقاة إما مطلقًا وإما إذا كان البياضُ الثلث، وهذا كله بناء على أن مُقتضى الدليل بطلان المزارعة، وإنما جُوِّزت للحاجة، ومن أعطى النظر حقه على أن المزارعة أبعد عن الظلم والغرر من الإجارة بأجرة مسماة مضمونة في الذمة، فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض، فإذا لزمته الأجرة ومقصوده [من الزرع] (¬1) قد يحصل وقد لا يحصل كان في هذا حصول أحد المعاوضين (¬2) على مقصوده دون الآخر، فأحدُهما غانمٌ ولا بد، والآخر متردد بين المغنم والمغرم، وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة. [الأصل في جميع العقود العدل] والأصل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بُعثت به الرسل وأُنزلت به الكتب، قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من الظلم، والقرآن جاء بتحريم هذا وهذا، وكلاهما أكل المال (¬3) بالباطل، وما نهى عنه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المعاملات -كبيع الغَرر (¬4)، وبيع الثمر قبل بُدُوِّ صلاحه (¬5)، وبيع السِّنين (¬6)، وبيع حبَل الحَبَلة (¬7)، ¬
وبيع المُزَابَنة (¬1) والمحَاقَلة (¬2)، وبيع الحصاة (¬3)، وبيع المَلاقيح والمضامين (¬4)، ونحو ذلك- هي داخلة إما في الربا وإما في الميسر. فالإجارة بالأجرة المجهولة مثل أن يَكْرِيَه الدار بما يكسبه المكتري من (¬5) حانوته من المال هو من الميسر، وأما المُضَاربة والمسَاقاة والمزَارعة فليس فيها شيء من الميسر، بل هي [من] (¬6) أقْوَم العَدْل، وهو مما يبين لك أن المزارعة التي يكون فيها البَذْر من العامل أولى بالجواز من المزارعة التي يكون فيها البذر من رب الأرض؛ ولهذا كان أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يزارعون على هذا الوجه، وكذلك عَامَلَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أهلَ خيبر بشَطر ما يخرج منها من ثمر وزرع على أن يعملوها من أموالهم (¬7)، والذين اشترطوا أن يكون البذر من رب الأرض قاسُوا ذلك على ¬
فصل [الحوالة موافقة للقياس]
المضاربة، فقالوا: المضاربة المال فيها من واحد والعمل من آخر، فكذلك المزارعة ينبغي أن يكون البَذْر فيها من مالك الأرض، وهذا القياس -مع أنه مخالف للسنة الصحيحة ولأقوال الصحابة- فهو من أفسد القياس، فإن المال في المضاربة يرجع إلى صاحبه، ويقتسمان الربح، فهذا نظير الأرض في المزارعة، وأما البَذْر الذي لا يعود نظيره إلى صاحبه بل يذهب كما يذهب نفع الأرض فإلحاقه بالنفع الذاهب أولى من إلحاقه بالأجل (¬1) الباقي؛ فالعامل إذا أخرج البَذْرَ ذهب عمله وبذره، ورب الأرض يذهبُ نفعُ أرضه، وبدن هذا (¬2) كأرض هذا؛ فمن جعل البَذْرَ كالمال في المضاربة كان ينبغي له أن يعيد مثل هذا البذر إلى صاحبه، كما قال مثل ذلك في المضاربة، كيف ولو اشترط رب البذر عَوْد نظيره لم يجوّزوا ذلك؟ فصل [الحوالة موافقة للقياس] وأما الحوالة فالذين قالوا: "إنها على خلاف القياس" (¬3) قالوا: هي بيع دين بدين، والقياس يأباه، وهذا غلطٌ من وجهين (¬4): أحدهما: أن بيع الدين بالدين ليس فيه نص عام ولا إجماع، وإنما ورد النهي عن بيع الكالئ بالكالئ (¬5)، والكالئ: هو المؤخَرُ الذي لم يُقْبَضْ (¬6)، كما لو أسلم شيئًا في شيء في الذمة، وكلاهما مُؤخَّر، فهذا لا يجوز بالاتفاق، وهو بيع كالئ بكالئ (¬7)، وأما بيع الدَّيْن بالدَّيْن فينقسم إلى بيع واجب بواجب كما ذكرنا، ¬
وهو الممتنع (¬1)، وينقسم إلى بيع ساقط بساقط، وساقط بواجب، وواجب بساقط، وهذا فيه نزاع. قلت (¬2): الساقطُ بالساقط في سورة المقاصَّة، والساقطُ بالواجبِ كما لو باعه دينًا له في ذمته بدَيْن آخر من غير جنسه، فسقط الدينُ المبيعُ ووجب عِوَضه، وهو (¬3) بيع الدين ممن هو في ذمته، وأما بيع الواجب بالساقط فكما لو أسلم إليه في كُر (¬4) حنطة بعشرة دراهم في ذمته فقد وجب له عليه دَيْن وسقط له عنه دين غيره، وقد حُكي الإجماع على امتناع هذا، ولا إجماع فيه، قاله شيخنا، واختار جوازه (¬5)، وهو الصواب، إذ لا محذور فيه، وليس (¬6) بيع كالئ بكالئ فيتناوله النهي بلفظه ولا في معناه فيتناوله بعموم المعنى، فإن المنهيَّ عنه قد اشتغلت فيه الذمتان بغير فائدة فإنه لم يتعجل أحدُهما ما يأخذه فينتفع بتعجيله وينتفع صاحب المؤخر بربحه، بل كلاهما اشتغلت ذمته بغير فائدة، وأما ما عداه من الصور الثلاث فلكل منهما غَرضٌ صحيح ومنفعة مطلوبة، وذلك ظاهر في مسألة التقاص، فإن ذمتهما تبرأ من أسرِها، وبراءةُ الذمة مطلوبٌ (¬7) لهما وللشارع، فأما في الصورتين الأخرتين (¬8) فأحدهما يُعجِّل براءة ذمته والآخر ينتفع (¬9) بما يربحه، وإذا جاز أن يشغل أحدهما ذمته والآخر يحصل على الربح -وذلك في بيع العين بالدين- جاز أن يفرغَهَا من دَيْنٍ ويشغلها بغيره، وكأنه شغلها به ابتداء (¬10) إما بقرض أو (¬11) بمعاوضة، فكانت ذمته مشغولة بشيء، فانتقلت من شاغل إلى شاغل، وليس هناك بيع كالئ بكالئ، وإن كان بيع دَيْن بدين فلم ينهَ الشَّرعُ (¬12) عن ذلك لا بلفظه ولا بمعنى لفظه، بل قواعد الشرع تقتضي جوازه؛ فإن الحوالة اقتضت نقل الدين وتحويله من ذمةِ المُحيل إلى ذمة المُحال عليه، فقد عاوض ¬
المُحيلُ المحتالَ بدينه بدين آخر (¬1) في ذمة ثالث (¬2)، فإذا عاوضَهُ من دَيْنه على دين آخر في ذمته كان أولى بالجواز وباللَّه التوفيق. رجعنا إلى كلام شيخ الإسلام، قال (¬3): الوجه الثاني -يعني مما يبين أن الحوالة على وفق القياس- أنَّ الحوالة من جنس إيفاء الحق، لا من جنس البيع، فإن صاحب الحق إذا استوفى من المَدينِ (¬4) مالَه كان هذا استيفاء، فإذا أحاله على غيره كان قد استوفى ذلك الدَّيْن عن الدين الذي في ذمةِ المُحيل؛ ولهذا ذكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الحوالة في معرض الوفاء، فقال في الحديث الصحيح: "مَطْلُ الغني ظلم، وإذا أُتْبعَ أحدكم على مليء فَلْيَتَّبع" (¬5) فأمر المَدِينَ بالوفاء، ونهاه عن المطل، وبين أنه ظالم إذا مطل، وأمر الغريم بقبول الوفاء إذا أحيل على مليء، وهذا كقوله [تعالى] (¬6): {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] أمر المستحق أن يطالب بالمعروف، وأمر المؤدي (¬7) أنْ يؤدّي بإحسان، ووفاءُ الدين ليس هو البيع الخاص وإن كان فيه شَوْب (¬8) المعاوضة، وقد ظنَّ بعضُ الفقهاء أن الوفاء إنما يحصل باستيفاءِ المَدين بسبب [أن] (¬9) الغريم إذا قبض الوفاء صار في ذمة المدين مثله (¬10)، ثم إنه يقاصُّ ما عليه بماله، وهذا تكلُّفٌ أنكره جمهور الفقهاء، وقالوا: بل نفس المال الذي قَبضهُ يحصلُ به الوفاء، ولا حاجَة أن يُقدِّر في ذمة المستوفي دَيْنًا، وأولئك قَصَدُوا أن يكون وفاء دين بدين مطلق، وهذا لا حاجة إليه، فإن الدَّينَ من جنس المطلق الكلي والمعيَّن من جنس المعين، فمن ثبت في ذمته دين مطلق كلي فالمقصود منه هو الأعيان الموجودة، وأي مُعين ¬
فصل [القرض على وفق القياس]
استوفاه حَصَل به المقصودُ من ذلك الدين المطلق. فصل [القرض على وفق القياس] وأما القرض فمن قال: "إنه على خلاف القياس" (¬1) فشُبْهته أنه بيع رِبَوي بجنسه مع تأخر القبض، وهذا غلط (¬2)، فإن القرض من جنِس التبرع بالمنافع كالعارية، ولهذا سَمَّاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[مَنِيحَةً] (¬3) فقال: "أو مَنيحة ذهب أو منيحةَ وَرِقٍ" (¬4) وهذا من باب الإرفاق، لا من باب المعاوضات، فإن باب المعاوضات يُعطي كلٌّ منهما أصلَ المال على وجه لا يعود إليه، وباب القرض من جنس باب العارية والمنيحة وإفقار الظهر مما يُعطي فيه أصل المال لينتفعَ بما يستخلف منه ثم يُعيده إليه بعينه إن أمكن وإلا فنظيره ومثله (¬5)، فتارةً ينتفع بالمنافع كما في عارية العَقَار وتارة يمنحه ماشيةً ليشرب لبنها ثم يعيدها أو شجرة (¬6) ليأكل ثمرها ثم يعيدها، وتُسمَّي العريه، فإنهم يقولون: أعراه الشجرة (¬7)، وأعاره المتاع، ومَنَحه الشاة، وأفقره الظهر، وأقرضه الدراهم، واللبن والثمر لمَّا كان يستخلف شيئًا بعد شيء كان بمنزلة المنافع، ولهذا كان في الوقف يجري مجرى المنافع، وليس هذا من باب البيع في شيء بل هو من باب الإرفاق والتبرع والصدقة، وإن كان المُقْرضُ قد ينتفع أيضًا بالقَرْض كما في مسألة السفتجة (¬8)، [ولهذا كرهها من كرهها] (¬9)، والصحيح أنها لا تكره؛ لأن المنفعة لا تخص المقرض، بل ينتفعان بها جميعًا (¬10). ¬
فصل [إزالة النجاسة على وفق القياس]
فصل [إزالة النجاسة على وفق القياس] وأما إزالة النجاسة فمن قال: "إنها على خلاف القياس" (¬1) فقوله مِنْ أبطل الأقوال وأفسدها (¬2)، وشبهته أن الماء إذا لاقى نجاسة تنخس بها، ثم [لاقى] (¬3) الثاني والثالث كذلك، وهلمَّ جرًا، والنجس لا يزيل نجاسة، وهذا غلط، فإنه يقال: فلم (¬4) قلتم: إن القياس يقتضي أن الماء إذا لاقى نجاسةً نَجُسَ؟ فإن قلتم: الحكم في بعض الصور كذلك، قيل: هذا ممنوع عند من يقول: [إن] (3) الماء لا يَنْجُس إلا بالتغير. فإن قيل: فيقاس ما لم يتغيّر على ما تغيّر. قيل: هذا من أبطل القياس حسًا وشرعًا، وليس جَعْلُ الإزالة مخالفةً للقياس بأولى من جعل تنجيس الماء مخالفًا للقياس، بل يقال: إن القياس يقتضي أن الماء إذا [لاقى نجاسة لا ينجس، كما أنه إذا] (5) لاقاها حال الإزالة لا ينجس؛ فهذا القياسُ أصحُّ من ذلك القياس؛ لأن النجاسة تزول بالماء حسًا وشرعًا، وذلك معلوم بالضرورة من الدين [بالنص والإجماع] (¬5)؛ وأما تنجيسُ الماء بالملاقاة فموردُ نزاعٍ، فكيف يُجعل مَوردُ النزاعِ حجةً على مواقع الإجماع (¬6)؟ والقياسُ يقتضي رد موارد النزاع إلى مواقع الإجماع، وأيضًا فالذي تقتضيه العقولُ أن الماء إذا لم تغيره النجاسة لا ينجس، فإنه باق على [أصل] (5) خلقته، فهو (¬7) طيب، فيدخل في قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} (¬8) [الأعراف: 157]. وهذا هو القياس في المائعات جميعها إذا وقع فيها نجاسة فاستحالت بحيث لم يظهر لها لونٌ ولا طعمٌ ولا ريحٌ. ¬
وقد تنازع الفقهاء: هل القياس يقتضي نجاسة الماء بملاقاة النجاسة إلا ما استثناه الدليل (¬1)، أو القياس يقتضي أنه لا ينجس إذا لم يتغير؟ على قولين، والأول قول أهل العراق، والثاني قول أهل الحجاز، وفقهاء الحديث منهم من يختار هذا ومنهم من يختار هذا (¬2). وقول أهل الحجاز هو الصواب الذي تدل عليه الأصول والنصوص والمعقول (¬3)، فإن اللَّه سبحانه أباح الطَّيبات وحَرَّم الخبائث، والطيَّبُ والخبيثُ يثبت للمَحَلِّ (¬4) باعتبار صفات قائمة به، فما دامت تلك الصفة فالحكمُ تابعٌ لها، فإذا زالت وخَلَفتها الصفة الأخرى زال الحكم وخلله ضده، وهذا (¬5) هو مَحْضُ القياس والمعقول، فهذا الماء والطعام كان طيبًا لقيام الصفةِ الموجبةِ لِطِيبه، فإذا زالت تلك الصفة وخَلَفتها (¬6) صفة الخبث عاد خبيثًا، فإذا زالت صفة الخَبَث عاد [إلى ما كان] (¬7) عليه، وهذا كالعصير الطيب إذا تخَمَّر صار خبيثًا فإذا عاد إلى ما كان عليه عاد طيِّبًا، [والماء الكثير إذا تغير بالنجاسة صار خبيثًا فإذا زال التغير عاد طيبًا، والرجل المسلم إذا ارتدَّ صار خبيثًا فإذا عاد إلى الإسلام عاد طيبًا] (¬8)، والدليل على أنه طيب الحس والشرع: أما الحس فلأن الخبث لم يظهر له فيه أثرٌ بوجه ما لا في لونٍ ولا طعمٍ ولا رائحةٍ، ومحالٌ صِدْقُ المشتقِّ بدون المشتق منه، وأما الشرع فمن وجوه: أحدها: أنه كان طيبًا قبل ملاقاته لما يتأثر به، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت رفعه، وهذا يتضمن أنواع الاستصحاب الثلاثة المتقدمة: استصحاب براءة الذمة من الإثم بتناوله شربًا أو طبخًا أو عجنًا (¬9)، وملابسة واستصحاب (¬10) الحكم الثابت وهو الطهارة، واستصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. ¬
الثاني: أنه لو شرب هذا الماء الذي قُطِرت فيه قطرةٌ من خمر مثل رأس الذبابة (¬1) لم يُحدّ اتفاقًا، ولو شربه صبيٌّ وقد قطرت فيه قطرة من لبن لم ينشئ الحرمة، فلا وجه للحكم بنجاسته لا من كتاب ولا سنة (¬2) ولا قياس. والذين قالوا: "إن الأصل نجاسة الماء بالملاقاة" تناقضوا أظهر (¬3) تناقض، ولم يمكنهم طَرْدُ هذا الأصل: فمنهم من استثنى مقدار الُقلَّتين (¬4) على خلافهم فيها، ومنهم من استثنى ما لا يمكن نَزحُه، ومنهم من استثنى ما إذا حُرِّكَ أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر (¬5)، ومنهم من استثنى الجاري خاصة، وفرَّقوا بين ملاقاة الماء في الإزالة إذا ورد على النجاسة وملاقاتها له إذا وردت عليه بفروق: منها أنه وارد على النجاسة فهو فاعلٌ وإذا وردت عليه فهو مَوْرُود مُنْفعل وهو أضعف، ومنها أنه إذا كان واردًا فهو جارٍ (¬6) والجاري له قوة، ومنها أنه إذا كان واردًا فهو في محل التطهير وما دام في محل التطهير فله عمل وقوة، والصواب [أن مقتضى القياس] (¬7) أن الماء لا ينجس إلا بالتغير (¬8)، وأنه إذا تغيَّر في محل التطهير فهو نجس أيضًا، وهو في حال تغيره لم يزلها، وإنما خففها، ولا تحصل الإزالة المطلوبة إلا إذا كان غير متغير، وهذا هو القياس في المائعات كلها: أن يسيرَ النجاسةِ إذا استحالت في الماء ولم يظهر لها (¬9) فيه لونٌ ولا طعمٌ ولا رائحةٌ فهي من الطيبات لا من الخبائث، وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: " [إن] الماء لا ¬
ينجس" (¬1) وصح عنه أنه قال: "إن الماءَ لا يجنُب" (¬2) وهما نصان صريحان في أن ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الماء لا ينجس بالملاقاة، ولا يسلبه طَهُوريتُه استعمالَه في إزالة الحدث، ومَنْ نجَّسه بالملاقاة أو سَلبَ طَهُوريته بالاستعمال فقد جعله ينجس ويجنب، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثبت عنه في "صحيح البخاري" أنه سئل عن فارة وقعت في سَمْن فقال: "ألقُوهَا وما حولها وكُلُوه" (¬1) ولم يفصل بين أن يكون جامدًا أو مائعًا قليلًا أو كثيرًا، فالماء من طريق الأولى يكون هذا حكمه، وحديث التفريق بين الجامد (¬2) والمائع حديثٌ معلول (¬3)، وهو غلط من معمر من عدِّة وجوهٍ بيَّنها البخاريُّ في "صحيحه" ¬
والترمذيُّ في "جامعه" وغيرهما (¬1)، ويكفي أن الزهري الذي روى عنه معمر حديث التفصيل قد روى عنه الناسُ كُلُّهم خلَاف ما روى عنه معمر، وسئل عن هذه المسألة فأفتى بأنها تُلْقَى وما حولها ويؤكل الباقي في الجامد والمائع والكثير والقليل، واستدلل بالحديث (¬2)، [فهذه فُتْيَاه] (¬3)، وهذا استدلاله، وهذه رواية الأئمة عنه، فقد اتفق على ذلك النص والقياس، ولا يصلح للناس سواه، وما عداه من الأقوال فمتناقض لا يمكن لصاحبه طرده كما تقدم، فظهر أن مخالفة القياس فيما خالف النص لا فيما جاء به النص. ¬
فصل [طهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس]
فصل [طهارة الخمر بالاستحالة على وفق القياس] وعلى هذا الأصل فطهارة الخَمر بالاستحالة على وَفْق القياس، فإنها نجسة لوصف الخَبَث، فإذا زال الموجِبُ زال الموجَبُ، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها [بل] (¬1) وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات إذا استحالت (¬2)، وقد نَبَشَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قبورَ المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب (¬3)، وقد أخبر اللَّه سبحانه عن اللَّبن أنه يخرج من بين فَرْث ودَمٍ، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا عُلِفَتْ بالنجاسة ثم حُبست وعُلِفت بالطاهرات حل لبنها ولحمها، وكذلك الزروع (¬4) والثمار إذا سقِيت بالماء النجس ثم سقيت بالطاهر حلَّت (¬5) لاستحالة وصفِ الخبث وتبدله بالطيب. وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثًا صار نجسًا كالماء والطعام إذا استحال بَوْلًا وعذرةً، فكيف أثّرت الاستحالة في انقلاب الطَّيِّب خبيثًا ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيبًا؟ واللَّه تعالى يخرج الطيب من الخبيث والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه، ومن الممتنع بقاءُ حكم الخبيث وقد زال اسمه ووصفه، والحكم تابع للاسم والوصف دائر معه وجودًا وعدمًا، فالنصوص المتناولةُ لتحريمِ الميتةِ والدم ولحم الخنزير والخَمرِ لا تتناول الزروع (¬6) والثمار والرَّماد والملح والتراب والخَل لا لفظًا ولا معنى، لا نصًا ولا قياسًا. والمفرِّقون بين استحالة الخمر وغيرها قالوا: الخمر نجست بالاستحالة فطهرت بالاستحالة، فيقال لهم: وهكذا الدم والبول (¬7) والعذرة إنما ¬
فصل [الوضوء من لحوم الإبل على وفق القياس]
نجست بالاستحالة وطهرت (¬1) بالاستحالة، فظهر أن القياس مع النصوص وأن مخالفة القياس في الأقوال التي تخالف النصوص. فصل [الوضوء من لحوم الإبل على وفق القياس] وأما قولهم: "إن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس؛ لأنها لحم، واللحم لا يتوضأ منه" (¬2) فجوابه أن الشارع فَرَّق بين اللَّحمين، كما فرَّق بين المكانين، وكما فرَّق بين الراعيين: [رعاة الإبل ورعاة الغنم] (¬3) فأمر بالصلاة في مَرَابِض الغَنَمِ دون أعطان الإبل (¬4)، وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل ¬
دون الغَنَم (¬1)، كما فرَّق بين الربا والبيع، والمُذَكَّى (¬2) والمَيْتة؛ فالقياس الذي يتضمن التسوية بين ما فرق اللَّه بينه مِنْ أبطل القياس وأفسده، ونحن لا ننكر أن في الشريعة ما يخالف القياس الباطل، هذا مع أن الفرق بينهما ثابت في نفس الأمر، كما فرَّق بين أصحابِ الإبلِ وأصحابِ الغنمِ فقال: "الفَخْرُ والخيَلَاءَ في الفَدَّادين (¬3) أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم" (¬4) وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطانًا (¬5)، وجاء أنها جنٌّ خُلقت من جن (¬6)، ففيها قوة شيطانية، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
والغاذِي شبيه بالمغتذي، ولهذا حَرَّمَ كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير (¬1)؛ لأنها دواب عادية، فالاغتذاء بها يجعل في طبيعة المغتذي من العُدْوان ما يضرُّه في دينه، فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشَّيْطانية والشيطان خُلِق من نار والنارُ تُطفأ بالماء، هكذا جاء الحديث، ونظيره الحديث الآخر: "إن الغَضَبَ من الشيطان، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" (¬2) فإذا توضأ العبد من لحوم الإبل كان في وضوئه ما يُطفيء تلك القوة الشيطانية فتزول تلك المفسدة، ولهذا ¬
أُمِرنَا بالوضوء مما مَسَّت النار (¬1) إما إيجابًا منسوخًا، وإما استحبابًا غير منسوخ، وهذا الثاني أظهر لوجوه: منها (¬2) أن النسخ لا يُصَار إليه إلا عند تعذر الجمع بين الحديثين، ومنها أن رُوَاة أحاديث الوضوء بعضهم متأخر الإسلام كأبي هريرة، ومنها أن المعنى الذي أُمرنا بالوضوء لأجله منها هو اكتسابُها من القوة النارية وهي مادة الشيطان التي خُلق منها والنارُ تُطفأ بالماء، وهذا المعنى موجود فيها، وقد ظهر اعتبار نظيره في الأمر بالوضوء من الغضب (¬3)، ومنها أن أكثر ما مع [من] (¬4) ادّعى النسخ أنه ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أكَلَ مما مسَّت النار ولم يتوضأ" (¬5) وهذا إنما يدل على عدم وجوب الوضوء، لا على عدم استحبابه، فلا تنافي بين أمره وفعله (¬6)، وبالجملة فالنسخ إنما يُصار إليه عند التنافي، وتحقق التاريخ، وكلاهما منتفٍ وقد يكون الوضوء من مَسّ الذَّكَر (¬7) ومس النساء (¬8) من هذا الباب، لما في ذلك من تحريك الشهوة، فالأمر بالوضوء منهما على وفق القياس، ولما كانت القوةُ الشيطانية في لحوم الإبل لازمةً كان الأمر بالوضوء منها لا مُعارض له من فعلٍ ولا قول، ولما كان في ممسوس النار عارضةً صح فيها (¬9) الأمر والترك، ويدل على هذا أنه فرق بينها وبين لحوم الغَنَم في الوضوء، وفرق بينها وبين الغنم في مواضع الصلاة، فنهى عن الصلاة في أعطان الإبل وأذِنَ في الصلاة في مَرَابض الغنم (¬10)، وهذا يدل على أنه ليس ذلك ¬
فصل [الفطر بالحجامة على وفق القياس]
لأجل الطهارة والنجاسة، كما أنه [لمَّا] (¬1) أمر بالوضوء من لحوم الإبل دون لحوم الغنم عُلم أنه ليس ذلك لكونها مما مَسَّتْه النار، ولما كانت أعطانُ الإبل مأوى للشيطان لم تكن مواضع للصلاة كالحُشُوشِ (¬2)، بخلاف مَبَاركها في السفر، فإن الصلاة فيها جائزة؛ لأن الشيطان هناك عارض، وطردُ هذا المنعُ من الصلاة في الحمَّام لأنه بيت الشيطان (¬3)، وفي الوضوء من اللحوم الخبيثة كلحوم السباع إذا أبيحت للضرورة روايتان، والوضوء منها أبلغ من الوضوء من لحوم الإبل، فإذا عُقِل المعنى لم يكن بُدٌّ (¬4) من تعديته، ما لم يمنع منه مانع، واللَّه أعلم. فصل [الفطر بالحجامة على وفق القياس] أما الفِطْر بالحِجَامة (¬5) فإنما اعتقد من قال: "إنه على خلاف القياس" (¬6) ذلك بناء على أن القياسَ الفِطْرُ بما دخل لا بما خرج، وليس كما ظنُّوه، بل الفطر بها محض القياس، وهذا إنما يتبين بذكر قاعدة، وهي: أن الشارع الحكيم شرع الصوم على أكمل الوجوه وأقومها بالعَدْل، وأمَرَ فيه بغاية الاعتدال، حتى نَهى عن الوِصَال (¬7)، وأمر بتعجيل الفِطْر وتأخير السحور (¬8)، وجعل أعدلَ الصيامِ ¬
فصل [التيمم جار على وفق القياس]
وأفضلَه صيامَ داود (¬1)، فكان من تمام الاعتدال في الصوم أن [لا] (¬2) يُدخل الإنسان ما به قُوامُه كالطعام والشراب ولا يخرج ما به قوامه كالقيء والاستمناء، وفرق بين ما يمكن الاحترازُ منه من ذلك وما لا يمكن، فلم يُفطر بالاحتلام ولا بالقيء الذارع كما لا يفطر بغبار الطَّحين وما يسبق من الماء إلى الجوف عند الوضوء والغسل، وجعل الحيض منافيًا للصوم دون الجنابة، لطول زَمَانِه (¬3) وكثرةِ خروج الدم وعدم التمكن من التطهير قبل وقته بخلاف الجنابة، وفرقٌ بين دم الحِجَامة ودمِ الجرح فجعل الحجامةَ من جنسِ القيءِ والاستمناءِ والحيضِ وخروجَ الدَّمِ من الجرح والرُّعافِ من جنس الاستحاضةِ والاحتلامِ وذرعِ القيء، فتناسبت الشريعة وتشابهت تأصيلًا وتفصيلًا، وظهر أنها على وفق القياس الصحيح والميزان العادل، وللَّه الحمد (¬4). فصل (¬5) [التيمم جار على وفق القياس] ومما يُظن أنه على خلاف القياس باب التيمم، قالوا: إنه على خلاف ¬
فصل [الحكمة في كون التيمم على عضوين]
القياس من وجهين: أحدهما،: أن التراب مُلَوَّث لا يُزيلُ دَرَنًا ولا وَسَخًا ولا يطهِّر البدن كما لا يطهِّر الثوب، والثاني: أنه شُرع في عضوين من أعضاء الوضوء دون بقيتها، وهذا خروجٌ عن القياس [الصحيح] (¬1). ولعمرُ اللَّهِ إنه خروج عن القياس الباطل المُضادِّ للدين، وهو على وفق القياس الصحيح؛ فإن اللَّه سبحانه جعل من الماء كل شيء حيّ، وخَلقَنا من التراب، فلنا مادتان: الماء، والتراب، فجعل منهما نَشْأَتَنا وأقواتنا، وبهما تطهَّرَتا وتعبَّدَنا، فالترابُ أصلُ ما خلق منه الناس، والماءُ حياةُ كل شيء، وهما الأصل في الطبائع التي ركَّب اللَّه عليها (¬2) هذا العالم وجعل قوامه بهما، وكان أصلُ ما يقع به تطهير الأشياء من الأدناس والأقذار هو الماءُ في الأمر المعتاد، فلم يجز العدولُ عنه إلا في حالة العَدمِ أو العذر بمرض ونحوه (¬3)، وكان النقل عنه إلى أخيه وشقيقه التراب أولى من غيره، وإن لَوَّثَ ظاهرًا فإنه يُطهِّر باطنًا ويقوِّي (¬4) طهارة الباطن فيزيل دَنَسَ الظاهرِ أو يخففه، وهذا أمر يشهده من له بصر نافذ بحقائق الأعمال وارتباط الظاهر بالباطن وتأثر كل منهما بالآخر وانفعاله عنه. فصل [الحكمة في كون التيمم على عضوين] وأما كونه في عضوين ففي غاية الموافقة للقياس والحكمة، فإن وضعَ الترابِ على الرؤوسِ مكروهٌ في العادات، وإنما يُفعل عند المصائب والنوائبِ، والرِّجْلَان محل ملابسة التراب في أغلب الأحوال، وفي تتريب الوجه من الخضوع والتعظيم للَّه والذل له والانكسار للَّه ما هو من أحبِّ العبادات إليه وأنفعها للعبد، ولذلك (¬5) يستحبُّ للساجد أن يترِّبَ وجهه للَّه، وأن لا يقصد وقاية وجهه من التراب كما قال بعض الصحابة لمن رآه قد سجد وجعل بينه وبين التراب وِقايةً فقال: "تَرِّبْ وجهك" (¬6) وهذا المعنى لا يوجد في تتريب الرِّجْلين. ¬
فصل [السلم جار على وفق القياس]
وأيضًا فموافقة ذلك للقياس من وجه آخر، وهو أن التَّيمم جُعل في العُضوين المغسولين، وسَقطَ عن العضوين الممسوحين، فإن الرِّجْليْنِ تُمسحان (¬1) في الخف، والرأس في العمامة، فلما خَفَّف عن المغسولين بالمسح خفف عن الممسوحين بالعفو؛ إذ لو مُسِحَا بالتراب لم يكن فيه تخفيف عنهما، بل كان فيه انتقالٌ من مسحهما بالماء إلى مسحهما بالتراب، فظهر أن الذي جاءت به الشريعة هو أعدلُ الأمور وأكملها، وهو الميزان الصحيح. وأما كونُ تيمم الجنب كتيمم المحدث فلما سَقطَ مسحُ الرأس والرجلين بالتراب عن المحدث سقط مسح البدن كله بالتراب عنه بطريق الأولى، إذ في ذلك من المشقة والحرج والعُسر ما يُناقض رخصة التيمم، ويَدْخُل أكرمُ المخلوقات على اللَّه في شبه البهائم إذا تمرَّغ في التراب، فالذي جاءت به الشريعة لا مَزِيدَ في الحسن والحكمة والعدل عليه، وللَّه الحمد. فصل [السلم جار على وفق القياس] وأما السَّلَم فمن ظَنَّ أنه على خلاف القياس تَوَهَّم دخوله تحت قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تبع ما ليس عندك" (¬2) فإنه بيعُ معدومٍ، والقياسُ يمنعُ ¬
منه (¬1)، والصواب أنه على وفق القياس، فإنه بيع مَضْمونٍ في الذمة موصوف مقدور على تسليمه غالبًا، وهو كالمعاوضة على المنافع في الإجارة، وقد تقدم أنها (¬2) على وفق القياس، وقياسُ السَّلَم على بيع العَيْن المعدومة التي لا يدري أيَقْدِرُ على تحصيلها أم لا، والبائع والمشتري منها على غرَر، من أفسد القياسَ صورةً ومعنى، وقد فطر اللَّه سبحانه العقلاء على الفرق بين بيع الإنسان ما لا يملكه ولا هو مقدور له (¬3)، وبين السلم إليه في مُغَلٍّ مضمون في ذمته مقدور في العادة على تسليمه، فالجمع بينهما كالجمع بين الميتة والمذكَّى (¬4) والربا والبيع. وأما قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لحكيم بن حزام: "لا تَبعْ ما ليس عندك" (¬5) فيحمل على معنيين (¬6): أحدهما: أن يبيعَ عينًا معيَّنة وهي ليست عنده، بل ملك للغير، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلِها وتسليمِها إلى المشتري. والثاني: أن يريد بيعٍ ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمَّة، [وهذا أشبه، فليس] (¬7) عنده حسًا ولا معنى، فيكون قد باعه شيئًا لا يدري هل يحصل [له] (8) أم لا، وهذا يتناول أمورًا: أحدها: بيعُ عينٍ معيَّنة ليست عنده. الثاني: السَّلَم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه. الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته [عادة] (¬8) فأما إذا كان على ثقة من توفيته عادة فهو دَيْن من الديون، وهو كالابتياع بثمنٍ مؤجلٍ، فأيُّ فرقٍ بين كون أحد العوضين مؤجَّلًا في الذمة وبين الآخر؟ فهذا محضُ القياس ¬
والمصلحة، وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]، وهذا يعمَّ الثَّمنَ والمُثمَن، وهذا هو الذي فهمه تُرجمانُ القرآن [من القرآن] (¬1) عبد اللَّه بن عبَّاس فقال: أشهد أن السلف المضمون في الذمة حلالٌ في كتابِ اللَّه، وقرأ هذه الآية (¬2). فثبت أن إباحة السلَم على وفق القياس والمصلحة، وشُرع على أكمل الوجوه وأعدلها، فشَرطَ فيه قبضَ الثمن في الحال، إذ لو تأخر لحصل شغل الذمتين (¬3) بغير فائدة، ولهذا سُمِّي سلمًا لتسليم الثمن، فإذا أخَّر (¬4) الثمن دخل في حكم الكالئ بالكالئ بل هو نفسه، وكثرت المُخاطرة، ودخلت المعاملة في حد الغرر، ولذلك منع الشارع أن يُشترطَ فيه كونه من حائط معين؛ لأنه قد يتخلَّف فيمتنع التسليم (¬5). والذين شرطوا أن يكون دائم الجنس غير منقطع قصدوا به إبعاده من الغرر بإمكان التسليم، لكن ضيَّقوا ما وَسَّع اللَّه، وشرطوا ما لم يشرطه، وخرجوا عن موجب القياس والمصلحة: أما القياس فإنه أحد العوضين، فلم يشترط دوامه ووجوده كالثمن، وأما المصلحة فإن في اشتراط ذلك تعطيل مصالح الناس، إذ الحاجة التي لأجلها شرع اللَّه ورسوله السلم (¬6) الارتفاقُ من الجانبين، هذا يرتفقُ بتعجيل الثمن، وهذا يرتفقُ برخص المثمن، وهذا قد يكون في مُنقطعِ الجنس كما قد يكون في مُتَّصله فالذي جاءت به الشريعة أكمل شيء وأقومه بمصالح العباد. ¬
فصل [الكتابة تجري على وفق القياس]
فصل [الكتابة تجري على وفق القياس] وأما الكتابة فمن قال هي على خلاف القياس (¬1) قال: هي بيع السيد ماله بمالِه، وهذا غلطٌ (¬2)، وإنما باع العبد نفسَه بمالٍ في ذِمّته، والسيد لا حقَّ له في ذمةِ العبد وإنما حقُّه في بدنه، فإن السيد حقه في ماليَّة العبدِ لا في إنسانيّته، وإنما يُطالبُ العبد بما في ذِمَّته بعد عتقه، وحينئذٍ فلا ملك للسيد عليه، وإذا عرف هذا فالكتابةُ بيعُه نفسَه بمالٍ في ذمته، ثم إذا اشترى نَفْسَه كان كَسْبُه له ونفعه له، وهو حادثٌ على ملكه الذي استحقه بعقد (¬3) الكتابة، ومن تمام حكمة الشارع أنه أخَّرَ فيها العتق إلى حين الأداء؛ لأن السيد لم يَرْضَ بخروجه عن ملكه إلا بأن يُسلِّم له العوض، فمتى لم يسلم له العوَضُ وعجز العبد [عنه] (¬4) كان له الرجوع في البيع، فلو وقع العتق لم يمكن رفعه (¬5) بعد ذلك، فيحصل السيد على الحرمان، فراعى الشَّارع مصلحة السيد ومصلحة العبد، وشَرعَ الكتابةَ على أكمل الوجوه وأشدها مطابقة للقياس الصحيح، وهذا هو القياس في سائر المُعَاوضات، وبه جاءت السنة الصحيحة الصريحة التي (¬6) لا معارض لها: أنَّ المشتري إذا عجز عن الثمن كان للبائع الرجوعُ في عينِ ماله، وسواء حكم الحاكم بفَلَسِه أم لا (¬7)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يشترط حُكْمَ الحاكم، ولا أشار إليه، ولا دل عليه بوجهٍ ما، فلا وجْه لاشتراطه، وإنما المعنى الموجب للرجوع هو الفَلَسُ الذي حال بين البائع وبين الثمن، وهذا المعنى موجودٌ بدون حكم الحاكم، فوجبَ ترتبُ (¬8) أثَرِه عليه، وهو ¬
فصل [بيان أن الإجارة على وفق القياس]
محضُ العَدْلِ وموجب القياس، فإن المشتري لو اطلع على عَيْب في السِّلْعة كان له الفسخُ بدون حكم حاكم، ومعلومٌ أن الإعسار عيب في الذمة لو علم به البائع لم يرض بكون ماله في ذمة المُفْلِس، فهذا محض القياس الموافق للنص ومصالح العباد، وباللَّه التوفيق. وطَرْدُ هذا القياس عجزُ الزوج عن الصَّدَاق، أو عجزُه عن الوطء (¬1)، وعجزُه عن النفقة والكسوة (¬2)، وطرده عجزُ المرأة عن العوض في الخُلْع أن للزوج الرجعة، وهذا هو الصواب بلا ريب، فإنه لم يخرج البُضْعَ عن ملكه (¬3) إلا بشرط سلامة العوض، وطَرْدُه الصلح عن القصاص إذا لم يحصل له ما يصالح (¬4) عليه فله العَوْدُ إلى طلب القصاص، فهذا موجب العدل ومقتضى قواعد الشريعة وأصولها، وباللَّه التوفيق (¬5). فصل [بيان أن الإجارة على وفق القياس] وأما الإجارة فالذين قالوا: "هي على خلاف القياس" (¬6) قالوا: هي بيعُ ¬
معدوم لأن المنافَع معدومةٌ حين العقد، ثم لما رأوا الكتاب قد دل على جواز إجارة الظِّئْر (¬1) للرِّضاع بقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، قالوا: إنها (¬2) على خلاف القياس من وجهين: أحدُهما: كونها إجارة. والثاني: أن الإجارة عقدٌ على المنافع، وهذه عقدٌ على الأعيان، ومن العجب أنه ليس في القرآن ذكر إجارة جائزة إلا هذه (¬3)، وقالوا: هي على خلاف القياس (¬4) والحُكم إنما يكون [على] (¬5) خلاف القياس إذا كان النص قد جاء في موضع يشابهه (¬6) بنقيض ذلك الحكم، فيقال: هذا خلاف [قياس ذلك] (¬7) النص، وليس في القرآن ولا في السنة ذكرُ فساد إجارة شبه هذه الإجارة (¬8)، ومنشأُ وهمِهم ظنُّهم أن مورد عقد الإجارة لا يكون إلا منافع هي أعراض (¬9) قائمة بغيرها، لا أعيان قائمة بنفسها، ثم افترق هؤلاء فرقتين: فقالت فرقة: إنما احتملناها على خلافِ القياسِ لورود النص، فلا نتعدَّى (¬10) محله، وقالت فرقة (¬11): بل نخرّجُها على ما يوافق القياس، وهو كون المعقود عليه [أمرًا] (¬12) غير اللبن، بل هو إلقامُ الصبيِّ الثدي ووضعه في حجر المرضعة، ونحو ذلك من [المنافع التي هي] (¬13) مقدمات الرضاع، واللبن يدخل تبعًا غير مقصود بالعقد، ثم طردوا ذلك في مثل ¬
[ليس للعقود ألفاظ محدودة]
ماء البئر والعيون التي في الأرض المستأجرة، وقالوا: يدخل (¬1) ضمنًا [وتبعًا] (¬2)، فإذا وقعت الإجارة على نفس العين والبئر لسقي الزرع والبستان قالوا: إنما وردت الإجارة على مجرد إدلاءِ الدَّلو في البئر وإخراجه، [و] (¬3) على مجرد إجراء العين في أرضه (¬4)، مما هو قلب الحقائق، وجعلُ المقصودِ وسيلةً والوسيلة مقصودةً، إذ من المعلوم أن هذه الأعمال إنما هي وسيلة إلى المقصود بعقد الإجارة، وإلا فهي بمجردها ليست مقصودة، ولا معقودًا عليها، ولا قيمة لها أصلًا، وإنما هي كفتح الباب وكقَوْد الدابة لمن اكترى دارًا أو دابة. ونحن نتكلم على هذين الأصلين الباطلين: على أصل من جعل الإجارة على خلاف القياس، وعلى أصل من جعل إجارة الظِّئر ونحوها على خلاف القياس، فنقول وباللَّه التوفيق (¬5). أما الأصل الأول فقولهم: "إن الإجارة بيعُ معدومٍ، وبيعُ المعدوم باطل" دليلٌ مبني على مقدمتين مجملتين غير مُفَصَّلتين (¬6)، قد اختلط في كل منهما الخطأ بالصواب، فأما المقدمة الأولى -هي كون الإجارة بيعًا- إن أردتم [به] (¬7) البيع الخاصّ الذي يكون العقد فيه على الأَعيانِ لا على المنافعِ فهو باطلٌ، وإن أردتم به البيعَ العامَّ الذي هو مُعاوضةٌ إما على عينٍ وإما على منفعة فالمقدمة الثانية باطلة، فإن بيع المعدوم ينقسم إلى بيعِ الأعيانِ وبيع المنافع (¬8)، ومن سلّم بطلان بيع المعدوم فإنما يُسلِّمه في الأعْيان، ولما كان لفظُ البيع يحتمل هذا وهذا تنازَعَ الفقهاء في الإجارة: هل تنعقد بلفظ البيع؟ على وجهين. [ليس للعقود ألفاظ محدودة] والتحقيق أن المتعاقدين إن عرفا المقصود انعقدت (¬9) بأي لفظ من الألفاظ عَرفَ به المُتعاقدانِ مقصودَهما، وهذا حكمٌ شاملٌ لجميع العقود، فإن الشارع لم ¬
يَحُدَّ لألفاظ العقود حدًا، بل ذكرها مُطلقةً، فكما تنعقد العقود بما يدل عليها من الألفاظ الفارسية والرومية والتركية فانعقادها بما يدل عليها من الألفاظ العربية أولى وأخرى، ولا فرق بين النكاح وغيره، وهذا قول جمهور العلماء كمالك وأبي حنيفة، وهو أحد القولين في مذهب أحمد. قال شيخنا (¬1): بل نصوص أحمد لا تدل إلا على هذا القول، وأما كونه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج، فإنما هو قول ابن حامد والقاضي وأتباعه (¬2)، وأما قدماء أصحاب أحمد فلم يشترط أحدٌ منهم ذلك، وقد نص أحمد على أنه إذا قال: "أعْتَقت أمَتي وجعلتُ عتِقَها صداقها" أنه ينعقد (¬3) النكاح، قال ابن عقيل: وهذا يدلُّ على أنه لا يختص النكاح بلفظ (¬4)، وأما ابن حامد فطرد أصْله وقال: لا ينعقد حتى يقول مع ذلك: "تزوجتها" وأما القاضي فجعل هذا موضع استحسان خارجًا عن القياس، فجوَّز النكاحَ في هذه الصورة خاصة بدون لفظ الإنكاح والتزويج وأصول الإمام أحمد ونصوصه تخالف هذا؛ فإنَّ من أصوله أن العقودَ تنعقد بما يدل على مقصودها من قولٍ أو فعلٍ ولا يَرى اختصاصها بالصيغ. ومن أصوله أن الكناية مع دلالة الحال كالصريح كما قاله في الطلاق والقذْف وغيرهما، والذين اشترطوا لفظ الإنكاح والتزويج قالوا: ما عداهما كناية فلا يثبت حكمها إلا بالنية وهي أمر باطن لا اطلاع للشاهد عليه، إذ الشهادة إنما تقع على المسموع، لا على المقاصد والنيات، وهذا إنما يستقيم إذا كانت ألفاظ الصريح والكناية ثابتة بعُرف الشرع وفي عرف المتعاقدين، والمقدمتان غير معلومتين، أما الأولى (¬5) فإن الشارع استعمل لفظ التمليك في النكاح فقال: "ملكْتكها بما معك من القرآن" (¬6) وأعتق ¬
[عودة الى الرد على من زعم أن الإجارة بيع معدوم]
صفيَّة وجعل عتقها صداقها (¬1)، ولم يأت معه بلفظ إنكاح ولا تزويج، وأباح اللَّه ورسوله النكاحَ وردَّا فيه الأمَّةَ إلى ما تتعارفه نكاحًا بأي لفظ كان. [عودة الى الرد على من زعم أنَّ الإجارة بيع معدوم] ومعلوم أن تقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية تقسيمٌ شرعي (¬2)، فإن لم يقم عليه دليل شرعي كان باطلًا، فما هو الضابط لذلك؟ وأما المقدمة الثانية فكون اللفظ صريحًا أو كناية أمر يختلف باختلاف عُرف المتكلم والمخاطب والزمان والمكان، فكَم من لفظ صريح عند قوم وليس بصريح عند آخرين، وفي مكان دون مكان وزمان دون زمان؟ فلا يلزم صريحًا (¬3) في خطاب الشارع أن يكون صريحًا عند كل متكلم، وهذا ظاهر. [جوز الشارع المعاوضة على المعدوم] والمقصود أن قوله "إن الإجارة نوع من البيع" إن أراد به البيع الخاص فباطل، وإن أراد به البيع العام فصحيح، لكن (¬4) قولُه: "إن هذا البيع لا يرد على معدوم" دعوى باطلة؛ فإن الشارع جَوَّز المعاوَضة العامة على المعدوم، فإن قستم بيع المنافع على بيع الأعيان فهذا قياس في غاية الفساد فإن المنافع لا يمكن أن ¬
يُعقد عليها في حال وجودها البتة، بخلاف الأعيان، وقد فرّق بينهما الحِسّ والشرع؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أن يُؤخر العقدُ (¬1) على الأعيان التي لم تخلق إلى أن تخلق (¬2) كما نهى عن بيع السِّنين (¬3) وحَبَلِ الحبلة والثمر قبل أن يبدو صلاحه والحبِّ حتى يشتد (¬4)، ونهى عن الملاقيح والمضامين (¬5) ونحو ذلك، وهذا يمتنع مثله في المنافع، فإنه لا يمكن أن تُباعَ إلا في حال عدمها، فهاهنا أمران: أحدهما: يمكن إيرادُ العقد عليه (¬6) في حال وجوده وحال عَدَمِه، فنهى الشارعُ عن ¬
بيعه حتى يوجدَ وجوَّز منه بيع ما لم يوجد تبعًا لما وُجِد إذا دعت الحاجة إليه، وبدون الحاجة لم يجوّزه. والثاني ما لا يمكن إيرادُ العقدِ عليه إلا في حال عَدَمِهِ [كالمنافع] (¬1)، فهذا جوَّزَ العقد عليه ولم يمنع منه. فإن قلت: أنا أقيس أحد النوعين على الآخر، وأجعل العلة [مجرد] (1) كونه معدومًا. قيل: هذا قياسٌ فاسد؛ لأنه يتضمن التسوية بين المختلفين، وقولك: "إن العلة مجرد كونه معدومًا" دعوى بغير دليل، بل دعوى باطلة، [فلمَ لا] (¬2) يجوز أن تكون العلة في الأصل كونه معدومًا يمكن تأخير بيعه إلى زمنِ وجوده؟ وعلى هذا التقدير فالعلة مقيدة بعدمٍ خاص، وأنت لم تبيّن أنَّ العلةَ في الأصل مجرد كونه معدومًا، فقياسك فاسد، وهذا كافٍ في بيان فساده بالمطالبة، ونحن نبين بطلانه في نفسه، فنقول: ما ذكرناه علةٌ مطردةٌ، وما ذكرته علةً منتقضة، فإنك إذا عَلّلْت بمجرد العدم (¬3) وَردَ عليك النقضُ بالمنافع كُلِّها وبكثيرٍ (¬4) من الأعيان وما علّلنا به لا ينتقض، وأيضًا فالقياس المحْضُ وقواعد الشريعة وأصولها ومناسباتها (¬5) تشهد لهذه العلة، فإنه إذا كان له حال وجود وعدمٍ كان في بيعه حال العدم مخاطرة وقمار، وبذلك علَّل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المنع حيث قال: "أرأيت إن منع اللَّه الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (¬6) وأما ما ليس له إلا حالٌ واحدٌ (¬7) والغالبُ فيه السلامة فليس العقد (¬8) عليه مُخاطرةً ولا قمارًا، وإن كان فيه مخاطرة يسيرة فالحاجة داعية إليه، ومن أصول الشريعة أنه إذا تعارضت المصلحة والمفسدة قدم أرجحهما، والغَرَر إنما نُهي عنه لما فيه من الضرر بهما أو بأحدهما (¬9)، ¬
وفي المنع مما يحتاجون إليه من البيع ضَررٌ أعظم من ضرر المخاطرة، فلا يُزيل أدنى الضررين بأعلاهما، بل قاعدةُ الشريعة ضد ذلك، وهو دفعُ أعلى الضَّررين باحتمال أدناهما (¬1)، ولهذا لما نهاهم عن المُزابنة لما فيها من ربا أو مخاطرة أباحَها لهم في العَرايا للحاجة (¬2)؛ لأن ضررَ المنعِ من ذلك أشدُّ من ضرر المُزابنة، ولما حرَّم عليهم الميتة لما فيها من خَبْث التغذية أباحها لهم عند الضرورة (¬3)، ولما حرَّم عليهم النظر إلى الأجنبية (¬4) أباح منه ما تدعو إليه الحاجة ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[أقيسة أبطلها القرآن]
للخاطب والمعامل والشاهد والطبيب! (¬1). فإن قلت: فهذا كله على خلاف القياس. قيل: إن أردت أن الفَرْع اختصَّ بوصف أوجب (¬2) الفرق بينه وبين الأصل فكل حكم استند إلى هذا الفرق الصحيح فهو على خلاف القياس [الفاسد] (¬3)، وإن أردت أن الأصل والفرع استويا في المقتضي والمانع واختلف حكمهما فهذا باطل [قطعًا] (¬4)، ليس في الشريعة منه مسألة واحدة، والشيءُ إذا شابه غيرَهُ في وصفٍ وفارَقَه في وصفٍ كان اختلافُهما في الحكم باعتبار الفارق مخالفًا لاستوائهما باعتبار الجامع. [أقيسة أبطلها القرآن] وهذا هو القياس الصحيح طردًا وعكسًا، وهو التسوية بين المتماثلين والفرق بين المختلفين، وأما التسوية بينهما في الحكم مع افتراقهما فيما يقتضي الحكم أو يمنعه فهذا هو القياس الفاسد الذي جاء الشرع دائمًا بإبطاله، كما أبطل قياس الربا على البيع، وقياس الميتة على المُذكَّى وقياس المسيح [عيسى عليه الصلاة والسلام] (3) على الأصنام، وبيّن الفارق بأنه عبدٌ أنعم عليه بعبوديته ورسالته، فكيف يعذِّبه بعبادةِ غيره له مع نهيه عن ذلك وعدم رضاه به؟ بخلاف الأصنام، فمن قال: "إن الشريعة تأتي بخلاف القياس الذي هو من هذا الجنس" فقد أصاب، وهو من كمالِها واشتمالِها على العَدْل والمصلحة والحكمة، ومن سَوَّى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوّي بين كل موجودين لاشتراكهما في مُسمَّى الوجود. [القياس الفاسد أصل كل شر] وهذا من أَعظم الغلط والقياس الفاسد الذي ذمَّه السلف، وقالوا: "أوَّل من قاس إبليس" (¬5)، و"ما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس" (¬6)، وهو القياس الذي ¬
فصل [بيع المعدوم لا يجوز]
اعترف أهل النار في النار ببطلانه حيث قالوا: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97، 98]. وذم اللَّه أهله بقوله: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]، أي يقيسونه على غيره وُيسوُّون بينه وبين [غيره في] (¬1) الإلهية والعبودية، وكل بِدْعة ومقالة فاسدة في أديان الرسل فأصلُها من القياس الفاسد، فما أنكرت الجَهْمية صفاتَ الربِّ وأفعالَه وعُلوَّه على خلقه واستواءَه على عرشه وكَلامَه وتكليمه لعباده ورؤيتَهُ في الدار الآخرة إلا من القياس الفاسد، وما أنكرت، القَدَرِيَّة عمومَ قدرتِه ومشيئته وجعلت في ملكه ما لا يشاء وأنه يشاء ما لا يكون إلا بالقياس الفاسد، وما ضلَّت الرافضةُ وعادوْا خيار الخلق وكفّروا أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- وسَبُّوهم إلا بالقياس الفاسد، وما أنكرت الزنادقةُ والدُّهْريةُ معادَ الأجسام وانشقاقَ السماواتِ وطيَّ الدنيا وقالت بقدم العالم إلا بالقياس الفاسد، وما فَسد ما فسد من أمر العالم وخرب [ما خرب منه] (¬2) إلا بالقياس الفاسد، [وأولُ ذنبٍ عُصِيَ به القياسُ الفاسد] (¬3)، وهو الذي جَرَّ على آدم وذريته مِنْ صاحب هذا القياس ما جر، فأصْلُ شر الدنيا والآخرة جميعه من هذا القياس الفاسد، وهذه [حكمة لا يدْريها] (¬4) إلا من له اطلاع على الواجب والواقع وله فقه في الشرع والقدر. فصل [بيع المعدوم لا يجوز] وأما المقدمة الثانية -وهي أن بيع المعدوم (¬5) لا يجوز- فالكلام عليها من وجهين (¬6): أحدهما: مَنْعُ صحة هذه المقدمة؛ إذ ليس في كتاب اللَّه ولا في سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا في كلام أحدٍ من أصحابه أن بيعَ المعدومِ لا يجوز، لا بلفظٍ عام ¬
ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهيُ عن بيع بعض الأشياء التي هي معدومة كما فيها النهي عن بيع بعض الأشياء الموجودة؛ فليست العلةُ في المنع لا العدم ولا الوجود، بل الذي وَرَدت به السنة النهي عن بيع الغَرَر (¬1)، وهو ما لا يُقْدَر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا كبيع العبد الآبقِ والبعير الشارد وإن كان موجودًا، إذ موجبُ البيع تسليم المبيع، فإذا كان البائع عاجزًا عن تسليمه فهو غَرَر ومُخاطرة وقمار فإنه لا يُباع إلا بوَكْس، فإن أمكن المشتري تسلُّمه كان قد قَمَر البائعَ، وإن لم يمكنه ذلك قمرَه البائع، وهكذا المعدوم الذي هو غَرَر نُهِي (¬2) عنه للغرر لا للعدم، كما إذا باعه ما تحمل هذه الأمَةُ أو هذه الشجرة (¬3)؛ فالمبيع لا يُعرف وجوده ولا قَدره ولا صفته؛ وهذا من الميْسِر الذي حرّمه اللَّه ورسوله، ونظير هذا في الإجارة أن يكريه دابة لا يقدر على تسليمها، سواء كانت موجودة أو معدومة، وكذلك في النكاح إذا زوَّجه أمة لا يملكها أو ابنةً لم تولد له، وكذلك سائر عقود المعاوضات، بخلاف الوصية فإنها تبرُّع محض فلا غرر في تعلُّقها (¬4) بالموجود والمعدوم وما يقدر على تسليمه إليه وما لا يقدر، وطرده الهبة، إذ لا محذور فيها (¬5)، وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هِبة المُشاع المجهول (¬6) في قوله لصاحب كبة الشّعر حين أخذها من المغنم وسأله أن يَهبَها له فقال: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لك" (¬7). ¬
[جوز الشرع بيع المعدوم في بعض المواضع]
[جَوَّز الشرع بيع المعدوم في بعض المواضع] الوجه الثاني: أن نقول: بل الشرع صحَّح بيع المعدوم في بعض المواضع؛ فإنه أجاز بيع الثمر بعد بُدُوِّ صلاحه والحبِّ بعد اشتداده (¬1)، ومعلومٌ أن العقدَ إنما ورد على الموجود والمعدوم الذي لم يُخلق (¬2) بعد، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيعه قبل بدوّ صلاحه، وأباحه بعد بدو الصلاح، ومعلوم أنه إذا اشتراه قبل الصَّلاح بشرط القَطْع كالحصرم جاز، فإنما نُهي عن بيعه إذا كان قصدهُ التَّبْقِية إلى الصلاح (¬3)، ومن جوّز بيعه قبل الصلاح وبعده بشرط القطع أو مطلقًا وجعل موجب العقد القطع، وحرم بيعه بشرط التبقية أو مطلقًا؛ لم يكن عنده (¬4) لظهور الصلاح فائدة، ولم يكن فرق بين ما نُهي عنه من ذلك وما أُذن فيه؛ فإنه يقول: موجب العقد التسليم في الحال، فلا يجوز شرط تأخيره سواء بدا صلاحُه أو لم يُبد. [الصواب في المسألة] والصواب قول الجمهور الذي دلت عليه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والقياسُ الصحيح. ¬
وقوله: "إن موجب العقد التسليم في الحال" جوابه أن موجب العقد إما أن يكون ما أوجبه الشارع بالعقد أو ما أوجبه المتعاقدان مما يَسوغُ لهما أن يوجباه، وكلاهما منتفٍ في هذه الدعوى؛ فلا الشارعُ أوجبَ أن يكونَ كلُّ مبيعٍ مستحق التسليم (¬1) عقيب العقد، ولا العاقدان التزما ذلك، بل تارة يعقدان العقد على هذا الوجه، وتارة يشترطان التأخير إما في الثمن وإما في المُثمَنِ، وقد يكون للبائع غرضٌ صحيح [ومصلحة] (¬2) في تأخير التسليم [للمبيع، كما كان] (2) لجابر [-رضي اللَّه عنه- غرض صحيح] (2) في [تأخير تسليم] (2) بعيره إلى المدينة، فكيف يمنعه الشارعُ ما فيه مصلحة له ولا ضرر على الآخر فيها؟ إذ قد رضي بها كما رضي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[على جابر] (¬3) بتأخير تسليمِ البعير (¬4)، ولو لم ترد السنة بهذا لكان محض القياس يقتضي جوازه، ويجوزُ لكل بائع أن يستثني من منفعة المبيعِ ما له فيه غرضٌ صحيحٌ (¬5)، كما إذا باع عقارًا واستثثى سكناه مدة أو دابة واستثنى ظهرها، ولا يختص ذلك بالبيع، بل لو وهبه [شيئًا] (¬6) واستثنى نفْعَه مدة، أو أعتق عبدَه واستثنى خدمته مدة، أو وقف عينًا واستثنى غَلّتها لنفسه مدة حياته، أو كاتبَ أمَةً واستثنى وَطْئها مدة الكتابة، ونحوه، وهذا كله منصوص أحمد، وبعضُ أصحابه يقول: إذا استثنى منفعةَ المبيع فلا بد أن يُسلِّمَ العين إلى المشتري ثم يأخذها ليستوفي المنفعة، بناءً على هذا الأصل الذي قد تبين فساده، وهو أنه لا بد من استحقاق القبض عقيب العقد، وعن هذا الأصل قالوا: (¬7) لا تصح الإجارة إلا على مدة تَلِي العقد، وعلى هذا بَنَوْا ما إذا باع العين المؤجرة؛ فمنهم من أبطل البيع لكون المنفعة لا تدخل على (¬8) البيع فلا يحصل التسليم، ومنهم من قال: هذا مستثنى بالشرع، بخلاف المُستثنى بالشرط وقد اتفق الأئمة على صحة بيع الأمة المزوجة وإن كانت منفعة البضع للزوج ولم تدخل في البيع واتفقوا على جواز تأخير التسليم إذا كان العرف يقتضيه كما إذا باع مخزنًا له فيه متاع كثير لا ينقل في يوم ولا أيام فلا يجب عليه جمع دواب البلد ونقله في ساعة واحدة بل ¬
[منع أن موجب العقد التسليم عقيبه]
قالوا: هذا مستثنى بالعرف، فيقال: وهذا من أقوى الحجج عليكم، فإن المستثنى بالشرط أقوى من المستثنى بالعُرف، كما أنه أوسع من المستثنى بالشرع؛ فإنه يثبت بالشرط ما لا يثبت بالشرع، كما أن الواجب بالنّذر أوسع من الواجب بالشرع. [منع أن موجب العقد التسليم عقيبه] وأيضًا فقولُكم: "إن موجب العقد استحقاق التسليم عقيبه" (¬1) أتعنون أن هذا مُوجَبُ العقد المطلق أو مطلق العقد؟ فإن أردتم الأول فصحيح، وإن أردتم الثاني فممنوع؛ فإن مطلق العقد ينقسم إلى المطلق والمقيد، وموجب العقد المقيد ما قُيِّد به، كما أن موجبَ العقد المقيد بتأجيل الثمن وثبوت خيار الشَّرط والرهن والضمين هو ما قُيِّد به، وإن كان موجبه عند إطلاقه خلاف ذلك؛ فموجبُ العقد المطلق شيءٌ وموجب العقد المقيد شيء، والقبض في الأعيان (¬2) والمنافع كالقبض في الدَّيْن، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جوَّز بيع الثمرة بعد بُدُوِّ الصلاح (¬3) مستحقة الإبقاء إلى كمال الصلاح، ولم يجعل موجَبَ العقد القبض في الحال، بل القبضُ المتعادِ عند انتهاء صلاحها، ودخل فيما أذن فيه بيع ما هو معدوم [و] (¬4) لم يُخلَق بعد، وقبض ذلك بمنزلة قبض العين المؤجرة، وهو قبض يبيح التصرف في أصح (¬5) القولين، وإن كان قبضًا لا يوجب انتقال الضمان، بل إذا تلفَ المبيعُ قبل قبضه المعتاد كان من ضمان البائع كما هو مذهب أهلِ المدينة وأهلِ الحديث؛ أهلِ بلدته وأهل سنته، وهو مذهب الشافعي قطعًا؛ فإنه علّق القول به على صحة الحديث (¬6)، وقد صح صحةً لا ريب فيها من غير الطريق التي توقّف الشافعي فيها فلا يسوغ أن يقال: مذهبه عدم وضع الجوائح، وقد قال (¬7): إن صح الحديث قلت به، رواه من طريق توقف في صحتها، ولم تبلغه الطريقُ الأخرى التي لا علة ¬
فصل [بيع المقاثي والمباطخ ونحوهما]
لها (¬1) ولا مطْعن فيها، وليس مع المنازع دليلٌ شرعي يدلُّ على أنّ كلّ قبض جوَّز التّصرف ينقل الضمان، وما لم يجوِّز التصرف لا ينقل الضمان، فقبضُ العين المؤجَّرة يُجوِّز التصرف ولا ينقل الضمان، وقبض العين المسْتامةِ والمستعارة والمغصوبة يوجب الضمان ولا يجوّز التصرف (¬2). فصل [بيع المقاثي والمباطخ ونحوهما] ومن هذا الباب [بيع] المقاثي والمباطخ (¬3) والباذجان؛ فمن منع بيعه إلا لقْطةً لقطة قال: لأنه [بيع] (¬4) معدوم (¬5)؛ فهو كبيع الثمرة قبل ظهورها، ومن جوّزه كأهل المدينة (¬6) وبعض أصحاب أحمد (¬7) فقولهم أصحُّ، فإنه لا يمكن بيعها إلا ¬
فصل [ضمان الحدائق والبساتين]
على هذا الوجه، ولا تتميز اللّقطة المبيعةُ من (¬1) غيرها، ولا تقوم المصلحة ببيعها كذلك، ولو كُلِّف الناس به لكان أشقّ شيءٍ عليهم وأعظمه ضررًا، والشريعة لا تأتي به، وقد تقدم أن ما لا يُباع (¬2) إلا على وجْه واحد لا يَنْهى الشارع عن بيعه، وإنَّما نَهى الشَّارعُ عن بج الثمار قبل بدو صلاحها (¬3) لإمكان تأخير بيعها إلى وقت بُدُوِّ الصلاح (¬4)، ونظير ما نَهى عنه وأَذن فيه سوى (¬5) بيع المقاثي إذا بدا فيها الصلاح ودخول الإجزاء والأعيان التي لم تخلق بعد كدخول أجزاء الثمار وما يتلاحق في الشجر منها، ولا فرق بينهما البتة (¬6). فصل [ضمان الحدائق والبساتين] وبنوا على هذا الأصل الذي لم يدل عليه دليل شرعي، بل دل على خلافه، وهو بيع المعدوم [بطلان] (¬7) ضمان الحدائق والبساتين، وقالوا: هو بيعٌ للثمرِ قبل ظهوره أو قبل بدو صلاحه؛ ثم منهم من حكى الإجماع على بطلانه (¬8)، ولَيس مع المانعين [حجةٌ على ما] (¬9) ظنّوه، فلا النص يتناوله ولا معناه، ولم تجمع (¬10) الأمة على بطلانه، فلا نص مع المانعين ولا قياس ولا إجماع (¬11)؛ ونحن نبين انتفاء هذه الأمور الثلاثة: ¬
أما الإجماع، فقد صح عن عمر [بن الخطاب] (¬1) -رضي اللَّه عنه- أنه ضَمَّن حديقة أُسيد بن حُضير ثلاث سنين وتسلَّف الضَّمان فقضى به دينًا كان على أُسيد (¬2)، وهذا بمشهد من الصحابة، ولم ينكره منهم رجل واحد، ومَنْ جعل مثل هذا إجماعًا فقد أجمع الصحابة على جواز ذلك، وأقلُّ درجاته أن يكون قول صحابي، بل قول الخليفة الراشد، ولم ينكره منهم مُنْكِر، وهذا حجة عند جمهور العلماء، وقد جوز بعض أصحاب أحمد ضمان البساتين مع الأرض المؤجرة؛ إذ لا يمكن إفراد إحداهما عن الأخرى (¬3)، [و] (1) اختاره ابنُ عقيل، وجوَّز بعضهم ضمان الأشجار مطلقًا مع الأرض وبدونها، [و] (1) اختاره شيخنا وأفرد فيه مصنفًا (¬4)؛ ففي مذهب أحمد ثلاثة أقوال، وجَوَّز مالك ذلك تبعًا للأرض في قدر الثلث (¬5). ¬
قال شيخنا (¬1): والصواب ما فعله عمر -رضي اللَّه عنه-؛ فإن الفرق بين البيع والضمان (¬2) هو الفرق بين البيع والإجارة، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بيع الحب حتى يشتد (¬3) ولم ينه عن إجارة الأرض للزراعة مع ان المستأجر مقصودُه الحبّ بعمله فيخدم الأرض ويحرثها ويسقيها ويقوم عليها، وهو نظيرُ مستأجر البستان ليخدم شجره ويسقيه ويقوم عليه، والحبُّ نظيرُ الثمر، والشجر نظير الأرض (¬4)، والعملُ نظير العمل؛ فما الذي حرَّم هذا وأحلَّ هذا؟ [وهذا] (¬5) بخلاف المشتري؛ فإنه يشتري ثمرًا وعلى البائع [المؤنة: مؤنة] (¬6) الخدمة والسَّقي والقيام على الشجر؛ فهو (¬7) بمنزلةِ الذي يشتري الحبّ وعلى البائع مؤونة (¬8) الزرع والقيام عليه؛ فقد ظهر انتفاءُ القياس والنص، كما ظهر انتفاءُ الإجماع، بل القياس الصحيح مع المجوِّزين، كما معهم الإجماع القديم. فإن قيل: فالثمر أعيان، وعقد الإجارة إنما يكون على المنافع! قيل: الأعيان هنا حَصلَت بعمله في الأصل المستأجر، كما حصل الحبُّ بعمله في الأرض المستأجرة. فإن قيل: الفرق أن الحبَّ حصل من بَذْرِه، والثمر حصل من شجر المؤجِّر (¬9). قيل: لا أثر لهذا الفرق في الشرع، بل قد ألغاه الشارع في المساقاة والمزارعة فسوَّى بينهما؛ والمُساقي يستحقُّ جزءًا من الثمرة الناشئة من أصل [الملك؛ والمزارع يستحق جزءًا من الزرع النابت في أرض] (¬10) المالك، وإن كان البذرُ منه، كما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة (¬11) وإجماع الصحابة، فإذا لم يؤثر هذا الفرق في المساقاة والمزارعة التي يكون النماء فيها مشتركًا لم يؤثر في ¬
فصل [إجارة الظئر على وفق القياس الصحيح]
الإجارة بطريق الأولى؛ لأن إجارة الأرض لم يُختلف فيها كالاختلاف في المُزارعة، فإذا كانت إجارتها عندكم أجْوز من المزارعة فإجارة الشجر أولى بالجواز من المساقاة عليها، فهذا محْضُ القياس وعمل الصحابة ومصلحة الأمة، وباللَّه التوفيق. والذين منعوا ذلك وحَرَّمُوه توصلوا إلى جوازه بالحيلة الباطلة شرعًا وعقلًا، فإنهم يؤجِّرونه الأرض وليست مقصودة له البتة (¬1)، ويساقونه على الشجرة من ألف جزء على جزء مساقاة غير مقصودة [وإجارةً غير مقصودة] (¬2)، فجعلوا ما لم يُقصد مقصودًا، وما قُصد غير مقصود، وحابوا في المساقاة أعظم محاباة، وذلك حرامٌ باطل في الوقف وبستان المولّى عليه من يتيم أو سفيهٍ أو مجنون، ومحاباتهم إياه في إجارة الأرض لا تُسَوِّغ لهم محاباة المستأجر في المساقاة، ولا يسوِّغ اشتراط أحد العقدين في الآخر، بل كل عقد مستقل بحكمه، فأين هذا من فعل أمير المؤمنين وفقهه؟ وأين القياس من القياس والفقه من الفقه؟ فبينهما في الصحة بُعْدُ ما بين المشرقين (¬3)! فصل [إجارة الظئر على وفق القياس الصحيح] فهذا الكلام على المقام الأول، وهو كون الإجارة على خلاف القياس، وقد تبين بطلانه. وأما المقام الثاني -وهو أن الإجارة التي أذن اللَّه فيها في كتابه وهي إجارة الظِّئْر على خلاف القياس- فبناءٌ منهم على هذا الأصل الفاسد (¬4)، وهو أن المُستحَق بعقد الإجارة إنما هو المنافع لا الأعيان، وهذا الأصل لم يدل عليه كتابٌ ولا سنة ولا إجماعٌ ولا قياسٌ صحيح، بل الذي دلّت عليه الأصول أن الأعيانَ التي تَحدُث شيئًا فشيئًا مع بقاء أصلها حكمُها حكم المنافع كالثمر في ¬
الشجر واللَّبن في الحيوان والماء في البئر؛ ولهذا سوَّى بين النوعين في الوقف، فإن الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الفائدة، فكما يجوز أن تكون فائدة الوقف منفعةً كالسكنى وأن تكون ثمرة وأن تكون لبنًا كوقف الماشية للانتفاع بلبنها، وكذلك في باب التبرعات كالعارية لمن ينتفعُ بالمتاع ثم يردّه، والعريّة لمن يأكل ثمرَ (¬1) الشجرة ثم يردها، والمنيحة لمن يشرب لبن الشاة ثم يردها، والقرض لمن ينتفع بالدراهم ثم يرد بدلها القائم مقام عينها؛ فكذلك في الإجارة تارة يكريه العين للمنفعة التي ليست أعيانًا، وتارة للعين التي تحدث شيئًا من بعد شيءٍ مع بقاء الأصل كلبن الظئر ونقع البئر؛ فإن هذه الأعيان لما كانت تحدث شيئًا بعد شيء [مع بقاء الأصل] (¬2) كانت المنفعة (¬3)، والمسوِّغ للإجارة هو ما بينهما من القدر المشترك، وهو حدوث المقصود بالعقد شيئًا فشيئًا، سواء كان الحادث عينًا أو منفعة، وكونه جسمًا أو معنًى قائمًا بالجسم لا أثر له في الجواز والمنع مع اشتراكهما في المُقتضي للجواز، بل هذا النوع من الأعيان الحادثة شيئًا فشيئًا أحقُّ بالجواز؛ فإن الأجسام أكْملُ من صفاتها، وطردُ هذا القياس جواز إجارة الحيوان غير الآدمي لرضاعه، [فإن الحاجة تدعو إليه كما تدعو إليه في] (¬4) الظئر من الآدميين بطعامها وكسوتها، ويجوز (¬5) استئجار الظئر من البهائِمِ بعلَفِها، والماشية إذا عاوض على لبنها فهو نوعان: أحدهما: أن يشتريَ اللَّبنَ مدة، ويكون العلف والخدمة على البائع، فهذا بيْع محضٌ. والثاني: أن يتسلَّمها (¬6) ويكون علفُها وخدمتُها عليه، ولبنها [له] (¬7) مدة الإجارة؛ فهذا إجارة وهو كضمان البساتين (¬8) سواء وكالظئر؛ فإن اللبن يُستوفى شيئًا فشيئًا مع بقاء الأصل؛ فهو كاستئجار العين ليسقيَ بها أرضَه، وقد نص مالك على جواز إجارة الحيوان مدةً للبنه ثم مِنْ أصحابه من جوَّز ذلك تبعًا لنصه، ¬
فصل [حمل العاقلة الدية عن الجاني طبق القياس]
ومنهم من منعه، ومنهم من شرط فيه شروطًا ضيَّقوا بها مورد النص ولم يدل عليها نصه (¬1)، والصواب الجواز، وهو موجب القياس المحْض، فالمجوّزون أسْعد بالنص من المانعين، وباللَّه التوفيق. فصل [حمل العاقلة الدية عن الجاني طبق القياس] ومن هذا الباب قول القائل: "حمل العاقلة الدية عن الجاني على خلاف القياس" ولهذا لا تحمل [العاقلة] (¬2) العمدَ (¬3) ولا العبدَ (¬4) ولا الصُّلحَ (¬5) ولا الاعتراف ولا ما دون الثُّلث، ولا تحمل جنايةَ الأموال، ولو كانت على وِفْق القياس لحملت ذلك كُلَّه (¬6). والجواب أن يقال: لا ريب أن من أتلف مضمونًا كان ضمانُه عليه، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}، ولا تُؤخذ نفس بجريرة غيرها؛ وبهذا جاء شرع اللَّه سبحانه ¬
وجزاؤه، وحمل العاقلة الدية غير مناقضٍ لشيء من هذا (¬1) كما سنبينه، والناس متنازعون في العَقْل: هل تحمله العاقلة ابتداءً أو تحمُّلًا؟ على قولين (¬2)، كما تنازعوا في صدقة الفطر التي يجب (¬3) أداؤها عن الغير كالزوجة [والولد] (¬4)، هل تجب ابتداءًا أو تحملًا؟ [على قولين] (4)، وعلى ذلك ينبني ما لو أخرجها من تُحمِّلت عنه عن نفسه بغير إذن المُتحمِّل لها؛ فمن قال: هي واجبة على الغير تحملًا قال: تجزئ في هذه الصورة، ومن قال: هي واجبة عليه ابتداءً قال: لا تجزيء، [بل] (¬5) هي كأداء الزكاة عن الغير، وكذلك القاتل إذا لم تكن (¬6) له عاقلةٌ، هل تجب الدية في ذمة القاتل [أولًا] (5)؛ على قولين، بناء على هذا الأصل، والعَقْلُ فارقَ غيره من الحقوق في أسباب اقتضت اختصاصه بالحكم، وذلك أن دية المقتول مال كثير، والعاقلة إنما تحمل الخطأ، ولا تحمل العَمْد بالاتفاق، ولا شبهه على الصحيح، والخطأُ يُعْذَر فيه الإنسان، فإيجاب الدية في ماله فيه ضررٌ عظيم عليه من غير ذنب تعمَّده، وإهدارُ دم المقتول من غير ضمان بالكلية فيه إضرار بأولاده وورثَته، فلا بد من إيجاب بدلِه، فكان من محاسنِ الشَّريعة وقيامها بمصالح العباد أنْ أوجبَ بدله على مَنْ عليهم موالاة القاتل ونُصرته، فأوجب عليهم إعانته على ذلك. وهذا كإيجابِ النفقات على الأقاربِ وكسوتهم، وكذا مسكنهم وإعفافهم إذا طلبوا النكاحِ، وكإيجابِ فَكاك الأسير من يد العدو (¬7)، [فإنه أسير] (¬8) بالدية التي لم يتعمَّد سبَبَ وجوبها ولا وجبت باختيار مستحقها كالقرض والبيع، وليست قليلة؛ فالقاتل في الغالب لا يقدر على حملها، وهذا بخلاف العمد، فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلًا أن يُحمل عنه بدل القتل (¬9)؛ وبخلاف شبه العمد؛ لأنه قاصد للجناية متعمد لها، فهو آثم معتدٍ، ¬
بخلاف بدل المُتلف من الأموال؛ فإنه قليل في الغالب لا يكاد المُتْلِف يعجز عن حمله، وشأن النفوس غير شأن الأموال؛ ولهذا لم تحمل العاقلة ما دون الثلث عند أحمد ومالك (¬1) لقلّته واحتمال الجاني حمله (¬2)، وعند أبي حنيفة لا تَحْمِل ما دون أقل المقدّر كأرْشِ المُوضحة (¬3) وتحمل ما فوقه (¬4)، وعند الشافعي تحمل القليل والكثير طردًا للقياس (¬5)؛ وظهر بهذا كونها لا تحمل العبد فإنه سلعة من السلع ومال من الأموال، فلو حملت بدله لحملت بدل الحيوان والمتاع؛ وأما الصلح والاعتراف فعارض هذه الحكمة فيهما معنًى آخر، وهو أن المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية ويشتركان فيما تحمله العاقلة ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسْري إقراره ولا صلحه، [فلا يجوز إقراره] (¬6) في حق العاقلة، ولا يقبل قوله فيما يجب عليه (¬7) من الغرامة، وهذا هو القياس الصحيح؛ فإن الصلح والاعتراف يتضمن إقراره ودَعْواه على العاقلة بوجوب المال عليهم؛ فلا يقبل ذلك في حقهم، ويقبل بالنسبة إلى المعترف كنظائره، فتبين أن إيجاب الدية على العاقلة من جنس ما أوجبه الشارع من الإحسان إلى المحتاجين كأبناء السبيل والفقراء والمساكين. وهذا من تمام الحكمة التي بها قيام مصلحة العالم؛ فإن اللَّه سبحانه قسم خلقه إلى غني وفقير، ولا تتم مصالحهم إلا بسدِّ خَلّة الفقير، فأوجب سبحانه في فضول أموال الأغنياء ما يسد [به] (¬8) خلّة الفقراء، وحرّم الربا الذي يضر بالمحتاج، فكان أمره بالصّدقة ونهيه عن الربا أخوين شقيقتين؛ ولهذا جمع اللَّه ¬
فصل [بيان أن المصراة على وفق القياس]
بينهما في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]، وقوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وذكر [اللَّه] (¬1) سبحانه أحكام الناس في الأموال في آخر سورة البقرة، وهي ثلاثة: عدل، ظلم (¬2)، وفضل؛ فالعدل البيع، والظلم الربا، والفضل الصدقة؛ فمدح المتصدقين وذكر ثوابهم، وذم المرابين وذكر عقابهم، وأباح البيع والتداين إلى أجل مسمى. والمقصود أن حمل الدية من جنس ما أوجبه من الحقوق لبعض العباد على بعض كحق المملوك والزوجة والأقارب والضيف، ليست من باب عقوبة الإنسان بجناية غيره، فهذا لون، وذاك (¬3) لون، واللَّه الموفق. فصل [بيان أن المُصرَّاة على وفق القياس] وممّا قيل فيه: إنه على خلاف القياس حديث المُصرَّاة (¬4)، قالوا: وهو ¬
[الرد على ذلك]
يخالف القياس من وجوه (¬1): منها أنه تضمن (¬2) رَدَّ البيع (¬3) بلا عيبٍ ولا خلف في صفة، ومنها أن "الخراج بالضمان" (¬4)؛ فاللَّبن الذي يحدث عند المشتري غير مضمون عليه وقد ضمنه إياه، ومنها أن اللبن من ذوات الأمثال وقد ضمنه إياه بغير مثله، ومنها أنه إذا انتقل من التضمين بالمثل فإنما ينتقل إلى القيمة والتمر لا قيمة ولا مثل، ومنها أن المال المضمون إنما يُضمن بقَدَره في القلة والكثرة، وقد قدر ههنا (¬5) الضمان بصاع. [الرد على ذلك] قال أنصار الحديث: كل ما ذكرتموه خطأ، والحديث موافق لأصول الشريعة وقواعدها، ولو خالفها لكان أصلًا بنفسه، كما أن غيره أصلٌ بنفسه (¬6)، وأصول الشرع لا يُضرب بعضها ببعض، كما نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[عن] (¬7) أن يُضرب كتابُ اللَّه بعضه ببعض (¬8)، بل يجب اتباعها كلها، ويُقر كل منها على أصله وموضعه؛ فإنها كلها من عند اللَّه الذي أتقن شرعه وخلقه، وما عدا هذا فهو الخطأ الصريح. ¬
فصل [الخراج بالضمان]
فاسمعوا الآن هدْم الأصول الفاسدة التي يُعترض بها على النصوص الصحيحة: أما قولكم: "إنه تضمّن الرد من غير عيب ولا فوات صفة" فأين في أصول الشريعة المُتلقّاة عن صاحب الشرع ما يدل على انحصار الرد بهذين الأمرين؟ وتكفينا هذه المطالبة، ولن تجدوا إلى إقامة الدليل على الحصر سبيلًا؛ ثم نقول: بل أصول الشريعة توجبُ الرد بغير ما ذكرتم، وهو الرد بالتدليس والغش، فإنه هو والخلف في الصفة من باب واحد، بل الرد بالتدليس أولى من الرد بالعيب، فإن البائع يُظهر صفة المبيع تارة بقوله وتارة بفعله، فإذا أظهر للمشتري أنه على صفة فبان بخلافها كان قد غشه ودلّس عليه، فكان له الخيار بين الإمساك والفسخ، ولو لم تأت الشريعة بذلك لكان هو محْض القياس وموجب العدل فإن المشتري إنما بَذل ماله [في المبيع] (¬1) بناء على الصفة التي أظهرها له البائع، ولو علم أنه على خلافها لم يبذل له فيها ما بذل، فإلزامه للمبيع (¬2) مع التدليس والغش من أعظم الظلم الذي تتنزّه الشريعة عنه، وقد أثبت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الخيار للركبان إذا تُلُقُّوا واشتُرِيَ منهم قبل أن يهبطوا السوق ويعلموا السِّعْر (¬3)، وليس ههنا عيبٌ ولا خلف في صفة، ولكن فيه نوع تدليس وغش. فصل [الخراج بالضمان] وأما قولكم: "الخراج بالضمان" (¬4) فهذا الحديث وإن كان قد رُوي فحديث ¬
المُصَرّاة (¬1) أصحُّ منه باتفاق أهل الحديث قاطبة، فكيف يُعارض به مع أنه لا تعارض بينهما بحمد اللَّه؟ فإن الخراج اسم للغلَّة مثل كسب العبد وأجرة الدابة ونحو ذلك، وأما الولد واللبن (¬2) فلا يُسمَّى خراجًا، وغايةُ ما في الباب قياسُه عليه بجامع كونهما من الفوائد، وهو من أفسد القياس؛ فإنّ الكسْب الحادث ¬
[الحكمة في رد التمر بدل اللبن]
والغلة لم يكن موجودًا حالَ البيع، وإنما حدث بعد القبض، [وأما اللبن ههنا فإنه كان موجودًا حال العقد] (¬1)، فهو جزء من المعقود عليه، والشارع لم يجعل الصاع عوضًا عن اللبن الحادث، وإنما هو عوض عن اللبن الموجود وقت العقد في الضّرع (¬2)، فضمانه هو محض العدل والقياس. وأما تضمينه بغيرِ جنسِه ففي غاية العدل؛ فإنه لا يمكن تضمينه بمثله البتة، فإن اللبن في الضّرع محفوظ غير مُعرّض للفساد، فإذا حلب صار عُرضة لحمضه وفساده، فلو ضمن اللبن الذي كان في الضوع بلبن محلوب في الإناء كان ظلمًا تتنزّه (¬3) الشريعة عنه. [الحكمة في رد التمر بدل اللبن] وأيضًا فإن اللبن الحادث بعد العقد اختلط (¬4) باللبن الموجود وقت العقد، فلم يعرف مقداره حتى يوجب نظيره على المشتري، وقد يكون أقلّ منه [أو أكثر] (¬5) فيفضي إلى الربا؛ لأن أقل الأقسام أن تُجهل المساواة. وأيضًا فلو وكلناه إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لكثرُ النزاع والخصام بينهما، ففَصلَ الشارع (¬6) الحكيم -صلاة اللَّه وسلامه عليه [وعلى آله] (¬7) - النزاع وقَدَّره بحد لا يتعدّيانه قطعًا للخصومة وفصلًا للمنازعة، وكان تقديرُه بالتمر أقربَ الأشياء إلى اللبن، فإنه قوت أهل المدينة كما كان اللبن قوتًا لهم، وهو مكيل كما أن اللبن مكيل؛ فكلاهما مطعوم مقْتات [مَكِيل، وأيضًا فكلاهما يُقْتات] (¬8) به بلا صنعة ولا علاج، بخلاف الحنطة والشعير والأرز، فالتمر أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون بها إلى اللبن. فإن قيل: فأنتم (¬9) توجبون صاع التمر في كل مكان، سواء كان قوتًا لهم أو لم يكن. ¬
فصل [أمر الذي صلى فذا بالإعادة]
قيل: هذا في مسائل النزاع وموارد الاجتهاد، فمن الناس منْ يوجب ذلك، ومنهم من يوجب في كل بلد صاعًا من قوتهم، ونظير هذا تعيينه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأصناف الخمسة في زكاة الفطر (¬1) وأن كل [أهل] (¬2) بلد يُخرجون من قوتِهم مقدار الصاع (¬3)، وهذا أرجح وأقرب إلى قواعد الشرع، [وإلا] (¬4) فكيف يُكلّفُ مَنْ قوتُهم السمك مثلًا أو الأرز الدّخن (¬5) إلى التمر، وليس هذا بأول تخصيص قام الدليل عليه، وباللَّه التوفيق. فصل [أمر الذي صلى فذًا بالإعادة] ومن ذلك ظنُّ بعض الناس (¬6) أن أمره -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن صلّى فذًّا خَلْف الصَّف بالإعادة على خلاف القياس (¬7)؛ فإن الإمام والمرأة فذّان وصلاتهما صحيحة. وهذا من أفسد القياس وأبطله؛ فإن الإمام يُسن في حقه التقدم، وأن يكون وحده، والمأمومون يُسن في حقهم الاصطفاف، فقياس أحدهما على الآخر من أفسد القياس، والفرقُ بينهما أن الإمام إنما جُعل ليُؤْتَمّ به وتُشاهد أفعالُه وانتقالاته، فإذا كان قُدَّامهم حصل مقصود الإمامة، وإذا كان في الصف لم يشاهده إلّا مَنْ يليه، ولهذا جاءت السنة بالتقدم (¬8)، [ولو كانوا ¬
ثلاثة] (¬1)، محافظةً على المقصود بالائتمام، وأما المرأة فإن السنة وقوفها فذة إذا لم يكن هناك امرأة تقف معها؛ لأنها منهية عن مُصافة الرِّجال (¬2)، فموقفها المشروع أن تكون خلف الصف فذة، وموقف الرجل المشروع أن يكون في الصف، فقياسُ أحدهما على الآخر من أبطل القياس وأفسده، وهو قياس المشروع على غير المشروع. فإن قيل: فلو كان معها نساء ووقفت وحدها صحت صلاتها! قيل: هذا غير مُسلَّم، بل إذا كان صفُّ نساء (¬3) فحكم المرأة بالنسبة إليه في كونها فذة كحكم الرجل بالنسبة إلى صفُّ الرجال، لكن موقف المرأة وحدها خلف الرجال (¬4) يدل على شيئين: أحدهما أن الرجل إذا لم يجد خلف الصف من يقوم معه وتعذَّر عليه الدخول في الصف ووقف [معه] (¬5) فذًا صحت صلاته للحاجة، وهذا هو القياس المحض؛ فإن واجبات الصلاة تسقط بالعجز عنها؛ الثاني -هو (¬6) طرد هذا القياس- إذا لم يمكنه أن يُصلِّي مع الجماعة إلا قُدّام الإمام فإنه يصلي قدامه وتصح صلاته، وكلاهما وجهٌ في مذهب أحمد، وهو اختيار شيخنا رحمه اللَّه (¬7). وبالجملة فليست المُصَافة أوْجب من غيرها، فإذا سقط ما هو أوجب منها ¬
فصل [الرهن مركوب ومحلوب وعلى من يركب ويحلب النفقة]
للعذر فهي أولى بالسقوط (¬1)، ومن قواعد الشرع الكلية أنه "لا واجبَ مع عجزٍ، ولا حرامَ مع ضرورة" (¬2). فصل [الرهن مركوب ومحلوب وعلى من يركب ويحلب النفقة] ومن ذلك قول بعضهم: إن الحديث الصحيح -وهو قوله: "الرَّهنُ مركوبٌ ومحلوب، وعلى الذي يركبُ ويحلبُ النفقة" (¬3) - على خلاف القياس، فإنه جوَّز لغير المالك أن يركب الدابة و [أن] (¬4) يحلبها، وضمَّنه (¬5) ذلك بالنفقة لا بالقيمة، فهو مخالف للقياس من وجهين (¬6). والصواب ما دل عليه الحديث، وقواعد الشريعة وأصولها لا تقتضي سواه؛ فإن الرهن إذا كان حيوانًا فهو محترمٌ في نفسه لحقِّ اللَّه سبحانه، وللمالكِ فيه حَقُّ الملك، وللمرتهن حق الوثيقة، وقد شرع اللَّه سبحانه الرَّهنَ مقبوضًا بيد المرتهن، فإذا كان بيده فلم يَرْكبه ولم يحلبه ذهب نفعه باطلًا (¬7)، وإن مَكَّن صاحبه من ركوبه خرج عن (¬8) يده وتوثيقه، وإن كَلَّف صاحبه كل وقت أن يأتي ليأخذ (¬9) لبنه ¬
شق عليه غاية المشقّة، ولا سيما مع بعد المسافة، وإن كلف المرتهن بيع اللبن وحفظ ثمنه للراهن شق عليه؛ فكان مُقتضى العَدْل والقياس ومصلحة الراهن والمُرْتَهِن والحيوان أن يستوفيَ المُرتهن منفعة الركوب والحلب ويعوض عنهما بالنفقة (¬1)، ففي هذا جمع بين المصلحتين، وتوفير الحقَّين (¬2)، فإن نفقة الحيوان واجبة على صاحبه، والمرتهن إذا أنفق عليه أدّى عنه واجبًا، وله فيه حق، فله أن يرجعَ ببدَلِه، ومنفعةُ الركوب والحلب تصلح أن تكون بدلًا، فأخْذُها خيرٌ من أن تُهدَر (¬3) على صاحبها باطلًا ويُلزم بعوض ما أنفق المُرتهن، وإن قيل للمُرتهن؛ "لا رجوع لك" كان في ذلك إضرارٌ (¬4) به، ولم تسمح نفسه بالنفقة على الحيوان، فكان ما جاءت به الشريعة هو الغاية التي ما فوقها في العدل والحكمة والمصلحة شيء يُختار. فإن قيل: ففي هذا أن منْ أدّى عن غيره واجبًا فإنه يرجع ببدله، وهذا خلاف القياس؛ فإنه إلزام له بما لم يلتزمه، ومعاوضة لم يرض بها. وقيل (¬5): وهذا أيضًا محض القياس (¬6) والعدل والمصلحة، وموجب الكتاب، ومذهبُ أهلِ المدينة وفقهاءِ الحديث، أهلِ بلدته وأهلِ سنته، فلو أَدَّى عنه دينَه (¬7) أو أنفق على مَنْ تلزمه نفقته أو افْتَداه من الأسر ولم ينو التبرُّع فله الرجوع، وبعض أصحاب أحمد فرَّقَ بين قضاء الدين ونفقة القريب؛ فجوَّز الرجوع في الدين دون نفقة القريب، قال: لأنها لا تصير دينًا (¬8)؟ قال شيخنا (¬9): والصواب التسوية بين الجميع، والمحققون من أصحابه ساووا بينهما (¬10)، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبتُه بالفِداء، وليس ذلك دَيْنًا عليه، والقرآن يدل على هذا القول، فإن اللَّه تعالى قالَ: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ ¬
فصل [الحكم في رجل وقع على جارية امرأته موافق للقياس]
أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] فأمر بإيتاء الأجر (¬1) بمجرد الإرضاع، ولم يشترط عقدًا ولا إذن الأَب، وكذلك قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، فأوجب ذلك عليه، ولم يشترط عقدًا ولا إذنًا، ونفقةُ الحيوان واجبةٌ على مالكه، والمستأجر والمرتهن له فيه حق، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على رَبِّه كان أحق بالرجوع بالإنفاق على ولده (¬2)، فإن قال الراهن: أنا لم آذن لك في النفقة، قال: هي واجبة عليك، وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمُستأجر، فإذا رضي المنفِقُ بأن يعتاض بمنفعة الرهن وكانت (¬3) نظير النفقة كان قد أحسن إلى صاحبه، وذلك خيرٌ محضٌ، فلو لم يأت به النص لكان القياس يقتضيه، وطَرْدُ هذا القياس أن المُودعَ والشريك والوكيل إذا أنفق على الحيوان واعتاض عن النفقة بالركوب والحلْب جاز ذلك كالمرتهن. فصل [الحكم في رجل وقع على جارية امرأته موافق للقياس] ومما قيل: "إنه من أبعد الأحاديث عن القياس" حديثُ الحسن، عن قَبيصة بن حُرَيْث عن سلمة بن المُحبَّق أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "قضى في رجل وقع على جاريةِ امرأتِه إنْ كان استكرهَها فهي حرةٌ، وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت طاوَعتْهُ فهي له وعليه لسيِّدتها مثلها" وفي رواية أخرى: "وإن كانت طاوَعتْه فهي ومثلها من ماله لسيدتها" (¬4)، رواه أهل "السنن" وضعَّفه بعضهم من قبل إسناده، وهو ¬
حديثٌ حسن يحتجون بما هو دونه في القوة، ولكن لإشكاله أقدموا على تضعيفه مع لينٍ في سنده (¬1). ¬
فصل [المتلفات تضمن بالجنس]
قال شيخ الإسلام (¬1): وهذا الحديث يستقيم على القياس مع ثلاثة أصول صحيحة، كلٌّ منها قول طائفة من الفقهاء: أحدهما: أن من غيَّر مال غيره بحيث فوّت مقصوده عليه فله أن يَضمنه بمثله، وهذا كما لو (¬2) تصرّف في المغصوب بما أزال اسمه ففيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد (¬3) وغيره: أحدها: أنه باقٍ على مُلكِ صاحبه، وعلى الغاصبِ ضمانُ النقص، ولا شيء عليه في الزيادة كقول الشافعي (¬4). والثاني: يملكُه الغاصبُ بذلك، ويضمنُه لصاحبه كقول أبي حنيفة (¬5). الثالث: يُخيَّر المالك بين أخذه وتضمين النقص وبين المطالبة بالبَدَل، وهذا أعدل الأقوال وأقواها؛ فإن فوّت (¬6) صفاته المعنوية -[مثل أن] (¬7) ينسيه صناعته أو يضعف قوته، أو يُفسد عقله أو دينه- فهذا أيضًا يخيَّر المالك فيه بين تضمين النَّقص وبين المطالبة بالبدل، ولو قطع ذَنَبَ بغلة القاضي فعند مالك يضمنها بالبدل ويملكها لتعذر مقصودها على المالك في العادة؛ أو يُخيَّر المالك (¬8). فصل [المتلفات تضمن بالجنس] الأصل الثاني: أن جميع المُتْلفات تضمن بالجنس بحسب الإمكان مع مراعاة القيمة، حتى الحيوان فإنه إذا اقترضه رُدّ مثله، كما اقترض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بَكْرًا وردَّ خيرًا منه (¬9)، وكذلك المغرُور يضمن ولده بمثله (¬10) كما قَضت به ¬
الصَّحابة (¬1)، وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقصة داود وسليمان -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) من هذا الباب؛ فإن الماشية كانت قد أتْلفت حرْث القوم فقضى داودُ بالغنم لأصحاب الحرْث كأنه ضمَّنهم ذلك بالقيمة (¬3)، ولم يكن لهم مال إلا الغَنَم فأعطاهم الغنم بالقيمة (¬4)، وأما سليمان فحكم (¬5) بأن أصحاب الماشية يقومون على الحرث حتى يعود كما كان فضمّنهم إياه بالمِثْل، وأعطاهم الماشية يأخذون منفعتها عوضًا عن المنفعة التي فاتت من غلّة الحرث إلى أن يعود، وبذلك أفتى الزهري لعمر بن عبد العزيز فيمن أتلف له شجر، فقال الزهري: يغرسُه حتى يعود كما كان، وقال ربيعة وأبو الزناد: عليه القيمة، فغلَّظ الزهري القول فيهما، وقول الزهري: وحكم سُليمان هو موجب الأدلة (¬6)؛ فإن الواجب ضمان المُتْلف (¬7) بالمثل بحسب الإمكان كما قال تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقال: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] وإن كان مثل [هذا] (8) الحيوان والآنية والثياب من كل وجه متعذرًا فقد دار الأمر بين شيئين: الضمان بالدراهم المخالفة للمثل في الجنس والصفة [والماهية] (¬8) والمقصود والانتفاع وإن ساوت ¬
[المضمون] (¬1) في المالية، والضمان بالمثل بحسب الإمكان المساوي للمُتلف في الجنس والصفة والمالية والمقصود والانتفاع، ولا ريب أن هذا أقربُ إلى النص (¬2) والقياس والعدل، ونظير هذا ما ثبت بالسنة (¬3) واتفاقِ الصحابة من القصاص في اللّطْمة والضربة (¬4) وهو منصوصُ أحمد في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد تقدم ¬
[من مثل بعبده عتق عليه]
تقرير ذلك وإذا كانت المماثلة من كل وجه متعذرة حتى في المكيل والموزون فما كان أقرب إلى المماثلة فهو أولى بالصواب، ولا ريب أن الجنس إلى الجنس أقرب مماثلةً من الجنس إلى القيمة؛ فهذا هو القياس وموجب النص (¬1)، وباللَّه التوفيق. [مَنْ مثَّل بعبده عتق عليه] الأصل الثالث: أن من مثّل بعبده عتَقَ عليه (¬2)، وهذا مذهب فقهاء الحديث وقد جاءت بذلك آثار (¬3) مرفوعة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وأصحابه كعمر بن الخطاب (¬1) وغيره. فهذا الحديث موافق لهذه الأصول الثلاثة الثابتة بالأدلة الموافقة للقياس العادل؛ فإذا طاوعتهُ الجاريةُ فقد أفسدها على سيدتها (¬2) فإنها مع المطاوعة تنقصُ قيمتُها إذ تصير زانية، ولا تُمكَّن سيدتُها من استخدامها حق الخدمة، لغيرتها (¬3) منها وطمعِها في السيد، واستشراف السيد إليها، وتتشامخ على سيدتِها فلا تطيعها كما كانت تطيعها قبل ذلك، والجاني إذا تصرّف في المال بما ينقص قيمته كان لصاحبه المطالبة بالمثل، فقضى الشَّارعُ لسيدتها بالمثل، وملّكه الجارية؛ إذ لا يُجمع لها بين العِوَض والمعوَّض، وأيضًا فلو رضيت سيدتها أن تبقى الجارية على ملكها وتغرمه ما نقص من قيمتها كان لها ذلك، فإذا لم ترض وعَلِمت أن الأمةَ قد فَسَدت عليها ولم تنتفع بخدمتها كما كانت قبل ذلك من أحسن (¬4) القضاء أن يُغرَّم السيدُ مثلها ويملكها. فإن قيل: فاطردوا هذا القياس وقولوا: إن الأجنبيَّ إذا زنى بجارية قوم حتى أفسدها عليهم أن [لهم القيمة أو] (¬5) يطالبوه ببدلها. قيل: نعم هذا مُوجب القياس إن لم يكن بين الصورتين فَرْق مؤثرٌ، وإن كان بينهما فرق انقطع الإلحاق؛ فإن الإفساد الذي في وَطء الزوج بجارية امرأته بالنسبة إليها أعظم من الإفساد الذي في وطء الأجنبي (¬6)، وبالجملة فجواب هذا السؤال جواب مركب؛ إذ لا نص فيه ولا إجماع. ¬
فصل [استكراه السيد لجاريته وعبده]
فصل [استكراه السيد لجاريته وعبده] وأما إذا استكرهها فإن هذا من باب المثلة، فإن الإكراه على الوطء مُثْلة؛ فإن الوطء يجري مجرى الجناية، ولهذا لا يخلو عن عُقر أو عقوبة، ولا يجري مجرى منفعة الخدمة، فهي لما صارت له بإفسادها على سيدتها أوجب عليه مثلها كما في المطاوعة، وأعتقها عليه لكونه مَثَّل بها. قال شيخنا (¬1): ولو اسْتَكره عبده على الفاحشة عَتق عليه، ولو استكره أمة الغير على الفاحشة عتقت عليه، وضمنها بمثلها، إلا أن يفرق بين أمة امرأته وبين غيرها، فإن كان بينهما فرق شرعي وإلا فموجب القياس التسوية. وأما قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ [إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ] (¬2) غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 33] فهذا نهي عن إكراههن على كسب المال بالبغاء، كما قيل: إن عبد اللَّه بن أُبيّ رأس المنافقين كان له إماءٌ يُكرههن على البِغَاء (¬3)، وليس هذا استكراهًا للأمة (¬4) على أن يزني بها هو، فإن هذا بمنزلةِ التَمثيل بها، وذاك إلزامٌ لها لأن (¬5) تذهبَ هي فتزني، مع أنه يمكن أن يُقال: العتقُ بالمثلة لم يكن مشروعًا عند نزول الآية، ثم شُرع بعد ذلك. [ما من نص صحيح إلا وهو موافق للعقل] قال شيخنا (¬6): والكلام على هذا الحديث من أدقِّ الأمور، فإن كان ثابتًا فهذا الذي ظهر في (¬7) توجيهه، وإن لم يكن ثابتًا فلا يحتاج إلى الكلام عليه. ¬
قال: وما عرفت حديثًا صحيحًا إلا ويمكن تخريجه على الأصول الثابتة قال: وقد تدبَّرتُ ما أمكنني من أدلةِ الشَّرعِ فما رأيت (¬1) قياسًا صحيحًا يخالف حديثًا صحيحًا، كما أن المعقول الصحيح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قياسًا يُخالف أثرًا فلا بد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسده [مما] (¬2) يخفى كثيرٌ منه على أفاضل العلماء فضلًا عمن هو دونهم، فإن إدراك الصفةِ المؤثرةِ في الأحكام على وجهها ومعرفة المعاني التي عُلِّقت بها الأحكام من أشرف العلوم، فمنه الجليُّ (¬3) الذي يعرفه أكثر الناس، ومنه الدقيقُ الذي لا يعرفه إلا خواصُّهم، فلهذا صارت أقْيِسَةُ كثيرٍ من العلماء تجيءُ مخالفةً للنصوص لخفاء القياس الصحيح، كما يخفى على كثير من الناس ما في النصوص من الدلائل الدقيقة التي تدل على الأحكام، [انتهى] (¬4). فإن قيل: فهَبْ (¬5) أنكم خرّجتم ذلك على القياس، فما تصنعون بسقوط الحد عنه وقد وطئ فرجًا لا مِلْك له فيه ولا شُبهة مِلك؟ قيل: الحديث لم يتعرض [للحد] (¬6) بنفي ولا إثبات، وإنما دلّ على الضمان وكيفيته. فإن قيل: فكيف تخرِّجون حديث النعمان بن بشير في ذلك: "إنّها إن (¬7) كانت أحَلّتها له جُلِد مئة جلدة، وإن لم تكن أحلّتها له رُجم بالحجارة" (¬8) على القياس. ¬
[التعزير]
قيل: هو بحمدِ اللَّه موافقٌ للقياس، مطابقٌ لأصول الشريعة وقواعدها؛ فإن إحلالَها له شبهةٌ كافية في سقوط الحد عنه، ولكن لما لم يملكها بالإحلال كان الفرجُ محرَّمًا عليه، وكانت المئة تعزيرًا له وعقوبةً على ارتكاب فرج حرام عليه، وكان إحلالُ الزوجة له وطأها شبه دارئةٍ للحدِّ عنه. [التعزير] فإن قيل: فكيف تُخرِّجون التعزيز بالمئة على القياس. قيل: هذا من أسهل الأمور؛ فإن التعزير لا يقدَّر بقدرٍ [معلوم] (¬1)، بل هو بحسب (¬2) الجريمة في جنسِها وصفتِها وكِبَرِها وصِغَرِهَا (¬3)، وعمرُ بن الخطاب (¬4) قد تنوَّع تعزيرُه في الخمر؛ فتارة بحلْق الرأس، وتارة بالنفي، وتارة بزيادة أربعين ¬
سوْطًا على الحد الذي ضَرَبَه (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبو بكر، وتارة بتحريق حانوت الخَمَّار (¬2)، وكذلك تعزيرُ الغالِّ قد جاءت السنة بتحريق متاعه (¬3)، وتعزيرُ مانع ¬
الصَّدقةِ بأخذها وأخذِ شَطْرِ ماله معها (¬1)، وتعزيرُ كاتمِ الضَّالَّةِ الملتقطة بإضعاف الغُرْم عليه (¬2)، وكذلك عقوبة سارق ما لا قَطْع فيه يُضعَّف عليه الغُرْم (¬3)، وكذلك قاتل الذِّميِّ عمدًا أضْعف عليه عمر وعثمان ديته (¬4)، وذهب إليه أحمد وغيره. ¬
[الكلام على حديث: "لا يضرب فوق عشرة أسواط"]
فإن قيل: فما تصنعون بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُضربُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدودِ اللَّه" (¬1). [الكلام على حديث: "لا يضرب فوق عشرة أسواط"] قيل: نتلقَّاه بالقبول والسمع والطاعة، ولا منافاة بينه وبين شيءٍ مما ذكرنا (¬2)، فإن الحد في لسانِ الشارع (¬3) أعمّ منه في اصطلاح الفقهاء؛ فإنهم يريدون بالحدود عقوباتِ الجناياتِ المُقدّرة بالشرع خاصة، والحدُّ في لسان الشارع أعمّ من ذلك؛ فإنه يُراد به هذه العقوبة تارةً ويراد به نفس الجناية تارةً، كقوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] وقوله: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] فالأولُ حدودُ الحرام، والثاني: حدودُ الحَلال (¬4)، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه حدَّ حُدودًا فلا تعْتدوها" (¬5) وفي حديث النوَّاس بن سمعان ¬
فصل [المضي في الحج الفاسد لا يخالف القياس]
الذي تقدم في أول الكتاب (¬1): ". . . والسوران حدود اللَّه. . "، ويراد به تارة جنس العقوبة، وإن لم تكن مُقدَّرة، فقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود اللَّه" (¬2) يريد الجناية (¬3) التي هي حَقُّ اللَّه. فإن قيل: فأين تكون العشرة فما دونها إذا كان المرادُ بالحدِّ الجنايةَ. قيل: في ضَرْب الرجل امرأتَه وعَبْدَه وولدَه، وأجيره للتأديب ونحوه، فإنه لا يجوز أن يزيد على عشرة أسواط؛ فهذا أحْسَن ما خُرِّج عليه الحديث، وباللَّه التوفيق. فصل [المضي في الحج الفاسد لا يخالف القياس] وأما المضي في الحج الفاسد فليس مخالفًا للقياس؛ فإن اللَّه سبحانه أمر بإتمام الحج والعمرة، فعلى مَنْ شرع فيهما أن يمضي فيهما وإن كان متطوعًا بالدخول باتفاق الأئمة، وإن تنازعوا فيما سواه من التطوعات: هل تلزم بالشروع أم لا؟ فقد وَجَب عليه بالإحرام أن يمضيَ فيه إلى حين يتحلَّل، ووجب عليه الإمساك عن الوطء، فإذا وطئ فيه لم يسقط [وطؤه] (¬4) ما وجب عليه من إتمام النُّسك، فيكون ارتكابه ما حرَّمه اللَّه عليه سببًا لإسقاط الواجب عليه (¬5)، ونظير هذا الصائم إذا أفطر عمدًا لم يُسقِط عنه فِطرُه ما وجب عليه من إتمام الإمساك، ولا يُقال له: قد بطل صومُكَ فإن شئت أن تأكل فكُل، بل يجبُ عليه المضيُّ فيه ¬
فصل [العذر بالنسيان]
وقضاؤه، لأن الصائم له حدٌ محدود وهو غروب الشمس (¬1). فإن قيل: فهلا طرَدْتُم ذلك في الصلاة إذا أفسدها، وقلتم: يمضي فيها ثم يعيدها؟ قيل: من ههنا ظَنَّ مَنْ ظَنَّ أن المضي في الحج الفاسد على خلاف القياس (¬2)، والفرق بينهما أن الحج له وقتٌ محدودٌ وهو يوم عرفة كما للصيام (¬3) وقت محدود وهو الغروب، وللحج مكانٌ مخصوص لا يمكن إحلال المُحْرِم قبل وصوله إليه كما لا يمكن فطر الصائم قبل وصوله إلى وقت الفطر (¬4)، فلا يمكنه فعله، ولا فعل الحج ثانيًا في وقته، بخلاف الصلاة فإنه يمكنه فعلها ثانيًا في وقتها؛ وسرُّ الفرق أن وقت الصيام والحج بقدر فعله لا يَسَع غيره، ووقت الصلاة أوْسع منها فيسع غيرها، فيمكنه تدارك فعلها إذا فسدت في أثناء الوقت، ولا يمكن تدارك الصيام والحج إذا فسدا إلا في وقتٍ آخرَ نظير الوقت الذي أفسدهما فيه، واللَّه أعلم (¬5). فصل [العذر بالنسيان] وأما من أكل في صومه ناسيًا فمن قال: "عدم فطره ومضيه في صومه على خلاف القياس" ظن أنه من باب ترك المأمور ناسيًا، والقياس أنه يلزمه الإتيان بما تركه، كما لو أحدث ونَسي حتى صلَّى (¬6)، والذين قالوا: "بل [هو] (¬7) على وفْق القياس" حُجَّتُهم أقوى؛ لأن قاعدة الشريعة أَنَّ مَنْ فعل محظورًا ناسيًا فلا إثمَ عليه، كما دل عليه قوله تعالى: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: ¬
[طرد هذا القياس في أمور كثيرة]
286] وثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن اللَّه سبحانه استجاب هذا الدعاء، وقال: قد فعلت (¬1)؛ وإذا ثبت أنه غيرُ آثمٍ فلم يفعل في صومه محرَّمًا فلم يبطل صومه، وهذا محض القياس؛ فإن العبادة إنما تبْطلُ بفعل محظور أو ترك مأمور (¬2). وطردُ هذا القياس أن من تكلّم في صلاته ناسيًا لم تبطل (¬3) صلاته. وطرْدُه أيضًا أن من جامع في إحرامه أو صيامه ناسيًا لم يبطُل صِيامُه ولا إحرامه. وكذلك من تطيّب أو لبِس أو غطّى رأسه أو حلق رأسه أو قَلَّم ظفره ناسيًا فلا فِدْية عليه، بخلاف قَتْل الصيد، فإنه من باب ضمان المُتْلفات فهو كدِية القتِيل، وأما اللباس والطيب فمن باب الترفُّه، وكذلك الحلق والتقليم ليس من باب الإتلاف فإنه لا قيمةَ له في الشرع ولا في العُرف، وطرد هذا القياس أن من فعل المحلوف عليه ناسيًا لم يَحْنَث، سواء حلف باللَّه أو بالطلاق أو بالعتاق (¬4) أو غير ذلك؛ لأن القاعدة أن مَنْ فعل المنهيّ عنه ناسيًا لم يُعَدَّ عاصيًا، والحنثُ في الأيمان كالمعصية في الأيمان، فلا يعدُّ حانثًا مَنْ فعل المحلوف عليه ناسيًا. [طرد هذا القياس في أمور كثيرة] وطرد هذا أيضًا أن من باشر النَّجاسة في الصلاة ناسيًا لم تبطل صلاته، بخلاف من ترك شيئًا من فروض الصلاة ناسيًا أو تَركَ الغُسل من الجنابة أو الوضوء أو الزكاة أو شيئًا من فروض الحج ناسيًا فإنه يلزمه الإتيان به؛ لأنه لم يُؤَدِّ ما أُمر به، فهو في عهدة الأمر؛ وسِرُّ الفرق أن من فعل المحظور ناسيًا يُجعل وجوده كعدمه، ونسيان ترك المأمور لا يكون عذرًا في سقوطه، كما كان فعل ¬
المحظور نسيانًا (¬1) عذرًا في سقوط الإثم عن فاعله. فإن قيل: فهذا الفرق حجة عليكم؛ لأن ترك المفطرات في الصوم من باب المأمورات، ولهذا تُشترط (¬2) فيه النية، ولو كان فِعْلُ المُفطرات (¬3) من باب المحظور لم يحتج إلى نية كفعل سائر المحظورات (¬4). قيل: لا ريبَ أن النية في الصوم شرطٌ، ولولاها لما كان عبادة، [ولا أُثيب عليه؛ لأن الثواب لا يكون] (¬5) إلا بالنية؛ فكانت النيةُ شرطًا في كون هذا الترك عبادة، ولا يختص ذلك بالصوم، بل كل تركٍ لا يكون عبادة يُثاب عليه (¬6) إلا بالنية، ومع ذلك فلو فعله ناسيًا لم يأثم به، فإذا نوى تركها لته ثم فعلها ناسيًا لم يقْدَحْ نسيانه في أجره، بل يثاب على قصد تركها للَّه، ولا يأثم بفعلها ناسيًا، وكذلك الصوم. وأيضًا فإن فعل الناسي غير مضاف إليه، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أكلَ أو شَربَ ناسيًا فليتمَّ صوْمه؛ فإنما أطعمه اللَّه وسقاه" (¬7) فأضاف فعله ناسيًا إلى اللَّه لكونه لم يُردْه ولم يتعمده، وما يكون مضافًا إلى اللَّه تعالى لم يدخل تحت قدرة العبد فلم (¬8) يكلَّف به، فإنه إنما يُكلَّف بفعله، ولا بما يَفْعل فيه، ففعل الناسي كفعل النائم والمجنون والصغير (¬9)، وكذلك لو احتلم الصائم في منامه أو ذَرَعَه القيءُ (¬10) في اليقظة لم يفطر، ولو استدعى ذلك أفطر (¬11) به؛ فلو كان ما يُوجد بغير قصده كما يوجد بقصده لأفطر بهذا وهذا. ¬
[هل هناك فرق بين الناسي والمخطئ]
[هل هناك فرق بين الناسي والمخطئ] فإن قيل: فأنتم تُفطِّرون المخطئ كمن أكل يظنه ليلًا فبَانَ نَهَارًا (¬1). قيل: هذا فيه نزاعٌ معروف بين السَّلف والخلف، والذين فرَّقوا بينهما قالوا: فعل المُخطئ يمكن الاحتراز منه، بخلاف الناسي. ونُقل عن بعض السلف أنه يفطر في مسألة الغروب دون مسألة الطلوع كما لو استمر الشك. قال شيخنا (¬2): وحجةُ مَنْ قال لا يُفطر في الجميع أقوى، ودلالة الكتاب والسنة على قولهم أظهر؛ فإن اللَّه سبحانه سوَّى بين الخطأ والنسيان في عدم المؤاخذة. ولأن فِعلَ محظوراتِ الحجِّ يستوي فيه المخطئ والناسي، ولأن كلَّ واحد منهما غيرُ قاصدٍ للمخالفة، وقد ثبت في الصحيح أنهم أفْطرُوا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم طلعت الشَّمْسُ (¬3)، ولم يثبت في الحديث أنهم أُمِرُوا بالقضاء، ولكن هشام بن عُروة سُئِل عن ذلك فقال: لا (¬4) بدَّ من قضاء، وأبوه عروة أعلم منه، وكان يقول: لا قضاء عليهم (¬5)، وثبت في "الصحيحين" أن بعض الصحابة أكلوا حتى ظهر الخيطُ الأسودُ من [الخيط] (¬6) الأبيض (¬7) ولم يُؤمر أحدٌ (¬8) منهم بقضاء وكانوا مخطئين، وثبت عن عمر بن الخطاب أنه أفطر ثم تبين النهار فقال: ¬
لا نقضي؛ لأنا لم نتجانفْ لإثم، وروي عنه أنه قال: نقضي (¬1)، وإسناد الأول أثْبتُ، وصحَّ عنه أنه قال: الخطْبُ يسيرٌ (¬2)؛ فتأوَّل ذلك من تأوله على أنه أراد خفة أمر القضاء، واللفظ لا يدل على ذلك. قال شيخنا (¬3): وبالجملة فهذا القول أقوى أثرًا ونظرًا، وأشبه بدلالة الكتاب والسنة والقياس. قلت له: فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مر على رجل يحتجم فقال: "أفطرَ الحاجمُ والمحجوم" (¬4) ولم يكونا عالمين بأن الحجامة تُفَطّر، ولم يبلغهما قبل ذلك قوله: ¬
فصل [الحكم في امرأة المفقود على وفق القياس]
"أَفطرَ الحاجمُ والمحجوم" ولعل الحكم إنما شرع ذلك اليوم. فأجابني بما مضمونه [أن الحديث] (¬1) اقتضى أنَّ ذلك الفعل مُفَطِّر، وهذا كما لو رأى إنسانًا يأكل أو يشرب فقال: أفطر الآكل والشارب؛ فهذا فيه بيانُ السبب المقتضي للفطر، ولا تعرُّضَ فيه للمانع. وقد علم أن النسيان مانع للفطر بدليل خارجٍ، فكذلك الخطأ والجهل، واللَّه أعلم. فصل (¬2) [الحكم في امرأة المفقود على وفق القياس] ومما ظُن (¬3) أَنه على خلاف القياس ما حكم به الخلفاء الراشدون في امرأة المفقود؛ فإنه قد ثبت عن عمر بن الخطاب -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه أجّل امرأته أربع سنين وأمرها أن تتزوج، فقدم المفقود بعد ذلك فخيَّره عمر بين امرأته وبين مهرها (¬4)؛ ¬
[من تصرف في حق غيره هل تصرفه مردود أو موقوف؟]
فذهب الإمام أحمد إلى ذلك، وقال: ما أدري مَنْ ذهب إلى (¬1) غير ذلك إلى أيِّ شيء يذهب، وقال أبو داود في "مسائله": سمعت أحمد (¬2) -وقيل له: في نفسك شيءٌ من المفقود؟ - فقال: ما في نفسي منه شيء، هذا خمسة من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمروها أن تتربّص (¬3)، قال أحمد: [هذا] من ضيقِ علمِ الرجل أن لا يتكلم في امرأة المفقود (¬4). وقد قال بعض المتأخرين من أصحاب أحمد: إن مذهب عمر في المفقود يخالف القياس (¬5)، والقياس أنها زوجة القادم بكل حال، إلا أن نقول: الفُرْقة تنفذ ظاهرًا وباطنًا؛ فتكون زوجة الثاني بكل حال، وغلا بعض المخالفين لعمر في ذلك فقالوا: لو حَكم حاكمٌ بقول عمر في ذلك لنُقضَ حكمُه لبعده عن القياس. وطائفة ثالثة اْخذت ببعض قول عمر، وتركوا بعضه، فقالوا: إذا تزوجت ودخل بها الثاني فهي زوجته، ولا تُردُّ إلى الأول، وإن لم يدخل بها رُدَّت إلى الأول. [مَنْ تَصَرَّف في حق غيره هل تصرفه مردود أو موقوف؟] قال شيخنا (¬6): من خالف عمر لم يهتدِ إلى ما اهتدى إليه عمر، ولم يكن له من الخبرة بالقياسِ الصحيحِ مثل خبرة عمر، وهذا إنما يتبين بأصْلٍ، وهو وقْفُ العقود إذا تَصَرَّفَ الرجل في حق الغير بغير إذنه، هل يقع تصرفه مردودًا أو موقوفًا على إجازته؟ على قولين [مشهورين] (¬7) هما روايتان عن أحمد: إحداهما أنها تقف ¬
على الإجازة، وهو مذهب أبي حنيفة (¬1) ومالك (¬2)، والثانية: أنها لا تقف، وهو أشهر قَوْلي الشافعي (¬3)، وهذا في النكاح والبيع والإجارة، وظاهر مذهب أحمد التفصيل (¬4)، وهو أن المتصرف إذا كان معذورًا لعدم تمكنه من الاستئذان وكان به حاجة إلى التصرف وقف العقد على الإجازة (¬5) بلا نزاعٍ عنده، وإن أمكنه الاستئذانُ أو لم تكن به حاجة إلى التصرف ففيه النزاع؛ فالأول مثلُ منْ عنده أموالٌ لا يعرف أصحابها كالغُصُوب والعَوَاري ونحوها فإذا تعذّر عليه معرفة أصحاب الأموال (¬6) ويئس منهم فإن مذهب أبي حنيفة (¬7) ومالك (¬8) وأحمد (¬9) أنه يتصدّق بها عنهم؛ فإن ظهروا بعد ذلك كانوا مخيَّرين بين الإمضاء وبين التضمين. وهذا مما جاءت به السنة في اللُّقطة (¬10)؛ فإن الملتقط يأخذها بعد التعريف ويتصرف فيها ثم إن جاء صاحبها كان مخيَّرًا بين إمضاء تصرفه وبين المطالبة بها، فهو تصرف موقوف لمّا تعذر الاستئذان ودعت الحاجة إلى التصرف، وكذلك ¬
المُوصي بما زاد على الثلث [وصيّتُه موقوفةٌ] (¬1) على الإجازة عند الأكثرين، وإنما يخيَّرون بعد الموت (¬2)، فالمفقودُ المنقطعُ خبرهُ إن قيل: "إن امرأته تبقى إلى أن يُعلَم خبرُه" بقيت لا أيِّمًا ولا ذات زوج إلى أن تبقى من القواعد أو تموت، والشريعة لا تأتي بمثل هذا، فلما أُجِّلت أربع سنين ولم ينكشف خبرُه (¬3) حُكِم بموته ظاهرًا (¬4). فإن (¬5) قيل: يَسوغُ للإمام أن يفرق بينهما للحاجة، فإنما ذلك بعد اعتقاد موته، وإلا فلو عُلمت حياتُه لم يكن مفقودًا، وهذا كما ساغ التصرُّف في الأموال التي تعذَّر معرفةُ أصحابها، فإذا قدم الرجل تبيَّنَا (¬6) أنه كان حيًا، كما إذا ظهر صاحب المال، والإمام قد تصرف في زوجته بالتفريق؛ فيبقى هذا التفريق موقوفًا على إجازته؛ فإن شاء أجاز ما فعله الإمام وإن شاء ردّه، وإذا أجازه صار كالتفريق المأذون فيه، ولو أذن للإمام أن يفرِّق بينهما وقعتِ الفرقةُ (¬7) بلا ريب، وحينئذٍ فيكون نكاح الثاني صحيحًا، وإن لم يُجِزْ ما فَعَلَهُ الإمامُ كان التفريق باطلًا فكانت باقيةً على نكاحه فتكون زوجته، فكانَ القادم مخيَّرًا بين إجازةِ (¬8) ما فعله الإمام ورده، وإذا أجاز فقد أخرج (¬9) البُضْع عن ملكه، وخروج البُضع من (¬10) ملك الزوج متقوم عند الأكثرين كمالك والشافعي وأحمد في أنصِّ الروايتين، والشافعي يقول: هو مضمونٌ بمهر المثل، والنزاع بينهم فيما إذا شهد شاهدان أنه طلَّق امرأته ثم رجعا عن الشهادة، فقيل: لا شيء عليهما، بناء على أن خروج ¬
[القول بوقف العقود عند الحاجة]
البُضْع من ملك الزوج ليس بمتقوّم، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين اختارها متأخرو أصحابه كالقاضي أبي يعلى وأتباعه، وقيل: عليهما مهرُ المثل، وهو قول الشافعي، وهو (¬1) وجهٌ في مذهب أحمد، وقيل: عليهما المُسمَّى، وهو مذهب مالك، وهو أشهرُ في نص أحمد، وقد نصَّ على ذلك فيما إذا أفسد نكاح زوجته (¬2) برضاع أنه يرجع المُسمَّى، والكتاب والسنة يدلان على هذا القول؛ فإن اللَّه تعالى قال: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10، 11] وهذا هو المُسمَّى دون مهر المثل؛ ولذلك (¬3) أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- زوجَ المختلعة أن يأخذَ ما أعطاها دون مهر المثل (¬4)، وهو سبحانه إنما يأمر في المُعاوضات المُطْلَقة بالعدل. [القول بوقف العقود عند الحاجة] فحكم أمير المؤمنين في المفقود ينبني على هذا الأصل، والقول بوقف العقود عند الحاجة متفق عليه بين الصحابة، ثبت ذلك عنهم في قضايا متعددة، ولم يُعلم أن أحدًا منهم أنكر ذلك، مثل قضية ابن مسعود في تصَدُّقه عن (¬5) سَيّد الجارية التي ابتاعها بالثمن الذي كان له عليه في الذِّمة لما تعذَّرت عليه معرفتُه (¬6) ¬
وكتصدق الغالِّ بالمال المغلول من الغَنيمة لما تعذَّر قسمه بين الجيش، وإقرارُ معاوية له على ذلك وتصويبُه له (¬1)، وغير ذلك من القضايا، مع أن القول بوقف العقود [مطلقًا] (¬2) هو الأظهر في الحجة، وهو قول الجمهور، وليس في ذلك ضررٌ أصلًا، بل هو إصلاح بلا إفساد (¬3)؛ فإن الرجل قد يرى أن يشتريَ لغيره أو يبيعَ له أو يؤجِّرَ له أو يستأجِرَ له (¬4) ثم يشاوره، فإن رضي وإلا لم يحصل له ما يضره، وكذلك في تزويج وَليَّته ونحو ذلك، وأما مع الحاجة فالقول به لا بد منه، فمسألة المفقود هي مما يُوقف (¬5) فيها تفريق الإمام على إذن الزوج إذا جاء كما يقف تصرف المُلتَقط على إذن المالك إذا جاء (¬6)، والقول بردَّ المهر [إلى الزوج] (¬7) بخروجِ بُضْع امرأته عن ملكه، ولكن تنازعوا في المهر الذي يرجعُ به: هل هو ما أعطاها هو أو ما أعطاها الثاني، وفيه روايتان عن أحمد: إحداهما (¬8) يرجع بما مَهرَها الثاني؛ لأنها هي التي أخذته، والصواب أنه إنما يرجع بما مَهَرها هو؛ فإنه الذي يستحقه، وأما المهر الذي أصدقها الثاني فلا حقّ له فيه، وإذا ضمن الثاني للأول المهر فهل يرجع به عليها؟ فيه روايتان [عن أحمد] (¬9): إحداهما يرجعُ؛ لأنها هي التي أخذته، والثاني قد أعطاها المهرَ الذي عليه، فلا يضمن مَهْرين، بخلاف المرأة فإنها لما اختارت فِراقَ الزوج الأول ونكاح الثاني فعليها أن تردَّ المهر؛ لأن الفرقة جاءت من جهتها، والثانية لا يَرجع؛ لأن المرأة ¬
[ابن تيمية يقول: الصحابة أفقه الأمة وأعلمها ودليل قوله]
تستحقُّ المهرَ بما استحل من فرجها، والأول يستحق المهر بخروج البُضْعِ عن ملكه، فكان على الثاني، وهذا المأثور عن عمر في مسألة المفقود (¬1)، وهو عند طائفة من الفقهاء من أبعد الأقوال عن القياس (¬2)، حتى قال بعض الأئمة: لو حكم به حاكم نُقض حكمه، وهو مع هذا أصح الأقوال وأحراها في القياس (¬3)، وكل قول قيل سواه فهو خطأ، فمن قال: "إنها تعاد (¬4) إلى الأول بكل حال"، أو "تكون مع الثاني بكل حال" فكلا القولين خطأ؛ إذ كيف تُعاد إلى الأول وهو لا يختارها ولا يريدها، وقد فُرِّق بينه وبينها تفريقًا سائغًا في الشرع، وأجاز هو ذلك التفريق؟ فإنه وإن تبيَّن للإمام أن الأمر بخلاف ما اعتقده فالحق في ذلك للزوج، فإذا أجاز ما فعله الإمام زال المحذور، وأما كونها زوجة الثاني بكل حال مع ظهور زَوْجها وتبين أنَّ الأمر بخلاف ما فعل الإمام فهو خطأ أيضًا؛ فإنه مسلمٌ لم يفارق امرأته، وإنما فُرِّق بينهما بسبب ظَهرَ أنه لم يكن كذلك، وهو يطلب امرأته، فكيف يُحال بينه وبينها؟ وهو لو طلب ماله أو بدله رُدَّ إليه فكيف لا ترد إليه امرأته وأهله أعز عليه من ماله؟ وإن قيل: "حق الثاني تعلق بها" قيل: حقه سابق على حق الثاني، وقد ظهر انتقاض السبب الذي به استحق الثاني أن تكون زوجةً له، وما المُوجِبُ لمراعاة حق الثاني دون الأول؟ فالصواب ما قضى به أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- (¬5)؛ ولهذا تعجَّب أحمد ممن خالفه، فإذا ظهر صحة ما قاله الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وصوابه في مثل هذه المشكلات التي خالفهم فيها مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي فلأن يكون الصواب [معهم] (¬6) فيما وافقهم هؤلاء بطريق الأولى. [ابن تيمية يقول: الصحابة أفقه الأمة وأعلمها ودليل قوله] قال شيخنا (¬7): وقد تأمَّلتُ من هذا الباب ما شاء اللَّه فرأيت الصحابة أفقه الأمة وأعلمها، واعْتبر هذا بمسائلِ الأيمان والنذور والعتق وغير ذلك، ومسائل تعليق الطلاق بالشروط؛ فالمنقول فيها عن الصحابة هو أصحُّ الأقوال، وعليه يدل ¬
فصل [مسألة الزبية]
الكتاب والسنة والقياس الجلي، وكل قول سوى ذلك فمخالف للنصوص مناقض للقياس، وكذلك في مسائل غير هذه مثل مسألة ابن المُلَاعِنَة ومسألة ميراث المرتد، وما شاء اللَّه من المسائل، لم أجد أجْود الأقوال إلا أقوال الصحابة، وإلى ساعتي هذه ما علمت قولًا قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا كان القياس معه، لكن العلم بصحيحِ القياسِ وفاسدِه من أجَلِّ العلوم، وإنما يَعرف ذلك من كان خبيرًا بأسرار الشرع ومقاصده، وما اشتملت عليه شريعة الإِسلام من المحاسن التي تفوق التعداد، وما تضمنته من مصالح العباد في المعاش والمعاد، وما فيها من الحكمة البالغة والنعمة السابغة والعدل التام، واللَّه أعلم، انتهى. فصل [مسألة الزُّبية] ومما أشكل على كثير من الفقهاء من قضايا الصحابة وجعلوه من أبعد الأشياء عن القياس مسألة التزاحم، وسقوط المتزاحمين في البئر، وتسمى مسألة الزُّبْيَة (¬1). وأصلُها أن قومًا من أهل اليمن حفروا زُبْية للأسد؛ فاجتمع الناس على رأسها، فهوى فيها واحد، فجذب ثانيًا، فجذب الثاني ثالثًا، فجذب الثالث رابعًا، فقتلهم الأسد، فرُفِع ذلك إلى أمير المؤمنين [علي] (2) كرَّم اللَّه وجهه [في الجنة] (¬2) وهو على اليمن، فقضى للأول بربع الدية، وللثاني بثلثها, وللثالث بنصفها, وللرابع بكاملها (¬3)، وقال: أجْعَلُ الدية على من حضر رأس البئر؛ فرفع ذلك إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "هُوَ كما قال". رواه سعيد بن منصور في "سننه": ثنا أبو عَوانة وأبو الأحْوَص، عن سِماك بن حرب، عن حَنَش الصَّنعانيِّ، [عن علي] (¬4). ¬
[حكم علي في القارصة [والقامصة] والواقصة]
فقال أبو الخطاب وغيره: ذهب أحمدُ إلى هذا توقيفًا على خِلاف القياس. والصواب أنه مقتضى القياس والعَدْل، وهذا يتبين بأصل، وهو أن الجناية إذا حصلت من فعلٍ مضمونٍ ومُهْدر سقط ما يقابل المهدر واعتُبر ما يُقابل المضمون، كما لو قتل عبدًا مشتركًا بينه وبين غيره، أو أتلف مالًا مشتركًا أو حيوانًا سقط ما يُقابل حَقَّه ووجب عليه ما يقابل حقَّ شريكه، وكذلك لو اشترك اثنان في إتلاف مالِ أحدِهما أو قَتْلِ عبده أو حيوانه سقط عن المشارك (¬1) ما يقابل فعله، ووجب على الآخر من الضمان بقِسْطه (¬2)، وكذلك لو اشترك هو وأجنبي في قتل نفسه كان على الأجنبي نصفُ الضمان، وكذلك لو رمى ثلاثةً بالمنجنيق فأصاب الحجَرُ أحدَهم فقتله فالصحيح أن ما قابل فعل المقتول ساقط ويجب ثُلثا ديته على عاقلة الآخرين، هذا مذهب الشافعي واختيار صاحب "المغني" (¬3) والقاضي أبي (¬4) يعلى في "المجرَّد". [حكم علي في القارصة [والقامصة] والواقصة] وهو الذي قضى به علي (¬5) في مسألة القارِصة [والقامصة] والواقِصة (¬6)، قال الشعبي: وذلك أن ثلاث جوار اجتمعن فركبت إحداهُنَّ على عُنُق الأخرى فقرَصَت الثالثةُ المركوبةَ فقمصت فسقطت الرَّاكبة فوقصت [أي كسرت] (¬7) عنقها ¬
فماتت، فرُفع ذلك إلى عليّ (¬1) فقضى بالدية أثلاثًا على عواقلهنَّ، وألقى (¬2) الثلث الذي قابل فعل الواقصة؛ لأنها أعانت على قتل نفسها (¬3). وإذا ثبت هذا فلو ماتوا بسقوط بعضهم فوق بعض كان الأول قد هلك بسبب مركَّب من أربعة أشياء: سقوطه، وسقوط الثاني، والثالث، والرابع. وسقوط الثلاثة فوقه من فعله وجنايته على نفسه، فسقط ما يقابله وهو ثلاثة أرباع الدية، وبقي الربع الآخر لم يتولَّد من فعله، وإنما تولد من التزاحم فلم يُهدر؛ وأما الثاني فلأن هلَاكه كان من ثلاثة أشياء: جَذْب من قبله له، وجَذْبه هو لثالث ورابع (¬4)؛ فسقط ما يقابل جذبه وهو ثلثا الدية، واعتُبر ما لا صُنع له فيه، وهو الثُلُث الباقي؛ وأما الثالث فحصل تلفه بشيئين: جذب من قبله له، وجذبه هو للرابع، فسقط فعله دون السبب الآخر؛ فكان لورثته النصف، وأما الرابع فليس منه فعل البتة، وإنما هو مجذوب محْض، فكان لورثته كمال الدية، وقضى بها على عواقل الذين حضروا البئر لتدافعهم وتزاحمهم. فإن قيل: على هذا سؤالان: أحدهما: أنكم لم توجبوا على عاقلة الجاذب شيئًا مع أنه مباشر، وأوجبتم على عاقلة مَنْ حضر البئر ولم يُباشر؛ وهذا خلاف القياس. الثاني: [هب أن هذا] (¬5) يتأتَّى لكم فيما إذا ماتوا بسقوط بعضهم على بعض، فكيف يتأتى لكم في مسألة الزُّبية، وإنما ماتوا بقتل الأسد؟ فهو كما لو تجاذبوا فغرقوا في البئر. قيل: هذان سؤالان قويان، وجواب الأول أن الجاذب لم يُباشر الإهلاك وإنما تَسبَّب إليه، والحاضرون تسببوا بالتزاحم، وكان تسبُّبهم أقوى من تسبب الجاذب (¬6)؛ لأنه أُلجيء إلى الجذب؟ فهو كما لو ألقى إنسانٌ إنسانًا على آخر ¬
فنفضه عنه لئلا يقتلَه فمات، فالقاتل هو المُلقي. وأما السؤال الثاني فجوابه أن المباشر للتَّلف كالأسد والماء والنار، لما لم يمكن الإحالة عليه أُلغي فعله، وصار الحكم للسبب؛ ففي مسألة الزّبية ليس للرابع فعل البتة، وإنما هو مفعولٌ به محض، فله كمال الدية، والثالث فاعل ومفعول به فأُلغي ما يقابل فعله واعتُبر فعل الغير به، فكان قسطه نصف الدية، والثاني كذلك لأنه (¬1) جاذبٌ لواحد والمجذوبُ جاذبٌ لاخر (¬2)؛ فكان الذي حصل عليه من تأثير الغير فيه ثلث السبب وهو جذب الأول له فله ثُلثُ الدية، وأما الأولُ فثلاثة أرباعِ السبب من فعله، وهو سقوط الثلاثة الذين سقطوا بجذبه مباشرةً وتسببًا، وربعه من وقوعه بتزاحم الحاضرين، فكان حظُّهُ ربع الدية، وهذا أولى من تحميل عاقلة القتيل ما يقابل فعله، ويكون لورثته، وهذا هو خلاف القياس؛ لأن الدية شرعت مُواساة وجبْرًا، فإذا كان الرجل هو القاتل لنفسه أو مشاركًا في قتله لم يكن فعله بنفسه مضمونًا كما لو قَطَعَ طَرفَ نفسه أو أتلف مال نفسه؛ فقضاء عليٍّ (¬3) أقرب إلى القياس من هذا بكثير، وهو أولى أيضًا من أن يُحمل فعل المقتول على عَواقل الآخرين كما قاله أبو الخَطَّاب في مسألة المنجنيق أنه يُلْغي فعل المقتول في نفسه وتجب ديته بكاملها على عاقلة الآخرين نصفين، وهذا أبعد عن القياس مما قبله، إذ كيف تتحمل (¬4) العاقلة والأجانب جناية الإنسان على نفسه، ولو تحملتها العاقلةُ لكانت عاقلتهُ أولى بتحمُّلها، وكلا القولين يخالف القياس؛ فالصواب ما قضى به أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه -. وهو أيضًا أحسنُ (¬5) من تحميلِ ديةِ الرابع لعاقلة الثالث، وتحميلِ دية الثالث لعاقلة الثاني، وتحميلِ دية الثاني لعاقلة الأول، وإهدار دية الأول بالكلية؛ فإن هذا القول وإن كان له حظٌّ من القياس فإن الأول لم يَجْنِ عليه أحد، وهو الجاني على الثاني فديَّته على عاقلته، والثاني على الثالث، والثالث على الرابع، والرابع لم يَجْنِ على أحدٍ فلا شيءَ عليه؛ فهذا قد يُوهم (¬6) أنه في ظاهر القياس أصح من قضاء أمير المؤمنين ولهذا (¬7) ذهب إليه كثير من الفقهاء من أصحاب أحمد ¬
فصل [الحكم في بصير يقول أعمى فيخران معا وفق القياس]
وغيرهم، إلا أن ما قضى به عليٌّ أفقه؛ فإن الحاضرين ألجأوا الواقفين بمزاحمتِهم لهم فعواقلُهم أولى يحمل الدية من عواقل الهالكين، وأقرب إلى العدل من أن يُجمع عليهم بين هلاكِ أوليائهم وحمل ديَّاتهم، فتتضاعف عليهم المصيبة، ويُكسروا من حيث ينبغي جَبْرهم، ومحاسن الشريعة تأبى ذلك، وقد جعل اللَّه سبحانه لكل مصاب حظًا من الجبر، وهذا أصلُ شرع حملِ العاقلة الدية جبرًا للمصاب وإعانةً له. وأيضًا فالثاني والثالث كلاهما مجنيٌّ عليهما فهما جانيان على أنفسهما وعلى من جَذَباه، فحصل هلاكهم [كلهم] (¬1) بفعل بعضهم ببعض، فألغَى ما قابل فعل كل واحد بنفسه، واعْتَبر جنايةَ الغير عليه. وهو أيضًا أحسنُ من تحميلِ ديةِ الرابع لعواقل الثلاثة، وديةِ الثالث لعاقلة الثاني والأول، وديةِ الثاني لعاقلة الأول خاصة، وإنما (¬2) كان له أيضًا حظٌّ من قياس [تنزيلًا للسَّبب منزلة المُسيِّب، وقد اشترك في هَلاك الرابع] (¬3) الثلاثةُ الذين قبله، وفي هلاك الثالث الاثنان، وانفرد بهلاك الثاني الأول، ولكن قول عليّ [عليه السلام] (¬4) أدق وأفقه. فصل [الحكم في بصير يقول أعمى فيخرّان معًا وفق القياس] ومما يُظنَّ أنه يخالف (¬5) القياس ما رواه عليّ بن رباح اللَّخْميّ أنّ رجلًا كان يقول أعمى، فوَقَعا في بئرٍ، فخرَّ البَصيرُ، ووقع الأعمى فوقه فقتله، فقضى عمرُ بْنُ الخطاب -صلى اللَّه عليه وسلم- بعقْل (¬6) البصير على الأعمى، فكان الأعمى يدور في الموسم وينشد: يا أيها الناسُ لَقِيت مُنْكرا ... هل يَعْقِلُ الأعمى الصَّحِيحَ المُبْصِرا؟ خرّا معًا كلاهما تكسَّرا (¬7) ¬
وقد اختلف الناس في هذه المسألة؛ فذهب إلى قضاء عمر هذا عبدُ اللَّه بْنُ الزبير وشُرَيحٌ وإبراهيم النَّخعيُّ والشَّافعيُّ وأحمد وإسحاق (¬1)، وقال بعض الفقهاء: القياس أنه ليس على الأعمى ضمانُ البصير؛ لأنه الذي قَادَه إلى المكان الذي وقعا فيه وكان سببَ وقوعه عليه، وكذلك (¬2) لو فعله قصدًا منه لم يضمنه بغير خلاف وكان عليه ضمانُ الأعمى، ولو لم يكن سببًا لم يلزمه ضمانُه بقصده، قال أبو محمد المقدسي في "المغني" (¬3): لو قيل هذا لكان له وجه، إلا أن يكون مُجْمعًا عليه فلا يجوز مخالفة الإجماع. والقياس حكم عمر -رضي اللَّه عنه-، لوجوه: أحدها: أن قوْده له مأذونٌ فيه من جهة الأعمى، وما تولَّد من مأْذونٍ فيه لم يُضمن كنظائره. الثاني: (¬4) قد يكون قوْدُه له مستحبًا أو واجبًا، ومن فعل ما وجب عليه أو نُدِب إليه لم يلزمه ضمان ما تولَّد منه. الثالث: أنه قد اجتمع على ذلك الإذْنان: إذن الشارع وإذن الأعمى، فهو مُحْسن بامتثاله أمر الشارع محسن إلى الأعمى بقوْدِه له، و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وأما الأعمى فإنه سقط على البصير فقتله، فوجب عليه ضمانُه، كما لو سقط إنسان من سطح [على آخر] (¬5) فقتله، فهذا هو القياس. وقولهم: "هو الذي قاده إلى المكان الذي وقعا فيه" فهذا لا يوجب الضمان (¬6)؛ لأن قوْده ماذون فيه من جهته ومن جهة الشارع، وقولهم: "وكذلك (2) لو فعله قصدًا لم يضمنه" فصحيحٌ لأنه مسيءٌ وغيرُ مأذونٍ له في ذلك، لا من جهة الأعمى ولا من جهة الشارع، فالقياس المحْض قول عمر، وباللَّه التوفيق. ¬
فصل [حكم علي في جماعة وقعوا على امرأة وفق القياس]
فصل [حكم عليٍّ في جماعة وقعوا على امرأة وفق القياس] ومما أشكل على جمهور الفقهاء وظنّوه في غاية البعد عن القياس الحكم الذي حكم به عليُّ بنُ أبي طالب [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬1) في الجماعة الذين وقعوا على امرأة في طُهْرٍ واحد، ثم تنازعوا الولد، فأقرع بينهم فيه. ونحن نذكر هذه الحكومة ونبيّن مطابقتها للقياس؛ فذكر أبو داود والنَّسائيُّ من حديث عبد اللَّه بن الخَليل (¬2) عن زيد بن أرقم قال: كنت جالسًا عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء رجلٌ من أهل اليمن، فقال: إنّ ثلاثة من أهل اليمن أتوْا عليًا يختصمون إليه في ولد قد وَقعوا على امرأة في طُهر واحد، فقال لاثنين: طِيبا بالولد لهذا، ([فقالا: لا] (¬3)، ثم قال لاثنين: طِيبا بالولد لهذا (¬4)، [فقالا: لا] (3)، ثم قال لاثنين: طيبا بالولد لهذا، [فقالا: لا]) (3)، فقال: أنتم شُركاء مُتشاكسون، إني مُقرعٌ بينكم، فمن قُرِع فله الولدُ وعليه لصاحبيه ثُلثا الدية، فأقرع بينهم، فجعله لمن قُرع له، فضحِك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بدَت أَضراسُه أو نواجِذُه (¬5). وفي إسناده ¬
يحيى بن عبد اللَّه [الكنديَّ] الأَجْلح (¬1)، ولا يحتج بحديثه. لكن رواه أبو داود والنسائي بإسناد كلهم ثقات إلى عبد خير عن زيد بن أرقم، قال: أُتي علي بثلاثة وهو باليمن وَقعوا على امرأةٍ في طهرٍ واحد، فقال لاثنين: أتُقرَّانِ لهذا؟ قالا: لا، حتى سألهم جميعًا، فجعل كلما سأل اثنين قالا: لا، فأقرَعَ بينهم، فألحق ¬
[حكم الفقهاء في الحديث]
الولد بالذي صارت له القرعة، وجعل [لصاحبيه] (¬1) عليه ثُلثي الدِّية (¬2)، فذُكر ذلك للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فضحك حتى بدت نواجذُه (¬3). وقد أُعلَّ هذا الحديث بأنه روي عن عبد خير بإسقاط زيد بن أرقم فيكون مرسلًا، قال النسائي: وهذا أصوب (¬4)، قلت: وهذا ليس بعلة، ولا يوجب إرسالًا في الحديث؛ فإن عبد خير سمع من عليٍّ وهو صاحب القصة، فهب أن زيد بن أرقم لا ذِكْر له في المتن، فمن أين يجيءُ الإرسال؟ [حكم الفقهاء في الحديث] وبعد، فقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث، فذهب إلى القول به (¬5) إسحاق بن راهويه، وقال: هو السنة في دعوى الولد. وكان الشافعي يقول به في القديم، وأما الإِمام أحمد فسُئل عنه فرجّح عليه حديث القَافَة (¬6) وقال: حديث القافة أحبُّ إليَّ (¬7). ¬
وههنا أمران: أولهما دخول الولد (¬1) في النسب. والثاني: تغريم من خَرَجت له القرعة ثُلثُي دية ولده لصاحبيه، وكُلٌّ منهما بعيدٌ عن القياس؛ فلذلك قالوا: هذا [من] (¬2) أبعد شيء عن القياس. فيُقال: القرعة قد تستعمل عند فقدان مُرَجِّح سواها من بيّنة أو إقرار أو قافة (¬3)، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة في هذا (¬4) الحال؛ إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى (¬5)، ولهذا دخول في دعوى الأَمْلاك المرسلة التي لا تثبُتُ بمّرينة ولا أمارة (¬6)، فدخولها في النَّسب الذي يثبُتُ بمجرد ¬
الشَّبه الخفي المستند إلى قولِ القائفِ أوْلى وأحْرى. وأما أمر الدية فمشكلٌ جدًا؛ فإن هذا ليس بقتل يُوجب الدية، وإنما هو تفويتُ نسبه بخروج القُرعة له؛ فيمكن أن يُقال: وطءُ كل واحد صالحٌ لجعْل الولد له، فقد فوّته كل واحد [منهم] (¬1) على صاحبه بوطئه، ولكن لم يتحقق مَنْ كان له الولد منهم، فلما أخرجته القرعةُ لأحدهم صار مُفوِّتًا لنسبه على صاحبيه، فأجرى ذلك مجرى إتلاف الولد، ونزل الثلاثةُ منزلة أبٍ واحد، فحَصّةُ المُتْلف منه (¬2)، ثلثُ الدية؛ إذ قد عاد الولد له؛ فيغرَّم لكل [وَاحد] (¬3) من صاحبيه ما يخصُّه، وهو ثلثُ الدية (¬4). ووجه آخر أحسن من هذا: [وهو] (¬5) أنه لما أتلفه عليهما بوطئه ولحوق الولد به وَجَب عليه ضمانُ قيمته، وقيمة الولد شرعًا [هي] (1) ديتُه، فلزمه (¬6) لهما ثُلُثا قيمته وهي ثلثا الدية، وصار هذا كمن أتلف عبدًا بينه وبين شريكين له فإنه يجب عليه ثُلُثا القيمة لشريكيه؛ فإتلاف الولدِ [الحُرِّ] (1) عليهما بحكم القرعة كإتلاف الرقيق الذي بينهم، ونظير هذا تضمين الصحابة (¬7) المغرور بحرية الأمة لما فات رِقُّهم على السيد (¬8) بحريَّتهم، وكانوا بصدد أن يكونوا أرقاء له، وهذا من ألْطف ما يكون من القياس وأدقِّه، ولا يهتدي إليه إلا أفهام الراسخين في العلم؛ وقد ظن طائفةٌ -أيضًا- أن هذا على (¬9) خلاف القياس، وليس كما ظَنُّوا، بل هو محضُ الفقه، فإن الولد تابع للأم في الحرية والرق، ولهذا ولد الحر من أمةِ الغيرِ رقيقٌ، وولدُ العبد من الحرة حُرٌّ. قال الإِمام أحمد: إذا تزوج الحُرُّ بالأمة رقَّ نصفُه، وإذا تزوج العبد بالحرة عَتقَ نصفه؛ فولدُ الأمة المزوجة بهذا المغرور كانوا بصدد أن يكونوا أرقاء لسيدها, ولكنْ لما دخل الزوجُ على حرية المرأة دخل على أن يكونَ أولاده أحرارًا، والولدُ يتبع اعتقاد الواطئ فانعقد أولاده (¬10) أحرارًا، وقد فَوَّتهم على السيد، وليس مراعاة أحدهما بأولى من مراعاة الآخر، ولا تفويت حق أحدهما بأولى من حق صاحبه؛ فَحفِظَ الصحابةُ الحَقَّين وراعوا الجانبين، فحكموا بحرية ¬
الأولاد وإن كانت أمّهم رقيقة؛ لأن الزوج إنما دخل على حرية أولاده، ولو توهَّم رقهم لم يدخل على ذلك، ولم يضيّعوا حق السيد بل حكموا على الواطيء بفداء أولاده، وأعطوا العَدْل حقه؛ فأوجبوا فدائهم بمثلهم تقريبًا لا بالقيمة، ثم وفوا العدل بأن مَكَّنوا المغرورَ من الرجوع بما غرمه على من غَرَّه؛ لأن غُرْمه كان بسبب غروره (¬1)، والقياس والعدل يقتضي أن من تسبب إلى إتلاف مال شخص أو تغريمه أنه يضمن ما غرمه، كما يضمن ما أتلفه؛ إذ غايته أنه إتلافٌ بسبب، وإتلاف المُسَبِّب (¬2) كإتلاف المباشر في أصل الضمان. فإن قيل: وبعد ذلك كله فهذا خلاف القياس أيضًا؛ فإن الولد كما هو بعضُ الأم وجزء منها فهو بعض الأب، وبعضيَّتُه للأب أعظم من بعضيته للأم، ولهذا إنما يذكرُ اللَّه سبحانه في كتابه تخليقَه من ماءِ الرجل كقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 5 - 7] , وقوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37]، ونظائرها من الآيات التي إن لم تختص بماء الرجل فهي فيه أظهر، وإذا كان جزءًا من الواطئ وجزءًا من الأم فكيف كان مُلكًا لسيِّد الأم دون سيد الأب؟ ويخالف القياس من وجه آخر، وهو أن الماءَ بمنزلة البَذْر، ولو أن رجلًا أخذ بَذْر غيره فزرعه في أرضه كان الزَّرع لصاحب البذر وإن كان عليه أجرةُ الأرض. قيل: لا ريبَ أن الولد منعقدٌ من ماءِ الأب كما هو منعقد من ماء الأم، ولكن إنما تكوّن (¬3) وصار مالًا متقوَّمًا في بَطْن الأم؛ فالأجزاءُ التي صار بها كذلك من الأم أضعافُ أضعاف الجزء الذي من الأب، مع مساواتها له في ذلك الجزء؛ فهو إنما تكوَّن في أحشائها من لحمها ودمها, ولمَّا وَضَعَه الأب لم يكن له قيمة أصلًا، بل كان كما سَمَّاه اللَّه ماءً مهينًا لا قيمة له، ولهذا لو نزا فحلُ رجل على رمكة (¬4) آخر كان الولدُ لمالك الأم باتفاق المسلمين، وهذا بخلاف البذر فإنه مالٌ متقوَّم له قيمة قبل وضعه في الأرض يعاوض عليه بالأثمان، وعسب الفحل لا يعاوض عليه، فقياس أحدهما [على الآخر] (¬5) من أبطل القياس. ¬
[لماذا جعل النسب للأب]
[لماذا جعل النسب للأب] فإن قيل: فهلا طردتم ذلك في النسب، وجعلتموه للأم كما جعلتموه للأب؟ قيل؛ قد اتفق المسلمون على أن النَّسبَ للأب، كما اتفقوا على أنه يتبع الأم في الحُريَّة والرق (¬1)، وهذا هو الذي يقتضي حكم اللَّه (¬2) شرعًا وقدرًا؛ فإنَّ الأبَ هو المولودُ له، والأم وِعاءٌ يكون فيها (¬3)، واللَّه سبحانه جعل الولدَ خليفة أبيه وشَجْنَته (¬4) والقائم مقامه، ووضع الأنساب بين عباده؛ فيُقال: فلانٌ ابن فلان، ولا تتمُّ مصالحُهم وتعارفُهم ومعاملاتُهم إلا بذلك، كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] فلولا (¬5) ثبوتُ الأنساب من قبل الآباء لما حَصلَ التعارفُ، ولفسد نظام العباد؛ فإن النساءَ محتجباتٌ مستورات عن العيون؛ ولا يمكن في الغالب أن تعرف عين الأم فيشهد على نسب الولد منها، فلو جُعلت (¬6) الأنسابُ للأمَّهات لضاعت وفسدت، وكان ذلك مناقضًا للحكمة والرحمة والمصلحة، ولهذا إنما يُدْعى الناس يوم القيامة بآبائهم لا بأمهاتهم. قال البخاريُّ في "صحيحه": (بابُ يُدْعَى الناس بآبائهم يوم القيامة)، ثم ذكر حديث: "لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة عند اسْتِهِ بِقَدْرِ غَدْرته، يُقال: هذه غَدْرةُ فلانِ ابنِ فُلان" (¬7). ¬
[من أحكام الولاء]
فكان من تمام الحكمة أن جعل الحرية والرق تبعًا للأم، والنسب تبعًا للأب، والقياس الفاسدُ [إنما] (¬1) يَجمعُ ما فرَّق اللَّه بينه أو يُفرِّق (¬2) بين ما جمع اللَّه بينه. [من أحكام الولاء] فإن قيل: فهلَّا طردتم ذلك في الولاء، بل جعلتموه لموالي الأم (¬3)؟ والولاء لحمُهُ كلُحْمة النَّسب. قيل: لمَّا كان الولاء من آثار الرق وموجباته كان تابعًا له في حكمه، فكان لموالي الأم، ولما كان في شائبةِ النسب وهو لُحْمةٌ كلحمته رجع إلى موالي الأب عند انقطاعه عن موالي الأم، فروعيَ فيه الأمران، ورُتب عليه الأثران. فإن قيل: فهلَّا جعلتم الولد في الدِّين تابعًا لمن له النسب، بل ألحقتموه بأَبيه تارة وبأمه تارة؟. قيل: الطفل لا يستقل بنفسه، بل لا يكون إلا تابعًا لغيره؛ فجعله الشارع تابعًا (¬4) لخير أبويه في الدين تغليبًا لخير الدِّينين، فإنه إذا لم يكن له بد من التبعية لم يجز أن يَتبعَ من هو على دين الشيطان، وتنقطع تبعيته عمن هو على دين الرحمن؛ فهذا مح الذي حكمة اللَّه تعالى (¬5) وشرعه. فإن قيل: فاجعلوه تابعًا لسابيه في الإِسلام وإن كان معه أبواه أو أحدهما، فإن تبعيته لأبويه (¬6) قد انقطعت وصار السابي هو أحقُّ به. قيل: نعم، وهكذا نقول سواء، وهو قول إمام أهل الشام عبدُ الرحمن بن عمرو الأوزاعي (¬7)، ونص عليه أحمد (¬8)، واختاره شيخ الإِسلام ابن تيمية (¬9). [المسبي تابع في الإِسلام لسابيه] وقد أجمع الناس على أنه يُحكم بإسلامه تبعًا لسابيه إذا سُبي وحده، قالوا: ¬
لأن تبعيَّته قد إنقطعت عن أبويه صار تابعًا لسابيه، واختلفوا فيما إذا سُبي مع أحدهما على ثلاثة مذاهب: أحدهما: يُحكم بإسلامه، نَصَّ عليه أحمد (¬1) في إحدى الروايتين، وهي المشهورة من مذهبه، وهو قول الأوزاعي (¬2). والثاني: لا يُحكم بإسلامه؛ لأنه لم ينفرد عن أبويه. الثالث: أنه إنْ سُبي مع الأب تبعه في دينه، وإن سُبيَ مع الأم وحدها فهو مسلم، وهو قول مالك. وقول الأوزاعي وفقهاء [أهل] (¬3) الثغر أصحُّ وأسلم من التناقض؛ فإن السابي قد صار أحق به، وقد انقطعت تبعيته لأبويه، ولم يبق لهما عليه حكم (¬4)، فلا فَرْق بين كونهما في دار الحرب [وبين كونهما] (¬5) أسيرين في أيدي المسلمين، بل انقطاعُ تبعيته لهما في حال أسرهما [وقَهْرهما] (¬6) وإذلالهما واستحقاق قتلهما أولى من [انقطاعها حال قوةِ شوكتهما وخوف معرَّتِهما، فما الذي يُسوغ له الكفر باللَّه والشرك به وأبواه أسيران] (¬7) في أيدي المسلمين ومنعه من ذلك وأبواه في دارِ الحرب؟ وهل هذا إلا تناقضٌ محضٌ؟ وأيضًا فيُقال لهم: إذا سُبيَ الأبوان ثم قُتلا فهل يستمرُ الطفل على كفره عندكم أو تحكمون بإسلامه؟ فمن قولكم أنه يستمر على كفره كما لو ماتا، فيقال: وأي كتاب أو سنةٍ أو قياسٍ صحيح أو معنى معتبر أو فرق مؤثر بين أن يُقتلا في حال الحرب أو بعد الأسر والسبي؟ وهل يكونُ المعنى الذي حُكم بإسلامه لأجله إذا سُبي وحده زائلًا (¬8) بسبائهما ثم قَتْلِهما بعد ذلك؟ وهل هذا إلا تفريق بين المتماثلين؟ وأيضًا فهل تعتبرون وجود الطفل والأبوين في ملك سَابٍ واحدٍ أو يكون معهما في جُملة العسكر؟ فإن اعتبرتم الأول طُولبتم بالدليل على ذلك، وإن اعتبرتم الثاني فمن المعلوم انقطاع تبعيته ¬
لهما واستيلائهما عليه، واختصاصه بسابيه، ووجودهما بحيث لا يُمكَّنان منه ومن تربيته وحضانته، واختصاصهما به لا أَثَرَ له، وهو كوجُودِهما في دار الحرب سواء، وأيضًا فإن الطفل لما لم يستقلّ بنفسه لم يكن (¬1) بُدٌّ من جعله تابعًا لغيره، وقد دار الأمر بين أن يُجعل تابعًا لمالكه وسَابيه ومَنْ هو أحقُّ الناس به وبين أَن يُجعل تابعًا لأبويه ولا حَقَّ لهما فيه بوجه، ولا ريبَ أن الأولَ أولى. وأيضًا فإن ولاية الأبوين قد زالت بالكليّة، وقد انقطع الميراث وولاية النكاح وسائر الولايات، فما بالُ ولاية الدِّين الباطل باقية وحدها؟ وقد نص الإِمام أحمد على منع أهل الذمة أن يشتروا رقيقًا من سَبي المسلمين، وكتب بذلك عمر بن الخطاب إلى الأمصار (¬2)، واشْتَهر ولم ينكره مُنْكر فهو إجماع من الصحابة، وإن نازع فيه بعض الأئمة، وما ذاك إلا أنَّ في تمليكه للكافر ونقله عن يدِ المسلمِ قطعٌ (¬3) لما كان بصدده من مشاهدةِ معالم الإِسلام وسماعه القرآن (¬4)، فربما دعاه ذلك إلى اختياره، فلو كان تابعًا لأبويه [على دينهما] (¬5) لم يُمنعا من شِراء، وباللَّه التوفيق. فإن قيل: فيلزمكم على هذا أنه لو مات الأبوان أن تحكموا بإسلام الطفل لانقطاع تبعيّته للأبوين ولا سيما وهو (¬6) مسلمٌ بأصل الفطرة، وقد زال مُعارِض الإِسلام، وهو تهويدُ الأبوين وتنصيرُهما. قيل: قد نص الإِمام أحمد (¬7) على ذلك في رواية جماعة من أصحابه، واحتج بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من مولودٍ إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويمَجِّسانه" (¬8) فإذا لم يكن له أبوان فهو على أصل الفطرة فيكون مسلمًا. ¬
فإن قيل: فهلا طردتم (¬1) هذا فيما لو انقطع نسبُه عن الأب مثل كونه ولدَ زنا أو منفيًّا (¬2) بلعان؟ قيل: نعم؛ لوجودِ المُقتضي لإسلامه بالفطرة، وعدم المانع وهو وجود الأبوين، ولكن الراجح في الدليل قول الجمهور، وأنه لا يُحْكم بإسلامه بذلك، وهو الرواية الثانية عنه اختارها شيخ الإِسلام (¬3)، وعلى هذا فالفرق بين هذه المسألة ومسألة المَسْبي أن المسبيَّ قوإنقطعت تبعيته [لمن هو على دينه، وصار تابعًا لسابيه المسلم بخلاف من مات أبواه أو أحدُهما فإنه تابعٌ لأقاربه أَو وصيِّ أبيه؛ فإن انقطعت تبعيَّته] (¬4) لأبويه فلم تنقطع لمن يقوم مقامَهما من أقاربه أو أوصيائه، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أخبر عن تهويدِ الأبوين وتنصيرِهما (¬5)، بناءً على الغالب (¬6)، وهذا لا مفهومَ له لوجهين: أحدهما أنه مفهومُ لقب، والثاني (¬7) أنه خرج مَخْرَج الغالب. ومما يدل على ذلك العملُ المستمرُ من عَهْد الصحابة وإلى اليوم بموت أهل الذِّمة وتركهم الأطفال، ولم يتعرض أحد من الأئمة و [لا] (¬8) ولاةَ الأمور لأطفالهم، ولم يقولوا: هؤلاء مسلمون، ومثل هذا لا يهمِلُه الصحابةُ والتابعون وأئمةُ المسلمين. فإن قيل: فهل تطردون هذا الأصل في جعله تبعًا للمالك، فتقولون: إذا اشترى المسلمُ طفلًا [كافرًا] (¬9) يكون مسلمًا تبعًا له، أو تتناقضون فتفرِّقون بينه وبين السَّابي؟ وصورة المسألة فيها (¬10) إذا زَوَّج الذمي عَبْدَه الكافر من أمته فجاءت بولد أو تزوج الحرُّ منهم أمةً فأولدها ثم باع السيد هذا الولد لمسلم؟ قيل: نعم نطرده ونحكمُ بإسلامه. قاله شيخنا قدَّس اللَّه روحه (¬11)، ولكن جادة المذهب أنه باقٍ على كفره كما لو سُبي مع أبويه وأولى. والصحيح قول ¬
فصل [ليس في الشريعة ما يخالف العقل]
شيخِنا؛ لأن تبعيَّته للأبوين قد زالت، وانقطعت الموالاةُ والميراثُ والحضانةُ بين الطفل والأبوين، وصار المالكُ أحقَّ به، وهو تابعٌ له؛ فلا يُفرد عنه بحكم، فكيف يُفرد عنه في دِينه؛ وهذا طرد الحكم (¬1) بإسلامه في مسألة السباء، وباللَّه التوفيق. فصل [ليس في الشريعة ما يخالف العقل] فهذه نبذة يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيءٌ يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يُعلم لهم فيه مخالف، وأن القياسَ الصحيحَ دائرٌ مع أوامرها ونواهيها وجودًا وعدمًا، كما أن المعقولَ الصحيح (¬2) دائرٌ مع أخبارها وجودًا وعدمًا، فلم يخبر اللَّه و [لا] (¬3) رسوله بما يناقض صريح العقل، ولم يشرع ما يناقض الميزان والعدل. [شبهات لنفاة القياس وأمثلة لها] ولنفاة الحكم والتعليل والقياس هاهنا سؤالٌ مشهور، وهو أن الشريعة قد فَرَّقت بين المتماثلين، وجمعت بين المختلفين؛ فإن الشارع فرض الغُسل من المني وأَبطل الصوم بإنزاله عمدًا وهو طاهر، دون البَوْل والمذي وهو نجس, وأَوجبَ غسل الثوب من بول الصبيَّة والنَّضْحِ من بول الصبي مع تساويهما، ونقص الشطر من صلاة المسافر الرباعية وأبقى الثلاثية والثنائية على حالهما، وأوجبَ [قضاءَ] (¬4) الصوم على الحائض دون الصلاة مع أن الصلاة أولى بالمحافظة عليها، وحرم النَّظر إلى العجوز الشَّوْهاء القبيحةِ المَنْظر إذا كانت حُرَّة وجوزه إلى الأمةِ الشَّابة البارعة الجمال، وقطع سارقَ ثلاثة دراهم دون مُختلسِ ألف دينار أو منتهبها أو غاصبها، ثم جعل ديتها خمس مئةِ دينار؛ فقطعها في ربع دينار، وجعل ديتها هذا القدر الكثير (¬5)، وأوجبَ حدَّ الفرية على مَنْ قذف غيره بالزنا دون من قذفه بالكفر وهو شرٌّ منه (¬6)، واكتفى بالقتل بشاهدين دون الزنا والقتل أكبر من الزنا، وجلد ¬
قاذفَ الحرِّ الفاسق دون العبد العفيف الصالح، وفرّق في العدة بين الموت والطلاق مع استواء حال الرحم فيهما، وجعل عدة الحرة ثلاث حيض واستبراء الأمة بحيضة والمقصود العلم ببراءة الرحم، وحرم المطلقة بثلاث على الزوج المُطلِّق ثم أباحها له إذا تزوجت بغيره وحالها في الموضعين واحدة, وأوجب غسل غير الموضع الذي خرجت منه الريح ولم يوجب غسله، ولم يعتبر توبة القاتل وندمه قبل القدرة عليه واعتبر توبة المحارب قبل القدرة عليه، وقبل شهادة العبد والمملوك عليه بأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على آحاد الناس أنه قال كذا وكذا، وأوْجب الصدقة في السوائم وأسقطها عن العوامل، وجعل الحرة القبيحة الشّوْهاء تُحصِّن الرجل والأمة البارعة الجمال لا تحصنه، ونَقضَ الوضوءَ بمس الذَّكر دون مس سائر الأعضاء ودون مس العَذْرة والدَّم (¬1)، وأوجب الحد في القطرة الواحدة من الخمر ولم يوجبه بالأرطال الكثيرة من الدم والبول، وقَصرَ عدد المنكوحات على أربع وأطلق ملكَ اليمين من غير حصرٍ، وأباح للرجل أن يتزوج أربعًا ولم يبح للمرأة إلا رجلًا واحدًا مع وجود الشهوة وقوة الداعي (¬2) من الجانبين، وجوَّز للرجل أن يستمتع من أمَتِهِ بالوطء وغيره ولم يجوّز للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره، وفرَّق بين الطلقة الثانية والثالثة في تحريمها على المُطلِّق بالثالثة دون الثانية، وفرق بين لحم الإبل ولحم الغَنَم والبقر والجواميس وغيرها فأوْجب الوضوء من لحم الإبل وحده (¬3)، وفرق بين الكلب الأسود والأبيض في قطع الصلاة بمرور الأسود وحده، وفرق بين الريح الخارجة من الدُّبر فأوجب بها الوضوء وبين الجشوة الخارجة من الحلق فلم يوجب بها الوضوء، وأوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها (¬4) عن عدة آلاف من الخيل، وأوجب في الذهب والفضة والتجارة رُبع العُشْرِ وفي الزروع والثمار العشر أو نصفه وفي المعدن الخمس، وأوجب في أول نصاب من الإبل من غير جنسها وفي أول نصاب من البقر والغنم من جنسه، وقطع يد السارق لكونها آلة المعصية فأذهب العضو الذي تعدّى به على الناس ولم يقطع اللسان الذي يقذف به ¬
المحصنات الغافلات ولا الفرْج الذي يرتكب به المُحرَّم (¬1)، وأوجب على الرقيق نصف حدِّ الحر مع أن حاجته إلى الزّجر عن المحارم كحاجة الحر، وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد أَلحق [بها] (¬2) العار، وجوَّز للمسافر المترفِّه في سفره رخصة القصر والفطر دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة في سببه (¬3)، وأوجب على كل مَنْ نَذَر للَّه طاعة الوفاء بها، وجوَّز لمن حلف على فعلها أن يتركها ويكفر يمينه، وكلاهما قد التزم فعلها للَّه (¬4)، وحرَّم الذئبَ والقردَ وما له ناب من السباع وأباح الضبع [على قول] (¬5) ولها نابٌ تكسر به، وجعل شهادة خزيمة بن ثابت وحده بشهادتين (¬6) وغيره من الصحابة أفضل منه وشهادته بشهادة [شاهد] (¬7)، ورخص لأبي بُرْدة بن ¬
نِيار في التضحية بالعناق وقال: لن تجزيء عن أحدٍ بعدك (¬1)، وفرق بين صلاة الليل والنَّهار في السر والجهر ثم شَرَعَ الجهرَ في بعض صلاة النهار كالجمعة والعيدين، وورَّث ابنَ [ابنِ] (¬2) العم وإن بعُدَت درجته دون الخالة التي هي شقيقة الأم، وحَرَّم أخذ مال الغير إلا بطيب نفسه (¬3) وسلَّطه على أخذ عقاره وأرضه بالشُّفعة ثم شرع الشفعة فيما يمكن التَّخلصّ من ضرر الشركة بقسمته دون ما لا يمكن قسمته كالجَوْهَرة والحيوان وهو أولى بالشفعة، وحَرَّم صومَ أول يوم من شوال (¬4) وفرض صومَ آخر يوم من رمضان مع تساوي اليومين، وحرم على الإنسان نكاحَ بنت أخته وأخيه وأباح له نكاح بنتَ أخي أبيه وأخت أمه (¬5)، وحَمَّل العاقلة ضمان جناية الخطأ على النفوس دون الجناية على الأموال، وحرم وطء الحائض لأذى الدم وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى، ومنع بيع مُدِّ حنطة بمدٍّ وحفنة وجَوَّز بيع مد حنطة بصاع فأكثر من الشعير؛ فحرم ربا الفَضْل في الجنس الواحد دون الجنسين، ومنع المرأة من الإحدادِ على أبيها وابنها فوق ثلاثة أيام وأوجب [عليها] (¬6) أن تُحِد على الزوج وهو أجنبي أربعة أشهر وعشرًا، ¬
[كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات؟]
وسوّى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والمالية كالوضوء والغسل والصلاة والزكاة والصوم والحج وفي العقوبات كالحدود ثم جعلها على النِّصف من الرجل في الدية والشهادة والميراث والعقيقة، وخَصَّ بعض الأزمنة على بعض وبعض الأمكنة على بعض بخصائص مع تساويها؛ فجعل ليلة القدر خيرًا من ألف شهر، وجعل شهرَ رمضان سيد المشهور، ويوم الجمعة سيد الأيام، ويوم عرفة ويوم النحر وأيام مِنًى أفضل الأيام، وجعل [مكان] (¬1) البيت أفضل بقاع الأرض (¬2). [كيف يمكن القياس مع الفرق بين المتماثلات؟] قالوا: وإذا كانت الشريعةُ قد جاءت بالتفريق بين المتماثلات والجمع بين المختلفات -كما جمعت بين الخطأ والعَمْد في ضمان الأموال، و [في] (¬3) قتلِ الصيدِ، وجَمَعت بين العاقلِ والمجنونِ والطفلِ والبالغِ في وجوب الزكاة، وجمعت بين الهرةِ والفأرةِ في طهارة كُلٍّ منهما، وجمعت بين الميتة وذبيحة المجوسي في التحريم، وبين ما مات من الصيد وذَبَحه المحرمُ في ذلك، وبين الماء والتراب في التطهير- بطل القياس، فإن مبناه (¬4) على هذين الحرفين، وهما أصل قياس الطرد وقياس العكس. [الجواب عن هذه الشبه] والجواب أن يقال: الآن حَمِي الوطيسُ، وحميت أنوف أنصار اللَّه ورسوله لنصرِ دينه (¬5) وما بعث به رسوله، وآن لحزب الحق (¬6) أن لا تأخذهم في اللَّه لومةُ لائم وأن لا يتحيزوا (¬7) إلى فئة معينة، وأن ينصروا اللَّه ورسوله بكل قولِ حَقٍّ قاله مَنْ قاله، ولا يكونوا من الذين يقبلون ما قالته طائفتهم وفريقهم كائنًا ما كان ويردون ما قاله منازعوهم وغير طائفتهم كائنًا ما كان؛ فهذه طريقة أهل العصبية وحميَّة أهل الجاهلية، ولعمرُ اللَّه!! إن صاحب هذه الطريقة لمضمونٌ له الذمُّ إنْ أخطأ، وغير ممدوح إنْ أصاب، وهذا حالٌ لا يرضى بها من نصحَ نفسه وهُدي لرشده (¬8)، واللَّه الموفق. ¬
[الجواب المجمل]
وجواب هذا السؤال من طريقين مجمل ومفصل: [الجواب المجمل] أما المجمل فهو أن ما ذكرتم من الصور وأضعافِها وأضعافِ أضعافها فهو من أبين الأدلة على عظم هذه الشريعة وجلالتها، ومجيئها على وفق العقولِ السليمةِ والفطرِ المستقيمة، حيث فَرَّقت بين أحكام هذه الصور المذكورة لافتراقها (¬1) في الصفات التي اقتضت في الأحكام، ولو ساوت بينها في الأحكام لتوجَّه السؤال، وصعُبَ الانفصال، وقال القائل: قد ساوت بين المختلفات، وقرنت الشيءَ إلى غير شَبَهه (¬2) في الحُكم، وما امتازت صورة من تلك الصور بحكمها دون الصورة الأخرى إلا لمعنًى قام بها أوجب اختصاصها بذلك الحكم، ولا اشتركت صورتان في حكم إلا لاشتراكهما في المعنى المقتضي لذلك الحكم، ولا يضر افتراقُهما في غيره، كما لا ينفع اشتراك المختلفين في معنى لا يوجب [الاشتراك في] (¬3) الحكم؛ فالاعتبارُ في الجمع والفرق إنما هو في المعاني (¬4) التي لأجلها شُرعت تلك الأحكام وجودًا وعدمًا. [جواب ابن الخطيب] وقد اختلفت أجوبة الأصوليين عن هذا السؤال بحسب أفهامهم ومعرفتهم بأسرار الشريعة؛ فأجاب ابن الخطيب (¬5) عنه بأن قال: غالبُ أحكام الشريعة مُعلَّلة برعاية المصالح المعلومة، والخصم إنما بيَّن خلافَ ذلك في صُور قليلة جدًا، وورُود الصور النَّادرة (¬6) على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن، كما أن الغيْم الرطب إذا لم يمطر نادرًا لا يقدح في نزول المطر منه (¬7). وهذا الجواب لا يُسمنُ ولا يغني من جوع، وهو جواب أبي الحسين (¬8) ¬
[جواب أبي بكر الرازي الحنفي]
البصري (¬1) بعينه. وأجاب عنه أبو الحسن الآمدي (¬2) بأن التفريق بين الصُّور المذكورة في الأحكام إما لعدم صلاحية ما وقع جامعًا، أو لمعَارضٍ له في الأصل أو في الفرع، وأما الجمع بين المختلفات فإما (¬3) لاشتراكِهما في معنى جامعٍ صالحٍ للتعليل، أو لاختصاص كل صورة بعلَّة صالحة للتعليل؛ فإنه لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتحد نوعُ الحكم أن تُعلَّل بعلل مختلفة. [جواب أبي بكر الرازي الحنفي] وأجاب عنه أبو بكر الرازي الحنفي (¬4) بأن قال: لا معنى لهذا السؤال؛ فإنا لم نقل بوجوب (¬5) القياس من حيثُ اشتبهت المسائل في صورها وأعيانها وأسمائها, ولا (¬6) أوجبنا المخالفةَ بينها من حيث اختلفت في الصُّورِ والأعيانِ والأسماء، وإنما يجب القياس بالمعاني التي جُعلت أماراتٍ للحكم وبالأسباب الموجبة له، فنعتبرُها في مواضعها، ثم لا نبالي باختلافها ولا اتفاقها من وجوهٍ أُخرَ غيرها، مثال ذلك أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[لما] (¬7) حرَّم التفاضُلَ في البُرِّ بالبر من جهة الكيل [وفي الذهب بالذهب من جهةِ الوَزْن (¬8) اسْتَدْللنا به على أن الزيادة المحظورة معتبرةٌ من جهة الكيل] (¬9) أو الوزن مع الجنس؛ فحيث وُجدا أوجبا (¬10) تحريم التفاضل. وإن اختلف المبيعان من وجوهٍ أخر، كالجص -وهو مكيل- فحكمه حكم البر من حيث [شاركه في] كونه مكيلًا وإن خالفه من وجوه أخر، [و] (7) كالرصاص -وهو موزون- فحكمه كحكم الذهب في تحريم التفاضل وإن خالفه في أوصافٍ أُخر، فمتى عُقل المعنى الذي به تعلَّق الحكم وجُعل علامة له وجب اعتباره حيث وُجد، كما رجم ماعزًا لزناه (¬11)، وحكم بإلقاء الفأرة وما ¬
[جواب القاضي أبي يعلى]
حولها لما ماتت في السَّمن (¬1)؛ فعقَلْنا عموم المعنى لكل زانٍ وعموم المعنى لكل مائع جاور النَّجاسة، إلا أن المعنى تارة يكون جليًا ظاهرًا، وتارة يكون خفيًا غامضًا، فيستدل عليه بالدلائل التي نصبها اللَّه عليه. [جواب القاضي أبي يعلى] وأجاب عنه القاضي أبو يعلى (¬2) بأن قال: "العقل إنما يمنع أن يُجمع بين الشيئين المختلفين من حيث اختلفا في الصفاتِ النفسية، كالسواد والبياض، وأن يفرِّق بين المتماثلين (¬3) فيما تماثلا فيه (¬4) من صفات النفس كالسوادين والبياضين وما يجري مجرى ذلك وأما (¬5) ما عدا ذلك فإنه لا يمتنع أن يُجمعَ بين المختلفين في الحكم الواحد، ألا ترى أن السواد والبياض قد اجتمعا في منافاة العمرة وما يجري مجراها من الألوان؛ فإن القُعودَ في الموضع الواحد قد يكون حسنًا إذا كان فيه نفعٌ لا ضررَ فيه، وقد يكون قبيحًا إذا كان فيه ضررٌ من غير نفع يُوفي (¬6) عليه وإن كان القعود [المقصود] (¬7) في ذلك الموضع متفقًا (¬8)، وقد يكون القعود في مكانين مجتمعين في الحُسْن بأن يكون في كُلٍّ منهما نفعٌ لا ضررَ فيه وإن كانا مختلفين، على أن ذلك (¬9) يؤكد صحة القياس وذلك أن المثلين في العقليات إنما وَجبَ تساوي حكمهما؛ لأنَّ كل واحد منهما قد سَاوى الآخر فيما لأجله [قد] (10) وَجبَ له الحكم إما لذاته كالسوادين أو لعلة أوجبت ذلك كالأسودين، وهكذا القول في المختلفين، وعلى هذه الطريقة بعينها يجري القياسُ؛ لأنا إنما نحكم للفرعِ بحكم الأصل إذا شاركه [في] (¬10) علة الحكم، كما أن اللَّه تعالى (¬11) إنما نص على حكم واحد في الشيئين (¬12) إذا اشتركا فيما أوْجب (¬13) الحكم فيهما، فقد بان بذلك صحة ما ذكرناه". ¬
[جواب القاضي عبد الوهاب]
[جواب القاضي عبد الوهاب] وأجاب عنه القاضي عبد الوهاب المالكي (¬1) بأن قال: دعواكم بأن هذه الصور (¬2) التي اختلفت أحكامُها متماثلة في نفسها دعوى، والأمثلة لا تشهد لها، ألا ترى أنه لا يمتنع أن يتفق الصوم والصلاة في امتناع أدائها من الحائض ويفترقان في وجوب القضاء، والتماثل في العقليات لا يُوجب التساوي في الأحكام الشرعيات. وأيضًا فهذا يُوجب منع القياس في العقليات. وأيضًا فإن القياس جائزٌ على العلة المنصوص عليها مع وجود المعنى الذي ذكره. فهذه أجوبة النُّظار، ونحن بعون اللَّه وتوفيقه نفرد كل مسألة منها بجواب مفصَّل، وهو المسلك الثاني الذي وعدنا به. [جواب مفصل] [لماذا وجب الغسل من المني دون البول؟] أما المسألة الأولى وهي إيجاب الشارع -صلى اللَّه عليه وسلم- الغسل من المني (¬3) دون البول فهذا من أعظم محاسنِ الشَّريعة وما اشتملت عليه من الرَّحمة والحكمة والمصلحة؛ فإن المنيَّ يخرجُ من جميع البدن، ولهذا سمَّاه اللَّه سبحانه وتعالى (سُلالة) , لأنه يَسيلُ من جميع البدن، وأما البول [فإنما هو] (¬4) فضْلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة؛ فتأثُّرُ البَدنِ بخروج المنيِّ أعظمُ من تأثره بخروج البول؛ وأيضًا فإن الاغتسال من خروج المني من أنفع شيء للبَدنِ والقلب والروح، بل جميع الأرواح القائمة بالبدن فإنّها تَقْوى بالاغتسال، والغسلُ يَخْلفُ عليه ما تحلَّل منه بخروج المني، وهذا أمر يعرف بالحس؛ وأيضًا فإن الجنابة ¬
فصل [الفرق بين الصبي والصبية]
توجب ثقلًا وكسلًا والغسل يحدث له نشاطًا وخفة، ولهذا قال أبو ذر لما اغتسل من الجنابة: كأنما ألقيت عني جبلًا (¬1)، وبالجملة فهذا أمرٌ يُدركه كلُّ [ذي] حس سليم وفطرة صحيحة، ويعلمُ أنَّ الاغتسال من الجنابة يجري مجرى المصالح التي تلحق بالضروريات للبدن والقلب مع ما تحدثه الجنابة من بُعْدِ القلب والروح عن الأرواح الطيبة، فإذا اغتسل زال ذلك البُعدُ، ولهذا قال غير واحد من الصحابة: إن العبد إذا نام عَرَجت روحُه، فإن كان طاهرًا أذن لها بالسجود، وإن كان جُنُبًا لم يُؤذن لها (¬2)، ولهذا أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الجنب إذا نام أن يتوضأ (¬3). وقد صرَّح أفاضلُ الأطباء بأن الاغتسال بعد الجماع يُعيدُ إلى البدن قوَّتَه، ويخلف عليه ما تحلَّل منه، وإنه من أنفع شيءٍ للبدن والروح، وتركه مضر، ويكفي شهادة العقل والفطرة بحسنه، وباللَّه التوفيق. على أن الشارع لو شرع الاغتسال من البول لكان في ذلك أعظم حَرجٍ ومشقة على الأمة تمنعه حكمةُ اللَّه ورحمتُه وإحسانُه إلى خلقه. فصل [الفرق بين الصبي والصبية] وأما غسل الثوب من بول الصبية ونضْحه من بول الصبي إذا لم يَطْعَما فهذا للفقهاء فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يُغسلان جميعًا. والثاني: يُنْضحان. ¬
فصل [الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها]
والثالث: التفرقة، وهو الذي جاءت به السُّنة (¬1)، وهذا من محاسن الشريعة وتمامِ حكمتِها ومصلحتها. والفرق بين الصبيِّ والصَّبيَّة من ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: كثرةُ حملِ الرجال والنساء للصبي (¬3) فتعم البلْوى ببوله، فيشق غسله (¬4). والثاني: أن بوله لا ينزل في مكان واحد، بل ينزل متفرقًا هاهنا وهاهنا، فيشق غسل ما أصابه كله، بخلاف بول الأنثى. الثالث: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذَّكَر، وسببُه حرارةُ الذَّكر ورطوبة الأنثى؛ فالحرارة تخفف من نتن البول وتذيبُ منها ما لا يحصل مع الرطوبة، وهذه معانٍ مؤثرة يحسن اعتبارها في الفرق. فصل [الفرق بين الصلاة الرباعية وغيرها] وأما نقْصُه الشَّطر من صلاة المسافر الرباعية دون الثلاثية والثنائية ففي غاية المناسبة؛ فإن الرباعية تحتمل الحَذْفَ لطولها، بخلاف الثنائية، فلو حذف شَطْرَها لأجْحف بها ولزالت حكمة الوتر الذي شُرع خاتمة العمل، وأما الثلاثية فلا يمكن [حذف] (¬5) شَطْرُها، وحذف ثلثيها مخلٌّ بها، وحذف ثلثها يخرجها عن حكمة شرعها وترًا، فإنها شرعت ثلاثًا لتكونَ وترَ النهار، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "المغربُ وترُ النهار؛ فأوْتِرُوا صلاة الليلِ" (¬6). ¬
فصل [لماذا وجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة؟]
فصل [لماذا وجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة؟] وأما إيجابُ قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة فمن تمامِ محاسن الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح المكلفين؛ فإن الحيضَ لما كان منافيًا للعبادة لم يُشرع فيه فعلها، وكان في صلاتها أيام الطُّهر ما يغنيها عن صلاة أيام الحيض، فتحصل لها مصلحة الصلاة في زمن الطُّهْر؛ لتكررها كل يوم، بخلاف الصوم، فإنه لا يتكرر، وهو شهرٌ واحد في العام، فلو سقط عنها فعله بالحيض (¬1) لم يكن لها سبيلٌ إلى تدارك نظيره، وفاتت عليها مصلحتُه، فوجب عليها أن تصوم شهرًا في طهرها؛ لتحصل مصلحة الصوم التي هي من تمام رحمة اللَّه بعبده وإحسانه [إليه] (¬2) بشرعه، وباللَّه التوفيق. فصل [حكم النظر إلى الحرة وإلى الأمة] وأما تحريمُ النَّظرِ إلى العجوزِ الحُرَّة الشَّوهاء القبيحة وإباحته إلى الأمة البارعة الجمال فكذب على الشارع، فأين حَرَّم اللَّه هذا وأباح هذا؟ واللَّه سبحانه إنما قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30] ولم يُطلق اللَّه و [لا] (¬3) رسوله للأعينِ النَّظرَ إلى الإماء البارعات الجمال، وإذا خشي الفتنة بالنظر إلى الأمة حَرم عليه بلا ريب، وإنما نشأت الشبهة أن الشارع شَرع للحرائر أن يسترْنَ وجوههن عن الأجانب، وأما الإماء فلم يوجب عليهن ذلك، لكن هذا في إماء الاستخدام والابتذال، وأما إماء التسرِّي اللاتي جرت العادة بصونهن وحجبهن فأين أباح اللَّه ورسوله لهن أن يكشفنَ وجوهَهنَّ في الأسواقِ والطُّرقاتِ ومجامعِ الناس وأذن للرجال في التمتع (¬4) بالنظر إليهن؟ فهذا غلط محض على الشريعة، ¬
فصل [الفرق بين السارق والمنتهب]
وأكد هذا الغلط أن بعض الفقهاء سمع قولَهم: إن الحرةَ كلها عورة إلا وجهها وكفيها، وعورة الأمة ما لا يظهر غالبًا كالبَطْن والظهر والساق؛ فظن أن ما يظهر غالبًا حكمه حكم وجه الرجل، وهذا إنما هو في الصلاة لا في النَّظر، [فإن العورةَ عورتان: عورةَ النظر، وعورةَ الصلاة؛] (¬1) فالحرة لها أن تصلي مكشوفةَ الوجه والكفين، وليس لها أن تخرج في الأسواق ومجامع الناس كذلك، واللَّه أعلم. فصل [الفرق بين السارق والمنتهب] وأما قطع يد السارق في ثلاثة دراهم، وترْك قَطْع المُختلس والمُنْتَهب والغاصب فمن تمام حكمة الشارع أيضًا؛ فإن السارق لا يمكن الاحتراز منه، فإنه يَنْقُبُ الدور ويهتك الحِرْز ويكسر القُفل، ولا يمكن صاحب المتاع الاحتراز [منه] (¬2) بأكثر من ذلك، فلو لم يُشْرَع قطعه لسرق الناس بعضُهم بعضًا، وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالسُّرَّاق، بخلاف المنتهب والمختلس؛ فإن المنتهب هو الذي يأخذ المال جهرة بمرأى من الناس، فيمكنهم أن يأخذوا على يَديه، ويخلِّصوا حَقَّ المظلوم أو يشهدوا له عند الحاكم، وأما المختلس فإنه إنما يأخذ (¬3) المال على حين غفلة من صاحبه وغِرَّة (¬4)، فلا يخلو من نوع تفريط يُمكِّن به المختلس من اختلاسه، وإلا فمع كمال التحفظ والتيقظ لا يمكنه الاختلاس، فليس كالسارق، بل هو بالخائن أشبه؛ وأيضًا فالمختلس إنما يأخذ المال من غير حِرز مثله غالبًا، فإنه الذي يغافلك ويختلس متاعك في حال تخلِّيك عنه وغفلتكَ عن حفظه، وهذا يمكن الاحتراز منه غالبًا، فهو كالمنتهب؛ وأما الغاصب فالأمر فيه ظاهر، وهو أولى بعدم القطع من المنتهب، ولكن يسوغ (¬5) كفُّ عُدْوان هؤلاء بالضَّرب والنكال والسجن الطويل والعقوبة بأخذ المال كما سيأتي. فإن قيل: فقد وردتِ السنة بقطع جاحد العارية (¬6)، وغايته أنه خائن، ¬
فصل [الفرق بين اليد في الدية وفي السرقة]
والمعير سَلَّطه على قبضِ ماله، والاحترازُ منه ممكنٌ بان لا يَدفعَ إليه المال؛ فبطل ما ذكرتم من الفرق. قيل: لَعَمْرُ اللَّه لقد صح الحديث بان امرأةً كانت تستعيرُ المتاع وتجْحده فأمر بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقُطِعت يدها (¬1)، فاختلف الفقهاء في سبب القطع: هل كان سرقتها وعرّفها الراوي بصفتها لأن (¬2) المذكورَ سببُ القطع كما يقوله الشافعي ومالك وأبو حنيفة (¬3)، أو كان السببُ المذكور هو سبب القطع كما يقوله أحمد (¬4) ومن وافقه؟ ونحن في هذا المقام لا ننتصر لمذهب معين ألبتة، فإن كان الصحيح قولَ الجمهور اندفع السؤال، وإن كان الصحيح [هو قول] (¬5) الآخر فموافقتُه للقياسِ والحكمةِ والمصلحةِ ظاهرٌ جدًا؛ فإن العارية من مصالح بني آدم التي لا بدَّ لهم منها, ولا غنى لهم عنها، وهي واجبةٌ عند حاجة المستعير وضرورته إليها إما بأُجرة أو مجانًا، ولا يمكن المعير كل وقت أن يشهد على العارية ولا يمكن الاحتراز بمنع العارية شرعًا وعادةً وعرفًا, ولا فرق في المعنى بين مَنْ توصَّل إلى أخذ متاع غيره بالسرقة وبين من توصل إليه بالعارية وجحدها، وهذا بخلاف جاحد الوديعة؛ فإن صاحب المتاع فرّط حيث ائْتمنهُ. فصل [الفرق بين اليد في الدية وفي السرقة] وأما قَطعُ اليد في ربع دينار وجعل ديتها خمس مئة دينار فمن أعظم المصالح والحكمة؛ فإنه احتياطٌ (¬6) في الموضعين للأموال والأطراف، فقَطَعها في ربع دينار حفظًا للأموال، وجعل ديتها خمس مئة دينار حفظًا لها وصيانة، وقد ¬
أورد بعض الزنادقة (¬1) هذا لسؤال وضمّنه بيتين، فقال: يدٌ بخمسِ مئين من عسْجدٍ وُدِيت (¬2) ... ما بالها قُطعت في رُبع دينار تناقضٌ مالنا إلا السكوت له ... ونسْتجير بمولانا من العارِ (¬3) فأجابه بعض الفقهاء (¬4) بأنها كانت ثمينة لما كانت أمينة، فلما خانت هانت، وضمنه الناظم قوله (¬5): يَدٌ بخمس مئين من عسجد (¬6) وُدِيت ... لكنها قطعت في ربع دينار حماية الدم أغلاها، وأرْخَصها ... صيانة (¬7) المال، فانظر (¬8) حكمة الباري [وروي أن الشافعي (¬9) رحمه اللَّه أجاب بقوله: ¬
فصل [حكمة جعل نصاب السرقة ربع دينار]
هناك مظلومةٌ غالت بقيمتها ... وههُنا ظَلَمت هانَت على الباري وأجاب شمس الدين الكردي بقوله: قل للمصرِّيِّ (¬1) عارٌ أيما عار ... جهْلُ الفتى وهو عن ثوب التُّقى عارِ لا تقدحن زناد الشِّعر عن حِكم ... شعائر الشَّرع لم تُقْدح بأشعارِ فقيمة اليد نصف الألف من ذهب ... فإن تعدّت فلا تسوى بدينارِ] (¬2) فصل (¬3) [حكمة جعل نصاب السرقة ربع دينار] وأما تخصيصُ القطع بهذا القدر فلأنه لا بد من مقدار يُجعل ضابطًا لوجوب القطع؛ إذ لا يمكن أن يقال: يُقْطع بسرقة فلْس أو حبَّة حنطةٍ أو تمرة، ولا تأتي الشريعة بهذا، وتُنزَّه حكمة اللَّه وإحسانه ورحمته عن ذلك، فلا بد من ضابط، وكانت [الثلاثة دراهم] (¬4) أول مراتب الجمع، وهي مقدار ربع دينار، وقال إبراهيم النخعي وغيره (¬5) من التابعين: "كانوا لا يقطعون في الشيء التافه" (¬6)؛ فإن ¬
عادة الناس التسامح في الشيء الحقير من أموالهم إذ (¬1) لا يلحقهم ضرر بفقده، وفي التقدير بثلاثة دراهم حكمة ظاهرة؛ فإنها كفاية المقتصد في يومه له ولمن يمونه غالبًا، وقوت اليوم للرجل وأهله له خطرٌ عند غالب الناس؛ وفي الأثر المعروف: "من أصبح آمنًا في سِرْبه، معافًى في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها" (¬2). ¬
فصل [حكمة حد القذف بالزنا دون الكفر]
فصل [حكمة حد القذف بالزنا دون الكفر] وأما إيجاب حد الفرية على من قذف غيره بالزِّنا دون الكفر ففي غاية المناسبة؛ فإن القاذف غيره (¬1) بالزنا لا سبيل (¬2) للناس إلى العلم بكذبه، فجُعل حد الفرية تكذيبًا له. وتبرئة لعرض المقذوف، وتعظيمًا لشأن هذه الفاحشة التي يُجلد من رمى بها مسلمًا. وأما من رمى غيره بالكفر فإن شاهد حال المسلم واطِّلاع المسلمين عليه كافٍ في تكذيبه، ولا يلحقه من العار في كذبه عليه (¬3) في ذلك ما يلحقه عليه في الرمي بالفاحشة، ولا سيما إن كان المقذوف امرأة؛ فإن العار والمعرَّة التي تلحقها بقذفه بين أهلها وتَشَعُّب ظنون الناس وكوْنهم بين مصدق ومكذِّب لا يلحق مثله بالرمي بالكفر. فصل [حكمة الاكتفاء في القتل بشاهدين دون الزنا] وأما اكتفاؤه في القتل بشاهدين دون الزنا ففي غاية الحكمة والمصلحة؛ فإن الشارع احْتاط للقِصاص والدماء واحْتاط لحد الزنا، فلو لم يقبل في القتل إلا أربعة لضاعت الدِّماء، وتواثب العادُون، وتجرؤوا على القَتْل؛ وأما الزنا فإنه بالغَ في سَتْرِه كما قَدَّر اللَّه ستره، فاجتمع على ستره شرع اللَّه وقدره، فلم يقبل فيه إلا ¬
فصل [الحكمة في جلد قاذف الحر دون العبد]
أربعة يَصِفون الفعل وَصْف مشاهدةٍ ينتفي معها الاحتمال، وكذلك في الإقرار، لم يكتف بأقل من أربع مرات حِرْصًا على ستْر ما قدَّر (¬1) اللَّه ستره، وكره إظهاره، والتكلم به، وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. فصل [الحكمة في جلد قاذف الحر دون العبد] وأما حدُّ (¬2) قاذفِ الحُرِّ دون العبد فتفريقٌ بشَرْعه (¬3) بين ما فرق اللَّه بينهما بقدره، فما جعل اللَّه سبحانه العبد كالحر من كل وجه لا قدرًا ولا شرعًا، وقد ضرب اللَّه سبحانه لعباده الأمثال التي أخْبر فيها بالتفاوت بين الحر والعبد، وأنهم لا يرضون أن تساويهم عبيدُهم في أرزاقهم، فاللَّه سبحانه وتعالى فضَّل بعض خلقه على بعض، وفضَّل الأحرار على العبيد في الملك وأسبابه والقدرة على التصرف، وجعل العبدَ مملوكًا والحُرَّ مالكًا، ولا يستوي المالك والمملوك، وأما التسوية بينهما في أحكام الثواب والعقاب فذلك مُوجَب العدْل والإحسان؛ فإنه يوم [الجزاء] (¬4) لا يبقى هناك عبد وحر ولا مالك ومملوك (¬5). فصل [الحكمة في التفريق بين عدة الموت والطلاق] وأما تفريقه في العدّة بين الموت والطلاق، وعِدَّة الحرة وعدة الأمة، وبين الاستبراء والعِدة، مع أن المقصود العلم ببراءة الرحم في ذلك كله، فهذا إنما يتبين وجهه إذا عُرفَتِ الحكمة التي لأجلها شُرعت العدة وعُرفَ أجناس العدد وأنواعها. [الحكم في شرع العدة] فأما المقام الأول ففي شرع العدة عِدَّةُ حِكَم (¬6): منها: العلم ببراءة الرحم، وأن لا يجتمعَ ماءُ الواطئين فأكثر في رَحمٍ ¬
[أجناس العدد]
واحد، فتختلط الأنسابُ وتفسد، وفي ذلك من الفساد ما تمنعه الشريعةُ والحكمة. ومنها: تعظيمُ خطر هذا العقد، ورفعُ قدره، وإظهارُ شرفه. ومنها: تطويل زمان الرَّجعة للمطلِّق؛ إذ لعله أن يندم ويفيء فيصادف زمنًا يتمكن فيه من الرجعة. ومنها: قضاءُ حق الزوج، وإظهارُ تأثير فقْده في المنع من التزيُّن والتجمل، ولذلك شُرع الإحداد عليه أكثر من الإحداد على الولد والوالد. ومنها: الاحتياط لحق الزوج، ومصلحة الزوجة، وحق الولد، والقيام بحق اللَّه الذي أوجبه؛ ففي العدة أربعة حقوق، وقد أقام الشارع الموتَ مقام الدخول في استيفاء المعقود عليه؛ فإن النكاح مدتُّه العمر، ولهذا أقيم مقام الدُّخول في تكميل الصداق، وفي تَحريم الربيبة عند جماعة من الصحابة ومَنْ بعدهم كما هو مذهب زيد بن ثابت (¬1) وأحمد في إحدى الروايتين عنه؛ فليس المقصود من العِدَّة مجرد براءة الرحِمِ، بل ذلك من بعض مقاصدها وحكمها. [أجناس العِدد] المقام الثاني في أجناسها: وهي أربعةٌ في كتاب اللَّه، وخامس بسنةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2): الجنس الأول: أربابُ العِدَّة (¬3)، {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. الثاني: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234]. الثالث: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. الرابع: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]. ¬
الخامس: قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا توطأ حاملٌ حتى تَضعَ، ولا حائل (¬1) حتى تُستبرئ بحيضة" (¬2) ومُقدَّمُ هذه الأجناس [كلها] (¬3) الحاكم عليها كلها وَضْعُ العمل، فإذا وُجد فالحكمُ له، ولا التفات إلى غيره، وقد كان بين السلف نزاعٌ في المُتوفَّى عنها أنها تتربص أبْعد الأجلين، ثم حصل الاتفاق على انقضائها بوضع الحمل (¬4)؛ وأما عدةُ الوفاة فتجبُ بالموت، سواء دخل بها أو لم يدخل، كما دل عليه عموم القرآن والسنة الصحيحة (¬5). . . . ¬
واتفاق الناس (¬1)؛ فإن الموتَ لما كان انتهاءَ العقد وانقضاءَه استقرَّت به الأحكام: من التوارث، واستحقاق المهر، وليس المقصود بالعدة هاهنا مجرد استبراء الرحم كما ظَنَّه بعضُ الفقهاء؛ لوجوبها قبل الدخول، ولحصول الاستبراء بحيْضَة واحدة، ولاستواء [الآيسة و] (¬2) الصغيرة والآيسة وذوات القُرُوء في مدتها، فلما كان الأمر كذلك قالت طائفة: هي تعبُّدٌ مَحْضٌ لا يُعقل معناه، وهذا باطلٌ لوجوهٍ. منها: أنه ليس في الشريعة حكم واحد إلا وله معنى وحكمة يَعْقُلُ معناه مَنْ عَقَله ويخفى على مَنْ خفي عليه (¬3). ومنها: أن العدد ليست من باب العبادات المحضة؛ فإنها تجب في حق الصغيرةِ والكبيرةِ والعاقلةِ والمجنونةِ والمسلمة والذميَّة، ولا تفتقر إلى نية (¬4). ومنها: أن رعايةَ حق الزوجين والولد والزوج الثاني ظاهر فيها؛ فالصواب (¬5) أن يُقال: هي حريم لانقضاء النكاح لما كمل، ولهذا تجد فيها رعاية ¬
فصل [حكمة عدة الطلاق]
لحق الزوج وحرمة له، ألا ترى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان من احترامِه ورعايةِ حقوقه تحريمُ نسائِه بعده، ولما كانت نساؤُه في الدنيا هن نساؤه في الآخرة قطعًا، لم يحلَّ لأحد أن يتزوجَ بهنَّ بعده، بخلاف غيره؛ فإن هذا ليس معلومًا في حقه، فلو حرمت المرأة على غيره لتضررت ضررًا (¬1) محققًا بغير نفع معلوم، ولكن لو (¬2) تأيَّمتْ على أولادها كانت محمودةً على ذلك. وقد كانوا في الجاهلية يُبالغون في احترام حق الزوج وتعظيم حريم هذا العقد غاية المبالغة من تربُّص (¬3) سنة في شَرِّ ثيابها وحِفْشِ (¬4) بيتها (¬5)، فخفَّفَ اللَّه عنهم ذلك بشريعته التي جعلها رحْمَةً وحكمة ومصلحة ونعمة، بل هي من أجَلِّ نعمه عليهم على الإطلاق، فله الحمد كما هو أهله. وكانت أربعة أشهر وعشرًا على وفق الحكمة والمصلحة؛ إذ لا بُدَّ من مدة مضروبة، وأولى المُدد بذلك المدة التي يعلم فيها بوجود [حمل] (¬6) الولد وعدمه؛ فإنه يكون أربعين يومًا نُطفة، ثم أربعين علقة، ثم أربعين مُضْغة، فهذه أربعة أشهر، ثم ينفخ فيه الروح في الطور الرابع، فقُدِّر بعشرة أيام لتظهر حياته بالحركة إن كان ثم حمْلٌ (¬7). فصل [حكمة عدة الطلاق] وأما عِدَّةُ الطَّلاقِ فلا يمكن تعليلها بذلك؛ لأنها إنما تجب بعد المسيس بالاتفاق، ولا ببراءةِ الرَّحم؛ لأنه يحصل بحيْضة كالاستبراء، وإن كان براءةُ الرحم بعض مقاصدها, ولا يقال: "هي تعبد" لما تقدم، وإنما يتبين حكمها إذا عرف ما ¬
فيها من الحقوق؛ ففيها حَقٌّ للَّه (¬1)، وهو امتثالُ أمره وطلبُ مرضاته، وحق للزوج المُطلِّق وهو اتساع زمن الرجعة له، وحق للزوجة، وهو استحقاقها النفقة (¬2) والسكنى ما دامت في العدة، وحق للولد، وهو الاحتياط في ثبوت نَسبِه وأن لا يختلط بغيره، وحق للزوج الثاني، وهو أن لا يسْقِي ماءه زرع غيره (¬3). ¬
[ما يترتب على حقوق العدة]
[ما يترتب على حقوق العدة] ورَتَّب الشارعُ على كل واحد من هذه الحقوق ما يناسبه من الأحكام؛ فرتب على رعاية حقه هو لزوم المنزل وأنها لا تَخْرُج ولا تُخْرَج، هذا موجب القرآن ومنصوص إمام أهل الحديث وإمام أهل الرأي، ورتب على حقِّ المُطلِّق تمكنه من الرجعة ما دامت في العدة، وعلى حقها استحقاق النفقة والسكنى، وعلى حقِّ الولد ثبوت نَسَبِه وإلحاقه بأبيه دون غيره، وعلى حق الزوج الثاني دخوله على بصيرةِ ورحم بريء غير مشغول بولد لغيره؛ فكان في جعلها ثلاثة قروء رعاية لهذه الحقوق، وتكميل لها، وقد دل القرآن على أن العدة حق للزوج عليها بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] فهذا دليل على أن العدة للرجل على المرأة بعد المسيس، وقال تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] فجعل الزوج أحق بردها في العدة؛ فإذا كانت العدة ثلاثة قروء أو ثلاثة أشهر طالت مدة التربُّص لينظر في أمرها هل يمسكها بمعروف أو يُسَرِّحُها بإحسان، كما جعل اللَّه سبحانه للمُولي تربُّص أربعة أشهر لينظر في أمره هل يفيءُ أو يطلق، وكما جعل مدة تسيير الكفار أربعة أشهر لينظُروا في أمرهم ويختاروا لأنفسهم (¬1). فإن قيل: هذه العلة باطلة؛ فإن المختلعة والمفسوخ نكاحها بسبب من الأسباب والمطلقة ثلاثًا والموطوءة بشبهة والمزني بها تعتدُّ بثلاثة أقراء، ولا رجْعة هناك، فقد وجب الحكم (¬2) بدون علته، وهذا يبطل كونها علة. [عدة المختلعة] قيل: شرط النقض أن يكون الحكم في صورةٍ ثابتًا بنص أو إجماع، وأما كونه قولًا لبعض العلماء فلا يكفي في النقض به، وقد اختلف الناس في عدة المختلعة، فذهب إسحاق (¬3) وأحمد (¬4) في أصح الروايتين عنه دليلًا أنها تعتد ¬
بحيضة واحدة، وهو مذهب عثمان بن عفان وعبد اللَّه بن عباس (¬1)، وقد حُكي إجماع الصحابة ولا يعلم لهما مُخالِف (¬2)، وقد دَلَّت عليه سُنَّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة دلالة صريحة (¬3)، وعُذر من خالفها أنها لم تبلغه، أو لم تصح عنده، أو ظن الإجماع على خلاف موجبها، وهذا القول هو الراجح في الأثر والنظر: أما رجحانه أثرًا فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يأمر المختلعة قط أن تعتد بثلاث حيض، بل قد رَوى أهل "السنن" عنه من حديث الرُّبيِّع بنت مُعوِّذ أن ثابت بن قيس ضرب امرأته فكسر يدها، وهي جميلة بنت عبد اللَّه بن أُبيّ بن سَلول (¬4)، فأتى أخوها يشتكي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأرسلَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ثابت، فقال: "خُذِ الذي لك عليها (¬5) وخلِّ سبيلها" قال: نعم، فأمرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تتربَّص حيضةً واحدةً وتلحق بأهلها (¬6)؛ وذكر أبو داود والنَّسائي من حديث ابن عباس أن امرأةَ ثابت بن ¬
[أقسام النساء بالنسبة للعدة]
قيس اختلعت من زوجها، فأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[أو أُمرتْ] أن تعتدَّ بحيضة (¬1)، قال الترمذي (¬2): الصحيح أنها أُمرت أن تعتد بحيضة، وهذه الأحاديث لها طرقٌ يصدق بعضها بعضًا، وأُعِلَّ الحديث بعلتين: أحداهما إرساله، والثانية أن الصحيح فيه: "أُمِرَتْ" (¬3)، بحذف الفاعل، والعلتان غير مؤثرتين؛ فإنه قد روي من وجوه متصلة، ولا تَعَارُضَ بين "أمرت" وأمَرَهَا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذ من المحال أن يكون الآمر لها بذلك غير رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته، وإذا كان الحديث قد رُوي بلفظٍ محتمل (¬4) ولفظٍ صريح يفسر المحتمل (4) ويبينه، فكيف يُجعل المحتمل (4) معارضًا للمفَسَّر بل مقدما عليه؟! ثم يكفي في ذلك فتاوى أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ قال أبو جعفر النَّحاس في كتاب "الناسخ والمنسوخ" (¬5): هو إجماعٌ من الصحابة. وأما اقتضاء النظر له فإن المختلعة لم يَبْقَ (¬6) لزوجها عليها عدة، وقد ملكت نفسَها وصارت أحق بِبُضعِها، فلها أن تتزوَّجَ بعد براءة رحمها، فصارت العدة في حقها بمجرد براءة الرحم، وقد رأينا الشريعةَ جاءت في هذا النوع بحيضة واحدة كما جاءت بذلك في المسْبِية والمملوكة بعقد معاوضة أو تبرُّع والمهاجرة من دار الحرب، ولا ريب أنها جاءت بثلاثة أقراء في الرجعية، والمختلعةُ فرعٌ متردد بين هذين الأصلين؛ فينبغي إلحاقها بأشبههما بها؛ فنظرنا فإذا هي بذواتِ (¬7) الحيضة أشبه. [أقسام النساء بالنسبة للعدة] ومما يبين حكمة الشريعة في ذلك أن الشارع قسم النساء إلى ثلاثة أقسام: أحدها: المفارقة قبل الدخول؛ فلا عدة عليها ولا رجعة لزوجها فيها. الثاني: المفارقة بعد الدخول إذا كان لزوجها عليها رجعة، فجعل عدتها ثلاثة قروء، ولم يذكر سبحانه العدة بثلاثة قروء إلا في هذا القسم، كما هو مصرح به في القرآن في قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ [وَلَا يَحِلُّ ¬
[حكمة عدة المطلقة ثلاثا]
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ] (¬1) إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228]، وكذا في سورة الطلاق لمّا ذكر الاعتداد بالأشهر الثلاثة في حق من إذا بلغت أجلها خُيِّر زوجها بين إمساك بمعروف أو مفارقتها بإحسان، وهي الرجعية قطعًا، فلم يذكر الأقراء أو بدلها (¬2) في حق بائنٍ البتَّة. القسم الثالث: من بانت عن زوجها وانقطع حقه عنها بسَبْيٍ (¬3) أو هجرة أو خُلع؛ فجعل عدتها حيضة للاستبراء، ولم يجعلها ثلاثًا؛ إذ لا رجعة للزوج، وهذا في غاية الظهور والمناسبة؛ وأما الزانية والموطوءة بشبهة فموجب الدليل أنها تستبرأ بحيضة فقط، ونص عليه أحمد في الزانية، واختاره شيخُنا في الموطوءة بشبهة (¬4) وهو الراجح، وقياسهما على المطلقة الرجعية من أبعد القياس وأفسده. فإن قيل: فهبْ أن هذا [قد] (¬5) سلم لكم فيما ذكرتم من الصور، [فإنه لا يُسلّم] (¬6) معكم في المطلقة ثلاثًا؛ فإن الإجماع منعقد على اعتدادها بثلاثة قروء مع انقطاع حق زوجها من الرجعة، والقصد مجرد استبراء رحمها. [حكمة عدة المطلقة ثلاثًا] قيل: نعم هذا سؤال وارد، وجوابه من وجهين: أحدهما: أنه قد اختلف في عدتها: هل هي بثلاثة قروء أو بقرْء واحد؟ فالجمهور -بل الذي لا يَعرفُ الناسُ سواه- أنها ثلاثة قروء، وعلى هذا فيكون وجهُه أن الطَّلقةَ الثالثة لما كانت من جنس الأُولتين (¬7) أُعطيت حكمهما؛ ليكون باب الطلاق كله بابًا واحدًا، فلا يختلف حكمه؛ والشارع إذا علَّق الحكمَ بوصفٍ لمصلحةٍ عامة لم يكن تخلف تلك المصلحة والحكمة في بعض الصور مانعًا من ترتب الحكم، بل هذه قاعدةُ الشريعة وتصرفها في مصادرها ومواردها. الوجه الثاني: أن الشارع حرّمها عليه حتى تنكحَ زوجًا غيره، عقوبةً له، ¬
[عدة المخيرة وحكمتها]
ولَعَن المحلِّل والمحلَّل له (¬1) لمناقضتهما ما قصده اللَّه سبحانه من عقوبته؛ وكان من تمام هذه العقوبة أن طوّل مدة تحريمها عليه؛ فكان ذلك أبلغ فيما قصده الشارع من العقوبة، فإنه إذا علم أنها لا تحلُّ له حتى تعتدَّ بثلاثة قروء، ثم يتزوجها آخر بنكاح رغبةٍ مقصودٍ لا تحليل [موجب للعنة] (¬2)، ويفارقها، وتعتد من فراقه ثلاثة قروء أُخر، طال عليه الانتظار، وعيل صبره، فأمسك عن الطلاق الثلاث، وهذا واقعٌ على وفق الحكمة والمصلحة والزَّجر؛ فكان التربُّص بثلاثة قروء في الرجعية نظرًا للزوج ومراعاةً لمصلحته لمَّا لم يُوقع الثالثَة المُحرَّمة لها (¬3) وهاهنا كان تربُّصُها عقوبةً له وزجرًا لما أوقعَ الطلاق المُحرِّم لما أحلَّ اللَّه له، وأكدت هذه العقوبة بتحريمها عليه إلا بعد زوج وإصابة وتربص [ثان] (¬4). وقيل: بل عدتها حيضة واحدة، وهي اختيار أبي الحُسين (¬5) بن اللَّبَّان؛ فإن كان مسبوقًا بالإجماع فالصواب اتباع الإجماع، وأن لا يلتفت إلى قوله، وإن لم يكن في المسألة إجماع فقوله قويٌّ ظاهر (¬6)، واللَّه أعلم. [عدة المخيرة وحكمتها] فإن قيل: فقد جاءت السنة بأن المُخيَّرة تعتد ثلاث حيض، كما رواه ابن ماجه من حديث عائشة قالت: أُمِرت بَرِيرةُ أنْ تعتدَّ ثلاث حيض (¬7). قيل: ما أصْرحه من حديث لو ثبت، ولكنه حديثٌ منكر بإسناد مشهور، وكيف يكون عند أم المؤمنين هذا الحديث وهي تقول: الأَقراءُ: الأطهار؟ فإن ¬
[عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها]
صح الحديث وَجبَ القولُ به، ولم تَسُغْ (¬1) مخالفته، ويكون حكمه (¬2) حكم المطلقة ثلاثًا في اعتدادها بثلاثة قروء ولا رجعةَ لزوجها عليها؛ فإن الشارع يُخصِّص بَعْض الأعيانِ [والأفعالِ] (¬3) والأزمانِ والأماكن ببعض الأحكام، وإن لم يظهر لنا موجب التخصيص، فكيف وهو ظاهر في مسألة المُخيَّرة، فإنها لو جُعلت عدتها حيضة واحدة لبادرت إلى التزوج بعدها، وأَيس منها زوجها؟ فإذا جُعلت ثلاث حيض طال زَمنُ انتظارها وحبْسِها عن الأزواج، ولعلها تتذكر زوجها فيها وترغب في رجعته، ويزول ما عندها من الوحشة، ولو قيل: "إن اعتداد المختلعة بثلاث حيضٍ لهذا المعنى بعينه"؛ لكان حسنًا على وفق حكمة الشارع، ولكن هذا مفقود في المسبيّة والمهاجرة والزانية والموطوءة بشبهة. [عدة الآيسة والصغيرة وحكمتها] فإن قيل: فهب أن هذا كله قد سلم لكم، فكيف يسلم لكم في الآيسة والصغيرة التي لا يوطأ مثلها؟ قيل هذا إنما يرد على مَنْ جعل علة العدة مجرد براءة الرحم فقط، ولهذا أجابوا عن هذا السؤال بأن العدة [ههنا] (¬4) شُرِعت تعبدًا محضًا غير معقول المعنى، وأما من جَعلَ هذا بعض مقاصد العِدَّة وأن لها مقاصد أُخر (¬5) من تكميل شأن هذا العقد واحترامه وإظهار خَطَرِه وشرفه فجعل لهم (¬6) حريم بعد انقطاعه بموت أو فُرقة، فلا فرق في ذلك بين الآيسة وغيرها, ولا بين الصغيرة والكبيرة، مع أن المعنى الذي طُوِّلت له العدة في الحائض في الرجعية والمطلقة ثلاثًا موجودٌ مصلحة الزوج في الطلاق الرجعي وعقوبته وزجره في الطلاق المحرَّم التسوية بين النساء في ذلك، هذا ظاهر جدًا، وباللَّه التوفيق. فصل [حكمة تحريم المرأة بعد الطلاق الثلاث] وأما تحريم المرأة على الزوج بعد الطلاق الثلاث وإباحتها [له] (¬7) بعد ¬
[حكمة جعل العدة ثلاثة قروء]
نكاحها للثاني فلا يَعْرف حكمَتَه إلا مَنْ له معرفة بأسرار الشريعة وما اشتملت عليه من الحكم والمصالح الكلية؛ فنقول وباللَّه التوفيق: لما كان إباحةُ فرْج المرأة للرجل بعد تحريمه عليه ومَنْعه منه من أعظم نعم اللَّه عليه وإحسانه إليه كان جديرًا بشكر هذه النعمة، ومراعاتها، والقيام بحقوقها، وعدم تعريضها للزوال، وتنوعت الشرائع في ذلك بحسب المصالح التي علمها اللَّه في كل زمان ولكل أُمَّة، فجاءت شريعةُ التوراة بإباحتها له بعد الطلاق ما لم تتزوج، فإذا تزوجت حَرُمت عليه، ولم يبق له سبيل إليها؛ وفي ذلك من الحكمة والمصلحة ما لا يخفى؛ فإن الزوج إذا علم أنه [إذا] (¬1) طلَّق المرأة وصار أمرها بيدها، وأن لها أن تَنْكحَ غيره، وأنها إذا نكحت غَيرَه حَرُمت عليه أبدًا، كان تمسُّكه بهذا أشد، وحذرُه من مفارقتها أعظم، وشريعةُ التوراة جاءت بحسب الأمة الموسويّة فيها من الشدة والإصر ما يناسب حالهم، ثم جاءت شريعةُ الإنجيلِ بالمنع من الطلاق بعد التزوج البتة، فإذا تزوج بامرأةٍ فليس له أن يُطلِّقها، ثم جاءت الشريعة الكاملة الفاضلة المحمّدية التي هي أكمل شريعة نزلت من السماء على الإطلاق وأجلُّها وأفْضلها وأعلاها وأقْومُها بمصالح العباد في المعاش والمعاد بأحسن من ذلك كله وأكمله وأوفقه للعقل والمصلحة؛ فإنَّ اللَّه سبحانه أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليها نعمَتَه، وأباح لها من الطَّيِّبات ما لم يُبحه لأمةٍ غيرها (¬2)، فأباح للرجل أن ينكح من أطايب النساء أربعًا، وأن يتسرَّى من الإماء بما شاء، وليس التسرِّي في شريعة [أخرى] (¬3) غيرها. [حكمة جعل العدة ثلاثة قروء] ثم أكمل لعبده شرْعه، وأتمَّ عليه نعمته، بأن ملَّكه أن يفارق امرأته ويأخذ غيرها؛ إذ لعل الأولى لا تصلح له ولا توافقه، فلم يجعلها غلَّا في عنقه، وقيْدًا في رجله، وإصرًا على ظهره، وشرع له فراقها على أكمل الوجوه [لها] (3) وله، بأن يفارقها واحدة ثم تتربَّص ثلاثة قروء، والغالب أنها في ثلاثة أشهر، فإن تاقتْ ¬
نفسُه إليها، وكان له فيها رغبةً، وصرَّف مُقلِّبُ القلوب قلبه إلى محبتها (¬1)، وجد السبيل إلى ردها ممكنًا، والباب مفتوحًا، فراجع حبيبتَه، واستقبلَ أَمرَه، وعاد إلى يده ما أخرجته يدُ الغَضَبِ ونزغاتُ الشيطان [منها, ثم لا يُؤمِّن غلباتِ الطباع ونزغاتِ الشيطان] (¬2) من المعاودة، فمكّن من ذلك أيضًا مرة ثانية، ولعلها أن تذوقَ من مرارة الطلاق وخرابِ البيت ما يمنعُها من معاودة ما يغضبه، ويذوق هو من ألم فراقها ما يمنعه من التسرع إلى الطلاق، فإذا جاءت الثالثة جاء ما لا مردَّ له من أمر اللَّه سبحانه، وقيل له: قد اندفعت حاجتُك بالمرة الأولى والثانية، ولم يبق لك عليها بعد الثالثة سبيل، فإذا عَلمَ أن الثالثة فراق بينهِ وبينها وأنها القاضية أمسك عن إيقاعها؛ فإنه إذا علم أنها بعد الثالثة لا تحلُّ له إلا بعد تربُّصِ ثلاثة قروء وتزوَّج بزوجٍ راغب في نكاحها وإمساكها، وأن الأول لا سبيل له إليها حتى يدخل بها الثاني دخولًا كاملًا يذوقُ فيه كل واحد منهما عُسيلة صاحبه بحيث يمنعهما ذلك من تعجيل الفراق ثم يُفارقُها بموتٍ أو طلاقٍ أو خلعٍ ثم تعتدُّ من ذلك عدة كاملة تبين له حينئذ يأسه بهذا الطلاق الذي هو من أبغض الحلال إلى اللَّه، وعلم كل واحد منهما أنه لا سبيل له إلى العوْدِ بعد الثالثة (¬3)، لا باختياره ولا باختيارها، وأكد هذا المقصود بان لَعَنَ الزوج الثاني إذا لم ينكح نكاح رغبة يقصد فيه الإمساك، بل نكح نكاح تحليل، ولعن الزوج الأول إذا ردّها بهذا النكاح، بل ينكحها الثاني كما نكحها الأول، ويطلقها كما طلقها الأول، وحينئذٍ فتباح للأول كما تباح لغيره من الأزواج. وأنت إذا وازنت بين هذا (¬4) وبين الشريعتين المنسوختين، ووازنت بينه وبين الشريعة المبدلة المبيحة ما لعنَ اللَّه ورسولُهُ فاعلَه، تبين لك عظمة هذه الشريعة، وجلالتها، وهيمنتها على سائر الشرائع، وأنها جاءت على أكمل الوجوه وأتمها وأحسنها وأنفعها للخلق، وأن الشريعتين المنسوختين خير من الشريعة المبدَّلة، فإن اللَّه سبحانه شرعها في وقت (¬5)، ولم يشرع المبدلة أصلًا. وهذه الدقائق ونحوها مما يختص اللَّه سبحانه بفهمه من يشاء؛ فمن وصل إليها فليحمد اللَّه، ومن لم يصل إليها فليسلِّم لأحكم الحاكمين وأعلم العالمين. ¬
فصل [الحكمة في غسل أعضاء الوضوء]
وليعلم أن شريعته فوق عقول العقلاء وفوق فِطَر الألِبّاء: وقيل للعيون الرُّمْد لا تتقدَّمي ... إلى الشَّمس، واستغشي ظلامَ اللَّياليا وسامحْ، ولا تُنكر عليها، وخَلِّها ... وإنْ أنكرت حقًا فقل خلِّ ذا ليا [غيره:] (¬1) عاب التفقُّه قومٌ لا عُقُول لهم ... وما عليه إذا عابوه من ضرر ما ضرَّ شمسُ الضُّحى والشَّمس طالعةٌ ... أن لا يرى ضَوءَها مَنْ ليس ذا بصرِ فصل [الحكمة في غسل أعضاء الوضوء] [وأما إيجابُه لغسل المواضع] (¬2) التي لم تخرج منها الريح، وإسقاطه غسْل الموضع الذي خرجت منه، فما أوفقه للحكمة، وما أشده مطابقة للفطرة (¬3)؛ فإن حاصل السؤال: لِمَ كان الوضوءُ في هذه الأعضاء الظاهرة دون باطن المقعدة، مع أن باطن المقعدة أولى بالوضوء من الوجه واليدين والرجلين؟ وهذا سؤال معكوس، من قلبٍ منكوس؛ فإنَّ من محاسن الشريعة أن كان الوضوء في الأعضاء الظاهرة المكشوفة، وكان أحقُّها به إمامَها ومُقدَّمَها في الذِّكر والفعل وهو الوجهُ الذي نظافتُه ووضاءتهُ عنوانٌ على نظافة القلب، وبعده اليدان (¬4)، وهما آلة البَطْش والتناول والأخذ، فهما أحقُّ الأعضاء بالنظافة والنزاهة بعد الوجه، ولمَّا كان الرأسُ مَجْمَعَ الحواس وأعلى البدن وأشرفه كان أحق بالنظافة، ولكن لو شُرع غسله في الوضوء لعظُمَت المشقة، واشتدت البلية، فشُرعَ مسحُ جميعه، وأقامه مقام غسله تخفيفًا ورحمة، كما أقام المسح على الخفين مقام غسل الرجلين. ولعل قائلًا يقول: وما يجزئ مسحُ الرأس والرجلين من الغسل والنظافة؟ ولم يعلم هذا القائل أن إمساسَ العضوِ بالماء امتثالًا لأمر اللَّه وطاعة له وتعبدًا يؤثر في نظافته وطهارته ما لا يؤثر غسله بالماء والسِّدْر بدون هذه النية، والتحاكم ¬
[ما يكفره الوضوء من الذنوب]
في هذا إلى الذوق السليم، والطبع المستقيم، كما أن مَعْك الوجه بالتراب امتثالًا للآمر وطاعةً وعبوديةً (¬1) تكسبه وضاءةً ونظافة وبهجة تبدو على صفحاته للناظرين؛ ولما كانت الرِّجلان تَمسُّ الأرض غالبًا، وتباشر من الأدناس ما لا يباشره بقية الأعضاء كانت أحق بالغسل، ولم يُوفَق للفهم عن اللَّه ورسوله من اجتزأ بمسحهما من غير حائل. فهذا وجه اختصاص هذه الأعضاء بالوضوء من بين سائرها من حيث المحسوس، وأما من حيث المعنى فهذه الأعضاء هي آلات الأفعال التي يباشر بها العبد ما يريد فعله، وبها يُعصى اللَّه سبحانه ويُطاع؛ فاليد تبطش، والرجل تمشي، والعين تنظر، والأذن تسمع، واللسان يتكلم، فكان في غسل هذه الأعضاء -امتثالًا لأمر اللَّه، وإقامة لعبوديته- ما يقتضي إزالة ما لحقها (¬2) من دَرنِ المعصية ووسخِها. [ما يكفره الوضوء من الذنوب] وقد أشار صاحب الشرع -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هذا المعنى بعينه حيث قال في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه" عن عمرو بن عَبَسة قال: قلت: "يا رسول اللَّه! حَدثني عن الوُضوء، قال: "ما منكم من رجل يُقرِّبُ وضوءَه فيتمضمض ويستنشق فينثُر (¬3) إلا خرَّت (¬4) خطايا وَجْهه من أطرافِ لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المِرْفقين إلا خَرَّت (¬5) خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح برأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خرت (5) خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام فصلَّى فحمد اللَّه وأثنى عليه ومجَّده بالذي هو أهلُه -أو هو له أهلٌ- وفرغ قلبه للَّه إلا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه" (¬6)، وفي "صحيح مسلم" أيضًا عن أبي هريرة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا توضأ العبدُ المسلمُ -أو المؤمن- فغسل وجْهَه خرج من ¬
وجهه كل خطيئة نَظَر إليها بعينيه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشَتْها رجلاه مع الماء -أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيًا من الذنوب" (¬1)، وفي "مسند الإمام أحمد" عن عقبة بن عامر قال: سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "رجُلان من أمتي يقوم أحدهما من الليل يُعالج نفسه إلى الطَّهور، وعليه عُقَد، فيتوضأ؛ فإذا توضأ يديه انحلت عقدةٌ، وإذا توَضَّأ وجهه انحلت عقدة، وإذا مسح رأسه انحلت عقدة، وإذا وضَّأ رجليه انحلت عقدة، فيقول الرب عز وجل للذي وراء الحجاب: انظروا إلى عبدي هذا يُعالج نَفسَه، ما سألني عبدي هذا فهو له" (¬2)، وفيه أيضًا عن أبي أمامة يرفعه: "أيما رجل قام إلى وضوئه يريد الصلاة ثم غسل كفيه نزلت خطيئته من كَفَّيه مع أول قطرةٍ، فإذا تمضمضَ واستنشق واستنثر نزلت خطيئتُه من لسانِه وشفَتَيْه مع أول قطرة، فإذا غسل وجهه نزلت خطيئتهُ من سَمْعِه وبصره مع أول قطرة، فإذا غسل يديه إلى المرفقين ورجليه إلى الكعبين سَلِم من كل ذنب هو له، ومن كل خطيئته كهيئتِه يومَ ولدتُه أمُّه، فإذا قام إلى الصلاة رفع اللَّه بها درجته، وإنْ قعد قعد سالمًا" (¬3) وفيه أن مقصود المضمضة كمقصود غسل الوجه واليدين سواء، وأن ¬
فصل [توبة المحارب]
حاجة اللسان والشفتين إلى الغسل كحاجة بقية الأعضاء؛ فَمَنْ أنكسُ قلبًا وأفسدُ فطرةً وأبطلُ قياسًا ممن يقول: إن غسل باطن المقعدة أولى من غسل هذه الأعضاء وإن الشارع فَرَّق بين المتماثلين؟ هذا إلى ما في غسل هذه الأعضاء المقارن لنية التعبد للَّه من انشراحِ القلبِ وقوَّته، واتساع الصدر، وفَرحِ النفس، ونشاطِ الأعضاء؛ فتميزت عن سائر الأعضاء بما أوجب غسلها دون غيرها، وباللَّه التوفيق. فصل [توبة المحارب] وأما اعتبار توبة المحارب قبل القُدرة عليه دون غيره فيقال: أين في نصوص الشارع هذا التفريق؟ بل نصه على اعتبارِ توبة المحارب قبل القدرة عليه إما من باب التنبيه على اعتبار توبة غيره بطريقِ الأَوْلى؛ فإنه إذا دُفعت توبته عند حد حِرابه مع شدةِ ضررها وتعديه فلأن تَدفع التوبةُ [ما دون حد] (¬1) الحِراب بطريق الأولى والأحرى (¬2)، وقد قال اللَّه تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "التَّائب من الذَنْبِ كمن لا ذنبَ له" (¬3) ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
واللَّه سبحانه جعل الحدود عقوبة لأرباب الجرائم، ورفع العقوبة عن التائب شرعًا وقدرًا؛ فليس في [شرع اللَّه] (¬1) ولا في قَدَرِه عقوبةُ تائب ألبتَّة، وفي "الصحيحين" من حديث أنس قال: "كنت مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فجاء رجلٌ فقال: يا رسولَ اللَّه، إني أصبتُ حدًا فأقمه عليَّ. [قال] (¬2): ولم يسأله عنه، فحضرت الصلاة فصلَّى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلما قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الصلاةَ قام إليه الرجل فأعاد قوله، قال: أليس قد صَليتَ مَعَنَا؟ قال: نعم (¬3)، قال: "فإن اللَّه عز وجل قد غَفَرَ [لَكَ] (2) ذَنْبَكَ" (¬4) فهذا لما جاء تائبًا بنفسه من غير أن يُطلب غفر اللَّه له، ولم يُقم عليه الحد الذي اعترفَ به، وهو أحد القولين في المسألة، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو الصواب (¬5). ¬
فإن قيل: فماعزٌ جاء تائبًا والغامدية جاءت تائبة، وأقام عليهما الحد. قيل: لا ريبَ أنهما جاءا تائبين، ولا ريب أن الحد أقيمَ عليهما، وبهذا (¬1) احتج أصحاب القول الآخر، وسألتُ شيخَنا (¬2) عن ذلك؛ فأجاب بما مضمونه بان الحد مُطهِّر، وإن التوبة مطهرة، وهما اختارا التطهير بالحد على التطهير بمجرد التوبة (¬3)، وأبيا إلا أن يُطهرا بالحد، فأجابهما (¬4) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى ذلك وأرشد إلى اختيار التطهير بالتوبة على التطهير بالحد، فقال في حق ماعزٍ: "هلَّا تركتموه يتوب فيتوب اللَّه عليه" (¬5) ولو تعيَّن الحدُّ بعد التوبة لما جاز تركه، بل الإمام مخيَّر بين ¬
فصل [قبول رواية العبد دون شهادته]
أن يتركه كما قال لصاحب الحد الذي اعترف به: "اذهب فقد غفر اللَّه لك" (¬1) وبين أن يقيمه كما أقامه على ماعز والغامدية لمَّا اختارا إقامته وأبيا إلا التطهير به، ولذلك ردَّهما النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- مرارًا وهما يأبيان إلا إقامته عليهما، وهذا المسلك وسط [بين] (¬2) مسلك من يقول: لا تجوز إقامته بعد التوبة ألبتة، وبين مسلك من يقول: لا أَثَرَ للتوبة في إسقاطه ألبتة، وإذا تأملت السنة رأيتَها لا تدل إلا على هذا القول الوسط، واللَّه أعلم. فصل [قبول رواية العبد دون شهادته] وأما قوله: "وقبل شهادة العبد عليه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه قال كذا وكذا ولم يقبل شهادته على واحد من الناس بأنه قال كذا وكذا"، فمضمون السؤال أن رواية العبد مقبولة دون شهادته. والجواب أنه لا يَلزم الشارع قول فقيه بعينه (¬3) ولا مذهب معين، وهذا المقام لا يَقضِ فيه إلا اللَّه ورسوله (¬4) فقط، وهذا السؤال كَذبٌ على الشارع؛ فإنه لم يأت عنه حرفٌ واحد أنه قال: لا تقبلوا شهادة العبد، بل ردوها، ولو كان عالمًا مفتيًا فقيهًا من أولياء اللَّه ومن أصدق الناس لهجة، بل الذي دل عليه كتابُ اللَّه وسنةُ رسوله وإجماع الصحابة والميزان العادل قبول شهادة العبد فيما تُقبل فيه شهادة الحر؛ فإنه من رجال المؤمنين فدخل في قوله تعالى: [{وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] كما دخل في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وهو عدل بالنص والإجماع، فيدخل في قوله تعالى:] (¬5) {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] كما دخل في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يَحملُ هذا العلمَ من كُلِّ خَلَفٍ عَدُوله" (¬6) ويدخل في قوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وفي قوله: ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
{وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] وفي قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} الآية [المائدة: 8]، كما دخل في جميع ما فيها من الأوامر، ويدخل في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإنْ شَهِد ذَوا عَدْل فصوموا وأَفْطِرُوا" (¬1) وقال أنس بن مالك: ما علمت أحدًا رد شهادة العبد (¬2)، رواه الإمام أحمد عنه، وهذا أصح من غالب الإجماعات التي يدَّعيها المتأخرون؛ فالشهادة على الشارع بأنه أبطل شهادة العبد وردّها شهادةٌ بلا علم، ولم يأمر اللَّه برد شهادة صادق أبدًا، وإنما أمر بالتثبت في شهادة الفاسق (¬3). ¬
فصل [صدقة السائمة وإسقاطها عن العوامل]
فصل [صدقة السائمة وإسقاطها عن العوامل] وأما إيجاب الشارع الصَّدقة في السائمة وإسقاطها عن العوامل فقد اختلف في هذه المسألة؛ للاختلاف في الحديث الوارد فيها، وفي الباب حديثان: أحدهما: حديثَ عَمرو بنِ شُعيبٍ عن أبيه عن جده يرفعه: "ليس في الإبلِ العَواملِ صدقةٌ" (¬1)، رواه الدارقطني من حديث غالب بن عُبيد اللَّه عن عمرو. والثاني: حديث علي بن أبي طالب مرفوعًا: "ليس في البَقَرِ العواملِ شيءٌ" (¬2) رواه أبو داود: ثَنا النُّفَيْليُّ: ثَنَا زهيرٌ: ثنا أبو إسحاق، عن عاصم بن ¬
ضمرة وعن الحارث، عن علي قال زُهير: أَحْسبه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس على العواملِ شيءٌ" قال أبو داود: ورَوى حديثَ النُّفيليِّ شعبةُ وسفيانُ وغيرهما عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضَمْرة عن علي لم يرفعوه، ورواه نُعيم بن حَمَّاد: ثنا أبو بكر بن عَيَّاش، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضَمْرة، عن علي موقوفًا: "ليس في الإبلِ العواملِ، ولا في البقر العوامل صدقة" (¬1). ورواه الدارقطني من حديث صَقْر بن حَبيب: سمعت أبا رجاء، عن ابن عباس، عن علي مرفوعًا (¬2)، قال ابنُ حبَّان (¬3): "ليس هو من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما يُعرف بإسناد منقطع يقلبه (¬4) الصقر عن أبي رجاء، وهو يأتي بالمقلوبات"، وروي من حديث جابر وابن عباس مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أشبه (¬5). وبعد فللعلماء في المسألة قولان: فقال مالك في "الموطأ" (¬6): النَّواضِحُ والبقر السّواني (¬7) وبقر الحرث إني أرى أن يؤخذ من ذلك كله الزكاة (¬8) إذا وجبت فيه (¬9) الصدقة، قال ابنُ عبد البر (¬10): "وهذا قول الليث بن سعد (¬11)، ولا أعلم أحدًا قال به من فقهاء الأمصار غيرهما. ¬
وقال الثوري (¬1) وأبو حنيفةَ وأصحابه (¬2)، والشافعيُّ وأصحابُه (¬3)، والأوزاعي (¬4)، وأبو ثور (¬5)، وأحمد (¬6)، وأبو عبيد (¬7)، وإسحاق، وداود: لا زكاة في البقرِ العواملِ، ولا الإبلِ العوامل، وإنما الزكاة في السائمة منها، ورُوي قولهم ذلك عن طائفة من الصحابة منهم علي، وجابر، ومعاذ بن جبل (¬8). وكتب عمر بن عبد العزيز أنه ليس في البقر العوامل صدقة (¬9) ". وحُجَّة هؤلاء مع الأثر النظر؛ فإنَّ ما كان من المال معدٌّ (¬10) لنفع صاحبه به ¬
فصل [حكمة الله في الفرق بين الحرة والأمة في تحصين الرجال]
كثياب بذلته وعَبيد خدمته وداره التي يسكنها ودابته التي يركبها وكتبه التي ينتفع بها وينفع [غيره] (¬1)؛ فليس فيها زكاة؛ ولهذا لم يكن في حلي المرأة التي تلبسه وتعيره زكاة (¬2)، فطَرْد هذا أنه لا زكاة في بقر حرْثه ولا إبلِه (¬3) التي يعمل فيها بالدولاب وغيره؛ فهذا محض القياس، كما أنه موجب النصوص؛ والفرق بينها وبين السائمة ظاهر؛ فإن هذه مصروفة عن جهة النماء إلى العمل؛ فهي كالثياب والعبيد والدار، واللَّه تعالى أعلم (¬4). فصل [حكمة اللَّه في الفرق بين الحرة والأمة في تحصين الرجال] وأما قوله: "وجعل الحرة القبيحة الشوهاء تحصِّن الرجلَ، والأمة البارعة الجمال لا تحصنه" فتعبير سيء عن معنًى صحيح؛ فإن حكمة الشارع اقتضت وجوب حد الزنا على من كملت عليه نعمةُ اللَّه بالحَلَال، فتخطّاه إلى الحرام، ولهذا لم يوجب كمال الحد على من لم يحصن، واعتبر للإحصان أكمل أحواله، وهو أن يتزوج بالحرة التي يرغب الناس في مثلها، دون الأمة التي لم يبح اللَّه نكاحها إلا عند الضرورة، فالنعمة بها ليست كاملة، ودون التسرِّي الذي هو في الرتبة دون النكاح؛ فإن الأمة ولو كانت ما عسى أن تكون لا تبلغ رتبة الزوجة، ¬
فصل [الحكمة في نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره من الأعضاء]
لا شرعًا ولا عرفاَ ولا عادةً، بل قد جعل اللَّه لكلٍ منهما رتبة، والأمة لا تُراد لما تُراد له الزوجة، ولهذا كان له أن يملكَ من لا يجوز له نكاحها (¬1)، ولا قسم عليه في ملك يمينه، فأمتُه تَجري في الابتذال والامتهان والاستخدام مَجْرى دابته وغلامه، بخلاف الحرائر، وكان من محاسن الشريعة أن اعتبرت في كمال النّعمة على مَنْ يجب عليه الحَدُّ أن يكون قد عقد على حرة ودخل بها (¬2)؛ إذ بذلك يَقضي كمال وطره، ويُعطي شهوته حقها، ويضعها مواضعها، هذا هو الأصل ومنشأ الحكمة، ولا يعتبر ذلك في كل فرد فردٍ من (¬3) أفراد المُحصنين، ولا يضر تخلفه في كثير من المواضع؛ إذ شأن الشرائع الكلية (¬4) أن تراعي الأمور العامة المنضبطة، ولا ينقُضها تخلُّف الحكمة في أفراد الصور، كما هذا شأن الخلق فهو موجب حكمة اللَّه في خلقه وأمره في قضائه وشرعه، وباللَّه التوفيق (¬5). فصل [الحكمة في نقض الوضوء بمس ذكره دون غيره من الأعضاء] وأما قوله: "ونقضُ (¬6) الوُضوءِ بمس الذِّكَر دون سائر الأعضاء، ودون مس العَذْرة والبول" فلا ريب أنه قد صحَّ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الأمر بالوضوء من مس الذكر (¬7)، ورُوي عنه خلافُه، وأنه سُئل عنه فقال للسائل: "هل هو إلا بضعةٌ ¬
منك" (¬1) وقد قيل: إن هذا الخبر لم يصح، وقيل: بل هو منسوخ، وقيل: بل هو محكم دال على عدم الوجوب، وحديث الأمر دال على الاستحباب؛ فهذه ثلاثة مسالك للناس في ذلك (¬2). ¬
فصل [الحكمة في إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر]
وسؤالُ السائلِ ينبني على صحة حديث الأمر (¬1) بالوضوء منه وأنه للوجوب، ونحن نجيبه على هذا التقدير، فنقول: هذا من كمال الشريعة وتمام محاسنها، فإن مَسَّ الذكر مُذكِّرٌ بالوطء، وهو في مظنة الانتشار [غالبًا، والانتشار] (¬2) الصادر عن المس (¬3) في مظنة خروج المذيّ (¬4) ولا يشعر به؛ فأُقيمت هذه المظنة مقام الحقيقة لخفائِها وكثرةِ وجودها، كما أقيم النوم مقامِ الحدث، وكما أقيم لمس المرأة [بشهوة] (¬5) مقام الحدث (¬6). وأيضًا فإن مس الذَّكر يوجب انتشار حرارة الشهوة وثورانها في البدن، والوضوء يُطفيء [تلك] (¬7) الحرارة، وهذا مشاهدٌ بالحس، ولم يكن الوضوء من مسه لكونه نجسًا، ولا لكونه مَجْرى النجاسة حتى يُورد السائلُ مس العذرة والبول، ودعواه مساواة (¬8) مس الذكر للأنف من أكذب الدعاوى وأبطل القياس، وباللَّه التوفيق (¬9). فصل [الحكمة في إيجاب الحد بشرب قطرة من الخمر] وأما قوله: "أوجب الحدَّ في القطرة الواحدة من الخمر دون الأرطال الكثيرة من البول" فهذا أيضًا من كمال [هذه] (¬10) الشريعة، ومطابقتها للعقول والفِطر، ¬
فصل [الحكمة في قصر الزوجات على أربع دون السريات]
وقيامها بالمصالح؛ فإن ما جعل اللَّه سبحانه في طِباعِ الخلقِ النفرة عنه ومجانبته اكتفى بذلك عن الوازع (¬1) عنه بالحدِّ؛ لأنَّ الوازع الطبيعي كاف في المنع منه، وأما ما يشتد (¬2) تقاضي الطباع له فإنَّه غلّظ العقوبةَ عليه بحسب شدة تقاضي الطبع له، وسد الذريعة إليه من قرب وبعد، وجعل ما حوله حمًى، ومنع من قربانه، ولهذا عاقب في الزنا بأشنع القتلات، وفي السّرقة بإبانة اليد، وفي الخمر بتوسيع الجلد ضربًا بالسوط، ومنع [من] (¬3) قليل الخمر وإن كان لا يُسكر إذ قليله داع إلى كثيره؛ ولهذا كان مَنْ أباح من نبيذِ التَّمر المُسْكر القدْر الذي لا يُسكر خارجًا عن محض القياس والحكمة وموجب النصوص، وأيضًا فالمفسدة التي في شرب الخمر والضرر المختص والمتعدي أضعاف الضرر والمفسدة التي في شرب البول وأكل القاذورات، فإن ضررها مختصٌ بمتناولها (¬4). فصل [الحكمة في قصر الزوجات على أربع دون السريات] وأما قوله: "وقصر عدد المنكوحات على أربع، وأباح ملك اليمين بغير حصر" فهذا من تمام نعمته وكمال شريعته، وموافقتها للحكمة والرحمة (¬5) والمصلحة، فإن النكاح يُراد للوطء وقضاء الوطر، ثم من الناس من يغلب عليه سلطان هذه الشهوة فلا تندفع حاجته بواحدة، فأطلق له ثانيةً وثالثةً ورابعة، وكان هذا العدد موافقًا لعدد طباعه وأركانه، وعدد فُصول سَنَته، ولرجوعه (¬6) إلى [الواحدة بعد] (¬7) صبرِ ثلاث عنها، والثلاثُ أوَّلُ مراتب الجمع وقد عَلَّق الشارع بها عدة أحكام، ورخص للمهاجر أن يقيم بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثًا (¬8)، وأباح ¬
للمسافر أن يمسَحَ على خُفَيْه ثلاثًا (¬1)، وجعل حد الضيافة المُستحبَّة أو الواجبة (¬2) ثلاثًا (¬3)، وأباح للمرأة أن تحدّ على غير زوجها ثلاثًا (¬4)، فرَحِمَ الضّرّة بأن جعل غاية انقطاع زوجها عنها ثلاثًا ثم يعود؛ فهذا محض الرحمة والحكمة والمصلحة، وأما الإماء فلما كُنَّ بمنزلة سائر الأموال من الخيل والعبيد وغيرهما لم يكن لقصر المالك على أربعة منهن أو غيرها من العدد معنًى؛ فكما ليس في حكمة اللَّه ورحمته أن يقصرَ السَّيِّد على أربعة عبيدٍ أو أربع دواب وثياب ونحوها، فليس في حكمته أن يقصره على أربع إماء، وأيضًا فللزوجة حَقٌّ على الزوج اقتضاه عقد النكاحِ يجب على الزوج القيام به، فإن شاركها غيرها وجبَ عليه العدل بينهما؛ فقَصرَ الأزواج على عدد يكون العدل فيه أقرب مما زاد عليه، ومع هذا فلا ¬
فصل [الحكمة في إباحة التعدد للرجل دون المرأة]
يستطيعون العدل ولو حرصوا عليه، ولا حق لإمائه عليه في ذلك، ولهذا لا يجب لهن قسم، ولهذا قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3]، واللَّه أعلم. فصل [الحكمة في إباحة التعدد للرجل دون المرأة] وأما قوله: "وأنه أباح للرجل أن يتزوج بأربع زوجات، ولم يبح للمرأة [قط] (¬1) أن تتزوج بأكثر من زوج واحد" فذلك من كمال حكمة الرب تعالى وإحسانه ورحمته بخلقه ورعاية مصالحهم (¬2)، ويتعالى سبحانه عن خلاف ذلك، وينزّه شرعه أن يأتيَ بغير هذا، ولو أبيح للمرأة أن تكونَ عند زوجين فأكثر لفسد العالم، وضاعت الأَنسابُ، وقتل الأزواج بعضُهُم بعضًا، وعظمت البليَّة، واشتدت الفتنة، وقامت سوقُ الحرب على ساق، وكيف يستقيم حال امرأة فيها شُركاء متشاكسون؟ وكيف يستقيم حال الشركاء فيها؟ فمجيء الشريعة بما جاءت به من خلاف هذا من أعظم الأدلة على حكمةِ الشارعِ ورحمتهِ وعنايتهِ بخلقه. فإن قيل: فكيف رُوعي جانب الرجل، وأطلق له أن يُسيم طرفه (¬3) ويقضيَ وطَرَه، وينتقل من واحدة إلى واحدة بحسب شهوته وحاجته، وداعي المرأة داعيه، وشهوتها شهوته؟ قيل: لما كانت المرأة من عادتها أن تكون مخبأةً من وراء الخُدُرِ (¬4)، ومحجوبةً في كِنِّ بيتها (¬5)، وكان مزاجُها أبرد من مزاج الرجل، وحركتها الظاهرة والباطنة أقل من حركته، وكان الرجل قد أعطي القوة والحرارة التي هي سلطان الشهوة أكثر مما أعطيته المرأة، وبُلي بما لم تُبْل به؛ أطلق له من عدد المنكوحات ما لم يُطلق للمرأة؛ وهذا مما خص اللَّه به الرجال (¬6)، وفضَّلهم به على النساء، كما فضلهم عليهنّ بالرسالةِ والنبوةِ والخلافةِ والمُلك والإمارة وولاية الحكم والجهاد وغير ذلك، وجعل الرجال قوامين على النساء سَاعِين في مصالحهن، ¬
[شهوة الرجل أقوى من شهوة المرأة]
يدأبون في أسباب معيشتهنَّ، ويركبون الأخطار، ويجوبون القفار، ويعرضون أنفسهم لكل بلية ومحنة في مصالح الزوجات، والربُّ تعالى شكورٌ حليمٌ، فشكر لهم ذلك، وجبرهم (¬1) بأن مكَنهم مما لم يمكِّن منه الزوجات، وأنت إذا قايستَ بين تعب الرِّجال وشقائِهم وكدِّهم ونصبهم في مصالح النساء وبين ما ابتلي به النساء من الغَيْرة وجدتَ حظَّ الرجال من تحمل ذلك التعب والنصب والدأب أكثر من حظ النساء من تحمل الغيرة؛ فهذا من كمال عدل اللَّه وحكمته ورحمته؛ فله الحمد كما هو أهله. [شهوة الرجل أقوى من شهوة المرأة] وأما قول القائل: "إن شهوة المرأة تزيد على شهوة الرجل "فليس كما قال، والشهوة منبعها الحرارة، وأين حرارة الأنثى من حرارة الذكر؟ ولكن المرأة -لفراغها وبطالتها وعدم معاناته لما يشغلها عن أمر شهوتها وقضاء وطرها- يغمرها سلطان الشهوة، ويستولي عليها، ولا (¬2) يجد عندها ما يعارضه، بل يصادف قلبًا فارغًا ونفسًا خالية فيتمكَّن منها كل التمكن؛ فيظن الظان أن شهوتها أضعاف شهوة الرجل، وليس كذلك، ومما يدل على هذا أن الرجل إذا جامع امرأته أمكنه أن يجامع غيرها في الحال، وكان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يطوف على نسائه في الليلة الواحدة (¬3)، وطاف سليمان عليه السلام على تسعين امرأة في ليلة (¬4)، ومعلومٌ أن له عند كل امرأة شهوة وحرارة باعثة على الوطءِ، والمرأة إذا قضى ¬
فصل [الحكمة في جواز استمتاع السيد بأمته دون العبد بسيدته]
الرجل وطَرَها (¬1) فتَرتْ (¬2) شهوتُها، وانكسرت نفسُها، ولم تطلب قضاءها من غيره في ذلك الحين، فتطابقت حكمه الشرع والقدر والخلق والأمر، وللَّه الحمد (¬3). فصل [الحكمة في جواز استمتاع السيد بأمته دون العبد بسيدته] وأما قوله: "أباح للرجل أن يستمتع من أمته بملك اليمين بالوطء وغيره، ولم يبح للمرأة أن تستمتع من عبدها لا بوطء ولا غيره" فهذا أيضًا من كمال هذه الشريعة وحكمتها، فإن السيدَ قاهرٌ لمملوكه، حاكمٌ عليه، مالك له، والزوج قاهر لزوجته حاكم عليها، وهي تحت سُلطانِه وحُكمِه تُشبه الأسير؛ ولهذا مُنع العبد من نكاح سيدته للتنافي بين كونه مملوكها وبعلها، وبين كونها سيدته وموطوءته، وهذا أمر مشهورٌ بالفطرة والعقول قُبْحُه، وشريعة أحكم الحاكمين منزَّهةٌ عن أن تأتي به. فصل [التفريق بين أحكام الطلقات] وأما قوله: "وفَرَّق بين الطلقات فجعل بعضها مُحرِّمًا للزوجة وبعضها غير محرم" فقد تقدم [من] (¬4) بيان حكمة ذلك ومصلحته ما فيه كفاية. فصل [التفريق بين لحم الإبل وغيرها في إيجاب الوضوء] وأما قوله: "وفرَّق بين لحم الإبل وغيره من اللحوم في الوضوء" فقد تقدم في الفصل الذي قبل هذا جواب هذا السؤال، وأنه على وفق الحكمة ورعاية المصلحة. ¬
فصل [الحكمة في التفريق بين الكلب الأسود وغيره]
فصل [الحكمة في التفريق بين الكلب الأسود وغيره] وأما قوله: "وفرق بين الكلب الأسود وغيره في قطع الصلاة" فهذا سؤال أورده عبد اللَّه بن الصَّامت على أبي ذر، وأورده (¬1) أبو ذر على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأجاب عنه بالفرق البيِّن فقال: "الكلب الأسود شيْطان" (¬2)، وهذا إن أُريد به أن الشَّيطانَ يظهر في صورة الكلب الأسود كثيرًا كما هو الواقع فظاهر (¬3)، وليس بمستنكر أن يكونَ مرورُ عدو اللَّه بين يدي المصلي قاطعًا لصلاته، ويكون مرورُه قد جعلَ تلك الصلاةَ بغيضةَ إلى اللَّه مكروهة له، فيُؤمر المصلي باستئنافها (¬4)، وإن كان المراد به أن الكلبَ الأسودَ شيطانُ الكلاب فإن كل جنس من أجناس الحيوانات فيها شياطين وهي ما عَتَا منها وتمرد، كما أن شياطين الإنس عُتاتهم ومتمردوهم، والإبلُ شياطينُ الأنعام، وعلى ذرْوة كل بعيرٍ شيطان (¬5)؛ فيكون مرورُ هذا النوع من الكلاب -وهو من أخبثها وشرها- مبغضًا لتلك الصلاة إلى اللَّه تعالى؛ فيجب على المصلي أن يستأنفها (¬6)، وكيف يُستبعدُ أن يقطعَ مرورُ العدو بين الإنسان ¬
فصل [الحكمة في التفرقة بين الريح والجشاء]
وبين وليه حُكم مناجاته له كما قطعها كلمةٌ من كلام الآدميين أو قهقهةٌ أو ريحٌ أو ألقى عليه الغير نجاسة أو نوّمه الشيطان فيها؟ وفي الحديث الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إن شيطانًا تفلَّت عليَّ البارحة ليقْطع عليَّ صلاتي" (¬1). وبالجملة؛ فللشارع [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) في أحكام العبادات أسرارًا لا تهتدي العقول إلى إدراكها على وجه التفصيل وإن أدركتها جملة. فصل [الحكمة في التفرقة بين الريح والجُشاء] وأما قوله: "وفرق بين الريح الخارجة من الدُّبر وبين الجشوة؛ فأوجب الوضوء من هذه دون هذه "فهذا أيضًا من محاسن هذه الشريعة وكمالها، كما فرق بين البَلْغم الخارج من الفَم وبين العَذِرَة في ذلك، ومَنْ سوّى بين الريح والجشاء فهو كمن سوّى بين البلغم والعذرة، والجشاء من جنس العُطاس الذي هو ريحٌ تُحتبس في الدماغ ثم تطلب لها منفذًا فتخرج من الخياشيم فيحدث العُطاس، وكذلك الجُشاء ريحٌ تُحبس (¬3) فوق المعدة (¬4) فتطلب الصعود، بخلاف الريح التي تحبس تحت المعدة، ومن سوى بين الجشوة والضّرْطة في الوصف والحكم فهو فاسد العقل والحس. فصل [الحكمة في التفرقة بين الخيل والإبل في الزكاة] وأما قوله: "أوجب الزكاة في خمس من الإبل وأسقطها عن آلاف من ¬
الخيل" فلعمرُ اللَّه إنه أوجب الزكاة في هذا الجنس دون هذا كما في "سنن أبي داود" من حديث عاصم بن ضَمْرة عن علي (¬1) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: قد عفوتُ [لكم] (¬2) عن الخيلِ والرَّقِيقِ، فهاتوا صدقةَ الرقةِ (¬3) من كل أربعين درهمًا درهمًا (¬4)، وليس في تسعين ومئة شيء، فإذا بلغت مئتين ففيها خمسةُ دراهم" (¬5) ورواه سفيان عن أبى إسحاق عن الحارث عن علي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وقال بقية: حدثني ¬
أبو معاذ الأنصاري، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة يرفعه، "عفوتُ لكم عن صدقةِ الجَبْهَةِ والكُسْعَة والنُّخَّة" (¬1) قال بقية: الجبهة الخيل، ¬
والكسعة: البغال والحمير، والنُّخة: المربيات في البيوت، وفي "كتاب عمرو بن حزم": "لا صدقة في الجبهة والكسعة، والكسعة: الحمير، والجبهة: الخيل" (¬1). وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة، [عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-]: "ليس على المسلم في عبْدِه ولا فرسه صدقة" (¬2). والفرق بين الخيل والإبل أن الخيل تُراد لغير ما تُراد له الإبل؛ فإن الإبل تراد للدَّرِّ والنَّسل والأكل وحمل الأثقال والمتاجر والانتقال عليها من بلد إلى بلد، وأما الخيل فإنما خُلقت للكرِّ والفَرِّ والطلب والهرب، وإقامة الدين، وجهاد أعدائه، وللشارع قصدٌ أكيد في اقتنائها وحفظها والقيام عليها، وترغيب النفوس في ذلك بكل طريق، ولذلك عفا عن أخذ الصدقة منها؛ ليكون ذلك أرغب للنفوس (¬3) فيما يحبه اللَّه ورسوله من اقتنائها ورباطها، وقد قال [اللَّه] (¬4) تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فرباطُ الخيل من جنسِ آلاتِ السلاح والحرب، فلو كان عند الرجل منها ما عَسَاه أن يكون ولم يكن للتجارة لم يكن عليه فيه زكاة، بخلاف ما أُعدّ للنفقة؛ فإن الرجل إذا ملك منه نصابًا ففيه الزكاة، وقد أشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى هذا بعينه في قوله: "قد عفوتُ لكم عن صدقةِ الخيل والرقيق، فهاتوا صدقة الرِّقة" (¬5) أفلا تراه كيف فرف بين ما أُعدَّ للإنفاق [وبين] (4) ما أعد لإعلاء كلمة اللَّه ونصر دينه وجهاد أعدائه؟ فهو من جنس السيوف والرماح والسهام، وإسقاط الزكاة في هذا الجنس من محاسن الشريعة وكمالها (¬6). ¬
فصل [الحكمة في التفريق بين بعض مقادير الزكاة]
فصل [الحكمة في التفريق بين بعض مقادير الزكاة] وأما قوله: "أوجب في الذهب والفضة والتجارة ربع العشر، وفي الزروع والثمار نصف العشر أو العشر، وفي المعدن الخُمس" فهذا أيضًا من كمال الشريعة ومراعاتها للمصالح (¬1)؛ فإن الشارع أوجب الزكاة مواساةً للفقراء، وطُهرةً للمال، وعبوديةً للرب، وتقربًا إليه بإخراج محبوب العبد له وإيثار مرضاته، ثم فرضها على أكمل الوجوه، وأنفعها للمساكين، وأرفقَها بأرباب الأموال؛ ولم يفرضها في كل مال، بل فَرضَها في الأموال التي تحتمل المواساة، ويكثر فيها الربح والدَّرُّ والنسل، ولم يفرضها فيما يحتاج العبد إليه من ماله ولا غنى له عنه كعبيده وإمائه ومركوبه وداره وثيابه وسلاحه، بل فرضها في أربعة أجناس من المال: المواشي، والزروع والثمار، والذهب والفضة، وعروض التجارة؛ فإن هذه أكثر أموال الناس الدائرة بينهم، وعامة تصرفهم فيها، وهي التي تحتمل المواساة، دون ما أَسقَطَ الزكاة فيه، ثم قسم كل جنس من هذه الأجناس بحسب حاله وإعداده للنماء إلى ما فيه الزكاة وإلى ما لا زكاة فيه، فقسم المواشي إلى قسمين: سائمة؛ ترعى بغير كلفة ولا مشقة ولا خسارة، فالنعمة فيها كاملةٌ والمنَّةُ فيها وافرةٌ والكلفة فيها يسيرة والنَّماء فيها كثير؛ فخص هذا النوع بالزكاة، وإلى معلوفة بالثمن أو عاملة في مصالح أربابها في زكاة دواليبِهم وحروثِهم (¬2) وحملِ أمتعتهم؛ فلم يجعل في ذلك زكاة، لكلفة العلوفة (¬3) وحاجة المالكين إلى العوامل فهي كثيابهم وإمائهم وعبيدهم وأمتعتهم. ثم قسّم الزروع والثمار إلى قسمين: قسمٌ يجري مجرى السائمة من بهيمة الأنعام في سقيه من [ماء] (4) السماء بغير كلفة ولا مشقة فأوجب فيه العشر، وقسم يُسقى بكلفة ومشقة ولكن كلفته دون كلفة المعلوفة بكثير إذ تلك تحتاج إلى العلف كل يوم فكان مرتبة بين مرتبة السائمة والمعلوفة، فلم يوجب فيه زكاة ما شَرِب بنفسه، ولم يسقط زكاته جملة [واحدة] (¬4)، فأوجب فيه نصف العشر. ¬
ثم قسم الذهب والفضة إلى قسمين: أحدهما ما هو معدٌّ لتنميته (¬1) والتجارة به والتكسب ففيه الزكاة كالنقدين والسبائك ونحوها، وإلى ما هو معد للانتفاع دون الربح والتجارة كحلي (¬2) المرأة وآلات السلاح التي يجوز استعمال مثلها فلا زكاة فيه (¬3). ثم قسم العروض إلى قسمين: قسم أعد للتجارة ففيه الزكاة، وقسم أعد للقِنْية والاستعمال فهو مصروف عن جهة النماء فلا زكاة فيه. ثم لما كان حصول النماء والربح بالتجارة من أشق الأشياء وأكثرها معاناة وعملًا خفَّفها بأن جعل فيها ربع العشر، ولما كان الربح والنماء بالزروع والثمار التي تُسقى بالكلفة (¬4) أقل كلفة والعمل أيسر ولا يكون في كل السنة جعله ضعفه وهو نصف العشر، ولما كان التعب والعمل فيما يشرب بنفسه أقل والمؤنة أيسر جعله ضعف ذلك وهو العشر، واكتفى فيه بزكاة عامة خاصة؛ فلو أقام عنده بعد ذلك عدة أحوال لغير التجارة لم تكن فيه زكاة لأنه قد انقطع نماؤه وزيادته، بخلاف الماشية، وبخلاف [ما لو أعِدَّ للتجارة] (¬5)؛ فإنه عُرْضة للنماء، ثم لما كان الرِّكازُ مالًا، مجموعًا محصلًا وكلفَة تحصيله أقل من غيره، ولم يحتج إلى أكثر من استخراجه كان الواجب فيه ضعف ذلك وهو الخمس. فانظر إلى تناسب هذه الشريعة الكاملة التي بهر (¬6) العقولَ حسنُها وكمالها، وشهدت الفِطر بحكمتها، وأنه لم يطرق العالم شريعة أكمل منها (¬7). ولو اجتمعت عقول العقلاء وفِطر الألِبَّاء واقترحت شيئًا يكون أحسنُ مُقترحًا (¬8) لم يصل اقتراحها إلى ما جاءت به. ولما لم يكن كل مال يحتمل المواساة قدَّر الشارع لما يحتمل المواساة نُصُبًا مقدرة لا تجب الزكاة في أقل منها، ثم لما كانت تلك النصب تنقسم إلى مالا يجحف المواساة ببعضه أوجب الزكاة منها، وإلى ما يجحف المواساة ببعضه ¬
فصل [حكمة قطع يد السارق دون لسان القاذف مثلا]
فجعل الواجب من غيره كما دون الخمس والعشرين من الإبل، ثم لما كانت المواساة لا تحتمل كل يوم ولا كل شهر إذ فيه إجحاف بأرباب الأموال جعلها كل عام مرة كما جل الصيام كذلك، ولما كانت الصلاة لا يشق فعلها كل يوم وضعها (¬1) كل يوم وليلة، ولما كان الحج يشق تكرر وجوبه كل عام جعله وظيفة العمر. وإذا تامل العاقل مقدار ما أوجبه الشارع في الزكاة وجده مما لا يضر المخرج فقده وينفع الفقير أخذه، ورآه قد راعى فيه حال صاحب المال وجانبه حق الرعاية، ونفع آخذيه (¬2)، وقصد إلى كل جنس من أجناس الأموال فأوجب الزكاة في أعلاه وأشرفه؛ فأوجب زكاة العين في الذهب والورق دون الحديد والرصاص والنحاس ونحوها، وأوجب زكاة السائمة في الإبل والبقر والغنم دون الخيل والبغال والحمير ودون ما يقل اقتناؤه كالصيود على اختلاف أنواعها ودون الطير كله، وأوجب زكاة الخارج من الأرض في أشرفه وهو الحبوب والثمار دون البقول والفواكه والمقاثي والمباطخ والأنوار (¬3). وغير خافٍ تميز ما أوجب فيه الزكاة عما لم يوجبها فيه في جنسه ووصفه ونفعه وشدة الحاجة إليه وكثرة وجوده، وأنه جارٍ مجرى الأموال (¬4) لما عداه من أجناس الأموال، بحيث لو فقد لأضر فقده بالناس، وتعطل عليهم كثير من مصالحهم، بخلاف ما لم يوجب فيه الزكاة فإنه جار مجرى الفضلات [والتتمات] (¬5) التي لو فقدت لم يعظم الضرر بفقدها، وكذلك راعى في المستحقين لها أمرين مهمين: أحدهما حاجة الآخذ، والثاني نفعه؛ فجعل المستحقين لها نوعين: نوعًا لحاجته، ونوعًا يأخذ لنفعه، وحرّمها على من عداهما (¬6). فصل [حكمة قطع يد السارق دون لسان القاذف مثلًا] وأما قوله: "وقطع يد السارق التي باشر بها الجناية (¬7)، ولم يقطع فرج ¬
الزاني وقد باشر به الجناية، ولا لسان القاذف وقد باشر به القذف" فجوابه أن هذا من أدلِّ الدلائل على أن هذه الشريعة منزلة من عند أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين. ونحن نذكر فصلًا نافعًا في الحدود ومقاديرها، وكمال ترتيبها (¬1) على أسبابها، واقتضاء كل جناية لما رُتِّب عليها دون غيرها (¬2)، وأنه ليس وراء ذلك للعقول اقتراح، ونورد أسئلة لم يوردها هذا السائل، وننفصل عنها بحول اللَّه وقوته (¬3) أحسن انفصال، واللَّه المستعان وعليه التكلان. إن (¬4) اللَّه جل ثناؤه وتقدَّست أسماؤُه لمَّا خلق العباد وخلق الموت والحياة وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوَ عباده وليختبرهم أيهم أحسنُ عملًا لم يكن في حكمته بد من تهيئة أسباب الابتلاء في أنفسهم وخارجًا عنها، فجعلَ في أنفسهم العقولَ الصحيحةَ والأسماعَ والأبصارَ والإراداتِ (¬5) والشهواتِ والقوى والطبائعَ والحبَّ والبغضَ والميلَ والنُّفورَ والأخلاقَ المتضادة المقتضية لآثارها اقتضاء السبب لمسبِّبه والتي في الخارج الأسباب التي تطلب النفوس حصولها فتنافس فيه، وتكره حصولها (¬6) فتدفعه عنها، ثم أكَّد أسباب هذا الابتلاء بأن وكَّل بها قُرناءَ من الأرواح الشريرة الظالمة الخبيثة وقرناء من الأرواح الخيّرة العادلة الطيبة، وجعل دواعي القلب وميوله مترددة بينهما؛ فهو إلى داعي الخير مرة وإلى داعي الشر أخرى (¬7)، ليتمَّ الابتلاء في دار الامتحان، وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء، وكلاهما من الحق الذي خلق اللَّه السماوات والأرض به ومن أجله، وهما مقتضى ملك الرب وحمده؛ فلا بد أن يَظهَر ملكُه وحمدُه فيهما كما ظهر في خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله بحكم إيجابه على نفسه أن أرسل رُسُله وأنزل كتبه وشرع شرائعه ليتم ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره، وأقام سوقَ الجهاد لما حصل من المُعاداة والمُنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات كما حصل بين من قامت به، فلم يكن بُد من حصول مقتضى الطبائع البشرية (¬8) وما قارنها من الأسباب من التنافس ¬
والتحاسد والانقياد لدواعي الشهوة والغضب وتعدّي ما حَدَّ له والتقصير عن كثير مما تعبد به، وسهّل ذلك عليها اغترارَها بموارد المعصية مع الإعراضِ عن مصادِرِها، وإيثارها ما تتعجله من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجَّله من عظيم اللذة في أخراها، ونزولها على الحاضر المشاهد، وتجافيها عن الغائب الموعود، وذلك موجَبُ ما جُبلت عليه من جهلها وظلمها؛ فاقتضت أسماءُ الربِّ الحُسنى وصفاتُه العليا وحكمتُه البالغةُ ونعمتُه السابغةُ ورحمتُه الشاملةُ (¬1) وجودَه الواسع أن لا يضْرب عن عباده الذكر صفحًا، وأن لا يتركهم سُدى، ولا يُخفيهم ودواعي نفوسهم (¬2) وطبائعهم، بل ركَّب في فطرهم وعقولهم معرفةَ الخير والشر والنافع والضار والألم واللذة (¬3) ومعرفة أسبابها، ولم يكتف بمجرد ذلك حتى عَرَّفهم به مفصلًا على ألسنة رسله، وقطع معاذيرهم بأن أقام على صِدْقهم من الأدلة والبراهين ما لا يبقى معه لهم عليه حجة {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42] وصرّف لهم طُرقَ الوَعْد والوعيد والترغيب والترهيب، وضربَ لهم الأمثالَ وأزال عنهم كُلَّ إشكال، ومكَّنهم من القيام بما أمرهم به وترك ما نهاهم عنه غاية التمكين، وأعانهم عليه بكل سبب، وسَلَّطهم على قهر طباعهم بما يجرُّهم إلى إيثار العواقب على المبادئ ورفض اليسير الفاني من اللذة إلى العظيم الباقي منها، وأرشدهم إلى التفكر والتدبُّر وإيثار ما تقضي به عقولهم وأخلاقهم من هذين الأمرين، وأكمل لهم دينَهم، وأتمَّ عليهم نعمته بما أوصله إليهم على ألسنة رسله من أسباب العقوبة والمثوبة والبشارة والنذارة والرغبة والرهبة، وتحقيق ذلك بالتعجيل لبعضه في دار المحنة ليكون عَلمًا وأمارةً لتحقيق ما أَخَّره عنهم في دار الجزاء والمثوبة، ويكون العاجل مذكرًا بالآجل، والقليل المُنقطع بالكثير المُتّصل، والحاضر الفائت مُؤذنًا بالغائب الدائم، فتبارك [اللَّه] (¬4) رب العالمين وأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وسبحانه وتعالى عما يظنه به من لم يقْدُرْه حقَّ قدره ممن أنكر أسماءَه وصفاتِه وأَمْرَه ونهيه ووَعْدَه ووعيده، وظن به ظن السوء فأرداهُ ظنُّه فأصبح من الخاسرين. ¬
[من حكمة الله شرع الحدود]
[من حكمة اللَّه شرع الحدود] فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته أن شَرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس [من] (¬1) بعضهم على بعض، في النفوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقَتْل والجرح (¬2) والقذت والسرقة؛ فأحْكم سبحانه وجوهَ الزّجرِ الرادعةِ عن هذه الجنايات غايةَ الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمنة لمصلحة الرح والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه (¬3) الجاني من الرح؛ فلم يشرع في الكذب قَطعَ اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السّرقةِ إعدام النفس. وإنما شرع لهم في ذلك ما هو موجب أسمائِه وصفاتِه من حكمتِه ورحمتِه ولُطفه وإحسانه وعدله لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقنع (¬4) كلُّ إنسان بما آتاه مالكُه وخالقه؛ فلا يطمع في استلاب غير (¬5) حقه. [تفاوتت الجنايات فتفاوتت العقوبات] ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك. ومن المعلوم أن النظرةَ المحرَّمةَ لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب؛ ولا سرقة اللقمة والفلس بسرقة المال الخطير العظيم، فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بدٌّ من تفاوت مراتب العقوبات، وكان من المعلوم أن الناس لو وُكلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كل عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا ووصفًا وقدرًا لذهبت بهم الآراءُ كُلَّ مَذْهَب، وتشعبت بهم الطُّرق كل شعب (¬6)، ولعَظُمَ الخلاف (¬7) واشتد الخَطْب، فكفاهم أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين مؤنةَ ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولى بحكمته وعلمه ورحمته تقديرَه نوعًا وقدرًا، ورتَب على كل جناية ما يناسبها من العقوبة ويليق بها ¬
[القتل وموجبه]
من النّكال، ثم بلغ من سعة جوده ورحمته أن جعل تلك العقوبات كفارات لأهلها، وطُهْرة تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة؛ فرحمهم بهذه العقوبات أنواعًا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرة على ستة أصول: قتْل، وقطْع، وجلْد، ونفْي، وتغريم مال، وتعزير (¬1). [القتل وموجبه] فأما القتل فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس؛ فكانت عقوبته من جنسه (¬2)، وكالجناية على الدِّين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجناية أولى بالقتل وكَفِّ عدوان الجاني [عليه] (¬3) من كل عقوبة؛ إذ بقاؤه بين أظهر عباده مفسدة لهم، ولا خير يُرجى (¬4) في بقائِه ولا مصلحة؛ فإذا حَبسَ شَرَّه [وأمسكَ] (¬5) لسانَه وكفَّ أذاه والتزم الذُّلَّ والصغار وجريان أحكام اللَّه ورسوله عليه وأداء الجزية لم يكن في بقائه بين أظهر المسلمين ضررٌ عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين، وجعله أيضًا عقوبة الجناية، على الفروج المحرمة؛ لما فيها من المفاسد العظيمة واختلاط الأنساب والفساد العام (¬6). [القطع وموجبه] وأما القطع فجعله عقوبة مثله عدلًا، وعقوبة السارق؛ فكانت عقوبته به أبلغ وأردع من عقوبته بالجلد، ولم تبلغ جنايته حد العقوبة بالقتل؛ فكانت (¬7) أليقَ العقوباتِ به إبانةُ العضو الذي جعله وسيلةً إلى أذى الناس، وأَخْذِ أموالهم، ولما كان ضررُ المُحاربِ أشدَّ من ضرر السارق وعدوانه أعظم ضَمّ إلى قطع يده قطع رجله؛ ليكف عدوانه، وشر يده التي يبطش بها، ورجله التي يسعى (¬8) بها، وشرع أن يكون ذلك من خلاف لئلا يُفوِّت عليه منفعة الشق بكماله، فكف ضرره وعدوانه، ورحمه بأن أبقى له يدًا من شق ورجلًا من شق (¬9). ¬
[الجلد وموجبه]
[الجلد وموجبه] وأما الجلد فجعله عقوبةَ الجنايةِ على الأَعراض، وعلى العقول، وعلى الأبضاع، ولم تبلغ هذه الجنايات مبلغًا يوجب القتل ولا إبانة الطرف (¬1)، إلا الجناية على الأبضاع فإن مفسدتَها قد انتهضت سببًا لأشنع القتلات، ولكن عارضها في البكر شدة الداعي وعدم العوض (¬2)، فانتهض ذلك المعارض سببًا لإسقاط القتل، ولم يكن الجلد وحده كافيًا في الزجر فغُلِّظ بالنفي والتغريب؛ ليذوق من ألم الغربة ومفارقة الوطن ومجانبة الأهل والخُلطاء ما يزجره عن المعاودة؛ وأما الجناية على العقول بالسكر فكانت مفسدتُها لا تتعدّى السكران غالبًا، ولهذا لم يُحرَّم السُّكر في أول الإسلام كما (¬3) حرمت الفواحش والظلم والعدوان في كل ملة وعلى لسان كل نبي، وكانت عقوبة هذه الجناية غير مقدرة من الشارع، بل ضرب فيها بالأيدي والنِّعال وأطراف الثياب والجريد، وضرب فيها أربعين (¬4)، فلما استخف الناس بأمرها وتتابعوا في ارتكابها غلَّظها الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- الذي أُمِرْنا بابتاع سنته، وسنته من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فجعلها ثمانين بالسوط (¬5)، ونَفَى فيها، وحَلَق الرَّأس (¬6)، وهذا كله من فقه السنة؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بقتل الشارب في المرة الرابعة (¬7)، ولم يَنْسَخ ¬
فصل [تغريم المال وموجبه]
ذلك، ولم يجعله حدًا لا بد منه؛ فهو عقوبة ترجع إلى اجتهاد الإمام في المصلحة، فزيادة أربعين والنفي والحلق أسهل من القتل (¬1). فصل [تغريم المال وموجبه] وأما تغريم المال -وهو العقوبة المالية- فشرعها في مواضع: منها تحريقُ متاعِ الغالِّ من الغنيمة (2)، ومنها حرمان سهمه (2)، ومنها إضعافُ الغرم على سارق الثمار المعلقة (2)، ومنها إضعافه على كاتم الضَّالةِ المُلْتَقطة (¬2)، ومنها أخذُ شَطْر مال مانع الزكاة (¬3)، ومنها عزمه -صلى اللَّه عليه وسلم- على تحريق دور من لا يُصلي في الجماعة (¬4) لولا ما منعه من إنفاذِ ما عَزمَ عليه من كَوْنِ الذرية والنساء فيها فتتعدى العقوبة إلى ¬
[التغريم نوعان: مضبوط، وغير مضبوط]
غير الجاني، وذلك لا يجوز كما لا يجوز عقوبة الحامل، ومنها عقوبة من أساء على الأمير في الغزو بحرمان سلب القتيل لمن قَتَله (¬1)، حيث شفع (¬2) فيه هذا المسيء، وأمر الأمير بإعطائه، فحرم المشفوع له عقوبة للشافع الآمر. [التغريم نوعان: مضبوط، وغير مضبوط] وهذا الجنس من العقوبات نوعان: نوع مضبوط، ونوع غير مضبوط؛ فالمضبوط ما قابل المتلَف إما لحق اللَّه سبحانه كإتلاف الصيد في الإحرام أو لحق الآدمي كإتلاف ماله، وقد نَبَّه اللَّه سبحانه على أن تضمين الصيد متضمن للعقوبة بقوله: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] ومنه مقابلة الجاني بنقيض قصده من الحرمان، كعقوبة القاتل لمورِّثه بحرمان ميراثه، وعقوبة المدبَّر (¬3) إذا قتل سيده ببطلان تدبيره، وعقوبة المُوصى له ببطلان وصيته، ومن هذا الباب عقوبة الزوجة الناشز (¬4) بسقوط نفقتها وكسوتها. وأما النوع الثاني غير المُقدَّر فهو الذي (¬5) يدخله اجتهاد الأئمة بحسب المصالح، ولذلك لم تأت الشريعة فيه بأمر عام، وقدر لا يزاد فيه ولا ينقص كالحدود، ولهذا اختلف الفقهاء فيه: هل حكمه منسوخ أو ثابت؟ والصواب أنه يختلف باختلاف المصالح، ويُرجع فيه إلى اجتهاد الأئمة في كل زمان ومكان بحسب المصلحة؛ إذ لا دليل على النسخ، وقد فعله الخلفاء الراشدون ومن بعدهم من الأئمة (¬6). [التعزير ومواضعه] وأما التعزير ففي كل معصية لا حد فيها ولا كفارة (¬7)؛ فإن المعاصي ثلاثة ¬
أنواع: نوعٌ فيه الحد ولا كفارة فيه، ونوع فيه الكفارة ولا حد فيه، ونوع لا حد فيه ولا كفارة؛ فالأول كالسرقة والشرب والزنا والقذف، والثاني كالوطء في نهار رمضان والوطء في الإحرام، والثالث كوطء الأمة المُشتركة بينه وبين غيره وقُبْلة الأجنبية والخلوة بها ودخول الحمام بغير مئزر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، ونحو ذلك؛ فأما النوع الأول فالحدُّ فيه مغنٍ عن التعزير، وأما [النوع] (1) الثاني فهل يجبُ فيه مع الكفارة تعزيرٌ أم لا؟ على قولين، وهما في مذهب أحمد، وأما [النوع] (¬1) الئالث ففيه التعزير قولًا واحدًا، لكن هل هو كالحد فلا يجوز للإمام تركه، أو هو راجع إلى اجتهاد الإمام في إقامته وتركه كما يرجع إلى اجتهاده في قدره؟ على قولين للعلماء، والثاني (¬2) قول الشافعي، والأول قول الجمهور (¬3). وما كان من المعاصي مُحرَّمُ الجنس كالظلم والفواحش فإن الشارع لم يشرع له كفارة (¬4)، ولهذا لا كفارة في الزنا وشرب الخمر وقذْف المحصنات والسرقة، وطرد هذا أنه لا كفارة في قتل العمد ولا في اليمين الغموس كما يقوله أحمد (¬5) وأبو حنيفة (¬6) ومن وافقهما، وليس ذلك تخفيفًا عن مرتكبهما، بل لأن الكفارة لا تعمل في هذا الجنس من المعاصي، وانما عملها [فيها] (¬7) فيما كان مباحًا في الأصل وحُرِّم لعارض كالوطء في الصيام والإحرام، وطرد هذا وهو الصحيح وجوب الكفارة في وطء الحائض، وهو موجب القياس لو لم تأت الشريعة به، فكيف وقد جاءت به مرفوعة وموقوفة (¬8)؟ وعكس هذا الوطء في الدبر ولا كفارة ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فيه، ولا يصح قياسه على الوطء في الحيض؛ لأن هذا الجنس لم يُبَح قط، ولا تعمل فيه الكفارة، ولو وجبت فيه [الكفارة لوجبت في] (¬1) الزِّنا واللواط بطريق الأَوْلى: قاعدة الشارع في الكفارات، وهي في غاية المطابقة للحكمة والمصلحة. ¬
فصل [من حكمة الله اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة]
فصل [من حكمة اللَّه اشتراط الحجة لإيقاع العقوبة] وكان من تمام حكمته ورحمته أن لم يأخذ الجُناة بغير حُجَّة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال، وهو أبلغُ وأصدقُ من إقرار اللسان، فإن من قامت عليه شواهدُ الحال بالجناية كرائحةِ الخمر وقيْئها وحَبَل مَنْ لا زوجَ لها ولا سيّد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممَّن قامت عليه شهادةُ إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب، وهذا متفق عليه بين الصحابة (¬1) وإن نازع فيه بعض الفقهاء، وإما أن تكون الحجة مِنْ خارج عنهم وهي البيِّنةُ، واشتُرط فيها العدالة وعدم التهمة؛ فلا أحسن في العقول والفطر في ذلك، ولو طُلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة (¬2). [السر في أن العقوبات لم يطرد جعلها من جنس الذنوب] فإن قيل: كيف تدَّعون أن هذه العقوبات لاصقةٌ بالعقول وموافقة للمصالح، وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر باللَّه أفظع، ولا أقبح من سفْك الدماء، فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه؟ وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة؟ ثم لو كان ذلك مستحسنًا لكان أولى أن يُحرَّق ثوب من حَرَق (¬3) ثوب غيره، وأن يُذبح حيوان من ذبح حيوان غيره، وأن يُخرَّب دار من خرب دار غيره، وأن يجوز لمن شَتمَ أن يشتم شاتمه، وما الفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه؟ وإذا كان إراقة الدم الأقل (¬4) مفسدة وقطع الطرف كذلك، فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقَطْع الطرف الثاني؟ وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها؟ ولو كانت المفسدةُ الأولى تزولُ بهذه المفسدة ¬
[الثانية] لكان فيه ما فيه؛ إذ كيف تزال (¬1) مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه؟ فكيف والأولى لا سبيل إلى إزالتها؟ وتقرير (¬2) ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها، ثم كيف حَسُن أن يُعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة، ولم يحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا، ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به (¬3) القذف، ولا المزوِّر على الإمام والمسلمين بقطع أنامله التي اكتسب (¬4) بها التزوير، ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب (¬5) بها الحرام؟ فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسًا وقدرًا وسببًا ليس بقياس، وإنما هو محض المشيئة، وللَّه التصرف في خلقه، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فالجواب -وباللَّه التوفيق والتأييد- من طريقين: مُجْمَلٍ، ومفصل: أما المُجمل فهو أَنَّ مَنْ شرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسًا وقدرًا فهو عالم الغيب والشهادة، وأحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، ومن أحاط بكل شيء علمًا، وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف [كان] (¬6) يكون، وأحاط علمُه بوجوه المصالحِ دقيقِها وجليلِها وخفيِّها وظاهرها، ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم، وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك، فهذا في خلقه وذاك في أمره، ومصدرهما جميعًا عن كمال عِلْمه وحكمته ووضعه كلَّ شيء في مَوْضِعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إيَّاه، كما وَضعَ قوةَ البصر والنور للباصر في العين، وقوة السمع في الأذن، وقوة الشم في الأنف، وقوة النطق في اللسان والشفتين، وقوة البطش في اليد، وقوة المشي في الرجل، وخص كُلَّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يُعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره، فشَملَ إتقانُه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]. وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلأن ¬
[ردع المفسدين مستحسن في العقول]
يكون أمره على غاية من الإتقان (¬1) والإحكام أولى وأحرى، ومن لم يعرف ذلك مفصلًا لم يسعه أن ينكره مجملًا، ولا يكون جهلُه بحكمة اللَّه في خَلْقه وأَمره وإتقانِه كذلك وصدوره عن مَحضِ الجلم والحكمة مسوِّغًا له إنكاره (¬2) في نفس الأمر. وسبحان اللَّه ما أعظم ظُلمَ الإنسان وجهله! فإنه لو اعترض على أيِّ صاحب صناعةٍ كانت مما (¬3) تقصرُ عنها معرفتُه وإدراكُه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعتُه من الأسبابِ والآلاتِ والأفعالِ والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك على الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يَسخر منه، ويهزأ به، وعَجبَ من سخف عقله وقلة معرفته. هذا مع تهيئته لمشاركته له (¬4) في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها، هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غيرُ مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل، بل ذلك عنده عتيدٌ حاضر، ثم لا يسعه إلا التسليم له، والاعتراف بحكمته، وإقراره بجهله، [وعجزه] (¬5) عما وصل إليه من ذلك، فهلَّا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كُلَّ شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة؟ وقد كان هذا الوجه وحده كافيًا في دفع كُلِّ شُبْهة وجواب كل سؤال، وهذا غير الطريق التي سلكها نُفاة الحِكَمِ والتعليل، ولكن مع هذا فنتصدَّى للجواب المفصّل، بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة، فنقول وباللَّه التوفيق: [ردع المفسدين مستحسن في العقول] أما قوله: "كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه و [إن] (¬6) ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة" سؤال في غاية الوهْن والفساد، وأول ما يقال لسائله: هل ترى ردْع المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكفِّ عُدوانهم مستحْسنًا في العقول موافقًا لمصالح العباد أو لا تراه كذلك؟ ¬
[التسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة]
فإن قال: "لا أراه كذلك" كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفةِ جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم، ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضَهم بعضًا، وفسد نظامُ العَالَم، وصارت حال الدوابِّ والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم. وإن قال [قائل] (¬1): "بل لا تتم المصلحة إلا بذلك". قيل له: من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتمُّ إلا بمُؤلمٍ يردعُهم ويجعل الجاني نكالًا وعظةً لمن يريد أن يفعل مثل فعله، وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة. [التسوية في العقوبات مع اختلاف الجرائم لا تليق بالحكمة] ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن، بل منافٍ للحكمة والمصلحة؛ فإنه إن ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر، وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة؛ إذ لا يليق أن يُقتل بالنظرة والقُبْلة (¬2) ويُقطع بسرقة الحبة والدينار، وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيحٌ في الفِطرِ والعقول، وكلاهما تأباه حكمةُ الرب تعالى وعَدلُه وأحسانُه إلى خلقه، فأوقع العقوبةَ (¬3) تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدِّين أو الجناية التي ضَرَرها عام؛ فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة، والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]. [حكمة القصاص] فلولا القصاص لفسد العَالَم، وأهلك (¬4) الناسُ بعضَهَم بعضًا ابتداءً واستيفاءً، فكأن في القصاص دفعًا لمفسدة التجرِّي على الدماء بالجناية وبالاستيفاء، وقد قالت العرب في جَاهليَّتِها: "القتلُ أَنْفى للقتل"، وسفك الدماء يحقِنُ الدماء (¬5)؛ فلم ¬
تُغسل النجاسةُ بالنجاسة، بل الجناية نجاسة والقصاص طُهْرة، وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفعُ له في عاجلته وآجلته، والموتُ به أسرع الموتات، وأوحاها (¬1) وأقلها ألمًا، [فموته به مصلحة له] (¬2) ولأولياء القتيل ولعموم الناس، وجرى ذلك مَجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي، فإنه حَسَن، وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان؛ فالمصالحُ المترتبةُ على ذبحه أَضعافُ أضعافِ مفسدة إتلافه (¬3)، ثم هذا السؤال الفاسد يظهر فساده وبطلانه بالموت الذي [حتّمه] (¬4) اللَّه على عباده وساوى فيه بين جميعهم، ولولاه لما هنأ العيش، ولا وسعتهم الأرزاق، ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطُّرقات، وفي مفارقة البغيض من اللَّذة والرَّاحة ما في مواصلة الحبيب، والموت مُخلِّص للحي، والموت (¬5) مريح لكل منهما من صاحبه، ومخرج (6) من دار الابتلاء والامتحان وباب (¬6) للدخول في دار الحيوان (¬7). جزى اللَّه عنا الموت خيرًا فإنه ... أبرُّ بنا مِنْ كُلِّ بِرٍّ وألطفُ (¬8) يُعَجِّل تخليصَ النفوس من الأذى ... ويُدْني إلى الدَّارِ التي هي أشرفُ فكم للَّه سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمة لا تُحصى، فكيف إذا كان فيه طُهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني، وتشفٍّ للمظلوم (¬9)، وعدلٍ بين القاتل والمقتول؛ فسبحان من تنزهَت شريعتُه عن خِلَاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الظالمة (¬10) الجائرة. وأما قوله: "لو كان ذلك مستحسنًا في العقول لاستُحسنَ في تَحريقِ ثوبه وتخريبِ داره وذبحِ حيوانه بمقابلته (¬11) بمثله". ¬
[مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شريعة الظالمين]
[مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال شريعة الظالمين] فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفعُ بتغريمه نظيرَ ما أتلفه عليه؛ فإن المِثْل يسدُّ مسدَّ المثل (¬1) من كل وجه؛ فتصير المقابلة مفسدة محضه (¬2)، كما ليس له أن يقتلَ ابنَه أو غلامَه [مقابلة لقتله هو ابنه او غلامه] (¬3)، فإن هذا شَرْعُ الظالمين المعتدين الذي تُنزَّه عنه شريعةُ أحكم الحاكمين، على أن للمقابلة في إتلاف المال [بمثل فعله] (¬4) مساغًا في الاجتهاد، وقد ذهب إليه بعضُ أهل العلم كما تقدم الإشارة إليه في عقوبة الكُفّارِ بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا، أو [كان] (3) يغِيظهم، وهذا بخلاف قَتْل عبدِه إذا قَتَلَ عَبدَه، [أو عَقْر فرسه إذا عُقر فرسه] (¬5)، فإن ذلك ظلم لغير مستحق، ولكن السنة اقتضت التضمين بالمثل، لا إتلاف النظير، كما غَرَّم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناءً بدله، وقال: "إناء بإناء" (¬6) ولا ريب أن هذا أقل فسادًا، [وأصلح للجهتين] (¬7)؛ لأن المُتْلَفَ مالُه إذا أَخذ نظيره صار كمن لم يفت عليه شيءٌ، وانتفع بما أَخذه عوض ماله، فإذا مكنَّاه من إتلافه كان زيادة في إضاعة المال، وما يُراد من التَّشفي، وإذاقة الجاني ألم الإتلاف فحاصل بالغرم غالبًا، ولا التفات إلى الصور النادرة التي لا يتضرر الجاني فيها بالغُرم، ولا شك أن هذا أليق بالعقل، وأبلغ في الصلاح، وأوفق للحكمة، وأيضًا فإنه لو شُرعَ القصاصُ في الأموال ردعًا للجاني لبقي جانب المجني عليه غير مراعى، بل يبقى متألمًا موتورًا غير مجبور، والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا. فإن قيل: فخيِّروا المجني عليه بين أن يُغرِّم الجاني أو يتلف عليه نظير ما أتلفه هو، كما خيَّرتموه في الجناية على طرفه، وخيرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية. ¬
[حكمة تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض]
[حكمة تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض] قيل: لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس، وإنما هو زيادة فساد، لا مصلحة فيه بمجرد التشفي، ويكفي تغريمه (¬1) وتعزيره في التشفي، والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر؛ فإن الجنايةَ على النفوس والأعضاء تُدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه ما لا (¬2) تُدخله جناية المال ويدخل عليهم من الغضاضةِ والعار واحتمال الضيم والحمية والتحزق (¬3) لأخذ الثأر ما لا يَجْبره المال أبدًا، حتى إن أولادهم وأعقابهم ليعيَّرون بذلك، ولأولياء القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه (¬4) وأوليائه ما ليس لمن حرق (¬5) ثوبه أو عُقرت (¬6) فرسه، والمجني عليه موتور عليه (¬7) هو وأولياؤه، [فإن لم يُوتر الجاني وأولياؤه ويَجْرعوا] (¬8) من الألم والغَيْظ ما يجرعه الأول لم يكن عدلًا (¬9). وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درْك ثأره وشفاء غيظه، كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية [من الإبل] (¬10): وإنَّ الذي أصبحتُم تخلبونه ... دمًا غير أنَّ اللون ليس بأشقرا وقال جرير (¬11) يُعيِّر من أخذ الدية فاشترى بها نخلًا: ألا أبْلِغْ بني حُجر بن وهب ... بأنَّ التَّمرَ حلوٌ في الشِّتاءِ وقال آخر: إذا صُبَّ ما في الوطْب (¬12) فاعلمْ بأنَّه ... دمُ الشيخ فاشْرَب من دم الشَّيخ أو دَعِ ¬
فصل [ليس من الحكمة إتلاف كل عضو وقعت به معصية]
وقال آخر (¬1): خليلان مختلفٌ شكْلُنا (¬2) ... أريد العلاء ويَبغي السمن أريدُ دماءَ بني مالك ... ورأْيُ المعلَّى (¬3) بياضُ اللبن وهذا وإن كانت الشريعة قد أبطلته وجاءت بما هو خير منه وأصلح في المعاش والمعاد من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفِّي وبين أخذ الدية فإن القصد به أن العرب لم تكن تعيّر من أخذ بدل ماله، ولم تَعدّه ضَعْفًا ولا عجزًا ألبتة، بخلاف من أخذ بدل دم وليه، فما سوَّى اللَّه بين الأمرين في طَبْع ولا عَقْل ولا شَرْع، والإنسان قد يَخْرِقُ (¬4) ثوبه عند الغيظ، ويذبح ماشيته، ويتلف ماله، فلا يلحقه في ذلك من المشقة والغيظ والازدراء به (¬5) ما يلحق من قَتلَ نفسه أو جدع أنفه أو قلع عينه. فصل [ليس من الحكمة إتلاف كل عضو وقعت به معصية] وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة (¬6)، وليس في حكمة اللَّه ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يُتلفَ على كل جانٍ كل عضو عَصاهُ به، فيشرع قَلْعَ عين من نظر إلى مُحرَّم (¬7) وقطع أذن من استمع إليه، ولسان من تكلم به، ويد من لطم غيره عُدْوانًا، ولا خفاء بما في هذا من الإسرافِ والتَّجاوزِ في العقوبة وقلب مراتبها؛ وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأبى ذلك، وليس مقصود الحد (¬8) مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا، ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط، وإنما المقصودُ الزجرُ والنَّكالُ والعقوبة على الجريمة، وأن يكون إلى كفِّ عدوانه أقرب، وأن يعتبر به غيره، وأن يُحدِثَ له ما يذوقه من الألم توبةً نصوحًا، وأن ¬
[الحكمة في حد السرقة]
يذكره ذلك بعقوبة الآخرة، إلى غير ذلك من الحكم والمصالح. [الحكمة في حد السرقة] ثم إن في حدِّ السرقة معنًى آخر، وهو أن السرقة إنما تقع من فاعلها سرًا كما يقتضيه اسمها، ولهذا يقولون: "فلان ينظرُ إلى فلانٍ مُسارقة" إذا كان ينظر إليه نظرًا خفيًا لا يريد أن يفطنَ له، والعازمُ على السرقة مختفٍ كاتمٌ خائفٌ أن يشعر بمكانه فيؤخذ [به] (¬1)، ثم هو مستعد للهرب والخلاص بنفسه إذا أخذ الشيء، واليدان للإنسان كالجناحين للطائر في إعانته على الطيران، ولهذا يقال: "وصلْتُ جَنَاحَ فلان" إذا رأيتَه يسير منفردًا فانضمصت إليه لتصحَبه، فعُوقب السارقُ بقطع اليد قصًا لجناحه، وتسهيلًا لأخذه إن عاود السرقة، فإذا فُعل به هذا [في] (4) أول مرة بقي مقصوصَ أحدِ الجناحين [ضعيفًا في العَدْو] (¬2)، ثم يقطع في الثانية رجله فيزداد ضعفًا في عَدْوه، فلا يكاد يفوت الطالب، ثم تقطع يده الأخرى في الثالثة ورِجْله الأخرى في الرابعة، فيبقى لحمًا على وضَمٍ، فيستريح ويريح. [الحكمة في حد الزنا وتنويعه] وأما الزاني فإنه يزني بجميع بدنه، والتَّلذذ بقضاءِ شهوتِه يعمُّ البَدَن، والغالب من فعله وقوعه برضا المزني بها، فهو غير خائف ما يخافه السارق من الطلب، فعوقب بما يعم بدنه من الجَلْدِ مرةً والقتل بالحجارة مرة؛ ولما كان الزنا من أُمَّهاتِ الجرائم وكبائر المعاصي لما فيه من اختلاط الأنساب الذي يبطل معه التعارف والتناصر على إحياء الدين، وفي هذا هلاكُ الحرث والنسل فشَاكلَ في معانيه أو في أكثرها القتلَ الذي فيه هلاك ذلك، فزُجرَ عنه بالقصاص ليرتدعَ [به] (¬3) عن مثل فعله من يهمُّ به، فيعود ذلك بعمارة الدنيا وصلاح العالم المُوصل إلى إقامة العباداتِ الموصلةِ إلى نعيم الآخرة. ثم إن للزاني حالتين، إحداهما: أن يكون محصنًا قد تزوج، فعلم ما يقع به [من] (¬4) العفاف عن الفروج المُحرَّمة، واستغنى به عنها، وأحرز نفسه عن التعرض لحد الزنا (¬5)، فزال عذرُه من جميع الوجوه في تخطي ذلك إلى مواقعة الحرام. ¬
[إتلاف النفس عقوبة أفظع أنواع الجرائم]
والثانية: أن يكون بِكْرًا، لم يعلم ما عَلِمه المُحْصَن ولا عمل ما عمله؛ فحَصلَ له من العذر بعض ما أوجب له التخفيف؛ فحُقن دمه، وزُجر بإيلام جميع بدنه بأعلى أنواع الجلد ردعًا [عن] (¬1) المعاودة للاستمتاع بالحرام، وبعثًا له على القنع (¬2) بما رزقه اللَّه من الحلال، وهذا في غاية الحكمة والمصلحة، جامع للتخفيف في موضعه والتغليظ في موضعه، وأين هذا من قطع لسان الشاتم والقاذف وما فيه من الإسراف والعُدوان؟. ثم إن قطعَ فَرجَ الزاني فيه من تعطيل النسل [وقطعه] (¬3) عكس مقصود الرب تعالى من تكثير الذرية وذريتهم فيما جعل لهم من أزواجهم، وفيه من المفاسد أضعاف ما يُتوهم فيه من مصلحة الزجر، وفيه إخلاءُ جميع البدن من العقوبة، وقد حصلت جريمة الزنا بجميع أجزائه؛ فكان من العدل أن تعمه العقوبة، ثم إنه غير [متصور في حق المرأة] (¬4)، وكلاهما زان؛ فلابد أن يستويا في العقوبة، فكان شرع اللَّه سبحانه أكمل من اقتراح المقترحين (¬5). [إتلاف النفس عقوبة أفظع أنواع الجرائم] وتأمل كيف جاء إتلاف النفوس في مقابلة أكبر الكبائر وأعظمها ضررًا وأشدها فسادًا للعالم، وهي الكفرُ الأصلي والطارئُ، والقتل، وزنى المحصن، وإذا تأمل العاقل فساد الوجود رآه من هذه الجهات الثلاث، وهذه هي الثلاث التي أجاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن مسعود بها حيث قال له: "يا رسول اللَّه، أي الذنبِ أعظم؟ قال: أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك. قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: أن تقتلَ ولدك خشية أن يَطْعمَ معك. قال: قلت: ثم أيُّ؟ قال: أن تزاني بحليلة جارك" فأنزل اللَّه -عز وجل- تصديقَ ذلك: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] الآية (¬6). ¬
[ترتيب الحد تبعا لترتيب الجرائم]
[ترتيب الحد تبعًا لترتيب الجرائم] ثم لما كان سرقة الأموال تلي ذلك في الضرر وهو دونه جعل عقوبته قطع الطرف، ثم لما كان القذف دون سرقة المال في المفْسدة جعل عقوبته دون ذلك وهو الجلد (¬1)، ثم لما كان شرب المسكر أقل مفسدة من ذلك جعل حده دون حد [هذه] الجنايات كلها، ثم لما كانت مفاسد الجرائم بعد متفاوتةً (¬2) غير منضبطة في الشدة والضعف والقلة والكثرة -وهي ما بين النظرة والخلوة والمعانقة- جعلت عقوباتها راجعة إلى اجتهاد الأئمة وولاة الأمور، بحسب المصلحة في كل زمان ومكان، وبحسب أرباب الجرائم في أنفسهم، فمن سوّى بين الناسِ في ذلك وبين الأزمنة والأمكنة والأحوال لم يفقه حكمةَ الشرع، واختلفَت عليه أقوال الصحابة وسيرة الخلفاء الراشدين وكثير [من] (¬3) النصوص، ورأى عمر قد زاد في حد الخَمرِ على أربعين (¬4) والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما جلد أربعين (¬5)، وعزر بأمور لم يعزر بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وأَنفذَ على الناس أشياء عفا عنها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)، فيَظن ذلك تعارضًا وتناقضًا، وإنما أتي من قصور علمه وفهمه، وباللَّه التوفيق. فصل [سوّى اللَّه بين العبد والحر في أحكام وفرق بينهما في أخرى] وأما قوله: "وجعل حد الرقيق على النصف من حد الحر، وحاجتهما إلى الزجر واحدة" فلا ريب أن الشارع فَرَّق بين الحر والعبد في أحكام وسوى بينهما في أحكام؛ فسوى بينهما في الإيمان والإسلام ووجوب العبادات الثلاثة (¬8) كالطهارة والصلاة و [الصوم لاستوائهما في سببهما، وفرَّق بينهما في العبادات المالية] (¬9) كالحج والزكاة والتكفير بالمال؛ لافتراقهما في سببهما، وأما الحدود فلما كان وقوعُ المعصية من الحر أَقبحَ من وقوعها من العبد من جهة كمال ¬
نعمة اللَّه تعالى عليه بالحرِّية، وأن جعله مالكًا لا مملوكًا، ولم يَجْعله تحت قَهْر غيره وتصرفه فيه، ومن جهة تمكنه بأسباب القدرة من الاستغناء عن المعصية بما عَوض اللَّه عنها من المباحات، فقابل النعمة التامة بضدها، واستعمل القدرة في المعصية، فاستحقَّ من العقوبة أكثر مما يستحقه من هو أخفضُ منه (¬1) رتبةً وأنقص منزلة؛ فإن الرجل كلما كانت نعمةُ اللَّه عليه أتم كانت عقوبته إذا ارتكب الجرائم أتم؛ ولهذا قال تعالى في حق من أتم نعمته عليهن من النساء: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ [وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ] (¬2) وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)} [الأحزاب: 30، 31] وهذا على وفق قضايا العقول ومستحسناتها؛ فإن العبدَ كلما كمُلت نعمة اللَّه عليه ينبغي له أن تكونَ طاعتُه له أكمل، وشكره له أتم، ومعصيته له أقبح، وشدة العقوبة تابعة لقبح المعصية؛ ولهذا كان أشد الناس عذابًا يوم القيامة عالمًا لم ينفعه اللَّه بعلمه (¬3)، فإن نعمة اللَّه عليه بالعلم أعظم من نعمته على الجاهل، وصدورُ المعصية منه أقبحُ من صدورها من الجاهل، ولا يستوي عند الملوك والرؤساء مَنْ عصاهم من خواصِّهم وحشمهم ومن هو قريبٌ منهم ومن عصاهم من الأطراف والبعداء؛ فجعل حد العبد أخف من حد الحر، جمعًا بين حكمة الزجر وحكمة نقصه، ولهذا كان على النصف منه في النكاح والطلاق والعدة، إظهارًا لشرف الحرية وخطرها، وإعطاءَ كل (¬4) مرتبة حقها من [الأمر كما أعطاها حقها من] (¬5) القدر، ولا تنتقض هذه الحكمة بإعطاء العبد في الآخرة أجرين (¬6)، بل هذا محض الحكمة؛ فإن العبد كان عليه في الدنيا حَقَّان: حق للَّه وحق لسيده فأعطي بإزاء قيامه بكل حق أجرًا، فاتفقت حكمة الشرع والقَدَر والجَزاء، والحمد للَّه رب العالمين. ¬
فصل [حكمة شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها]
فصل [حكمة شرع اللعان في حق الزوجة دون غيرها] وأما قوله: "وجعل للقاذف إسقاط الحد باللعان في الزوجة دون الأجنبية وكلاهما قد ألحق بها (¬1) العار" فهذا من أعظم محاسن الشريعة؛ فإن قاذف الأجنبية مستغنٍ عن قذفها، لا حاجة له إليه ألبتة؛ فإنَّ زناها لا يضره شيئًا، ولا يُفسد عليه فراشه، ولا يُعلق عليه أولادًا من غيره، فقذفُها (¬2) عدوانٌ محض، وأذًى لمحصنةٍ غافلةٍ مؤمنةٍ، فترتب عليه الحدّ؛ زجرًا له وعقوبةً، وأما الزوجة فإنه يلحقه بزناها من العارِ والمَسبَّة وإفساد الفراش وإلحاق ولد غيره به، وانصراف قلبها عنه إلى غيره؛ فهو محتاجٌ إلى قذفها، ونفي النسب الفاسد عنه، وتخلصه من المسبة والعار؛ لكونه زوج بغي فاجرة، فلا (¬3) يمكن إقامة البينة على زناها في الغالب، وهي لا تقرُّ به، وقول الزوج عليها غير مقبول؛ فلم يبق سوى تحالفهما بأغلظ الأيمان، وتأكيدها بدعائه على نفسه باللعنة ودعائها على نفسها بالغضب إن كانا كاذِبَيْن، ثم ينفسخ (¬4) النكاح بينهما؛ إذ لا يمكن أحدهما أن يصفو للآخر أبدًا؛ فهذا أحسنُ حكم يُفصل به بينهما في الدنيا، وليس بعده أعدل منه، ولا أحكم، ولا أصلح، ولو جمعت عقول العالمين لم يهتدوا إليه، فتبارك من أبان (¬5) ربوبيتَه ووحدانيته وحكمته وعلمه في شرعه وخلقه. فصل [الحكمة في تخصيص المسافر بالرخص] وأما قوله: "وجَوز للمسافر المُترفِّه في سفره رخصة الفطر والقصْر، دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة"، فلا ريبَ أن الفِطْرَ والقصر يختص بالمسافر، ولا يُفطر المقيم إلا لمرض، وهذا من كمال حكمة الشارع؛ فإن السفر في نفسه قطعة من العَذَاب (¬6)، وهو في نفسه مشقةٌ وجهد، [ولو كان المسافر من ¬
فصل [الفرق بين نذر الطاعة والحلف بها]
أرْفَه الناس فإنه في مشقة وجهد] (¬1) بحسبه، فكان من رحمة اللَّه بعباده وبِرِّه بهم أن خفَّف عنهم شطر الصلاة واكتفى منهم بالشَّطْر، وخفف عنهم أداء فرض الصوم في السفر، واكتفى منهم بأدائِه في الحَضَر، كما شرع مثل ذلك في حق المريض والحائض، فلم يُفوِّت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملة، ولم يلزمهم بها في السفر كإلزامهم في الحضر. وأما الإقامة فلا موجب لإسقاط بعضِ الواجب فيها ولا تأخِيره، وما يعرضُ فيها من المشقة والشغل فأمرٌ لا ينضبط ولا يَنْحَصر؛ فلو جوَّز (¬2) لكل مشغول وكل مشقوق عليه الترخُّص ضاعَ الواجبُ واضمحل بالكلية، وإن جوز للبعض دون البعض لم ينضبط؛ فإنه لا وصف يضبط ما تجوز معه الرخصة وما لا تجوز، بخلاف السَّفر، على أن المشقة قد عُلِّق بها من التخفيف ما يناسبها، فإن كانت مشقةَ مرضٍ وألم يضر به جاز معها الفطر والصلاة قاعدًا أو على جنب، وذلك نظير قصر العدد (¬3)، وإن كانت مشقةَ تعب فمصالح الدنيا والآخرة منوطة بالتعب، ولا راحةَ لمن لا تعبَ له، بل على قدر التعب تكون الراحة، فتناسبت الشريعة في أحكامها ومصالحها بحمد اللَّه ومنه. فصل [الفرق بين نذر الطاعة والحلف بها] وأما قوله: "وأوجبَ على مَنْ نذر للَّه طاعة الوفاء بها، وَجوَّز لمن حلف عليها أن يتركها ويكفر يمينه، وكلاهما قد التزم فعلها [للَّه] (1) " فهذا السؤال يورد على وجهين: أحدهما: أن يحلف ليفعلنَّها نحو أن يقول: واللَّه لأصومنَّ الاثنين والخميس ولأَتصدقنَّ، كما يقول: للَّه عليَّ أن أفعل ذلك. والثاني: أن يحلف بها كما يقول: إن كَلَّمتُ فلانا فلله عليَّ صومُ سنة وصدقة ألف. [الالتزام بالطاعة أربعة أقسام] فإن ورد على الوجه الأول فجوابه أن الملتزمَ الطاعةِ للَّه لا يخرج التزامُه للَّه عن أربعة أقسام: ¬
أحدها: التزامٌ بيمينٍ مجرَّدة. الثاني: التزامٌ بنذر مجرد. الثالث: التزام بيمين مؤكدة بنذر. الرابع: التزام بنذر مؤكد بيمين. فالأول نحو قوله: "واللَّهِ لأتصدقنَّ"، والثاني نحو: "للَّه علي أن أتصدقَ"، والثالث نحو: "واللَّه إن شَفَى اللَّه مريضي فعليَّ (¬1) صدقة كذا"، والرابع نحو: "إنْ شفى اللَّه مريضي فواللَّه لأتصدقن" وهذا كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] فهذا نذر مؤكد بيمين، ولئن لم يقل فيه: "فعليّ"؛ إذ ليس ذلك من شرط النذر، بل إذا قال: إن سلمني اللَّه تصدَّقتُ، أو لأَتصدقنَّ، فهو وعد وعده اللَّه فعليه أن يفي به، وإلا دخل في قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] فوعدُ العبدِ رَبَّه نذرٌ يجب عليه أن يفيَ له به؛ فإنه جعله جزاءً وشكرًا له على نعمته عليه، فجرى مجرى عقود المعاوضات لا عقود التبرعات، وهو أولى باللزوم من أن يقول ابتداء: "للَّه علي كذا"؛ فإن هذا التزام منه لنفسه أن يفعلَ ذلك، والأول تعليقٌ بشرط وقد وُجِدَ، فيجب فعل المشروط عنده؛ لالتزامه له بوعده، فإن الالتزام تارةً يكون بصريح الإيجاب، وتارة يكون بالوعد، وتارة يكون بالشروع كشروعه في الجهاد والحج والعمرة، والالتزام بالوعد آكد من الالتزام بالشروع، وآكد من الالتزام بصريح الإيجاب؛ فإن اللَّه سبحانه ذَمَّ من خالف ما التزمه له بالوعد، وعاقبه بالنفاق في قلبه، ومدح من وَفَّى بما نذره له، وأمر بإتمام ما شَرعَ فيه له من الحج والعمرة، فجاء الالتزام بالوعد آكَدَ الأقسام الثلاثة، وإخلافه يُعْقِبُ النفاق في القلب، وأما إذا حلف يمينًا مجردةً ليفعلنَّ كذا فهذا حضٌّ منه لنفسه، وحثٌّ على فعله باليمين، وليس إيجابًا عليها، فإن اليمين لا تُوجب شيئًا (¬2) ولا تُحرمه، ولكن الحالف عَقدَ اليمين باللَّه ليفعلنَّه، فأباح اللَّه سبحانه له حَلَّ ما عقده بالكفارة، ولهذا سَمَّاها اللَّه تَحِلَّة؛ فإنها تَحلُّ عقد اليمين، وليست رافعة لإثم الحنث كما يتوهَمه بعضُ الفقهاء؛ فإنَّ الحنث قد يكون واجبًا، وقد يكون مستحبًا، فيؤمر به أمر إيجاب أو استحباب، وإن كان ¬
[الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب]
مباحًا، فالشارع لم يُبح (¬1) سببَ الإثم، وإنما شرعها اللَّه حلا لعقد اليمين كما شرع [اللَّه] (¬2) الاستثناءَ مانعًا من عقدها؛ فظهر الفرق بين ما التزمه للَّه وبين ما التزم باللَّه؛ فالأول ليس فيه إلا الوفاء، والثاني يُخَيرُ فيه بين الوفاء وبين الكفارة حيث يسوغ ذلك، وسِرُّ هذا أن ما التزم له آكد مما التزم به، فإنّ الأوَل متعلق بإلاهيَّته، والثاني بربوبيته؛ فالأول من أحكام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] والثاني من أحكام: {إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] وإياك نعبد قِسْمُ اللَّه من هاتين الكلمتين، وإياك نستعين قسم العبد كما في الحديث الصحيح الإلهي: "هذه بيني وبين عَبْدي نصفين" (¬3) وبهذا يخرجُ الجواب عن إيراد هذا السؤال على الوجه الثاني، وأن (¬4) ما نَذَره للَّه من هذه الطاعات يجبُ الوفاء به، وما أخرجه مخرج اليمين يُخيَّر بين الوفاء به وبين التكفير؛ لأن الأول متعلق بإلاهيَّته، والثاني بربوبيته، فوجب الوفاء بالقسم الأول، ويُخير الحالف في القسم الثاني، وهذا من أسرار الشريعة، وكمالها وعظمتها (¬5). ويزيد ذلك وضوحًا أن الحالف بالتزام هذه الواجبات قصدُه ألا تكون، ولكراهته للزومها له حلف بها (¬6)، فقصده ألا يكون الشرطُ فيها ولا الجزاءُ، ولذلك يُسمى نذر اللّجاجِ والغَضَب، فلم يُلزمه الشارع به إذا كان غير مريد له ولا مُتقرِّب به إلى اللَّه، فلم يعقده للَّه، وإنما عقده به، فهو يمينٌ محضة، فإلحاقُه بنذر القربة إلحاقٌ له بغير شَبَهِه، وقطع له عن الإلحاق بنظيره، وعُذر من ألحقه بنذر القربة شبهه به في اللفظ والصورة، ولكن المُلْحِقون له باليمين أفقه وأرعى لجانب المعاني، وقد اتفق الناس على أنه لو قال: "إن فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني" فحنث أنه لا يَكْفُر بذلك [إن قصد اليمين] (¬7)؛ لأن قَصْد اليمين منع من الكفر (¬8). [الحلف بالطلاق والعتاق كنذر اللجاج والغضب] وبهذا وغيره احتج شيخ الإسلام ابن تيمية (¬9) على أن الحلف بالطلاق ¬
فصل [الحكمة في التفرقة بين الضبع وغيره من ذي الناب]
والعتاق كنذر اللجاج والغضب، وكالحلف بقوله: "إنْ فعلت كذا فأنا يهودي أو نصراني" وحكاه إجماع الصحابة في العتق، وحكاه غيره إجماعًا لهم في الحلف بالطلاق على أنه لا يلزم. قال: لأنه قد صَحَّ عن علي بن أبي طالب (¬1) ولا يُعرف له في الصحابة مخالف، ذكره ابن بَزيزة في "شرح أحكام عبد الحق الإشبيلي" (¬2)، فاجتهد خصومه في الرد عليه بكل ممكن، وكان حاصل ما ردوا به [قوله] (3) أربعة أشياء: أحدها -وهو عمدة القوم- أنه خلاف مرسوم السلطان، [و] (¬3) الثاني: أنه خلاف الأئمة الأربعة، والثالث: أنه خلاف القياس على الشرط والجزاء المقصودين كقوله: "إن أبرأتني فأنتِ طالق" ففعلَتْ (¬4)، والرابع: أن العمل قد استمر على خلاف هذا القول، فلا يلتفت إليه، فنقَضَ حُجَجَهم وأقام نحوًا من ثلاثين دليلًا على صحة هذا القول، وصنَّف في المسألة قريبًا من ألف ورقة، ثم مضى لسبيله راجيًا من اللَّه أجرًا أو أجرين، وهو ومنازعوه يوم القيامة عند ربهم يختصمون. فصل [الحكمة في التفرقة بين الضبع وغيره من ذي الناب] [وأما قولهم] (¬5): "وحَرم كل ذي ناب من السباع وأباح الضبع (¬6) ولها ناب" فلا ريب أنه حرم كل ذي ناب من السباع، وإن كان بعض العلماء خفي عليه تحريمه فقال بمبلغ علمه، وأما الضبع فروي [عنه] (¬7) فيها حديث صححه كثير من ¬
أهل العلم [بالحديث] (¬1) فذهبوا إليه وجعلوه مخصصًا لعموم أحاديث التحريم، كما خصت العرايا لأحاديث المزابنة (¬2) وطائفة لم تصححه وحرّموا الضبع لأنها من جملة ذات الأنياب، وقالوا: وقد تواترت الآثار عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، وصحت صحةً لا مطعن فيها من حديث علي، وابن عباس، وأبي هريرة، وأبي ثعلبة الخُشني (¬3). ¬
[الرد على حديث إباحة أكل الضبع]
[الرد على حديث إباحة أكل الضبع] قالوا: وأما حديث الضبع (¬1) فتفرد به عبد الرحمن بن أبي عمار (¬2)، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب كلها تخالفه. قالوا: ولفظ الحديث يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جابر رفع الأكل (¬3) إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأن يكون إنما رفع إليه كونها صيدًا فقط، ولا يلزم من كونها صيدًا جواز أكلها، فظن جابر أن كونها صيدًا يدل على أكلها، فأفتى به من قوله ورفع إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ما سمعه من كونها صيدًا. ونحن نذكر لفظ الحديث ليتبين ما ذكرناه، فروى الترمذي في "جامعه" من حديث [عبد اللَّه بن] (¬4) عُبيد بن عُمير الليثي، عن عبد الرحمن بن أبي عمار (2) قال: قلت لجابر بن عبد اللَّه: آكُلُ الضبع؟ قال: نعم، قلت: أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت: أسمعت ذلك من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: نعم (¬5). قال الترمذي: سألت ¬
محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: هو صحيح. فهذا (¬1) يحتمل أن المرفوع منه هو كونها صيدا، ويدل على ذلك أن جرير بن حازم قال: عن [عبد اللَّه بن] (¬2) عبيد بن عمير، عن ابن أبي عمار (¬3)، عن جابر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سُئل عن الضبع فقال: "هي صيد، وفيها كَبْش" (¬4) قالوا: وكذلك حديث إبراهيم الصائغ، عن عطاء، عن جابر يرفعه: "الضبع صيد، فإذا أصابه المحرم ففيه جزاء كبش مُسِن ويؤكل" (¬5)، قال الحاكم: حديث صحيح، وقوله: "ويؤكل" يحتمل الوقف والرفع، وإذا احتمل ذلك لم تُعارض به الأحاديث الصحيحة الصريحة التي تبلغ مبلغ التواتر في التحريم. قالوا: ولو كان حديث جابر صريحًا في الإباحة لكان فردًا، وأحاديث تحريم ذوات الأنياب مستفيضة متعددة ادَّعى الطحاويُّ (¬6) وغيره (¬7) تواترها، فلا يقدم حديث جابر عليها. قالوا: والضبع من أخبث الحيوان وأشرهه (¬8)، وهو مُغْرًى (¬9) بأكل لحوم الناس ونَبْش قبور الأموات وإخراجهم وأكلهم، وأكل الجيف، ويكسر بنابه (¬10). ¬
[رأي الذين صححوا الحديث]
قالوا: واللَّه سبحانه قد حرم علينا الخبائث، وحَرَّم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذوات الأنياب (¬1)، والضبع لا يخرج عن هذا وهذا (¬2). [وقالوا: وغاية حديث] (¬3) جابر يدل على أنها صيد يُفدَى في الإحرام، ولا يلزم من ذلك أكلها، وقد قال بكر بن محمد: سُئل أبو عبد اللَّه -يعني الإمام أحمد- عن محرم قتل ثعلبًا فقال: عليه الجزاء، هي صيد، ولكن لا يؤكل. وقال جعفر بن محمد: سمعت أبا عبد اللَّه سُئل عن الثعلب، فقال: الثعلب سبع. فقد نص على أنه سبع وأنه يُفْدى في الإحرام، ولمَّا جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الضبع كبشًا، ظن جابر أنه يُؤكل فأفتى به. [رأي الذين صححوا الحديث] والذين صَحَّحوا الحديث جعلوه مخصصًا لعموم تحريم [ذي الناب من غير فرق بينهما، حتى قالوا: ويحرم أكل] (¬4) كل ذي ناب من السباع [إلا الضبع] (4)، وهذا لا يقع مثله في الشريعة أن يخصص مثلًا على مثل من كل وجه من غير فرقان بينهما. وبحمد اللَّه إلى ساعتي هذه ما رأيت في الشريعة مسألة واحدة كذلك، أعني شريعة التنزيل لا شريعة التأويل. ومن تأمل ألفاظه -صلى اللَّه عليه وسلم- الكريمة تبين له اندفاع هذا السؤال؛ فإنه إنما حَرَّم ما اشتمل على الوصفين: أن يكون له ناب، وأن يكون من السباع العادِيَة بطبعها كالأسد والذئب والنمر والفهد. وأما الضبع فإنما فيه أحدُ الوصفين، وهو كونها ذات ناب، وليست من السباع العادية. ولا ريب أن السِّباع أخص من ذوات الأنياب، والسبع إنما حرم لما فيه من القوة السبعية التي تورث المغتذي بها شبهها؛ فإن الغَاذِي شبيهٌ بالمغتذي، ولا ريب أن القوة السبعية التي في الذئب والأسد والنمر والفهد ليست في الضبع حتى تجب (¬5) التسوية بينهما في ¬
فصل [سر تخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده]
التحريم، ولا يعد الضبع من السباع لغة ولا عرفًا (¬1)، واللَّه أعلم. فصل [سر تخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده] وأما قوله "وجعل شهادة خزيمة بن ثابت بشهادتين (¬2) دون غيره ممن هو أفضل منه" فلا ريب أن هذا من خصائصه، ولو شهد عنده -صلى اللَّه عليه وسلم- أو عند غيره لكان بمنزلة شاهدين اثنين (¬3)، وهذا التخصيص إنما كان لمخصِّص اقتضاه، وهو مبادرته دون من حَضَر (¬4) من الصحابة إلى الشهادة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قد بايعَ الأعرابيّ، وكان فرْضٌ على كل من سمع هذه القصة أن يشهدَ أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد بايع الأعرابي، وذلك من لوازمِ الإيمان والشهادة بتصديقه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهذا مستقر عند كل مسلم، ولكن خزيمة تفطَّن لدخول هذه القضية المعينة تحت عموم الشهادة لصدقه (¬5) في كل ما يُخبر به؛ فلا فرق بين ما يخبر به عن اللَّه وبين ما يخبر به عن غيره في صدقه في هذا وهذا، ولا يتم الإيمان إلا بتصديقه في هذا وهذا؛ فلما تفطّن خُزيمة دون من حضر لذلك استحق أن تُجعل شهادته بشهادتين. فصل [سر تخصيص أبي بردة بإجزاء تضحيته بعناق] وأما تخصيصه أبا بُردة بن نيَار بإجزاء التضحية بالعناق دون من بعده (¬6) فلموجب أيضًا، وهو أنه ذبح قبل الصلاة متأولًا غير عالمٍ بعدم الإجزاء، فلما أخبره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تلك ليست تجزئ (¬7) وإنما هي شاة لحم أراد إعادة الأضحية، فلم (¬8) يكن عنده إلا عناق هي أحب إليه من شاتَيْ لحم؛ فرخص له في التضحية بها (¬9)؛ لكونه معذورًا وقد تقدم منه ذبحٌ تأوَّلَ فيه، وكان معذورًا بتأويله، وذلك كله قبل [استقرار] (¬10) الحكم، فلما استقر الحكم لم يكن بعد ذلك يجزئ إلا ما وافق الشرع المستقر، وباللَّه التوفيق. ¬
فصل [سر التفرقة في الوصف بين صلاة الليل وصلاة النهار]
فصل [سر التفرقة في الوصف بين صلاة الليل وصلاة النهار] وأما التفريق بين صلاة الليل وصلاة النهار في الجهر والإسرار ففي غاية المناسبة والحكمة؛ فإن الليل مظنة هدوِّ الأصوات وسكون الحركات وفراغ القلوب واجتماع (¬1) الهمم المـ[ـشتتة بالنهار] (¬2)، فالنهار محل السبح الطويل بالقلب والبدن، والليل محل مواطأة القلب للسان ومُواطأة اللسان للأذن؛ ولهذا كانت السنة تطويل قراءة الفجر على سائر الصلوات (¬3)، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقرأ فيها بالستين إلى المائة (¬4). وكان الصِّدِّيقُ يقرأ فيها بالبقرة (¬5)، وعُمر بالنحلِ وهود وبني إسرائيل ويونس ¬
فصل [السر في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام وإن قربوا]
ونحوها من السور (¬1)؛ لأن القلب أفْرغُ ما يكون من الشواغل حين انتباهه من النوم، فإذا كان أول ما يقْرع سمعه كلام اللَّه الذي فيه الخير كله بحذافيره صادفه خاليًا من الشواغل فتمكَّن فيه من غير مزاحم؛ وأما النهار فلما كان بضد ذلك كانت قراءة صلاته سرًا (¬2) إلا إذا عارض في ذلك معارض أرجح منه؛ كالمجَامع العِظام في العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف؛ فإن الجهر حينئذ أحسن وأبلغ في تحصيل المقصود، وأنفع للجمع، وفيه من قراءة كلام اللَّه [عليهم] (¬3) وتبليغه في المجامع العِظام ما هو من أعظم مقاصد الرسالة، واللَّه أعلم. فصل [السر في تقديم العصبة البعداء على ذوي الأرحام وإن قربوا] وأما قوله: "وورَّث ابنَ ابن العم وإن بعُدت درجته دون الخالة التي هي شقيقة للأم" فنعم، وهذا من كمال الشريعة وجلالتها؛ فإنَّ ابنَ العم من عصبته القائمين بنصرته وموالاته والذَّبِّ عنه وحمل العقل عنه، فبنُو أبيه هم أولياؤه ¬
فصل [الفرق بين الشفعة وأخذ مال الغير]
وعصبته والمحامون دونه، وأما (¬1) قرابة الأم فإنهم بمنزلة الأجانب، وإنما ينتسبون (¬2) إلى آبائهم، فهم بمنزلة أقارب البنات كما قال القائل (¬3): بنُونا بنُو أبنائِنا، وبناتُنا ... بنوهُنّ أبناءُ الرجال الأباعِدِ فمن كمال حكمة الشارع أن جعل الميراث لأقارب الأب، وقدَّمهم على أقارب الأم، وإنما ورث معهم من أقارب الأم مَنْ ركضَ الميت معهم في بطن الأم، وهم إخوته (¬4) أو من قربت قرابته جدًا وهن (¬5) جداته لقوة إيلادهن وقرب أولادهن (¬6) منه؛ فإذا عدمت قرابة الأب انتقل الميراث إلى قرابة الأم، وكانوا أولى من الأجانب فهذا الذي جاءت به الشريعة [أكملُ شيء] (¬7) وأعْدلُه وأحسنُه. فصل [الفرق بين الشفعة وأخذ مال الغير] وأما قوله: "وحرم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه، ثم سَلَّطه على أَخْذِ عقاره وأرضه بالشُّفعة، ثم شرع الشفعة فيما يمكن التَّخلص من ضرر الشركة فيه بالقسمة دون ما لا يمكن قسمته كالجوهرة والحيوان" فهذا السؤال قد أورده على وجهين: أحدهما: على أصل الشُّفعة وأن الاستحقاق بها منافٍ لتحريم أخذ مال الغير إلا بطيب نفس منه. والثاني: أنه خَصَّ بعض المبيع بالشفعة دون بعض مع قيام السبب الموجب للشفعة، وهو ضرر الشركة. ونحن بحمد اللَّه وعونه نجيب عن الأمرين؛ فنقول: [ورود الشرع بالشفعة دليل على الحكمة] من محاسن الشريعة وعدلها وقيامها بمصالح العباد ورودها بالشفعة (¬8)، ولا ¬
يليق بها غير ذلك؛ فإن حكمة الشارع اقتضت رفع الضرر (¬1) عن المكلفين ما أمكن، فإن لم يمكن رفعه إلا بضرر أعظم منه بقّاه (¬2) على حاله، وإن أمكن رفعه بالتزام ضرر دونه رفعه به، ولما كانت الشركة منشأ الضرر في الغالب فإن الخُلَطاءَ يكثر (¬3) فيهم بَغي بعضهم على بعض شرع اللَّه سبحانه رفع هذا الضرر: بالقسمة تارة وانفراد كل من الشريكين بنصيبه، وبالشفعة تارة وانفراد أحد الشريكين بالجملة إذا لم يكن على الآخر ضرر في ذلك؛ فإذا أراد بيع نصيبه وأخذ عوضه كان شريكه أحق به من الأجنبي، وهو يصل إلى غرضه من العوض من أيهما كان؛ فكان الشريك أحقّ بدفع العوض من الأجنبي، فيزول (¬4) عنه ضرر الشركة، ولا يتضرر البائع لأنه يصل إلى حقه من الثمن، وكان هذا من أعظم العدل وأحسن الأحكام المطابقة للعقول والفِطر ومصالح العباد، ومن هنا يعلم أن التحيّل لإسقاط الشفعة مناقضٌ لهذا المعنى الذي قصده الشارع ومضاد له. ثم اختلفت أفهام العلماء في الضرر الذي قصد الشارع رفعه بالشفعة. فقالت طائفة: هو الضَّررُ اللاحق بالقسمة؛ لأن كل واحد من الشريكين إذا طالب شريكه بالقسمة كان عليه في ذلك من الكلفة والمؤنة والغرامة والضيق في مرافق المنزل ما هو معلوم؛ فإنه قبل القسمة ربما ارتفق بالدار والأرض كلها وبأي موضع شاء منها، فإذا وقعت الحدود ضاقت به الدار وقصر على موضع منها، وفي ذلك من الضرر عليه ما لا خفاء به، فمكَّنه الشارع بحكمته ورحمته من رفع هذه المضرة عن نفسه؛ بأن يكون أحق بالمبيع من الأجنبي الذي يريد الدخول عليه، وحرم الشارع على الشريك أن يبيع نصيبه حتى يُؤذنَ شريكه، فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به، وإن أذن في البيع وقال: لا غرض لي فيه لم يكن له الطلب بعد البيع؛ هذا مُقتضى حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، ولا معارض له بوجه، وهو الصواب المقطوع به، وهذه طريقة من يرى أنه لا شفعة إلا فيما يقبل القسمة. وقالت طائفة أخرى: إنما شُرعت الشفعة لرفع الضرر اللاحق بالشركة؛ فإذا كانا شريكين في عين من الأعيان بإرثٍ أو هبةٍ أو وصيةٍ أو ابتياع أو نحو ذلك لم يكن رفع ضرر أحدهما بأولى من رفع ضرر الآخر؛ فإذا باع نصيبه كان شريكه ¬
[فيم تكون الشفعة]
أحق به من الأجنبي؛ إذ في ذلك إزالة ضرره مع عدم تضرر صاحبه، فإنه يصل إليه حقه من ذلك الثمن (¬1)، ويصل هذا إلى استبداده بالبيع (¬2)، فيزول الضرر عنهما جميعًا، وهذا مذهب من يرى الشفعة في الحيوان والثياب والشجر والجواهر والدور الصغار التي لا يمكن قسمتها، وهذا قول أهل مكة وأهل الظاهر، ونصَّ عليه الإمام أحمد في "رواية حنبل"، قال: قيل لأحمد: فالحيوان دابة تكون بين رجلين أو حمار أو ما كان (¬3) من نحو ذلك، قال: هذا كله أوْكدُ؛ لأن خليط الشريك أحق به بالثمن (¬4)، وهذا لا يمكن قسمته؛ فإذا عرضه على شريكه وإلا باعه بعد ذلك (¬5). [فيم تكون الشفعة] وقال إسماعيل بن سعيد: سألت أحمد عن الرجل يَعرضُ على شريكه عقارًا بينه وبينه أو نخلًا، فقال الشريك: لا أريد، فباعه، ثم طلب الشفعة بعد، قال: له الشفعة في ذلك. واحتج لهذا القول بحديث جابر [الصحيح] (¬6): "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشُّفعة في كل ما لم يُقسم" (¬7) وهذا يتناول المنقول والعقار، وفي ¬
كتاب "الخراج" عن يحيى بن آدم، عن زهير، عن أبي الزُّبير، عن جابر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كان له شِرْكٌ في نخل أو ربْعة (¬1) فليس له أن يبيع حتى يؤْذن شريكه، فإن رضي أخذ، وإن كره ترك" (¬2)، وهذا الإسناد على شرط مسلم؛ وفي الترمذي من حديث عبد العزيز بن رُفيع، عن ابن أبي مُليكة، عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشريكُ شفيعٌ (¬3)، والشُّفعة في كُلِّ شيء" (¬4) تفرّد به أبو ¬
حمزة السكري عن عبد العزيز بهذا الإسناد، ورواه أبو الأحوص سَلَّام بن سُليم عن عبد العزيز ولم يذكر ابن عباس، ولفظه: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شيء: الأرض والدار والجارية والخادم"، وكذلك رواه أبو بكر بن عَيّاش وإسرائيل بن يونس عن عبد العزيز مرسلًا؛ فهذا علة هذا الحديث، على أن أبا حمزة السكري ثقة احتجّ به صاحبا "الصحيح" (¬1)، وإن قلنا: "الزيادة من الثقة مقبولة" (¬2) فرفع الحديث إذن صحيح، وإلا فغايته أن يكون مرسلًا قد عضدته الآثار المرفوعة والقياس الجلي. وقد روى أبو جعفر الطحاوي: عن محمد بن خُزيمة، عن يوسف (¬3) بن عديِّ، عن عبد اللَّه (¬4) بن إدريس، عن ابن جُريج، عن عطاء، عن جابر قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شيء" (¬5) ورواة هذا الحديث ثقات، وهو غريب بهذا الإسناد. قالوا: ولأن الضررَ بالشركة فيما لا ينقسم أبلغ من الضرر [بالعقار] (¬6) الذي يقبل القسمة؛ فإذا كان الشارع مُريدًا لرفع الضرر الأدنى فالأعلى أولى بالرفع، قالوا: ولو كانت الأحاديثُ مختصةً بالعقار والأرض (¬7) المنقسمة فإثباتُ الشفعة فيها تنبيه على ثبوتها فيما لا يقبل القسمة. ¬
وقال الآخرون: الأصل عدم انتزاع المال من غيره (¬1) إلا برضاه، ولكن تركنا ذلك في [الأرض و] (¬2) العقار لثبوت النص (¬3) فيه، وأما الآثار المتضمنة لثبوتها في المنقول فضعيفة معلولة؛ وقوله في الحديث الصحيح: "فإذا وقعتِ الحدودُ وصُرِفت الطُّرق فلا شفعة" (¬4) يدل على اختصاصها بذلك، وقول جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشفعةُ في كلِّ شِرْك (¬5) في أَرضٍ أو رَبْعٍ أو حائطٍ" (¬6) يقتضي انحصارها في ذلك، قالوا: وقد قال عثمان [بن عفان] (¬7) -رضي اللَّه عنه-: "لا شفعة في بئرٍ ولا فَحْلٍ، والأُرَفُ (¬8) يقطع كلَّ شفعة" (¬9)، والفَحْل: النخل، والأُرَف -بوزن الغُرف-: المعالم والحدود (¬10)، وقال أحمد: ما أصحه من حديث (¬11)! ¬
[رأي المثبتين للشفعة]
قالوا: والفرق بين المنقول وغيره أن الضرر في غير المنقول يتأبّدُ بتأبّده، وفي المنقول لا يتأبد؛ فهو ضرر عارض فهو كالمكيل والموزون. قالوا: والضرر في العقار يكثر جدًا؛ فإنه يحتاج الشريك إلى إحداث المرافق، وتغيير الأبنية، وتضييق الواسع، وتخريب العامر، وسوء الجوار، وغير ذلك مما يختص بالعقار، فأين ضرر الشركة في العبد والجوهرة والسيف من هذا الضرر؟ [رأي المثبتين للشفعة] قال المثبتون للشفعة: إنما كان الأصل عدم انتزاع ملك الإنسان منه إلا برضاه لما فيه من الظلم له والإضرار به، فأما ما لا يتضمن ظلمًا ولا إضرارًا بل مصلحة له بإعطائه الثمن فلشريكه دفع ضرر الشركة عنه؛ فليس الأصل عدمه، بل هو مقتضى أصول الشريعة، فإن أصول الشريعة توجب المعاوضة للحاجة والمصلحة الراجحة، وإن لم يرض صاحب المال، وترْكُ معاوضته هاهنا لشريكه مع كونه قاصدًا للبيع ظلمٌ منه وإضرار بشريكه فلا يمكّنه الشارع منه، بل من تأمل [مصادر] (¬1) الشريعة ومواردها تبين له أن الشارع لا يُمكِّن هذا الشريك من نقل نصيبه إلى غير شريكه وأن يلحق به من الضرر مثل ما كان عليه أو أزيد منه مع أنه لا مصلحة له في ذلك. وأما الآثار (¬2) فقد جاءت بهذا وهذا، ولو قدر عدم صحتها بالشفعة في المنقول فهي لم تنف ذلك، بل نَبهت عليه كما ذكرنا؛ وأما تأبيد (¬3) الضرر وعدمه ففرق فاسد، فإن من المنقول ما يكون تأبيده كتأبيد (¬4) العقار كالجوهرة والسيف والكتاب والبئر، وإن لم يتأبد ضرره مدى الدهر فقد يطول ضرره كالعبد والجارية، ولو بقي ضرره مدة فإن الشارع مريدٌ لدفع الضرر بكل طريق ولو قصرت مدته، وأما تفريقكم بكثرة الضرر في العقار وقلته في المنقول فلعمر اللَّه! إن الضرر في العقار يَكْثرُ من تلك الجهات، ولكن يمكن رفعه بالقسمة، وأما الضرر في المنقول فإنه لا يمكن رفعه بقسمته، على أن هذا مُنتَقِضٌ بالأرض الواسعة التي ليس فيها شيء مما ذكرتم. ¬
فصل [رأي القائلين بشفعة الجوار]
فصل [رأي القائلين بشفعة الجوار] وقالت طائفة ثالثة: بل الضرر الذي قصد الشارع رفعه هو ضرر سوء الجوار والشركة في العقار والأرض؛ فإن الجار قد يسيء الجوار غالبًا أو كثيرًا، فيُعلي الجدارَ، [ويتبع العثار] (¬1)، ويمنع الضوء، ويشرف على العورة، ويطلع على العثرة، ويؤذي جاره بأنواع الأذى، ولا يأمن [جارُهُ] (¬2) بوائقه، وهذا مما يشهد به الواقع. [حق الجار] وأيضًا فإن الجار (¬3) له من الحرمة والحق والذِّمَام ما جعله اللَّه له في كتابه، ووَصَّى به جبريل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غاية الوصية (¬4)، وعَلَّق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الإيمان باللَّه واليوم الآخر بإكرامه (¬5)، وقال الإمام أحمد: الجيرانُ ثلاثةٌ: جارٌ له حق، وهو الذمي الأجنبي له حق الجوار، وجارٌ له حَقَّان، وهو المسلم الأجنبي له حق الجوار وحق الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق، وهو المسلم القريب له حق الجوار وحق الإسلام وحق القرابة؛ ومثل هذا [ولو] (¬6) لم يَرِد في الشريك فأدنى المراتب مساواته به فيما يندفع به الضرر، لاسيما والحكم بالشفعة ثبت في الشركة ¬
[ثبوت الحكم بالشفعة في الشركة وللجار]
لإفضائها إلى ضرر المجاورة فإنهما إذا اقتسما تجاورا (¬1). [ثبوت الحكم بالشفعة في الشركة وللجار] قالوا: ولهذا [السبب] (¬2) اختصت بالعقار دون المنقولات؛ إذ المنقولات لا تتأتَّى فيها المجاورة، فإذا ثبتت في الشركة (¬3) في العقار لإفضائها إلى المجاورة فحقيقة المجاورة أولى بالثبوت فيها. قالوا: وهذا معقول النصوص لو لم يرد بالثبوت فيها، فكيف وقد صَرَّحت بالثبوت فيها أعظم من تصريحها بالثبوت للشريك؟ ففي "صحيح البخاري" من حديث عمرو بن الشريد قال: جاء المسْور بن مَخْرمة فوضع يده على منكبي، فانطلقت معه إلى سعد بن أبي وقاص، فقال أبو رافع: ألا تأمر هذا أن يشتري مني بيتي الذي في داره، فقال: لا أزيده على أربع مئة مُنَجَّمة، فقال: قد أُعطيت خمس مئة نقدًا فمنعته، ولولا أني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الجارُ أحقُّ بصقَبِه" (¬4) ما بعُتك (¬5). وروى عمرو بن الشَّريد أيضًا عن أبيه الشَّريد بن سُويد الثقفي قال: قلت: يا رسول اللَّه أرضٌ ليس لأحد فيها قسم ولا شِرْكٌ إلا الجوار قال: "الجار أحقُّ بسَقَبه" (¬6) أخرجه الترمذيُّ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه، وإسناده صحيح. ¬
وقال البخاري: "وهو أصح من رواية عمرو عن أبي رافع" (¬1) يعني المتقدم، وقال أيضًا: "كلا الحديثين عندي صحيح" (¬2). وعن الحسن عن سمرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جارُ الدار أولى (¬3) بالدار" (¬4) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، انتهى. وقد صح سماع الحسن من سمرة، وغاية هذا أنه كتاب (¬5)، ولم تزل الأمة تعمل بالكتب قديمًا وحديثًا، وأجمع الصحابة على العمل بالكتب، وكذلك الخلفاء بعدهم، وليس اعتماد الناس في العلم إلا على الكتب فإن لم يُعمل بما فيها ¬
تعطّلت الشريعة، وقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكتب كتبه إلى الآفاق والنواحي فيعمل بها من تصل إليه، ولا يقول: هذا كتاب، وكذلك خلفاؤه [من] (¬1) بعده، والناس إلى اليوم؛ فرد السنن بهذا الخيال البارد الفاسد من أبطل الباطل، والحفظ يخون (¬2)، والكتاب لا يخون، وروى قتادة عن أنس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "جار الدار أحق بالدار" (¬3) رواه ابن ماجه من طريق عيسى بن يونس عن سعيد عن ¬
قتادة، وكلهم أئمة ثقات، ورَوى أهل "السنن الأربعة" من حديث ميزان الكوفة عبد الملك بن أبي سُليمان العَرْزمي، عن عطاء، عن جابر بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الجارُ أحق بشفعة جاره، يُنتظرُ بها وإن كان غائبًا، إذا كان طريقُهما واحدًا" (¬1). وهذا حديث صحيح بلا تردد (¬2). ¬
[حديث العرزمي في الشفعة والكلام عليه]
[حديث العرزمي في الشفعة والكلام عليه] فإن قيل: قد قال الترمذي: "تكلَّم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث"، وقال وكيعٌ عنه: لو أن عبد الملك روى حديثًا آخر مثل حديث الشفعة لطرحت حديثه، وكذلك قال يحيى القطان (¬1). وقال أحمد: هو حديث منكر، وقال يحيى بن معين: هو حديث لم يحدث به إلا عبد الملك، فأنكَر الناس عليه، ولكنه ثقة صدوق (¬2). [تصحيح الحديث] فالجواب أن عبد الملك هذا حافظ ثقة صدوق، ولم يتعرض له أحد بجرح ألبتَّة، وأثنى عليه أئمة زمانه وَمنْ بعدهم، وإنما أنكر عليه من أنكر هذا الحديث ظنًا منهم أنه مخالف لرواية الزّهريّ، عن أبي سلمة، عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شفعة (¬3) " ولا يحتمل مخالفة العرزمي (¬4) لمثل الزهري، وقد صح هذا عن جابر من رواية الزهري عن أبي سلمة عنه (¬5)، ومن رواية ابن جُريج عن أبي الزبير عنه (¬6)، ومن حديث يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عنه، فخالفهم العرزمي (4)، ولهذا شهد الأئمة بإنكار حديثه، ولم يُقدّموه على حديث هؤلاء، قال مُهنَّا بن يحيى الشاميّ: سألت أحمد بن حنبل عن حديث عبد الملك هذا، فقال: قد أنكره شعبة، فقلت: لأي شيء أنكره؟ فقال: حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف ما قال عبد الملك عن عطاء عن جابر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وسنبين إن شاء اللَّه أن حديث عبد الملك [عن عطاء] (¬7) عن جابر لا يناقض حديث أبي سلمة عنه، بل مفهومه موافق (¬8) منطوقه، وسائر أحاديث جابر يصدق بعضها بعضًا. ¬
[أحاديث أخرى]
[أحاديث أخرى] وروى جَرير بن عبد الحميد، عن مَنْصور، عن الحَكَم، عن علي وعبد اللَّه قالا: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة للجوار" (¬1) وهذا وإن كان منقطعًا فإن الثوري رواه عن منصور عن الحكم عَمَّن سمع عليًا وعبد اللَّه؛ فهو يصلح للاستشهاد وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد، وفي "سنن ابن ماجه" من حديث شَريك القاضي، عن سِماك، عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من كان له أرض وأراد بيعها فليَعْرضها على جاره" (¬2) ورجال هذا الإسناد محتجٌ بهم في الصحيح، وفي "سنن النسائي" من حديث أبي الزبير، عن جابر قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة للجوار" (¬3) رواه عن الفَضْل بن موسى السِّيناني (¬4)، عن الحُسين بن واقد، عن أبي الزبير، [عن جابر] (¬5)، وهو على شرط مسلم. ¬
وقال شُعيب بن أيوب الصّريفيني (¬1): ثنا أبو أمامة، عن سعيد بن أبي عَروبة: ثنا قتادة، عن سُليمان اليشكري، عن جابر بن عبد اللَّه أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من كان له جار في حائطٍ أو شريكٍ فلا يَبعْهُ حتى يعرضه عليه" (¬2) وهؤلاء ثقات كلهم، وعلة هذا الحديث ما ذكره الترمذي قال: سمعت محمدًا -يعني البخاري- يقول: سُليمان اليشكري يقال: إنه [مات] (¬3) في حياة جابر بن عبد اللَّه، قال: ولم يسمع منه قتادة ولا أبو بِشْر، قال: ويقال: إنما يحدث قتادة عن (¬4) صحيفة سليمان اليَشْكُري، وكان له كتاب عن جابر بن عبد اللَّه. قلت: وغاية هذا أن يكون كتابًا، والأخذ من الكتب حجة. وقال محمد بن عمران بن أبي ليلى، عن أبيه: حدثني ابنُ أبي ليلى -يعني: محمد بن عبد الرحمن-، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "الجار أحق بسقبِهِ ما كان" (¬5). وقال ابن أبي شيبة: ثنا وكيع، عن هشام بن المغيرة الثقفي قال: سمعت ¬
[رد المبطلين لشفعة الجوار]
الشعبي يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "الشَّفيع أَولى من الجار، والجار أولى من الجَنْبِ" (¬2) وإسناده إلى الشعبي صحيح، قالوا: ولأن حق الأصيل وهو الجار أسْبق من حَقِّ الدَّخيل، وكل معنى اقتضى ثبوت الشفعة للشريك فمثله في حق الجار؛ فإن الناس يتفاوتون في الجوار تفاوتًا فاحشًا، ويتأذى بعضهم من بعض (¬3)، ويقع بينهم من العداوة ما هو معهود [بينهم] (¬4) بذلك دائمًا متأبدًا، ولا يندفع ذلك إلا برضاء الجار؛ إن شاء أقرَّ الدخيل (¬5) على جواره [له]، وإن شاء انتزع الملك بثمنه واستراح من مُؤنة المجاورة ومفسدتها. وإذا كان الجار يخاف التأذي بالمجاورة على وجه اللزوم، كان كالشريك يخاف التأذي بشريكه على وجه اللزوم. قالوا: ولا يَرِدُ علينا المستأجر مع المالك؛ فإن منفعة الإجارة لا تتأَبَّد عادة، وأيضًا فالملك بالإجارة ملك منفعة، ولا لزوم بين ملك الجار وبين منفعة دار جاره، بخلاف مسألتنا؛ فإن الضرر بسبب اتصال الملك بالملك كما أنه في الشركة حاصلٌ بسبب اتصال الملك بالملك؛ فوجب بحكم عناية (¬6) الشارع ورعايته لمصالح العباد إزالة الضررين جميعًا على وجه لا يضر البائع، وقد أمكن هاهنا، فيبعد القول به، فهذا تقريرُ قولِ هؤلاء نصًا وقياسًا. [رد المبطلين لشفعة الجوار] قال المبطلون لشفعة الجوار (¬7): لا تُضرب سُنَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعضها ¬
ببعض؛ فقد ثبت في "صحيح البخاري" من حديث الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: "إنما جَعل رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الشُّفعةَ في كل ما لم يُقْسم، فإذا وقَعتِ الحدودُ وصُرفِت الطُّرقُ فلا شفعة" (¬1)، وفي "صحيح مسلم" من حديث أبي الزبير عن جابر قال: "قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة في كل شركة لم تقسم رَبْعة أو حائطٍ، ولا يحل له أن يبيع حتى يُؤذنَ شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باع ولم يُؤْذنه فهو أحق [به] " (¬2)، قال الشافعي: ثنا سعيد بن سالم (¬3): ثنا ابن جُرَيْج، عن أبي الزُّبير، عن جابر، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الشفعة فيما لم يُقسم، فإذا وَقعتِ الحدودُ فلا شُفعةَ" (¬4)، [وفي "سنن أبي داود" بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا قسمت الأرض وحُدَّت فلا شفعة فيها"] (¬5) وفي "الموطأ" من حديث ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي ¬
هريرة قال: "قَضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالشفعة فيما لم يُقسم، فإذا صُرِفَت الطرق ووَقَعتِ الحدودُ فلا شفعةَ" (¬1)، وقال سعيد بن منصور: ثنا إسماعيل بن زكريا، ¬
عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن عون (¬1) بن عبد اللَّه، عن عبيد اللَّه [بن عبد اللَّه] عن (¬2) عمر بن الخطاب قال: "إذا صُرفت الحدود وعرف الناس حُدودَهم فلا شفعة بينهم" (¬3). ¬
[الفرق بين الشريك والجار]
وقال أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عثمان بن عفان: "إذا وقعت الحدود في الأرض فلا شفعة فيها" (¬1)، وهذا قول ابن العباس (¬2). قالوا: ولا ريب أن الضرر اللاحق بالشركة هو ما توجبه من التزاحم في المرافق والحقوق والإحداث والتغيير والإفضاء إلى التقاسم الموجب لنقص قيمة ملكه عليه. [الفرق بين الشريك والجار] قالوا: وقد فَرَّق اللَّه بين الشريك والجار شرعًا وقدرًا؛ ففي الشركة حقوق لا توجد في الجوار؛ فإن الملك في الشركة مختلط وفي الجوار متميز، ولكل من الشريكين على صاحبه مطالبةٌ شرعية ومنعٌ شرعي؛ أما المطالبة ففي القسمة، وأما المنع فمن التصرف؛ فلما كانت الشركة محلًا للطلب و [محلًا للمنع كانت] (¬3) محلًا للاستحقاق، بخلاف الجوار، فلم يجز إلحاق الجار بالشريك وبينهما هذا الاختلاف! والمعنى الذي وجبت به الشفعة رفع مؤنة المقاسمة، وهي مؤنة كثيرة، والشريك لما باع حصته من غير شريكه فهذا الدخيل قد عَرَّضه لمؤنة (¬4) عظيمة، فمكنه الشارع من التخلص منها بانتزاع الشِّقص (¬5) على وجه لا يضر بالبائع ولا بالمشتري، ولم يمكنه الشارع من الانتزاع قبل البيع؛ لأن شريكه مثله ومُساو له في الدرجة، فلا يستحق عليه شيئا إلا ولصاحبه مثل ذلك الحق عليه، فإذا باع ¬
صار المشتري دخيلًا، والشريكُ أصيل، فرُجِّح جانبه وثبت له الاستحقاق. قالوا: وكما أن الشارع يقصد رفع الضرر عن الجار فهو أيضًا يقصد رفع الضرر عن المشتري، ولا يزيل ضرر الجار بإدخال الضرر على المشتري؛ فإنه محتاج إلى دار يسكنها هو وعياله، فإذا سُلِّط الجار على إخراجه وانتزاع داره منه أضر به إضرارًا بينًا، وأي دار اشتراها وله جار فحاله معه هكذا، وتطلُّبه دارًا لا جار لها كالمتعذر عليه أو كالمتعسر (¬1)؛ فكان من تمام حكمة الشارع أن أسقط الشفعة بوقوع الحدود وتصريف الطرق؛ لئلا يضر الناس بعضهم بعضًا، ويتعذر على من أراد شراء دار لها جار أن يتم له مقصوده، وهذا بخلاف الشريك، فإن المشتري لا يمكنه الانتفاع بالحصة التي اشتراها، والشريك يمكنه ذلك بانضمامها إلى ملكه، فليس على المشتري ضرر في انتزاعها منه وإعطائه ما اشتراها به. قالوا: وحينئذ فتعين (¬2) حمل أحاديث شفعة الجوار على مثل ما دلت عليه أحاديث شفعة الشركة؛ فيكون لفظ [الجار فيها] (¬3) مرادًا به الشريك، ووجه هذا الإطلاق المعنى والاستعمال، أما المعنى فإن كل جزء من ملك الشريك مجاور لملك صاحبه، فهما جاران حقيقة، وأما الاستعمال فإنهما خليطان متجاوران، ولذا سميت الزوجة جارة كما قال الأعشى: أجارتنا بِيني فإنك طالقه (¬4) فتسمية الشريك جارًا أولى وأحرى، وقال حَمَل بن مالك: "كنت بين جارتين لي" (¬5) [ومثل] (¬6) هذا إن لم يحتمل إلا إثبات الشفعة، [فأما إن] (¬7) كان ¬
[القول الوسط في حق الشفعة]
المرادُ بالحق فيها حَقَّ الجار على جاره فلا حجة فيها على إثبات الشفعة، وأيضًا فإنه إنما أثبت له على البائع حق العرض عليه إذا أراد البيع، فأين [ثبوت] (¬1) حق الانتزاع من المشتري؟ ولا يلزم من ثبوت هذا الحق ثبوت حق الانتزاع، فهذا منتهى أقدام الطائفتين في هذه المسألة. [القول الوسط في حق الشفعة] والصواب القول الوسط الجامع بين الأدلة الذي لا تحتمل سواه، وهو قول البصريين وغيرهم من فقهاء الحديث، أنه إن كان بين الجارين حق مشترك من حقوق الأملاك من طريق أو ماء أو نحو ذلك ثبتت الشفعة، وإن لم يكن بينهما حق مشترك ألبتة -بل كان كُلُّ واحد منهما متميزا ملكه وحقوق ملكه- فلا شفعة (¬2)، وهذا الذي نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، فإنه سأله عن الشفعة: لمن هي؟ فقال: إذا كان طريقهما واحدًا، فإذا صُرفت الطرق وعرفت الحدود فلا شفعة، وهو قول عمر بن عبد العزيز (¬3)، وقول القاضيين: سوَّار بن عبد اللَّه (¬4)، وعُبيد اللَّه بن الحسن العنبري (¬5)، وقال أحمد في رواية ابن مشيش: [رأي البصريين] أهل البصرة يقولون: إذا كان الطريق [واحدًا] كان بينهم الشفعة مثل دارنا هذه، على معنى حديث جابر الذي يُحدِّثُه عبد الملك (¬6)، انتهى. ¬
[رأي الكوفيين وأهل المدينة]
[رأي الكوفيين وأهل المدينة] فأهل الكوفة يثبتون شفعة الجوار مع تميز الطرق والحقوق، وأهل المدينة يسقطونها مع الاشتراك في الطريق والحقوق، وأهل البصرة يوافقون أهل المدينة إذا صُرفت الطرق ولم يكن هناك اشتراك في حق من حقوق الأملاك، ويوافقون أهل الكوفة إذا اشترك الجاران في حق من حقوق الأملاك كالطريق وغيرها، وهذا هو الصواب، وهو أعدل الأقوال، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬1). [رأي ابن القيم في حديث العرزمي] وحديث جابر الذي أنكره من أنكره على عبد الملك صريحٌ [فيه] (¬2)، فإنه قال: "الجَارُ أحَقُّ بسقبه يُنتظر به وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا" (¬3) فأثبت الشفعة بالجوار مع اتحاد الطريق، ونفاها به مع اختلاف الطرق بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصُرِفت الطرق فلا شُفعةَ" (¬4) فمفهوم حديث عبد الملك هو بعينه منطوق حديث أبي سلمة، فأحدهما يُصدق الآخر ويوافقه، لا يعارضه ويناقضه، وجابر روى اللفظين؛ فالذي دَلَّ عليه حديث أبي سلمة عنه من إسقاط الشفعة عند تصريف الطرق وتمييز الحدود هو بعينه الذي دل عليه حديث عبد الملك عن عطاء عنه بمفهومه، والذي دل عليه حديث عبد الملك بمنطوقه هو الذي دَلَّت عليه سائر أحاديث جابر بمفهومها، فتوافقت السنن بحمد اللَّه وائتلفت، وزال عنها ما يُظن بها من التعارض، وحديث أبي رافع الذي رواه البخاري (¬5) يدل على مثل ما دل عليه حديث عبد الملك؛ فإنه دل على الأخذ بالجوار حالة الشركة في الطريق، فإن البيتين كانا في نفس دار سعد، والطريق واحد بلا ريب. [القياس الصحيح يؤيد مفهوم حديث العرزمي] والقياس الصحيح يقتضي هذا القول؛ فإن الاشتراك في حقوق الملك شقيق الاشتراك في الملك، والضرر الحاصل بالشركة فيها [نظير الضرر] (¬6) الحاصل ¬
[اعتراض]
بالشركة في الملك أو أقرب إليه، ورفعه مصلحة للشريك من غير مضرة على البائع ولا على المشتري؛ فالمعنى الذي وجبت لأجله شفعة الخلطة في الملك موجود في الخلطة في حقوقه؛ فهذا المذهب أوسط المذاهب، وأجمعها للأدلة، وأقربها إلى العدل، وعليه يحمل الاختلاف عن عمر -رضي اللَّه عنه-؛ فحيث قال: "لا شُفعةَ" ففيما إذا وَقعتِ الحدود وصُرِفت الطرق، وحيث أثبتها ففيما إذا لم تصرف الطرق، فإنه قد روي عنه هذا وهذا (¬1)، وكذلك ما روي عن علي (¬2)، فإنه قال: "إذا حدت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (¬3) وَمن تأمَّل أحاديث شفعة الجوار رآها صريحة في ذلك، وتَبيَّن له بطلان حملها على الشريك وعلى حق الجوار غير الشفعة، وباللَّه التوفيق. [اعتراض] فإن قيل: بقي عليكم أن في حديث جابر وأبي هريرة: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" (¬4) فأسقط الشُّفعةَ بمجرد وقوع الحدود، وعند أرباب هذا القول إذا حصل الاشتراك في الطريق فالشفعة ثابتة، وإن وقعت الحدود، وهذا خلاف الحديث. [الجواب عن الاعتراض] فالجواب من وجهين؛ أحدهما: أن من الرواة من اختصر أحد اللفظين، ومنهم من جَوَّد الحديث فذكرهما، ولا يكون إسقاط مَنْ أسقط أحد اللفظين مبطلًا لحكم اللفظ الآخر. الثاني: أن تَصريفَ الطرق داخل في وقوع الحدود؛ فإن الطريق إذا كانت مشتركة لم تكن الحدود كلها واقعة، بل بعضها حاصل، وبعضها مُنتف، فوقوع الحدود من كل وجه يستلزم أو يتضمن تصريف الطرق، واللَّه أعلم. ¬
فصل [الحكمة في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر]
فصل [الحكمة في الفرق بين بعض الأيام وبعضها الآخر] وأما قوله: "وحَرَّم صوم أول يوم من شوال، وفَرضَ صوم آخر يوم من رمضان مع تساويهما" فالمقدمة الأولى صحيحة، والثانية كاذبة؛ فليس اليومان مُتساويين وإن اشتركا في طلوع الشَّمسِ وغروبها؛ فهذا يومٌ من شهر رمضان الذي فرضه اللَّه على عباده، وهذا يومُ عيدِهم وسرورهم الذي جعله اللَّه تعالى شكران صومهم وإتمامه، فهم فيه أضيافه سبحانه، والجوادُ الكريم يُحب من ضيفه أن يقبل قِرَاه، ويكره أن يمتنعَ من قبول ضيافته بصومٍ أو غيره، ويُكره للضيف أن يصوم إلا بإذن صاحب المنزل؛ فمن أعظم محاسن الشريعة فرض صوم آخر يوم من رمضان فإنه إتمام لما أمر اللَّه به وخاتمة العمل، وتحريم صوم أول يوم من شوال فإنه يوم يكون فيه المسلمون أضياف ربهم تبارك وتعالى، وهم في شكران نعمته عليهم، فأيُّ شيء أبلغ وأحسن من هذا الإيجاب والتحريم؟. فصل [الحكمة في الفرق بين بنت الأخ وبنت العم ونحوها] وأما قوله: "وحَرَّم عليه نكاح بنت أخيه وأخته، وأباح له نكاح بنت أخي أبيه [وبنت] (¬1) أخت أمه، وهما سواء" فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية كاذبة؛ فليستا (¬2) سواء في نفس الأمر، ولا في العُرْفِ، ولا في العُقولِ، ولا في الشريعة، وقد فَرَّق اللَّه سبحانه بين القريب والبعيد شرعًا وقدرًا [وعقلًا] (¬3) وفطرةً، ولو تساوت القرابة لم يكن فرقٌ بين البنت وبنت الخالة (¬4) وبنت العمة، وهذا من أفسد الأمور، والقرابةُ البعيدةُ بمنزلة الأجانب؛ فليس من الحكمة والمصلحة أن تُعطى حكم القرابة القريبة، وهذا مما فطر اللَّه عليه العقلاء، وما خالف شرعه في ذلك فهو إما مجوسية تتضمن التسوية بين البنت والأم وبنات الأعمام والخالات في نكاح الجميع، وإما حرجٌ عظيم على العباد في تحريم نكاح بنات أعمامهم وعماتهم وأخوالهم وخالاتِهم؛ فإن الناس -ولاسيما العرب- أكثرهم بنو عَمٍّ ¬
فصل [حمل العاقلة دية الخطأ]
بعضهم لبعض إما بنوّة عم دانية وإما قاصية، فلو مُنِعوا من ذلك لكان عليهم فيه حرج عظيم وضيق؛ فكان ما جاءت به الشريعة أحسن الأمور وألصقها بالعقول السليمة والفطر المستقيمة، والحمد للَّه رب العالمين. فصل [حمل العاقلة دية الخطأ] وأما قوله: "وحمَّل العاقلة جناية الخطأ على النفوس دون الأموال" فقد تقدم أن هذا من محاسن الشريعة، وذكرنا من الفرق بين الأموال والنفوس ما أغنى عن إعادته. فصل [الحكمة في الفرق بين المستحاضة والحائض] وأما قوله: "وحرم وطء الحائض لأجل الأذى، وأباح وطء المستحاضة مع وجود الأذى، وهما متساويان" فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية فيها إجمال، فإن أريدَ أن أذى الاستحاضة مساوٍ لأذى الحيض كَذبَت المقدمة، وإن أريد أنه نوع آخر من الأذى لم يكن التفريقُ بينهما تفريقًا بين المتساويين، فبطل سؤاله على كلا التقديرين. ومن حكمة الشارع تفريقه بينهما؛ فإنَّ أذى الحيضِ أعَظمُ وأدومُ وأضرُّ من أذى الاستحاضة، ودم الاستحاضة عِرق، وهو في الفرج بمنزلة الرعاف في الأنف، وخروجه مضر، وانقطاعه دليل على الصحة، ودم الحيض عكس ذلك، ولا يستوي الدمان حقيقة ولا عرفًا ولا سببًا ولا حكمًا؛ فمن كمال الشريعة تفريقها بين الدمين في الحكم كما افترقا في الحقيقة، وباللَّه التوفيق. فصل [الحكمة في الفرق بين اتحاد الجنس واختلافه في تحريم الربا] وأما قوله: "وحرم بيع مدِّ حِنطة بمد وحفنة، وجوز بيعه بقفيز (¬1) شعير" فهذا من محاسن الشريعة التي لا يهتدي إليها إلا أولو العقول الوافرة، ونحن نشير إلى ¬
[الربا نوعان: جلي وخفي، والجلي النسيئة]
حكمة ذلك إشارة بحسب عقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة، وشرع الرب تعالى وحكمته فوق عقولنا وعباراتنا، فنقول (¬1): [الربا نوعان: جليّ وخفي، والجلي النسيئة] الربا نوعان: جَلي، وخفي، فالجلي حُرِّم لما فيه من الضرر العظيم، والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي فتحريم الأول قصدًا، وتحريم الثاني وسيلة (¬2)، فأما الجلي فربا النسيئة، وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية، مثل أن يُؤخِّر دينه ويزيده في المال، وكلما أخره زاد في المال، حتى تصير المئة عنده [آلافًا] (¬3) مؤلفة؛ وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدمٌ محتاج؛ فإذا رأى أن المُستحق يُؤخِّر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلَّف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، [وتعظم مصيبته] (¬4)، ويعلوه الدَّيْن حتى يستغرقَ جميع مَوْجوده، فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له، ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه، فيأكل مال أخيه بالباطل، ويحصل أخوه على غاية الضرر، فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حَرَّم الربا، ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه (¬5)، وآذن من لم يَدَعْه بحربه وحرب رسوله، ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره، ولهذا كان من أكبر الكبائر (¬6). وسئل الإمام أحمد عن الربا الذي لا شك فيه فقال: [هو] أن يكون له دين فيقول له: أتقضي أم تربي؟ فإن لم يقضه زاده في المال وزاده هذا في الأجل (¬7) وقد ¬
فصل [ربا الفضل]
جعل اللَّه سبحانه الربا ضد الصدقة، فالمُرابي ضد المُتصدِّق، قال اللَّه تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] وقال: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 130 - 131] ثم ذكر الجنة التي أُعدت [للمتقين الذين] (¬1) ينفقون في السَّراء والضَّرَّاء، [والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس] (¬2) وهؤلاء ضد المرابين، فنهى سبحانه عن الربا الذي هو ظلم للناس، وأمر بالصدقة التي هي إحسان إليهم. وفي "الصحيحين" من حديث ابن عباس، عن أسامة بن زيد أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إنما الرِّبا في النَّسيئة" (¬3) ومثل هذا يراد به حصر الكمال وأن الربا الكامل إنما هو في النسيئة، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2 - 4] وكقول ابن مسعود: "إنما العالم الذي يخشى اللَّه" (¬4). فصل (¬5) [ربا الفضل] وأما [تحريم] (¬6) ربا الفَضْل فتحريمه من باب سد الذرائع، كما صَرَّح به ¬
[الأجناس التي يحرم فيها ربا الفضل وآراء العلماء في ذلك]
[في] (¬1) حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تبيعوا الدِّرهم بالدرهمين؛ فإني أخاف عليكم الرِّمَاء، والرَّماء هو الربا" (¬2)، فمنعهم من ربا الفَضْل لما يخافه عليهم من ربا النسيئة، وذلك أنهم إذا باعوا درهمًا بدرهمين، ولا يُفعل هذا إلا للتفاوت الذي بين النوعين -إما في الجودة، وإما في السكة، وإما في الثقل والخفة، وغير ذلك- تذرعوا (¬3) بالربح المُعجَّل فيها إلى الربح المؤخر، وهو عين ربا النسيئة، وهذه ذريعة قريبة جدًا؛ فمن حكمة الشارع أن سد عليهم هذه الذريعة، ومنعهم من بيع درهم بدرهمين نقدًا ونسيئة؛ فهذه حكمة معقولة مطابقة للعقول، وهي تسد عليهم باب المفسدة. [الأجناس التي يحرم فيها ربا الفضل وآراء العلماء في ذلك] فإذا تبين هذا فنقول: الشارع نص على تحريم ربا الفَضْل في ستة أعيان، وهي: الذَّهب، والفضة، والبر والشعير، والتمر، والملح، فاتفق الناس على تحريم التفاضل فيها مع اتحاد الجنس، وتنازعوا فيما عداها؛ فطائفة قَصَرَت التحريم عليها، وأقدم من يُروى عنه هذا قتادة (¬4)، وهو مذهب أهل الظاهر (¬5)، ¬
واختيار ابن عقيل في آخر مصنفاته (¬1) مع قوله بالقياس، قال: لأن عللَ القياسيين في مسألة الربا عللٌ ضعيفة، وإذا لم تظهر فيه علة امتنع القياس. وطائفة حَرَّمته في كل مكيل وموزون بجنسه، وهذا مذهب عمار (¬2) وأحمد في ظاهر مذهبه (¬3) وأبي حنيفة (¬4)، وطائفة خصته بالطعام وإن لم يكن مكيلًا ولا موزونًا، وهو قول الشافعي (¬5) ورواية (¬6) عن أحمد (¬7)، [وطائفة خصته بالطعام إذا كان مكيلًا أو موزونًا (¬8)، وهو قول سعيد بن المسيب (¬9) ورواية عن أحمد (¬10) وقول ¬
[علة تحريم ربا الفضل في الدراهم والدنانير]
للشافعي] (¬1)، وطائفة خصته بالقوت وما يصلحه، وهو قول مالك (¬2)، وهو أرجح هذه الأقوال كما ستراه. [علة تحريم ربا الفضل في الدراهم والدنانير] وأما الدراهم والدنانير، فقالت طائفة: العلة فيهما كونهما موزونين، وهذا مذهب أحمد (¬3) في إحدى الروايتين عنه ومذهب أبي حنيفة (¬4)، وطائفة قالت: العلة فيهما الثمنية، وهذا قول الشافعي (¬5) ومالك (¬6) وأحمد (¬7) في الرواية الأخرى، وهذا هو الصحيح بل الصواب، فإنهم أجمعوا على جواز إسلافهما (¬8) في الموزونات من النحاس والحديد وغيرهما؛ فلو كان النحاس والحديد ربويين لم يجز بيعهما إلى أجل بدراهم نقدًا؛ فإن ما يجري فيه الربا إذا اختلف جنسه جاز التفاضل فيه دون النَّسَاء، والعلة إذا انتقضت من غير فرق مؤثر دل على بطلانها. [وأيضًا] (¬9) فالتعليلُ بالوزن ليس فيه مناسبة، فهو طَرْدٌ محض، بخلاف التعليل بالثمنية، فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يُعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، ¬
فصل [حكمة تحريم ربا النساء في المطعوم]
وذلك لا يمكن إلا بسعر تُعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تُقوَّم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يُقوم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذوا (¬1) الفلوس سلعة تُعد للربح فعم الضرر وحصل الظلم، ولو جُعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد (¬2) ولا ينقص بل تقوَّم به الأشياء ولا يقوم هو بغيرها (¬3) لصلح أمر الناس، فلو أُبيح ربا الفَضْل في الدراهم والدنانير -مثل أن يَعطي صحاحا ويأخذ مكسَّرة أو خفافًا ويأخذ ثقالًا أكثر منها- لصارت متجرًا، وجر (¬4) ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولابد؛ فالأثمان لا تُقصد لأعيانها، بل يُقصد التوسل (¬5) بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا (¬6) تُقصد لأعيانها فسد أمر الناس، وهذا [قولٌ] (¬7) يختص بالنقود لا يتعدى إلى سائر الموزونات. فصل (¬8) [حكمة تحريم ربا النساء في المطعوم] وأما الأصناف الأربعة المطعومة فحاجة الناس إليها أعظم من حاجتهم إلى غيرها؛ لأنها أقواتُ العَالَم، وما يصلحها؛ فمن رعاية مصالح العباد أن مُنعوا من بيع بعضها ببعض إلى أجل، سواء اتحد الجنس أو اختلف، ومُنِعُوا من بيع بعضها ببعض حالًا متفاضلًا وإن اختلفت صفاتها؛ وجوز لهم التفاضل فيها مع اختلاف أجناسها. وسر ذلك -واللَّه أعلم- أنه لو جوز بيع بعضها ببعض نساء لم يفعل ذلك أحد إلا إذا رَبح، وحينئذ تشحُّ (¬9) نفسُه ببيعها حَالة لطمعه في الربح، فيعز الطعام على المحتاج، ويشتد ضرره. وعامة أهل الأرض ليس عندهم دراهم ولا دنانير، ¬
لا (¬1) سيما أهل العمود والبوادي، وإنما يتناقلون الطعام بالطعام؛ فكان من رحمة الشارع بهم وحكمته أن منعهم من ربا النساء فيها كما منعهم من ربا النساء في الأثمان؛ إذ لو جوَّز لهم النَّساء فيها لدخلها: "إما أن تَقْضي وإما أن تُرْبي" فيصير الصاع الواحد [لو أخذ] (¬2) قُفزانًا كثيرة، ففُطِموا عن النساء، ثم فُطموا عن بيعها متفاضلًا يدًا بيد؛ إذ تجرهم حلاوة الربح وظفر الكسب إلى التجارة فيها نساء وهو عين المفسدة، وهذا بخلاف الجنسين المتباينين؛ فإن حقائقهما وصفاتهما ومقاصدهما (¬3) مختلفة؛ ففي إلزامهم المساواة في بيعها إضرارٌ بهم، ولا يفعلونه، وفي تجويز النساء بينها ذريعة إلى "إما أن تقضي وإما أن تُرْبي" فكان من تمام رعاية مصالحهم أن قصرهم على بيعها يدًا بيد كيف شاءوا، فحصلت لهم مصلحة المناقلة (¬4)، واندفعت عنهم مفسدة "إما أن تقضي وإما أن تُرْبي" وهذا بخلاف ما إذا بيعت بالدراهم أو غيرها من الموزونات نساء فإن الحاجة داعية إلى ذلك، فلو منعوا منه لأَضرَّ بهم، ولامتنع السَّلَم الذي هو من مصالحهم فيما هم محتاجون إليه أكثر من غيره، والشريعة لا تأتي بهذا، وليس بهم حاجة في بيع هذه الأصناف بعضها ببعض نساء وهو ذريعة قريبة إلى مفسدة الربا، فأبيح لهم في جميع ذلك ما تدعو إليه حاجتهم وليس بذريعة إلى مفسدة راجحة [ومنعوا مما لا تدعو الحاجة إليه ويتذرع به غالبًا إلى مفسدة راجحة] (¬5). يوضح ذلك أن من عنده صنف من هذه الأصناف وهو محتاج إلى الصنف الآخر فإنه يحتاج إلى بيعه بالدراهم ليشتري الصنف الآخر، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بع الجَمْع (¬6) بالدَّراهم ثم اشتر بالدراهم جَنيبًا" (¬7) أو يبيعه بذلك الصنف نفسه بما ¬
يساوي (¬1)، وعلى كلا التقديرين يحتاج إلى بيعه حالًا، بخلاف ما لو مُكِّن (¬2) من النساء، فإنه حينئذ يبيعه بفَضْل، ويحتاج أن يشتري الصنف الآخر بفضل؛ لأن صاحب ذلك الصنف يُرْبي عليه كما أربى هو على غيره، فينشأ من النساء تضرر بكل واحد منهما، والنساء هاهنا في صنفين، وفي النوع الأول في صنف واحد، وكلاهما منشأ الضرر والفساد. وإذا تأملت ما حرم فيه النساء رأيته إما صنفًا واحدًا أو صنفين مقصودهما واحد أو متقارب، كالدراهم والدنانير؛ والبر والشعير، والتمر والزبيب، فإذا تباعدت المقاصد لم يحرم النساء كالبر والثياب والحديد والزيت. يوضح ذلك أنه لو مكن من بيع مُدّ حنطة بمدين كان ذلك تجارة حاضرة، فتطلب النفوس التجارة المؤخرة للذة الكسب وحلاوته؛ فمنعوا من ذلك حتى منعوا من التفرق قبل القبض إتماما لهذه الحكمة، ورعاية لهذه المصلحة؛ فإن المتعاقدين قد يتعاقدان على الحلول، والعادة جارية بصَبْر أحدهما على الآخر، وكما يفعل أرباب الحيل: يُطلقون العقد وقد تواطئوا على أمر آخر، كما يطلقون عقد النكاح وقد اتفقوا على التحليل، ويطلقون بيع السلعة إلى أجل وقد اتفقوا على أنه يعيدها إليه بدون ذلك الثمن؛ فلو جوز لهم التفرق قبل القبض لأطلقوا البيع حالًا وأخروا الطلب لأجل الربح، فيقعوا في نفس المحذور. وسر المسألة أنهم مُنعوا من التجارة في الأَثْمان بجنسها؛ لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان، ومنعوا من التجارة في الأقوات بجنسها؛ لأن ذلك يُفسد عليهم مقصود الأقوات، وهذا المعنى بعينه موجود في بيع التبر والعين؛ لأن التبر ليس فيه صنعة (¬3) يقصد لأجلها؛ فهو بمنزلة الدراهم التي قصد الشارع ألا يفاضل بينها، ولهذا قال: "تِبْرُها وعينُها سواء" (¬4) فظهرت حكمةُ تحريم ربا النساء في الجنس ¬
فصل [حكمة إباحة العرايا ونحوها]
والجنسين، وربا الفَضْل في الجنس الواحد، وأن تحريم هذا تحريم المقاصد وتحريم الآخر تحريم الوسائل وسد الذرائع، ولهذا لم يُبَحْ شيءٌ من ربا النسيئة. فصل (¬1) [حكمة إباحة العرايا ونحوها] وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعوا إليه الحاجة كالعرايا (¬2)؛ فإن ما حُرِّم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم المقاصد. وعلى هذا فالمصوغ والحلية إن كانت صياغته (¬3) محرمة كالآنية حرم بيعه بجنسه وغير جنسه، وبيع هذا هو الذي أنكره عبادة على معاوية (¬4)؛ فإنه يتضمن مقابلة الصياغة المحرمة بالأثمان، وهذا لا يجوز كآلات الملاهي. وأما إن كانت الصياغة مباحة كخاتم الفضة وحِلية النِّساء وما أُبيح من حلية السلاح وغيرها، فالعاقل لا يبيع هذه بوزنها من جنسها ¬
فإنه سَفَهٌ وإضاعة للصنعة (¬1). والشارع أحكم من أن يُلْزم الأُمَّة بذلك، فالشريعة لا تأتي به، ولا تأتي بالمنع من بيع ذلك وشرائه لحاجة الناس إلى ذلك (¬2)؛ فلم يبق إلا أن يُقال: لا يجوز بيعها بجنسها ألبتَّة، بل يبيعها بجنس آخر، وفي هذا (¬3) من الحرج والعُسْر والمشقة ما تتقيه (¬4) الشريعة؛ فإن أكثر الناس ليس عندهم ذهب يشترون به ما يحتاجون إليه من ذلك، والبائعُ لا يسمحُ ببيعه ببُر وشعير وثياب؛ وتكليف الاستنصاع لكل من احتاج إليه إما متعذر أو متعسر، والحِيَلُ باطلة في الشرع وقد جوز الشارع بيع الرطب بالتمر لشهوة الرطب (¬5)، وأين هذا من الحاجة إلى بيع المصوغ الذي تدعو الحاجة إلى بيعه وشرائه؛ فلم يبق إلا جواز بيعه كما تُباع السلع؛ فلو لم يجز بيعه بالدراهم فسدت مصالح الناس، والنصوص الواردة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ليس فيها ما هو صريح في المنع، وغايتها أن تكون عامة أو مطلقة، ولا ننكر تخصيص العام وتقييد المطلق بالقياس الجلي، وهي بمنزلة نصوص وجوب الزكاة في الذهب والفضة، والجمهور يقولون: لم تدخل في ذلك الحلية، ولا سيما فإن لفظ النصوص في الموضعين قد ذكر تارة بلفظ الدراهم والدنانير كقوله: "الدرهم بالدرهم، والدينار بالدينار" (¬6) وفي الزكاة قوله: "وفي الرِّقَةِ رُبْع العشر" (¬7)، ¬
والرِّقة: هي [الوَرِق وهي] (¬1) الدراهم المضروبة، وتارة بلفظ الذهب والفضة؛ فإن حمل المطلق على المقيد كان نهيًا عن الربا في النقدين وإيجابًا للزكاة فيهما، ولا يقتضي ذلك نفي الحكم عن جملة ما عداهما، بل فيه تفصيل؛ فتجب الزكاة ويجري الربا في بعض صوره لا في كلها، وفي هذا توفية الأدلة حقها، وليس فيه مخالفة بشيء لدليل منها (¬2). يوضحه أن الحلية المُباحة صارت بالصّنعة المباحة من جنس الثياب والسلع، لا من جنس الأثمان، ولهذا لم تجب فيها الزكاة، فلا يجري الربا بينها وبين الأثمان كما لا يجري بين الأثمان وبين سائر السلع، وإن كانت من غير جنسها، فإن هذه بالصناعة قد خرجت عن مقصود الأثمان، وأُعدِّت للتجارة، فلا محذور في بيعها بجنسها، ولا يدخلها "إما أن تقضي وإما أن تُرْبِي" إلا كما يدخل في سائر السِلَع إذا بِيعت بالثمن المؤجل، ولا ريب أن هذا قد يقع فيها (¬3)، لكن لو سُدَّ على الناس ذلك لسُدَّ عليهم باب الدَّيْن، وتضرروا بذلك غاية الضرر. يوضحه أن الناس على عهد نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- كانوا يتخذون الحلية، وكانت النساء تلبسها، وكُنَّ يتصدقن بها في الأعياد وغيرها (¬4)؛ ومن المعلوم بالضرورة أنه كان يعطيها للمحاويج، ويعلم أنهم يبيعونها؛ ومعلوم قطعًا أنها لا تُباع بوزنها فإنه سفه، ومعلوم أن مثل الحلقة والخاتم والفتخة (¬5) لا تساوي دينارًا، ولم يكن عندهم فلوس يتعاملون بها، وهم كانوا أتقى للَّه وأفقه في دينه وأعلم بمقاصد رسوله من أن يرتكبوا الحيل أو يُعلِّموها الناس (¬6). ¬
يوضحه أنه لا يعرف عن أحد من الصحابة أنه نَهى أن يُباع الحلي إلا بغير جنسه [أو بوزنه] (¬1)، والمنقول عنهم إنما هو في الصرف. يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان سدا للذريعة كما تقدَّم بيانه، وما حُرِّم سدًا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة (¬2)، كما أُبيحت العَرَايا من ربا الفَضْل، وكما أُبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر، وكما أُبيح النَّظرُ للخاطبِ والشاهدِ والطبيب والمعاملِ من جملة النَّظر المحرم، وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجالَ حُرِّم [لسدِّ ذريعة التشبيه] (¬3) بالنساء الملعون فاعله، وأبيح [منه] (¬4) ما تدعو إليه الحاجة، وكذلك ينبغي أن يُباح بيع الحلية المصوغةِ صياغةً مباحةً بأكثر من وزنها؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، وتحريم التفاضل إنما كان (¬5) سدًا للذريعة؛ فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع، ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل (¬6)، والحيل باطلة في الشرع، وغاية ما في ذلك جعل الزيادة في مقابلة الصياغة المباحة (¬7) المتقوَّمة بالأثمان في الغصوب وغيرها، هاذا كان أرباب الحيل يجوزون بيع عشرة بخمسة عشر في خِرْقة تساوي فلسًا ويقولون: الخمسة في مقابلة الخرقة، فكيف ينكرون بيع الحلية بوزنها وزيادة تساوي الصياغة؟ (¬8) وكيف تأتي الشريعة الكاملة الفاضلة التي بهرت العقول حكمةً ورحمةً وعَدلًا وجَلَالَةً بإباحة هذا وتحريم ذلك؟ وهل هذا إلا عكس للمعقول (¬9) والفِطَر والمصلحة؟ والذي يقضى منه العجب مبالغتهم في ربا الفضل أعظم مبالغة، حتى منعوا بيع رطل زيت برطل زيت، وحرموا بيع الكشك (¬10) بالسمسم، وبيع النشا ¬
[السر في أنه ليس للصفات في البيوع مقابل]
بالحنطة، وبيع الخل بالزبيب، ونحو ذلك، وحَرَّموا بيع مد حنطة ودرهم بمد ودرهم، وجاءوا إلى ربا النسيئة (¬1) ففتحوا للتحيل (¬2) عليه كل باب، فتارة بالعِينَة (¬3)، وتارة بالمُحلِّل، وتارة بالشرط المتقدم المتواطأ عليه ثم يطلقون العقد من غير اشتراط، وقد علم اللَّهُ والكرامُ الكاتبون والمتعاقدان ومَنْ حَضَر أنه عقد ربا (¬4) مقصوده وروحه بيع خمسة عشر مؤجلة بعشرة نقدًا ليس إلا! ودخول السلعة كخروجها (¬5) حرف جاء لمعنى في غيره، فهلا فعلوا هاهنا كما فعلوا في مسألة مُدِّ عجوة ودرهم بمد ودرهم (¬6)، وقالوا: قد يُجعل (¬7) وسيلة إلى ربا الفضل بأن يكون المد في أحد الجانبين يساوي بعض المد في الجانب الآخر فيقع التفاضل؟ فياللَّه العجب! كيف حرمت هذه الذريعة إلى (¬8) ربا الفضل وأُبيحت تلك الذَّرائع القريبة الموصلة إلى ربا النسيئة بحتًا خالصًا؟ وأين مفسدة بيع الحلية بجنسها ومقابلة الصياغة بحظِّها من الثمن إلى مفسدة الحيل الربوية التي هي أساس كل مفسدة وأصل كل بلية؟ وإذا حَصْحَص الحق فليقل المتعصب الجاهل ما شاء، وباللَّه التوفيق. [السر في أنه ليس للصفات في البيوع مقابل] فإن قيل: الصفات لا تُقابَل بالزيادة، ولو قوبلت بها لجاز بيع الفضة الجيدة بأكثر منها من الرديئة، وبيع التمر الجيد بأزيد منه من الرديء، ولما أبطل الشارع ذلك عُلم أَنه منع من مقابلة الصفات بالزيادة. قيل: الفرق بين الصَّنعة التي هي أثر فعل الآدمي وتُقابل بالأثمان ويُستحقُّ عليها الأجرة وبين الصفة التي هي مخلوقة للَّه لا أثر للعبد فيها ولا هي من صنعته، فالشارع بحكمته وعدله منع [من مقابلة] (¬9) هذه الصفة بزيادة؛ إذ ذلك ¬
يُفضي إلى نقضِ ما شرعه [اللَّه] (¬1) من المنع من التفاضل؛ فإن التفاوت في هذه الأجناس ظاهرٌ، والعاقل لا يبيع جنسًا بجنسه إلا لما هو بينهما من التفاوت، فإن كانا متساويين من كل وجه لم يفعل ذلك، فلو جَوَّز لهم مقابلة الصفات بالزيادة لم يحرم عليهم ربا الفَضْل، وهذا بخلاف الصناعة (¬2) التي جَوَّز لهم المعاوضة عليها معه. يوضحه أن المعاوضة إذا جازت على هذه الصناعة (2) مفردة جازت عليها مضمومة إلى غير أصلها وجوهرها؛ إذ لا فرق بينهما في ذلك. يوضحه أن الشارع لا يقول لصاحب هذه الصناعة (2): بعْ هذا المصوغ بوزنه واخسر صياغتك (¬3)، ولا يقول له: لا تعمل هذه الصياغة واتركها، ولا يقول له: تحيَّل على بيع المصوغ بأكثر من وزنه بأنواع الحيل، ولم يقل قط: لا تبعه إلا بغير جنسه، ولم يحرم على أحد أن يبيع شيئًا من الأشياء بجنسه. فإن قيل: فهب أن هذا قد سَلِمَ لكم في المصوغ، فكيف يسلم لكم في الدراهم والدنانير المضروبة إذا بِيعت بالسَّبائك مفاضلةً (¬4) وتكون الزيادة في مقابلة [صناعة] (¬5) الضَّرْب؟ قيل: هذا سؤال قويٌّ وارد، وجوابه أن السكة لا تتقوَّم فيها (¬6) الصناعة للمصلحة العامة المقصودة منها؛ فإن السلطان يضربُها لمصلحة الناس العامة، وإن كان الضاربُ يضربها بأجرة فإن القصد بها أن تكون معيارًا للناس [لا] (¬7) يتَّجرون فيها كما تقدم، والسكة فيها غير مقابلة بالزيادة في الصرف (¬8)، ولو قوبلت بالزيادة [في الصرف] (¬9) فسدت المعاملة، وانتقضت المصلحة التي ضُربت لأجلها، واتخذها الناس سلعة واحتاجت إلى التقويم بغيرها، ولهذا قام الدرهم مقام الدرهم من كل وجه، وإذا أخذ الرجل الدرهم رد نظيره (¬10)، وليس المصوغ كذلك، ألا ترى أن الرجل يأخذ مئةً خفافًا ويرد خمسين ثقالًا بوزنها ولا يأبى ¬
[الخلاف في بيع اللحم بالحيوان]
ذلك الآخذ ولا القابض ولا يرى أحدهما أنه قد خسر شيئًا؟ وهذا بخلاف المصوغ، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفاؤه لم يضربوا درهمًا واحدًا، وأول من ضَربَها في الإسلام عبد الملك بن مروان وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. فإن قيل: فيلزمُكم على هذا أن تُجوِّزوا بيع فروع الأجناس بأصولها متفاضلًا؛ فجوزوا بيع الحنطة بالخبز متفاضلًا والزيت بالزيتون والسمسم بالشيرج. قيل: هذا سؤال وارد أيضًا، وجوابه أن التحريم إنما يثبت بنص أو إجماع أو تكون الصورة المحرمة بالقياس مساوية من كل وجه للمنصوص على تحريمها، والثلاثةُ منتفيةٌ في فروع الأجناس مع أصولها، وقد تقدم أن غير الأصناف الأربعة (¬1) لا يقوم مقامها ولا يساويها في إلحاقها بها، وأما الأصناف الأربعة ففرعُها إن خرجَ عن كونه (¬2) قوتًا لم يكن من الربويات، وإن كانت قوتًا كان جنسًا قائمًا بنفسه، وحرم بيعه (¬3) بجنسه الذي هو مثله متفاضلًا كالدقيق بالدقيق والخبز بالخبز، ولم يحرم (¬4) بيعه بجنس آخر وإن كان جنسهما (¬5) واحدًا؛ فلا يَحرمُ السمسم بالشيرج ولا الهريسة بالخبز؛ فإن هذه الصناعة لها قيمة؛ فلا تضيع على صاحبها، ولم يحرم بيعها بأصولها في كتاب ولا سنَّة ولا إجماع [ولا قياس] (¬6)، ولا حرام إلا ما حرمه اللَّه كما أنه لا عبادة إلا ما شرعها اللَّه، وتحريم الحلال كتحليل الحرام. [الخلاف في بيع اللحم بالحيوان] فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم ببيع اللحم بالحيوان، فإنكم إنْ منعتموه نقضتم قولكم، وإنْ جَوَّزتموه خالفتم النص، وإذا كان النص قد منع من بيع اللحم بالحيوان فهو دليل على المنع من بيع الخبز بالبر والزيت بالزيتون وكُلِّ ربوي بأصله. قيل: الكلام في هذا الحديث في مقامين: أحدهما في صحته، والثاني في ¬
معناه: أما الأول فهو حديثٌ لا يصح موصولًا، وإنما هو صحيح مرسلًا؛ فمن لم يحتج بالمرسل لم يَرِد عليه، ومن رأى قبول المرسل مطلقًا أو مراسيل سعيد بن المسيب فهو حجة عنده، قال أبو عمر (¬1): "لا أعلم حديث النَّهي عن بيع اللحم بالحيوان متصلًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب كما ذكره مالك في "موطئه" (¬2). وقد اختلف الفقهاء في القول بهذا الحديث والعمل به والمراد منه؛ فكان مالك يقول: معنى الحديث تحريم التفاضل في الجنس الواحد [حيوانه بلحمه]، وهو عنده من باب المُزابَنة والغَرر [والقمار]؛ لأنه لا يَدْري هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطي أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلًا" (¬3). ¬
فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المُغَيَّب في جلده بلحم إذا كانا من جنس واحد، قال (¬1): "وإذا اختلف الجنسان فلا خلاف عن مالك وأصحابه أنه جائز حينئذ بيع اللحم بالحيوان". وأما أهل الكوفة كأبي حنيفة وأصحابه (¬2) فلا يأخذون بهذا الحديث، ويجوِّزون بيع اللحم بالحيوان مطلقًا. وأما أحمد فيمنع بيعه بحيوانٍ من جنسه، ولا يمنع بيعه بغير جنسه، وإن منعه بعضُ أصحابه (¬3). وأما الشافعي (¬4) فيمنع بيعه بجنسه وبغير جنسه، وروى الشافعي عن ابن عباس أن جزورًا نُحرت على عهد (¬5) أبي بكر الصديق، فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني جزءًا منها بشاة، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا (¬6). قال الشافعي: "وليست أعلم لأبي بكر في ذلك مخالفًا من الصحابة" والصَّواب في هذا الحديث -إن ثبت- أن المراد به إذا كان الحيوان مقصودًا للحم كشاة يُقصد لحمها فتباع بلحم؛ فيكون قد باع لحمًا بلحم أكثر منه من جنس ¬
فصل [الحكمة في وجوب إحداد المرأة على زوجها أكثر مما تحد على أبيها]
واحد، واللحم قوت موزون فيدخله ربا الفَضْل. وأما إذا كان الحيوانُ غيرَ مقصودٍ للحم (¬1) كما إذا كان غيرَ مأكولٍ أو مأكول لا يقصد لحمه كالفرس تباع بلحم إبل فهذا لا يحرم بيعه به، بقي إذا كان الحيوان مأكولًا لا يُقصد لحمه وهو من غير جنس اللحم، فهذا يشبه المزابنة بين الجنسين كبيع صُبْرة تمرٍ بصبرة زبيب (¬2)، وأكثر الفقهاء لا يمنعون من ذلك (¬3)، إذ غايته التفاضل [بين الجنسين، والتفاضلُ المتحقق جائز بينهما فكيف بالمظنون؟ وأحمد في إحدى الروايتين عنه يمنع ذلك، لا لأجل التفاضل،] (¬4) ولكن لأجل المزابنة وشبه القمار، وعلى هذا فيمتنع بيع اللحم بحيوانٍ من غير جنسه، واللَّه أعلم. فصل [الحكمة في وجوب إحداد المرأة على زوجها أكثر مما تحد على أبيها] وأما قوله: "ومنع المرأة من الإحداد على أمها وأبيها وابنها (¬5) فوق ثلاث، وأوجبه على زوجها أربعة أشهر وعشرًا وهو أجنبي" فيقال (¬6): هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه؛ فإن الإحدادَ على الميت من تعظيمِ مُصيبةِ الموت التي كان أهلُ الجاهلية يبالغون فيها أعظمَ مبالغة، ويُضيفون إلى ذلك شق الجيوب، ولَطمِ الخدود، وحلق الشعور، والدعاء بالويل والثبور، وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تَمسُّ طيبًا ولا تَدَّهن ولا تغتسل إلى غير ذلك (¬7) مما هو سَخطٌ (¬8) على الرب تعالى وأَقْدَارِه، ¬
فأبطل [اللَّه] سبحانه برحمتة ورأفته سنة (¬1) الجاهلية، وأبدلنا بها الصبر والحمد والاسترجاع الذي هو أنفعُ للمُصاب في عاجلته وآجلته؛ ولما كانت مصيبةُ الموت لا بد أن تُحدثَ للمصاب من الجزع والألم والحزن ما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك، وهو ثلاث أيام تجد بها نوع راحة وتقضي بها وطرًا من الحزن، كما رَخَّص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا (¬2)، وما زاد على الثلاث فمفسدتُه راجحة، فمنع منه، بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحةٌ مغمورة بمصلحتها؛ فإن فطامَ النفوس عن مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها، فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي، فإن النَّفسَ إذا أخذت بعض مرادها قنعت به، فإذا سألت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حُرِمَتَه (¬3) بالكلية. ومن تأمَّل أسرار الشريعة وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرًا على صفحات أوامرها ونواهيها، باديًا لمن نَظَرهُ نافذ (¬4)؛ فإذا حَرَّم عليهم شيئًا عَوَّضهم عنه بما هو خير لهم منه وأنفع، وأباح لهم منه ما تدعوا حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه (¬5)، كما حرم عليهم بيع الرطب بالتمر، وأباح لهم منه العرايا (¬6)، وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية، وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب (¬7)، وحرم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرهما، وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال (¬8)، وحَرَّم عليهم لباس الحرير، وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه (¬9)، وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة، وأباح لهم كسبه بالسلم (¬10)، وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم وعَوَّضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلًا؛ فسهل عليهم تركه بالنهار، وحرم عليهم الزنا وعوضهم ¬
بأخذ ثانية وثالثة ورابعة، ومن الإماء ما شاءوا، فسهل عليهم تركه غاية التسهيل (¬1)، وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعَوَّضهم عنه بالاستخارة ودعائها ويا بُعد ما بينهما، وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم والعمة والخال والخالة، وحَرَّم عليهم وطء الحائض وسمح لهم في مباشرتها وأَن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء فسهل عليهم تركه غاية السهولة، وحرم عليهم الكذب وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب معها ألبتة، وأشار إلى هذا -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "إن في المعاريض مندوحةً (¬2) عن الكذب" (¬3) وحرم عليهم الخيلاء ¬
فصل [الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض]
بالقول والفعل وأباحها لهم في الحرب لما [لهم] (¬1) فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد، وحَرَّم عليهم كل ذي نابٍ من السباع ومخلب من الطير (¬2) وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها، وبالجملة فما حرم عليهم خبيثًا ولا ضارًا إلا وأباح (¬3) لهم طَيِّبًا بإزائه أنفع لهم منه، ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه فوسعتهم رحمته ووسعهم تكليفه (¬4). والمقصود أنه أباح للنساء -لضعف عقولهن وقلة صبرهن- الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام أما الإحداد على الأزواج (¬5) فإنه تابع للعدة وهو من مقتضياتها ومُكمِّلاتها، فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزيُّن والتَّجمُّل والتعطر، لتتحبب إلى زوجها وترد لها نفسَه (¬6)، ويحسن ما بينهما من العشرة، فإذا مات الزوج واعتدت منه وهي لم تصل إلى زوج آخر، فاقتضى تمام حق الأول [وتأكيد المنع من الثاني] (¬7) قبل بلوغ الكتاب أجله أن تُمنعَ مما تصنعه النساء لإزواجهن، مع ما في ذلك من سَدِّ الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة والخِضَاب والتطيُّب، فإذا بلغ الكتاب أجله صارت محتاجةً إلى ما يُرغِّب في نكاحها، فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج (¬8)، فلا شيء أبلغ في الحسن من هذا المنع والإباحة ولو اقترحت عقول العالمين لم تقترح شيئًا أحسن منه. فصل [الحكمة في مساواة المرأة للرجل في بعض الأحكام دون بعض] وأما قوله: "وسوى بين الرجل والمرأة في العبادات البدنية والحدود، وجعلها على النصف منه في الدية والشهادة والميراث والعقيقة" (¬9) وهذا أيضًا من ¬
كمال الشريعة (¬1) وحكمتها ولطفها؛ فإن مصلحةَ العباداتِ البدنية ومصلحة العقوبات النساءُ والرجال مشتركون فيها، وحاجة أحد الصنفين إليها كحاجة الصنف الآخر؛ فلا يليق التفريق بينهما، نعم فرقت بينهما، في أليق المواضع بالتفريق وهو الجمعة والجماعة، فخُصَّ وجوبهما بالرجال دون النساء لأنهن لسن من أهل البروز ومخالطة الرجال (¬2)؛ وكذلك فرقت بينهما في عبادة الجهاد التي ليس الإناث من أهلها، وسوّت بينهما في وجوب الحج لاحتياج النوعين إلى مصلحته، وفي وجوب الزكاة والصيام والطهارة؛ وأما الشهادة فإنما (¬3) جُعلت المرأة فيها على النصف من الرجل؛ لحكمة أشار إليها العزيز الحكيم في كتابه، وهي أن المرأة ضَعيفةُ العقل قليلةُ الضبط لما تحفظه. وقد فضّل اللَّه الرجال على النساء في العقول والحفظ والفهم والتمييز؛ فلا تقوم المرأة في ذلك مقام الرجل، وفي منع قبول شهادتها بالكلية إضاعة لكثير من الحقوق وتعطيل لها، فكان من أحسن الأمور وألصقها بالعقول، أن ضمَّ إليها في قبول الشهادة نظيرها لتذكِّرها إذا نسيت، فتقوم شهادة المرأتين مقام شهادة الرجل، ويقع من العلم أو الظَنَّ الغالب بشهادتهما ما يقع بشهادة الرجل الواحد، وأما الدية فلما كانت المرأة أنْقص من الرجل، والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد وعمارة الأرض وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها والذب عن الدنيا والدين لم تكن قيمتها مع ذلك متساوية وهي الدية؛ فإن دِية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال، فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما. فإن قيل: لكنكم نقضتم هذا فجعلتم ديتهما سواء فيما دون الثلث. قيل: لا ريب أن السنة وردت بذلك، كما رواه النسائي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عَقْل المرأة مثل عقل الرجل حتى تبلغَ الثُّلثَ من ديتها" (¬4) وقال سعيدُ بن المُسيَّب: إن ذلك ¬
[من] (¬1) السنة، وإن خالف فيه أبو حَنيفةَ والشافعيّ والليث والثوري وجماعة، وقالوا: هي [على] (1) النَّصف في القليل والكثير، ولكن السنة أولى، والفَرْق بين [ما دون الثلث و] (¬2) ما زاد عليه أن ما دونه قليل، فجبرت مصيبة المرأة فيه بمساواتها للرجل، ولهذا استوى الجنين الذكر والأنثى في الدية لقلة ديته، وهي الغُرَّة (¬3)، فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين. وأما الميراث فحكمة التفضيل فيه ظاهرة؛ فإن الذكر أحْوجُ إلى المال من الأنثى؛ لأن الرجال قوَّامون على النساء، والذكر أنفع للميت في حياته من الأنثى. وقد أشار سبحانه وتعالى إلى ذلك بقوله بعد أن فرض الفرائض وفاوت بين مقاديرها: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} [النساء: 11] وإذا كان الذكر أنفع من الأنثى وأحوج كان أحقَّ بالتفضيل. فإن قيل: فهذا ينتقض بولد الأم. قيل: بل طرْد هذه التسوية بين ولد الأم ذكرهم وأنثاهم، فإنهم إنما يرثون ¬
فصل [الحكمة في التفرقة بين زمان وزمان ومكان ومكان]
بالرحم المجرد؛ فالقرابة التي يرثون بها قرابة أنثى فقط، وهم فيها سواء؛ فلا معنى لتفضيل ذكرهم على أنثاهم، بخلاف قرابة الأب. وأما العقيقة فأمر التفضيل فيها تابعٌ لشَرَف الذكر، وما ميَّزه (¬1) اللَّه به على الأنثى، ولما كانت النعمة به على الوالد أتم، والسرور والفرْحة به أكمل (¬2)؛ كان الشكران عليه أكثر؛ فإنه كلما كثرت النعمة كان شكرها أكثر، واللَّه أعلم. فصل [الحكمة في التفرقة بين زمان وزمان ومكان ومكان] وأما قوله: "وخص بعض الأزمنة والأمكنة، وفضل بعضها على بعض، مع تساويها. . . إلى آخره" فالمقدمة الأولى صادقة، والثانية كاذبة، وما فضّل بعضها على بعض إلا لخصائص قامت بها اقتضت التخصيص، وما خص سبحانه شيئًا إلا بمخصِّص (¬3)، ولكنه قد يكون ظاهرًا وقد يكون خفيًا، واشتراك الأزمنة والأمكنة في مُسمَّى الزمان والمكان كاشتراك الحيوان في مسمى الحيوانية والإنسان في مسمى الإنسانية، [بل] (¬4) وسائر الأجناس في المعنى الذي يَعمُّها، وذلك لا يوجب استواءها في أنفسها، والمختلفاتُ تشترك في أمور كثيرة، والمتَّفقاتُ تتباين في أمور كثيرة، واللَّه سبحانه أحكم وأعلم من أن يرجح (¬5) مثلًا على مِثْل من كل وجه بلا صفة تقتضي ترجيحه، هذا مستحيل في خلقه وأمره، كما أنه سبحانه لا يُفرِّق بين المتمائلين من كل وجه؛ فحكمتُه وعدلُه تأبى هذا وهذا؛ وقد نزّه سبحانه نفسه عَمَّن يظنُّ به ذلك، وأنكر عليه زعمه الباطل، وجعله حكمًا منكرًا، ولو جاز عليه ما يقول هؤلاء لبطَلَت حجَّتُه وأدلته؛ فإن مبناها على أن حُكمَ الشيء حكمُ مثله، وعلى ألا يسوَّى (¬6) بين المختلفين؛ فلا يجعل الأبرار كالفجار، ولا المؤمنين كالكفار، ولا من أطاعه كَمَن عصاه، ولا العالم كالجاهل وعلى هذا مَبْنى الجزاء؛ فهو حكمه الكوني والديني، وجزاؤه الذي هو ثوابه وعقابه وبذلك حصل الاعتبار، ولأجله ضُربت الأمثال، وقُصَّت علينا أخبار ¬
فصل [الحكمة في الجمع بين المختلفات في الحكم متى اتفقت في موجبه]
الأنبياء وأممهم، ويكفي في بطلان هذا المذهب المتروك الذي هو من أفسد مذاهب العالم أنه يتضمن لمساواة ذات جبريل بذات إبليس (¬1)، وذات الأنبياء بذات أعدائهم، ومكان البيت العتيق بمكان الحُشوش (¬2) وبيوت الشياطين، وأنه لا فرق بين هذه الذوات في الحقيقة، وإنما خصت [هذه الذات عن هذه الذات بما خُصّت به] (¬3) لمحض المشيئة المرجِّحة مثلًا على مثل بلا موجب، بل قالوا ذلك في جميع الأجسام، وأنها متماثلة، فجسم المِسْك عندهم مساوٍ لجسم البول والعذرة، وإنما امتاز عنه بصفة عَرَضية، وجسم الثلج عندهم مساوٍ لجسم النار في الحقيقة، وهذا مما خرجوا به عن صريح المعقول، وكابروا فيه الحسّ، وخالفهم فيه جمهور العقلاء من أهل الملل والنَّحَلِ، وما سَوَّى اللَّه بين جسم السماء وجسم الأرض، ولا بين جسم النار وجسم الماء، ولا بين جسم الهواء وجسم الحجر، وليس مع المنازعين من ذلك إلا الاشتراك في أمر عام، وهو قبول الانقسام وقيام الأبعاد الثلاثة والإشارة الحسِّيَّة، ونحو ذلك مما لا يوجب التشابه فضلًا عن التماثل، وباللَّه التوفيق. فصل [الحكمة في الجمع بين المختلفات في الحكم متى اتفقت في موجبه] وأما قوله: "إن الشريعة جمعت بين المختلفات، كما جمعت بين الخطأ والعمد في ضمان الأموال" فغيرُ منكرٍ في العُقول والفِطر والشرائع والعادات اشتراكُ المختلفاتِ في حكم واحد باعتبار اشتراكها في سبب ذلك الحكم؛ فإنه لا مانع من اشتراكِها في أمرِ يَكون علة لحكم من الأحكام، بل هذا هو الواقع (¬4)، وعلى هذا فالخطأ والعمد اشتركا في الإتلاف الذي هو علة للضمان، وإن افترقا في علة الإثم، وربْطُ الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام بأسبابها، وهو مقتضى العدل (¬5) الذي لا تتمُّ المصلحةُ إلا به، كما أوجب على القاتل خطأ ديَّةَ ¬
فصل [الحكمة في أن الفأرة كالهرة في الطهارة]
القتيل؛ ولذلك لا يُعتمدُ التكليف فيضمن الصبي والمجنون والنائم ما أتلفوه من الأموال، وهذا من الشرائع العامة التي لا تتم مصالح [الأمة] (¬1) إلا بها؛ فلو لم يضمنوا جنايات أيديهم لأتْلفَ بعضُهم أموالَ بَعْض، وادَّعى الخطأ وعدم القصد. وهذا بخلاف أحكام الإثم والعقوبات؛ فإنها تابعة للمخالفة وكسب العبد ومعصيته؛ ففرَّقت الشريعة فيها بين العامد والمخطئ, وكذلك البِرُّ والحنث في الأيمان فإنه نظير الطاعة والعصيان في الأمر والنهي؛ فيفترق (¬2) الحال فيه بين العامد والمخطئ. وأما جمعها بين المكلَّف وغيره في الزكاة فهذه مسألة نزاع واجتهاد، وليس عن صاحب الشرع نصٌّ بالتسوية ولا بعدمها، والذين سوَّوْا بينهما رأوا ذلك من حقوق الأموال التي جعل اللَّه سبحانه الأموال سببًا في ثبوتها (¬3)، وهي حقٌّ للفقراء في نفس هذا المال، سواء كان مالكه مكلفًا أو غير مكلف، كما جَعل في ماله حَقَّ الإنفاق على بهائِمه ورقيقِه وأقاربه؛ فكذلك جعل في ماله حقًا للفقراءِ والمساكين (¬4). فصل [الحكمة في أن الفأرة كالهرة في الطهارة] وأما جمعها بين الهِرَّة والفأرة في الطهارة فهذا حق، وأي تفاوت في ذلك؟ وكأن السائل رأى أن العداوةَ التي بينهما تُوجبُ اختلافهما في الحكم كالعداوة التي بين الشاة والذئب، وهذا جهْل منه؛ فإن ذلك أمر لا تعلق له بطهارة ولا نجاسة ولا حِلّ ولا حرمة، والذي جاءت به الشريعة من ذلك في غاية الحكمة والمصلحة؛ فإنها لو جاءت بنجاستهما لكان فيه أعظم حرج ومشقة على الأمة؛ لكثرة طوفانهما على الناس ليلًا ونهارًا وعلى فُرُشهم وثيابهم وأطعمتهم، كما أشار إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله في الهرة: "إنها ليست بنجس؛ إنها من الطَّوافين عليكم والطوافات" (¬5). ¬
فصل [الحكمة في جعل ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة]
فصل [الحكمة في جعل ذبيحة غير الكتابي مثل الميتة] وأما جَمْعها بين الميتة وذبيحة غير الكتابي في التحريم، وبين ميتة الصيد وذبيحة المُحْرِم له، فأي تفاوت في ذلك؟ وكأن (¬1) السائل رأى أن الدَّمَ لما احْتَقنَ في الميتة كان سببًا لتحريمها، وما ذَبحهُ المُحرمُ أو الكافر غير الكتابي لم يحتقن دمه؛ فلا وجه لتحريمه، وهذا غلطٌ وجهل؛ فإن علة التحريم لو انحصرت في احتقانِ الدم لكان للسؤال وجه، فأما إذا تعدَّدت عللُ التحريم لم يلزم من انتفاء بعضها انتفاء الحكم إذا خَلِفَه علة أخرى، وهذا أمر مطرد في الأسباب والعلل العقلية؛ فما الذي يُنكر منه في الشرع؟ فإن قيل: قد سوّتِ (¬2) الشريعة بينهما في كونهما ميتة، وقد اختلفا في سبب الموت، فتضمَّنت جمعها بين مُخْتلفيْن وتفريقها بين متماثلين؛ فإن الذبح واحد صورةً وحسًا وحقيقة؛ فجَعلت بعض صورهِ مخرجًا للحيوان عن كونه ميتة وبعض صوره موجبًا لكونه ميتةً من غير فرق. قيل: الشريعة لم تُسَوِّ بينهما في اسم الميتة لغة، وإنما سوت بينهما في الاسم الشرعي؛ فصار اسم الميتة في الشرع أعم منه في اللغة، والشارع يتصرف في الأسماء اللغوية بالنقل تارة وبالتعميم تارة وبالتخصيص تارة، وهكذا يفعل أهل العُرف؛ فهذا ليس بمنكر شرعًا ولا عُرفًا (¬3)، وأما الجمع بينهما في التحريم فلأن اللَّه سبحانه حَرَّم علينا الخبائث، والخبث الموجب للتحريم قد يظهر لنا وقد يخفى، فما كان ظاهرًا لم يَنْصب عليه الشرع (¬4) علامة غير وصفه، وما كان خفيًا نصبَ عليه علامةً تدل على خبثه؛ فاحتقان الدم في الميتة سبب ظاهر، وأما ذبيحة المجوسي والمرتد وتارك التسمية ومن أهلّ بذبيحته (¬5) لغير اللَّه فنفسُ ذبيحة هؤلاء أكسبت (¬6) المذبوح خبثًا أوجب تحريمه، ولا يُنكر أن يكونَ ذكرُ اسم الأوثان والكواكب والجن على الذبيحة يكسبها (¬7) خبثًا، وذكر اسم اللَّه وحده يكسبها طيبًا، إلا من قل نصيبه من حقائق العلم والإيمان وذوْقِ الشريعة، وقد جعل اللَّه ¬
سبحانه ما لم يُذكر اسمُ اللَّه عليه من الذبائح فسقًا وهو الخبيث (¬1)، ولا ريب أن ذكر [اسم] (¬2) اللَّه على الذبيحة يُطيّبها ويطرد الشيطانَ عن الذابح والمذبوح، فإذا أخلَّ بذكر اسمه لابَسَ الشيطانُ الذَّابحَ والمذبوح، فأثَّر ذلك خبثًا في الحيوان، والشيطان يجري في مجاري الدم من الحيوان والدم مَرْكَبُه وحامله، وهو أخبث الخبائث، فإذا ذكر الذابح اسم اللَّه خرج الشيطان مع الدم فطابت الذبيحة، فإذا لم يذكر اسم اللَّه لم يخرج الخبث، وأما إذا ذكر اسم عدوه من الشياطين والأوثان فإن ذلك يكسب الذبيحة خبثًا آخر (¬3). يوضحه أن الذبيحة تجري مجرى العبادة، ولهذا يقرن اللَّه سبحانه بينهما كقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162] وقال تعالي: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ [فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا] (¬4) وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 36 - 37] فأخبر أنه إنما سَخَّرها لمن يذكر اسمَه عليها (¬5)، [وأنه إنما يناله التقوى -هو التقربُ إليه بها وذِكرُ اسمِه عليها- فإذا] (¬6) لم يذكر اسمه عليها كان ممنوعًا من أكلها، وكانت مكروهةً للَّه، فأكسبتها كراهيتُه لها (¬7) -حيث لم يذكر عليها اسمه أو ذكر عليها اسمَ غيره- وصْف الخبث (¬8) فكانت بمنزلة الميتة، وإذا كان هذا في متروك التسمية وما ذكر عليه اسمُ غيرِ اللَّه فما ذبحه عَدوُّه المشرك به الذي هو من أخبث البرية أولى بالتحريم؛ فإنَّ فِعلَ الذابح وقصدَه وخبثه لا ينكر أن يؤثِّر في المذبوح، كما أن خبث الناكح ووصفه وقصده يؤثر في المرأة المنكوحة (¬9)، وهذه أمور إنما يُصدِّق ¬
فصل [الحكمة في الجمع بين الماء والتراب في حكم التطهير]
بها من أشرق فيه نور الشريعة وضياؤها، وباشر قلبه بشاشة حكمها وما اشتملت عليه من المصالح في القلوب والأبدان، وتلقّاها صافية من مشكاة النبوة، وأَحْكم العقد بينها وبين الأسماء والصفات التي لم يطمس نورَ حقائقها ظلمةُ التأويل والتحريف. فصل [الحكمة في الجمع بين الماء والتراب في حكم التطهير] وأما جمعها بين الماء والتراب في التطهير فلله ما أحسنه من جمع، وألطفه وألصقه بالعقول السليمة والفطر المستقيمة؛ وقد عقد اللَّه سبحانه الإخاء بين الماء والتراب قدرًا وشرعًا؛ فجمعهما اللَّه عز وجل وخلق منهما آدم وذريته، فكانا أبوين اثنين لأبوينا (¬1) وأولادهما؛ وجعل منهما حياة كل حيوان، وأخرج منهما أقوات الدواب والناس والأنعام، وكانا أعمّ الأشياء وجودًا، وأسهلها تناولًا، وكان تعفير الوجه في التراب للَّه سبحانه من أحب الأشياء إليه، ولما كان عقد هذه الأخوة بينهما قدرًا أحكم عقدٍ وأقواه كان عقد الأخوة بينهما شرعًا أحسن عقد وأصحه، {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36 - 37]. فصل [معرفة الأشباه] فهذا ما يتعلق بقول أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه-: "واعْرفِ الأشباه والنظائر" وفي لفظ: "واعْرف الأمثال، ثم اعمد (¬2) فيما ترى إلى أحبِّها إلى اللَّه وأشبهها بالحق" فلنرجع إلى شرح باقي كتابه (¬3). ثم قال: "وإياك والغضب والقلق والضجر والتأذّي بالناس، والتنكُّر عند الخصومة، أو الخصوم -شك أبو عبيد- فإن القضاءَ في مواطن الحق مما يُوجب اللَّه به الأجر، ويُحسن به الذكر" (¬4). وهذا الكلام يتضمن أمرين: ¬
[ذم الغضب]
[ذم الغضب] أحدهما: التحذير مما يحول بين الحاكم وبين كمال معرفته بالحق، وتجريد قصده له؛ فإنه لا يكون خبر الأقسام الثلاثة إلا باجتماع هذين الأمرين فيه، والغضب والقلق والضجر مضاد لهما؛ فإن الغضب غول العقل يغتاله كما تغتاله الخمر، ولهذا نهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يقضيَ القاضي بين اثنين وهو غضبانٌ (¬1) والغضب نوع من الغلق والإغلاق الذي يغلق على صاحبه باب حسن التصور والقصد، وقد نص أحمد على ذلك في "رواية حنبل"، وترجم عليه أبو بكر في كتابَيْه: "الشافي" و"زاد المسافر"، وعقد له بابًا، فقال في كتاب "الزاد": باب النية في الطلاق و [ذكر] (¬2) الإغلاق، قال أبو عبد اللَّه في "رواية حنبل"، عن عائشة: سمعتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا طلاق ولا عَتاق في إغلاق" (¬3) فهذا الغضب، وأوصى ¬
[الصبر على الحق]
بعض العلماء لولي أمر فقال: "إياك والغلق (¬1) والضجر؛ فإن صاحب الغلق (1) لا يقدم عليه [صاحب] حق، وصاحب الضجر لا يصبر (¬2) على حق". [الصبر على الحق] والأمر الثاني: التحريض على تنفيذ الحق، والصبر عليه، وجعل الرضا بتنفيذه في مواضع (¬3) الغضب والصبر في مواطن القلق (¬4) والضجر، والتحلي به واحتساب ثوابه في مواضع (1) التأذي؛ فإن هذا دواء ذلك الداء الذي هو من لوازم الطبيعة البشرية وضعفها (¬5)؛ فما لم يصادفه هذا الدواء (¬6) فلا سبيل إلى زواله؛ هذا مع ما في التنكر للخصوم من إضعاف نفوسهم، وكسْر قلوبهم، وإخراس ألسنتهم عن التكلم بحججهم خشية معرة التنكر، ولا سيما أن يتنكر لأحد الخصمين دون الآخر؛ فإن ذلك الداء العُضال. [للَّه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته] وقوله: "فإن القضاء في مواطن الحق مما يوجب اللَّه به الأجر، ويحسن به الذكر (¬7) " هذه (¬8) عبودية الحكام ووُلاة الأمور (¬9) التي تراد منهم، وللَّه سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته، سوى العبودية العامة التي سوّى بين عباده فيها؛ فعلى العَالِم من عبودية (¬10) نشر السُّنة والعلم الذي بعث اللَّه به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية (10) الصبر على ذلك ما ليس على غيره، وعلى الحاكم ¬
[تعطيل العبودية الخاصة تجعل الإنسان من أقل الناس دينا]
من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما. وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يومًا في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقالت [له] (¬1) امرأة: هذا واجب قد وُضِع عنا، فقال: هَبِي أنه قد وضع عنكنَّ سلاح اليد واللسان، فلم يوضع عنكن سلاح القلب، فقالت: صدقتَ جزاك اللَّه خيرًا. [تعطيل العبودية الخاصة تجعل الإنسان من أقل الناس دينًا] وقد غرَّ إبليس أكثر الخلق بأنْ حسّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطَّلوا هذه العبوديات، فلم يحدثوا قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس دينًا؛ فإن الدين هو القيام بما أمر اللَّه به (¬2)، فتارك حقوق اللَّه التي تجب عليه أسوأ حالًا عند اللَّه ورسوله من مرتكب المعاصي؛ فإن ترْك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين وجهاَ ذكرها شيخنا (¬3) رحمه اللَّه في بعض تصانيفه. [أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا] ومن له خبرة بما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وبما كان هو عليه وأصحابه رأى أن أكثر من يُشار إليهم بالدين هم أقل الناس دينًا، واللَّه المستعان، وأيّ دين وأيُّ خير فيمن يرى محارم اللَّه تُنتهك وحدوده تضاع ودينه يترك وسنة [رسول اللَّه] (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- يُرغب عنها وهو بارد القلب ساكت اللسان؟ شيطان أخرس! كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بلية الدين إلا من هؤلاء الذي إذا سَلِمت لهم مآكلُهم ورياساتُهم فلا مُبالاة بما جرى على الدين؟ وخيارهم المتحزن المتلمظ (¬5)، ولو ¬
نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله بذل وتَبذَّل وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه (¬1). وهؤلاء -مع سقوطهم من عين اللَّه ومَقْتِ اللَّه لهم- قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون وهم لا يشعرون، وهو موت القلوب؛ فإن (¬2) القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه للَّه ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل. وقد ذكر الإمام أحمد وغيره أثرًا أن اللَّه سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أنِ اخسِف بقرية كذا وكذا، فقال: يا رب كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعّر (¬3) وجهه فيّ يومًا قط (¬4). ¬
فصل [إخلاص النية لله تعالى]
وذكر أبو عمر في كتاب "التمهيد" أن اللَّه سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قُل لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجّلْتَ به الراحةَ، وأما انقطاعك إليَّ فقد تكسَّبت (¬1) به العِزَّ، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب وأيّ شيء لك عليّ؟ قال: هل واليْت فيّ وليًا أو عاديت فيّ عدوًا؟ (¬2). فصل [إخلاص النية للَّه تعالى] قوله: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه اللَّه ما بينه وبين الناس، ومن تزيَّن بما ليس فيه شَانَه اللَّه" هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المُحَدَّث المُلهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره، وانتفع غاية الانتفاع: فأما الكلمة الأولى فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر وفصله؛ فإن العبد إذا خلصت نيته للَّه تعالى وكان قصدُه وهمه وعمله لوجهه (¬3) سبحانه كان اللَّه معه؛ فإنه سبحانه {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128]، ورأس التقوى والإحسان خلوصُ النية للَّه في إقامة الحق، واللَّه سبحانه لا غالبَ له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه أو يناله ¬
بسوء؟ فإن كان اللَّه مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟ فإذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولًا، وكان قيامه باللَّه وللَّه لم يقم له أحد (¬1)، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه اللَّه مؤنتها، وجعل له فرجًا ومخرجًا؛ وإنما يُؤْتى العبد من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة، أو في اثنين منهما، أو في واحد؛ فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر، وإن نُصر نصرًا عارضًا فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه للَّه وإنما قام لطلب المحْمدة والشكور والجزاء من الخلق أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولًا، والقيام في الحق وسيلة إليه، فهذا لم تُضمن له النُّصرة؛ فإن اللَّه إنما ضمن النُّصرةَ لمن جَاهدَ في سبيله، وقاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا، لا لمن كان قيامه لنفسه وهواه (¬2)، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين، وإن نُصِر فبحسب ما معه من الحق؛ فإن اللَّه لا ينصر إلا الحق، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل فبحسب ما معهم من الصبر، والصبر منصور أبدًا؛ فإن كان صاحبه محقًا كان منصورًا له العاقبة، وإن كان مُبطلًا لم تكن له عاقبة، وإذا قام العبد في الحق للَّه ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم باللَّه مستعينًا به متوكلًا عليه مفوضًا إليه بريًّا من الحول والقوة إلا به فله من الخُذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك، ونكتة المسألة أن تجريد التوحيد [ين] (¬3) في أمر اللَّه لا يقوم له شيء ألبتة، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زُمر الأعداء. قال الإمام أحمد: حدثنا [أبو] داود: ثنا شعبة، عن وَاقِد بن محمد بن زيد، عن ابن أبي مُلَيْكة، [عن القاسم بن محمد،] (¬4) عن عائشة قالت: مَنْ أسخطَ الناس برضاء اللَّه عز وجل كَفاهُ اللَّه الناس، ومن أرضى النَّاسَ بسخط اللَّه وكله إلى الناس (¬5). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[الواجب على من عزم على فعل أمر]
[الواجب على من عزم على فعل أمر] والعبد إذا عزم على فعل أمر، فعليه أن يعلم أولًا هل هو طاعة للَّه أم لا؟ فإن لم يكن طاعة فلا يفعله إلا أن يكون مباحًا يستعين به على الطاعة، وحينئذ يصير طاعة، فإذا بان له أنه طاعة يُقدم عليه حتى ينظر هل هو مُعانٌ عليه أم لا؟ فإن لم يكن معانًا عليه فلا يقدم عليه فيذل نفسه، وإن كان معانًا عليه بقي عليه نظر آخر، وهو أن يأتيه من بابه؛ فإن أتاه من غير بابه أضاعه أو فَرَّط فيه أو أفسد منه شيئًا؛ فهذه الأمور الثلاثة أصل سعادة العبد وفلاحه، وهي معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5 - 6] فأسعد الخلق أهل العبادة والاستعانة والهداية إلى المطلوب، وأشقاهم من عدم الأمور الثلاثة. [أهل النصيب من إياك نعبد وإياك نستعين] ومنهِمِ من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ونصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] معدوم أو ضعيف؛ فهذا مخذول مهينٌ محزون، ومنهم من يكون نصيبه من {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] قويًا ونصيبه من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ضعيفًا أو مفقودًا؛ فهذا له نفوذ وتسلط وقوة، ولكن لا عاقبة له، بل عاقبته أسوأ عاقبة، ومنهم من يكون له نصيب من {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ولكن نصيبه من الهداية إلى المقصود ضعيف جدًا، كحال كثير من العُبَّاد والزهاد الذين قل علمهم بحقائق ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- من الهدى ودين الحق. وقول عمر -رضي اللَّه عنه-: "فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه" (¬1) إشارة إلى ¬
فصل [المتزين بما ليس فيه وعقوبته]
أنه لا يكفي قيامه في الحق للَّه إذا كان على غيره، حتى يكونَ أول قائمٍ به على نفسه، فحينئذ يُقبل قيامه به على غيره، وإلا فكيف يقبل الحق ممن أهمل القيام به على نفسه؟ وخطب عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يومًا وعليه ثوبان، فقال: أيها الناس ألا تسمعون، فقال سلمان: لا نسمع، فقال عمر: لم يا أبا عبد اللَّه؟ قال: إنك قسمت علينا ثوبًا ثوبًا وعليك ثوبان! فقال: لا تعْجلْ. يا عبد اللَّه! يا عبد اللَّه! فلم يجبه. أحد، فقال: يا عبد اللَّه بن عمر، فقال: لبَّيك يا أمير المؤمنين، فقال: نشدتك اللَّه الثوب الذي ائتزرت به أهو ثوبك؟ قال: [نعم] (¬1)، اللهم نعم، فقال سلمان: أما الآن فَقُلْ نَسْمَع (¬2). فصل [المتزين بما ليس فيه وعقوبته] وأما قوله: "ومن تَزيَّن بما ليس فيه شانه اللَّه" لمّا كان المتزين بما ليس فيه ضد المخلص -فإنه يظهر للناس أمرًا وهو في الباطن بخلافه- عامله اللَّه بنقيض قصده؛ فإن المعاقبة بنقيض القصد ثابتة شرعًا وقدرًا، ولما كان المُخلصُ يُعجَّلُ له من ثواب إخلاصه الحلاوة والمحبة والمهابة في قلوب الناس عجَّل للمتزين بما ليس فيه من عقوبته أن شَانَه اللَّه بين الناس؛ لأنه شان باطنه عند اللَّه، وهذا موجَب أسماء الرب الحسنى وصفاته العُلى (¬3) وحكمته في قضائه وشرعه. هذا، ولما كان من تَزيَّن للناس بما ليس فيه من الخشوع والدين والتَّنَسُّك (¬4) والعلم وغير ذلك قد نصب نفسه للوازم هذه الأشياء ومقتضياتها فلا بد أن تُطلب منه، فإذا لم توجد عنده افتُضِح، فيشينه ذلك من حيث ظَنَّ أنه يزيِّنه، وأيضًا فإنه ¬
[النفاق وخشوعه]
أخفى عن الناس ما أظهر للَّه خلافه، فأظهر اللَّه من عيوبه للناس ما أخفاه عنهم، جزاءً له من جنس عمله. [النفاق وخشوعه] وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ باللَّه من خشوع النفاق، قالوا: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعًا والقلب غير خاشع (¬1)؛ وأساس النفاق وأصله هو التزين للناس بما ليس في الباطن من الإيمان؛ فعلم أن هاتين الكلمتين من كلام أمير المؤمنين مشتقة من كلام النبوة، وهما من أنفع الكلام، وأشفاه للأسقام (¬2). فصل [أعمال العباد أربعة أنواع، المقبول منها نوع واحد] وقوله: "فإن اللَّه لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصًا" والأعمال أربعة: واحد مقبول، وثلاثة مردودة؛ فالمقبول ما كان للَّه خالصًا وللسنة موافقًا، والمردودُ ما فُقدَ منه الوصفان أو أحدهما، وذلك أن العمل المقبول هو ما أحَبَّه اللَّه ورضيه، وهو سبحانه إنما يحب ما أمر به وعُمل لوجهه، وما عدا ذلك من الأعمال فإنه لا يحبها، بل يمقتها ويمقت أهلها، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2]. قال الفضيل بن عياض: هو أخلصه وأصوبه (¬3)، فسئل عن معنى ذلك، فقال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يُقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا؛ فالخالص أن يكون للَّه، والصواب أن يكون على السنة، ثم قرأ قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} (¬4) [الكهف: 110]. ¬
فإن قيل: فقد بأن بهذا أن العمل لغير اللَّه مردودٌ غير مقبول، والعمل للَّه وحده مقبول؛ فبقي قسم آخر وهو أن يعمل العمل للَّه ولغيره، فلا يكون للَّه محضًا ولا للناس محضًا، فما حكم هذا القسم؟ هل يُبطل العمل كله أم يُبطل ما كان لغير اللَّه ويصح ما كان للَّه؟ قيل: هذا القسم تحته أنواع ثلاثة: أحدها: أن يكون الباعثُ الأول على العمل هو الإخلاص، ثم يَعرضُ له الرِّياء وإرادة غير اللَّه في أثنائه، فهذا المُعوَّل فيه على الباعث الأول ما لم يفسخه (¬1) بإرادة جازمة لغير اللَّه فيكون حكمه حكم قطع النية في أثناء العبادة وفسخها، أعني: قطع ترك استصحاب حكمها. الثاني: عكس هذا، وهو أن يكون الباعث الأول لغير اللَّه، ثم يَعرضُ له قلبُ النيّة للَّه، فهذا لا يُحتسب له بما مضى من العمل، ويحتسب له من حين قلب نيته؛ ثم إن كانت العبادة لا يصح آخرها إلا بصحة أولها وجبت الإعادة، كالصلاة، وإلا لم تجب كمن أحرم لغير اللَّه ثم قلب نيَّته للَّه عند الوقوف و [عند] (¬2) الطواف. الثالث: أن يبتدئها مُريدًا [بها] (¬3) اللَّه والناس، فيريد أداء فرضه والجزاء والشكور من الناس، وهذا كمن يُصلي بالأجرة، فهو لو لم يأخذ الأجرة صلَّى، ولكنه يصلي للَّه وللأجرة. وكمن يحج ليسقط الفرض عنه ويقال: فلان حج، أو يعطي الزكاة كذلك؛ فهذا لا يقبل منه العمل، وإن كانت النيةُ شرطًا في سُقوط الفرض وجبت عليه الإعادة، فإن حقيقة الإخلاص [التي هي] (3) شرط في صحة العمل والثواب عليه لم توجد، والحكمُ المُعلَّق بالشرط عَدمٌ عند عدمه، فإن الإخلاص هو تجريد القصدِ للَّه (¬4)، ولم يُؤمر إلا بهذا، وإذا كان هذا هو المأمور به فلم يأت به بقي في عُهدة الأمر؛ وقد دلت السنة الصريحة على ذلك كما في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يقول اللَّه عز وجل يوم القيامة: أنا أغْنى الشركاء عن الشِّرك، فمن عمل عملًا أشْرك فيه [معي] (3) غيري فهو كله للذي أشرك به" (¬5) وهذا هو معنى ¬
فصل [جزاء المخلص]
قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. فصل [جزاء المخلص] وقوله: "فما ظنك بثواب عند اللَّه في عاجل رزقه وخزائن رحمته" [يريد به تعظيم جزاء] (¬1) المخلص وأَنَه رزق عاجل إما للقلب أو للبدن أو لهما. ورحمته مدّخرة في خزائنه؛ فإن اللَّه سبحانه يجزي العبد على ما عمل من خير في الدنيا ولا بد، ثم في الآخرة يوفيه أجره، كما قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 185] فما يحصل في الدنيا من الجزاء على الأعمال الصالحة ليس جزاء توفية، وإن كان نوعًا آخر كما قال تعالى عن إبراهيم: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 27] وهذا نظير قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] فأخبر سبحانه أنه آتى خليله أجره في الدنيا من النعم التي أنعم بها عليه في نفسه وقلبه وولده وماله وحياته الطيبة، ولكن ليس ذلك أجر توفية. [لكل من عمل خيرًا أجران] وقد دل القرآن في غير موضع على أنَّ لكلِّ من عمل خيرًا أجرين: عمله في الدنيا ويكمل له أجره في الآخرة، كقوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} [النحل: 30] وفي الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [النحل: 41]، وقال في هذه السورة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] وقال فيها عن خليله: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2) [النحل: 122] فقد تكرِّر هذا المعنى في هذه ¬
السورة دون غيرها في أربعة مواضع لسرٍ بديع، فإنها سورة النِّعم التي عَدَّد اللَّه سبحانه فيها أصول النعم وفروعها، فعرَّف عباده أن لهم عنده في الآخرة من النعم أضعاف هذه بما لا يدرك تفاوته، وأن هذه من بعض نعمه العاجلة عليهم، وأنهم إن أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعمًا أخرى، ثم في الآخرة يوفيهم أجور أعمالهم تمام التوفية، وقال تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] فلهذا (¬1) قال أمير المؤمنين: "فما ظنك بثواب عند اللَّه في عاجل رزقه وخزائن رحمته، والسلام". فهذا بعضُ ما يتعلَّق بكتاب أمير المؤمنين -رضي اللَّه عنه- من الحكم والفوائد، والحمد للَّه رب العالمين (¬2) [وصلواته وسلامه على محمد وآله وصحبه أجمعين] (¬3). [بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ رب يسر وأيمن يا كريم وصلى اللَّه على محمد وآله وصحبه. قال شيخ الإسلام ابن قيم الجوزية تغمده اللَّه برحمته وأسكنه بحبوح جنته آمين] (¬4): ¬
ذكر تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وذكر الإجماع على ذلك
ذكر تحريم الإفتاء في دين اللَّه بغير علم وذكر الإجماع على ذلك [إثم القول على اللَّه بغير علم] قد تقدم (¬1) قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 169] وأن ذلك يتناول القول على اللَّه بغير علم في أسمائه وصفاته وشرعه ودينه. وتقدم حديث أبي هريرة المرفوع: "من أُفتي بفُتْيا غير ثبت (¬2) فإنما إثمُه على مَنْ أفتاه" (¬3). ¬
وروى الزهريُّ، عن عَمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: سمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قومًا يتمارون في القرآن فقال: "إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتابَ اللَّه بعَضَه ببعض، وإنما نَزَل كتابُ اللَّه يُصدِّقُ بعضُه بعضًا، ولا يكذب بعضه بعضًا، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم [منه] فكِلوهُ إلى عالمه" (¬1) فأمر من جهل شيئًا من كتاب اللَّه أن يكله إلى عالمه، ولَا يتكلف القول بما لا يعلمه. وروى مالك بن مِغْول، عن أبي حَصين (¬2)، عن مجاهد، عن عائشة أنه لما نزل عُذْرُها قبّل أبو بكر رأسها، قالت: فقلت: ألا عذرتني عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: أيُّ سماء تُظِلُّني وأي أرض تُقِلني إذا قلت ما لا أعلم؟ (¬3). وروى أيوب أن (¬4) ابن أبي مُليكة قال: سئل أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- عن آية، فقال: أيُّ أرض تُقلُّني وأي سماء تظلني؟ وأين أذهب؟ وكيف أصنع إذا أنا قلت في كتاب اللَّه بغير ما أراد اللَّه بها؟ (¬5). ¬
وذكر البيهقي من حديث مسلم البَطِين، عن عَزْرة التميمي (¬1) قال: قال علي بن أبي طالب (¬2): وأبَرَدُها على كبدي (ثلاث مرات)، قالوا: يا أمير المؤمنين وما ذاك؟ قال: أن يُسأل الرجل عما لا يعلم فيقول: اللَّه أعلم (¬3). ¬
[على من لا يعلم أن يقول: لا أدري]
[على من لا يعلم أن يقول: لا أدري] وَذكر أيضًا عن علي -رضي اللَّه عنه- قال: خمسٌ إذا (¬1) سافر فيهن رجل إلى اليمن كن فيه عوضًا عن (¬2) سفره: لا يخشى عبدٌ إلا ربَّه، ولا يخاف إلا ذنبه، ولا يستحي مَنْ لا يعلم أن يتعلَّم، ولا يستحي منْ يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول: اللَّه أعلم، والصَّبرُ من الدين بمنزلة الرأس من الجسد (¬3). وقال الزُّهري، عن خالد بن أسلم وهو أخو زيد بن أسلم: خرجنا مع ابن عمر نمشي، فلحقنا أعرابي فقال: أنت عبد اللَّه بن عمر؟ قال: نعم، قال: سألتُ عنك فدُلِلتُ عليك، فأخبرني أتَرث العمة؟ قال: لا أدري، قال: أنت لا تدري؟ قال: نعم، اذهب إلى العلماء بالمدينة فاسألهم؛ فلما أدبر قَبَّل يديه وقال: نِعِمّا، قال أبو عبد الرحمن؛ سُئل عما لا يدري فقال: لا أدري (¬4). وقال ابن مسعود: مَنْ كان عنده علمٌ فليقل به؛ ومن لم يكن عنده علم فليقل: "اللَّه أعلم" فإن اللَّه قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] (¬5). ¬
وصح عن ابن مسعود وابن عباس: مَنْ أفتى النَاسَ في كل ما يسألونه عنه فهو مجنون (¬1). وقال ابن شبرمة: سمعت الشعبي إذا سُئل عن مسألة شديدة قال: رُبّ ذاتِ وبَر لا تنقاد ولا تَنْساق؛ ولو سُئل عنها الصحابة لعضلت بهم (¬2). وقال أبو حَصين الأسدي: إن أحدهم ليفتي في المسألة ولو وردت على عُمر لَجمعَ لها أهل بدر (¬3). وقال ابنُ سيرين: لأن يموت الرجلُ جاهلًا خيرٌ له من أن يقولَ ما لا يعلم (¬4). وقال القاسم: من إكرام الرجل نفسه أن لا يقول إلا ما أحاط به علمه (¬5). وقال: يا أهل العراق واللَّه لا نعلم كثيرًا مما تسألوننا عنه، ولأن يعيش الرجل جاهلًا إلا أن يعلمَ ما فرض اللَّه عليه خيرٌ له من أن يقول على اللَّه ورسوله ما لا يعلم (¬6). وقال مالك: من فقه العالم أن يقول: "لا أعلم"؛ فإنه عسى أن يتهيأ له الخير (¬7). وقال: سمعتُ ابن هرمز يقول: ينبغي للعالم أن يُورث جلساءه من بعده: "لا أدري"، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه (¬8). ¬
[طريقة السلف الصالح]
وقال الشعبي: "لا أدري" نصف العلم (¬1). وقال ابنُ جُبير: ويلٌ لمن يقول لما لا يعلم: إني أعلم (¬2). وقال الشافعي: سمعت مالكًا يقول: سمعتُ ابنَ عجلان يقول: إذا أغفل العالم "لا أدري" أُصيبت مقاتله (¬3)، وذكره ابن عجلان عن ابن عباس (¬4). [طريقة السلف الصالح] وقال عبد الرحمن بن مهدي: جاء رجل إلى مالك، فسأله عن شيء، [فمكث] (¬5) أيامًا ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد اللَّه إني أريد الخروج [وقد طال التردد إليك]، فأطرق طويلًا ورفع رأسه فقال: ما شاء اللَّه! يا هذا إني أتكلم فيما احتسب فيه الخير، ولست أُحسنُ مسألتك هذه (¬6). ¬
وقال ابنُ وهب: سمعت مالكًا يقول: العجلة في الفتوى نوع من الجهل والخَرَف (¬1)، قال: وكان يقول: التأنّي من اللَّه والعجلة من الشيطان (¬2). وهذا الكلام قد رواه الليث بن سعد، عن يزيد بن أبي حَبيب، عن سعد بن سِنان، عن أنس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "التأني من اللَّه والعجلة من الشيطان" (¬3)، وإسناده جيد. وقال ابن المنكدر: العالم بين اللَّه وبين خلقه، فلينظر كيف يدخل بينهم (¬4). وقال ابن وهب: قال لي مالك وهو يُنكر كثرة الجواب في المسائل: [يا عبد اللَّه] (¬5) ما علمتَ فقل، وإياك أن تُقلِّد الناس قلادة سوء (¬6). ¬
[فوائد تكرير السؤال]
وقال مالك: حدثني ربيعة قال: قال لي ابن (¬1) خلدة وكان نعم القاضي: يا ربيعة، أراك (¬2) تفتي الناس، فإذا جاءك الرجل يسألك فلا يكن هَمُّك أن [تخرجه مما وقع فيه ولتكن همتك أن] تتخلص مما سألك عنه (¬3). وكان ابنُ المسيب لا يكاد يفتي إلا قال: اللهم سلِّمني وسَلِّم مني (¬4). وقال مالك: ما أجبتُ في الفتوى حتى سألتُ مَنْ هو أعلم مني: هل تراني موضعًا لذلك؟ سألت ربيعة، وسألت يحيى بن سعيد، فأمراني بذلك، فقيل له: يا أبا عبد اللَّه! فلو نهوْك؟ [قال] (¬5): كنت أنتهي (¬6). وقال ابنُ عباس لمولاه عكرمة: اذهب فأفْتِ الناس وأنا لك عوْن، فمن سألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عَمَّا لا يعنيه فلا تُفتِهِ، فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس (¬7). [فوائد تكرير السؤال] وكان أيوب إذا سأله السائل قال له: أعِدْ، فإن أعاد السؤال كما سأله عنه أولًا أجابه، وإلا لم يجبه (¬8). ¬
ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب
وهذا من فهمه وفطنته رحمه اللَّه، وفي ذلك فوائد عديدة: منها: أن المسألة تزداد وضوحًا وبيانًا بتفهم السؤال. ومنها: أن السائل لعله أهمل فيها أمرًا يتغتر به الحكم فإذا أعادها رُبَّما بيَّنه له. ومنها: أن المسؤول قد يكون ذاهلًا عند (¬1) السؤال أولًا، ثم يحضر ذهنه بعد ذلك. ومنها: ربما بَان له تعنُّت السائل وأنه وضع المسألة؛ فإذا غَيَّر السؤال وزاد فيه ونقص فربما ظهر له أن المسألة لا حقيقة لها، وأنها من الأغلوطاتِ أو غيرِ الواقعات التي لا يجب الجواب عنها؛ فإن الجوابَ بالظنِّ يجوز عند الضرورة، فإذا وقعت المسألة صارت حال ضرورة فيكون التوفيق إلى الصّواب أقرب، واللَّه أعلم. ذكر تفصيل القول في التقليد وانقسامه إلى ما يحرم القول فيه والإفتاء به، وإلى ما يجب المصير إليه، وإلى ما يسوغ من غير إيجاب [أنواع ما يحرم القول به] فأما النوع الأول فهو ثلاثة أنواع: أحدهما: الإعراضُ عمَّا أنزل اللَّه وعدم الالتفات إليه اكتفاءً بتقليد الآباء. الثاني: تقليدُ من لا يعلم المقلِّد أنه أهل [لأن] (¬2) يُؤخذ بقوله. الثالث: التقليد بعد قيام الحجة وظهور الدليل على خلاف قول المقلَّد، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قَلَّدَ قبل تمكّنه من العلم والحجة، وهذا قَلَّدَ بعد ظهور الحجة له؛ فهو أولى بالذم ومعصية اللَّه ورسوله. وقد ذم اللَّه سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه كما في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا ¬
عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23 - 24] [وقال تعالى] (¬1): {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [المائدة: 104] وهذا في القرآن كثير يَذمُّ فيه من أعرض عما أنزله وقنع بتقليد الآباء. فإن قيل: إنّما ذم من قلَّد الكفّار وآباءه الذين لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون، ولم يَذم من قَلَّد العُلماءَ المهتدين، بل قد أمر بسؤال أهل الذكر، وهم أهل العلم، وذلك تقليدٌ لهم، فقال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وهذا أمرٌ لمن لا يعلم بتقليدِ من يَعْلم. فالجواب أنه سبحانه ذمَّ من أعرض عَمَّا أنزله إلى تقليد الآباء، وهذا القدر من التقليد هو مما اتفق السلف والأئمة الأربعة على ذَمِّه وتحريمه، وأما تقليد من بذل جُهده في اتباع ما أنزل اللَّه وخفي عليه بعضُه فقلَّد فيه من هو أعلم منه فهذا محمود غير مذموم، ومأجور غير مأزور، كما سيأتي بيانه عند ذكر التقليد الواجب والسائغ إن شاء اللَّه تعالى. وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم كما سيأتي، وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف: 3] فأمر باتباع المُنزَّل خاصة، والمُقلِّد ليس له علم أن هذا هو المنزَّل وإن كان (¬2) قد تبيَّنت (¬3) له الدلالة في خلاف قول من قَلَّده فقد علم أن تقليده في خلافه اتباع لغير المنزل، وقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] فمنَعَنَا سبحانه من الرد إلى غيره وغير رسوله، وهذا يبطل التقليد. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا (¬4) وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً} [التوبة: 16] ولا وليجة (¬5) أعظم ممن جعل رجلًا ¬
بعينه عيارًا (¬1) على كلام اللَّه وكلام رسوله وكلام سائر الأمة، يقدّمه على ذلك كله، ويَعْرض كتابَ اللَّه (¬2) وسنة رسوله وإِجماع الأمة على قوله فما وافقه منها قَبِلَه لموافقته لقوله وما خالفه منها تلطَّف في رده وطلب (¬3) له وجوه الحيل، فإن لم تكن هذه وليجة فلا ندري ما الوليجة! وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَالَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 66 - 67] وهذا نصٌّ في بطلان التقليد. فإن قيل: إنما فيه ذم من قلد من أضله السبيل، أما من هداه السبيل فأين ذم اللَّه تقليده؟ قيل: جواب [هذا] (¬4) السؤال في نفس السؤال، فإنه لا يكون العبد مهديًا (¬5) حتى يتبع ما أنزل اللَّه على رسوله؛ فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل اللَّه على رسوله فهو مهتد، وليس بمقلد، وإن لم يعرف (¬6) ما أنزل اللَّه على رسوله فهو جاهلٌ ضالٌ بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هدًى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب وأنهم إنما يقلدون (¬7) أهل الهدى فهم في تقليدهم على هدى. فإن قيل: فأنتم تُقِرُّون (¬8) أن الأئمة المقلدين في الدِّين على هدى، فمقلِّدوهم على هدى قطعًا؛ لأنهم سالكون خلفهم. قيل: سلوكُهُم خلفهم مبطلٌ لتقليدهم لهم قطعًا؛ فإن طريقتَهم كانت اتباع الحجة والنهي عن تقليدهم كما سنذكره عنهم إن شاء اللَّه تعالى، فمن ترك الحجة وارتكب ما نَهوا عنه ونهى اللَّه ورسوله عنه قبْلهم فليس على طريقتهم وهو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتَّبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلًا بعينه سوى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يجعله مختارًا على الكتاب والسنة يعرضها (¬9) ¬
[الفرق بين الاتباع والتقليد]
على قوله. وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتِّباعًا، وإيهامه وتلبيسه، بل هو مخالف للاتّباع، وقد فَرَّق اللَّه ورسوله وأهل العلم بينهما كما فرّقت الحقائق بينهما، فإن الاتباع سلوك طريق المُتَّبَع والإتيان بمثل ما أتى به. [الفرق بين الاتباع والتقليد] قال أبو عمر في "الجامع" (¬1): (باب فساد التقليد ونفيه، والفرق بينه وبين الاتباع). قال أبو عمر: قد ذمَّ اللَّه تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]، روي عن حذيفة وغيره قال: لم يعبدوهم من دون اللَّه، ولكنهم أحلُّوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم (¬2). وقال عَديُّ بنُ حاتم: أتيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي عُنُقي صليب، فقال: ¬
يا عدي ألق هذا الوثَنَ من عنقك، وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا (¬1) مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] فقلت (¬2): يا رسول اللَّه إنا لم نتخذهم (¬3) أربابًا، قال: بلى، أليس يُحِلُّون لكم ما حُرِّم عليكم فتحلُّونه ويحرِّمون عليكم ما أُحلَّ لكم فتحرمونه؟ فقلت: بلى، قال: فتلك عبادتهم (¬4). قلت: الحديث في "المُسند" والترمذي مطولًا. وقال أبو البَخْتَري في قوله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] قال: أما إنهم لو أَمروهم أَن يعبدوهم من دون اللَّه ما ¬
أطاعوهم، ولكنَّهم أمروهم فجعلوا حَلالَ اللَّه حَرَامه وحرامه حلاله فأطاعوهم فكانت تلك الربوبية (¬1). وقال وكيع: ثنا سفيان والأعمش جميعًا، عن حَبيب بن أبي ثَابت (¬2) عن أبي البَخْتَري قال: قيل لحذيفة في قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31]: أكانوا يعبدونهم؟ فقال: لا، ولكن كانوا يُحِلّون لهم الحرام فيحلونه ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه (¬3). وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 23 - 24] فمنعهم الاقتداءُ بآبائهم من قبول الاهتداء، فقالوا: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: 34] وفي هؤلاء ومثلهم قال اللَّه عز وجل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 166 - 167] وَقَالَ تَعَالَى معاتبًا (¬4) لأهل الكفر وذامًّا لهم: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 52 - 53] وقال: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} [الأحزاب: 67] ومثل هذا في القرآن كثير من ذمِّ تقليد الآباء والرؤساء وقد احتجَّ العلماءُ بهذه الآية في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفرُ أولئك من الاحتجاج بها؛ لأن التشبيه لم يقع من جهةِ كفرِ أحدِهما وإيمانِ الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المُقَلِّدين (¬5) بغير حجة للمُقلِّد، كما لو قلَّد رجلًا (¬6) فكفر وقلَّد آخر فأذنب وقلد آخر في مسألة [دنياه] فأخطأ وَجْهَها كان كل واحد ملومًا على التقليد بغير حجة؛ لأن كل ذلك ¬
[مضار زلة العالم]
تقليد يُشبه بعضه بعضًا وإن اختلفت الآثام فيه، وقال اللَّه عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]. قال: فإذا بطل التقليد بكل ما ذكرنا وجب التسليم للأصول التي يجب التسليم لها، وهي "الكتاب والسنة" وما كان (¬1) في معناهما بدليلٍ جامع (¬2)، ثم ساق من طريق كَثير بن عبد اللَّه بن عَمرو بن عوف، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إني لا أخاف على أُمتي من بعدي إلا من أعمال ثلاثة، قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؟ قال: أخاف عليهم زلّة العَالِم (¬3)، ومن حكم جائر، ومن هوًى مُتَّبع" (¬4) وبهذا الإسناد عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتابَ اللَّه، وسُنَّة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬5). [مضار زلة العالم] قلت: والمُصنِّفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله وبين زلة العالم ليبيِّنوا بذلك فساد التقليد وأن العَالِم قد يزل ولا بد؛ إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، ويُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم؛ فهذا الذي ذَمَّه كلُّ عالم على وجه الأرض، وحَرَّموه، وذمُّوا أهله، وهو أصل بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلِّدون العالم فيما زَلَّ فيه وفيما لم يزل فيه، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد فيحلون ما حرم [اللَّه] (6) ويحرمون ما أحل [اللَّه] (¬6) ويشرعون ما لم يشرع، ولا بد لهم من ذلك إذ كانت العصمة منفية (¬7) عَمَّن قلدوه، فالخطأ ¬
واقع منه ولا بد. وقد ذكر البيهقي وغيره من حديث كثير هذا، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "اتقوا زَلَّة العالم، وانتظروا فيئته" (¬1). وذكر من حديث [مسعود] (¬2) بن سعد، عن يزيد بن أبي زِياد، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أشَدُّ ما أتخوف على أمتي ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم" (¬3). ومن المعلوم أنَّ المُخوفَ في زلَّة العالم تقليده فيها؛ إذ لولا التقليد لم يخف من زلة العالم على غيره. فإذا عَرَف أنها زَلَّة لم يجز له أن يتبعه فيها باتفاق المسلمين، فإنه اتباعٌ للخطأ على عمد، ومن لم يعرف أنها زلة فهو أعذر منه، وكلاهما مُفرِّط فيما أمر به، وقال الشعبي: قال عمر: يُفسد الزمان ثلاثة: أئمة مُضلون، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وزلة العالم (¬4). وقد تقدم أن معاذًا كان لا يجلس مجلسًا ¬
للذِّكر إلا قال حين يجلس: اللَّه حَكَم قسط، هلك المرتابون. . . الحديث، وفيه: "وأحذركم زلة الحكيم (¬1)؛ فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق"، قلت لمعاذ: ما يُدريني رَحِمك اللَّه أنَّ الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق؟ قال لي: اجْتنِبْ من كلام الحكيمِ المُشتبهات التي يقال: ما هذه؟ ولا يثنيك ذلك عنه، فإنه لعله يُراجع، وتَلقَّ الحق إذا سمعته، فإن على الحق نورًا (¬2). وذكر البيهقي من حديث حَمَّاد بن زيد، عن المثنى بن سعيد، عن أبي العالية قال: قال ابن عباس: ويْلٌ للأتباعِ من عَثراتِ العالم، قيل: وكيف ذلك يا ابن عَبَّاس (¬3)؟ قال: يقول العالمُ من قبل رأيه، ثم يسمعُ الحديثَ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيدع ما كان عليه، وفي لفظ: من هو أعلم برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- منه فيخبره فيرجع ويقضي الأَتباعُ بما حَكَم (¬4). ¬
وقال تميم الداري: اتقوا زلة العالم، فسأل عمر: ما زلة العالم؟ قال: يزل بالناس فيُؤخذُ به، فعسى أن يتوبَ العالِمُ والناس يأخذون بقوله (¬1). وقال شعبة، عن عمرو بن مُرَّة، عن عبد اللَّه بن سلمة قال: قال معاذ بن جبل: يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطع أعناقكم، وزلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، فسكتوا، فقال: أما العالم فإن اهْتدى فلا تقلِّدوه دِينَكم، وإن افتتن فلا تقطعوا منه أياسكم (¬2)؛ فإن المؤمن يفتتن ثم يتوب، وأما القرآن فله منار كمنار الطريق فلا يخفى على أحد، فما عرفتم منه فلا تسألوا عنه، وما شككتم فكِلوه إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل اللَّه الغنى في قلبه فقد أفلح، ومن لا فليس بنافعته دنياه (¬3). وذكر أبو عمر من حديث حُسَيْنُ الجُعْفي، عن زائدة، عن عطاء بن السائب، عن أبي البَخْتَري قال: قال سلمان: كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوهُ دينكم، وأما مجادلة المنافق بالقرآن فإن للقرآن منارًا كمنار الطريق [فلا يخفى على أحد] (¬4)، فما عرفتم منه فخذوه، وما لم تعرفوه فكِلوه إلى اللَّه، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى مَنْ هو دونكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم (¬5). ¬
قال أبو عمر (¬1): وتشبه زلة العالم بانكسار السفينة؛ لأنها إذا غرقت غرق معها خلْق كثير. قال [أبو عمر] (1): وإذا صح وثبت أن العالم يزل ويخطئ لم يجز لأحد أن يفتي ويدين يقول لا يعرف وجهه. وقال غيرُ أبي عمر (¬2): كما أن القضاةَ ثلاثة قاضيان في النار وواحد في الجنة فالمفتون ثلاثة، ولا فرق بينهما إلا في كون القاضي يُلزِمُ بما أفتى به، والمفتي لا يلزم به. وقال ابنُ وهب: سمعتُ سفيان بن عيينة يُحدِّث عن عاصم بن بَهْدَلة، عن زِرِّ بن حُبيش، عن ابن مسعود أنه كان يقول: اغْدُ عالمًا أو متعلمًا ولا تغدُ إمَّعة فيما بين ذلك، قال ابن وهب: فسألت سفيان عن الإمَّعة، فحدثني عن أبي الزناد، عن أبي الأحوص، عن ابن مسعود قال: كنا ندعو الإمَّعة في الجاهلية الذي يُدعى إلى الطعام فيأتي معه بغيره، وهو فيكم المُحَقِّب (¬3) دينه الرجال (¬4). ¬
وقال أبو زرعة عبد الرحمن بن عَمرو النَّصري (¬1): ثنا أبو مُسْهِر: ثنا سعيدُ بن عبد العزيز، عن إسماعيل بن عُبيد اللَّه، عن السائب بن يزيد بن أخت نَمر أنه سمع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- يقول: إنَّ حَديثَكم شَرُّ الحديث، إن كلامكم شر الكلام؛ فإنكم قد حدثتم الناس حتى قيل: قال فلان، وقال فلان، ويُترك كتاب اللَّه، من كان منكم قائمًا فليقم بكتاب اللَّه، وإلّا فليجلس (¬2). فهذا قول عمر ¬
[كلام علي لكميل بن زياد]
لأفضل قرْن على وجه الأرض، فكيف لو أدرك ما أصْبحنا فيه من ترك كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة لقول فلان وفلان [وفلان] (¬1)؟ فاللَّه المستعان! [كلام علي لكُميل بن زياد] قال أبو عمر (¬2): "وقال علي بن أبي طالب (¬3) لكُمَيْل بن زياد النخعي -وهو حديث مشهور عند أهل العلم، يَستغني عن الإسناد لشهرته عندهم-: يا كميل، إن هذه القلوب أوْعية، فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالمٌ رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع، أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق. ثم قال: آه (¬4) إن هاهنا علمًا -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبْتُ له حملة، بلى (¬5) قد أصبت لَقِنًا (¬6) غير مأمون، يستعمل [آلة] (¬7) الدين للدنيا، ويستظهر بحجج اللَّه على كتابه وبنعمه على معاصيه، أو حامل (¬8) حق لا بصيرة له [في إحيائه] (7)، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ، وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري حقيقته، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرَّفه اللَّه دينه، وكفى بالمرء جهلًا أن لا يعرف دينه (¬9). ¬
[نهي الصحابة عن الاستنان بالرجال]
[نهي الصحابة عن الاستنان بالرجال] وذكر أبو عمر (¬1) عن أبي البَختري عن علي قال: إياكم والاستنان بالرجال، فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم اللَّه فيه فيعمل بعمل أهل النار، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم اللَّه فيه فيعمل بعمل أهل الجنة، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بُدّ فاعلين فبالأموات لا بالأحياء (¬2). ¬
وقال ابن مسعود: لا يقلدنّ أحدكم دينه رجلًا إنْ آمن آمن، وإنْ كفر كفر فإنه لا أُسوةَ في الشر (¬1). قال أبو عمر (¬2): و [قد] ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "يذْهبُ العلماء، ثم يتخذ الناس رءوسًا جُهّالًا، يُسألون فيفتون بغير علم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون" (¬3) قال أبو عمر: وهذا كله نفي قلت للتقليد، وإبطال له لمن فهمه وهُدِيَ لرشده. ثم ذكر من طريق يونس بن عبد الأعلى: ثنا سفيان بن عُيينة قال: اضطجع ربيعة مقنعًا رأسه وبكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: رياءٌ ظاهر، وشهوة خَفية، والناس عند علمائهم كالصبيان في إمامهم (¬4): ما نهوهم عنه انتهوا، وما أمروهم (¬5) به ائتمروا (¬6). ¬
[الاحتجاج على من أجاز التقليد بحجج نظرية]
وقال عبد اللَّه بن المعتز (¬1): لا فرق بين بهيمةٍ تنقادُ وإنسان يقلِّد (¬2). ثم ساق من "جامع (¬3) ابن وهب": أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بكر بن عمرو (¬4)، عن عَمرو بن أبي نَعيمة (¬5)، عن مسلم بن يسار، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من قال عليَّ ما لم أقل فليتبوأ مَقْعده من النار، ومَنْ استشار أخاه فأشار عليه بغير رشده فقد خانه، ومن أُفتي بفُتيا بغير ثبت فإنما إثمه (¬6) على من أفتاه" (¬7) وقد تقدم هذا الحديث من رواية أبي داود (¬8). وفيه دليل على تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه إفتاء بغير ثبت؛ فإن الثبتَ الحجةُ التي يثبتُ بها الحكم باتفاق الناس كما قال أبو عمر (¬9): [الاحتجاج على من أجاز التقليد بحجج نظرية] " وقد احتج جماعة من الفقهاء وأهل النظر على من أجاز التقليد بحجج نظرية عقلية بعد ما تقدم، فأحْسن ما رأيت من ذلك قول المزني (¬10)، وأنا أورده، قال: يُقال لمن حكم بالتقليد: هل لك من حجة فيما حَكمتَ به؟ فإن قال: "نعم" بطل التقليد لأن الحجة أوجبت ذلك عنده لا التقليد، وإن قال: "حكمت به (¬11) بغير حجة" قيل له: فلم أرَقْت الدماء وأبحت الفروج وأتلفت الأموال وقد حَرَّم اللَّه ذلك إلا بحجة؟ قال اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا} [يونس: 68] ¬
أي: من حجة بهذا فإن قال: "أنا أعلم أني قد أصبت وإن لم أعرف الحجة لأني قَلَّدتُ كبيرًا من العلماء وهو لا يقول إلا بحجة خَفِيت عليّ" قيل له: إذا جاز تقليد مُعلِّمك لأنه لا يقول إلا بحجة خَفِيت عليك فتقليدُ معلِّم مُعلِّمك أولى؛ لأنه لا يقول إلا بحجة خفيت على معلِّمك كما لم يقل إلا بحجة خفيت عليك، فإن قال: "نعم" ترك تقليد [معلمه إلى تقليد] (¬1) معلم معلمه، وكذلك من هو أعلى حتى ينتهي [الأمر] (1) إلى أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن أبي ذلك نَقَضَ قَوْلَه، وقيل له: كيف تُجوِّز تقليدَ مَنْ هو أصغر وأقل علمًا ولا تجوز تقليد من هو أكبر وأكثر علمًا وهذا تناقض؟ فإن قال: "لأن معلمي -وإن كان أصغر- فقد جَمَعَ عِلْم مَنْ هو فوقه إلى علمه فهو أبصر بما أخذ وأعلم بما ترك" قيل له: وكذلك من تَعَلمَ من معلمك فقد جمع علم معلمك وعلم من فوقه إلى علمه، فيلزمك تقليده وترك تقليد معلمك، وكذلك أنت أولى أن تقلد نفسك من معلمك؛ لأنك جمعت علم معلمك وعلم من هو فوقه إلى عِلْمك، فإن قلّد قوله (¬2) جعل الأصغر ومن يحدث من صغار العلماء أولى بالتقليد من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك الصاحب عنده يلزمه تقليد التابع، والتابعٍ من دونه في قياس قوله، والأعلى للأدنى أبدًا، وكفى يقول يؤول إلى هذا تناقضًا وفسادًا" (¬3). قال أبو عمر: قال أهل العلم والنظر: حد العلم التبيين وإدراك المعلوم على ما هو به (¬4)، فمن بأن له الشيء فقد علمه، قالوا: والمُقلِّد لا علم له، ولم يختلفوا [في ذلك] (¬5)، ومن هاهنا واللَّه [أعلم] (5) قال البحتري (¬6): ¬
[التقليد والاتباع]
عرف العالمون فَضْلَكَ ... بالعلم وقال الجهَّالُ بالتَّقليدِ وأرى الناس مجمعين على ... فضلك من بين سيدٍ ومَسُودِ [التقليد والاتباع] وقال أبو عبد اللَّه بن خواز منداد (¬1) البصري المالكي: "التقليدُ معناه في الشرع الرجوع إلى قولٍ لا حجة لقائله عليه، وذلك ممنوعٌ منه في الشريعة، والاتِّباع: ما ثبت عليه حجة". وقال في موضع آخر من كتابه: "كُلُّ مَنْ اتبعتَ قَوْلَه من غير أن يجب عليك قبوله بدليل (¬2) يوجب ذلك فأنت مقلِّده، والتقليد في دين اللَّه غير صحيح، وكل مَنْ أوجبَ الدليلُ عليك اتِّباعَ قَوْلِه فأنت متبعه، والاتِّباع في الدين مَسوغ، والتقليد ممنوع". قال (¬3): "وذكر محمد بن حارث في "أخبار سحنون بن سعيد" عنه قال: "كان مالك وعبد العزيز بن أبي سَلَمة ومحمد بن إبراهيم بن دينار وغيرهم يختلفون إلى ابن هُرمز، فكان إذا سألة مالك وعبد العزيز أجابهما، وإذا سأله ابن دينار وذَوُوه لا يجيبهم، فتعرض له ابنُ دينار يومًا فقال له: يا أبا بكر لم تَستحلُّ مني ما لا يَحلُّ لك؟ فقال له: يا ابن أخي وما ذاك؟ قال: يسألك مالك وعبد العزيز فتجيبهما وأسألك أنا وذوي (¬4) فلا تجيبنا؟ فقال: أوقع ذلك في قلبك يا ابن أخي؟ قال: نعم، قال: إني [قد] (¬5) كَبِرَتْ سنِّي ورق عظمي، وأنا أخاف أن يكون خالطني في عقلي مثل الذي خالطني في بدني، ومالك وعبد العزيز عالمان فقيهان، إذا سمعا مني حقًا قبِلاه، وإن سمعا مني خطأ تركاه، وأنت وذووك ما أجبتكم به (¬6) قبلتموه". قال ابن حارث: هذا واللَّه الدين الكامل، والعقل الراجح، لا كمن يأتي ¬
بالهَذَيان (¬1)، ويريد أن ينزل [قوله] (¬2) من القلوب بمنزلة القرآن!. قال أبو عمر (¬3): يقال لمن قال بالتقليد: لِم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنهم لم يقلدوا؟ فإن قال: قلدتُ لأن كتاب اللَّه لا علم لي بتأويله، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم أُحْصِها، والذي قَلدتُه قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني. قيل له: أمَّا العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب أو حكاية عن سنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أو اجتمع (¬4) رأيهم على شيء فهو الحَقُّ لا شك فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قَلَّدت فيه بَعْضَهم دون بعض، فما حجتك في تقليد بعضهم دون بعض وكُلُّهم عالم؟ ولعل الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلى مذهبه، [فإن] (¬5) قال: "قلدته لأني أعلم أنه على صواب" (¬6) قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب (¬7) أو سنة أو إجماع؟ فإن قال: "نعم" أبطل التقليد، وطولب بما ادعاه من الدليل، وإن قال: "قَلَّدته لأنه أعلم مني" قيل له: فقلد كل من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خَلْقًا كثيرًا، ولا تخص من قَلَّدتَه إذ علتك فيه أنه أعلم منك (¬8)، فإن قال: "قلدته لأنه أعلم الناس" قيل له: فهو (¬9) إذن أعلم من الصحابة!! وكفى يقول مثل هذا قبحًا! فإن قال: "أنا أقلد بعض الصحابة" قيل له: فما حُجتك في ترك من لم تقلِّد منهم؟ ولعل من تركت قوله منهم أفضل ممن أخذت بقوله، على أن القول لا يصح لفضل قائله، وإنما يصح بدلالة الدليل عليه. وقد ذكر ابن مزين، عن عيسى بن دينار، قال عن ابن القاسم (¬10): عن مالك قال: ليس كما قال رجلٌ قولًا وإن كان له فَضلٌ يتَبع عليه (¬11)؛ لقول اللَّه عز وجل: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18]. فإن قال: قِصَري ¬
وقلَّة علمي يحملني على التقليد؛ قيل له: أما من قلَّد فيما يَنزلُ به من أحكام شريعته عالمًا يتفق له على علمه فيصدر في ذلك عما يُخبرُ به (¬1) فمعذور؛ لأنه قد أتى (¬2) ما عليه، وأدَّى ما لزمه فيما نزل به لجهله، ولا بد له من تقليد عالم (¬3) فيما جهله؛ لإجماع المسلمين أن المكفوف يُقلِّد من يثق بخبره في القبلة لأنه لا يقدر على أكثر من ذلك، ولكن مَنْ كانت هذه حاله هل تجوزُ له الفُتْيا في شرائع دين اللَّه فيحمل غيره على إباحة الفروج وإراقة الدماء واسترقاق الرقاب وإزالة الأملاك ويُصيِّرها (¬4) إلى غير مَنْ كانت في يديه (¬5) بقولٍ لا يعرفُ صحته ولا قام له الدليل عليه، وهو مقر أن قائله يخطئ ويصيب، وأن مخالفه في ذلك ربما كان المصيب فيما يخالفه فيه؟ فإن أجاز الفتوى لمن جَهِلَ الأصل والمعنى لحفظه الفروع لزمه أن يُجيزَه للعامة، وكفى بهذا جهلًا وردًا للقرآن، قال (¬6) اللَّه تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وقال: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يونس: 68] وقد أجمع العلماء على أن ما لم يُتبيَّن ولم يُستيقَن (¬7) فليس بعلم، وإنما هو ظن، والظن لا يغني من الحق شيئًا. ثم ذكر حديث ابن عباس: "من أفتى بفُتيا وهو يَعمى عنها كان إثمها عليه" موقوفًا ومرفوعًا (¬8)، قال: وثبت (¬9) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إيّاكم والظن فإن الظن أكذبُ الحديث" (¬10). ¬
قال: ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد (¬1)، ثم ذكر من طريق ابن وهب: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، أخبرني أبو عثمان بن سنَّة (¬2) أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن العلم بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" (¬3)، ومن طريق كثير بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن الإِسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء" قيل له: يا رسول اللَّه، وما الغرباء؟ قال: "الذين يُحيون سنتي ويعلِّمونها عبادَ اللَّه" (¬4) وكان ¬
يقال: "العلماءُ غرباءُ لكثرة الجهال"، ثم ذكر عن مالك عن زيد بن أسلم في قوله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] قال: بالعلم (¬1)، وقال ابن عباس في قول اللَّه تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] قال: يرفع اللَّه الذين أوتوا العلم من المؤمنين على الذين لم يوتَوُا العلم درجات (¬2). ¬
فصل [نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم]
وروى هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم في قوله: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ} [الإسراء: 55] قال: بالعلم (¬1)، وإذا كان المقلِّد ليس من العلماء باتفاق العلماء لم يدخل في شيء من هذه النصوص، وباللَّه التوفيق. فصل [نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم] وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم، وذَمّوا من أخذ أقوالهم بغير حجة؛ فقال الشافعي: مَثَلُ الذي يطلب العلم بلا حجة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري، ذكره البيهقي (¬2). وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول "مختصره" (¬3): اختصرت هذا من علم الشافعي، ومن معنى قوله، لأقربه على من أراده، مع إعْلامِيَّة نهيه عن تقليده وتقليد غيره لينظر فيه لدينه ويحتاط فيه لنفسه. وقال أبو داود: قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبع من مالك؟ قال: لا تقلد دينك أحدًا من هؤلاء، ما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فخذ به، ثم التابعين (¬4) بعدُ الرجلُ فيه مخيَّر (¬5). وقد فرق أحمد بين التقليد والاتباع فقال أبو داود: سمعته يقول: الاتباع أن يتبع الرجل ما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن أصحابه، ثم هو بَعدُ في التابعين مخيَّر (¬6). وقال أيضًا: لا تقلِّدني ولا تقلد مالكًا ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا (¬7). ¬
فصل [مناظرة بين مقلد وصاحب حجة]
وقال: مِن قلة فقه الرجل أن يقلد دينه الرجال (¬1). وقال بشر بن الوليد: قال أبو يوسف: لا يحلُّ لأحدٍ أن يقولَ مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا (¬2). وقد صرَّح مالك بأن من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النَّخَعي أنه يُستتاب، فكيف من (¬3) ترك قول اللَّه ورسوله لقول مَنْ هو دون إبراهيم أو مثله (¬4)؟ وقال جعفر الفريابي: حدثني أحمد بن إبراهيم الدَّورقيُّ: حدثني الهيثم بن جميل، قال: قلت لمالك بن أنس: يا أبا عبد اللَّه إن عندنا قومًا وضعوا كتبًا يقول أحدهم: ثنا فُلان، عن فلان، عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بكذا وكذا، و [حدثنا] فلان عن إبراهيم بكذا، ونأخذ (¬5) يقول إبراهيم. قال مالك: وصح عندهم قول عمر؟ قلت: إنما هي رواية كما صح عندهم قول إبراهيم، فقال: هؤلاء يُستتابون (¬6)، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. فصل [مناظرة بين مقلِّد وصاحب حُجَّة] في عقد مجلس مناظرة بين مقلد (¬7) وصاحب حجة منقاد للحق حيث كان. قال المقلد: نحن معاشر المقلدين ممتثلون قول اللَّه تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فأمر اللَّه سبحانه من لا علم له أن يسأل من هو أعلم منه، وهذا نص قولنا؛ وقد أرشد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من لا يعلم إلى سؤال من يعلم، فقال في حديث صاحب الشَّجَّة: "ألا سألوا [إذ] (¬8) لم يعلموا، إنما شفاءُ ¬
العِيِّ السؤال" (¬1) وقال أبو العَسيف الذي زنى بامرأة مستأجِرِه: "وإني سألت أهل ¬
العلم فأخبروني أنما على ابني جلدُ مئة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم" (¬1) فلم يُنكر عليه تقليد من هو أعلم منه، وهذا عالم الأرض عمر قد قلَّد أبا بكر؟ فروى شعبةُ، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، أن أبا بكر قال في الكَلَالة: أقضي فيها، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان واللَّه منه برئ، هو ما دون الولد والوالد، فقال عمر بن الخطاب: إني لأستحيي من اللَّه أن أخالف أبا بكر (¬2). وصحَّ عنه أنه قال له: رأيُنا لرأيك تبعٌ (¬3). ¬
وصح عن ابن مسعود أنه كان يأخذ يقول عمر (¬1). وقال الشعبي، عن مسروق: كان ستة من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُفتون الناس: ابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وعلي، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، وأبو موسى، وكان ثلاثة منهم يَدَعون قَوْلَهم لقول ثلاثة: كان عبد اللَّه يدع قوله لقول عمر، وكان أبو موسى يدع قوله لقول علي، وكان زيد يدع قوله لقول أُبيّ بن كَعْب (¬2). وقال جُنْدب: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس (¬3). وقد ¬
قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن معاذًا قد سن لكم سنة، فكذلك فافعلوا" (¬1) في شأن الصلاة حيث تأخَّر فصلى ما فاته [من الصلاة] (¬2) مع الإِمام بعد الفراغ، وكانوا يصلون ما فاتهم أولًا ثم يدخلون مع الإِمام. قال المقلد: وقد أمر اللَّه تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأولي الأمر -وهم العلماء، أو العلماء والأمراء (¬3) - وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به، فإنه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختص بهم. وقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100] وتقليدهم اتباع لهم، ففاعله ممن رضي اللَّه عنهم، ويكفي في ذلك الحديث المشهور: "أصحابي كالنجوم بأيِّهِمُ اقتديتم اهتديتم" (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقال عبد اللَّه بن مسعود: من كان منكم مُستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم (¬1). ¬
وقد صحَّ (¬1) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (¬2) وقال: "اقتدوا باللّذيْنِ من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا ¬
بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبْد" (¬1) وقد كتب عمر إلى شريح: أن أقْضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاقْضِ بما قضى به الصالحون (¬2). وقد منع عمر من بيع أمهات الأولاد (¬3) وتبعه الصحابة، وألزم بالطلاق الثلاث (¬4) فتبعوه أيضًا، واحتلم [أيضًا] مرة فقال له عمرو بن العاص: خُذ ثوبًا غير ثوبك، فقال: لو فعلتها لصارت سنة (¬5)، وقال أبيُّ بن كعب وغيره من ¬
الصحابة: ما استبان لك فأعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه (¬1). وقد كان الصحابة يُفتون ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيٌّ بين أظهرهم، وهذا تقليدٌ لهم قطعًا؛ إذ قولهم لا يكون حجة في حياة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، و [قد] (¬2) قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فأوْجب عليهم قبول ما أنذروهم به إذا رجعوا إليهم، وهذا تقليدٌ منهم للعلماء. وصح عن ابن الزبير أنه سئل عن الجد والإخوة، فقال: أما الذي قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذته خليلًا" (¬3) فإنه أنزله أبًا، وهذا ظاهرٌ في تقليده له، وقد أمر اللَّه سبحانه بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليد له، وجاءت الشريعة بقبول قول القائف والخَارِص (¬4) والقاسم والمُقَوِّم ¬
للمتلفات وغيرها والحاكمين بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض. وأجمعت الأمة على قبول قول المترجم والرسول والمعرِّف والمعدِّل وإن اختلفوا في جواز الاكتفاء بواحد، وذلك تقليد محض لهؤلاء (¬1). وأجمعوا على جواز شراء اللُّحمان والثياب والأطعمة وغيرها من غير سؤال عن أسباب حلها وتحريمها اكتفاءً بتقليد أربابها, ولو كُلِّف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء [فضلاء] (¬2) لضاعت مصالح العباد، وتعطلت الصنائع والمتاجر، وكان الناس كلهم علماء مجتهدين، وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا، والقدر قد منع من وقوعه. وقد أجمع الناس على تقليد الزوج للنساء اللاتي يُهْدين إليه زوجته وجواز وطئها تقليدًا لهن في كونها هي زوجته. وأجمعوا على أن الأعمى يُقلَّد في القبلة (¬3)، وعلى تقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وما يصح به الاقتداء، وعلى تقليد الزوجة مسلمة كانت أو ذمية أن حيضها قد انقطع فيُباح للزوج وطؤها بالتقليد، ويباح للولي تزويجها بالتقليد لهادي انقضاء عدتها، وعلى جواز تقليد الناس للمؤذِّنين في دخول أوقات الصلوات، ولا يجب عليهم الاجتهاد ومعرفة ذلك بالدليل. وقد قالت الأمة السوداء لعقبة بن الحارث: أرضعتُكَ وأرضعتُ امرأتك، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بفراقها وتقليدها فيما أخبرته به من ذلك (¬4). وقد صرَّح الأئمة بجواز التقليد، فقال حفصُ بن غِياث: سمعت سفيان يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختُلف فيه وأنت ترى تحريمه فلا تنهه. ¬
وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد من هو مثله (¬1). وقد صرح الشافعي بالتقليد فقال: في الضلع (¬2) بعير، قلته تقليدًا لعمر. وقال في مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب: قلته تقليدًا لعثمان. وقال في مسألة الجد مع الإخوة: إنه يقاسمهم، ثم قال: وإنما قلت يقول زيد، وعنه قبلنا أكثر الفرائض. وقد قال في موضع آخر من كتابه الجديد: قلته تقليدًا لعطاء. وهذا أبو حنيفة رحمه اللَّه في (¬3) مسائل الآبار (¬4) ليس معه فيها إلا تقليد من تقدَّمه من التابعين فيها. وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، ويصرِّح في "موطئه" بأنه أدرك العمل على هذا، وهذا (¬5) الذي عليه أهل العلم ببلدنا. ويقول في غير موضع: ما رأيت أحدًا أَقتدي به يفعله. ولو جمعنا ذلك من كلامه لطال. وقد قال الشافعي في الصحابة: رأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا [ونحن نقول ونصدق أن رأي الشافعي والأئمة معه لنا خير من رأينا لأنفسنا] (¬6). وقد جعل اللَّه سبحانه في فطر العباد تقليد المتعلمين للأستاذين والمعلمين، ولا تقوم مصالح الخلق إلا بهذا، وهذا (¬7) عام في كل علم وصناعة، وقد فاوت اللَّه سبحانه بين قوى الأذهان كما فاوت (¬8) بين قوى الأبدان، فلا يحسن في حكمته وعدله ورحمته أن يفرض على جميع خلقه معرفة الحق بدليله والجواب عن معارضه في جميع مسائل الدين دقيقها وجليلها؛ ولو كان كذلك لتساوت أقدام الخلائق في كونهم علماء، بل جعل سبحانه هذا عالمًا، وهذا متعلمًا، وهذا متبعًا للعالم مؤتمًا به، بمنزلة المأموم مع الإِمام والتابع مع المتبوع، وأين حَرَّم اللَّه تعالى على الجاهل أن يكون متبعًا للعالم مؤتمًا به مقلدًا له يسير بسيره وينزل بنزوله؟ وقد علم اللَّه سبحانه أن الحوادث والنوازل كل وقت نازلة بالخلق، فهل فرض على كل منهم فرض عين أن يأخذ حكم نازلته من الأدلة الشرعية بشروطها ولوازمها؟ وهل ذلك في إمكان [أحد] (¬9) فضلًا عن كونه مشروعًا؟ وهؤلاء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحوا البلاد، وكان الحديث العهد بالإِسلام يسألهم ¬
[الرد على حجج القائلين بالتقليد]
فيفتونه، ولا يقولون له: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل، ولا يُعرف ذلك عن أحد منهم ألبتة، وهل التقليد إلا من لوازم التكليف ولوازم الوجود! فهو من لوازم الشرع والقدر. والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد، وذلك فيما تقدم بيانه من الأحكام وغيرها. ونقول لمن احتج على إبطاله: كل حجة أَثريّة ذكرتها فأنت مقلد لحملَتِهَا ورُواتها؛ إذ لم يقم دليل قطعي على صدقهم، فليس في يدك (¬1) إلا تقليد الراوي، وليس بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، وكذلك ليس بيد العامي إلا تقليد العالم، فما الذي سَوَّغ لك تقليد الراوي والشاهد ومنعنا من تقليد العالم، وهذا سمع بأذُنه ما رواه، وهذا عقل بقلبه ما سمعه، فأدَّى هذا مسموعه، و [أدى] (¬2) هذا معقوله، وفرض على هذا تأدية ما سمعه، وعلى هذا تأدية ما عقله، وعلى من لم يبلُغ منزلتهما القبول منهما؟ ثم يقال للمانعين من التقليد: أنتم منعتموه خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئًا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدل الذي طلب الحق، ولا ريب أن صوابه في تقليده للعالم أقرب من صوابه في اجتهاده هو لنفسه، وهذا كمن أراد شراء سِلعة لا خبرة له بها، فإنه إذا قلد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه، وهذا متفق عليه بين العقلاء. [الرد على حجج القائلين بالتقليد] قال أصحاب الحجة: عجبًا لكم معشر (¬3) المقلدين الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله ولا معدودين في زمرة أهله (¬4)، كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم؟ فما للمقلِّد وما للاستدلال؟ وأين منصب المقلد من منصب المُسْتدل؟ وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابًا استعرتموها من صاحب الحجة فتجملتم بها بين الناس؟ وكنتم في ذلك متشبِّعين بما لم تعطوه، ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه (¬5)؟ وذلك ثوبُ زورٍ لبستموه، ومنصبٌ لستم من أهله غصبتموه، فأخبرونا: هل صريح إلى التقليد لدليل قادكم ¬
إليه، وبرهان دلَّكم عليه، فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل، أو سلكتم سبيله اتفاقًا وبحثًا عن غير دليل (¬1)؟ وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين [سبيل] (¬2)، وأيهما كان فهو بفساد مذهب التقليد حاكمٌ، والرجوع إلى مذهب الحجة منه لازم، ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة قلتم: لسنا من أهل هذه السبيل، وإن خاطبناكم بحكم التقليد فلا معنى لما أقمتموه من الدليل. والعجب أن كُلَّ طائفةٍ من الطوائف، وكل أمة من الأمم تدَّعي أنها على حق، حاشا فرقة التقليد فإنهم لا يدعون ذلك، ولو ادعوه لكانوا مُبطلين، فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليه، وبرهانٍ دلَّهم عليه (¬3)، وإنما سبيلهم محض التقليد، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل. وأعجب من هذا أن أئمتهم نهوهم عن تقليدهم فعصوهم وخالفوهم، وقالوا: نحن على مذاهبهم، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوْا عليه، فإنهم بنوا على الحجة، ونهوا عن التقليد، وأوْصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله، وقالوا: نحن من أتباعهم، تلك أمانيهم، وما أَتْباعهم إلا من سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم. وأعجب من هذا أنهم مصرِّحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه، وأنه لا يحل القول به في دين اللَّه، ولو اشترط الإِمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين لم يصح شرطه ولا توليته، ومنهم من صحح التولية وأبطل الشرط، وكذلك المفتي يحرُم عليه الإفتاء بما لا يعلم صحته باتفاق الناس، والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده؛ إذ طريق ذلك مسدودَةٌ عليه، ثم كلٌّ منهم يعرف من نفسه أنه مقلدٌ لمتبوعه لا يفارق قوله، ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة أو قول صاحب أو قول من هو أعلم من متبوعه أو نظيره، وهذا من أعجب العجب. وأيضًا فإنا نعلم بالضرورة أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلًا منهم يقلّده في جميع أقواله فلم يسقط منها شيئًا، وأسقط أقوال غيره فلم ¬
يأخذ منها شيئًا. ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في عصر التابعين ولا تابعي التابعين، فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون الفضيلة على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على [لسان رسول اللَّه] (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه يبيحون به الفروج والدماء والأموال، ويحرمونها, ولا يدرون أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم، ولهم بين يدي اللَّه موقف شديد يعلم فيه من قال على اللَّه ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء. وأيضًا فنقول لكل من قلَّد واحدًا من الناس دون غيره: ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؛ فإن قال: "لأنه أعلم أهل عصره" وربما فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجيء بعده أعلم منه؛ قيل [له] (¬2): وما يدريك ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك أنه أعلم الأمة في وقته؟ فإن هذا إنما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها وراجحها من مرجوحها فما للأعمى ونقد الدراهم؟! وهذا أيضًا باب آخر من القول على اللَّه بلا علم، ويقال له: ثانيًا: فأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وعائشة وابن عباس [وابن عمر] (¬3) -رضي اللَّه عنهم- أعلم من صاحبك بلا شك، فهلا قلدتهم وتركته؟ بل سعيد بن المسيب والشعبي وعطاء وطاوس وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك، فلم تركت تقليد الأعلم الأفضل الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين ورغبت عن أقواله ومذاهبه إلى من هو دونه؟ فإن قال: "لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني، فتقليدي له أوجبُ على مخالفةِ قولهِ لقول مَنْ قلَّدتُه؛ لأن وفور علمه ودينه يمنعه (¬4) من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه إلا لدليل صار إليه هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء" قيل له: ومن أين علمت أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك أولى من الدليل الذي صار إليه مَنْ هو أعلم منه وخير منه أو هو نظيره؟ وقولان معًا متناقضان لا يكونان صوابًا، بل أحدهما هو الصواب، ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه. فإن قلت: "علمت ذلك بالدليل" ¬
فهاهنا إذن قد انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال، وأبطلت التقليد. ثم يقال لك: ثالثًا: هذا لا ينفعك شيئًا ألبتة فيما اختُلف فيه، فإن من قلَّدته ومن قلده غيرك قد اختلفا، وصار من قلده غيرك إلى موافقة أبي بكر أو عمر أو علي أو ابن عباس (¬1) أو عائشة وغيرهم دون من قلدته، فهلا نصحت نفسك وهُدِيت لرشدك وقلت: هذان عالمان كبيران، ومع أحدهما مَنْ ذَكر من الصحابة فهو أولى بتقليدي إياه. ويقال [له]: (¬2) رابعًا: إمامٌ بإمام، ويسلم قول الصحابي، فيكون أولى بالتقليد. ويقال: خامسًا: إذا جاز أن يظفر من قلَّدته بعلم خفي على عمر بن الخطاب وعلى علي بن أبي طالب وعبد اللَّه بن مسعود وذويهم (¬3) فـ[أحق وأحق و] (¬4) أجوز وأجوز أن يظفر نظيره ومن بعده بعلم خَفِيَ عليه هو؛ فإن النسبة (¬5) بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده أقرب بكثير من النسبة (¬6) بين من قلدته وبين الصحابة، والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة. ويقال: سادسًا: إذا سوّغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول فهلَّا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه؟ وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت؟ ويقال: سابعًا: هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره موافق لأمر اللَّه أو رسوله أو إجماع أمته أو قول أحد من الصحابة؟ فإن قال: "نعم"؛ قال ما يعلم اللَّه ورسوله وجميع العلماء بطلانه! وإن قال: "لا"؛ فقد كفانا مؤنته، وشهد على نفسه بشهادة اللَّه ورسوله وأهل العلم عليه. ويقال: ثامنًا: تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده؛ فإنه نهاك عن ذلك، وقال: لا ¬
يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله، ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء، فإن كنت مقلدًا له في جميع مذهبه فهذا [من] (¬1) مذهبه، فهلا اتبعته فيه؟ ويقال: تاسعًا: هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أوْلى بالصواب من سائر من رغبتَ عن قوله من الأولين والآخرين أم لست على بصيرة؟ فإن قال: "أنا على بصيرة" قال ما يعلم بطلانه، وإن قال: "لست على بصيرة" وهو الحق قيل له: فما عُذْرُكَ غدًا بين يدي اللَّه حين لا ينفعك مَنْ قلدته بحسنة واحدة، ولا يحمل عنك سيئة واحدة، إذا حكمت وأفتيت بين خَلْقه بما لست على بصيرة منه: هل هو صواب أم خطأ؟ ويقال: عاشرًا: هل تدّعي عصمة متبوعك أو تجوّز عليه الخطأ؟ والأوّل لا سبيل إليه، بل تقرّ ببطلانه؛ فتعين الثاني، وإذا جوزت عليه الخطأ فكيف (¬2) تحلل وتحرم وتوجب وتريق الدماء وتبيح الفروج (¬3)، وتنقل الأملاك (¬4) وتضرب الأبْشَار يقول من أنت مُقِر بجواز كونه مخطئًا. ويقال: حادي عشر: هل تقول إذا أفتيت أو حكمت بقول من قلدته: إن هذا هو دين اللَّه الذي أرسل به رسوله وأنزل به كتابه وشَرَعه لعباده ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين اللَّه الذي شَرَعَه لعباده خلافه؟ أو تقول: لا أدري؟ ولا بُدَّ لك من قولٍ من هذه الأقوال، ولا سبيل لك إلى الأول قطعًا؛ فإن دين اللَّه الذي لا دين له سواه لا تسوغ مخالفته، وأقل درجات مخالِفِهِ أن يكون من الآثمين، والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث، فياللَّه العجب! كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق وتحلل وتحرم بأمرٍ أحْسَنُ أحواله وأفضلها لا أدري؟ فإن كنْتَ لا تَدْرِي فتلك مصيبةٌ ... وإن كنتَ تَدْرِي فالمصيبةُ أعْظم ويقال: ثاني عشر: على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان الذين قلدتموهم وجعلتم أقوالَهم بمنزلة نصوص الشارع؟ وليتكم اقتصرتم على ذلك، بل جعلتموها أوْلى بالاتباع من نصوص الشارع، أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على ¬
[نقول عن الأئمة في النهي عن تقليدهم]
هَدًى أو على ضلالة؟ فلا بد من أن تُقِرُّوا بأنهم كانوا على هدى، فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه غير اتباع القرآن (¬1) والسنن والآثار، وتقديم قول اللَّه ورسوله وآثار أصحابه (¬2) على ما يخالفها، والتحاكم إليها دون قول فلان أو رأي فلان، وإذا كان هذا هو الهدى فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنَّى تؤفكون؟ فإن قالت كل فرقة من المقلدين، وكذلك يقولون: [صاحبنا] (¬3) هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف، واقتفى منهاجهم (¬4)، وسلك سبيلهم، قيل لهم: فمن سواه من الأئمة هل شارك صاحبكم في ذلك أو انفرد صاحبكم بالاتباع وحُرِمَهُ مَنْ عَدَاه؟ فلا بد من واحد من الأمرين، فإن قالوا بالثاني فهم أضَلُّ سبيلًا من الأنعام، وإن قالوا بالأول فيقال: فكيف وفقتم (¬5) لقبول قول صاحبكم كله، ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله، فلا يردُّ لهذا قول، ولا يقبل لهذا قول، حتى كأن الصواب وَقْفٌ على صاحبكم والخطأ وَقْفٌ على من خالفه، ولهذا أنتم موكلون بنُصْرَته في كل ما قاله، وبالرد على مَنْ خالفه في كل ما قاله. وهذه حال الفرقة الأخرى معكم، ويقال: [نقول عن الأئمة في النهي عن تقليدهم] ثالث عشر: فمن قلدتموه من الأئمة قد نهوكم عن تقليدهم فأنتم أول مخالف لهم. قال الشافعي: مثل الذي يطلب العلم بلا حُجَّة كمثل حاطب ليل، يحمل حُزْمَة حَطَب، وفيه أفعى تَلْدغه، وهو لا يدري (¬6). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا، حتى يعلم من أين قلناه (¬7). وقال أحمد: لا تقلد دينك أحدًا (¬8). [عودة إلى محاجة دعاة التقليد] ويقال: رابع عشر: هل أنتم مُوقِنُونَ بأنكم غَدًا موقوفون بين يدي اللَّه، وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده وفروجهم وأبْشَارهم وأموالهم، وعما أفتيتم ¬
به في دينه محرمين ومحللين وموجبين؟ فمن قولهم: "نحن مُوقِنُونَ بذلك" فيقال لهم: فإذا سألَكم: "من أين قلتم ذلك" فماذا جوابكم؟ فإن قلتم: "جوابُنَا إنا حللنا وحَرَّمنا وَقَضَيْنا بما في كتاب "الأصل" لمحمد بن الحسن بما رواه عن أبي حنيفة وأبي يوسف من رأي واختيار، وبما في "المُدَوَّنة" من رواية سحنون عن ابن القاسم من رأي واختيار، وبما في "الأم" من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار، وليتكم اقتصرتم على ذلك أو صعدتم إليه أو سَمَتْ هممكم (¬1) نحوه، بل نزلتم عن ذلك طبقات، فإذا سُئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي؟ فماذا يكون جوابكم إذًا؟ فإن أمكنكم حينئذٍ أن تقولوا: "فعلنا ما أمرتنا به وأمرَنا به رسولك" فُزتْمُ وتخلصتم، وإن لم يمكنكم ذلك فلا بد أن تقولوا: لم تأمرنا بذلك ولا رسولك ولا أئمتنا ولا بد من أحد الجوابين، وكأن قد. ويقال خامس عشر: إذا نَزَلَ عيسى ابن مريم إمامًا عَدْلًا وحكمًا مقسطًا، فبمذهب من يحكم؟ وبرأي من يقضي؟ ومعلوم أنه لا يحكم و [لا] (¬2) يقضي إلا بشريعة نبينا -صلى اللَّه عليه وسلم- التي شَرَعها [اللَّه] (2) لعباده؟ فذلك الذي يقضي به أحق، وأولى الناس به عيسى ابن مريم هو الذي أوجب عليكم أن تَقْضُوا وتفتوا به (¬3)، ولا يحل لأحد أن يقضي ولا يفتي بشيء سواه البتة. فإن قلتم: نحن وأنتم في هذا السؤال سواء، قيل: أجل، ولكن نفترق في الجواب فنقول: يا ربنا إنك لتعلم أنا لم نجعل أحدًا من الناس عيارًا على كلامك وكلام رسولك (¬4)، ونرد ما تنازعنا فيه إليه ونتحاكم إلى قوله ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك، وكان الخلق عندنا أهون أن نُقَدِّم كلامهم وآراءهم على وَحْيِك، بل أفتينا بما وَجَدْناه في كتابك، وبما وَصَل إلينا من سنة رسولك وبما أفتى به أصحاب نبيك، وإن عَدَلْنا عن ذلك فخطأ منا لا عمد، ولم نتخذ من دونك ولا دون رسولك ولا المؤمنين وَليجَةً، ولم نفرق ديننا ونكون شِيَعًا، ولم نقطِّع (¬5) أمرنا بيننا زُبَرًا، وجعلنا أئمتنا قدوة لنا، ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلَّغوه إلينا عن رسولك فاتبعناهم في ذلك، وقلدناهم فيه، إذ أمرتنا أنت وأمَرَنَا رسولك بأن ¬
نسمع منهم، ونقبل ما بلغوه عنك وعن رسولك، فسمعًا لك ولرسولك وطاعة، ولم نتخذهم أربابًا نتحاكم إلى أقوالهم، ونخاصم بها، ونوالي ونعادِي عليها، بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك، فما وافقهما قبلناه، وما خالَفَهما أعرضنا عنه وتركناه، وإن كانوا أعلم منا بك وبرسولك، فمن وافق قوله قولَ رسولك كان أعلم منهم في تلك المسألة، فهذا جوابنا، ونحن نناشدكم اللَّه: هل أنتم كذلك حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي مَنْ لا يبدَّلُ القول لديه، ولا يروج الباطل عليه؟ ويقال سادس عشر: كل طائفة منكم معاشر طوائف المقلدين، قد أنزلت [جميعَ] الصحابة من أولهم إلى آخرهم وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم إلا مَنْ قلدتموه (¬1) في مكان مَنْ لا يعتد بقوله، ولا ينظر في فتاواه، ولا يشتغل بها, ولا يعتد بها, ولا وجه للنظر فيها إلا للتمحل (¬2) وإعمال الفكر (¬3) وكدّه في الرد عليهم إذا خالَفَ قولُهم قولَ متبوعهم، وهذا هو المسوغ للرد عندهم (¬4)، فإذا خالف قول متبوعهم نصًا عن اللَّه ورسوله فالواجب التمحُّلُ والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحيل لدفعه بكل طريق حتى يصح قول متبوعهم، فياللَّه لدينه وكتابه وسنة رسوله لبدعة كادت تثل عرش الإيمان (¬5) وتهدُّ ركنه لولا أن اللَّه ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بأعلامه ويذب عنه، فمَنْ أسوأ ثناء على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين، وأشد استخفافًا بحقوقهم، وأقل رعاية لواجبهم (¬6)، وأعظم استهانة بهم، ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم، ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وَليجة من دون اللَّه ورسوله؟ ويقال سابع عشر: من عجيب (¬7) أمركم أيها المقلدون أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله من كلام اللَّه وكلام رسوله، مع سهولته وقرب مأخذه، واستيلائه على أقصى غايات البيان، واستحالة الاختلاف والتناقض ¬
[موقف المقلدين من الحديث وأمثلة عليه]
عليه؟ فهو (¬1) نَقْل مصدق عن قائل معصوم، وقد نصب اللَّه سبحانه الأدِلة الظاهرة على الحق وبين لعباده ما يتقون، فادعيتم العَجْزَ عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتوّلى (¬2) بيانه، ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه وهلم جرا، وغُلَاة كل طائفة منكم توجب اتباعه وتحرم اتباع غيره كما هو في كتب أصولهم، فعجبًا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب اللَّه عليه الأدلة من الحق، ولم يهتد إليها، واهتدى إلى أن متبوعه أحَقُّ وأولى بالصواب ممن عداه، ولم ينصب اللَّه على ذلك دليلًا واحدًا. ويقال ثامن عشر: أعجب من هذا كله من شأنكم معاشر المقلدين أنكم إذا وجدتم آية من كتاب اللَّه توافق رأي صاحبكم أظهرتم أنكم تأخذون بها، والعمدة في نفس الأمر على ما قاله، لا على الآية، وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله لم تأخذوا بها، وتطلبتم لها وجوه التأويل وإخراجَهَا عن ظاهرها حيث لم توافق رأيه، وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء إذا (¬3) وجدتم حديثًا صحيحًا يوافق قوله أخذتم به، وقلتم: "لنا قول النبي (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- كيت وكيت"، وإذا وجدتم مئة حديث صحيح بل أكثر (¬5) تخالف قوله لم تلتفتوا إلى حديث منها, ولم يكن لكم منها حديث واحد فتقولون: لنا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا وكذا، [وإذا وجدتم مرسلًا قد وافق رأيه أخذتم به وجعلتموه حجة هناك] (¬6)، وإذا وجدتم مئة مرسل تخالف رأيه أطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها، وقلتم: لا نأخذ بالمرسل. [موقف المقلدين من الحديث وأمثلة عليه] ويقال تاسع عشر: أعجب من هذا كله أنكم إذا أخذتم بالحديث مُرْسَلًا كان أو مسندًا لموافقته رأيَ صاحبكم ثم وجدتم فيه حكمًا يخالف رأيه لم تأخذوا به في ذلك الحكم، وهو حديث واحد، وكأنَّ الحديث حجة فيما وافق رأي من قلدتموه، وليس بحجة فيما خالف رأيه. ولنذكر من هذا طرفًا فإنه من أعجب أمرهم (¬7). ¬
[طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها الآخر]
[طرف من تخبط المقلدين في الأخذ ببعض السنة وترك بعضها الآخر] فاحتج طائفة منهم على (¬1) سَلْب طَهُورِية الماء المستعمل في رفع الحدث بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نهى أن يتوضأ الرجل بفَضْل وَضُوء المرأة والمرأة بفضل وضوء الرجل" (¬2) وقالوا: الماء المنفصل عن أعضائهما هو فضل وضوئهما. وخالفوا نفس الحديث؛ فجوّزوا لكل منهما أن يتوضأ بفضل طهور الآخر، وهو المقصود بالحديث، فإنه نهى أن يتوضأ الرجل بفَضْل وَضُوء المرأة إذا خَلَتْ بالماء، وليس عندهم للخلوة أثر، ولا لكون الفضلة فضلة امرأة (¬3) أثر، فخالفوا نفس الحديث الذي احتجوا به، وحملوا الحديث على غير محملِهِ؛ إذ فضل الوضوء بيقين هو الماء الذي فَضَلَ منه، ليس هو الماء المتوضأ به، فإن ذاك لا يقال له فضل الوضوء، فاحتجوا به فيما لم يُرَدْ به، وأبطلوا الاحتجاج به فيما أريد به (¬4). ¬
ومن ذلك احتجاجُهم على نجاسة الماء بالمُلَاقاة وإن لم يتغير بنهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يُبَال في الماء الدائم (¬1)، ثم قالوا: لو (¬2) بال في الماء الدائم لم ينجس حتى ينقص عن قلتين. واحتجوا على نجاسته أيضًا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا استيقظ أحَدُكم من نومه فلا يغمس يَدَه في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا" (¬3) ثم قالوا: لو غمسها قبل غسلها لم ينجس الماء، ولا يجب عليه غسلها، وإن شاء أن يغمسها قبل الغسل فعل (¬4). واحتجوا في هذه المسألة بأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بحَفْر الأرض التي بال فيها البائل وإخراج ترابها (¬5)، ثم قالوا: لا يجب حَفْرُها، بل لو تركت حتى يبست بالشمس والريح طهرت. ¬
واحتجوا على منع الوضوء بالماء المستعمل بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا بني عبد المطلب إن اللَّه كره لكم غُسَالة أيدي الناس" (¬1) يعني الزكاة. ثم قالوا: لا تحرم الزكاة علي بني [عبد] (¬2) المطلب. واحتجوا على أن السمك الطافي إذا وقع في الماء لا ينجسه بخلاف غيره من ميتة البر فإنه ينجس الماء بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬3) ثم ¬
خالفوا هذا الخبر نفسه (¬1) وقالوا: لا يحل ما مات في البحر من السمك، ولا يحل شيء مما فيه أصلًا غير السمك. واحتجَّ أهلُ الرأي على نجاسة الكلب وولوغه يقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-:- "إذا وَلَغَ الكلبُ في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات" (¬2) ثم قالوا: لا يجب غَسْله سبعًا، بل يغسل مرة، ومنهم من قال ثلاثًا (¬3). واحتجوا على تفريقهم في النجاسة المغلظة بين قدر الدرهم وغيره بحديث لا يصح من طريق غطَيف عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة يرفعه: "تُعَاد الصلاة من قدر الدرهم" (¬4). . . . . ¬
ثم قالوا: لا تعاد الصلاة من قدر الدرهم (¬1). واحتجوا بحديث علي بن أبي طالب (¬2) في الزكاة في زيادة الإبل على عشرين ومئة أنها تُردُّ إلى أول الفريضة فيكون في كل خمس شاة (¬3)، وخالفوه في اثني عشر موضعًا منه، ثم احتجوا بحديث عمرو بن حزم: "أن ما زاد على مئتي درهم فلا شيء فيه حتى يبلغ أربعين فيكون فيها درهم" (¬4) وخالفوا الحديث ¬
نفسه (¬1) في نص ما فيه في أكثر من خمسة عشر موضعًا. واحتجوا على أن الخيار لا يكون أكثر من ثلاثة أيام بحديث المُصَرَّاة (¬2)، وهذا من إحدى العجائب، فإنهم من أشد الناس إنكارًا له، ولا يقولون به، فإن كان حقًا وجَبَ اتباعه، وإن لم يكن صحيحًا لم يجز الاحتجاح [به] (¬3) في تقدير الثلاث، مع أنه ليس في الحديث تعرض لخيار الشرط؛ فالذي أريد بالحديث ودل عليه خالفوه، والذي احتجوا عليه به لم يدل عليه. واحتجوا لهذه المسألة أيضًا بخبر حبان بن منقذ الذي كان يُغْبَنُ في البيع، فجعل له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الخيار ثلاثة أيام (¬4). وخالفوا الخبر كله، فلم يثبتوا الخيار ¬
بالغَبْنِ ولو كان يساوي عشر معشار ما بذله فيه، وسواء قال المشتري: "لا خِلَابَةَ" أو لم يقل، وسواء غُبِنَ قليلًا أو كثيرًا، لا خيار له في ذلك كله. واحتجوا في إيجاب الكفارة على مَنْ أفطر في نهار رمضان بأن في بعض ألفاظ الحديث أن رجلًا أفطر فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يكفّر (¬1)، ثم خالفوا هذا اللفظ بعينه فقالوا: إن اسْتَفَّ دقيقًا أو بَلَعَ عجينًا أو أهليلجًا أو طيبًا أفطر، ولا كفارة عليه. واحتجوا على وجوب القضاء على مَنْ تعمد القيء بحديث أبي هريرة (¬2)، ثم خالفوا الحديث بعينه فقالوا: إن تقيأ أقَلَّ من ملء فيه فلا قَضَاء عليه. واحتجوا على تحديد مسافة الفطر والقَصْر بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لَا يَحِلُّ لامرأة تؤمن باللَّه واليوم الآخر أن تسافر مسيرة ثلاثة أيام إلا مع زوج أو ذي محرم" (¬3) وهذا ¬
مع أنه لا دليل فيه ألبتة على ما ادعوه (¬1) فقد خالفو نفسه فقالوا: يجوز للمملوكة والمكاتبة وأم الولد السفر مع غير زوج ومحرم. واحتجوا على منع المُحْرِم من تغطية وجهه بحديث ابن عباس في الذي وقَصَتْه ناقته وهو محرم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تخمّروا رأسَه ولا وَجْهَه فإنه يُبْعَث يوم القيامة مُلَبيًا" (¬2) وهذا من العجب فإنهم يقولون: إذا مات المحرم جاز تغطية رأسه ووجهه وقد بطل إحرامه. واحتجوا على إيجاب الجزاء على من قتل ضَبُعًا في الإحرام بحديث جابر أنه أفتى بأكْلها وبالجزاء على قاتلها، وأسند ذلك إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، ثم خالفوا الحديث نفسه (¬4) فقالوا: لا يحل أكلها. واحتجوا فيمن وجبت عليه ابنة مَخَاضٍ فأعطى [ثلثي] (¬5) ابنة لبون تساوي ابنة مخاض أو حمارًا يساويها أنه يجزئه بحديث أنس الصحيح وفيه: "مَنْ وجبت عليه ابنة مخاض وليست عنده، وعنده ابنة لبون؛ فإنها تؤخذ منه، ويرد عليه الساعي شاتين أو عشرين درهمًا" (¬6). وهذا من العجب فإنهم لا يقولون بما دل عليه الحديث من تعيين ذلك، ويستدلون به على ما لم يدل عليه بوجه ولا أريد به. واحتجوا على إسقاط الحدود في دار الحرب إذا فعل المسلم أسبابها بحديث: "لَا تُقْطَع الأيدي في الغزو" وفي لفظ: "في السفر" (¬7) ولم يقولوا ¬
بالحديث؛ فإن عندهم لا أثر للسفر ولا للغزو في ذلك. واحتجوا في إيجاب الأضحية بحديث أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمر بالأضحية، وأن يُطْعَم منها الجار والسائل" (¬1) فقالوا: لا يجب أن يطعم منها جار ولا سائل. واحتجوا في إباحة ما ذبحه غاصب أو سارق بالخبر الذي فيه أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دُعِيَ إلى طعام (¬2) مع رَهْط من أصحابه، فلما أخذ لقمة قال: إني أجد لحم شاة أخذت بغير حق" فقالت المرأة: يا رسول اللَّه، إني أخذتها من امرأة فلان بغير علم زوجها، فأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تطعم الأسارى (¬3). وقد خالفوا هذا الحديث فقالوا: ذبيحة الغاصب حلال، ولا تحرم على المسلمين. ¬
واحتجوا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "جَرْحُ العَجْمَاء جُبَار" (¬1) في إسقاط الضمان بجناية المواشي، ثم خالفوه فيما دل عليه وأريد به، فقالوا: مَنْ ركب دابة أو قادها أو ساقها فهو ضامن لمن (¬2) عَضَّتْ بفمها, ولا ضمان عليه فيما أتلفت برجلها. واحتجوا على تأخير القَوَد إلى حين البرء بالحديث المشهور: "أن رجلًا طعن آخر في ركبته بقَرْنِ، فطلب القَوَد، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى يبرأ، فأبى، فأقاده قبل أن يبرأ" الحديث (¬3)، وخالفوه في القصاص من الطعنة فقالوا: لا يقتص منها. واحتجوا على إسقاط الحدِّ عن الزاني بأمة ابنه أو أم ولده بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنت ومالُكَ لأبيك" (¬4) وخالفوه فيما دل عليه فقالوا: ليس للأب من مال ابنه شيء ألبتة، ولم يبيحوا له من مال ابنه عُودَ أراكٍ فما فوقه، وأوجبوا حبسه في دَيْنه وضمان ما أتلفه عليه. ¬
واحتجوا على أن الإِمام يكبِّر إذا قال المقيم: "قد قامت الصلاة" بحديث بلال أنه قال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "لا تسبقني بآمين" (¬2) وبقول أبي هريرة [لمروان] (¬3): "لا تسبقني بآمين" (¬4) ثم خالفوا الخبر جهارا فقالوا: لا يؤمّن الإمامُ ولا المأموم. واحتجوا على وجوب مسح ربع الرأس بحديث المغيرة بن شعبة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "مَسَحَ بناصيته وعمامته" (¬5) ثم خالفوه فيما دل عليه فقالوا: لا يجوز ¬
المسح على العمامة، ولا أثر للمسح عليها ألبتة؛ فإن الفرض يسقط بالناصية، والمسح على العمامة غير واجب ولا مستحب عندهم. واحتجوا لقولهم في استحباب مساوقة (¬1) الإِمام بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما جُعِل الإِمام ليؤتم به" (¬2) قالوا: والائتمام به يقتضي أن يفعل مثل فعله سواء. ثم خالفوا الحديث فيما دل عليه، فإن فيه: "فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون" (¬3). واحتجوا على أن الفاتحة لا تتعين في الصلاة بحديث المسيء في صلاته حيث قال له: "أقْرَأ ما تيسر معك من القرآن" (¬4) وخالفوه فيما دل عليه صريحًا في قوله: "ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تطمئن (¬5) قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا" (6)، وقوله: "ارجع فَصَلِّ فإنك لم تصل" (¬6)، فقالوا: من ترك الطمأنينة فقد صلى، وليس الأمر بها فرضًا لازمًا، مع أن الأمر بها و [الأمر] (¬7) بالقراءة سواء في الحديث. واحتجوا على إسقاط جَلْسَة الاستراحة بحديث أبي حميد (¬8) حيث لم ¬
يذكرها فيه (¬1)، وخالفوه في نفس ما دل عليه من رفع اليدين عند الركوع والرفع منه. واحتجوا على إسقاط فرض الصلاة على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والسلام في الصلاة، بحديث ابن مسعود: "فإذا قُلْتَ ذلك فقد تمت صلاتك" (¬2) ثم خالفوه في نفس ما ¬
دل عليه، فقالوا: صلاته تامة قال ذلك أو لم يقله. واحتجوا على جواز الكلام والإمام [يخطب] (¬1) على المنبر يوم الجمعة بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- للداخل: "أصَليْتَ يا فلان قبل أن تجلس؟ قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين" (¬2) وخالفوه في نفس ما دل عليه، فقالوا: من دخل والإمام يخطب جلس ولم يُصلِّ. واحتجوا على كراهة (¬3) رفع اليدين في الصلاة بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بالهم رافعي أَيديهم كأنَّها أذنابُ خيل شُمس" (4) ثم خالفوه في نفس ما دل عليه؛ فإنّ فيه: "إنما يكفي أحدكُم أَنْ يُسلِّم على أخيه من عن يمينه وشماله: السلامُ عليكم ورحمةُ اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬4) فقالوا: لا يحتاج إلى ذلك ويكفيه غيره من كل مُنافٍ للصلاة. واحتجوا في استخلاف الإِمام إذا أحْدث بالخبر الصحيح أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرجَ وأبو بكر يُصلّي بالناس فتأخَر أبو بكر، وتقدَّم النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلَّى بالناس (¬5)، ¬
ثم خالفوه في نفس ما دلَّ عليه، فقالوا: مَنْ فعل مثل ذلك بطلت صلاته، وأبطلوا صلاة من فعل مثل فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر ومَنْ حضَر من الصحابة، فاحتجوا بالحديث فيما لم يدل عليه، وأبطلوا العمل به في نفس ما دل عليه. واحتجوا لقولهم: إنَّ الإمام إذا صلَّى جالسًا لمرضٍ صلَّى المأمومون خلفه قيامًا بالخبر الصحيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنه خرج فوجد أبا بكر يُصلِّي بالناس قائمًا، فتقدم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وجلس وصلَّى بالناس؛ وتأخر أبو بكر" (¬1)، ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه، وقالوا: إنَّ تأخر الإمام لغير حدث، وتقدَّم الآخر بطلت صلاة الإمامين وصلاة جميع (¬2) المأمومين. واحتجوا على بطلان صوم من أكل بظنه ليلًا فبان نهارًا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابنُ أمِّ مكتوم" (¬3) ثم خالفوا الحديث في نفس ما دل عليه فقالوا: لا يجوز الأذان للفجر بالليل، لا في رمضان ولا في ¬
غيره. ثم خالفوه من وجه آخر (¬1)، فإن في نفس الحديث: "وكان ابنُ [أمِّ] (¬2) مكتوم رجلًا أعمى لا يُؤذِّن حتى يُقال له: أصبحتَ أصبحتَ" (¬3)، وعندهم مَنْ أكل في ذلك الوقت بطل صومه. واحتجوا على المنع من استقبال القبلة واستدبارها بالغائط بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تستقبلوا القبلةَ بغائطٍ ولا بول ولا تستدبروها" (¬4) وخالفوا الحديث نفسه وجوَّزوا استقبالها واستدبارها بالبول (¬5). واحتجوا على [عدم] (¬6) شرط الصوم في الاعتكاف بالحديث الصحيح عن عمر أنه نذر في الجاهلية أن يعتكف ليلة في المسجد الحرام، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يوفي بنذره (¬7)، وهم لا يقولون بالحديث؛ فإنَّ عندهم أن نَذْر الكافر لا ينعقد، ولا يلزم الوفاء به بعد الإسلام. واحتجوا على الردِّ بحديث: "تحوزُ المرأةُ ثلاثَ مواريث: عَتيقَهَا، ¬
ولقيطَها، وولدَهَا الذي لَاعَنَتْ عليه" (¬1) ولم يقولوا بالحديث في حيازتها مال لقيطها، وقد قال به عمر بن الخطاب (¬2) وإسحاق بن راهويه (¬3)، وهو الصواب. واحتجوا في توريث ذوي الأرحام بالخبر الذي فيه "الْتمسوا له وارثًا أو ذَا رحم" فلم يجدوا، فقال: "أعطوه الكُبْرَ (¬4) من خُزاعة" (¬5) ولم يقولوا به في أن من ¬
لا وارثَ له يُعطى ماله الكُبْر (¬1) من قبيلته. واحتجوا في منع القاتل ميراث المقتول بخبر عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده: "لا يَرثْ قاتلٌ، ولا يُقْتل مؤمنٌ بكافر" (¬2) فقالوا بأول الحديث دون آخره (¬3). ¬
واحتجوا على جواز التَّيمم في الحَضَر مع وجود الماء للجنازة إذا خاف فوتها بحديث أبي جَهْم (¬1) بن الحارث في تيمم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لرد السَّلام (¬2)، ثم خالفوه فيما دل عليه في موضعين: أحدهما: أنه يتيمم بوجهه وكفيه دون ذراعيه. والثاني: أنهم لم يكرهوا رد السلام للمُحْدث ولم يستحبوا التيمم لرد السلام. واحتجوا في جواز الاقتصار في الاستنجاء على حَجَرين بحديث ابن مسعود: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذهب لحاجته وقال له: ائتني بأحجار، فأتاه بحجرين وروثة، فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هذه رِكْسٌ" (¬3) ثم خالفوه فيما هو نص فيه، فأجازوا الاستجمار بالروث، واستدلوا به على ما لا يدل عليه من الاكتفاء بحجرين. واحتجوا على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء بصلاة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حاملًا أمامة بنت أبي العاص بن الربيع إذا قام حملها وإذا ركع أو سجد وضعها (¬4)، ثم قالوا: مَنْ صلى كذلك بطلت صلاته وصلاة من ائتم به، قال بعض أهل العلم: ومن العجب إبطالهم هذه الصلاة وتصحيحهم الصلاة بقراءة: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] بالفارسية ثم يركع قدر نَفَس، ثم يرفع قدر حد السيف، أو لا يرفع بل يخر كما هو ساجدًا، ولا يضع على الأرض يديه ولا رجليه، وإن أمكن أن لا يضع ركبتيه صح ذلك، ولا جبهته، بل يكفيه وضع رأس أنفه كقدر نَفَس واحد، ثم يجلس مقدار التشهد، ثم يفعل فعلًا ينافي الصلاة من فساء أو ضُراط أو ضحك أو نحو ذلك (¬5). واحتجوا على تحريم وطء المسْبية والمملوكة قبل الاستبراء بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬
"لا تُوطأ حاملٌ حتى تَضعْ، ولا حائلٌ (¬1) حتى تُستبرأ (¬2) بحيضة" (¬3) ثم خالفوا صريحه فقالوا: إن أعتقها وزوَّجها وقد وطئها البارحة حل للزوج أن يطأها الليلة (¬4). واحتجوا في ثبوت الحضانة للخالة بخبر بنت حمزة وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قضى بها لخالتِهَا" (¬5) [ثم خالفوه] (¬6) فقالوا: لو تزوجت الخالة بغير محرم للبنت كابن عمها سقطت حضانتُها (¬7). واحتجوا على المَنْع من التفريق بين الأَخوين بحديث علي في نهيه عن التفريق بينهما (¬8)،. . . . ¬
ثم خالفوه فقالوا: لا يرد المبيع (¬1) إذا وقع كذلك، وفي الحديث الأمر برده. واحتجوا على جريان القصاص بين المسلم والذمي بخبر روي أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقاد يهوديًا من مسلم لطمه (¬2). ثم خالفوه فقالوا: لا قَود في اللَّطمة والضربة لا بين مُسلمَيْن ولا بين مسلم وكافر. ¬
واحتجوا على أنه لا قصاص بين العبد وسيده بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ لَطمَ عبده فهو حرٌّ" (¬1) ثم خالفوه فقالوا: لا يعتق بذلك، واحتجوا أيضًا بالحديث الذي فيه: "مَنْ مثّل بعبده عتق عليه" (¬2) فقالوا: لم يُوجب عليه القَوَد، ثم قالوا: لا يعتق عليه. واحتجوا بحديث عمرو بن شُعيب [عن أبيه عن جده] (¬3): "في العينِ نصفُ الدِّية" (¬4) ثم خالفوه في عدة مواضع: منها قوله: "وفي العين القائمة السادة لموضعها ثُلثُ الدِّية" (¬5)، ومنها قوله: "في السنِّ السوداء ثلث الدية" (5). واحتجوا على جواز تفضيل بعض الأولاد على بعض بحديث النُّعمان بن بَشير وفيه: "أشهِدْ على هذا غيري" (¬6) ثم خالفوه صريحًا (¬7) فإن في الحديث نفسه: "إن هذا لا يصلُح" (¬8) وفي لفظ: "إني لا أشهدُ على جَوْر" (8) فقالوا: بل ¬
هذا يصلح وليس بجور، ولكل أحد أن يشهد عليه (¬1). واحتجوا على أن النجاسة تزول بغير الماء من المائعات بحديث: "إذا وطئ أحدُكُم الأذى بنعليهِ فإنَّ التُّرابَ لهما طهور" (¬2) ثم خالفوه فقالوا: لو وطئ العذرة ¬
بخفيه لم يطهرهما التراب (¬1). واحتجوا على جواز المسح على الجبيرة بحديث صاحب الشّجّة (¬2)، ثم خالفوه صريحًا فقالوا: لا يجمع بين الماء والتراب، بل إما أن يقتصر على غسْل الصحيح إن كان أكثر، ولا يتيمم، وإما أن يقتصر على التيمم إن كان الجريح أكثر، ولا يغسل الصحيح. واحتجوا على جواز تولية أُمراء أو حُكَّام أو متولين مرتبين (¬3) واحدًا بعد واحد بقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أميرُكُم زيد، فإن قُتلَ زيدٌ فجعفر، فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة" (¬4) ثم خالفوا الحديث نفسه فقالوا: لا يصح تعليق الولاية بالشرط، ونحن نشهد باللَّه أن هذه الولاية من أصح ولاية على وجه الأرض، وأنها أصح من كل ولاياتهم من أولها إلى آخرها. واحتجوا على تضمين المُتْلِفِ ما أتلفه ويملك هو ما أتلفه بحديث القصعة التي كسرتها إحدى أمهات المؤمنين، فردّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على صاحبة القصعة نظيرتها (¬5)، ثم خالفوه جهارًا فقالوا: إنما يضمن بالدراهم والدنانير ولا يضمن بالمثل. واحتجوا على ذلك أيضًا بخبر الشاة التي ذُبحت بغير إذن صاحبها، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يَرُدَّها على صاحبها (¬6)، ثم خالفوه صريحًا، فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يملِّكها الذابح، بل أمر بإطعامها الأسارى. واحتجوا في سقوط القطع بسرقة الفواكه وما يُسْرع إليه الفساد بخبر: "لا قَطْعَ في ثَمَرٍ ولا كَثَر" (¬7) ثم خالفوا الحديث نفسه في عدة مواضع: أحدها: أن ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
فيه: "فإذا آواه إلى الجَرِين ففيه القطع" (¬1) وعندهم لا قطع فيه آواه إلى الجرين أو لم يؤوه، الثاني: أنه قال: "إذا بلغ ثمن المِجَنِّ" (¬2) وفي "الصحيح" أن ثمن المجن ¬
كان ثلاثة دراهم (¬1)، وعندهم لا يُقطع في هذا القدر، الثالث: أنهم قالوا: ليس الجرين حِرزًا؛ فلو سرق منه تمرًا (¬2) يابسًا ولم يكن هناك حافظ لم يقطع (¬3). واحتجوا في مسألة الآبق يأتي به الرجل أن له أربعين درهمًا بخبرٍ فيه: "أن من جاء بآبقٍ من خارج الحرم فله عشرة دراهم أو دينارًا" (¬4)، وخالفوه جهرة فأوجبُوا أربعين (¬5). ¬
واحتجوا أنَّ (¬1) خيار لشفعة على الفور بحديث ابن البَيْلمانيّ: "الشُّفعةُ كحلِّ العِقَال، ولا شُفعَة لصغيرٍ ولا لغائبٍ" (¬2)، و"مَنْ مثَّل بعبده فهو حُرٌّ" (¬3) فخالفوا جميع ذلك إلا قوله: "الشفعة كحل العقال". واحتجوا على امتناع القود بين الأب والابن والسيد والعبد بحديث: "لا يُقاد والدٌ بولده ولا سَيِّدٌ بعبده" (¬4). . . . ¬
وخالفوا الحديث نفسه فإن فيه (¬1): "ومَن مَثَّل بعبده فهو حر" (¬2). واحتجوا على أن الولد يلحق بصاحب الفراش دون الزاني بحديث ابن وليدة زمعة (¬3) وفيه: "الولد للفِرَاش" (¬4) ثم خالفوا الحديث نفسه صريحًا فقالوا: الأمة لا تكون فراشًا (¬5)، وإنما كان هذا القضاء في أمة، ومن العجب أنهم قالوا: إذا عقد على أُمِّه وابنته وأخته ووطئها لم يُحد للشُبهة، وصارت فراشًا بهذا العقد الباطل المحرم، وأم ولده وسُرِّيته التي يطؤها ليلًا ونهارًا ليست فراشًا [له] (¬6)!. ومن العجائب أنهم احتجوا على جواز صوم رمضان بنية يُنشؤها من النهار قبل الزوال بحديث عائشة "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يدخل عليها فيقول: هل من غَدَاء؟ فتقول: لا، فيقول: فإني صائم" (¬7) ثم قالوا: لو فعل ذلك في صوم تطوع (¬8) لم يصح صومه، والحديث إنما هو في التطوع نفسه (¬9). ¬
واحتجوا على المنع من بيْع المُدبَّر بأنه قد انعقد فيه سبب الحرية، وفي بيعه إبطال لذلك، وأجابوا عن بيع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المدبر (¬1) بأنه قد باع خدمته. ثم قالوا: لا يجوز بيع خدمة المدبر أيضًا. واحتجوا على إيجاب الشفعة في الأراضي والأشجار التابعة لها بقوله: "قضى رسولُ اللَّه بالشفعة في كل شرك في ربعةٍ أو حائط" (¬2) ثم خالفوا نص الحديث نفسه، فإن فِيه: "ولا يحلُّ له أن يَبيعَ حتى يُؤذِن شريكه، فإن باع ولم يؤْذِنه فهو أحقُّ به" فقالوا: يحل له أن يبيع قبل إذنه، ويحل له أن يتحيَّل لإسقاط الشفعة، وإن باع بعد إذن شريكه فهو أحق أيضًا بالشفعة، ولا أثر للاستئذان ولا لعدمه. واحتجوا على المنع من بيع الزيت بالزيتون إلا بعد العلم بأن ما في الزيتون من الزيت أقل من الزيت المفرد بالحديث الذي فيه النهي عن بيع اللحم بالحيوان (¬3)، ثم خالفوه نفسه، فقالوا: يجوز بيع اللحم بالحيوان من نوعه وغير نوعه. واحتجوا على أن عطية المريض المنَجَّزة كالوصية لا تنفذ إلا في الثلث بحديث عِمران بن حصين أن رجلًا أعتق ستة مملوكين عند موته لا مالَ له سواهم، فجزأهم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم، فأعتق اثنين وأرقَّ أربعة (¬4). ثم خالفوه في موضعين؛ فقالوا: لا يُقرع بينهم ألبتَّة، ويُعتق من كل واحد سدسه (¬5). ¬
[خالف المقلدون أمر الله ورسوله وأئمتهم]
وهذا كثير جدًا، والمقصود أن التقليد حَكَم عليكم بذلك، وقادكم إليه قهرًا، ولو حكَّمتم الدليلَ على التقليد لم تقعوا في مثل هذا؛ فإن هذه الأحاديث إن كانت حقًا وجب الانقياد لها، والأخذ بما فيها، وإن لم تكن صحيحةً لم يؤخذ بشيء مما فيها، فأما أن تُصحح ويُؤخذ بها فيما وافق قول المتبوع، وتضعف أو ترد إذا خالفت قوله، أو تؤول؛ فهذا من أعظم الخطأ والتناقض. فإن قلتم: عارض ما خالفناه منها ما هو أقوى منه، ولم يُعارض ما وافقناه منها ما يوجب العدول عنه وإطراحه. قيل: لا تخلو هذه الأحاديث وأمثالها أن تكون منسوخة أو محكمة، فإن كانت منسوخة لم يُحتج بمنسوخٍ ألبتة، وإن كانت محكمة لم يجز مخالفة شيء منها ألبتة. فإن قيل: هي منسوخة فيما خالفناها فيه، ومحكمة فيما وافقناها فيه. قيل: هذا مع أنه ظاهر البطلان يتضمن ما (¬1) لا علم لمدَّعيه به، قائل ما لا دليل عليه (¬2)، فأقَلُّ ما فيه أن مُعارضًا لو قلب عليه هذه الدعوى بمثلها سواء لكانت دعواه من جنس دعواه، ولم يكن بينهما فرق، [ولا فرق] (¬3)، وكلاهما مدع ما لا يمكنه إثباته؛ فالواجب اتِّباع سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتحكيمها والتحاكم إليها حتى يقوم الدليل القاطع على نسْخ المنسوخ منها، أو تُجمع الأمة على العمل بخلاف شيء منها، وهذا الثاني محال قطعًا؛ فإن الأمة وللَّه الحمد لم تجمع على ترك العمل بسنة واحدة، إلا سنة ظاهرة النسخ معلوم للأمة ناسخها، وحينئذ يتعين العمل بالناسخ دون المنسوخ، وأما أن تُترك السنن لقول أحدٍ من الناس فلا، كائنًا من كان، وباللَّه التوفيق. [خالف المقلدون أمر اللَّه ورسوله وأئمتهم] الوجه العشرون: أن فرقة التقليد قد ارتكبت مخالفة أمر اللَّه وأمر رسوله وهدي أصحابه وأحوال أئمتهم، وسلكوا ضد طريق أهل العلم، أما أَمرُ اللَّه فإنه أمر برد ما تنازع فيه المسلمون إليه وإلى رسوله، والمقلدون قالوا: إنما نرده إلى ¬
[الخلف قلبوا أوضاع الدين]
من قلَّدناه؛ وأما أمر رسوله فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر عند الاختلاف بالأخذ بسنته وسنة خلفائه الراشدين المهديين، وأمر أن يُتمسكَ بها، ويُعَضَّ عليها بالنَواجِذ (¬1)، وقال المقلِّدون: بل عند الاختلاف نتمسك بقول من قلَّدناه، ونقدمه على كل ما عداه، وأما هدْي الصحابة فمن المعلوم بالضرورة أنه لم يكن فيهم شخص واحد يقلد رجلًا واحدًا في جميع أقواله، ويخالف من عداه من الصحابة بحيث لا يردُّ من أقواله شيئًا، ولا يقبل من أقوالهم شيئًا، وهذا من أعظم البِدع وأقبح الحوادث؛ وأما مخالفتهم لأئمتهم فإن الأئمة نهوْا عن تقليدهم وحذروا منه كما تقدم ذكر بعض ذلك عنهم. وأما سلوكهم ضد طريق أهل العلم فإن طريقهم طلب أقوال العلماء وضبطها والنظر فيها وعرضها على القرآن والسنن الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقوال خلفائه الراشدين، فما وافق ذلك [منها] (¬2) قبلوه، ودانوا اللَّه به، وقضوا به، وأفتوا به، وما خالف ذلك منها لم يلتفتوا إليه، وردُّوه، وما لم يتبيَّن لهم كان [عندهم] (¬3) من مسائل الاجتهاد التي غايتها أن تكون سائغة الاتباع لا واجبة الاتباع، من غير أن يلزموا بها أحدًا، ولا يقولوا: إنها الحق دون ما خالفها، هذه طريقة أهل العلم سلفًا وخلفًا. [الخلف قلبوا أوضاع الدين] وأما هؤلاء الخلف فعكسوا الطريق، وقلبوا أوضاع الدين، فزيَّفُوا كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال خلفائه و [جميع] (¬4) أصحابه، فعرضوها على أقوال من قلدوه، فما وافقها منها قالوا: لنا، وانقادوا له مُذْعنين، وما خالف أقوال متبوعيهم (¬5) منها قالوا: احتج الخصم بكذا وكذا، ولم يقبلوه، ولم يدينوا به. واحتالَ فُضَلاؤهم في ردِّها بكل ممكن، وتطلَّبوا لها وجه الحِيل التي تردها، حتى إذا كانت موافقة لمذاهبهم وكانت تلك الوجوه بعينها قائمة فيها شنَّعوا على منازعهم، وأنكروا عليه ردَّها بتلك الوجوه بعينها، وقالوا: لا تُرد النصوص بمثل هذا، ومن له همةٌ تسمو إلى اللَّه ومرضاته ونصرِ (¬6) الحق الذي ¬
[ذم الله الذين فرقوا دينهم]
بعث [اللَّه] (¬1) به رسوله أين كان ومع من كان لا يرضى لنفسه بمثل هذا المسلك الوخيم والخُلُق الذميم. [ذم اللَّه الذين فرقوا دينهم] الوجه الحادي والعشرون: أن اللَّه سبحانه ذمَّ الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شِيعًا: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬2) [الروم: 32] وهؤلاء هم أهل التقليد بأعيانهم، بخلاف أهل العلم؛ فإنهم وإن اختلفوا لم يُفرقوا دينهم ولم يكونوا شيعًا، بل شيعة واحدة متفقة على طلب الحق، وإيثاره عند ظهوره، وتقديمه على كل ما سواه، فهم طائفة واحدة قد اتفقت مقاصدُهُم وطريقهم؛ فالطريق واحد، والقصد واحد، والمقلدون بالعكس: مقاصدُهم شَتَّى، وطُرُقهم مختلفة، فليسوا مع الأئمة في القصد ولا في الطريق. [ذم اللَّه الذين تقطعوا أمرهم زبرًا] الوجه الثاني والعشرون: أن اللَّه سبحانه ذم الذين تقطَّعوا أَمرَهم بينهم زبرًا: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32]، والزُّبُر: الكتب المصنفة التي رغبوا بها عن كتاب اللَّه وما بعث اللَّه به رسوله، فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 51 - 53] فأمر سبحانه الرسل بما أمر به أممهم: أن يأكلوا من الطيبات، وأن يعملوا صالحًا، وأن يعبدوه وحده، وأن يطيعوا أمره وحده، وأن لا يتفرقوا في الدين؛ فمضت الرسل وأتباعهم على ذلك، ممتثلين لأمر اللَّه، قابلين لرحمته، حتى نشأت خُلوف قطَّعوا أمرهم [بينهم] (¬3) زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، فمن تدبَّر هذه الآيات ونزَّلها على الواقع تبين له حقيقة الحال، وعلم من أي الحزبين هو، واللَّه المستعان. الوجه الثالث والعشرون: أن اللَّه سبحانه قال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] فخصَّ هؤلاء بالفلاح دون من عداهم، والداعون إلى الخير هم الداعون إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله، لا الداعون إلى رأي فلان وفلان. ¬
[ذم الله من أعرض عن التحاكم إليه]
[ذم اللَّه من أعرض عن التحاكم إليه] الوجه الرابع والعشرون: أن اللَّه سبحانه ذم من إذا دُعي إلى اللَّه و [إلى] (¬1) رسوله أعرض ورضي بالتحاكم إلى غيره، وهذا شأن أهل التقليد، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: 61] فكلُّ من أعرض عن الداعي له إلى ما أَنزلَ اللَّه ورسوله إلى غيره فله نصيبٌ من هذا الذم؛ فمستقل ومستكثر (¬2). [الحق في واحد من الأقوال] الوجه الخامس (¬3) والعشرون: أن يقال لفرقة التقليد: "دينُ اللَّه عندكم واحد وهو (¬4) في القول وضده، فدينه هو الأقوال المختلفة المتضادة التي يُناقض بعضها بعضًا، ويُبطل بعضها بعضًا، كلها دين اللَّه"؟ فإن قالوا: "بل (¬5)، هذه الأقوال المتضادة المتعارضة التي يناقض بعضها بعضًا كلها دين اللَّه" خرجوا عن نصوص أئمتهم؛ فإن جميعهم على أن الحق واحد من الأقوال، كما أن القبلة في جهة من الجهات، وخرجوا عن نصوص القرآن والسنة والمعقول والصريح، وجعلوا دين اللَّه تابعًا لآراء الرجال. فإن قالوا: "الصواب الذي لا صواب غيره أن دين اللَّه واحد، وهو ما أنزل اللَّه به كتابه وأرسل به رسوله وارتضاه لعباده، كما أن نبيَّه واحدٌ وقبلته واحدة، فمن وافقه فهو المصيب وله أجران، ومن أخطأه فله أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه". قيل [لهم] (¬6): فالواجب إذن طلب الحق، وبذْلُ الاجتهاد في الوصول إليه بحسب الإمكان؛ لأن اللَّه سبحانه أوجب على الخلق تقواه بحسب الاستطاعة. وتقواه: فِعل ما أمر به وترك ما نهى عنه؛ فلا بد أن يعرف العبد ما أمر به ليفعله وما نهي عنه ليجتنبه وما أبيح له ليأتيه. ومعرفة هذا لا تكون إلا بنوع اجتهاد وطلبٍ وتحرٍّ للحق، فإذا لم يأت بذلك فهو في عُهْدة الأمر، ويلقى اللَّه ولمّا يقْضِ ما أمره. ¬
[دعوة رسول الله عامة]
[دعوة رسول اللَّه عامة] الوجه السادس والعشرون: أن دعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عامة لمن كان في عصره ولمن يأتي بعده إلى يوم القيامة، والواجب على مَنْ بعد الصحابة هو الواجب عليهم بعينه، وإن تنوعت صفاتُه وكيفيّاتُه باختلاف الأحوال. ومن المعلوم بالاضطرار أن الصحابة لم يكونوا يَعْرضون ما يسمعون منه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أقوال علمائهم، بل لم يكن لعلمائهم قولٌ غير قوله، ولم يكن أحدٌ منهم يتوقف في قبول ما سمعه منه على موافقة موافق أو رأي ذي رأي أصلًا، وكان هذا هو الواجب الذي لا يتمُّ الإيمان إلا به، وهو بعينه الواجب علينا وعلى سائر المكلفين إلى يوم القيامة. ومعلوم أن هذا الواجب لم يُنسخ بعد موته، ولا هو مختص بالصحابة؛ فمن خرج عن ذلك فقد خرج عن نفس ما أوجبه اللَّه ورسوله. [الأقوال لا تنحصر وقائلوها غير معصومين] الوجه السابع والعشرون: أن أقوال العلماء وآراءهم لا تَنضبط ولا تنحصر، ولم تُضمن لها العصمة إلا إذا اتفقوا ولم يختلفوا؛ فلا يكون اتفاقهم إلا حقًا، ومن المحال أن يُحيل (¬1) اللَّه ورسوله على ما لا ينضبط ولا ينحصر، ولم يَضمن لنا عصمته من الخطأ، ولم يُقم لنا دليلًا على أن أحد القائلين أولى بأن نأخذ قوله كله من الآخر، بل يترك قول هذا كله ويؤخذ قول هذا كله، هذا محال أن يَشرعَه اللَّه أو يَرضى به إلا إذا كان أحد القائلين رسولًا والآخر كاذبًا على اللَّه فالفرض حينئذ ما يعتمدهُ هؤلاء المقلدون مع متبوعيهم (¬2) ومخالفيهم. [العِلْمُ يَقِلُّ] الوجه الثامن والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ" (¬3) وأخبر أن العلم يقل، فلا بد من وقوع ما أخبر به الصادق، ومعلوم أن كُتَب المقلِّدين قد طَبَّقت شرق الأرض وغربها، ولم تكن في وقت قط أكثر منها في هذا الوقت، ونحن نراها في كل عام في ازدياد وكثرة، والمقلدون يحفظون منها ما يمكن حفظه بحروفه، وشهرتها في الناس خلاف الغربة، بل هي المعروف الذي لا يعرفون غيره؛ فلو كانت هي العلم الذي بعث اللَّه به رسوله ¬
لكان الدين كل وقت في ظهور وزيادة والعلم (¬1) في شهرة وظهور، وهو خلاف ما أخبر به الصادق. الوجه التاسع والعشرون: أن الاختلافَ كثيرٌ في كتب المقلدين وأقوالهم، وما كان من عند اللَّه فلا اختلافَ فيه، بل هو حق يُصدِّق بعضُه بعضًا، ويشهد بعضه لبعض، وقد قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. الوجه الثلاثون: أنه لا يجب على العبد أن يقلد زيدًا دون عمرو، بل يجوز له الانتقال من تقليد هذا إلى تقليد [هذا] (¬2) الآخر عند المقلدين، فإن كان قول من قلّده أولًا هو الحق لا سواه فقد جوّزتم له الانتقال عن الحق إلى خلافه، وهذا محال، وإن كان الثاني هو الحق وحده فقد جوزتم الإقامة على خلاف الحق. وإن قلتم: "القولانِ المتضادانِ المتناقضانِ حقٌّ" فهو أشدُّ إحالةً، ولا بد لكم من قسم من هذه الأقسام الثلاثة. الوجه الحادي والثلاثون: أن يُقال للمقلِّد: بأي شيء عرفت أنّ الصواب مع من قلدته دون من لا تقلده؟ فإن قال: "عرفته بالدليل" فليس بمقلد، وإن قال: "عرفته تقليدًا له؛ فإنه أفتى بهذا القول ودَانَ به وعِلْمُه ودينه وحسن ثناء الأمة عليه يمنعه أن يقولَ غير الحق" قيل له: أفمعصوم هو عندك أم يجوز عليه الخطأ؟ فإن قال بعصمته أبْطل، وإن جَوَّز عليه الخطأ قيل له: فما يؤمِّنُك أن يكونَ قد أخطأ فيما قلدته فيه وخالف فيه غيره؟ فإن قال: وإن أخطأ فهو مأجور، قيل: أجل هو مأجور لاجتهاده، وأنت غير مأجور لأنك لم تأت بموجَب الأجر، بل قد فَرَّطت في الإتِّباع الواجب فأنت إذن مأزور. فإن قال: كيف يأجُرُه اللَّه على ما أفتى به ويمدحُه عليه ويذم المستفتي على قبوله منه؟ وهل يُعقل هذا؟ قيل له: المستفتي إن هو قصّر وفرّط في معرفته الحق مع قدرته عليه لَحِقَه الذم والوعيد، وإن بَذَلَ جُهده ولم يقصِّر فيما أُمِر به واتقى اللَّه ما استطاع فهو مأجور أيضًا. وأما المتعصب الذي جعل قول متبوعه عيارًا على الكتاب والسنة وأقوال الصحابة يزنُها به فما وافق قول متبوعه منها قبله وما خالفه رده، فهذا إلى الذم والعقاب أقرب منه إلى الأجر والثواب (¬3)؛ وإن قيل وهو الواقع: اتبعته وقلدته ولا أدري أعلى صواب هو ¬
[ما علة إيثار قول على قول؟]
أم لا، فالعهدة على القائل، وأنا حاكٍ لأقواله، قيل له: فهل تتخلص بهذا من اللَّه عند السؤال لك عما حكمت به بين عباد اللَّه وأفتيتهم به، فواللَّه إن للحُكَّام والمفتين لموقفًا للسؤال لا يتخلص فيه إلا من عرف الحق وحكم به وأفتى به (¬1) وأما مَنْ عَدَاهما فسيعلم عند انكشاف الحال أنه لم يكن على شيء. [ما علة إيثار قول على قول؟] الوجه الثاني والثلاثون: أن نقول: أخذتم بقول فلان لأن فلانًا قاله أو لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاله؟ فإن قلتم: لأن فلانًا قاله؛ جعلتم قول فلان حجة، وهذا عين الباطل، وإن قلتم: لأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاله؛ كان هذا أعظم وأقبح؛ فإنه مع تضمُّنه للكذب على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقويلِكم عليه ما لم يقله، وهو أيضًا كذب على المتبوع فإنه لم يَقُل: هذا قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقد دار قولكم بين أمرين لا ثالث لهما: إما جعلُ قولِ غير المعصوم حجة، وإما تقويلُ المعصوم ما لم يقله، ولا بد من واحد من الأمرين. فإن قلتم: "بل منهما بد، وبقي قسم ثالث، وهو أَنَّا قُلنا كذا لأنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرنا أن نتبع من هو أعلم منا، ونسأل أهل الذكر إن كنا لا نعلم، ونرد ما لم نعلمه إلى استنباط أولي العلم؛ فنحن في ذلك مُتبعون ما أَمَرنا به نبيُّنا" قيل: وهل نُدندن إلا حول اتباع أمره -صلى اللَّه عليه وسلم-، فحيْهلا بالموافقة على هذا الأصل الذي لا يتُّم الإيمان والإسلام إلا به، فنناشِدُكم بالذي أرسله إذا جاء أمره وجاء قول مَنْ قلَّدتموه هل تتركون قوله لأمره -صلى اللَّه عليه وسلم- وتضربون به الحائط وتحرِّمون الأخذ به والحالة هذه حتى تتحقق المتابعة كما زعمتم، أو تأخذون بقوله وتُفوِّضون أمر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى اللَّه، وتقولون: هو أعلم برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مِنَّا، ولم يخالف هذا الحديث إلا وهو عنده منسوخ أو مُعارض بما هو أقوى منه أو غير صحيح عنده؟ فتجعلون قول المتبوع مُحْكمًا وقول الرسول متشابهًا؛ فلو كنتم قائلين بقوله لكون الرسول أمركم [بالأخذ بقوله لقدّمتم قول الرسول أين كان. ثم نقول في الوجه الثالث والثلاثين (¬2): وأين أَمرَكم الرسول] (¬3) بأخذ قول ¬
واحد من الأُمَّة بعينه، وترك قول نظيره ومن هو أعلم منه وأقرب إلى الرسول؟ وهل هذا إلا نسبة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أنه أَمَر بما لم يأمر به قط؟!. يوضحه الوجه الرابع والثلاثون: أن ما ذكرتم بعينه حجة عليكم، فإن اللَّه سبحانه أمر بسؤال أهل الذكر، والذكر هو القرآن والحديث الذي أمر اللَّه نساء نبيه أن يذكرنه بقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] فهذا هو الذكر الذي أمرنا اللَّه باتِّباعه، وأمر من لا علم عنده أن يسأل أهله، وهذا هو الواجب على كل أحد أن يسأل أهل العلم بالذكر الذي أنزله على رسوله ليخبروه به، فإذا أخبروه به لم يسعه غيرَ أتباعه، وهذا كان شأنُ أئمةِ أهل العلم لم يكن لهم مُقلَّد معين يتبعونه في كل ما قال؛ فكان عبد اللَّه بن عباس يسأل الصحابة عما قاله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فَعَله أو سَنَّة، لا يسألهم عن غير ذلك (¬1)، وكذلك الصحابة كانوا يسألون أمهات المؤمنين خصوصًا عائشة (¬2) عن فعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في بيته، وكذلك التابعون كانوا يسألون الصحابة عن شأن نبيهم فقط، وكذلك أئمة الفقه كما قال الشافعي لأحمد: يا أبا عبد اللَّه، أنت أعلم بالحديث مني؛ فإذا صح الحديث فأعلمني حتى أذهب إليه شاميًا كان أو كوفيًا أو بصريًا (¬3)، ولم يكن أحد من أهل العلم قط يسأل عن رأي رجل بعينه ومذهبه فيأخذ به وحده ويخالف ما سواه (¬4). الوجه الخامس والثلاثون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما أرشد المستفتين (¬5) لصاحب الشّجَّة بالسؤال عن حكمه وسنته، فقال: "قَتَلوه قَتلَهم اللَّه" (¬6) فدعا عليهم لما أفْتَوا بغير علم، وفي هذا تحريم الإفتاء بالتقليد، فإنه ليس عِلْمًا باتفاق الناس فإن ما دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فاعِلِه فهو حرامٌ، وذلك أحد أدلة التحريم؛ فما احتجَّ به المقلدون هو من أكبر الحجج عليهم واللَّه الموفق، وكذلك سؤال أبي العسيف (¬7) الذي زَنَى بامرأةِ مستأجرِه لأهل العلم؛ فإنهم لمَّا أخبروه بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في البكر الزاني أقرَّه على ذلك ولم ينكره؛ فلم يكن سؤالهم عن رأيهم ومذاهبهم. ¬
[حديث الكلالة بين الصديق والفاروق]
[حديث الكلالة بين الصدِّيق والفاروق] الوجه السادس والثلاثون: قولهم: إن عمر قال في الكَلالة: إني لأستحيي من اللَّه أن أُخالفَ أبا بكر (¬1). [لم يكن عمر يقلد أبا بكر] وهذا تقليد منه له، فجوابه من خمسة أوجه (¬2): أحدها: أنهم اختصروا الحديث وحذفوا منه ما يبطل استدلالهم [به] (¬3)، ونحن نذكره بتمامه، قال شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي أن أبا بكر قال في الكلالة: "أقضي فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن اللَّه، وإن يكن خطأ فمنِّي ومن الشيطان، واللَّه منه بريء، هو ما دون الولد والوالد" فقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: "إني لأستحي من اللَّه أن أخالف أبا بكر" (1) فاستحيا عمر من مخالفة أبي بكر في اعترافه بجواز الخطأ عليه، وأنه ليس كلامه كله صوابًا مأمونًا عليه الخطأ، ويدل على ذلك أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أَقرَّ عند موته أنه لم يقْضِ في الكلالة بشيء، وقد اعترف أنه لم يفهمها (¬4). [ما خالف فيه عمر أبا بكر] الوجه الثاني: أن خلاف عمر لأبي بكر أشهر من أن يُذكر كما خالفه في سبْي أهل الردة فسباهم أبو بكر وخالفه عمر وبلغ خلافه إلى ردِّهِنّ حرائر إلى ¬
أهلهن إلا مَنْ ولدت لسيِّدها منهن، ونَقَضَ حكمه (¬1)، ومن جملتهن خولة الحنفيِّة، أم محمد بن علي (¬2)، فأين هذا من فعل المقلدين بمتبوعهم؟ وخالفه في أرض العنْوة فقسمها أبو بكر ووقفها عمر (¬3)، وخالفه في المفاضلة في العطاء فرأى أبو بكر التسوية ورأى عمر المفاضلة (¬4)، ومن ذلك مخالفته له في الاستخلاف وصَرَّح بذلك، فقال: إن أسْتخلِف فقد استخلفَ أبو بكر، وإن لم أستخلف فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يستخلف، قال ابن عمر: [فواللَّه] (¬5) ما هو إلا أن ذَكَر رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلمت أنه لا يعدل برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحدًا، وأنه غير مستخلف (¬6)؛ فهكذا يفعل أهل العلم حين تتعارض عندهم سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقول غيره، لا يعدلون بالسنة شيئًا سواها، لا كما يصرح به المقلِّدون صراحًا، وخلافه له في الجد والإخوة (¬7) معلوم أيضًا. ¬
[عودة إلى الرد على المقلدة بعمل عمر]
[عودة إلى الرد على المقلدة بعمل عمر] الثالث: أنه لو قُدِّر تقليد عمر لأبي بكر في كل ما قاله لم يكن في ذلك مستراح لمقلدي من هو بعد الصحابة والتابعين ممن لا يُداني الصحابة ولا يقاربهم، فإن كان كما زعمتم لكم أسوة بعمر فقلِّدوا أبا بكر واتركوا تقليد غيره، واللَّه ورسوله وجميع عباده يحمدونكم على هذا التقليد ما لا يحمدونكم على تقليد غير أبي بكر. الرابع: أن المقلدين لأئمتهم لم يستحيوا مما استحيا منه عمر؛ لأنهم يخالفون أبا بكر وعمر معه -ولا يستحيون من ذلك- لقول مَنْ قلَّدوه من الأئمة، بل قد صرَّح بعد غُلاتهم في بعض كتبة الأصولية أنه لا يجوز تقليد أبي بكر وعمر، ويجب تقليد الشافعي، فياللَّه العجب الذي أَوجبَ تقليد الشافعي وحَرَّم عليكم تقليد أبي بكر وعمر؟! ونحن نُشهد اللَّه علينا شهادة نُسأل عنها يوم نلقاه أنه إذا صحَّ عن الخليفتين الراشدين اللَّذين أَمرنا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باتباعهما والاقتداء بهما (¬1) قَولٌ وأطبق أهل الأرض على خلافه لم نلتفت إلى أحد منهم، ونحمد اللَّه [على] (¬2) أن عَافَانا مما ابتلى به مَنْ حَرَّم تقليدهما وأوجب تقليد متبوعه من الأئمة. وبالجملة فلو صح تقليد عمر لأبي بكر لم يكن في ذلك راحة لمقلدي من لم يأمر اللَّه و [لا] (¬3) رسوله بتقليده، ولا جعله عيارًا على كتابه وسنة رسوله (¬4)، ولا هو جعل نفسه كذلك. الخامس: أن غاية هذا أن يكون عمر قد قَلَّد أبا بكر في مسألة واحدة، فهل في هذا دليل على جواز اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع [لا يُلتفت إلى قول [من] (¬5) سواه بل ولا إلى نصوص الشارع] (¬6) إلا إذا وافقت قوله (¬7)؟ فهذا واللَّه هو الذي أجمعت الأمة على أنه مُحرَّم في دين اللَّه، ولم يظهر في الأُمّة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة. ¬
[حجج إبطال التقليد]
[حجج إبطال التقليد] الوجه السابع والثلاثون: قولهم إن عمر قال لأَبي بكر: رأُينا لرأيك تَبَعٌ؛ فالظاهر أن المحتج بهذا سمع الناس يقولون كلمة تكفي العاقل فاقتصر من الحديث على هذه الكلمة، واكتفى بها، والحديث من أعظم الأشياء إبطالًا لقوله: ففي "صحيح البخاري" عن طارق بن شهاب قال: جاء وفْدُ بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألون الصلح، فخيَّرهم بين الحرب المُجْلية (¬1) والسِّلم المخزية (¬2)، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: ننزع منكم الحلقة والكُراع (¬3)، ونغنم ما أصبنا لكم، وتردّون علينا (¬4) ما أصبتم منا، وتدون لنا قتْلانا، وتكون قتلاكم في النار، وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يُرِيَ اللَّه خليفة رسوله والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به، فَعَرَضَ أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر بن الخطاب فقال: قد رأيت رأيًا سنشير عليك: أما ما ذكرت من الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وما ذكرت من أن نَغنَم ما أصبنا منكم وتردُّون ما أصبتم مِنَّا فنعمَ ما ذكرت، وأما ما ذكرت من [أن] (¬5) تدُون قتلانا وتكون قتلاكم في النار؛ فإن قَتْلانا قَاتَلت فقُتلت على ما أمر اللَّه أجورها على اللَّه ليس لها دِيَّات، فتتابع القوم على ما قال عمر، فهذا هو الحديث الذي في بعض ألفاظه: "قد رأيت رأيًا ورأينا لرأيك تبع" (¬6) فأي مستراحٍ في هذا لفرقة التقليد؟ ¬
[لم يكن ابن مسعود يقلد عمر]
[لم يكن ابن مسعود يقلد عمر] الوجه الثامن والثلاثون: قولهم إن ابن مسعود كان يأخذ بقول عمر، فخلاف ابن مسعود لعمر أشهر من أن يُتكلَّف إيراده (¬1)، وإنما كان يوافقه كما يوافق العالم العالم، وحتى لو أخذ بقوله تقليدًا لعمر فإنما ذلك في نحو أربع مسائل نعدُّها، وكان من عُمَّاله وكان عمر أمير المؤمنين، وأما مخالفته له ففي نحو مئة مسألة: منها أن ابن مسعود صَحَّ عنه أن أم الولد تُعتق من نصيب ولدها (¬2)، ومنها أنه كان يُطبِّق في الصلاة إلى أن مات (¬3) وعمر كان يضع يديه على ركبتيه (¬4)، ومنها أن ابن مسعود كان يقول في الحَرَام: هي يمينٌ (¬5) وعمر ¬
يقول: طلقة واحدة (¬1)، ومنها أن ابن مسعود كان يُحرِّم نكاح الزانية على الزاني أبدًا (¬2). ¬
وعمر كان يُتوِّبهما ويُنكح أحدهما الآخر (¬1)، ومنها أن ابن مسعود كان يرى بيع الأمة طلاقها (¬2)،. . . . ¬
[مكانة ابن مسعود بين الصحابة في علمه]
وعمر يقول: لا تَطْلُق بذلك (¬1)، إلى قضايا كثيرة (¬2). [مكانة ابن مسعود بين الصحابة في علمه] والعجب أن المحتجين بهذا لا يرون تقليد ابن مسعود ولا تقليد عمر، وتقليد مالك وأبي حنيفة والشافعي أحبُّ إليهم وآثر عندهم، ثم كيف يُنسب إلى ابن مسعود تقليد الرجال وهو يقول: لقد علم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أني أعلمهم بكتاب اللَّه، ولو أعلم أن أحدًا أعلم مني لرحلتُ إليه. قال شقيق: فجلستُ في حلقةٍ من أصحاب رسول اللَّه فما سمعتُ أحدًا يرد ذلك عليه (¬3)، وكان يقول: والذي لا إله إلا هو ما من كتاب اللَّه سورة إلا وأنا أعلم حيث نَزَلت، وما من آية إلا وأنا أعلمُ فيما نَزَلت، ولوَ أعلم أحدًا هو أعلم بكتاب اللَّه منِّي تبلغه الإبل لركبتُ إليه (¬4)، وقال أبو موسى الأشعري: كُنَّا حينًا وما نَرى ابنَ مسعود وأمه إلا من أهل بيت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من كثرة دخولهم ولزومهم له (¬5)، وقال أبو مسعود البَدْريّ، ¬
[لم يكن الصحابة يقلد بعضهم بعضا]
وقد قام عبد اللَّه بن مسعود: ما أعلمُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ترك بعده أعلم بما أنزل اللَّه من هذا القائم، فقال أبو موسى: لقد كان يَشْهد إذا غبنا (¬1)، ويُؤْذن له إذا حُجبنا (¬2)، وكتب عمر -رضي اللَّه عنه- إلى أهل الكوفة: إني بعثت إليكم عَمَّارًا أميرًا وعبد اللَّه معلمًا ووزيرًا، وهما من النُّجباء من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل بدر، فخذوا عنهما، واقتدوا بهما؛ فإني آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي (¬3)، وقد صح عن عمر أنه استفتى ابن مسعود في "ألبتَّة" وأخذ بقوله (¬4)، ولم يكن ذلك تقليدًا له، بل لمّا سمع قوله فيما تبيَّن له أنه الصواب؛ فهذا هو الذي كان يأخذ به الصحابة من أقوال بعضهم بعضًا، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: اغْدُ عالمًا أو متعلمًا، ولا تكونن إمّعة (¬5)، فأخرج الإمّعة -وهو المقلد- من زُمرة العلماء والمتعلمين، وهو كما قال -رضي اللَّه عنه-؛ فإنه لا مع العلماء ولا مع المتعلمين للعِلْم والحجة، كما هو معروف ظاهر لمن تأمله. [لم يكن الصحابة يقلد بعضهم بعضًا] الوجه التاسع والثلاثون: قولهم: إن عبد اللَّه كان يدع قوله لقول عمر، وأبو موسى كان يدع قوله لقول علي، وزيد يدع قوله لقول أبي بن كعب (¬6)، فجوابه أنهم لم يكونوا يدَعون ما يعرفون من السنة تقليدًا لهؤلاء الثلاثة كما تفعله فرقةُ التقليد، بل من تأمَّل سيرة القوم رأى أنهم كانوا إذا ظهرت لهم السنة لم يكونوا ¬
[معنى أمر رسول الله باتباع معاذ]
يدَعونها لقول أحد كائنًا من كان، وكان ابن عمر يدع قول عمر إذا ظهرت له السنة، وابن عباس يُنكر على من يُعارض ما بلغه من السنة بقوله: قال أبو بكر وعمر، ويقول: يوشك أن تنزلَ عليكم حجارةٌ من السماء، أقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتقولون: قال أبو بكر وعمر (¬1)!! فرحم اللَّه ابن عباس ورضي عنه، فواللَّه لو شاهد خَلَفَنا هؤلاء الذين إذا قيل لهم: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ قالوا: قال فلانٌ وفلان، لمن لا يُداني الصحابةَ ولا قريبًا من قريب، وإنما كانوا يدَعون أقوالهم لأقوال هؤلاء لأنهم يقولون القول ويقول هؤلاء؛ فيكون الدليل معهم فيرجعون إليهم ويدعون أقوالهم، كما يفعل أهل العلم الذين هو أحبُّ إليهم مما سواه، وهذا عكس طريقة فرقة أهل التقليد من كل وجه، وهذا هو الجواب عن قول مسروق: ما كنت أدع قول ابن مسعود لقول أحد من الناس (¬2). [معنى أمر رسول اللَّه باتباع معاذ] الوجه الأربعون: قولهم: إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "قد سَنَّ لكم معاذٌ فاتبعوه" (¬3) فعجبًا لمحتج بهذا على تقليد الرجال في دين اللَّه، وهل صار ما سَنَّه معاذ سنة إلا بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فاتبعوه" كما صار الأذان سنة بقوله وإقراره وشرعه (¬4)، لا بمجرد المنام. ¬
فإن قيل: فما معنى الحديث؟ قيل: معناه أن معاذًا فعل فعلًا جعله اللَّه لكم سنة، وإنما صار سنة لنا حين أمر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، لا لأن معاذًا فعله فقط، وقد صح عن معاذ أنه قال: كيف تصنعون بثلاث: دنيا تقطعُ أعناقَكُم، وزلَّةِ عالم، وجدالِ منافق بالقرآن؛ فأما العالم فإن اهتدى فلا تقلِّدوه دينكم وإن افتتن فلا تقطعوا منه إياسكم فإن المؤمن يفتتن (¬1) ثم يتوب، وأما القرآن فإن له منارًا كمنار الطريق لا يخفى على أحد؛ فما عَلِمتم منه فلا تسألوا عنه أحدًا، وما لم تعلموه فكِلوه إلى عالمه، وأما الدنيا فمن جعل اللَّه غِناه في قلبه فقد أفلح ومن لا فليست بنافعته دنياه (¬2)، فصدع -رضي اللَّه عنه- بالحق، ونهى عن التقليد في كل شيء، وأمر باتباع ظاهر القرآن، وأن لا يُبالي بمن خالف فيه، وأمر بالتوقف فيما أشكل، وهذا كله خلاف طريقة المقلدين، وباللَّه التوفيق. ¬
[طاعة أولي الأمر]
[طاعة أولي الأمر] الوجه الحادي والأربعون: قولكم: إن اللَّه سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر وهم العلماء، وطاعتهم تقليدهم فيما يفتون به؛ فجوابه أن أولي الأمر قد قيل: هم الأمراء، وقيل: هم العلماء (¬1)، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والتحقيق أن الآية تتناول الطائفتين، وطاعتهم من طاعة الرسول، لكن خفي على المقلدين أنهم إنما يُطاعون في طاعة اللَّه إذا أَمروا بأمر اللَّه ورسوله؛ فكان العلماءُ مبلِّغين لأمر الرسول، والأمراء منفِّذين له، فحينئذ تجب طاعتهم تبعًا لطاعة اللَّه ورسوله، فأين في الآية تقديم آراء الرجال على سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإيثار التقليد عليها؟! الوجه الثاني والأربعون: أن هذه الآية من أكبر الحجج عليكم (¬2)، وأعظمها إبطالًا للتقليد، وذلك من وجوه: أحدها: الأمر بطاعة اللَّه التي هي امتثال أمره واجتناب نهيه. الثاني: طاعة رسوله، ولا يكون العبد مطيعًا للَّه ورسوله حتى يكون عالمًا بأمر اللَّه ورسوله، ومن أقرَّ على نفسه بأنه ليس من أهل العلم بأوامر اللَّه ورسوله وإنما هو مقلد فيها لأهل العلم لم يمكنه تحقيق طاعة اللَّه ورسوله ألبتة. الثالث: أن أولي الأمر قد نهوْا عن تقليدهم كما صح ذلك عن معاذ بن جبل وعبد اللَّه بن مسعود وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن عباس وغيرهم من الصحابة (¬3)، وذكرناه نصًا عن الأئمة الأربعة وغيرهم (3)، وحينئذ فطاعتهم في ذلك إن كانت واجبة بطل التقليد، وإن لم تكن واجبة بطل الاستدلال. الرابع: أنه سبحانه قال في الآية نفسها: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء: 59] وهذا صريحٌ في إبطال التقليد، والمنعُ من ردِّ المتنازع فيه إلى رأي أو مذهب أو تقليد. فإن قيل: فما هي طاعتُهُم المختصة بهم؛ إذ لو كانوا إنما يُطاعون فيما يخبرون به عن اللَّه ورسوله كانت الطاعة للَّه ورسوله لا لهم؟ قيل: وهذا هو الحق، وطاعتهم إنما هي تبع لا استقلال، ولهذا قَرَنَها بطاعة الرسول ولم يُعد العامل، وأفرد طاعة الرسول وأعاد العامل لئلا يتوهم أنه ¬
[الثناء على التابعين ومعنى كونهم تابعين]
إنما يطاع تبعًا كما يُطاع أولو الأمر تبعًا، وليس كذلك، بل طاعته واجبة استقلالًا سواء كان ما أمر أو نهى عنه (¬1) في القرآن أو لم يكن. [الثناء على التابعين ومعنى كونهم تابعين] الوجه الثالث والأربعون: قولهم: إن اللَّه سبحانه وتعالى أثنى على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وتقليدهم هو اتباعهم بإحسان؛ فما أصْدق المقدمة الأولى، وما أكذب الثانية، بل الآية من أعظم الأدلة ردًا على فرقة التقليد؛ فإن اتِّباعهم هو سلوك سبِيلِهم ومنهاجهم، وقد نهوْا عن التقليد وكون الرجل إمّعة، وأخبروا أنه ليس من أهل البصيرة، ولم يكن فيهم -وللَّه الحمد- رجل واحد على مذهب هؤلاء المقلدين، وقد أعاذهم اللَّه وعافاهم مما ابتلى به مَن يردُّ النصوص لآراء الرجال وتقليدها؛ فهذا ضد متابعتهم، وهو نفس مخالفتهم؛ فالتابعون لهم بإحسان حقًا هم أولو العلم والبصائر الذين لا يقدمون على كتاب اللَّه وسنة رسوله رأيًا ولا قياسًا ولا معقولًا ولا قول أحد من العالمين، ولا يجعلون مذهب رجل (¬2) عيارًا على القرآن والسنن؛ فهؤلاء أتباعهم حقًا، جَعَلنا اللَّه منهم بفضله ورحمته. [من هم أتباع الأئمة] يوضحه الوجه الرابع والأربعون: أن أتْباعَهم لو كانوا هم المقلدين الذين هم مُقرِّون على أنفسهم وجميع أهل العلم أنهم ليسوا من أولي العلم لكان (¬3) سادات العلماء الدائرون مع الحجة ليسوا من أتباعهم، والجهال أسعد باتِّباعهم منهم، وهذا عين المحال، بل من خالف واحدًا منهم للحجة فهو المُتَّبع له، دون من أخذ قوله بغير حجة، وهكذا القول في أتباع الأئمة -رضي اللَّه عنهم-، معاذ اللَّه أن يكونوا هم المقلدين لهم الذين يُنزلون آراءهم منزلة النصوص، بل يتركون لها النصوص؛ فهؤلاء ليسوا من أتباعهم، وإنما أتباعهم من كان على طريقتهم واقتفى مناهجهم. ولقد أنكر بعض المقلِّدين على شيخ الإسلام في تدريسه بمدرسة ابن الحنبلي وهي وقف على الحنابلة، والمجتهد ليس منهم، فقال: إنما أتناول ما أتناوله منها على معرفتي بمذهب أحمد، لا على تقليدي له، ومن المحال أن ¬
[الكلام على حديث أصحابي كالنجوم]
يكون هؤلاء المتأخرون على مذهب الأئمة دون أصحابهم الذين لم يكونوا يقلدونهم، فأَتْبع الناس لمالك ابن وهبٍ وطبقته ممن يحكِّم الحجة وينقاد للدليل أين كان، وكذلك أبو يوسف ومحمد أتْبع لأبي حنيفة من المقلدين له مع كثرة مخالفتهما له، وكذلك البخاري ومسلم (¬1) وأبو داود والأثرم وهذه الطبقة من أصحاب أحمد أتْبع له من المقلدين المحضْ المنتسبين إليه، وعلى هذا فالوقف على أتباع الأئمة أهل الحجة والعلم أحق به من المقلدين في نفس الأمر. [الكلام على حديث أصحابي كالنجوم] الوجه الخامس والأربعون: قولهم يكفي في صحة التقليد الحديث المشهور: "أصحابي كالنُّجوم بأيهم اقتديتُم اهتديتُم" (¬2) جوابه من وجوه: أحدها: أن هذا الحديث قد روي من طريق الأعمش، عن أبي سُفيان، عن جابر، ومن حديث سعيد بن المسيب عن عمر (¬3)، ومن طريق حمزة الجزري عن نافع عن ابن عمر، ولا يثبت شيء منها (¬4)، قال ابنُ عبد البرِّ (¬5): حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد أن أبا عبد اللَّه بن مفرح حدثهم ثنا محمد بن أيوب الصموت قال: قال لنا البَزَّار: وأما ما يروى عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" فهذا الكلام لا يصح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). الثاني: أن يقال لهؤلاء المقلدين: فكيف استجزتم ترك تقليد النجوم التي ¬
يُهتدى بها وقلَّدتم من هو دونهم بمراتب كثيرة؛ فكان تقليد مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد آثر عندكم من تقليد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ فما دل عليه الحديث خالفتموه صريحًا، واستدللتم به على تقليد من لم يتعرَّض له بوجه. الثالث: أن هذا يوجب عليكم تقليد من ورّث الجد مع الإخوة منهم (¬1) ومن أسقط الإخوة به معًا (¬2)، وتقليد من قال: الحرام يمين (¬3)، ومن قال: هو طلاق (¬4)، وتقليد من حَرَّم الجمع بين الأختين بملك اليمين (¬5)، ومن أباحه (¬6)، وتقليد من جَوَّز للصائم أكل البَرد (¬7). ¬
ومن منع منه (¬1)، وتقليد من قال: تعتدُّ المُتوفى عنها بأقصى الأجلين (¬2) ومن قال: بوضع الحمل (¬3)، وتقليد من قال: يحرم على المُحرم استدامة الطيب (¬4)، وتقليد من أباحه (¬5)، وتقليد من جَوَّز بيع الدِّرهم بالدرهمين (¬6)، وتقليد من ¬
حَرَّمه (¬1)، وتقليد من أوجب الغُسل من الإكسال (¬2). . . . ¬
وتقليد من أسقطه (¬1)، وتقليد من ورّث ذوي الأرحام (¬2). . . . ¬
ومن أسقطهم (¬1)، وتقليد من رأى التحريم برضاع الكبير (¬2) ومَنْ لم يَرَه (¬3)، وتقليد ¬
من مَنَع تيمم الجنب (¬1) ومن أوجبه (¬2)، وتقليد من رأى الطلاق الثلاث واحدة (¬3) ومن رآه ثلاثًا (¬4)،. . . . ¬
وتقليد من أوجب فسْخ الحج إلى العمرة (¬1) وَمَنْ مَنَعَ منه (¬2)، وتقليد من أباح لحوم الحُمُر الأهلية (¬3) ومن منع منها (¬4)، وتقليد من رأى النّقض بمس الذَّكَر (¬5) ومن ¬
لم يَرَه (¬1)،. . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وتقليد من رأى بيع الأمة طلاقها (¬1) ومن لم يره (¬2)، وتقليد من وقف المؤلي عند الأجل (¬3) ¬
[الصحابة هم الذين أمرنا بالاستنان بهم]
ومن لم يقفه (¬1) وأضعاف أضعاف ذلك مما اختلف فيه أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)؛ فإن سَوَّغتم هذا فلا تحتجوا لقول على قولٍ ومذهب على مذهب، بل اجعلوا الرجل مخيرًا في الأخذ بأي قولٍ شاء من أقوالهم، ولا تنكروا على من خالف مذهبكم (¬3) واتبع قول أحدهم، وإن لم تسوِّغوه فأنتم أول مبطل لهذا الحديث، ومخالف له، وقائل بضد مقتضاه، وهذا مما لا انفكاكَ لكم منه. الرابع: أن الاقتداء بهم هو اتباعُ القرآن والسنة، والقبول من كل من دعا إليهما؛ فإن الاقتداء بهم يُحرِّم عليكم التقليد، ويوجب الاستدلال وتحكيم الدليل، كما كان عليه القومُ -رضي اللَّه عنهم-، وحينئذ فالحديث من أقوى الحجج عليكم، وباللَّه التوفيق. [الصحابة هم الذين أمرنا بالاستنان بهم] الوجه السادس والأربعون: قولكم: قال عبد اللَّه بن مسعود: من كان منكم مُستنًا فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب محمد (¬4). فهذا من أكبر الحجج عليكم من وجوه؛ فإنه نَهى عن الاستنان بالأحياء، وأنتم تقلِّدون الأحياء ¬
[الخلف لا يأخذون بسنة ولا يقتدون بصحابي]
والأموات، الثاني: أنه عَيَّن المستنَّ بهم بأنهم خير الخلق وأبر الأمة وأعلمهم، وهم الصحابة -رضي اللَّه عنهم- وأنتم معاشِرَ المقلدين- لا ترون تقليدَهم ولا الاستنانَ بهم، وإنما ترون تقليدَ فلان وفلان ممن هو دونهم بكثير، الثالث: أن الاستنان بهم هو الاقتداء بهم، وهو بأن يأتي المقتدي بمثل ما أتوْا به، ويفعل كما فعلوا، وهذا يبطل قبول قول أحد بغير حجة كما كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- عليه. الرابع: أن ابن مسعود قد صحَّ عنه النهي عن التقليد وأن يكون الرجل إمعة لا بصيرة له (¬1)؛ فعُلمَ أن الاستنان عنده غير التقليد. الوجه السابع والأربعون: قولكم قد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" (¬2) وقال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" (¬3) فهذا من أكبر حُججنا عليكم في بطلان ما أنتم عليه من التقليد؛ فإنه خلاف سُنتهم، ومن المعلوم بالضرورة أن أحدًا منهم لم يكن يدع السُّنة إذا ظهرت لقول غيره كائنًا من كان، ولم يكن له معها قول ألبتَّة، وطريقة فرقة التقليد خلاف ذلك. يوضحه الوجه الثامن والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرَنَ سُنتهم بسنته في وجوب الاتباع، والأخذ بسنتهم ليس تقليدًا لهم، بل اتباعٌ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما أن الأخذ بالأذان لم يكن تقليدًا لمن رآه في المنام، والأخذ بقضاء ما فات المسبوق من صلاته بعد سلام الإمام لم يكن تقليدًا لمعاذ، بل اتباعًا لمن (¬4) أَمرَنا بالأخذ بذلك، فأين التقليد الذي أنتم عليه من هذا؟ [الخلف لا يأخذون بسنة ولا يقتدون بصحابي] يوضحه الوجه التاسع والأربعون: أنكم أول مخالف لهذين الحديثين؛ فإنكم لا ترون الأخذ بسنتهم ولا الاقتداء بهم واجبًا، وليس قولهم عندكم حجة، وقد ¬
[أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه سيحدث اختلاف كثير]
صرح بعض غُلاتكم بأنه لا يجوز تقليدهم، ويجب تقليد الشافعي، فمن العجائب احتجاجُكُم بشيء أنتم أشدُّ الناس خلافًا له، وباللَّه التوفيق. يوضحه الوجه الخمسون: أن الحديث [بجملته] (¬1) حجة عليكم من كل وجه، فإنه أمر عند كثرة الاختلاف بسَّنته وسنَّة خلفائه، وأمرتم أنتم برأي فلان ومذهب فلان. الثاني: أنه حَذَّر من محدثات الأمور، وأخبر أن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (¬2)، ومن المعلوم بالاضطرار أن ما أنتم عليه من التقليد الذي تُرك له كتابُ اللَّه وسنة رسوله ويُعرض القرآن والسنة عليه ويجعل معيارًا عليهما من أعظم المحدثات والبدع التي برّأ اللَّه سبحانه [منها] (3) القرون [الثلاثة] (¬3) التي فضَّلها وخَيَّرها على غيرها. وبالجملة فما سنه الخلفاء الراشدون أو أحدهم للأمة فهو حجة لا يجوز العدول عنها، فأين هذا من قول فرقة التقليد: ليست سنتهم حجة، ولا يجوز تقليدهم فيها؟ [أخبر الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سيحدث اختلاف كثير] يوضحه الوجه الحادي والخمسون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في نفس هذا الحديث: "فإنه مَنْ يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا" (2) وهذا ذم للمختلفين، وتحذير من سلوك سبيلهم. وإنما كثير الاختلاف وتفاقم أمرُه بسبب التقليد وأهله، وهم الذين فرَّقوا الدين وصيَّروا أهله شيعًا، كل فرقة تنصر متبوعها، وتدعو إليه، وتذم من خالفها، ولا يرون العمل بقولهم حتى كأنَّهم ملة أخرى سواهم، يدْأبون ويكدحون في الرد عليهم، ولقولون: كتُبهم وكتبنا، وأئمتهم وأئمتنا، ومذهبهم ومذهبنا، هذا والنبيُّ واحد والقرآن واحد والدين واحد والرب واحد؛ فالواجب على الجميع أن ينقادوا إلى كلمة سواء بينهم كلهم، وأن لا يطيعوا إلا الرسول، ولا يجعلوا معه مَنْ تكون أقواله كنصوصه، ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون اللَّه؛ فلو اتفقت كلمتهم على ذلك وانقاد كل واحد منهم لمن دعاه إلى اللَّه ورسوله وتحاكموا كلهم إلى السنة وآثار الصحابة لقل الاختلاف وإن لم يُعدم من الأرض؛ ولهذا تجد أقل الناس اختلافًا [هم] (¬4) أهل السنة والحديث؛ فليس على وجه الأرض طائفة أكثر اتفاقًا وأقل اختلافًا منهم لما بنوا على هذا الأصل، وكلما كانت الفرقة عن ¬
[أمر عمر شريحا بتقديم الكتاب ثم السنة]
الحديث أبعد كان اختلافهم في أنفسهم أشد وأكثر، فإن من ردَّ الحق مَرجَ عليه أمره واختلط عليه والتبس عليه وجه الصواب فلم يدر أين يذهب، كما قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5]. [أمر عمر شريحًا بتقديم الكتاب ثم السنة] الوجه الثاني والخمسون: قولكم: إن عمر كتب إلى شُريح: "أنِ أقضِ بما في كتاب اللَّه، فإن لم يكن في كتاب اللَّه فبما في سنة رسول اللَّه، فإن لم يكن في سنة رسول اللَّه فبما قضى به الصالحون" (¬1) فهذا من أظهر الحجج [عليكم] (¬2) على بطلان التقليد؛ فإنه أَمَره أن يُقدِّم الحكم بالكتاب على كل ما سواه، فإن لم يجده في الكتاب ووجده في السنة لم يلتفت إلى غيرها، فإن لم يجده في السنة قضى [بمثل ما] (¬3) قضى به الصحابة، ونحن نناشد اللَّه فرقة التقليد: هل هم كذلك أو قريبًا من ذلك؟ وهل إذا نزلت بهم نازلة حدّث أحدٌ منهم نَفْسَه أن يأخذ حكمها من كتاب اللَّه ثم ينفذه، فإن لم يجدها في كتاب اللَّه أخذها من سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن لم يجدها في السنة أفتى فيها بما أفتى به الصحابة؟ واللَّه يشهدُ عليهم وملائكتُه وهم شاهدون على أنفسهم بأنهم إنما يأخذون حكمها من قول من قلَّدوه، وإن استبانَ لهم في الكتاب أو السنة أو عن الصحابة (¬4) خلافُ ذلك لم يلتفتوا إليه، ولم يأخذوا بشيء منه إلا بقول من قلدوه؛ فكتاب عمر من أبطل الأشياء وأكسرها لقولهم، وهذا كان سير السلف المستقيم وهديهم القويم. [طريق المتأخرين في أخذ الأحكام] فلما انتهت النوبة إلى المتأخرين ساروا (¬5) عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلة بالمفتي أو الحاكم فعليه أن ينظر أولًا: هل فيها اختلاف أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا [في] (¬6) سنة، بل يفتي ويقضي فيها بالإجماع (¬7)، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به (3) ¬
وحكم به، وهذا خلاف ما دَلَّ عليه حديث معاذ وكتاب عمر (¬1) وأقوال الصحابة. والذي دلَّ عليه الكتابُ والسنةُ وأقوال الصحابة أولى فإنه مقدورٌ مأمور، فإن عِلْمَ المجتهد بما دل عليه القرآن والسنة أسهلُ عليه بكثير من علمه باتفاق الناس في شرق الأرض وغربها على الحُكْم؛ وهذا إن لم يكن متعذرًا فهو أصعب شيء وأشقه إلا فيما هو من لوازم الإسلام، فكيف يُحيلنا اللَّه ورسوله على ما لا وصول لنا إليه ويترك الحوالة على كتابه وسنة رسوله اللَّذين هدانا بهما، ويسَّرهما لنا، وجعل لنا إلى معرفتهما طريقًا سهلة التناول من قرب؟ ثم ما يدريه فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم، وليس عدم العلم بالنزاع علمًا بعدمه، فكيف يقدِّم عدم العلم على أصل العلم كله؟ ثم كيف يسوغُ له ترك الحق المعلوم إلى أمر (¬2) لا علم له به وغايته أن يكون موهومًا، وأحسن أحواله أن يكون مشكوكًا فيه شكًا متساويًا أو راجحًا؟ ثم كيف يستقيم على هذا (¬3) رأي من يقول: انقراض عصر المجمعين شرط في صحة الإجماع (¬4) فما لم ينقرض عصرهم فلِمَن نشأ في زمنهم أن يخالِفَهم، فصاحب هذا السلوك لا يمكنه أن يحتج بالإِجماع حتى يعلَم أن العصرَ انقرض ولم ينشأ فيه مخالفٌ لأهله؟ وهل أحالَ اللَّه الأمة في الاهتداء بكتابه وسنة رسوله على ما لا سبيل لهم إليه ولا اطّلاع لأفرادهم عليه؟ وترك إحالَتَهم على ما هو بين أظهرهم حجة [عليهم] (¬5) باقية إلى آخر الدهر مُتَمكِّنون من الاهتداء به ومعرفة الحق منه، وهذا من أمحل المحال، وحين نشأت هذه الطريقة توَّلد عنها معارضة النصوص بالإجماع المجهول، وانفتَح بابُ دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين إذا احتُج عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلافُ الإجماع. وهذا هو الذي أنكره أئمة الإسلام، وعابوا من كل ناحية على مَنْ ارتكبه، وكذَّبوا من ادّعاه؛ فقال الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- في رواية ابنه عبد اللَّه: من ¬
[أئمة الإسلام يقدمون الكتاب والسنة]
ادَّعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بِشْرٍ المرِيسيِّ (¬1) والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغنَا (¬2). وقال في رواية المروزي (¬3): كيف يجوز للرجل أن يقول: "أجمعوا"؟ إذا سمعتهم يقولون: "أجمعوا" فاتهمهم، لو قال: "إني لم أعلم مخالفًا" كان. وقال في رواية أبي طالب (¬4): هذا كذب، ما عِلْمُه أن الناس مجمعون؟ ولكن [يقول] (¬5): "ما أعلم فيه اختلافًا" فهو أحسن من قوله إجماع الناس. وقال في رواية أبي الحارث: لا ينبغي لأحد أن يدَّعي الإجماع، لعل الناس اختلفوا (¬6). [أئمة الإسلام يقدمون الكتاب والسنة] ولم يزل أئمة الإسلام على تقديم الكتاب على السنة والسنة على الإجماع وجعل الإجماع في المرتبة الثالثة، قال الشافعي رحمه اللَّه (¬7): "الحجَّة كتاب اللَّه وسنة ¬
[طريقة أهل العلم وأئمة الدين]
رسوله واتفاق الأئمة"، وقال في كتاب: "اختلافه مع مالك" (¬1): "والعلمُ طبقاتٌ، الأولى: الكتاب والسنة الثابتة (¬2)، ثم الإجماعُ فيما ليس كتابًا ولا سنة (¬3)، الثالثة: أن يقولَ الصحابي فلا يُعلم له مخالف من الصحابة، الرابعة: اختلافُ الصحابة، والخامسة: القياس"، فقدَّم النظر في الكتاب والسنة على الإجماع، [ثم أخبر أنه إنما يُصار (¬4) إلى الإجماع] (¬5) فيما لم يُعلم فيه كتاب ولا سنة (¬6)، وهذا هو الحق. [طريقة أهل العلم وأئمة الدين] وقال أبو حاتم الرازي: "العلم عندنا ما كان عن اللَّه تعالى من كتاب ناطق ناسخ غير منسوخ، وما صحت به الأخبار عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مما لا مُعارض له، وما جاء عن الألِبّاء من الصحابة ما اتفقوا عليه، فإذا اختلفوا لم يخرج من اختلافهم، فإذا خفي ذلك ولم يُفهم فعن التابعين، فإذا لم يوجد عن التابعين فعن أئمة الهدى من أتباعهم مثل أيوب السَّختياني وحَمَّاد بن زيد وحماد بن سلمة وسُفيان ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح، ثم ما لم يُوجد عن أمثالهم فعن مثل عبد الرحمن بن مهدي وعبد اللَّه بن المبارك وعبد اللَّه بن إدريس، ويحيى بن آدم وابن عُيينة ووكيع بن الجراح، ومَنْ بَعْدهم محمد بن إدريس الشافعي ويزيد بن هارون والحميديُّ وأحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي وأبي عُبيد القاسم ابن سَلَّام" انتهى. فهذا طريقُ أهل العلم وأئمة الدين، جعل أقوال هؤلاء بدلًا عن الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة بمنزلة التيمم إنما يُصارُ إليه عند عدم الماء؛ فعَدَل هؤلاء المتأخرون المقلدون (¬7) إلى التَّيمم والماء بين أظهرهم أسهل [من التيمم] (¬8) بكثير. [طريق الخلف المقلدين] ثم حدثت (¬9) بعد هؤلاء فرقة هم أعداء العلم وأهله فقالوا: إذا نزلت ¬
[هل قلد الصحابة عمر؟]
بالمفتي أو الحاكم نازلةٌ لم يجز أن ينظر فيها في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله ولا أقوال الصحابة بل إلى ما قال (¬1) مقلَّدُه ومتبوعه ومَنْ جعله عيارًا على القرآن والسنة؛ فما وافق قوله أفتى به وحَكَم به، وما خالفه لم يجز له أن يفتي به ولا يقضي به، وإن فعل ذلك تعرَّض لعزله عن منصب الفتوى والحُكم، واستفتى عليه (¬2): ما تقول السادة والفقهاء (¬3) فيمن ينتسب إلى مذهب إمام معين يقلده دون غيره، ثم يفتي أو يحكم بخلاف مذهبه، هل يجوز له ذلك أم لا؟ وهل يقدح ذلك فيه أم لا؟ فيُنغض المقلدون رءوسهم، ويقولون: لا يجوز له ذلك (¬4)، ويقدح فيه. ولعل القول الذي عَدَل إليه هو قول أبي بكر وعمر وابن مسعود وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل وأمثالهم؛ فيجيب هذا الذي انتصب للتوقيع عن اللَّه ورسوله بأنه لا يجوز له مخالفة قول متبوعه لأقوال من هو أعلم باللَّه ورسوله منه، وإن كان مع أقوالهم كتاب اللَّه وسنة رسوله، وهذا من أعظم جنايات فِرْقةِ التقليد على الدين، ولو أنهم لزموا حَدَّهم ومرتبتهم وأخبروا إخبارًا مُجرَّدًا عما وجدوه من السواد في البياض من أقوال لا علم لهم بصحيحها من باطلها لكان لهم (¬5) عذرٌ ما عند اللَّه، ولكن هذا مبْلَغهم من العلم، وهذه معاداتهم لأهله وللقائمين بحججه (¬6)، وباللَّه التوفيق. [هل قَلَّد الصحابة عمر؟] الوجه الثالث والخمسون: قولكم: "منع عمر من بَيْع أمهات الأولاد وتبعه الصحابة وألزم بالطلاق (¬7) الثلاث وتبعوه أيضًا" (¬8) جوابه من وجوه؛ أحدهما: أنهم لم يتبعوه تقليدًا له، بل أذَاهم اجتهادُهم في ذلك إلى ما أداه إليه اجتهاده، ولم يقل أحد منهم قط: إني رأيت ذلك تقليدًا لعمر. الثاني: أنهم لم يتبعوه كلهم فهذا ابن مسعود يخالفه في أمهات الأولاد (¬9)، وهذا ابن عباس يخالفه في الإلزام ¬
[قول عمر: لو فعلت صارت سنة]
بالطلاق الثلاث (¬1)، وإذا اختلف الصحابة وغيرهم فالحاكم هو الحجة. الثالث: أنه ليس في اتباع قول عمر [بن الخطاب] (¬2) -رضي اللَّه عنه- في هاتين المسألتين وتقليد الصحابة -لو فُرض- له في ذلك ما يسوغ تقليد من هو دونه (¬3) بكثير في كل ما يقوله وتَرْك [قول من هو [مثله ومن هو] (¬4) فوقه] (¬5) وأعلم منه، فهذا من أبطل الاستدلال، وهو تعلُّق ببيت العنكبوت فقلَّدوا عمر واتركوا تقليد فلان وفلان، فأما وأنتم تصرحون بأن عمر لا يُقلَّد وأبو حنيفة والشافعي ومالك يُقلَّدون فلا يمكنكم الاستدلال بما أنتم مخالفون له، فكيف يجوز للرجل أن يحتج بما لا يقول به؟ [قول عمر: لو فعلتُ صارتْ سنةً] الوجه الرابع والخمسون: قولكم: "إن عمرو بن العاص قال لعمر لما احتلم: خذ ثوبًا غير ثوبك، فقال: لو فعلت صارت سنة" (¬6) فأين في هذا من الإذن من عمر في تقليده والإعراض عن كتاب اللَّه وسنة رسوله؟ وغاية هذا أنه تركه لئلا يقتدِيَ به من يراه، ويفعل ذلك؛ ويقول: لولا أن هذا سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما فعله عمر؛ فهذا هو الذي خشيه عمر -رضي اللَّه عنه-، والناس مقتدون بعلمائهم شاءوا أم أبوا فهذا هو الواقع وإن كان الواجب فيه تفصيل. [ما استبان فاعمل به وما اشتبه فكله لعالمه] الوجه الخامس والخمسون: قولكم: "قد قال أبيّ: ما اشتبه عليك فَكِلْهُ إلى ¬
[فتوى الصحابة والرسول حي تبليغ عنه]
عالِمِهِ" (¬1) فهذا حق، وهو الواجب على من سِوى الرسول؛ فإن كل أحد بعد الرسول لا بد أن يشتبَه عليه بعض ما جاء به، وكل من اشتبه عليه شيء وجب عليه أن يكِله إلى من هو أعلم منه، فإن تبيَّن له صار عالمًا مثله، وإلا وَكَلُه إليه، ولم يتكلف ما لا علم [له] (¬2) به؛ فهذا هو الواجب علينا في كتاب ربنا وسنةِ نبينا وأقوال أصحابه، وقد جعل اللَّه سبحانه فوق كل ذي علم عليم؛ فمن خفي عليه بعض الحق فوَكَله إلى مَنْ هو أعلم منه فقد أصاب، فأي شيء في هذا الإعراض عن القرآن والسنن وآثار الصحابة واتخاذ رجل بعينه معيارًا على ذلك وترك النصوص لقوله، وعرضها عليه وقبول كل ما أفتى به ورد كل ما خالفه؟ وهذا الأثر نفسه من أكبر الحجج على بطلان التقليد، فإن أوله: "ما استبان لك فاعمل به، وما اشتبه عليك فكله إلى عالمه" (¬3) ونحن نناشدكم اللَّه إذا استبانت لكم السنة هل تتركون قول من قَلَّدتموه لها وتعملون بها وتفتون أو تقضون (¬4) بموجبها، أم تتركونها وتعدلون عنها إلى قوله وتقولون: هو أعلمُ بها منَّا؟ فأُبيٌّ -رضي اللَّه عنه- مع سائر الصحابة على هذه الوصية، وهي مُبطلةٌ للتقليد قطعًا، وباللَّه التوفيق. ثم نقول: هل وكلتم (¬5) ما اشتبه عليكم من المسائل إلى عالِمها من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ إذ هم أعلم الأمة وأفضلها أم تركتم (5) أقوالهم وعدلتم عنها؟ فإن كان من قلَّدتموه ممن يوكل ذلك إليه فالصحابة أحق أن يوكل ذلك إليهم. [فتوى الصحابة والرسول حي تبليغ عنه] الوجه السادس والخمسون: قولكم: "كان الصحابة يفتون ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حيٌّ بين أظهرهم، وهذا تقليد [من المستفتين] (¬6) لهم" وجوابه أن فتواهم إنما كانت تبليغًا عن اللَّه ورسوله، وكانوا بمنزلة المخبرين فقط، لم تكن فتواهم تقليدًا لرأي فلان وفلان وإن خالفت النصوص؛ فهم لم يكونوا يقلدون في فتواهم، ولا يُفتون بغير النصوص، ولم يكن المستفتون لهم يعتمدون إلا على ما يبلغونهم إياه ¬
[المراد من إيجاب الله قبول إنذار من نفر للفقه في الدين]
عن نبيهم فيقولون: أَمَر بكذا، [وفَعلَ كذا] (¬1)، ونَهى عن كذا هكذا كانت فتواهم؛ فهي حجة على المستفتين كما هي حجة عليهم، ولا فرق بينهم وبين المستفتين لهم في ذلك إلا في الواسطة بينهم وبين الرسول وعدمها، واللَّه ورسوله وسائر أهل العلم يعلمون أنهم وأن مستفتيهم لم يعملوا (¬2) إلا بما عَلِموه عن نبيهم وشاهدوه وسمعوه منه، هؤلاء بواسطة وهؤلاء بغير واسطة، ولم يكن فيهم من يأخذ قول واحد من الأمة يحلل ما حَلَّله ويحرِّم ما حَرَّمه ويستبيح ما أباحه، وقد أنكر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على من أفتى بغير السنة منهم، كما أنكر على أبي السنابل [وكَذَّبه] (¬3)، وأنكر على من أفتى برجم الزاني البكر (¬4) وأنكر على من أفتى باغتسال الجريح حتى مات (¬5)، وأنكر على من أفتى بغير علم؛ كمن يُفتي بما لا يعلم صحته، وأخبر أن إثم المستفتي عليه (¬6)، فإفتاء الصحابة في حياته نوعان؛ أحدهما: كان يبلغُه ويُقرِّهم عليه، فهو حجة بإقراره لا بمجرد إفتائهم، الثاني: ما كانوا [يفتون] (¬7) به مُبلغين له عن نبيهم، فهم فيه رُواة لا مقلِّدون ولا مقلَّدون. [المراد من إيجاب اللَّه قبول إنذار من نفر للفقه في الدين] الوجه السابع والخمسون: قولكم: "وقد قال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ¬
مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] فأوجب قبول نذارتهم، وذلك تقليد لهم" جوابه من وجوه؛ أحدها: أن اللَّه سبحانه إنما أوجب عليهم قبول ما أنذروهم به من الوحي الذي ينزل في غيبتهم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجهاد، فأين في هذا حجة لفرقة التقليد على تقديم آراء الرجال على الوحي؟. الثاني: أن الآية حجة عليهم ظاهرة؛ فإنه سبحانه نوَّع عبوديتهم وقيامهم بأمره إلى نوعين: أحدهما: نفير الجهاد، والثاني: التفقه في الدين، وجعل قيام الدين بهذين الفريقين، وهم الأمراء والعلماء أهل الجهاد وأهل العلم؛ فالنافرون يجاهدون عن القاعدين، والقاعدون يحفظون العلم للنافرين، فإذا رجعوا من نفيرهم استدركوا ما فاتهم من العلم بإخبار من سمعه من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهنا للناس في الآية قولان: أحدهما: أن المعنى فهلَّا نَفَر من كل فرقة طائفة تتفقه وتُنذر القاعدة، فيكون المعنى في طلب العلم، وهذا قول الشافعي (¬1) وجماعة من المفسرين، واحتجوا به على قبول خبر الواحد؛ لأن الطائفة لا يجب أن تكون عدد التواتر. والثاني: أن المعنى فلولا نفر من كل [فرقة] (¬2) طائفة تجاهد لتتفقه (¬3) القاعدةُ وتنذر النافرةَ للجهاد إذا رجعوا إليهم ويخبرونهم بما نزل بعدهم من الوحي، وهذا قول الأكثرين، وهو الصحيح؛ لأن النفير إنما هو الخروج للجهاد كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإذا استُنْفِرتم فانفِروا" (¬4) وأيضًا فإن المؤمنين عامٌ في المقيمين مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- والغائبين عنه، والمقيمون مرادون ولا بد فإنهم سادات المؤمنين، فكيف لا يتناولهم اللفظ؟ وعلى قول أولئك يكون المؤمنون خاصًا بالغائبين عنه فقط، والمعنى وما كان المؤمنون لينفروا إليه كلهم، فلولا نفر إليه [من] (¬5) كل [فرقة] (2) منهم طائفة، وهذا خلافُ ظاهر لفظ المؤمنين، وإخراجٌ للفظ النفير عن مفهومه في القرآن والسنة، وعلى كلا القولين فليس في الآية ما يقتضي صحة القول بالتقليد (¬6) ¬
[أخذ ابن الزبير بقول الصديق في الجد]
المذموم، بل هي حجة على فساده وبطلانه؛ فإن الإنذار إنما يقوم بالحجة، فمن لم تقم عليه الحجة لم يكن قد أنذر، كما أن النَّذير من أقام الحجة، فمن لم يأت بحجة فليس بنذير، فإن سمَّيتم ذلك تقليدًا فليس الشأن في الأسماء، ونحن لا ننكر التقليد بهذا المعنى، فسمّوه ما شئتم، وإنما ننكر نصْب رجل معين يُجعل قوله عيارًا على القرآن والسنن؛ فما وافق قوله منها قُبل وما خالفه لم يقبل، ويقبل قوله بغير حجة، ويرد قول نظيره أو أعلم منه والحجة معه، فهذا الذي أنكرناه، وكل عالم على وجه الأرض يُعلن إنكارَه (¬1) وذَمَّه وذم أهله. [أخذ ابن الزبير بقول الصديق في الجد] الوجه الثامن والخمسون: قولكم: "إن ابن الزبير سئل عن الجد والإخوة فقال: أما الذي قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلًا لاتخذته خليلًا -يريد: أبا بكر -رضي اللَّه عنه- فإنه أنزله أبًا" (¬2) فأيُّ شيء في هذا مما يدل على التقليد بوجه من الوجوه؟ وقد تقدم من الأدلة الشافية التي لا مطْمع في دفعها ما يدل على أن قول الصديق في الجد أصحُّ الأقوال على الإطلاق، وابنُ الزبير لم يخبر بذلك تقليدًا، بل أضاف المذهب إلى الصديق لينبه على جلاله قائله، وأنه ممن لا يُقاس غيره به، لا ليُقبل قوله بغير حجة وتُترك الحجة من القرآن والسنة لقوله؛ فابن الزبير وغيره من الصحابة كانوا أتقى للَّه، وحُجج اللَّه وبيِّناته أحبُّ إليهم من أن يتركوها لآراء الرجال ولقول أحد كائنًا من كان، وقول ابن الزبير: "إن الصديق -رضي اللَّه عنه- أنزله أبًا" متضمِّن للحكم والدليل [معًا] (¬3). [ليس قبول شهادة الشاهد تقليدًا له] الوجه التاسع والخمسون: قولكم: "وقد أمر اللَّه بقبول شهادة الشاهد، وذلك تقليدٌ له" فلو لم يكن في آفات التقليد غير هذا الاستدلال لكفى به بطلانًا، وهل قبلنا قول الشاهد إلا بنص كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع الأمة على قبول قوله؛ فإن اللَّه سبحانه نَصَبه حُجةً يحكم الحاكم بها كما يحكم بالإقرار، وكذلك قول المقر أيضًا حجة شرعية، وقبوله تقليد له، كما سمَّيتم قبول شهادة الشاهد تقليدًا، فسمّوه ما شئتم فاللَّه (¬4) سبحانه أمرنا بالحكم بذلك، وجَعَله دليلًا على الأحكام؛ ¬
[ليس من التقليد قبول قول القائف ونحوه]
فالحاكم بالشهادة والإقرار منفِّذ لأمر اللَّه ورسوله، ولو تركنا تقليد الشاهد لم يلزم به حكم، وقد كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقضي بالشاهد (¬1) وبالإقرار (¬2)، وذلك حُكمٌ بنفس ما أنزل اللَّه لا بالتقليد؛ فالاستدلال (¬3) بذلك على التقليد المتضمن للإعراض عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، وتقديم آراء الرجال عليها، وتقديم قول الرجل على مَنْ هو أعلم منه واطِّراح قول من عداه جملة، من باب قلب الحقائق وانتكاس العقول والأفهام، وبالجملة فنحن إذا قبلنا قول الشاهد لم نقبله لمجرد كونه شهد به، بل لأن اللَّه سبحانه أمرنا بقبول قوله، فأنتم معاشر المقلدين إذا قبلتم قول من قَلَّدتموه قبلتموه لمجرد كونه قاله أو لأنَّ اللَّه أمركم بقبول قوله وطرح ما سواه (¬4). [ليس من التقليد قبول قول القائف ونحوه] الوجه الستون: قولكم: "وقد جاءت الشريعة بقبول قول القائف والخارص والقاسم والمُقوِّم والحاكِمَيْن بالمثل في جزاء الصيد، وذلك تقليد محض" أتعنون به أنه تقليد لبعض العلماء في قبول أقوالهم أو تقليد لهم فيما يُخبرون به؟ فإن عنيتم الأول فهو باطل، وإن عَنيتم الثاني فليس فيه ما تستروحون إليه من التقليد الذي قام الدليل على بُطلانه، وقبول قول هؤلاء من باب قبول خبر المُخبر والشاهد، لا من باب قبول الفُتيا في الدين من غير قيام دليل على صحتها، بل لمجرد إحسان الظن بقائلها مع تجويز الخطأ عليه، فأين قبول الأخبار والشهادات ¬
[شراء الأطعمة من غير سؤال عن أسباب حلها]
والأقارير إلى التقليد في الفتوى؟ والمُخبر بهذه الأمور يخبر عن أمر حسي طريق العلم به إدراكه بالحواس والمشاعر الظاهرة والباطنة، وقد أمر اللَّه سبحانه بقبول خبر المُخبر به إذا كان ظاهرَ الصِّدق والعدالة. وطرد هذا ونظيره قبول خبر المخبر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه قال أو فعل، وقبول خبر المخبر (¬1) عمَّن أخبر عنه بذلك، وهلم جرًا؛ فهذا حق لا ينازع فيه أحد. وأما تقليد الرجل فيما يُخبر به عن ظنه فليس فيه أكثر من العلم بأن ذلك ظنه واجتهاده؛ فتقليدنا له في ذلك بمنزلة تقليدنا له فيما يُخبر به عن رؤيته وسماعه وإدراكه، فأين في هذا ما يُوجب علينا أو يُسوِّغ لنا أن نفتي بذلك أو نحكَم به وندين اللَّه به، ونقول: هذا هو الحق وما خالفه باطل، ونترك له نصوص القرآن والسنة وآثار الصحابة وأقوال من عَدَاه من جميع أهل العلم؟!! ومن هذا الباب تقليد الأعمى في القبلة ودخول الوقت لغيره. وقد كان ابن أم مكتوم لا يؤذن حتى يُقلِّد غيره في طلوع الفجر، ويُقال له: أصبحتَ أصبحت (¬2)، وكذلك تقليد الناس للمؤذن في دخول الوقت، وتقليد مَنْ في المطمورة (¬3) لمن يُعْلِمه بأَوقات الصلاة والفطر والصوم ونحو ذلك (¬4)، ومن ذلك التقليد في قبول الترجمة والرسالة (¬5) والتعريف والتعديل والجرح، كُلُّ هذا من باب الأخبار التي أمر اللَّه بقبول المُخبر بها إذا كان عدلًا صادقًا، وقد أجمع الناس على قبول خبر الواحد في الهديَّة وإدخال الزوجة على زوجها، وقبول خبر المرأة ذمِّية كانت أو مسلمة في انقطاع دم حيضها لوقته وجواز وطئها وإنكاحها بذلك، وليس هذا تقليدًا في الفتيا والحكم، وإن (¬6) كان تقليدًا لها فإن اللَّه سبحانه شَرَع لنا أن نقبل قولها ونقلدها فيه، ولم يشرع لنا أن نتلقى أحكامه عن غير رسوله فضلًا عن أن نترك سنة رسوله لقول واحد من أهل العلم ونقدم قوله على قول من عداه من الأمة. [شراء الأطعمة من غير سؤال عن أسباب حِلِّها] الوجه الحادي والستون: قولكم: "وأجمعوا على جواز شراء اللُّحمان ¬
[هل كلف الناس كلهم الاجتهاد؟]
والأطعمة والثياب وغيرها من غير سؤال عن أسباب حِلِّها اكتفاء بتقليد أربابها" جوابه أن هذا ليس تقليدًا في حكم من أحكام اللَّه ورسوله من غير دليل، بل هو اكتفاء بقبول قول الذابح والبائع، وهو اقتداءٌ واتباع لأمر اللَّه ورسوله، حتى لو كان الذابح والبائع يهوديًا أو نصرانيًا أو فاجرًا اكتفينا بقوله في ذلك، ولم نسأله عن أسباب الحل، كما قالت عائشة رضي اللَّه عنها: يا رسول اللَّه إن ناسًا يأتوننا باللُّحْمان لا ندري أذكروا اسم اللَّه عليها أم لا، فقال: "سمُّوا أنتم وكُلوا" (¬1) فهل يَسوغُ لكم تقليدُ الكفار والفساق في الدين كما تقلدونهم في الذبائح والأطعمة؟ فدعوا (¬2) هذه الاحتجاجات الباردة وادخلوا معنا في الأدلة الفارقة بين الحق والباطل؛ لنعقد معكم عقد الصلح اللازم على تحكيم كتاب اللَّه وسنة رسوله والتحاكم إليهما وترك أقوال الرجال لهما، وأن ندور مع الحق حيث كان، ولا نتحيَّز إلى شخص معين غير الرسول، نقبل قولَه كُلَّه، ونردُّ قول (¬3) مَنْ خالفه كلَّه، وإلا فاشهدوا بأنَّا أولُ منكرٍ لهذه الطريقة وراغبٍ عنها داعٍ إلى خلافها، واللَّه المستعان. [هل كُلِّف الناس كلهم الاجتهاد؟] الوجه الثاني والستون: قولكم: "لو كلف الناس كلهم الاجتهاد وأن يكونوا علماء ضاعت مصالح العباد وتعطَّلت الصنائع والمتاجر وهذا مما لا سبيل إليه شرعًا وقدرًا" فجوابه من وجوه؛ أحدهما: أن من رحمة اللَّه سبحانه بنا ورأفته [أنه] (¬4) لم يكلْفنا بالتقليد، فلو كلفنا به لضاعت أمورنا، وفسدت مصالحنا، لأنَّا لم نكن ندري من نقلد من المفتين والفقهاء، وهم عدد فوق المئتين، ولا يَدري عددهم في الحقيقة إلا اللَّه، فإن المسلمين قد ملأوا الأرض شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالًا، وانتشر الإسلام بحمد اللَّه وفضله وبلغ ما بلغ الليل، فلو كُلفنا بالتقليد لوقعنا في أعظم العبث (¬5) والفساد، ولكلفنا بتحليل الشيء وتحريمه وإيجاب الشيء وإسقاطه معًا إن كلفنا بتقليد كل عالم، وإن كلفنا بتقليد الأعلم فالأعلم ¬
فمعرفة ما دل عليه القرآن والسنن من الأحكام أسهل بكثير (¬1) من معرفة الأعلم الذي اجتمعت فيه شروط التقليد، ومعرفة ذلك مشقة على العالم الراسخ فضلًا عن المقلد الذي هو كالأعمى، وإن كلفنا بتقليد البعض وكان جعل ذلك إلى تشهِّينا واختيارنا صار دين اللَّه تبعًا لإرادتنا واختيارنا وشهواتنا، وهو عين المحال؛ فلا بد أن يكون ذلك راجعًا إلى من أمر اللَّه باتباع قوله وتلقِّي الدين من بين شفتيه، وذلك محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب رسول اللَّه وأمينه على وحيه وحجته على خلقه، ولم يجعل اللَّه هذا المنصب لسواه (¬2) بعده أبدًا. الثاني: أن بالنظر والاستدلال صلاح الأمور لا ضياعها، وبإهماله وتقليد مَنْ يُخطئ ويصيب إضاعتها وفسادها كما الواقع شاهد به. والثالث: أن كل واحد منا مأمور بأن يُصدِّق الرسول فيما أخبَر به ويطيعه فيما أمر، وذلك لا يكون إلا بعد معرفةِ أمره وخَبَرَه، ولم يُوجب اللَّه سبحانه من ذلك على الأُمَّة إلا ما فيه حفظ دينها ودنياها وصلاحها في معاشها ومعادها، وبإهمال ذلك تضيع مصالحها وتفسد أمورها، فما خراب العالم إلا بالجهل، ولا عمارته إلا بالعلم. وإذا ظهر العلم في بلد أو محلة قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلم هناك ظهر الشر والفساد، ومن لم يعرف هذا فهو ممن لم يجعل اللَّه له نورًا. قال الإمام أحمد: ولولا العلم كان الناس كالبهائم، وقال: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يحتاج إليه في اليوم مرتين أو ثلاثًا، والعلم يحتاج إليه كل وقت (¬3). الرابع: أن الواجب على العبد (¬4) أن يعرف ما يخصه من الأحكام، ولا يجب عليه أن يعرف ما لا تدعوه الحاجة إلى معرفته، وليس في ذلك إضاعة لمصالح الخلق ولا تعطيل لمعاشهم؛ فقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- قائمين بمصالحهم ومعايشهم (¬5) وعمارة حروثهم والقيام على مواشيهم والضَّرْب في الأرض لمتاجرهم والصفق بالأسواق (¬6)، وهم أهدى العلماء الذي لا يُشقُّ في العلم ¬
[عدد الأحاديث التي تدور عليها أصول الأحكام وتفاصيلها]
غُبارهم. الخامس: أن العلم النافع هو الذي جاء به الرسول دون مقدَّرات الأذهان ومسائل الخرص والألغاز، وذلك بحمد اللَّه تعالى أيسر شيء على النفوس تحصيله وحفظه وفهمه، فإنه كتابُ اللَّه الذي يسَّره للذكر كما قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] قال البخاري في "صحيحه" (¬1): "قال مَطَر الوَرَّاق: هل من طالب علم فيُعان عليه؟ "، ولم يقل فتضيع عليه مصالحه وتتعطل عليه معايشه (¬2) وسنة رسوله وهي بحمد اللَّه تعالى مضبوطة محفوظة، وأصول الأحكام التي تدور عليها نحو خمس مئة حديث، وفرشها وتفاصيلها نحو أربعة آلاف حديث وإنما الذي هو في غاية الصعوبة والمشقة مقدَّرات الأذهان وأغلوطات المسائل والفروع والأصول التي ما أنزل اللَّه بها من سُلطان التي كل مالها في نمو وزيادة وتوليد (¬3)، والدين كل ماله في غربة ونقصان، واللَّه المستعان. [عدد الأحاديث التي تدور عليها أصول الأحكام وتفاصيلها] الوجه الثالث والستون: قولكم: "قد أجمع الناس على تقليد الزوج لمن يهدي إليه زوجته ليلة الدخول، وعلى تقليد الأعمى في القبلة والوقت، وتقليد المؤذنين، وتقليد الأئمة في الطهارة وقراءة الفاتحة، وتقليد الزوجة في انقطاع دمها ووطئها وتزويجها". فجوابه ما تقدم: أن استدلالكم بهذا من باب المغَاليط، وليس هذا من ¬
[مسألة عقبة بن الحارث ليست دليلا للمقلدة]
التقليد المذموم على لسان السلف والخلف في شيء، ونحن لم نرجع إلى أقوال هؤلاء لكونهم أخبروا بها، بل لأَنَّ اللَّه ورسوله أمر بقبول قولهم وجعله دليلًا على ترتُّب (¬1) الأحكام؛ فإخبارهم بمنزلة الشهادة والإقرار، فأين في هذا (¬2) ما يسوغ التقليد في أحكام الدين والإعراض عن القرآن والسنن ونصب رجل بعينه ميزانًا على كتاب اللَّه وسنة رسوله؟ [مسألة عقبة بن الحارث ليست دليلًا للمقلدة] الوجه الرابع والستون: قولكم: "أَمَر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن الحارث أن يقلد المرأة التي أخبرته بانها أَرْضعته وزوجَتَه" (¬3) فياللَّه العجب فأنتم لا تقلِّدونها في ذلك، ولو كانت إحدى أمهات المؤمنين، ولا تأخذون بهذا الحديث، وتتركونه تقليدًا لمن قلَّدتموه دينكم، وأي شيء في هذا مما يدل على التقليد في دين اللَّه؟ وهل هذا إلا بمنزلة قبول خبر المُخبر عن أمر حسي يخبر به، وبمنزلة قبول الشاهد؟ وهل كان مفارقةُ عقبة لها تقليدًا لتلك الأمَةِ أو اتّباعًا لرسول اللَّه حيث أمره بفراقها؟ فمن بركة التقليد أنكم لا تأمرَونه بفراقها، وتقولون: هي زوجتك حلال وطؤها، وأما نحن فمن حقوق الدليل علينا أن نأمر من وقعت له هذه الواقعة بمثل ما أمر به رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعقبة بن الحارث سواء، ولا نترك الحديث تقليدًا لأحد. [الرد على دعوى أن الأئمة قالوا بجواز التقليد] الوجه الخامس والستون: قولكم: "قد صَرَّح الأئمة بجواز التقليد كما قال سفيان: إذا رأيت الرجل يعمل العمل وأنت ترى غيره فلا تنهه، وقال محمد بن الحسن: يجوز للعالم تقليد من هو أعلم منه، ولا يجوز له تقليد مثله، وقال الشافعي في غير موضع: قلته تقليدًا لعمر، وقلته تقليدًا لعثمان، وقلته تقليدًا لعطاء" (¬4). جوابه من وجوه: أحدها: أنَّكم إن ادَّعيتم أن جميع العلماء صرَّحوا بجواز التقليد فدعوى ¬
[بم لقب الأئمة المقلد؟]
باطلة، فقد ذكرنا من كلام الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في ذم التقليد وأهله والنهي عنه ما فيه كفاية. [بم لقب الأئمة المقلد؟] وكانوا يسمون المقلد الإمّعة ومحقب دينه كما قال ابن مسعود: الإمعة الذي يحقِّب (¬1) دينه الرجال (¬2)، وكانوا يسمُّونه الأعمى الذي لا بصيرة له، ويسمون المقلدين أتباع كل ناعق، يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يركنوا إلى ركن وثيق، كما قال فيهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (¬3)، وكما سَمَّاه الشافعي حاطب ليل (¬4)، ونهى عن تقليده وتقليد غيره؛ فجزاه اللَّه عن الإسلام خيرًا، لقد نصح للَّه ورسوله والمسلمين ودعا إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله، وأمر باتباعهما دون قوله، وأمر (¬5) بأن نعْرِض أقوالَه عليهما فنقبل منها ما وافقهما ونرد ما خالفهما؛ فنحن نناشد المقلدين [اللَّه] (¬6): هل حفظوا في ذلك وصيته وأطاعوه أم عَصَوْه وخالفوه؟ وإن ادَّعيتم أن من العلماء من جَوَّز التقليد فكان [ما رأى] (¬7). الثاني: أن هؤلاء الذين حكيتم عنهم أنهم جَوَّزوا التقليد لمن هو أعلم منهم هم من أعظم الناس رغبةً عن التقليد واتباعًا للحجة ومخالفة لمن هو أعلم منهم، فأنتم مقرّون أن أبا حنيفة أعلم من محمد بن الحسن ومن أبي يوسف وخلافهما له معروف، وقد صح عن أبي يوسف أنه قال: لا يحل لأحد أن يقول مقالتنا حتى يعلم من أين قلنا (¬8). الثالث (¬9): أنكم منكرون أن يكون من قلَّدتموه من الأئمة مقلدًا لغيره أشد الإنكار، وقمتم وقعدتم في قول الشافعي: قلته تقليدًا لعمر، وقلته تقليدًا لعثمان، وقلته تقليدًا لعطاء، واضطربتم في حمل كلامه على موافقة الاجتهاد أشدَّ ¬
الاضطراب، وادعيتم أنه لم يقلد زيدًا في الفرائض، وإنما اجتهد فوافق اجتهاده اجتهاده، ووقع الخاطر على الخاطر، حتى وافق اجتهاده في مسائل المعادة (¬1) حتى في الأكدرية، وجاء الاجتهاد حذو القذة بالقذة (¬2)، فكيف نصبتموه مقلِّدًا هاهنا؟ ولكن هذا التناقض جاء من بركة التقليد، ولو اتبعتم العلم من حيث هو واقتديتم بالدليل وجعلتم الحجةَ إمامًا لما تناقضتم هذا التناقض وأعطيتم كلَّ ذي حق حقه. والرابع: أن هذا من أكبر الحجج عليكم؛ فإن الشافعي قد صرح بتقليد عمر وعثمان وعطاء مع كونه من أئمة المجتهدين، وأنتم -مع إقراركم بأنكم من المقلدين- لا ترون تقليد واحد من هؤلاء، بل إذا قال الشافعي وقال عمر وعثمان وابن مسعود -فضلًا عن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن- تركتم تقليدَ هؤلاء وقلَّدتم الشافعي، وهذا عين التناقض؛ فخالفتموه من حيث زعمتم أنكم قلَّدتموه، فإنْ قلَّدتم الشافعي فقلّدوا من قلده الشافعي، فإن قلتم: بل قلدناهم فيما قلدهم فيه الشافعي، قيل: لم يكن ذلك تقليدًا منكم لهم، بل تقليدًا له، وإلا فلو جاء عنهم خلاف قوله لم تلتفتوا إلى أحد منهم. الخامس: أن من ذكرتم من الأئمة لم يقلدوا تقليدكم، ولا سَوَّغوه ألبتّة، بل غاية ما نقل عنهم من التقليد في مسائل يسيرة لم يظفروا فيها بنصٍّ عن اللَّه ورسوله، ولم يجدوا فيها سوى قول من هو أعلم منهم فقلَّدوه، وهذا فعل أهل العلم، وهو الواجب؛ فإن التقليد إنما يباح للمضطر، وأما من عدل عن الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وعن معرفة الحق بالدليل مع تمكنه منه إلى التقليد فهو كمن عَدَل إلى الميتة مع قدرته على المذكَّى؛ فإن الأصل أن لا يُقبل قول الغير إلا بدليل إلا عند الضرورة، فجعلتم أنتم حال الضرورة رأس أموالكم. ¬
سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الرابع] دار ابن الجوزي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [4]
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339
[الفرق بين حال الأئمة وحال المقلدين]
[الفرق بين حال الأئمة وحال المقلدين] الوجه السادس والستون: قولكم: "قال الشافعي -رضي اللَّه عنه-: رأيُ الصحابة لنا خير من رأينا لأنفسنا (¬1) [ونحن نقول ونَصْدق: رأي الشافعي والأئمة لنا خير من رأينا لأنفسنا] (¬2) جوابه من وجوه. أحدها: أنكم أول مخالف لقوله، ولا ترون رأيهم لكم خيرًا من رأي الأئمة لأنفسهم، بل تقولون: رأي الأئمة لأنفسهم خير لنا من رأي الصحابة لنا، فإذا جاءت الفُتيا عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسادات الصحابة وجاءت الفُتيا عن الشافعي وأبي حنيفة ومالك تركتم ما جاء عن الصحابة وأخذتم بما أفتى به الأئمة، فهلَّا كان رأي الصحابة لكم خيرًا من رأي الأئمة لكم لو نصحتم أنفسكم. [فضل الصحابة وعلمهم] الثاني: أن هذا لا يُوجب [صحة] (¬3) تقليد مَنْ سِوى الصحابة؛ لما خصَّهم اللَّه به من العلم والفهم والفضل والفقه عن اللَّه ورسوله وشاهدوا الوحي والتلقي عن الرسول بلا واسطة ونزول الوحي بلغتهم وهي غضة محضة لم تُشَبْ، ومراجعتهم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما أشكل عليهم من القرآن والسنة حتى يُجَلِّيه لهم؛ فمن له هذه المزية بعدهم؟ ومن شاركهم في هذه المنزلة حتى يقلَّد كما يقلَّدون فضلًا عن وجوب تقليده وسقوط تقليدهم أو تحريمه كما صَرَّح به غلاتُهم؟ (¬4) وتاللَّه إن بَيْن علم الصحابة وعلم من قلَّدتموه من الفضل كما بينهم وبينهم في ذلك. قال الشافعي في "الرسالة القديمة" بعد أن ذكرهم وذكر من تعظيمهم وفضلهم: "وهم فوقنا في كل علم واجتهادٍ وورعٍ وعقلٍ وأمر استدرك به عليهم (¬5)، وآراؤهم لنا أحمد وأولى [بنا] (¬6) من رأينا، قال الشافعي: وقد أثنى اللَّه على الصحابة في القرآن والتوراة والإنجيل، وسَبقَ لهم من الفَضْل على لسان نبيهم ما ليس لأحد بعدهم"، وفي "الصحيحين" من حديث عبد اللَّه بن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
قال: "خيرُ الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبقُ شهادةُ أحدهم يمينه ويمينه شهادته" (¬1)، وفي "الصحيحين" من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تسُبُّوا أصحابي؛ فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه" (¬2) وقال ابنُ مسعود: "إن اللَّه نَظَر في قلوب عباده فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، ثم نظر (¬3) في قلوب الناس بعده فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فاختارهم لصحبته، وجعلهم أنصار دينه ووزراء نبيه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رأوه (¬4) قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح" (¬5) وقد أمرنا ¬
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باتباع سنة خلفائه الراشدين (¬1) وبالاقتداء بالخليفتين (¬2). وقال أبو سعيد: كان أبو بكر أعلمنا برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، وشهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لابن مسعود بالعلم (¬4)، ودعا لابن عباس بأن يفقهه اللَّه في الدين ويعلمه التأويل (¬5)، وضَمَّه إليه مرة وقال: "اللَّهم علمه الحكمة" (¬6) وناول (¬7) عمر في المنام القَدَح الذي شرب منه ¬
حتى رأى الريَّ يخرج من تحت أظفاره، وأَوَّله بالعلم (¬1)، وأخبر أَنَّ القوم إنْ أطاعوأ أبا بكر وعمر يَرْشدوا (¬2)، وأخبر أنه لو كان بعده نبيّ لكان عمر (¬3)، وأخبر أن اللَّه جَعل الحقَّ على لسانه وقلبه (¬4)، وقال: رضيتُ لكم ما رضي لكم ابنُ أمِّ ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
عبد (¬1)، يعني: عبد اللَّه بن مسعود (¬2)، وفضائلهم ومناقبهم وما خَصَّهم اللَّه به من والفضل، أكثر من أن يذكر، فهل يستوي تقليد هؤلاء وتقليد من بعدهم ممن لا يُدانيهم ولا يُقاربهم؟ ¬
[قول الصحابة حجة]
[قول الصحابة حجة] الثالث: أنه لم يختلف المسلمون أنه ليس قول من قَلَّدتموه حجة، وأكثر العلماء بل الذي نص عليه من قلدتموه أن أقوال الصحابة حجة يجب اتباعها، ويحرم الخروج عنها كما سيأتي (¬1) حكاية ألفاظ الأئمة في ذلك، وأبلغهم فيه الشافعي، ونبين أنه لم يختلف مذهبه أن قول الصحابي حُجَّة، ونذكر نصوصه في الجديد على ذلك إن شاء اللَّه، وأن من حَكى عنه قولين في ذلك فإنما حكى ذلك بلازم قوله، لا بصريحه، وإذا (¬2) كان قول الصحابي حجة فقبول قوله واجبٌ متعيّن، وقبول قول من سواه أحسن أحواله أن يكون سائغًا، فقياسُ أحد القائلين على الآخر من أفْسد القياس وأبطله. [ما ركزه اللَّه في فطر عباده من تقليد الأستاذين لا يستلزم جواز التقليد في الدين] الوجه السابع (¬3) والستون: قولكم: "وقد جعل اللَّه سبحانه في فِطَرِ العباد تقليد المتعلمين للمعلمين والأستاذين في جميع الصنائع والعلوم إلى آخره" فجوابه أن هذا حق لا ينكره عاقل، ولكن كيف يستلزم ذلك صحة التقليد في دين اللَّه، وقبول قول المتبوع بغير حجة توجب قبول قوله، وتقديم قوله على قول من هو أعلم منه، وترك الحجة لقوله، وترك أقوال أهل العلم جميعًا من السلف والخلف لقوله؟ فهل جعل اللَّه ذلك في فطرة أحد من العالمين؟ ثم يُقال: بل الذي فطر اللَّه عليه عباده طلبُ الحجة والدليل المثبت لقول المدعي، فركز [اللَّه] (¬4) سبحانه في فطر الناس أنهم لا يقبلون قول من لم يقم الدليل على صحة قوله، ولأجل ذلك أقام اللَّه سبحانه البراهين القاطعة والحجج الساطعة والأدلة الظاهرة والآيات الباهرة على صدق رسله إقامةً للحجة وقطعًا للمعذرة، هذا وهم أصدقُ خلقه وأعلمُهم وأبرُّهم وأكملهم، فأَتوا بالآيات والحجج والبراهين مع اعتراف أممهم لهم بأنهم أصدق الناس، فكيف يُقبل قول من عداهم بغير حجة تُوجب قبول قوله؟ واللَّه سبحانه إنما أوجب قبول قولهم بعد قيام الحجة وظهور الآيات المستلزمة لصحة دعواهم؛ لما جعل اللَّه في فطر عباده من الانقياد للحجة، وقبول قول صاحبها، وهذا أمر مشتركٌ بين جميع أهل الأرض مؤمنُهم وكافرهم وبرُّهم وفاجرهم الانقياد للحجة وتعظيم صاحبها، وإن ¬
[تفاوت الاستعداد لا يستلزم التقليد في كل حكم]
خالفوه عِنادًا وبغْيًا فلفوات (¬1) أغراضهم بالانقياد؛ ولقد أحسن القائل: أَبْن (¬2) وجهَ قولِ الحقِّ في قلبٍ سامعٍ ... ودَعْه فنورُ الحقِّ يَسري ويُشرقُ سيؤنسه رفقًا (¬3) وينسى نِفَارَه ... كما نسي التَّوثيق من هو مُطْلَقُ ففطرةُ اللَّه وشرعته (¬4) من أكبر الحجج على فرقة التقليد. [تفاوت الاستعداد لا يستلزم التقليد في كل حكم] الوجه الثامن (¬5) والستون: قولكم: " (إن اللَّه) (¬6) سبحانه فاوت بين قوى الأذهان كما فاوت بين قوى الأبدان، فلا يليق بحكمته وعدله أن يفرض على كل أحد معرفة الحق بدليله في كل مسألة، إلى آخره" فنحن لا ننكر ذلك، ولا ندَّعي أن اللَّه فَرَضَ على جميع خلقه معرفة الحق بدليله في كل مسألة من مسائل الدين دِقِّه وجِلِّه، وإنما أنكرنا ما أنكره الأئمة ومَنْ تقدَّمهم من الصحابة والتابعين وما حدث في الإسلام بعد انقضاء القرون الفاضلة في القرن الرابع المذموم على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، من نَصْبِ رجلٍ واحد وجعل فتاويه بمنزلة نصوص الشارع، بل تقديمها (عليها) (¬7) وتقديم قولَه على أقوال مَنْ بَعْد رسولِ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من جميع علماء أمته، والاكتفاء بتقليده عن تلقِّي الأحكام من كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة، وأن يضم إلى ذلك أنه لا يقول إلا بما في كتاب اللَّه وسنة رسوله، وهذا مع تضمُّنه للشهادة بما (¬8) لا يعلم الشاهد، والقول على اللَّه بلا علم، والإخبار عَمَّن خالفه وإن كان أعلم منه أنه غير مصيب للكتاب والسنة ومتبوعي هو المصيبُ، أو يقول: كلاهما مصيب للكتاب والسنة، وقد تعارضت أقوالُهما، فيجعل أدلة الكتاب والسنة متعارضةً متناقضةً، واللَّه ورسوله يحكم بالشيء وضده في وقت واحد، ودينه تبع لآراء الرجال، وليس له في نَفْس الأمر حكم معين، فهو إما أن يسلك هذا المسلك أو يُخطِّئ من خالف متبوعه، ولا بد له من واحد من الأمرين، وهذا من بركة التقليد عليه. إذا عرفت (¬9) هذا فنحن إنما قلنا ونقول: إن اللَّه تعالى أوْجب على العباد أن ¬
[فرق عظيم بين المقلد والمأموم]
يتقوه بحسب استطاعتهم، وأصل التقوى معرفة ما يُتَّقى ثم العمل به؛ فالواجب على كل عبد أن يبذل جَهده في معرفة ما يتقيه مما أمره اللَّه به ونهاه عنه، ثم يلتزم طاعة اللَّه ورسوله، وما خفي عليه فهو (¬1) فيه أسوة أمثاله ممن عدا الرسول؛ فكل (¬2) أحد سواه قد خفي عليه بعض ما جاء به، ولم يخرجه ذلك عن كونه من أهل العلم، ولم يكلفه اللَّه ما لا يطيق من معرفة الحق واتباعه. قال أبو عمر (¬3): وليس أحدٌ بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا وقد خفي عليه بعض أمره، فإذا أوجبَ اللَّه [سبحانه] (¬4) على كل أحد ما استطاعه وبلغته قواه من معرفة الحق وعَذَرَه فيما خفي عليه منه فأخطأ أو قَلَّد فيه غيره كان ذلك هو مقتضى حكمته وعدله ورحمته، بخلاف ما لو فوّض إلى العباد (¬5) تقليد من شاءوا من العلماء، وأن يختارَ كلٌّ منهم [له] (¬6) رجلًا ينصبه معيارًا على وحيه، ويُعرض عن أخذ الأحكام واقتباسها من مِشكاة الوحي؛ فإن هذا ينافي حكمته ورحمته وإحسانه، ويؤدي إلى ضياع دينه وهجْر كتابه وسنة رسوله كما وقع فيه من وقع، وباللَّه التوفيق. [فرق عظيم بين المقلد والمأموم] الوجه التاسع (¬7) والستون: قولكم: "إنكم في تقليدكم بمنزلة المأموم مع الإمام والمتبوع مع التابع فالركب (¬8) خلف الدليل" جوابه إنا واللَّه حولها نُدنْدِن، ولكن الشأن في الإمام والدليل والمتبوع الذي فَرضَ اللَّه على الخلائق أن تأتم به وتتبعه وتسير خلفه، وأقسم سبحانه بعزَّته أن العباد لو أتوْه من كل طريق أو استفتحوا من كل باب لم يُفتح لهم حتى يدخلوا خلفه؛ فهذا لعمر اللَّه هو إمام الخلق ودليلهم وقائدهم حقًا، ولم يجعل اللَّه منصب الإمامة بعده إلا لمن دعا إليه، ودَلَّ عليه، وأمر الناس أن يقتدوا به، ويأتموا به، وبسيروا خلفه، وأن لا ينصبوا لأنفسهم (¬9) متبوعًا ولا إمامًا ولا دليلًا غيره، بل يكون العلماء مع الناس بمنزلة أئمة (¬10) الصلاة مع المصلين، كل واحدٍ يصلي طاعة للَّه وامتثالًا لأمره، وهم في الجماعة متعاونون متساعدون وبمنزلة (¬11) الوفد مع الدليل، كلهم يَحجُّ ¬
طاعةً للَّه وامتثالًا لأمره، لا أن المأموم يصلي لأجل كون الإمام يصلي (¬1)، بل هو يصلي صَلَّى إمامه أو لا بخلاف المقلد؛ فإنه إنما ذهب إلى قول متبوعه لأنه قاله، لا لأن الرسول قاله، ولو كان كذلك لدار مع قول الرسول أين كان ولم يكن مقلدًا. فاحتجاجهم بإمام الصلاة ودليل الحاج من أظهر الحجج (¬2) عليهم. يوضحه الوجه السبعون: (¬3) أن المأموم قد علم أن هذه الصلاة التي فَرضَها اللَّه سبحانه على عباده، وأنه وإمامَه في وجوبها سواء، وأن هذا البيت هو الذي فرض اللَّه حجَّه على كل من استطاع إليه سبيلًا، وأنه هو والدليل في هذا الفرض سواء، فهو لم يحج تقليدًا للدليل، ولم يصل تقليدًا للإمام. وقد استأجر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- دليلًا يدلُّه (¬4) على طريق المدينة لما هاجر الهِجْرَة التي فرضها اللَّه عليه (¬5)، وصلَّى خلف عبد الرحمن بن عوْف مأمومًا (¬6)، والعالم يُصلِّي خلف مثله ومن هو دونه، بل خلف من ليس بعالم، وليس من تقليده في شيء. يوضحه الوجه الحادي والسبعون: (¬7) أن المأموم يأتي بمثل ما يأتي به الإمام سواء، والركب يأتون بمثل ما يأتي به الدليل، ولو لم يفعلا ذلك لما كان هذا متَّبعًا، فالمتبع للأئمة هو الذي يأتي بمثل ما أتوا به سواء من معرفة الدليل وتقديم الحجة وتحكيمها حيث كانت ومع من كانت؛ فهذا يكون مُتَّبعًا لهم، وأما مع إعراضه عن الأصل الذي قامت عليه إمامتهم، ويسلك غير سبيلهم ثم يدَّعي أنه مؤتمٌ بهم فتلك أمانيُّهم، ويقال لهم: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [النحل: 64]. ¬
[الصحابة كانوا يبلغون الناس حكم الله ورسوله]
[الصحابة كانوا يبلغون الناس حكم اللَّه ورسوله] الوجه الثاني (¬1) والسبعون: قولكم: "إن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتحوا البلاد، وكان الناسُ حديثي عهد بالإسلام، وكانوا يفتونهم، ولم يقولوا لأحد منهم: عليك أن تطلب معرفة الحق في هذه الفتوى بالدليل" جوابه أنهم لم يفْتُوهم (¬2) بآرائهم، وإنما بلَّغوهم ما قاله نبيهم وفعله وأمر به؛ فكان ما أفْتوهم (¬3) به هو الحكم والحجة (¬4)، وقالوا لهم: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، فكان ما يخبرونهم به هو نفس الدليل وهو الحُكم؛ فإن كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هو (¬5) الحكم وهو دليل الحكم، وكذلك القرآن، وكان الناس إذ ذاك إنما يحرصون على معرفة ما قاله نبيهم وفَعَله وأمر به، وإنما تُبلِّغهم الصحابة ذلك؛ فأين هذا من زمان إنما يحرصُ أشباهُ الناس فيه على ما قاله الآخر فالآخر، وكلَّما تأخر الرجل أخذوا كلامه وهجروا أو كادوا يهجرون كلام من فوقه، حتى تجد أتباع الأئمة أشد الناس هجرًا لكلامهم، وأهل كل عصر إنما يقضون ويفتون بقول الأدنى فالأدنى إليهم وكلما بعد العهد ازداد كلام المتقدم هجرًا ورغبة عنه، حتى إن كتبه لا تكاد تجد عندهم منها شيئًا بحسب تقدم زمانه، ولكن أين قال أصحابُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- للتابعين: لينصبْ كلٌّ منكم لنفسه رجلًا يختاره فيقلده (¬6) دينه ولا يلتفت إلى غيره، ولا يتلقى (¬7) الأحكام من الكتاب والسنة، بل من تقليد الرجال، فإذا جاءكم عن اللَّه ورسوله شيء وعَمَّن نصَّبتموه إمامًا تقلدونه فخذوا بقوله، ودعوا ما بلغكم عن اللَّه ورسوله؛ فواللَّه لو كُشف الغِطاءُ لكم وحقت الحقائق لرأيتم نفوسكم وطريقكم مع الصحابة كما قال الأول: نزلوا بمكَة في قبائل هاشم ... ونزلْت بالبيداء أبْعدَ منزلِ وكما قال الثاني (¬8): سارت مُشرِّقةً وسرتُ مُغَرِّبًا ... شتانَ بين مُشرِّقٍ ومُغرِّبِ ¬
[ليس التقليد من لوازم الشرع]
وكما قال الثالث: أيها المنكِحُ الثريّا سهيلًا ... عَمْرَكَ اللَّه كيف يلتقيانِ هي شاميَّةٌ إذا ما استقلّت ... وسهيل إذا استقل يماني (¬1) [ليس التقليد من لوازم الشرع] الوجه الثالث (¬2) والسبعون: قولكم: "إن التقليد من لوازم الشَّرع والقَدَر، والمنكرون له مضطرون إليه ولا بد كما تقدم بيانه من الأحكام" جوابه أنَّ التقليد المنكر المذموم ليس من لوازم الشرع، وإن كان من لوازم القَدَر، بل بطلانه وفساده من لوازم الشرع، كما عرف بهذه الوجوه التي ذكرناها وأضعافها، وإنما الذي من لوازم الشرع المتابعة، وهذه المسائل التي ذكرتم أنها من لوازم الشرع ليست تقليدًا، وإنما هي متابعة وامتثال للأمر، فإن أبيتم إلا تسميتها تقليدًا فالتقليد بهذا الاعتبار حَقٌّ، وهو من الشرع، ولا يلزم من ذلك أن يكون التقليد الذي وقع النزاع فيه من الشرع، ولا من لوازمه، وإنما بطلانه من لوازمه. يوضحه الوجه الرابع (¬3) والسبعون: أن ما كان من لوازم الشرع فبطلان ضده من لوازم الشرع؛ فلو كان التقليد الذي وقع فيه النزاع من لوازم الشرع لكان بطلان الاستدلال واتباع الحجة في موضع التقليد من لوازم الشرع؛ فإن ثبوت أحد النقيضين يقتضي انتفاء الآخر، وصحة أحد الضدين يوجب بطلان الآخر، ونحرِّره دليلًا فنقول: لو كان التقليد من الدين لم يَجُز العدول عنه إلى الاجتهاد والاستدلال؛ لأنه يتضمن بطلانه. فإن قيل: كلاهما من الدِّين: وأحدهما (¬4) أكمل من الآخر: فيجوزُ العدول عن المفضول إلى الفاضل. قيل: إذا كان قد انسدَّ بابُ الاجتهاد عندكم وقطعتم طريقه وصار الفَرْض هو التقليد فالعدول عنه إلى ما قد سُدَّ بابه وقُطعت طريقه يكون عندكم معصية ¬
[الرواية غير التقليد]
وفاعله آثمًا، وفي هذا من قطع طريق العلم وإبطال حجج اللَّه وبيّناته وخلو الأرض من قائم للَّه بحججه (¬1) ما يبطل هذا القول ويدحضه، وقد ضَمِن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق لا يضرهم من خَذَلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة (¬2)، وهؤلاء هم أولو العلم والمعرفة بما بعث اللَّه به رسوله؛ فإنهم على بصيرة وبينة، بخلاف الأعمى الذي قد شهد على نفسه بأنه ليس من أولي العلم والبصائر. والمقصود أن الذي هو من لوازم الشرع المتابعةُ (¬3) والاقتداءُ، وتقديم النصوص على آراء الرجال، وتحكيم الكتاب والسنة في كل ما تَنَازع فيه العلماء، وأما الزهد في النصوص والاستغناء عنها بآراء الرجال وتقديمها عليها والإنكار على مَنْ جعل كتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة نُصْب عينيه وعرض أقوال العلماء عليها ولم يتخذ من دون اللَّه ولا رسوله وليجةً (¬4) فبطلانه من لوازم الشرع، ولا يتم الدين إلا بإنكارِه وإبطالِه، فهذا لونٌ والاتباع لونٌ، واللَّه الموفق. [الرواية غير التقليد] الوجه الخامس (¬5) والسبعون: قولكم: "كل حجة أثرية احتججتم بها على بطلان التقليد فأنتم مقلِّدون لحملتِها ورُواتها، وليس بيدِ العالمِ إلا تقليد الراوي، ولا بيد الحاكم إلا تقليد الشاهد، ولا بيد العامي إلا تقليد العالم، إلى آخره". جوابه ما تقدم مرارًا من أن هذا الذي سمَّيتموه تقليدًا هو اتباع أمر اللَّه ورسوله ولو كان هذا تقليدًا لكان كل عالم على وجه الأرض بعد الصحابة مقلدًا، بل كان الصحابة الذين أخذوا عن نظرائهم مقلدين، ومثلُ هذا الاستدلال لا يصْدرُ إلا عن مُشاغبٍ (¬6) أو ملبِّس يقصد لبس الحق بالباطل، والمقلِّد لجهله أخذ نوعًا صحيحًا من أنواع التقليد واستدلَّ به على النوع الباطل منه لوجود القدْر المشترك، وغفل عن القَدر الفارق، وهذا هو القياس الباطل المتفق على ذَمِّه، وهو أخو هذا التقليد الباطل، كلاهما في البُطلان سواء. وإذا (¬7) جَعَل اللَّه سبحانه خَبرَ الصَّادق حجةً وشهادةَ العدل حجة لم يكن ¬
[الجواب على ادعاء أن التقليد أسلم من طلب الحجة]
متبع الحجة مقلدًا، وإذا (¬1) قيل إنه مقلد للحجة؛ فحيهلًا (¬2) بهذا التقليد وأهله، وهل نُدندن إلا حوله؟ واللَّه المستعان. [الجواب على ادعاء أن التقليد أسلم من طلب الحجة] الوجه السادس (¬3) والسبعون: قولكم: "أنتم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قَلَّده مخطئًا في فتواه، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق، ولا رَيبَ أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه، كمن أراد شراءَ سلعةً لا خِبْرة له بها فإنه إذا قلَّد عالمًا بتلك السلعة خبيرًا بها أمينًا ناصحًا كان صوابه وحصول غَرَضِه أقرب من اجتهاده لنفسه". جوابه من وجوه: أحدها: أنا مَنَعنا التقليدَ طاعةً للَّه ورسوله، واللَّهُ ورسوله منع منه، وذمَّ أهله في كتابه، وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله وردّ ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله، وأخبر أن الحُكمَ له وحده، ونهى أن يُتخذ من دونه ودون رسوله وليجةً، وأمر أن يُعتصم بكتابه، ونَهى أن يُتخذ من دونه أولياء وأربابًا يُحل من اتخذهم ما أحلَّوه ويحرم ما حَرَّموه، وجعل من لا علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام، وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره مُخبرين به، وأقسم بنفسه سبحانه أنَّا لا نؤمن حتى نُحكِّم الرسول خاصة فيما شجر بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجًا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول مَنْ قلدوه، وأن نسلِّم لحكمه تسليمًا (¬4)، كما يسلم المقلدون لأقوال من قلدوه، بل تسليمًا أعظم من تسليمهم وأكمل واللَّه المستعان، وذمَّ من حاكم إلى غير الرسول، وهذا كما أنه ثابت في حياته فهو ثابت بعد مماته، فلو كان حيًا بين أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنَّا من أهل الذم والوعيد؛ فسنَّته وما جاء به من الهدى ودين الحق، لم يمت، وإن فُقد من بين الأمة شخصُه الكريم فلم يفقد من بيننا (¬5) سنته ودعوته وهدْيه، والعلم والإيمان بحمد اللَّه مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، وقد ضَمِن اللَّه سبحانه حفظ الذكر ¬
[مثل مما خفي على كبار الصحابة]
الذي أنزله على رسوله؛ فلا يزال محفوظًا بحفظ اللَّه محميًا بحمايته لتقوم حجة اللَّه على عباده قرنًا بعد قَرْن؛ إذ كان نبيُّهم آخر الأنبياء ولا نبيَ بعده؛ فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مُغنيًا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل، والذي أوجبه اللَّه سبحانه وفَرَضه على الصحابة من تلقِّي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجبٌ على مَنْ بعدهم، وهو مُحكم لم يُنسخ ولا يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ اللَّه العَالَم أو يطوي الدنيا، وقد ذم اللَّه تعالى من إذا دُعي إلى ما أنزل اللَّه وإلى رسوله صدَّ وأعرض، وحذَّره أن تُصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه، وحَذَّر من خالف عن أمره واتبع غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم؛ فالفتنة في قلبه، والعذاب الأليم في بدنه وروحه (¬1)، وهما (¬2) متلازمان؛ فمن فُتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد، وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرًا على لسان رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ما قضاه، فلا خيرة بعد قضائه لمؤمن (¬3) ألبتَّة، ونحن نسأل المقلدين: هل يمكن أن يَخفى قضاء اللَّه ورسوله على من قلَّدتموه دينكم في كثير من المواضع أم لا؟ فإن قالوا: "لا يمكن أن يخفى عليه ذلك" أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم. [مثل مما خفي على كبار الصحابة] فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى اللَّه ورسوله به. [مسائل خفيت على أبي بكر] فهذا الصِّديق [رضي اللَّه عنه] (¬4) أعلم الأمة به خَفي عليه ميراث الجَدَّة حتى أعلمه به محمد بن مَسْلمة والمُغيرة بن شعبة (¬5)، وخفي عليه أن الشَّهيد لا دِية له ¬
حتى أعلمه به عمر فرجع إلى قوله (¬1). ¬
[مسائل خفيت على عمر]
[مسائل خفيت على عمر] وخفي على عمر تيمُّم الجنب فقال: لو بقي شهرًا لم يصلِّ حتى يغتسل (¬1)، وخفي عليه دية الأصابع فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن في كتاب آل عمرو بن حَزْم أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى فيها بعشر (¬2)؛ فترك قوله ورجع إليه (¬3)، وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد ¬
الخدري (¬1)، وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضَّحاك بن سُفيان الكلابي -وهو أعرابي من أهل البادية- أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أَمَره أن يُورِّث امرأة أَشْيَم الضِّبابي من دية زوجها (¬2)، وخفي عليه حكم إمْلَاص (¬3) المرأة حتى سأَل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة (¬4)، وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخذها من مجوس هَجَر (¬5)، وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردُّهن حتى يطهرن ثم يطفن ¬
حتى بلغه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف ذلك فرَجعَ إلى قوله (¬1)، وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة في التسوية فرجع إليها (¬2)، وخفي عليه شأن متعة الحج وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بها فترك قوله وأمر بها (¬3)، وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره ¬
[به] (¬1) طلحة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كَنَّاه أبا محمد فأمسك ولم يتماد (¬2) على النهي (¬3)، هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة، ولكن لم يمرّ بباله -رضي اللَّه عنه- أمر هو بَيْنَ يديه حتى نهى عنه، وكما خفي عليه قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144] حتى قال: واللَّه كأني ما سمعتُها قط قبل وقتي هذا (¬4). ¬
وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهور (¬1) أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وبناته حتى ذكَّرته تلك المرأة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال: كلُّ أحد أفقه من عمر حتى النِّساء (¬2). وكما خفي عليه أمر الجد والكلالة و [بعض] (¬3) أبواب [من] (¬4) الربا فتمنَّى أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان عهد إليهم فيها عهدًا (¬5)، وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وَعْد اللَّه لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذلك العام حتى بينه له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحَّت السنة بذلك (¬7)، وكما خفي عليه أمر القدوم على محل ¬
الطاعون والفرار منه حتى أُخبر بأنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها، وإذا (¬1) وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارًا منه" (¬2) هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق، وهو كما قال ابن مسعود: "لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر" (3) قال الأعمش: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال: واللَّه إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم (¬3). ¬
[مسائل خفيت على عثمان وأبي موسى وابن عباس وابن مسعود]
[مسائل خفيت على عثمان وأبي موسى وابن عباس وابن مسعود] وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكَّره ابنُ عباس بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] مع قوله: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] فرجع إلى ذلك (¬1)، وخفي على أبي موسى الأشعري ميراثُ بنت الابن مع البنت السدسُ حتى ذُكر له أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورَّثها ذلك (¬2)، وخفي على ابن عباس (¬3) تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذُكر له أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حرّمها يوم خيبر (¬4)، وخفي على ابن مسعود حكم المُفوِّضة وترددوا ¬
[ما خفي على غير الصحابة أكثر مما يخفى على الصحابة]
إليه شهرًا فأفتاهم برأيه ثم بَلَغه النص بمثل ما أفتى به (¬1). [ما خفي على غير الصحابة أكثر مما يخفى على الصحابة] وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سِفرًا كبيرًا، فنسأل حينئذ فرقة التقليد: هل يجوز أن يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما خفي ذلك على سادات الأمة أولًا؟ فإن قالوا: "لا يخفى عليه" وقد خفي على الصحابة مع قرب عهدهم؛ بلغوا في الغلو مبلغ مُدّعِي العصمة في الأئمة، وإن قالوا: "بل يجوز أن يخفى عليهم" وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة، [قلنا] (¬2): فنحن نناشدكم اللَّه الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه، وإذا قضى اللَّه ورسوله أمرًا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه اللَّه ورسوله عينًا لا يجوز سواه؟ فأعدوا لهذا السؤال جوابًا، وللجواب صوابًا؛ فإن السؤال واقع؛ والجواب لازم. والمقصود أن هذا هو الذي مَنَعنا من التقليد، فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد؟ [بطلان دعوى المقلدة] الوجه الثاني: أن قولكم: "صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده" دعوى باطلة؛ فإنه إذا قلد من قد خالَفه غيرُه ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدر على صوابٍ هو من تقليدِه أم على خطأ، بل هو -كما ¬
قال الشافعي (¬1) - حاطب ليل إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه، وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر (¬2)، فهو مصيبٌ للأجر ولا بد، بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يُؤجر، وإن أخطأ لم يَسلمْ من الإثم، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده؟. الوجه الثالث: أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره، وحينئذ فلا يكون مقفدًا له، بل متبعًا للحجة، وأما إذا لم يعرف ذلك ألبتَّة فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذلِ جهده ومستفرغ وُسعه في طلب الحق؟ الوجه الرابع: أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء مَنْ امتثل أمر اللَّه فردّ ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب. الوجه الخامس: أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم؛ فإن من أراد شراءَ سلعةٍ أو سلوكِ طريقٍ حين اختلف عليه اثنان أو أكثر، وكلٌّ منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر، فإنه لا يقدم على تقليد واحدٍ منهم، بل يبقى مترددًا طالبًا للصواب من أقوالهم؛ فلو أقْدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عُدَّ مخاطرًا مذمومًا ولم يُمدح إن أصاب، وقد جعل اللَّه في فِطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقَف أحدُهم ويطلب ترجيح قول المُخْتَلفين عليه من خارج حتى يستبينَ (¬3) له الصواب، ولم يجعل في فِطرهم الهجْمَ على قبول قول واحد واطِّراح قول من عداه. الوجه السابع (¬4) والسبعون: أن نقول لطائفة المقلِّدين: هل تسوِّغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض؟ فإن سوَّغتم تقليد الجميع ¬
[مجيء روايتين عن أحد الأئمة كمجيء قولين لإمامين]
كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء، فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبًا لكم تُفتون وتقضون بها وقد سوَّغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر؟ فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا؟ وكيف استجزتم أن تردُّوا أقوال هذا وتقبلوا أقوال هذا وكلاهما عالم يسوغ اتباعه؟ فإن كانت أقوالُه من الدين فكيف سَاغَ لكم دفع الدين؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده؟ وهذا لا جواب لكم عنه. [مجيء روايتين عن أحد الأئمة كمجيء قولين لإمامين] يوضحه الوجه الثامن (¬1) والسبعون: أن مَنْ قلَّدتموه إذا رُوي عنه قولان أو (¬2) روايتان سوَّغتم العمل بهما، وقلتم: مجتهدٌ له قولان فيسوغ لنا الأخذ بهذا وهذا، وكان القولان جميعًا مذهبًا لكم، فهلَّا جعلتم قول (¬3) نظيره من المجتهدين بمنزلة قوله الآخر وجعلتم القولين جميعًا مذهبًا لكم، وربما كان قول نظيره ومن هو أعلمُ منه أرْجح من قوله الآخر وأقرب إلى الكتاب والسنة؟! يوضحه الوجه التاسع (¬4) والسبعون: أنكم معاشر المقلدين إذا قال بعض أصحابكم ممن قلدتموه قولًا خلافَ قولِ المتبوع أو خرَّجه على قوله جعلتموه وجهًا وقضيتم وأفتيتم به وألزمتم بمقتضاه، فإذا قال الإمام الذي هو نظير متبوعكم أو فوقه قولًا يخالفه لم تلتفتوا إليه ولم تعدُّوه شيئًا ومعلوم أن واحدًا من الأئمة الذين هم نظير متبوعكم أجلُّ من جميع أصحابه من أوَّلهم إلى آخرهم، فقدِّروا أسوأ التقادير أن يكون قوله بمنزلة وجه في مذهبكم. فياللَّه العجب! صار من أفتى أو حَكَم بقول واحد من مشايخ المذهب أحق بالقبول ممن أفتى بقول الخلفاء الراشدين وابن مسعود وابن عباس وأبيّ بن كعب وأبي الدرداء ومعاذ بن جبل (¬5)، وهذا من بركة التقليد عليكم. وتمام ذلك الوجه الثمانون (¬6): أنكم إن رُمتم التخلص من هذه الخطة، وقلتم: بل يسوغ تقليد بعضهم دون بعض، وقالت (¬7) كلُّ فرقة منكم: يسوغ أو ¬
[إيجاب المقلدين تقليد أئمتهم وتحريم تقليد غيرهم]
يجب تقليد من قلّدناه دون غيره من الأئمة الذين هم مثله أو أعلم منه، كان أقل ما في ذلك معارضة قولكم بقول الفرقة الأخرى في ضرب هذه الأقوال بعضها ببعض، ثم يقال: ما الذي جَعل متبوعَكم أولى بالتقليد من متبوع الفرقة [الأخرى]؟ (¬1) بأي كتاب أم بأية (¬2) سنة؛ وهل تقطعت (¬3) الأمة أمرها بينها زُبُرًا وصار {كُلُّ [حِزْبٍ] (¬4) بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] إلا بهذا السبب؟ فكل طائفة تدعو إلى متبوعها وتنْأى عن غيره وتنهى عنه، وذلك مُفْضٍ إلى التفريق بين الأمة، وجعل دين اللَّه تابعًا للتشهي والأغراض وعُرضة للاضطراب والاختلاف، وهذا كله يدل على أن التقليد ليس من عند اللَّه للاختلاف الكثير الذي فيه، ويكفي في فساد هذا المذهب تناقض أصحابه ومعارضة أقوالهم بعضها ببعض، ولو لم يكن فيه من الشناعة إلا إيجابهم تقليد صاحبهم وتحريمهم تقليد الواحد من أكابر الصحابة كما صرَّحوا به في كتبهم. [إيجاب المقلدين تقليد أئمتهم وتحريم تقليد غيرهم] الوجه الحادي والثمانون (¬5): أن المقلِّدين حَكَموا على اللَّه قدرًا وشرعًا بالحكم الباطل جهارًا المخالف لما أخبر به رسوله فأخلوا الأرض من القائمين للَّه بحجة (¬6)، وقالوا: لم يبقَ في الأرض عالمٌ منذ الأعصار المتقدمة؛ فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة وأبي يوسف وزُفَر بن الهُذيل ومحمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي وهذا قول كثير من الحنفية، وقال بكر بن العلاء القُشيري المالكي (¬7): ليس لأحد أن يختار بعد المئتين من الهجرة، وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي وسفيان الثوري ووكيع بن الجرَّاح وعبد اللَّه بن المبارك، وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي، واختلف المُقلِّدون من أتباعه فيمن يؤخذ بقوله من المنتسبين إليه ويكون له وجه يُفتي ويحكم به ومَنْ (¬8) ليس كذلك، وجعلوهم ثلاث مراتب: طائفةٌ أصحابُ وجوه كابن سُريج (¬9) والقَفَّال ¬
وأبي حامد [الاسفرائيني] (¬1)، وطائفة أصحابُ احتمالاتٍ لا أصحاب وجوه كأبي المعالي، وطائفة ليسوا أصحاب وجوه ولا احتمالات كأبي حامد [الغزالي] (1) وغيره، واختلفوا متى انسد باب الاجتهاد (¬2) على أقوال كثيرة ما أنزل اللَّه بها من سلطان، وعند هؤلاء أن الأرض قد خلت من قائم للَّه بحجة، ولم يبق فيها من يتكلَّم بالعلم، ولم يحل لأحد بعد أن ينظر في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله لأخذ الأحكام منهما، ولا يقضي ويُفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلِّده ومتبوعه، فإن وَافَقَه حَكَم به وأفتى به، وإلا رده ولم يقبله. وهذه أقوال كما ترى- قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض (¬3)، والقول على اللَّه بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسنة رسوله، وتلقي الأحكام منهما، مبلغها، ويأبى اللَّه إلا أن يتم نوره ويُصدِّق قولَ رسوله: "إنه لن تخلو (¬4) الأرض من قائم للَّه بحجة" (¬5)، ولن تزال طائفة من أمته على محض الحق الذي بعثه به (¬6)، وأنه لا يزال يُبعث على رأس كل مئة سنة لهذه الأمة من يجدد لها دينها (¬7)، ويكفي في فساد هذه الأقوال ¬
أن يقال لأربابها: فإذا لم يكن لأحد أن يختار بعد مَنْ ذكرتم فمن أين وقع لكم اختيار تقليدهم دون غيرهم؟ وكيف حرَّمتم على الرجل أن يختار ما يؤديه إليه اجتهاده من القول الموافق لكتاب اللَّه وسنة رسوله، وأبحتم لأنفسكم اختيار قول من قلَّدتموه، وأوجبتم على الأمة تقليده، وحرمتم تقليد من سواه، [ورجحتموه على تقليد من سواه] (¬1)؟ فما الذي سوَّغَ لكم هذا الاختيار الذي لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا قول صاحب، وحرم اختيار ما [دل] (¬2) عليه الدليل من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة؟ ويقال لكم: فإذا كان لا يجوز الاختيار بعد المئتين عندك ولا عند غيرك فمن أين ساغ لك وأنت لم تولد إلا بعد المئتين بنحو ستين سنة أن تختار قول مالك دون من هو أفضل منه من الصحابة والتابعين أو مَنْ هو مثله من فقهاء الأمصار أو ممن جاء بعده؟ وموجب هذا القول أن أشهب وابن الماجشون ومُطرِّف بن عبد اللَّه وأصبغ بن الفَرَج وسحنون بن سعيد وأحمد بن المعذَّل (¬3) ومن في طبقتهم من الفقهاء كان لهم أن يختاروا إلى انسلاخ ذي الحجة من سنة مئتين، فلما استهل هلال المحرم من سنة إحدى ومئتين وغابت الشمس من تلك الليلة حرم عليهم في الوقت بلا مهلة ما كان مطلقًا لهم من الاختيار؟ ويقال للآخرين: أليس من المصائب وعجائب الدنيا تجويزكم الاختيار والاجتهاد والقول في دين اللَّه بالرأي والقياس لمن ذكرتم من أئمتكم، ثم لا تجيزون الاختيار والاجتهاد لحفَّاظ الإسلام وأعلم الأمة بكتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة وفتاواهم كأحمد بن حنبل والشافعي وإسحاق بن راهويه ومحمد بن إسماعيل البخاري وداود بن علي ونظرائهم على سعة علمهم بالسنن ووقوفهم على الصحيح منها والسقيم وتحرِّيهم (¬4) في معرفة أقوال الصحابة والتابعين ودقة نظرهم ولطف استخراجهم للدلائل ومن قال منهم بالقياس فقياسه ¬
[فضل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين]
من أقرب القياس إلى الصواب، وأبعده عن الفساد، وأقربه إلى النصوص، مع شدة ورعهم وما منحهم اللَّه من محبة المؤمنين لهم وتعظيمِ المسلمين علمائِهم وعامَّتِهم لهم، فإن احتجَّ كل فريق منهم بترجيح متبوعه بوجه من وجوه التراجيح من (¬1) تقدم زمان أو زهد أو ورع أو لقاء شيوخ وأئمة لم يلقهم مَنْ بعده أو كثرة أتباع لم يكونوا لغيره أَمكنَ الفريق الآخر أن يُبدوا لمتبوعهم من الترجيح بذلك أو غيره ما هو مثل هذا أو فوقه، وأمكن غير هؤلاء كلهم أن يقولوا لهم جميعًا: نفوذ قولكم هذا إن لم تأنفوا من التناقض يوجب عليكم أن تتركوا قول متبوعكم لقول من هو أقدم منه من الصحابة والتابعين وأعلم وأورع وأزهد وأكثر أتباعًا وأجل، فأين أتباع ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل بل أتباع عمر وعلي من أتباع الأئمة المتأخرين في الكثرة والجلالة؟ [فضل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين] وهذا أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- قال البخاري (¬2): "حَملَ العلم عنه ثمان مئة رجل ما بين صاحب وتابع"، وهذا زيد بن ثابت من جملة أصحابه عبد اللَّه بن عباس، وأين في أتباع الأئمة مثل عطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وعُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عُتبة وجابر بن زيد؟ وأين في أتباعهم مثل السَّعيدين والشعبى ومسروق وعلقمة والأسود وشُريح؟ وأين في أتباعهم مثل نافع وسالم والقاسم وعروة وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار وأبي بكر بن عبد الرحمن؟ فما الذي جَعلَ الأئمةَ بأتباعِهم أَسعدَ من هؤلاء بأتباعهم؟ ولكن أولئك وأتباعهم على قدر عصرهم فعظمُهم وجلالتُهم وكبرُهم منع المتأخرين من الاقتداء بهم، وقالوا بلسان قالهم وحالهم: هؤلاء كبارٌ علينا لسنا من زبونهم، كما صَرَّحوا وشهدوا على أنفسهم بأن (¬3) أقدارهم تتقاصر عن تلقي العلم من القرآن والسنة، وقالوا: لسنا أهلًا لذلك، لا لقصور الكتاب والسنة، ولكن لعجزنا نحن وقصورنا، فاكتفينا بمن هو أعلم بهما مِنَّا، فيقال لهم: فَلِمَ تنكرون على من اقتدى بهما وحَكَّمهما وتحاكم إليهما وعَرضَ أقوال العلماء عليهما فما وافقهما قبِله وما خالفهما رَدَّه؟ فهب أنكم لم تصلوا إلى هذا العنقود فلم تنكرون على من وصل إليه وذاق حَلاوتَه؟ وكيف ¬
تحجّزتم الواسع من فضل اللَّه الذي ليس على قياسه عقول العالمين ولا اقتراحاتهم، وهم كان كانوا في عصركم ونشأوا معكم وبينكم وبينهم نسب قريب فالئه يَمنُّ على من يشاء من عباده، وقد أنكر اللَّه سبحانه على من رد النبوة بأن اللَّه صَرَفها عن عُظماء القرى ورؤسائها (¬1) وأعطاها لمن ليس كذلك بقوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل أمتي كالمطر، لا يُدرى أوَّله خيرٌ أم آخره" (¬2) وقد أخبر اللَّه سبحانه عن السابقين بأنهم: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 13، 14]، وأخبر سبحانه أنه: {بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} ثم قال: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ثم أخبر أَنَّ {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 2 - 4]. ¬
فصل
وقد أطلنا الكلام في القياس والتقليد، وذكرنا من مآخذهما وحجج أصحابهما وما لَهُم وعليهم من المنقول والمعقول ما لا يجده الناظر في كتاب من كتب القوم من أولها إلى آخرها، ولا يظفر به في غير هذا الكتاب أبدًا، وذلك بحول اللَّه وقوته ومعونته وفتحه؛ فله الحمد والمنة، وما كان فيه من صواب فمن اللَّه، هو (¬1) المانُّ به، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان، وليس اللَّه ورسوله ودينه في شيء منه، وباللَّه التوفيق. فصل في تحريم الإفتاء والحكم في دين اللَّه بما يخالف النصوص، وسقوط الاجتهاد والتقليد عند ظهور النص، وذكر إجماع العلماء على ذلك. [الدلائل على أن النص لا اجتهاد معه] قال اللَّه تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات: 1]، وقال تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [الأنعام: 153]، وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57]، وقال تعالى: {لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] فأكد هذا التأكيد وكرَّر هذا التكرار (¬2) في موضع واحد لعظم مفسدة الحكم بغير ما أنزله، وعموم مضرَّته، وبلية الأمة به، وقال تعالى: ¬
[الدليل من السنة على تحريم الإفتاء بغير النص]
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، وأنكر تعالى على مَنْ حاج في دينه بما ليس له به علم فقال: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [آل عمران: 66] ونَهى أن يقولَ أحدٌ هذا حلال، وهذا حرام لما لم يحرمه اللَّه ورسوله نصًا، وأخبر أن فاعل ذلك مُفْترٍ عليه الكذبَ (¬1)، فقال: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116] والآيات في هذا المعنى كثيرة. [الدليل من السنة على تحريم الإفتاء بغير النص] وأما السنة ففي: "الصحيحين" من حديث ابن عَبَّاس أن هلال بن أمية قذف امرأته بشَريك بن سخماء عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر حديث اللعان وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أبصِروها (¬2)؛ فإن جاءت به أكْحل العينين سابغ الألْيتين خَدَلَّج الساقين (¬3) فهو لشَريك بن سَحماء، كان جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية" (¬4) فجاءت به على النعت المكروه فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه لكان لي ولها شأن" (¬5) يريد- واللَّه ورسوله أعلم- بكتاب اللَّه قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] ويريد بالشان واللَّه أعلم أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رُميت به، ولكن كتاب اللَّه فصل الحكومة، وأسقط كل قول وراءه، ولم يبق للاجتهاد بعده موقع. ¬
[من أقوال العلماء في ذلك المعنى]
[من أقوال العلماء في ذلك المعنى] وقال الشافعي: أخبرنا سُفيان بن عُيينة، عن عُبيد اللَّه (¬1) بن أبي يزيد، عن أبيه قال: أرسل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، إلى شيخ من زهرة كان يسكن دارنا، فذهبتُ معه إلى عمر، فسأله عن وِلادٍ من ولادِ الجاهلية، فقال: أما الفراش فلفلان، وأما النطفة فلفلان؛ فقال عمر: صدقت، ولكن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قضى بالفراش (¬2). قال الشافعي: وأخبرني من لا أتهم عن ابن أبي ذئب قال: أخبرني مَخْلَد بن خُفاف قال: ابتعت غلامًا، فاستغللته، ثم ظهرتُ منه على عيبٍ، فخاصمتُ فيه إلى عمر بن عبد العزيز، فقضى لي [بردّه، وقضى عليَّ] (¬3) برد غَلَّته، فأتيت عُروة فأخبرته، فقال: أرُوحُ إليه العشيةَ فأخبره أن عائشة -رضي اللَّه عنهما- أخبرتني أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قضى في مثل هذا أن الخَراجَ بالضمان، فعجلتُ إلى عمر فأخبرته بما أخبرني به عروة عن عائشة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال عمر: فما أيسرَ [هذا] (¬4) عليَّ من [رد] (¬5) قضاءٍ قضيتُه، اللهم إنك تعلم أني لم أُرِدْ فيه إلا الحقَّ؛ فبَلَغَتْني فيه سنَةٌ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأرد قضاء عمر وأنفذ سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فراح إليه عروة؛ فقضى لي أن آخذ الخراج من الذي قضى به عليَّ له (¬6). قال الشافعي: وأخبرني مَنْ لا أتهم من أهل المدينة، عن ابن أبي ذئب ¬
قال: قَضَى سعد بن إبراهيم على رجل بقضية، برأي ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن، فأخبرتُه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلاف ما قضى به، فقال سعد (¬1) لربيعة: هذا ابن أبي ذئب، وهو عندي ثقة يُخبرني عن النبي (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- بخلاف ما قضيتُ به، فقال له ربيعة: قد اجتهدتَ ومضى حُكُمك، فقال سعد؛ واعجبًا! أُنفذُ قضاءَ سعد بن أمِّ سعد وأردُّ قضاءَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل (¬3) أردُّ قضاءَ سعد بن أم سعد وأُنفذ قضاءَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فدعا سعدٌ بكتابِ القضيةِ فشقَّه وقضى للمقضيِّ عليه (¬4). فليوحشنا المقلدون، ثم أوحشَ اللَّه منهم. وقال أبو النضر (¬5) هاشم بن القاسم: حدثنا محمد بن راشد، عن عَبْدة بن أبي لُبابة، عن هشام بن يحيى المخزومي أن رجلًا من ثقيف أتى عمر بن الخطاب فسأله عن امرأة حاضت وقد كانت زارت البيت يوم النحر، ألها أن تنفر [قبل أن تطهر] (¬6)؟ فقال عمر: لا، فقال له الثقفيُّ: إن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أفتاني في مثل هذه المرأة بغير ما أفتيتَ به، فقام إليه عمر يضربُه بالدِّرة ويقول له: لم تستفتيني في شيء قد أفتى فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)؟ ورواه أبو داود بنحوه. وقال أبو بكر بن أبي شيبة (¬8): ثنا صالح بن عبد اللَّه: ثنا سُفيان بن عامر، ¬
عن عتَّاب بن منصور قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا رأيَ لأحد مع سنة سَنَّها رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وقال الشافعي: "أجمع الناس على أن مَنْ استبانت له سنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن له أن يَدعَها لقول أحد [من الناس] " (¬1). وتواتر عنه أنه قال: "إذا صَحَّ الحديث فاضربوا بقولي الحائط" (¬2)، وصح عنه أنه قال: "إذا رويتُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا ولم آخذ به فاعلموا أن عقلي قد ذهب" (¬3)، وصح عنه أنه قال: "لا قولَ لأحدٍ مع سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬4). وقال إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعد بن إياس، عن ابن مسعود أَنَّ رجلًا سأله عن رجل تزوج امرأة فرأى أمها فأعجبته، فطلَّق امرأته ليتزوج أمها، فقال: لا بأس، فتزوجها الرجل، وكان عبد اللَّه على بيت المال؛ فكان يبيع نُفاية بيت المال يعطي الكثير ويأخذ القليل، حتى قَدمَ المدينةَ فسأل أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقالوا: لا تحلُّ لهذا الرجل هذه المرأة، ولا تصلح الفضة إلا وزنًا بوزن، فلما قدم عبد اللَّه انطلق إلى الرجل فلم يجده، ووجد قومه فقال: إن الذي أفتيتُ به صاحبَكم لا يحل، وأتى الصيارفة فقال: يا معشر الصيارفة إن الذي كنتُ أبايعكم لا يحل، لا تحل الفضة إلا وزنًا بوزن (¬5). ¬
وفي "صحيح مسلم" من حديث اللَّيث، عن يحيى بن سعيد، عن سُليمان بن يسار أَن أبا هريرة وابن عبَّاس وأبا سلمة [بن عبد الرحمن] (¬1) تذاكروا في المتوفى عنها الحامل تضعُ عند وفاة زوجها، فقال ابن عباس: تعتد آخر الأجلين، فقال أبو سلمة: تحل حين تضع، فقال أبو هريرة: وأنا مع ابن أخي، فأرسلوا إلى أم سلمة فقالت: قد وضعت سبيعةُ بعد وفاة زوجها بيسير، فأمرها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تتزوج (¬2). وقد تقدَّم من ذكر رجوع عمر -رضي اللَّه عنه-، وأبي موسى وابن عباس (¬3) عن اجتهادهم إلى السنة ما فيه كفاية. وقال شدَّاد بن حكيم، عن زُفر بن الهُذيل: إنما نأخذ بالرأي ما لم يجئ الأثر (¬4)، فإذا جاء الأثر تركنا الرأي، وأخذنا بالأثر (¬5). وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة: لا قولَ لأحدٍ مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا صح الخبر عنه (¬6)، وقد كان إمام الأئمة ابنُ خزيمة رحمه اللَّه تعالى له أصحاب ينتحلون مذهبه، ولم يكن مقلدًا، بل إمامًا مستقلًا كما ذكر البيهقي في "مدخله" (¬7) عن يحيى بن محمد العنبري، قال: طبقات أصحاب الحديث خمسةٌ: المالكية، والشافعية، والحنبلية، والراهوية (¬8)، والخزيمية أصحابُ ابن خزيمة. وقال الشافعي: إذا حدَّث الثقة عن الثقة إلى أن ينتهي إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
فهو ثابت، ولا يترك لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديث أبدًا، إلا حديث وُجِد عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر يخالفه (¬1). وقال في كتاب: "اختلافه مع مالك": ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذُر على من سمعهما مقطوعٌ إلا بإتيانهما (¬2). [وقال] (¬3) الشافعي: قال لي قائل: دُلَني على أن عمر عمل شيئًا ثم صار إلى غيره لخبر (¬4) نبوي، قلت له: حدثنا سُفيان، عن الزُّهريِّ، عن ابن المسيب أن عمر كان يقول: الدية للعاقلة، ولا تَرثُ المرأة من دية زوجها، حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كتب إليه أن يُورِّث امرأة الضِّبابي من ديته فرجع إليه عمر (¬5)، وأخبرنا ابن عُيينة، عن عمرو وابن طاوس (¬6) [عن طاوس] أن عمر قال: أذكِّرُ اللَّه امرأً سمع من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنين شيئًا، فقام حَمَل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي، فضربت إحداهُما الأخرى بمسطح (¬7)، فألقت جنينًا ميِّتًا، فقضى فيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بغُرَّة (¬8)، فقال عمر: لو لم نسمع فيه هذا لقضينا فيه بغير هذا، أو قال: إن كِدنا لنقضي فيه برأينا (¬9). فترك اجتهاده -صلى اللَّه عليه وسلم- للنّص. ¬
[يصار إلى الاجتهاد وإلى القياس عند الضرورة]
[يصار إلى الاجتهاد وإلى القياس عند الضرورة] وهذا هو الواجب على كل مسلم؛ إذ اجتهادُ الرأي إنما يُباح للمضطر كما تباح [له] (¬1) الميتة والدم عند الضرورة، {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 173]. وكذلك القياس إنما يُصار إليه عند الضرورة، قال الإمام أحمد رحمه اللَّه: سألت الشافعي عن القياس، فقال: عند الضرورة، ذكره البيهقي في: "مدخله" (¬2). ¬
وكان زيد بن ثابت لا يرى للحائض أن تنفَر حتى تطوف طواف الوداع، وتَناظَر في ذلك هو وعبد اللَّه بن عباس، فقال له ابن عباس: إمّالًا (¬1) فسَلْ فلانةً الأنصارية، هل أمرها بذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرجع زيد يضحك ويقول: ما أراك إلا قد صدقتَ ذكره البخاري في "صحيحه" بنحوه (¬2). وقال ابن عمر: كنا نُخابِر (¬3) ولا نرى بذلك بأسًا، حتى زعم رافعٌ أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك (¬4). وقال عمرو بن دينار، عن سالم بن عبد اللَّه: إنَّ عمر بن الخطاب نهى عن الطِّيب قبل زيارة البيت وبعد الجمرة، فقالت عائشة: طَيَّبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيدي لإحرامه قبل أن يحرم، ولحِلِّه قبل أن يطوف بالبيت، وسنَّةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحق (¬5). ¬
[نقول عن الشافعي في المسألة]
قال الشافعي: فترك سالم قول جَدِّه لروايتها، قلتُ: لا كما تصنع فرقة التقليد. وقال الأصم: أخبرنا الرَّبيعُ بن سُليمان: [سمعتُ الشافعي يقول] لنعطينَّك جملة تغنيك إن شاء اللَّه: لا تدع لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا أبدًا إلا أن يأتي عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلافه فتعمل بما قلتُ لك في الأحاديث إذا اختلفت (¬1). [نقول عن الشافعي في المسألة] قال الأصم: وسمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقولوا بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودعوا ما قلت (¬2). وقال أبو محمد الجارودي: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: إذا وجدتم سنة [من] (¬3) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي، فإني أقول بها (¬4). وقال أحمد بن علي بن عيسى بن ماهان [الرازي] (¬5): سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول: كل مسألة تكلَّمتُ فيها صح الخبر فيها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند أهل النقل بخلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي (¬6). وقال حرملة بن يحيى: قال الشافعي: [كلُّ] ما قلت وكان (¬7) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ¬
قال بخلاف قولي مما يصح فحديث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى، ولا (¬1) تقلِّدوني (¬2). وقال الحاكم: سمعتُ الأصم يقول: سمعت الربيع يقول: سمعت الشافعي يقول، وروى حديثًا، فقال له رجل: تأخذ بهذا يا أبا عبد اللَّه؟ فقال: متى رويتُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حديثًا صحيحًا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب، وأشار بيده على رؤوسهم (¬3). وقال الحميدي: سأل رجل الشافعي عن مسألة فأفتاه، وقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ قال: رأيت في وسطي زُنَّارًا (¬4)؟! أتراني خرجتُ من الكنيسة؟! أقول قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقول لي: أتقول بهذا؟ أروي (¬5) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا أقول به (¬6)؟! وقال الحاكم: أنبأني أبو عمرو بن السماك مشافهة أن أبا سعيد الجَصَّاص حَدَّثهم قال: سمعتُ الربيع بن سليمان يقول: سمعت الشافعي يقول -وسأله رجل عن مسألة فقال: رُوي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد اللَّه أتقول بهذا؟ فارتعَد الشافعيُّ واصفرَّ وحَالَ لونه، وقال: -ويحك! أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا فلم أقل به؟ نعم على الرأس والعينين، نعم على الرأس والعينين (¬7)، وقال: وسمعتُ الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنةٌ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتعزب عنه (¬8)، فمهما قلت من قول أو أَصَّلتُ من أصل فيه عن ¬
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو قولي، [وجعل] (¬1) يردد هذا الكلام (¬2)، وقال الربيع: قال الشافعي: لم أسمع أحدًا نَسبتْهُ عامةٌ أو نسَبَ نفسه إلى علم يخالف في أن فَرضَ اللَّه اتباع أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتسليم لحكمه فإن اللَّه لم يجعل لأحدٍ بعده إلا اتباعه، وأنه لا يلزم قول [بكل حال] (¬3) إلا بكتاب اللَّه أو سنة رسوله، وأن ما سواهما تَبعٌ لهما، وأن فَرْضَ اللَّه علينا وعلى مَنْ بعدنا وقبلنا في قبول الخبر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واحدٌ لا يختلف فيه [أنه] الفرض، وواجبٌ قبول الخبر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا فرقة سأصف قولها إن شاء اللَّه تعالى. وقال الشافعي: ثم تفرَّق أهل الكلام في تثبيت خبر الواحد عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تفرقًا متباينًا، وتفرق عنهم ممن نَسبتهُ العامة إلى الفقه تفرقًا أتى بعضُهم فيه أكثر من التقليد أو التحقيق من النظر والغفلة والاستعجال بالرياسة (¬4). وقال عبد اللَّه بن أحمد: قال أبي: قال لنا الشافعي: إذا صح عندكم (¬5) الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقولوا لي حتى أذهب إليه (¬6). وقال الإمام أحمد: كان أحسن أمر الشافعي عندي أنه كان إذا سمع الخبر لم يكن عنده قال به وتَركَ قوله (¬7)، وقال الربيع: قال الشافعي: لا نترك الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن لا يدخله القياس ولا موضع للقياس لموقع السنة (¬8)، قال الربيع [عن الشافعي]: وقد روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأبي هو وأمي أنه قضى في بَرْوَع ¬
بنت وَاشِق أنكحت (¬1) بغير مهر، فمات زوجها، فقضى لها بمهر نسائها، وقضى لها بالميراث (¬2)، فإن كان ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو أولى الأمور بنا، ولا حجة في ¬
قول أحد دون النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا في قياس ولا في شيء إلا طاعة اللَّه بالتسليم له، وإن كان لا يثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن لأحد أن يثبت عنه ما لم يثبت، ولم أحفظه من وجه يثبت مثله، هو مرة عن معقل بن يسار ومرة عن معقل بن سنان ومرة عن بعض أشجع لا يُسمَّى (¬1). وقال الربيع: سألت الشافعي عن رفع الأيدي في الصلاة، فقال: يَرفُع المصلي يديه إذا افتتح الصلاة حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، ولا يَفعل ذلك في السجود. قلت له: فما الحجة في ذلك؟ فقال: أنبأنا ابن عُيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مثل قولنا (¬2). قال الربيع: فقلت له: فإنا نقول: يَرفعُ في الابتداء ثم لا يعود. قال الشافعي: أنا مالك، عن نافع أن ابن عمر كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك (¬3)، قال الشافعي: ¬
وهو -يعني مالكًا- يروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان إذا افتتح الصلاة رفع (¬1) يديه حذو منكبيه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك (¬2)، ثم خالفتم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وابن عمر، فقلتم (¬3): لا يرفع يديه إلا في ابتداء الصلاة، وقد رويتم عنهما أنهما رفعاهما في الابتداء وعند الرفع من الركوع، أفيجوز لعالم أن يتركَ فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) [وفعل] (¬5) ابن عمر لرأي نفسه؟ أو فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6) لرأي ابن عمر؟ ثم القياس على قول ابن عمر، ثم يأتي موضع آخر يصيب فيه، فيترك على ابن عمر ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فكيف لم ينهه بعضُ هذا عن بعض؟ أرأيت إذا جاز له أن يروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه رفع (¬7) يديه في [الصلاة] مرتين أو ثلاث وعن ابن عمر فيه اثنتين، أنأخذ بواحدة ونترك واحدة؟ أيجوِّز لغيره تَزك الذي أخذ به وأَخْذ الذي ترك؟ أو يجوز لغيره [تركه عليه. قال الشافعي: لا يجوز له ولا لغيره] (¬8) ترك ما روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-. فقلت له: فإن صاحبنا قال: فما معنى الرفع؟ قال [الشافعي: هذه الحجة غاية في الجهالة] معناه تعظيم للَّه واتباع لسنة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعنى الرفع في الأولى معنى الرفع الذي خالفتم فيه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع، ثم خالفتم فيه روايتكم عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وابن عمر معًا، [لغير قول واحد روى عنه رفع الأيدي في الصلاة، تثبت روايته] ويَروي ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة عشر رجلًا أو أربعة عشر رجلًا (¬9) ورُوي عن أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير وجه، ومن ¬
تركه فقد ترك السنة (¬1). قلت: وهذا تصريح من الشافعي بأن تارك رفع اليدين عند الركوع و [عند] (¬2) الرفع منه تارك للسنة، ونص أحمد على ذلك أيضًا في إحدى الروايتين عنه. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الطيب قبل الإحرام بما يبقى ريحه بعد الإحرام وبعد رمي الجمرة والحلاق وقبل الإفاضة؟ فقال: جائز، وأحبُّه، ولا كراهة؛ لثبوت السنة فيه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) والأخبار عن غير واحد من الصحابة. فقلت: وما حجتك فيه؟ فذكر الأخبار فيه والآثار ثم قال: أنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن سالم قال: قال عمر -رضي اللَّه عنه-: مَنْ رمى الجمرة فقد حَلَّ له ما حرمُ عليه إلا النساء والطيب (¬4). قال سالم: وقالت عائشة: طيَّبتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بيدي (¬5)، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحق أن تتبع. قال الشافعي: وهكذا ينبغي أن يكون الصالحون وأهل العلم، فأما ما تذهبون إليه من ترك السنة وغيرها لترك (¬6) ذلك [الغير] (¬7) لرأي أنفسكم فالعلم إذن إليكم تأتون منه ما شئتم وتدعون ما شئتم (¬8). وقال في "الكتاب القديم"، (رواية الزعفراني) في مسألة بيع المُدبَّر في جواب من قال له: إن بعض أصحابك قد قال خلاف هذا، قال الشافعي: فقلت له: من تَبعَ سنَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وافقْتُه، ومن غَلط فتركها خالفْتُه، صاحبي (¬9) الذي لا أفارقه اللازم الثابت عن (¬10) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإنْ بَعُد، والذي أفارق من لم يقبل ¬
بسنة (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وإن قرب (¬2). وقال في خطبة كتابه: "إبطال الاستحسان" (¬3): الحمد للَّه على جميع نعمه بما هو أهله وكما ينبغي له، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، بعثه بكتاب عزيز: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] فهدى بكتابه، وعلى (¬4) لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم أنعم عليه وأقامَ الحجَّةَ على خلقه لئلا يكون للناس على اللَّه حجة بعد الرسل، وقال [تعالى] (¬5): {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} [النحل: 89]، وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وفرض عليهم اتباع ما أنزل إليهم، وسَنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لهم، فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] فأَعلَم أن معصيته في ترك [أمره و] (¬6) أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يجعل لهم إلا اتباعه، وكذلك قال لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ} [الشورى: 52 - 53] مع ما عَفَم اللَّه نبيَّه، ثم فرض اتباع كتابه فقال: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف: 43]، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وأعلمهم أنه أكمل لهم دينهم فقال عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] إلى أن قال: ثم مَنَّ عليهم بما آتاهم من العلم فأمرهم بالاقتصار عليه، وأن لا يقولوا غيره إلا ما علَّمهم، فقال لنبيِّه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52]، وقال لنبيه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9]، وقال لنبيّه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] ثم أنزل على نبيه أنْ غَفَر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر، يعني -واللَّه أعلم- ما تقدم من ذنبه قبل الوحي وما تأخَّر [قبل] (¬7) أن ¬
يعصمه فلا يذنب، فعلم ما يفعل به مِن رضاه عنه، وأنه أول شافع ومشفع يوم القيامة، وسيّد الخلائق، وقال لنبيه: {ولَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل في امرأة رجل رماها بالزنا، فقال له يَرْجع، فأوحى اللَّه إليه آية اللعان فلاعن بينهما (¬1)، وقال: {[قُلْ] (¬2) لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ [وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ] (2)} [لقمان: 34] الآية، وقال لنبيه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 42 - 43] فحَجَب عن نبيه علم الساعة، وكان مَنْ عدا ملائكة اللَّه المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد اللَّه أقصر علمًا من ملائكته وأنبيائه، واللَّه عز وجل فَرضَ على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم من الأمر شيئًا. وقد صنَّف الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- كتابًا في طاعة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3) ردَّ فيه على من احتج بظاهر القرآن في معارضة سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وترك الاحتجاج بها، فقال في أثناء خطبته: إن اللَّه جل ثناؤه وتقدست أسماؤه بعث محمدًا بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأنزل عليه كتابه الهدى والنور لمن اتبعه، وجعل رسولَه الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه وخاصِّه وعامِّه وناسخه ومنسوخه وما قصد له الكتاب؛ فكان رسول اللَّه هو المعبِّر عن كتاب اللَّه الدال على معانيه، شَاهَدَه في ذلك أصحابه الذين ارتضاهم اللَّه لنبيه واصطفاهم له، ونقلوا ذلك عنه، فكانوا هم أعلم الناس برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وبما أراد اللَّه من كتابه بمشاهدتهم ما قصد له الكتاب، فكانوا هم المُعبِّرين عن ذلك بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال جابر: ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين أظهرنا عليه ينزل القرآن وهو ¬
يعرف تأويله وما عَمِلَ به من شيء عملنا به، ثم ساق الآيات الدالة على طاعة الرسول، فقال جل ثناؤه في أول آل عمران: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 131 - 132]، وقال [تعالى] (¬1): {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32]، وقال في النساء: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقال: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 79 - 80]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)} [النساء: 13 - 14]، وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا] (¬2)} [النساء: 105]، وقال في المائدة: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 92]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)} [الأنفال: 1]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (¬3)} [الأنفال: 46]، وقال: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51، 52]، وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ ¬
كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، وقال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (¬1)} [النور: 62]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36] وقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وكان الحسن يقول: لا تذبحوا قبل ذبحه (¬2) {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى [لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] (¬3) وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 2 - 5]، وقال: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17]، وقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 1 - 5]، وقال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]، وقال: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12]، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الطلاق: 10 - 11]، وقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ ¬
شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا] (¬1)} [الفتح: 9]، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} [هود: 17] قال ابن عباس: هو جبريل، وقاله مجاهد (¬2): {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} [هود: 17]، قال سعيد بن جبير: الأحزاب المِلل (¬3)، ثم ذكر حديث يعلى بن أمية: طُفْت مع عمر، فلما بلغنا الركن الغربيَ الذي يلي الأسود جررْتُ بيده ليستلم، فقال: ما شأنك؟ فقلت: ألا تستلم؟ فقال: ألم تطُف مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ فقلت: بلى، قال: أفرأيته يستلم هذين الركنين الغربيين؟ قال: لا، قال: أليس لك فيه أسوة حسنة؟ قلت: بلى، قال: فانفذ عنك (¬4). قال: وجعل معاوية يستلم الأركان كلها، فقال له ابن عباس: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يستلمُهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورًا، فقال ابن ¬
عباس: {ولقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، فقال معاوية: صدقت (¬1). ¬
[طريقان لأرباب الأخذ بالمتشابه في رد السنن]
ثم ذكر أحمد الاحتجاج على إبطال قول من عارض السنن بظاهر القرآن وردَّها بذلك، وهذا فعل الذين يستمسكون (¬1) بالمتشابه في رَدِّ المحكم، فإن لم يجدوا لفظًا متشابهًا غير المحكم يردونه به استخرجوا من المحكم وصفًا متشابهًا وردوه به، فلهم طريقان في رد السنن. [طريقان لأرباب الأخذ بالمتشابه في رد السنن] أحدهما: ردها بالمتشابه من القرآن أو من السنن (¬2)، الثاني: جعلهم المحكم متشابهًا ليعطلوا دلالته. [رد المتشابه إلى المحكم طريقة الصحابة] وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذه الطريق، وهي أنهم يردُّون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يُفسِّر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضُها بعضًا، ويصدُّق بعضُها بعضًا، فإنَّها كلها من عند اللَّه، [وما كان من عند اللَّه] (¬3) فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره. [أمثلة لمن أبطل السنن بظاهر من القرآن] ولنذكر لهذا الأصل أمثلة لشدة حاجة كل مسلم إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب. المثال الأول: رد الجهمية النصوص المحكمة غاية الإحكام المبينة بأقصى غاية البيان أن اللَّه موصوفٌ بصفاتِ الكمال من العِلْم والقُدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغَضَب والرِّضى والفَرح والضَّحك والرحمة والحكمة، وبالأفعال كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، والعلم بمجيء الرسول بذلك وإخباره به عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام والحج والزكاة وتحريم الظلم والفواحش والكذب فليس يقصرُ عنه، فالعلم الضروريُّ حاصل بأن الرسول أخبر عن اللَّه بذلك، وفَرضَ على ¬
[رد الجهمية المحكم من آيات العلو والاستواء]
الأمة تصديقه فيه، فرضًا لا يتم أصل الإيمان إلا به، فرد الجهمية ذلك بالمتشابه من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ومن قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ومن قوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] ثم استخرجوا من هذه النصوص المجملة (¬1) المبينة احتمالات وتحريفات جعلوها به من قسم المتشابه. [رد الجهمية المحكم من آيات العلو والاستواء] المثال الثاني: ردهم المحكم المعلوم بالضرورة أن الرسل جاءوا به من إثبات علو اللَّه على خلقه واستوائه على عرشه بمتشابه قول اللَّه تعالى (¬2): {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4]، وقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، وقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7] ونحو ذلك، ثم تحيَّلوا وتمحَّلوا حتى ردّوا نصوص (¬3) العلو والفوقية بمتشابهه. [رد القدرية النصوص المحكمة] المثال الثالث: رد القدرية النصوص (¬4) الصريحة المحكمة في قدرة اللَّه على خلقه، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن بالمتشابه من قوله: {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد} [فصلت: 46]، و {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (¬5) [الطور: 16] و [التحريم: 7] ثم استخرجوا لتلك النصوص المحكمة وجوهًا [أخر] (¬6) أخرجوها به من قسم المحكم وأدخلوها في المتشابه. [رد الجبرية النصوص المحكمة] المثال الرابع: رد الجبرية النصوص المحكمة في إثبات كون العبد قادرًا مختارًا فاعلًا [بمشيئته] (6) بمتشابه قوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (¬7) ¬
[رد الخوارج والمعتزلة]
[الإنسان: 30]، [{وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}] (¬1) [المدثر: 56]، وقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ [وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (¬2)} [الأنعام: 39] وأمثال ذلك، ثم استخرجوا لتلك النصوص من الاحتمالات التي يقطع السامع أن المتكلم لم يُرِدها ما صيَّروها (¬3) به متشابهة. [رد الخوارج والمعتزلة] المثال الخامس: رد الخوارج والمعتزلة النصوص الصريحة المحكمة غاية الإحكام في ثبوت الشفاعة (¬4) للعصاة وخروجهم من النار بالمتشابه من قوله: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48]، وقوله: {ربَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] ونحو ذلك، وفعلوا فيها كفعل (¬5) من ذكرنا سواء. [رد الجهمية نصوص الرؤية] المثال السادس: رد الجهمية النصوص المحكمة التي قد بلغت في صراحتها وصحتها إلى أعلى الدرجات في رؤية المؤمنين ربهم (¬6) تبارك وتعالى في عرصات القيامة وفي الجنة بالمتشابه من قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ [وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ] (¬7)} [الأنعام: 103]، وقوله لموسى: {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وقوله: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ونحوها] (¬8)، ثم أحالوا المحكم متشابهًا وردوا الجميع. ¬
[رد نصوص الأفعال الاختيارية]
[رد نصوص الأفعال الاختيارية] المثال السابع: رد النصوص الصريحة الصحيحة التي تفوت العد (¬1) على ثبوت الأفعال الاختيارية للرب سبحانه وقيامها به كقوله: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29]، وقوله: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 105]، وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} [النمل: 8]، وقوله: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: 143]، وقوله: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} [الإسراء: 16]، وقوله: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ] (¬2)} [المجادلة: 1]، وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181]، [وقول: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) "ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا" (¬4)، [وقول اللَّه تعالى] (¬5): {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقوله: "إن ربي قد غَضِبَ اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضبَ بعده مثله" (¬6)، وقوله: "إذا قال العبد: الحمدُ للَّه رب العالمين قال اللَّه: حَمَدني عبدي" (¬7) الحديث، وأضعاف أضعاف ذلك من النصوص التي تزيد على الألف، فردوا هذا كله مع إحكامه بمتشابه قوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]. ¬
[رد المحكم من نصوص إثبات الحكمة والغاية]
[رد المحكم من نصوص إثبات الحكمة والغاية] المثال الثامن: رد النصوص المحكمة الصريحة التي في غاية الصحة والكثرة على أن الرب سبحانه إنما يفعل ما يفعله لحكمة وغاية محمودة، وجودها خير من عدمها، ودخول لام التعليل في شرعه وقدره أكثر من أن تعد، فردوها بالمتشابه من قوله: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ثم جعلوها كلها متشابهة. [رد نصوص إثبات الأسباب] المثال التاسع: رد النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة الدالة على ثبوت الأسباب شرعًا وقدرًا كقوله: {بِمَا كنُتُم تعْمَلُونَ} (¬1) [المائدة: 105]، {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39 ويونس: 52]، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 182]، {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10]، {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام: 93]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [النحل: 107]، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، {ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [الجاثية: 35]، وقوله: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ} [المائدة: 16]، {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا} [البقرة: 26]، وقوله: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9]، وقوله: {فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: 57]، وقوله: {فَأَنْشَأْنَا (¬2) لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} [المؤمنون: 19] وقوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14]، وقوله في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69]، و [قوله] (¬3) في القرآن: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] إلى أضعاف [أضعاف] (¬4) ذلك من النصوص المثبتة للسبب (¬5) فردوا ذلك كله بالمتشابه من قوله: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3]، وقوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] ¬
وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أنا حملتكم ولكن اللَّه حملكم" (¬1) ونحو ذلك، وقوله: "إني لا أعطي أحدًا ولا أمنعه" (¬2)، وقوله للذي سأله عن العَزْل عن أمته: "اعزل عنها فسيأتيها ما قُدِّر لها" (¬3)، وقوله: "لا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ" (¬4)، وقوله: "فمن أعدى الأول" (¬5)، وقوله: "أرأيت إنْ منعَ اللَّه الثمرة" (¬6)، ولم يقل منعها البرد أو (¬7) الآفة التي تصيب الثمار، ونحو ذلك من المتشابه الذي إنما يدل على أن مالكَ السَّببِ وخالقه يتصرف فيه؛ بأن يُسلبه سببيَّته إن شاء، ويُبقيها عليه إن شاء، كما سَلَبَ النار قوَّةَ الإحراق عن الخليل، ويا للَّه العجب! أترى من أثبت الأسباب، وقال: إن اللَّه خالقها أثبتَ خالقًا غير اللَّه؟! وأما قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17] فغاب عنهم فقه الآية وفهمها، والآية من أكبر معجزات النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والخطاب بها خاص لأهل بدر. وكذلك القبضة التي رمى بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأوصلها اللَّه سبحانه إلى جميع وجوه المشركين (¬8)، وذلك خارج عن قدرته -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬
وهو الرمي الذي نفاه عنه، وأثبت له الرمي الذي هو في محل قدرته وهو الخذْف (¬1)، وكذلك القَتْل الذي نفاه عنهم هو قتل لم تباشره أيديهم، وإنما باشرته أيدي الملائكة، فكان أحدهم يشتدُّ في أَثَر الفارس وإذا برأسه قد وقع أمامه من ضربة الملك، ولو كان المراد ما فهمه هؤلاء الذين لا فقه لهم في فهم النصوص لم يكن فرق بين ذلك وبين كل قتل وكل فعل من شرب أو زنى أو سرقة أو ظلم فإن اللَّه خالق الجميع، وكلام اللَّه يُنزَّه عن هذا (¬2). وكذلك قوله: "ما أنا حملتكم ولكن اللَّه حملكم" (3) لم يُرد أنَّ اللَّه حَمَلهم بالقدر، وإنما كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- متصرفًا بأمر اللَّه منفّذًا له، فاللَّه سبحانه أمره بحملهم فنفَّذ أوامره، فكأن اللَّه هو الذي حملهم، وهذا معنى قوله: "واللَّه إني لا أعطي أحدًا شيئًا ولا أمنعه" (¬3)، ولهذا قال: "وإنما أنا قاسم" (¬4) فاللَّه سبحانه هو المعطي على لسانه وهو يقسم ما يقسمه (¬5) بأمره، وكذلك قوله في العَزْل: "فسيأتيها ما قُدّر لها" (¬6) ليس فيه إسقاط الأسباب؛ فإن اللَّه سبحانه إذا قَدَّر خلق الولد سبق من الماء ما يخلق منه الولد ولو كان أقل شيء فليس من كل الماء يكون الولد، ولكن أين في السنة أن الوطء لا تأثير له في الولد ألبتة وليس سببًا له، وأن الزوج أو ¬
[المقصود من لا عدوى ولا طيرة]
السيد إنْ وطئ أو لم يطأ فكلا الأمرين بالنسبة إلى حصول الولد وعدمه على حد سواء كما يقوله منكرو الأسباب؟ [المقصود من لا عدوى ولا طيرة] وكذلك قوله: "لا عَدْوى ولا طِيرَة" (¬1) لو (¬2) كان المراد به نفي السبب كما زعمتم لم يدل على نفي كل سبب، وإنما غايته أن هذين الأمرين ليسا من أسباب الشر، كيف والحديث لا يدل على ذلك؟ وإنما ينفي ما كان المشركون يُثبتونه من سببيّة مستمرة على طريقة واحدة لا يمكن إبطالها ولا صرفها عن محلها ولا معارضتها بما هو أقوى منها، لا كما يقوله من قصر علمُه: إنهم كانوا يرون ذلك فاعلًا مستقلًا بنفسه. [مذاهب الناس في الأسباب] فالناس في الأسباب لهم ثلاث طرق (¬3): • إبطالها بالكلية. • وإثباتها على وجه لا يتغير ولا يقبل سلب سببيتها ولا معارضتها بمثلها أو أقوى منها كما يقوله الطبائعية والمنجمون والدهرية. • والثالث: ما جاءت به الرسل ودل عليه الحس والعقل والفطرة: إثباتها أسبابًا، وجواز وقوع (¬4) سلب سببيتها عنها إذا شاء اللَّه ودفعها بأمور أخرى نظيرها أو أقوى منها، مع بقاء مقتضى السببية فيها، كما تُصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق والصّلة، وتُصرف كثير من أسباب الخير بعد انعقادها بضد ذلك، فلله كم من خير انعقد سببه ثم صرف عن العبد بأسباب أحدثها منعت حصوله وهو يشاهد السبب حتى كأنه أخذ باليد؟ وكم من شرٍ انعقد سببهُ ثم صُرفَ عن العبد باسباب أحدثها منعت حصولَه؟ ومن لا فقهَ له في هذه المسألة فلا انتفاع له بنفسه ولا بعلمه، واللَّه المستعان وعليه التكلان. [رد الجهمية نصوص الكلام الإلهي] المثال العاشر: رد الجهمية النصوص المحكمة الصريحة التي تفوت العد ¬
[رد النصوص المحكمة بأنه خالق كل شيء والمتكلم بنفسه]
على أن اللَّه سبحانه تكلَّم ويتكلم، وكلَّم ويُكلِّم، وقال ويقول، وأخبر و [يخبر] (¬1)، ونبَّأ وأَمر ويأمر، ونهى وينهى، ورضي ويرضى ويعطي ويبشّر ويُنذر ويُحذّر، ويوصل لعباده القول ويبين لهم ما يتقون، ونادى وينادي، وناجى ويناجي، ووَعد وأَوْعد، ويسأل عباده يوم القيامة ويخاطبهم ويكلم كلًا منهم ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب ويراجعه عبده مراجعة، وهذه كلها أنواع للكلام والتكليم، وثبوتها بدون ثبوت صفة التكلم له ممتنع، فردها الجهمية مع إحكامها وصراحتها وتعينها للمراد منها بحيث لا تحتمل غيره بالمتشابه من قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. [رد النصوص المحكمة بأنه خالق كل شيء والمتكلم بنفسه] المثال الحادي عشر: ردوا محكم قوله: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، وقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13]، وقوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} [النحل: 102]، وقوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وقوله: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] وغيرها من النصوص المحكمة بالمتشابه من قوله: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40 والتكوير: 19] والآيتان حجة عليهم؛ فإن صفات اللَّه جل جلاله داخلة في مُسمَّى اسمه؛ فليس {اللَّه} اسمًا لذات لا سَمعَ لها ولا بَصَر [لها] (¬2) ولا حياة [لها] (2) ولا كلام [لها] (2) ولا علم، وليس هذا رب العالمين، وكلامه تعالى وعلمه وحياته وقدرته ومشيئته ورحمته داخلة في مُسمَّى اسمه؛ فهو سبحانه بصفاته وكلامه الخالق، و [كل] (¬3) ما سواه مخلوف، وأما إضافة القرآن إلى الرسول فإضافة تبليغ محض، لا إنشاء، والرسالة تستلزمُ تبليغَ كلام المُرسل، ولو لم يكن للمرسل كلام يبلغه الرسول لم يكن رسولًا؛ ولهذا قال غير واحد من السلف: "من أنكر أن يكون اللَّه متكلمًا فقد أنكر رسالة رسله"؛ فإن حقيقة رسالتهم تبليغ كلام من أرسلهم؛ فالجهمية وإخوانهم ردوا تلك النصوص المحكمة بالمتشابه، ثم صيَّروا الكل متشابهًا ثم ردوا الجميع، فلم يثبتوا للَّه فعلًا يقوم به يكون به فاعلًا كما لم يثبتوا له كلامًا يقوم به يكون به متكلمًا؛ فلا كلام له عندهم ولا فعال (¬4)، بل كلامه وفعله عندهم ¬
[رد الجهمية نصوص العلو بالتفصيل]
مخلوق منفصل عنه، وذلك لا يكون صفة له؛ لأنه سبحانه إنما يوصف بما قام به لا بما لم يقم به. [رد الجهمية نصوص العلو بالتفصيل] المثال الثاني عشر: وقد تقدم ذكره مجملًاونذكره هاهنا مفصلًا: رد الجهمية النصوص المتنوعة المحكمة على علو اللَّه على خلقه وكونه فوق عباده من ثمانية عشر نوعًا (¬1): أحدها: التصريح بالفوقية مقرونة بأداة مِنْ المعيِّنة (¬2) لفوقية الذات نحو: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18، 61]. الثالث: التصريح بالعروج إليه نحو: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4] وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "فيعرجُ الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم" (¬3). الرابع: التصريح بالصعود إليه كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر: 10]. الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه كقوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]، وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]. السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتًا وقدرًا وشرفًا، كقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: ¬
23]، {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (¬1) [الشورى: 51]. السابع: التصريح بتنزيل الكتاب منه كقوله: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ [الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] (¬2)} [الجاثية: 2]، {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] وهذا يدل على شيئين: • على أن القرآن ظهر منه لا من غيره، وأنه الذي تكلَّم به لا غيره. • الثاني: على علوه على خلقه وأن كلامه نزل به الروح الأمين من عنده من أعلا مكان إلى رسوله. الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عندهُ، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الأعراف: 206]، وقوله: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] ففرَّق بين مَنْ له عمومًا ومن عنده من مماليكه وعبيده خصوصًا، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه: "إنه عنده على العرش" (¬3). التاسع: التصريح بأنه سبحانه في السماء، وهذا عند أهل السنة على أحد وجهين: • إما أن تكون في بمعنى على. • وإما أن يراد بالسماء العلو، لا يختلفون في ذلك، ولا يجوز حمل النص على غيره. العاشر: التصريح بالاستواء مقرونًا بأداة على مختصًا بالعرش الذي هو أعلا المخلوقات مصاحبًا في الأكثر لأداة "ثم" الدالة على الترتيب والمهلة، وهو بهذا السياق صريح في معناه الذي لا يفهم المخاطبون [غيره] (¬4) من العلو والارتفاع، ولا يحتمل غيره ألبتة. ¬
الحادي عشر: التصريح برفع الأيدي إلى اللَّه سبحانه كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه يستحيي من عبده إذا رَفعَ إليه يديه أن يردَّهما صِفْرًا" (¬1). ¬
الثاني عشر: التصريح بنزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا (¬1) والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل (¬2). الثالث عشر: الإشارة إليه حسًا إلى العلو كما أشار إليه من هو أعلم به وبما (¬3) يجب له ويمتنع عليه من أفراخ الجهمية والمعتزلة والفلاسفة في أعظم مَجْمع على وجه الأرض يرفع أصبعه إلى السماء، ويقول: "اللهم اشهد" (¬4)، ليشهد الجميع أن الرب الذي أرسله ودعا إليه واستشهده هو الذي فوق سماواته على عرشه. الرابع عشر: التصريح بلفظ الأين الذي هو عند الجهمية بمنزلة متى في الاستحالة، ولا فرق عندهم بين اللفظين ألبتَّة، فالقائل: "أين اللَّه" و: "متى كان اللَّه" عندهم سواء، كقول أعلم الخلق به، وأنصحهم لأمته، وأعظمهم بيانًا عن المعنى الصحيح بلفظ لا يوهم باطلًا [بوجه] (¬5): "أين اللَّه" (¬6) في غير موضع. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
الخامس عشر: شهادته التي هي أصدق شهادة عند اللَّه وملائكته وجميع المؤمنين لمن قال: "إن ربه في السماء" بالإيمان، وشهد عليه أفراخ جهم بالكفر، وصَرح الشافعي -رضي اللَّه عنه- بأن هذا الذي وَصَفَته من أن ربها في السماء إيمان فقال في كتابه في (باب عتق الرقبة المؤمنة) وذَكَر حديث الأمة السوداء التي سوَّدت وجوه الجهمية وبيَّضت وجوه المحمدية: "فلمَّا وَصَفَت الإيمان قال: "اعتقها فإنها مؤمنة" (¬1) وهي إنما وصفت كون ربها في السماء، وأن محمدًا عبده ورسوله؛ ¬
فقَرَنَت بينهما في الذكر؛ فجعل الصادق المصدوق مجموعهما هو الإيمان. السادس عشر: إخباره سبحانه عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ليطَّلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبر به من أنه سبحانه فوق السماوات، فقال: {يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] فكذَب فرعون موسى في إخباره إياه بأن ربه فوق السماء، وعند الجهمية لا فَرق بين الإخبار بذلك وبين الإخبار بأنه يأكل ويشرب؛ وعلى زعمهم يكون فرعون قد نزه الرب عما لا يليق به وكذب موسى في إخباره بذلك؛ إذ من (¬1) قال عندهم: إن ربه فوق السماوات فهو كاذب؛ فهم في هذا التكذيب موافقون لفرعون مخالفون لموسى ولجميع الأنبياء، ولذلك سمَّاهم أئمة السنة: "فرعونية" قالوا: وهم شرٌّ من الجهمية؛ فإن الجهمية تقول (¬2): إن اللَّه في كل مكان بذاته، وهؤلاء عطلوه بالكلية، وأوقعوا عليه الوصف المطابق للعدم المحض، فأي طائفة من طوائف بني آدم أثبتت الصانع على أي وجه؛ كان قولهم (¬3) خيرًا من قولهم. السابع عشر: إخباره -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه تردَّد بين موسى وبين اللَّه تعالى ويقول له موسى: ارجع إلى ربك فسله [التخفيف] (¬4)، فيرجع إليه ثم ينزل إلى موسى فيأمره بالرجوع إليه سبحانه، فيصعد إليه سبحانه ثم ينزل من عنده إلى موسى، عدة مرار (¬5). الثامن عشر: إخباره تعالى عن نفسه وإخبار رسوله عنه أن المؤمنين يرونه عيانًا جهرةً كرؤية الشمس في الظهيرة والقمر ليلة البَدْر (¬6) والذي تفهمه الأمم على ¬
اختلاف لغاتها وأوهامها من هذه الرؤية رؤية المُقابلة والمواجهة التي تكون بين الرائي والمرئي فيها مسافة (¬1) محدودة غير مُفرطة في البعد فتمتنع الرؤية ولا (¬2) في القرب فلا تمكن الرؤية، لا تعقل الأمة (¬3) غير هذا، فإما أن يروه سبحانه من تحتهم -تعالى اللَّه-، أو مِنْ خَلفهم أو من أمامهم أو عن أيْمانهم أو عن شمائلهم أو من فوقهم، ولا بد من قسم من هذه الأقسام إن كانت الرؤية حقًا، وكلها باطل سوى رؤيتهم له من فوقهم كما في حديث جابر الذي في "المسند" وغيره: "بينا أهل الجنة في نَعيمهم إذ سَطَع لهم نورٌ، فرفعوا رؤوسهم فإذا الجبَّار قد أشرف عليهم من فوقهم، وقال: يا أهل الجنة سلامٌ عليكم" ثم قرأ قوله: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، ثم يتوارى عنهم، وتبقى رحمتُه وبركتُه عليهم في ديارهم" (¬4) ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية، ولهذا طرد الجهمية أصلهم وصَرَّحوا بذلك، ورَكِبوا النَّفيين معًا، وصدَّق أهل السنة بالأمرين معًا وأقرّوا بهما، وصار من أثبت الرؤية ونفى علو الرب على خلقه واستواءه على عرشه مذبذبًا بين ذلك، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فهذه أنواع من الأدلة السمعية المحكمة إذا بُسطت أفرادُها كانت ألفَ دليلٍ على علو الرب على خلقه واستوائه على عرشه؛ فترك الجهمية ذلك كله وردوه بالمتشابه من قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] ورده زعيمهم المتأخر بقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وبقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. ¬
ثم ردّوا تلك الأنواع كلها متشابهة، فسلَّطوا المتشابه على المحكم وردوه به، ثم ردوا المحكم متشابهًا؛ فتارة يحتجون به على الباطل وتارة يدفعون به الحق، ومن له أدنى بصيرة يعلم أنه لا شيء في النصوص أظهر ولا أبين مرادًا (¬1) من مضمون هذه النصوص فإذا كانت متشابهة فالشريعة كلها متشابهة، وليس فيها شيء محكم ألبتَّة، ولازم هذا القول لزومًا لا محيدَ عنه أن ترك الناس بدونها خير له من إنزالها إليهم، فإنها أَوْهمتهم وأفهمتهم غيرَ المراد، وأوقعتهم في اعتقاد الباطل ولم يتبين (¬2) لهم ما هو الحق في نفسه، بل أُحيلوا فيه على ما يستخرجونه بعقولِهِم وأفكارهم ومقاييسهم؛ فنسأل [للَّه] (¬3) مثبِّت القلوب تبارك وتعالى أن يثبت قلوبنا على دينه وما بعث به رسوله من الهدى ودين الحق، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا؛ إنه قريبٌ مجيب. ¬
[رد النصوص في مدح الصحابة، ورد الخوارج النصوص في موالاة المؤمنين]
[رد النصوص في مدح الصحابة، ورد الخوارج النصوص في موالاة المؤمنين] المثال الثالث عشر: ردَّ الرافضة النصوص الصحيحة الصريحة المحكمة المعلومة عند خاص الأمة وعامتها بالضرورة في مدح الصحابة -رضي اللَّه عنهم- والثناء عليهم ورضاء اللَّه عنهم ومغفرته لهم وتجاوزه عن سيئاتهم ووجوب محبة الأمة واتباعهم لهم واستغفارهم لهم واقتدائهم بهم بالمتشابه من قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض" (¬1) ونحوه. كما ردوا المحكم الصريح من أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم، كفعل إخوانهم من الخوارج حين ردّوا النصوص الصحيحة المحكمة في موالاة المؤمنين ومحبتهم وإن ارتكبوا بعضَ الذُّنوب التي تقع مكفَّرة بالتوبة النصوح، والاستغفار، والحسنات الماحية، والمصائب المُكفِّرة، ودعاء المسلمين لهم في حياتهم وبعد موتهم، وبالامتحان في البَرْزخ وفي موقف القيامة، وبشفاعة من يأذن اللَّه [له بالشفاعة] (¬2)، وبصدق التوحيد، وبرحمة أرحم الراحمين؛ فهذه عشرة أسباب (¬3) تمحقُ (¬4) أَثَر الذنوب، فإن عَجِزت هذه الأسباب عنها فلا بد من دخول النار، ثم يخرجون منها؛ فتركوا ذلك كله بالمتشابه من نصوص الوعيد، ورد المحكم من (¬5) أفعالهم وإيمانهم وطاعتهم بالمتشابه من أفعالهم التي (¬6) يحتمل أن يكونوا قصدوا بها طاعة اللَّه فاجتهدوا فأدَّاهم اجتهادهم إلى ذلك فحصلوا فيه على الأجر المفرد، وكان حظ أعدائهم منه تكفيرهم واستحلال دمائهم وأموالهم، ¬
[رد نصوص وجوب الطمأنينة في الصلاة]
وإن لم يكونوا قصدوا ذلك كان غايتهم أن يكونوا قد أذنبوا، ولهم من الحسنات والتوبة وغيرها ما يرفع موجب الذنب، فاشتركوا هم والرَّافضة في رد المحكم من النصوص وأفعال المؤمنين بالمتشابه منها؛ فكفَّروهم وخَرَجوا عليهم بالسيف يقتلون أهل الإيمان ويدعون أهل الأوثان، ففساد الدنيا والدين من تقديم المتشابه على المُحكم، وتقديم الرأي على الشرع والهوى على الهدى، وباللَّه التوفيق. [رد نصوص وجوب الطمأنينة في الصلاة] المثال الرابع عشر: رد المحكم الصريح الذي لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا من وجوب الطمأنينة وتوقف إجزاء الصلاة وصحتها عليه، كقوله: "لا تُجزئ صلاة لا يقيمُ الرجل فيها صُلْبَه من ركوعه وسجوده" (¬1)، وقوله لمن تركها: "صلِّ فإنك لم تصلِّ" (¬2)، وقوله: "ثم اركع حتى تطمئنّ راكعًا" (¬3) فنفى إجزاءها بدون الطمأنينة ونفى مُسمَّاها الشرعي بدونها وأمر بالإتيان بها، فرد هذا المحكم الصريح بالمتشابه من قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} (¬4) [الحج: 77]. [رد نصوص تعيين التكبير في الصلاة] المثال الخامس عشر: رد المحكم الصريح من تعيين التكبير للدخول (¬5) في الصلاة بقوله: "إذا قصت إلى الصلاة فكَبِّر" (3)، وقوله: "تحريمها التكبير" (¬6)، ¬
وقوله: "لا يقبل اللَّهُ صلاةَ أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يستقبل القبلَة ويقول: اللَّه أكبر" (¬1) وهي نصوص في غاية الصحة فردَّت بالمتشابه من قوله: ¬
[رد نصوص تعيين فاتحة الكتاب]
{وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} (¬1) [الأعلى: 15]. [رد نصوص تعيين فاتحة الكتاب] المثال السادس عشر: رد النصوص المحكمة الصحيحة الصريحة في تعيين قراءة فاتحة الكتاب فَرْضًا (¬2) بالمتشابه من قوله: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل: 20]، ¬
[رد نصوص وجوب التسليم]
وليس ذلك في الصلاة، وإنما هو بدل عن قيام الليل (¬1)، وبقوله [للأعرابي] (¬2): "ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن" (¬3) وهذا يحتمل أن يكون قبل تعيين الفاتحة للصلاة وأن يكون الأعرابي لا يحسنها، وأن يكون لم يسئ في قراءتها، فأمره أن يقرأ معها ما تيسر من القرآن، وأن يكون أمره بالاكتفاء بما تيسر عنها؛ فهو متشابه يحتمل هذه الوجوه فلا يترك له المحكم الصريح (¬4). [رد نصوص وجوب التسليم] المثال السابع عشر: رد المحكم الصريح من توقف الخروج من الصلاة على التسليم كما في قوله: "تحليلها التسليم" (¬5)، وقوله: "إنما يكفي أحدكم أن يُسلِّم على أخيه من عن يمينه ومن عن شماله: السلامُ عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬6) فأخبر أنه لا يكفي غير ذلك فرد بالمتشابه من قول ابن مسعود: "فإذا قلت هذا فقد قضيت صلاتك" (¬7) وبالمتشابه من عدم أمره للأعرابي بالسلام. [رد نصوص وجوب النية] المثال الثامن عشر: رد المحكم الصريح في اشتراط النية لعبادة الوضوء والغسل كما في قوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [حُنَفَاءَ] (¬8)} [البينة: ¬
5]، وقوله: "وإنما لامرئ ما نوى" (¬1) وهذا لم ينو رفع الحَدَث فلا يكون له بالنص؛ فردوا هذا بالمتشابه من قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ولم يأمر بالنية، قالوا: فلو أوجبناها بالسنة لكان زيادة على نص القرآن فيكون نسخًا، والسنة لا تنسخ القرآن؛ فهذه ثلاث مقدمات: إحداها: أن القرآن لم يوجب النية. الثانية: أن إيجاب السنة لها نسخ للقرآن. الثالثة: أن نسخ القرآن بالسنة لا يجوز. وبنوا على هذه المقدمات إسقاط كثير مما صَرَّحت السنة بإيجابه كقراءة الفاتحة والطمأنينة وتعيين التكبير للدخول في الصلاة والتسليم للخروج منها. ولا يُتصوَّر صِدْق المقدِّمات الثلاث (¬2) في موضع واحد أصلًا، بل إما أن تكون كلها كاذبة أو بعضه؛ فأما آية الوضوء فالقرآن قد نبَّه على أنه لم يكتف من طاعات عباده إلا بما أخلصوا له فيه الدين، فمن لم ينو التقرب إليه جملة لم يكن ما أتى به طاعة ألبتة؛ فلا يكون معتدًا به (2)، مع أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إنما يَفهم المخاطب منه غسل الوجه وما بعده لأجل الصلاة كما يفهم من قوله: "إذا واجهت الأمير فترجل، وإذا دخل الشتاء فاشتر الفرو" (¬3) ونحو (¬4) ذلك؛ فإن لم يكن القرآن قد دل على النية ودلت عليها السنة لم يكن وجوبها ناسخًا للقرآن وإن كان زائدًا عليه، ولو كان كل ما أوجبته السنة ولم يوجبه القرآن نسخًا له لبطلت أكثر سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودفع في صدورها ¬
وإعجازها، وقال القائل: هذه زيادة على ما في كتاب اللَّه فلا تُقبل ولا يعمل بها، وهذا بعينه هو الذي أخبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سيقع وحَذَّر منه كما في "السنن" من حديث المِقدام بن مَعْديكرب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ألا إني أوتيتُ القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجلٌ شبعانَ على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما (¬1) وجدتم فيه من حلالٍ فأحلوه وما وجدتم فيه من حَرَام فحرِّموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة مال المعاهد" وفي لفظ: "يوشك أن يقعد الرجل (¬2) على أريكته فَيُحَدَّثُ بحديثي فيقول: بيني وبينكم كتاب اللَّه، فما وجدنا فيه حلالًا استحللناه، وما وجدنا فيه حرامًا حَرَّمناه، وإن ما حَرَّم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كما حرم اللَّه" (¬3). ¬
[السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه]
قال الترمذي: حديث حسن، وقال البيهقي: إسناده صحيح، وقال صالح بن موسى، عن عبد العزيز بن رُفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني قد خَلَّفتُ فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب اللَّه وسنتي، ولن يفترقا حتى يَردا عليَّ الحَوْض" (¬1) فلا يجوز التفريق بين ما جَمع اللَّه بينهما ويُرد أحدهما بالآخر، بل سكوته (¬2) عما نطق به ولا يمكن أحدًا يطرد ذلك ولا الذين أصَّلوا هذا الأصْلَ، بل قد نقضوه في أكثر من ثلاث مئة موضع منها ما هو مجمع عليه، ومنها ما هو مختلف فيه. [السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه] والسنة مع القرآن على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه؛ فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتظافرها. الثاني: أن تكون بيانًا لما أريد بالقرآن وتفسيرًا له. الثالث: أن تكون مُوجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو مُحرِّمة لما سكت عن تحريمه، ولا تخرج عن هذه الأقسام، فلا تُعارض القرآن بوجه ما، فما كان منها (¬3) زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تجبُ طاعتُه فيه، ولا تحلُّ ¬
معصيته، وليس هذا تقديمًا لها على كتاب اللَّه، بل امتثال لما أمر اللَّه به من طاعة رسوله، ولو كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يُطاع في هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وإنه إذا لم تجب طاعته إلا فيما وافق (¬1) القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة [خاصة] (¬2) تختص به، وقد قال اللَّه تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] وكيف يمكن أحدًا من أهل العلم أن لا يقبل حديثًا زائدًا على كتاب اللَّه؛ فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عَمَّتها ولا على خالتها (¬3)، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يَحرُم من النَّسب (¬4)، ولا حديث خِيار الشَّرط (¬5)، ولا أحاديث الشفعة (¬6)، ولا حديث الرهن في الحضر (¬7) مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا حديث ميراث الجَدَّة (¬8)، ولا حديث تخيير ¬
الأمة إذا أعتقت تحت زوجها (¬1)، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة (¬2)، ولا حديث وجوب الكفارة على مَنْ جامع في نهار رمضان (¬3)، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها (¬4) مع زيادتها على ما في القرآن من العدة، فهلَّا قلتم: إنها نَسْخٌ للقرآن وهو لا يُنسخ بالسنة، وكيف أوجبتم الوتر مع أنه زيادة محضة على القرآن بخبر مختلفٍ فيه؟ وكيف زدتم على كتاب اللَّه فجوزتم الوضوء بنبيذ التَّمر بخبرٍ ضعيف؟ (¬5) وكيف زدتم على كتاب اللَّه فشرطتم في الصداق أن يكون أقله عشرة دراهم بخبر لا يصح ألبتَّة (¬6) وهو زيادة محضة على القرآن؟ وقد أخذ الناس بحديث: "لا يرث المسلمُ الكافِرَ ولا الكافر المسلم" (¬7) ¬
وهو زائد على القرآن، وأخذوا كلهم بحديث توريثه -صلى اللَّه عليه وسلم- بنت الابن السدس مع البنت (¬1) وهو زائد على ما في القرآن (¬2)، وأخذ الناس كلهم بحديث استبراء المسبية بحيضة (¬3)، وهو زائد على ما في كتاب اللَّه، وأخذوا بحديث: "مَنْ قَتَلَ قتيلًا فله سَلَبُه" (¬4) وهو زائد على ما في القرآن من قسمة الغنائم، وأخذوا كلهم بقضائه -صلى اللَّه عليه وسلم- الزائد على ما في القرآن من أنّ أَعيان بني الأبوين يتوارثون دون بني العِلَّات، الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه (¬5)، ولو تتبعنا هذا لطال ¬
جدًا؛ فسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجلُّ في صدورنا وأعظم وأفرضُ علينا أن لا نقبلها إذا كانت زائدة على ما في القرآن، بل على الرأس والعينين، [ثم على الرأس والعينين] (¬1) وكذلك فَرْضٌ على الأمة الأخذ بحديث القضاء بالشاهد واليمين (¬2) وإن كان زائدًا على ما في القرآن، وقد أخذ به أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجمهور التابعين والأئمة (¬3)، والعجب ممن يرده لأنه زائد على ما في كتاب اللَّه، ثم يقضي بالنكول ومعاقد القُمُط ووجوه الآجُرِّ في الحائط وليست في كتاب اللَّه ولا سنة رسوله، وأخذتم أنتم وجمهور الأمة بحديث: "لا يُقاد الوالد بالولد" (¬4) مع ضعفه وهو زائد على ما في القرآن، وأخذتم أنتم والناس بحديث أخذ الجزية من المجوس (¬5) وهو زائد على ما في القرآن، وأخذتم مع سائر الناس بقطع رجل السارق في المرة الثانية (¬6) مع زيادته على ما في ¬
القرآن، وأخذتم أنتم والناس بحديث النهي عن الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال (¬1) وهو زائد على ما في القرآن، وأَخذت الأُمّةُ بأحاديث الحضانة (¬2) ¬
وليست في القرآن، وأخذتم أنتم والجمهور باعتداد المتوفى عنها في منزلها (¬1)؛ وهو ¬
زائد على [ما في] (¬1) القرآن، وأخذتم مع الناس بأحاديث البلوغ بالسنّ والإنبات (¬2). ¬
وهي زائدة على ما في القرآن؛ إذ ليس فيه إلا الاحتلام (¬1) وأخذتم مع الناس بحديث: "الخَراجُ بالضمان" (¬2) مع ضعفه، وهو زائد على [ما في] (3) القرآن، وبحديث [النهي عن] (¬3) بيع الكالئ بالكالئ (¬4) وهو زائد على ما في ¬
[أنواع دلالة السنة الزائدة عن القرآن]
القرآن، وأضعاف أضعاف ما ذكرنا، بل أحكام السُّنة التي ليست في القرآن إن لم تكن أكثرَ منها لم تنقص عنها؛ فلو ساغ لنا ردُّ كل سنة كانت زائدة (¬1) على نص القرآن لبطلت سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها إلا سنة دل عليها القرآن، وهذا هو الذي أخبرَ [به] (¬2) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه سيقع ولا بُدّ من وقوع خبره. [أنواع دلالة السنة الزائدة عن القرآن] فإن قيل: السنن الزائدة على ما دل عليه القرآن تارة تكون بيانًا له، وتارة تكون مُنْشَئةً لحكم لم يتعرض [القرآن] (¬3) له، وتارة تكون مغيّرة لحكمه، وليس نزاعنا في القسمين الأولين فإنهما حجة باتفاق، ولكن النِّزاعُ في القسم الثالث وهو الذي تَرْجمته بمسألة الزيادة على النص، وقد ذهب الشيخ أبو الحسن الكرْخيُّ وجماعة كثيرة من أصحاب أبي حنيفة إلى أنها نسخ (¬4)، ومن هاهنا جعلوا إيجاب التغريب مع الجلد نسخًا كما لو زاد عشرين سوطًا (¬5) على الثمانين في حد القَذْف. وذهب أبو بكر الرازي (¬6) إلى أن الزيادة إن وَردَت بعد استقرار حكم النص منفردة عنه كانت ناسخة، وإن وردت متصلة بالنص قبل استقرار حكمه لم تكن ناسخة (¬7)، وإن وردت ولا يُعلم تاريخها فإن ورَدَت من جهةِ يثبت النَّصُّ بمثلها ¬
[الكلام على الزيادة المغيرة لحكم شرعي]
فإن شهدت الأصول من عمل السلف أو النظر على ثبوتهما معًا أثبتناهما، وإن شهدت بالنص منفردًا عنها أثبتناه دونها، وإن لم يكن في الأصول دلالة على أحدهما فالواجب أن يُحكم بورودهما معًا، ويكونان بمنزلة الخاص والعام إذا لم يُعلم تاريخهما ولم يكن في الأصول دلالة على وجوب القضاء بأحدهما (¬1) على الآخر فإنهما يُستعملان معًا، وإن كان ورود (¬2) النص من جهةٍ تُوجب العلم كالكتاب والخبر المستفيض وورود الزيادة من جهة أخبار الآحاد لم يجُز إلحاقها بالنص ولا العملِ بها، وذهب بعض أصحابنا إلى أن الزيادة إن غَيَّرت حكم المزيد عليه تغييرًا شرعيًا بحيث إنه لو فُعل على حد ما كان يُفعل قبلها لم يكن معتدًا به، بل يجب استئنافُه، كان نسخًا (¬3)، نحو ضَمِّ ركعة إلى ركعتي الفجر، وإن لم تغيّر (¬4) حكم المزيد عليه بحيث لو فُعل على حد ما كان يُفعل قبلها كان معتدًا به ولا يجب استئنافه لم يكن نسخًا، ولم يجعلوا إيجابَ التغريب مع الجلد نسخًا، وإيجابَ عشرين جلدة مع الثمانين نسخًا، وكذلك إيجاب شرط منفصل عن العبادة (¬5) لا يكون نسخًا كإيجاب الوضوء بعد فرض الصلاة، ولم يختلفوا أن إيجابَ زيادة عبادة على عبادة كإيجاب الزكاة بعد إيجاب الصلاة لا يكون نسخًا، ولم يختلفوا أيضًا أن إيجاب صلاة سادسة على الصلوات الخمس لا يكون نسخًا. [الكلام على الزيادة المغيرة لحكم شرعي] فالكلام معكم في الزيادة المغيِّرة في ثلاثة مواضع: في المعنى، والاسم، والحكم، أما المعنى فإنها تُفيد معنى [النسخ؛ لأنه الإزالة، والزيادة] (¬6) تُزيل حكم الاعتداد بالمزيد عليه وتُوجب استئنافه بدونها، وتُخرجه عن كونه جميعَ ¬
الواجب، وتجعله بعضَه، وتوجب التأثيم على المُقتصر عليه بعد أن لم يكن آثمًا (¬1)، وهذا معنى النسخ، وعليه [ترتَّب] (¬2) الاسم، فإنه تابعٌ للمعنى؛ فإن الكلام في زيادة شرعية مغيرة للحكم الشرعي بدليلٍ شرعي متراخٍ عن المزيد عليه، فإن اختل وصْفٌ من هذه الأوصاف لم تكن نسخًا، فإن لم تغيّر حكمًا شرعيًا بل رفعت حكم البراءة الأصلية لم تكن نسخًا كإيجاب عبادة بعد أخرى، والزيادة إن كانت مقارِنة (¬3) للمزيد عليه لم تكن نسخًا وإن غيَّرته (¬4)، بل تكون تقييدًا أو تخصيصًا. وأما الحكم فإن كان النصُّ المزيدُ عليه ثابتًا بالكتاب أو السنة المتواترة لم يُقبل خبرُ الواحد بالزيادة عليه، وإن كان ثابتًا بخبر الواحد قُبلت الزيادة، فإن اتفقت الأمة غلى قبول خبر الواحد في القسم الأول علمنا أنه ورد مقارنًا للمزيد عليه فيكون تخصيصًا لا نسخًا، قالوا: وإنما لم نَقبل خبرَ الواحد بالزيادة على النص لأن الزيادة لو كانت موجودةً معه لنقلها إلينا من نقل النص؛ إذ غيرُ جائزٍ أن يكون المراد إثباتَ النص معقودًا بالزيادة فيقتصر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على إبلاع النص منفردًا عنها؛ فواجبٌ إذن أن يذكرها معه، ولو ذكرها لنقلها إلينا مَنْ نقلَ النص. فإن كان النص مذكورًا في القرآن والزيادة واردة من جهة السنة فغيرُ جائزٍ أن يقتصرَ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على تلاوة الحكم المنزل في القرآن دون أن يعقبها بذكر الزيادة؛ لأن حصولَ الفراغِ من النص الذي يمكننا استعماله بنفسه يلزمنا اعتقاد مقتضاه من حكمه، كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فإن كان الحدُّ هو الجلد والتغريب فغير جائز أن يتلو النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الآية على الناس عارية من ذكر النفي عقبها؛ لأن سكوته عن ذكر الزيادة معها يلزمنا اعتقاد موجبها وأن الجلد هو كمال الحد؛ فلو كان معه تغريب لكان بعضَ الحد لا كماله، فإذا أخلى التلاوة من ذكر النفي عقيبها فقد أراد منا اعتقاد أن الجلد المذكور في الآية هو تمامُ الحد وكماله؛ فغير جائزٍ إلحاق الزيادة معه إلا على وجه النسخ، ولهذا كان قوله: "واغْدُ يا أُنيس على امرأةِ هذا فإن اعترفت فارجُمها" (¬5) ناسخًا لحديث ¬
عُبادة بن الصامت: "الثَّيب بالثيب جَلْدُ مئة والرَّجمُ" (¬1) وكذلك لما رَجمَ ماعزًا ولم يجلده (¬2)، كذلك يجب أن يكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ناسخًا لحكم التغريبِ في قوله: "البِكرُ بالبكرِ جلُد مئة وتغريبُ عام" (¬3). والمقصود أن هذه الزيادة لو كانت ثابتة مع النص لذكرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عقيب التلاوة، ولنقلها إلينا من نقل المزيدَ عليه؛ إذ غيرُ جائزٍ عليهم أن يعلموا أن الحدَّ مجموعُ الأمرين وينقلوا (¬4) بعضه دون بعض، وقد سمعوا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يذكر الأمرين، فامتنع حينئذٍ العملُ بالزيادة إلا من الجهة التي ورد منها الأصل، فإذا وردت من جهة الآحاد فإن كانت قبل النصّ فقد نَسَخها النص المطلق عاريًا من ذكرها، وإن كانت بعده فهذا يُوجب نسخ الآية بخبر الواحد وهو ممتنع، فإن كان المزيدُ عليه ثابتًا بخبر الواحد جاز إلحاقُ الزيادة بخبر الواحد على الوجه الذي يجوز نسخه به، فإن كانت واردة مع النص في خطاب واحد لم تكن نسخًا وكانت بيانًا. فالجواب من وجوه: أحدها: إنكم أول من نقض هذا الأصل الذي أصَّلتموه فإنكم قبلتم خبر الوضوء بنبيذ التمر (¬5) وهو زائد على ما في كتاب اللَّه مغيّر لحكمه؛ فإن اللَّه سبحانه جعلَ حُكمَ عادم الماء التَّيممَ، والخبرُ يقتضي أن يكون حكمه الوضوء بالنبيذ؛ فهذه الزيادة بهذا الخبر الذي لا يثبت رافعة لحكمٍ شرعي غير مقارنة ولا مقاومة له بوجه (¬6)، وقبلتم خبرَ الأَمَر بالوتر (¬7) مع رفعه لحكم شرعي، وهو اعتقاد ¬
كون الصلوات الخمس هي جميع الواجب ورفع التأثيم بالاقتصار عليها وإجزاء الإتيان في التَّعبدِ بفريضة الصلاة، والذي قال هذه الزيادة هو الذي قال سائر الأحاديث الزائدة على ما في القرآن، والذي نَقَلَها إلينا هو الذي نقل تلك بعينه أو أوثق منه أو نظيره، والذي فرض علينا طاعة رسوله وقبول قوله في تلك الزيادة هو الذي فرض علينا طاعته وقبول قوله في هذه، والذي قال لنا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] هو الذي شرع لنا هذه الزيادة على لسانه، واللَّه سبحانه وَلَّاه منصبَ التشريع عنه ابتداء، كما ولاه منصب البيان لما أراده بكلامه، [بل كلامه] (¬1) كله بيان عن اللَّه، والزيادة بجميع وجوهها لا تخرج عن البيان بوجهٍ من الوجوه، بل كان السلفُ الصالحُ الطيبُ إذا سمعوا الحديث عنه وجدوا تصديقه في القرآن ولم يقل أحد منهم قط في حديث واحد أبدًا: إن هذا زيادة على القرآن فلا نقبله ولا نسمعه ولا نعمل به، ورسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجلُّ في صدورهم وسنتُه أعظمُ عندهم من ذلك وأكبر. ولا فرق أصلًا بين مجيء السنة بعددِ الطَّوافِ وعدد ركعات الصلاة ومجيئها بفرض الطمأنينة وتعيين الفاتحة والنية؟ فإن الجميعَ بيانٌ لمراد اللَّه أنه أوجب هذه العبادات على عباده على هذا الوجه، فهذا الوجه هو المراد، فجاءت السنة بيانًا للمُراد في جميع وجوهها، حتى في التشريع المبتدأ، فإنها بيان لمراد اللَّه من عموم الأمر بطاعته وطاعة رسوله، فلا فَرْق بين بيان هذا المراد وبين بيان المراد من الصلاة والزكاة والحج والطواف وغيرها، بل هذا بيانُ المراد من شيء وذاك بيانُ المراد من أعمّ منه؛ فالتغريبُ بيانٌ محض للمراد من قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15] وقد صرَّح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن التغريب (¬2) بيان لهذا السبيل المذكور في القرآن، فكيف يجوز رده بأنه مخالفٌ للقرآن معارضٌ له؟ ويقال: لو قبلناه لأبطلنا به حكم القرآن؟ وهل هذا إلا قلبٌ للحقائق؟ فإن حكم القرآن العام والخاص يوجب علينا قبوله فرضًا لا يسعنا مخالفته؛ فلو خَالفْناه لخالفنا القرآن ولخرجنا عن حكمه ولا بد، ولكان في ذلك مخالفة للقرآن والحديث معًا. يوضحه الوجه الثاني: أن اللَّه سبحانه نصب رسوله (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- منصب المُبلِّغ المبين عنه، فكل ما شرعه للأمة فهو بيان منه عن اللَّه أنَّ هذا شرْعه ودينه، ولا ¬
[بيان الرسول على أنواع]
فرق بين ما يبلّغه عنه من كلامه المتلو ومن وحيه الذي هو نظير كلامه في وجوب الاتباع، ومخالفة هذا كمخالفة هذا. يوضحه الوجه الثالث: أن اللَّه سبحانه أمرنا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان، وجاء البيان عن رسوله (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- بمقادير ذلك وصفاته وشروطه؛ فوجب على الأمة قبوله، إذ هو تفصيل لِما أمر اللَّه به، كما يجب عليها (¬2) قبولُ الأصل المفصَّل، وهكذا أَمرَ اللَّه سبحانه بطاعته وطاعة رسوله؛ فإذا أمر الرسول بأمرٍ كان تفصيلًا وبيانًا للطاعة المأمور بها، وكان فَرْضُ قبوله كفرض قبول الأصل المفصل، ولا فرق بينهما. [بيان الرسول على أنواع] يوضحه الوجه الرابع: أن البيان من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقسام (¬3): أحدها: بيانُ نفس الوحي بظهوره على لسانه بعد أَنْ كان خفيًا. الثاني: بيان معناه وتفسيره لمن احتاج إلى ذلك كما بيَّن أن الظلم المذكور في قوله: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] هو الشركُ (¬4)، وأَنَّ الحسابَ اليسير هو العَرضُ (¬5)، وأن الخيط الأبيض والأسود هما بياضُ النَّهار وسواد الليل (¬6)، وأن الذي رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى هو جبريل (¬7)، كما فَسَّر ¬
قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] أنَّه طلوعُ الشمس من مغربها (¬1) وكما فسر قوله: {مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} [إبراهيم: 24] بأنها النَّخلة (¬2)، ¬
وكما فسَّر قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] أنَّ ذلك في القبر حين يُسأل مَنْ ربك وما دينك (¬1)، وكما فسَّر الرعد بأنه ملك من الملائكة موكَّل بالسحاب (¬2)، وكما فسَّر اتخاذ أهل ¬
الكتاب أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون اللَّه بأنَّ (¬1) ذلك باستحلال (¬2) ما أحلوه لهم من الحَرَام وتحريم ما حَرَّموه [عليهم] (¬3) من الحَلَال (¬4)، وكما فسر القوة التي أمر اللَّه أن نعدها لأعدائه بالرّمي (¬5)، وكما فسر قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] بأنه ما يُجزى به العَبدُ في الدنيا من الهَمِّ والنَّصبِ والخوف واللأواء (¬6)، وكما فسر الزيادة بأنها النَّظر إلى وجهِ اللَّه الكريم (¬7)، وكما فسَّر الدعاء في قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] بأنه العبادة (¬8)، ¬
وكما فسر إدبار النجوم بأنه الركعتان قبل الفجر، وأدبار السجود بالركعتين بعد المغرب (¬1)، ونظائر ذلك. الثالث: بيانه بالفعل (¬2) كما بيَّن أوقات الصلاة للسائل بفعله (¬3). الرابع: بيان ما سُئل عنه من الأحكام التي ليست في القرآن فينزل (¬4) القرآن ببيانها، كما سئل عن قَذْف الزوجة (¬5) فجاء القرآن باللِّعان ونظائره. الخامس: بيان ما سئل عنه بالوحي وإن لم يكن قرآنًا، كما سئل عن رجل أحرم في جُبِّة بعدما تضمّخ بالخَلُوق، فجاء الوحي بأن ينزع عنه الجبَّة ¬
ويغسل أثر الخلوق (¬1). السادس: بيانه للأحكام بالسنة ابتداءً من غير سؤال، كما حرَّم عليهم لحومُ الحمر (¬2)، والمُتعة (¬3)، وصَيْدَ المدينة (¬4)، ونكاح المرأة على عَمّتها وخالتها (¬5)، وأمثال ذلك. السابع: بيانُه للأمّة جواز الشيء بفعله هو له وعدم نهيهم عن التأسِّي به. الثامن: بيانه جواز الشيء بإقراره لهم على فعله وهو يشاهده (¬6) أو يعْلمهم يفعلونه. التاسع: بيانه إباحة الشيء عفوًا بالسكوت عن تحريمه وإن لم يأذن فيه نطقًا. العاشر: أن يحكَم القرآنُ بإيجاب شيء أو تحريمه أو إباحته، ويكون لذلك الحكم شروط وموانع وقيود وأوقات مخصوصة وأحوال وأوصاف، فيحيل الربُّ ¬
سبحانه وتعالى على رسوله في بيانها كقوله [تعالى] (¬1): {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] فالحِلُّ موقوفٌ على شروط النكاح وانتفاء موانعه (¬2) وحضور وقته وأهليَّةِ المحل، فإذا جاءت السنة ببيان ذلك كُلِّه لم يكن شيء (¬3) منه زائدًا على النص فيكون نسخًا له، وإن كان رفعًا لظاهر إطلاقه. فهكذا كل حكم منه -صلى اللَّه عليه وسلم- زائد على القرآن، هذا سبيلُه سواءٌ بسواء، وقد قال تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] ثم جاءت السنة بأنَّ القاتلَ والكافرَ والرقيقَ لا يرث (¬4)، ولم يكن نسخًا للقرآن مع أنه زائد عليه قطعًا، أعني في مُوجبات الميراث؛ فإن القرآن أوجبه بالولادةِ وحْدَها، فزادت السنة مع وصف الولادة اتحاد الدَّين وعدم الرق والقتل، فهلَّا قلتم: إن هذه زيادة على النص فيكون نسخًا والقرآن لا يُنسخ بالسنة؟ كما قلتم ذلك في كل موضع تركتم فيه الحديث لأنه زائد على القرآن. ¬
[المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن]
الوجه الخامس: أنَّ تسميتَكم للزيادة المذكورة نسخًا لا توجب [بل لا] (¬1) تجوز مخالفتها، فإن تسمية ذلك نسخًا اصطلاحٌ منكم، والأسماءُ المتواضع عليها التابعة للاصطلاح لا توجب رفع أحكام النصوص، فأَين سَمَّى اللَّه ورسوله ذلك نسخًا؟ وأين قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا جاءكم حديثي زائدًا على ما في كتاب اللَّه فردُّوه ولا تقبلوه فإنه يكون نسخًا لكتاب اللَّه؟ وأين قال اللَّه: إذا قال رسولي قولًا زائدًا على القرآن فلا تقبلوه ولا تعملوا به وردّوه؟ وكيف يسوغ ردُّ سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقواعد قعَّدتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان؟!! [المراد بالنسخ في السنة الزائدة على القرآن] الوجه السادس: أن يقال ما تَعْنُون بالنسخ الذي تضمَّنته الزيادة بزعمكم؟ أتعنون أن حكمَ المزيد عليه من الإيجاب والتَّحريم والإباحة بطل بالكلية، أم تعنون به تغيُّر وصفه بزيادة شيء عليه من شَرْط أو قيدٍ أو حالٍ أو مانع أو ما هو أعم من ذلك؟ فإن عنيتم الأول فلا ريب أن الزيادة لا تتضمن ذلك (¬2) فلا تكون ناسخة، وإن عنيتم الثاني فهو حق، ولكن لا يلزم منها بطلان حكم المزيد عليه ولا رفعه ولا مُعارضته، بل غايتها مع المزيدِ عليه كالشروط والموانع والقيود والمخصِّصات، وشيء من ذلك لا يكون نسخًا يوجب إبطال الأول ورفعه رأسًا، وإن كان نسخًا بالمعنى العام الذي يسميه السلف نسخًا وهو رفع الظاهر بتخصيصٍ أو تقييدٍ أو شرطٍ أو مانع؛ فهذا كثير من السلف يُسمّيه نسخًا (¬3)؛ حتى سَمَّى الاستثناء نسخًا، فإن أردتم هذا المعنى فلا مُشاحة (¬4) في الاسم، ولكن ذلك لا يسوغ رد السنن (¬5) الناسخة للقرآن بهذا المعنى، ولا يُنكر أحدٌ نسخ القرآن بالسنة ¬
بهذا المعنى بل هو متفقٌ عليه بين الناس، وإنما تنازعوا في جواز نسخه بالسنة النَّسخُ الخاص الذي هو رفع أصل الحكم وجملته بحيث يبقى بمنزلة ما لم يُشرع ألبتَّة (¬1)، وإن أردتم بالنسخ ما هو أعم من القسمين -وهو رفع الحكم بجملته تارة وتقييد مطلقه وتخصيص عامّه وزيادة شرط أو مانع تارة- كنتم قد أدرجتم في كلامكم قِسْمين: مقبولًا ومردودًا كما تبيَّن؛ فليس الشأن في الألفاظ فسمّوا الزيادة ما شئتم، فإبطال السنن بهذا الاسم مما لا سبيلَ إليه. يوضحه الوجه السابع: أن الزيادة لو كانت ناسخة لما جاز (¬2) اقترانها بالمزيد؛ لأن الناسخ لا يُقارن المنسوخ، وقد جوَّزتم اقترانها به، وقلتم: تكون بيانًا أو تخصيصًا، فهلَّا كان حكمها مع التأخُّر كذلك، والبيان لا يجب اقترانُه بالمبين، بل يجوز تأخيره إلى وقت حضور العمل، وما ذكرتموه من إيهام اعتقادِ خلافِ الحق فهو مُنتَقضٌ بجواز بل وجوب تأخير الناسخ وعدم الإشعار بأنه سينسخه، ولا محذور في اعتقاد موجب النص ما لم يأت ما يرفعه أو يرفع ظاهره؛ فحينئذ يعتقد موجبه كذلك، فكان كل من الاعتقادين في وقته هو المأمور به إذ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. يوضحه الوجه الثامن: أن المكلف إنما يعتقده على إطلاقه وعمومه مقيدًا بعدم ورود [ما يرفع ظاهره، كما يعتقد المنسوخ مؤبدًا اعتقادًا مقيدًا بعدم ورود] (¬3) ما يبطله، وهذا هو الواجب عليه الذي لا يمكنه سواه. الوجه التاسع: أن إيجاب الشرط الملحق بالعبادة بعدها لا يكون نسخًا وإن تضمَّن رفع الأجزاء بدونه، كما صرَّح بذلك بعض أصحابكم (¬4) وهو الحق؛ فكذلك إيجاب كل زيادة، بل أولى أن لا تكون نسخًا؛ فإن إيجاب الشرط يرفع ¬
[تخصيص القرآن بالسنة جائز]
إجزاء المشروط عن نفسه وعن غيره، وإيجاب الزيادة إنما يرفع إجزاء المزيد عن نفسه خاصة. الوجه العاشر: أن الناس متفقون على أن إيجاب عبادة مستقلة بعد الثانية لا يكون نسخًا، وذلك أن الأحكام لم تُشرع جملةً واحدة، وإنما شرعها أحكم الحاكمين شيئًا بعد شيء، وكل منها زائد على ما قبله، وكان ما قبله جميع الواجب، والإثم محطوط عمَّن اقتصر عليه، وبالزيادة تغير هذان الحكمان؛ فلم يَبْقَ الأولُ جميعَ الواجب، ولم يحط الإثم عمن اقتصر عليه، ومع ذلك فليس الزائد ناسخًا للمزيد عليه؛ إذ حكمُه من الوجوب [وغيره] (¬1) باقٍ؛ فهكذا (¬2) الزيادة المتعلِّقة بالمزيد لا تكون نسخًا له (¬3)، حيث لم تَرفعْ حكمه، بل هو باقٍ على حكمه وقد ضم إليه غيره. يوضحه الوجه الحادي عشر: أن الزيادة وإنْ (¬4) رفعت حكمًا خطابيًا كانت نسخًا، وزيادة التغريب وشروط الحكم وموانعه (¬5) لا ترفع حكمَ الخِطاب، وإن رفع حكم الاستصحاب. يوضحه الوجه الثاني عشر: أن ما ذكروه من كون الأول جميع الواجب وكونه مُجْزئًا وحده وكون الإثم محطوطًا عن المقتصر عليه (¬6) إنما هو من أحكام البراءة الأصلية؛ فهو حكم استصحابي لم نستفده من لفظ الأمر الأول، ولا أُريد به؛ فإنَّ معنى كون العبادة مُجزئة أن الذمة بريئة بعد الإتيان بها، وحط الذم عن فاعلها معناه أنه قد خرج من عُهدة الأمر فلا يلحقه ذم، والزيادة وإن رفعت هذه الأحكام لم ترفع حكمًا دلَّ عليه لفظ المزيد. [تخصيص القرآن بالسنة جائز] يوضحه الوجه الثالث عشر: أن تخصيص القرآن بالسنة جائز؛ كما أجمعت ¬
[الزيادة لا توجب نسخا]
الأمة على تخصيص قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها" (¬1) وعموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يرث المسلمُ الكافر" (¬2) وعموم قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا قطع في ثَمرٍ ولا كَثَر" (¬3) ونظائر ذلك كثيرة؛ فإذا جاز التخصيص -وهو رفع بعض ما تناوله اللفظ؛ وهو نقصانٌ من معناه- فلأن تجوز الزيادة التي لا تتضمن رفع شيء من مدلوله ولا نقصانه بطريق الأوْلى والأحْرى. [الزيادة لا توجب نسخًا] الوجه الرابع عشر: أن الزيادة لا توجب رفع المزيد لغة ولا شرعًا ولا عرفًا ولا عقلًا، ولا تقول العقلاء لمن ازداد خيره أو ماله أو جاهه أو علمه أو ولده: إنه قد ارتفع شيء مما في الكيس، بل تقول في: الوجه الخامس عشر: إن الزيادة قرَّرت حكم المزيد وزادته بيانًا وتأكيدًا؛ فهي كزيادة العلم والهدى والإيمان، قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقال: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، وقال: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13]، وقال: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم: 76] فكذلك زيادة الواجب على الواجب إنما تزيده قوةً وتأكيدًا وثبوتًا، فإن كانت متصلة به اتِّصال الجزاء والشرط كان ذلك أقوى له وأثبت وآكد، ولا ريبَ أن هذا ¬
أقرب إلى المعقولِ والمنقولِ والفطرةِ من جعل الزيادة مُبْطِلة للمزيد عليه ناسخة له. الوجه السادس عشر: أن الزيادة لم تتضمن النَّهي عن المزيد ولا المنع منه، وذلك حقيقةُ النسخ، وإذا انتفت حقيقةُ النسخ استحال ثبوته. الوجه السابع عشر: أنه لا بد في النَّسخ من تنافي الناسخ والمنسوخ، وامتناع اجتماعهما، والزيادة غير منافيةٍ للمزيد عليه ولا اجتماعهما ممتنعٌ. الوجه الثامن عشر: أن الزيادة لو كانت نسخًا لكانت إما نسخًا (¬1) بانفرادها عن المزيد أو بانضمامها إليه، والقِسمان مُحال؛ فلا يكون نسخًا؛ أمَّا الأول فظاهر لأنها لا حكم لها بمفردها ألبتَّة؛ فإنها تابعة للمزيد في حكمه (¬2)، وأما الثاني فكذلك أيضًا؛ لأنها إذا كانت ناسخةً بانضمامها إلى المزيد كان الشيء ناسخًا لنفسه ومبطلًا لحقيقته، وهذا غير معقول، وأجاب بعضهم عن هذا بأن النسخ يقع على حكم الفعل دون نفسه وصورته، وهذا الجواب لا يُجدي عليهم شيئًا، والإلزام قائم بعينه؛ فإنه يُوجب أن يكون المزيد عليه قد نَسَخ حُكَم نفسه وجعل نفسه إذا انفرد عن الزيادة غير مجزئ بعد أن كان مجزئًا. الوجه التاسع عشر: أن النُّقصانَ من العبادة لا يكون نسخًا لما بقي منها فكذلك الزيادة عليها لا تكونُ نسخًا لها، بل أولى؛ لما تقدم. الوجه العشرون: أن نسخَ الزيادة للمزيد عليه؛ إما أن يكون نسخًا لوجوبه أو لإجْزائِه، أو لعدمِ وجوب غيره، أو لأمرٍ رابعٍ، وهذا كزيادة التغريب مثلًا على المئة جلدة، لا يجوز أن تكون ناسخة لوجوبها فإن الوجوب بحاله، ولا لإجزائها لأنها مجزئة عن نفسها، ولا لعدمِ وجوب الزائد لأنه رفع لحكم عقلي، وهو البراءة الأصلية؛ فلو كان رفعها نسخًا كان كُلَّما أوجب اللَّه شيئًا بعد الشهادتين قد نُسخ به ما قبله، والأمر الرابع غير متصور ولا معقول فلا يُحكم عليه. فإن قيل: بل هاهنا أمر رابع معقول، وهو الاقتصار على الأول؛ فإنه نسخ بالزيادة، وهذا غير الأقسام الثلاثة. فالجواب أنه لا معنى للاقتصار [على] (¬3) غير عدم وجوب غيره، وكونه ¬
جميع الواجب، وهذا هو القسم الثالث بعينه غيَّرتم التعبير عنه وكسوتموه عبارة أخرى. الوجه الحادي والعشرون: أن الناسخ والمنسوخ لا بد أن يتواردا على مَحلٍّ واحد يقتضي المنسوخ ثبوته والناسخ رفعه، أو بالعكس، وهذا غير متحقق في الزيادة على النص. الوجه الثاني والعشرون: أن كُلَّ واحد من الزائد والمزيد عليه دليلٌ قائمٌ بنفسه مستقل بإفادة حكمه، وقد أمكن العملُ بالدليلين؛ فلا يجوز إلغاء أحدهما وإبطاله وإلقاء الحرب بينه وبين شقيقه وصاحبه؛ فإنَّ كل ما جاء (من عند) (¬1) اللَّه فهو حق يجب اتباعه والعمل به، ولا يجوز إلغاؤه وإبطاله إلا حيث أبطله اللَّه ورسولُه بنصٍ آخر ناسخ له لا يمكن الجمعُ بينه وبين المنسوخ، وهذا بحمدِ اللَّه منتفٍ في مسألتنا؛ فإن العمل بالدليلين ممكن، ولا تعارض بينهما ولا تناقض بوجه؛ فلا يسوغ لنا إلغاءُ ما اعتبره اللَّه ورسوله، كما لا يسوغ لنا اعتبار ما ألغاه، وباللَّه التوفيق. الوجه الثالث والعشرون: أنه إن كان القضاءُ بالشاهد واليمين ناسخًا للقرآن وإثباتُ التغريب ناسخ للقرآن فالوضوء بالنبيذ أيضًا ناسخٌ للقرآن، ولا فرق بينهما ألبتَّة، بل القضاءُ بالنُّكول (¬2) ومعاقد القُمُط يكون ناسخًا للقرآن، وحينئذ فنسخ كتاب اللَّه بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا مَطْعن فيها أولى من نسخه بالرأي والقياس والحديث الذي لا يثبت (¬3)، وإن لم يكن نسخًا (¬4) للقرآن لم يكن هذا نسخًا له، وأما أن يكون هذا نسخًا وذاك ليس بنسخ فتحكُّم باطل وتفريقٌ بين المتماثلين (¬5). الوجه الرابع والعشرون: أن ما خالفتموه من الأحاديث التي زعمتم أنها زيادة على نص القرآن إن كانت تستلزم نسخه فقطعُ رِجْل السارق في المرة الثانية (¬6) نسخ لأنه زيادة على القرآن، وإن لم يكن هذا نسخًا فليس ذلك نسخًا. ¬
الوجه الخامس والعشرون: أنكم قلتم: لا يكون المهرُ أقل من عشرة دراهم (¬1)، وذلك زيادة على [ما في] (¬2) القرآن؛ فإنَّ اللَّه سبحانه أباح [اسْتحِلال] (2) البُضْع بكل ما يُسمَّى مالًا، وذلك يتناولُ القليل والكثير (¬3)، فزدتم على القرآن بقياسٍ في غايةِ الضَّعْف، وبخبرٍ في غاية البطلان؛ فإن جاز نسخ القرآن بذلك فلِمَ لا يجوز نسخه بالسنة الصحيحة الصريحة؟ وإن كان هذا ليس بنسخ لم يكن الآخر نسخًا. الوجه السادس والعشرون: أنَّكم أوجبتم الطهارة للطواف بقوله: "الطَّوافُ بالبيت صلاةٌ" (¬4)، وذلك زيادة على القرآن؛ فإن اللَّه إنما أمر بالطواف ولم يأمر ¬
بالطهارة، فكيف لم تجعلوا ذلك نسخًا للقرآن وجعلتم القضاء بالشاهد واليمين والتغريب في حَدِّ الزنا نسخًا للقرآن؟ الوجه السابع والعشرون: إنَّكم مع الناس أوجبتم الاستبراء في جواز وطء المسبية بحديث ورد (1) زائدٌ على كتاب اللَّه، ولم تجعلوا ذلك نسخًا له، وهو الصواب بلا شك، فهلَّا فعلتم ذلك في سائر الأحاديث الزائدة على القرآن. الوجه الثامن والعشرون: إنكم وافقتم على تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبينها وبين خالتها بخبر الواحد (¬1)، وهو زائدٌ على كتاب اللَّه تعالى قطعًا (¬2)، ولم يكن ذلك نسخًا، فهلا فعلتم ذلك في خبر القضاء بالشاهد واليمين (1) والتغريب (1) ولم تعدُّوه نسخًا؟ وكل ما تقولونه في محل الوفاق يقوله لكم منازعوكم في محل النزاع حرفًا بحرف. الوجه التاسع والعشرون: إنكم قلتم: لا يفطر المسافر ولا يقصر في أقل من ثلاثة أيام واللَّه تعالى قال: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]، وهذا يتناول الثلاثة وما دونها (¬3)، فأخذتم بقياس ضعيف أو أثرٍ لا يثبت في التحديد بالثلاث، وهو زيادة على القرآن، ولم تجعلوا ذلك نسخًا، فكذلك الباقي. الوجه الثلاثون: أنكم منعتم قَطْع من سَرقَ ما يُسرع إليه الفساد من الأموال ¬
مع أنه سارق حقيقةً ولغةً وشرعًا؛ لقوله: "لا قَطْع في ثَمَر ولا كَثَر" (¬1)، ولم تجعلوا ذلك نسخًا للقرآن، وهو زائد عليه. الوجه الحادي والثلاثون: إنكم رددتم السنن الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المسح على العَمَامة (¬2)، وقلتم: إنها زائدة على نص الكتاب فتكون ناسخة له فلا تُقبل (¬3)، ثم ناقضتم فأخذتم بأحاديث المسح على الخُفَّين (¬4) وهي زائدة على القرآن، ولا فَرْق بينهما، واعتذرتم بالفرق بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة بخلاف المسح على العمامة، وهو اعتذارٌ فاسد، فإن مَنْ له اطلاع على الحديث لا يشك في شهرة كُلٍّ منهما وتعدد طرقهما (¬5) واختلاف مخارجها وثبوتها عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قولًا وفعلًا. الوجه الثاني والثلاثون: إنكم قبلتم شهادة المرأة الواحدة على الرَّضاع والولادة وعُيوب النِّساء (¬6)، مع أنه زائد على ما في القرآن، ولا يصح الحديثُ به صِحَّته بالشاهد واليمين، ورددتم (¬7) هذا ونحوه بأنه زائد على القرآن. ¬
الوجه الثالث والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أنه لا يحرم أقل من خَمْس رَضْعات، ولا تُحرِّم الرَّضعة والرَّضعتان (¬1)، وقلتم: هي زائدة على القرآن، ثم أخذتم بخبرٍ لا يصح بوجه ما، في أنه لا قطع في أقل من عشرة دراهم أو ما يساويها (2)، ولم تَرَوه زيادة على القرآن، وقلتم: هذا بيان للفظ السارق؛ فإنه مجملٌ والرسول بيَّنه بقوله: "لا تقطع اليد في أقل من عشرة دراهم" (¬2)، فياللَّه العجب! كيف كان هذا بيانًا ولم يكن حديث التحريم بخمس ¬
رضعات بيانًا لمُجملِ قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] ولا تأتون بعذر في آية القطع إلا كان مثله أو أولى منه في آية الرضاع سواءً بسواء. الوجه الرابع والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمسح على الجَوْربين (¬1). وقلتم: هي زائدة على القرآن (¬2)، وجَوَّزتم الوضوء بالخَمْر المحرَّمة من نبيذ التمر المسكر بخبر لا يثبت (¬3)، وهو خلاف القرآن. ¬
الوجه الخامس والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصوم عن المَيْت (¬1) والحجِّ عنه (¬2)، وقلتم: هو زائد على قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] ثم جَوَّزتم أن تُعمل أعمال الحج كلها عن المُغمى عليه، ولم تروه زائدًا على قوله: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وأخذتم بالسنة الصحيحة وأصبتم في حَمْل العاقلة الدية عن القاتل خطأ (¬3) ولم تقولوا هو زائد على قوله: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (¬4) [الأنعام: 164] {وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] واعتذاركُم بأنَّ الإجماع ألجأكم إلى ذلك لا يفيد؛ لأن عثمان البتّي -وهو من فقهاء التابعين- يَرى أن الدية على القاتل (¬5)، وليس على العاقلة منها شيء، ثم هذا حجة عليكم أن تُجمع الأمة على الأخذ بالخبر وإن كان زائدًا على القرآن. ¬
الوجه السادس والثلاثون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في اشتراط المحرم أن يَحلَّ حيث حُبس (¬1) وقلتم: هو زائد على القرآن، فإن اللَّه أمر بإتمام الحج والعمرة، والإحلالُ خلاف الإتمام، ثم أخذتم وأصبتم بحديث تحريم لَبنِ الفَحْل (¬2)، وهو زائد على ما في القرآن قطعًا. الوجه السابع (¬3) والثلاثون: ردُّكم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالوضوء من مَسِّ الفرج (¬4)، وأكل لحوم الإبل (¬5) وقلتم: ذلك زيادة على القرآن؛ لأن اللَّه تعالى، إنما ذَكَرَ الغَائط، ثم أخذتم بحديث ضعيف في إيجاب الوضوء من القهقهة (¬6)، وخبرٍ ضعيف في إيجابه من القيء (¬7)، ولم يكن إذا ذاك زائدًا على [ما ¬
في] (¬1) القرآن إذ هو قول متبعوكم؛ فمن العجب إذا قال من قلَّدتموه قولًا زائدًا على ما في القرآن قَبلتموه وقُلتم: ما قاله إلا بدليل، وسهل عليكم مخالفة ظاهر القرآن حينئذ، وإذا قال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قولًا زائدًا على ما في القرآن قلتم: هذا زيادةٌ على النص، وهو نسخ، والقرآن لا يُنسخ بالسنة، فلم تأخذوا به، واستصعبتم خلافَ ظاهرِ القرآن، فهان خلافه إذا وَافَقَ قولَ من قلَّدتموه، وصعب خلافه إذا وافق قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ¬
الوجه الثامن والثلاثون: إنكم أخذتم بخبر ضعيفٍ لا يثبت في إيجاب المضمضة والاستنشاق في الغسل من الجنابة (¬1)، ولم تروه زائدًا على القرآن، ورددتم السنة الصحيحة الصريحة في أمر المتوضئ بالاستنشاق (¬2)، وقلتم: هو زائد على القرآن، فهاتوا لنا الفَرْق بين ما يقبل من السنن الصحيحة، وما يرد منها فإمَّا أن تقبلوها كلها، وإن زادت على القرآن وإما أن تردوها كلها إذا كانت زائدة على القرآن وأما التحكّم في قبول ما شئتم منها ورد ما شئتم، [مما لم] (¬3) يأذن به اللَّه ولا رسوله، ونحن نشهد اللَّه شهادة يسألنا عنها يوم نلقاه أنا لا نردُّ ¬
لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة واحدة صحيحة أبدًا إلا بسنة صحيحة مثلها نعلم أنها ناسخة لها. الوجه التاسع والثلاثون: إنكم رددتم السنة الصحيحة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في القَسْم للبكر سبعًا يُفضّلها بها على مَنْ عنده من النساء وللثيّب ثلاثًا إذا أَعرس بهما (¬1) وقلتم: هذا زائد على العَدْل المأمور به في القرآن ومخالف له، فلو قبلناه كنا قد نسخنا به القرآن (¬2)، ثم أخذتم بقياس فاسد واهٍ لا يصح في جواز نكاح الأمة لواجد الطَّوْل غير خائف العَنَت إذا لم تكن تحته حُرَّة، وهو خلاف ظاهر القرآن وزائد عليه قطعًا. الوجه الأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإسقاط نَفقةِ المبتوتة وسُكناها (¬3)، وقلتم: هو مخالف للقرآن، فلو قبلناه كان نسخًا للقرآن به، ثم أخذتم بخبر ضعيفٍ لا يصح "أن عِدَّة الأمة قرءان وطلاقها طلقتان" (¬4) مع كونه زائدًا على ما في القرآن قطعًا. ¬
الوجه الحادي والأربعون: ردكم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في تخيير ولي الدم [بين] (¬1) الدية أو القود أو العفو (¬2). . . . . ¬
بقولكم: "إنها زائدة (¬1) على ما في القرآن، ثم أخذتم بقياسٍ من أفسد القياس"، إنه لو ضربه بأعظم دَبّوس يوجد حتى يَنْثَر دماغه على الأرض فلا قَوَد عليه، ولم تَرَوْا دْلك مخالفًا لظاهر القرآن، واللَّه تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، ويقول: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]. الوجه الثاني والأربعون: إنكم رددتم السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬2)، وقوله: "المؤمنون (¬3) تتكافأ دماؤُهم" (¬4)، وقلتم: هذا ¬
خلاف ظاهر القرآن؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وأخذتم بخبر لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه: "لا قَوَد إلا بالسَّيف" (¬1)، وهو (¬2) مخالف لظاهر القرآن؛ فإنه سبحانه قال: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40]، وقال: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} (¬3) [البقرة: 194]. الوجه الثالث والأربعون: إنكم أخذتم بخبر لا يصح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أنه: "لا جمعة إلا في مِصْرٍ جامع" (¬4)، وهو مخالف لظاهر القرآن قطعًا وزائد عليه، ورددتم الخبر الصحيح الذي لا شك في صحته عند أحدٍ من أهل العلم في أن كل بيَّعين فلا بيَع بينهما حتى يتفرقا (¬5)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في وجوب الوفاء بالعقد. الوجه الرابع والأربعون: إنكم أخذتم بخبر ضعيف: "لا تُقطع الأيدي في الغَزْو" (¬6)، وهو زائد على القرآن، وعدّيتموه إلى سقوط الحدود على مَنْ فَعَل أسبابها في دار الحرب، وتركتم الخبر الصحيح الذي لا ريبَ في صحته في المُصرَّاة (¬7)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن من عدة أوجه. ¬
الوجه الخامس والأربعون: إنكم أخذتم بخبر ضعيفٍ -بل باطل- في أنه لا يُؤكل الطافي من السَّمك (¬1)، وهو خلاف ظاهر القرآن؛ إذ يقول تعالى: {أُحِلَّ ¬
لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] فصيدُه ما صِيدَ منه حيًا، وطعامُه قال أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: هو ما مات فيه، صح ذلك عن الصِّدِّيق (¬1)، وابن عَبَّاس (¬2) وغيرهما، ثم تركتم الخبر الصحيح المصرح بأن مَيْتته حلال (¬3) مع موافقته لظاهر القرآن. ¬
الوجه السادس والأربعون: إنكم أَخذتم وأصبتم بحديث تحريم كل ذي ناب من السِّباع ومَخْلب من الطَّير (¬1)، وهو زائد على ما في القرآن، ولم تروه ناسخًا، ثم تركتم حديث حل لحوم الخَيْل الصحيح الصريح (¬2)، وقلتم: هو مخالف لما في القرآن (¬3) زائد عليه، وليس كذلك. الوجه السابع والأربعون: إنكم أخذتم بحديث المنع من توريث القاتل (¬4) مع أنه زائد على القرآن، وحديث عدم القَوَد على قاتل وَلَده (¬5)، وهو زائد على ما في القرآن، مع أن الحديثين ليسا في الصحة بذاك، وتركتم الأخذ بحديث إعتاق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لصفية وجَعَل عِتْقَها صدَاقَها (¬6) فصارت بذلك زوجة، وقلتم: هذا خلاف ظاهر القرآن، والحديثُ في غاية الصحة. الوجه الثامن والأربعون: إنكم أخذتم بالحديث الضعيف الزائد على ما في ¬
القرآن، وهو: "كلُّ طلاقٍ جائز إلا طلاق المعتوه" (¬1)، فقلتم (¬2): هذا يدل على وقوع طلاق المكره والسَّكران، وتركتم السنةَ الصحيحة التي لا ريبَ في صحتها فيمن وَجَد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقُّ به (¬3)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن بقوله: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] والعجب أن ظاهر القرآن مع الحديث متوافقان متطابقان؛ فإنَّ منعَ البائع من الوصول إلى الثمن وإلى عَيْن ماله إطعام له (¬4) بالباطل الغرماء؛ فخالفتم ظاهر القرآن مع السنة الصحيحة الصريحة. الوجه التاسع والأربعون: إنكم أخذتم بالحديث الضعيف، وهو: "مَنْ كان له إمامٌ فقراءة الإمام له قراءة" (¬5)، ولم تقولوا هو زائد على القرآن في قوله: {وَأَنْ ¬
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وتركتم الحديث الصحيح في بقاء الإحرام بعد الموت وأنه لا ينقطعُ به (¬1)، وقلتم: هو خلاف ظاهر القرآن في قوله: {هَلْ (¬2) تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90]، وخلاف ظاهر قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا مات ابنُ آدم انقطعَ عنه عملُه إلا من ثلاث" (¬3). الوجه الخمسون: رد السنة الثابتة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في وجوب الموالاة، حيث أمر الذي ترك لمعة (¬4) من قدمه بأن يعيد الوضوء والصلاة (¬5)، وقالوا: هو ¬
زائد على كتاب اللَّه (¬1)، ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على كتاب اللَّه في أنَّ: "أقل الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة" (¬2). ¬
الوجه الحادي والخمسون: رد الحديث الثابت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أنه: "لا نِكاحَ إلا بوليّ" (¬1)،. . . . . . ¬
وأنَّ مَنْ أنكحت نفسها فنكاحها باطل (¬1)، وقالوا: هو زائد على كتاب اللَّه؛ فإن اللَّه تعالى يقول: {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232]، وقال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 234] ثم أخذوا بالحديث الضعيف الزائد على القرآن قطعًا في اشتراط الشَّهادة في صحة النكاح. والعجب أنهم استدلوا على ذلك بقوله: "لا نكاح إلا بولي مُرْشد وشَاهِدي عدل" (¬2)، ثم قالوا: لا يفتقر إلى حضور الولي ولا عدالة الشاهدين. ¬
فهذا طرف من بيان تناقض من رد السنن بكونها زائدة على القرآن فتكون ناسخة فلا تقبل. الوجه الثاني والخمسون: إنكم تجوزون الزيادة على القرآن بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون للأمة فيه قولان: أحدهما: أنه باطلٌ مُنافٍ للدّين، والثاني: أنه صحيح مُؤخَّر عن الكتاب والسنة؛ فهو في المرتبة الأخيرة، ولا تختلفون في جواز إثبات حكم زائد على القرآن به، فهلَّا قلتم: إن ذلك يتضمن نسخ الكتاب بالقياس. فإن قيل: قد دل القرآن على صحة القياس واعتباره وإثبات الأحكام به، فما خرجنا عن مُوجب القرآن، ولا زدنا على ما في القرآن إلا بما دَلَّنا عليه القرآن. قيل: فهلَّا قلتم مثل هذا سواء في السُّنة الزائدة على القرآن، وكان قولكم ذلك في السنة أسعد وأصلح من القياس الذي هو محل آراء المجتهدين وعرضة للخطأ، بخلاف [قول] (¬1) من ضُمنت لنا العصمة في أقواله، وفَرضَ اللَّه علينا اتّباعه وطاعته. فإن قيل: القياس بيانٌ لمراد اللَّه ورسوله من النصوص، وأنه أريد به (¬2) إثباتُ الحُكم في المذكور في نظيره، وليس ذلك زائدًا على القرآن، بل تفسيرٌ له وتبيين (¬3). قيل: فهلَّا قلتم: إن السُّنة بيانٌ لمراد اللَّه من القرآن، تفصيلًا لما أجمله، وتبيينًا لما سَكتَ عنه، وتفسيرًا لما أبهمه، فإن اللَّه سبحانه أمر بالعدل والإحسان ¬
والبر والتقوى، ونهى عن الظُلم والفَواحِش والعدوان والإثم، وأباح لنا الطيِّبات، وحَرَّم علينا الخبائث؛ فكل ما جاءت به السنة فإنها (¬1) تفصيلٌ لهذا المأمور به والمنهي عنه، والذي أُحلّ لنا و [الذي] (¬2) حُرِّم علينا (¬3). وهذا يتبين بالمثال التاسع عشر: وهو أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر في حديث النُّعمان بن بَشير أن نَعْدل بين الأولاد في العطيّة فقال: "اتقوا اللَّه واعْدِلوا بين أوْلَادِكم" (¬4). وفي الحديث: "إني لا أَشهدُ على جَوْر" (¬5)، فسمَّاه جورًا، وقال: "إن هذا لا يصلُح" (¬6)، وقال: "شْهِد على هذا غَيْري" (¬7) تهديدًا له وإلّا فمن الذي يطيب قلبه من المسلمين أن يَشْهَد على ما حكم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه جور، وأنه لا يصلح وأنه خلاف (¬8) تقوى اللَّه وأنه خلاف العدل؟ وهذا الحديث من تفاصيل العدل الذي أمر اللَّه به في كتابه، وقامت به السمواتُ والأرضُ، وأسّست (¬9) عليه الشريعة؛ فهو أشدُّ موافقة للقرآن من كل قياس على وجه الأرض، وهو محكم الدلالة غاية الإحكام، فردّ بالمتشابه من قوله: "كلُّ أحدٍ أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين" (¬10)، فكونه أحقّ به يقتضي جواز تصرُّفه فيه كما يشاء وبقياسٍ متشابه على إعطاء الأجانب، ومن المعلوم بالضرورة أنَّ هذا المتشابه من العموم والقياس لا يُقاوم هذا المحكم المبيَّن غاية البيان. ¬
[رد حكم المصراة بالمتشابه من القياس]
[رد حكم المُصرَّاة بالمتشابه من القياس] المثال العشرون: رد المحكم الصحيح الصريح في مسألة المصرّاة (¬1) بالمتشابه من القياس، وزعمهم أن هذا الحديث يُخالف الأصول فلا يُقبل؛ فيقال: الأصولُ كتابُ اللَّه وسنةُ رسوله وإجماعُ أمّته والقياس الصحيح الموافق للكتاب والسنّة؛ فالحديثُ الصحيحُ أصلٌ بنفسه، فكيف يقال: الأصل يخالف نفسه؟ هذا من أبطل الباطل والأصول في الحقيقة اثنان لا ثالث لهما: كلامُ اللَّه، وكلامُ رسوله، وما عداهما فمردود إليهما؛ فالسنة أصل قائم بنفسه، والقياس فرع، فكيف يرد الأصل بالفرع؟ قال الإمام أحمد (¬2): إنما القياس أن تقيس على أصل، فأما أن تجيء إلى الأصل فتهدمه ثم تقيس، فعلى أيِّ شيء تقيس؟ وقد تقدّم بيان موافقة حديث المُصرَّاة (1) للقياس، وإبطال قول من زعم أنه خلاف القياس، وأنه ليس في الشريعة حكم يخالف القياس الصحيح، وأمّا القياس الباطل فالشريعةُ كلّها مخالفةٌ له، فياللَّه العجب! كيف وافق الوضوء بالنبيذ (¬3) المشتدّ للأصول حتى قُبل وخالف خبرُ المصراة للأصول حتى رُدَّ؟. ¬
[رد نصوص من العرايا المحكمة بنص متشابه]
[رد نصوص من العرايا المحكمة بنص متشابه] المثال الحادي والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في العرايا بالمتشابه من قوله: "التمر بالتمر مثلًا بمثل سواء بسواء" (¬1)، فإن هذا لا يتناول الرُّطب بالتمر. فإن قيل: فأنتم رددتم خبَر النَّهي عن بيع الرطب بالتمر (¬2) مع أنه محكمٌ صريح صحيح بحديث العَرَايا (¬3)، وهو متشابه. قيل: فإذا كان عندكم محكمًا صحيحًا فكيف رددتموه بالمتشابه من اشتراطِ المساواةِ بين التَّمر والتَّمر؟ فلا بحديث النهي أخذتم ولا بحديث العَرَايا، بل خالفتم الحديثين معًا، وأمّا نحن فأخذنا بالسنن الثلاثة، [ونزَّلنا] (¬4) كل سنة على وجهها ومقتضاها، ولم نضربْ بعضَها ببعض، ولم نخالف شيئًا منها؛ فأخذنا بحديث النَّهي عن بيع التمر بالتمر متفاضلًا، [وأخذنا بحديث النهي عن بيع الرطب بالتمر مطلقًا] (¬5)، وأخذنا بحديث العَرَايا وخصَّصنا به عموم [حديث] (¬6) النهي عن بيع الرطب بالتمر؛ اتباعًا لسنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلّها، وإعمالًا لأدلة الشرع جميعها (¬7) فإنها كلها حق، ولا يجوز ضرب الحق بعضه ببعض وإبطال بعضه ببعض، واللَّه الموفق. [رد حديث القسامة] المثال الثاني والعشرون: رد حديث القسامة (¬8) الصحيح الصريح المحكم (¬9) بالمتشابه من قوله: "لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى رجالٌ دماءَ رجالٍ وأموالِهم، ولكن اليمينُ على المُدَّعى عليه" (¬10)، والذي شرع الحكم بالقسامة هو الذي شرع ¬
أن لا يُعطى أحد بدعواه المجرّدة، وكلا الأمرين حق من عند اللَّه، لا اختلافَ فيه (¬1)، ولم يُعط في القسامة بمجرد الدعوى، وكيف يليق بمن بهرت حكمةُ شَرْعه (¬2) العقول أن لا يعطي المدَّعي بمجرد دعواه عودًا من أراك ثم يعطيه بدعوى مجرّدة دم أخيه المسلم؟ وإنما أعطاه ذلك بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقُه فوق تغليب الشاهدين، وهو اللَّوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولًا في بيت عدوّه، فقوَّى الشارع الحكيم هذا السبب باستحلاف خمسين من أولياء القتيل الذين يَبْعُد أو يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه بسبيل ولا يكون فيهم رجل رشيد يراقب اللَّه؟ ولو عرض على جميع العقلاء هذا الحكم، [والحكم] (¬3) بتحليف العدوّ الذي وجد القتيل في داره (¬4) بأنه ما قتله لرأوا أن ما بينهما من العدل كما بين السماء والأرض! ولو سئل كُلُّ سليمِ الحاسة عن قاتل هذا لقَالَ مَنْ وُجد في داره، والذي يقضى (¬5) منه العجب أن يُرى قتيل يتشحَّط في دمه وعدوُّه هارب بسكين ملطخة بالدم ويُقال: القول قوله؛ فيستحلفه (¬6) باللَّه ما قتله ويخلّي سبيله، ويقدم ذلك على أحسن الأحكام وأعدلها وألصقها بالعقول والفِطَر، الذي لو اتّفقت الحقلاء لم يهتدوا لأحسن منه بل ولا لمثله (¬7). وأين ما تضمنه (¬8) الحكم بالقسامة من حفظ الدماء إلى ما تضمنه (8) تحليف مَن لا يُشك مع القرائن التي تفيد القطع أنه الجاني؟. ونظير هذا إذا رأينا رجلًا من أشراف الناس حاسر الرأس بغير عمامة وآخر ¬
[رد السنة في النهي عن بيع الرطب]
أمامه يشتدّ عدوًا وفي يده عمامة وعلى رأسه أخرى؛ فإنّا ندفع العمامة التي بيده إلى حاسر الرأس ونقبل قوله، ولا نقول لصاحب اليد: القولُ قولُك مع يمينك، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو يُعطى الناس بدعواهم" (¬1)، لا يعارض القسامة بوجه؛ فإنه إنما نفى الإعطاء بدعوى مجرَّدة، وقوله: "ولكن اليمين ضلى المُدَّعى عليه" (1) وهو في مثل هذه الصورة حيث لا تكون مع المدعى إلّا مجرد الدعوى، وقد دلّ القرآن على رجم المرأة بلعان الزوج إذا نكَلَتْ، وليس ذلك إقامة للحد بمجرد أيمان الزوج بل بها وبنكولها، وهكذا في القسامة إنما يُقتل (¬2) فيها باللَّوث الظاهر والأيمان المتعدّدة المغلَّظة، وهاتان بيِّنتا هذين الموضعين، والبيّنات تختلف بحسب حال (¬3) المشهود به كما تقدَّم، بأربعة شهود، وثلاثة بالنَّص (¬4) وإن خَالَفه من خَالَفه في بيّنة الإعسار، واثنان، وواحد ويمين، ورجل وامرأتان، ورجل واحد وامرأة واحدة، وأربعة أَيْمان، وخمسون يمينًا، ونكول وشهادة الحال، ووصف المالك اللقطة، وقيام القرائن، والشَّبَه الذي يخبر به القَائِف، ومعاقد القُمُط، ووجوه الآجر في الحائط، وكونه معقودًا ببناء أحدهما عند من يقول بذلك (¬5)؛ فالقسامة مع اللوث [من] (¬6) أقوى البيّنات. [رد السنة في النهي عن بيع الرطب] المثال الثالث والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة في النهي عن بيع الرُّطب بالتمر (¬7) بالمتشابه من قوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]، وبالمتشابه من قياس في غاية الفساد، وهو قولهم: الرطب والتمر إما أن يكونا جنسين وإما أن يكونا جنسًا واحدًا، وعلى التقديرين فلا يُمنع بيع أحدهما بالآخر، وأنت إذا نظرت إلى هذا القياس رأيته مصادمًا للسنة أعظم مصادمة، ومع أنه فاسد في نفسه، بل هما جنس واحد أحدهما أزيد من الآخر قطعًا بليِنَته فهو أزيدُ أجزاء من الآخر بزيادة ¬
[رد الإقراع بين الأعبد الستة]
لا يمكن فصلها وتمييزها، ولا يمكن أن يجعل في مقابلة تلك الأجزاء من الرطب ما يتساويان به عند الكمال؛ إذ هو ظنٌّ وحسبان، فكان المنع من بيع أحدهما بالآخر محضُ القياس ولو (¬1) لم تأت به سُنَّة، وحتى لو لم يكن ربًا ولا القياس يقتضيه لكان أصلًا قائمًا بنفسه يجب التسليم والانقياد له كما يجب التسليم لسائر نصوصه المحكمة، ومن العجب رد هذه السنة بدعوى أنها مخالفة للقياس والأصول وتحريم بيع الكسب بالسِّمسم ودعوى أن ذلك موافق للأصول، فكلُّ أحد يعلم أن جريان الربا بين التمر والرطب أقرب إلى الربا نصًا وقياسًا ومعقولًا من جريانه بين الكسب والسمسم. [رد الإقراع بين الأعبد الستة] المثال الرابع والعشرون: رد المحكم الصريح الصحيح من السنة بالإقراع بين الأَعْبُد الستة المُوصى بعتقهم (¬2)، وقالوا: هذا خلافُ الأصول، بالمتشابه من رأي فاسد وقياس باطل (¬3)، بأنهم إمّا أن يكونَ كلُّ واحد منهم قد استحقّ العِتْقَ فلا يجوز نقله عنه إلى غيره أو لم يستحقه فلا يجوز أن يعتق منهم أحد، وهذا الرأي الباطل كما أنه في مصادمة السنة فهو فاسد في نفسه؛ فإن العتق إنما استحق في ثلث ماله ليس إلّا، والقياس والأصول تقتضي جمع الثلث في محل واحد، كما إذا أوصى بثلاثة دراهم وهي كل ماله، فلم يُجز الورثة، فإنّا ندفع إلى المُوصى له درهمًا ولا نجعله شريكًا بثلث كل درهم، ونظائر ذلك؛ فهذا المُعتق لعبيده كأنه أوصى بعتق ثلثهم؛ إذ هذا هو الذي يملكه، وفيه صحة الوصية؛ فالحكم بجمع (¬4) الثلث في اثنين منهم أحسن عقلًا وشرعًا وفطرة مِنْ جَعْل الثلث شائعًا في كل واحد منهم، فحكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذه المسألة خيرٌ من حكم غيره بالرأي المحض. [رد تحريم الرجوع في الهبة] المثال الخامس والعشرون: رد السنة الصريحة المحكمة في تحريم الرجوع ¬
في الهبة [لكل أحد] إلا للوالد (¬1) برأي متشابه فاسد اقتضى عكس السنة وأنه يجوز الرجوع في الهبة لكل أحدٍ إلا لوالدٍ أو لذي رَحم محرم أو لزوج أو زوجة أو يكون الواهب قد أُثيب منها، ففي هذه المواضع الأربعة يمتنع الرجوع وفرَّقوا بين الأجنبي والرحم بأن هبةَ القريب صلةٌ، ولا يجوز قطعها، وهبة الأجنبي تبرّع، وله أن يمضيه وأن لا يمضيه، وهذا مع كونه مصادمًا للسنة مصادمة محضة فهو فاسد؛ لأن الموهوبَ له حين قَبضَ العَينَ الموهوبة دَخَلت في مُلكه، وجاز له التصرّف فيها؛ فرجوع الواهب فيها انتزاع لملكه منه بغير رضاه، وهذا باطل شرعًا وعقلًا، وأما الوالد فولده جزء منه، وهو وماله لأبيه (¬2)، وبينهما من البعضية ما يوجب شدة الاتصال، بخلاف الأجنبي. فإن قيل: لم نخالفه إلا بنصٍّ صريح صحيح، وهو حديث سالم عن أبيه عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ وَهَبَ هبةً فهو أحقُّ بها ما لم يَثُبْ منها" (¬3)، قال البيهقي: قال لنا أبو ¬
عبد اللَّه -يعني الحاكم-: هذا حديث صحيح، إلّا أن يكون الحمل فيه على شيخنا، يُريد: أحمد بن إسحاق بن محمد بن خالد الهاشمي، ورواه الحاكم من حديث عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الواهب أحق بهبته ما لم يُثَبْ" (¬1)، وفي كتاب الدارقطني من حديث حَمَّاد بن سلمة، عن قَتَادة، عن الحَسَن، عن سَمُرة، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا كانت الهبة لذي رَحمٍ محرم لم يَرجع فيها" (¬2)، ¬
وفي "الغيلانيات": ثنا إبراهيم بن [أبي] (¬1) يحيى، عن محمد بن عبيد اللَّه (¬2)، عن عطاء، عن ابن عباس، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ وَهب [هبة] (¬3) فارتجع بها فهو أحقُّ بها ما لم يثب منها، ولكنّه كالكلب يعود في قيئه" (¬4). فالجواب أن هذه الأحاديث لا تثبت، ولو ثبتت لم تحل مخالفتها ووجب ¬
العمل بها وبحديث: "لا يحلُّ لواهب أن يرجعَ في هبته" (¬1)، ولا يبطل أحدهما بالآخر، ويكون الواهب الذي لا يحل له الرجوع من وهب تبرُّعًا محضًا لا لأجل العِوَض، والواهبُ الذي له الرجوعُ مَنْ وَهبَ ليتعوَّض من هبته ويثاب منها، فلم يفعل المُتَّهب، وتستعمل (¬2) سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلها، ولا يُضرب بعضها ببعض، أما حديث ابن عمر فقال الدارقطني (¬3): "لا يثبت مرفوعًا، والصواب عن ابن عمر عن عمر قوله"، وقال البيهقي (¬4): "ورواه علي بن سَهْل بن المغيرة، عن عُبيد اللَّه بن موسى، ثنا حنظلة بن أبي سفيان قال: سمعتُ سالم بن عبد اللَّه، فذكره، وهو غير محفوظ بهذا الإسناد، وإنما يُروى عن إبراهيم بن إسماعيل بن مُجمِّع، وإبراهيم ضعيف"، انتهى. وقال الدارقطني: "غَلِط فيه علي بن سهل"، انتهى. وإبراهيم بن إسماعيل (¬5) هذا قال أبو نعيم (¬6): لا يُساوي حديثه فلسين، وقال أبو حاتم الرازي (¬7): لا يُحتج به، وقال يحيى بن معين (¬8): إبراهيم بن إسماعيل المكي ليس بشيء، وقال البيهقي (¬9): والمحفوظ عن عمرو بن دينار، عن سالم، عن أبيه، عن عمر: "مَنْ وهب هبة فلم يُثَب منها فهو أحق بها إلا لذي رحم محرم" (¬10) قال البخاري (¬11): هذا أصح. وأما حديث عُبيد اللَّه بن موسى عن حنظلة فلا أراه إلا وَهْمًا، وأما حديث حماد بن سلمة فمن رواية عبد اللَّه بن جعفر الرَّقي عن ابن المبارك، وعبد اللَّه هذا ضعيف (¬12) عندهم. ¬
[رد القضاء بالقافة]
وأما حديث ابن عباس فمحمد بن عبيد اللَّه فيه هو العرزمي، ولا تقوم به حُجَّة، قال الفَلَّاس (¬1) والنَّسائي (¬2): هو متروك الحديث. وفيه إبراهيم بن [أبي] يحيى، قال مالك (¬3) ويحيى بن سعيد (3) وابن معين (¬4): هو كَذَّاب، وقال الدارقطني (¬5): متروك [الحديث] (¬6)، فإن لم تصح هذه الأحاديث لم يُلتفت إليها، وإن صحت وجب حملها على من وهب للعِوَض، وباللَّه التوفيق. [رد القضاء بالقافة] المثال السادس والعشرون: رد السنة المحكمة في القضاء بالقَافَة (¬7)، وقالوا: هو خلاف الأصول، ثم قالوا: لو ادّعاه اثنان ألحقناه بهما، وكان هذا مقتضى الأصول (¬8). ونظير هذا: [رد جعل الأمة فراشًا] المثال السابع والعشرون: رد السنة المحكمة الثابتة (¬9) في جعل الأمة فراشًا وإلحاق الولد بالسيد وإنْ لم يدّعه، وقالوا: هو خلاف الأصول، والأمة لا تكون فراشًا، ثم قالوا: لو تزوَّجها وهو بأقصى بقعة من المشرق وهي بأقصى بقعة من المغرب وأتت بولد لستة أشهر لَحِقه، صمان علمنا بأنهما لم يتلاقيا قط (¬10)، وهي فراشٌ بالعقد، فأمته التي يطؤها ليلًا ونهارًا ليست بفراش، وهذه فراش، وهذا مقتضى الأصول، وحكمُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف الأصول على لازم قولهم! ¬
[متناقضان من دون السنة]
[متناقضان من دون السنة] ونظير هذا: قياسُ الحَدث على السَّلام في الخروج من الصلاة بكل واحد منهما، ودعوى أن ذلك موجب الأصول، مع بُعد ما بين الحَدَث والسلام، وترك قياس نبيذ التمر المسكر على عصير العِنَب المُسكر في تحريم قليل كُلٍّ منهما مع شدّة الأخوة بينهما، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول. ونظيره أن الذمي لو مَنَع دينارًا واحدًا من الجزية انتقَضَ عهده، وحلَّ دمه وماله، ولو حَرقَ الكعبة البيت الحرام ومسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وجاهر بسبِّ اللَّه ورسوله أقبح سمت على رؤوس المسلمين فعهدُه باقٍ ودمُه معصوم، وعدم النقض (¬1) [بذلك مقتضى الأصول، والنقض] (¬2) بمنع الدينار مقتضى الأصول. ونظيره أيضًا إباحة قراءة القرآن بالعجمية، وأنه مقتضى الأصول، ومنع رواية الحديث بالمعنى، وهو خلاف الأصول. ونظيره: إسقاط الحد عمَّن استأجر امرأة (¬3) ليزنيَ بها أو تغسل ثيابه فزنى بها، وأن هذا مقتضى الأصول، وإيجاب الحد على الأعمى إذا وَجَد على فراشه امرأة فظنها زوجته فبانت أجنبية. ونظيره أيضًا: منع المصلي من الصلاة بالوضوء من ماء يبلغ قناطير مقنطرة وقعت فيه قطرةُ دم أو بول، وإباحتهم له أن يصلي في ثوبٍ ربعه متلطِّخ بالبول وإن كان عَذِرَة فقَدْرَ راحة الكف (¬4). ونظيره: دعواهم أن الإيمان واحد، والناس فيه سواء، وهو مجرد التصديق، وليست الأعمال داخلة في ماهيته (¬5)، وأن من مات ولم يُصلِّ صلاةً قط في عمره مع قدرته وصحة جسمه وفراغه فهو مؤمن، وتكفيرهم من يقول: مُسَيجد أو فُقيّه، بالتصغير (¬6)، أو يقول للخَمْر أو للسَّماع المُحرَّم: ما أطيبه وألذّه (¬7)! ¬
ونظير ذلك: أنه لو شهد عليه أربعة بالزنا فقال: "صَدَقوا"، سقط عنه الحد بتصديقهم، ولو قال: "كَذبوا علي"، حُدَّ (¬1). ونظيره: أنه لا يصح استئجار دار تجعل مسجدًا يُصلِّي فيه المسلمون، وتصح إجارتها كنيسة يعبد فيها الصليب والنار. ونظيره: أنه لو قهقه في صلاته بطل وضوءه، ولو غَنَّى في صلاته أو قذف المحصنات أو شهد بالزور فوضوءه بحاله. ونظيره: أنه لو وقع في البئر فارة تنجَّست البئرُ؛ فإذا نُزع منها دلوٌ فالدلو والماء نجسان، ثم هكذا إلى (¬2) تمام كذا وكذا دلوًا، فإذا نُزع الدَّلو الذي قبل الأخير فرشرش على حيطان البئر نجَّسها كلها فإذا جاءت النَّوْبة إلى الدلو الأخير قشقش النجاسةَ كُلَّها من البئر وحيطانها وطينها (¬3)، بعد أن كانت نجسة. ونظيره: إنكار كون القرعة التي ثبت فيها ستة أحاديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، وفيها آيتان من كتاب اللَّه (¬5) طريقًا للأحكام الشرعية (¬6)، وإثبات حل (¬7) الوطء بشهادة الزور التي يعلم المقدوح أنها شهادة زور، وبها فرَّق الشاهدان بين الرجل وامرأته (¬8). ونظير هذا: إيجاب الاستيراء على السَّيد إذا ملك امرأة بكرًا لا يوطأ مثلها، مع العلم القطعي (¬9) ببراءة رحمها، وإسقاطه عمَّن أراد وطء الأمة التي وطئها سيّدُها البارحة ثم اشتراها هو فملَّكها لغيره وكلَّمه (¬10) في تزويجها منه، فقالوا: ¬
يحلّ له وطؤها، وليس بين وطء بائعها ووطئه هو إلّا ساعة من نهار. ونظير هذا: في التناقض إباحة نكاح المخلوقة من ماء الزاني مع كونها بعضه، مع تحريم المرضعة من لبن امرأته لكون اللّبن ثَابَ بوطئه فقد صار فيه جزء منه. فياللَّه العجب! كيف انتهض هذا الجزء اليسير سببًا للتحريم ثم يباح له وطؤها وهي جزؤه الحقيقي وسُلالته؟ وأين تشنيعُكم وإنكاركم لاستمناء الرجل بيده عند الحاجة خوفًا من العَنَت ثم تجوِّزون له وطء بنته المخلوقة من مائه حقيقة (¬1)!! ونظير هذا: لو ادّعى على ذمّي حقًا وأقام به شاهدين عبدين عالمين صالحين مقبولة شهادتهما على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم تُقبل شهادتهما عليه، فإن أقام به شاهدين كافرين حُرَّيْن قبلت شهادتهما عليه مع كَوْنهما من أكذب الخلق على اللَّه وأنبيائه ودينه. ونظير هذا: لو تداعيا حائطًا لأحدهما عليه خشبتان، وللآخر [عليه] (¬2) ثلاث خشبات ولا بيّنة فهو كلّه لصاحب الخشبات الثلاث؛ فلو كان لأحدهما ثلاث خشبات وللآخر مئة خشبة فهو بينهما نِصْفين. ونظير هذا: لو اغتصب نصراني رجلًا على ابنته أو امرأته أو حُرمته وزنى بها ثم شَدَخ رأسها بحجر أو رمى بها من أعلى شاهق فماتت (¬3) فلا حَدَّ عليه ولا قصاص؛ فلو قتله المسلم صاحب الحرمة بقصبة محددة (¬4) قُتلْ به. ونظير هذا: أنه لو أُكره على قتل ألف مسلم أو أكثر بسَجن شهرٍ وأخذ شيء من ماله فقتلهم فلا قَوَد عليه ولا ديّة، حتى إذا أكره بالقتل على عتق أمته أو طلاق زوجته لزمه حكم الطلاق والعتق، ولم يكن الإكراه مانعًا من نفوذ حكمنا عليه، مع أن اللَّه سبحانه أباح التكلّم بكلمة الكفر مع الإكراه، ولم يُبح قتل المسلم بالإكراه أبدًا. ونظير هذا: إبطال الصلاة بتسبيح مَنْ نابه شيء في صلاته، وقد أمر به النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، وتصحيح صلاة مَنْ ركع ثم خرَّ ساجدًا من غير أن يقيم صلبه، وقد ¬
أبطلها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "لا تُجزئ صلاة لا يقيمُ الرجل فيها صُلبه في ركوعه وسجوده" (¬1)، ودعوى أن ذلك مقتضى الأصول. ونظيره [أيضًا] (¬2): إبطال الصلاة بالإشارة لردِّ السلام أو غيره، وقد أشار النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاته بردِّ السلام (¬3)، وأشار الصحابة برؤوسهم تارة وبأكفّهم تارة (¬4)، وتصحيحها مع ترك الطمأنينة، وقد أمر بها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ونفى الصلاة بدونها (¬5)، وأخبر أن صلاة النقر صلاة المُنافقين (¬6)، وأخبر حذيفة أنَّ مَنْ صلَّى ¬
كذلك لقي اللَّه على غير الفطرة التي فطر اللَّه عليها رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، وأخبر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ مَنْ لا يُتم ركوعه ولا سجوده أسوأ الناس سرقةً (¬2)، وهذا يدلّ على أنه أسوأ حالًا عند اللَّه من سُرَّاق الأموال. ¬
ونظير هذا قولهم: لو أن رجلًا مسلمًا طاهر البدن عليه جنابة غَمَسَ يده في بئر بنيّة رفع الحدث صارت البئر كلها نجسة، يحرم شرب مائها والوضوء منه والطبخ به؛ فلو اغتسل فيها مئة نصراني قُلُف (¬1) عابدو الصَّليب أو مئة يهودي فماؤها باقٍ على حاله طاهر مطهِّر يجوز الوضوء به (¬2) وشربه والطبخ به. ونظيره: لو ماتت فارة في ماء فصُبَّ ذلك الماء في بئر لم يُنزح منها إلّا عشرون دلوًا فقط، وتطهُر بذلك، ولو توضأ رجل مسلم طاهر الأعضاء بماء فسقط ذلك الماء في البئر فلا بدّ من أن تُنزحَ [البئر] (¬3) كلها. ونظير هذا قولهم: لو عقد على أُمِّه أو أخته أو بنته ووطئها، وهو يعلم أن اللَّه حرَّم ذلك فلا حَدَّ عليه لأن صورة العقد شُبهة، ولو رأى امرأةً في الظلمة ظنّها امرأته فوطئها فعليه الحد ولم يكن ذلك شبهة. ونظيره قولهم: لو أنه رَشَا شاهدين فشهدا بالزور المَحْض أن فلانًا طلَّق امرأته ففرَّق الحاكم بينهما جاز له أن يتزوّجها ويطاها حلالًا، [بل] (¬4) ويجوز لأحد الشاهدين ذلك؛ فلو حكم حاكم بصحة هذا العقد لم يجز نقضُ حكمه، ولو حكم حاكمٌ بالشاهد واليمين لنقض حكمه، وقد حكم به النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-! (¬5). ونظير ذلك قولهم: لو تزوج امرأة فخرجت مجنونة بَرْصاء من قرنها إلى قدمها مجذومة (¬6) عمياء مقطوعة الأطراف فلا خَيارَ له، وكذلك إذا وجدت هي الزوج كذلك فلا خيار لها، وإن خرج [الزوج] (¬7) من خيار عباد اللَّه وأغناهم ¬
وأجملهم وأعلمهم وليس له أبوان في الإسلام وللزوجة أبوان في الإسلام فلها الفسخ بذلك (¬1). ونظيره قولهم: يصح نكاح الشِّغَار (¬2)، ويجب فيه مهر المثل، وقد صح نهيُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عنه وتحريمه إياه (¬3)، ولا يصح نكاح من أعتق أمةً وجعَلَ عِتقَها صداقها، وقد فعله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4). ونظيره قولهم: يصحُّ نكاحُ التحليل، وقد صح لعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن فعله من رواية عبد اللَّه بن مسعود وأبي هريرة وعليّ بن أبي طالب (¬5)، ولا يصح نكاح الأمة لمضطرٍ خائف العَنَت عادم الطَّوْل إذا كانت تحته حُرَّة ولو كانت عجوزًا شوهاء لا تعفّه. ونظيره قولهم: يجوز بيع الكلب، وقد منع منه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وتحريم بيع المدَبَّر، وقد باعه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7). ¬
ونظيره قولهم: للجار أن يمنع جاره أن يَغْرزَ خشبةَ هو محتاجٌ إلى غرزها في حائطه، وقد نهاه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مَنْعه (¬1)، وتسليطهم إياه على انتزاع داره كلها منه بالشُّفعة بعد وقوع الحدود وتصريف الطُّرق، وقد أبطلها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). ونظيره قولهم: لا يحكم بالقَسَامة لأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: يحلف الذين وُجد (¬3) القتيل في محلتهم ودارهم خمسين يمينًا ثم يُقْضَى عليهم بالديّة، فياللَّه العجب! كيف كان هذا وفق الأصول وحكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خلاف الأصول؟!! ونظيره قولهم: لو تزوّج امرأة فقالت له امرأة أخرى: أنا أرضعتُك وزوْجَتَكَ، أو قال له رجل: هذه أختك من الرضاعة، جاز له تكذيبها ووطء الزوجة، مع أن هذه هي الواقعة التي أَمَر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن الحارث بفراق امرأته لأجل قول الأمَةِ السوداء أنها أرضعتهما (¬4). ولو اشترى طعامًا أو ماءً فقال له رجل: هذا ذبيحة مجوسي أو نجس لم يسعه أن يتناوله، مع أن الأصل في الطعام والماء الحل، والأصل في الأبضاع التحريم، ثم قالوا: لو (¬5) قال المُخبر: "هذا الطعام والشراب لفلان سَرَقه أو غصبه منه فلان"، وَسِعَهُ أن يتناوله. ونظيره قولهم (¬6): لو أسلم وتحته أختان وخيَّرناه فطلَّق إحداهما كانت هي المختارة، والتي أمسكها هي المفارقة، قالوا: لأن الطلاق لا يكون إلّا في زوجة، وأصحاب أبي حنيفة (¬7) تخلَّصوا من هذا بأنَّه إنْ عَقَد على الأختين في عقد واحد فسد نكاحهما واستأنف نكاحَ مَنْ شاء منهما، وإن تزوج واحدة بعد واحدة فنكاح الأُولى هو الصحيح، ونكاح الثانية فاسد. ولكن لزمهم نظيره في مسألة العبد: إذا تزوَّج بدون إذن سيده كان موقوفًا ¬
[من أدرك ركعة من الصبح]
على إجازته (¬1)، فلو قال له: "طلِّقها طلاقًا رجعيًا"، كان ذلك إجازة منه للنكاح، فلو قال له: "طلِّقها"، ولم يقل: "رجعيًا"، لم يكن إجازة للنكاح مع أن الطلاق في هذا النكاح لا يكون [إلا] (¬2) رجعيًا إلا بعد الإجازة (¬3)، وقبل الدخول، وأمّا قبل الإجازة والدخول فلا ينقسم إلى بائنٍ ورجعي. [من أدرك ركعة من الصبح] المثال الثامن والعشرون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلعَ الشمس فقد أدرك الصبح (¬4)، بكونها خلاف الأصول وبالمتشابه من نهيه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة وقت طلوع الشمس (¬5)، قالوا: والعامُّ عندنا يُعارض الخاص فقد تَعارضَ حاظرٌ ومُبيح، فقدَّمنا الحاظر احتياطًا؛ فإنه يُوجب عليه إعادة الصلاة، وحديث الإتمام يُجوِّز له المضي فيها، وإذا تعارضا صِرْنا إلى النص الذي يوجب الإعادة لنتيقَّن براءة الذمة، فيقال: لا ريب أن ¬
قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتمّ صلاته، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته" (¬1)، حديث واحد، قاله -صلى اللَّه عليه وسلم- في وقت واحد، وقد وجبت طاعته في شطره؛ فتجب طاعته في الشطر الآخر، وهو محكم خاص لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا، لا يحتمل غيره ألبتَّة، وحديث النهي عن الصلاة في أوقات النهي (¬2) عامٌّ مجمل قد خُص منه عصر يومه بالإجماع، وخُصّ منه قضاء الفائتة والمنسية بالنَّص (¬3)، وخص منه ذوات الأسباب بالسنة كما قضى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة الظهر بعد العصر (¬4)، وأقرَّ مَنْ قضى سنة الفجر بعد صلاة الفجر، [وقد أعلمه أنها سنة الفجر] (¬5)، وأمر من صلَّى في رَحْله ثم ¬
جاء مسجد جماعة أن يُصلّى معهم وتكون له نافلة، قاله (¬1) في صلاة الفجر، وهي ¬
[فرق بين الابتداء والدوام]
سبب الحديث (¬1)، وأمر الداخلَ والإمامَ يخطب أن يصلي تحية المسجد قبل أن يجلس (¬2)، وأيضًا فإن الأمر بإتمام الصلاة، وقد طلعت الشمس فيها أمر بإتمام لا ابتداء (¬3)، والنهي عن الصلاة في ذلك الوقت نهيٌ عن ابتدائها لا عن استدامتها؛ فإنه لم يقل: لا تتمّوا الصلاة في هذا (¬4) الوقت، وإنما قال: لا تصلّوا. [فرق بين الابتداء والدوام] وأين أحكام الابتداء من الدوام، وقد فرَّق النص والإجماع والقياس بينهما؟ فلا تؤخذ أحكامُ الدَّوام من أحكام الابتداء ولا أحكام الابتداء من أحكام الدوام في عامة مسائل الشريعة؛ فالإحرام يُنافي ابتداء النكاح والطيب دون استدامتهما، والنكاح ينافي قيام العدة والردة دون استدامتهما، والحدث يُنافي ابتداء المسح على الخفين دون استدامته، وزوال خوف العنت ينافي ابتداء النكاح على الأمة ¬
دون استدامته عند الجمهور، والزنا من المرأة ينافي [ابتداء] (¬1) عقد النكاح دون استدامته عند الإمام أحمد ومن وافقه (¬2)، والذهول عن نية العبادة ينافي ابتداءها دون استدامتها، وفقد الكفاءة ينافي لزوم النكاح في الابتداء دون الدوام، وحصول الغنى ينافي جواز الأخذ من الزكاة ابتداء [ولا ينافيه] (¬3) [دون] (¬4) دوامه، وحصول الحجر بالسفه والجنون ينافي ابتداء العقد من المحجور عليه ولا ينافي دوامه، وطرءان ما يمنع الشهادة من الفسق والكفر والعداوة بعد الحكم بها لا يمنع العمل بها على (¬5) الدوام ويمنعه في الابتداء، والقدرة على التكفير بالمال تمنع التكفير بالصوم ابتداء لا دوامًا، والقدرة على هدي التمتع تمنع الانتقال إلى الصوم ابتداء لا دوامًا (¬6)، والقدرة على الماء تمنع ابتداء التيمّم اتفاقًا، وفي منعه لاستدامة الصلاة بالتيمّم خلاف بين أهل العلم (¬7)، ولا تجوز إجارة العين المغصوبة ممن لا يقدر على تخليصها، ولو غصبها بعد العقد من لا يقدر المستأجر على تخليصها منه لم تنفسخ الإجارة وخُيّر المستأجر بين فسخ العقد وإمضائه، ويمنع أهل الذمة ¬
[عدم تعارض شيئين في هذه المسألة]
من ابتداء إحداث كنيسة في دار الإسلام ولا يمنعون من استدامتها، ولو حلف لا يتزوج أو لا يتطيّب أو لا يتطهّر فاستدام ذلك لم يحنث وإن ابتدأه حنث، وأضعاف أضعاف ذلك من الأحكام التي يُفرَّق فيها بين الابتداء والدوام؛ فيحتاج في ابتدائها إلى ما لا يحتاج إليه في دوامها، وذلك لقوة الدوام وثبوته واستقرار حكمه، وأيضًا فهو مستصحب بالأصل، وأيضًا فالدفع أسهل من الرفع (¬1)، وأيضًا فأحكام التَّبَع يثبت فيها ما لا يثبت في المتبوعات، والمُستدام تابع لأصله الثابت؛ فلو لم يكن في المسألة نص لكان القياس يقتضي صحة ما ورد به النص، فكيف وقد توارد عليه النص والقياس؟. [عدم تعارض شيئين في هذه المسألة] فقد تبيَّن أنه لم يتعارض في هذه المسألة عام وخاص ولا نص وقياس، بل النص فيها والقياس متفقان، والنص العام لا يتناول مورد الخاص ولا هو داخل تحت لفظه، ولو قُدّر صلاحية لفظه له فالخاص بيان لعدم إرادته، فلا يجوز تعطيل حكمه وإبطاله، بل يتعين إعماله واعتباره، ولا تضرب (¬2) أحاديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعضها ببعض، وهذه القاعدة أولى من القاعدة التي تتضمن إبطال إحدى السُّنتين وإلغاء أحد الدليلين (¬3)، واللَّه الموفق. [موازنة بين صورتين بطلت فيهما الصلاة] ثم نقول: الصورة التي أبطلتم فيها الصلاة -وهي حالة طلوع الشمس- وخالفتم السنة أولى بالصحة من الصورة التي وافقتم فيها السنة؛ فإنه إذا ابتدأ العصر قبل الغروب فقد ابتدأها في وقت نهي، وهو وقت ناقص، بل هو أولى الأوقات بالنقصان، كما جعل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وقت صلاة المنافقين حين تصير الشمس بين قرنَيْ شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار (¬4)، وإنما كان النهي عن الصلاة قبل ¬
[القياس الصحيح]
ذلك الوقت تحريمًا له وسدًا للذريعة (¬1)، وهذا بخلاف من ابتدأ الصلاة قبل طلوع الشمس؛ فإن الكفار حينئذ لا يسجدون لها، بل ينتظرون بسجودهم طلوعها فكيف يُقال: تبطل صلاة من ابتدأها في وقت تام لا يسجد فيه الكفار للشمس وتصح صلاة من ابتدأها وقت سجود الكفار للشمس سواء، وهو الوقت الذي تكون فيه بين قرني الشيطان فإنه حينئذ يقارنها ليقع السجود له كما يقارنها وقت الطلوع ليقع السجود له؟ فإذا كان ابتداؤها وقت مقارنة الشيطان لها غير مانع من صحتها فلأن تكون استدامتها وقت مقارنة الشيطان غير مانع من الصحة بطريق الأولى والأحرى، فإن كان في الدنيا قياس صحيح فهذا من أصحّه؛ فقد تبيّن أنَّ الصورة التي خالفتم فيها النص أولى بالجواز قياسًا من الصورة التي وافقتموه فيها. [القياس الصحيح] وهذا مما حصّلته عن شيخ الإسلام -قدس اللَّه روحه- وقت القراءة عليه، وهذه كانت طريقته، وإنما يقرّر أن القياس الصحيح هو ما دلّ عليه النص، وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معًا (¬2)، وباللَّه التوفيق. ومن العجب أنهم قالوا: لو صلَّى ركعة من العصر ثم غربت الشمس صحت صلاته وكان مدركًا لها؛ لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر" (3)، وهذا شطر الحديث، وشطره الثاني: "ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر" (¬3). [دفع اللقطة إلى الذي يصفها] المثال التاسع والعشرون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في دفع اللقطة إلى من وَصف عِفاصَها (¬4)، ووِعَاءها ووِكَاءَها (¬5)، وقالوا: هو مخالف للأصول، ¬
[صلاة من تكلم في الصلاة ناسيا]
فكيف يُعطى المُدَّعي بدعواه من غير بيّنة؟ ثم لم ينشبوا [إلى] (¬1) أن قالوا: من ادّعى لقيطًا عند غيره ثم وصف علامات في بدنه فإنه يُقضى له [به] (¬2) بغير بيّنة، ولم يروا ذلك خلاف الأصول، وقالوا: من ادعى خُصًّا (¬3) ومعاقد قُمطه من جهته قُضي له به ولم يكن ذلك خلاف الأصول، ومن ادعى حائطًا ووجوه الآجر من جهته قُضي له به، ولم يكن ذلك خلاف الأصول، ومن ادّعى مالًا على غيره فأنكر ونكل عن اليمين قُضي له بدعواه ولم يكن ذلك خلاف الأصول، وإذا ادّعى الزوجان ما في البيت قُضِيَ لكل واحد منهما بما يناسبه، ولم يكن ذلك خلاف الأصول. ونحن نقول: ليس في الأصول ما يُبطل الحكم بدفع اللقطة إلى واصفها ألبتّة، بل هو مقتضى الأصول (¬4)؛ فإن الظنّ المستفاد بوصفه أعظم من الظن المستفاد بمجرد النكول، بل وبالشاهدين، فوصفه بيّنة ظاهرة على صحة دعواه، لا سيما ولم يعارضه معارض؛ فلا يجوز إلغاء دليل صدقه مع عدم معارض أقوى منه؛ فهذا خلاف الأصول حقًا لا موجب السنة. [صلاة من تكلم في الصلاة ناسيًا] المثال الثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في صحة صلاة من تكلَّم فيها جاهلًا أو ناسيًا (¬5)، بأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: من أكل في رمضان أو شرب ناسيًا صح صومه، مع اعترافهم بأن ذلك على خلاف الأصول والقياس، ولكن تبعنا فيه السُّنة (¬6)، فما الذي منعكم من تقديم السّنة الأخرى على القياس والأصول كما قدَّمتم خبر القَهْقهة في الصلاة والوضوء بنبيذ التمر وآثار الآبار (¬7) على القياس والأصول؟!. [اشتراط البائع منفعة المبيع مدة] المثال الحادي والثلاثون: رد السنة الثابتة المحكمة في اشتراط البائع منفعة ¬
[تخيير الولد بين أبويه]
المبيع مدة معلومة (¬1) بأنها خلاف الأصول، ثم قالوا: يجوز بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها بشرط القطع في الحال مع العلم بأنها لو قُطعت لم تكن مالًا ينتفع به ولا يساوي شيئًا ألبتّة، ثم لهما أن يتّفقا على بقائها إلى حين الكمال، ودعوى أن ذلك موافق للأصول، وهو عين ما نَهى عنه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). [تخيير الولد بين أبويه] المثال الثاني والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تخيير النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الولد بين أبويه (¬3)، وقالوا: هو خلاف الأصول، ثم قالوا: إذا زَوَّج الولي غير الأب الصغيرة صحَّ وكان النكاح لازمًا، فإذا بلغت انقلب جائزًا وثبَتَ لها الخيار بين الفسخ والإمضاء، وهذا وفق الأصول. [فياللَّه العجب] (¬4)! أين في الأصول -التي هي كتاب اللَّه وسنّة رسوله وإجماع الأمة المُستند إلى الكتاب والسنّة- موافقة هذا الحكم للأصول ومخالفة حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتخيير بين الأبوين للأصول (¬5)؟. [رجم الكتابيين] المثال الثالث والثلاثون: رد السنَّة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في ¬
رجم الزانيين الكتابيين (¬1)، بأنها خلاف الأصول، وسقوط الحد عَمَّن عقد على أُمّه ووطئها، وأن هذا هو مقتضى الأصول. فيا عجبًا لهذه الأصول التي مَنَعت إقامة الحد على من أقامه [عليه] (¬2) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأسقطته عمن لم يُسقطه عنه! فإنه ثبت عنه أنه أرسل البراء بن عازب إلى رجل تزوج امرأة أبيه أن يضرب عُنقَه ويأخذ ماله (¬3)، فواللَّه ما رضي له بحدّ الزاني حتى حَكَم عليه بضرب العنق وأخذ المال، وهذا هو الحق المحض؛ فإن جريمته أعظمُ من جريمة من زنى بامرأة أبيه من غير عقد، فإن هذا ارتكب محظورًا [واحدًا] (¬4)، والعاقد ¬
[الوفاء بالشروط في النكاح وفي البيع]
عليها ضَمَّ إلى جريمة الوطء جريمة العقد الذي حرَّمه اللَّه، فانتهك حرمة شرعه بالعقد، وحُرمةَ أُمّه بالوطء، ثم يقال: الأصول تقتضي سقوط الحد عنه، وكذلك حكم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- برجم اليهوديين (¬1) هو من أعظم الأصول، فكيف رُدَّ هذا الأصل العظيم بالرأي الفاسد ويقال: إنه مقتضى الأصول (¬2)؟. فإن قيل: إنما حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرجم بما في التوراة إلزامًا لهما بما اعتقدا صحته. قيل: هب أن الأمر كذلك، أفحكمٌ بحق يجب اتباعه وموافقته وتحرم مخالفته أم بغير ذلك؟ فاختاروا أحد الجوابين ثم اذهبوا إلى ما شئتم. [الوفاء بالشروط في النكاح وفي البيع] المثال الرابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الوفاء بالشروط (¬3) في النكاح، [و] (¬4) أنها أحقُّ الشروط بالوفاء على الإطلاق (¬5)، بأنها خلاف الأصول، والأخذ بحديث النهي عن بيع وشرط (¬6) الذي لا يُعلم له إسناد يصح، مع مخالفته للسنة الصحيحة والقياس ولانعقاد الإجماع على خلافه، ودعوى أنه موافق للأصول؛ أما مخالفته للسنة الصحيحة فإن جابرًا باع بعيره وشرط ركوبه إلى المدينة (¬7)، والنبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مَنْ باع عبدًا وله مال فمالُه للبائع ¬
[المزارعة]
إلّا أن يشترطه المبتاع" (¬1)، فجعله للمشتري بالشرط الزائد على عقد البيع، وقال: "مَن باع نخلًا قد أُبِّرت فثمرها للذي باعها إلّا أن يشترَطها المبتاع" (¬2)، فهذا بيع وشرط ثابت بالسنة الصحيحة الصريحة، وأمّا مخالفته للإجماع فالأمة مجمعة على جواز اشتراط الرَّهن والكَفيل والضَّمين والتأجيل والخيار ثلاثة أيام ونقد غير نقد البلد فهذا بيع وشرط متفق عليه، فكيف يُجعل النهي عن بيع وشرط موافقًا للأصول وشروط النكاح التي هي أحق الشروط بالوفاء مخالفة للأصول (¬3)؟. [المزارعة] المثال الخامس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في دفع الأرض بالثُّلث والربع مزارعة (¬4)، بأنها خلاف الأصول (¬5)، والأخذ بالحديث الذي لا يثبت بوجه أنه: "نهى عن قَفيز الطَّحَّان" (¬6)، وهو أن يدفع ¬
حِنْطة (¬1) إلى مَنْ يطحَنُها بقفيزٍ منها أو غزله إلى مَنْ ينسجه ثوبًا بجزء منه أو زيتونه إلى من يعصره بجزءٍ منه ونحو ذلك مما لا غَرَر فيه ولا خَطَر ولا قِمَارَ ولا جهالة ولا أكل مال بالباطل، بل هو نظير دفع ماله إلى من يتجر فيه بجزءٍ من الربح، بل أولى؛ فإنه قد لا يربح [المال] (2) فيذهب عمله مجانًا، وهذا لا يذهب عمله مجانًا؛ فإنه يطحن الحب ويعصر الزيتون ويحصل على جزء منه يكون [به] (¬2) شريكًا لمالكه، فهو أولى [بالجواز] (2) من المضاربة، فكيف يكون المنع منه موافقًا للأصول والمزارعة التي فعلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفاؤه الراشدون خلاف الأصول؟. ¬
[صيد المدينة]
[صيد المدينة] المثال السادس والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة التي رواها بضعة وعشرون صحابيًا في أن المدينة حرم يحرمُ صيدها (¬1)، ودعوى أن ذلك خلاف الأصول، ومعارضتها بالمتشابه من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا أبا عُمير، ما فعل النُّغير" (¬2)، ويا للَّه العجب! أيّ الأصول التي خالفتها هذه السنن، وهي من أعظم الأصول؟ فهلّا رُدّ حديث أبي عُمير لمخالفته لهذه الأصول؟ ونحن نقول: معاذ اللَّه أن نرد لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة صحيحة غير معلومة النسخ أبدًا! وحديث أبي عمير يَحتمل أربعة أوجه قد ذَهَبَ إلى كلٍّ منها طائفة. أحدها: أن يكون متقدمًا على أحاديث تحريم المدينة فيكون منسوخًا. الثاني: أن يكون متأخرًا عنها معارضًا لها فيكون ناسخًا. الثالث: أن يكون النغير مما صِيدَ خارج المدينة ثم أُدخل المدينة كما هو الغالب من الصيود. الرابع: أن يكون رخصة لذلك الصغير دون غيره، كما رخص لأبي بُردة في التَّضحية بالعَنَاق دون غيره (¬3)؛ فهو متشابه كما تَرَى، فكيف يُجعل أصلًا يقدم على تلك النصوص الكثيرة المحكمة الصريحة التي لا تحتمل إلّا وجهًا واحدا؟. [نصاب المعشرات] المثال السابع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في تقدير نصاب المعَشَّرات بخمسة أوسق (¬4) بالمتشابه من قوله: "فيما سَقَت السماءُ العشر، ¬
وما سُقي بنَضْحٍ أو غَرْب فنصف العُشر" (¬1)، قالوا: وهذا يعم القليل والكثير (¬2)، وقد عارضه الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدّم الأحوط، وهو الوجوب؛ فيقال: يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر وإلغاء أحدهما بالكلية؛ فإن طاعة الرسول فرضٌ في هذا وفي هذا، ولا ¬
تعارض بينهما بحمد اللَّه بوجه من الوجوه؛ فإن قوله: "فيما سقت السماء العشر"، إنما أُريد به التمييز بين ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدارُ النِّصاب فسكَتَ عنه في هذا الحديث، وبيَّنه نصًا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النَّص الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير ما دل عليه ألبتة إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يُتعلَّق فيه بعمومٍ لم يُقصد، وبيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصُّها من النصوص؟ وياللَّه العجب! كيف يخصّون عموم القرآن والسنة بالقياس الذي أحسن أحواله أن يكون مُختلَفًا في الاحتجاج به، وهو محل اشتباه واضطراب؟ إذ ما من قياسٍ إلّا ويمكن معارضته بقياس مثله أو دونه أو أقوى منه، بخلاف السنة الصحيحة الصريحة فإنها لا يعارضها إلا سنة ناسخة معلومة التأخر والمخالفة، ثم يُقال: إذا خصَّصتم عموم قوله: "فيما سقت السماء العشر" (¬1)، بالقَصَب والحَشيش ولا ذِكرَ لهما في النص فهلَّا خصصتموه بقوله: "لا زَكَاة في حبٍّ ولا ثمرٍ حتى يبلغَ خمسة أوسق" (¬2)؟، وإذا كنتم تخصّون العموم بالقياس فهلا خصَّصتم هذا العام بالقياس الجلي الذي هو من أجلى القياس وأصحه على سائر أنواع المال الذي تجب فيه الزكاة؟ فإن الزكاة الخاصة لم يشرعها اللَّه (¬3) في مال إلا وجعل له نصابًا كالمواشي والذهب والفضة؟ ويقال أيضًا: هلَّا أوجبتم الزكاة في قليل كُلِّ مالٍ وكثيره عملًا بقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، وبقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما من صاحب إبلٍ ولا بقر لا يُؤدي زكاتها إلا بُطح (¬4) لها يوم القيامة بقاعٍ قَرْقر" (¬5)، وبقوله: "ما من صاحب ذهب ولا فضّة لا يؤدي زكاتها إلّا صُفِّحت له يوم القيامة صفائحَ من نار" (¬6)، وهلَّا كان العموم (¬7) عندكم مقدمًا على أحاديث النُّصُب الخاصة؟ وهلا قلتم: هناك تعارض مسقط وموجب فقدَّمنا الموجب احتياطًا؟ وهذا في غاية الوضوح، وباللَّه التوفيق. ¬
[أقل المهر]
[أقل المهر] المثال الثامن والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز النِّكاح بما قلَّ من المهر ولو خاتمًا من حديد (¬1) مع موافقتها لعموم القرآن في قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} [النساء: 24]، وللقياس في جواز التراضي بالمعاوضة على القليل والكثير، بأَثرٍ لا يثبت وقياس من أفسد القياس على قطع يد السارق، وأين النكاح من اللصوصية؟ وأين استباحة الفرج به من قطع (¬2) اليد في السرقة (¬3)؟ وقد تقدم مرارًا أن أصح الناس قياسًا أهل الحديث، وكلّما كان الرجل إلى الحديث أقرب كان قياسه أصح، وكلما كان عن الحديث أبعد كان قياسه أفسد. [من أسلم وتحته أختان] المثال التاسع والثلاثون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة فيمن أسلم وتحته أختان أنه يختر في إمساك مَنْ شاء منهما وتَرْك الأخرى (¬4)، بأنه خلاف الأصول، وقالوا: قياس الأصول يقتضي أنه إن نكح واحدةً بعد واحدة فنكاح الثانية هو المردود، ونكاح الأولى هو الصحيح من غير تخيير، وإن نكحهما معًا فنكاحهما باطل، ولا تخيير، وكذلك حديث مَنْ أسلَم على عشرة نسوة، وربما أوَّلوا التخيير بتخييره في ابتداء العقد على من شاء من المنكوحات، ولفظ الحديث يأبى هذا التأويل أشد الإباء؛ فإنه قال: "أَمْسِك أربعًا وفارق سائِرَهنّ" (¬5)، رواه ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
مَعْمر، عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه أن غيلان أَسْلَم فذكره، قال مسلم: هكذا روى معمر هذا الحديث بالبصرة، فإن رواه عنه ثقة خارج البصريين حكمنا له بالصحة -أو قال: صار الحديث [صحيحًا] (¬1) - وإلا فالإرسالُ أولى، قال البيهقي: فوجدنا سُفيان بن سعيد الثوريّ، وعبد الرحمن بن محمد المُحَاربيّ، وعيسى بن يونس -وثلاثتهم كوفيون- حَدّثوا به عن معمر متصلًا، وهكذا رُوي عن يحيى بن أبي كثير، وهو يَمامَي (¬2)، وعن الفضل بن موسى، وهو خُراساني، ¬
عن معمر متصلًا عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فصحَّ الحديث بذلك (¬1)، وقد رُوي عن أيوب السّختياني، عن نافع وسالم، عن ابن عمر متصلًا، قال أبو علي الحافظ: تفرّد به سوَّار (¬2) بن مُجَشِّر عن أيوب، وسوار بصري ثقة، قال الحاكم: رواة هذا الحديث كلهم ثقات تقوم الحجة بروايتهم. وقد روى أبو داود عن فَيْروز الدَّيْلميّ قال: قلتُ: يا رسول اللَّه إني أسلمت وتحتي أختان، قال: "طلِّق أيتهما شئت" (¬3)، فهذان الحديثان هما الأصول التي ¬
[التفريق بين الذي يسلم وبين امرأته]
نَردُّ ما خالفها من القياس (¬1)، أمَّا أن نقعِّد قاعدة ونقول (¬2): هذا هو الأصل ثم نرد السنة لأجل مخالفة تلك القاعدة فلعمرُ اللَّه لهدم ألف قاعدة لم يؤصِّلها اللَّه ورسوله أفرضُ علينا من رد حديث واحد! وهذه القاعدة معلومة البطلان من الدين؛ فإن أنكحة الكفار لم يتعرض لها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كيف وقعت وهل صَادَفت الشروط المعتبرة في الإسلام فتصح أم لم تُصادفها فتبطل (¬3)، وإنما اعتبر حالها وقت إسلام الزوج؛ فإن كان ممن يجوزُ له المقام مع امرأته أقرَّهما، ولو كان في الجاهلية قد وَقَع على غير شرطه من الوَلي والشهود وغير ذلك، وإن لم يكن الآن ممن يجوز له الاستمرار لم يقر عليه كما لو أسلم وتحته ذات رحم محرم أو أختان أو أكثر من أربع؛ فهذا هو الأصل الذي أصَّلته سنةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما خالفه فلا يُلتفت إليه، واللَّه الموفق. [التفريق بين الذي يسلم وبين امرأته] المثال الأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لم يكن يُفرِّق بين من أسلم وبين امرأته إذا لم تسلم معه، بل متى أسلم الآخر فالنكاح بحاله ما لم تتزوج" (¬4)، هذه سنته المعلومة. قال الشافعيُّ: أسلم أبو سُفيان بن حرب بمرّ الظَّهران (¬5)، وهي دار خزاعة، وخزاعة مسلمون قبل الفتح في (¬6) دار الإسلام، ورجع إلى مكة، وهند بنت عتبة ¬
مقيمة على غير الإسلام، فأخذت بلحيته، وقالت: اقتلوا الشيخ الضَّال، ثم أسلمت هند بعد إسلام أبي سفيان بأيام كثيرة، وقد كانت كافرة مقيمة بدار ليست بدار الإسلام، وأبو سفيان بها مسلم وهند كافرة، ثم أسلمت قبل انقضاء العدة واستقرا على النكاح؛ لأن عدّتها لم تنقض حتى أسلمت، وكان كذلك حكيم بن حزام وإسلامه، وأسلمت امرأة صفوان بن أمية وامرأة عكرمة بن أبي جهل بمكة، وصارت دارهما دار الإسلام وظهر حكم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمكة وهرب عكرمة إلى اليمن وهي دار حرب، وصفوان يريد اليمن وهي دار حرب، ثم رجع صفوان إلى مكة وهي دار الإسلام وشهد حُنَيْنًا، وهو كافر ثم أسلم فاستقرت امرأته عنده بالنكاح الأول، وذلك أنه لم تنقض عدتها (¬1)، وقد حَفظَ أهلُ العلم بالمغازي أن امرأةً من الأنصار كانت عند رجلٍ بمكة فأسلمت وهاجرت إلى المدينة، فقدم زوجها وهي في العدة، فاستقرّا على النكاح (¬2). قال الزُّهريُّ: لم يبلغني أن امرأةً هاجرت إلى اللَّه ورسوله وزوجها كافر مقيم بدار الكفر (¬3) إلّا فرّقت هجرتُها بينها وبين زوجها إلا أن يقدم زوجها مهاجرًا قبل أن تنقضي عدتها، وإنه لم يبلغنا أن امرأةً فُرِّق بينها وبين زوجها إذا قَدِمَ وهي في عدّتها (¬4). وفي "صحيح البخاري" عن ابن عباس قال: كان المشركون على منزلتين من النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، وأهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه؛ فكان إذا هاجرت امرأةٌ من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيضَ وتطهر، فإذا طهرت حلَّ لها النكاح، فإن هاجر (¬5) قبل أن تنكح رُدَّت إليه (¬6). وفي "سنن أبي داود" عن ابن عباس قال: ¬
"ردَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- زينب ابنته على أبي العَاص بن الربيع بالنكاح الأول، ولم يُحدث شيئًا بعد ست سنين" (¬1). وفي لفظ لأحمد: "ولم يُحدث شهادة ولا صداقًا"، وعند الترمذي: "ولم يُحدث نكاحًا"، قال الترمذي: هذا حديث ليس (¬2) بإسناده بأس. وقد رُوي بإسناد ضعيفٍ عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدّه: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَّها على أبي العاص بنكاح جديد" (¬3). ¬
قال الترمذي (¬1): في إسناده مقال، وقال الإمام أحمد (¬2): "هذا حديث ضعيف، والصحيح أنه أقرّهما على النكاح الأول"، وقال الدارقطني (¬3): "هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث ابن عباس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَّها بالنكاح الأول"، وقال الترمذي في كتاب "العلل" (¬4) له: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث، فقال: حديث ابن عباس في هذا الباب أصح من حديث عمرو بن شعيب. فكيف يجعل هذا الحديث الضعيف أصلًا ترد به السنة الصحيحة المعلومة ويجعل خلاف الأصول (¬5)؟. فإن قيل: إنما جعلناها خلاف الأصول لقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10]، وقوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ] (¬6)} [البقرة: 221]، وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10]، ولأن اختلاف الدين مانعٌ من ابتداء النكاح؛ فكان مانعًا من دوامه كالرضاع. قيل: لا تخالف السنة شيئًا من هذه الأصول، إلّا هذا القياس الفاسد؛ فإن هذه الأصول إنما دلَّت على تحريم نكاح الكافر ابتداء والكافرة غير الكتابيين، ¬
[ذكاة الجنين]
وهذا حق لا خلاف فيه بين الأمة، ولكن أين في هذه الأصول ما يوجب تعجيل الفرقة بالإسلام وأن لا تتوقف على انقضاء العدة؟ ومعلوم أن افترَاقَهما في الدين سببٌ لافتراقهما في النكاح، ولكن توقف السببِ على وجود شرطه وانتفاء مانعه لا يُخرجه عن السببية، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع عَملَ عمله واقتضى (¬1) أثره، والقرآن إنما دلَّ على السببية، والسنة دلَّت على شرط السبب ومانعه كسائر الأسباب التي فصَّلت السنة شروطَها وموانعها؛ كقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [جَزَاءً بِمَا كَسَبَا] (¬2)} [المائدة: 38] ونظائر ذلك؛ فلا يجوز أن يُجعل بيان الشروط والموانع معارضة لبيان الأسباب والموجبات فتعود السنة كلها أو أكثرها معارضة للقرآن، وهذا محال. [ذكاة الجنين] المثال الحادي والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاةَ الجنين ذكاةُ أُمِّه (¬3)، بأنها خلاف الأصول. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[إشعار الهدي]
وهي (¬1) تحريم الميتة، فيُقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة هو الذي أباح الأجنّة المذكورة، فلو قدر أنها ميتة لكان استثناؤها بمنزلة استثناء السمك والجَرَاد من الميتة، فكيف وليست بميتة؟ فإنها جزء من أجزاء الأم والذَّكاة قد أتت على جميع أجزائها، فلا يحتاج أن يُفرد كل جزء منها بذكاة، والجنين تابع للأم جزء منها، فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة، ولو لم ترد السنة بالإباحة، فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟ فإن قيل: فالحديث حجةٌ عليكم، فإنه قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه" (¬2)، والمراد التشبيه، أي ذكاته كذكاة أمّه، وهذا يدلّ على أنه لا يُباح إلّا بذكاة تشبه ذكاة الأم. قيل: هذا السؤال شقيق قول القائل: "كلمة تكفي العاقل"، فلو تأمَّلتم الحديث لم تستحسنوا إيراد هذا السؤال، فإن لفظ الحديث هكذا: عن أبي سعيد قال: قُلنا: يا رسول اللَّه، ننحرُ الناقةَ ونَذبحُ البقرةَ والشاةَ وفي بطنها الجنين أنلقيه أم نأكله؟ قال: "كُلُوه إن شئتم، فإن ذكاتَه ذكاةُ أمه" (2)، فأباح لهم أكله معلّلًا بأن ذكاة الأم ذكاة له، فقد اتفق النص والأصل والقياس، وللَّه الحمد. [إشعار (¬3) الهدي] المثال الثاني والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في إشْعار ¬
الهدي (¬1)، بأنها خلاف الأصول، إذ الإشعار مُثْلة (¬2)، ولعمرُ اللَّه إن هذه السنة خلاف الأصول الباطلة، وما ضرَّها ذلك شيئًا، والمثلة المحرمة هي العدوان الذي لا يكون عقوبة ولا تعظيمًا لشعائر اللَّه، فأما شَقُّ صفحة سَنَام البعير المستحب أو الواجب ذبحه ليسيل دمه قليلًا فيظهر شعار الإسلام وإقامة هذه السنة التي هي من أحب الأشياء إلى اللَّه فعلى وِفْق الأصول، وأي كتاب أو سنة حَرَّم ذلك حتى يكون خلافًا للأصول؟ وقياس الإشعار على المثلة المحرمة من أفسد قياسٍ على وجه الأرض، فإنه قياس ما يحبُّه اللَّه ويرضاه على ما يُبغضه ويسخطه ويَنهى عنه، ولو لم يكن في حكمة الإشعار إلّا تعظيم شعائر اللَّه وإظهارها وعلم الناس أن (¬3) هذه قرابين اللَّه عز وجل تُساق إلى بيته تُذبح له ويُتقرّب بها إليه عند بيته كما يتقرب إليه بالصلاة إلى بيته عكس ما عليه أعداؤه المشركون الذين يذبحون لأربابهم ويصلّون لها، فشرع لأوليائه وأهل توحيده أن يكون نسكهم وصلاتهم للَّه وحده، وأن يظهروا شعائرَ توحيده غاية الإظهار ليُعلوا دينه على كل دين، فهذه هي الأصول الصحيحة التي جاءت السنة بالإشعار على وفقها (¬4)، وللَّه الحمد. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[لا دية لمن اطلع على قوم فأتلفوا عينه]
[لا دية لمن اطلع على قوم فأتلفوا عينه] المثال الثالث والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لو أنَّ امرأً اطَّلع عليك بغير إذنٍ فخَذَفْتُهْ بحصاةٍ ففقأتَ عَيْنه ما كان عليك جُنَاح" (¬1) متفق عليه، وفي أفراد مسلم: "مَنْ اطَّلع في بيت قومٍ بغيرِ إذْنِهم فقد حَلَّ لهم أن يفقأوا عينه" (¬2)، وفي "الصحيحين" من حديث سهل بن سعد: "اطَّلع رجلٌ من جحر في حُجرةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومعه مِدْرَى (¬3) يحكُّ بها رأسه، فقال: لو أعلم أنك تنظرُ لطعنتُ به في عينك، إنما جُعل الاستئذانُ من أجل النَّظر" (¬4)، وفي "صحيح مسلم" عن أنس: "أن رجلًا اطَّلع من بعض حُجَرِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقام إليه بمِشْقَص، أو بمشاقص (¬5)، قال: وكأني أنظر إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَخْتِلُه ليطعنَه" (¬6)، وفي "سنن البيهقي" بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من اطلع على قوم بغير إذنهم فرموه فأصابوا عينه فلا دية له ولا قصاص" (¬7)، فردَّت هذه السنن بأنها خلاف الأصول، فإن اللَّه إنما أباح قلع العين ¬
[الكلام عن وضع الجوائح]
بالعين، لا بجناية النظر، ولهذا لو جَنَى عليه بلسانه لم يُقطع، ولو استمع عليه بأذُنه لم يجز [له] (¬1) أن يقطع أذنه، فيقال: بل هذه السنن من أعظم الأصول، فما خالفها فهو خلاف الأصول (¬2)، وقولكم: "إنما شرع اللَّه سبحانه أخذ العين بالعين"، فهذا حقٌّ في القصاص، وأما العضو الجاني المعتدي الذي لا يمكن دفع ضرره وعدوانه إلّا برميه، فإن الآية لا تتناوله نفيًا ولا إثباتًا، والسنة جاءت ببيان حكمه بيانًا ابتدائيًا لِما سَكتَ عنه القرآن، لا مخالفًا لما حكم به القرآن، وهذا قسم (¬3) آخر غير فقء العين قصاصًا، وغير دفع الصائل الذي يدفع بالأسهل فالأسهل، إذ المقصود دفعُ ضَررِ صياله، فإذا اندفع بالعصا لم يُدفع بالسيف، وأما هذا المعتدي بالنظر المحرَّم الذي لا يمكن الاحتراز منه، فإنه إنما يقع على وجه الاختفاء والختل، فهو قسم آخر غير الجاني وغير الصائل الذي لم يتحقق عدوانُه، ولا يقع هذا غالبًا إلّا على وجه الاختفاء وعدم مشاهدة غير الناظر إليه (¬4)، فلو كُلِّف المنظور إليه إقامة البيّنة على جنايته لتعذَّرت عليه، ولو أُمر بدفعه بالأسهل فالأسهل ذهبت جناية عدوانه بالنظر إليه وإلى حَريمه هدرًا، والشريعة الكاملة تأبى هذا وهذا، فكان أحسن ما يمكن وأصلحه وأكفه لنا وللجاني ما جاءت به السنة التي لا مُعارض لها ولا دافع لصحتها من خذف (5) ما هنالك، وإن لم يكن هناك بصرٌ عادٍ لم يضر خذف (¬5) الحصاة، وإن كان هنالك بصر عادٍ فلا يلومنَّ (¬6) إلا نفسه، فهو الذي عَرَّضه صاحبه للتلف، فأدناه إلى الهلاك، والخاذف (5) ليس بظالم له، والناظر خائن ظالم، والشريعة أكمل وأجلّ من أن تضيع حق هذا الذي قد هُتكت حرمته وتُحيله في الانتصار على التعزير بعد إقامة البتنة، فحَكَم اللَّه فيه بما شَرَعه على لسان رسوله، ومَنْ أحسن من اللَّه حكمًا لقوم يوقنون؟ [الكلام عن وضع الجوائح] المثال الرابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع ¬
الجوائح، بأنها خلاف الأصول كما في "صحيح مسلم" عن جابر يرفعه: "لو بعتَ من أخيك ثمرًا فأصابته جائحةٌ فلا يحلُّ لك أن تأخذَ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " (¬1)، وروى سفيان بن عُيينة، عن حُميد، عن سُليمان، عن جابر أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نَهى عن بيع السّنين، وأمر بوضع الجوائح" (¬2)، فقالوا: هذه خلاف الأصول، فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرّف فيها، وتمَّ نقل المُلك إليه، ولو ربح فيها كان الربح له، فكيف تكون من ضمان البائع؟ وفي "صحيح مسلم" عن أبي سعيد قال: أُصيب رجل في عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في ثمارٍ ابتاعها، فكثر دَيْنُه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تصدَّقوا عليه"، فتصدَّقوا عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك" (¬3)، وروى مالك عن أبي الرِّجَال، عن أُمّه عمرة أنه سمعها تقول: ابتاع رجل ثَمَر حائطٍ في زَمنِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فعالجه، وأقام عليه حتى تبيَّن له النقصان، فسأل رب الحائط أن يضع عنه، فحلف لا يفعل، فذهبت أُمُّ المشتري إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرت له ذلك، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تألَّى أنْ لا يفعل خيرًا"، فسمع بذلك رب المال، فأتى إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: يا رسول اللَّه هو له (¬4). ¬
[الجواب عن شبهات القياسيين في المسألة]
[الجواب عن شبهات القياسيين في المسألة] والجواب أن وضع الجوائح لا يخالف شيئًا من الأصول الصحيحة، بل هو مقتضى أصول الشريعة، ونحن بحمد اللَّه نبيِّن (¬1) هذا بمقامين: أمّا الأول: فحديث وَضْع الجوائح (¬2) لا يخالف كتابًا ولا سنةً ولا إجماعًا، وهو أصل بنفسه، فيجب قبوله، وأمّا ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النص له بالإهدار، كيف وهو فاسدٌ في نفسه؟ وهذا يتبين بالمقام الثاني: وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة فهو مقتضى القياس الصحيح، فإن المشتري لم يتسلَّم الثمرة ولم يقبضها القبض التام الذي يوجب نقل الضمان إليه، فإنَّ قبضَ كُلِّ شيء بحسبه (¬3)، وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئًا فشيئًا، فهو كقبض المنافع في الإجارة، وتسليم الشجرة إليه كتسليم العين المؤجَّرة من الأرض والعقار والحيوان، وعُلَق البائع لم تنقطع عن المبيع، فإن له سقي الأصل وتعاهده، كما لم تنقطع عُلَق المؤجِّر عن العين المستأجرة، والمشتري لم يتسلم التسليم التام كما لم يتسلم المستأجر التسليم التام، فإذا جاء أمرٌ غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري لم يحل للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه اللَّه سبحانه منها قبل تمكّنه من قبضها القبض المعتاد، وهذا معنى قول النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرأيت إنْ منعَ اللَّه الثّمرة؟ فبمَ يأخذ أحدكُم مالَ أخيه بغير حق؟ " (¬4)، فذكر الحُكم، وهو قوله: "فلا يحل له أن يأخذ منه شيئًا"، وعلّة الحكم، وهو قوله: "أرأيت إن منع اللَّه الثمرة؟ "، إلى آخره، وهذا الحكم نص لا يحتمل التأويل، والتعليل وصف مناسبٌ لا يقبل الإلغاء ولا المعارضة. وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك، ولهذا لو تمكَّن من القبض المعتاد في وقته ثم أخَّره لتفريط منه أو لانتظار غلاء السعر كان التلف من ضمانه ولم توضع عنه الجائحة. وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أُصيب في ثمار ابتاعها فمن باب رَدِّ المحكم بالمتشابه، فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة (¬5)، بل لعله أصيب فيها ¬
[صلاة من صلى خلف الصف وحده]
بانحطاط سِعْرها، وإن قدر أن المصيبة كانت جائحة عامة، [فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة] (¬1) بل لعلها جائحة خاصة كسرقة اللصوص التي يمكن الاحتراز منها، ومثل هذا لا يكون جائحة تُسقط الثمن عن المشتري، بخلاف نهب (¬2) الجيوش والتلف بآفة سماوية، وإن قدر أن الجائحة عامة فليس في الحديث ما يبيِّن أن التَّلف لم يكن بتفريطه في التأخير، ولو قدر أن التلف لم يكن بتفريطه فليس فيه أنه طلب الفسخ وأن توضع عنه الجائحة (¬3)، بل لعله رضي بالمبيع ولم يطلب الوضع، والحق في ذلك له؛ إن شاء طلبه، وإن شاء تركه، فأين في الحديث أنه طلب ذلك، وأن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- منع (¬4) منه؟ ولا يتم الدليل إلّا بثبوت المقدمتين، فكيف يعارض نص قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير معنى واحد وهو نصٌّ فيه بهذا الحديث المتشابه؟! ثم قوله فيه: "ليس لكم فيه إلّا ذلك"، دليل على أنه لم يبق لبائع الثمار في ذمة المشتري غير ما أخذه، وعندكم المال كله في ذمّته، فالحديث حجة عليكم. وأما المعارضة بحديث (¬5) مالك فمن أبطل المعارضات وأفسدها، فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجه ما؟ وإنما فيه أنه عالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصان، ومثل هذا لا يكون سببًا لوضع الثمن، وباللَّه التوفيق. [صلاة من صلى خلف الصف وحده] المثال الخامس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وجوب الإعادة على مَنْ صلَّى خلف الصف وحده (¬6) كما في "المسند" بإسناد صحيح، وصحيحي: "ابن حبان" "وابن خزيمة"، عن علي بن شَيْبان: "أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا يُصلّي خَلف الصف، فوقف حتى انصرف الرجل، فقال له: استقبل صلاتَك فلا صلاةَ لفردٍ خلف الصَّفِّ" (¬7)، وفي "السنن"، و"صحيحي ابن حبان ¬
وابن خزيمة"، عن وابصة بن معبد: "أنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيدَ صلاته" (¬1)، وفي "مسند الإمام أحمد"، سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل صلَّى وحده خلف الصف قال: "يُعيد صلاته" (¬2)، فردّت ¬
هذه السنن المحكمة بأنها خلاف الأصول، ولعمرُ اللَّه إنها هي محضُ الأصول، وما خالفها فهو خلاف الأصول، وردت بالمتشابه من حديث ابن عباس حيث أحرم عن يسار النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأداره إلى يمينه، ولم يأمره باستقبال الصلاة (¬1)، وهذا من أفسد الرد، فإنه لا يشترط أن تكون تكبيرة الإحرام من المأمومين في حالٍ واحد، بل لو كبَّر أحدهم وحده ثم كبَّر الآخر بعده صحت القدوة ولم يكن السابق فذًّا، وإن أحرم وحده فالاعتبار بالمصافّة فيما تُدرك به الركعة، وهو الركوع، وأفسد من هذا الرد رَدُّ الحديث بأن الإمام يقف فَذًّا، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجلّ وأعظم في صدور أهلها أن تُعارض بهذا وأمثاله. وأقبح من هذه المعارضة معارضتها بأن المرأة تقف خلف الصف وحدها، فإن هذا هو موقفها المشروع بل الواجب، كما أن موقفَ الإمام المشروع أن يكونَ وحده أمام الصف. وأمّا موقف الفذ خلف الصف فلم يشرعه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ألبتَّة، بل شرع الأمر بإعادة الصلاة لمن وقف فيه، وأخبر أنه لا صلاةً له. فإن قيل: فهب أن هذه المعارضات لم يسلم منها شيء، فما تصنعون بحديث أبي بكرة حين ركع دون الصف ثم مشى راكعًا حتى دخل في الصف، فقال له النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "زادَك اللَّه حرصًا ولا تَعُد" (¬2)، ولم يأمره بإعادة الصلاة، وقد وقعت منه تلك الركعة فذًّا؟. قيل: نقبله على الرأس والعينين، ونمسك قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تعد"، فلو فعل أحد ذلك غير عالم بالنهي لقلنا له كما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سواء، فإن عاد بعد علمه بالنهي فإما أن يجتمع مع الإمام في الركوع، وهو في الصف أولًا، فإن جَامَعه في الركوع، وهو في الصف صَحَّت صلاته؛ لأنه أدرك الركعة، وهو غير فذ كما لو أدركها قائمًا (¬3)، وإن رفع الإمام رأسه [من الركوع] (¬4) قبل أن يدخل في الصف فقد قيل: تصح صلاته، [وقد] (¬5) قيل: لا تصح له تلك الركعة، ¬
[الأذان للفجر قبل دخول وقتها]
ويكون فذًا فيها، والطائفتان احتجّوا بحديث أبي بكرة، والتحقيق أنه قضيةُ عين: يحتملُ دخوله في الصف قبل رفع الإمام، ويحتمل أنه لم يدخل فيه حتى رفع الإمام، وحكاية الفعل لا عمومَ لها، فلا يمكن أن يحتجّ بها على الصورتين، فهي إذًا مجملة متشابهة، فلا يُترك لها النَّص المحكم الصريح، فهذا مقتضى الأصول نصًا وقياسًا (¬1)، وباللَّه التوفيق. [الأذان للفجر قبل دخول وقتها] المثال السادس والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في جواز الأذان للفجر قبل دخول وقتها كما في "الصحيحين" من حديث سالم بن عبد اللَّه، عن أبيه، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابنِ أُمِّ مكتوم" (¬2)، وفي "صحيح مسلم"، عن سَمُرة عنْ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يغرَّنكم نداء بلال، ولا هذا البَيَاض حتى يَنفجرَ الفَجرُ" (¬3)، وهو في "الصحيحين" من حديث ابن مسعود، ولفظه: "لا يمنعن أحدكم أذان بلال من سحوره (¬4)، فإنه يؤذن -أو قال: ينادي- بليل ليرجعَ قائِمَكُم وينتبه نائمُكم" (¬5)، قال مالك (¬6): لم تَزلْ الصبح يُنادى لها قبل الفجر، فردَّت هذه السنة لمخالفتها ¬
الأصول والقياس على سائر الصلوات، وبحديث حماد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: "أن بلالًا أذن قبل طلوع الفجر، فأمره النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يرجع فينادي: ألا إن العبدَ نام، ألا إن العبدَ نام"، فرجع فنادى: "ألا إن العبد نام" (¬1)، ¬
ولا ترد السنة الصحيحة بمثل ذلك، فإنها أصل بنفسها، وقياس وقت الفجر على غيره من الأوقات: لو لم يكن فيه إلا مصادمته للسنة لكفى في رَدّه، فكيف والفرق ¬
[لا يحتج بحديث يخالف أحاديث الثقات]
قد أشار إليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو ما في النداء قبل الوقت من المصلحة والحكمة التي لا تكون في غير الفجر؟ وإذا اختصّ وقتها بأمر لا يكونُ في سائر الصلوات امتنعَ الإلحاق. وأما حديث حماد عن أيوب، فحديث معلول عند أئمة الحديث، لا تقوم به حجة، قال أبو داود: لم يروه عن أيوب إلا حماد بن سلمة، وقال إسحاق بن إبراهيم بن حبيب (¬1): سألت عليًا -وهو ابن المديني- عن حديث أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أن بلالًا أذّن بليل فقال [له] (¬2) النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ارجع فناد: إنّ العبد نام"، فقال: هو عندي خطأ، لم يتابَع حماد بن سلمة على هذا، إنما روي أن بلالًا كان يُنادي بليل (¬3). قال البيهقي: قد تابعه سعيد بن زَرَبي (¬4)، وهو ضعيف (¬5). وأما حماد بن سلمة فإنه أحد أئمّة المسلمين حتى قال الإمام أحمد: إذا رأيت الرجل يغمز حماد بن سلمة فاتهمه، فإنه كان شديدًا على أهل البدع (¬6). قال البيهقي (¬7): "إلا أنه لما طعن في السن ساء حفظه فلذلك ترك البخاري الاحتجاج بحديثه، وأما مسلم فاجتهد في أمره وأخرج من حديثه عن ثابت ما سمع منه قبل تغيّره، وما سوى حديثه عن ثابت لا يبلغ أكثر من اثني عشر حديثًا أخرجها في الشواهد دون الاحتجاج به. [لا يحتج بحديث يخالف أحاديث الثقات] وإذا كان الأمر كذلك فالاحتياط لمن راقَبَ اللَّه عزّ وجلّ أن لا يحتجّ بما يجد من حديثه مخالفًا لأحاديث الثقات الأثبات، وهذا الحديث من جملتها". ثم ¬
ذكر من طريق الدارقطني عن معمر عن أيوب قال: أذَّن بلال مرة بليل. قال الدارقطني: هذا مرسل (¬1)، ثم ذكر (¬2) من طريق إبراهيم بن عبد العزيز (¬3) بن عبد الملك بن أبي مَحْذُورة، عن عبد العزيز بن أبي رَوّاد، [عن نافع]، عن ابن عمر أن بلالًا قال له النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما حَمَلك على ذلك؟ قال: استيقظتُ وأنا وَسْنَان، فظننتُ أن الفجر قد طلع، فأمره النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ينادي في المدينة: ألا إن العبد قد نام، وأقعده إلى جانبه حتى طلع الفجر"، ثم قال: هكذا رواه إبراهيم بن عبد العزيز (¬4)، وخالفه شُعيب بن حرب، فقال عن عبد العزيز، عن نافع، عن مُؤذّن لعمر يُقال له: مَسْرُوح أنَّه أذَّن قبل الصبح، فأمره عمر أن ينادي: ألا إن العبد [قد] (¬5) نام، قال أبو داود: ورواه حماد بن زيد، عن عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع [أو غيره أنّ مؤذنًا لعمر يقال له: مسروح أو غيره، ورواه الدراوردي، عن عُبيد اللَّه بن عمر، عن نافع] (¬6)، عن ابن عمر: كان لعمر مُؤذّن يقال له: مسعود، فذكر نحوه (¬7)، قال أبو داود (¬8): وهذا أصح من ذلك، يعني: حديث عمر أصح. قال البيهقي (¬9): وروي من وجه آخر عن عبد العزيز موصولًا، ولا يصح، رواه عامر بن مدرك عنه، عن نافع، عن ابن عمر: أن بلالًا أذّن قبل الفجر، فغضب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمره أن يُنادي: إن العبد نام، فوجد بلال وجدًا شديدًا. ¬
قال الدارقطني (¬1): وهم فيه عامر بن مدرك، والصواب عن شعيب بن حرب، عن عبد العزيز، عن نافع، عن مُؤذن عمر، عن عمر من قوله. وروي عن أنس بن مالك، ولا يصح، وروي عن أبي يوسف القاضي، عن [ابن] (¬2) أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن بلالًا أذَّن قبل الفجر، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يصعد فينادي: ألا إن العبد نام، ففعل، وقال: ليت بلالًا لم تلده أمه، وابتلَّ من نَضْح جبينه (¬3). قال الدارقطني: تفرَّد به أبو يوسف عن سعيد -يعني موصولًا- وغيره يُرسله عن سعيد، عن قتادة، عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، والمرسل أصح. ورواه الدارقطني (¬4) من طريق محمد بن القاسم الأسدي: ثنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، عن أنس، ثم قال: محمد بن القاسم الأسدي ضعيف جدًا، وقال البخاري: كذَّبه الإمام أحمد (¬5)، وروي (¬6) عن حُميد بن هلال أن بلالًا أذن ليلةً بسواد، فأمره النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يرجعَ إلى مقامه فينادي: إن العبد نام، ورواه إسماعيل بن مسلم، عن حُميد، عن أبي قتادة، وحُميد لم يلق أبا قتادة، فهو مرسل بكل حال. وروي عن شَدَّاد مولى عياض (¬7)، قال: جاء بلال إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو يتسحّر فقال: لا تؤذّن حتى يطلع الفجر، وهذا مرسل، قال أبو داود: شَدّاد مولى عياض لم يدرك بلالًا. وروى الحسن بن عُمارة، عن طلحة بن مُصرِّف، عن سويد بن غفلة، عن ¬
بلال قال: أمرني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ألا أؤذِّن حتى يطلع الفجر (¬1)، وعن الحكم، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بلال مثله (¬2)، ولم يروه هكذا غير الحسن بن عمارة، وهو متروك، و [رواه] (¬3) الحجاج بن أرطاة، عن طلحة وزبيد عن سويد بن غفلة أن بلالًا لم يؤذن حتى ينشق الفجر (¬4)، هكذا رواه، لم يذكر فيه أمر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكلاهما ضعيفان. وروي عن سفيان، عن سليمان التَّيمي، عن أبي عثمان أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لبلال: لا تؤذن -وجمع سفيان أصابعه الثلاث- لا تُؤذّن حتى يقول الفجر هكذا -وصفَّ سفيان بين السبابتين ثم فرَّق بينهما (¬5) - قال: وروينا عن سُليمان التّيمي، عن أبي عثمان النَّهدي، عن ابن مسعود ما دلَّ على أذان بلال بليل (¬6)، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر معاني تأذينه بالليل، وذلك أولى بالقبول لأنه موصول وهذا مرسل. وروي عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال: قالت لي عائشة: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أوتر (¬7) من الليل رَجَع إلى فراشه، فإذا أذَّن بلال قام، وكان (¬8) بلال يُؤذّن إذا طَلَع الفجر، فإن كان جنبًا اغتسل، وإن لم يَكن توضأ ثم صلَّى ركعتين (¬9)، وروى الثوري، عن أبي إسحاق في هذا الحديث ¬
قال: ما كان المؤذن يؤذن حتى يطلع الفجر (¬1)، وروى شعبة، عن أبي إسحاق، عن الأسود: سألتُ عائشة عن صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالليل، قالت: كان ينام أول الليل، فإذا كان السحر أوى (¬2)، ثم يأتي فراشه فإن كانت له حاجة إلى أهله ألمَّ بهم، ثم ينام، فإذا سمع النداء -وربما قالت الأذان- وثَبَ، [وربما] (3) قالت: قام، فإذا كان جُنبًا أفاض عليه الماء، [وربما] (¬3) قالت: اغتسل، وإن لم يكن جنبًا توضأ ثم خرج للصلاة (¬4). وقال زهير بن مُعاوية عن أبي إسحاق في هذا الحديث: فإذا كان عند النّداء الأول وثب (¬5)، قال البيهقي (¬6): وفي روايته ورواية شعبة كالدليل على أن هذا النداء كان قبل طلوع الفجر، وهي موافقة لرواية القاسم عن عائشة، وذلك أولى من رواية من خالفها (¬7)، وروي عن عبد الكريم، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة قالت: كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أذن المؤذن صلّى ركعتين (¬8)، ثم خرج إلى المسجد وحرم الطعام، وكان لا يؤذن إلّا بعد الفجر (¬9)، قال البيهقي: هكذا في ¬
[شبهة وردها]
هذه الرواية، وهو محمول إن صح على الأذان الثاني، والصحيح عن نافع بغير هذا اللفظ، ورواه مالك، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة زوج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنها أخبرته أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا سكت المؤذن من الأذان لصلاة الصبح صلّى ركعتين خفيفتين قبل أن تقام الصلاة، والحديث في "الصحيحين" (¬1). [شبهة وردها] فإن قيل: عمدتكم في هذا إنما هو على حديث بلال، ولا يمكن الاحتجاج به، فإنه قد اضطرب الرواة فيه: هل كان المؤذن بلالًا أو ابن أم مكتوم، وليست إحدى الروايتين أولى من الأخرى، فتتساقطان، فروى شُعبة عن خبيب بن عبد الرحمن قال: سمعتُ عمَّتي أُنيسة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن ابن [أم] (¬2) مكتوم يُنادي بليل، فكلوا واشربوا حتى يُنادي بلال" (¬3)، رواه البيهقي وابن حِبَّان في "صحيحه". ¬
فالجواب أن هذا الحديث قد رواه ابن عمر، وعائشة، وابن مسعود، وسمرة بن جندب عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن بلالًا يؤذن بليل" (¬1)، وهذا الذي رواه صاحبا (¬2) "الصحيح"، ولم يختلف عليهم في ذلك، وأما حديث أنيسة (¬3) فاختلف عليها على (¬4) ثلاثة أوجه: ¬
[الصلاة على القبر]
أحدها: كذلك، رواه محمد بن أيوب، عن أبي الوليد وابن عمر، عن شعبة. الثاني: كحديث عائشة وابن عمر: "إن بلالًا يؤذن بليل"، هكذا رواه محمد بن يونس الكُديمي، عن أبي الوليد، عن شعبة، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي وعمرو بن مرزوق عن شعبة. الثالث: روي على الشك: "إن بلالًا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يُؤذِّن ابن أم مكتوم"، أو قال: " [إن] (¬1) ابن أم مكتوم يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال"، كذلك رواه سُليمان بن حرب وجماعة، والصواب رواية أبي داود الطيالسي وعَمرو بن مرزوق لموافقتها لحديث ابن عمر وعائشة، وأما رواية أبي الوليد وابن عمر فممّا انقلب فيها لفظ الحديث، وقد عارضها رواية الشك ورواية الجزم بأن المؤذن بليل هو بلال، وهو الصواب بلا شك، فإنَّ ابنَ أم مكتوم كان ضرير البصر، ولم يكن له علم بالفجر، فكان إذا قيل له: "طَلَع الفَجْرُ"، أذَّنَ، وأمّا ما ادّعاه بعضُ الناس (¬2) أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جعل الأذان نُوَبًا بين بلال و [بين] (¬3) ابن أم مكتوم، وكان كلٌّ منهما في نوبته يؤذّن بليل، فأمر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- الناس أن يأكلوا ويشربوا حتى يؤذن الآخر، فهذا كلامٌ باطلٌ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يجئ في ذلك أثر قط، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مرسل ولا متّصل، ولكن هذه طريقة من يجعل غلط الرواة شريعة ويحملها على السنة، وخَبرُ ابنِ مسعود، وابنِ عمر، وعائشة، وسَمُرة الذي لم يختلف عليهم فيه أَوْلى بالصحة، واللَّه أعلم. [الصلاة على القبر] المثال السابع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المستفيضة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصلاة على القَبْر، كما في "الصحيحين" من حديث ابن عباس: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلّى على قَبرٍ منبوذٍ، فصفَّهم وتقدَّم فكبَّر [عليه] (¬4) أربعًا" (¬5)، وفيهما من ¬
حديث أبي هريرة: "أنَّه صَلَّى على قبرِ امرأة سوداء كانت تَقُمُّ المسجد" (¬1)، وفي "صحيح مسلم" من حديث أنس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلَّى على قبر امرأة بعدما دفنت" (¬2)، وفي "سنن" البيهقي والدارقطني عن ابن عباس أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى على قَبْر بعد شهرٍ (¬3)، وفيهما [عنه] (¬4): "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلّى على ميت بعد ثلاث" (¬5)، ¬
وفي "جامع الترمذي": "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- صلَّى على أُمّ سعد بعد شهر" (¬1). فردّت هذه السنة (¬2) المحكمة بالمتشابه من قوله: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلّوا إليها" (¬3)، وهذا حديث صحيح والذي قاله [هو النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬4) الذي صَلَّى على القبر، فهذا قوله وهذا فعله، ولا يناقض أحدهما الآخر، فإنَّ الصَّلاةَ المنهيَّ عنها إلى القبر غير الصلاة التي على القبر، فهذه صلاة الجنازة على الميت التي لا تختصُّ بمكان، بل فِعْلُها في غير المسجد أفضل من فعلها فيه (¬5)، فالصَّلاةُ عليه على قبره من جنس الصلاة عليه على نعشه، فإنه المقصودُ بالصلاة في الموضعين، ولا فَرقَ بين كونه على النعش وعلى الأرض وبين كونه في بطنها، بخلاف سائر الصلوات، فإنها لم تُشرع في القبور ولا إليها؛ لأنها ذريعة إلى ¬
اتخاذها مساجد، وقد لَعَنَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنْ فعل ذلك (¬1)، فأين ما لعن فاعله وحذّر منه وأخبر أن أهله شرار الخلق كما قال: "إنَّ من شِرارِ الخلق من تدركهم الساعةُ وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد" (¬2)، إلى ما فعله [رسول اللَّه] (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- مرارًا متكرّرة؟ وباللَّه التوفيق. ¬
[الجلوس على فراش الحرير]
[الجلوس على فراش الحرير] المثال الثامن والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في النهي عن الجلوس على فراش الحرير، كما في "صحيح البخاري"، من حديث حذيفة: "نَهانَا رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن نشربَ في آنية الذهب والفضة، وأن نأكلَ فيها (¬1)، وعن الحرير والدِّيباج، وأن نجلس عليه، وقال: هو لهم في الدنيا ولنا في الآخرة" (¬2)، ولو لم يأت هذا النص لكان النهي عن لبسه متناولًا لافتراشه (¬3) كما هو متناول للالتحاف به، وذلك لبس لغةً وشرعًا كما قال أنس: "فقمتُ (¬4) إلى حصيرٍ لنا قد اسودَّ من طول ما لُبِسَ" (¬5)، ولو لم يأت اللفظ العام المتناول لافتراشه بالنهي لكان القياس المحض موجبًا لتحريمه، إما قياس المثل أو قياس الأَوْلَى، فقد دلّ على تحريم الافتراش النص الخاص واللفظ العام والقياس الصحيح، ولا يجوز رد ذلك [كله] (¬6) بالمتشابه من قوله: {[هُوَ الَّذِي] (¬7) خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ومن القياس على ما إذا كان الحرير بطانة الفراش دون ¬
[خرص الثمار في الزكاة والعرايا]
ظهارته، فإن الحكمَ في ذلك التحريمُ على أصح القولين، والفرق على القول الآخر مباشرة الحرير وعدمها كحشو الفراش به، فإن صح الفرق بطل القياس، وإن بطل الفرق مُنع الحكم، وقد تمسك بعموم النهي عن افتراش الحرير طائفة من الفقهاء فحرَّموه على الرجال والنساء، وهذه طريقة الخراسانيين من أصحاب الشافعي، وقابلهم من أباحه للنَّوعين، والصواب التفصيل وأن من أبيح له لبسه أبيح له افتراشه ومن حرم عليه حرم عليه، وهذا قول الأكثرين، وهي طريقة العراقيين من الشافعية (¬1). [خرص الثمار في الزكاة والعرايا] المثال التاسع والأربعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في خرص الثمار في الزكاة والعَرَايا وغيرها إذا بدا صلاحها كما رواه الشافعي عن عبد اللَّه بن نافع، عن محمد بن صالح التَّمَّار، عن الزهري، عن سعيد بن المُسيّب، عن عَتَاب بن أَسِيد أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال في زكاة الكَرْم: "يُخرص كما يخرص النَّخل، ثم تُؤدَّى زكاتُه زبيبًا كما تُؤدَّى زكاةُ النخل تمرًا" (¬2)، وبهذا الإسناد بعينه ¬
"أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يبعث من يخرص على الناس كرومهم وثمارهم" (¬1)، وقال أبو داود الطيالسي: ثنا شعبة، عن خُبيب بن عبد الرحمن قال: سمعتُ عبد الرحمن بن مسعود بن نِيَار يقول: أتانا سهل بن أبي حَثْمَة إلى مجلسنا فحدَّثنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا خرصتم فدعُوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" (¬2)، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ورواه أبو داود في "السنن"، ورَوَى فيها أيضًا عن عائشة: "كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعثُ عبدَ اللَّه بن رواحة إلى يهود فيخرصُ النَّخلَ حين يطيب قبل أن يُؤكل منه، ثم يُخيّر يهود فيأخذونه بذلك الخرص أم (¬3) يدفعونه إليهم بذلك الخرص، لكي تُحصى الزكاة قبل أن تُؤكل الثمار وتفرَّق" (¬4)، وروى الشافعي، عن مالك، عن ابن شِهَاب، عن ¬
سعيد بن المسيب أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال ليهود خيبر: "أُقرّكم على ما أقركم اللَّه، على أن الثمر بيننا وبينكم"، قال: "وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يبعث عبد اللَّه بن رواحة فيخرص عليهم ثم يقول: إن شئتم فلكُم، وإن شئتم فلي، وكانوا يأخذونه" (¬1). وفي "الصحيحين" أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خَرصَ حديقةَ المرأة، وهو ذاهبٌ إلى تبوك، وقال لأصحابه: "اخرصوها"، فخرصوها بعشرة أوسق، فلما قفل ¬
[رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1) سأل (¬2) المرأة عن [تمر] (¬3) الحديقة، فقالت: بلغ عشرة أوْسُق (¬4). وفي "الصحيحين" من حديث زيد بن ثابت: "رَخَّص رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لصاحب العَرِيَّة أن يبيعها بخرصها تمرًا" (¬5)، وصحّ عن عمر بن الخطاب [رضي اللَّه عنه] (¬6) أنه بعث سهل بن أبي حَثْمَة على خَرْص التمر، وقال: "إذا أتيت أرضًا فاخرصها ودع لهم قَدْر ما يأكلون" (¬7)، فردت هذه السنن كلها بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، قالوا: والخرص من باب القمار والميسر، فيكون تحريمه ناسخًا لهذه الآثار، وهذا من أبطل الباطل، فإن الفرق بين القمار والميسر والخرص المشروع كالفرق بين البيع والربا، والميتة والمُذَكَّى، وقد نَزه اللَّه رسوله وأصحابه عن تعاطي القمار وعن شرعه وعن إدخاله في الدين. وياللَّه العجب! أكان المسلمون يقامرون إلى زمن خيبر، ثم استمرّوا على ذلك إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انقضى عصر الصحابة وعصر التابعين على القمار ولا يعرفون أن الخرصَ قمارٌ حتى بيَّنه بعض فقهاء الكوفة؟ وهذا -واللَّه- الباطل حقًا، واللَّه الموفق. ¬
[صفة صلاة الكسوف]
[صفة صلاة الكسوف] المثال الخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في صفة صلاة الكسوف وتكرار الركوع في كل ركعة كحديث عائشة، وابن عباس، وجابر، وأبيّ بن كعب، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، كلهم رَوَى عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- تكرار الركوع في الركعة الواحدة (¬1)، فردت هذه السنن المحكمة بالمتشابه من حديث عبد الرحمن بن سَمُرة قال: "كنت يومًا أرمي بأسهم وأنا بالمدينة، فانكسفت الشمس، فجمعتُ أسهُمي وقلت: لأنظُرنَّ ماذا أحدث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كسوف الشمس، فكنت خلف ظهره فجعل يُسبّح ويُكبِّر ويدعو حتى حُسِرَ عنها فصلَّى ركعتين وقرأ بسورتين"، رواه مسلم في "صحيحه" (¬2)، وفي "صحيح البخاري" عن أبي بكرة قال: انكسفت الشمس على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فصلّى ركعتين (¬3)، وهذا لا يناقض رواية مَنْ رَوى أنه ركع في كل ركعة ركوعين فهي ركعتان وتعدّد (¬4) ركوعهما كما يُسمَّيان سجدتين مع تعدد سجودهما كما قال ابن عمر: حفظت عن رسول اللَّه سجدتين قبل الظهر وسجدتين بعدها (¬5)، وكثيرًا ما يجيء في السنن إطلاق السجدتين على الركعتين، فسنّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يصدق بعضها بعضًا، لا سيما والذين رووا تكرار الركوع أكثر عددًا وأجل وأخصّ برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من الذين لم يذكروه (¬6). فإن قيل: ففي حديث أبي بكرة: "فصلَّى ركعتين نحوًا مما تصلون"، وهذا صريح في إفراد الركوع. قيل: هذا الحديث رواه شُعبة، عن يونس بن عُبيد، عن الحَسَن، عن أبي بكرة دون الزيادة المذكورة، وهو الذي رواه البخاري في "صحيحه" (¬7)، وزاد ¬
إسماعيل ابن عُليَّة (¬1) هذه الزيادة، فإن رجحنا بالحفظ والإتقان فشعبة شعبة، وإن قبلنا الزيادة فرواية من زاد في كل ركعة ركوعًا آخر زائدة على رواية من روى ركوعًا واحدًا فتكون أولى. فإن قيل: فما تصنعون بالسنة المحكمة الصريحة من رواية سَمُرة بن جندب (¬2) والنُّعمان بن بَشير (¬3) وعبد اللَّه بن عمرو (¬4) أنه صلاها ركعتين كل ركعة بركوع واحد، ¬
[الجواب عن حديث صلاتها بركعتين في كل ركعة]
وبحديث قبيصة الهلاليّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإذا (¬1) رأيتم ذلك فصلّوها كأحدث (¬2) صلاة صلَّيتموها من المكتوبة" (¬3)؟ وهذه الأحاديث في "المسند" و"سنن النسائي" وغيرهما. [الجواب عن حديث صلاتها بركعتين في كل ركعة] قيل: الجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ أحاديث تكرار الركوع أصحّ إسنادًا وأسلم من العلّة والاضطراب، لا (¬4) سيما حديث عبد اللَّه بن عمرو، فإن الذي في "الصحيحين" عنه أنه قال: "كسفت الشَّمسُ على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنودي أن الصلاة جامعة، فركع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ركعتين في سجدة، ثم قام فركع ركعتين في سجدة، ثم جَلَس حتى جُلِّي عن الشمس" (¬5)، فهذا أصح وأصرح من حديث كل ركعة بركوع، فلم يبق إلا حديث سمرة بن جندب والنعمان بن بشير، وليس منهما شيء في الصحيح. ¬
[الجهر في صلاة الكسوف]
الثاني: أن رواتها من الصحابة أكبر وأكثر وأحفظ وأجلّ من سَمُرة والنعمان بن بشير، فلا ترد روايتهم بها. الثالث: أنها متضمنة لزيادة يجب الأخذ بها، وباللَّه التوفيق. [الجهر في صلاة الكسوف] المثال الحادي والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الجهر في صلاة الكسوف، كما في "صحيح البخاري" من حديث الأوزاعيّ، عن الزهري، أخبرني عُروة بن الزبير، عن عائشة: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قرأ قراءة طويلة يجهر بها في صلاة الكسوف" (¬1)، قال البخاري: تابعه سليمان بن كثير وسفيان بن حسين عن الزهري -قلت: أما حديث سليمان بن كثير ففي "مسند أبي داود الطيالسي": حدثنا سليمان بن كثير، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة أن ¬
النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- جهر بالقراءة في صلاة الكسوف (¬1) -، وقد تابعه عبد الرحمن بن نَمِر، عن الزهري، وهو في "الصحيحين"، أنه سمع ابن شهاب، يُحدِّث عن عروة، عن عائشة: "كسفت الشمس على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فبعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مناديًا أن الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فتقدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكبّر وافتتح القرآن وقرأ قراءة طويلة يجهر بها" (¬2)، فذكر الحديث. قال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة -قلت: يريد قول سمرة: "صلى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في كسوف لم نسمع له صوتًا" (¬3) - وهو أصرح منه بلا شك، وقد تضمن زيادة الجهر، فهذه ثلاث ترجيحات. ¬
[الرد على تخريجهم لحديث ابن عباس]
[الرد على تخريجهم لحديث ابن عباس] والذي ردت به هذه السنة المحكمة هو المتشابه من قول ابن عباس: "إنه صلّى الكسوف فقرأ نحوًا من سورة البقرة" (¬1)، قالوا: فلو سمع ما قرأ لم يُقَدِّره بسورة البقرة. وهذا يحتمل وجوهًا (¬2): أحدها: أنه لم يجهر. الثاني: أنه جهر، ولم يسمعه ابن عباس. الثالث: انه سمع ولم يحفظ ما قرأ به فقدَّره بسورة البقرة، فإن ابن عباس لم يجمع القرآن في حياة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإنما جمعه بعده. الرابع: أن يكون نسي ما قرأ به وحفظ قدر قراءته، فقدرها بـ[سورة] (¬3) البقرة، ونحن نرى الرجل ينسى ما قرأ به الإمام في صلاة يومه، فكيف يقدّم هذا اللفظ المجمل على الصريح المحكم الذي لا يحتمل إلّا وجهًا واحدًا؟ [رواية ترك الجهر بالبسملة عن أنس] ومن العجب أن أنسًا روى ترك جهر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (¬4)، ولم يصح عن صحابي خلافه، فقلتم: كان صغيرًا يصلّي خلف الصفوف فلم يسمع البسملة، وابن عباس أصغر سنًا منه بلا شك، وقدّمتم عدم سماعه للجهر على من سمعه صريحًا، فهلا قلتم: كان صغيرًا فلعله صلّى خلف الصف فلم يسمعه جهر؟ وأعجب من هذا قولكم: إن أنسًا كان صغيرًا لم يسمع (¬5) تلبية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ¬
[الاكتفاء بالنضح في بول الغلام]
"لبّيك حجًا وعمرة" (¬1)، وقدَّمتم قول ابن عمر عليه أنه أفرد الحجّ (¬2)، وأنس إذ ذاك له عشرون سنة، وابن عمر لم يستكملها وهو (¬3) بسن أنس، وقوله: "أفرد الحج"، مجمل، وقول أنس: "سمعته يقول لبيك عمرةً وحجًا"، محكم مبيّن صريح لا يحتمل غير ما يدل عليه، وقد قال ابن عمر: تمتع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج (¬4)، وبدأ فأهل بالعمرة، ثم أهل بالحج، فقدَّمتم على حديث أنس الصحيح الصريح المحكم الذي لم يُختلف عليه فيه حديثًا ليس مثله في الصراحة [والبيان] (¬5)، ولم يذكر رواية لفظ النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد اختُلف عليه فيه. [الاكتفاء بالنضح في بول الغلام] المثال الثاني والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الاكتفاء في بول الغلام الذي لم يَطعم بالنضح دون الغسل، كما في "الصحيحين" [من حديث] (¬6) أم قيس: "أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام، فأجلسه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حِجره، فبال عليه، فدعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بماء فنضحه ولم يغسله" (¬7). وفي "الصحيحين" أيضًا عن عائشة [رضى اللَّه عنها] (¬8) "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يُؤتى بالصبيان فيبرِّك عليهم ويحنكهم (¬9)، فأُتي بصبي فبال عليه، فدعاء بماء فاتبعه ولم يغسله" (¬10). وفي "سنن أبي داود" عن لبابة (¬11) بنت الحارث قالت: ¬
كان الحسين بن علي (¬1) في حجر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبال عليه، فقالت: الْبَس ثوبًا وأعطني إزارك حتى أغسله، فقال: "إنما يُغسل من بول الأنثى، ويُنضح من بول الذكر" (¬2)، وفي "المسند" وغيره عن عليّ -رضي اللَّه عنه- (¬3) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بول الغلام الرضيع يُنضح، وبول الجارية يُغسل"، قال قتادة: هذا ما لم يطعما، فإذا طعما غسلا جميعًا (¬4)، قال الحاكم أبو عبد اللَّه: هذا حديث صحيح الإسناد؛ ¬
فإن أبا الأسود الدؤلي صَحَّ سماعه من عليّ -رضي اللَّه عنه- (¬1)، وقال الترمذي: حديث حسن. وفي "سنن أبي داود" من حديث أبي السَّمح خادم النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يُغسل من بول الجارية، ويُرش من بول الغلام" (¬2). ¬
وفي "المسند" من حديث أم كُرْز الخزاعية، قالت: أُتي النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- بغلام فبال عليه فأمر به فنُضح، وأُتيَ بجارية فبالت عليه، فأمر به فغُسل (¬1)، وعند ابن ماجه: عن أم كُرْز الخزاعيّة أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بول الغلام يُنضح، وبول الجارية يُغسل" (¬2). وصح الإفتاء بذلك عن علي بن أبي طالب (¬3) وأم سلمة (¬4)، ولم يأت عن ¬
صحابي خلافهما، فردَّت هذه السنن بقياس متشابه على بول الشيخ، وبعموم لم يرد به هذا الخاص، وهو قوله: "إنما يُغسل الثوب من أربع: من البول والغائط والمني والدم والقيء" (¬1)، والحديث لا يثبت، فإنه من رواية علي بن زيد بن ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
جدعان [عنه] (¬1) ثابت بن حماد، [قال ابن عدي: لا أعلم رواه عن علي بن زيد غير ثابت بن حماد] (¬2)، وأحاديثه مناكير ومعلولات (¬3)، ولو صح وجب العمل بالحديثين، ولا يُضرب أحدهما بالآخر، ويكون البول فيه مخصوصًا ببول الصبي، كما خصّ منه بول ما يؤكل لحمه بأحاديث دون هذه في الصحة والشهرة. ¬
[جواز إفراد ركعة الوتر]
[جواز إفراد ركعة الوتر] المثال الثالث والخمسون: رد السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بواحدة مفصولة، كما في "الصحيحين" عن ابن عمر أنه سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صلاة الليل فقال: "مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلَّى ركعة واحدة توتر له ما قد صلّى" (¬1)، وفي "الصحيحين" أيضًا من حديث عائشة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلّي فيما بين أن يفرُغَ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلِّم من كل ركعتين، ويوتر بواحدة" (¬2)، وفي "صحيح مسلم" عن أبي مِجْلَز قال: سألت ابن عباس عن الوتر، فقال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "ركعة من آخر الليل" (¬3)، وقد قال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم" (¬4)، فإذا صلَّى القاعد ركعتين وجب بهذا النص أن تعدل صلاة القائم ركعة، فلو لم تصح لكانت صلاة القاعد أتمّ من صلاة القائم، والاعتماد على الأحاديث المتقدمة، وصح الوتر بواحدة مفصولة عن عثمان بن عفان (¬5)، وسعد بن أبي وقاص (¬6)، ¬
وعبد اللَّه بن عُمر (¬1)، وعبد اللَّه بن عباس (¬2)، وأبي أيوب (¬3)، ومعاوية بن أبي سفيان (¬4)، وقال الحاكم أبو عبد اللَّه: ثنا عبد اللَّه بن سُليمان، ثنا أحمد بن صالح: ثنا عبد اللَّه بن وهب، عن سُليمان بن بلال، عن صالح بن كَيْسان، عن عبد اللَّه بن الفضل، عن الأعرج، وأبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا توتروا بثلاث تشبَّهوا بالمغرب، أوتروا بخمس أو سبع" (¬5)، رواه ابنُ حِبَّان والحاكم في "صحيحيهما"، وقال الحاكم: رواته كلهم ثقات، وله شاهد آخر بإسناد صحيح: ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا طاهر بن عَمرو بن الرَّبيع بن طارق، ثنا أبي، ثنا الليث (¬6): ثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عِرَاك بن مالك، عن أبي هريرة، فذكر ¬
مثله سواء، وزاد: "أوتروا بخمس أو سبع أو تسع أو بإحدى عشرة ركعة أو أكثر من ذلك" (¬1)، فردَّت هذه السنن بحديثين باطلين وقياس فاسد: أحدهما: "نَهى عن البتيراء" (¬2)، وهذا لا يعرف له إسناد لا صحيح ولا ضعيف، وليس في شيء من كتب الحديث المعتمد عليها، ولو صح فالبتيراء (¬3) صفة للصلاة [التي] (¬4) قد بُتر ركوعها وسجودها فلم يطمئن فيها. الثاني: حديث يُروى عن ابن مسعود مرفوعًا: "وتر الليل ثلاث، كوتر النهار ¬
[الفرق بين وتر الليل ووتر النهار]
صلاة المغرب" (¬1). وهذا الحديث وإن كان أصلح (¬2) من الأول فإنه في "سنن الدارقطني"، فهو من رواية يحيى بن زكريا، قال الدارقطني: "يُقال له ابن أبي الحواجب، ضعيف، ولم يروه عن الأعمش مرفوعًا غيره"، ورواه الثوري في "الجامع" وغيره عن الأعمش موقوفًا على ابن مسعود (¬3)، وهو الصواب. وأما القياس الفاسد فهو أن قالوا: رَأَيْنا المغرب وتر النهار، وصلاة الوتر وتر الليل، وقد شرع اللَّه سبحانه وتر النهار موصولًا فهكذا وتر الليل. [الفرق بين وتر الليل ووتر النهار] وقد صحت السنة بالفرق بين الوترين من وجوه كثيرة: أحدها: الجمع بين الجهر والسر في وتر النهار دون وتر الليل. الثاني: وجوب الجماعة أو مشروعيّتها فيه دون وتر الليل. الثالث: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- فعل وتر الليل على الراحلة (¬4) دون وتر النهار. ¬
[الرابع: أنه قال في وتر الليل: إنه ركعة واحدة (¬1) دون وتر النهار.] (¬2) الخامس: أنه أوتر بتسع وسبع وخمس موصولة دون وتر النهار (¬3). السادس: أنه نهى عن تشبيه وتر الليل بوتر النهار كما تقدم. السابع: أن وتر الليل اسم للركعة وحدها، ووتر النهار اسم لمجموع صلاة المغرب كما في "صحيح مسلم"، من حديث ابن عمر وابن عباس أنهما سمعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "الوتر ركعة من آخر الليل" (¬4). الثامن: أن وتر النهار فرض ووتر الليل ليس بفرض باتفاق الناس. التاسع: أن وتر النهار يُقضى بالاتفاق، وأما وتر الليل فلم يقم على قضائه دليل، فإن المقصود منه قد فات [فهو] (¬5) كتحية المسجد ورفع اليدين في محل الرفع والقنوت إذا فات، وقد توقف الإمام أحمد في قضاء الوتر، وقال شيخنا (¬6): لا يُقضى، لفوات المقصود منه بفوات وقته، قال: وقد ثبت عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان إذا منعه من قيام الليل نوم أو وجع صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة (¬7)، ولم يذكر الوتر (¬8). ¬
[التنفل بعد الإقامة للصلاة المكتوبة]
العاشر: أن المقصود من وتر الليل جعل (¬1) ما تقدَّمه من الأشفاع كلها وترًا، وليس المقصود منه إيتار الشفع الذي يليه خاصة، وكان الأَقْيَس ما جاءت به السنّة أن يكون ركعة مفردة توتر جميع ما قبلها (¬2)، وباللَّه التوفيق. [التنفل بعد الإقامة للصلاة المكتوبة] المثال الرابع والخمسون: رد السنة الصحيحة الصريحة أنه لا يجوز التنفل إذا أقيمت صلاة الفرض كما في "صحيح مسلم" عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلّا المكتوبة" (¬3)، وقال الإمام أحمد في روايته: "إلّا التي أُقيمت" (¬4)، وفي "الصحيحين" عن عبد اللَّه بن مالك بن بُحَيْنَة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رأى رجلًا، وقد أقيمت الصلاة يُصلي ركعتين، فلما انصرف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لَاثَ به الناس، وقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الصبح أربعًا؟ الصبح أربعًا؟ " (¬5)، وفي "صحيح مسلم" عن عبد اللَّه بن سَرْجِس قال: دخل رجل المسجد ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الصبح، فصلّى ركعتين قبل أنْ يصل إلى الصف، فلمَّا انصرف رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "يا فلان بأي صلاتَيْك اعتددت؟ بالتي صَلَّيت وحدك أو بالتي صلّيت معنا؟ " (¬6)، وفي "الصحيحين" أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مَرَّ برجل، فكلّمه بشيء لا ندري ما هو، فلما انصرف أحطنا به نقول: ماذا قال لك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: قال لي: "يُوشك أن يصلِّي أحدكم الصبح أربعًا" (¬7)، ¬
وعند مسلم: أقيمت صلاة الصبح، فرأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا يصلّي والمؤذن يقيم الصلاة، فقال: "أتصلّي الصبح أربعًا؟ " (¬1)، وقال أبو داود الطيالسي في "مسنده": ثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن ابن عباس قال: كنت أصلّي وأخذ المؤذن في الإقامة، فجذبني (¬2) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أتصلِّي الصبح أربعًا" (¬3)، وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلًا يصلي وهو يسمع الإقامة ضربه (¬4)، وقال حَمَّاد بن سلمة، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه أبصر رجلًا يصلي الركعتين والمؤذن يقيم، فحَصَبَه، وقال: أتصلّي الصبح أربعًا؟ (¬5) فردت هذه السنن ¬
كلها بما رواه الحب ج بن نصير المتروك (¬1)، عن عباد بن كثير، الهالك (¬2)، عن ليث، عن عطاء، عن أبي هريرة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلّا المكتوبة"، وزاد: "إلا ركعتي الصبح" (¬3)، فهذه الزيادة كاسمها زيادة في الحديث لا أصل لها. فإن قيل: فقد كان أبو الدرداء يدخل المسجد والناس صفوف في صلاة الفجر فيصلّي الركعتين في ناحية المسجد، ثم يدخل مع القوم في الصلاة (¬4)، وكان ابن مسعود يخرج من داره لصلاة الفجر ثم يأتي الصلاة فيصلّي ركعتين في ناحية المسجد ثم يدخل معهم في الصلاة (¬5). ¬
[صلاة النساء جماعة]
قيل: عمر بن الخطاب وابنه [عبد اللَّه] (¬1) في مقابلة أبي الدرداء وابن مسعود، والسنة سالمة لا معارض لها، ومعها أصح قياس يكون، فإن وقتها يضيق بالإقامة فلم يقبل غيرها بحيث لا يجوز لمن حضر أن يؤخرها ويصلّيها بعد ذلك، واللَّه الموفق (¬2). [صلاة النساء جماعة] المثال الخامس والخمسون: رد السنة الصحيحة المحكمة في استحباب صلاة النساء جماعة لا منفردات، كما في "المسند"، و"السنن" من حديث عبد الرحمن بن خَلَّاد عن أم ورقة بنت عبد اللَّه بن الحارث "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يزورها في بيتها، وجعل لها مؤذنًا كان يؤذن لها، وأمرها أن تؤمَّ أهل دارها"، قال عبد الرحمن: فأنا رأيت مؤذنها شيخًا كبيرًا (¬3)، وقال الوليد بن ¬
جميع: حدثتني جدتي عن أم ورقة أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرها، أَو اذِنَ لها، أن تؤمَّ أهل دارها، وكانت قد قرأت القرآن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، وقال الإمام أحمد: ثنا وكيع، ثنا سفيان، عن ميسرة أبي حازم، عن رائطة الحنفية أن عائشة -رضي اللَّه عنها- أمَّت نسوة في المكتوبة، فأَمَّتهن بينهن وسطًا (¬2)، تابعه ليث عن ¬
عطاء، عن عائشة (¬1)، وروى الشافعي عن أم سلمة أنها أمَّت نساء فقامت وسطهنّ (¬2)، ولو لم يكن في المسألة إلّا عموم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تفضلُ صلاة الجماعة على صلاة الفَذِّ (¬3) بسبع وعشرين درجة" (¬4)، لكفى. وروى البيهقي من حديث يحيى بن يحيى: أنا ابن لهيعة، عن الوليد بن أبي الوليد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا خير في جماعة النساء إلّا في صلاة أو جنازة" (¬5)، والاعتماد على ما تقدم، فردّت هذه ¬
[التسليم من الصلاة مرة أو مرتين]
السنن بالمتشابه من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لن يفلح قوم وَلّوا أمرهم امرأة" (¬1)، وهذا إنما هو في (¬2) الولاية والإمامة العظمى والقضاء، وأما الرواية والشهادة والفُتْيا والإمامة فلا تدخل في هذا. والعجب (¬3) أنَّ من خالف هذه السنة جَوَّز أن تكون قاضية تلي أمور المسلمين، فكيف أفلحوا وهي حاكمة عليهم ولم تفلح أخواتها من النساء إذا أمَّتهن؟. [التسليم من الصلاة مرة أو مرتين] المثال السادس والخمسون: رد السنة (¬4) الصحيحة الصريحة المحكمة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- التي رواها عنه خمسة عشر نفسًا من الصحابة "أنه كان يسلّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬5)، ¬
منهم عبد اللَّه بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وجابر بن سَمُرة، وأبو موسى الأشعري، وعمار بن ياسر، وعبد اللَّه بن عمر، والبراء بن عازب، ووائل بن حُجْر، وأبو مالك الأشعري، وعَدي بن عَميرة (¬1) الضَّمري، وطلق بن علي، وأوس بن أوس، وأبو رِمْثَة، والأحاديث بذلك ما بين صحيح وحسن (¬2)، فرد ذلك بخمسة أحاديث مختلف في صحّتها. أحدها: حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة" (¬3)، رواه الترمذي. ¬
والثاني: حديث عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي، عن مصعب بن ثابت، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد، [عن سعد] (¬1) "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان. في آخر الصلاة تسليمة واحدة: السلام عليكم" (¬2). الثالث: حديث عبد المهيمن بن عَبَّاس، عن أبيه، عن جده أنه سمع ¬
رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلم تسليمة واحدة لا يزيد عليها، رواه الدارقطني (¬1). الرابع: حديث [روح بن] (¬2) عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه، عن الحسن، عن سمرة بن جندب: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسلِّم [مرة] (¬3) واحدة في الصلاة قِبَل وجهه، فإذا سَلَّم عن يمينه سَلَّم عن يساره"، رواه الدارقطني (¬4). ¬
الخامس: حديث يحيى بن راشد، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، [عن سلمة] (¬1) قال: رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلّم مرة واحدة (¬2). وهذه الأحاديث لا تقاوم تلك ولا تقاربها حتى تُعارض بها. أمّا حديث عائشة فحديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث، قال البخاري (¬3): "زهير بن محمد أهل الشام يروون [عنه] (¬4) مناكير"، وقال يحيى (¬5): ¬
ضعيف. والحديث من رواية عمرو بن أبي سلمة عنه، قال الطحاوي (¬1): "هو وإن كان ثقة فإن رواية عمرو بن أبي سلمة عنه تضعف جدًا، هكذا (¬2) قال يحيى بن معين فيما حَكَى لي عنه غير واحد من أصحابنا منهم علي بن عبد الرحمن بن المغيرة، وزعم أن فيها تخليطًا كثيرًا"، قال: "والحديث أصله موقوف على عائشة، هكذا رواه الحفاظ". فإن قيل: فإذا ثبت ذلك عن عائشة فبمن تعارضها في ذلك من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟. قيل له (¬3): بأبي بكر، وعمر، وعلي بن أبي طالب (¬4)، وعبد اللَّه بن مسعود، وعمار بن ياسر، وسهل بن سعد الساعدي، وذكر الأسانيد عنهم بذلك". ثم قال (¬5): "فهؤلاء أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بكر، وعمر، وعليّ، وابن مسعود، وعَمَّار ومن ذكرنا معهم يسلمون عن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا ينكر ذلك عليهم غيرهم، على قرب عهدهم برؤية رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحفظهم لأفعاله، فما ينبغي لأحد خلافه لو لم يكن رُوي في ذلك عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[شيء]، فكيف وقد روي عنه ما يوافق فعلهم؟ ". وأمّا حديث سعد بن أبي وقاص فحديثٌ معلول، بل باطل، والدليل على بطلانه أن الذي رواه هكذا الدراوردي خاصة، وقد خالف في ذلك جميع من رواه عن مصعب بن ثابت كعبد اللَّه بن المبارك، ومحمد بن عمرو، ثم قد رواه إسماعيل بن محمد عن عامر بن سعد عن سعد كما رواه الناس: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلِّم عن يمينه حتى يُرى بياض خَدِّه، وعن يساره حتى يُرى بياض خدّه"، رواه مسلم في "صحيحه" (¬6). ¬
فقد صحَّ رواية سعد "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سَلَّم تسليمتين" (¬1)، ومعه من ذكرنا من الصحابة، وبان بذلك بطلانُ رواية الدراوردي. وأمّا حديث عبد المهيمن بن عَبَّاس (¬2) بن سهل، عن أبيه، عن جده فقال الدارقطني (¬3): "عبد المهيمن ليس بالقوي"، وقال ابن حبان (¬4): بطل الاحتجاج به. وأما حديث عطاء بن أبي ميمونة، عن أبيه (¬5)، عن الحسن فمن رواية روح ابنه عنه، قال الإمام أحمد (¬6): منكر الحديث، وتركه يحيى (¬7). وأما حديث يحيى بن راشد عن يزيد مولى سلمة فقال يحيى [بن معين] (¬8): يحيى بن راشد ليس بشيء (¬9)، وقال النسائي (¬10): ضعيف. وقال أبو عمر بن عبد البر (¬11): رُوي عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- "أنه كان يسلم تسليمة واحدة"، من حديث سعد بن أبي وقاص، ومن حديث عائشة، ومن حديث أنس (¬12)، إلّا أنها معلولة لا يصححها أهل العلم بالحديث؛ لأن حديث سعد ¬
أخطأ فيه الدراوردي، فرواه على غير ما رواه الناس بتسليمة واحدة، وغيره يروي فيه بتسليمتين، ثم ذكر حديثه عن مصعب بن ثابت "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة" (¬1)، ثم قال: وهذا وهم عندهم وغلط، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك وغيره عن مصعب بن ثابت عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه "كان يسلم عن يمينه وعن يساره" (¬2)، وقد روي هذا الحديث بالتسليمتين من طريق مصعب، ثم ساق طرقه بالتسليمتين عن سعد، ثم ساق من طريق ابن المبارك عن مصعب، عن إسماعيل بن محمد، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسلم عن يمينه وعن شماله، وكأني أنظر إلى صفحة خدّه" (¬3)، فقال الزهري: ما سمعنا هذا من حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له إسماعيل بن محمد: أكلّ حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سمعت؟ قال: لا، قال: فنصفه؟ قال: لا، قال: فاجعل هذا في النصف الذي لم تسمع. قال (¬4): وأما حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يسلم تسليمة واحدة" (¬5)، فلم يرفعه أحد إلّا زهير بن محمد وحده عن هشام بن عروة، رواه عنه عمرو بن أبي سلمة [وغيره]، وزهير بن محمد ضعيف عند الجميع كثير الخطأ لا يحتجّ به، وذكر ليحيى (¬6) بن معين هذا الحديث فقال: عمرو بن أبي سلمة وزهير ضعيفان لا حجة فيهما. ¬
[الكلام على عمل أهل المدينة]
وأما حديث أنس فلم يأت إلا من طريق أيوب السختياني عن أنس (¬1)، ولم يسمع أيوب من أنس (¬2) عندهم شيئًا. قال: وقد روي عن الحسن (¬3) مرسلًا "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبا بكر وعمر كانوا يسلمون تسليمة واحدة" (¬4)، ذكره وكيع عن الربيع عنه، قال: "والعمل المشهور بالمدينة التسليمة الواحدة، وهو عمل قد توارثه أهل المدينة كابرًا عن كابر، ومثله يصح فيه الاحتجاج بالعمل في كل بلد؛ لأنه لا يخفى، لوقوعه في كل يوم مرارًا". [الكلام على عمل أهل المدينة] قلت: وهذا أصل قد نازعهم فيه الجمهور، وقالوا: عمل أهل المدينة كعمل غيرهم من أهل الأمصار، ولا فرق بين عملهم وعمل أهل الحجاز والعراق والشام (¬5)، فمن كانت السنة معهم فهم أهل العمل المتبع، وإذا اختلف علماء ¬
المسلمين لم يكن عمل بعضهم حجة على بعض، وإنما الحجة اتّباع السنة، ولا تُترك السنة لكون عَمَل بعض المسلمين على خلافها أو عَمِل بها غيرُهم، ولو ساغ ترك السنة لعمل بعض الأمة على خلافها لتُرِكَت السنن وصارت تبعًا لغيرها، فإن عَمِل بها ذلك الغير عُمِل بها وإلّا فلا، والسنة هي العيار على العمل، وليس العمل عيارًا على السنة، ولم تضمن لنا العصمة قط في عمل مصر من الأمصار دون سائرها، والجدران والمساكن والبقاع لا تأثير لها في ترجيح الأقوال، وإنما التأثير لأهلها وسكانها، ومعلوم أن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وظفروا من العلم بما لم يظفر به من بعدهم، فهم المُقدَّمون في العلم على من سواهم، كما هم المقدّمون في الفضل والدين، وعملهم هو العمل الذي لا يُخالف، وقد انتقل أكثرهم عن المدينة، وتفرّقوا في الأمصار، بل أكثر علمائهم صاروا إلى الكوفة والبصرة والشام مثل عليّ بن أبي طالب (¬1)، وأبي موسى، وعبد اللَّه بن مسعود، وعُبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، ومعاذ بن جبل، وانتقل إلى الكوفة والبصرة نحو ثلاث مئة صحابي ونيَّف، وإلى الشام ومصر نحوهم، فكيف يكون عمل هؤلاء معتبرًا ما داموا في المدينة، فإذا خالفوا غيرهم لم يكن عمل من خالفوه معتبرًا، فإذا فارقوا جدران المدينة كان عمل من بقي فيها هو المعتبر، ولم يكن خلاف مَنْ (¬2) انتقل عنها معتبرًا؟! هذا من الممتنع، وليس جعل عمل الباقين معتبرًا أَوْلى من جعل عمل المفارقين معتبرًا، فإن الوحي قد انقطع بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولم يبق إلّا كتاب اللَّه وسنة رسوله، فمن كانت السنة معه فعمله هو العمل المعتبر حقًا، ثم كيف (¬3) تُترك السنة المعصومة لعمل غير معصوم؟. ثم يقال: أرأيتم لو استمرّ عمل أهل مصر من الأمصار التي انتقل إليها الصحابة على ما أدّاه إليهم مَنْ صار إليهم من الصحابة، ما الفرق بينه وبين عمل ¬
أهل المدينة المستمرّ على مَنْ أَدَّاه إليهم من بها من الصحابة، والعمل إنما استند (¬1) إلى قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وفعله؟ فكيف يكون قوله وفعله الذي أدَّاه من بالمدينة موجبًا للعمل دون قوله وفعله الذي أدَّاه غيرهم؟ هذا إذا كان النص مع عمل أهل المدينة، فكيف إذا كان مع غيرهم النص، وليس معهم نصٌّ يعارضه، وليس معهم إلّا مجرد العمل؟ ومن المعلوم أن العمل لا يُقابل النص، بل يُقابَل العمل بالعمل، ويسلم النص عن المعارض. وأيضًا فنقول: هل يجوز أن يخفى على أهل المدينة بعد مفارقة جمهور الصحابة لها سنة من سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويكون علمها عند مَنْ فارقها أم لا؟ فإن قلتم: "لا يجوز"، أبطلتم أكثر السنن التي لم يروها أهل المدينة، وإن كانت من رواية إبراهيم عن علقمة عن عبد اللَّه، ومن رواية أهل بيت علي عنه، ومن رواية أصحاب معاذ عنه، ومن رواية أصحاب أبي موسى عنه، ومن رواية (¬2) عمرو بن العاص، وابنه عبد اللَّه، وأبي الدرداء، ومعاوية، وأنس بن مالك، وعمار بن ياسر وأضعاف هؤلاء، وهذا مما لا سيل إليه. وإن قلتم: "يجوز أن يخفى على من بقي في المدينة بعض السُّنن ويكون علمها عند غيرهم"، فكيف تُترك السنن لعمل مَن قد اعترفتم بأنَّ السنّة قد تخفى عليهم؟. وأيضًا فإن عمر بن الخطاب كان إذا كتب إليه بعض الأعراب بسنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عمل بها، ولو لم يكن معمولًا بها بالمدينة، كما كتب إليه الضَّحاك بن سفيان الكِلابيّ: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وَرَّث امرأة أَشْيَم الضِّبابي من دية زوجها"، فقضى به عمر (¬3). وأيضًا فإن هذه السنة التي لم يعمل بها أهل المدينة لو جاء مَن رواها إلى المدينة وعمل بها لم يكن عمل مَنْ خالفه حجّة عليه، فكيف يكون حجة عليه إذا خرج من المدينة؟. ¬
[هل حقا أن عمل أهل المدينة حجة؟]
وأيضًا فإن هذا يُوجب أن يكون جميع أهل الأمصار تبعًا لأهل المدينة (¬1) فيما يعملون به، وأنه لا يجوز لهم مخالفتهم في شيء، فإن عملهم إذا قُدِّم على السنة فلأن يُقدَّم على عمل غيرهم أولى، وإن قيل: إن عملهم نفسه سنة لم يحل لأحد مخالفتهم، ولكن عمر بن الخطاب ومن بعده من الخلفاء لم يأمر أحد منهم أهل الأمصار أن لا يَعْملوا بما عرفوه (¬2) من السنة وعَلَّمهم إياه الصحابة إذا خالف عمل أهل المدينة، وأنهم لا يعملون إلّا بعمل أهل المدينة، بل مالك نفسه منع الرشيد من ذلك، وقد عزم عليه، وقال له: قد تفرَّق أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في البلاد، وصار عند كل طائفة منهم علم ليس عند غيرهم (¬3)، وهذا يدل على أن عمل أهل المدينة ليس عنده حجة لازمة لجميع الأمة، وإنما هو اختيار منه لما رأى عليه العمل، ولم يقل قط في "موطئه" ولا غيره لا يجوز العمل بغيره، بل يخبر إخبارًا مجردًا أن هذا عمل أهل بلده، فإنه -رضي اللَّه عنه- وجزاه عن الإسلام خيرًا ادَّعى إجماع أهل المدينة في نيِّف وأربعين مسألة. ثم هي ثلاثة أنواع (¬4): أحدهما: لا يعلم أن أهل المدينة خالفهم فيه غيرهم. والثاني: ما خالف فيه أهل المدينة غيرهم وإن لم يعلم اختلافهم فيه. والثالث: ما فيه الخلاف بين أهل المدينة انفسهم، ومن ورعه رحمه اللَّه لم يقل: إن هذا إجماع الأمة الذي لا يحلّ خلافه. [هل حقًا أن عمل أهل المدينة حجة؟] وعند هذا فنقول: ما عليه العمل إمّا أن يراد به القسم الأول، أو هو والثاني، أو هما والثالث، فإن اريد الأول فلا ريب أنه حجّة يجب اتّباعه، وإن أريد الثاني والثالث فأين دليله؟ وأيضًا فأحق عمل أهل المدينة أن يكون حجة العمل القديم الذي كان في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه وزمن خلفائه الراشدين، وهذا كعملهم الذي كأنه مُشاهد بالحس ورأي عين في (¬5) إعطائهم أموالهم التي ¬
قسمها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على من شهد معه خيبر فأعطوها اليهود على أن يعملوها بأنفسهم وأموالهم والثمرة بينهم وبين المسلمين، يقرّونهم ما أقرَّهم اللَّه ويخرجونهم متى شاءوا (¬1)، واستمرّ هذا العمل كذلك لا ريب إلى أن استأثر اللَّه بنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- مدة أربعة أعوام، ثم استمرّ مدة خلافة الصدِّيق، وكلهم على ذلك، ثم استمرّ مدة خلافة عمر -رضي اللَّه عنهم-، إلى أن أجلاهم قبل أن يستشهد بعام (¬2)، فهذا هو العمل حقًا. فكيف ساغ خلافه وتركه لعمل حادث؟. ومن ذلك عمل الصحابة مع نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- على الاشتراك في الهَدْي: البَدَنة عن عشرة (¬3) والبقرة عن سبعة (¬4)، فيا له من عمل ما أحقّه وأولاه بالاتّباع، فكيف يخالف إلى عمل حادث بعده مخالف له؟. ¬
[سجود التلاوة في "الانشقاق"]
[سجود التلاوة في "الانشقاق"] ومن ذلك عمل أهل المدينة الذي كأنه رأي عين في سجودهم في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1] مع نبيّهم -صلى اللَّه عليه وسلم- وتبعهم (¬1) أبو هريرة (¬2)، وإنما صحب النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثلاثة أعوام وبعض الرابع، وقد أخبر عن عمل الصحابة مع نبيّهم في آخر أمره، فهذا واللَّه هو العمل، فكيف يُقدَّم عليه عمل مَن بعدهم بما شاء اللَّه من السنين، ويُقال: العمل على ترك السجود؟. ¬
[الاقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس]
ومن ذلك عمل الصحابة مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وقد قرأ السجدة على المنبر في خطبته يوم الجمعة ثم نزل عن المنبر فسجد، وسجد معه أهل المسجد، ثم صعد (¬1)، وهذا العمل حق، فكيف يقال: العمل على خلافه، ويقدم العمل الذي يخالف ذلك عليه (¬2)؟. [الاقتداء بالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو جالس] ومن ذلك عمل الصحابة مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في اقتدائهم به، وهو جالس (¬3)، وهذا كأنه رأي عين، سواء كانت صلاتهم خلفه قعودًا أو قيامًا، فهذا عمل في غاية الظهور والصحة (¬4)، فمن العجب أن يُقدَّم عليه رواية جابر الجُعفي عن الشعبي -وكلاهما كوفيان (¬5) - أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا يؤمنَّ أحدٌ بعدي جالسًا" (¬6)! وهذه من أسقط روايات أهل الكوفة. ¬
[الطيب قبل الإفاضة]
[الطِّيب قبل الإفاضة] ومن ذلك أن سليمان بن عبد الملك عام حج، جمع ناسًا من أهل العلم، فيهم عمر بن عبد العزيز، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد، وسالم، وعبد اللَّه (¬1) ابنا عبد اللَّه بن عمر، ومحمد بن شهاب الزهري، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فسألهم عن الطيب قبل الإفاضة، فكلّهم أمره بالطيب، وقال القاسم: أخبرتني عائشة أنها طَيَّبت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لِحُرْمه حين أحرم ولحلِّه قبل أن يطوف بالبيت (¬2)، ولم يختلف عليه أحد منهم، إلا أن عبد اللَّه بن عبد اللَّه (¬3) قال: كان عبد اللَّه رجلًا جادًّا مجدًّا، كان يرمي الجمرة ثم يذبح ثم يحلق ثم يركب فيفيض (¬4) قبل أن يأتي منزله، قال سالم: صدق، ذكره النسائي (¬5)، فهذا عملُ أهل المدينة وفتياهم، فأيُّ عملٍ بعد ذلك يخالفه يستحق التقديم عليه؟. [المزارعة على الثلث والربع] ومن ذلك ما رواه البخاري في "صحيحه" عن [قيس] (¬6) بن مسلم، عن أبي جعفر قال: "ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون على الثلث والربع، وزارع علي، وسعد بن مالك، وعبد اللَّه بن مسعود، وعمر بن عبد العزيز، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير، وآل أبي بكر، وآل عمر، وآل علي، وابن سيرين، وعامل عمر بن الخطاب الناس على [أنه] (¬7) إن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشَّطر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا [وكذا] (¬8) "، فهذا واللَّه هو العمل الذي يستحق ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[أنواع السنن وأمثلة لكل نوع منها]
تقديمه على كل عمل خالفه، والذي مَنْ جعله بينه وبين اللَّه فقد استوثق. فياللَّه [العَجب] (¬1)! أيّ عمل بعد هذا يقدم [عليه] (¬2)؟ وهل يكون عمل يمكن أن يقال: إنه إجماع، أظهر من هذا وأصح منه؟ (¬3). [أنواع السنن وأمثلة لكل نوع منها] وأيضًا فالعمل نوعان (¬4): ¬
[نقل القول، وطريقة البخاري في ترتيب "صحيحه"]
• نوع لم يعارضه نص ولا عمل قبله ولا عمل مصر آخر غيره. • وعمل عارضه واحد من هذه الثلاثة. فإن سوّيتم بين أقسام هذا العمل كلها فهي تسوية بين المختلفات التي فرَّق النَّصُّ والعقل بينها، وإنْ فرَّقتم بينها فلا بدَّ من دليل فارق بين ما هو معتبر منها وما هو غير معتبر، ولا تذكرون دليلًا قط إلا كان دليل مَنْ قدَّم النص أقوى، وكان به أسعد. وأيضًا فإنّا نقسم عليكم هذا العمل من وجه آخر ليتبيّن به المقبول من المردود، فنقول: عمل أهل المدينة وإجماعهم نوعان: أحدهما: ما كان من طريق النقل والحكاية. والثاني: ما كان من طريق الاجتهاد والاستدلال. فالأول على ثلاثة أضرب: أحدها: نقل الشرع مبتدأ من جهة النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أربعة أنواع: أحدها: نقل قوله، والثاني: نقل فعله، والثالث: نقل تقريره لهم على أمر شاهدهم عليه أو أخبرهم به، الرابع: نقلهم لترك شيء قام سبب وجوده ولم يفعله. الثاني: نقل العمل المتصل زمنًا بعد زمن من عهده -صلى اللَّه عليه وسلم-. والثالث: نقل لأماكن وأعيان ومقادير لم تتغير عن حالها. [نقل القول، وطريقة البخاري في ترتيب "صحيحه"] ونحن نذكر أمثلة هذه الأنواع، فأما نقل قوله فظاهر، وهو الأحاديث المدنية التي هي أمّ الأحاديث النبوية، وهي أشرف أحاديث أهل الأمصار، ومن تأمّل أبواب البخاري وجده أوّل ما يبدأ في الباب بها ما وجدها، ثم يتبعها بأحاديث أهل الأمصار، وهذه كمالك عن نافع عن ابن عمر، وابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، ومالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، وابن شهاب عن سالم عن أبيه، وابن شهاب عن حُميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، ويحيى بن سعيد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وابن شهاب عن عُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عتبة عن ابن عباس، ومالك عن موسى بن عقبة عن كريب عن أسامة بن زيد، والزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي أيوب، وأمثال ذلك.
[نقل الفعل]
[نقل الفعل] أما نقل فعله فكنقلهم أنه توضأ من بئر بضاعة (¬1)، وأنه كان يخرج كل عيد ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
إلى المصلَّى فيصلّي به العيد هو والناس (¬1)، وأنه كان يخطبهم قائمًا على المنبر ¬
وظهره إلى القبلة ووجهه إليهم (¬1)، وأنه كان يزور قباء كل سبت ماشيًا وراكبًا (¬2)، ¬
[نقل التقرير]
وأنه كان يزورهم في دورهم ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم (¬1) ونحو ذلك. [نقل التقرير] وأما نقل التقرير، فكنقلهم إقراره لهم على تلقيح النَّخل (¬2)، وعلى تجاراتهم التي كانوا يتّجرونها، وهي على ثلاثة أنواع: تجارة الضرب في الأرض، وتجارة الإدارة، وتجارة السّلم (¬3)، فلم يُنكر عليهم منها تجارة واحدة، وإنما أنكر (¬4) عليهم فيها الربا الصريح ووسائله المفضية إليه أو التوسل بتلك المتاجر إلى الحَرَام ¬
كبيع السلاح لمن يقاتل به المسلم، وبيع العصير لمن يعصره خمرًا، وبيع الحرير لمن يلبسه من الرجال ونحو ذلك مما هو معاونة على الإثم والعدوان. وكإقرارهم على صنائعهم المختلفة من تجارة وخياطة وصياغة وفلاحة، وإنما حرَّم عليهم فيها الغشّ والتوسّل بها إلى المحرمات، وكإقرارهم على إنشاد الأشعار المباحة (¬1)، وذكر أيام الجاهلية (¬2) والمسابقة على الأقدام (¬3)، وكإقرارهم على المناهدة (¬4) في السفر (¬5)، وكإقرارهم على الخُيلاء في الحرب (¬6)، ولبس ¬
الحرير فيه (¬1)، وإعلام الشجاع منهم بعينه بعلامة من ريشة أو غيرها. وكإقرارهم على لبس ما نَسَجه الكفار من الثياب (¬2)، وعلى إنفاق ما ضربوه من الدراهم، وربما صار عليها صورة ملوكهم (¬3)، ولم يضرب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا خلفاؤه مدة حياتهم دينارًا ولا درهمًا، وإنما كانوا يتعاملون بضرب الكفار. ¬
وكإقراره لهم بحضرته على المزاح المباح (¬1)، وعلى الشبع في الأكل (¬2)، وعلى النوم في المسجد (¬3)، وعلى شركة الأبدان (¬4)، وهذا كثير من أنواع السنن احتجّ به الصحابة وأئمّة الإسلام كلهم. وقد احتجّ به جابر في تقرير الربّ في زمن الوحي؛ كقوله: "كنا نعزلُ ¬
والقرآن ينزل، فلو كان شيء يُنهى عنه لنهى عنه القرآن" (¬1)، وهذا من كمال فقه الصحابة وعلمهم، واستيلائهم على معرفة طرق الأحكام ومداركها، وهو يدل على أمرين: أحدهما: أن أصل الأفعال الإباحة، ولا يَحْرم منها إلّا ما حَرَّمه اللَّه على لسان رسوله. الثاني: أنَّ علم الرب تعالى بما يفعلون (¬2) في زمن شرع الشرائع ونزول الوحي وإقراره لهم عليه دليل على عفوه عنه، والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله أنه في الوجه الأول يكون معفوًّا عنه استصحابًا، وفي الثاني يكون العفو عنه تقريرًا لحكم الاستصحاب، ومن هذا النوع تقريره لهم على أكل الزُّرُوع التي تُداس بالبقر، من غير أمر لهم بغسلها، وقد علم -صلى اللَّه عليه وسلم- أنها لا بدّ أن تبول وقت الدياس، ومن ذلك تقريره لهم على الوقود في بيوتهم وعلى أطعمتهم بأرواث الإبل وأخثاء البقر وأبعار الغنم، وقد علم أن دُخانَها ورمادها يصيب ثيابهم وأوانيهم، ولم يأمرهم باجتناب ذلك، وهو دليل على أحد أمرين ولا بدّ: طهارة ذلك، أو أن دخان النجاسة ورمادها ليس بنجس. ومن ذلك تقريرهم على سجود أحدهم على ثوبه إذا اشتدَّ الحرُّ (¬3)، ولا يقال في ذلك: إنه ربما لم يعلمه، لأن اللَّه قد عَلِمه وأقرَّهم عليه ولم يأمر رسوله بإنكاره عليهم، فتأمل هذا الموضع. ومن ذلك تقريرهم على الأنكحة التي عقدوها في حال الشرك ولم يتعرّض لكيفية وقوعها، وإنما أنكر منها ما لا مَسَاغ له في الإسلام حين الدخول فيه (¬4). ¬
ومن ذلك تقريرهم على ما بأيديهم من الأموال التي اكتسبوها قبل الإسلام بربًا أو غيره، ولم يأمر بردها، بل جعل لهم بالتوبة ما سلف من ذلك، ومنه تقرير الحبشة باللّعب في المسجد بالحِرَاب، وتقرير عائشة على النظر إليهم (¬1)، وهو كتقرير النساء على الخروج والمشي في الطرقات وحضور المساجد (¬2) وسماع الخطب التي كان يُنادى بالاجتماع لها (¬3)، وتقريره الرجال على استخدامهنَّ في الطَّحن والغسل والطبخ والعجن وعلف الفرس والقيام بمصالح البيت (¬4)، ولم يقل للرجال قط: لا يحل لكم ذلك إلا بمعاوضتهن أو استرضائهن حتى يتركن الأجرة، وتقريره لهم على الإنفاق عليهن بالمعروف من غير تقدير فرضٍ ولا حبٍّ ولا خبز، ولم يقل لهم: لا تبرأ ذممكم من الإنفاق الواجب إلا بمعاوضة الزوجات من ذلك على الحبِّ الواجب لهنّ مع فساد المعاوضة من وجوه عديدة، أو بإسقاط الزوجات حقهن من الحَبّ، بل إقرارهم (¬5) على ما كانوا يعتادون نفقته ¬
قبل الإسلام وبعده، وقرّر وجوبه بالمعروف، وجعله نظير نفقة الرقيق في ذلك (¬1)، ومنه تقريرهم على التطوّع بين أذان المغرب والصلاة، وهو يراهم ولا ينهاهم (¬2). ومنه تقريرهم على بقاء الوضوء، وقد خفقت رؤوسهم من النوم في انتظار الصلاة ولم يأمرهم بإعادته (¬3)، وتطرق احتمال كونه لم يعلم ذلك مردود بعلم اللَّه به، وبأن القوم أجلّ وأعرف باللَّه ورسوله أن لا يخبروه (¬4) بذلك، وبأن خفاء مثل ذلك على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو يراهم ويشاهدهم خارجًا إلى الصلاة ممتنع (¬5). ومنه تقريرهم على جلوسهم في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا (¬6). ¬
ومنه تقريرهم على مبايعة عميانهم على مبايعتهم وشرائهم بأنفسهم من غير نهي لهم عن ذلك يومًا ما، وهو يعلم أن حاجة الأعمى إلى ذلك كحاجة البصير (¬1). ومنه تقريرهم على قبول الهدية التي يخبرهم بها الصبي والعبد والأمة (¬2)، وتقريرهم على الدخول بالمرأة التي يخبرهم بها النساء أنها امرأته، بل الاكتفاء بمجرد الإهداء من غير إخبار. ومنه تقريرهم على قول الشعر وإن تغزَّل أحدهم فيه بمحبوبته، وإن قال فيه ما لو أقر به في غيره لأخذ به كتغزل كعب بن زهير بسعاد (¬3)، وتغزّل حسان في شعره، وقوله فيه: ¬
كأن سبيئة (¬1) من بيت رأس ... يكون مزاجها عسل وماء ثم ذكر وصف الشراب، إلى أن قال: ونشربها فتتركنا ملوكًا ... وأسدًا لا ينهنهنا اللقاء (¬2) فأقرّهم على قول ذلك وسماعه، لعلمه ببرِّ قلوبهم ونزاهتهم وبعدهم عن كل دَنَسٍ وعيب، وأن هذا إذا وقع [مقدمة] (¬3) بين يدي ما يحبه اللَّه ورسوله من مدح الإسلام وأهله وذم الشرك وأهله والتحريض على الجهاد والكرم والشجاعة فمفسدته مغمورة جدًا في جنب هذه المصلحة، مع ما فيه من مصلحة هزّ النفوس واستمالة إصغائها وإقبالها على المقصود بعده، وعلى هذا جرت عادة الشعراء بالتغزّل بين يدي الأغراض التي يريدونها بالقصيد. ومنه تقريرهم على رفع الصوت بالذكر بعد السلام، بحيث كان مَنْ هو خارج المسجد يعرف انقضاء الصلاة بذلك، ولا ينكره عليهم (¬4). ¬
فصل
فصل (¬1) وأما نقلهم لتركه -صلى اللَّه عليه وسلم- فهو نوعان، وكلاهما سنة: أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم ولم يُصل عليهم" (¬2)، وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذانٌ ولا إقامة ولا نداء" (¬3)، وقوله في جمعه بين الصلاتين: "ولم يُسبِّح بينهما ولا على إثر واحدة منهما" (¬4)، ونظائره. والثاني: عدم نَقْلهم لِما لو فَعَله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبَتة ولا حدَّث به في مجمع أبدًا علم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفّط بالنية (¬5) عند دخوله في الصلاة (¬6)، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمّنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات (¬7)، وتركه وفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية، وقوله: "اللهمّ اهدنا فيمن هديت"، يجهر بها ويقول المأمومون (¬8) كلهم: "آمين" (¬9)، ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغيرٌ ولا كبيرٌ ولا رجلٌ ولا امرأةٌ ألبتَّة، وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخلّ به يومًا واحدًا، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة، ولرمي الجمار، ولطواف ¬
فصل [نقل الأعيان]
الزيارة، ولصلاة الاستسقاء والكسوف، وعن هاهنا (¬1) يُعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنّة، فإن تَرْكه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة كما أن فِعْله سنة، فإذا أستحببنا قعل ما تَرَكه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق. فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ فهذا سؤال بعيد جدًا عن معرفة هديه وسنّته، وما كان عليه، ولو صح هذا السؤال وقُبِل لاستحبَّ لنا مستحبٌّ الأذانَ للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا مستحب آخر الغُسْلَ لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة: يرحمكمُ اللَّه، ورفع بها صوته، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحتا لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب، وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر اسم اللَّه واسم رسوله جماعة وفُرادى، وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ واستحبّ لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب، وقال: من أين لكم أنّ إحياءَهما لم ينقل؟ وانفتح باب البدعة، وقال: كلُّ من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة، فلا يطالبهم بزكاة، ولا هم يؤدّونها إليه (¬2). فصل [نقل الأعيان] وأما نقل الأعيان وتعيين الأماكن فكنقلهم الصَّاع والمدّ وتعيين موضع المنبر، وموقفه للصلاة والقبر والحجرة ومسجد قباء وتعيين الروضة والبقيع والمصلى ونحو ذلك، ونقل هذا جارٍ مجرى نقل مواضع المناسك كالصَّفا والمروة ومنًى ومواضع الجمرات ومزدلفة وعرفة ومواضع الإحرام كذي الحُلَيْفة والجُحْفة وغيرهما. فصل [نقل العمل المستمر] وأما نقل العمل المستمر فكنقل الوقوف والمزارعة، والأذان على المكان ¬
فصل [العمل الذي طريقه الاجتهاد]
المرتفع (¬1)، والأذان للصبح قبل الفجر، وتثنيه الأذان وإفراد الإقامة، والخطبة بالقرآن وبالسنن دون الخطبة الصناعية وبالتسجيع والترجيع التي لا تسمن ولا تغني من جوع، فهذا النقل وهذا العمل حجة يجب اتّباعها، وسنّة متلقاة بالقبول على الرأس والعينين، وإذا ظفر العالم بذلك قَرَّت به عينُه، واطمأنت إليه نفسُه. فصل [العمل الذي طريقه الاجتهاد] وأما العمل الذي طريقه الاجتهاد والاستدلال فهو معترك النزال ومحل الجدال، قال القاضي عبد الوهاب (¬2): وقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ليس بحجة أصلًا، وأن الحجة هي إجماع أهل المدينة من طريق النقل، ولا يُرجَّح به أيضًا أحد الاجتهادين على الآخر، وهذا قول أبي بكر (¬3)، وأبي يعقوب الرازي، والقاضي أبي بكر بن منتاب (¬4)، والطيالسي والقاضي أبي الفرج والشيخ أبي بكر الأبهري (¬5)، وأنكروا أن يكون هذا مذهبًا لمالك أو لأحد من معتمدي أصحابه. والوجه الثاني: أنه وإن لم يكن حجة فإنه يُرجَّح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم، وبه قال بعض الشافعية (¬6). والثالث: أن إجماعهم من طريق الاجتهاد حجّة وإن لم يحرم خلافه، ¬
[حال خبر الآحاد]
كإجماعهم من طريق النقل، وهذا مذهب قوم من أصحابنا، وهو الذي [يدل] عليه كلام أحمد بن المعذّل وابن بكير (¬1) وغيرهما، وذكر الشيخ أن في "رسالة مالك إلى الليث بن سعد" ما يدلّ عليه، وقد ذكر أبو مصعب (¬2) في "مختصره" مثل [ذلك] (¬3)، والذي صرّح به القاضي أبو الحسن بن أبي عمر (¬4) في "مسألته التي صنّفها على أبي بكر الصيرفي"، نقضًا لكلامه على أصحابنا في إجماع أهل المدينة، وإلى هذا يذهب جل أصحابنا المغاربة أو جميعهم. [حال خبر الآحاد] فأمّا حال الأخبار من طريق الآحاد فلا تخلو من ثلاثة أمور: * إما أن يكون صحبها عمل أهل المدينة مطابقًا لها. * أو أن يكون عملهم بخلافها. * أو أن لا يكون منهم عمل أصلًا لا بخلاف ولا بوفاق. فإن كان عملهم موافقًا لها كان ذلك آكد في صحتها (¬5) ووجوب العمل بها، إذا كان العمل من طريق النقل، وإن كان من طريق الاجتهاد كان (¬6) مرجحًا للخبر على ما ذكرنا من الخلاف، وإن كان عملهم بخلافه نُظر، فإن كان العمل المذكور على الصفة [المذكورة] (¬7) التي ذكرناها فإن الخبر يُترك للعمل عندنا، لا خلاف بين أصحابنا في ذلك، وهذا أكبر الغرض بالكلام في هذه المسألة، وهذا كما نقوله في الصاع والمد وزكاة الخضراوات وغير ذلك. ¬
[تقديم عمل أهل المدينة المتصل على خبر الآحاد]
وإن كان العمل منهم اجتهادًا، فالخبر أولى منه عند جمهور أصحابنا، إلّا من قال منهم: إن الإجماع من طريق الاجتهاد حجة. وإن لم يكن في المدينة (¬1) عمل يوافق موجب الخبر أو يخالفه، فالواجب المصير إلى الخبر، فإنه دليل منفرد عن مُسْقِط أو معارض. [تقديم عمل أهل المدينة المتصل على خبر الآحاد] وهذا (¬2) جملة قول أصحابنا في هذه المسألة، وقد تضمّن ما حكاه أن عملهم الجاري مجرى النقل حجة، فإذا أجمعوا عليه فهو مقدَّم على غيره من أخبار الآحاد، وعلى هذا الحرف بَنَى المسألة وقرَّرها، وقال: والذي يدل على ما قلناه أنهم إذا أجمعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا، فإن ذلك الأمر معلوم بالنقل المتواتر الذي يحصل به العلم، [وينقطع العذر فيه، ويجب ترك أخبار الآحاد له؛ لأن المدينة بلدة جمعت من الصحابة مَنْ يقع العلم] (¬3) بخبرهم فيما أجمعوا على نقله، فما هذا سبيله إذا ورد خبرُ واحدٍ بخلافه كان حجّة على ذلك الخبر وتُرك له، كما لو روي لنا خبر واحد فيما تواتر به نقل جميع الأمة لوجب ترك الخبر للنقل المتواتر من جميعهم، فيقال: من المحال عادةً أن يُجمعوا على شيء نقلًا أو عملًا متصلًا من عندهم إلى زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه وتكون السنة الصحيحة الثابتة قد خالفته، هذا من أبْيَن الباطل، وإن وقع ذلك فيما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد فإن العصمة لم تُضْمن لاجتهادهم، فلم يجمعوا من طريق النقل ولا العمل المستمر على هذه الشريطة على بطلان خِيَار المجلس، ولا على التسليمة الواحدة، ولا على القنوت في الفجر قبل الركوع، ولا على ترك الرفع عند الركوع والرفع منه، ولا على ترك السجود في المُفصَّل، ولا على ترك الاستفتاح والاستعاذة قبل الفاتحة، ونظائر ذلك، كيف وقدماؤهم الذين نقلوا العلم الصحيح الثابت الذي كأنه رأي عين عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه بخلاف ذلك؟ فكيف يقال: إن تركه عمل مستمر من عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى الآن؟ هذا من المحال، بل نقلهم الصاع والمد والوقوف والأخاير (¬4) وترك زكاة الخضراوات ¬
[العمل في المدينة بعد انقراض عصر الصحابة]
حق، ولم يأت عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة تخالفه ألبتّة، ولهذا رجع أبو يوسف إلى ذلك كلّه بحضرة الرشيد لمّا ناظره مالك (¬1) وتبيّن له الحق، فلا يلحق بهذا عملهم من طريق الاجتهاد، ويُجعل ذلك نقلًا متصلًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وتُترك له السنن الثابتة، فهذا لون [وذلك] (¬2) لون، وبهذا التمييز والتفصيل يزول الاشتباه ويظهر الصواب. [العمل في المدينة بعد انقراض عصر الصحابة] ومن المعلوم أن العمل بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين والصحابة بالمدينة كان بحسب مَنْ فيها من المفتين والأمراء والمحتسبين على الأسواق، ولم تكن الرعية تُخالف هؤلاء، فإذا أفتى المفتون نفَّذه الوالي، وعمل به المُحتسب، وصار عملًا، فهذا هو الذي لا يُلتفت إليه في مخالفة السنن، لا عمل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه والصحابة فذاك هو السنة، فلا يُخلط أحدهما بالآخر، فنحن لهذا العمل أشدُّ تحكيمًا، وللعمل الآخر إذا خالف السنة أشدُّ تركًا، وباللَّه التوفيق. وقد كان ربيعة بن أبي عبد الرحمن يفتي وسليمان بن بلال المحتسب ينفِّذ فتواه فتعمل الرعية بفتوى هذا وتنفيذ هذا، كما يطّرد العمل في بلد أو إقليم ليس فيه إلّا قول مالك على قوله وفتواه، ولا يجوِّزون العمل هناك بقول غيره من أئمّة الإسلام، فلو عمل به أحد لاشتدّ نكيرهم عليه، وكذلك [كل] (¬3) بلد أو إقليم لم يظهر فيه إلّا مذهب أبي حنيفة، فإن العمل المستمر عندهم على قوله، وكل طائفة اطرد عندهم عمل [من] (¬4) وصل إليهم قوله ومذهبه ولم يألفوا غيره. ولا فرق في هذا العمل بين بلد وبلد، والعمل الصحيح ما وافق (¬5) السنة. [تغير عمل أهل المدينة من عصر إلى عصر] وإذا أردت وضوح ذلك فانظر العمل في زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- في جهره بالاستفتاح في الفرض في مصلَّى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وعمل الصحابة به (¬6)، ثم العمل في زمن مالك بوصل التكبير بالقراءة من غير ¬
استفتاحٍ ولا تعوّذ (¬1). وانظر العمل في زمن الصحابة كعبد اللَّه بن عمر في [اعتبار] (¬2) خيار المجلس ومفارقته لمكان التبايع ليلزم العقد (¬3) ولا يخالفه في ذلك صحابي، ثم العمل به في زمن التابعين، وإمامُهم وعالمهم سعيد بن المسيب يُفتي به ويعمل به ولا ينكره عليه مُنكر، ثم صار العمل في زمن ربيعة وسليمان بن بلال بخلاف ذلك. ¬
وانظر إلى العمل في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة خَلْفه وهم يرفعون أيديهم في الصلاة في الركوع والرفع منه (¬1)، ثم العمل في زمن الصحابة بعده حتى كان عبد اللَّه بن عمر إذا رأى من لا يرفع يديه حَصَبه (¬2)، وهو عمل كأنه (¬3) رأي عَيْن، وجمهور التابعين يعمل به في المدينة (¬4) وغيرها من الأمصار كما حكاه البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما [عنهم] (¬5)، ثم صار العمل بخلافه. وانظر إلى العمل الذي كأنه رأي عين من صلاة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ابني بَيْضاء: سُهيل وأخيه في المسجد والصحابة معه (¬6)، وصلَّت عائشة على سعد بن ¬
أبي وقاص في المسجد (¬1). وصُلِّي على (¬2) عمر بن الخطاب في المسجد، ذكره مالك عن نافع عن عبد اللَّه (¬3)، قال الشافعي: ولا نرى أحدًا من الصحابة حضر موته فتخلَّف عن جنازته، فهذا عمل مجمع عليه عندكم، قاله لبعض المالكية، وروى هشام عن أبيه أنَّ أبا بكر صُلِّي عليه في المسجد (¬4)، فهذا العمل حق (¬5)، ولو تركت السنن للعمل لتعطَّلت سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودرست رسومها وعَفَت آثارها، وكم من عمل قد اطّرد بخلاف السنة الصريحة على تقادم الزمان وإلى الآن، وكل وقت تُترك سنة ويُعمل بخلافها ويستمر عليها العمل فتجده (¬6) يسيرًا من السنة معمولًا به على نوع تقصير. ¬
[تعطيل السنن بتركها]
[تعطيل السنن بتركها] وخذ بلا حسبان (¬1) ما شاء اللَّه من سنن قد أهملت وعُطِّل العمل بها جملة، فلو عمل بها من يعرفها لقال الناس: تركت السنة، فقد تقرّر أن كل عمل خالف السنة الصحيحة لم يقع من طريق النقل ألبتّة، وإنما يقع من طريق الاجتهاد، والاجتهاد إذا خالف السنة كان مردودًا، وكل عمل طريقه النقل فإنه لا يخالف سنة صحيحة ألبتّة. فلنرجع إلى الأمثلة التي تُرك فيها المحكم للمتشابه، فنقول: [الجهر بآمين] المثال السابع والخمسون: ترك السنة المحكمة الصحيحة في الجهر بآمين في الصلاة (¬2)؛ كقوله في "الصحيحين": "إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا فإنه مَنْ وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفر له [ما تقدَّم من ذنبه"] (¬3)، ولولا جهره بالتأمين لما أمكن المأموم أن يؤمّن معه ويوافقه في التأمين، وأصرح من هذا حديث سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن حُجْر بن عَنْبَس، عن وائل بن حُجْر قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قال: ولا الضالين، قال: آمين، ورفع بها صوته"، وفي لفظ: "وطوَّل بها" (¬4)، رواه الترمذي وغيره، وإسناده صحيح. ¬
وقد خالف شعبة سفيان في هذا الحديث، فقال: "وخفض بها صوته"، وحكم أئمة الحديث وحفاظه في هذا لسفيان، فقال الترمذي (¬1): "سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان الثوري عن سلمة بن كُهَيْل في هذا الباب أصح من حديث شعبة، أخطأ شعبة في هذا الحديث في مواضع، فقال: "عن حُجْر أبي العَنْبَس"، وإنما كنيته أبو السَّكن، وزاد فيه: علقمة بن وائل، وإنما هو حُجْر بن عَنْبَس عن وائل بن حُجْر، ليس فيه علقمة، وقال: "وخفض بها صوته"، والصحيح أنه جهر بها". قال الترمذي (¬2): "وسألت أبا زرعة عن حديث سفيان وشعبة [هذا] (¬3)، فقال: حديث سفيان أصحّ من حديث شعبة، وقد روى العلاء بن صالح عن سلمة بن كُهَيْل نحو رواية سفيان". وقال الدارقطني (¬4): "كذا قال شعبة: "وأخفى بها صوته"، ويقال: إنه وَهِمَ فيه؛ لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كُهَيْل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا: "ورفع صوته بآمين"، وهو الصواب". وقال البيهقي (¬5): "لا أعلم اختلافًا بين أهل العلم بالحديث أن سفيان وشعبة إذا اختلفا فالقول قول سفيان (¬6)، وقال ¬
يحيى بن سعيد: ليس أحد أحبّ إليّ من شعبة، ولا يعدله عندي أحد، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان، وقال شعبة: سفيان أحفظ مني" (¬1)، فهذا ترجيح لرواية سفيان، وترجيح ثان، وهو متابعة العلاء بن صالح (¬2) ومحمد بن سلمة بن كهيل (¬3) له، وترجيح ثالث، وهو أن أبا الوليد الطيالسي -وحسبك به- رواه عن شعبة بوفاق الثوري في متنه (¬4)، فقد اختلف على شعبة كما ترى، قال البيهقي (¬5): "فيحتمل أن يكون تنبَّه لذلك فعاد إلى الصواب في متنه، وترك ذكر [ذلك] (¬6) علقمة في إسناده"، وترجيح رابع، وهو أن الروايتين لو تقاوَمَتا لكانت رواية الرفع متضمّنة لزيادة وكانت أولى بالقبول، وترجيح خامس، وهو موافقتها وتفسيرها لحديث أبي هريرة: "إذا أمَّن الإمام فأمَّنوا، فإن الإمام يقول: آمين، والملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له" (¬7)، وترجيح سادس، وهو ما رواه الحاكم بإسناد صحيح عن أبي هريرة قال: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا فرغ من قراءة أمّ القرآن رفع صوته بآمين" (¬8)، ولأبي داود بمعناه، وزاد بيانًا فقال: ¬
"قال آمين حتى يُسمع مَنْ يليه من الصف الأول" (¬1)، وفي رواية عنه: "كان النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال: آمين، يرفع بها صوته، ويأمر بذلك" (¬2)، وذكر البيهقي عن عليّ [كرّم اللَّه وجهه] (¬3) قال: "سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: آمين إذا قرأ {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} " (¬4). ¬
[وعنده أيضًا] (¬1) "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قرأ ولا الضالين رفع صوته بآمين" (¬2)، وعند أبي داود عن بلال أنه قال للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تسبقني بآمين" (¬3)، قال الرَّبيع: سئل الشافعي عن الإمام: هل يرفع صوته بآمين؟ قال: نعم، ويرفع بها مَنْ خلفه أصواتهم، فقلت: وما الحجَّة؟ فقال: أخبرنا مالك، وذكر حديث أبي هريرة المتفق على صحته، ثم قال: ففي قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا" (¬4)، دلالة على أنه أَمَر الإمام أن يجهر بآمين؛ لأَنَّ مَنْ خلفه لا يعرفون وقت تأمينه إلّا بأن يسمع تأمينه، ثم بيَّنه ابنُ شهاب فقال: وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: آمين، فقلت للشافعي: فإنَّا نكره للإمام أن يرفع صوته بآمين، فقال: هذا خلاف ما روى صاحبنا وصاحبكم عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولو لم يكن عندنا وعندهم علم إلّا هذا الحديث الذي ذكرناه عن مالك، فينبغي أن يستدلَّ بأن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يجهر بآمين، وأنه أمر الإمام أن يجهَر بها، فكيف ولم يزل أهلُ العلم عليه؟ " (¬5). وروى وائل بن حُجْر أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كان يقول: آمين يرفع بها صوته" (¬6)، ويَحكي مَدَّه إياها، وكان أبو هريرة يقول للإمام: لا تسبقني بآمين، وكان يؤذِّن ¬
[له] (¬1)، أنبأنا مسلم بن خالد، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء: كنت أسمع الأئمّة: ابن الزبير ومن بعده يقولون: آمين، ومَنْ خلفهم آمين، حتى إن للمسجد للجَّة (¬2) "، وقوله: "كان أبو هريرة يقول للإمام لا تسبقني بآمين"، يريد ما ذكره البيهقي بإسناده عن أبي رافع أن أبا هريرة كان يؤذّن لمروان بن الحكم، فاشترط [عليه] (¬3) أن لا يسبقه بالضالين، حتى يعلم أنه قد وَصلَ إلى الصَّف، فكان مروان إذا قال: {وَلَا الضَّالِّينَ}، قال أبو هريرة: (آمين) يمدّ بها صوته (¬4)، وقال: إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم (¬5). وقال عطاء: أدركت مئتين من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا المسجد إذا قال الإمام: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} سمعتُ لهم رجَّة بآمين (¬6). ¬
[بيان الصلاة الوسطى]
فردّ هذا كله بقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204]، والذي أنزلت عليه هذه الآية هو الذي رفع صوته بالتأمين، والذين أمروا بها رفعوا به أصواتهم، ولا معارضة بين الآية والسنة بوجهٍ ما. [بيان الصلاة الوسطى] المثال الثامن والخمسون: ترك القول بالسنة الصحيحة الصريحة المحكمة في أن الصلاة الوسطى صلاة العصر (¬1)، بالمتشابه من قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وهذا عَجبٌ من العجب، وأعجب منه تركها بأن في مصحف عائشة: (وصلاة العصر)، وأعجب منهما تركها بأن صلاة الظهر تقام في شدّة الحر وهي في وسط النهار، فأكَّدها اللَّه تعالى بقوله: {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، وأعجب من ذلك تركها بأن المغرب وسطى بين الثنائية والرباعية، فهي أحق بهذا الاسم من غيرها، وأعجب منه تركها بأن صلاة العشاء قبلها صلاة آخر النهار، وبعدها صلاة أوّل النهار، وهي وسطى بينهما، فهي أحق بهذا الاسم من غيرها، وقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ونصّه الصريح [المحكم] (¬2) الذي لا يحتمل إلّا ما ¬
[ما يقول الإمام في الرفع من الركوع]
دلّ عليه أَوْلى بالاتّباع (¬1)، واللَّه الموفق. [ما يقول الإمام في الرفع من الركوع] المثال التاسع والخمسون: ترك السنة الصحيحة الصريحة في قول الإمام: "ربنا ولك الحمد"، كما في "الصحيحين"، من حديث أبي هريرة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا قال: سَمِعَ اللَّه لمن حمده، قال: اللَّهمّ ربنا لك الحمد" (¬2). وفيهما أيضًا عنه: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يكبِّر حين يقوم، ثم يكبِّر حين يركع، ثم يقول: سمع اللَّه لمن حمده، حين يرفع صُلْبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربَّنا ولك الحمد" (¬3). وفي "صحيح مسلم" عن ابن عمر: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع اللَّه لمن حمده، اللهمّ ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد" (¬4)، وعن أبي سعيد: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع اللَّه لمن حمده، ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد -وكلنا لك عبد- لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ" (¬5)، فردت ¬
[إشارة المتشهد بإصبعه]
هذه السنن المحكمة بالمتشابه من قوله: "إذا قال الإمام سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد" (¬1). [إشارة المتشهد بإصبعه] المثال الستون: رد السنة الصحيحة المحكمة في إشارة المصلِّي في التشهد بإصبعه (¬2) كقول ابن عمر: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا جلس في الصلاة وضع كفَّه اليمنى (¬3) على فخذه اليمنى وقَبضَ أصابعه كُلَّها، وأشار بإصبعه (¬4) التي تلي الإبهام"، رواه مسلم (¬5)، وعنده أيضًا عنه: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على رُكبتيه ووضع إصبعه التي تلي الإبهام فدعا بها" (¬6)، وعنده أيضًا عن عبد اللَّه بن الزبير: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا قعد في الصلاة وضع يديه على ركبتيه وأشار بأصبعه" (¬7)، ورواه خُفاف بن إيماء بن رخَصَة (¬8)، ووائل بن ¬
حُجْر (¬1)، وعبادة بن الصامت (¬2)، ومالك بن نمير (¬3) الخزاعي عن أبيه (¬4) كلهم عن ¬
النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه فعل ذلك، وسئل ابن عباس عنه فقال: هو الإخلاص (¬1). فردّ (¬2) ذلك كله بحديث لا يصح، وهو ما رواه محمد بن إسحاق، عن ¬
[ما يصنع بشعر المرأة الميتة]
يعقوب بن عُتْبة، عن أبي غَطَفان المُرّيّ، عن أبي هريرة مرفوعًا: "التسبيح للرجال، والتصفيق للنساء، ومن أشار في صلاته إشارة تُفهم عنه فليُعِدْها" (¬1). قال الدارقطني (¬2): "قال لنا ابن أبي داود: أبو غَطَفان هذا مجهول (¬3)، وآخر الحديث زيادة في الحديث، ولعلّه من قول ابن إسحاق، والصحيح عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه كان يشير في الصلاة". [ما يصنع بشعر المرأة الميتة] المثال الحادي والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة في ضفر رأس المرأة الميتة ثلاث ضفائر؛ كقوله في "الصحيحين" في غسل ابنته: "اجْعَلْنَ رأسها ثلاثة قرون"، قالت أم عطية: ضَفَرْنا رأسها وناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون وألقيناه من خلفها (¬4)، فرد ذلك بأنه يشبه زينة الدنيا، وإنما يرسل شعرها شقّين على ¬
[وضع اليدين في الصلاة]
ثدييها (¬1)، وسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بالاتّباع (¬2). [وضع اليدين في الصلاة] المثال الثاني والستون: ترك السنة الصحيحة الصريحة التي رواها الجماعة عن سفيان الثوري، عن عاصم بن كُلَيْب، عن أبيه، عن وائل بن حُجْر قال: "صلّيت مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره" (¬3)، ولم ¬
يقل: "على صدره"، غير مُؤَمّل بن إسماعيل، وفي "صحيح مسلم" (¬1) عنه: "أنه رأى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- رفع يديه حين دخل في الصلاة ثم كبَّر، ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يَرْكَعَ أخرج يديه ثم رفعهما وكبَّر فركع (¬2)، فلما قال: سمع اللَّه لمن حمده، رفع يديه فلما سجد سجد بين كفَّيه"، وزاد أحمد وأبو داود: "ثم وضع يده اليمنى على كفّه اليسرى والرسغ والساعد" (¬3)، وفي "صحيح البخاري" عن سهل بن سعد، قال: "كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة"، قال أبو حازم: ولا أعلمه إلّا يَنمي (¬4) ذلك إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5)، وفي "السنن" عن ابن مسعود أنه كان يصلّي فوضع يده اليسرى على اليمنى، فرآه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- فوضع يده اليمنى على اليسرى (¬6)، ¬
وقال [علي] (¬1): "من السُّنة في الصلاة وضع الكَفِّ (2) على الكَفِّ (¬2) تحت السرة"، رواه أحمد (¬3)، وقال مالك في "موطئه" (¬4): وضع اليدين إحداهما (¬5) على الأخرى في الصلاة، ثم ذكر حديث سهل بن سعد. وذكر عن عبد الكريم ابن أبي المُخَارِق البصري أنه قال: من كلام النبوّة: "إذا لم تستح فافعل ما شئت، ووضع إحدى اليدين في الصلاة على الأخرى يضع اليمنى على اليسرى، وتعجيلُ الفطر، والإسْتِينَاءُ بالسحور" (¬6). ¬
وذكر أبو عمر في "كتابيه" (¬1) من حديث الحارث بن غُطَيْف أو غطيف بن الحارث قال: مهما رأيتُ شيئًا فنسيته فإني لم أنس أنّي رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واضعًا يده اليمنى على اليسرى في الصلاة (¬2). ¬
وعن قَبيصة بن هُلْب (¬1)، عن أبيه قال: "رأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واضعًا يمينه على شماله في الصلاة" (¬2)، وقال علي بن أبي طالب (¬3): "من السنة وضع اليمين على الشمال في الصلاة" (¬4)، وعنه أيضًا أنه كان إذا قام إلى الصلاة وضع يمينه على رُسْغه، فلا يزال كذلك حتى يركع، إلّا أن يصلح ثوبه أو يحك جسده (¬5). ¬
وقال علي (¬1) في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]: إنه وضع اليمين على الشمال في الصلاة تحت الصَّدْر (¬2)، وذكر ابن أبي شيبة عن أبي بكر الصديق أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال هكذا، ووضع اليمنى على اليسرى [في الصلاة] (¬3)، وقال أبو الدرداء: من أخلاق النَّبيين وضع اليمين على الشمال في ¬
الصلاة (¬1)، وقال ابن الزبير: صف القدمين ووضع اليد على اليد من السنّة (¬2)، ذكر هذه الآثار أبو عمر بأسانيدها، وقال: هي آثار ثابتة (¬3)، وقال وهب بن بقية: ثنا محمد بن المطلب، عن أبان بن بشير المُعلِّم، ثنا يحيى بن أبي كثير، ثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاث من النبوّة: تعجيل الفطر، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة" (¬4)، وقال سعيد بن ¬
منصور: ثنا هُشَيْم، أنا منصور بن زَاذَان، عن محمد بن ابان الأنصاري، عن عائشة قالت: ثلاث من النبوّة: تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليمنى على اليسرى في الصلاة (¬1)، فردت هذه الآثار برواية ابن القاسم عن مالك، قال: تَرْكه أحبُّ إليَّ (¬2) ولا أعلم شيئًا قط ردّت به سواه (¬3). ¬
[التعجيل بصلاة الفجر]
[التعجيل بصلاة الفجر] المثال الثالث والستون (¬1): رد السنة المحكمة الصريحة في تعجيل الفجر وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يقرأ فيها بالستين إلى المئة (¬2)، ثم ينصرف منها والنِّساء لا يُعْرَفن من الغَلَس (¬3)، وأن صلاته كانت التغليس (¬4) حتى توفَاه اللَّه (¬5)، وأنه إنما أسفر بها مرة واحدة (¬6)، وكان بين سحوره وصلاته قدر خمسين آية (¬7)، فرد (¬8) ذلك بمجمل ¬
حديث رافع بن خَديج: "أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر" (¬1)، وهذا بعد ثبوته إنما المراد به الإسفار بها دوامًا، لا ابتداء، فيدخل فيها مغلسًا ويخرج منها مسفرًا كما كان يفعله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقوله موافق لفعله، لا مناقض له، وكيف يظن به المواظبة على فعل ما الأجر الأعظم في خلافه (¬2). ¬
[وقت المغرب]
[وقت المغرب] المثال الرابع والستون: رد السنة الثابتة المحكمة الصريحة في امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشفق كما في "صحيح مسلم" من حديث عبد اللَّه بن [عمرو] (¬1) عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وَقْتُ صلاة الظهر ما لم تحضر صلاة العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفرّ الشمس، ووقت [صلاة] المغرب ما لم يسقط نور الشَّفق، ووقت [صلاة] العشاء إلى نصف الليل، ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس" (¬2)، وفي "صحيحه" أيضًا عن أبي موسى أن سائلًا سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المواقيت فذكر الحديث، وفيه: "ثم أمره فأقام المغرب حين وَجَبَت الشمس، فلما كان في اليوم الثاني قال: ثم أخَّر المغرب حتى كان عند سقوط الشفق [وفي لفظ: فصلَّى المغرب قبل أن يغيب الشفق] (¬3)، ثم قال: الوقت ما بين هذين" (¬4)، وهذا متأخر عن حديث جبريل (¬5)؛ لأنه كان بمكة، وهذا قول، وذاك (¬6) فعل، وهذا يدلّ على الجواز، وذلك [يدل] (¬7) على الاستحباب، وهذا في "الصحيح"، وذاك (¬8) في "السنن"، وهذا يوافق قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها" (¬9)، وإنما خُصَّ منه الفجر بالإجماع، فما عداها من الصلوات داخل في عمومه، والفعل إنما يدل على الاستحباب فلا يعارض العام ولا الخاص. ¬
[وقت العصر]
[وقت العصر] المثال الخامس والستون: رد السنة الصريحة المحكمة الثابتة في وقت العصر أنه (¬1) إذا صار ظل كل شيء مثله، وأنهم كانوا يصلّونها مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم يذهب أحدهم إلى العَوَالي قدر أربعة أميال والشمس مرتفعة (¬2)، وقال أنس: صلّى بنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- العصر، فأتاه رجل من بني سَلَمة فقال: يا رسول اللَّه، إنَّا نريد أن ننحر جزورًا لنا، وإنا نحبُّ أن تحضرَها، قال: نعم، فانطلق وانطلقنا معه، فوجد الجزور لم تُنحر، فنُحرت ثم قطعت ثم طبخ منها ثم أكلنا منها قبل أن تغيب الشمس (¬3)، ومحال أن يكون هذا بعد المثلين، وفي "صحيح مسلم" عنه: "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر" (¬4)، ولا معارض لهذه السنن، لا في الصحة ولا في الصراحة والبيان، فردّت [هذه السنن] (¬5) بالمجمل من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6): "مَثَلُكم ومثل أهل الكتاب قبلكم كمثل رجل استأجر أجراء فقال: مَنْ يعمل لي إلى نصف النهار على قِيرَاط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي إلى أن تغيب الشمس على قيراطين (¬7)، فعملتم أنتم، فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: نحن أكثر عملًا وأقلّ أجرًا، فقال: هل ظلمتكم من أجركم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فذلك فضلي أُوتيه من أشاء" (¬8)، وياللَّه العجب! أي دلالة في هذا على أنه لا يدخل وقت ¬
[تخليل الخمر]
العصر حتى يصير الظل مثلين بنوع من أنواع الدلالة؟ وإنما يدل على أن صلاة العصر إلى غروب الشمس أقصر من نصف النهار إلى وقت العصر، وهذا لا رَيْبَ فيه. [تخليل الخمر] المثال السادس والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في المنع من تخليل الخمر، كما في "صحيح مسلم" عن أنس: "سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخمر تتخذ خلًا، قال: لا" (¬1)، وفي "المسند" وغيره من حديث أنس قال: "جاء رجل إلى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- وفي حِجْره يتيم، وكان عنده خمر حين حرمت الخمر، فقال: يا رسول اللَّه، أصنعها خلًا؟ قال: لا، فصبَّها حتى سال الوادي" (¬2)، وقال أحمد: ثنا وكيع: ثنا سفيان، عن السُّديّ، عن أبي هُبيرة (¬3)، عن أنس: "أن أبا طلحة سأل النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أيتام ورثوا خمرًا، فقال: أهْرِقْها (¬4)، فقال: أفلا نجعلها خلًا؟ قال: لا" (¬5)، وروى الحاكم والبيهقي من حديث أنس أيضًا قال: "كان في حجر ¬
أبي طلحة يتامى (¬1)، فاشترى لهم خمرًا، فلمَّا أنزل اللَّه تحريم الخمر أتى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكر ذلك له، فقال: أأجعله خلًا؟ قال: [لا]، فأهْرقه" (¬2)، وفي الباب عن أبي الزبير عن جابر (¬3)، وصح ذلك عن عمر بن الخطاب (¬4)، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف، فرُدَّت بحديث مجمل لا يثبت، وهو ما رواه الفَرَج بن فَضَالة، عن يحيى بن سعيد، عن عَمْرة، عن أم سلمة أنها كانت لها شاة تحلبها، ففقدها النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "ما فعلت شاتك؟ (¬5) فقلت: ماتت، قال: أفلا انتفعتم ¬
بإهابها، قلت: إنها ميتة، قال: فإن دِبَاغَها يحل كما يحل الخلُّ الخمرَ" (¬1)، قال الحاكم (¬2): "تفرَّد به الفَرَج بن فَضَالة عن يحيى، والفرج ممن لا يُحتجُّ بحديثه، ولم يصح تحليل خل الخمر من وجه". وقد فَسَّره راويه الفرج فقال: "يعني أنَّ الخمر إذا تغيرت فصارت خلًا حَلَّت" (¬3)، فعلى هذا التفسير الذي فَسَّره راوي الحديث يرتفع الخلاف، وقد قال الدارقطني (¬4): كان عبد الرحمن بن مهدي لا يحدث عن فرج بن فَضَالة، ويقول: حدث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أحاديث مقلوبة منكرة، وقال البخاري (¬5): الفَرَج بن فَضَالة منكر الحديث. ورُدَّت بحديثٍ واهٍ من رواية مغيرة بن زياد، عن أبي الزبير، عن جابر يرفعه: "خيرُ خَلِّكم خلُّ خَمْركم" (¬6)، ومغيرة هذا يقال له: أبو هشام المكفوف ¬
صاحب مناكير عندهم، ويقال: إنّه حدَّث عن عطاء بن أبي رباح وأبي الزبير بجملة من المناكير، وقد حَدَّث عن عبادة بن نُسَيّ بحديث غريب موضوع، فكيف يعارض بمثل هذه الرواية الأحاديث الصحيحة المحفوظة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في النهي عن تخليل الخمر؟ ولم يزل أهل مدينة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ينكرون ذلك، قال الحاكم (¬1): سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعتُ محمد بن إسحاق [أخبرنا العباس] يقول: سمعتُ قُتيبة بن سعيد يقول: قدمت المدينة أيام مالك، فقدمت إلى فامي (¬2) فقلت: عندك خَلُّ خمر؟ قال: سبحان اللَّه! في حرم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: ثم قدمت بعد موت مالك، فذكرتُ ذلك لهم، فلم يُنكر عليّ. وأمّا ما روي عن علي -رضي اللَّه عنه- من اصطباغه بخلِّ الخمر (¬3)، وعن عائشة أنه لا ¬
[تسبيح من نابه شيء في صلاته]
بأس به (¬1)، فهو خل الخمر الذي تخلّلت بنفسها لا باتّخاذها. [تسبيح من نابه شيء في صلاته] المثال السابع والستون: رد السنة الصحيحة الصريحة في تسبيح المصلّي إذا نَابَه شيء في صلاته (¬2)، كما في "الصحيحين" من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "التسبيح في الصلاة للرِّجال، والتصفيق للنِّساء" (¬3)، وفي "الصحيحين" أيضًا عن سهل بن سعد الساعدي: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ذهب إلى بني عَمرو بن عوف ليصلح بينهم"، فذكر الحديث، وقال في آخره: فقال النبيّ (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما لي أراكم أكثرتم التصفيق؟ مَنْ نابه شيء في صلاته فليسبِّح، فإنه إذا سبَّح التفت إليه، وإنما التصفيق للنساء" (¬5)، وذكر البيهقي من حديث إبراهيم بن طَهْمان، عن الأعمش، عن ذَكْوان، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا استؤذن على الرجل، وهو يصلي فإذنه التسبيح، وإذا استؤذن على المرأة وهي تصلّي فإذنها التصفيق" (¬6)، قال ¬
[سجدات المفصل والحج]
البيهقي (¬1): "رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات" فردَّت هذه السنن بأنها معارضة لأحاديث تحريم الكلام في الصلاة، وقد تعارض حاظر ومبيح، فيقدَّم الحاظر. والصواب أنه لا تعارض بين سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بوجهٍ، وكل منها له وجه، والذي حَرَّم الكلام في الصلاة ومنع منه هو الذي شرع التسبيح المذكور، وتحريم الكلام كان قبل الهجرة، وأحاديث التسبيح بعد ذلك، فدعوى نسخها بأحاديث تحريم الكلام محال، ولا تعارض بينهما بوجهٍ ما، فإن "سبحان اللَّه"، ليس من الكلام الذي منع منه المصلي، بل هو مما أُمِرَ به أَمْر إيجاب أو استحباب، فكيف يُسوَّى بين المأمور والمحظور؟ وهل هذا إلّا من أفسد قياس واعتبار؟. [سجدات المفصل والحج] المثال الثامن (¬2) والستون: رد السنة الثابتة في إثبات سجدات المفصل، والسجدة الأخيرة من [سورة] الحج (¬3)، كما روى أبو داود في "السنن": حدثنا محمد بن عبد الرحيم البَرْقي: [ثنا سعيد] (¬4) بن أبي مريم، أخبرنا نافع بن يزيد، عن الحارث بن سعيد العُتَقي (¬5)، عن عبد اللَّه بن مُنَيْن (¬6)، عن عمرو بن العاص: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أقرأه خمس عشرة سجدةً في القرآن، منها ثلاث في المُفصَّل، وفي ¬
سورة الحج سجدتان" (¬1)، تابعه محمد بن إسماعيل السُّلمي، عن سعيد بن أبي مريم. وقال ابن وهب: أنا ابنُ لَهِيعة، عن مِشْرَح بن هاعَان (¬2)، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فُضِّلت سورة الحج بسجدتين، فمن لم يسجد فيهما (¬3) فلا يقرأهما" (¬4)، ¬
وحديث ابن لهيعة يحتجّ منه (¬1) بما رواه عنه العبادلة كعبد اللَّه بن وهب وعبد اللَّه بن المبارك، وعبد اللَّه بن يزيد المقرئ، قال أبو زرعة (¬2): ابنُ لهيعة، كان ابن المبارك وابن وهب يتبعان أصوله، وقال عمرو بن علي (¬3): من كتب عنه قبل احتراق كتبه مثل ابن المبارك والمقرئ (¬4) أصح ممن كتب عنه بعد احتراقها، وقال ابن وهب (¬5): كان ابن لهيعة صادقًا، وقد انتقى النسائي (¬6) هذا الحديث من جملة ¬
حديثه، وأخرجه، واعتمده، وقال: "ما أخرجتُ من حديث ابن لهيعة قط إلّا حديثًا واحدًا أخبرناه هلال بن العلاء: ثنا مُعافى بن سُليمان، عن موسى بن أعين، عن عمرو بن الحارث، عن ابن لهيعة، فذكره". وقال ابن وهب (¬1): حدثني الصادق البار -واللَّه- عبدُ اللَّه بن لهيعة، وقال الإمام أحمد (¬2): مَنْ كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟! وقال ابن عيينة (¬3): كان عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع، وقال أبو داود: سمعت أحمد (¬4) يقول: ما كان محدِّث مصر إلّا ابن لهيعة. وقال أحمد بن صالح الحافظ: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلّابًا للعلم (¬5). وقال ابن حبان (¬6): "كان صالحًا لكنه يدلس عن الضعفاء، ثم احترقت كتبه، وكان أصحابنا يقولون: سماع من سمع منه قبل احتراق كتبه مثل العبادلة: ابنُ وهب، وابن مبارك، والقعنبي، والمقرئ فسماعهم صحيح" (¬7). ¬
وقد صحّ عن أبي هريرة أنه سجد مع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬1)، وصحّ عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سجد في النجم، ذكره البخاري (¬2). فردّت هذه السنن برأي فاسد وحديث ضعيف: أما الرأي (¬3) فهو أن آخر الحج السجود فيها سجود الصلاة لاقترانه بالركوع، بخلاف الأولى؛ فإن السجود فيها مجرد عن ذكر الركوع، ولهذا لم يكن قوله تعالى {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [آل عمران: 43]، من مواضع السجدات بالاتفاق. وأما الحديث الضعيف فإنه (¬4) رواه أبو داود: ثنا محمد بن رافع: ثنا أزهر بن القاسم: ثنا أبو قدامة، عن مطر الوَرَّاق، عن عكرمة، عن ابن العباس: "أن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسجد في شيء من المُفصَّل منذ تحول إلى المدينة" (¬5). ¬
فأما الرأي فيدل على فساده وجوه: منها أنه مردودٌ بالنص، ومنها أن اقتران الركوع بالسجود في هذا الموضع لا يُخرجه عن كونه [موضع سجدة، كما أن اقترانه بالعبادة التي هي أعمّ من الركوع لا يخرجه عن كونه سجدة] (¬1)، وقد صح سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- في النَّجم (¬2)، وقد قَرَنَ السجود فيها بالعبادة كما قرنه بالعبادة في سورة الحج، والركوع لم يزده إلّا تأكيدًا، ومنها أن أكثر السجدات المذكورة في القرآن متناولة لسجود الصلاة، فإن قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [الرعد: 15]، يدخل فيه سجود المصلين قطعًا، وكيف لا؛ وهو أجلّ السجود وأفرضه؟ وكيف لا يدخل هو في قوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} [النجم: 62]، وفي قوله: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19]، [وقد قال قبل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} [العلق: 9 - 10]،] (¬3) ثم قال: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)} [العلق: 19]، فأمره بأن يفعل هذا الذي نهاه عنه عدوّ اللَّه، فإرادة سجود الصلاة بآية السجدة لا تمنع كونها سجدة، بل تؤكّدها وتقوّيها. يوضحه أن مواضع السجدات في القرآن نوعان: إخبار، وأمر، فالإخبار خبر من اللَّه تعالى عن سجود مخلوقاته له عمومًا أو خصوصًا، فسُنَّ للتالي والسامع وجوبًا أو استحبابًا أن يتشبّه بهم عند تلاوة آية السجدة أو سماعها، وآيات الأوامر بطريق الأَوْلى. وهذا لا فرق فيه بين أمر وأمر، فكيف يكون الأمر بقوله: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)} [النجم: 62]، مقتضيًا للسجود دون الأمر بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ¬
[رواية أبي قدامة الحارث بن عبيد]
ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77]، فالساجد إما متشبه بمن أُخبر عنه، أو ممتثل لما أُمر به، وعلى التقديرين يسنّ له السجود في آخر الحج كما يُسَنُّ له [السجود] (¬1) في أوَّلها، فلما سوَّت السنة بينهما سوى القياس الصحيح والاعتبار الحقّ بينهما، وهذا السجود شرعه اللَّه ورسوله عبودية عند تلاوة هذه الآيات واستماعها، وقربة إليه، وخضوعًا لعظمته، وتذلّلًا بين يديه، واقتران الركوع ببعض آياته، مما يؤكّد ذلك ويقوّيه، لا يضعفه ويوهيه، واللَّه المستعان (¬2). وأمّا قوله تعالى: {يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)} [آل عمران: 43]، فإنما (¬3) لم يكن موضع سجدة لأنه خبر خاص عن قول الملائكة لامرأة بعينها أن تُديمَ العبادة لربّها بالقنوت وتصلّي له بالركوع والسجود، فهو خبرٌ عن قول الملائكة لها ذلك، وإعلام من اللَّه تعالى لنا أن الملائكة قالت ذلك لمريم، فسياق ذلك غير سياق آيات السجدات. [رواية أبي قدامة الحارث بن عبيد] وأما الحديث الضعيف فإنه من رواية أبي قدامة -واسمه الحارث بن عبيد- ¬
[سجود الشكر]
قال الإمام أحمد (¬1) -رضي اللَّه عنه-: هو مضطرب الحديث، وقال يحيى (¬2): ليس بشيء، وقال النسائي (¬3): ليس بالقوي، وقال الأزدي: ضعيف، وقال ابن حبان (¬4): لا يحتجّ به إذا انفرد. قلت: وقد أنكر عليه هذا الحديث (¬5)، وهو موضع الإنكار، فإن أبا هريرة -رضي اللَّه عنه- شهد سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- في المفصل في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}، ذكره مسلم في "صحيحه" (¬6)، وسجد معه، حتى لو صح خبر أبي قدامة هذا لوجب تقديم خبر أبي هريرة عليه؛ لأنه مثبت فمعه زيادة علم، واللَّه سبحانه أعلم. [سجود الشكر] المثال التاسع والستون: رد السنة (¬7) الثابتة الصحيحة في سجود الشكر (¬8) ¬
كحديث عبد الرحمن بن عوف: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خرج نحو صدقته فخرّ ساجدًا فأطال السجود، ثم قال: إن جبريل أتاني وبَشَّرني فقال: إن اللَّه عزّ وجلّ يقول لك: مَنْ صلَّى عليك صلّيت عليه، ومَنْ سلَّم عليك سلمت عليه، فسجدت للَّه شكرًا" (¬1)، ¬
وكحديث سعد بن أبي وقاص في سجوده -صلى اللَّه عليه وسلم- شكرًا لربّه لما أعطاه ثلث أمته، ثم سجد ثانية فأعطاه الثلث الآخر ثم [سجد] (¬1) ثالثة فأعطاه الثلث الباقي (¬2)، وكحديث أبي بكرة (¬3): "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان إذا جاءه أمر يُسرّ به خَرَّ ساجدًا شكرًا للَّه [تعالى] (¬4)؛ وأتاه بشيرٌ ليبشره بظفر جندٍ له على عدوّهم، فقام وخرَّ ساجدًا" (¬5)، وسجد كعب بن مالك لما بُشِّر بتوبة اللَّه عليه (¬6)، وسجد أبو بكر حين جاءه قتل ¬
مُسيلمة الكَذَّاب (¬1)، وسجد عليٌّ حين وجد ذا الثَّدية في الخوارج الذين قتلهم (¬2)، ¬
[نوعا النعم الإلهية]
ولا أعلم شيئًا يدفع هذه السنن (¬1) والآثار مع صحتها وكثرتها غير رأي فاسد، وهو أن نِعَمَ اللَّه سبحانه وتعالى لا تزال واصلة إلى عبده، فلا معنى لتخصيص بعضها بالسجود، وهذا من أفسد رأي وأبطله. [نوعا النعم الإلهية] فإن النعم نوعان: مستمرة، ومتجدّدة، فالمستمرة شكرها بالعبادات والطاعات، والمتجددة شرع لها سجود الشكر، شكرًا للَّه عليها، وخضوعًا له، وذلًّا، في مقابلة فرحة النعم وانبساط النفس لها، وذلك من أكبر أدوائها، فإن اللَّه سبحانه لا يُحبُّ الفَرِحين ولا الأَشِرين، فكان دواء هذا الداء الخضوع والذل والانكسار لرب العالمين، وكان في سجود الشكر من تحصيل هذا المقصود ما ليس في غيره. ونظير هذا السجود عند الآيات (¬2) التي يُخوّف اللَّه بها عباده كما في الحديث: "إذا رأيتم آية فاسجدوا" (¬3)، وقد فزع النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عند رؤية انكساف الشمس إلى الصلاة، وأمر بالفَزَع إلى ذكره (¬4)، ومعلوم أن آياته [تعالى] (¬5) لم تزل مشاهدة معلومة بالحسّ والعقل، ولكن تجدّدها يحدث للنفوس (¬6) من الرهبة والفزع إلى اللَّه ما لا تحدثه الآيات المستمرة، فتجدُّد هذه النعم في اقتضائها لسجود الشكر كتجدّد تلك الآيات في اقتضائها للفزع إلى السجود والصلاة (¬7)، ¬
ولهذا لما بلغ فقيه الأمة وترجمان القرآن عبد اللَّه بن عباس موت ميمونة زوج النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- خرّ ساجدًا، فقيل له: أتسجد لذلك؟ فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا رأيتم آية فاسجدوا"، وأيّ آية أعظم من ذهاب أزواج [النبيّ] (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- من بين أظهرنا (¬2)؟ فلو لم تأتِ النصوص بالسجود عند تجدّد النعم لكان هو محض القياس، ومقتضى عبودية الرغبة، كما أن السجود عند الآيات مقتضى عبودية الرهبة، وقد أثنى اللَّه سبحانه على الذين يسارعون في الخيرات ويدعونه رغبًا ورهبًا، ولهذا فرَّق الفقهاء بين صلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء بأن (¬3) هذه صلاة رهبة وهذه صلاة رغبة، فصلوات اللَّه وسلامه على من جاءت سنّته وشريعته بأكمل ما جاءت به شرائع الرسل وسننهم (¬4) [وعلى آله]. ¬
[انتفاع المرتهن بالمرهون]
[انتفاع المرتهن بالمرهون] المثال السبعون: رد السنة الثابتة الصحيحة بجواز ركوب المرتهن للدابّة المرهونة وشربه لبنها بنفقته عليها، كما روى البخاري في "صحيحه": ثنا محمد بن مقاتل: أنا عبد اللَّه: أنا زكريا، عن الشعبي، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الرَّهنُ يركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبنُ الدَّرِّ يشرب بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة" (¬1)، وهذا الحكم من أحسن الأحكام وأعدلها، ولا أصلح للرَّاهِنين (¬2) منه، وما عداه ففساده ظاهر، فإن الراهن قد يغيب ويتعذَّر على المرتهن مطالبته بالنفقة التي تحفظ الرهن، ويشق (¬3) عليه أو يتعذّر رفعه إلى الحاكم وإثبات الرهن وإثبات غيبة الراهن وإثبات أن قدر نفقته عليه هي قدر حلبه وركوبه وطلبه منه الحكم له بذلك، وفي هذا من العُسْر والحرج والمشقة ما ينافي الحنيفية السمحة، فشرع الشارع الحكيم القيّم بمصالح العباد للمرتهن أن يشرب لبن الرهن ويركب ظهره وعليه نفقته، وهذا محض القياس لو لم تأتِ به السنة الصحيحة، وهو يخرج على أصلين: أحدهما: أنه إذا أنفق على الرهن صارت النفقة دَيْنًا على الراهن؛ لأنه واجب أدّاه عنه، ويتعسَّر عليه الإشهاد على ذلك كل وقت واستئذان الحاكم، فجوَّز له الشارع استيفاء دينه من ظهر الرهن ودرّه، وهذا مصلحة محضة لهما، وهي بلا شك أَوْلى من تعطيل منفعة ظهره وإراقة لبنه أو تركه يفسد في الحيوان أو يفسده حيث يتعذّر الرفع إلى الحاكم، لا سيما ورهن الشاة ونحوها إنما يقع غالبًا بين أهل البوادي حيث لا حاكم، ولو كان فلم يولّ اللَّه ولا رسوله الحاكم هذا الأمر. الأصل الثاني: أن ذلك معاوضة في غيبة أحد المعاوضين للحاجة والمصلحة الراجحة، وذلك أَوْلى من الأخذ بالشفعة بغير رضا المشتري؛ لأن الضرر في ترك هذه المعاوضة أعظمُ من الضرر في ترك الأخذ بالشفعة، وأيضًا فإن المرتهن يريد حفظ الوثيقة لئلا يذهب ماله، وذلك إنما يحصل ببقاء الحيوان، والطريق إلى ذلك إما النفقة عليه، وذلك مأذون فيه عرفًا كما هو مأذون فيه شرعًا. ¬
[العرف يجري مجرى النطق]
[العرف يجري مجرى النطق] وقد أُجريَ العرفُ مجرى النطق في أكثر من مئة موضع (¬1) منها نقد البلد في المعاملات، وتقديم الطعام إلى الضيف، وجواز تناول اليسير مما يسقط من الناس من مأكول وغيره، والشرب من خَوَابي السيل ومصانعه في الطرق، ودخول الحَمَّام وإن لم يعقد عقد الإجارة مع الحمامي لفظًا، وضرب الدابّة المستأجرة إذا حرنت في السير وايداعها في الخان إذا قدم بلدة أو ذهب في حاجة، ودفع الوديعة إلى من جَرَت العادة بدفعها (¬2) إليه من امرأة أو خادم أو ولد، وتوكيل الوكيل لما لا يباشره مثله بنفسه، وجواز التخلّي في دار من أذن له بالدخول إلى داره والشرب من مائه والاتّكاء على الوسادة المنصوبة، وأكل الثمرة الساقطة من الغصن الذي على الطريق، وإذن المستأجر للدار لمن شاء من أصحابه أو أضيافه في الدخول والمبيت والثواء عنده والانتفاع بالدار وإن لم يتضمنهم عقد الإجارة لفظًا اعتمادًا على الإذن العُرفي، وغسل القميص الذي استأجره للبس مدة يحتاج فيها إلى الغسل، ولو وكَّل غائبًا أو حاضرًا في بيع شيء والعرف قبض ثمنه ملك ذلك، ولو اجتاز بحرث غيره في الطريق ودعته الحاجةُ إلى التخلِّي فيه فله ذلك إن لم يجد موضعًا سواه إما لضيق الطريق أو لتتابع المارِّين فيها، فكيف بالصلاة فيه والتيمّم بترابه؟ ومنها لو رأى شاة غيره تموت فذبحها حفظًا لمالكها (¬3) عليه كان ذلك أَوْلى من تركها تذهب ضياعًا، وإن كان من جامدي الفقهاء من يمنع من ذلك ويقول: هذا تصرف في ملك الغير، ولم يعلم هذا البائس (¬4) أن التصرف في ملك الغير إنما حَرَّمه اللَّه لما فيه من الإضرار به وترك التصرّف هاهنا هو الإضرار. ومنها لو استأجر غلامًا فوقعت الأكلة (¬5) في طرفه فتيقَّن أنه إن لم يقطعه سرت إلى نفسه فمات جاز له قطعه ولا ضمان عليه. ومنها لو رأى السيل يمر بدار جاره فبادر ونقب حائطه وأخرج متاعه فحفظه عليه جاز ذلك، ولم يضمن نقب الحائط. ¬
ومنها لو قصد العدوّ مال جاره فصالحه ببعضه دفعًا عن بقيّته (¬1) جاز له، ولم يضمن ما دفعه إليه. ومنها لو وقعت النار في دار جاره فهدم جانبًا منها على النار لئلّا تسري إلى بقيتها لم يضمن. ومنها لو باعه صبرة (¬2) عظيمة أو حطبًا أو حجارة ونحو ذلك جاز له أن يدخل ملكه من الدواب والرجال ما ينقلها [به] (¬3)، وإن لم يأذن له في ذلك لفظًا. ومنها لو جذّ ثماره أو حصد زرعه ثم بقي من ذلك ما يرغب عنه عادة جاز لغيره التقاطه وأخذه، وإن لم يأذن فيه لفظًا. ومنها لو وجد هديًا مشعرًا منحورًا ليس عنده أحد جاز له أن يقتطع [منه] (¬4) ويأكل منه. ومنها لو أتى إلى دار رجل جاز له طرق حلقة الباب عليه، وإن كان تصرفًا (¬5) في بابه لم يأذن له فيه لفظًا. ومنها الاستناد إلى جداره والاستظلال به. ومنها الاستمداد من محبرته، وقد أنكر الإمام أحمد على من استأذنه في ذلك. وهذا أكثر من أن نحصره (¬6)، وعليه يخرَّج حديث عروة بن الجعد البارقي (¬7) حيث أعطاه النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- دينارًا يشتري له به شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إِحداهما بدينار وجاءه بالدينار والشاة الأخرى (¬8)، فباع وأقبض وقبض بغير إذن لفظي اعتمادًا منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع، ولا إشكال بحمد اللَّه في هذا الحديث بوجهٍ ما، وإنما الإشكال في ¬
فصل [الشرط العرفي كالشرط اللفظي]
استشكاله، فإنه جارٍ على محض القواعد كما عرفته (¬1). فصل [الشرط العرفي كالشرط اللفظي] ومن هذا الشرط العرفي كاللفظي (¬2)، وذلك كوجوب نَقْد البلد عند الإطلاق، ووجوب الحلول حتى كأنه مشترط لفظًا فانصرف العقد بإطلاقه إليه، وإن لم يقتضه (¬3) لفظه، ومنها السلامة من العيوب حتى يسوغ له الرد بوجود العيب تنزيلًا لاشتراط سلامة المبيع عُرْفًا منزلة اشتراطها لفظًا. ومنها وجوب وفاء المسلَمِ فيه في مكان العقد وإن لم يشترطه لفظًا بناءً على الشرط العرفي. ومنها لو دفع ثوبَه إلى مَنْ يعرف أنه يغسل أو يخيط بالأجرة أو عجينه لمن يخبزه أو لحمًا لمن يطبخه أو حَبًّا لمن يطحنه أو متاعًا لمن يحمله ونحو ذلك ممن نصب نفسه للأجرة على ذلك وجب له أجرة مثله، وإن لم يشترط معه ذلك ¬
لفظًا، عند جمهور أهل العلم، حتى عند المنكرين لذلك؛ فإنهم ينكرونه بألسنتهم ولا يمكنهم العمل إلا به، بل ليس يقف الإذن فيما يفعله الواحد من هؤلاء وغيرهم على صاحب المال خاصة؛ لأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض في الشفقة والنصيحة والحفظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ولهذا جاز لأحدهم ضم (¬1) اللقطة ورد الآبق وحفظ الضالة، حتى إنه يحسب ما ينفقه على الضالة والآبق واللقَطة وينزل إنفاقه عليها منزلة إنفاقه لحاجة نفسه لما كان حفظًا لمال أخيه وإحسانًا إليه؛ فلو علم المتصرف لحفظ مال أخيه أن نفقته تضيع وأن إحسانه يذهب باطلًا في حكم الشرع لما أقْدَمَ على ذلك، ولضاعت مصالح الناس، ورغبوا عن حفظ أموال بعضهم بعضًا، وتعطلت حقوق كثيرة، وفسدت أموال عظيمة، ومعلوم أن شريعة مَنْ بَهَرَتْ شريعتُه العقولَ (¬2) وفاقت كل شريعة واشتملت على كل مصلحة وعطَّلت كل مفسدة تأبى ذلك كُلَّ الإباء، وأين هذا من إجازة أبي حنيفة تصرفَ الفُضُولي (¬3)، ووقف العقود تحصيلًا لمصلحة المالك ومنع المرتهن من الركوب والحلب بنفقته؟ فياللَّه العجب! يكون هذا الإحسان للراهن وللحيوان ولنفسه بحفظ الرهن حرامًا لا اعتبار به شرعًا مع إذْنِ الشارع فيه لفظًا (¬4) وإذن المالك عرفًا وتصرُّفُ الفضوليّ معتبرًا مرتبًا عليه حكمه؟ هذا ومن المعلوم أنَّا في إبراء الذمم أحْوَجُ منّا إلى العقود على أولاد الناس وبناتهم وإمائهم وعبيدهم ودورهم وأموالهم؛ فالمرتهنُ محسنٌ (¬5) بإبراء ذمة المالك من الإنفاق على الحيوان مؤدِّ لحقِّ اللَّه فيه ولحق مالكه ولحق الحيوان ولحق نفسه متناول ما أذن له فيه الشارع من الِعِوَضِ بالذَرّ والظهر، وقد أوجب اللَّه سبحانه وتعالى، على الآباء إيتاء المَرَاضِع أَجرهن بمجرد الإرضاع، وإن لم يعقدوا معهن عقد إجارة؛ فقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]. ¬
فإن قيل: فهذا ينتقص عليكم بما لو كان الرهن دارًا فخرِبَ بعضُها فعمَّرها ليحفظ الرهن؛ فإنه لا يستحق السكنى عندكم بهذه العمارة، ولا يرجع بها. قيل: ليس كذلك، بل يحتسب له بما أنفقه؛ لأن فيه إصلاح الرهن، ذكره القاضي (¬1) وابنه وغيرهما. وقد نص الإمام أحمد في رواية أبي حرب الجرجرائي (¬2) في رجل عمل في قَنَاة رجل بغير إذنه، فاستخرج الماء، لهذا الذي عمل أجرٌ في نفقته إذا عمل ما يكون منفعة لصاحب القناة، هذا مع أن الفرق بين الحيوان والدار ظاهر، لحاجة الحيوان إلى الإنفاق ووجوبه على مالكه، بخلاف عمارة الدار، فإن صح الفرق بطل السؤال، وإن بطل الفرق ثبت الاستواء في الحكم. فإن قيل: في هذا مخالفة للأصول من وجهين: أحدهما: أنه إذا أدَّى عن غيره واجبًا بغير إذنه كان متطوعًا (¬3)، ولم يلزمه القيام [له] (¬4) بما أدَّاه عنه. الثاني: أنه لو لزمه عوضه فإنما يلزمه نظير ما أدَّاه، فأما أن يُعاوض عليه بغير جنس ما أداه بغير اختياره فأصولُ الشرع تأبى ذلك (¬5). قيل: هذا هو الذي رُدَّتْ به هذه السنة، ولأجله تأوَّلها منْ تأولها على أن المراد بها أن النفقة على المالك فإنه الذي يركب ويشرب، وجعل الحديث (¬6) دليلًا على جواز تصرف الراهن في الرهن بالركوب والحَلْب وغيره، ونحن نبين (¬7) ما في هذين الأصلين من حق وباطل. فأما الأصل الأول فقد دل على فساده القرآنُ والسنةُ وآثار الصحابة والقياسُ [الصحيح] (¬8) ومصالح العباد، أما القرآن فقوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقد تقدم تقرير الدلالة منه، وقد اعترض بعضُهم على هذا الاستدلال بأن المراد به أجورهنَّ المسماة فإنه أمرٌ لهم بوفائها، لا أمرٌ لهم بإيتاء ¬
ما لم يسموه من الأجرة، ويدل عليه قوله [تعالى] (¬1): {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6] وهذا التعاسر إنما يكون حال العقد بسبب طلبها الشَّطط (¬2) من الأجر أو حطّها عن أجرة المثل، وهذا اعتراض فاسد؛ فإنه ليس في الآية ذكر التسمية، ولا يدل عليها بدلالة من الدلالات الثلاث؛ أما اللّفظيتان فظاهر، وأما اللزومية فلانفكاك التلازم بين الأمر بإيتاء الأجر وبين تقدّم تسميته، وقد سَمَّى اللَّه سبحانه وتعالى ما يؤتيه (¬3) العاملَ على عمله أجرًا وإن لم يتقدم له تسمية كما قال تعالى عن خليله [عليه السلام] (1): {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (1)} [لعنكبوت: 27]، وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] ومعلوم أن الأجر ما يعود إلى العامل عِوَضًا عن عمله؛ فهو كالثواب الذي [يَثُوبُ إليه: أي] (¬4) يرجع من عمله، وهذا ثابت سواء سُمّي أو لم يُسمّ، وقد نص الإمام أحمد (¬5) -رضي اللَّه عنه- على أنه إذا افتدى الأسير رجع عليه بما غرمه عليه، ولم يختلف قوله فيه. واختلف قوله فيمن قضى (¬6) دَيْن غيره عنه بغير إذنه؛ فنص في موضع على أنه يرجع عليه، فقيل له: هو متبرع بالضمان، فقال: وإن كان متبرعًا بالضمان، ونص في موضع آخر على أنه لا يرجع (¬7)، [فإنه قال: إذا لم يقل: اقْض عني ديني كان متبرِّعًا، ونص (¬8) على أنه يرجع] (1) على السيد بنفقة عبده الآبق إذا ردَّه (¬9)، وقد كتب عمرُ بن الخطاب إلى عامله في سَبْي العرب ورقيقهم، وقد كان التجار اشتروه فكتب إليه: أيما حر (¬10) اشتراه التجار فاردد عليهم رؤوس أموالهم (¬11)، وقد قيل: إن جميع ¬
الفِرَق تقول بهذه المسألة وإن تناقضوا ولم يطَّردوها؛ فأبو حنيفة يقول: إذا قضى بعضُ الورثة دينَ الميت ليتوصلَ بذلك إلى أخذ حقه من التركة بالقسمة فإنه يرجع على التركة بما قضاه، وهذا واجب قد أدَّاه عن غيره بغير إذنه، وقد رجع به، ويقول: إذا بنى صاحبُ العلو [أو] (¬1) السفل بغير إذن المالك لزم الآخر غرامة ما يخصه، وإذا أنفق المُرتهن على الرَّهن في غيبة الراهن رجع بما أنفق، وإذا اشترى اثنان من واحد عبدًا بألف فغاب أحدهما فأدَّى الحاضر جميع الثمن ليستلم (¬2) العبد كان له الرجوع. والشافعي يقول: إذا أعار عبدًا لرجلٍ ليرهَنه فرهنه ثم إنَّ صاحب الرهن قضى الدين بغير إذن المستعير وافْتَكَّ الرهن رجع بالحق، وإذا استأجر جِمَالًا ليركبها فهرب الجَمَّالُ فأنفق المستأجر على الجِمَال رجع بما أنفق، وإذا ساقى رجلًا على نخلِهِ فهرب العامل فاستأجر صاحبُ النخل مَنْ يقوم مَقَامه رجع [عليه] (¬3) به، واللقيط إذا أنفق عليه أهلُ المحلة ثم استفاد مالًا رجعوا عليه. وإن أذن له في الضمان فضمن ثم أدّى الحق بغير إذنه رجع عليه. وأما المالكية والحنابلة فهم أعظم الناس قولًا بهذا الأصل، والمالكية أشدُّ قولًا به؛ ومما يوضح ذلك أن الحنفية قالوا في هذه المسائل: إن هذه الصور كلها أحْوَجَتْه إلى استيفاء حقه أو حفظ ماله؛ فلولا عمارة السفل لم يثبت العلو، ولو لم يقض الوارث الغرماء لم يتمكن من أخذ حقه من التركة بالقسمة، ولو لم يحفظ الرهْنَ بالعَلَف لتلف محل الوثيقة، ولو لم يستأجر على الشجر مَنْ يقوم مقام العامل لتعطلت الثمرة، وحقه متعلق بذلك كله، فإذا أنفق كانت نفقته ليتوصل إلى حقه، بخلاف مَنْ أدَّى دين غيره فإنه لا حقَّ له هناك يتوصل [به] (¬4) إلى استيفائه بالأداء؛ فافترقا؛ وتبين أن هذه القاعدة لا تلزمنا، وأن مَنْ أدَّى عن غيره واجبًا من دين أو نفقة على قريب أو زوجة فهو إما فُضُولي وهو جدير بأن يفوت عليه ما فوَّته على ¬
نفسه، أو متفضل فحوالته على اللَّه دون مَنْ تفضَّل عليه؛ فلا يستحق مطالبته، وزادت الشافعية وقالت: لما ضمن له المؤجر تحصيل منافع الجِمَال، ومعلوم أنه لا يمكنه استيفاء تلك المنافع إلا بالعَلَف، دخل [في] (¬1) ضمانه لتلك المنافع إذنُه له في تحصيلها بالإنفاق عليها ضمنًا وتبعًا؛ فصار ذلك مستحقًا عليه بحكم ضمانه عن نفسه لا بحكم ضمان الغير [عنه] (¬2)، يوضحه أن المؤجر والمُسَاقي قد علما أنه لا بدَّ للحي من قوام، ولا بد للنخيل من سَقْي وعمل عليها؛ فكأنه قد حصل الإذن فيها في الإنفاق عرفًا، والإذن العرفي يجري مجرى الإذن اللفظي، وشاهده ما ذكرتم من المسائل؛ فيقال: هذا من أقوى الحجج عليكم في مسألة علف المُرْتَهن للرَّهن، واستحقاقه للرجوع بما غرمه، وهذا نصف المسافة، وبقي نصفها الثاني، وهو المعاوضة عليها بركوبه وشربه، وهي أسهل المسافتين وأقربهما؛ إذ غايتها تسليطُ الشارع له على هذه المعاوضة التي هي من مصلحة الراهن والمرتهن والحيوان، وهي أولى من تسليطه الشفيع (¬3) على المعاوضة عن الشقص المشفوع لتكميل ملكه وإنفراده به وهي أولى من المعاوضة في مسألة الظفر بغير اختيار مَنْ عليه الحق (¬4)؛ فإن سبب الحق فيها ليسس ثابتًا، والآخذ ظالم في الظاهر، ولهذا منعه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من الأخذ وسماه خائنًا بقوله: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَنْ خانك" (¬5) وأما هاهنا فسبب الحق ظاهر، وقد أذن في المعاوضة للمصلحة ¬
التي فيها، فكيف تمنع هذه المعاوضة التي سببُ الحقِّ فيها ظاهر وقد أذن فيها الشارع، وتجوز تلك المعاوضة التي سبب الحق فيها غير ظاهر وقد منع منها الشارع؟ فلا نص ولا قياس. ومما يدل على أن مَنْ أدَّى عن غيره واجبًا أنه يَرجعُ عليه به قولهُ تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60] وليس من جزاء هذا المحسن بتخليص من أحسن إليه بأداء دَيْنه وفك أسره منه وحل وثاقه أن يضيع عليه معروفه وإحسانه، وأن يكون جزاؤه منه بإضاعة ماله ومكافأته عليه بالإساءة، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أسْدَى إليكم معروفًا فكافئوه" (¬1) وأي معروف فوق معروف هذا ¬
الذي افْتكّ أخاه من أسْرِ الدَّينِ؟ وأي مكافاة أقبح من إضاعة ماله عليه وذهابه؟ واذا كانت الهَدِيَّةُ التي هي تبرع محض قد شُرعت المكافأة عليها وهي من أخلاق المؤمنين، فكيف يشرع جواز ترك المكافأة (¬1) على ما هو من أعظم المعروف؟ وقد عقد اللَّه سبحانه وتعالى الموالاة بين المؤمنين وجعل بعضهم أولياء بعض، فمن أدّى عن وليه واجبًا كان نائبه فيه بمنزلة وكيله ووَليّ من أقامه الشرع للنظر في مصالحه لضعفه أو عجزه. ومما يوضح ذلك أن الأجنبي لو أقرض ربَّ الدَّيْنِ قدر دينه وأحاله به على المَدِين ملك ذلك، وأيُّ فرقٍ شرعي أو معنوي بين أن يوفيه ويرجع به على المدين أو يقرضه ويحتال به على المدين؟ وهل تفرق الشريعة المشتملة على المصالح العباد بين الأمرين؟ ولو تعيّن عليه ذبح هَدْي أو أضحية فذبحها [عنه] (¬2) أجنبي بغير إذنه أجزأت وتأدّى الواجب بذلك، ولم تكن ذبيحة غاصب، وما ذاك إلا لكون الذبح قد وجب عليه فأدى هذا الواجب غيره وقام مقام تأديته هو بحكم النيابة عنه شرعًا، وليس الشأن في هذه المسألة لوضوحها واقتضاء أصول الشرع ¬
[ضمان دين الميت الذي لم يترك وفاء]
وفروعه لها، وإنما الشأن فيمن عمل في مال غيره عملًا بغير إذنه ليتوصل بذلك العمل إلى حقه، أو فعله حفظًا لمال المالك واحترازًا له من الضياع؛ فالصواب أنه يرجع عليه بأجرة عمله، وقد نص عليه الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- في عدة مواضع: منها أنه إذا حصد زرعه في غيبته فإنه نص (¬1) على أنه يرجع عليه بالأجرة، وهذا من أحسن الفقه، فإنه إذا مرض أو حبس أو غاب فلو ترك زرعه بلا حَصَاد لهلك وضاع، فإذا علم مَنْ يحصده له أنه يذهب عليه عمَلُه ونفقتُه ضياعًا لم يُقْدِمْ على ذلك، وفي ذلك من إضاعة المال وإلحاق الضرر بالمالك ما تأباه الشريعة الكاملة؛ فكان من أعظم محاسنها أن أذِنَتْ للأجنبي في حَصَاده والرجوع على مالكه بما أنفق عليه حفظًا لماله ومال المحسن إليه، وفي خلاف ذلك إضاعة لمالَيهما أو مال أحدهما، ومنها ما نص عليه (¬2) فيمن عمل في قَنَاة رجل بغير إذنه فاستخرج الماء، قال: لهذا الذي عمل نفقته، ومنها لو انكسرت سفينته فوقع متاعه في البحر فخلَّصه رجل فإنه لصاحبه، وله عليه أجرة مثله، وهذا أحسن من أن يقال: لا أجرة له؛ فلا تطيب نفسه بالتعرض للتلف والمشقة الشديدة ويذهب عمله باطلًا أو يذهب مال الآخر ضائعًا، وكل منهما فساد محض (¬3)، والمصلحة في خلافه ظاهرة، والمؤمنون يرون قبيحًا أن يذهب عمل مثل هذا ضائعًا ومال هذا ضائعًا، ويرون من أحسن الحسن أن يسلم مال هذا وينجح سَعْيُ هذا، واللَّه الموفق. [ضمان دين الميت الذي لم يترك وفاء] المثال الحادي والسبعون: رد السنة الثابتة الصريحة المحكمة في [صحة] (¬4) ضمان دين الميت الذي لم يُخَلِّفْ وفاء، كما في "الصحيحين" عن أبي قتادة قال: "أُتِيَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بجنازة ليصلي عليها، فقال: أعليه دَيْن؟ فقالوا: نعم ديناران، فقال: أتَرَكَ لهما وفاءً؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول اللَّه، [فصلّى عليه] " (¬5) فردت هذه السنة برأي لا يُقَاومها، وهو ¬
أن الميت قد خَرِبت ذمته؛ فلا يصح ضمان شيء خَرَاب في محل خراب، بخلاف الحيّ القادر فإنَّ ذمته بصَدَد العمارة فيصح ضمان دينه، وإن لم يكن له وفاء في الحال، وأما إذا خلف وفاء فإنه يصح الضمان [في الحال] (¬1) تنزيلًا لذمته بما خلفه من الوفاء منزلة الحي القادر. قالوا: وأما الحديث فإنما هو إخبار عن ضمان متقدّم على الموت؛ فهو إخبار منه بالتزام سابق، لا إنشاء للالتزام حينئذ، وليس في ذلك ما ترد به السنة الصريحة، ولا يصح حملها على الإخبار لوجوه: أحدهما: أن في بعض ألفاظ الحديث: "فقال أبو قتادة: أنا الكفيل (¬2) به يا رسول اللَّه، فصلَّى عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬3) رواه النسائي بإسناد صحيح. الثاني: أن في [بعض] (¬4) طرق البخاري: "فقال أبو قتادة: صَلِّ عليه يا رسول اللَّه وعليّ دينه" (¬5) فقوله: "وعليّ دينه" كالصريح في الالتزام أو صريح فيه؛ ¬
فإن هذه الواو للاستئناف، وليس قبلها ما يصح أن يعطف ما بعدها عليه، كما لو قال: صلِّ عليه وأنا ألتزم ما عليه، [أو وأنا ملتزمٌ ما عليه] (¬1). الثالث: أن الحكم لو اختلف لقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل ضمنت ذلك في حياته أو بعد موته؟ ولا سيما فإن الظاهر منه الأنشاء، وأدنى الأحوال أن يحتملهما على السواء، فإن كان أحدهما باطلًا في الشرع والآخر صحيحًا فكيف يقرّه على قول مُحتملٍ لحق وباطل ولم يستفصله عن مراده به؟ الرابع: أن القياس يقتضي صحة الضمان وإن لم يخلِّف وفاءً، فإنَّ مَنْ صح ضمان دينه إذا خلَّف وفاءً صح ضمانه وإن لم يكن له مال كالحي، وأيضًا فمن صح ضمان دينه حيًا صح ضمان دينه ميتًا، وأيضًا فإن الضمان لا يُوجِبُ الرجوع، وإنما يوجبُ مطالبةَ رب الدين للضامن، فلا فرق بين أن يخلف الميت وفاءً أو لم يخلفه، وأيضًا فالميت أحْوَجُ إلى ضمان دينه من الحي لحاجته إلى تبريد جلده (¬2) ببراءة ذمته وتخليصه من ارتهانه بالدين، وأيضًا فإن ذمة الميت وإن خَرِبَتْ من وجه -وهو تعذر مطالبته- لم تخرب من جهة بقاء الحق فيها، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس من ميّت يموت إلا وهو مرتَهَنٌ بدينه" (¬3) ولا يكون مرتهنًا وقد خربت ذمته. ¬
[الجمع بين الصلاتين]
وأيضًا فإنه لو خربت ذمته لبطل الضمان بموته؛ فإن الضامن فرعه، وقد خربت ذمة الأصل، فلما اسْتُدِيْمَ الضمانُ ولم يبطل بالموت علم أن الضمان لا ينافي الموت؛ فإنه لو نافاه أبتداء لنافاه استدامَةً؛ فإن هذا من الأحكام التي لا يفرق فيها بين الدوام والابتداء لاتحاد سبب الابتداء والدوام فيها؛ فظهر أن القياس المحفمع السنة الصحيحة (¬1)، واللَّه الموفق. [الجمع بين الصلاتين] المثال الثاني والسبعون: ترك السنة الثابتة الصحيحة الصريحة المحكمة في جَمْع التقديم والتأخير بين الصلاتين للعذر، كحديث أنس: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا ارتَحَلَ قبل أن تزيغ الشمس أَخَّر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما" (¬2) وفي لفظ له: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخّر الظهر حتى يدخل وقت العصر (¬3)، ثم يجمع بينهما"، وهو في "الصحيحين" (¬4)، وكقول معاذ بن جَبَل: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غزوة تَبُوك [إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس (¬5) أخَّر الظهر حتى يجمعها مع (¬6) العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زَيْغ الشمس صلى الظهر والعصر جميعًا ثم سار] (¬7)، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخَّر المغرب حتى يصليها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجَّل العشاء فصلاها مع المغرب" (¬8) وهو في "السنن" و"المسند"، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وإسناده صحيح، وعلَّتُه واهية، وكقول ابن عباس: "كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا زاغت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر قبل أن يركب، وإذا لم تزغ في منزله سار حتى إذا حانت (¬1) العصر نزل فجمع بين الظهر والعصر، وإذا حانت (1) له المغرب في منزله جمع بينه وبين العشاء، وإذا لم تَحِنْ (¬2) في منزله ركب حتى إذا كان العشاء نزل فجمع بينهما" (¬3) وهذا متابع لحديث معاذ، وفي بعض طرق ¬
هذا الحديث: "وإذا سافر قبل أن تزول الشَّمس أخَّر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت العصر"، وكقول ابن عمر وقد أخَّر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما. ثم أخبر "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يفعل ذلك إذا (¬1) جَدَّ به السير" (¬2). كل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة، ولا معارض لها؛ فردّت بأنها ¬
أخبار آحاد (¬1)، وأوقات الصلوات (¬2) ثابتة بالتواتر، كحديث إمامة جبريل للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وصلاته به كل صلاة في وقتها ثم قال: "الوقت ما بين هذين" (¬3) فهذا في أول الأمر بمكة، وهكذا فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالسائل في المدينة سواء، صلى به كل صلاة في أول وقتها وآخره وقال: "الوقت ما بين هذين" (¬4) وقال: في حديث عبد اللَّه بن عمرو: "وقت صلاة الظهر ما لم تحضر العصر، ووقت صلاة العصر ما لم تصفّر الشمس، ووقت صلاة المغرب ما لم يسقط ثور الشفق (¬5)، ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل" (¬6) وقال: "وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي تليها" (¬7) ويكفي [قوله] (¬8) للسائل وقد سأله عن المواقيت ثم بيّنها له بفعله: "الوقت فيما بين هذين" (¬9) فهذا بيان بالقول والفعل، وهذه أحاديث محكمة صحيحة صريحة (¬10) في تفصيل الأوقات مجمع عليها بين الأمة، وجميعهم احتجوا بها في أوقات الصلاة، فقدمتم عليها أحاديث مجملة محتملة في الجمع غير صريحة فيه؛ يجوز (¬11) أن يكون المراد بها الجمع في الفعل، وأن يراد بها الجمع في الوقت، فكيف يترك الصريح المبيّن للمجمل المحتمل؟ وهل هذا إلا تَرْك للمحكم وأخذ بالمتشابه، وهو عين ما أنكرتموه في هذه الأمثلة؟ ¬
فالجواب أن يقال: الجميع حق، فإنه من عند اللَّه، وما كان من عند اللَّه فإنه لا يختلف، فالذي وَقَّتَ هذه المواقيت وبيَّنها بقوله وفعله هو الذي شرع الجمع بقوله وفعله؛ فلا يؤخذ ببعض السنة ويترك بعضها، والأوقات التي بينها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله وفعله نوعان بحسب حال أربابها: أوقات السعة والرفاهية، وأوقات العذر والضرورة، ولكلٍ منها أحكام تخصها، وكما أن واجبات الصلاة وشروطها تختلف باختلاف القُدْرة والعجز فهكذا أوقاتها، وقد جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وَقْتَ النائم والناسي (¬1) حين يستيقظ ويذكر، أيَّ وقتٍ كان (¬2)، وهذا غير الأوقات الخمسة، وكذلك جعل أوقات المعذورين ثلاثة: وقتين مشتركين، ووقتًا مختصًا؛ فالوقتان المشتركان لأرباب الأعذار هما أربعة لأرباب الرفاهية، ولهذا جاءت الأوقات في كتاب اللَّه نوعين: خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات من القرآن، فالخمسة لأهل الرفاهية والسعة، والثلاثة لأرباب الأعذار، وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه وبيان أسبابه، فتوافقت دلالة القرآن والسنة، والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح؛ فأحاديث الجمع مع أحاديث الإفراد بمنزلة أحاديث الأعذار والضرورات مع أحاديث الشروط والواجبات؛ فالسنة يبيّن بعضها بعضًا، لا يُرد بعضها ببعض ومَنْ تأمل أحاديث الجمع وجدها كلها صريحة في جمع الوقت لا في جمع الفعل، وعلم أن جمع الفعل أشق وأصعب من الإفراد بكثير؛ فإنه يُنتظر بالرخصة أن يبقى من وقت الأولى قدر فعلها فقط، بحيث إذا سلّم منها دخل وقت الثانية فأوقع كل واحدة منهما في وقتها، وهذا أمر في غاية العسر والحرج والمشقة، وهو مُنَافٍ لمقصود الجمع، وألفاظ السنة [الصحيحة] (¬3) الصريحة ترده كما تقدم، وباللَّه التوفيق (¬4). ¬
[الوتر مع الاتصال]
[الوتر مع الاتصال] المثال الثالث والسبعون: رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في الوتر بخمس متصلة وسبع متصلة كحديث أم سلمة: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُوترُ بسبع وبخمس، لا يفصل بينهنّ بسلام ولا كلام" (¬1) رواه الإِمام أحمد، وكقول عائشة -رضي اللَّه عنها-: "كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُصلي من الليل ثلاثَ عَشْرَةَ ركعةً، يوتر من ذلك بخمس، ولا يجلس إلا في آخرهن" متفق عليه (¬2)، وكحديث عائشة -رضي اللَّه عنها- "أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يصلي من الليل تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه ثم ينهض، ولا يسلِّم، ثم يقوم فيصلِّي التاسعة، ثم يقعد فيذكر اللَّه ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يُسْمِعُنَاهُ، ثم يصلي ركعتين بعد ما يسلم وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسَنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخذه اللحم أوتر بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه الأول" (¬3) وفي لفظ عنها: "فلما أسَنَّ ¬
رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأخذه اللحم أوتر بسبع ركعات لم يجلس إلا في السادسة والسابعة، ولم يسلّم إلا في السابعة" وفي لفظ: "صلى سبع ركعات لا يقعد إلا في آخرهن" وكلُّها أحاديث صحاح صريحة (¬1) لا معارض لها؛ فردت هذه بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة الليل مَثْنَى مَثْنَى" وهو حديث صحيح (¬2)، ولكن الذي قاله هو الذي أوتر [بالتسع] (¬3) والسبع والخمس، وسننه (¬4) كلها حق يصدّق بعضُها بعضًا؛ فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أجاب السائلَ له عن صلاة الليل بأنّها مثنى مثنى، ولم يسأله عن الوتر، وأما السبع والخمس والتسع والواحدة فهي صلاة الوتر، والوتر اسم للواحدة المنفصلة مما قبلها, وللخمس والسبع والتسع المتصلة، كالمغرب اسم للثلاث المتصلة، فإن انفصلت الخمس والسبع [والتسع] (¬5) بسلامين كالأحدى عشرة كان الوتر اسمًا للركعة المفصولة وحدها، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة توتر له ما صلّى" (¬6) فاتفق فعله -صلى اللَّه عليه وسلم- وقوله، وصَدَّقَ بعضُه بعضًا، وكذلك يكون ليس إلا، وإن حصل تناقض فلا بد من أحد أمرين: • إما أن يكون أحد الحديثين ناسخًا للآخر. • أو ليس من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإن كان الحديثان من كلامه وليس أحدهما منسوخًا فلا تناقض ولا تضاد هناك البتة، وإنما يؤتى مَنْ يؤتى هناك من قِبَل فهمه وتحكيمه آراء الرجال وقواعد المذهب على السنة؛ فيقع الاضطراب والتناقض والاختلاف، واللَّه المستعان (¬7). ¬
فصل [في تغير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد]
فصل [في تغير الفتوى، واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد] (¬1) [الشريعة مبنية على مصالح العباد] هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهلِ به غَلَطٌ عظيم على الشريعة أوْجَبَ من الحرج والمشقة وتكليفِ ما لا سبيل إليه ما يعلم (¬2) أن الشريعة الباهرة التي [هي] (¬3) في أعلى رُتَب المصالح لا تأتي به. [وصف الشريعة] فإن الشريعة مَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجَوْر، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عَدْل اللَّه بين عبادة، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أتَمَّ دلالةٍ وأصدقَهَا، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهُدَاه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقُه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل؛ فهي قرّة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح؛ فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة، وكلُّ خيرٍ في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها, ولولا رسومٌ قد بقيت [لخَرِبت الدنيا وطُوِيَ العالم] (¬4)، وهي العصمة للنَّاس وقوام العالم، وبها يمسك اللَّه السموات والأرض أن تزولا، فإذا أراد اللَّه سبحانه وتعالى خرابَ الدنيا وطَيَّ ¬
[إنكار المنكر وشروطه]
العالم رَفَع إليه ما بقي من رسومها؛ فالشريعة التي بعث اللَّه بها رسولَه هي عمود العالم، وقطب [رحى] (¬1) الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة (¬2). ونحن نذكر تفصيل ما أجملناه في هذا الفصل بحول اللَّه وتوفيقه ومعونته بأمثلة صحيحة. [إنكار المنكر وشروطه] المثال الأول: أن النبي- صلى اللَّه عليه وسلم- شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبّه اللَّه ورسوله (¬3)، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى اللَّه ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان اللَّه يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والوُلاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، وقد استأذن الصحابةُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتال الأمراء الذين يؤخّرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم؟ فقال: "لا، ما أقاموا الصلاة" (¬4)، وقال: "مَنْ رأى من أميره ما يكرهه فليصبر ولا ينزعَنَّ يدًا من طاعة" (¬5) ومن تأمل ما جرى على الإِسلام من الفتن الكِبَار والصغار رآها من ¬
[إنكار المنكر أربع درجات]
إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه؟ فقد كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح اللَّه مكة وصارت دار إسلام عَزَمَ على تغيير البيت ورَدِّه على قواعد إبراهيم، ومنَعَه من ذلك -مع قدرته عليه- خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك لقرب عهدهم بالإِسلام وكونهم حَدِيثي عهدٍ بكفرٍ (¬1)، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء. [إنكار المنكر أربع درجات] فإنكار المنكر أربع درجات: الأولى: أن يزول ويخلفه ضده. الثانية: أن يقل وإن لم يُزل بجملته. الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله. الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأولَتَانِ مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة؛ ¬
فصل [النهي عن قطع الأيدي في الغزو]
فإذا رأيت أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشِّطْرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى اللَّه ورسوله كَرَمِي النشَّاب وسباق الخيل ونحو ذلك، وإذا رأيت الفسّاق قد اجتمعوا على لهو ولعب أو سماع مُكَاء وتَصْدِية (¬1) فإن نقلتهم عنه إلى طاعة [اللَّه فهو المراد] (¬2)، وإلا كان تركهم على ذلك خيرًا من أن تفرغهم لما هو أعظم من ذلك فكان ما هم فيه شاغلًا لهم عن ذلك، وكما إذا كان الرجل مشتغلًا بكُتُب المجنون ونحوها وخِفْتَ من نقله عنها انتقاله إلى كتب البدع والضلال والسّحر (¬3) فَدَعْهُ وكتبه الأولى، وهذا باب واسع؛ وسمعت شيخ الإِسلام ابن تيمية قدّس اللَّه روحه [ونوّر ضريحه] (¬4) يقول: مررت أنا وبعضُ أصحابي في زمن التَّتَار بقوم منهم يشربون الخمر، فأنكر عليهم مَنْ كان معي، فأنكرتُ عليه، وقلت له: إنما حرم اللَّه الخمر لأنها تصدُّ عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس وسَبي الذرية وأخذ الأموال فَدَعْهم (¬5). فصل [النهي عن قطع الأيدي في الغزو] المثال الثاني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "نهى أن تُقْطَع الأيدي في الغَزْوِ" رواه أبو داود (¬6)، فهذا حَدٌّ من حدود اللَّه تعالى، وقد نهى عن إقامته في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى اللَّه من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبًا (¬7). ¬
كما قاله عمر وأبو الدَّرداء وحُذَيفة (¬1) وغيرهم، وقد نص أحمد وإسحاق بن راهويه والأوزاعي وغيرهم من علماء الإِسلام على أنَّ الحدود لا تقام في أرض العدو، وذكرها أبو القاسم الخرقي في "مختصره" فقال: ولا تقام الحدود (¬2) على مسلم في أرض العدو، وقد أُتي بُسْر (¬3) بن أرْطَاة برجل من الغزاة (¬4) قد سرق مجنَّةَ فقال: لولا أني سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا تقطع الأيْدِي في الغَزْو" لقطعت يدك (¬5)، رواه أبو داود (¬6)، وقال أبو محمد المقدسي: وهو إجماع الصحابة (¬7)، روى سعيد بن منصور في "سننه" بإسناده عن الأحوص بن حكيم، عن أَبيه أن عمر كَتب إلى الناس أن لا يجلدنَّ أميرُ جيشٍ ولا سرية ولا رجلٌ من المسلمين حدًا وهو غازٍ حتى يقطع الدَّرب قافلًا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكُفَّار (¬8). وعن أبي الدرداء مثل ذلك (¬9). وقال علقمة: كنَّا في جيش في أرض الروم، ومعنا حُذَيفة بن اليَمَان، وعلينا ¬
[قصة أبي محجن]
الوليد بن عقبة، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدُّون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعوا فيكم؟ (¬1) [قصة أبي محجن] وأُتي سعد بن أبي وقَّاص بأبي مِحْجَنٍ يوم القادسية وقد شربَ الخمر، فأمر به إلى القيد، فلما التقي النَّاسُ قال أبو محْجَنٍ: كَفَى حَزَنًا أن تطرد (¬2) الخيلُ بالقَنَا ... وأُتْرَكَ مشدودًا عليَّ وثاقِيا فقال لابنة خصفة (¬3) امرأة سعد: أطلقيني ولَكِ واللَّه (¬4) عليَّ إن سَلَّمني اللَّه أن أرجع حتى أضَعَ رجلي في القَيْد، فإن قتلت استرحْتُمْ مني، قال: فحلّته حين (¬5) التقي الناس وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق العذيب ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عُرْفُطة، فوثب أبو مِحْجَنٍ على فَرَس لسعد يقال لها: البلقاء، ثم أخذ رمحًا ثم خرج فجعل لا يحمل على ناحية من العدو إلا هَزَمهم، وجعل الناس يقولون: هذا مَلَك، لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: الضَّبْرُ ضبْرُ (¬6) البلقاء، والظفر ظفر أبي محجن، وأبو محجن في القيد، فلما هُزِم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنة خصفة سعدًا بما كان من أمره، فقال سعد: لا واللَّه لا ¬
أضرب اليوم رجلًا أبْلى للمسلمين ما أبلاهم، فخلَّى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنتُ أشربها إذ يقام عليَّ الحدُّ وأُطَهَّرُ منها، فأما إذ بَهْرَجْتَني فواللَّه لا أشربها أبدًا (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة]
وقوله: "إذ بَهْرَجْتَني" أي أَهدَرتني بإسقاط الحد عني، ومنه: "بَهَرَج دم ابن الحارث" (¬1) أي: أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصًا ولا قياسًا ولا قاعدة من قواعد الشرع ولا إجماعًا، بل لو أُدعي أنه إجماع الصحابة كان أصوب. قال الشيخ (¬2) في "المغني": وهذا اتفاق لم يظهر خِلَافُه. [أكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة] قلت: وأكثر ما فيه تأخير الحد لمصلحة راجحة إما من حاجة المسلمين إليه أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخيرُ الحدِّ لعارضٍ أمرٌ وردت به الشريعة، كما يؤخَّر عن الحامل والمرضع وعن وقت الحُر والبرد والمرض؛ فهذا تأخير لمصلحة المحدود؛ فتأخيره لمصلحة الإِسلام أولى (¬3). [تفسير موقف سعد من أبي محجن] فإن قيل: فما تصنعون بقول سعد: "واللَّه لا أضرب اليوم رجلًا أبلى للمسلمين ما أبلاهم" (¬4) فأسقط عنه الحد؟ قيل: قد يتمسك بهذا من يقول: "لا حَدَّ على مسلم في دار الحرب" كما ¬
يقوله أبو حنيفة (¬1)، ولا حجة فيه، والظاهر أن سعدًا -رضي اللَّه عنه- اتَّبَعَ في ذلك سنة اللَّه تعالى؛ فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبَذْلِه نفسَه للَّه ما رأى درأ عنه الحد؛ لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة وجعلتها كقَطْرة نجاسةٍ وقعت في بحر، ولا سيما وقد شام منه مَخَايل التربة النصوح وقت القتال، إذ لا يُظن [في] (¬2) مسلم إصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على اللَّه وهو يرى الموت، وأيضًا فإنه بتسليمه نفسَه ووضع رجله في القيد اختيارًا قد استحق أن يوهب له حده كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للرجل الذي قال له: "يَا رسول اللَّه أصَبْتُ حدًّا فأقمه عليَّ، فقال: هل (¬3) صليت معنا هذه الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذْهَبْ فإن اللَّه قد غَفَرَ لك حَدَّكَ" (¬4) وظهرت (¬5) بركة هذا العفو الإسقاط في صدق توبته، فقال: واللَّه لا أشربها أبدًا، وفي رواية: "أبَدَ الأبدِ" (¬6) [وفي رواية] (¬7): "قد كنت آنف أن أتركها من أَجل جلداتكم، فأما إذا تركتموني فواللَّه لا أشربها أبدًا" (¬8) وقد برئ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مما صنع خالد ببني جذيمة، وقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" (¬9) ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام. ومن تأمل المطابقة بين الأمر والنهي والثواب والعقاب وارتباط أحدهما بالآخر علم فقه هذا الباب. ¬
[عود إلى إسقاط الحدود لمصلحة]
[عود إلى إسقاط الحدود لمصلحة] وإذا كان اللَّه لا يعذب تائبًا فهكذا الحدود لا تُقام على تائب، وقد نص اللَّه على سقوط الحد عن المحاربين بالتوبة التي وقعت قبل القدرة عليهم مع عظيم جرمهم، وذلك تنبيه على سقوط ما دون الحِرَاب بالتوبة الصحيحة بطريق الأولى (¬1)، وقد رُوينا في "سنن النسائي" من حديث سِمَاك، عن علقمة بن وائل، عن أَبيه أن امرأة وقع عليها [رجل] في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد بمكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مَرَّ عليها، وفرَّ صاحبُها، ثم مر عليها ذوو عدد، فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي [كانت] (¬2) استغاثت به فأخذوه، وسبقهم الآخر، فجاءوا به يقودونه إليها، فقال [لها] (¬3): أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به نبي اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬4) وسلم، فأخبرته أنه [الذي] (2) وقع عليها، وأَخبر القوم أنهم أدركوه يَشْتَدُّ، فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركني هؤلاء فأخذوني، فقالت: كذبَ، هو الذي وقع عليّ، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انطلقوا به فارجموه" فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع ثلاثة عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي وقع عليها، والذي أغاثها، والمرأة، فقال: "أما أَنْتَ فقد غُفِرَ لك" وقال للذي أغاثها قولًا حسنًا، فقال عمر: ارجم الذي اعترف بالزنى، فأبى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فقال: " [لا لأنه] (¬5) قد تاب إلى اللَّه" (¬6)، رواه عن محمد بن ¬
[إشكال في الحديث وحله]
يحيى بن كثير الحراني: ثنا (¬1) عمرو بن حماد بن طلبة: حدثنا أسباط بن نصر عن سماك، وليس فيه بحمد اللَّه إشكال (¬2). [إشكال في الحديث وحلّه] فإن قيل: فكيف أمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برَجْم المُغِيث من غير بينة ولا إقرار؟ [اعتبار القرائن وشواهد الأحوال] قيل: هذا من أدل الدلائل على اعتبار القرائن والأخذ بشواهد الأحوال في التُّهم، وهو يشبه إقامة الحد (¬3) بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة (¬4)، وإقامة حد الزنا بالحَبَل كانص عليه عمر (¬5) وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك الصحيح أنه يقام الحد على المتهم بالسرقة إذا وجد المسروق عنده، فهذا الرجل لما أدْركَ وهو يشتدّ هَرَبًا وقالت المرأة: هذا هو الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دَنَا منها وأتى إليها وادعى أنه كان مُغيثًا لا مُرِيبًا، ¬
ولم ير أولئك الجماعة غيره، كان في هذا أظهر الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يقصر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، واحتمالُ الغلطِ وعداوة الشهود كاحتمال الغلط وعداوة (¬1) المرأة هاهنا، بل ظن عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد؛ فنهاية الأمران هذا لَوْثٌ ظاهر لا يستبعد ثبوت الحد بمثله شرعًا كما يقتل في القَسَامة باللوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع؛ فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة متابعة للأدلة الظاهرة من البيِّنات والأقارير وشواهد الأحوال، وكونها في نفس الأمر قد تقع غير مطابقة ولا تنضبط (¬2) أمر لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام، والبينة لم تكن موجبة بذاتها للحد، وإنما [ارتباطُ الحدِّ بها] (¬3) ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يقاومها أو أقوى منها لم يُلْغِهِ الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلًا كالبيّنة والإقرار، وأما سقوط الحد عن المعترف فإذا لم يتسع له نطاف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فأحْرَى أن لا يتسع له نطاف كثير من الفقهاء، ولكن اتسع له نطاق الرؤوف الرحيم، فقال: "إنه قد تاب إلى اللَّه" (¬4) وأبي أن يحده، ولا رَيْبَ أن الحسنة التي جاء بها من اعترافه طَوْعًا واختيارًا خشيَةً من اللَّه وحده [وإنقاذًا لرجل مسلم] (¬5) من الهلاك، وتقديم حياة أخيه على حياته واستسلامه للقتل أكبر من السيئة التي فعلها، فقاوم هذا الدواء لذلك الداء، وكانت القوّة صالحة، فزال المرض، وعاد القلبُ إلى حال الصحة، فقيل: لا حاجة لنا بحدك، وإنما جعلناه طُهْرةً ودواءً؛ فإذا تطهرَّت بغيره فعفوُنَا يَسَعُك، فأيُّ حكمٍ أحسن من هذا الحكم وأشد مطابقة للرحمة والحكمة والمصلحة؟ وباللَّه التوفيق. وقد رُوِّينا في "سنن (¬6) النَّسائي" من حديث الأوزاعي: ثنا أبو عَمَّار شَدَّاد، قال: حدثني أبو أُمامة أنَّ رجلًا أتى النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: يَا رسول اللَّه أصبتُ حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم قال: إني أصبت حدًا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، ثم قال: يَا رسول اللَّه إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، فأعرض عنه، فأقيمت الصلاة، فلما سلَّم رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: يَا رسول اللَّه إني أصبت حدًّا فأقمه عليَّ، قال: "هل توضأت حين أقبلت؟ قال: نعم، قال: هل صلَّيت معنا حين صلينا؟ قال: ¬
فصل [من أسباب سقوط الحد عام المجاعة]
نعم، قال: اذهب فإن اللَّه قد عفا عنك" (¬1)، وفي لفظ: "إن اللَّه قد غفر لك ذنبك، أو حَدَّكَ"، ومن تراجم النَّسائي على هذا الحديث: "من اعترف بحد ولم يُسَمِّه" (¬2) وللناس فيه ثلاث مسالك: • هذا أحدها. • والثاني: أنه خاص بذلك الرجل. • والثالث: سقوط الحد بالتوبة قبل القدرة عليه، وهذا أصح المسالك. فصل [من أسباب سقوط الحد عام المجاعة] المثال الثالث: أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أسقط (¬3) القَطْع عن السارق في عام المَجَاعة، قال السعدي (¬4): حدثنا هارون بن إسماعيل الخَرَّاز: ثنا علي بن المبارك: ثنا يحيى بن أبي كثير: حدثني حَسَّان بن زاهر أن ابن حُدَيْر حدثه عن عمر قال: "لا تُقْطَعُ اليد في عَذْق ولا عَامَ سنَة" (¬5)، قال السعدي: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث فقال: العَذْقُ: النخلة، وعام سنة: المجاعة، فقلت ¬
لأحمد: تقول به؟ فقال: إِي لعمري، قلت: إن سَرَق في مجاعة لا تقطعه؟ فقال: لا، إذا حملته الحاجة على ذلك والناسُ في مجاعة وشدة. قال السعدي: وهذا على نحو قضية عمر في غلمان حاطب، ثنا أبو النُّعمان عارم: ثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن ابن حاطب (¬1) أن غِلْمة لحاطب بن أبي بَلْتعة سرقوا ناقة لرجل من مُزَينة، فأتى بهم عمر، فأقّروا، فأرسل إلى عبد الرحمن بن حاطب فجاء فقال [له] (¬2): إن غلمان حاطب سرقوا ناقة رجل من مُزَينة وأقروا على أنفسهم، فقال عمر: يَا كثير بن الصَّلْت اذهب فاقطع أيديهم، فلما ولَّى بهم (¬3) ردَّهم عمر ثم قال: أما واللَّه لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى إن أحدهم لو أكل ما حرَّم اللَّه عليه حَلَّ له لقطعت أيديهم، وأيم اللَّه إذ لم أفعل لأُغَرمنَّك غرامة تُوجِعُكَ، ثم قال: يَا مُزَني بكم أريدت منك ناقتك؟ قال: بأربع مئة، قال عمر: اذهب فأعْطه ثماني مئة (¬4). وذهب أحمد إلى موافقة عمر في الفَصْلَيْنِ جميعًا؛ ففي "مسائل إسماعيل بن سعيد الشالنجي" التي شَرَحَها السعدي بكتاب سماه "المترجم" (¬5)، قال: سألت ¬
[وجوب بذل الطعام بالمجان في زمن المجاعة]
أحمد بن حنبل عن الرجل (¬1) يحمل الثمر من أكمامه، فقال: فيه الثَّمَنُ مرتين وضَرْبُ نَكَالٍ، وقال: وكل مَنْ دَرَأنا عنه الحدود (¬2) والقَوَد أضعفنا عليه الغُرْم، وقد وافق أحمدَ على سقوط القطع في المجاعة الأوزاعيُّ (¬3)، وهذا مَحْضُ القياس، ومقتضى قواعد الشرع؛ فإن السنة إذا كانت سنة مجاعة وشدة غَلَبَ على الناس الحاجة والضرورة، فلا يكاد يسلم السارق من ضرورة تدعوه إلى ما يسدّ به رَمَقَه، ويجب على صاحب المال بَذْلَ ذلك له، إما بالثَّمن وإما مجانًا (¬4)، على الخلاف في ذلك. [وجوب بذل الطعام بالمجان في زمن المجاعة] والصحيح وجوب بذله مجانًا؛ لوجوب المواساة (¬5) وإحياء النفوس مع القدرة على ذلك والإيثار بالفضل مع ضرورة المحتاج، وهذه شُبْهة قوية تَدْرأ القطع [عن المحتاج] (¬6)، وهي أقوى من كثير من الشُّبَه التي يذكرها كثير من الفقهاء، بل إذا وازَنْتَ بين هذه الشبهة وبين ما يذكرونه ظهر لك التفاوت، فأين شبهة كون المسروق مما يُسْرع إليه الفساد، وكون أصله على الإباحة [كالماء] (6)، وشبهة القَطْع به مرة، وشبهة دعوى ملكه بلا بينة، وشبهة إتلافه في الحِرْز بأكل أو احتلاب (¬7) من الضَّرْع، وشبهة نقصان ماليّته في الحرز بذبح أو تحريق ثم إخراجه، وغير ذلك من الشبه الضعيفة جدًا إلى هذه الشبهة القوية؟ لا سيما وهو مأذون له في مُغَالبة صاحب المال على أخذ ما يسد رمقه، وعام المجاعة يكثر فيه المحاويج والمضطرون، ولا يتميز المستغني منهم والسارق الغير حاجة من غيره، فاشتبه مَنْ يجب عليه الحد بمن لا يجب عليه، فدُرِئ، نعم إذا بان أن السارق لا حاجة به (¬8) وهو مستغنٍ عن (¬9) السرقة قطع (¬10). ¬
فصل [صدقة الفطر لا تتعين في أنواع]
فصل [صدقة الفطر لا تتعين في أنواع] المثال الرابِع (¬1): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فرض صدقة الفطر صاعًا من تمرٍ أو صاعًا من شعير أو صاعًا من زبيب أو صاعًا من أقِط (¬2)، وهذه كانت غالب أقواتهم بالمدينة، فأما أهلُ بلدٍ أو محلة قوتُهم غيرُ ذلك فإنما عليهم صاع من قوتهم، كمن قوتهم الذرة أو الأرز أو التين أو غير ذلك من الحبوب، فإن كان قوتهم من غير الحبوب كاللبن واللحم والسمك أخرجوا فِطرَتَهم من قوتهم كائنًا ما كان، هذا قول جمهور العلماء، وهو الصواب الذي لا يقال بغيره؛ إذ المقصود سَدُّ خَلَّة المساكين يوم العيد، وموَاساتهم (¬3) من جنس ما يقتاته أهلُ بلدهم، وعلى هذا فيجزِئُ إخراج الدقيق وإن لم يصح فيه الحديث (¬4)، وأما إخراج الخبز والطعام فإنه وإن كان أنفع للمساكين لقلَّة المؤنة والكلفة فيه فقد يكون الحَبُّ أنفع لهم لطول بقائه وأنه يتأتى منه ما لا يتأتى من الخبز والطعام، ولا سيما إذا كثر الخبز والطعام عند المسكين (¬5) فإنه يفسد ولا يمكنه حفظه، وقد يقال: لا اعتبار بهذا، ¬
فإن المقصود إغناؤهم في ذلك اليوم العظيم عن التعرض (¬1) للسؤال، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أغنُوهُم في هذا اليوم عن المسألة" (¬2) وإنما نص على تلك الأنواع المُخرَجَة لأن القوم لم يكونوا يعتادون اتخاذ الأطعمة يوم العيد، بل كان قوتهم يوم العيد كقوتهم سائر السنة؛ ولهذا لما كان قوتهم يوم عيد النحر من لحوم الأضاحي أمِرُوا أن يطعموا منها القانع والمعتر؛ فإذا كان أهل بلد أو محلة عادتهم اتخاذ الأطعمة يوم العيد جاز لهم، بل يشرع لهم أن يُوَاسوا المساكين من أطعمتهم، فهذا محتمل يسوغ القول به (¬3)، واللَّه أعلم. ¬
فصل [هل يجب في المصراة رد صاع من تمر؟]
فصل [هل يجب في المُصَرّاة رد صاع من تمر؟] المثال الخامس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نص في المُصَرَّاة (¬1) على رَدِّ صاع من تمر بدل اللَّبن (¬2)، فقيل: هذا حكم عام في جميع الأمصار، حتى في المصر الذي لم يَسْمع أهله بالتَّمر قط ولا رأوه؛ فيجب إخراج قيمة الصالح في موضع التمر، ولا يجزئهم إخراج صاع من قوتهم، وهذا قول أكثر الشافعية والحنابلة، وجعل هؤلاء التمر في المُصَراة كالتمر في زكاة التمر لا يجزئُ سواه، فجعلوه تعتدًا، فعينوه اتباعًا للفظ النص، وخالفهم آخرون، فقالوا: بل يُخرج في كل موضع صاعًا من قوت ذلك البلد الغالب؛ فيخرج في البلاد التي قوتهم البُرّ صاعًا من بُرٍّ، وإن كان قوتهم الأرز فصاعًا من أرز، وإن كان الزبيب والتين عندهم كالتمر في موضعه أجزأ صاع منه، وهذا هو الصحيح، وهو اختيار أبي المحاسن الروياني وبعض أصحاب أحمد، وهو الذي ذكره أصحاب مالك، قال القاضي أبو الوليد: روى ابن القاسم أن الصاع يكون من غالب قوت البلد، قال صاحب "الجواهر"، بعد حكاية ذلك: ووجهه أنه ورد في بعض ألفاظ هذا الحديث صاعًا من طعام؛ فيُحمل تعيين صاع التمر في الرواية المشهورة على أنه غالب قوت ذلك البلد، انتهى (¬3). ولا ريب أن هذا أقرب إلى مقصود الشارع ومصلحة المتعاقدين من إيجاب قيمة صاع من التمر في موضعه، واللَّه أعلم. وكذلك حكم ما نص عليه الشارع من الأعيان التي يقوم غيرُهَا مقامها من كل وجه أو يكون أولى منها كنصه على الأحجار في الاستجمار (¬4)، ومن المعلوم ¬
فصل [طواف الحائض بالبيت]
أن الخِرقَ والقُطْنَ والصوف أولى منها بالجواز، وكذلك نصّه على التراب في الغسل من ولوغ الكلب (¬1) والأشنانُ أولى منه (¬2)، هذا فيما علم مقصود الشارع منه، وحصولُ ذلك المقصود على أتم الوجوه بنظيره وما هو أولى منه. فصل [طواف الحائض بالبيت] المثال السادس: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منع الحائض من الطواف بالبيت حتى تطهير، وقال: "اصْنَعِي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" (¬3) فظنَّ مَنْ ظن أن هذا حكم عام في جميع الأحوال والأزمان، ولم يفرِّق بين حال القدرة والعجز، ولا بين زمن إمكان الاحتباس (¬4) لها حتى تطهير وتطوف وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك، وتمسك بظاهر النص، ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام؛ إذ نهى الحائض عن الجميع سواء، ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة، ونازعهم في ذلك فريقان: أحدهما: صحح (¬5) الطواف مع الحيض، ولم يجعلوا الحيض مانعًا من صحته، بل جعلوا الطهارة واجبة تُجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقوله أبو حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما (¬6) عنه، وهؤلاء لم يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشَّرط بالمشروط، بل جعلوها واجبة من واجباته، وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصحُّ فعلُه مع الإخلال بها وبجبرها الدم. ¬
[لا تخلو الحائض في الحج من ثمانية أقسام في هذه الأيام]
والفريق الثاني: جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها (¬1) بمنزلة وجوب السترة واشتراطها، بل وبمنزلة (¬2) سائر شروط الصلاة وواجباتها التي تجب وتشترط مع القدرة وتسقط مع العجز، قالوا: وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها (¬3) له بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز عنها أولى وأحْرَى، قالوا: وقد كان في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخلفائه الراشدين يحتبس (¬4) أمراء الحج للحُيَّض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في شأن صفية وقد حاضت: "أحابِسَتُنَا هي؟ " قالوا: إنها قد أفاضت، قال: "فلتنفر إذًا" (¬5)، وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها يمكنها الطواف بها. [لا تخلو الحائض في الحج من ثمانية أقسام في هذه الأيام] فأما في هذه الأزمان التي يتعذَّر إقامة الرَّكب لأجل الحُيّض فلا تخلو من ثمانية أقسام: أحدها أن يقال لها: أقيمي بمكة وإن رَحَل الركب حتى تطهري وتطوفي، وفي هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلدة الغربة مع لحوق غاية الضرر لها ما فيه. الثاني أن يقال: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه. الثالث أن يقال: إذا علمَتْ أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه على وقته. الرابع أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج وأنها إذا حَجَّتْ أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضُها بالكلية. ¬
[الرأي الصحيح في حكم الحائض هو القسم الثامن]
الخامس أن يقال: بل تحج فإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت فتطوف وهي طاهرة، ولو كان بينها وبينه مسافة سنين، ثم إذا أصابها الحيض في سنة العَوْد رجعت كما هي، ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهير فيه. السادس أن يقال: بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهير كما يتحلل المحصر، مع بقاء الحج في ذمتها، فمتى قدرت على الحج لزمها؛ ثم إذا أصابها ذلك أيضًا تحللت، وهكذا أبدًا حتى يمكنها الطواف طاهرًا. السابع أن يقال: يجب عليها أن تستنيبَ مَنْ يحجُّ عنها كالمَعْضُوب، وقد أجزأ عنها الحج، وإن انقطع حيضها بعد ذلك. [الرأي الصحيح في حكم الحائض هو القسم الثامن] الثامن أن يقال: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج، ويسقط عنها ما تعجز عنه من الشروط والواجبات كما سقط (¬1) عنها طواف الوداع بالنَّص (¬2)، وكما سقط (1) عنها فرض السترة إذا شلحتها (¬3) العبيد أو غيرهم، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب إذا عجزت عنها لعدم الماء أو مرض بها، وكما يسقط فرض اشتراط طهارة مكان الطواف والسعي إذا عرض (¬4) فيه نجاسة تتعذَّر (¬5) إزالتها (¬6)، وكما يسقط شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا عجز عنه، وكما يسقط فرض القيام والركوع والسجود إذا عجز عنه المصلّي، وكما يسقط فرضُ الصوم عن العاجز عنه [إلى بَدَله] (¬7) وهو الإطعام، ونظائر ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بَدَل أو مطلقًا؛ فهذه ثمانية أقسام لا مزيد عليها، ومن ¬
[الرد على القائلين بالتقدير الأول]
المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا القسم الثامن. [الرّد على القائلين بالتقدير الأول] فإن القسم الأول وإن قاله مَنْ قال من الفقهاء (¬1) فلا يتوجه هاهنا؛ لأن هذا الذي قالوه متوجّه فيمن أمكنها الطواف ولم تطف، والكلام في امرأة لا يمكنها الطواف ولا المقام لأجله، وكلام الأئمة والفقهاء هو مطلق كما يتكلمون في نظائره، ولم يتعرضوا لمثل هذه الصور التي عمَّت بها البَلْوَى، ولم يكن ذلك في زمن الأئمة، بل قد ذكروا أن المكريَّ يلزمه المقام والاحتباس عليها لتطهرَ ثم تطوف، فإنه كان ممكنًا بل واقعًا في زمنهم، فأفتوا بأنها لا تطوف حتى تطهير لتمكّنها من ذلك، وهذا لا نِزاعَ فيه ولا إشْكَال؛ فأما في هذه الأزمان فغير ممكن، وإيجابُ سفرين كاملين في الحج من غير تفريط من الحاج ولا سبب صدَر منه يتضمن إيجاب حجّتين إلى البيت، واللَّه تعالى إنما أوجب حجة واحدة، بخلاف مَنْ أفسد الحج فإنه قد فَرَّطَ بفعل المحظور، وبخلاف مَنْ ترك طواف الزيارة أو الوقوف بعرفة فإنه لم يفعل ما يتم به حجَّه (¬2)، وأما هذه فلم تُفَرّط ولم تترك ما أُمِرَت به فإنَّها لم تؤمر بما لا تقدر عليه، وقد فعلت ما تقدر عليه؛ فهي بمنزلة الجُنب إذا عجز عن الطهارة الأصليّة والبدلية وصلَّى على حسب حالة، فإنه لا إعادة عليه في أصح الأقوال (¬3)، وأيضًا فهذه قد لا يمكنها السفر مرة ثانية، فإذا قيل (¬4): إنها تبقى مُحْرمة إلى أن تموت، فهذا ضرر لا يكون مثله في دين الإِسلام، بل يُعلم بالضرورة (¬5) أن الشريعة لا تأتي به. فصل [الرّد على القائلين بالتقدير الثاني] وأما التقدير الثاني -وهو سقوط طواف الإفاضة- فهذا مع أنه لا قائل به فلا ¬
فصل [الرد على القائلين بالتقدير الثالث]
يمكن القول به؛ فإنه ركنُ الحج الأعظم، وهو الركن المقصود لذاته، والوقوف بعرفة وتوابعه مقدِّمات له. فصل [الرّد على القائلين بالتقدير الثالث] وأما التقدير الثالث -وهو تقدّم طواف الإفاضة على وقته إذا خشيت الحيض في وقته- فهذا لا يُعلم به قائل، والقول به كالقول بتقديم الوقوف [بعرفة] (¬1) على يوم عرفة، وكلاهما مما لا سبيل إليه. فصل [الرّد على الرّابع] وأما التقدير الرابع -وهو أن يقال: يسقطُ عنها فرضُ الحج إذا خَشيت ذلك- فهذا وإن كان أفقه مما قبله من التقديرات فإن الحج يسقط بما هو دون هذا (¬2) من الضرر -كما لو كان بالطويق أو بمكة خَوْف، أو أخذ خفارة مُجْحفة أو غير مجحفة على أحد القولين، أو لم يكن لها محرم (¬3) - ولكنّه ممتنع لوجهين: أحدهما: أنَّ لازمه سقوط الحج عن كثيرٍ من النساء أو أكثرهن؛ فإنهن يخفن من الحيض وخروج الركب قبل الطهر، وهذا باطل؛ فإن العبادات لا تسقط بالعجز عن بعض شرائطها ولا عن بعض أركانها، وغاية هذه أن تكون عَجَزَتْ عن شرط أو ركن، وهذا لا يُسْقِطُ المقدور عليه، قال اللَّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمرٍ فَأتُوا منه ما استطعتم" (¬4) ولهذا وجبت الصلاة بحسب الإمكان، وما عجز عنه من فروضها أو شروطها سقط عنه؛ والطوافُ والسَّعْي إذا عجز عنه ماشيًا فَعَلَه راكبًا اتفاقًا، والصبي يفعل عنه وليه ما يعجز عنه. ¬
فصل [الرد على الخامس]
الوجه الثاني: أن يقال في الكلام فيمن تكلَّفت وحجَّتْ وأصابها هذا العذر: فما يقول صاحب هذا التقدير حينئذ؟ فإما أنْ يقول: تبقى محرمة حتى تعودَ إلى البيت، أو يقول: تتحلل كالمُحصر، وبالجملة فالقول بعدم وجوب الحج على مَنْ تخاف الحيض لا يُعلم به قائل، ولا تقتضيه الشريعة؛ فإنَّها لا تسقط مصلحةَ الحج التي هي من أعظم المصالح لأجل العجز عن أمرٍ غايتُه أن يكون واجبًا في الحج أو شرطًا فيه؛ فأصولُ الشريعة تبطل هذا القول. فصل [الرّد على الخامس] وأما التقدير الخامس -وهي أن ترجع وهي على إحرامها ممتنعة من النكاح والوطء إلى أن تعود في العام المقبل، ثم إذا أصابها الحيض رجعت كذلك، وهكذا كل عام- فمما تردُّه أصول الشريعة وما اشتملت عليه من الرحمة والحكمة والمصلحة والإحسان (¬1)؛ فإن اللَّه لم يجعل على الأمة مثلَ هذا الحرج، ولا ما هو قريب منه. فصل [الرّد على السادس] وأما التقدير السادس -وهو أنها تتحلل كما يتحلل المحصر- فهذا أفقه من التقدير الذي قبله؛ فإن هذه منعها خوفُ المقَام من إتمام النسك، فهي كمن منعها عَدُوّ عن الطواف بالبيت بعد التعريف، ولكن هذا التقدير ضعيف؛ فإن الإحصار أمرٌ عارض للحاج يمنعه من الوصول إلى البيت في وقت الحج، وهذه متمكّنة من البيت ومن الحج من غير عدوّ ولا مرض ولا ذهاب نفقة، وإذا جعلت هذه كالمُحْصَر أوجبنا عليها الحج مرة ثانية مع خوف وقوع الحيض منها، والعذرُ الموجِبُ للتحلل بالإحصار إذا كان قائمًا به مَنعَ [من] (¬2) فرض الحج ابتداءً كإحاطة العدو بالبيت وتعذّر النفقة، وهذه عذرها لا يُسقط فرض الحج عليها ابتداءً؛ فلا يكون عروضه موجبًا للتحلل كالإحصار؛ فلازم هذا التقدير أنها إذا ¬
فصل [الرد على السابع]
علمت أن هذا العذر يصيبها أو غلب على ظنّها أنْ يسقط عنها فرض الحج فهو رجوع إلى التقدير الرابع. فصل [الرّد على السابع] وأما التقدير السابع -وهو أن يقال: يجب عليها أن تستنيبَ مَنْ يحجُّ عنها إذا خافت الحيض، وتكون كالمَعْضُوب (¬1) العاجز عن الحج بنفسه- فما أحسنه من تقدير لو عرف به قائل؛ فإن هذه عاجزة عن إتمام نسكها، ولكن هو باطل أيضًا؛ فإن المَعْضُوب (1) الذي يجب عليه الاستنابة هو الذي يكون آيسًا من زوال عذره، فلو كان يرجو زوال عذره كالمرض العارض والحبس لم يكن له أن يستنيب، وهذه لا تيأس من زوال عذرها؛ لجواز أن تبقى إلى زمن اليأس وانقطاع الدم أو أن دمها ينقطع قبل سن اليأس لعالرض بفعلها أو بغير فعلها؛ فليست كالمَعْضُوب (¬2) حقيقة ولا حكمًا. فصل [ببطلان التقديرات السبع يتعين الثامن] فإذا بطلت هذه التقديرات تعيّن التقدير الثامن، وهو أن يُقال: تطوف بالبيت والحالة هذه، وتكون هذه ضرورة (¬3) مقتضية لدخول المسجد مع الحَيْض والطواف معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة، بل يوافقها كما تقدم؛ إذ غايته سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه، ولا واجب في الشريعة مع عَجْز، ولا حرام مع ضرورة. [اعتراض على الثامن] فإن قيل: في ذلك محذوران: أحدهما: دخول الحائض المسجد، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا أحِلُّ المسجدَ لحائض ولا جُنُبٍ" (¬4)، فكيف بأفضل المساجد؟ ¬
الثاني: طوافها في حال الحيض، وقد منعها الشارع منه كما منعها من الصلاة، فقال: "اصْنَعِي ما يصنعُ الحاجُّ غيرَ أن لا تطوفي بالبيت" (¬1) فالذي منعها من الصلاة مع الحيض هو الذي منعها من الطواف معه. ¬
[دفع الاعتراض]
[دفع الاعتراض] فالجواب عن الأول من أربعة أوْجُهٍ: أحدها: أن الضرورة تبيح دخول المسجد للحائض والجنب؛ فإنها لو خافت العدو أو مَنْ يستكرهها على الفاحشة أو أخذ مالها ولم تجد ملجأ إلا دخول المسجد جاز لها دخوله مع الحيض، وهذه تخاف ما هو قريبٌ من ذلك؛ فإنها تخاف إن أقامت بمكة أن يُؤخذ مالُها إن كان لها مال، وإلا أقامت بغربة ضرورة (¬1)، وقد تخاف في إقامتها مقن يتعرض لها، وليس لها مَنْ يدفع عنها. الجواب الثاني: أن طوافها بمنزلة مرورها في المسجد، ويجوز للحائض المرور فيه إذا أمنت التلويث، وهي في دورانها حولَ البيت بمنزلة مرورها ودخولها من باب وخروجها من آخر؛ فإذا جاز مرورها للحاجة فطوافُهَا للحاجة التي هي أعظم من حاجة المرور أولى بالجواز. يوضحه الوجه الثالث: أنَّ دمَ الحيض في تلويثه المسجد كدم الاستحاضة، والمستحاضة يجوز لها دخول المسجد للطواف إذا تلجَّمت (¬2) اتفاقًا، وذلك لأجل الحاجة، وحاجة هذه أولى. يوضحه الوجه الرابع: أن منعها من دخول المسجد للطواف كمنع الجُنُب؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سَوَّى بينهما في تحريم المسجد عليهما، وكلاهما يجوز له الدخول عند الحاجة (¬3)، وسر المسألة أن قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تطوفي بالبيت" هل ذلك لأن الحائض ممنوعة من المسجد؟ والطواف لا يكون إلا في المسجد، أو أن عبادة الطَّواف لا تصح مع الحيض [كالصلاة] (¬4)، أو لمجموع الأمرين، أو لكلِّ واحدٍ من الأمرين؟ فهذه أربعة تقادير، فإن قيل بالمعنى الأول لم يمنع صحة الطواف مع الحيض كما قاله أبو حنيفة ومَنْ وافقه وكما هو إحدى الروايتين عن أحمد، وعلى هذا فلا يمتنع الأذنُ لها في دخول المسجد لهذه الحاجة التي تلتحق بالضرورة، ويقيّد بها مُطْلَق نهي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وليس بأول مُطْلَق قُيّد بأصول الشريعة وقواعدها، وإن قيل بالمعنى الثاني فغايته أن تكون الطهارة شرطًا من شروط الطواف، فإذا ¬
فصل [متابعة دفع الاعتراض السابق الطواف مع الحيض]
عجزت عنها سقط اشتراطها كما لو انقطع دمها وتعذر عليها الاغتسال والتيمم فإنها تطوت على حسب حالها كما تصلي بغير طهور (¬1). فصل [متابعة دفع الاعتراض السابق الطواف مع الحيض] وأما المحذورُ الثاني -وهو طوافها مع الحيض والطواف كالصلاة- فجوابه من وجوه: أحدها: أن يقال: لا ريب أن الطواف تجب فيه الطهارة وسَتر العَوْرَة كما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "لا يَطُوف بالبيت عُرْيَان" (¬2)، وقال اللَّه تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] وفي "السنن" مرفوعًا وموقوفًا: "الطوافُ بالبيت صلاة إلا أن اللَّه أباح فيه الكلام، فمن تكلّم فيه فلا يتكلم إلا بخير" (¬3) ولا رَيْبَ أن وجوب الطهارة وسَتْر العَوْرَة في الصلاة آكَدُ من وجوبها في الطواف؛ فإن الصلاة بلا طهارة مع القُدْرة باطلة بالاتفاق، وكذلك صلاة العُرْيان. [حكم طواف الجنب والحائض والمحدث والعريان بغير عذر] وأما طواف الجنب والحائض والمُحْدِث والعريان بغير عذر ففي صحته قولان مشهوران وإن حصل الاتفاق على أنه منهيّ عنه في هذا الحال، بل وكذلك أركان الصلاة وواجباتها آكَدُ من أركان الحج وواجباته؛ فإن واجبات الحج إذا تَرَكها عمدًا لم يبطل حجه، وواجبات الصلاة إذا تركها عمدًا بطلت صلاته، وإذا نقص من الصلاة ركعة عمدًا لم تصح، ولو طاف ستة أشواط صحّ ووجب عليه دم عند أبي حنيفة وغيره، ولو نكس الصلاة لم تصح، ولو نكس الطواف ففيه خلاف، ولو صلى مُحْدِثًا لم تصح صلاته، ولو طاف محدثًا أو جُنُبًا صح في أحد ¬
[تقسيم الشارع العبادة بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين]
القولين (¬1)، وغاية الطواف أن يُشَبَّه بالصلاة، وإذا تبين هذا فغاية هذه إذا طافت مع الحيض للضرورة أن تكون بمنزلة مَنْ طافت عريانة للضرورة؛ فإنّ نَهْيَ الشارع صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله عن الأمرين واحد، بل الستارة في الطواف آكد من وجوه: أحدها: أن طواف العريان منهيّ عنه بالقرآن والسنة وطواف الحائض منهي عنه بالسنة وحدها. الثاني: أن كشف العورة حَرَام في الطواف وخارجه. الثالث: أن طواف العريان أقبح شرعًا وعقلًا وفطرة من طواف الحائض والجنب؛ فإذا صح طوافها مع العُرْي للحاجة فصحة طوافها مع الحيض للحاجة أولى وأحْرَى، ولا يقال: "فيلزمكمَ على هذا أن تصح صلاتها وصومها مع الحيض للحاجة" [لأنّا نقول] (¬2): هذا سؤال فاسد؛ فإن الحاجة لا تدعوها (¬3) إلى ذلك بوجه من الوجوه، وقد جعل اللَّه سبحانه صلاتها زمن الطهر مغنية لها عن صلاتها في الحيض وكذلك صيامها، وهذه لا يمكنها أن تتعوّض في حال طهرها بغير البيت. [تقسيم الشارع العبادة بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين] وهذا يبين سر المسألة وفقهها، وهو أن الشارع قسم العبادات بالنسبة إلى الحائض إلى قسمين: • قسم يمكنها التعوّض عنه في زمن الطهر فلم يوجبه عليها في الحيض، بل أسقطه إما مطلقًا كالصلاة صماما إلى بدله زمن الطهر كالصوم. • وقسم لا يمكنها التعوض عنه ولا تأخيره إلى زمن الطهر فشرعه لها مع الحيض أيضًا كالإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه. [حكم قراءة الحائض القرآن وإعلال حديث المنع] ومن هذا جواز قراءة القرآن لها وهي حائض؛ إذ لا يمكنها التعوض عنها ¬
زمن الطهر؛ لأن الحيض قد يمتد بها غالبه أو أكثره، فلو منعت من القراءة لفاتت عليها مصلحتُها، وربما نسيت ما حفظته زمن طهرها، وهذا مذهب مالك [وإحدى الروايتين عن أحمد] (¬1) واحد قولي الشافعي، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يمنع الحائض من قراءة القرآن، وحديثُ: "لا تقرأ الحائض والجنب شيئًا من القرآن" (¬2) لم يصح؛ فإنه حديث معلول باتفاق أهل العلم بالحديث. ¬
[جرح إسماعيل بن عياش راوي حديث المنع]
[جرح إسماعيل بن عياش راوي حديث المنع] فإنه من رواية إسماعيل بن عيّاش، عن موسى بن عُقبة، عن نافع، عن ابن عمر، قال الترمذي (¬1): "لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عيّاش عن موسى بن عقبة، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: إن إسماعيل بن عياش يروي عن أهل الحجاز وأهل العراق أحاديثَ مناكيرَ، كأنه يضعّف روايته عنهم فيما ينفرد به، وقال: إنما هو حديث إسماعيل بن عياش عن أهل الشام"، انتهى وقال البخاري (¬2) أيضًا: "إذا حدَّث عن أهل بلده فصحيح، وإذا حدث عن غيرهم ففيه نظر"، وقال علي بن المديني: ما كان أحد أعلم بحديث أهل الشام من إسماعيل بن عياش لو ثبت في حديث أهل الشام، ولكنه خلّط في حديث أهل العراق (¬3)، وحدَّثنا (¬4) عنه ¬
[الفرق بين الحائض والجنب]
عبد الرحمن ثم ضرب على حديثه؛ فإسماعيل عندي ضعيف، وقال عبد اللَّه بن أحمد (¬1): عرضت على أبي حديثًا حَدَّثَنَاه الفضل بن زياد الضّبيّ (¬2): حدثنا ابنُ عَيَّاش، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا: "لا تقرأ الحائض و [لا] (¬3) الجنب شيئًا من القرآن" فقال أبي: هذا باطل، يعني أن إسماعيل وهم. وإذا لم يصح الحديث لم يبق مع المانعين حجة إلا القياس على الجنب. [الفرق بين الحائض والجنب] والفرقُ الصحيحُ بينها وبين الجنب مانعٌ من [الإلحاق، وذلك] (¬4) من وجوه: أحدها: أن الجنب يمكنه التطهّر متى شاء بالماء أو بالتراب فليس له عذر في القراءة مع الجنابة بخلاف الحائض. والثاني: أن الحائض يُشرع لها الإحرام والوقوف بعرفة وتوابعه مع الحيض بخلاف الجنب. الثالث: أن الحائض يشرع لها أن تشهد العيد مع المسلمين وتعتزل المصلّى بخلاف الجنب. [هل تقرأ الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال عند من حرّموا عليها القراءة؟] وقد تنازع مَنْ حَرَّم عليها القراءة: هل يُباح لها أن تقرأ بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: المنع مطلقًا وهو المشهور من مذهب الشافعي (¬5) وأبي حنيفة (¬6) ¬
فصل [عود إلى الكلام عن طواف الحائض]
وأحمد (¬1)؛ لأنها بعد انقطاع الدم تصير كالجُنُب. الثاني: الجواز مطلقًا وهو اختيار القاضي أبي يعلى (¬2)، قال: وهو ظاهر كلام أحمد. الثالث: إباحته للنفساء وتحريمه على الحائض، وهو اختيار الخَلَّال (¬3)؛ فالأقوال الثلاثة في مذهب أحمد، فإذا لم تمنع الحائض من قراءة القرآن لحاجتها إليه فعدم منعها في هذه الصورة عن الطواف الذي هي أشد حاجة إليه بطريق الأولى والأحْرَى. فصل [عود إلى الكلام عن طواف الحائض] هذا إذا كان المنع من طوافها لأجل [المنع من] (¬4) دخول المسجد أو لأجل الحيض ومنافاته للطواف، فإن قيل بالتقدير الثالث وهو أنه لمجموع الأمرين بحيث إذا انفرد أحدهما لم يستقل بالتحريم، أو بالتقدير الرابع وهو أن كلًا منهما علة مستقلة كان الكلام على هذين التقديرين كالكلام على التقديرين الأولين، وبالجملة فلا يمتنع (¬5) تخصيصُ العلة لفوات شرطٍ أو لقيام مانعٍ، وسواء قيل: إن وجود الشرط وعدم المانع من أجزاء العلة أوهو أمر خارج عنها؛ فالنزاع لفظي، فإن أريد بالعلة التامة فهما من أجزائها، وإن أريد بها المقتضية كانا خَارِجَيْن عنها. [تشبيه الطواف بالصلاة] فإن قيل: الطواف كالصلاة، ولهذا تشترط (¬6) له الطهارة من الحَدَث، وقد أشار إلى هذا بقوله في الحديث: "الطواف بالبيت صلاة" (¬7) والصلاة لا تُشرع ولا تصح مع الحيض، فهكذا شقيقها ومُشبَّهها، ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فلم تصح مع الحيض كالصلاة، وعكسه الوقوف بعرفة وتوابعه. ¬
[الجواب عما سبق]
[الجواب عمّا سبق] فالجواب (¬1) أن القول باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدل عليه نص ولا إجماع، بل فيه النزاع قديمًا وحديثًا؛ فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك، وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه، قال أبو بكر في "الشافي" (¬2): باب في الطواف بالبيت غير طاهر، قال أبو عبد اللَّه في رواية أبي طالب (¬3): لا يطوف أحد بالبيت إلا طاهرًا، والتطوع أيسر، ولا يقف مَشاهدَ الحج إلا طاهرًا، وقال في رواية محمد بن الحكم (3): إذا طات طوافَ الزيارةِ وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع فإنه لا شيء عليه، وأختارُ له أن يطوف وهو طاهر، وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على أن الرجل إذا طاف جنبًا ناسيًا صح طوافه ولا دَمَ عليه، وعنه رواية أخرى عليه دَمٌ (¬4)، وثالثة أنه لا يُجْزِيه الطواف، وقد ظن بعض أصحابه أن [هذا الخلاف عنه إنما] (¬5) هو في المحدث والجنب، فأما الحائض فلا يصح طوافها قولًا واحدًا؛ قال شيخنا رضي اللَّه عنه (¬6): "وليس كذلك، بل صرّح غيرُ واحدٍ من أصحابنا بأن الخلاف عنه في الحيض والجنابة، قال: وكلام أحمد يدّل على ذلك، ويبين أنه كان متوقفًا (¬7) في طواف الحائض وفي طواف الجنب، قال عبد الملك الميموني في "مسائله": قلت لأحمد: مَنْ طاف طوافَ الواجب على غير وضوء وهو ناسٍ ثم واقع أهله، قال: أخبرك مسألة فيها وهمٌ ¬
وهم مختلفون (¬1)، وذكر قول عطاء والحسن، قلت: ما تقول أنت؟ قال: دَعْهَا، أو كلمة تشبهها، وقال الميموني في "مسائله" (¬2) أيضًا: قلت له: مَنْ سعى وطاف على غير طهارة ثم واقع أهله، فقال لي: مسألة الناسُ فيها مختلفون، وذكر قول ابن عمر (¬3)، وما يقول عطاء مما يسهل فيها، وما يقول الحسن، وأن عائشة قال لها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حين حاضت: "افْعَلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" (¬4) ثم قال لي: إلا أن هذا أمر بُليت به نزل عليها ليس من قِبَلِها، قلت: فمن الناس من يقول: عليها الحج من قابل، فقال لي: نعم كذا أكبرُ علمي، قلت: ومنهم من يذهب إلى أن عليها دمًا، فذكر تسهيل عطاء فيها خاصة، قال لي أبو عبد اللَّه: أولًا وآخرًا هي مسألة مشتبهة فيها موضع نظر، فَدَعْنِي حتى انظر فيها، قال ذلك غير مرة، ومن الناس من يقول: وإن رجع إلى بلده يرجع (¬5) حتى يطوف، قلت: والنسيان، قال: والنسيان أهون حكمًا بكثير، يريد أهون ممن يطوف على غير طهارة متعمدًا" (¬6)، هذا لفظ الميموني. قلت: وأشار أحمد إلى تسهيل عطاء إلى فَتْوَاه أن المرأة إذا حاضت في أثناء الطواف فإنها تتم طوافها، وهذا تصريح منه أن الطهارة ليست شرطًا في صحة الطواف، وقد قال سعيد (¬7) بن منصور: ثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن عطاء قال: حاضت امرأة وهي تطوف مع عائشة أم المؤمنين، فحاضت في الطواف، فاتمّت بها عائشة بقية طوافها هذا (¬8)، والناسُ إنما تلقوا منعَ الحائضِ ¬
من الطَّواف من حديث عائشة، وقد دلَّتْ أحكامُ الشَّريعة على أنَّ الحائض أولى بالعذر، وتحصيل مصلحة العبادة التي تفوتها إذا تركتها مع الحيض من الجنب (¬1)، وهكذا (¬2) إذا حاضت في صَوْم شهرَيْ التتابع لم يثقطع تتابعُها بالاتفاق، وكذلك تقضي المناسك كلها من أولها إلى آخرها مع الحيض بلا كراهة بالاتفاق سوى الطواف؛ وكذلك تشهد العيد مع المسلمين بلا كراهة بالنص (¬3)، وكذلك تقرأ القرآن إما مطلقًا وإما عند خوف النسيان، وإذا حاضت وهي معتكفة لم يبطل اعتكافها بل تُتِمه في رَحْبة المسجده وسر المسألة ما أشار إليه صاحب الشرع بقوله: "إن هذا أمر كَتَبه اللَّه على بنات آدم" (¬4) ولذلك (¬5) قال الإِمام أحمد (¬6): "هذا أمر بُلِيَتْ به نزل عليها ليس من قِبَلِها"، والشريعة قد فرَّقت بينها وبين الجنب كما ذكرناه؛ فهي أحق بأن تعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسيًا أو ذاكرًا؛ فإذا كان فيه النزاع المذكور فهي أحق بالجواز منه؛ فإن الجنب يمكنه الطهارة وهي لا يمكنها، فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان، فإن الناسي لِما أُمر به من الطهارة والصلاة يُؤمر بفعله إذا ذكره، بخلاف العاجز عن الشرط أو الركن فإنه لا يؤمر بإعادة العبادة معه إذا قَدِرَ عليه؛ فهذه إذا لم يمكنها إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه، كما قال اللَّه تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أمرتكم بأمر فأتُوا منه ما استطعتم" (¬7) وهذه لا تستطيع إلا هذا، وقد اتقت اللَّه ما استطاعت؛ فليس عليها غير ذلك بالنَّص وقواعد الشريعة، والمطلق يقيد بدون هذا بكثير، ونصوص أحمد وغيره من العلماء صريحة في أن الطواف ليس كالصلاة في اشتراط الطهارة، وقد ذكرنا نصه في رواية محمد بن الحكم (¬8) إذا طاف طواف الزيارة وهو ناسٍ لطهارته حتى رجع ¬
[الجوامع والفوارق بين الطواف والصلاة]
فلا شيء عليه، واختارَ له أن يطوف وهو طاهر، وإن وطئ فحجه ماضٍ ولا شيء عليه، وقد تقدّم قول عطاء، ومذهب أبي حنيفة صحة الطواف بلا طهارة. [الجوامع والفوارق بين الطواف والصلاة] وأيضًا فإن الفوارق بين الطواف والصلاة أكثر من الجوامع؛ فإنه يباح فيه الكلام والأكل والشرب والعمل الكثير، وليس فيه تحريمٌ ولا تحليلٌ (¬1) ولا ركوع ولا سجود ولا قراءة ولا تشهد، ولا تجب له جماعة، وإنما اجتمع هو والصلاة في عموم كونه طاعة وقربة، وخصوص كونه متعلقًا بالبيت، وهذا لا يعطيه شروط الصلاة كما لا يعطيه واجباتها وأركانها. وأيضًا فيقال: لا نُسلّم أن العلة في الأصل كونها عبادة متعلقة بالبيت ولم يذكروا على ذلك حجة واحدة، والقياس الصحيح ما تبيّن فيه أن الوصف المشترك بين الأصل والفرع هو علة الحكم في الأصل أو دليل العلة؛ فالأول: قياس. العلة، والثاني: قياس الدلالة. وأيضًا فالطهارة إنما وجبت لكونها صلاة، سواء تعلّقت بالبيت أو لم تتعلق، ولهذا وجبت النافلة في السفر إلى غير القبلة، ووجبت حين كانت مشروعة إلى بيت المقدس، ووجبت لصلاة الخوف إذا لم يمكن الاستقبال. وأيضًا فهذا القيام ينتقض بالنظر إلى البيت؛ فإنه عبادة متعلقة بالبيت. وأيضًا فهذا قياس معارض بمثله، وهو أن يقال: عبادة مِنْ شَرْطها المسجد، فلم تكن الطهارة شرطًا فيها كالإعتكاف، وقد قال اللَّه تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] وليس إلحاق الطائفين بالرُّكَّع السجود أولى من إلحاقهم بالعاكفين، بل إلحاقهم بالعاكفين أشبه؛ فإن المسجد شرطٌ في كلٍّ منهما بخلاف الركع السجود. فإن قيل: الطائف لا بد أن يصلي ركعتي الطواف، والصلاة لا تكون إلا بطهارة. قيل: وجوب ركعتي الطواف فيه نزاع، وإذا قيل بوجوبهما لم تجب الموالاة بينهما وبين الطواف، وليس اتصالهما بأعظم من اتصال الصلاة بالخطبة يوم الجمعة، ولو خطب مُحْدثًا ثم توضأ وصلَّى الجمعة جاز؛ فجواز طوافه محدثًا ثم ¬
فصل [حكم الطهارة للطواف]
يتوضأ ويصلي ركعتي الطواف أولى بالجواز، وقد نص أحمد على أنه إذا خطب جنبًا جاز (¬1). فصل [حكم الطهارة للطواف] وإذا ظهر أن الطهارة ليست شرطًا في الطواف (¬2)، فإما أن تكون واجبة وإما أن تكون سنة، وهما قولان للسلف والخلف، ولكن مَنْ يقول هي سنة من أصحاب أبي حنيفة يقول: عليها دم، وأحمد يقول؛ ليس عليها دم ولا غيره، كما صرح به فيمن طاف جنبًا وهو ناسٍ، قال شيخنا (¬3): فإذا طافت حائضًا مع عدم العذر توجّه القول بوجوب الدم عليها، وأما مع العجز فهنا غاية ما يُقال: عليها دم؛ والأشبه أنه لا يجب الدم؛ لأن الطهارة واجب يُؤمر به مع القدرة لا مع العجز، فإن لزوم الدم إنما يكون مع ترك المأمور أو [مع] (¬4) فعل المحظور، وهذه لم تترك مأمورًا في هذه الحال ولا فعلت محظورًا، فإنها إذا رَمَتِ الجمرةَ وقصرت حل لها ما كان محظورًا عليها بالإحرام غير النكاح؛ فلم يبقْ بعد التحلل الأول محظورٌ يجب بفعله دم، وليست الطهارة مأمورًا بها مع العجز فيجب بتركها دم. فإن قيل: لو كان طوافها مع الحيض ممكنًا أُمِرت بطواف القدوم وطواف الوداع، فلما سقط عنها طواف القدوم والوداع علم أن طوافها مع الحيض غير ممكن. قيل: لا ريب أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسقط طواف القدوم عن الحائض، وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أن تَدَعَ أفعال العمرة وتحرم بالحج (¬5)؛ فعلم أن ¬
الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد أو للطواف أولهما، والمحظورات لا تباح إلا في حالة الضرورة، ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم؛ لأنه سنة بمنزلة تحية المسجد، ولا إلى طواف الوداع؛ فإنه ليس من تمام الحج، ولهذا لا يودِّع المقيم بمكة، وإنما يوء المسافر عنها فيكون آخر عهده بالبيت (¬1)، فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أَمْرَ إيجاب فيهما أو في أحدهما أو استحباب كما هي أقوال معروفة، وليس واحد منهما ركنًا يقف صحة الحج عليه، بخلاف طواف الفرض فإنها مضطرة إليه، وهذا كما يباح لها الدخول إلى المسجد واللُّبْثُ فيه للضرورة، ولا يباح لها الصلاة ولا الاعتكاف فيه وإن كان منذورًا، ولو حاضت المعتكفة خرجت من المسجد إلى فنائه فأتمت اعتكافها ولم يبطل، وهذا يدل على أن منع الحائض من الطواف كَمنعها من الاعتكاف، وإنما هو لحرمة المسجد لا لمنافاة الحيض لعبادة الطواف والاعتكاف، ولما كان الاعتكاف يمكن أن يفعل في رَحْبَة المسجد وفنائه جوز لها إتمامه فيها لحاجتها، والطواف لا يمكن إلا في المسجد وحاجتها في هذه الصورة إليه أعظم من حاجتها إلى الاعتكاف، بل لعل حاجتها إلى ذلك أعظم من حاجتها إلى دخول المسجد واللبث فيه لبَرْد أو مَطَر أو نحوه. وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين: أحدهما: في اقتضاء قواعد الشريعة لها لا لمنافاتها (¬2)، وقد تبين ذلك بما فيه كفاية. والثاني: في أن كلام الأئمة وفتاويهم في الاشتراط أو الوجوب إنما هو في حال القدرة والسَّعَة لا في حال الضرورة والعجز؛ فالإفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة، وغاية المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام الأئمة بقواعدهم وأصولهم؛ فالمفتي بها موافق ¬
فصل [حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد]
لأصول الشرع وقواعده (¬1)، ولقواعد الأئمة، وباللَّه التوفيق. فصل [حكم جمع الطلقات الثلاث بلفظ واحد] المثال السابع (¬2): أن المَطلِّقَ في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وزمن خليفته أبي بكر وصَدْرًا من خلافة عمر كان إذا جمع الطلقات الثلاث بفمٍ واحدٍ جعلت واحدة، كما ثبت ذلك في "الصحيح" عن ابن عباس؛ فروى مسلم في "صحيحه" عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وسنتين من خلافه عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم (¬3)، وفي "صحيحه" أيضًا عن طاوس "أن أبا الصَّهْباء قال لابن عباس: ألم تعلم أن الثلاث كانت تُجعل واحدة على عهد رسول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر وثلاثًا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: نعم" (¬4) وفي "صحيحه" أيضًا عنه أنَّ أبا الصَّهْباء قال لابن عباس: هاتِ من هَنَاتك، ألم يكن الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر واحدة، فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتايع (¬5) الناس في ¬
الطلاق، فأجازه عليهم (¬1). وفي "سنن أبي داود" عن طاوس أن رجلًا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طقق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جَعَلوها واحدة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وصَدْرًا من إمارة عمر -رضي اللَّه عنه-؟ قال ابن عباس: بلى كان الرجل إذا طلّق امرأته ثلاثًا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وصَدْرًا من إمارة عمر، فلما رأى النَّاسَ قد تتايعوا (¬2) فيها قال: أجيزوهنّ عليهم (¬3). وفي "مستدرك الحاكم" من حديث عبد اللَّه بن المُؤمَّل، عن ابن أبي مُلَيكة أن أبا الجوزاء أتى ابنَ عباس، فقال: أتعلم أن الثلاث كُنَّ يُرْددن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى واحدة؟ قال: نعم (¬4). قال الحاكم: هذا حديث صحيح، وهذه غير طريق طاوس عن أبي الصهباء. وقال الإِمام أحمد في "مسنده": ثنا سعد بن إبراهيم: ثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحُصين، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال: طلّق رُكَانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأتَه ثلاثًا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنًا شديدًا، قال: فسأله رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: كيف طلّقتها؟ قال: طلقتها ثلاثًا، قال: فقال: في مجلس واحد؟ قال: نعم، قال: فإنّ تلك (¬5) ¬
واحدة، فأرجعها إنْ شئتَ، قال: فراجعها، فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طُهْر (¬1). وقد صحح الإِمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، فقال في حديث ¬
عَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جَدِّه "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ردَّ ابنته على ابن أبي العاص بمَهْرٍ جديدٍ ونكاح جديد" (¬1): هذا حديث ضعيف، أو قال وَاهٍ لم يسمعه الحجاج من عمرو بن شعيب، وإنما سمعه من محمد بن عبيد اللَّه العرزمي (¬2)، والعرزمي (2) لا يساوي حديثه شيئًا، والحديث [الصحيح] (¬3) الذي رواه (¬4) "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أقرَّهما على النكاح الأول" (¬5) وإسناده عنده هو إسناد حديث رُكانة بن عبد يزيد هذا، وقد قال الترمذي فيه: ليس بإسناده بأس (¬6)، فهذا إسناد صحيح عند أحمد، وليس به بأس ¬
عند الترمذي؛ فهو حجة ما لم يعارض ما هو أقوى منه، فكيف إذا عَضَدَه ما هو نظيره أو أقوى منه؟ وقال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح: ثنا عبد الرزاق: أخبرنا ابنُ جُرَيج قال: أخبرني بعضُ بني أبي رافع مولى النبي-صلى اللَّه عليه وسلم-، عن عكرمة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال: "طَلَّق عبد يزيد أبو ركانة وإخوتِهِ (¬1) أمَّ ركانة، ونكح امرأة من مُزَينة، فجاءت إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: ما يُغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النَّبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- حميةٌ، فدعا بركانة وإخوتِهِ، ثم قال لجلسائه: أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانًا [يشبه منه] كذا وكذا؟ قالوا: نعم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد بن يزيد: طلّقها (¬2) ففعل، فقال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال: قد عَلمتُ، رَاجِعْها، وتلا {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] (¬3)، وقال أبو داود (¬4): "حديث نافع بن عُجير (¬5) وعبد اللَّه بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته فردَّهَا إليه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصح (¬6)، ¬
لأنهم (¬1) ولد الرجل وأهله أعلم (¬2) به، وأن ركانة إنما طلَّق امرأته البتة، فجعلها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- واحدة". قال شيخنا (¬3) -رضي اللَّه عنه-: "وأبو داود لمَّا لم يرو في "سننه" الحديثَ الذي في "مسند أحمد" -يعني الذي ذكرناه آنفًا- فقال: حديثُ البتة أصحُّ من حديث ابن جُريج أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا؛ لأنهم أهل بيته، ولكن الأئمة الكبار (¬4) العارفون بعلل الحديث (¬5) كالإمام أحمد وأبي عُبيد والبخاري ضعَّفوا حديث البتة، وبينوا أن رواته (¬6) قوم مجاهيل لم تعرف عدالتهم وضبطهم، وأحمد أثبت (¬7) حديثَ الثَّلاث، وبيَّن أنه الصواب، وقال: حديث ركانة لا يثبت أنه طلق امرأته البتة، وفي رواية عنه: حديث ركانة في البتة ليس بشيء؛ لأن ابن إسحاق يرويه عن داود بن الحُصَين، عن عكرمة، عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أن ركانة طلق امرأته ثلاثًا، وأهل المدينة يسمون الثلاث "البتَّة"، قال الأثرم: قلت لأحمد: حديث ركانة في البتة، فضعَّفه (¬8). والمقصود أن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- لم يَخْفَ عليه أن هذا هو السنة، وأنه توسعة من اللَّه لعباده، إذ جعل الطلاق مرة بعد مرة، وما كان مرة بعد مرة لم ¬
يملك المكلف إيقاع مَرَّاته كلها جملة واحدة كاللِّعان، فإنه لو قال: "أشهد باللَّه أربع شهادات إني لمن الصادقين" كان ذلك مرة واحدة، ولو حلف في القَسَامة وقال: "أقسم باللَّه خمسين يمينًا أن هذا قاتلُه" كان ذلك يمينًا واحدة، ولو قال المقرّ بالزنا: "أنا أقر أربع مرات أني زنيت" كان ذلك مرة واحدة؛ فمن يعتبر الأربع لا يجعل ذلك إلا إقرارًا واحدًا، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ قال في يومه: سبحان اللَّه وبحمده مئة مرة حُطَّتْ عنه خطاياه ولو كانت مثل زَبَدِ البحر" (¬1) فلو قال: "سبحان اللَّه وبحمده مئة مرة" لم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله: "مَنْ سَّبح اللَّه دُبُرَ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمده ثلاثًا وثلاثين، وكبَّره ثلاثًا وثلاثين" (¬2) الحديثَ؛ لا يكون عاملًا به حتى يقولها (¬3) مرة بعد مرة، ولا يجمع الكل بلفظ واحد، وكذلك قوله: "من قال: [في يومه] (¬4): لا إلهَ إلا اللَّه وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير [مئة مرة] (¬5) كانت له حِرزًا من الشيطان يومَهُ ذلك حتى يمسي" (¬6) لا يحصل له هذا إلا بقولها مرة بعد مرة، وهكذا قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58] وهكذا قوله في الحديث: "الاستئذانُ ثلاثُ مرات، فإن أُذِنَ لك وإلا فارْجِع" (¬7) لو قال الرجل ثلاث مرات هكذا كانت ¬
مرة واحدة حتى يستأذن مرة بعد مرة، وهذا كما أنه في الأقوال والألفاظ فكذلك هو في الأفعال سواء، كقوله تعالى: {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101] إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول ابن عباس: "رأى محمد ربه بفؤاده مرتين" (¬1) إنما هو مرة بعد مرة، وكذلك قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُلْدَغُ المؤمن من جُحْرٍ مرتين" (¬2) فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة, وهذه النصوصُ المذكورة وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كلُّها من باب واحد ومشكاة واحدة، والأحاديث المذكورة تفسّر المراد من قوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] كما أن حديث اللعان تفسير لقوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]. فهذا كتاب اللَّه وهذه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهذه لغة العرب وهذا عرف التخاطب وهذا خليفة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة كلهم معه في عَصْره وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب (¬3)؛ فلو عَدَّهم العادُّ بأسمائهم واحدًا واحدًا ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[لوجد] (¬1) أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة إما بفتوى وإما بإقرار عليها، ولو فُرض فيهم مَنْ لم يكن يرى ذلك فإنه لم يكن منكرًا للفتوى به، بل كانوا ما بين مُفتٍ ومقرّ بفتيا وساكتٍ غيرِ منكر، وهذا حال كل صحابي من عهد الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر، وهم يزيدون على الألف قطعًا كما ذكره يونس بن بكير عن ابن إسحاق (¬2)، قال: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير قال؛ استشهد من المسلمين في وَقعة اليمامة ألف ومئتا رجل منهم سبعون من القرّاء كلهم قد قرأوا القرآن، وتُوفي في خلافة الصديق رضي اللَّه عنه فاطمة بنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعبد اللَّه بن أبي بكر (¬3)، قال محمد بن إسحاق: فلما أُصيب المسلمون من المهاجرين والأنصار باليمامة وأصيب فيهم عامة فقهاء المسلمين وقرائهم فزع أبو بكر إلى القرآن، وخاف أن يهلك منه طائفة، وكل صحابي من لدن خلافة الصديق إلى ثلاث سنين من خلافة عمر كان على أن الثلاث واحدة فتوى أو إقرارًا أو سكوتًا. ولهذا ادعى بعضُ أهلِ العلم أن هذا إجماع قديم، ولم تجمع الأمة -وللَّه الحمد- على خلافه، بل لم يزل فيهم مَنْ يُفتي به قرنًا بعد قرن، وإلى يومنا هذا، فأفتى به حَبْر الأمة وتَرْجُمَان القرآن عبد اللَّه بن عبَّاس كما رواه حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "إذا قال أنت طالق ثلاثًا بفم واحد فهي واحدة" (¬4) وأفتى أيضًا بالثلاث، أفتى بهذا وهذا، وأفتى بأنها ¬
واحدة الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، حكاه عنهما ابنُ وضَّاح (¬1)، وعن علي كرم اللَّه وجهه وابن مسعود روايتان (¬2) كما عن ابن عباس، وأما التابعون فأفتي به عكرمة، رواه إسماعيل بن إبراهيم عن أيوب عنه، وأفتى به طاوس، وأما تابعوا التابعين فأفتى به محمد بن إسحاق، حكاه الإمام أحمد وغيره عنه، وأفتى به ¬
خِلَاس بن عمرو والحارث العُكْلي، وأما أتباع تابعي التابعين فأفتى به داود بن علي وأكثر أصحابه، حكاه عنهم ابن المغلِّس (¬1) وابن حزم وغيرهما، وأفتى به بعض أصحاب مالك، حكاه التلمساني في "شرح تفريع ابن الجلاب" (¬2) قولًا لبعض المالكية، وأفتى به بعضُ الحنفية، حكاه أبو بكر الرازي عن محمد بن مقاتل، وأفتى به بعض أصحاب أحمد، حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، قال: وكان الجد يفتي به أحيانًا (¬3)، وأما الإمام أحمد نفسه فقد قال الأثرم: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث ابن عباس: "كان الطلاق الثلاث على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وعمر واحدة" (¬4) بأيِّ شيء تدفعه؟ قال: برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافُه، ثم ذكر عن عدة عن ابن عباس أنها ثلاث (¬5)؛ فقد صرح بأنه إنما ¬
ترك القول به لمخالفة رَاوِيه له، وأصل مذهبه وقاعدته التي بنى عليها أن الحديث إذا صح لم يرده لمخالفة (¬1) راويه له، بل الأخذ عنده بما رواه، كما فعل في رواية ابن عباس وفَتْواه في بيع الأمة (¬2) فأخذ بروايته أنه لا يكون طلاقًا، وترك رأيه، وعلى أصله يُخرَّج له قول إن الثلاث واحدة؛ فإنه إذا صرح بأنه إنما ترك الحديث لمخالفة الراوي وصرَّح في عدة مواضع أن مخالفة الراوي لا تُوجب ترك الحديث خرج له في المسألة قولان، وأصحابه يخرِّجون على مذهبه أقوالًا دون ذلك بكثير. والمقصود أن هذا القولَ قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماعٌ يبطله، ولكن رَأى أمير المؤمنين عمر -رضي اللَّه عنه- أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم إيقاعه جملةً واحدة؛ فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره نكاحَ رغبةٍ يراد للدوام لا نكاحَ تحليلٍ، فإنه كان من أشدِّ الناس فيه (¬3)، فإذا علموا ذلك كفّوا عن الطلاق المحرَّم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه، ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعهد الصديق وصدرًا من خلافته كان الأليق بهم؛ لأنهم لم يتتابعوا (¬4) فيه، وكانوا يتقون اللَّه في الطلاق، وقد جعل اللَّه لكل من اتقاه ¬
مخرجًا، فلما تركوا تقوى اللَّه وتلاعبوا بكتاب اللَّه وطلّقوا على غير ما شرعه اللَّه ألزمهم بما التزموه عقوبةً لهم؛ فإن اللَّه تعالى إنما شرع الطلاق مرَّة بعد مرَّة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدَّى حدود اللَّه، وظلم نفسه، ولعب بكتاب اللَّه، فهو حقيق أن يُعَاقَبَ، ويُلزم بما التزمه، ولا يُقرّ على رخصة اللَّه وسعته، وقد صعّبها على نفسه، ولم يتق اللَّه ولم يطلق كما أمره اللَّه وشَرَعه له، بل استعجل فيما جعل اللَّه له الأناة فيه رحمة منه وإحسانًا، ولبّس على نفسه، واختار الأغلظ والأشد؛ فهذا مما تغيرت به الفتوى لتغير الزمان، وعلم الصحابةُ -رضي اللَّه عنهم- حُسْنَ سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما أَلْزم به، وصرَّحوا لمن استفتاهم بذلك فقال عبد اللَّه بن مسعود: مَنْ أتى الأمر على وجهه فقد بُيِّن له، ومن لبّس على نفسه جعلنا عليه لبسه، واللَّه لا تلبسون على أنفسكم ونتحملُه منكم، هو كما تقولون (¬1). فلو كان وقوع الثلاث ثلاثًا في كتاب اللَّه وسنة رسوله لكان المطلِّق قد أتى الأمر على وجهه، ولَما كان قد لبس على نفسه، ولما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن فعل ذلك: "أَيُلْعب (¬2) بكتاب اللَّه وأنا بين أظْهُركم؟ " (¬3) ولما ¬
توقَّف عبد اللَّه بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد اللَّه بن عباس وأبي هريرة، فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أفْتِهِ فقد جاءتك مُعْضلة، ثم أفتياه بالوقوع (¬1)؛ فالصحابة -رضي اللَّه عنهم- ومُقدَّمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولبَّسوا على أنفسهم ولم يتقوا اللَّه في التطليق الذي شرعه لهم، وأخذوا بالتَّشديد على أنفسهم ولم يَقِفُوا على ما حدَّ لهم ألزموهم بما التزموه، وأمضوا عليهم ما اختاروه لأنفسِهم من التشديد الذي وسَّعَ اللَّه عليهم ما شرعه لهم بخلافه، ولا ريب أن مَنْ فعل هذا حقيق بالعقوبة بأن ينفذ عليه ما أنفذه على نفسه؛ إذ لم يقبل رخصة اللَّه وتيسيره ومهلته، ولهذا قال ابن عباس لمن طلق مئة: عصيتَ ربك وبانت منك امرأتك؛ إنك لم تتق اللَّه فيجعل لك مخرجًا، ومن يتق اللَّه يجعل له مخرجًا (¬2). وأتاه رجل فقال: إن عمي طلق ثلاثًا، فقال: إن عمك عصى اللَّه فأندمه [اللَّه] (¬3) وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا، فقال: أفلا تحللها له؟ فقال: مَنْ يخادع اللَّه يخدعه (¬4). ¬
فليتدبَّر العالم الذي قَصْدهُ معرفةُ الحق واتباعه من الشرع والقدر في قبول الصحابة هذه الرخصة والتيسير على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتقواهم ربهم تبارك وتعالى في التطليق، فجرَتْ عليهم رخصة اللَّه وتيسيره شرعًا وقدرًا، فلما ركب الناس الأحموقة، وتركوا تقوى اللَّه، ولبَّسوا على أنفسهم، وطلَّقوا على غير ما شرعه اللَّه لهم، أجْرَى اللَّه على لسان الخليفة الراشد والصحابة معه شرعًا وقدرًا إلزامَهُم بذلك، وإنفاذه عليهم، وإبقاء الإصْرِ الذي جعلوه هم في أعناقهم كما جعلوه، وهذه أسرار من أسرار الشرع والقدر لا تناسب عقول أبناء الزمان (¬1)، فجاء أئمة الإسلام، فمضوا على آثار الصحابة سالكين مسلكهم، قاصدين رضاء اللَّه ورسوله وإنفاذ دينه. فمنهم مَنْ ترك القول بحديث ابن عباس لظنه أنه منسوخ، وهذه طريقة الشافعي (¬2). قال: "فإن كان معنى قول ابن عباس: إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- واحدة بمعنى أنه أمْرُ (¬3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فالذي يشبه أن يكون ابن عباس قد علم شيئًا فنُسِخ. فإن قيل: فما دل على ما وصفت؟ قيل: لا يُشبه أن يكون ابنُ عباس [قد] (¬4) يروي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيئًا ثم يخالفه بشيء ولم يعلمه كان من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيه خلاف. فإن قيل: فلعل هذا شيء روي عن عمر فقال فيه ابن عباس بقول عمر؟ ¬
قيل: قد علمنا أنَّ ابن عباس يخالف عمر في نكاح المتعة (¬1)، وبيع الدينار بالدينارين (¬2)، وبيع أمهات الأولاد (¬3)، فكيف يوافقه في شيء روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
[فتوى الصحابي على خلاف ما رواه]
[خلافُه]؟ (¬1). [فتوى الصحابيّ على خلاف ما رواه] قال المانعون من لزوم الثلاث: النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا ترك الحديث الصحيح المعصوم لمخالفة راويه له؛ فإن مخالفته ليست معصومة (¬2)، وقد قدَّم الشافعي رواية ابن عباس في شأن بَريرة (¬3) على فتواه التي تخالفها في كون بيع الأمة طلاقها (¬4)، وأخذ هو وأحمد وغيرهما بحديث أبي هريرة: "من استقاء فعليه القضاء" (¬5) وقد خالفه أبو هريرة وأفتى بأنه لا قضاء عليه (¬6)، وأخذوا (¬7) ¬
برواية ابن عباس: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر الصحابة أن يرملوا الأشواطَ الثلاثَةَ وأن يمشوا بين الركنين" (¬1) وصح عنه أنه قال: ليس الرملُ بسنة (¬2)، وأخذوا (¬3) برواية عائشة في منع الحائض من الطواف (¬4)، وقد صح عنها أن امرأة حاضت وهي تطوف معها فأتمت بها عائشة بقية طوافها (¬5)، رواه سعيد بن منصور: ثنا أبو عَوَانة عن أبي بشر عن عطاء، فذكره، وأخذوا برواية ابن عباس في تقديم الرمي والحلق والنحر بعضها على بعض، وأنه لا حَرَجَ في ذلك (¬6)، وقد أفتى ابنُ عباس أن فيه ¬
دمًا (¬1)، فلم يلتفتوا إلى قوله وأخذوا بروايته، وأخذت الحنفية بحديث ابن عباس "كلُّ الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه" (¬2) قالوا: وهذا صريح في طلاق المكره، وقد صح عن ابن عباس: ليس لمكره ولا لمضطهد طلاق (¬3)، وأخذوا هم والناسُ بحديث ابن عمر أنه اشترى جَمَلًا شاردًا (¬4)، بأصح سند يكون، وأخذ الحنفية والحنابلة بحديث عليّ [كرم اللَّه وجهه] (¬5) وابن عباس: "صلاة الوسْطَى صلاة العصر" (¬6) وقد ثبت عن عليّ [كرم اللَّه وجهه] (5) وابن عباس أنها صلاة ¬
الصبح (¬1)، وأخذ الأئمة [الأربعة] (¬2) وغيرهم بخبر عائشة في التحريم بلبن ¬
الفَحْلِ (¬1)، وقد صح عنها خلافه، وأنه (¬2) كان يدخل عليها مَنْ أرضعته بناتُ إخوتها، ولا يدخل عليها مَنْ أرضعته نساء إخوتها (¬3)، وأخذ الحنفية برواية (¬4) عائشة: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين" (¬5). وصح عنها أنها أتمت الصلاة في السفر (¬6)، فلم يدَعُوا روايتها لرأيها، واحتجوا بحديث جابر وأبي موسى في الأمر بالوضوء من الضَّحك في الصلاة (¬7). ¬
وقد صح عنهما أنهما قالا: لا وضوء من ذلك (¬1)، وأخذ الناسُ بحديث ¬
عائشة في ترك إيجاب الوضوء [مما مَسَّتِ النار (¬1)، وقد صح عن عائشة بأصح إسناد إيجابُ الوضوء] (¬2) للصلاة من أكل كل ما مسَّت النار (¬3)، وأخذ الناس بأحاديث عائشة، وابن عباس، وأبي هريرة، في المسح على الخفّين (¬4). ¬
وقد صح عن ثلاثتهم المنعُ من المسح جملة (¬1)؛ فأخذوا بروايتهم وتركوا ¬
رأيهم، واحتجوا في إسقاط القصاص عن الأب بحديث عمر: "لا يُقْتَصُّ لولد من والده" (¬1) وقد قال عمر: لأقُصَّنَّ للولد من الوالد (¬2)؛ فلم يأخذوا برأيه بل بروايته، واحتجت الحنفية والمالكية في أن الخُلْعَ طلاق بحديثين لا يصحان عن ابن عباس (¬3)، وقد صح عن ابن عباس بأصح إسناد يكون: "أن الخلع فَسْخٌ لا طلاق" (¬4) وأخذت الحنفية بحديث لا يصح بل هو من وضع حَرَام (¬5) بن عثمان ومُبشّر بن عُبيد الحَلَبي، وهو حديث جابر: "لا يكون صداق أقل من عشرة دراهم" (¬6) وقد صح عن جابر جواز النكاح بما قلَّ أو كثر (¬7)، واحتجوا هم ¬
وغيرهم على المنع من بيع أمهات الأولاد بحديث ابن عباس المرفوع (¬1)، وقد ¬
صح عنه جواز بيعهن (¬1)؛ فقدموا روايته التي لم تثبت على فتواه الصحيحة عنه، وأخذت الحنابلة وغيرهم بخبر سعيد بن المسيب عن عمر أنه ألحق الولَدَ بأبويه (¬2)، وقد خالفه سعيد بن المسيب (¬3)؛ فلم يعتدّوا بخلافه، و [قد] (¬4) صح عن عمر، وعثمان، ومعاوية أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تمتع بالعمرة إلى الحج (¬5)، وصح عنهم النهيُ عن التمتع (¬6)، فأخذ الناس بروايتهم وتركوا رأيهم، وأخذ الناس بحديث أبي هريرة في ¬
البحر: "هُوَ الطَّهُورُ ماؤه الحلُّ ميتته" (¬1) وقد روى سعيد بن منصور في "سننه" عن أبي ¬
هريرة أنه قال: ماءان لا يجزِئان في غسل الجنابة: ماء البحر وماء الحمَّام (¬1)، وأخذت الحنابلة والشافعية بحديث أبي هريرة في الأمر بغَسْل الأناء من ولُوغ الكلب (¬2)، وقد صح عن أبي هريرة ما رواه سعيد بن منصور في "سننه" أن أبا هريرة سُئِل عن الحَوْض يَلَغُ فيه الكلب ويشرب منه الحمار، فقال: لا يُحرِّم الماء شيء (¬3)، ¬
وأخذت الحنفية بحديث عليّ [كرم اللَّه وجهه] (¬1): "لا زكاة فيما زاد على المئتي درهم حتى يبلغ أربعين درهمًا" (¬2) مع ضعف الحديث بالحسن بن عمارة، وقد صح عن عليّ -عليه السلام- (¬3) أن ما زاد على المئتين ففيه الزكاة بحسابه، رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن عاصم بن ضَمْرة عنه (¬4). وهذا باب يطول تتبّعه، وترى كثيرًا من الناس إذا جاء الحديثُ يوافق قولَ مَنْ قلَّده وقد خالفه راويه يقول: الحجة فيما رَوَى، لا في قوله، فإذا جاء قولُ الراوي موافقًا لقول مَنْ قلده والحديث بخلافه (¬5) قال: لم يكن الراوي يخالف ما رواه إلا وقد صح عنده نَسْخُه، وإلا كان قَدْحًا في عَدَالته، فَيَجْمَعُونَ في كلامهم ¬
[وجوب الأخذ بالحديث وترك كل ما خالفه]
بين هذا وهذا، بل قد رأينا ذلك في الباب الواحد، وهذا من أقبح التناقض. [وجوب الأخذ بالحديث وترك كل ما خالفه] والذي ندينُ اللَّه به ولا يَسَعُنَا غيره وهو القصد في هذا الباب أن الحديث إذا صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذُ بحديثه وتَرْكُ كل ما خالفه، ولا فتركه لخلاف أحدٍ من الناس كائنًا من كان لا راويه ولا غيره؛ إذ من الممكن أن ينسى الراوي الحديثَ، أو لا يَحْضُره (¬1) وقتَ الفتيا، أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة، أو يتأول فيه تأويلًا مرجوحًا، أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معارَضًا في نفس الأمر، أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه، ولو قدر انتفاء ذلك كله، ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه، لم يكن الراوي معصومًا، ولم توجب مخالفَتُه لما رواه سقوطَ عدالتِهِ حتى تغلب سيئاته حسناته، وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك. فصل [تغير الفتوى بمسألة الطلاق الثلاث حسب الأزمنة] إذا عرف هذا فهذه المسألة مما تغيرت الفَتْوَى بها بحسب الأزمنة كما عرفت؛ لما رأته (¬2) الصحابة من المصلحة؛ لأنهم رأوا مَفْسَدة تتابع الناس في إيقاع الثلاث لا تندفع إلا بإمضائها عليهم، فرأوا مصلحة الإمضاء أقوى من مفسدة الوقوع، ولم يكن باب التحليل الذي لَعَنَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعلَه (¬3) مفتوحًا بوجه ما، بل كانوا أشد خلق اللَّه في المنع منه، وتوعد عمر فاعله بالرجم (¬4)، وكانوا عالمين بالطلاق المأذون فيه وغيره. [لعنة التحليل بالتيس المستعار] وأما في هذه الأزمان التي قد شَكَتِ الفروجُ فيها إلى ربها من مفسدة التحليل، وقبح ما يرتكبه المحللون مما هو رَمَد بل عَمًى في عين الدين وشَجًى ¬
في حلوق المؤمنين، من قبائحَ تُشْمِتُ أعداء الدين به وتمنع (¬1) كثيرًا ممن يريد الدخول فيه بسببه، بحيث لا يحيط بتفاصيلها خطاب، ولا يحصرها كتاب (¬2)، يراها المؤمنون كلهم من أقبح القبائح، ويعدّونها من أعظم الفضائح، قد قلبت من الدين رَسْمَه، وغيّرت منه اسمه، وضمخ التيس المستعار فيها المطلقة بنجاسة التحليل، وقد زعم أنه قد طيّبها (¬3) للحليل، فياللَّه العجب! أيُّ طيب أعارَهَا هذا التيسُ الملعون؟ وأي مصلحة حصلت لها ولمطلقها بهذا الفعل الدُّون؟ أترى وقوفَ الزوج المطلِّق أو الولي على الباب والتيسُ الملعونُ قد حل إزارها وكشف النقاب وأخَذَ في ذلك المرتع والزوجُ أو الولي يُنَاديه: لم يقدَّم إليك هذا الطعام لتشبع، فقد علمت أنت والزوجة ونحن والشهود والحاضرون والملائكة الكاتبون ورب العالمين أنك لست معدودًا من الأزواج، ولا للمرأة أو (¬4) أوليائها بك رضًا ولا فرح ولا ابتهاج، وإنما أنت بمنزلة التيس المستعار للضِّرَاب، الذي لولا هذه البَلْوَى لما رضينا وقوفَكَ على الباب؛ فالناس يُظهرون النكاح ويعلنونه فرحًا وسرورًا، ونحن نتواصَى بكتمان هذا الداء العُضال ونجعله أمرًا مستورًا؛ بلا نِثَار ولا دُفٍّ ولا خِوَان ولا إعلان، بل التواصي بهُمسَّ ومسَّ (¬5) والإخفاء والكتمان؛ فالمرأة تُنكَح لدينها وحسبها ومالها وجمالها، والتيس المستعار لا يسأل عن شيء من ذلك، فإنه لا يمسك بعصمتها، بل قد دخل على زوالها، واللَّه تعالى قد جعل كل واحد من الزوجين سكَنًا لصاحبه، وجعل بينهما مودة ورحمة ليحصل بذلك مقصودُ هذا العقد العظيم، وتتم بذلك المصلحة التي شَرَعَهُ لأجلها العزيزُ الحكيم، فسَلِ التيسَ المستعار: هل له من ذلك نصيب، أو هو من حكمة هذا العقد ومقصوده ومصلحته أجنبي غريب؟ وسَلْه: هل اتخذ هذه المصابة حليلة وفراشًا يأوِي إليه؟ ثم سَلْها: هل رضيت به قط زوجًا وبعلًا تُعَوِّلُ في نوائبها عليه؟ وسل أولي التمييز والعقول: هل تزوجت فلانة بفلان؟ وهل يعد هذا نكاحًا في شرع أو عقل أو فطرة إنسان؟ وكيف يلعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا من أمته نكح ¬
نكاحًا شرعيًا صحيحًا، ولم يرتكب في عقده محرمًا ولا قبيحًا؟ وكيف يشبهه بالتيس المستعار (¬1)، وهو من جملة المحسنين الأبرار؟ وكيف تُعَيَّر به المرأة طول دهرها بين أهلها والجيران، وتظل ناكسة رأسها إذا ذكر ذلك [التيس] (¬2) بين النسوان؟ وسل التيس المستعار: هل حَدَّثَ نفسَه وقت هذا العقد الذي هو شقيق النفاق، بنفقة أو كسوة أو وزن صداق؟ وهل طمعت المصابة منه في شيء من ذلك، أو حدثت نفسها به هنالك؟ وهل طلب منها ولدًا نجيبًا، واتخذته عشيرًا وحبيبًا؟ وسل عقول العالمين وفِطَرَهم: هل كان خير هذه [الأمة] (2) أكثرهم تحليلًا، أو كان المحلل الذي لعنه اللَّه ورسوله أهداهم سبيلًا؟ وسل التيس المستعار ومن ابتليت به: هل تجمَّلَ أحد منهما (¬3) بصاحبه كما يتجمل الرجال بالنساء والنساء بالرجال، أو كان لأحدهما رغبة في صاحبه بحسبٍ أو مالٍ أو جمال؟ وسل المرأة: هل تكره أن يتزوج عليها هذا التيسُ المستعار أو يتسرّى، أو تكره أن تكون تحته امرأة غيرها أخرى، أو تسأله عن ماله وصنعته أو حسن عشرته وسعة نفقته؟ وسل التيس [المستعار] (2): هل ¬
فصل [جناية التحليل على الأعراض]
سأل قط عما يسأله (¬1) عنه مَنْ قصد حقيقة النكاح، أو يتوسل إلى بيت أحمائه بالهدية والحمولة والنقد الذي يتوسل به خاطب المِلَاح؟ وسَله: هل هو أبو يأخذ أو أبو يعطي؟ وهل قوله عند قراءة أبي جاد هذا العقد: خذي نفقة هذا العرس أو حُطِّي؟ [وسَلْه: هل تحمَّلَ من كُلْفة هذا العقد خذي نفقة هذا العرس أو حطي؟] (¬2) وسله عن وليمة عُرْسه: هل أوْلَم ولو بشاة؟ وهل دعا إليها أحدًا من أصحابه فقضى حقه وأتاه؟ وسَلْه: هل تحمَّلَ من كُلْفة هذا العقد ما يتحمله المتزوجون، أم جاءه كما جرت به عادة الناس [لأصحابُ] (¬3) والمهنئون؟ وهل قيل له: بارك اللَّه لكما وعليكما وجمع بينكما في خير وعافية، أم لعن اللَّه المحلل والمحلَّل له لعنة تامة وافية؟ فصل [جناية التحليل على الأعراض] ثم سَلْ مَنْ له أدنى اطلاع على أحوال الناس: كم من حُرَّة مَصُونة أنْشَبَ فيها المحلل مخالِبَ إرادته فصارت له بعد الطلاق من الأخدان وكان بعلها منفردًا بوطئها فإذا هو والمحلل فيها ببركة التحليل شريكان؟ فلعمر اللَّه! كم أخرج التحليل مخدرة من سترها إلى البغاء، وألقاها بين براثن العُشَرَاء والخدناء (¬4)؟ ولولا التحليل لكان منال الثريا دون منالها، والتدرع بالأكفان دون التدرع بجمالها، وعناق القَنَا دون عناقها، والأخذ بذراع الأسد دون الأخذ بساقها. [ولوغ المحلل في المحرّمات وإفساده للمرأة] وسَلْ أهل الخبرة: كم عَقَدَ المحلل على أم وابنتها؟ وكم جمع ماءَه في أرحام ما زاد (¬5) على الأربع وفي رحم الأختين؟ وذلك مُحَرّم باطل في المذهبين، وهذه المفسدة في كتب مفاسد التحليل لا ينبغي أن تفرد بالذكر وهي كموجة واحدة من الأمواج، ومن يستطيع عد (¬6) أمواج البحر؟! وكم من امرأة ¬
[حكم الصحابة على التحليل بأنه سفاح]
[كانت] (¬1) قاصِرَةَ الطّرْف على بعلها، فلما ذاقت عُسَيْلَة المحلل خرجت على وجهها فلم يجتمع شمل الإحصان والعفة بعد ذلك بشملها، ومن (¬2) كان هذا سبيله فكيف يحتمل أكمل الشرائع وأحكمها تحليله؟! [حكم الصحابة على التحليل بأنه سفاح] فصلوات اللَّه وسلامه على مَنْ صرَّح بلعنته، وسماه بالتيس المستعار من بين فساق أمته، كما شهد [به] (¬3) عليّ بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] (¬4)، وعبد اللَّه بن مسعود، وأبو هريرة، وجابر بن عبد اللَّه، وعقبة بن عامر، وعبد اللَّه بن عباس وأخبر عبد اللَّه بن عمر أنهم كانوا يَعُدُّونه على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سِفاحًا. [الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه يلعنون المحلل] أما [حديث] (¬5) ابن مسعود ففي "مسند الإمام أحمد"، و" [سنن] (1) النَّسائي"، و"جامع الترمذي" عنه قال: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المحلل والمحلل له" (¬6) قال ¬
الترمذي: حديث حسن صحيح. وقال سفيان الثوري: حدثني أبو قيس الأوْدِي، عن هُزَيْل (¬1) بن شرحبيل، عن عبد اللَّه بن مسعود قال: "لعنَ رسولُ اللَّه الواشِمةَ والمسْتَوشمة، والواصلَة والموصولة (¬2)، والمُحلِّل والمُحلَّل له، وآكل الربا وموكله" (¬3) ورواه النَّسائي والإمام أحمد، وروى الترمذيُّ عنه (¬4): "لعن المحلل" وصححه، ثم قال: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منهم: عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعبد اللَّه بن عمر، وهو قول الفقهاء من التابعين، ورواه الإمام أحمد من حديث أبي الواصل، عن ابن مسعود عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن المُحلِّل والمحلَّل له" (¬5)، وفي "مسند الإمام أحمد"، والنسائي من حديث الأعمش، عن عبد اللَّه بن مرَّة، عن [الحارث عن] (¬6) ابن مسعود قال: "آكلُ الرِّبا وموكِلَه وشاهداه وكاتبه إذا عَلِموا به، والوَاصِلة والمُسْتَوصلة، ولاوي الصَّدقة (¬7) والمعتدي فيها، ¬
والمرتد على عقبيه أعرابيًا بعد هجرته، ملعونون على لسان محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- يوم القيامة" (¬1). وأما حديث عليّ بن أبي طالب، ففي "المسند"، و"سنن أبي داود" "والترمذي"، "وابن ماجه"، من حديث الشعبي، عن الحارث، عن علي [بن أبي طالب] (¬2) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أنه لعن المحلِّل والمُحلَّل له" (¬3). ¬
وأما حديث أبي هريرة ففى "المسند" للإمام أحمد (¬1)، و"مسند أبي بكر بن أبي شيبة" من حديث عثمان بن [محمد] الأخْنَسيّ (¬2)، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن اللَّه المحلل والمحلل له" (¬3). قال يحيى بن معين (¬4). عثمان بن الأخنس (¬5) ثقة، والذي رواه عنه عبد اللَّه بن جعفر المَخْرَمي (¬6) ثقة من ¬
[المحلل تيس مستعار]
رجال مسلم، وثقه أحمد ويحيى وعليّ وغيرهم (¬1)، فالإسناد جَيّد، وفي كتاب "العلل" للترمذي (¬2): ثنا محمد بن يحيى: ثنا مُعلَّى (¬3) بن منصور، عن عبد اللَّه بن جعفر المَخْرَمي (¬4)، عن عثمان بن محمد الأخنس (¬5)، عن سعيد المَقْبُري، عن أبي هريرة "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن المحلل والمحلل له" (¬6) قال الترمذي: سألت أبا عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث، فقال: هو حديث حسن، وعبد اللَّه بن جعفر المخرمي (4) صدوق، وعثمان بن محمد الأخنس (5) ثقة، وكنت أظن أن عثمان لم يسمع من سعيد المقبري. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا إسناد جيد (¬7). وأما حديث جابر بن عبد اللَّه ففي "جامع الترمذي" من حديث مُجالِد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد اللَّه "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن المحلل والمحلل له" (¬8) ومجالد وإن كان غيره أقوى منه فحديثه شاهد ومقوّ. [المحلِّل تيسٌ مستعار] وأما حديث عقبة بن عامر ففي "سنن ابن ماجه" عنه، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
[علل هذا الحديث]
"ألا أخبركم بالتَّيس المُستعار؟ قالوا: بلى يا رسول اللَّه، قال: هو المُحلِّل، لعن اللَّه المُحلِّل والمحلَّل له" (¬1)، رواه الحاكم في "صحيحه" من حديث الليث بن سعد، عن مِشْرَح بن هاعان (¬2)، عن عقبة بن عامر، فذكره. [علل هذا الحديث] وقد أعل هذا الحديث بثلاث علل: إحداها: أن أبا حاتم البُستي ضعف مِشْرَح بن هاعان (¬3). والعلة الثانية: ما حكاه الترمذي في "كتاب العلل" (¬4) عن البخاري فقال: "سألت أبا عبد اللَّه محمد بن إسماعيل البخاري عن حديث عبد اللَّه بن صالح: حدثني الليث، عن مِشْرَح بن هاعان (¬5)، عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا أخبركم بالتيس المستعار، هو المحلل [والمحلل له] (¬6)، ولعن اللَّه المحلل والمحلل له" فقال: عبد اللَّه بن صالح لم يكن أخرجه في أيامنا، ما أرى الليث سمعه من مِشْرَح بن هاعان (5)؛ لأن حَيْوة يروي عن بكر بن عمرو (¬7) عن مشرح. والعلة الثالثة: ما ذكرها الجوزجاني (¬8) في "مترجمه" (¬9) فقال: كانوا ينكرون على عثمان هذا (¬10) الحديث إنكارًا شديدًا (¬11). ¬
[الرد على العلل]
[الرّد على العلل] فأما العلة الأولى فقال محمد بن عبد الواحد المقدسي (¬1): "مِشْرَح قد وثَّقه يحيى بن معين في رواية عثمان بن سعيد (¬2)، وابن مَعِين أعلم بالرجال من ابن حبَّان" قلت: وهو صدوق عند الحفاظ، لم يتهمه أحد البتة، ولا أطلق عليه أحد من أهل الحديث قط أنه ضعيف، ولا ضعفه ابنُ حبَّان، وإنما قال (¬3): يروي عن عقبة بن عامر مناكير لا يتابع عليها؛ فالصواب تَرْكُ ما انفرد به، وانفرد ابن حبان من بين أهل الحديث بهذا القول فيه. وأما العلة الثانية؛ فعبد اللَّه بن صالح قد صرّح بأنه سمعه من الليث، وكونُه لم يخرجه وقت اجتماع البخاري به لا يضره شيئًا؛ وأما قوله: "إن حيوة يروي (¬4) عن بكر بن عمرو (¬5) عن مِشْرَح" فإنه يريد به أن حيوة (¬6) من أقران الليث أو أكبر منه، وإنما روى عن بكر بن عمرو عن مِشْرَح، وهذا تعليل قوي، ويؤكده أن الليث قال: "قال مِشْرَح" ولم يقل: حدثنا، وليس بلازم؛ فإن الليث كان معاصرًا لِمشْرح وهو في بلده، وطلبُ اللَّيث العلمَ (¬7) وجمعه لم يمنعه أن لا يسمع من مِشْرح حديثه عن عقبة بن عامر وهو معه في البلد. وأما التعليل الثالث فقال شيخ الإسلام: "إنكار مَنْ أنكر هذا الحديث على عثمان (¬8) غيرُ جيدٍ، وإنما هو لتوهم انفراده به عن الليث وظَنِّهم أنه لعله أخطأ فيه حيث لم يبلغهم عن غيره من أصحاب الليث، كما قد يتوهم بعضُ مَنْ يكتب الحديث أن الحديث إذا انفرد به عن الرجل مَنْ ليس بالمشهور مِنْ أصحابه كان ¬
ذلك شذوذًا فيه وعلة قادحة، وهذا لا يتوجه هاهنا لوجهين: أحدهما: أنه قد تابعه عليه أبو صالح كاتبُ الليث عنه، روِّيناه [عنه] (¬1) من حديث أبي بكر القَطِيعي [أحمد بن جعفر بن حمدان قال] (1): ثنا جعفر بن محمد الفِرْيابي (¬2) حدثني العباس المعروف بأبي فريق [قال] (1): ثنا أبو صالح: حدثني الليث به، فذكره، ورواه أيضًا الدارقطني في "سننه": ثنا أبو بكر الشافعي [قال] (1): ثنا إبراهيم بن الهَيْثم: أخبرنا أبو صالح، فذكره. الثاني: أن عثمان بن صالح هذا المصري [ثقة] (¬3) روى عنه البخاري في "صحيحه"، وروى عنه ابن معين وأبو حاتم الرازي، وقال (¬4): هو شيخ صالح سليم [التأدية] (¬5)، قيل له: كان يُلَقَّن؟ قال: لا. ومَنْ (¬6) كان بهذه المثابة كان ما ينفرد به حجة، وإنما الشاذ (¬7) ما خالف به الثقات، لا ما انفرد به عنهم، فكيف إذا تابعه مثل أبي صالح وهو كاتب الليث وأكثر الناس حديثًا عنه؟ وهو ثقة أيضًا، وإن كان قد وقع في بعض حديثه غلط، ومِشْرَح بن هاعان (¬8)، قال فيه ابن معين (¬9): ثقة، وقال فيه الإمام أحمد (¬10): هو معروف؛ فثبت أن هذا [الحديث] (¬11) حديث جيّد وإسناده حسن" (¬12) انتهى. وقال الشافعي: ليس الشاذ أن ينفرد الثقة عن الناس بحديثٍ، إنما الشاذ أن يخالف ما رواه الثقات (¬13). ¬
[حديث ابن عباس في لعن المحلل]
[حديث ابن عباس في لعن المحلل] وأما حديث عبد اللَّه بن عباس فرواه ابن ماجه في "سننه" عنه قال: "لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المحلل والمحلل له" (¬1) وفي إسناده زمعة بن صالح (¬2)، وقد ضعَّفه قوم، ووثقه آخرون، وأخرج له مسلم في "صحيحه" مقرونًا بآخر، وعن ابن معين (¬3) فيه روايتان. [حديث ابن عمر في المحلِّل] وأما حديث عبد اللَّه بن عمر ففي "صحيح الحاكم" من حديث ابن أبي مريم: حدثنا أبو غسَّان، عن عمر (¬4) بن نافع، عن أبيه قال: جاء رجل إلى ابن عمر، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة بينهم (¬5) ليحلّها لأخيه: هل تحلُّ للأول؟ قال: لا، إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سِفَاحًا على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6). ¬
فصل [عن التيس المستعار]
قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وقال سعيد في "سننه": حدثنا محمد بن نشيط البصري قال: قال بكر بن عبد اللَّه المُزَنيّ: لُعن المحلل والمحلل له، وكان يسمى في الجاهلية التيس المستعار (¬1). وعن الحسن البصري قال: كان المسلمون يقولون: هذا التيس المستعار (¬2). فصل [عن التيس المستعار] فَسَلْ هذا التيسَ: هل دخل في قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] وهل دخلَ في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] وهل دخلَ في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنِ استطاع منكم الباءة (¬3) فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر وأحْصَنُ للفرج" (¬4)، وهل دخلَ في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تزوجوا الوَدُودَ الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" (¬5)، وهل دخلَ في ¬
قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أربع من سنن المرسلين: النكاح، والتعطّر، والخِتَان (¬1)، وذكر الرابعة" (¬2)، وهل دخلَ في قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "النكاح سنّتي؛ فمن رَغِبَ عن سنَّتي فليس ¬
منّي" (¬1)، وهل دخلَ في قول ابن عباس: خير هذه الأمة أكْثَرُهَا نساء (¬2)؟ وهل له نصيبٌ من قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاثة (¬3) حق على اللَّه عَوْنُهم: النَّاكحُ يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء" (¬4) وذكر الثالث، أم حقٌ على اللَّه لعنته تصديقًا لرسوله فيما أخبر عنه؟ وسَلْه: هل يلعن اللَّه ورسوله من يفعل مستحبًا أو جائزًا أو مكروهًا أو صغيرة، أم لعنته مختصة بمن ارتكب كبيرة أو ما هو أعظم منها؟ ¬
[تعريف الكبيرة]
[تعريف الكبيرة] كما قال ابن عباس: كلُّ ذنبٍ ختم بلعنة أو غضب أو عذاب أو نار فهو كبيرة (¬1). [عودٌ إلى تحريم المحلِّل] وسَلْه: هل كان (¬2) في الصحابة محلِّل واحدٌ أو أقرَّ رجلٌ منهم على التحليل؟ وسَلْه لأيِّ شيء قال عمر بن الخطاب: لا أوتى بمحلِّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما (¬3)، وسَلْه: كيف تكون المتعة حرامًا نصًا مع أن المُسْتَمتع له غرض في نكاح الزوجة إلى وقت لكن لما كان غير داخل على النكاح المؤبد كان مرتكبًا للمحرم؟ فكيف يكون نكاح المحلِّل الذي إنما قَصْدُه أن يمسكَها ساعةً من زمان أو دونها، ولا غَرَضَ له في النكاح ألبتَّة؟ بل قد شَرط انقطاعَه وزوالَه إذا أخبثها بالتحليل، فكيف يجتمعُ في عقلٍ أو شرع تحليلُ هذا وتحريمُ المتعة؟ هذا مع أنَّ المتعةَ أبيحت في أولِ الإسلام، وفَعَلَهَا الصحابةُ، وأفتى بها بعضُهم بعد موت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4)، ونكاحُ المحلِّل لم يُبَحْ في ملة من المللِ قط ولم يفعله أحد من الصحابة، ولا أفتى به واحد منهم؟ وليس الغرض بيان تحريم هذا العقد وبطلانه وذكر مفاسده وشره، فإنه يستدعي سِفْرًا ضخمًا نختصر فيه الكلام. ¬
[المقصود بيان شأن التحليل عند الله ورسوله]
[المقصود بيان شأن التحليل عند اللَّه ورسوله] وإنما المقصود أن هذا شأن التحليل عند اللَّه ورسوله وأصحاب رسوله، فالزمهم عمر بالطلاق الثلاث إذا جَمَعُوها ليكُفُّوا عنه إذا علموا أن المرأة تحرم به (¬1)، وأنه لا سبيل إلى عَوْدِها بالتحليل، فلما (¬2) تغيَّر الزمانُ، وبَعُدَ العهدُ بالسنة وآثار القوم، وقامت سوق التحليل ونفقت في الناس؛ فالواجب أن يُرَدَّ الأمر إلى ما كان عليه في زمن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وخليفته من الإفتاء بما يعطِّل سوق التحليل أو يقللها ويخفف شرها، هاذا عرض على مَنْ وفَّقَه اللَّه وبَصَّرَه بالهدى ووفَقَّهه في دينه مسألة كون الثلاث واحدة ومسألة التحليل ووَازَنَ بينهما تبين له التفاوتُ، وعلم أيُّ (¬3) المسألتين أولى بالدين وأصلح للمسلمين. فهذه حجج المسألتين قد عرضت عليك، وقد أُهديت -إنْ قبلتها- إليك، وما أظن عَمَى التقليد [إلا] (¬4) يزيد الأمر على ما هو عليه، ولا تدع التوفيق (¬5) يقودك اختيارًا إليه، وإنما أشرنا إلى المسألتين إشارة تُطلع العالم على ما وراءها، [وباللَّه التوفيق] (4). فصل فقد (¬6) تبين لك (¬7) أمر مسألة من المسائل التي تمنع التحليل، أفتى بها المفتي، وقد قال بها بعضُ أهل العلم؛ فهي خير من التحليل، حتى لو أفتى المفتي بحلِّها بمجرد العقد من غير وَطْء لكان أعْذَرَ عند اللَّه من أصحاب التحليل، وإن اشترك كل منهما (¬8) في مخالفة النص؛ فإن النصوص المانعة من التحليل المصرحة بلعن فاعله كثيرة جدًا، والصحابة والسلف مجمعون عليها، والنصوص المشترطة للدخول لا تبلغ مبلغها، وقد اختلف فيها التابعون؛ فمخالفتها أسهل من مخالفة أحاديث التحليل، والحق مُوَافقة جميع النصوص، وأن لا يترك منها شيء، ¬
[يمتنع معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر في هذه الأزمنة]
وتأمل كيف كان الأمر على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وعهد أبي بكر الصديق من كون الثلاث واحدة والتحليل ممنوع منه، ثم صار في بقية خلافة عمر الثلاثُ ثلاثٌ والتحليلُ ممنوعٌ منه، وعمر من أشد الصحابة فيه، وكلهم على مثل قوله فيه. [يمتنع معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر في هذه الأزمنة] ثم صار في هذه الأزمنة التحليل كثيرًا مشهورًا والثلاث ثلاثًا. وعلى هذا فيمتنع في هذه الأزمنة معاقبة الناس بما عاقبهم به عمر من وجهين: أحدهما: أن أكثرهم لا يعلم أن جَمْعَ الثلاث حرام، لا سيما وكثير من الفقهاء لا يرى تحريمه، فكيف يُعَاقَب مَنْ لم يرتكب محرمًا عند نفسه؟ الثاني: أن عقوبتهم بذلك تفتح عليهم باب التحليل الذي كان مسدودًا على عهد الصحابة، والعقوبة إذا تضمنت مَفْسَدة أكثر من الفعل المعاقب عليه كان تركها أحبَّ إلى اللَّه ورسوله، ولو فرضنا أن التحليل مما أباحته الشريعة -ومَعَاذ اللَّه- لكان المنع منه إذا وصل إلى هذا الحد الذي قد تفاحش قبحه من باب سَدِّ الذَّرَائع، وتعيَّنَ على المفتين والقُضَاة المنعُ منه جملة، وإنْ فرض أن بعض أفراده جائز؛ إذ لا يستريب أحد في أن الرجوع إلى ما كان عليه الصحابة في عهد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر الصديق وصدر من خلافة عمر أوْلى من الرجوع إلى التحليل، واللَّه الموفق (¬1). فصل [موجبات الأيمان والأقارير والنذور] المثال الثامن: مما تتغيّر (¬2) به الفتوى لتغير العرف والعادة: موجبات الأيْمَانِ والإقرار والنذور وغيرها؛ فمن ذلك أن الحالف إذا حَلَفَ "لا ركبتُ دابة" وكان في بلدٍ عرفُهم في لفظ الدابة الحمار خاصة اختصت يمينه به، ولا يحنث بركوب الفرس ولا الجمل، وإن كان عرفُهم في لفظ الدابة الفَرَس خاصة حُملت يمينه ¬
عليها دون الحمار، وكذلك إن كان الحالف ممن عادته ركوب نوع خاص من الدواب كالأمراء ومَنْ جَرَى مَجْرَاهم حملت يمينه على ما اعتاده من ركوب الدواب؛ فيُفتى في كل بلد بحسب عُرْف أهله، ويُفتي كل أحد بحسب عادته (¬1)، وكذلك إذا حلف: "أكلت رأسًا" في بلدٍ عادتهم أكل رؤوس الضأن خاصة لم يحنث بأكل رؤوس الطير والسمك ونحوها، وإن كان عادتهم أكل [رؤوس] (¬2) السمك حنث بأكل رؤوسها، وكذلك إذا حلف لا اشتريت كذا ولا بعته ولا حرثت هذه الأرض ولا زرعتها ونحو ذلك، وعادتُه أن لا يباشر ذلك بنفسه كالملوك حَنَث قطعًا بالإذن والتوكيل فيه، فإنه نفسُ ما حلف عليه، وإن كان عادته مباشرة ذلك بنفسه كآحاد الناس فإنْ قَصَدَ منع نفسه من المباشرة لم يحنث بالتوكيل، وإن قصد عدمَ الفعل والمنع منه جملة حنث بالتوكيل، وإن أطلق اعتبر سبب اليمين وبسَاطها (¬3) وما هَيَّجَهَا، وعلى هذا إذا أقر المَلِكُ أو أغنى أهل البلد [لرجل] (¬4) بمال كثير لم يُقْبَلْ تفسيرُه بالدرهم والرغيف ونحوه مما يتموَّل [به] (¬5)، فإن أقَرَّ به فقير يعد عنده الدرهم والرغيف كثيرًا قبل منه، وعلى هذا إذا قيل له: جاريتك أو عبدك يرتكبان الفاحشة، فقال: ليس كذلك، بل هما حرَّان لا أعلم عليهما فاحشة؛ فالحق المقطوع به أنهما لا يُعتقان بذلك، لا في الحكم ولا فيما بينه وبين اللَّه تعالى؛ فإنه لم يرد ذلك قطعًا، واللفظ مع القرائن المذكورة ليس صريحًا في العتق ولا ظاهرًا فيه، بل ولا محتملًا له، فإخراجُ عبدِه أو أمته عن ملكه بذلك غيرُ جائزٍ (¬6)، ومن ذلك ما أخبرني به بعض أصحابنا أنه قال لامرأته: إن أذنْتُ لك في الخروج إلى الحمَّام فأنت طالق، فتهيأت للخروج إلى الحمام، فقال لها: أخرجي وأبصري، فاستفتى بعض الناس، فأفتوه بأنها قد طلقت منه، فقال للمفتي: بأي شيء أوقعت عليّ الطلاق؟ قال: بقولك لها أخرجي، فقال: إني لم أقل لها ذلك إذنًا، وإنما قلته تهديدًا، أي: إنّكِ لا يمكنكِ الخروج، وهذا ¬
كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40]، فهل هذا إذْنٌ لهم أن يعملوا ما شاءوا؟ فقال: لا أدري، أنت لفظتَ بالإذنِ، فقال له: ما أردت الإذن، فلم يَفْقَه المُفْتِي هذا، وغلظ حجابه عن إدراكه، وفرَّق بينه وبين امرأته بما لم يأذن به اللَّه ورسوله (¬1) ولا أحد من أئمة الإسلام، وليت شعري هل يقول هذا المفتي: إن قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، إذْنٌ له في الكفر؟ وهؤلاء أبْعَدُ الناس عن الفَهْمِ عن اللَّه ورسوله وعن المطلقين مقاصدهم، ومِنْ هذا إذا قال العبد لسيده، وقد استعمله في عمل يَشُقُّ عليه: أعتقني من هذا العمل، فقال: أعتقتك، ولم ينو إزالة ملكه عنه، لم يعتق بذلك، وكذلك إذا قال عن امرأته: هذه أختي، ونوى أختي في الدين، لم تحرم بذلك، ولم يكن مُظَاهِرًا، والصريح لم يكن موجبًا لحكمه لذاته، وإنما أوجبه لأنا نستدل على قصد المتكلم به لمعناه؛ لجريان (¬2) اللفظ على لسانه اختيارًا؛ فإذا ظهر قَصْدُه بخلاف معناه لم يجز أن يُلْزَمَ بما لم يرده، ولا التزمه، ولا خطر بباله، بل إلزامه بذلك جناية على الشرع وعلى المكلف، واللَّه سبحانه وتعالى رَفَعَ المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مُكْرَهًا لما لم يقصد معناها ولا نواها، فكذلك (¬3) المتكلم بالطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرهًا لا يلزمه شيء من ذلك؛ لعدم نيته وقصده، وأتى باللفظ الصريح؛ فعلم أن اللفظ إنما يوجب معناه لقصد المتكلم به، واللَّه تعالى رفع المؤاخذة عمَّن حدَّثَ نفسَه بأمر بغير تلفظٍ أو عمل، كما رفعها عمن تلفظ باللفظ من غير قصد لمعناه، ولا إرادة، ولهذا لا يكفر مَنْ جَرَى على لسانه لفظُ الكفر سَبْقًا من غير قصد لفرح أو دهش وغير ذلك (¬4)، كما في حديث الفرح الإلهِيِّ بتوبة العبد، وضرب مثل ذلك بمن فَقَدَ راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المُهْلكة، فأيس منها ثم وجدها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك "أخطأ من شدة الفرح" (¬5) ولم يؤاخذ بذلك. ¬
[لا يؤاخذ الإنسان حين يخطئ من شدة الغضب]
[لا يؤاخذ الإنسان حين يخطئ من شدة الغضب] وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بذلك، ومن هذا قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله في حال الغضب، ولو (¬1) استجابه اللَّه تعالى لأهلكه وأهلك مَنْ يَدْعو عليه، ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الداعي لم يقصده (¬2). [حكم الطلاق حال الغضب] ومن هذا رفعه -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم الطلاق عمن (¬3) طلق في إغلاق (¬4)، وقال الإمام أحمد في رواية حنبل: هو الغَضَب، وبذلك (¬5) فسَّره أبو داود، وهو قول القاضي إسماعيل بن إسحاق أحد أئمة المالكية ومُقَدَّم فقهاء أهل العراق منهم، وهي (¬6) عنده مِنْ لَغْو اليمين أيضًا، فأدخل يمين الغضبان في لغو اليمين وفي يمين الإغلاق، وحكاه شارح "أحكام عبد الحق" عنه، وهو ابن بزيزة الأندلسي، قال: وهذا قول عليّ (¬7) وابن عباس وغيرهما من الصحابة أن الأيمان المنعقدة كلها في حال الغضب لا تلزم، وفي "سنن الدارقطني" بإسناد فيه لِين من حديث ابن عباس يرفعه: "لا يمين في غَضَبٍ، ولا عتاق فيما لا يملك" (¬8) وهو وإن لم يثبت رفعه ¬
فهو قول ابن عباس، وقد فسَّر الشافعي (¬1): "لا طلاق في إغلاق" بالغضب، وفسره به مسروق؛ فهذا مسروق والشافعي وأحمد وأبو داود والقاضي إسماعيل، كلهم فسروا الإغلاق بالغضب وهو من أحسن التفسير؛ لأن الغَضبَان قد أُغْلِقَ عليه بابُ القصد لشدة غضبه (¬2)، وهو كالمُكْره، بل الغضبان أولى بالإغلاق من المُكْرَه؛ لأن المكره قد قصد رفع الشر الكثير بالشر القليل الذي هو دونه، فهو قاصد حقيقة، ومن [ها] (¬3) هنا أوقع عليه الطلاقَ مَنْ أوقعه، وأما الغَضْبَان فإن انغلاق باب القصد والعلم عنه كانغلاقه عن السكران والمجنون، فإن الغضب غُول العقل يغتاله [كما يغتاله] (¬4) الخمر، بل أشد، وهو شعبة من الجنون، ولا يشك فقيهُ النفسِ في أن هذا لا يقع طَلَاقُه؛ ولهذا قال حَبْر الأمة الذي دعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالفقه (¬5) في الدين: "إنما الطلاق عن وَطَر"، ذكره البخاري في ¬
[يمين اللغو بالله وبالطلاق]
"صحيحه" (¬1)، أي عن غَرَض من المطلِّقِ في وقوعه، وهذا من كمال فقهه -رضي اللَّه عنه- وإجابة اللَّه دعاء رسوله له، إذ (¬2) الألفاظ إنما يترتب عليها موجباتها لقصد اللافظ بها (¬3). [يمين اللغو باللَّه وبالطلاق] ولهذا لم يؤاخذنا اللَّه باللَّغْو في أيماننا، ومن اللغو ما قالته أم المؤمنين عائشة وجمهور السلف [أنه قول الحالف]: لا واللَّه، وبلى واللَّه، في عرض كلامه من غير عقد اليمين (¬4)، وكذلك لا يؤاخذ اللَّه باللغو في أيمان الطلاق، كقول الحالف في عرض كلامه: عليّ الطلاق لا أفعل، والطلاق يلزمني لا أفعل، من غير قصد لعقد اليمين، بل إذا كان اسم الرب جل جلاله لا ينعقد به يمين اللغو فيمينُ الطلاقِ أولى ألا ينعقد ولا يكون أعظم حرمة من الحلف باللَّه، وهذا أحد القولين من مذهب أحمد، وهو الصواب (¬5)، وتخريجه على نص أحمد صحيحٌ؛ فإنه نَصَّ على اعتبار الاستثناء في يمين الطلاق أنها عنده يمين، ونص على أن اللغو أن يقول: لا واللَّه، وبلى واللَّه، من غير قصد لعقد اليمين، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه يَنْهَاكم أن تحلفوا بآبائكم" (¬6) وصح عنه أنه قال: "أفْلَحَ وأبيه إن صدق" (¬7) ولا تعارُض بينهما، ¬
ولم يعقد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اليمين بغير اللَّه قط، وقد قال حمزة للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، هل أنتم إلا عبيد لأبي (¬1)، وكان نَشْوانًا (¬2) من الخمر، فلم يكفّره بذلك، وكذلك الصحابي الذي قرأ: "قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون" (¬3) وكان ذلك قبل ¬
[التحذير من إهمال قصد المتكلم]
تحريم الخمر، ولم يُعدّ بذلك كافرًا، لعدم القَصْد وجَرَيَان اللفظ على اللسان من غير إرادة لمعناه (¬1). [التحذير من إهمال قصد المتكلم] فإياك أن تهمل قصد المتكلم (¬2) ونيته وعرفه، فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه، وتُلزم الحالف والمُقِرَّ والناذر والعاقد ما لم يُلْزِمْهُ اللَّه ورسولهُ به، ففقيه النفس يقول: ما أردتَ، ونصف الفقيه يقول: ما قلتَ؛ فاللغو في الأقوال نظير الخطأ والنسيان في الأفعال، وقد رفع اللَّه المؤاخذة بهذا وهذا كما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فقال ربهم تبارك وتعالى: قد فعلتُ (¬3). فصل [اليمين بالطلاق وتعليق الطلاق على الشرط] ومن هذا الباب اليمينُ بالطلاق والعتاق، فإن إلزام الحالف بهما إذا حنث بطلاق زوجته وعِتْق عبده مما حدث الإفتاء به بعد انقراض عصر الصحابة، فلا يحفظ عن صحابي في صيغة القسم إلزام الطلاق به أبدًا. ¬
[الطلاق بصيغة الشرط]
[الطلاق بصيغة الشرط] وإنما المحفوظُ إلزام الطلاقِ بصيغة الشرط والجزاء الذي قُصد به الطلاق عند وجود الشرط كما في "صحيح البخاري" عن نافع قال: طَلَّقٌ رجلٌ امرأتَه البتة إن خَرَجَت، فقال ابن عمر: إنْ خَرجَتْ فقد بانت منه، وإن لم تخرج فليس بشيء (¬1)، فهذا لا ينازع فيه إلا مَنْ يمنع وقوع الطلاق المعلَّق بالشرط مطلقًا. [صور لوقوع الطلاق المعلَّق] وأما مَنْ يفصِلُ بين القَسَم المحض والتعليق الذي يقصد به الوقوع فإنه يقول بالآثار المروية عن الصحابة كلها في هذا الباب؛ فإنهم صح عنهم الإفتاء بالوقوع في صُوَر، وصح عنهم عدم الوقوع في صور، والصواب ما أفتوا به في النوعين، ولا يُؤخذ ببعض فتاويهم ويترك بعضها، فأما الوقوع فالمحفوظُ عنهم ما ذكره البخاري عن ابن عمر (¬2) وما رواه الثوري، عن الزبير بن عَدي، عن إبراهيم، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- في رجل قال لامرأته: إن فَعَلتْ كذا وكذا فهي طالق، ففعلته، قال: هي واحدة، وهو أحق بها (¬3)، على أنه منقطع، وكذلك ما ذكره البيهقي وغيره عن ابن عباس في رجل قال لامرأته: هي طالق إلى سَنَة، قال: يستمتع بها إلى سنة (¬4)، ومن هذا قول أبي ذر لامرأته وقد ألحَّت عليه في سؤاله عن ليلة ¬
[إلحاف أبي ذر في السؤال عن ليلة القدر وغضب النبي -صلى الله عليه وسلم-]
القدر، فقال: إن عُدْتِ سألتِني فأنتِ طالق (¬1). [إلحاف أبي ذر في السؤال عن ليلة القدر وغضب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] وهاهنا نكتة لطيفة يحسن التنبيه عليها، وهي أن أبا ذر سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ليلة القدر وألحَّ عليه، حتى قال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في آخر مسائلته: "الْتَمِسُوهَا في العَشْرِ الأواخر، ولا تسألني عن شيء بعد هذا" ثم حدَّث النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وحدَّث، قال: فاهْتَبَلْتُ غفلته فقلت: أقسمتُ عليك يا رسول اللَّه بحقّي عليك (¬2) لتحدثني في أي العشر هي، قال: فغضب عليَّ غضبًا ما غضب عليَّ من قبل ولا من بعد، ثم قال: "التمسوها في السبع الأواخر، ولا تسألني عن شيء بعد" (¬3)، ذكره النسائي والبيهقي. ¬
[إلحاف امرأة أبي ذر عليه وإيعاده لها بالطلاق]
[إلحاف امرأة أبي ذر عليه وإيعاده لها بالطلاق] فأصاب أبا ذر من امرأته وإلحاحها عليه ما أوجب غضبه وقال: إن عُدْت سألتِني فأنتِ طالق. فهذه جميع الآثار المحفوظة عن الصحابة في وقوع الطلاق المعلَّق. [صور لم يقع فيها الحلف بالطلاق والعتاق] وأما الآثار عنهم في خلافه فصح عن عائشة، وابن عباس، وحَفْصَة، وأم سلمة فيمن حَلَفَتْ بأنَّ كل مملوك لها حر إن لم تفرق بين عبدها وبين امرأته، أنها تُكَفِّرُ عن يمينها [ولا تفرق بينهما] (¬1)، قال الأثرم في "سننه": ثنا عَارِم بن الفضل: ثنا مُعْتمر (¬2) بن سليمان قال: قال [لي] (¬3) أبي: ثنا بكر بن عبد اللَّه قال: أخبرني أبو رافع قال: قالت مولاتي ليلى بنت العجماء: كلُّ مملوكٍ لها حر (¬4)، وكلُّ مال لها هَدْيٌ، وهي يهودية وهي نصرانية (¬5) إن لم تطلق امرأتَكَ أو تفرِّق بينك وبين امرأتك، قال: فأتيتُ زينب بنت أم سلمة، وكانت إذا ذُكرت امرأة بالمدينة فقيهة ذُكرت زينب، قال: فأتيتها فجاءت معي إليها فقالت: في البيت هاروت وماروت: فقالت: يا زينب، جعلني اللَّه فداك إنها قالت: إن كل مملوك لها حر (4) وكل مال لها هدي، وهي يهودية وهي نصرانية (5)، فقالت: يهودية ونصرانية خلِّي (¬6) بين الرجل وامرأته، فأتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلَتْ إليها فأتتها فقالت: يا أم المؤمنين جعلني اللَّه فداك إنها قالت: كلُّ مملوك لها حر (4)، وكل مال لها هَدْي، وهي يهودية ونصرانية، فقالت: يهودية ونصرانية، خلِّي (6) بين الرجل وامرأته، قالت: فأتيت عبد اللَّه بن عمر، فجاء معي إليها، فقام معي على ¬
الباب (¬1) فسلَّم، فقالت: بأبي أنت وبآبائي أبوك! (¬2)، فقال: أَمِن حجارة أنت أم من حديد أنت أم (¬3) أي شيء أنت؟ أفتَتْكِ زينبُ وأفتتك أم المؤمنين فلم تقبلي فتياهما، فقالت: يا أبا عبد الرحمن جعلَني اللَّه فداك، إنها قالت: كل مملوك لها حر، وكل مال لها هَدْي، وهي يهودية وهي نصرانية، فقال: يهودية ونصرانية كَفِّرِي عن يمينك، وخلي بين الرجل وامرأته (¬4). وقال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في "المترجم" له: ثنا صفوان بن صالح: ثنا عمر بن عبد الواحد، عن الأوزاعي قال: حدثني حسن بن الحسن، قال: حدثني بكر بن عبد اللَّه المزني قال: حدثني رُفيع قال: كنت أنا وامرأتي مملوكين لامرأة من الأنصار، فحلفت بالهَدْي والعَتَاقة أن تفرق بيننا، فأتيت امرأة من أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فذكرت لها ذلك، فأرسلت إليها أنْ كَفِّرِي عن يمينك، فأبَتْ، ثم أتيت زينب وأم سلمة، فذكرتُ ذلك لهما، فأرسلتا إليها (¬5) أن كفِّري عن يمينك، [فأبت] (¬6)، فأتيت ابن عمر، [فذكرت ذلك له، فأرسل إليها ابن عمر: أنْ كَفِّرِي عن يمينك، فأبت، فقام ابن عمر] (¬7) فأتاها فقال: أَرْسَلتْ إليك فلانة زوج (¬8) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وزينب أن تكفري عن يمينك فأبيت، قالت: يا أبا ¬
عبد الرحمن إني حلفت بالهَدْي والعَتَاقة، قال: وإن كنتِ قد حلفتِ بهما (¬1). وقال الدارقطني: ثنا أبو بكر النيسابوري: ثنا محمد بن يحيى: [ثنا محمد بن] (¬2) عبد اللَّه الأنصاري: ثنا أشعث: ثنا بكر بن عبد اللَّه المُزَنيّ، عن أبي رافع أن مولاة له أرادت أن تفرِّق بينه وبين امرأته فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر [وكل مال لها في سبيل اللَّه، وعليها المشي إلى بيت اللَّه] إنْ لم تفرّق بينهما، فسألت عائشة [وابن عمر] وابن عباس وحفصة وأم سلمة -رضي اللَّه عنهم-، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكوني (¬3) مثل هاروت وماروت؟ فأمروها أن تكفِّر عن يمينها وتخلي بينهما (¬4). وقد رواه البيهقي من طريق الأنصاري: ثنا أشعث: ثنا بكر، عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرّق بينه وبين امرأته، فقالت: هي يومًا يهودية ويومًا نصرانية وكل مملوك لها حر وكل مال لها في سبيل اللَّه وعليها المشي إلى بيت اللَّه إن لم تفرِّق بينهما، فسألت عائشة، وابن عمر، وابن عباس، وحفصة، وأم سلمة، فكلهم قالوا لها: أتريدين أن تكوني (3) مثل هاروت وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلِّي بينهما (¬5). رواه روح (¬6) والأنصاري واللفظ له، وحديث روح مختصر، وقال النَّضر بن شُميل: ثنا أشعث، عن بكر بن عبد اللَّه، عن أبي ¬
[قاعدة الإمام أحمد تفرض عليه الأخذ بهذا الأثر]
رافع، عن ابن عمر (¬1) وعائشة وأم سلمة في هذه القصة قالوا: تكفِّر يمينها (¬2). وقال يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي: ثنا بكر بن عبد اللَّه عن أبي رافع أن ليلى بنت العجماء مولاته قالت: هي يهودية، وهي نصرانية، وكل مملوك لها حر (¬3)، وكل مال لها هَدْي إن لم يطلِّق امرأته إن لم تفرق بينهما، فذكر القصة، وقال: فأتيت ابن عمر فجاء معي فقام بالباب، فلما سلَّم قالت: بأبي أنت وأبوك، فقال (¬4): أَمِن حجارة أنت أم من حديد؟ أتتك زينب وأرسلت إليك حفصة، قالت: قد حلفت بكذا وكذا، قال: كفِّري عن يمينك وخَلِّي بين الرجل وامرأته (¬5). فقد تبين بسياق هذه الطرق انتفاء العلة التي أعلَّ بها حديث ليلى هذا، وهي تفرد التيمي فيه بذكر العتق، كذا قال الإمام أحمد: "لم يقل: وكل مملوك لها حر إلا التيمي" وبرئ التيمي من عُهْدَة التفرد. [قاعدة الإمام أحمد تفرض عليه الأخذ بهذا الأثر] وقاعدة الإمام أحمد أن ما أفتى به الصحابة لا يخرج عنه إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه (¬6)؛ فعلى أصله الذي بَنَى مذهبه عليه يلزمه القولُ بهذا الأثر لصحته وانتفاء علته. ¬
[شبهة علة للأثر ودفعها]
[شبهة علّة للأثر ودفعها] فإن قيل: للحديث علة أخرى، وهي التي منعت الإمام أحمد من القول به، وقد أشار إليها في رواية الأثرم، فقال الأثرم: سمعت أبا عبد اللَّه يقول في حديث ليلى بنت العجماء حين حلفتْ بكذا وكذا وكل مملوك لها حرٌّ، فأُفتيت بكفارة يمين، فاحتج بحديث ابن عمر وابن عباس حين أفْتَيا فيمن حلف بعتق جاريته وأَيمان فقال: أما الجارية فتُعتق. قلت: يريد [بهما] (¬1) ما رواه معمر، عن إسماعيل بن أمية، عن عثمان بن أبي حَاضِر، قال: حلفتِ امرأة من آل ذي أصبح فقالت: مالُهَا في سبيل اللَّه وجاريتها حرة إن لم تفعل كذا وكذا، لشيء يكرهه زوجها، فحلف زوجها أن لا تفعله، فسأل عن ذلك ابن عباس وابن عمر، فقالا (¬2): أما الجارية فتعتق، وأما قولها: "مالي في سبيل اللَّه" فتتصدق بزكاة مالها (¬3)، فقيل: لا رَيْبَ أنه قد روي عن ابن عمر وابن عباس ذلك، ولكنه أثر معلول تفرد به عثمان هذا، وحديث ليلى بنت العجماء أشهر إسنادًا وأصح من حديث عثمان، فإن رُوَاته حفاظ أئمة، وقد خالفوا عثمان، وأما ابنُ عباس فقد رُوي عنه خلاف ما رواه عثمان فيمن حلف بصدقة ماله، قال: يكفر يمينه (¬4)، وغاية هذا الأثر إنْ صَحَّ أن يكون عن ابن عمر روايتان، ولم يُختلف على عائشة وزينب وحفصة وأم سلمة، قال أبو محمد بن حزم (¬5): "وصح عن عائشة (¬6) وأم سلمة أُمَّي المؤمنين وعن ابن عمر أنهم جعلوا (¬7) في قول ليلى بنت العجماء: "كل مملوك لها حر وكل مال لها هدي وهي يهودية ونصرانية إن لم تطلق امرأتك" كَفارة يمين واحدة" (¬8). ¬
في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه
فإذا صح هذا عن الصحابة ولم يعلم لهم مخالف سوى هذا الأثر المعلول أثر عثمان بن حاضر (¬1) في قول الحالف: عَبْده حر إن فعل، أنه يجزيه كفارة يمين، وان لم يلزموه بالعتق المحبوب إلى اللَّه تعالى فأن لا يلزموه بالطلاق البغيض إلى اللَّه أولى وأحرى، كيف وقد أفتى [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب [-عليه السلام-] الحالفَ بالطلاق أنه لا شيء عليه (¬2)، ولم يُعرف له في الصحابة مخالف؟ قال (¬3) عبد العزيز بن إبراهيم بن أحمد بن علي التميمي المعروف بابن بزيزة في "شرحه لأحكام عبد الحق": الباب الثالث: في حكم اليمين بالطلاق أو الشك فيه وقد قدمنا في كتاب الأيمان اختلافَ العلماء في اليمين بالطلاق والعتق والمَشْي وغير ذلك، هل يلزم أم لا؟ فقال [أمير المؤمنين] (¬4) علي أكرم اللَّه وجهه، (¬5) وشريح وطاوس: "لا يلزم من ذلك شيء، ولا يُقضى بالطلاق على مَنْ حلف به بحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة" هذا لفظه بعينه، فهذه فتوى أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الحلف بالعتق والطلاق، وقد قدمنا فتواهم (¬6) في وقوع الطلاق المعلَّق بالشرط، ولا تعارض بين ذلك. [لم يقصد الحالف وقوع الطلاق ولهذا لم يحكم بوقوعه] فإن الحالف لم يقصد وقوع الطلاق، وإنما قصد منع نفسه بالحلف مما لا يريد وقوعه (¬7)، فهو كما لو خَصَّ (¬8) منع نفسه بالتزام التطليق والإعتاق والحج والصوم وصدقة المال، وكما لو قصد منع نفسه بالتزام ما يكرهه من الكفر، فإن كراهته لذلك كله وإخراجه مخْرَجَ اليمين بما لا يريد وقوعه منع من ثبوت حكمه، وهذه علة صحيحة فيجب طَرْدُها في الحلف بالعتق والطلاق إذ لا فرق البتة، ¬
والعلة متى تخصصت بدون فوات شرط أو وجود مانع دل ذلك على فسادها، كيف والمعنى الذي منع لزوم الحج والصدقة والصوم بل لزوم الإعتاق والتطليق بل لزوم اليهودية والنصرانية هو في الحلف بالطلاق أولى؟ أما العبادات المالية والبدنية فإذا منع لزومها قصد اليمين وعدم وقوعها فالطلاق أولى، وكل ما يقال في الطلاق فهو بعينه في صُوَر الإلزام سواء بسواء، وأما الحلف بالتزام التطليق والإعتاق فإذا كان قَصْدُ اليمين قد مَنعَ ثلاثة أشياء وهي: وجوب التطليق، وفعله، وحصول أثره، وهو الطلاق، فَلأن يقوى على منع واحد من الثلاثة وهو وقوع الطلاق وحده أولى وأحرى، وأما الحلف بالتزام الكفر الذي يحصل بالنية تارة وبالفعل تارة وبالقول تارة وبالشك تارة ومع هذا فقصد اليمين منع من وقوعه، فَلأَن يمنع من وقوع الطلاق أولى وأحرى، وإذا كان العتق الذي هو أحب الأشياء إلى اللَّه ويَسْرِي في ملك الغير وله من القوة وسرعة النفوذ ما ليس لغيره ويحصل بالملك والفعل قد منع قصد اليمين من وقوعه كما أفتى به الصحابة فالطلاق أولى وأحرى بعدم الوقوع، وإذا كانت اليمين بالطلاق قد دخلت في قول المكلف: "أَيْمان المسلمين تلزمني" عند من ألزمه (¬1) بالطلاق فدخولها في قول رب العالمين: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أولى وأحرى، وإذا دخلت في قول الحالف: "إن حلفتُ يمينًا فعبدي حر" فدخولها في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفِّر عن يمينه ولْيَأْتِ الذي هو خير" (¬2) أولى وأحرى، وإذا دخلت (¬3) في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ حَلَفَ فقال: إن شاء اللَّه فإن شاء فَعَل وإن شاء تَرَك" (¬4) فدخولها في قوله: "مَنْ حَلَفَ على يمين فرأى ¬
غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفِّر عن يمينه" (¬1) [أولى وأحرى] (¬2) فإن الحديث أصح وأصرح، وإذا دخلت في قوله: "مَنْ حَلَف على يمين فاجرة يقتطع بها مال امرئ مُسْلم لقي اللَّه وهو عليه غضبان" (¬3) فدخولها في قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] أولى [وأحرى] (¬4) بالدخول أو مثله، وإذا دخلت في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] فلو (¬5) حلف بالطلاق كان مُوليًا فدخولها في نصوص الأَيْمان أولى وأحرى لأن الإيلاء نوعٌ من اليمين، فإذا دخل الحلف بالطلاق (¬6) في النوع فدخوله في الجنس سابق عليه، فإن النوع مستلزم الجنس، ولا ينعكس، وإذا دخلت في قوله: "يمينُك على ما يصدِّقك به صاحبك" (¬7) فكيف لا تدخل (¬8) في بقية نصوص الأيمان؟ وما الذي أوجَب هذا التخصيص من غير مخصص؟ وإذا دخلت في قوله: "إيَّاكم وكثرة الحَلِف في البيع فإنه يُنفقُ ثم يمحق" (¬9) فهلّا دخلت في غيره من نصوص اليمين؟ وما الفرق المؤثر ¬
[يمين الطلاق باطلة لا يلزم بها شيء]
شرعًا أو عقلًا أو لغة؟ وإذا دخلت في قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] فهلا دخلت في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وإذا دخلت في قول الحالف: "أيمان البيعة تلزمني" وهي الأيمان التي رتّبها الحَجّاج فلِمَ لا تكون أولى بالدخول في لفظ الأيمان في كلام اللَّه تعالى ورسوله؟ فإن كانت يمين الطلاق يمينًا شرعية بمعنى أن الشرع اعتبرها وجَبَ أن تُعطى حكم الأيمان. [يمين الطلاق باطلة لا يلزم بها شيء] وإن لم تكن يمينًا شرعية كانت باطلة في الشرع (¬1)، فلا (¬2) يلزم الحالفَ بها شيء كما صح عن طاوس من رواية عبد الرزاق (¬3)، عن معمر، عن ابن طاوس، عنه: "ليس الحلف بالطلاق شيئًا" وصح عن عكرمة من رواية سنيد بن داود [بن علي] (¬4) في "تفسيره" عنه "أنها من خُطُوَات الشيطان لا يلزم بها شيء"، وصح عن شُرَيْح (¬5) قاضي [أمير المؤمنين] (¬6) علي وابن مسعود أنها لا يلزم بها طلاق، وهو مذهب داود بن علي وجميع أصحابه (¬7)، وهو قول بعض أصحاب مالك في بعض الصور فيما (¬8) إذا حلف عليها بالطلاق على شيء لا تفعله هي كقوله: إنْ كلَّمتِ فلانًا فأنت طالق، فقال: لا تطلق إن كلَّمته؛ لأن الطلاق لا يكون بيدها إنْ شاءتْ طلقت وإنْ شاءت أُمسكت (¬9). [من قال: الطلاق يلزمني لا أفعل] وهو قول بعض الشافعية في بعض الصور، كقوله: الطلاق يلزمني أو لازم لي لا أفعل كذا وكذا، فإن لهم فيه ثلاثة أوجه: ¬
أحدها: أنه إن نوى وقوع الطلاق بذلك لزمه، وإلا فلا يلزمه، وجعله هؤلاء كناية، والطلاق يقع بالكناية مع النية. الوجه الثاني: أنه صريح، فلا يحتاج إلى نية (¬1)، وهذا اختيار الروياني، ووجهه أن هذا اللفظ قد غلب في إرادة الطلاق فلا يحتاج إلى نية. الوجه الثالث: أنه ليس بصريح ولا كناية، ولا يقع به طلاق وإن نواه، وهذا اختيار القَفَّال في "فتاويه"، ووجهه أن الطلاق لا بد فيه من إضافته إلى المرأة كقوله: أنت طالق، أو طلّقتك، أو قد طلقتك (¬2)، أو يقول: امرأتي طالق، أو فلانة طالق، ونحو هذا، ولم توجد هذه الإضافة في قوله: الطلاق يلزمني، ولهذا قال ابن عباس فيمن قال لامرأته: طلِّقي نفسك، فقالت: أنت طالق، فإنه لا يقع بذلك طلاق (¬3)، وقال؛ خطَّأ اللَّه نَوْأها (¬4)، وتبعَهُ على ذلك الأئمة، فإذا قال: " [الطلاق] (¬5) يلزمني" لم يكن لازمًا به إلا أن يضيفه إلى محله، ولم يضفه فلا يقع، والمُوقِعون يقولون: إذا التزمه فقد لزمه، ومِنْ ضرورة لزومه إضافته إلى المحل، فجاءت [الإضافة من] (5) ضرورة اللزوم، ولمن نَصَر قولَ القَفَّال أن يقول (¬6): إما أن يكون قائل هذا اللفظ قد التزم التطليق أو وقوع الطلاق الذي هو أثره، فإن كان الأول لم يلزمه لأنه نَذَر أن يُطلِّق، ولا تطلق المرأة بذلك، وإن كان قد التزم الوقوع فالتزامه بدون سبب الوقوع ممتنع، وقوله: "الطلاق يلزمني" التزامٌ لحكمه عند وقوع سببه، وهذا حق، فأين في هذا اللفظ وجود سبب الطلاق؟ وقوله: "الطلاق يلزمني" لا يصلح أن يكون سببًا، إذا (¬7) لم يضفْ فيه الطلاق إلى محله بوجه، ونظيرُ هذا أن يقول له: بعني أو أجِّرني (¬8)، فيقول: البيع ¬
[محل الطلاق الزوجة]
يلزمني، أو الإجارة تلزمني، فإنه لا يكون بذلك مُوجِبًا لعقد البيع أو الإجارة، حتى يُضيفهما إلى محلهما، وكذلك لو قال: "الظهار يلزمني" لم يكن بذلك مُظاهرًا حتى يضيفه إلى محله [فهو كما لو قال: "العتق يلزمني"، ولم يضف فيه العتق إلى محله] (¬1)، وهذا بخلاف ما لو قال: "الصومُ يلزمني، أو الحج، أو الصدقة" فإن محله الذمة وقد أضافه إليها. فإن قيل: وهاهنا محل الطلاق والعتاق الذمة. [محل الطلاق الزوجة] قيل: هذا غلط، بل محل الطلاق والعتاق نفس الزوجة والعبد، وإنما الذمة محل وجوب ذلك وهو التطليق والإعتاق، وحينئذٍ فيعود الالتزام إلى التطليق والإعتاق، وذلك لا يوجب الوقوع، والذي يوضح هذا أنه لو قال: "أنا منك طالق" لم تطلق بذلك لإضافة الطلاق إلى غير محله، وقيل: تطلق إذا (¬2) نوى طلاقَهَا هي بذلك، تنزيلًا لهذا اللفظ منزلة الكنايات (¬3)، فهذا كشف سر هذه المسألة، وممن ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو القاسم بن يونس في "شرح التنبيه" (¬4)، وأكثر أَيْمان الطلاق بهذه الصيغة، فكيف يحل لمن يؤمن بأنه موقوف بين يديّ اللَّه ومسئول أن يُكَفِّرَ أو يجهِّل من يفتي بهذه المسألة (¬5) ويسعى في قتله وحبسه ويلبِّس على الملوك والأمراء والعامة أن المسألة مسألة إجماع، ولم يخالف فيها أحد من المسلمين، وهذه أقوال أئمة المسلمين من الصحابة [والتابعين] (¬6) ومَنْ بعدهم؟ وقد علم اللَّه ورسوله وملائكته وعباده أن هذه المسألة لم تُرَدَّ بغير الشكاوى إلى ¬
فصل [لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ]
الملوك، ودعوى الإجماع الكاذب، واللَّه المستعان، وهو عند كل لسان (¬1) قائل: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)} [التوبة: 105]. فصل [لا بد من اعتبار النية والمقاصد في الألفاظ] وهذا الذي قلناه من اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدًا لها مُرِيدًا لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصدًا للتكلم باللفظ مريدًا له، فلا بد من إرادتين: إرادة التكلم باللفظ اختيارًا. وإرادة موجبه ومقتضاه، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصودُ واللفظ وسيلَةٌ، هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام (¬2)، وقال مالك (¬3) وأحمد (¬4) فيمن قال: "أنتِ طالق البتَّة" وهو يريد أن يحلف على شيء ثم بَدَا له فترَكَ اليمينَ: لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يرد أن يطلقها، وكذلك قال أصحاب أحمد، وقال أبو حنيفة (¬5): مَنْ أراد أن يقول كلامًا فسبق لسانُه فقال: "أنت حُرَّة" لم تكن بذلك حرة، وقال أصحاب أحمد (¬6): لو قال الأعجمي لامرأته: أنت طالق وهو لا يفهم معنى هذه اللفظة لم تطلق؛ لأنه ليس مختارًا للطلاق، فلم يقع طلاقه كالمكره، قالوا: فلو نرى مُوجبه عند أهل العربية لم يقع أيضًا؛ لأنه لا يصح منه اختيار ما لا يعلمه، وكذلك لو نطق بكلمة الكفر مَنْ لا يعلم معناها لم ¬
[لا يلتزم المخطئ والمكره بما أخطأ فيه وكره عليه من الأيمان والعقود]
يكفر، وفي "مصنف وكيع" أنَّ عمر بن الخطاب قضى في امرأة قالت لزوجها سَمِّني فسماها الظبية (¬1)، فقالت: لا، فقال لها: ما تريدين أن أسميك؟ قالت: سمّني خليّة طالق، فقال لها (¬2): فأنت خلية طالق (¬3)، فأتت عمر بن الخطاب، فقالت: إن زوجي طلَّقني، فجاء زوجها فقصَّ عليه القصة، فأوجع عمر رأسَهَا، وقال لزوجها: خذ بيدها وأوْجِعْ رأسها (¬4). وهذا هو الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بغير استئذان، وإن تلفَّظ بصريح الطلاق. [لا يلتزم المخطئ والمكره بما أخطأ فيه وكره عليه من الأَيْمان والعقود] وقد تقدم أن الذي قال لما وجد راحلته: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" أخطأ من شدة الفرح (¬5)، لم يكفر بذلك وإن أتى بصريح الكفر، لكونه لم يُردْه، والمكره على كلمة الكفر أتى بصريح كلمته ولم يكفر لعدم إرادته. [التزام المستهزئ والهازل] بخلاف المستهزئ والهازل، فإنه يلزمه الطلاق والكفر وإن كان هازلًا لأنه ¬
فصل [تعليق الطلاق بشرط مضمر]
قاصد للتكلم باللفظ وهَزْله لا يكون عذرًا له، بخلاف المكره والمخطئ والناسي فإنه معذور مأمور بما يقوله أو مأذون له فيه، والهازل غير مأذون له في الهزل بكلمة الكفر والعقود؛ فهو متكلم باللفظ مريد له ولم يصرفه عن معناه إكراه ولا خطأ ولا نسيان ولا جهل، والهَزَل لم يجعله اللَّه ورسوله عذرًا صارفًا، بل صاحبه أحق بالعقوبة، ألا ترى أن اللَّه تعالى عَذَرَ المكره في تكلمه بكلمة الكفر إذا كان قلبه مطمئنًا بالإيمان، ولم يعذر الهازل بل قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65، 66] وكذلك (¬1) رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي. فصل [تعليق الطلاق بشرط مضمر] ومن ذلك أنه لو قال: "أنت طالق" وقال: أردتُ إنْ كَلَّمتِ رجلًا أو خرجت من داري، لم يقع به الطلاق في أحد الوجهين لأصحاب أحمد والشافعي، وكذلك لو قال: أردت إنْ شاء اللَّه، ففيه وجهان لهم، ونص الشافعي فيما لو قال: "إن كَلَّمَتُ زيدًا فأنت طالق" ثم قال: أردت به إلى شهر، فكلَّمه بعد شهر، لم تطلق باطنًا، ولا فرق بين هذه الصورة والصورتين اللتين قبلها، فإن التقييد بالغاية المنوية كالتقييد بالمشيئة المنوية، وهو أولى بالجواز من تخصيص العام بالنية، كما إذا قال: "نسائي طَوَالق" واستثنى بقلبه واحدة منهن، فإنه إذا صح الاستثناء بالنية في إخراج ما يتناوله (¬2) اللفظ صح التقييد (¬3) بالنية بطريق الأولى؛ فإن اللفظ لا دلالة له بوضعه على عموم الأحوال والأزمان، ولو دل عليها بعمومه فإخراجُ بعضها تخصيصٌ للعام، وهذا ظاهر جدًا، وغايته استعمالُ العام في الخاص أو المُطْلَق في المقيد، وذلك غير بِدْع لغة وشرعًا وعرفًا، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما معاويةُ فصعلوكٌ لا مالَ له، وأما أبو الجهم فلا يَضَعُ عصاه عن عاتقه" (¬4) فالصواب قبول مثل هذا فيما بينه وبين اللَّه وفي الحكم أيضًا. ¬
فصل [للحلف بالطلاق وبالحرام صيغتان]
فصل [للحلف بالطلاق وبالحرام صيغتان] قد عرف أن الحلف بالطلاق له صيغتان: إحداهما: إن فَعلتِ كذا [وكذا] (¬1) فأنتِ طالقٌ. والثانية: الطلاق يلزمني لا أفعل كذا، وأن الخلاف في الصيغتين قديمًا وحديثًا. وهكذا الحلف بالحرام له صيغتان: إحداهما: إن فَعلتِ كذا فأنت عليّ حرام، أو ما أحلَّ اللَّه عليّ حرام. والثانية: الحرام يلزمني لا أفعل كذا. [حكم الحلف بالحرام] فمن قال في: "الطَّلاقُ يلزمني" إنه ليس بصريح ولا كناية ولا يقع به شيء، ففي قوله: "الحرام يلزمني" أولى، ومن قال: إنه كناية إنْ نَوَى به الطلاق كان طلاقًا وإلا فلا، فهكذا يقول في: "الحرام يلزمني" إن نوى به التحريم كان كما لو نوى بالطلاق التطليق، فكأنه التزم أن يُحرّم كما التزم ذلك أن يُطلِّق، فهذا التزامٌ للتحريم وذاك التزام للتطليق، وإن نوى به ما حرم اللَّه عليّ يلزمني تحريمه لم يكن يمينًا ولا تحريمًا ولا طلاقًا ولا ظِهارًا، ولا يجوز أن يُفرَّق بين المسلم وبين امرأته بغير لفظ (¬2) لم يوضع للطلاق ولا نواه، وتلزمه كفارة يمين حرمة لشدة اليمين، إذ ليست كالحلف بالمخلوق التي لا تنعقد ولا هي من لغو اليمين وهي يمينٌ منعقدةٌ ففيها كفارة يمين. وبهذا أفتى ابنُ عباس ورَفَعه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فصح عنه بأصح إسناد: "الحرام يمين يكفرها" (¬3) ثم قال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. ¬
[مذهب الأئمة فيمن قال لامرأته: أنت حرام]
وهكذا حكم قوله: "إن فعلتِ كذا فأنت عليّ حرَّام" وهذا أولى بكفارة يمين من قوله: "أنت عليّ حرام". [مذهب الأئمة فيمن قال لامرأته: أنت حرام] وفي قوله: "أنت عليّ حرام" أو: "ما أحل اللَّه عليّ حرام" أو: "أنت عليّ حرام كالميتة والدم ولحم الخنزير" مذاهب: أحدهما: أنه لغوٌ وباطل لا يترتب عليه شيء، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وبه قال مسروق، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعطاء (¬1)، والشعبي، وداود، وجميع أهل الظاهر (¬2)، وأكثر أصحاب الحديث، وهو أحد قَوْلي المالكية اختاره أصبغ بن الفرج (¬3). [تحريم الزوج للمرأة ليس بشيءٍ] وفي "الصحيح" عن سعيد بن جبير أنه سمع ابن عباس يقول: إذا حرَّم امرأته فليس بشيء، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (¬4) [الأحزاب: 21]، وصح عن مسروق أنه قال: ما أبالي أحرَّمتُ امرأتي أو (¬5) قَصْعَة من ثريد (¬6)، وصح عن الشعبي في تحريم المرأة: لهو أهونُ عليَّ من نَعْلي (¬7)، وقال أبو سلمة: ما أبالي أحرمت امرأتي أو حرَّمتُ ماء النهر (¬8). وقال الحجَّاج بن مِنْهَال: [نا همام بن يحيى: أنا قتادة] (¬9): إن رجلًا جعل ¬
فصل [المذهب الثاني في مسألة تحريم المرأة]
امرأته عليه حرامًا، فسأل عن ذلك حُميد بن عبد الرحمن، فقال له [حميد] (¬1): قال اللَّه تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)} [الشرح: 7، 8] وأنت رجلٌ تلعب فاذهب فالعب (¬2). فصل [المذهب الثاني في مسألة تحريم المرأة] المذهب الثاني: أنها ثلاث تطليقات، وهو قول علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] (¬3) ¬
[المذهب الثالث وحجته]
وزيد بن ثابت (¬1) وابن عمر (¬2) والحسن البَصْري (¬3)، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (¬4)، وقضى فيها [أمير المؤمنين] عليٌّ بالثلاث في عَدي بن قيس (¬5) الكِلَابيّ وقال له: والذي نفسي بيده لئن مسستها قبل أن تتزوج غيرك لأرجمنَّك (¬6)، وحجة هذا القول أنها لا تحرم عليه إلا بالثلاث، فكان وقوع الثلاث من ضرورة كونها حرامًا عليه. [المذهب الثالث وحجته] المذهب الثالث: أنها بهذا القول حرام عليه، صح أيضًا عن أبي هريرة، والحسن، وخِلَاس بن عمرو، وجابر بن زيد، وقتادة (¬7)، ولم يذكر هؤلاء طلاقًا، ¬
[المذهب الرابع وحجته]
بل أمروه باجتنابها فقط. وصح ذلك [أيضًا] عن علي [عليه السلام] (¬1)، فإما أن يكون عنه روايتان، أو يكون أراد تحريم الثلاث، وحُجّة هذا القول أن لفظه إنما اقتضى التحريم ولم يتعرض لعددِ الطلاق؛ فحرمت عليه بمقتضى تحريمه. [المذهب الرابع وحجته] المذهب الرابع: الوقف فيها، صح ذلك عن [أمير المؤمنين] عليّ أيضًا، وهو قول الشعبي، قال: يقول رجال في "الحلال حَرَام ": إنها حَرَام حتى تنكح زوجًا غيره (¬2)، وينسبونه إلى عليّ، واللَّه ما قال ذلك عليّ، إنما قال: ما أنا بمُحِلِّها ولا بمحرِّمها (¬3) عليك، إنْ شئتَ فتقدم وإنْ شئت فتأخَّر (¬4). وحجة هؤلاء أن التحريم ليس بطلاق، وهو لا يملك تحريم الحلال، وإنما يملك إنشاء السبب الذي يحرم به وهو الطلاق، وهذا ليس بصريح في الطلاق، ولا هو مما ثبت له عرف الشرع في تحريم الزوجة، فاشتبه الأمر فيه. [المذهب الخامس وحجته] المذهب الخامس: إن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإلا فهو يمين، وهذا قول طاوس، والزهري، والشافعي، ورواية عن الحسن (¬5)، وحجة هذا القول أنه كناية في الطلاق، فإن نَوَاه (¬6) به كان طلاقًا، وإن لم ينوه كان يمينًا، لقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1 - 2] (¬7). [المذهب السادس وحجته] المذهب السادس: أنه إن نوى بها الثلاث فثلاث، وإن نوى واحدة فواحدة بائنة، وإن نوى يمينًا فهو يمين، وإن لم ينو شيئًا فهي كَذْبة لا شيء فيها. قاله سفيان (¬8)، وحكاه النخعي (¬9) عن أصحابه، وحجة هذا القول أن اللفظ يحتمل لما نواه من ذلك فيتبع نيته. ¬
[المذهب السابع وحجته]
[المذهب السابع وحجته] المذهب السابع: مثل هذا، إلا أنه إن لم ينو شيئًا فهو يمين يكفّرها، وهو قول الأوزاعي (¬1)، وحجة هذا القول ظاهرُ قولِهِ تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فإذا نوى به الطلاق لم يكن يمينًا، فإذا طلَّق ولم ينو الطلاق كان يمينًا. [المذهب الثامن والتاسع وحجته] المذهب الثامن: مثل هذا أيضًا، إلا أنه إن لم ينو شيئًا فواحدة بائنة إعمالًا للفظ التحريم. المذهب التاسع: أن فيه كفارة الظهار، وصح ذلك عن ابن عباس أيضًا (¬2)، وأبي قِلَابة (¬3)، وسعيد بن جبير، ووهب بن مُنبِّه، وعثمان البتّي (¬4)، وهو إحدى الروايات عن الإمام أحمد (¬5)، وحجة هذا القول أن اللَّه تعالى جعل تشبيه المرأة بأمِّه المحرمة عليه ظهارًا، وجعله منكرًا من القول وزورًا، فإذا كان التشبيه بالمحرمة يجعله مُظَاهرًا فإذا صرَّح بتحريمها كان أولى بالظهار. وهذا أَقْيَسُ الأقوال وأفقهُها، ويؤيده أن اللَّه لم يجعل للمكلَّف التحريم والتحليل، وإنما ذلك إليه تعالى، وإنما جعل له مباشرة الأفعال والأقوال التي يترتب عليها التحريم والتحليل؛ فالسبب إلى العبد، وحكمه إلى اللَّه تعالى، فإذا قال: "أنت عليَّ كظهر أمي" أو قال: "أنت عليَّ حَرَام"، فقد قال المنكَر من القول والزور، وكذَبَ، فإن اللَّه لم يجعلها كظهر أمه، ولا جعلها عليه حرامًا، فأوجب عليه بهذا القول من المنكر والزور أغلظ الكفارتين، وهي كفارة الظهار. ¬
[المذهب العاشر وحجته]
[المذهب العاشر وحجته] المذهب العاشر: أنها تطليقة واحدة، وهي إحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب (¬1)، وقول حماد بن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة (¬2)، وحجة هذا القول أن تطليق التحريم لا يقتضي التحريم بالثلاث (¬3)، بل يصدق بأقلّه، والواحدة متيقنة؛ فحمل اللفظ عليها لأنها اليقين؛ فهو نظير التحريم بانقضاء العدّة. [المذهب الحادي عشر وحجته] المدهب الحادي عشر: أنه ينوي ما أراده (¬4) من ذلك في إرادة أصل الطلاق وعَدَدِه، وإن نوى تحريمًا بغير طلاق فيمين مُكَفَّرة، وهو قول الشافعي (¬5)، وحجة هذا القول أن اللفظ صالح لذلك كله؛ فلا يتعين واحد منها إلا بالنية، فإن نوى تحريمًا مجردًا كان امتناعًا منها بالتحريم كامتناعه باليمين، ولا تحرم عليه في الموضعين. [المذهب الثاني عشر وحجته] المذهب الثاني عشر: أنه ينوي أيضًا في أصل الطلاق وعدده، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة، وإن لم ينو طلاقًا فهو مُولٍ (¬6)، وإن نوى الكذب فليس بشيء، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وحجة هذا القول احتمال اللفظ لما ذكره، إلا أنه إن نوى واحدة كانت بائنة، لاقتضاء التحريم للبينونة وهو صغرى وكبرى، والصغرى هي المتحققة فاعتبرت دون الكبرى، وعنه رواية أخرى إن نوى الكذب ¬
[المذهب الثالث عشر وحجته]
دُيِّنَ ولم يقبل في الحكم، بل يكون مُوليًا، ولا يكون مُظَاهِرًا عنده (¬1) نواه أو لم ينوه، ولو صرح به فقال: "أعني به الظهار" لم يكن مظاهرًا. [المذهب الثالث عشر وحجته] المذهب الثالث عشر: أنه يمين يكفّره ما يكفّر اليمين على كل حال، صح ذلك أيضًا عن أبي بكر الصدِّيق (¬2)، وعمر بن الخطاب (¬3)، وابن عباس (¬4)، وعائشة (¬5)، ¬
[المذهب الرابع عشر وحجته]
وزيد بن ثابت (¬1)، وابن مسعود (¬2)، وعبد اللَّه بن عمر (¬3)، وعكرمة (¬4)، وعطاء (¬5)، ومكحول، وقتادة، والحسن، والشعبي، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، وجابر بن زيد، وسعيد بن جبير، ونافع، والأوزاعي، وأبي ثور (¬6) وخلق سواهم، وحجة هذا القول ظاهرُ القرآنِ، فإن اللَّه تعالى ذكر فرض تحلَّة الأيمان عقب تحريم الحلال، فلا بد أن يتناوله يقينًا، فلا يجوز جعل تحلة الأيمان لغير المذكور قبلها ويخرج المذكور عن حكم التحلّة التي قصد ذكرها لأجله. [المذهب الرابع عشر وحجته] المذهب الرابع عشر: أنه يمين مغلظة يتعين فيها عتق رقبة، صح ذلك أيضًا عن ابن عباس (¬7)، وأبي بكر (¬8)،. . . . . ¬
[المذهب الخامس عشر وحجته]
وعمر (¬1)، وابن مسعود (¬2)، وجماعة من التابعين، وحجة هذا القول أنه لما كان يمينًا مغلظة غُلِّظت كفارتها بتحتم العتق، ووجهُ تغليظها تضمنُها تحريمَ ما أحل اللَّه وليس إلى العبد، وقولُ المنكر والزور إن أراد الخبر فهو كاذب في إخباره معتدٍ في إقسامه، فغلظت كفارته بتحتم العتق كما غلظت كفارة الظهار به أو بصيام شهرين أو بإطعام ستين مسكينًا. [المذهب الخامس عشر وحجته] المذهب الخامس عشر: أنه طلاق، ثم إنها إن كانت غير مدخول بها فهو ما نواه من الواحدة وما فوقها، وإن كانت مدخولًا بها فهو ثلاث، وإن نوى أقلَّ منها، وهو إحدى الروايتين (¬3) عن مالك، وحجة هذا القول أن اللفظ لما اقتضى التحريم وجب أن يترتَّبَ عليه حكمه، وغير المدخول بها تحرم بواحدة، والمدخول بها لا تحرم إلا بالثلاث. [أقوال المالكية في المسألة] وبعد: ففي مذهب مالك خمسة أقوال (¬4)، هذا أحدها، وهو مشهورها. والثاني: أنه ثلاث بكل حال نوى الثلاث أو لم ينوها، اختارها عبد الملك في "مبسوطه". والثالث: (¬5) أنه واحدة بائنة مطلقًا، حكاه ابن خويز منداد رواية عن مالك. الرابع: أنه واحدة رجعية، وهو قول عبد العزيز بن أبي سلمة. الخامس: أنه ما نواه من ذلك مطلقًا، سواء قبل الدخول وبعده (¬6). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقد عرفت توجيه هذه الأقوال. ¬
فصل [تحرير مذهب الشافعي في المسألة]
فصل [تحرير مذهب الشافعي في المسألة] وأما تحرير مذهب الشافعي فإنه إنْ نوى به الظهار كان ظهارًا، وإن نوى به التحريم كان تحريمًا لا يترتب عليه إلا تقدم الكفارة، وإن نوى الطلاق كان طلاقًا وكان ما نواه، وإن أطلق فلأصحابه [فيه] (¬1) ثلاثة أوجه (¬2): أحدها: أنه صريح في إيجاب الكفارة. والثاني: لا يتعلق به شيء. والثالث: أنه في حق الأَمَة صريحٌ في التحريم الموجب للكفارة وفي حق الحرة كناية، قالوا: لأن أصل الآية إنما وردت في الأمة، قالوا: فلو قال: "أنت عليَّ حرام" وقال: "أردتُ بها الظِّهار والطلاق" فقال ابن الحداد: يقال له: عَيَّنْ أحَدَ الأمرين؛ لأن اللفظة الواحدة لا تصلح للظهار والطلاق معًا، وقيل: يلزمه ما بَدَأ به منهما، قالوا: ولو ادَّعى رجل على رجل حقًا فأنكره فقال: "الحِلُّ عليك حرام، والنية نيتي لا نيتك، مالي عليك شيء" فقال: الحل عليّ حرام والنية في ذلك نيتك مالك عندي شيء، كانت (¬3) النية نية الحالِفِ لا المُحلِّف؛ لأن النية تكون ممن إليه الإيقاع. فصل [تحرير مذهب الإمام أحمد في المسألة] وأما تحرير مذهب الإمام أحمد فهو أنه ظهار بمُطْلَقِه وإن لم ينوه، إلا أن ينوي به الطلاق أو اليمين فيلزمه ما نواه. وعنه رواية ثانية أنه يمين بمطلقه إلا أن ينوي به الطلاق أو الظهار فيلزمه ما نواه. وعنه رواية ثالثة أنه ظهار بكل حال، ولو نوى به الطلاق أو اليمين لم يكن يمينًا ولا طلاقًا، كما لو نوى الطلاق أو اليمين بقوله: "أنت عليَّ كظهر أمي" فإن ¬
[مذهب ابن تيمية في المسألة]
اللفظين صريحان في الظهار، فعلى هذه الرواية لو وصله بقوله: "أعني به الطلاق" فهل يكون طلاقًا أو ظهارًا؟ على روايتين: إحداهما: يكون ظهارًا كما لو قال: "أنت عليَّ كظهر أمي"، أعني به الطلاق أو التحريم، إذ التحريم صريح في الظهار. والثانية: أنه طلاق لأنه قد صرَّح بإرادته بلفظ يحتمله، وغايته أنه كناية فيه، فعلى هذه الرواية إن قال: "أعني به طلاقًا" طلقت واحدة، وإن قال: "أعني به الطلاق" فهل تطلق ثلاثًا أو واحدة؟ على روايتين مأخَذُهما حَمْلُ اللام على الجنس أو العموم، هذا تحرير مذهبه وتقريره (¬1). [مذهب ابن تيمية في المسألة] وفي المسألة مذهب آخر وَرَاء هذا كله، وهو أنه إن أوقع التحريم كان ظهارًا ولو نوى به الطلاق، وإن حلف به [كان يمينًا] (¬2) مُكفَّرة، وهذا اختيار شيخ الإسلام [ابن تيمية] (¬3)، وعليه يدلُّ النص والقياس، فإنه إذا أوقعه كان قد أتى منكرًا من القول وزورًا، وكان أولى بكفارة الظهار ممن شبَّه امرأته بالمحرَّمة، وإذا حلف به كان يمينًا من الأيمان كما لو حلف بالتزام العتق والحج والصدقة (¬4)، وهذا محض القياس والفقه، ألا ترى أنه إذا قال: "للَّه عليَّ أن أعتق، أو أحج، أو أصوم" لزمه ولو قال: "إن كلمت فلانًا فلله عليّ ذلك" على وجه اليمين فهو يمين، وكذلك لو قال: "هو يهودي، أو نصراني" كَفَر بذلك، ولو قال: "إن فعلت كذا فهو يهودي، أو نصراني" كان يمينًا، وطَرْدُ هذا -بل نظيره من كل وجه- أنه إذا قال: "أنت عليَّ كظهر أمي" كان ظهارًا، فلو قال: "إن فعلتِ كذا فأنتِ عليَّ كظهر أمي" كان يمينًا، وطَرْدُ هذا أيضًا إذا قال: "أنت طالق" كان طلاقًا، وإن قال: "إن فعلت كذا فأنت طالق" كان يمينًا، فهذه هي الأصول الصحيحة المطردة المأخوذة من الكتاب والسنة والميزان، وباللَّه التوفيق (¬5). ¬
فصل [منشأ أيمان البيعة]
فصل [منشأ أيمان البيعة] ومن هذه الالتزامات (¬1) التي لم يلزم بها اللَّه ولا رسوله لمن حلف بها الأيْمَانُ التي رتبها الفَاجِر الظَّالم الحجَّاج (¬2) بن يوسف، وهي أيمان البيعة. [كيف كانت البيعة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] وكانت البيعة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بالمصافحة، وبيعة النساء بالكلام (¬3)، وما مَسَّتْ يدُه الكريمة -صلى اللَّه عليه وسلم- يد امرأة لا يملكها (¬4)، فيقول لمن يبايعه: بايعتك، أو أبايعك، على السمع والطاعة في العسر واليسر والمَنْشَط والمكره، كما في "الصحيحين" عن ابن عمر: "كُنَّا نبايع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على السمع والطاعة، فيقول: فيما استطعت" (¬5)، وفي "صحيح مسلم" عن جابر: "كنا يوم الحديبية ألفًا ¬
[كيف كانت بيعة النبي -صلى الله عليه وسلم- للناس؟]
وأربع مئة، فبايعناه وعُمَرُ آخذ بيده تحت الشجرة، بايعناه على أن لا نَفَّر، ولم نبايعه على الموت" (¬1). [كيف كانت بيعة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للناس؟] وفي "الصحيحين" عن عُبَادة بن الصامت قال: "بايَعْنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على السمع والطاعة في العُسْر واليُسْر والمَنْشَط والمكره، وعلى أَثَرةٍ علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كُنَّا، لا نخاف (¬2) في اللَّه لومة لائم" (¬3). وفي "الصحيحين" أيضًا عن جُنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عُبَادة بن الصامت وهو مريض، فقلنا: حدِّثنا أصلحك اللَّه بحديثٍ ننتفع به (¬4) سمعته من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: دعانا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فبايعناه، وكان فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في مَنْشَطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأَثَرةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: "إلا أن تَرَوا كُفرًا بواحًا عندكم من اللَّه فيه بُرهان" (¬5). وفي "الصحيحين" عن عائشة قالت: كان المؤمنات إذا هاجَرْنَ إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يمتحنهن بقول (¬6) اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12]، إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمن أقرَّت بهذا من المؤمنات فقد أقرَّت بالمحنة، وكان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أَقْررن بذلك من قولهن قال لهن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "انطلقْنَ فقد بايعتُكنَّ"، ولا واللَّه ما مَسَّت يدُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يدَ امرأة قط، غير أنه يبايعهنَّ بالكلام (¬7). ¬
[أيمان البيعة التي أحدثها الحجاج الثقفي]
قالت عائشة: واللَّه ما أخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على النساء قط إلا بما أمره اللَّه، وما مسَّتْ كفُّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كفَّ امرأة قط، وكان يقول لهن إذا أَخذ عليهن: "قد بايعتكن" كلامًا (¬1). فهذه هي البيعة النبوية التي قال اللَّه عز وجل فيها: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)} [الفتح: 10] وقال فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. [أيمان البيعة التي أحدثها الحجاج الثقفي] فأحدث الحجَّاجُ في الإسلام بيعة غير هذه تتضمن اليمين باللَّه تعالى والطلاق والعتاق وصدقة المال والحج، فاختلف علماء الإسلام في ذلك على عدة أقوال. [من قال أيمان البيعة تلزمني] ونحن نذكر [تحرير] (¬2) هذه المسألة وكشفها، فإن كان مرادُ الحالف بقوله: "أيمان البيعة تلزمني" البيعةَ النبوية التي كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يبايع عليها أصحابه لم يلزمه الطلاق والإعتاق ولا شيء مما رتبه الحجاج، وإن لم ينو تلك البيعة ونَوَى البيعة الحجَّاجية فلا يخلو: إما أن يذكر في لفظه طلاقًا أو عتاقًا أو حجًا أو صدقةً أو يمينًا باللَّه أو لا يذكر شيئًا من ذلك؛ فإن لم يذكر في لفظه شيئًا فلا يخلو: إما أن يكون عارفًا بمضمونها أو لا، وعلى التقديرين فإما أن ينوي مضمونها كله أو بعض ما فيها أو لا ينوي شيئًا من ذلك، فهذه تقاسيم هذه المسألة. ¬
[رأي الشافعي وأصحابه]
[رأي الشافعي وأصحابه] فقال الشافعي وأصحابه: إن لم يذكر في لفظه طلاقها أو عتاقها أو حجها أو صدقتها (¬1) لم يلزمه شيء، نَوَاه أو لم ينوه (¬2)، إلا أن ينوي طلاقها أو عتاقها فاختلف أصحابه، فقال العراقيون: يلزمه الطلاق والعتاق، فإنَّ اليمين بهما تنعقد بالكناية مع النية. وقال صاحب "التتمة" (¬3): لا يلزمه ذلك وإن نواه ما لم يتلفظ به؛ لأن الصريح لم يوجد، والكناية إنما يترتب عليها الحكم فيما يتضمن الإيقاع، فأمَّا الالتزام (¬4) فلا، ولهذا لم يجعل الشافعي الإقرار بالكناية مع النية إقرارًا لأنه التزام، ومن هاهنا قال مَنْ قال من الفقهاء كالقَفَّال وغيره: إذا قال: "الطلاق يلزمني لا أفعل" لم يقع به الطلاق وإن نواه؛ لأنه كناية والكناية إنما يترتب عليها الحكم في غير الالتزامات، ولهذا لا تنعقد اليمين باللَّه بالكناية مع النية. [مذهب أصحاب الإمام أحمد] وأما أصحاب أحمد [فقد قال] (¬5) أبو عبد اللَّه بن بطة: كنت عند أبي القاسم الخرقي وقد سأله رجل عن أيمان البيعة، فقال: لست أفتي فيها بشيء، ولا رأيت أحدًا من شيوخنا يفتي فيها بشيء، قال: وكان أبي رحمه اللَّه -يعني أبا علي- يَهَابُ الكلام فيها، ثم قال أبو القاسم: إلا أن يلتزم الحالف بها جميع ما فيها من الأيمان، فقال له السائل: عَرَفها أم لم يعرفها؟ قال: نعم، ووَجْهُ هذا القول أنه بالتزامه لموجبها صار ناويًا له مع التلفظ، وذلك مقتضى اللزوم، ومتى وجد سبب اللزوم والوجوب ثبت موجَبُه وإن لم يعرفه، كما لو قال: إن شفى اللَّه مريضي فثلث مالي صدقة، أو أوصى (¬6) ¬
فصل [مذهب المالكية]
به ولم يعرفه، أو قال: أنا مُقرّ بما في هذا الكتاب، وإن لم يعرفه، أو قال: ما أعطيتَ فلانًا فأنا (¬1) ضامن له، أو مَالَكَ عليه فأنا ضامنه، صحَّ ولزمه وإن لم يعرفه، أو قال: "ضمان عهدة هذا المبيع عليَّ" صحَّ ولزمه وإنْ لم يعرفه. وقال أكثر أصحابنا منهم صاحب "المغني" وغيره: إن لم يعرفها لم تنعقد يمشِه بشيء مما فيها؛ لأنها ليست بصريحة في القَسَم، والكناية لا يترتب عليها مقتضاها إلا بالنية، فمن لم يعرف شيئًا لم يصح أن ينويه (¬2) قالوا: وإن عرفها ولم ينو عقد اليمين بما فيها لم تصح أيضًا؛ لأنها كناية فلا يلزم حكمها إلا بالنية، وإن عرفها ونوى اليمينَ بما فيها صح في الطلاق والعتاق؛ لأن اليمين بهما تنعقد بالكناية، دون غيرهما؛ لأنها لا تنعقد بالكناية. وقال طائفة من أصحابنا: تنعقد في الطلاق والعتاق وصدقة المال دون اليمين باللَّه تعالى، فإن الكفارة إنما وجَبَتْ فيها لما اشتملت عليه من حرمة الاسم المعظم (¬3) الذي تعظيمه من لوازم الإيمان، وهذا لا يوجد فيما عداه من الأيمان. فصل [مذهب المالكية] وأما أصحاب مالك فليس عن مالك ولا عن [أحد من] (¬4) قدماء أصحابه فيها قول؛ واختلف المتأخرون، فقال أبو بكر ابن العربي (¬5): أجمع هؤلاء المتأخرون على أنه يحنث فيها بالطلاق في جميع نسائه والعتق في جميع عبيده وإن لم يكن له رقيق فعليه عتق رقبة واحدة، والمشي إلى مكة والحج ولو من أقصى المغرب والتصدق بثلث جميع أمواله وصيام شهرين متتابعين، ثم قال جُلُّ الأندلسيين: إن كل امرأة له تطلق ثلاثًا [ثلاثًا] (¬6)، وقال القرويون: إنما تطلق واحدة واحدة، وألزمه بعضهم صوم سنة إذا كان معتادًا للحلف بذلك. فتأمل هذا التفاوت العظيم بين هذا القول وقول أصحاب الشافعي. ¬
فصل [الحلف بأيمان المسلمين]
فصل [الحلف بأيمان المسلمين] وهكذا اختلافهم فيما لو حلف بأيمان المسلمين أو بالأيمان اللازمة، أو قال: جميعُ الأيمان تلزمني، أو حلف بأشد ما أخذ أحد على أحد. [مذهب المالكية] قالت المالكية: إنما ألزمناه بهذه المذكورات دون غيرها من كسوة العُرْيَان (¬1) وإطعام الجِيَاع والاعتكاف وبناء الثغور ونحوها ملاحَظَةً لما غلب الحلف به عرفًا، فألزمناه به؛ لأنه المسمَّى العرفيّ، فيقدَّم على المسمَّى اللغويَّ، واختص حلفه بهذه المذكورات دون غيرها لأنها هي المشتهرة، ولفظ الحلف واليمين إنما يستعمل فيها دون غيرها، وليس المدرك أن عادتهم أنهم يفعلون مسمياتها، وأنهم يصومون شهرين متتابعين، أو يحجُّون، بل غلبة استعمال الألفاظ في هذه المعاني دون غيرها، قالوا: وقد صرَّح الأصحابُ بأنه من كثرت عادته بالحلف بصوم سنة لزمه صوم سنة، فجعلوا المدرك الحلف اللفظي دون العرفي النقلي، قالوا: وعلى هذا لو اتفق في وقت آخر أنه اشتهر (¬2) حللهم ونَذْرهم بالاعتكاف والرِّبَاط وإطعام الجائع وكسوة العريان وبناء المساجد دون هذه الحقائق المتقدم ذكرها لكان اللازم لهذا الحالف إذا حَنِثَ الاعتكافُ وما ذكر معه، دون ما هو مذكور قبلها؛ لأن الأحكام المترتبة على القرائن تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت (¬3)، كالعقود في المعاملات والعيوب في الأعواض في المبايعات ونحو ذلك، فلو تغيّرت العادة في النّقد والسّكة إلى سكة أخرى لحمل الثمن في المبيع عند الإطلاق على السكة والنقد المتجدد دون ما قبله، وكذلك إذا كان الشيء عيبًا في العادة رُدَّ به المبيع، فإن تغيرَّت العادة بحيث لم يعد عيبًا لم يرد به المبيع (¬4). قالوا: وبهذا تعتبر جميع الأحكام المترتبة (¬5) على العوائد، وهذا مجمع عليه ¬
[يجب الأخذ بالعرف اعتبارا وإسقاطا]
بين العلماء، لا خلاف فيه، وإن وقع الخلاف في تحقيقه: هل وجد أم لا؟ قالوا: وعلى هذا فليس في عرفنا اليوم الحلف بصوم شهرين متتابعين، فلا تكاد تجد أحدًا يحلف به، فلا تسوغ الفتيا بإلزامه (¬1). [يجب الأخذ بالعرف اعتبارًا وإسقاطًا] قالوا: وعلى هذا أبدًا تجيء الفتاوى في طول الأيام، فمهما تجدد في العُرْف [شيء] فاعتبره، ومهما سقط فألْغِهِ، ولا تجمد على المنقول في الكتب طولَ عمرك، بل إذا جاءك رجلٌ من غير إقليمك يستفتيك فلا تُجْرِهِ على عُرْف بلدك، وسَلْه عن عرف بلده فأجْرِهِ عليه وأفْتِهِ به، دون عرف بلدك والمذكور في كتبك، قالوا فهذا هو الحق الواضح، والجمودُ على المنقولات أبدًا ضلالٌ في الدين وجهلٌ بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين، قالوا: وعلى هذه القاعدةُ تخرَّج أيمان الطلاق والعتاق وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريحُ كنايةً يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحًا تستغني عن النية، قالوا: وعلى هذه القاعدة فإذا قال: "أيمان البيعة تلزمني" خرج ما يلزمه على ذلك. وما جرتْ به العادةُ في الحلف عند الملوك المعاصرة إذا لم يكن له نيةٌ، فأي شيء جَرَتْ به عادةُ ملوك الوقت في التحليف به في بيعتهم واشتهر ذلك عند الناس بحيث صار عُرْفًا متبادرًا إلى الذهن من غير قرينة حُملت يمينه عليه، فإن لم يكن شيء من ذلك اعتبرت (¬2) نيته أو بِسَاطُ يمينه، فإن لم يكن شيء من ذلك فلا شيء عليه، انتهى (¬3). [المفتي بمجرد المنقول دون اعتبار العرف ضال مضل] وهذا محض الفقه، ومَنْ أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عُرْفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعْظَمَ من جناية من طَبَّبَ الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطبِّ على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضَرُّ ما على أديان الناس وأبدانهم واللَّه المستعان. ¬
[لم يكن الحلف بالأيمان اللازمة معتادا]
[لم يكن الحلف بالأيمان اللازمة معتادًا] ولم يكن الحلف بالأيمان اللازمة معتادًا على عهد السلف الطيّب، بل هي من الأيمان الحادثة المبتَدَعة التي أحدثها الجهلة الأول، ولهذا قال جماعة من أهل العلم: إنها من الأيمان اللاغية التي لا يلزم بها شيء البتَّة، أفتى بذلك جماعة من العلماء، ومن متأخري مَنْ أفتى بها تاجُ الدين أبو عبد اللَّه الأرموي صاحب كتاب "الحاصل" (¬1) قال ابن بزيزة في "شرح الأحكام": سأله عنها بعضُ أصحابنا، فكَتَبَ له بخطِّه تحت الاستفتاء: هذه يمينٌ لاغيةٌ، لا يلزم فيها شيء أَلبتة، وكتبَ محمد الأرموي، قال ابن بزيزة: وقفت على ذلك بخطه، وثبت عندي أنه خطه، ثم قال؛ وقال جماعة من العلماء: لا يلزم فيها شيء سوى كفَّارة اليمين باللَّه تعالى، [بناء على أن لفظ اليمين لا ينطلق إلا على اليمين باللَّه تعالى] (¬2)، وما عداه التزامات لا أيمان. قال: والدليل عليه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ كان حالفًا فَلْيَحْلف باللَّه أو لِيَصمُت" (¬3). [مذاهب القائلين بأن فيها كفارة] والقائلون بأن فيها كفارة يمين اختلفوا: هل تتعدد فيها كفارة اليمين بناء على أقل الجمع أو ليس عليه إلا كفارة واحدة لأنها إنما خرجت مخرج اليمين الواحدة كما أفتى به أبو عُمَر بن عبد البر (¬4) وأبو محمد بن حزم (¬5)؟ وقد كان أبو عمر يفتي بأنه لا شيء فيها أَلبتة، حكاه عنه القاضي أبو الوليد الباجي (¬6)، وعاب عليه ذلك، قال: "ومن العلماء من رأى أنه يختلف بحسب اختلاف الأحوال (¬7) والمقاصد والبلاد، فمن حلف به قاصدًا للطلاق أو العتاق لزمه ما ألزمه نفسه، ومن لم يعلم مقتضى ذلك ولم يقصده ولم يقيّده العرفُ الغالب الجاري لزمه فيها كفارة ثلاثة أيمان باللَّه، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة، وبه كان يفتي أبو بكر الطرطوشي ومَنْ بعده من شيوخنا الذين حملنا عنهم، ومن شيوخ عصرنا من كان ¬
[القول بإجزاء كفارة واحدة هو رأي الصحابة]
يُفتي بها بالطلاق الثلاث بناء على أنه العرفُ المستمر الجاري الذي حصل عِلْمه والقصدُ إليه عند كل حالف بها، ثم ذكر اختلافَ المغاربة: هل يلزم فيها الطلاقُ الثلاث أم (¬1) الواحدة؟ ثم قال: والمعتمدُ عليه فيها الرجوعُ إلى عُرْف الناس وما هو المعلوم عندهم في هذه الأيمان، فإذا ثبت فيها عندهم شيء وقصدوه وعرفوه واشتهر بينهم وجب أن يَحْمِلوه عليه (¬2)، ومع الاحتمال يرجع إلى الأصل الذي هو اليمين باللَّه؛ إذ لا يُسمّى غير ذلك يمينًا، فيلزم الحالف بها كفارة ثلاثة أيمان، قال: وعلى هذا كان يُعوِّل (¬3) أهل التحقيق والإنصاف من شيوخنا. [القول بإجزاء كفارة واحدة هو رأي الصحابة] قلت: ولإجزاء الكفارة الواحدة فيها مَدْرَك آخر أفقه من هذا، وعليه تدل فتاوى الصحابة -رضي اللَّه عنهم- صريحًا في حديث ليلى بنت العجماء المتقدم (¬4)، وهذه الالتزامات الخارجة مخرج اليمين إنما فيها كفارة يمين بالنَّص والقياس واتفاق الصحابة كما تقدم، فموجَبُها كلها شيء واحد ولو تعدد المحلوف به، وصار هذا نظير ما لو حلف بكل سورة من القرآن على شيء واحد فعليه كفارة يمين لاتحاد المُوجب وإن تعدَّد السبب، ونظيره ما لو حلف بأسماء الرب تعالى وصفاته فكفارة واحدة، فإذا حلف بأيْمان المسلمين أو الأيمان كلها أو الأيمان اللازمة أو أيمان البيعة أو ما (¬5) يحلف به المسلمون لم يكن ذلك بأعظم مما لو حَلَف بكل كتاب أنزله اللَّه أو بكل اسم (¬6) من أسماء اللَّه أو صفة من صفات اللَّه، فإذا أجزأ في هذه (¬7) كفارة يمين مع حرمة هذه اليمين وتأكدها فَلأن تُجزئ الكفارة في هذه الأيمان بطريق الأوْلَى والأحرى، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة الحكيمة التي لم يطرق العالمَ شريعةٌ أكملُ منها غيرُ ذلك، وكذلك أفتى به أفقهُ الأمّةِ وأعلمهم بمقاصد الرسول ودينه وهم الصحابة. [اختلاف الفقهاء بعد الصحابة] واختلف الفقهاء بعدهم، فمنهم من يُلزم الحالف بما التزمه من جميع الالتزامات كائنًا ما كان، ومنهم من لا يلزمه بشيء منها ألبتَة لأنها أَيمانٌ غير ¬
فصل [أقوال العلماء في تأجيل بعض المهر وحكم المؤجل]
شرعية، ومنهم من يلزمه بالطلاق والعتاق ويخيّره في الباقي بين التكفير والالتزام، ومنهم من يحتِّم [عليه] (¬1) التكفير، ومنهم من يلزمه بالطلاق وَحْده دون ما عداه، ومنهم من يلزمه بشرط كون الصيغة شرطًا فإن كانت صيغة التزام فيمين، كقوله: "الطلاق يلزمني" لم يلزمه بذلك، ومنهم من يتوقف في ذلك ولا يفتي فيه بشيء، فالأول: قول مالك وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة، والثاني: قول أهل الظاهر وجماعة من السلف، والثالث: قول أحمد بن حنبل والشافعي في ظاهر مذهبه وأبي حنيفة في إحدى الروايتين عنه ومحمد بن الحسن، والرابع: قول بعض أصحاب الشافعي، ويُذكر قولًا له ورواية عن أحمد، والخامس: قول أبي ثور و [هو] (¬2) إبراهيم بن خالد (¬3)، والسادس: قول القَفَّال من الشافعية وبعض أصحاب أبي حنيفة ويُحكى عنه نفسِهِ، والسابع: قول جماعة من أهل الحديث. وقول أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أصَحُّ وأفقه وأقرب هذه الأقوال إلى الكتاب والسنة، وباللَّه التوفيق. فصل [أقوال العلماء في تأجيل بعض المهر وحكم المؤجل] المثال التاسع (¬4): الإلزام بالصّدَاق الذي اتفق الزوجان على (¬5) تأخير المطالبة به، وإن لم يُسَميا أجلًا، بل قال الزوج: مئة مقدّمة ومئة مؤخّرة، فإن المؤخَّر لا يستحق المطالبة به إلا بموتٍ أو فُرْقَةٍ، هذا هو الصحيح، وهو منصوص أحمد، فإنه قال في رواية جماعة من أصحابه: إذا تزوّجها على العاجل والآجل لا يحل الآجل إلا بموت أو فرقة، واختاره قُدَمَاء شيوخ المذهب والقاضي أبو يعلى، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية (¬6)، وهو قول النَّخَعي والشعبي والليث بن سعد (¬7)، ¬
وله فيه رسالة كتبها إلى مالك ينكر عليه خلاف هذا القول سنذكرها بإسنادها ولفظها [إن شاء اللَّه] (¬1)، وقال الحسن وحمَّاد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وسفيان الثوري [و] (¬2) أبو عُبيد: يبطل الآجل لجهالة محله، ويكون حالًا (¬3)، وقال إياس بن معاوية: يصح الآجل، ولا يحل الصداق إلا أن يفارقها أو يتزوج عليها أو يخرجها من بلدها، فلها حينئذ المطالبة به (¬4)، وقال مكحول والأوزاعي: يحل بعد سنة من وقت الدخول (¬5)، وقال الشافعي وأبو الخطَّاب: تفسد التسمية ويجب مهر المثل لجهالة العوض بجهالة أجله فترجع إلى مهر المثل (¬6). وأما مذهب مالك فقال عبد الملك: كان مالك وأصحابه يكرهون أن يكون شيء من المهر مؤخَّرًا، وكان مالك يقول: إنَّما الصَّداق فيما مضى ناجزٌ كله، فإن وقع منه شيء مؤخرًا فلا أحبُّ أن يطول الأجل في ذلك، وحُكي عن ابن القاسم تأخيره إلى السنتين والأربع، وعن ابن وهب إلى السنة، وعنه إن زاد الأجل على أكثر من عشرين سنة فسخ، وعن ابن القاسم إذا جاوز الأربعين فسخ، وعنه إلى الخمسين والستين، حكى ذلك كله فضل بن سلمة عن ابن المَوَّاز (¬7)، ثم قال: لأن الأجل الطويل مثل [ما] (¬8) لو تزوَّجها إلى موت أو فراق، قال عبد الملك: وقد أخبرني أصبغ أنه شَهِدَ ابن وهب وابن القاسم تذاكرا الأجل في ذلك، فقال ابن وهب: أرى فيه العشر (¬9) فدون فما جاوز ذلك فمفسوخٌ (¬10)، فقال له ابن ¬
[فتاوى الصحابة في هذه المسألة]
القاسم: وأنا معك على هذا، فأقام ابن وهب على رأيه، ورجع ابن القاسم فقال: لا أفسخه إلى أربعين وأفسخه فيما فوق ذلك، فقال أصبغ: وبه آخذ ولا أحب ذلك نَدْبًا (¬1) إلى العشر ونحوها، وقد شهدتُ أشهب زوج ابنته وجعل مُؤخَّر مهرها إلى اثنتي عشرة سنة، قال عبد الملك: وما قَصُرَ من الأجل فهو أفضل، وإنْ بَعُد لم أفسخه إلا أن يُجاوز ما قال ابن القاسم، وإن كانت الأربعون في ذلك كثيرة جدًا، قال عبد الملك: وإن كان بعضُ الصَّداق مؤخَّرًا إلى غير أجل فإن مالكًا كان يفسخه قبل البناء ويمضيه بعده، وترد المرأة إلى صداق مثلها معجلًا كله (¬2)، إلا أن يكون صداق مثلها أقل من المُعجَّل فلا تنقص منه أو أكثر من المعجل والمؤجل فتوفي تمام ذلك، إلا أن يرضى الناكح بأن يجعل المؤخَّرَ معجلًا كله مع النقد فيمضي النكاح ولا يفسخ لا قبل البناء ولا بعده، ولا تُردُّ المرأةُ إلى صداق مثلها، ثم أطالوا بذكر فروع تتعلق بذلك (¬3). [فتاوى الصحابة في هذه المسألة] والصحيحُ ما عليه أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من صحة التسمية وعدم تمكين المرأة من المطالبة به إلا بموتٍ أو فرقةٍ، حكاه الليث إجماعًا منهم، وهو محض القياس والفقه، فإن المُطْلَقَ من العقود ينصرفُ إلى العرف والعادة عند المتعاقدين كما في النقد والسكة والصفة والوزن، والعادةُ جاريةٌ بين الأزواج بترك المطالبة بالصداق إلا بالموت أو الفراق، فجرت العادة مجرى الشرط كما تقدم ذكر الأمثلة بذلك، وأيضًا فإن عقد النكاح يخالف سائر العقود، ولهذا نافاه التوقيتُ المشترَطُ في غيره من العقود على المنافع، بل كانت جهالة مدة بقائه غير مؤثّرة في صحّته، والصداق عوضه ومقابله، فكانت جهالة مدته غير مؤثرة في صحته، فهذا محض القياس، ونظير هذا لو أجَّره كلَّ شهر بدرهم فإنه يصح وإن كانت جملة الأجرة غير معلومة تبعًا لمدة الإجارة، فقد صحَّ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه في الجنة أنه أجَّر نفسَه كل دلو بتمرة، وأكل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من ذلك التمر (¬4)، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المسلمون عَلَى ¬
شروطهم، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا" (¬1) وهذا لا يتضمن واحدًا من الأمرين، فإن ما أحلَّ الحرَّام وحرَّم الحلال لو فعلاه بدون الشرط لما جاز، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أحقَّ الشروط (¬2) أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬3) وأما تلك التقديرات المذكورة فيكفي في عدم اعتبارها عدمُ دليل واحد يدل عليها، ثم ليس تقدير منها بأولى من تقدير أزيد عليه أو أنقص منه، وما كان هذا سبيله فهو غير معتبر. ¬
[رسالة من الليث بن سعد إلى مالك بن أنس]
[رسالة من الليث بن سعد إلى مالك بن أنس] وقال الحافظ أبو يوسف يعقوب بن سفيان الفَسَويُّ في كتاب "التاريخ والمعرفة" (¬1) له -وهو كتابٌ جَليلٌ غزيرُ العلمِ جَمُّ الفوائد-: حدثني يحيى بن عبد اللَّه بن بكير المخزومي قال: هذه رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس (¬2): سلامٌ عليك، فإني أحمد إليك اللَّه الذي لا إله إلا هو، أما بعد -عافانا اللَّه وإياك، وأحسن لنا العاقبة (¬3) في الدنيا والآخرة- قد بلغني كِتابُكَ تذكُر فيه من صلاح حالِكم الذي يسُرُّني، فأدام اللَّه ذلك لكم وأتمّهُ بالعَوْن على شكره والزيادة من إحسانه. وذكرتَ نظَرَك في الكتب التي بعثتُ بها إليك وإقامتَك إياها وخَتْمَكَ عليها بخاتمك، وقد أَتتْنا فجزاك اللَّه عما قدَّمتَ منها خيرًا، فإنها كُتُبٌ انتهت إلينا عنك فأحببتُ أن أبْلُغ حقيقَتَها بنظرك فيها. وذكرتَ أنه قد أنْشَطَكَ ما كتبتُ إليك فيه من تقويم ما أتاني عنك إلى ابتدائي بالنصيحة (¬4)، ورجوتَ أن يكونَ لها عندي موضعٌ، وأنه لم يمنعك من ذلك فيما خلا إلا أن يكون (¬5) رأيك فينا جميلًا إلا لأني (¬6) لم أُذَاكِرْكَ مثلَ هذا. وأنّه بلغَكَ أني أفتي بأشياء مُخالِفة لما عليه جماعة الناس عندكم، وأني يَحِقُّ عليَّ الخوفَ على نفسي لاعتماد مَنْ قِبَلي على ما أفتيتُهم به، وأن الناس تبَعٌ لأهل المدينة إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآنُ. وقد أصبتَ بالذي كتبتَ به من ذلك إن شاء اللَّه تعالى، ووقَعَ مني بالموقع الذي تحب، وما أَعُدّ (¬7) أحدًا [قد] يُنْسِبُ إليه العلمَ أكْرَهَ لِشَواذِّ الفُتيا ولا أشَدَّ تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مَضَوْا، ولا آخَذَ لفُتياهم فيما اتَّفقوا عليه منِّي، والحمد للَّه رب العالمين لا شريك له. ¬
وأما ما ذكرْتَ مِنْ مُقام رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬1) وسلم بالمدينة، ونزولِ القرآن [بها] (¬2) عليه بين ظَهْرَي أصحابه، وما علَّمهم اللَّه منه، وأن الناس صاروا به تبَعًا لهم فيه، فكما ذكَرت. وأما ما ذكرتَ من قول اللَّه تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا (¬3) الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100] فإن كثيرًا من أولئك السابقين الأولين خَرَجُوا إلى الجهاد في سبيل اللَّه ابتغاءَ مرضاة اللَّه فجنَّدُوا الأجنادَ، واجتمع إليهم الناسُ فأظهروا بين ظَهْرَانَيْهمِ كتابَ اللَّه وسنَّةَ نبيه (¬4) ولم يكْتُمُوهم شيئًا عَلِموه. وكان في كلِّ جُند منهم طائفة يُعلِّمون -[للَّه] (¬5) - كتاب اللَّه وسنة نبيه ويجتهدون برأيهم فيما لم يُفَسِّره لهم القرآنُ والسنةُ، ويقوِّمُهُم (¬6) عليه أبو بكر وعمر وعثمان الذين اختارَهم المسلمون لأنفسهم. ولم يكن أولئك الثلاثة مضيِّعين لأجناد المسلمين ولا غافلين عنهم، بل كانوا يكتبون [لأجنادهم] (¬7) في الأمر اليسير لإقامة الدين والحَذَر من الاختلاف بكتاب اللَّه وسنة نبيه، فلم يتركوا أمرًا فسَّرهُ القرآن أو عمل به النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- أو ائتمروا فيه بعده إلا أعْلَمُوهُمُوهُ. فإذا جاء أمرٌ عمل (¬8) فيه أصحابُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمصرَ والشَّامِ والعراقِ على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يزالوا عليه حتى قُبِضُوا لم يأمُرُوهم بغيره، فلا نراهُ يجوزُ لأجناد المسلمين أن يُحْدِثوا اليوم أمرًا لم يعمل به سَلَفُهم من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والتابعين لهم. ¬
[حين ذهب العلماء وبقي فيهم من لا يشبه من مضى]
[حين ذهب العلماءُ وبقي فيهم من لا يُشبِه من مضى] مع أنَّ أصحابَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قد اختلفوا بعده (¬1) في الفُتيا في أشياءَ كثيرةٍ، ولولا أني قد عرفتُ أنْ قد عَلِمْتَهَا لكتبتُ (¬2) بها إليك، ثم اختلف التابعون في أشياءَ بعد أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬3) وسلم سعيد بن المسيب ونظراؤُه أشدَّ الاختلافِ. ثم اختلف الذين كانوا بعدهم فحضرتهم بالمدينة وغيرها ورأسُهم (¬4) يومئذ ابنُ شهاب وربيعة بن أبي عبد الرحمن. [ما أخذه الليث على ربيعة] فكان (¬5) من خلاف ربيعة لبعض ما [قد] (¬6) مضى ما قد عرفتَ وحضرتَ، وسمعتُ قولَكَ فيه وقولَ ذوي الرأي من أهل المدينة: يحيى بن سعيد، وعُبيد اللَّه بن عمر، وكثيرِ بن فَرْقَد وغيرِ كثيرٍ ممن هو أسَنُّ منه، حتى اضطَّرك ما كَرِهْت من ذلك إلى فراق مجلسه. وذاكَرَتُكَ أنت وعبدَ العزيز بن عبد اللَّه (¬7) بعضَ ما نَعيبُ على ربيعة من ذلك، فكُنتُما من الموافقين (¬8) فيما أنكرتُ، تَكْرَهان منه ما أكرهه (¬9)، ومع ذلك -بحمد اللَّه- عند ربيعةَ خيرٌ كثيرٌ، وعقلٌ أصيلٌ، ولسانٌ بليغٌ، وفَضْلٌ مستَبين، وطريقةٌ حسنة في الإسلام، ومودَّة [صادقة] (¬10) لإخوانه عامةً ولنا خاصة، رحمةُ اللَّه [عليه] وغفر له وجزاه بأحسنَ من عمله. [تناقض ابن شهاب أحيانًا] وكان يكون من ابن شهاب اختلافٌ كثيرٌ إذا لَقيناه، وإذا كاتَبه بعضُنا فربما ¬
[لا يجوز الجمع بين الصلاتين في مطر]
كتب إليه في الشيء الواحد -عَلَى فَضْل رأيهِ وعلمِه- بثلاثة أنواعٍ يَنْقُضُ بعضُها بعضًا، ولا يَشعُر بالذي مضى من رأيه في ذلك، فهذا الذي يَدْعُوني إلى تَرْكِ ما أنكرت تركي إياه. [لا يجوز الجمع بين الصلاتين في مطر] وقد عرفتُ مما عِبتَ (¬1) إنكاري إياه: أن يجمع أحدٌ من أجناد المسلمين بين الصلاتين ليلة المطر، ومطر الشام أكثر من مطر المدينة بما لا يعلمه إلا اللَّه لم يجمع (¬2) منهم إمام قط في ليلة مَطَر، وفيهم أبو عبيدة بنُ الجرَّاح، وخالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، ومُعَاذ بن جبل، وقد بلغنا أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أَعْلَمُهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" (¬3) وقال: "يأتي معاذ يوم القيامة بين يدي العلماء برتَوْة" (¬4) وشَرحَبيل بن حَسَنة، وأبو الدَّرداء، وبلال بن رباح. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق]
وكان أبو ذر بمصر والزُّبير بن العوَّام وسعد بن أبي وقاص، وبحمص سبعون من أهل بدر، وبأجناد المسلمين كلِّها، وبالعراق ابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعمرانُ بن حُصين، ونزلها [أمير المؤمنين] (1) عليُّ بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه في الجنة] (¬1) سنين، وكان معه من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬2) وسلم فلم (¬3) يجمعوا بين المغرب والعشاء قط (¬4). [القضاء بشهادة شاهد ويمين صاحب الحق] ومن ذلك القضاءُ بشهادة شاهد ويمينِ صاحب الحق، وقد عرفتَ أنه لم يزل يُقْضَى بالمدينة به، ولم يقضِ به أصحابُ رسولَ اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] (¬5) وسلم بالشام وبحمص ولا بمصر ولا بالعراق، ولم يكْتُبْ به إليهم الخلفاءُ الراشدون: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ثم وُلِّي عمر بن عبد العزيز -وكان كما قد عَلِمتَ في إحياء السُّنن، [وقطع البدع] (¬6)، والجِدِّ في إقامة الدين، والإصابة في الرأي، والعلم بما مضى من أمر الناس- فكتب إليه رُزَيق بن الحكيم (¬7): إنكَ كنتَ تقضي بالمدينة بشهادةِ الشَّاهد الواحد ويمين صاحب الحق، فكتب إليه ¬
[مؤخر الصداق]
عمر بن عبد العزيز: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة، فوجدنا أهلَ الشام على غير ذلك؛ فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجلٍ وامرأتين. ولم يَجمع بين العشاء والمغرب قَطُّ ليلة المطرِ، والسماء (¬1) يَسْكبُ عليه في منزله الذي كان فيه بخُنَاصِرَ (¬2) ساكنًا (¬3). [مؤخر الصّداق] ومن ذلك أنَّ أهلَ المدينة يقضون في صَدُقَاتِ النساء أنها متى شاءت أن تتكلم في مؤخَّر صداقها تكلَّمَتْ فدُفع إليها، وقد وافق أهلُ العراق أهلَ المدينة على ذلك وأهلُ الشام وأهلُ مصر، ولم يقضِ أحدٌ من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا مَنْ بعدهم لامرأةٍ بصدَاقها المؤخَّرِ إلا أن يفرِّق بينهما موتٌ أو طلاقٌ فتقوم على حقِّها. [القول في الإيلاء] ومن ذلك قولهم في الإيلاء: إنه لا يكون عليه طلاقٌ حتى يُوقَفَ وإنْ مرَّت الأربعةُ الأشهُرُ، وقد حدثني نافع عن عبد اللَّه بن عمر -وهو الذي كان يُرْوَى عنه ذلك التوقيف بعد الأشهر- أنه كان يقول في الإيلاء الذي ذكر اللَّه في كتابه: لا يحِلُّ للمُولي إذا بَلَغ الأجلَ إلا أن يفيء كما أمر اللَّهُ أو يَعزِمَ الطَّلاقَ (¬4)، وأنتم تقولون: إنْ لَبِث بعد الأربعة الأشهر التي سمَّى اللَّه في كتابه ولم يُوقَف لم يكن ¬
[حكم المرأة التي تملك ثم تختار زوجها]
عليه طلاقٌ، وقد بلغنا عن (¬1) عثمان بن عفَّان، وزيد بن ثابت، وقَبِيصَةَ بنِ ذؤيب، وأبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوت [أنهم] قالوا في الإيلاء: إذا مَضَتْ الأربعةُ الأشهر فهي تطليقةٌ بائنة (¬2)، وقال سعيد بن المسيب، وأبو بكر بن عبد الرحمن [بن الحارث] (¬3) بن هشام، وابن شهاب: إذا مَضَتْ الأربعةُ أشهر (¬4) فهي تطليقة، ولهُ الرَّجعةُ في العِدَّة. [حكم المرأة التي تملك ثم تختار زوجها] ومن ذلك أنَّ زيد بن ثابت كان يقول: إذا مَلَّكَ الرجلُ امرأتَه [أمرَها] (¬5) فاختارت زوجَهَا فهي تطليقةٌ، وإن طلَّقَتْ نفسها ثلاثًا فهي تطليقة (¬6)، وقضى بذلك ¬
[الحر يشتري أمته والحرة تتزوج عبدها]
عبد الملك بن مروان، وكان ربيعةُ بن [أبي] (¬1) عبد الرحمن يقولُه. وقد كان الناسُ يجتمعون على أنها إن اختارَتْ زوجَهَا لم يكن فيه طلاقٌ، وإن اختارَتْ نفسَها واحدةً أو اثنتين كانتْ له عليها رجعة (¬2)، وإن طلَّقتْ نفسَها ثلاثًا بانتْ منه، ولم تحِلَّ له حتى تنكح زوجًا غيره، فيدخُل بها ثم يموتُ أو يطلِّقها، إلا أن يَرُدَّ عليها في مجلسه فيقول: إنما ملَّكتُكِ واحدة، فيُستَحْلَفُ ويُخَلَّى بينه وبين امرأته. [الحرُّ يشتري أمته والحرّة تتزوّج عبدها] ومن ذلك أن عبد اللَّه بن مسعود كان يقول: أنَّما رجل تزوَّج أمةً ثم اشتراها زوجُها فاشتراؤها إياها ثلاث تطليقات (¬3)، وكان ربيعة يقول ذلك، وإن تزوَّجَتْ المرأةُ الحرةُ عبدًا فاشتَرَتْه فمثل ذلك. [ما أخذه الليث على مالك] وقد بُلِّغْنَا عنكم شيئًا من الفتيا مُستكرهًا (¬4)، وقد كنتُ كتبتُ إليك في بعضها (¬5) فلم تجبني في كتابي، فتَخوَّفْتُ أن تكون استَثْقَلتَ ذلك، فتركتُ الكتاب ¬
[تقديم الصلاة قبل الخطبة في الاستسقاء]
إليك في شيء مما أنكرتُ (¬1) وفيما أوردتُ فيه على رأيك (¬2). [تقديم الصلاة قبل الخطبة في الاستسقاء] وذلك أنه بلغني أنك أمرتَ زُفَرَ بن عاصم الهِلَاليُ (¬3) -حين أراد أن يستسقي- أن يُقَدِّم الصَّلاةَ قبل الخطبة، فأعظمتُ ذلك؛ لأنَّ الخُطبة والاستسقاءَ كهيئة يوم الجُمعة إلا أن الإمام إذا دنا فَرَاغُه (¬4) من الخُطبة [حوّل وجهه إلى القبلة] فدَعَا وحَوَّلَ رداءه ثم نزل فصلى، وقد استسقى عمر بن عبد العزيز، وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وغيرُهما، فكلّهم يقدِّمُ الخطبةَ والدعاء قبل الصلاة. فاسْتَهتَر الناسُ [كلهم] (¬5) فعلَ زُفَر بن عاصم من ذلك واستَنْكَروه. [لا تجب الزكاة على الخليطين حتى يملكَ كلٌّ منهما النصاب] ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول في الخليطين في المال: إنه لا تجبُ عليهما الصدقة، حتى يكون لكل واحدٍ منهما ما تجب فيه الصَّدقةُ، وفي كتاب عمر بن الخطاب أنه يجب عليهما الصدقة ويترادَّان بالسَّوِيَّة (¬6)، وقد كان ذلك يُعمَل به في ولاية عمر بن عبد العزيز قِبلَكَم وغيرِه، والذي حدثنا به يحيى بن سعيد ولم يَكُن بدون أفاضل العلماء في زمانه، فرحمه اللَّه وغفر له وجعل الجنةَ مصيرَه. [من أحكام المفلس] ومن ذلك أنه بلغني أنك تقول: إذأ أفلس الرجلُ وقد باعه رجلٌ سلعةً، فتقاضى طائفةً من ثمنها أو أنفقَ المشتري طائفةً منها أنه يأخذُ ما وَجَدَ من متاعه، وكان الناس على أنَّ البائع إذا تقاضى من ثمنها شيئًا أو أنفق المشتري منها شيئًا فليستْ بعينها. ¬
[ماذا أعطى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أسهم للزبير]
[ماذا أعطى النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- من أسهم للزبير] ومن ذلك أنك تذكر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُعْطِ الزبيرَ بن العوام إلا لفرَس واحد، والناس كلهم يحدِّثون أنه أعطاه أربعةَ أسْهُمٍ بفرسين (¬1) ومنعه الفَرَسَ الثالثَ (¬2)، والأمةُ كلُّهم على هذا الحديث: أهلُ الشام، وأهلُ مصر، وأهلُ العراق، وأهلُ إفريقية، لا يختلف فيه اثنان؛ فلم يكن ينبغي لك -وإنْ كنتَ سمعتَه من رجلٍ مرضي- أن تخالف الأمة أجمعين. وقد تركتُ أشياءَ كثيرة من أشباه هذا. [إجلال الليث لمالك وختام رسالته] وأنا أحبُّ توفيق اللَّه إيَّاكَ وطُولَ بقائِك؛ لما أرجو للناس في ذلك من المنفعة، وما أخاف من الضَّيْعَة إذا ذهب مِثْلُك مع استئناسِي بمكانك، وإن نأتْ الدَّارُ. فهذه منزلتُك عندي، ورأيي فيك فاستَيْقِنْهُ، ولا تَتْرُك الكتابَ إليَّ بخبرك، وحالك، وحالِ وَلَدِك وأهلك، وحاجةٍ إنْ كانت لك أو لأحدٍ يُوصَلُ بك، فإنِّي أُسَرُّ بذلك، كتبتُ إليك ونحن صَالحون مُعَافَوْنَ والحمد للَّه، نسأل اللَّه أن يرزقنا وإياكم شكر ما أولانا (¬3) وتمام ما أنعم به علينا، والسلام عليك ورحمة اللَّه (¬4). ¬
[عود إلى القول في تأجيل بعض المهر]
[عود إلى القول في تأجيل بعض المهر] فإن قيل: فما تقولون فيما لو تجمَّلوا وجعلوه حالًا، وقد اتفقوا [في الباطن] (¬1) على تأخيره كصدقات النساء في هذه الأزمنة في الغالب: هل للمرأة أن تطالب به قبل الفرقة أو الموت؟ [مهر السر ومهر العلن] قيل: هذا ينبني على أصل، وهو إذا اتفقا في السر على مهر وسموا في العلانية أكثر منه، هل يؤخذ بالسر أو بالعلانية؟ فهذه المسألة مما اضطربت فيها أقوال المتأخرين؛ لعدم إحاطتهم بمقاصد الأئمة، ولا بد من كشف غطائها، ولها في الأصل صورتان: إحداهما: أن يعقدوه في العلانية بألفَيْن مثلًا، وقد اتفقوا قبل ذلك أن المهر ألف وأن الزيادة سمعة، من غير أن يعقدوه [في العلانية] (¬2) بالأقل؛ فالذي عليه القاضي ومَنْ بعده من أصحاب أحمد أن المهر هو المسمّى في العقد، ولا اعتبار بما اتفقوا عليه قبل ذلك، هان قامت به البينة أو تصادقوا عليه، وسواء كان مهر العلانية من جنس مهر السر أو من جنس غيره أو أقل منه أو أكثر، قالوا: وهو ظاهرُ كلام أحمد في مواضع، قال في رواية ابن بدينا في الرجل (¬3) يصدق صداقًا ¬
في السر والعلانية (¬1) شيئًا آخر: يؤخذ بالعلانية، وقال في رواية أبي الحارث: إذا تزوجها في العلانية على شيء وأسَرَّ غير ذلك أخذنا بالعلانية وإن كان قد أشهد في السر بغير ذلك، وقال في رواية الأثرم في رجل أصدق صداقًا سرًا وصداقًا علانية: يؤخذ بالعلانية إذا كان قد أقر به، قيل له: فقد أشهد شهودًا في السر بغيره؟ قال: وإنْ، أليس قد أقر بهذا (¬2) أيضًا عند شهود؟ يؤخذ بالعلانية (¬3). قال شيخنا (¬4): "ومعنى قوله: "أقرَّ به" أي رضي به والتزمه؛ لقوله سبحانه: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي} [آل عمران: 81] وهذا يعم التسمية في العقد والاعتراف بعده، ويقال: أقر بالجزية، وأقر للسلطان بالطاعة، وهذا كثير في كلامهم، وقال في رواية صالح في الرجل يعلن مهرًا ويخفي آخر: آخذ بما يعلن؛ لأن العلانية قد أشهد (¬5) على نفسه، وينبغي لهم أن يفوا له بما كان أسَرَّه (¬6)، وقال في رواية ابن منصور: إذا تزوج امرأة في السر بمهر وأعلنوا مهرًا آخر ينبغي لهم أن يَفُوا، وأما هو فيؤاخذ (¬7) بالعلانية (¬8)، قال القاضي وغيره: فقد أطلق القول بمهر العلانية، [وإنما قال: ينبغي لهم أن (¬9)] يَفُوا بما أسروا (¬10)، على طريق الاختيار؛ لئلا يحصل منهم غرور له في ذلك، وهذا القول هو قول الشعبي (¬11)، وأبي قِلابة (¬12) وابن أبي ليلى (¬13)،. . . . . . . ¬
وابن شبرمة (¬1)، والأوزاعي (¬2)، وهو قول الشافعي (¬3) المشهور عنه، وقد نص في موضع آخر [على] أنه يؤاخذ (¬4) بمهر السر، فقيل: في هذه المسألة قولان، وقيل: بل ذلك في الصورة الثانية كما سيأتي [إن شاء اللَّه تعالى]، وقال كثير من أهل العلم أو أكثرهم: إذا عَلم الشهودُ أن المهر الذي يظهره سمعة وأن أصل المهر كذا وكذا ثم تزوج وأعلن الذي قال فالمهر هو السر، والسمعة باطلة، وهذا هو قول الزهري (¬5) والحكم بن عُتيبة (¬6) ومالك (¬7)، والثوري (¬8)، والليث، وأبي حنيفة وأصحابه (¬9)، وإسحاق، وعن شُريح (¬10)، والحسن (¬11) كالقولين، وذكر القاضي [في موضع] عن أبي حنيفة أنه يبطل المهر ويجب مهر المثل، وهو خلاف ما حكاه عنه أصحابه وغيرهم (¬12)، وقد نُقل عن أحمد ما يقتضي أن الاعتبار بالسر إذا ثبت أن العلانية تَلْجئة، فقال: إذا كان الرجل (¬13) قد أظهر صداقًا وأسرّ غير ذلك نظر في البينات والشهود، وكان الظاهر أوْكَدَ، إلا أن تقوم بيْنةٌ تدفع العلانية، قال القاضي: وقد تأول أبو حفص العكبري هذا على أن بينة السر عدول وبينة العلانية غير عدول، فحكم بالعدول، قال القاضي: وظاهر هذا أنه يحكم بمهر السر إذا لم تقم بينة عادلة بمهر العلانية (¬14). ¬
وقال أبو حفص: إذا تكافأت البينات وقد شرطوا في السر أن الذي يظهر في العلانية للرِّياء (¬1) والسمعة فينبغي لهم أن يَفُوا له بهذا الشرط ولا يطالبوه بالظاهر؛ لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "المؤمنون على شروطهم" (¬2) قال القاضي: وظاهر هذا الكلام من أبي حفص أنه قد جعل للسرِّ حكمًا، قال: "والمذهب على ما ذكرناه". قال شيخنا (¬3): "كلام أبي حفص الأول فيما إذا قامت البيّنة بأن النكاح عقد في السر بالمهر القليل، ولم يثبت نكاح العلانية، وكلامه الثاني فيما إذا ثبت نكاح العلانية، ولكن تشارطوا أن ما يظهرون من الزيادة (¬4) على ما اتفقوا عليه للرياء والسمعة". قال شيخنا (¬5): "وهذا الذي ذكره أبو حفص أشبه بكلام الإمام أحمد وأصوله؛ فإن عامة كلامه في هذه المسألة إنما هو إذا اختلف الزوج والمرأة ولم يثبت بينة ولا اعتراف أن مهر العلانية سُمعة، بل شهدت البينة أنه تزوجها بالأكثر وادَّعى عليه ذلك فإنه يجب أن يؤخذ بما أقر به [لسانُه] إنشاءً أو إخبارًا؛ فإذا أقام شهودًا يشهدون أنهم تراضَوْا بدون ذلك [حكم بـ] البينة (¬6) الأولى؛ لأن (¬7) التراضي بالأقل في وقت لا يمنع التراضي بما زاد عليه في وقت آخر، ألا ترى أنه قال: آخذ بالعلانية لأنه قد (¬8) أشهد على نفسه، وينبغي لهم أن يَفُوا بما كان ¬
أسَرَّهُ؛ فقوله: "لأنه قد أشهد على نفسه" دليل على أنه إنما يلزمه في الحكم فقط، وإلا فما يجب [فيما] بينه وبين اللَّه لا يُعَلَّلُ بالإشهاد، وكذلك قوله: "ينبغي لهم أن يَفُوا له، وأما هو فيؤاخذ (¬1) بالعلانية" دليلٌ على أنه يُحكم عليه به وأن أولئك يجب عليهم الوفاء، وقوله: "ينبغي" يستعمل في الواجب أكثر مما يستعمل في المستحب (¬2)، ويدل على ذلك أنه قد قال أيضًا في امرأة تزوجت في العلانية على ألف وفي السر على خمس مئة فاختلفوا في ذلك: فإنْ كانت البينة في السر والعلانية سواء أخذ بالعلانية لأنه أحوط وهو فرج يؤاخذ (¬3) بالأكثر، وقيدت المسألة بأنهم اختلفوا وأن كليهما قامت به بينة عادلة. وإنما يظهر ذلك بالكلام في الصورة الثانية، وهو ما إذا تزوجها في السر بألف، ثم تزوجها في العلانية بالفين مع بقاء النكاح الأول، فهنا قال القاضي في "المجرد" و"الجامع": إن تصادقا على نكاح السر لزم نكاح السر بمهر السر؛ لأن النكاح المتقدم قد صح [ولزم، والنكاح] (¬4) المتأخر عنه لا يتعلق به حكم، ويحمل (¬5) مطلق كلام أحمد والخرقي (¬6) على مثل هذه الصورة، وهذا مذهب الشافعي (¬7)، وقال الخرقي: (إذا تزوجها على صداقين سر وعلانية أخذ بالعلانية وإن كان السر قد انعقد النكاح به) (¬8)، وهذا منصوص كلام أحمد في قوله: [إن] (¬9) تزوجت (¬10) في العلانية على ألف وفي السر على خمس مئة، وعموم كلامه المتقدم يشمل هذه الصورة والتي قبلها، وهذا هو الذي ذكره القاضي في "خلافه"، وعليه أكثر الأصحاب، ثم طريقته وطريقة جماعة في ذلك أن [يجعلوا] (¬11) ما أظهراه زيادة في المهر، والزيادة فيه بعد لزومه لازمة، وعلى هذا فلو كان السر هو الأكثر أخذ به أيضًا، وهو معنى قول الإمام أحمد: "آخذ ¬
[صورة أخرى لمسألة السر والعلانية]
بالعلانية" أي يؤخذ بالأكثر، ولهذا القول طريقة ثانية، وهو أن نكاح السر إنما يصح إذا لم يكتموه على إحدى الروايتين بل أنصهما (¬1)؛ فإذا تواصوا بكتمان النكاح الأول كانت العبرة إنما هي بالنكاح الثاني (¬2). فقد تحرر أن الأصحاب (¬3) مختلفون: هل يؤاخذ (¬4) بصداق العلانية ظاهرًا وباطنًا أو ظاهرًا فقط؟ فيما إذا كان السر تَوَاطُؤًا من غير عقد، وإن كان السر عقدًا فهل هي كالتي قبلها أو يؤخذ هنا بالسر في الباطن بلا تردد؟ على وجهين (¬5)؛ فمن قال: إنه يؤاخذ (4) به ظاهرًا فقط وإنهم في الباطن لا ينبغي لهم أن يؤاخذوا (¬6) إلا بما اتفقوا عليه لم يرد نقضًا، وهذا قول [قوي] (¬7) له شواهد كثيرة، ومَنْ قال: إنه يؤاخذ (¬8) به ظاهرًا وباطنًا بَنَى ذلك على أن المهر من توابع النِّكاح وصفاته فيكون ذكره سمعة كذكره هزلًا والنكاح جده وهزله سواء فكذلك ذكر ما هو فيه، يحقق ذلك أنَّ حِلَّ البُضْع مشروط بالشهادة على العقد، والشهادةُ وقعت على ما أظهره؛ فيكون وجود (¬9) المشهود به شرطًا (¬10) في الحل". هذا كلام شيخ الإسلام في مسألة مهر السر والعلانية في كتاب "إبطال التحليل" نقلته بلفظه (¬11). [صورة أخرى لمسألة السرّ والعلانية] ولهذه المسألة عدة صور: هذه إحداها. الثانية: أن يتفقا في السر على أن ثمن المبيع ألف ويُظهرا في العلانية أن ¬
[صورة ثالثة]
ثمنه ألفان، فقال القاضي في "التعليق القديم" والشريفُ أبو جعفر وغيرُهما: الثمن ما أظهراه، على قياس المشهور عنه في المهر أن العِبْرة بما أظهراه وهو الأكثر، وقال القاضي في "التعليق الجديد" وأبو الخطاب وأبو الحسين وغيرهم من أصحاب القاضي (¬1): الثمن ما أسَرَّاه، والزيادة سمعةً ورياءً، بخلاف المهر، [وإلحاقًا للعوض في البيع] (¬2) بنفس البيع، وإلحاقًا للمهر بالنكاح، وجعلا الزيادة فيه بمنزلة الزيادة بعد العقد وهي غير لاحقة، وقال أبو حنيفة (¬3) عكس هذا، بناءً على أن تسمية العوض شرط في صحة البيع دون النكاح، وقال صاحباه: العبرة في الجميع بما أسَرَّاه (¬4). [صورة ثالثة] الصورة الثالثة: أن يتفقا في عقد البيع على أن يتبايعا شيئًا بثمن ذكراه على أنه بيع تَلْجئة (¬5) لا حقيقة له تخلُّصًا من ظالم يريد أخذه؛ فهذا عقدٌ باطل، وإن لم يقولا في صلب العقد: "قد تبايعناه تلجئة"، قال القاضي: هذا قياس قول أحمد؛ لأنه قال فيمن تزؤَج امرأة واعتقد أنه يُحلّها للأول: لم يصح هذا النكاح، وكذلك إذا باع عِنَبًا ممن يعتقد أنه يعصره خمرًا، قال: وقد قال أحمد في رواية ابن منصور (¬6): إنه إذا أقر لامرأة بدين في مرضه ثم تزوَّجها ومات وهي وارثة فهذه قد أقرَّ لها وليست بزوجه: يجوز ذلك، إلا أن يكون أراد تلجئة فيرد، ونحو هذا نقل إسحاق بن إبراهيم (¬7) والمروزي، وهذا قول أبي يوسف ومحمد (¬8)، وهو قياس قول مالك (¬9). ¬
[صورة رابعة]
وقال أبو حنيفة (¬1) والشافعي (¬2): لا يكون تلجئة حتى يقولا في العقد: "قد تبايعنا هذا العقد تلجئة"، ومأخذ مَنْ أبطله أنَهما لم يقصدا العقد حقيقة، والقَصْدُ معتبرٌ في صحته، ومأخذ من يصحّحه أن هذا شرط مقَدَّمٌ على العقد، والمؤثِّر في العقد إنما هو الشرط المقارنُ. والأوَّلون منهم مَنْ يمنع المقدمة الأولى ويقول: لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن، ومنهم من يقول: إنما ذلك في الشرط الزائد على العقد، بخلاف الرافع له فإن الشارط (¬3) هنا يجعلُ العقدَ غيرَ مقصود، وهناك هو مقصود، وقد أطلق عن شرط مقارن (¬4). [صورة رابعة] الصورة الرابعة: أن يُظهِرَا نكاحًا تلجئة (¬5) لا حقيقة له؛ فاختلف الفقهاء في ذلك؛ فقال القاضي وغيره من الأصحاب: إنه صحيحٌ كنكاح الهازل؛ لأن أكثر ما فيه أنه غير قاصد للعقد، بل هازل به، ونكاح الهازل صحيح، قال شيخنا (¬6): "ويؤيِّد هذا أن المشهور عندنا أنه لو شرط في العقد رَفْعَ موجبَه -مثل أن يشترط أنه لا (¬7) يطأها أو أنها لا تحلُّ له أو أنه لا ينفقُ عليها ونحو ذلك- صَحَّ العقدُ دون الشرط؛ فالاتّفاق على التلجئة حقيقتُهُ أنهما اتفقا على أن يعقدا عقدًا لا يقتضي موجَبَه، وهذا لا يبطله". قال شيخنا (¬8): "ويتخرَّج في نكاح التلجئة أنه باطلٌ أن الاتفاق الموجود قبل العقد بمنزلة المشروط في العقد في أظهر الطَّريقين لأصحابنا، ولو شرطا (¬9) في العقد أنه نكاح تلجئة لا حقيقة لكان نكاحًا باطلًا، وإن قيل إن فيه خلافًا فإن أسوأ الأحوال أن يكون كَمَا لو شَرَطا أنها لا تحلُّ له، وهذا الشرط يفسد العقد على الخلاف المشهور". ¬
[الصورة الخامسة]
[الصورة الخامسة] الصورة الخامسة: أن يتفقا على أن العقد عقد تحليل، لا نكاح رغبة، وأنه متى دخل بها طلَّقها أو (¬1) فهي طالق، أو أنها متى اعترفت بأنه وصَلَ إليها فهي طالق ثم يعقداه مطلقًا وهو في الباطن نكاحُ تحليل لا نكاحَ رَغْبةٍ، فهذا محرَّم باطل، لا تحل به الزوجة للمطلق، وهو داخل تحت اللعنة، مع تضمن زيادة الخداع كما سماه السلف بذلك، وجعلوا فاعله مخادعًا للَّه، وقالوا: "مَنْ يخَادع اللَّه يَخْدَعْهُ " (¬2) وعلى بطلان هذا النكاح نحو ستين دليلًا. [العبرة بما أضمره المتعاقدون] والمقصود أن المتعاقدين وإن أظهرا خلاف ما اتفقا عليه في الباطن فالعبرة لما أضمراه (¬3) واتفقا عليه وقَصَداه بالعقد، وقد أشهدا اللَّه على ما في قلوبهما فلا ينفعهما ترك التكلم حال العقد به (¬4)، وهو مطلوبُهُما ومقصودهما. [الصورة السادسة] الصورة السادسة: أن يحلف الرجل على (¬5) شيء في الظَّاهر، وقصده ونيته خلاف ما حلف عليه، وهو غيرُ مظلوم؛ فهذا لا ينفعه ظاهر لفظه، ويكون يمينه على ما يصدقه عليه صاحبه اعتبارًا بمقصده ونيته. [الصورة السابعة] الصورة السابعة: إذا اشترى أو استأجر مُكْرهًا لم يصح، وإن كان في الظاهر قد حَصَل صورة العقد؛ لعدم قصده وإرادته. فدل على أن القصدَ روحُ العقد ومصحِّحُه ومُبْطِله، فاعتبار القُصُودِ في ¬
[الله يحب الإنصاف]
العقود أولى من اعتبار الألفاظ؛ فإن الألفاظ مقصودة لغيرها، ومقاصد العقود هي التي تُرادُ [لأجلها (¬1)، فإذا ألغيت واعتبرت الألفاظ التي لا تراد] (¬2) لنفسها كان هذا إلغاءً لما يجب اعتباره واعتبارًا لما قد يسوغ إلغاؤه، وكيف يقدَّمُ اعتبارُ اللفظِ الذي قد ظهر كُل الظهور أن المراد خلافه؟ بل قد يُقطع بذلك على المعنى الذي قد ظهر بل قد يتيقن أنه المراد، وكيف ينكَرُ على أهل الظاهر من يسلك هذا؟ وهل ذلك إلا من إيراد الظاهرية؟ فإن أهل الظاهر تمسكوا بألفاظ النصوص وأجْرَوْهَا على ظواهرها حيث لا يحصل القَطعُ بأن المراد خلافُها، وأنتم تمسكتم بظواهر ألفاظ غير المعصومين حيث يقع القطع بأن المراد خلافُها فأهل الظاهر أعذرُ منكم بكثير، وكل شبهة تمسكتم بها في تسويغ ذلك فأدلة الظاهرية في تمسكهم بظواهر النصوص أقوى وأصح. [اللَّه يحبُّ الإنصاف] واللَّه تعالى يحب الإنصاف، بل هو أفضلُ حِلْية تحلَّى بها الرجل، خصوصًا من نصب نفسه حَكَمًا بين الأقوال والمذاهب، وقد قال [اللَّه] (¬3) تعالى لرسوله: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] فورثةُ الرسولِ (¬4) منصبهم العدل بين الطوائف وألا يميل أحدُهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه، بل [يكونُ] (¬5) الحقُّ مطلوبه يَسِيرُ بسيرِه وينزل بنزوله، يدين بدين العدل والإنصاف ويحكّم الحجة، وما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فهو العلم الذي قد شَمَّرَ إليه، ومطلبه الذي يحوم بطلبه عليه، لا يثني عنانه عنه عذل عاذل، ولا تأخذهُ فيه لومة لائم، ولا يصده عنه قول قائل. [إلغاء الشارع الألفاظ التي لم يقصد المتكلمُ معناها] ومن تدبّر مصادر الشرع وموارده تبيَّن له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه كالنائم والناسي والسكران والجاهل والمكره والمخطئ من شدة الفرح أو الغضب أو المرض ونحوهم، ولم ¬
يُكفَّر من قال من شدة فرحه براحلته بعد يأسه منها: "اللهم أنت عبدي وأنا ربك" (¬1) فكيف يعتبر الألفاظ التي يُقطع بأن مرادَ قائِلها خلافها؟ ولهذا المعنى رد شهادة المنافقين (¬2) ووَصَفهم بالخداع والكذب والاستهزاء، وذَمَّهُم على أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم وأن بواطِنَهم تخَالف ظواهِرَهم، وذم تعالى من يقول ما لا يفعل، وأخبر أن ذلك من أكبر المَقْتِ عنده، ولعن اليهودَ إذ توسَّلوا بصورة عقد البيع على ما حرَّمَهُ عليهم إلى أكل ثمنه، [وجعل أكل ثمنه] (¬3) لما كان هو المقصود بمنزلة أكله في نفسه، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الخمر عاصرَهَا ومُعتصِرَها (¬4)، ومن المعلوم أن العاصر إنما عصر عنبًا، ولكن لما كانت ¬
[المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات]
نيتُه إنما هي تحصيل الخمر لم ينفعه ظاهر عصره، ولم يعصمه من اللعنة لباطن قصده ومراده، فعُلِمَ أن الاعتبار في العقود والأفعال بحقائقها ومقاصدها دون ظواهر ألفاظها وأفعالها. ومَنْ لم يراع القُصُودَ في العقود وجَرَى مع ظواهرها يلزمه أن لا يلعن العاصر، وأن يجوّزَ له عَصْر العنب لكل أحد وإن ظهر له أن قصده الخمر، وأن يقضي له بالأجرة لعدم تأثير القصد في العقد عنده، ولقد صَرَّحُوا [له] (¬1) بذلك، وجوَّزوا له العصر، وقَضَوا له بالأجرة، وقد رُوي في أثر مرفوع من حديث ابن بُريدة عن أبيه: "من حَبَسَ العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو مَنْ يتخذه خمرًا فقد تقَحَّمَ النار على بصيرة" (¬2) ذكره [أبو] (¬3) عبد اللَّه بن بطَّة، ومَنْ لم يراع القصد (¬4) في العقد لم ير بذلك بأسًا. [المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرّفات] وقاعدة الشريعة التي لا يجوز هَدْمُها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات (¬5)؛ فالقصد والنية ¬
[دلائل القول السابق]
والاعتقاد يجعل الشئ حلالًا أو حرامًا، وصحيحًا أو فاسدًا، وطاعةً أو (¬1) معصيةً، كما أن القصد في العبادة يجعلها واجبةً أو مستحبةً أو محرمةً أو صحيحةً أو فاسدةً. [دلائل القول السابق] ودلائل هذه القاعدة تفوت الحصر، فمنها قوله تعالى في حق الأزواج إذا طلَّقوا أزواجهم طلاقًا رجعيًا: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228] وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] وذلك نصٌّ في أن الرجعة إنما ملَّكها اللَّه تعالى لمن قصد الصلاح دون من قصد الضرَار. وقوله في الخُلع: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، وقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 230] فبيَّن تعالى أن الخُلعَ المأذون فيه والنكاح المأذون فيه إنما يُبَاح إذا ظنَّا أن يقيما حدود اللَّه، وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12] فإنَّما قدم اللَّه الوصية على الميراث إذا لم يَقْصد بها المُوصِي الضرار (¬2)؛ فإن قَصَده فللورثة إبطالها [وعدم تنفيذها] (¬3)، وكذلك قوله: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] فرفع الإثمَ عمن أبطل الجَنَفَ والإثم من وصية الموصي، ولم يجعلها بمنزلة نصِّ الشارع الذي تحرم مخالفته. [شروط الواقفين] وكذلك الإثم مرفوع عمن أبطل من شروط الواقفين ما لم يكن إصلاحًا، وما كان فيه جنَفَ أو إثم، ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط الباطل المخالف لكتاب اللَّه بمنزلة نص الشارع (¬4)، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام (¬5). بل قد قال إمام الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله: "كُل شرطٍ ليس في كتاب اللَّه فهو باطلٌ وإن كان مئة شرط، كتابُ اللَّه أحقُّ، وشَرْطُ اللَّه أوثق" (¬6) ¬
فإنما ينفذُ من شروط الواقفين ما كان للَّه طاعةً، وللمكلف مصلحة، وأما ما كان بضد ذلك فلا حُرمةَ له كشرط التعزُّب والترفُب المضاد لشرع اللَّه ودينه؛ فإنه تعالى فتح للأمة باب النكاح بكل طريق، وسدَّ عنهم باب السِّفاح بكل طريق، وهذا الشرط [باطِلٌ مُضَادّ] (¬1) لذلك؛ فإنه يسدُّ على من التزمه باب النكاح، ويفتحُ له باب الفجور، فإن لوازم البشرية تتقاضاها الطّباع أتمَّ تقاضٍ، فإذا سد عنها مشروعها فتحت لها (¬2) ممنوعا ولا بد. والمقصود أن اللَّه تعالى رفع الإِثْمَ عمَّن أبطل الوصية الجانفة الآثمة، وكذلك هو مرفوع عمن أبطل شروط الواقفين التي هي كذلك، فإذا شَرَط الواقف القراءة على (¬3) القبر كانت القراءة في المسجد أولى وأحب إلى اللَّه ورسوله وأنفع للميت (¬4)، فلا يجوز تعطيل الأحب إلى اللَّه الأنفع لعبده واعتباره ضده، وقد رَامَ بعضُهم الانفصال عن هذا بأنه قد يكون قصد الواقف حصول الأجر له باستماعه للقرآن في قبره، وهذا غلط؛ فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة فإنه عمل اختياري وقد انقطع بموته، ومن ذلك اشتراطه أن يصلّي الصلوات الخمس في المسجد الذي بناه على قبره، فإنه شرطٌ باطلٌ [لا يجب بل] (¬5) لا يحلُّ الوفاء به، وصلاتُه في المسجد الذي لم يوضع على قبر (¬6) أحب إلى اللَّه ورسوله، فكيف يُفتى أو يُقضى بتعطيل الأحب إلى اللَّه والقيام بالأكْرَه إليه اتباعًا لشرط الواقف الجانف الآثم؟ ومن ذلك أن يشرط عليهم (¬7) إيقاد قنديل على قبره أو بناء مسجد عليه؛ فإنه لا يحل تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به، وكيف ينفذ (¬8) شرط لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعله؟ (¬9) ¬
[أنواع شروط الواقفين وحكمها]
[أنواع شروط الواقفين وحكمها] وبالجملة فشروط الواقفين أربعة أقسام: شروط محرمة في الشرع. وشروط مكروهة للَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. وشروط تتضمن ترك ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله. وشروط تتضمن فعل ما هو أحب إلى اللَّه تعالى ورسوله. فالأقسام الثلاثة الأول لا حرمة لها ولا اعتبار، والقسم الرابع هو الشرط المتبع الواجب الاعتبار، وباللَّه التوفيق (¬1). [إبطال النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم- لكلِّ شرط يخالف القرآن] وقد أبطل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هذه الشروط كلها بقوله: "مَنْ عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ" (¬2) وما رده رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يجز لأحد اعتباره ولا الإلزام (¬3) به وتنفيذه، ومن تفطَّن لتفاصيل هذه الجملة التي هي من لوازم الإيمان تخلَّص بها من آصارٍ وأغلالٍ في الدنيا، وإثمٍ وعقوبةٍ ونقصِ ثواب في الآخرة، وباللَّه التوفيق. فصل [من فروع اعتبار الشرع قصد المكلف دون الصورة] وتأمَّل قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَيْدُ البرِّ لكم حلالٌ وأنتم حُرُم ما لم تصيدوه أو ¬
يُصَدْ لكم" (¬1) كيف حرَّم على المحرِمِ الأكلَ مما صاده الحلال إذا كان قد صاده ¬
لأجله؟ فانظر كيف أثرَّ القصدُ في التحريم ولم يرفعه ظاهرُ الفِعْل، ومن ذلك الأثر المرفوع من حديث أبي هريرة: "مَنْ تزوج امرأة بصَدَاق ينوي أن لا يؤدّيه إليها فهو زانٍ، ومن ادَّانَ دينًا ينوي أن لا يقضيه فهو سارق" (¬1) ذكره أبو حفص بإسناده؛ فجعل المشتري والناكح إذا قصدا أن لا يؤدّيا العِوَضَ بمنزلة مَنِ استحل الفرج والمال بغير عوض، فيكون كالزاني والسارق في المعنى وإن خالفهما في الصورة، ويؤيد ذلك ما في "صحيح البخاري" مرفوعًا: "مَنْ أخذ أموالَ الناس يريد أداءَها أدَّاها اللَّه عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه اللَّه" (¬2). فهذه النصوص وأضعافها تدل على أن المقاصد تغيّر أحكام التصرفات من العقود وغيرها، وأحكام الشريعة تقتضي ذلك أيضًا؛ فإن الرجل إذا اشترى أو ¬
[للنية تأثير في العقود]
استأجر أو اقترض أو نكح ونوى أن ذلك لموكِّله أو لمولّيه كان له وإن لم يتكلَّم به في العقد، وإن لم ينوه له وقع الملك للعاقد، وكذلك لو تملَّك المباحات من الصَّيد والحشيش وغيرها ونواه لموكِّله وقع الملك له عند جمهور الفقهاء، نعم لا بد في النكاح من تسمية الموكِّل؛ لأنه معقود عليه، فهو بمنزلة السلعة في البيع، فافتقر العقد إلى تعيينه لذلك، [لا أنه معقود له] (¬1). [للنيَّة تأثير في العقود] وإذا كان القول والفعل الواحد يُوجبُ الملكَ لمالِكَيْن مختلفين عند تغيّر النية ثبت أن للنية تأثيرًا في العقود والتصرفات، ومن ذلك أنه لو قضى عن غيره دَيْنًا أو أنفق عليه نفقة واجبة أو نحو ذلك ينوي التبرع والهبة لم يملك الرجوع بالبدل، وإن لم ينو فله الرجوع إن كان بإذنه اتفاقًا، وإن كان بغير إذنه ففيه النزاع المعروف (¬2)؛ فصورة العقد واحدة، وإنما اختلف الحكم بالنية والقصد، ومن ذلك أن اللَّه تعالى حرم أن يدفع الرجلُ إلى غيره مالًا رِبَويًا بمثله على وجه البيع إلا أن يتقايضا (¬3)، وجوَّز دفعه بمثله على وجه القَرْضِ؛ وقد اشتركا في أن كلًا منهما يدفع ربويًا ويأخذ نظيره، وإنما فرَّق بينهما القصد؛ فإن مقصود المُقْرِضِ إرفاقُ المقترض ونفعه (¬4)، وليس مقصوده المعاوضة والربح، ولهذا كان القرضُ شقيقَ العارية كما سماه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- "مَنِيحَةَ (¬5) الورِقِ" (¬6) فكأنه أعاره الدراهم ثم استرجعها ¬
فصل [اعتراض بأن الأحكام تجري على الظواهر]
منه، لكن لم يمكن استرجاع العين فاسترجع المثل، وكذلك لو باعه درهمًا بدرهمين كان ربًا صريحًا، ولو باعه إياه بدرهم ثم وهبه درهمًا آخر جاز، والصورة واحدة وإنما فرَّق بينهما القصد، فكيف يمكن أحدٌ (¬1) أن يلغي القُصُودَ في العقود ولا يجعل لها اعتبارًا؟ (¬2). فصل [اعتراض بأن الأحكام تجري على الظواهر] فإن قيل: قد أطلتم الكلامَ في مسألة القصود في العقود، ونحن نحاكمكم إلى القرآن والسنة وأقوال الأئمة، قال اللَّه تعالى حكاية عن نبيه نوح: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [هود: 31] فرتب الحكم على ظاهر إيمانهم، ورَدَّ علم ما في أنفسهم إلى العالم (¬3) بالسرائر تعالى المنفرد بعلم ذات الصدور وعلم ما في النفوس من علم الغيب، وقد قال تعالى لرسوله: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} [هود: 31] وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لم أومر أن أُنِّقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم" (¬4) وقد قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أُمرْتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلهَ إلا اللَّه، فإذا قالوها عَصَمُوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللَّه" (¬5) فاكتفى منهم ¬
بالظاهر، ووكل سرائرهم إلى اللَّه، وكذلك فَعَل بالذين تخلَّفوا عنه واعتذروا إليه، قَبِلَ منهم عَلَانيتهم، ووَكَلَ سرائرهم إلى اللَّه عز وجل، وكذلك كانت سيرته في المنافقين: قبول ظاهر إسلامهم، ويَكِلُ سرائرهم إلى اللَّه عز وجل، وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ولم يجعل لنا علمًا بالنيَّات والمقاصد تتعلق الأحكام الدنيوية بها، فقولنا لا علم لنا به، قال الشافعي (¬1): "فرض اللَّه تعالى على خلقه طاعة أنبيائه (¬2)، ولم يجعل لهم من الأمر شيئًا، فأولى (¬3) ألا يتعاطوا حكمًا على غَيْب أحد بدلالة ولا ظنّ؛ لقصور علمهم عن علم أنبيائه الذين فَرَضَ عليهم الوقوفَ عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره؛ فإنه تعالى ظاهَرَ عليهم الحُجَجَ، فما جعل إليهم الحكم في الدنيا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، فَفرضَ على نبيه أن يقاتل أهل الأوثان حتى يُسْلِمُوا فَتُحْقنَ دماؤهم إذا أظهروا الإسلام، وأُعلم أنه لا يعلم صدقهم بالإسلام إلا اللَّه؛ ثم أطْلَعَ اللَّهُ رسوله على قوم يُظهرون الإسلام ويُسِرُّون غيره، فلم يجعل له أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإسلام، ولم يجعل له أن يقضي عليهم في الدنيا بخلاف ما أظهروا؛ فقال لنبيه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يعني أسلمنا بالقول مخافَةَ القتل والسبي، ثم أخبر (¬4) أنه يجزيهم إن أطاعوا اللَّه ورسوله، يعني إن أحدثوا طاعة اللَّه ورسوله (¬5)، وقال في المنافقين وهم صنف ثانٍ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} (¬6) [المنافقون: 1 - 2] يعني جُنَّةً من القتل، وقال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 59] فأمر بقبول ما أظهروا، ولم يجعل لنبيه أن يحكم عليهم بخلاف حكم الإيمان، ¬
وقد أعلم اللَّه نبيه أنهم في الدرْكِ الأسفل من النار؛ فجعل حكمه تعالى عليهم على سرائرهم، وحكم نبيه عليهم في الدنيا على عَلَانيتهم بإظهار التوبة وما قامت عليه بينة من المسلمين وبما أقرَّوا بقوله وما جَحدوا من قول الكفر ما لم يُقِّروا به ولم يقم به بيّنة عليهم، وقد كذَّبهم في قولهم في كل ذلك، وكذلك أخبر النبيُّ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن اللَّه، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عطاء بن يزيد، عن عُبيد اللَّه بن عَدِي (¬1) بن الخِيَار: "أن رجلًا سارَّ النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-، فلم ندر ما سارَّه (¬2) حتى جَهَرَ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا هو يُشَاوره في قتل رجل من المنافقين، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أليس يشهد أن لا إلهَ إلا اللَّه؟ قال: بلى، ولا شَهادَة له، فقال: أليس يصلي؟ قال: بلى، ولا صلاة له، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أولئك الذين نهاني اللَّه عن قتلهم" (¬3) ثم ذكَر حديث "أمِرْتُ أن أقاتل الناس" (¬4) ثم قال: فحسابهم على اللَّه بصدقهم ¬
وكذبهم، وسرائرهم إلى اللَّه العالم بسرائرهم المتولي الحكم عليهم دون أنبيائه وحُكَّام خلقه. وبذلك مَضَتْ أحكام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما بين العباد من الحدود وجميع الحقوق، أعلمهم أن جميع أحكامه على ما يُظْهِرُون، واللَّه يدين بالسرائر، ثم ذكر حديث عُويمر العَجْلاني في لعانه امرأتَهُ، ثم قال: فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فيما بلغنا: "لولا ما قضَى اللَّه لكان لي فيها قضاءٌ غيره" (¬1) يعني: لولا ما قضى اللَّه مِنْ ألا يحكم على أحد إلا باعتراف على نفسه أو بينة، ولم يعرض لشَريك ولا للمرأة، وأنفذ الحكم وهو يعلَم أن أحدهما كاذب، ثم علم بعدُ أن الزوج هو الصادق. ثم ذكر حديث رُكانة أنه طلق امرأته البتة، وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- استحلفه ما أردتُ إلا واحدة، فحلف له، فردَّها [إليه] (¬2)، قال: وفي ذلك وغيره دليل على أن حَرَامًا على الحاكم أن يقضي أبدًا على أحد من عباد اللَّه إلا بأحسن ما يُظهر، وإن احتمل ما يظهر غير أحسنه وكانت عليه دلالة على ما يخالف أحسنه. ومن قوله (¬3): بلى، لما حكم اللَّه في الأعراب الذين قالوا: {آمَنَّا} [الحجرات: 14]، وعلم اللَّه أن الإيمان لم يدخل في قلوبهم لما أظهروا من الإسلام، ولما حكم في المنافقين الذين علم أنهم آمنوا ثم كفروا وأنهم كاذبون بما أظهروا من الإيمان بحكم الإسلام، وقال في المُتَلاعِنين: "أبْصِروها، فإن جاءت به كذا وكذا فلا أراه إلا قد صدق عليها" (¬4) فجاءت به كذلك، ولم يجعل له إليها سبيلًا؛ إذ لم تُقر ولم تَقُم عليها بينة. وأبطل في حكم الدنيا عنهما استعمال الدلالة التي لا توجد في الدنيا دلالة بعد دلالة اللَّه على المنافقين والأعراب أقوى مما أخبر ¬
[به] (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله في امرأة العَجْلَاني على أن يكون، ثم كان -كما أخبر به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، والأغلب على من سمع الفزاري يقول للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن امرأتي ولدت غلامًا أسود" (¬2) وعَرَّضَ بالقذف أنه يريد القذف ثم لم يحده النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ لم يكن التعريض ظاهرَ قذفٍ، فلم يحكم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بحكم القذف، والأغلب على مَنْ سمع قول ركانة لامرأته: "أنت طالق البتة" (3) أنه قد أوقع الطلاق بقوله: أنت طالق وأن البتَّة إرادة شيء غير الأول أنه أراد الإبتات بثلاث، ولكنه لما كان ظاهرًا في قوله واحتمل غيره لم يحكم النبي (¬3) -صلى اللَّه عليه وسلم- إلا بظَاهِر الطلاق واحدة. فمن حكم على الناس بخلاف ما ظهر عليهم استدلالًا على أن ما أظهروا خلاف ما أبطنوا بدلالة منهم أو غير دلالة لم يسلم عندي من خلاف التنزيل والسنة، وذلك [مثل] (¬4) أن يقول قائل: مَنْ رجع عن الإسلام ممن ولد عليه قَتَلْتُه ولم أسْتَتِبْهُ، ومن رجع عنه ممن لم يولد عليه أسْتَتِبْه (¬5)، ولم يحكم اللَّه على عباده إلا حكمًا واحدًا، ومثله أن يقول: مَنْ رجع عن الإسلام ممن أظهر نصرانية أو يهودية أو دينًا يُظهره كالمجوسية أسْتَتِبْه فإن أظهر التوبة قبلت منه، ومَنْ رجع إلى دين خِفْية لم أستتبه، وكلٌّ قد بدَّل دين الحق ورجع إلى الكفر، فكيف يُستتاب بعضُهم ولا يستتاب بعض؟ فإن قال: لا أعرف توبة الذي يُسِرُّ دينه؟ قيل: ولا يعرفها إلا اللَّه، وهذا -مع خلافه حكم اللَّه ثم رسوله- كلام محال، يُسْأل من قال هذا: هل تدري لعلَّ الذي كان أخفى الشرك يَصْدُق بالتوبة والذي كان أظهر الشرك يَكْذب بالتوبة؟ فإن قال؟ نعم، قيل: فتدري لعلك قتلت المؤمن الصادق الإيمان واستحييت الكاذب بإظهار الإيمان؟ فإن قال: ليس عليّ إلا الظاهر، قيل: فالظاهر فيهما واحد وقد جعلته اثنين بعلة مُحَالة، والمنافقون على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُظهروا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية بل كانوا يستسِّرون بدينهم فيُقبل منهم ما يُظهرون من الإيمان! فلو كان قائل هذا القول حين خالف ¬
السنة أحْسنَ أن يقول شيئًا له وجه، ولكنه يخالفها ويعتلُّ بما لا وجه له، كأنه يرى أن اليهودية والنصرانية لا تكون إلا بإتيان الكنائس، أرأيت إن كانوا ببلاد لا كنائس فيها أما يصلّون في بيوتهم فتخفى صلاتهم على غيرهم؟ قال: وما وصفت من حكم اللَّه ثم حكم رسوله في المتلاعنين يبطل حكم الدلالة التي هي أقوى من الذرائع، وإذا بطل الأقوى من الدلائل بطل الأضعف من الذرائع كلها، وبطل الحد في التعريض بالقذف، فإن من الناس مَنْ يقول: إذا تشاتَمَ الرجلان فقال أحدهما: "ما أنا بزانٍ ولا أمي بزانية" حُدَّ؛ لأنه إذا قاله على المشاتمة (¬1) فالأغلب أنه إنما يريد به قذف الذي يُشاتم وأمَّه، وإن قاله على غير المشاتمة لم أحُدَّه إذا قال: "لم أرد القذف" مع إبطال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حكم التعريض في حديث الفَزَاري الذي ولدت امرأته غلامًا أسود (¬2)، فإن قال قائل: فإن عمر حدَّ في التعريض في مثل هذا (¬3)، قيل: استشار أصحابه، فخالفه بعضُهم، ومع مَنْ خالفه ما وصفنا من الدلالة (¬4)، ويَبْطُل مِثْلُه قول الرجل لامرأته: "أنت طالق البتة" لأن الطلاق إيقاعُ طلاقِ ظاهر، والبتة تحتملُ زيادةً في عدد الطلاق وغير زيادة، والقول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر، حتى لا يحكم عليه أبدًا إلا بظاهر، ويجعل القول قوله في الذي يحتمل غير الظاهر، فهذا يدل على أنه لا يفسد عقدٌ إلا بالعقد نفسه، ولا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهم، ولا بالأغلب، وكذلك كل شيء لا يفسد إلا بعقده، ولا تفسد البيوع بأن يقول: هذه ذَرِيعة، وهذه نية سوء، ولو كان أن يبطل البيوع بأن تكون ذريعة إلى الربا كان اليقين في ¬
[دعوى أنه قد دل الكتاب والسنة على ثبوت العقود بظاهرها]
البيوع بعقد ما لا يحل أولى أن يريد به من الظن، ألا ترى أنَّ رجلًا لو اشترى سيفًا ونوى بشرائه أن يقتل به مسلمًا كان الشراء حلالًا، وكانت النية بالقتل غير جائزة، ولم يبطل بها البيع، وكذلك لو باع سيفًا من رجل يريد أن يقتل به رجلًا كان هذا هكذا، ولو أن رجلًا شريفًا نكح دَنِيَّةً أعجميةً، أو شريفةً نكحت دَنِيًّا أعجميًا فتصادقا في الوجهين على إن لم ينو واحدٌ منهما أن يثبت على النكاح أكثر من ليلة لم يحرم النكاح بهذه النية، لأن ظاهر عقده كان صحيحًا إن شاء الزوج حبسها وإن شاء طلقها. [دعوى أنّه قد دَلَّ الكتاب والسنة على ثبوت العقود بظاهرها] فإذا دل الكتاب ثم السنة ثم عامة حكم الإسلام على أن العقود إنما تثبت بظاهر عقدها لا تفسدها نية العاقدين كانت العقود إذا عقدت في الظاهر صحيحة، ولا تفسد بتوهم غير عاقدها على عاقدها، ولا سيما (¬1) إذا كان توهمًا ضعيفًا" انتهى كلام الشافعي (¬2). وقد جعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الهازلَ (¬3) بالنكاح والطلاق والرجعة كالجادِّ بها، مع أنه ¬
[القول الفصل في هذه المسألة]
لم يقصد حقائق هذه العقود، وأبلغ من هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما أقضي بنحو ما أسمع، فمن قَضَيْتُ له بشيء من حقِّ أخيه فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار" (¬1) فأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه يحكم بالظاهر وإن كان في نفس الأمر لا يَحلُّ للمحكوم له ما حكم له به، وفي هذا كله دلالة على إلغاء المقاصد والنيات في العقود، وإبطال سد الذرائع، واتِّباع ظواهر عقود الناس وألفاظهم، وباللَّه التوفيق. [القول الفصل في هذه المسألة] فانظر ملتقى البحرين، ومُعْتَرَكَ الفريقين، فقد أبرز كل منهما حجته، وخاض بحر العلم فبلغ منه لُجَّتَه، وأدْلى من الحجج والبراهين بما لا يُدفع، وقال ما هو حقيق بأن يقول له أهل العلم: قل: يُسْمَعْ، وحُججُ اللَّه لا تتعارض، وأدلة الشرع لا تتناقض، والحق يُصدِّق بعضه بعضًا، ولا يقبل معارضة ولا نقضًا، وحرامٌ على المقلد المتعصب أن يكون من أهل هذا الطراز الأول، أو يكون على قوله وبحثه إذا حقَّت الحقائق المُعَوَّل، فليجرب المدعي ما ليس له والمدعي في قوم ليس منهم نفسه وعلمه وما حصَّله في الحكم بين الفريقين، والقضاء للفصل (¬2) بين المتغالِبَيْن، وليبطل الحجج والأدلة من أحد الجانبين، ليسلم له قول إحدى ¬
[قاعدة شرعية هي مقدمة للفصل بين الفريقين]
الطائفتين، وإلا فليلزم (¬1) حدَّه، ولا يتعدى طَوْرَه، ولا يمد إلى العلم الموروث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- باعًا يقصر عن الوصول إليه، ولا يَتَجر بنقدٍ زائفٍ لا يروج عليه، ولا يتمكن من الفصل بين المقالين (¬2) إلا من تجرد للَّه مسافرًا بعزمه وهمته إلى مطلع الوحي، مُنْزِلًا نفسَه منزلَةَ من يتلقاه غضًّا طريًا مِنْ في رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يعرض عليه آراء الرجال ولا يعرضه عليها، ويحاكمها إليه ولا يحاكمه إليها. [قاعدة شرعية هي مقدمة للفصل بين الفريقين] فنقول وباللَّه التوفيق: إن اللَّه تعالى وضع الألفاظ بين عباده تعريفًا ودلالةً على ما في نفوسهم، فإذا أراد أحدهم من الآخر شيئًا عرفه بمراده وما في نفسه بلفظه، ورتب على تلك الإرادات والمقاصد أحكامَهَا بواسطة الألفاظ، ولم يرتِّب تلك الأحكام على مجرد ما في النفوس من غير دلالة فعل أو قول، ولا على مجرد ألفاظ مع العلم بأن المتكلم بها لم يُرِد معانيها ولم يُحِطْ بها علمًا، بل تجاوز للأمة عما حَدَّثَتْ به أنفُسَها ما لم تعمل به أو تكلَّم به (¬3)، وتجاوز لها عما تكلَّمت به مخطئة أو ناسية أو مكرهة (¬4) أو غير عالمة به إذا لم تكن مريدة لمعنى ما تكلَّمت به أو قاصدة ¬
[الأشياء التي لا يؤاخذ الله المكلف بها]
إليه، فإذا اجتمع القصد والدلالة القولية أو الفعلية ترتَّب الحكم. هذه قاعدة الشريعة، وهي من مقتضيات عدل اللَّه وحكمته ورحمته، فإن خواطر القلوب وإرادة النفوس لا تدخل تحت الاختيار، فلو ترتبت عليها الأحكام لكان في ذلك أعظم حَرَج ومشقة على الأمة، ورحمةُ اللَّه تعالى وحكمته تأبى ذلك. [الأشياء التي لا يؤاخذ اللَّه المكلف بها] والغلط والنسيان والسهو وسَبْقُ اللسان بما لا يريده العبدُ بل يريد خلافه والتكلم به مكرهًا وغير عارف لمقتضاه من لوازم البشرية لا يكاد ينفك الإنسان من شيء منه؛ فلو رتب عليه الحكم لحرجت الأمة وأصابها غاية التعب (¬1) والمشقة؛ فرفع عنها المؤاخذة بذلك كله حتى الخطأ في اللفظ من شدة الفرح والغضب والسكر كما تقدمت شواهده، وكذلك الخطأ والنسيان والإكراه والجهل بالمعنى وسبق اللسان بما لم يرده والتكلم في الإغلاق ولَغْو اليمين؛ فهذه عشرة أشياء لا يؤاخذ اللَّه بها عبدَه بالتكلّم في حال منها؛ لعدم قصده وعقد قلبه الذي يؤاخذه به. ¬
[العفو عن خطأ الإنسان عند شدة الفرح وشدة الغضب]
[العفو عن خطأ الإنسان عند شدّة الفرح وشدّة الغضب] أما الخطأ من شدة الفرح فكما في الحديث الصحيح حديث فَرَحَ الرب بتوبة عبده وقول الرجل: " [اللهم] (¬1) أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" (¬2). وأما الخطأ من شدة الغضب فكما في قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11] قال السلف: هو دعاء الإنسان على نفسه وولده وأهله حال الغضب، لو أجابه اللَّه تعالى لأهلك الداعي ومن دُعي عليه، فقضى إليهم أجلهم (¬3)، وقد قال جماعة من الأئمة: الإغلاق الذي منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من وقوع الطلاق والعَتَاق فيه هو الغضب (¬4). وهذا (¬5) كما قالوه؛ فإن للغضب سكرًا كسكر الخمر أو أشد (¬6). [لا يترتب على كلام السكران حكم] وأما السكران فقد قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43] فلم يرتب على كلام السكران حكمًا حتى يكون عالمًا بما يقول؛ ولذلك أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا يستنكه (¬7) المقر بالزنا ليعلم هل هو عالم بما يقول أو غير عالم بما يقول (¬8)، ولم يؤاخذ حمزة بقوله في حال السكر: "هل أنتم إلا عبيد لأبي" (¬9) ولم يكفر من قرأ في حال سُكْرِه في الصلاة: "أعبد (¬10) ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون" (¬11). ¬
[العفو عن الخطأ والنسيان]
[العفو عن الخطأ والنسيان] وأما الخطأ والنسيان فقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] وقال اللَّه تعالى: "قد فعلت" (¬1) وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه قد تجاوز لي عن أمتي الخَطَأ والنسيان وما استُكْرِهوا عليه" (¬2). [حكم المكره واللغو وسبق اللسان] وأما المكره فقد قال اللَّه: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] والإكراه داخل في حكم الإغلاق (¬3). وأما اللغو فقد رفع اللَّه تعالى المؤاخذة به حتى يحصل عَقْدُ القلبِ. وأما سَبْقُ اللسان بما لم يرده المتكلم فهو دائر بين الخطأ في اللفظ والخطأ في القصد؛ فهو أولى أن لا يؤاخذ به من لغو اليمين، وقد نص الأئمة على مسائل من ذلك تقدم (¬4) ذكر بعضها. [حكم الإغلاق] وأما الإغلاق فقد نص عليه صاحب الشرع، والواجب حَمْلُ كلامه فيه على عمومه اللفظي والمعنوي؛ فكل مَنْ اغلق عليه بابُ قصده وعلمه كالمجنون والسكران والمكره والغضبان فقد تكلَّم في الإغلاق، ومن فسَّره بالجنون أو بالسكر أو بالغضب أو بالإكراه فإنما قَصَدَ التمثيلَ لا التخصيص، ولو قُدِّر أن اللفظ يختص بنوع من هذه الأنواع لوجَبَ تعميمُ الحكم بعموم العلة؛ فإن الحكم إذا ثبت لعلة تعدّى بتعديها وانتفى بانتفائها. فصل [الألفاظ على ثلاثة أقسام] فإذا تمهَّدَتْ هذه القاعدة فنقول: الألفاظ بالنسبة إلى مقاصد المتكلمين ونيّاتهم وإراداتهم لمعانيها ثلاثة أقسام: ¬
فصل [القسم الثاني من الألفاظ]
أحدها: أن تظهر مطابقة القصد للفظ، وللظهور مراتب تنتهي إلى اليقين والقَطْع بمراد المتكلم بحسب الكلام في نفسه وما يقترن به من القرائن الحاليّة واللفظية وحال المتكلِّم به وغير ذلك، كما إذا سمع العاقلُ والعارف (¬1) باللغة قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنكم سَتَرَوْنَ ربكم عيانًا، كما ترون القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، وكما ترون الشمس في الظهيرة صَحْوًا ليس دونها سحاب، لا تُضارُّون في رؤيته إلا كما تضارُّون في رؤيتها" (¬2) فإنه لا يستريب ولا يشك في مراد المتكلم وأنه رؤية البصر حقيقة، وليس في الممكن عبارة أوضح ولا أنص من هذا، ولو اقْتُرِح على أبلغ الناس أن يعبِّر (¬3) عن هذا المعنى بعبارة لا تحتمل غيره لم يقدر على عبارة أوضح ولا أنص من هذه، وعامة كلام اللَّه ورسوله من هذا القبيل؛ فإنه مستولٍ على الأمَدِ الأقصى من البيان. فصل [القسم الثاني من الألفاظ] القسم الثاني: ما يَظْهر بأن المتكلم لم يرد معناه، وقد ينتهي هذا الظهور إلى حد اليقين بحيث لا يشك السامع فيه، وهذا القسم نوعان: أحدهما: أن لا يكون مريدًا لمقتضاه ولا لغيره. والثاني: أن يكون مريدًا لمعنًى يخالفه؛ فالأول كالمكره والنائم والمجنون ومن اشتد به الغضب والسكران، والثاني: كالمعرَّض والموَرِّي والمُلْغِزِ والمتأوِّل. فصل [القسم الثالث] القسم الثالث: ما هو ظاهر في معناه ويحتمل إرادة المتكلم (¬4) له ويحتمل ¬
[متى يحمل الكلام على ظاهره؟]
إرادته لغيره (¬1)، ولا دلالة على واحد من الأمرين، واللفظ دال على المعنى الموضوع له، وقد أَتَى به اختيارًا. فهذه أقسام الألفاظ بالنسبة إلى إرادة معانيها ومقاصد المتكلم بها. [متى يحمل الكلام على ظاهره؟] وعند هذا يقال: إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام أو لم يظهر قَصْدٌ يخالف كلامه وجَبَ حملُ كلامه على ظاهره، والأدلة التي ذكرها الشافعي -رضي اللَّه عنه- وأضعافُهَا كلها إنما تدل على ذلك، وهذا حق لا يُنازعُ فيه عالمٌ، والنزاع إنما هو في غيره. إذا عُرف هذا فالواجب حمل كلام اللَّه تعالى ورسوله وحمل كلام المكلَّف على ظاهره الذي هو ظاهره، وهو الذي يُقْصَدُ من اللفظ عند التخاطب، ولا يتم التفهيم والفهم إلا بذلك. ومُدَّعِي غير ذلك على المتكلم القاصد للبيان والتفهيم كاذبٌ عليه. قال الشافعي: "وحديثُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على ظاهره بَتٌّ" ومن (¬2) ادَّعى أنه لا طريق لنا إلى اليقين بمرادِ المتكلم لأن العلم بمراده موقوف على العلم بانتفاء عشر أشياء فهو ملبوس عليه ملبِّس على الناس؛ فإن هذا لو صح لم يحصل لأحدٍ العلمُ بكلام المتكلم قط، وبطلت فائدة التخاطب، وانتفت خاصية الإنسان (¬3)، وصار الناس كالبهائم، بل أسوأ حالًا، ولَمَا عُلِم غرض هذا المصنف من تصنيفه، وهذا باطل بضرورة الحس والعقل، وبطلانه من أكثر من ثلاثين وجهًا مذكورة في غير هذا الموضع، ولكن حَمْلُ كلام المتكلمين على ظاهره لا ينبغي (¬4) صَرْفه عن ذلك لدلالة تدل عليه كالتعريض ولَحْنِ الخطاب والتورية وغير ذلك، وهذا أيضًا مما لا يُنازع فيه العقلاء. [متى يحمل لكلام على غير ظاهره؟] وإنما النزاع في الحمل على الظاهر حكمًا بعد ظهور مراد المتكلّم والفاعل ¬
[القصود في العقود معتبرة ولا شك والأمثلة على ذلك]
بخلاف ما أظهره؛ فهذا هو الذي وقع فيه النزاع، وهو: هل الاعتبار بظواهر الألفاظ والعقود وإن ظهرت المقاصدُ والنيَّاتُ بخلافها أم للقصود والنياتِ تأثير يوجب الالتفات إليها ومراعاة جانبها (¬1)؟ [القصود في العقود معتبرة ولا شَكَّ والأمثلة على ذلك] وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصُود في العقود معتبرةٌ، وأنها تؤثّر في صحة العقد وفساده وفي حِلِّه و [حرمته، بل أبْلَغُ من ذلك، وهي أنها تؤثر في] (¬2) الفعل الذي ليس بعقد تحليلًا وتحريمًا فيصير حلالًا تارة وحرامًا تارة باختلاف النية والقصد، كما يصير صحيحًا تارة وفاسدًا تارة باختلافها، وهذا كالذبح فإن الحيوان يَحلُّ إذا ذُبح لأجل الأكل ويحرم إذا ذبح لغير اللَّه، وكذلك الحَلَالُ يصيدُ الصيد للمحرِمِ فيحرم عليه ويصيده للحلال فلا يحرم على المحرم، وكذلك الرجل يشتري الجارية ينوي أن تكون لموكله فتحرم على المشترى وينوي أنها له فتحل له، وصورة العقد واحدة (¬3)، وإنما اختلفت النية والقصد، وكذلك صورة القَرْض وبيع الدرهم بالدرهم إلى أجل صورتهما واحدة وهذا قربة صحيحة وهذا معصية باطلة بالقصد، وكذلك عصر العنب بنية أن يكون خمرًا معصية ملعون فاعله على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) وعصره بنية أن يكون (¬5) خلًا أو دِبْسًا (¬6) جائز وصورة الفعل واحدة، وكذلك السلاح يبيعه الرجل لمن يعرف أنه يقتل به مسلمًا حرام باطل لما فيه من الإعانة على الإثم والعُدْوَان وإذا باعه لمن يعرف أنه يجاهد به في سبيل اللَّه فهو طاعة وقُرْبة، وكذلك عقد النَّذر المعلَّق على شرط ينوي به التقرب والطاعة فيلزمه الوفاء بما نذره وينوي به الحلف والامتناع فيكون يمينًا مُكَفَّرة، وكذلك تعليق الكُفْر بالشرط ينوي به اليمين والامتناع فلا يكفر بذلك وينوي به وقوع الشرط فيَكْفُر [عند وجود الشرط ولا يكفر إن نوى به اليمين] (¬7) وصورة اللفظ واحدة، وكذلك ألفاظُ الطلاق صريحها وكنايتها (¬8) ينوي بها الطلاقَ ¬
[اعتبار القصود في العبادات]
فيكون ما نواه وينوي به غيره فلا تطلق، وكذلك قوله: "أنتِ عندي مثل أمي" ينوي بها الظهار فتحرم وينوي به أنها في الكرامة فلا تحرم عليه، وكذلك مَنْ أدّى عن غيره واجبًا ينوي به الرجوع مَلكه وإن نوى به التبرع لم يرجع. وهذه كما أنها أحكام الرب تعالى في العقود فهي أحكامه تعالى في العبادات والمَثوبات والعقوبات؛ فقد اطّردت سنته بذلك في شرعه وقدره. [اعتبار القصود في العبادات] أما العبادات فتأثير النيات في صحتها وفسادها أظهر من أن يحتاج إلى ذكره (¬1)؛ فإن القُرُبات كلها مَبْنَاها على النيات، ولا يكون الفعل عبادة إلا بالنية والقَصْد، ولهذا لو وقع في الماء ولم ينو الغسل أو دخل الحمام للتنظيف أو سَبَحَ للتبرُّد لم يكن غسله قربة ولا عبادة بالاتفاق، فإنه لم ينو العبادة فلم تحصل له، وإنما لامرئ ما نوى، ولو أمْسَكَ عن المُفْطِرات عادة واشتغالًا ولم ينو القربة لم يكن صائمًا (¬2)، ولو دار حول البيت يلتمس شيئًا سقط منه لم يكن طائفًا، ولو أعطى الفقير هبة أو هدية ولم ينو الزكاة لم تحتسب (¬3) زكاة، ولو جلس في المسجد ولم ينو الاعتكاف لم يحصل له [ثواب] (¬4). وهذا كما أنه ثابت في الإجزاء والإمتثال فهو ثابت في الثواب والعقاب؛ ولهذا لو جامع أجنبية يظنها زوجته [أو أمَتُه] (¬5) لم يأثم بذلك وقد يُثاب بنيته، ولو جامع في ظلمة من يظنها أجنبية فبانت زوجتُه أو أمَتُه أثم على ذلك بقصده ونيته للحرام، ولو أكل طعامًا حرامًا يظنه حلالًا لم يأثم به، ولو أكله وهو حلال يظنه حرامًا وقد أقدم عليه أثِم بنيته، وكذلك لو قتل مَنْ يظنه مسلمًا معصومًا فَبَانَ كافرًا حربيًا أثم بنيته، ولو رمى صيدًا فأصاب معصومًا لم يأثم، ولو رمى معصومًا فأخطأه وأصاب صيدًا أثم، ولهذا كان القاتل والمقتول من المسلمين في النار (¬6) لنية كل واحد منهما قتل صاحبه. ¬
[الحيل]
[النية روح العمل ولبه] فالنية روح العمل ولبّه وقوامه، وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد قال كلمتين كَفَتَا وشَفَتَا وتحتهما كنوز العلم وهما قوله: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬1) فبيّن في الجملة الأولى أن العمل لا يقع إلا بالنية، ولهذا لا يكون عمل إلا بنية، ثم بيّن في الجملة الثانية أن العامل ليس له من عمله إلا ما نواه وهذا يعمُّ العبادات والمعاملات والأيمَان والنذور وسائر العقود والأفعال، وهذا دليل على أن مَنْ نَوَى بالبيع عقد الربا حصل له الربا، ولا يعصمه من ذلك صورة البيع، وأنَّ من نوى بعقد النكاح التحليل كان محلِّلًا، ولا يخرجه من ذلك صورة عقد النكاح؛ لأنه قد نوى ذلك، وإنما لامرئ ما نوى؛ فالمقدمة الأولى معلومة بالوجدان، والثانية معلومة بالنص، وعلى هذا فإذا نوى بالعَصْر حصولَ الخمر كان له ما نواه، ولذلك استحق اللعنة، وإذا نوى بالفعل التحيُّلَ على ما حرَّمه اللَّه ورسوله كان له ما نواه؛ فإنه قَصدَ المُحرَّم وفعل مقدوره في تحصيله، ولا فرق في التحيل على المحرَّم بين الفعل الموضوع له وبين الفعل الموضوع لغيره إذا جُعِل ذَرِيعة له، لا في عقلَ ولا في شرع؛ ولهذا لو نهى الطبيبُ المريضَ عما يؤذيه وَحَماه منه فتحيل على تناوله عُدَّ متناولًا لنفس ما نهى عنه، ولهذا مسخ اللَّه اليهود قِرَدَةً لما تَحيَّلُوا على فعل ما حرمه اللَّه [عليهم] (¬2)، ولم يعصمهم من عقوبته إظهار الفعل المباح لما توسلوا به إلى ارتكاب محارمه، ولهذا عاقب أصحاب الجنة بأن حَرَمَهم ثمارها لما توسلوا بجذاذها مُصْبِحين (¬3) إلى إسقاط نصيب المساكين، ولهذا لعن اليهود لما أكَلُوا ثمن ما حرم اللَّه عليهم أكله (¬4)، ولم يعصمهم التوسل ¬
[الدلالة على تحريم الحيل]
إلى ذلك بصورة البيع. وأيضًا فإن اليهود لم ينفعهم إزالة اسم الشحوم عنها بإذابتها فإنها بعد الإذابة يفارقها الاسمُ (¬1) وتنتقل إلى اسم الوَدَك (¬2)، فلمَّا تحيَّلوا على استحلالها بإزالة الاسم لم ينفعهم ذلك. [الدلالة على تحريم الحيل] قال الخطابي: "في هذا الحديث بطلان كل حيلة يحتال بها المتوصل إلى الحرام؛ (¬3) فإنه لا يتغير حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه" (¬4). قال شيخنا -رضي اللَّه عنه-: ووجه الدلالة ما أشار إليه أحمد [من] (¬5) أن اليهود لما حرم اللَّه عليهم الشحُومَ أرادوا الاحتيال على الانتفاع بها على وجه لا يقال في الظاهر إنهم انتفعوا بالشحم فَجَمَلُوه (¬6) وقصدوا بذلك أن يزول عنه اسم الشحم، ثم انتفعوا بثمنه بعد ذلك لئلا يكون (¬7) الانتفاع [في الظاهر] (¬8) بعين المحرَّم، ثم مع كونهم (¬9) احتالوا حيلة (¬10) خرجوا بها في زعمهم من ظاهر التحريم من هذين الوجهين لعنهم اللَّه على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على هذا الاستحلال، نظرًا إلى [هذا] (¬11) المقصود، وأن حكمة التحريم لا تختلف (¬12) سواء كان جامدًا أو مائعًا، وبدل الشيء يقوم مقامه ويسد مَسَدَّه، فإذا حرم اللَّه الانتفاع بشيء حرم الاعتياض عن تلك المنفعة، [وأما] (¬13) ما أبيح الانتفاع به من وجه دون وجه كالحمير (¬14) مثلًا فإنه يجوز بيعها لمنفعة الظهر المباحة لا لمنفعة اللحم المحرمة، ¬
[صورة محرمة من الربا بحيلة شراء سلعة وبيعها]
وهذا معنى [حديث ابن عباس الذي رَوَاه أبو داود وصححه الحاكم وغيره] (¬1): "لعن اللَّه اليهود! حرِّمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن اللَّه إذا حرَّم على قوم أكْلَ شيء حرم عليهم ثمنه" (¬2) يعني ثمنه المقابل لمنفعة الأكل، فأما إن كانت (¬3) فيه منفعة أخرى وكان الثمن في مقابلتها لم يدخل في هذا. إذا تبين هذا فمعلوم أنه لو كان التحريم معلقًا بمجرد اللفظ وبظاهر من القول دون مراعاة المقصود للشيء (¬4) المحرم ومعناهُ [وحقيقته لم يستحق اليهود] (¬5) اللعنة لوجهين: أحدهما: أن الشحم خرج بجَمْله (¬6) عن أن يكون شحمًا، وصار وَدَكًا، كما يخرج الربا بالاحتيال فيه عن لفظ الربا إلى أن يصير بيعًا عند من يستحل ذلك (¬7). [صورة محرمة من الربا بحيلة شراء سلعة وبيعها] فإنَّ مَنْ أراد أن يبيع مئة بمئة وعشرين إلى أجل فأعطى سلعة بالثمن المؤجل ثم اشتراها بالثمن الحالّ، ولا غرض لواحد منهما في السلعة (¬8) بوجه ما، وإنما هي كما قال فقيه الأمة: دَرَاهم بدراهم ودخلت بينهما حَرِيرة (¬9)؛ فلا فرق بين ¬
[لا تزول مفسدة التحليل بتسبيق شرط]
ذلك وبين مئة [بمئة] (¬1) وعشرين [درهمًا] (¬2) بلا حيلة ألبتة، لا في شرع ولا [في] (2) عقل ولا عُرْف، بل المفسدة التي لأجلها حرم الربا بعينها قائمة مع الاحتيال أو أزيد منها، فإنها تضاعفت بالاحتيال لم تذهب ولم تنقص؛ فمن المستحيل على شريعة أحكم الحاكمين أن يُحرِّم ما فيه مفسدة ويلعن فاعله ويُؤْذِنه بحرب منه ورسوله ويوعده أشد الوعيد ثم يبيح التحيُّل على حصول ذلك بعينه سواء مع قيام تلك المفسدة وزيادتها بتعب الاحتيال في معصية ومخادعةِ اللَّهِ ورسوله. هذا لا يأتي به شرع؛ فإن الربا على الأرض أسهل وأقل مفسدة من الربا بسُلَّم طويلٍ صَعْبِ التراقي يَتَرابى المُتَرابيان على رأسه. فياللَّه العجب! أي مفسدة من مفاسد الربا زالت بهذا الاحتيال والخداع؟ فهل صار هذا الذنب العظيم عند اللَّه الذي هو أكبر الكبائر حسنةً وطاعةً بالخداع والاحتيال؟ وياللَّه! كيف قلب الخداع والاحتيال حقيقته من الخبيث إلى الطبيب ومن المفسدة إلى المصلحة وجعله محبوبًا للرب تعالى بعد أن كان مسخوطًا له؟ ولئن كان هذا الاحتيال يبلغ هذا المبلغ فإنه عند اللَّه ورسوله بمكان ومنزلة عظيمة وإنه من أقوى دعائم الدين وأوثق عُرَاه وأجل أصوله!! [لا تزول مفسدة التحليل بتسبيق شرط] وياللَّه العجب! كيف تزول مفسدة التحليل الذي أشار رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بلَعْن فاعله (¬3) مرة بعد أخرى بتسبيق (¬4) شَرْطه وتقديمه على صُلْب العقد وخَلَاء (¬5) صلب العقد من لفظه وقد وقع التواطؤ والتوافق (¬6) عليه؟ وأي غرض للشارع؟ وأي حكمة في تقديم الشرط وتسبيقه (¬7) حتى تزول به اللعنة وتنقلب به خَمْرة هذا العقد خلًا؟ وهل كان عقد التحليل مسخوطًا للَّه ورسوله لحقيقته ومعناه، أم لعدم مقارنة الشرط له وحصول صورة نكاح الرغبة مع القطع بانتفاء حقيقته وحصول حقيقة نكاح التحليل؟ ¬
[تحريم الحيل الربوية وكل وسيلة إلى الحرام]
[تحريم الحيل الربوية وكُلِّ وسيلة إلى الحرام] وهكذا الحيل الربوية؛ فإن الربا لم يكن حرامًا لصورته ولفظه، وإنما كان حرامًا لحقيقته التي امتاز بها عن حقيقة البيع؛ فتلك الحقيقة حيث وجدت وجد التحريم في أي صورة رُكِّبت وبأي لفظ عُبِّر عنها؛ فليس الشأن في الأسماء وصُوَر العقود، وإنما الشأن في حقائقها ومقاصدها وما عُقِدَتْ له. الوجه الثاني (¬1): أن اليهود لم ينتفعوا بعين الشحم، وإنما انتفعوا بثمنه، ويلزم مَنْ راعى الصُّوَر والظواهر والألفاظ دون الحقائق والمقاصد أن لا يحرم ذلك، فلما لُعنوا على استحلال الثمن -وإن لم ينص لهم على تحريمه- علم أن الواجب النظر إلى الحقيقة والمقصود لا إلى مجرد الصورة، ونظير هذا أن يُقال لرجل: لا تَقْرب مال اليتيم، فيبيعه ويأخذ عوضه ويقول: لم أَقْرب ماله، وكمن يقول لرجل: لا تشرب من هذا النهر، فيأخذ بيديه ويشرب من كفيه (¬2) ويقول: لم أشرب منه، وبمنزلة من يقول: لا تضرب زيدًا، فيضربه فوق ثيابه ويقول: إنما ضربتُ ثيابه، وبمنزلة من يقول: لا تأكل [من] (¬3) مال هذا الرجل فإنه حرام، فيشتري به سلعةً ولا يُعيِّنه ثم ينقده للبائع ويقول: لم آكل ماله إنما أكلت ما اشتريته وقد ملكت (¬4) ظاهرًا وباطنًا، وأمثال هذه الأمور التي لو استعملها الطبيبُ في معالجة المرضى لزاد مرضُهم، ولو استعملها المريضُ لكان مرتكبًا لنفس ما نهاه عنه الطبيب، كمن يقول له الطبيب: لا تأكل اللحم فإنه يزيد في مواد المرض، فيدقه ويعمل منه هريسة ويقول: لم آكل اللحم، وهذا المثال مطابق لعامة الحيل الباطِلة في الدين. وياللَّه العجب! أي فرق بين بيع مئة بمئة وعشرين درهمًا صريحًا (¬5) وبين إدخال سلعة لم تقصد أصلًا بل دخولها كخروجها؟ ولهذا لا يَسْأل العاقدُ عن جنسها ولا صفتها ولا قيمتها ولا عيب فيها ولا يُبالي بذلك ألبتة حتى لو كانت خرقة مقطّعة أو أذن شاة (¬6) أو عودًا من حطب أدخلوه محللًا للربا (¬7)، ولما تفطَّن ¬
[مثل لمن وقف مع الظواهر والألفاظ]
المحتالون أن هذه السلعة لا اعتبار بها في نفس الأمر، وأنها ليست مقصودة بوجه، وأن دخولها كخروجها، [تهاونوا بها] (¬1)، ولم يبالوا بكونها مما يتموَّل عادةً أو لا يتمول، ولم يُبَالِ بعضُهم بكونها مملوكة للبائع أو غير مملوكة، بل لم يبالِ بعضهم بكونها مما يُباع أو مما لا يباع كالمسجد والمنارة والقلعة، وكل هذا وَقَع من أرباب الحيل، وهذا (¬2) لما عَلِموا أن المشتري لا غَرَضَ له في السلعة فقالوا: أي سلعة اتفق حضورها حصل بها التحليل، كأي تيس اتفق في باب محلل النكاح. [مثل لمن وقف مع الظواهر والألفاظ] وما مَثَلُ من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يُرَاعِ المقاصدَ والمعاني إلا كمَثَل رجل قيل له: لا تُسلم على صاحب بِدْعَةٍ، فقبَّلَ يده ورجله ولم يسلم عليه، أو قيل له: اذهب فاملأ هذه الجرة، فذهب فملأها ثم تركها على الحوض وقال: لم تقل: ايتني بها، وكمن قال لوكيله: بع هذه السلعة، فباعها بدرهم وهي تساوي مئة، ويلزم مَنْ وقف مع الظواهر أن يصحِّحَ هذا البيع ويُلزم به المُوكِّل، وإنْ نظر إلى المقاصد تناقض حيث ألغاها (¬3) في غير موضع، وكمن أعطاه رجل ثوبًا فقال: واللَّه لا ألبسه لما له فيه من المِنَّة، فباعه وأعطاه ثمنه فقبله، وكمن قال: واللَّه لا أشرب هذا الشراب، فجعله عقيدًا أو ثَرَدَ فيه خبزًا وأكله، ويلزم مَنْ وقف مع الظواهر والألفاظ أن لا يحد مَنْ فعل ذلك بالخمر، وقد أشار النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى أن من الأُمّة مَنْ يتناول المحرم ويسميه بغير اسمه فقال؛ "ليشربَنَّ ناسٌ من أمتي الخمر يسمُّونها بغير اسمها، يُعْزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف اللَّه بهم الأرض، ويجعل منهم القردة والخنازير" (¬4) رواه أحمد وأبو داود، وفي "مسند ¬
الإمام أحمد" مرفوعًا: "يشربُ ناسٌ من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها" (¬1)، وفيه عن عُبَادة بن الصامت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يشرب ناسٌ من أمتي الخمر باسم يُسمُّونها إياه" (¬2)، وفي "سنن ابن ماجه" من حديث أبي أمامة يرفعه: "لا تذهب الليالي ¬
والأيام حتى تشربَ طائفةٌ من أمتي الخَمْرَ يسمّونها بغير اسمها" (¬1) قال شيخنا (¬2): وقد جاء حديث آخر يوافق هذا [مرفوعًا وموقوفًا من حديث ابن عباس] (¬3): "يأتي على الناس زمانٌ يستحلُّ فيه خمسة أشياء [بخمسة أشياء] (¬4): يستحلون الخمر باسم يسمونها إياه (¬5)، والسُّحت بالهدية، والقتل بالرهبة، والزنا بالنكاح، والربا بالبيع" (¬6) وهذا حق؛ فإن استحلال الربا باسم البيع ظاهر كالحيل الربوية التي صورتها صورة البيع وحقيقتها حقيقة الربا، ومعلوم أن الربا إنما حرم لحقيقته ومفسدته لا لصورته واسمه، فَهَبْ أن المرابي لم يسمه ربًا وسمَّاه بيعًا فذلك لا يخرج حقيقته وماهيته عن نفسها. ¬
[استحلال الخمر باسم آخر]
[استحلال الخمر باسم آخر] وأما استحلال الخمر باسم آخر فكما استحلَّ مَنْ استحل المسكر من غير عصير العنب وقال: لا أسميه خمرًا وإنما هو نبيذ، وكما يستحلها طائفة من المجَّان إذا مُزِجت ويقولون: خرجت [بالمزج] (¬1) عن اسم الخمر، كما يخرج الماء بمخالطة غيره له عن اسم الماء المطلق، وكما يستحلها من يستحلها إذا اتخذت عقيدًا ويقول؛ هذه عقيد (¬2) لا خمر، ومعلوم أن التحريم تابع للحقيقة والمفسدة لا للاسم والصورة؛ فإن إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر اللَّه وعن الصلاة لا تزول بتبديل الأسماء والصور [عن ذلك] (¬3)، وهل هذا إلا من سوء الفهم وعدم الفقه عن اللَّه ورسوله؟ [استحلال السحت باسم الهدية] وأما استحلال السُّحت باسم الهدية -وهو (¬4) أظهر من أن يذكر- كرشوة الحاكم والوالي وغيرهما، فإن المرتشي ملعونٌ هو والراشي (¬5)؛ لما في ذلك من المفسدة، ومعلوم قطعًا أنهما لا يخرجان عن الحقيقة، وحقيقة الرشوة بمجرد اسم الهدية (¬6)، وقد عَلِمنا وعلم اللَّهُ وملائكتهُ ومَنْ له اطلاع على الحيل أنها رِشْوَة. وأما استحلال القتل باسم الإرهاب الذي تسميه وُلَاة الجور سياسة وهيبة (¬7) وناموسًا وحرمة للملك فهو أظهر من أن يذكر (¬8). ¬
[استحلال الزنا باسم النكاح]
[استحلال الزنا باسم النكاح] وأما استحلال الزنا باسم النكاح فهو الزنا بالمرأة التي لا غَرَضَ له أن يقيم معها ولا أن تكون زوجته، وإنما غرضه أن يقضي منها وَطَرَه أو يأخذ جُعْلًا على الفساد بها ويتوصل إلى ذلك باسم النكاح وإظهار صورته، وقد علم اللَّه ورسوله والملائكة والزوج والمرأة أنه محلل لا ناكح، وأنه ليس بزوج، وإنما هو تيس مستعار للضِّرَاب بمنزلة حمار العشريين. فياللَّه العجب! أي فرق في نفس الأمر بين الزنا وبين هذا؟ نعم هذا زنا بشهود من البشر وذلك زنا بشهود من الكرام الكاتبين كما صرَّح به أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقالوا (¬1): "لا يزالان زانيين وإن مكَثَا عشرين سنة إذا علم اللَّه أنه إنما يريد أن يحللها" والمقصود أن هذا المحلل إذا قيل له: هذا زنا، قال: ليس بزنا بل نكاح، كما أن المرابي إذا قيل له: هذا ربًا، قال: بل هو بيع. [استحلال المحرّم بتغيير اسمه وصورته] وكذلك كل من استحلّ محرمًا بتغيير اسمه وصورته كمن يستحل الحشيشة باسم لقيمة الراحة (¬2)، ويستحل المعازف كالطنبور والعود والبربط (¬3) باسم يسميها به، وكما يسمي بعضهم المغني بالحادي والمطرب والقَوَّال، وكما يسمي الديوث (¬4) بالمصلح والموفق والمحسن، ورأيت من يسجد لغير اللَّه من الأحياء والأموات ويسمي ذلك وَضْعَ الرأس للشيخ؟ قال: ولا أقول هذا سجود، وهكذا الحيل سواء؛ فإن أصحابها يعمدون إلى الأحكام فيعلّقونها بمجرد اللفظ، ويزعمون أن الذي يستحلونه ليس بداخل في لفظ الشيء المحرم، مع القطع بأن معناه معنى الشيء المحرم؛ فإن الرجل إذا قال لمن له عليه ألف: اجعلها ألفًا ومئة إلى سنة بإدخال هذه الخرقة وإخراجها صورةً لا معنى، لم يكن فرق بين توسطها وعدمه، وكذلك إذا قال: مكنيني من نفسك أقْضِ منك وَطَرًا يومًا أو ¬
[ذكر أسماء ما أنزل الله بها من سلطان]
ساعة بكذا وكذا، لم يكن فرق بين إدخال شاهدين في هذا أو عدم إدخالهما وقد تواطئا على قضاء وطر ساعة من زمان. [ذكر أسماء ما أنزل اللَّه بها من سلطان] ولو أوْجَبَ تبديلُ الأسماء والصور تبدُّلَ الأحكام والحقائق لفسدت الديانات، وبُدلت الشرائع (¬1)، واضمحل الإسلام، وأي شيء نَفَعَ المشركين تسميتهم أصنامَهم (¬2) آلهةً وليس فيها شيء من صفات الإلهية وحقيقتها؟ وأي شيء نَفَعهم تسمية الإشراك باللَّه تقربًا إلى اللَّه؟ وأي شيء نَفَع المعطِّلين لحقائق أسماء اللَّه وصفاته تسميةُ ذلك تنزيهًا؟ وأي شيء نفع الغلاةَ من البشر واتخاذهم طواغيت يعبدونها (¬3) من دون اللَّه تسمية ذلك تعظيمًا وأحترامًا؟ وأي شيء نفع نُفَاة القدر المخرجين لأشرف ما في مملكة الرب تعالى من طاعة (¬4) أنبيائه ورسله وملائكته وعباده عن قدرته تسمية ذلك عدلًا؟ وأي شيء نَفَعهم نفيهم لصفات كماله تسمية ذلك توحيدًا؟ وأي شيء نفع أعداء الرسل من الفلاسفة القائلين بأن اللَّه لم يخلق السموات والأرض في ستة أيام ولا يحيى الموتى ولا يبعث مَنْ في القبور ولا يعلم شيئًا من الموجودات ولا أرسل إلى الناس رسلًا يأمرونهم بطاعته (¬5) تسمية ذلك حكمة؟ وأي شيء نفع أهل النفاق تسمية نفاقهم عقلًا معيشيًا وقَدْحَهم في عقل من لم ينافق نفاقهم ويُدَاهن في دين اللَّه؟ وأي شيء نفع المَكَسَة (¬6) تسمية ما يأخذونه ظلمًا وعدوانًا حقوقًا سلطانية وتسمية أوضاعهم الجائرة الظالمة المناقضة لشرع اللَّه ودينه شرع الديوان؟ وأي شيء نفع أهل البِدَعِ والضلال تسمية شبههم الداحضة عند ربهم وعند أهل العلم والدين والإيمان عقليات وبراهين؟ وتسمية كثير من المتصوفة (¬7) الخيالاتِ الفاسدةَ والشطحات حقائق؟ فهؤلاء كلهم حقيق أن يتلى عليهم: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23]. ¬
فصل [صيغ العقود إخبار عما في النفس من المعنى الذي أراده الشارع]
فصل [صيغ العقود إخبار عما في النفس من المعنى الذي أراده الشارع] ومما يوضح ما ذكرناه -من أن القصود في العقود معتبرة دون (¬1) الألفاظ المجردة التي لم يقصد بها معانيها وحقائقها أو قصد غيرها- أن صيغ العقود كبعتُ واشتريتُ وتزوَّجتُ وَأجَّرتُ إما إخباراتٌ وإما إنشاءاتٌ، وإما أنها متضمنة للأمرين فهي إخبارات عما في النفس من المعاني التي تدل على العقود وإنشاءات لحصول العقود في الخارج؛ فلفظَها موجِبٌ لمعناه في الخارج؛ وهي إخبار عمَّا في النفس من تلك المعاني، [ولا بد في صحتها من مطابقة خبرها لمخبرها، فإذا لم تكن تلك المعاني] (¬2) في النفس كانت خَبَرًا كاذبًا، وكانت بمنزلة قول المنافقِ: أشهد أن محمدًا رسول اللَّه، وبمنزلة قوله: آمنت باللَّه وباليوم الآخر، وكذلك المُحلِّل إذا قال: "تزوجت" وهو لا يقصد بلفظ التزوج المعنى الذي جعله اللَّه في الشرع كان إخبارًا كاذبًا وإنشاءً باطلًا؛ فإنا نعلم أن هذه اللفظة لم تُوضَعْ في الشرع ولا في العرف ولا في اللغة لمن قصد رَدَّ المطلقة إلى زوجها، وليس له قصد في النكاح الذي وضعه اللَّه بين عباده وجعله سببًا للمودة (¬3) والرحمة بين الزوجين، وليس له قصد في توابعه حقيقة ولا حكمًا، فمَنْ ليس له قصد في الصحبة ولا في العشرة ولا [في] (4) المصاهرة ولا [في] (¬4) الولد ولا [في] (4) المواصلة ولا المعاشرة ولا الإيواء، بل قصده أن يفارق لتعود إلى غيره؛ فاللَّه جعل النكاح سببًا للمواصلة والمصاحبة والمحلل جعله سببًا للمفارقة، فإنه تزوج ليطلق؛ فهو مناقض لشرع اللَّه ودينه وحكمته، فهو كاذب في قوله: "تزوجت"، بإظهار خلاف ما في قلبه، وبمنزلة من قال لغيره: وكَّلْتُكَ أو شاركتك أو ضاربتك أو ساقيتك وهو يقصد رَفْعَ هذه العقود وفَسْخَها. [العقود إخبارات وإنشاءات] وقد تقدم أن صيغ العقود إخبارات عمَّا في النفس من المعاني التي هي أصل العقود ومبدأ الحقيقة التي بها يصير اللفظ كلامًا معتبرًا؛ فإنها لا تصير كلامًا ¬
[تقسيم جامع يبين حقيقة صيغ العقود]
معتبرًا إلا إذا قرنت بمعانيها، فتصير إنشاءً للعقود والتصرفات من حيث أنها هي التي أثبتت الحكم وبها وُجِد، وإخبارات من حيث دلالتها على المعاني التي في النفس؛ فهي تشبه في اللفظ أحببتُ أو أبغضتُ وكرهتُ، وتشبه في المعنى قم واقعد، وهذه الأقوال (¬1) إنما تفيد الأحكام إذا قَصَد المتكلم بها -حقيقة أو حكمًا- ما جُعلت له، وإذا لم يقصد به ما يناقض معناها، وهذا فيما بينه وبين اللَّه تعالى؛ فأما في الظاهر فالأمر محمول على الصحة، وإلا لَمَا تم عقد ولا تَصَرُّفٌ، فإذا قال: بِعتُ أو تزوجتُ كان هذا اللفظ دليلًا على أنه قصد معناه المقصودَ به، وجعله الشارع بمنزلة القاصد وإن كان هازلًا، وباللفظ والمعنى جميعًا يتمُّ الحكم؛ فكلُّ منهما جزء السبب، وهما مجموعه، وإن كانت العبرة في الحقيقة بالمعنى واللفظُ دليلٌ؛ ولهذا يُصار إلى غيره عند تعذره، وهذا شأن عامة أنواع الكلام فإنه محمول على معناه المفهوم منه عند الإطلاق، لا سيما الأحكام الشرعية التي علَّق الشارع بها أحكامها، فإن المتكلم عليه أن يقصد بتلك الألفاظ معانيها، والمستمع عليه أن يحملها على تلك المعاني، فإن لم يقصد المتكلم بها معانيها بل تكلم بها غير قاصد لمعانيها أو قاصدًا لغيرها أبطل الشارعُ عليه قصده، فإن كان هازلًا أو لاعبًا لم يقصد المعنى ألزمه الشارع المعنى كمن هَزَل بالكفر والطلاق والنكاح والرجعة، بل لو تكلم الكافرُ بكلمة الإسلام هازلًا لألْزِم به وجرت عليه أحكامه ظاهرًا، وإن تكلم بها مخادعًا ماكرًا محتالًا مُظْهِرًا خلافَ ما أبطن لم يعطه الشارع مقصوده كالمحلّل والمرابي بعقد العِينة وكل من احتال على إسقاط واجب أو فعل محرِّم بعقد أو قول أظهره وأبطن الأمر الباطل. وبهذا يخرج الجواب عن الإلزام بنكاح الهازل وطلاقه ورجعته وإن لم يقصد حقائق هذه الصيغ ومعانيها. [تقسيم جامع يبين حقيقة صيغ العقود] ونحن نذكر تقسيمًا جامعًا نافعًا في هذا الباب نبين (¬2) به حقيقة الأمر فنقول: المتكلم بصيغ العقود إما أن يكون قاصدًا للتكلم بها أو لا يكون قاصدًا؛ فإن لم يقصد التكلم بها كالمكره والنائم والمجنون والسكران والمغلوب على عقله لم يترتب عليها شيء، وإن كان في بعض ذلك نزاع وتفصيل فالصواب أن أقوال ¬
[لا يجوز أن يحصل المحتال على مقصوده]
هؤلاء كلها هَدَر كما دل عليه الكتاب والسنة والميزان وأقوال الصحابة، وإن كان قاصدًا للتكلم بها فإما أن يكون عالمًا بغاياتها (¬1) متصورًا لها أو لا يدري معانيها (¬2) ألبتة بل هي عنده كأصوات يَنْعَقُ بها؛ فإن لم يكن عالمًا بمعناها ولا متصورًا له لم يترتب عليه (¬3) أحكامها أيضًا، ولا نزاع بين أئمة الإسلام في ذلك، وإن كان متصورًا لمعانيها عالمًا بمدلولها فإما أن يكون قاصدًا لها أو لا؛ فإن كان قاصدًا لها ترتبت أحكامها في حقه ولزمته، وإن لم يكن قاصدًا لها فإما أن يقصد خلافها أو لا يقصد لا معناها ولا غيرَ معناها؛ فإن لم يقصد غيرَ التكلم به فهو الهازل ونذكر حكمه، وإن قصد غير معناها فإما أن يقصد ما يجوز له قصده أو لا؛ فإن قصد ما يجوز له قصده نحو أن يقصد بقوله: "أنت طالق" من زوج كان قبلي، أو يقصد بقوله: "أمتي -أو عبدي حر" أنه عفيفٌ عن الفاحشة، أو يقصد بقوله: "امرأتي عندي مثل أمي" في الكرامة والمنزلة، ونحو ذلك، لم تلزمه أحكام هذه الصيغ فيما بينه وبين اللَّه تعالى، وأما في الحكم فإن اقترَنَ بكلامه قرينة تدل على ذلك لم يلزمه أيضًا؛ لأن السياق والقرينة بيّنة تدل على صدقه، وإن لم يقترن بكلامه قرينة أصلًا وادعى ذلك دَعوَى مجردة لم تُقبل منه، وإن قصد بها ما لا يجوز قَصْدُه، كالتكلّم (¬4) بنكحتُ وتزوجتُ بقصد التحليل، وبعتُ واشتريتُ بقصد الربا، وبخالعتها بقصد الحيلة على فعل المحلوفِ عليه، وبملكتُ بقصد الحيلة على إسقاط الزكاة أو الشفعة، وما أشبه ذلك. [لا يجوز أن يحصل المحتال على مقصوده] فهذا لا يحصل له مقصوده الذي قصده وجعل ظاهر اللفظ والفعل وسيلة إليه؛ فإن في تحصيل مقصوده تنفيذًا للمُحرّم، وإسقاطًا للواجب، وإعانة على معصية اللَّه ومناقضة لدينه وشرعه، فإعانتُهُ على ذلك إعانةٌ على الإثم والعدوان، ولا فرق بين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مُفْضِية إليه وبين إعانته على ذلك بالطريق التي وضعت مفضية إلى غيره؛ فالمقصود إذا كان واحدًا لم يكن اختلاف الطرق الموصلة إليه بموجب لاختلافِ حُكمهِ فيَحْرُم من طريق وَيحِل بعينه من طريق أخرى، والطرق وسائل وهي مقصودة لغيرها، فأي فرق بين التوسل إلى الحرام بطريق الاحتيال والمكر والخداع والتوسل إليه بطريق المجاهرة التي يوافق ¬
فصل [الكلام على المكره]
فيها السرُّ الإعلانَ والظاهرُ الباطنَ والقصدُ اللفظ، بل سالك هذه الطريقة قد تكون عاقبته أسلم وخطره أقل من سالك تلك من وجوه كثيرة، كما أن سالك طريق الخداع والمكر عند الناس أمْقَتُ وفي قلوبهم أوْضَعُ وهم عنه أشد نَفْرة ممن أتى الأمر على وَجْهه ودخَلَه من بابه؛ ولهذا قال أيوب السختياني -وهو من كبار التابعين وساداتهم وأئمتهم- في هؤلاء: يُخادعون اللَّه كما يُخادعون الصبيان، لو أتوا الأمر على وجهه كان أسهل عليهم (¬1). فصل [الكلام على المكره] إذا عرف هذا فنقول: المكرَهُ (¬2) قد أتى باللفظ المُقتضي للحكم، ولم يثبت عليه حكمه؛ لكونه غيرَ قاصدِ له، وإنما قصد دفع الأذى عن نفسه، فانتفى الحكم لانتفاء قصده وإرادته لموجَب اللفظ؛ فعلم أن نفس اللفظ ليس مقتضيًا للحكم اقتضاء الفعل لأثره، فإنه لوَ قَتَل أو غَصَب أو أتْلَفَ أو نجَّس المائع مكرهًا لم يمكن أن يقال: إن ذلك القتل أو الإتلاف أو التنجيس فاسد وباطل، كما لو أكل أو شرب أو سكر لم يقل: إن ذلك فاسد، بخلاف ما لو حلف أو نذر أو طلق أو عقد عقدًا حكميًّا. [الموازنة بين المكره والمحتال] وهكذا المحتال الماكر المخادع؛ فإنه لم يقصد الحكم المقصود بذلك اللفظ الذي احتال به، وإنما قصد معنى آخر فقصد الربا بالبيع والتحليل بالنكاح والحنث بالخلع، بل المكره قد قَصَد دفع الظلم عن نفسه، وهذا قَصْدُه التوسل إلى غرض رديء؛ فالمحتال والمكره يشتركان في أنهما لم يقصدا بالسبب حكمه ولا باللفظ ¬
فصل [حقيقة الهازل وحكم عقوده]
معناه، وإنما قَصَدًا التوسَّل بذلك اللفظ وبظاهر ذلك السبب إلى شيء آخر غير حكم السبب، لكن أحدهما راهبٌ قَصْدُه دفعُ الضرر عن نفسه، ولهذا يحمد أو يعذر على ذلك، والآخر راغب قصده إبطال حق وإيثار باطل، ولهذا يذم على ذلك فالمكره يبطل حكم السبب فيما عليه وفيما له لأنه لم يقصد واحدًا منهما، والمحتال يبطل حكم السبب فيما احتال عليه، وأما فيما سِوَاه فيجب فيه التفصيل. وهاهنا أمر لا بد منه، وهو أنَّ من ظهر لنا أنه محتال فهو كمن (¬1) ظهر لنا أنه مكره، ومن ادَّعى أنه إنما قصد الاحتيال فكمن ادعى أنه مكره، وإن كان ظهور أمر المكره أَبيْن من ظهور أمر المحتال. فصل [حقيقة الهازل وحكم عقوده] وأما الهازل فهو الذي يتكلم بالكلام من غير قصد لموجِبَه وحقيقته، بل على وجه اللعب، ونقيضُه الجادُّ فاعل من الجِدِّ -بكسر الجيم- وهو نقيض الهزل، وهو مأخوذ من "جَدَّ فلان" إذا عظم واستغنى وصار ذا حظ، والهزل: من هَزَلَ إذا ضعف وضؤل، نُزِّلَ الكلام الذي يراد معناه وحقيقته بمنزلة صاحب الحظ والبخت والغنى، والذي لم يرد معناه وحقيقته بمنزلة الخالي من ذلك؛ إذ قوام الكلام بمعناه، وقوام الرجل بحظه وماله، وقد جاء فيه حديث أبي هريرة المشهور عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاثٌ جَدُّهنَّ جَدٌّ وهَزْلُهنَّ جَدٌّ: النكاحُ، والطلاقُ، والرَّجعة" (¬2) رواه أهل "السنن"، وحَسَّنه الترمذي، وفي مَرَاسيل الحسن عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ نكَحَ لاعبًا أو طلق لاعبًا أو أعتق لاعبًا فقد جاز" (¬3). وقال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: أربعٌ جائزات إذا تكلم بهن: الطَّلاقُ، والعِتاقُ، والنِّكاحُ، والنَّذُر (¬4). وقال [أميرُ ¬
فصل [أقوال الفقهاء والحكمة في نفاذ حكم العقود على الهازل]
المؤمنين] (1) عليٌّ [كرم اللَّه وجهه] (¬1): ثلاثةٌ لا لعِبَ فيهن: الطلاقُ، والعتاقُ، والنكاحُ (¬2). وقال أبو الدرداء: ثلاثٌ اللعبُ فيهن كالجدِّ: الطلاقُ، والعتاقُ، والنكاحُ (¬3). وقال ابن مسعود: النكاح جده ولعبه سواء (¬4)، ذكر ذلك أبو حفص العَكْبَري (¬5). فصل [أقوال الفقهاء والحكمة في نفاذ حكم العقود على الهازل] فأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور (¬6)، وكذلك نكاحه صحيح كما صرَّح ¬
[الهازل يقصد السبب لا الحكم]
به النصُّ (1)، وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين (¬1)، وهو قول الجمهور (¬2)، وحكاه أبو حفص نصًا (¬3) عن أحمد، وهو قول أصحابه، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضُهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك الذي رواه ابن القاسم عنه وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم، بخلاف البيع، وروى عنه علي بن زياد أن نكاح الهازل لا يجوز، قال بعض أصحابه: فإن قام دليلُ الهزل لم يلزمه عتق ولا نكاح ولا طلاق، ولا شيء عليه من الصَّدَاق، وأما بيع الهازل وتصرفاته المالية فإنه لا يصح عند القاضي أبي يعلى وأكثر أصحابه، وهو قول الحنفية والمالكية. وقال أبو الخطاب [في "انتصاره"] (4): يصح بيعه كطلاقه، وخَرَّجها بعض الشافعية على وجهين، ومن قال بالصحة قاس سائر التصرفات على النكاح والطلاق والرجعة. [الهازل يقصد السبب لا الحكم] والفقه فيه أن الهازل أتى بالقول غيرَ ملتزِم لحكمه، وترتيبُ الأحكام على الأسباب للشارع لا للعاقد، فإذا أتى بالسبب لزمه حكمه شاء أم أبى؛ لأن ذلك لا يقف على اختياره، وذلك أن الهازل قاصدٌ للقول مريدٌ له مع علمه بمعناه وموجبه، وقَصْدُ اللفظ المتضمن للمعنى قَصْدٌ لذلك المعنى لتلازمهما، إلا أن يعارضه قصدٌ آخر كالمكره والمخادع المحتال؛ فإنهما قَصَدا شيئًا آخر غير معنى القول وموجبه، ألا ترى أن المكره قصد دفع العذاب عن نفسه ولم يقصد السبب ابتداءً. والمحلِّل قصد إعادتها إلى المطلق، وذلك منافٍ لقصده موجب السبب، وأما الهازل فقَصَد السبب ولم يقصد حكمه ولا ما ينافي حكمه فترتب عليه أثره. فإن قيل: هذا ينتقض عليكم بلغو اليمين فإنه لا يترتب عليه حُكْمُه. قيل: اللاغي لم بقصد السبب، وإنما جَرَى على لسانه من غير قصد؛ فهو بمنزلة كلام النائم والمغلوب على عقله، وأيضًا فالهزل أمر باطن لا يُعْرَف إلا من جهة الهازل، فلا يقبل قوله في إبطال حق العاقد [الآخر] (¬4)، ومَنْ فرَّق بين البيع وبابه والنكاح وبابه قال: الحديثُ والآثارُ تدل على أن من العقود ما يكون جده ¬
وهزله سواء، ومنها ما لا يكون كذلك، وإلا لقال: العقود كلها أو الكلام كله جده وهزله سواء، وأما من جهة المعنى فإن النكاح والطلاق والرجعة والعتق فيها حقُّ للَّه تعالى؛ أما العتق فظاهر، وأما الطلاق فإنه يوجب تحريم البُضْع، ولهذا تجب إقامة الشهادة فيه وإن لم تطلبها الزوجة، وكذلك في النكاح فإنه يفيدُ حِلَّ ما كان حرامًا وحرمة ما كان حلالًا وهو التحريم الثابت بالمصاهرة؛ ولهذا لا يُستباح إلا بالمهر، وإذا كان كذلك لم يكن للعبد -مع تعاطي السبب الموجب لهذه الأحكام- أن لا يرتب عليها موجباتها، كما ليس له ذلك في كلمات الكفر إذا هَزَل بها كما صرَّح به القرآن؛ فإن الكلام المتضمن لحق اللَّه لا يمكن قوله مع رفع ذلك الحق؛ إذ ليس للعبد أن يهزل مع ربه ولا يستهزئ بآياته ولا يتلاعب بحدوده، وفي حديث أبي موسى: "ما بالُ أقوامٍ يلعبون بحدود اللَّه ويستهزئون بآياته" (¬1) [وذلك في الهازلين، و] (¬2) يعني -واللَّه أعلم-: يقولونها لعبًا غير ملتزمين لأحكامها وحكمُها لازمٌ لهم، وهذا بخلاف البيع وبابه؛ فإنه تصرّفٌ في المال الذي هو محضُ حق الآدمي، ولهذا يملك بَذْلَه بعوض وغير عوض، والإنسان قد يلعب مع الإنسان وينبسط معه، فإذا تكلم على هذا الوجه لم يلزمه حكم الجادِّ؛ لأن المزاح معه جائز. ¬
[الهزل في حقوق الله غير جائز بخلاف جانب العباد]
[الهزل في حقوق اللَّه غير جائز بخلاف جانب العباد] وحاصل الأمر أن اللعب والهزل والمزاح في حقوق اللَّه تعالى غير جائز، فيكون جد القول وهزله سواء، بخلاف جانب العباد، ألا ترى أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يمزح مع أصحابه (¬1) ويباسطهم، وأما مع ربه تعالى فيجدُّ كلَّ الجد، ولهذا قال للأعرابي يمازحه: "مَنْ يشتري مني العَبْدَ؟ فقال: تجدُني رخيصًا يا رسول اللَّه؟ فقال: بل أنت عند اللَّه غالٍ" (¬2) وقصد -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه عبد اللَّه، والصيغة صيغة استفهام، وهو -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يمزح ولا يقول إلا حقًا (¬3)، ولو أن رجلًا قال: "من يتزوج أمي أو ¬
[عقد النكاح يشبه العبادات]
أختي" لكان من أقبح الكلام، وقد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يضرب من يدعو امرأته أخته، وقد جاء في ذلك حديث مرفوع رواه أبو داود "أن رجلًا قال لامرأته: يا أخته، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: أُخْتُكَ هي؟ إنما جَعَلَ إبراهيمُ ذلك حاجةً لا مُزَاحًا" (¬1). [عقد النكاح يشبه العبادات] ومما يوضحه أن عقد النكاح يُشْبِه العبادات في نفسه، بل هو مقدَّم على نفلها، ولهذا يستحب عقده في المساجد، ويُنهى عن البيع فيها، ومن يشترط له لفظًا بالعربية راعى فيه ذلك إلحاقًا له بالأذكار المشروعة، ومثل هذا لا يجوز الهزل به، فإذا تكلم به رتَّبَ الشارعُ عليه حكمه وإن لم يقصده، بحكم ولاية الشارع على العبد؛ فالمكلفُ قَصَد السببَ، والشَّارعُ قصد الحكَم، فصارا مقصودين كليهما (¬2). فصل [ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة] وقد ظهر بهذا أن ما جاء به الرسول هو أكمل ما تأتي به شريعة؛ فإنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أن يُقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة اللَّه ورسوله (¬3)، ولم يُؤمر أن يُنقِّب عن قلوبهم ولا أن يشق بطونهم، بل يُجْرِي عليهم أحكام اللَّه في الدنيا إذا دخلوا في دينه، ويجري أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونيّاتهم؛ فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان، ولهذا قبل إسلام ¬
[الأحكام جارية على ما يظهر العباد]
الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، وأخبر أنه لا ينقصُهُم مع ذلك من ثواب طاعتهم للَّه ورسوله شيئًا، وقبل إسلام المنافقين ظاهرًا، وأخبر أنه (¬1) لا ينفعهم يوم القيامة شيئًا، وأنهم في الدَّرْكِ الأسفل من النار. [الأحكام جارية على ما يُظْهر العباد] فأحكام الرب تعالى جارية على ما يظهر العباد، ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه كما تقدم تفصيله، وأما قصة الملاعِنِ فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما قال بعد أن وَلَدت الغُلامَ على شبه الذي رُميت به: "لولا ما مضى من كتاب اللَّه لكان لي ولها شأن" (¬2) فهذا -واللَّه أعلم- إنما أراد به لولا حكم اللَّه بينهما باللِّعان لكان شبه الولد بمن رُميت به يقتضي حكمًا آخر غيره، ولكن حكم اللَّه باللعان ألغى حكم هذا الشَّبَه، فإنهما دليلان وأحَدُهما أقوى من الآخر؛ فكان العمل به واجبًا، وهذا كما لو تعارض دليل الفِرَاش ودليل الشبه، فإنا نُعْمِلُ دليل الفراش، ولا نلتفت إلى الشبه بالنص (¬3) والإجماع، فأين في هذا ما يبطل المقاصد والنيات والقرائن التي لا مُعارِض لها؟ وهل (¬4) يلزم من بُطلان الحكم بقرينةٍ قد عارضها ما هو أقوى منها بطلانُ الحكم بجميع القرائن؟ وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام. وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعًا غير هذا، وهذا شأن عامة المتداعيين، لا بد أن يكون أحدهم محقًا والآخر مبطلًا، وينفذ حكم اللَّه عليهما تارة بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل، وتارة بغير ذلك إذا لم يكن مع المحق دليل. وأما حديث رُكَانة لما طلَّق امرأته البتة وأحلفه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه إنما أراد واحدة (¬5) فمِنْ أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة، وأن الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإنْ خَالَفت ظواهر ألفاظهم؛ فإن لفظ البتة يقتضي أنها قد بانت منه (¬6) وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح، وأنه لم يبق له عليها رجعة، بل بانت منه البتة كما يدل عليه لفظ البتة لغةً وعرفًا، ومع هذا فردَّهَا ¬
[الرد على من زعم إبطال استعمال الدلالة في حكم الدنيا]
عليه، وقبل قوله أنها واحدة مع مخالفة الظاهر (¬1) اعتمادًا على قصده ونيته، فلولا اعتبار القُصُود في العقود لما نَفَعه قصدُه الذي يُخالف ظاهر لفظه مخالفة ظاهرةً بينة؛ فهذا الحديث أصل لهذه القاعدة، وقد قبل منه في الحكم، ودَيَّنه فيما بينه وبين اللَّه، فلم يَقْضِ عليه بما أظهر من لفظه لما أخبره بأن نيته وقصده كان خلاف ذلك. [الردّ على من زعم إبطال استعمال الدلالة في حكم الدنيا] وأما قوله (¬2): "إن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبطل في حكم الدنيا استعمالَ الدلالة التي لا يُوجدُ أقوى منها" يعني دلالة الشَّبَه (¬3) فإنما أبطلها بدلالة أقوى منها وهي اللعان، كما أبطلها مع قيام دلالة الفراش، واعتبرها حيث لم يعارضها مثلُها ولا أقوى منها في إلحاق الولد بالقَافَةِ وهي دلالة الشبه، فأين في هذا إلغاء الدلالات والقرائن مطلقًا؟ [أحكام الدنيا تجري على الأسباب] وأما قوله (¬4): "إنه لم يحكم في المنافقين بحكم الكفر مع الدلالة التي لا أقوى منه، وهي خبر اللَّه تعالى عنهم وشهادته عليهم". فجوابه: أن اللَّه تعالى لم يُجرِ أحكام الدنيا على علمه في عباده، وإنما أجراها على الأسباب التي نصبها أدلةً عليها وإن علم سبحانه وتعالى أنهم مُبطلون فيها مُظهرون لخلاف ما يبطنون، وإذا أطلَعَ اللَّه رسولَه على ذلك لم يكن ذلك مناقضًا لحكمه الذي شَرَعه ورتبه على تلك الأسباب كما رتَّبَ على المتكلِّم بالشهادتين حُكمَه وأطلع رسوله وعباده المؤمنين على أحوال كثير من المنافقين وأنهم لم يطابق قولهم اعتمادهم، وهذا كما أجرى حكمه على المتلاعنين [ظاهرًا] (¬5) ثم أطلع رسوله والمؤمنين على حال المرأة بشبه الولد لمن رُميت به، وكما قال: "إنما أقضي بنحو ما (¬6) أسمع، فمن قضيتُ له بشيء من حَقِّ أخيه ¬
[عمر يحد بالتعريض بالقذف]
فإنما أقطعُ له قطعةً من النار" (¬1)، وقد يُطْلِعه اللَّه على حال آخذ ما لا يحل له أخذه، ولا يمنعه ذلك من إنفاذ الحكم، وأما الذي قال: "يا رسول اللَّه إنَّ امرأتي وَلَدت غلامًا أسود" (¬2) فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحًا ولا كناية، وإنما أخبره (¬3) بالواقع مستفتيًا عن حكم هذا الولد: أيستلحقُهُ مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقرَّب له الحُكمَ بالشبه الذي ذكره؛ ليكون أذْعَنَ (¬4) لقبوله، وانشراح الصدر له، ولا يقبله على إغماض، فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقَوْلِ مَنْ يشاتم غيره: أما أنا فلستُ بزانٍ، وليست أمي بزانية، ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وأنكى من التصريح، وأبلغ في الأذى، وظهورهُ عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، فهذا لونٌ وذلك لون. [عمر يحدُّ بالتعريض بالقذف] وقد حَدَّ عمر بالتعريض [في القذف] (¬5)، ووافقه الصحابة رضي اللَّه عنهم [أجمعين] (¬6)، وأما قوله (¬7) رحمه اللَّه: "إنه استشار الصحابة فخالفه بعضهم" فإنه يريد ما رواه عن مالك، عن أبي الرِّجال، عن أُمِّه عمرة بنت عبد الرحمن أن رجلين اسْتَبَّا في زمن عمر بن الخطاب، فقال أحدهما للآخر: واللَّه ما أنا بزانٍ ولا أمي بزانية، فاستشار في ذلك عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-، فقال قائل: مَدَحَ أباه وأمه، وقال آخرون: قد كان لأبيه وأمه مَدْحٌ غير هذا، نرى أن تجلده الحد، فجلده عمر الحد ثمانين (¬8)، وهذا لا يدل على أن القائل الأول خالف عمر؛ فإنه لما قيل له: إنه قد كان لأبيه وأمه مَدْح غير هذا فَهِمَ أنه أراد القذف فسكت، وهذا إلى الموافقة أقرب منه إلى المخالفة، وقد صح عن عمر من وجوه أنه حَدَّ في التعريض، فروى معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، أن عمر كان يحد ¬
[القول بأن الحكم بخلاف ما ظهر يؤدي إلى خلاف التنزيل والسنة]
في التعريض بالفاحشة (¬1)، وروى ابنُ جُرَيج، عن ابن أبي مُليكة، عن صَفْوَان وأيوب عن عمر أنه حد في التعريض (¬2)، وذكر أبو عمر (¬3) أن عثمان كان يحد في التعريض، وذكره ابن أبي شَيْبة (¬4)، وكان عمر بن عبد العزيز (¬5) يرى الحد في التعريض، وهو قول أهل المدينة (¬6) والأوزاعي (¬7)، وهو محض القياس، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية (¬8)، واللفظ إنما وُضع لدلالته على المعنى؛ فإذا ظهر المعنى غايَةَ الظهورِ لم يكن في تغيير اللفظ كبير فائدة. [القول بأن الحكم بخلاف ما ظهر يؤدّي إلى خلاف التنزيل والسنة] وأما قوله (¬9): "من حكم عَلَى الناس بخلاف ما ظهر عليهم لم يَسْلَم من خلاف التنزيل والسنة" فإنه يشير بذلك إلى قبول توبة الزنديق، وحَقْن دمه بإسلامه وقبول توبة المرتد وإن ولد على الإسلام، وهاتان مسألتان فيهما نزاع بين الأمة مشهور. ¬
[الرأي في توبة الزنديق والمرتد]
[الرأي في توبة الزنديق والمرتد] وقد ذكر الشافعي الحجة على قبول توبتهما، ومن لم يقبل توبتهما يقول: إنه لا سبيل إلى العلم بها؛ فإن الزنديق قد عُلم أنه لم يزل مُظهرًا للإسلام، فلم يتجدَّد له بإسلامه الثاني حالٌ مخالفةٌ لِما كان عليه، بخلاف الكافر الأصلي؛ فإنه إذا أسلم فقد تجدد له بالإسلام حالٌ لم يكن عليها، والزنديق إنما رجع إلى إظهار الإسلام، وأيضًا فالكافر كان مُعلنًا لكفره غير مُسْتتر به ولا مُخْفٍ له، فإذا أسلم تيقَّنا أنه أتى بالإسلام رغبةً فيه لا خوفًا من القتل، والزنديق بالعكس فإنه كان مُخْفيًا لكفره مستترًا به، فلم نؤاخذه بما في قلبه إذا لم يَظْهر عليه فإذا ظهر على لسانه وآخذناه به فإذا رجع عنه لم يرجع عن أمر كان مظهرًا له غير خائفٍ من إظهاره وإنما رجع خوفًا من القتل، وأيضًا فإن اللَّه تعالى سَنَّ في عباده أنهم إذا رأوا بأسه لم ينفعهم الإسلام، وهذا إنما أسلم عند معاينة البأس، ولهذا لو جاء (¬1) من تلقاء نفسه وأقر بأنه قال كذا وكذا وهو تائبٌ منه قبلنا توبته ولم نقتله، وأيضًا فإن اللَّه تعالى سَنَّ في المحاربين أنهم إنْ تابوا من قبل القدرة عليهم قُبلت توبتهم، ولا تنفعهم التوبة بعد القدرة عليهم، ومحاربةُ الزِّنديقِ للإسلام بلسانه أعظمُ من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانه؛ فإن فتنةَ هذا في الأموال والأبدان وفتنة الزنديق في القلوب والإيمان، فهو أولى ألا تُقبل توبتُه بعد القدرة عليه (¬2)، وهذا بخلاف الكافر الأصلي؛ فإن أمره كان معلومًا، وكان مظهرًا لكفره غير كاتمٍ له، والمسلمون قد أخذوا حِذْرَهم منه، وجاهروه بالعداوة والمحاربة، وأيضًا فإن الزنديق هذا دأبه دائمًا، فلو قبلت توبته لكان تسليطًا له على بقاء نفسه بالزندقة والإلحاد وكلما قُدِرَ عليه أظهر الإسلام وعاد إلى ما كان عليه، ولا سيما وقد علم أنه أمِنَ بإظهار الإسلام من القتل، فلا يَزَعُهُ خوفه من المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومَسَبة اللَّه ورسوله فلا ينكفُّ عدوانه عن الإسلام إلا بقتله (¬3)، وأيضًا ¬
[قاعدة في بيان متى يعمل بالظاهر]
فإن مَنْ سبَّ اللَّه ورسوله فقد حارب اللَّه ورسوله وسعَى في الأرض فسادًا، فجزاؤه القتل حدًا، والحدود لا تسقط بالتوبة بعد القدرة اتفاقًا، ولا ريب أن محاربة هذا الزنديق للَّه ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفسادًا، فكيف تأتي الشريعة بقتل مَنْ صال على عشرة دراهم لذمي أو على بدنه ولا تَقْبَل توبتَه ولا تأتي بقتل مَنْ دأبُهُ الصَّوْل (¬1) على كتاب اللَّه وسنة رسوله والطعن في دينه وتقبل توبته بعد القدرة عليه؟ وأيضًا فالحدود بحسب الجرائم والمفاسد، وجريمة هذا أغلظ الجرائم، ومفسدة بقائه بين أظهر المسلمين من أعظم المفاسد. [قاعدة في بيان متى يُعمل بالظاهر] وهاهنا قاعدة يجب التنبيه عليها لعموم الحاجة إليها، وهي أن الشارع إنما قبل توبة الكافر الأصلي من كفره بالإسلام لأنه ظاهِرٌ لم يعارضه ما هو أقوى منه، فيجب العمل به؛ لأنه مقتضٍ لحقن الدم والمعارضُ منتفٍ، فأما الزنديق فإنه قد أظهر ما يبيح دمه، فإظهاره بعد القدرة عليه للتوبة والإسلام لا يدل على زوال ذلك الكفر المبيح لدمه دلالة قطعية لا ظنية، أما انتفاء القطع فظاهر، وأما انتفاء الظن؛ فلأن الظاهر إنما يكون دليلًا صحيحًا إذا لم يثبت أن الباطن بخلافه، فإذا قام دليل على الباطن لم يُلتفت إلى ظاهرِ قد عُلِم أن الباطنَ بخلافه (¬2)، ولهذا اتفق الناس على أنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف علمه، وإن شهد عنده بذلك العدول (¬3)، وإنما يَحْكم بشهادتهم إذا لم يَعْلم خلافها، وكذلك لو أقرَّ إقرارًا علم أنه كاذب فيه مثل أن يقول لمن هو أسَنُّ منه: "هذا ابني" لم يثبت نسبه ولا ميراثه اتفاقًا (¬4)، وكذلك الأدلة الشرعية مثل خبر الواحد العَدْل والأمر والنهي والعموم والقياس إنما يجب اتباعها إذا لم يقم دليلٌ أقوى منها يخالف ظاهرها. [عود إلى حكم توبة الزنديق؟] وإذا عرف هذا فهذا الزنديق قد قام الدليل على فساد عقيدته، وتكذيبه ¬
واستهانته بالدين، وقدحه فيه؛ فإظهارُه الإقرار والتوبة بعد القدرة عليه ليس فيه أكثر مما كان يظهره قبل هذا، وهذا القدر قد بطلت دلالته بما أظهره من الزندقة؛ فلا يجوز الاعتماد عليه لتضمنه إلغاء الدليل القوي وإعمال الدليل الضعيف الذي قد ظهر بطلان دلالته، ولا يخفى على المُنْصِف قوةَ هذا النظر وصحة هذا المأخذ، وهذا مذهب أهل المدينة، ومالك وأصحابه (¬1)، والليث بن سعد (¬2)، وهو المنصور من الروايتين عن أبي حنيفة (¬3)، وهو إحدى الروايات عن أحمد (¬4) نَصَرَهَا كثير من أصحابه، بل هي أَنصُّ الروايات عنه، وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يستتاب، وهو قول الشافعي (¬5)، وعن أبي يوسف روايتان؛ إحداهما: أنه يستتاب، وهي الرواية الأولى عنه، ثم قال آخرًا (¬6): أقتله من غير استتابة، لكن إن تاب قبل ¬
[متى تقبل توبة الزنديق؟]
أن يقدر عليه قبلت توبته، وهذا هو الرواية الثالثة عن أحمد (¬1). وياللَّه العجب! كيف يقاوِمُ دليل إظهاره للإسلام بلسانه بعد القدرة عليه أدلة زندقته وتكررها منه مرة بعد مرة وإظهاره كل وقت للاستهانة بالإسلام والقَدْح في الدين والطعن فيه في كل مجمع؟ مع استهانته بحرمات اللَّه واستخفافه بالفرائض وغير ذلك من الأدلة؟ ولا ينبغي لعالم قَطُّ أن يتوقف في قتل مثل هذا، ولا تُتْرك الأدِلة القطعية لظاهرٍ قد تبين عدمُ دلالته وبطلانها، ولا تسقط الحدود عن أرباب الجرائم بغير موجب. [متى تقبل توبة الزنديق؟] نعم لو أنه قَبْلَ رفعه إلى السلطان ظَهَر منه من الأقوال والأعمال ما يَدُل على حسن الإسلام وعلى التوبة النصوحة، وتكرر ذلك منه، لم يُقْتل كما قاله أبو يوسف وأحمد في إحدى الروايات، وهذا التفصيل أحسن الأقوال في المسألة. [توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه] ومما يدل على أن توبة الزنديق بعد القدرة لا تعصم دمه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52] قال السلف في هذه الآية: {أَوْ بِأَيْدِينَا} بالقتل إن أظْهَرتم ما في قلوبكم، وهو كما قالوا؛ لأن العذاب على ما يبطنونه من الكفر بأيدي المؤمنين لا يكون إلا بالقتل؛ فلو قُبلَتْ توبتهم بعد ما ظَهَرت زندقتُهُم لم يمكن المؤمنين أن يتربَّصوا بالزنادقة أن يُصيبهم اللَّه بأيديهم؛ لأنهم كلما أرادوا أن يعذبوهم على ذلك أظهروا الإسلام فلم يُصابوا بأيديهم قط، والأدلة على ذلك كثيرة جدًا، وعند هذا فأصحاب هذا القول يقولون: نحن أسعدُ بالتنزيل والسنة من مخالفينا في هذه المسألة المشنّعين علينا بخلافها، وباللَّه التوفيق. ¬
[الشرط المتقدم والمقارن]
[الشرط المتقدم والمقارن] وأما قوله: "ولا يفسد عقد إلا بالعقد نفسه، ولا يفسد بشيء تقدَّمه ولا تأخَّره، ولا بتوهم، ولا أمارة عليه" يريد أن الشرط المتقدم لا يُفسد العقد إذا عَرِيَ صلبُ العقد عن مقارنته (¬1)، وهذا أصلٌ قد خالفه فيه جمهور أهل العلم، وقالوا: لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن؛ إذ مَفْسَدة الشرط المتقدم (¬2) لم تَزُل بتقدمه وإسلافه، بل مفسدته مقارنًا كمفسدته متقدمًا، وأي مَفْسدةٍ زالت بتقدم الشرط إذا كانا قد عَلِما وعَلِم اللَّه تعالى والحاضرون أنهما إنما عَقَدا على ذلك الشرط الباطل المُحرَّم وأظهروا صورة العقد مطلقًا؟ وهو مقيَّد في نفس الأمر بذلك الشرط المحرَّم، فإذا اشترطا قبل العقد أن النكاح نكاحُ تحليلٍ أو متعة أو شِغَار، وتعاهدا على ذلك، وتواطئا عليه، ثم عقدا على ما اتفقا عليه، وسَكَتا عن إعادة الشرط في صُلب العقد اعتمادًا على [ما] (¬3) تقدم ذكره والتزامه، لم يخرج العقد بذلك عن كونه عقدَ تحليل ومُتعة وشغار حقيقة. وكيف يعجز المتعاقدان اللَّذان يريدان عقدًا قد حرَّمه اللَّه ورسوله لوصفٍ أن يشترطا قبل العقد إرادة ذلك الوصف وأنه هو المقصود ثم يسكتا عن ذكره في صلب العقد ليتم غرضهما؟ وهل إتمام غرضهما إلا عيبن تفويت مقصود الشارع؟ وهل هذه القاعدة -وهي أن الشرط المتقدم لا يؤثر شيئًا- إلا فتح لباب الحِيَل؟ بل هي أصلُ الحيلِ وأساسها، وكيف تفرِّق الشريعة بين مُتماثِلَين من كلِّ وجه لافتراقهما في تقدم لفظ أو تأخره مع استواء العقدين في الحقيقة والمعنى والقَصْد؟ وهل هذا إلا من أقرب الوسائل والذرائع إلى حصول ما قصد الشارع عَدَمَه وإبْطَالَه؟ وأين هذه القاعدة من قاعدة سَدِّ الذرائع إلى المحرَّمات؟ ولهذا صرَّح أصحابُها ببطلان [قاعدة] (¬4) سد الذرائع لما علموا أنها مناقضة لتلك؛ فالشارع سد الذرائع إلى المحرمات بكل طريق، وهذه القاعدةُ تُوسِّع الطرق إليها وتنهجها، وإذا تأمل اللبيب هذه القاعدة وجدها ترفع التحريم أو الوجوب مع قيام المعنى المقتضي لهما حقيقة، وفي ذلك تأكيد للتحريم من وجهين: * من جهة أن فيها فعل المُحرَّم وترك الواجب. ¬
فصل [قاعدتان في الذرائع والقصود]
* ومن جهة اشتمالها على التدليس والمكر والخداع والتوسل بشرع اللَّه الذي أحبَّه ورضيه لعباده إلى نفس ما حرَّمه ونهى عنه، ومن المعلوم (¬1) أنه لا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق بَيِّنٌ في الحقيقة، بحيث يظهر للعقول مُضَادَّة أحدهما للآخر، والفرق في الصورة غير معتبر ولا مؤثر؛ إذ الاعتبار بالمعاني والمقاصد في الأقوال والأفعال؛ فإن الألفاظ إذا اختلفت عباراتها أو مواضعها بالتقدم والتأخر والمعنى واحد؛ كان حكمها واحدًا، ولو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفًا، وكذلك الأعمال، ومن تأمل الشريعة حَقَّ التأملِ علم صحة هذا بالاضطرار؛ فالأمر المحتال عليه بتقدم الشرط دون مقارنة صورتُه صورةُ الحلالِ المشروع ومقصودُه مقصودُ الحرام الباطل، فلا تراعى الصورةُ وتلغى الحقيقةُ والمقصود، بل مشاركة هذا للحرام صورةً ومعنًى وإلحاقه به لاشتراكهما في القصد والحقيقة أولى من إلحاقه بالحلال المأذون فيه بمشاركته له في مجرد الصورة (¬2). فصل [قاعدتان في الذرائع والقصود] وقوله: "ولا تفسد العقود (¬3) بأن يقال: هذه ذريعة وهذه نية سوء -إلى آخره" فإشارة منه إلى قاعدتين. إحداهما: أنْ (¬4) لا اعتبار بالذرائع ولا يُراعى سَدُّها. والثانية: أن القُصُود غير معتبرة في العقود. والقاعدة المتقدمة أن الشرط المتقدم لا يؤثر، وإنما التأثير للشرط الواقع في صُلب العقد، وهذه القواعد متلازمة؛ فَمَنْ سَدَّ الذرائع اعتبر المقاصد وقال: يؤثر الشرط متقدمًا مقارنًا، ومن لم يسد الذرائع لم يعتبر المقاصد ولا الشروط المتقدمة، ولا يمكن إبطال واحدة منها إلا بإبطال جميعها، ونحن نذكر قاعدة سد الذرائع ودلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والميزان الصحيح عليها. ¬
فصل في سد الذرائع
فصل في سد الذرائع (¬1) لما كانت المقاصد لا يُتوصَّل إليها إلا بأسباب وطُرُق تُفْضِي إليها كانت طرقها وأسبابها تابعةً لها مُعْتبرة بها، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها، ووسائل الطاعات والقُرُبَات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها (¬2)؛ فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصودٌ قصدَ الغاياتِ، وهي مقصودة قصد الوسائل (¬3)؛ فإذا حَرَّمَ الربُّ تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تُفْضِي إليه فإنه يحرمها ويمنع منها، تحقيقًا لتحريمه، وتثبيتًا له، ومنعًا أن يقرب حِمَاه، ولو أباح الوسائل والذرائع المُفْضِية إليه لكان ذلك نقضًا للتحريم، وإغراءً للنفوس به. وحكمته تعالى وعلمه تأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تابى ذلك؛ فإن أحدَهم إذا منع جُنْدَه أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصِّلة إليه لعدَّ متناقضًا، ولحصل من رعيته وجنده ضدّ مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حَسْمَ الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصَّلة إليه، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومَنْ تأمل مصادرها ومواردها علم أن اللَّه تعالى ورسوله سد الذرائع المُفْضِية إلى المحارم بأن حرَّمها ونهى عنها، والذريعةُ ما كان وسيلة وطريقًا إلى الشيء. ولا بد من تحرير هذا الموضع قبل تقريره ليزول الالتباس فيه، فنقول: ¬
[أنواع الوسائل وحكم كل نوع منها]
[أنواع الوسائل وحكم كل نوع منها] الفعل أو القول المُفْضِي إلى المفسدة قسمان: أحدهما: أن يكون وضعه للإفضاء إليها كشُرب المسكر المُفْضي إلى مفسدة السكر (¬1)، وكالقَذْف المُفْضِي إلى مفسدة الفِرْيَة، والزنا المُفْضِي إلى اختلاط المياه وفساد الفراش (¬2)، ونحو ذلك؛ فهذه أفعال وأقوال وُضِعَت مفضية لهذه المفاسد وليس لها ظاهر غيرها. والثاني: أن تكون موضوعة للإفضاء إلى أمر جائزٍ أو مستحب، فيتخذها (¬3) وسيلة إلى المحرم إما بقصده أو بغير قصد منه. فالأول كمن يعقد النكاح قاصدًا به التحليل، أو يعقد البيع قاصدًا به الربا، أو يخالع قاصدًا به الحنث، ونحو ذلك، والثاني كمن يُصلي تطوعًا بغير سبب في أوقات النهي، أو يسب أرباب المشركين بين أظهرهم، أو يصلي بين يدي القبر للَّه، ونحو ذلك. ثم هذا القسمُ من الذرائع نوعان: أحدهما: أن تكون مصلحة الفعل أرجَحَ من مفسدته. والثاني: أن تكون مفسدته راجحة على مصلحته؛ فههنا أربعة أقسام: الأول: وسيلة موضوعة للإفضاء إلى المفسدة. الثاني: وسيلة موضوعة للمُبَاح قُصِد بها التوسلُ إلى المفسدة. [الثالث: وسيلة موضوعة للمباح لم يُقْصَد بها التوسل إلى المفسدة لكنها] (¬4) مُفْضِية إليها غالبًا ومفسدتها أرجح من مصلحتها. الرابع: وسيلة موضوعة للمباح وقد تُفْضِي إلى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها. فمثال القسم الأول والثاني قد تقدم، ومثال الثالث الصلاةُ في أوقات النهي، ومَسَبَّة آلهة المشركين بين ظَهْرَانيهم، وتزيُّن المتوفَّى عنها في زمن عَدَّتِها، ¬
وأمثال ذلك، ومثال الرابع النظر إلى المخطوبة والمُسْتَامَة والمشهود عليها ومَنْ يطبها (¬1) ويعاملها، وفعل ذوات الأسباب في أوقات النهي وكلمة الحق عند ذي سلطان جائرِ ونحو ذلك؛ فالشريعة جاءت بإباحة هذا القسم أو استحبابه أو إيجابه بحسب درجاته في المصلحة، وجاءت بالمنع من القسم الأول كراهة أو تحريمًا بحسب درجاته في المفسدة، بقي النظر في القسمين الوسط: هل هما مما جاءت الشريعة بإباحتهما أو المنع منهما؟ فنقول: ¬
سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد الخامس] دار ابن الجوزي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [5]
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339
[لا يجوز الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزا]
[لا يجوز الإتيان بفعل يكون وسيلة إلى حرام وإن كان جائزًا] الدلالة على المنع من وجوه (¬1): الوجه الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] فحرم اللَّه تعالى سَبَّ آلهة المشركين -مع كون السبِّ غيظًا وحمية للَّه وإهانة لآلهتهم- لكونه ذريعةً إلى سبِّهم (¬2) اللَّه تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه بل كالتصريح على المنع من الجائز لئلا يكون سببًا في فعل ما لا يجوز. الوجه الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] فمنعهن من الضرب بالأرجُلِ وإن كان جائزًا في نفسه لئلا يكون سببًا إلى سَمْع الرجال صوتَ الخلخال فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهنَّ (¬3). والوجه الثالث: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ} [النور: 58]-[لأنه] (¬4) أمر سبحانه مماليكَ المؤمنين ومَنْ لم يبلغ منهم [الحلم] (¬5) أن يستأذنوا عليهم في هذه الأوقات الثلاثة لئلا يكون دخولهم هجمًا بغير استئذان فيها ذريعةً إلى اطِّلاعهم على عَوْرَاتهم وقت إلقاء ثيابهم عند القائلة والنوم واليقظة، ولم يأمرهم بالاستئذان في غيرها وان أمكن في تركه هذه المفسدة لنُدُورها وقلة الإفضاء إليها فجُعِلت كالمقدمة (¬6). ¬
الوجه الرابع: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة -مع قصدهم بها الخير- لئلا يكون قولهم (¬1) ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم؛ فإنهم كانوا يخاطبون بها النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم- ويقصدون بها السبَّ، يقصدون فاعلًا من الرعونة (¬2)، فَنُهِيَ المسلمون عن قولها؛ سدًا لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- تشبهًا بالمسلمين يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون. [ولئلا يخاطب بلفظ يحتمل معنى فاسدًا] (¬3). الوجه الخامس: قوله تعالى لكليمه موسى وأخيه هارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 43 - 44] فأمر سبحانه أن يُلِينَا القولَ لأعظم أعدائه وأشدهم كفرًا وأعتاهم عليه؛ لئلا يكون إغلاظُ القول له مع أنه حقيق به ذريعةً إلى تنفيره وعدم صبره لقيام الحجة، فنهاهما عن الجائز لئلا يترتب عليه ما هو أكره إليه سبحانه (¬4). الوجه السادس: أنه سبحانه نهى المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد، وأمرهم بالعفو والصفح؛ لئلا يكون انتصارهم ذَرِيعة إلى وقوع ما هو أعظم مفسدةً من مفسدة الإغضاء واحتمال الضَّيْم، ومصلحة حفظ نفوسهم ودينهم وذريتهم راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة (¬5). الوجه السابع: أنه سبحانه نهى عن البيع وقت نداء الجمعة لئلا يُتخذ ذريعة إلى التشاغل بالتجارة عن حضورها (¬6). والوجه الثامن: (¬7) ما رواه حُمَيْد بن عبد الرحمن، عن عبد اللَّه بن عمرو أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "مِنَ الكبائرِ شَتْمُ الرجل والديه، قالوا: يا رسول اللَّه وهل ¬
يشتمُ الرَّجلُ والديه؟ قال: نعم، يسبُّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" متفق عليه (¬1)، ولفظ البخاري: "إن مِنْ أكبر الكبائر أن يَلعنَ الرَّجلُ والديه، قيل: يا رسول اللَّه كيف يَلعنُ الرجلُ والديه؟ قال: يسبُّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الرجل سابًا لاعنًا لأبويه بتسبّبه إلى ذلك وتوسله إليه وإن لم يقصده (¬2). الوجه التاسع: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يكف عن قتل المنافقين (¬3) -مع كونه مصلحة- لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمدًا يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه وممن (¬4) لم يدخل [فيه]، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل (¬5). الوجه العاشر: أن اللَّه سبحانه حرَّم الخمر لما فيها من المفاسد (¬6) الكثيرة المترتبة (¬7) على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القَطْرة الواحدة ¬
منها (¬1)، وحرم إمساكها للتخليل ونجَّسها (¬2)، لئلا تتخذ القَطْرة ذريعة إلى الحُسْوَة (¬3) ويُتخذ إمساكها للتخليل ذريعة إلى إمساكها للشرب (¬4)، ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخَلِيطين (¬5)، وعن شرب العصير بعد ثلاث (¬6)، وعن الانتباذ في الأوْعِية التي قد يتخمَّر النبيذ فيها ولا يعلم به (¬7)، حَسْمًا لمادة قربان المسكر، وقد صرح -صلى اللَّه عليه وسلم- بالعلة في تحريم القليل فقال: "ولو رخَّصتُ لكم في هذه لأوشك أن تجعلوها مثل هذه" (¬8). ¬
الوجه الحادي عشر: [أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حرم] (¬1) الخَلْوة بالأجنبية ولو في إقراء القرآن، والسفر بها ولو في الحج وزيارة الوالدين (¬2)، سدًا لذريعة ما يُحاذر من الفتنة وغَلَبات الطِّباع (¬3). الوجه الثاني عشر: أن اللَّه سبحانه أمر بغضِّ البصر -وإن كان إنما يقع على محاسن الخِلْقة والتفكر في صنع اللَّه- سدًا لذريعة الإرادة والشهوة المُفْضِية إلى المحظور (¬4). ¬
الوجه الثالث عشر: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن بناء المساجد على القبور، ولعن مَنْ فعل ذلك (¬1)، ونهى عن تجصيص القبور، وتشريفها (¬2)، واتخاذها مساجد، وعن الصلاة إليها وعندها (¬3)، وعن إيقاد المصابيح عليها (¬4)، وأمر بتسويتها (¬5)، ¬
ونهى عن اتخاذها عيدًا (¬1) وعن شَدِّ الرحال إليها (¬2)، [لئلا يكون] (¬3) ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانًا والإشراك [بها] (¬4)، وحرَّم ذلك على مَنْ قَصَدَه ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدًا للذريعة (¬5). الوجه الرابع عشر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها (¬6)، وكان من حكمة ذلك أنهما وَقْتُ سجود المشركين للشمس، وكان ¬
النهي عن الصلاة للَّه في ذلك الوقت سدًا لذريعة المشابهة الظاهرة، التي هي ذريعة إلى المشابهة في القَصْد مع بُعْد هذه الذريعة، فكيف بالذرائع القريبة (¬1)؟ الوجه الخامس عشر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن التشبَّه بأهل الكتاب في أحاديث كثيرة، كقوله: "إن اليهود والنصارى لا يَصْبِغُونَ فخالفوهم" (¬2). وقوله: "إن اليهود لا يُصَلّون في نعالهم فخالفوهم" (¬3)، وقوله في عاشوراء: "خالفوا اليهود صُومُوا يومًا قبله ويومًا بعده" (¬4) وقوله (¬5): "لا تَشَبَّهُوا بالأعاجم" (¬6). ¬
وروى الترمذي عنه: "ليس مِنَّا من تشبَّه بغيرنا" (¬1)، وروى الإمام أحمد عنه: "من تشبه بقوم فهو منهم" (¬2) وسر ذلك أن المشابهة في الهَدْي الظاهِرِ ذريعةٌ إلى ¬
الموافقة في القصد والعمل (¬1). الوجه السادس عشر: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- حَرَّمَ الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها وقال: "إنكم إذا فعلتم ذلك قطَعْتم أرحامكم" (¬2) حتى لو رضيت المرأة بذلك لم ¬
يجز (¬1)؛ لأن ذلك ذريعة إلى القطيعة المحرمة كما علل به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). الوجه السابع عشر: أنه حرم نكاح أكثر من أربع (¬3) لأن ذلك ذريعة إلى الجور، وقيل: العلة فيه أنه ذريعة إلى كثرة المؤنة المُفْضِية إلى أكل الحرام، وعلى التقديرين فهو من باب سد الذرائع. وأباح الأربع -وإن كان لا يؤمن الجورُ في اجتماعهن- لأن حاجته قد لا تندفع بما دونهن؛ فكانت مصلحة الإباحة أرجَحَ من مفسدة الجور [المتوقعة] (¬4). الوجه الثامن عشر: أن اللَّه سبحانه حرم خِطْبَةَ المعتدة صريحًا، حتى حرَّم ذلك في عدة الوفاة وإن كان المرجعُ في انقضائها ليس إلى المرأة؛ فإن إباحة الخِطْبَة قد تكون ذريعة إلى استعجال المرأة بالإجابة والكذب في انقضاء عدتها (¬5). الوجه التاسع عشر: أن اللَّه سبحانه حرَّم عقد النكاح في حال العدة وفي [حال] الإحرام وإن تأخَّر الوطء إلى وقت الحل لئلا يُتخذ العقد ذريعة إلى الوطء، ولا ينتقض هذا بالصيام؛ فإن زمنه قريب جدًا، فليس عليه كُلْفة في صبره بعضَ يوم إلى الليل (¬6). الوجه العشرون: أن الشارع حَرَّمَ الطِّيبَ على المحرِمِ (¬7) لكونه من أسباب ¬
دواعي الوطء، فتحريمه من باب سد الذريعة (¬1). الوجه الحادي والعشرون: أن الشارع اشترط للنكاح شروطًا زائدة على العقد تَقْطَع عنه شَبَهَ السِّفَاح، كالإعلان (¬2)، والوليّ (¬3)، ومَنَعَ المرأة أن تليه بنفسها، وندب إلى إظهاره حتى استحب فيه الدف والصوت والوليمة (¬4)؛ ["وكان أصل ¬
ذلك في قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5] و {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] "] (¬1). لأن في الإخلال بذلك ذريعة إلى وقوع السِّفَاح بصورة النكاح، وزوال بعض مقاصد النكاح من جَحْد الفراش، ثم أكَّد ذلك بأن جعل للنكاح حريمًا من العِدَّة تزيد على مقدار الاستبراء، وأثبت له أحكامًا من المصاهرة وحرمتها ومن الموارثة زائدةً على مجرد الاستمتاع؛ فعلم أن الشارع جعله سببًا ووُصْلَة بين الناس بمنزلة الرحم كما جمع بينهما في قوله: {فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] (¬2) وهذه المقاصد تمنع شبهه بالسفاح، وتبين أن نكاح المحلل بالسفاح أشْبَهُ منه بالنكاح. [حيث كانت هذه الخصائص غير متيقنة فيه] (¬3). الوجه الثاني والعشرون: "أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى أن يَجْمَع الرجل بين سَلَفِ وبيع" (¬4) ¬
[وهو حديث صحيح] (¬1) ومعلوم أنه لو أفرد أحدَهما عن الآخر صح، وإنما ذاك لأن اقتران أحدهما بالآخر ذريعة إلى أن يُقْرِضه ألفًا ويبيعه سلعة تساوي ثمان مئة بألف أخرى؛ فيكون قد أعطاه ألفًا و [سلعة] بثمان مئة ليأخذ منه ألفين، وهذا هو معنى الربا (¬2)، فانظر إلى حمايته الذريعة إلى ذلك بكل طريق، وقد احتج بعض المانعين لمسألة مُدِّ عَجْوة (¬3) بأن قال: إن مَنْ جَوزها يجوّز أن يبيع الرجل ألف دينار في منديل بألف وخمس مئة مفردة، قال: وهذا ذريعة إلى الربا، ثم قال: يجوز أن يقرضه ألفًا ويبيعه المنديل بخمس مئة، وهذا هو بعينه الذي نَهَى عنه رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو أقرب الذرائع إلى الربا، ويلزم مَنْ لم يسدَّ الذرائَع أن يخالف النصوص ويجيز ذلك، فيكف يترك أمرًا ويرتكب نظيره من كل وجه؟ (¬4) الوجه الثالث والعشرون: أن الآثار المتظاهرة في تحريم العِينَةِ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬5) وعن الصحابة تدل على المنع من عَوْدِ السلعة إلى البائع وإن لم ¬
يتواطئا على الربا، وما ذاك إلا سدًا للذريعة (¬1). الوجه الرابع والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مَنَعَ المُقْرِضَ من قبول الهدية (¬2)، ¬
وكذلك الصحابة (¬1)، حتى يحسبها من دَيْنه، وما ذاك إلا لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تأخير الدين لأجل الهدية فيكون ربا؛ فإنه يعود إليه مالُه وأخذ الفَضْل الذي استفاده بسبب القرض (¬2). الوجه الخامس والعشرون: أن الوالي والقاضي والشافع ممنوع من قبول الهدية، وهو أصل فسادِ العالم، وإسنادِ الأمر إلى غير أهله، وتولية الخَوَنة والضعفاء والعاجزين، وقد دخل بذلك من الفساد ما لا يحصيه إلا اللَّه، وما ذاك إلا لأن قبوق الهدية ممن (¬3) لم تجر عادته بمُهَاداته ذريعة إلى قَضَاء حاجته، وحُبُّكَ الشيء يُعْمِي ويُصِمُّ، فيقوم عنده شهوة لقضاء حاجته مكافأة له مقرونة بشره (¬4) وإغماض عن كونه لا يصلح (¬5). الوجه السادس والعشرون: أن السنة مَضَتْ بأنه ليس للقاتل من الميراث شيء (¬6)، إما عمدًا كما قال مالك (¬7)، وإما مباشرة كما قال أبو حنيفة (¬8)، وإما ¬
قتلًا مضمونًا بقصاص أو دية أو كفارة، وإما قتلًا بغير حق، وإما قتلًا مطلقًا كما هي أقوال في مذهب الشافعي وأحمد (¬1)، [والمذهب الأول] (¬2)، وسواء قصد القاتل أن يتعجَّل الميراث أو لم يقصده، فإن رعاية هذا القصد غير معتبرة في المنع وفاقًا، وما ذاك إلا لأنَّ توريث القاتل ذريعة إلى وقوع هذا الفعل؛ فسدَّ الشارعُ الذريعةَ بالمنع (¬3). الوجه السابع والعشرون: أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وَرَّثُوا المطلقة المبتوتة في مرض الموت (¬4) حيث يُتَّهم بقصد حرمانها الميراثَ بلا تردد وإن لم يقصد الحرمان لأن الطلاق ذريعة، وأما إذا لم يُتهم؛ ففيه خلاف معروف مأخذه أن المرض أوجب تَعلّقَ حقها بماله؛ فلا يمكَّنُ من قطعه أو سدًا للذريعة بالكلية وإن كان في أصل المسألة خلاف متأخر عن إجماع السابقين (¬5). الوجه الثامن والعشرون: أن الصحابة وعامة الفقهاء اتفقوا على قتل الجميع بالواحد (¬6) وإن كان أصلُ (¬7) القصاص يمنع ذلك؛ لئلا يكون عدمُ القصاص ذريعةً إلى التعاون على سَفْكِ الدماء (¬8). الوجه التاسع والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن تُقْطَع الأيدي في الغَزْوِ (¬9) ¬
لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفَّار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو كما تقدم (¬1). الوجه الثلاثون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نَهَى عن تقدُّم رمضان بصوم يوم (¬2) أو يومين، إلا أن تكون له عادة توافق ذلك اليوم (¬3)، ونهى عن صوم يوم الشك (¬4)، وما ذاك إلا لئلا يُتَّخذ ذريعةَ إلى أن يُلحق بالفرض ما ليس منه (¬5)، وكذلك حرَّم صوم يوم العيد (¬6) تمييزًا لوقت العبادة عن (¬7) غيره لئلا يكون ذريعة إلى الزيادة في الواجب ¬
كما فعلت النصارى، ثم أكَّد هذا الغرض باستحباب تعجيل الفطر وتأخير السحور (¬1)، واستحباب تعجيل الفطر [في] يوم العيد قبل الصلاة (¬2)، وكذلك نَدَب إلى تمييز فرض الصلاة عن نفلها؛ فكره للإمام أن يتطوع في مكانه (¬3)، وأن يستديم جلوسَهُ مستقبل القبلة (¬4)، كل هذا سدًا للباب المُفْضِي إلى أن يُزاد في ¬
الفرض ما ليس منه (¬1). الوجه الحادي والثلاثون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كره الصلاة إلى ما قد عُبِدَ من دون اللَّه تعالى (¬2)، وأحَب لمن صلى إلى عود أو عمود أو شجرة أو نحوه (¬3) أن يجعله على أحد حاجبيه (¬4)، ولا يصْمُدُ إليه صَمْدًا (¬5)، قطعًا لذريعة التشبه بالسجود إلى ¬
غير اللَّه تعالى (¬1). الوجه الثاني والثلاثون (¬2): أنه شرع الشُّفْعة (¬3) وسَلَّط الشريك على انتزاع الشقْص (¬4) من يد المشترِي (¬5) سدًّا لذريعة المفسدة المتعلقة بالشركة والقسمة. الوجه الثالث والثلاثون: أن الحاكم منهِي عن رفع أحد الخَصْمين على الآخر وعن الإقبال عليه دونه، وعن مشاورته والقيام له دون خصمه (¬6)، لئلا يكون ذريعة ¬
إلى انكسار قلب الآخر وضعفه عن قيامه بحجته (¬1) وثقل لسانه بها. الوجه الرابع والثلاثون: أنه ممنوع من الحكم بعلمه (¬2)؛ لئلا يكون [ذلك] ذريعة إلى حكمه بالباطل ويقول: حكمت بعلمي (¬3). الوجه الخامس والثلاثون: أن الشريعة منعت من قبول شهادة العدو على عدوه (¬4) لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى بلوغ غَرَضِه من عدوه بالشهادة الباطلة (¬5). الوجه السادس والثلاثون: أن اللَّه تعالى منع رسوله حيث كان بمكة من الجَهْرِ بالقرآن حيث كان المشركون يسمعونه فيسبّون القرآن ومَنْ أنزله ومَنْ جاء به ومَنْ أُنزل عليه (¬6). ¬
الوجه السابع والثلاثون: أن اللَّه سبحانه أوجَبَ الحدود على مرتكبي الجرائم التي تتقاضاها الطباع (¬1) وليس عليها وازع طبعي، والحدودُ عقوبات لأرباب الجرائم في الدنيا كما جعلت عقوبتهم في الآخرة بالنار إذا لم يتوبوا، ثم إنه تعالى جعل التائب من الذنب كمن لا ذَنْبَ له (¬2)؛ فمن لقيه تائبًا توبة نصوحًا لم يعذبه مما تاب منه، وهكذا في أحكام الدنيا إذا تاب توبة نصوحًا قبل رَفعه إلى الإمام سقط عنه الحد في أصح قولي العلماء، فإذا رفع إلى الإمام لم تُسقط توبتهُ عنه الحدَّ [وإن غلب على ظنه أنه لا يعود إليها] (¬3) لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى تعطيل حدود اللَّه؛ إذ لا يعجز كل من وجب عليه حدُّ اللَّه تعالى (¬4) أن يُظهر التوبة ليتخلَّص من العقوبة وإن تاب توبة نصوحًا سدًا لذريعة السقوط (¬5) بالكلية. الوجه الثامن والثلاثون: أن الشارع أمر بالاجتماع على إمام واحد في الإمامة الكبرى (¬6)، وفي الجمعة والعيدين والاستسقاء وصلاة الخوف (¬7)، مع كون صلاة ¬
الخوف بإمامين أقرب إلى حصول صلاة الأمن، وذلك سدًا لذريعة التفرق (¬1) والاختلاف والتنازع، وطلبًا لاجتماع القلوب وتألف الكلمة، وهذا من أعظم مقاصد الشرع، وقد سد الذريعة إلى ما يُنَاقضه بكل طريق، حتى في تسوية الصف في الصلاة (¬2)؛ لئلا تختلف القلوبُ، وشواهِدُ ذلك أكثر من أن تُذْكَر (¬3). الوجه التاسع والثلاثون: أن السنة مَضَتْ بكراهة إفراد رجب بالصوم (¬4)، ¬
وكراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم وليلتها بالقيام (¬1)، سدًا لذريعة اتخاذ شَرْع لم يأذن به اللَّه من تخصيص زمانٍ أو مكان بما لم يخصه به؛ ففي ذلك وقوعٌ فيما وقع فيه أهلُ الكتاب (¬2). الوجه الأربعون: أن الشروط المضروبة على أهل الذمة تضمنت تمييزهم عن المسلمين في اللباس والشعور والمراكب وغيرها لئلا تُفْضِي مشابهتهم إلى أن يعامَلَ الكافر معاملة المسلم، فسُدَّت هذه الذريعة بإلزامهم التميز عن المسلمين (¬3). الوجه الحادي والأربعون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ ناجية بن كعب الأسلمي وقد أرسل معه هَدْيَهُ إذا عَطِبَ منه شيء دون المَحلّ أن ينحره ويصبغ نعله التي قَلَّده بها في دمه ويخلّي بينه وبين الناس، ونهاه أن يأكل منه هو أو أحد من أهل رفقته (¬4)، قالوا: وما ذاك إلا لأنه لو جاز أن يَأكلَ منه أو يُطْعم أهل رفقته قبل ¬
[في حسم مادة الشريك]
بلوغ المحل فربما دعاه ذلك إلى أن يُقصِّر في عَلَفها وحِفْظِها لحصول (¬1) غرضه من (¬2) عَطَبِها [دون المحل كحصوله بعد بلوغ المحل من أكله هو ورفقته وإهدائهم إلى أصحابهم، فإذا أيِسَ من حصول غرضه في عَطبها] (¬3) كان ذلك أدعى إلى حفظها حتى تبلغ محلها وأَحْسَمَ لمادة هذا الفساد، وهذا من ألطف أنواع سد الذرائع. الوجه الثاني والأربعون (¬4): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمَرَ الملتقط أن يُشْهِدَ على اللُّقطَةِ (¬5)، وقد علم أنه أمين، وما ذاك إلا سدًا لذريعة الطمع والكتمان، فإذا بادر وأشهد كان أحْسَمَ لمادة الطمع والكتمان، وهذا أيضًا من ألطف أنواعها (¬6). [في حسم مادة الشريك] (¬7) الوجه الثالث والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تَقُولُوا ما شاء اللَّه وشاء ¬
محمد" (¬1)، وذمَّ الخطيب الذي قال: "مَنْ يُطِعِ اللَّه ورسولَه فقد رَشَدَ، ومن عصاهما فقد غوى" (¬2)، سدًا لذريعة التشريك في المعنى بالتشريك في اللفظ، وحَسْمًا لمادة الشرك حتى في اللفظ، ولهذا قال للذي قال له: "ما شاء اللَّه وشئت": أجَعَلْتَنِي للَّه نِدًّا (¬3)؟ فحسَمَ مادة الشرك وسد الذريعة إليه في اللفظ كما ¬
سدَّها في الفعل والقَصد، فصلوات اللَّه وسلامُه عليه وعلى آله أكْمَلَ صلاة وأزكاها وأتمها [وأعمها] (¬1). الوجه الرابع والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر المأمومين أن يُصَلّوا قعودًا إذا صلى إمامهم قاعدًا (¬2)، وقد تواتر عنه ذلك، ولم يجيء عنه ما ينسخه، وما ذاك إلا سدًّا لذريعة مُشَابهة الكفار حيث يقومون على ملوكهم وهم قعود كما علَّله (¬3) صلوات اللَّه وسلامه عليه [وعلى آله] (¬4)، وهذا التعليل منه يبطل قول من قال: إنه منسوخ، مع أن ذلك دعوى لا دليلَ عليها (¬5). الوجه الخامس والأربعون: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر المصلي [بالليل] إذا نعس أن يذهب فليرقد، وقال: لعله يذهب يستغفر فيسب نفسه (¬6)، فأمره بالنوم لئلا تكون صلاته ¬
في تلك الحال ذريعة إلى سبِّه لنفسه، وهو لا يشعر لغلبة النوم (¬1). الوجه السادس والأربعون: أن الشارع نَهَى أن يَخْطب الرجل على خِطْبة أخيه (¬2) [أو يَسْتَام على سَوْم أخيه] (¬3) أو يبيع على بيع أخيه (¬4)، وما ذاك إلا أنه (¬5) ذريعة إلى التباغض والتعادي؛ فقياسُ هذا أنه لا يستأجر على إجارته ولا يخطب ولاية ولا (¬6) منصبًا على خطبته، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى وقوع العداوة والبغضاء بينه وبين أخيه (¬7). الوجه السابع والأربعون: أنه نهى عن البَوْل في الجُحْر (¬8)، وما ذاك إلا لأنه ¬
قد يكون ذريعة إلى خروج حيوانٍ يؤذيه (¬1)، وقد يكون من مساكن الجِنِّ فيؤذيهم بالبول، فربما آذوه (¬2). الوجه الثامن والأربعون: أنه نهى عن البراز في قارعة الطريق والظل والمَوارِدِ؛ لأنه ذريعة لاستجلاب اللعن كما علل به -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "اتَّقُوا المَلَاعِنَ الثلاث"، وفي لفظ: "اتقوا اللَّاعِنَيْنِ، قالوا: وما اللاعنان يا رسول اللَّه؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس، و [في] ظلِّهم" (¬3). الوجه التاسع والأربعون: أنه نهاهم إذا أُقيمت الصلاة أن يقوموا حتى يَرَوْه ¬
قد خرج (¬1)؛ لئلا يكون [ذلك] (¬2) ذريعة إلى قيامهم لغير اللَّه، وإن (¬3) كانوا إنما يقصدون القيامَ للصلاة، لكن قيامهم قبل خروج الإمام ذريعة ولا مصلحة فيها فنهاهم عنه (¬4). الوجه الخمسون: أنه نَهَى أن تُوصَلَ صلاة بصلاة الجمعة حتى يتكلَّم أو يخرج لئلا يتخذ ذريعة إلى تغيير الفَرْض، وأن يُزاد فيه ما ليس منه، قال السائب بن يزيد: صلَّيتُ الجمعة في المَقْصورة، فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصلَّيت، فلما دخل معاوية أرسل إليّ، فقال: لا تَعُد لما فعلت، إذا صليتَ الجمعةَ فلا تَصِلْهَا بصلاة حتى تتكلم أو تخرج؛ فإن نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر بذلك؛ ألَّا توصل الصلاة حتى يتكلم أو يخرج (¬5). الوجه الحادي والخمسون: أنه أمر من صلى في رَحْله ثم جاء إلى المسجد أن يصلي مع الإمام وتكون له نافلة (¬6)؛ لئلا يتخذ قعوده والناس يصلون ذريعة إلى ¬
إساءة الظن به، وأنه ليس من المصلين (¬1). الوجه الثاني والخمسون: أنه نهى أن يسمر بعد العشاء الآخرة إلا لمصلٍّ أو مسافر (¬2). ¬
وكان يكره النوم قبلها والحديثَ بعدها (¬1)، وما ذاك إلا لأن النوم قبلها ذريعة إلى تفويتها، والسمر بعدها ذريعة إلى تفويت قيام الليل، فإن عارَضَهُ مصلحة راجحة كالسمر في العلم ومصالح المسلمين لم يكره (¬2). الوجه الثالث والخمسون: [أنه نهى] (¬3) النساء إذا صَلَّيْنَ مع الرجال أن يرفعن رءوسهن قبل الرجال (¬4)؛ لئلا يكون ذريعة منهن إلى رؤية عَوْرات الرجال من وراء الأزر كما جاء التعليل بذلك في الحديث (¬5). الوجه الرابع والخمسون: أنه نهى الرجل أن يتخطَّى المسجد الذي يليه إلى غيره كما رواه بقية عن المجاشع بن عمرو، عن عبيد اللَّه، عن نافع، عن ابن عمر عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليصل أحدكم في المسجد الذي يليه، ولا يتخطاه إلى غيره" (¬6)، ¬
وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى هجر المسجد الذي يليه وإيحاش صدر الإمام، فإن كان الإمام لا يتم الصلاة أو يُرمى ببدعة [أو يُعلن بفجور] فلا بأس بتخطيه إلى غيره (¬1). الوجه الخامس والخمسون: أنه نهى الرجل بعد الأذان أن يخرج من المسجد حتى يصلي لئلا يكون خروجه ذريعة إلى اشتغاله عن الصلاة جماعةً، كما قال عمار لرجل رآه قد خرج بعد الأذان: "أما هذا فقد عصى أبا القاسم" (¬2). الوجه السادس والخمسون: أنه نهى عن الاحتباء يوم الجمعة (¬3) كما رواه أحمد في "مسنده" من حديث سهل بن معاذ عن أبيه: "نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الاحتباء يوم الجمعة (¬4) "،. . . . . . ¬
وما ذاك إلا [أنه] ذريعة إلى النوم (1). الوجه السابع والخمسون: أنه نهى المرأة إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيب أو تصيب بخورًا (¬2)، وذلك لأنه ذريعة إلى ميل الرجال وتَشَوُّفهم إليها، فإن رائحتها وزينتها وصورتها وإبداء محاسنها تدعو إليها؛ فأمرها أن تخرج تَفِلةً (¬3)، ¬
وأن لا تتطيب، وأن تقف خلف الرجال (¬1)، وأن لا تسبح في الصلاة إذا نابها شيء، بل تصفّق ببطن كفها على ظهر الأخرى (¬2)، كل ذلك سدًا للذريعة وحماية عن المفسدة (¬3). الوجه الثامن والخمسون: أنه نهى أن تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها حتى كأنه ينظرُ إليها (¬4)، ولا يخفى أنَّ ذلك [سدٌ للذريعة وحماية عن مفسدة] (¬5) وقوعها في قلبه ومَيْله إليها بحضور صورتها في نفسه، وكم ممن أحَبَّ غيره بالوصف قبل الرؤية. الوجه التاسع والخمسون: أنه نهى عن الجلوس بالطرقات، وما ذاك إلا لأنه ذريعة إلى النظر [إلى] (¬6) المحرم، فلما أخبروه أنه لا بد لهم من ذلك، قال: أعْطُوا الطريقَ حقّه، قالوا: وما حقّه؟ قال: غضُّ البَصَر، وكفُّ الأذى، وردُّ السلام (¬7). ¬
الوجه الستون: أنه نهى أن يبيت الرجلُ عند امرأة إلا أن يكون ناكحًا أو ذا [رَحِمٍ] مَحْرَم (¬1)، وما ذاك إلا لأن المبيت عند الأجنبية ذريعة إلى المحرَّم. الوجه الحادي والستون: أنه نهى أن تُبَاع السَّلعُ حيث تباع حتى تنقل عن مكانها (¬2)، وما ذاك إلا أنه ذريعة إلى جَحْد البائع البيعَ وعدم إتمامه إذا رأى المشتري قد ربح فيها، فيغرُّه (¬3) الطمع، وتشح نفسه بالتسليم كما هو الواقع. وأكد هذا المعنى بالنهي عن ربح ما لم يُضْمَن (¬4)، وهذا من محاسن الشريعة وألطف باب لسدِّ الذرائع (¬5). ¬
الوجه الثاني والستون: أنه نهى عن بَيْعتين في بيعة (¬1)، وهو الشرطان في البيع في الحديث الآخر، وهو الذي لعاقده أوْكَسُ (¬2) البيعتين أو الربا في الحديث الثالث، وذلك سدًا لذريعة الرِّبا؛ فإنه إذا باعه السلعة بمئتين مؤجّلة ثم اشتراها منه بمئة حالَّة (¬3) فقد باع بيعتين في بيعة، فإنْ أَخَذَ بالثمن الزائد أخذ بالربا (¬4)، وإن أخذ بالناقص أخذ بأوكسهما، وهذا من أعظم الذرائع إلى الربا، وأبعد (¬5) كلَّ البُعد من حمل الحديث على البيع بمئة مؤجلة أو خمسين حالَّة (¬6)، وليس هنا (¬7) ربا ولا جهالة ولا غَرَر ولا قِمار ولا شيء من المفاسد؛ فإنه خَيَّره بين أي الثمنين شاء، وليس هذا بأبعدَ من تخييره بعد البيع بين الأخذ والإمضاء ثلاثة أيام (¬8)، ¬
وأيضًا فإنه فرق بين عقدين كل منهما ذريعة ظاهرة جدًا إلى الربا -وهما السلف والبيع، والشرطان في البيع (¬1) - وهذان (¬2) العقدان بينهما من النَّسَب والإخاء والتوسل بهما إلى أكل الربا ما يقتضي الجمع بينهما في التحريم، فصلوات اللَّه وسلامه على مَنْ كلامه الشفاء والعصمة والهدى والنور (¬3). الوجه الثالث والستون: أنه أمر أن يُفرَّق بين الأولاد في المَضَاجَع، وأن لا يترك الذكر ينام مع الأنثى في فِرَاشٍ واحد (¬4)؛ لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى نَسْج الشيطان بينهما المُواصَلَة المُحرَّمة بواسطة (¬5) اتحاد الفراش ولا سيما مع الطول، والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا يشعر، وهذا أيضًا من ألطف سد الذرائع (¬6). الوجه الرابع والستون: أنه نهى أن يقول الرجل: خَبُثَتْ نَفْسي، ولكن ليقُلْ: لَقِسَتْ نفسي (¬7)، سدًا لذريعة اعتياد اللسان للكلام الفاحش، وسدًا لذريعة اتصاف ¬
النفس بمعنى هذا اللفظ؛ فإن الألفاظ تتقاضى معانيها وتطلبها بالمشاكلة والمناسبة التي بين اللفظ والمعنى، ولهذا قل من تجده يعتاد لفظًا إلا ومعناه غالبٌ عليه، فسدّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذريعة الخبث لفظًا ومعنى وهذا أيضًا من ألطف الباب (¬1). الوجه الخامس والستون: أنه نهى أن يقول الرجل لغلامه وجاريته: عبدي، وأمَتِي، ولكن يقول: فَتَاي، وفتاتي (¬2)، ونهى أن يقول لغلامه: وَضِّيء ربك، أطعم ربك (¬3)، سدًا لذريعة الشرك في اللفظ والمعنى، وإن كان الربُّ هاهنا هو المالك كرب الدار ورب الإبل؛ فعدل عن لفظ العبد والأمة إلى لفظ الفَتَى والفَتَاة، ومنع من إطلاق لفظ الرب على السيد، حماية لجانب التوحيد (¬4) وسدًا لذريعة الشرك (¬5). الوجه السادس والستون: أنه نهى المرأة أن تسافر بغير مَحْرَم (¬6)، وما ذلك إلا لأن سَفَرها بغير محرم قد يكون ذريعة إلى الطَّمعِ فيها والفجورِ بها (¬7). الوجه السابع والستون: أنه نهى عن تصديق أهل الكتاب وتكذيبهم فيما يُحدِّثون به (¬8)؛ لأن تصديقهم قد يكون ذريعة إلى التصديق بالباطل وتكذيبهم قد ¬
يكون ذريعة إلى التكذيب بالحق، كما عَلَّل به في نفس الحديث (¬1). الوجه الثامن والستون: أنه نهى أن يُسمِّي [عبده] بأفْلَح ونَافع وَرَبَاح وَيسَار (¬2)؛ لأن ذلك قد يكون ذريعة إلى ما يكره من الطيرة بأن يقال: ليس هاهنا يسار، ولا رباح، ولا أفلح، وإن كان إنما قصد اسمَ الغلام، ولكن سدًا لذريعة (¬3) اللفظ المكروه الذي يستوحشُ منه السامعُ. الوجه التاسع والستون: [أنه نهى] الرِّجال عن الدخول على النِّساء (¬4) لأنه ذريعة ظاهرة. الوجه السبعون: أنه نهى أن يسمى باسم بَرَّة (¬5)؛ لأنه ذريعة إلى تزكية النفس بهذا الاسم، وإن كان إنما قصد العَلَميَّة (¬6). ¬
الوجه الحادي والسبعون: أنه نهى عن التداوي بالخَمْر (¬1) وإن كانت مصلحة التداوي راجحة على مفسدة ملابستها، سدًا لذريعة قربانها واقتنائها ومحبة النفوس لها، فحَسَمَ عليها المادة حتى في تناولها على وجه التداوي (¬2) وهذا من أبلغ سد الذرائع (¬3). الوجه الثاني والسبعون: أنه نهى أن يتناجى اثنان دون الثالث (¬4)؛ لأن ذلك ذريعة إلى حزنه وكسر قلبه وظنِّه السُّوء (¬5). الوجه الثالث والسبعون: [أن اللَّه] (¬6) حرَّم نكاح الأمة على القادر على نكاح الحرة إذا لم يخش العَنَت؛ لأن ذلك ذريعة إلى إرقاق ولده، حتى لو كانت الأمة من الآيسات من الحَبَل والولادة لم تحلُّ له سدًا للذريعة، ولهذا (¬7) منع الإمام أحمد الأسير والتاجر أن يتزوج (¬8) في دار الحرب خشية تعرض (¬9) ولده للرق، وعللَّه [هو] بعلة أخرى، وهي أنه قد لا يمكنه منع العدو من مشاركته في زوجته (¬10). الوجه الرابع والسبعون: أنه نهى أن يوردَ ممرضٌ على مُصِحّ (¬11)؛ لأن ذلك ¬
قد يكون ذريعة إما إلى إعْدَائِه وإما إلى تأذِّيه بالتوهم والخوف، وذلك سببٌ إلى إصابةِ المكروه له (¬1). الوجه الخامس والسبعون: أنه نهى [أصحابه] (¬2) عن دخول ديار ثمود [إلا أن يكونوا] (¬3) باكين خشية أن يصيبهم [مثل] (3) ما أصابهم (¬4)، فجعل الدخول من غير بكاء ذريعة إلى إصابة المكروه (¬5). الوجه السادس والسبعون: أنه نهى الرجل أن ينظر إلى من فُضِّلَ عليه في المال واللباس (¬6)، فإنه ذريعة إلى ازدرائِه نعمةَ اللَّه عليه واحتقارِه لها، وذلك سببُ الهَلاكِ (¬7). الوجه السابع والسبعون: أنه نهى عن إنزاء الحُمُرِ (¬8) على الخيل (¬9)؛ لأن ¬
ذلك (¬1) ذريعة إلى قَطْع نَسْل الخيل أو تقليلها، ومن هذا نهيهُ عن أكل لحومها إنْ صح الحديث فيه (¬2)، إنما كان لأنه ذريعة إلى تقليلها، كما نهاهم في بعض ¬
الغزوات عن نحر ظهورهم (¬1) لما كان ذريعة إلى لحوق الضرر بهم بفَقْد الظّهر (¬2). الوجه الثامن والسبعون: أنه نهى مَنْ رأى رؤيا يكرهها أن يتحدث بها (¬3)؛ فإنه ذريعة إلى انتقالها من مَرْتَبة (¬4) الوجود اللفظي إلى [مرتبة الوجود] (¬5) الخارجي كما انتقلت من الوجود الذهني إلى اللفظي، وهكذا عامة الأمور تكون في الذهن أولًا ثم تنتقل إلى الذِّكر ثم تنتقل إلى الحس، وهذا من ألطف سد الذرائع ¬
وأنفعها، ومن تأمل عامة الشر رآه متنقلًا في درجات الظهور طَبَقًا بعد طَبَق من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج (¬1). الوجه التاسع والسبعون: أنه سُئِل عن الخمر تتخذ خلًّا، فقال: لا (¬2)، مع إنه في خَلِّ الخمر الذي حَصَل بغير التخليل، وما ذاك إلا سدًا لذريعة إمساكها بكل طريق، إذ لو أذن في تخليلها لحبسها أصحابها لذلك وكان ذريعة إلى المحذور (¬3). الوجه الثمانون: أنه نهى أن يتعاطى السيفَ مسلولًا (¬4)، وما ذاك إلا لأنه (¬5) ¬
ذريعة إلى الإصابة بمكروه، ولعل الشيطان يُعينهُ وينزع في يده فيقع المحذور أو يُقَرّب منه (¬1). الوجه الحادي والثمانون: أنه أمر المارَّ في المسجد بنبال أن يُمسك على نَصْالها (¬2) بيده (¬3) لئلا يكون ذريعة إلى تأذّي رجل مسلم بالنِّصال (¬4). الوجه الثاني والثمانون: أنه حَرَّم الشِّياع (¬5)، وهو المفاخرة بالجماع؛ لأنه ذريعة إلى تحريك النفوس والتَّشبه، وقد لا يكون عند الرجل مَنْ يغنيه من الحلال فيتخطَّى إلى الحرام، ومن هذا كان المُجاهِرُون خارجين من عافية اللَّه، وهم المتحدثون بما فعلوه من المعاصي؛ فإن السامع تتحرك نفسه إلى التشبه، وفي ذلك من الفساد المنتشر ما لا يعمله إلا اللَّه (¬6). ¬
الوجه الثالث والثمانون: أنه نهى عن البَوْل في الماء الدائم (¬1)، وما ذاك إلا لأن (¬2) تواتر البول فيه ذريعة إلى تنجيسه، وعلى هذا فلا فرق بين القليل والكثير وبول الواحد والعدد، وهذا أولى من تفسيره (¬3) بما دون القلتين أو بما يمكن نزحه؛ فإن الشارع الحكيم لا يأذن للناس أن يبولوا في المياه الدائمة إذا جاوزت القلتين أو لم يمكن نزحها، فإن في ذلك من إفساد مياه الناس ومواردهم ما لا تأتي به شريعة، فحكمة شريعته (¬4) اقتضت المنع من البول فيه قلَّ أو كثر سدًا لذريعة إفساده. الوجه الرابع والثمانون: أنه نهى أن يُسافر بالقرآن إلى أرض العدو (¬5)؛ فإنه ذريعة إلى أن تناله أيديهم كما علل به في نفس الحديث (¬6). الوجه الخامس والثمانون: أنه نهى عن الاحتكار، وقال: "لا يحتكر إلا خاطئ" (¬7) فإنه ذريعة إلى أن يضيق على الناس أقواتهم، ولهذا لا يمنع من احتكار ما لا يضرُّ الناس (¬8). الوجه السادس والثمانون: أنه نهى عن بيع فَضْل الماء (¬9)؛ لئلا يكون ذريعة ¬
إلى منع فضل الكلأ؛ كما علل به في نفس الحديث فجعله بمنعه [من] (¬1) الماء مانعًا من الكلأ لأن صاحب المواشي إذا لم يمكنه الشرب (¬2) من ذلك الماء لم يتمكن من المَرْعَى الذي حوله (¬3). الوجه السابع والثمانون: أنه نهى عن إقامة حد الزنا على الحامل حتى تَضَع (¬4)، لئلا يكون [ذلك] ذريعة إلى قتل ما في بطنها، كما قال في الحديث الآخر: "لولا ما في البيوت من النِّساء والذرية لأمرتُ فتياني أن يحملوا معهم حُزَمًا من حطب فاخالف إلى قوم (¬5) لا يشهدون الصلاة في الجماعة فأُحرِّق عليهم بيوتهم بالنار" (¬6) فمنعه من تحريق بيوتهم التي عَصَوُا اللَّه فيها بتخلفهم عن الجماعة كونُ ذلك ذريعةً إلى عقوبة مَنْ لم يجب عليه حضور الجماعة من النساء ¬
والأطفال (¬1). الوجه الثامن والثمانون: (¬2) أنه نهى عن إدامة النَّظر إلى المجذومين (¬3)، وهذا ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
واللَّه أعلم لأنه ذريعة إلى أن يصابوا بدائهم (¬1)، وهي من ألطف الذرائع، وأهل الطبيعة يعترفون به، وهو جارٍ على قاعدة الأسباب، وأخبرني رجل من علمائهم أنه أجلس (¬2) قرابة له يكحل الناس فرمِدَ ثم برئ، فجلس يكحلهم فرمد مرارًا، قال: فعلمت أن الطبيعة تنقل (¬3)، وأنه من كثرة ما يفتح عينيه في أعين الرُّمْدِ نقلت الطبيعة الرمَدَ إلى عينيه (¬4)، وهذا لا بُدَّ معه من نوع استعداد، وقد جبَلت الطبيعة والنفس على التشبه والمحاكاة. الوجه التاسع والثمانون: (¬5) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى الرجل أن ينحني للرجل (¬6) إذا لقيه (¬7) ¬
كما يفعله كثير من المنتسبين إلى العلم ممن لا عِلْم [له] (¬1) بالسنة، بل يبالغون إلى أقصى حد الانحناء مبالغةً في خلاف السنة جهلًا حتى يصير أحدهم بصورة الراكع لأخيه ثم يرفع رأسه من الركوع كما يفعل إخوانهم من السجود بين يدي شيوخهم الأحياء والأموات؛ فهؤلاء أخذوا من الصلاة سجودها، وأولئك ركوعها، وطائفة ثالثة قيامها يقومون (¬2) عليهم الناسُ وهم قعود كما يقومون في الصلاة، فتقاسمت الفرقُ الثلاثُ أجْزَاء الصلاة، والمقصود أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن انحناء الرجل لأخيه سدًا لذريعة الشرك، كما نهى عن السجود لغير اللَّه (¬3)، وكما نهاهم أن يقوموا في الصلاة على رأس الإمام وهو جالس (¬4) مع أن قيامهم عبادة للَّه تعالى، فما الظن إذا كان القيام تعظيمًا للمخلوق وعبودية له؟ فاللَّه المستعان. الوجه التسعون: (¬5) أنه حرم التفرق في الصَّرْفِ (¬6) وبيع الربوي بمثله قبل ¬
[حكمة تحريم ربا الفضل]
القبض (¬1)؛ لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا، فحماهم من قُربانه باشتراط التقابض في الحال، ثم أوجب عليهم فيه التماثُلَ، وأن لا يزيد أحد العَوَضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد حتى لا يُباع مدُّ جيّد بمدين رديئين وإن كانا يساويانه (¬2)، سدًا لذريعة ربا النّسَاء الذي هو حقيقة الربا، وأنه إذا منعهم من الزيادة مع الحلول حيث تكون الزيادة في مقابلة جَوْدَة أو صفة أو سكة أو نحوها (¬3)، فمنعهم منها حيث لا مقابل لها إلا مجرد الأجل أولى. [حكمة تحريم ربا الفضل] فهذه هي حكمة تحريم ربا الفَضْل التي خفيت على كثير من الناس، حتى قال بعض المتأخرين: لا يتبين لي حكمة تحريم ربا الفضل، وقد ذكر الشارع هذه الحكمة بعينها؛ فإنه حرَّمه سدًا لذريعة ربا النساء، فقال في [حديث] (¬4) تحريم ربا الفضل: "فإنّي أخاف عليكم الرَّمَاء (¬5) والرَّمَاء [هو] (¬6) الربا". [نوعا تحريم الربا] فتحريم الربا نوعان: نوع حُرِّم لما فيه من المفسدة وهو ربا النسيئة، ونوع حرم تحريم الوسائل وسدًا للذرائع؛ فظهرت حكمة الشارع الحكيم وكمال شريعته الباهرة في تحريم النوعين، ويلزم من لم يعتبر الذرائع ولم يأمر بسدها أن يجعل تحريم ربا الفضل تعبُّدًا محضًا لا يُعقل معناه كما صرَّح بذلك كثير منهم. ¬
[أنكحة محرمة]
[أنكحة محرمة] الوجه الحادي والتسعون: أنه أبطل أنواعًا من النكاح الذي يتراضى به الزوجان سدًا لذريعة الزنا؛ فمنها النكاح بلا وليٍّ (¬1)؛ فإنه أبطله سدًا لذريعة الزنا؛ فإن الزاني لا يعجز أن يقول للمرأة: "أنكحيني نفسك بعشرة [دراهم] " ويشهد عليها رجلين من أصحابه أو غيرهم، فمنعها من ذلك سدًا لذريعة الزنا، ومن هذا تحريم نكاح التحليل الذي لا رغبة للنفس فيه في إمساك المرأة واتخاذها زوجةً بل له وَطَر فيما يقضيه بمنزلة الزاني في الحقيقة وإن اختلفت الصورة (¬2)، ومن ذلك تحريم نكاح المُتعة الذي يعقد فيه المتمتع على المرأة مدة يقضي وطَرَه منها فيها (¬3)؛ فحرَّم هذه الأنواع كلها سدًا لذريعة السِّفاح، ولم يبح إلا عقدًا مؤبدًا يقصد فيه كل من الزوجين المُقَامَ مع صاحبه ويكون بإذن الولي وحضور الشاهدين أو ما يقوم (¬4) مقامهما من الإعلان؛ فإذا تدبرت حكمة الشريعة وتأملتها حق التأمل رأيت تحريم هذه الأنواع من باب سد الذرائع، وهي من محاسن الشريعة وكمالها (¬5). [منع المتصدِّق من شراء صدقته] الوجه الثاني والتسعون (¬6): أنه منع المتصدق من شراء صدقته ولو وجدها تُباع في السوق (¬7) سدًا لذريعة العَوْد فيما خرج عنه للَّه ولو بعِوَضِه؛ فإن المتصدق ¬
[النهي عن قول لو]
إذا مُنع من تملُّك صدقته بعوضها فتملّكه إياها بغير عوض أشد منعًا وأفْطَمُ للنفوس عن تعلقها بما خرجت عنه للَّه، والصواب ما حكم به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من المنع من شرائها مطلقًا، ولا رَيْبَ أن في تجويز ذلك ذريعة إلى التحيل على الفقير بأن يدفع إليه صدقة ماله ثم يشتريها منه بأقل من قيمتها، ويرى المسكين أنه قد حصل له شيء -مع حاجته- فتسمح نفسه بالبيع، واللَّه عالم بالأسرار؛ فمن محاسن هذه الشريعة الكاملة سد الذريعة ومنع المتصدق من شراء صدقته، وباللَّه التوفيق. الوجه الثالث والتسعون (¬1): أنه نهى عن بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها (¬2)، لئلا يكون ذريعة إلى أكل مال المشتري بغير حق إذا كانت (¬3) معرَّضة للتلف، وقد يمنعها اللَّه، وأكد هذا الغرض بأن حَكَم للمشتري بالجائحة إذا تلفت بعد الشراء الجائز، كل هذا لئلا يُظلم المشتري ويُؤكل ماله بغير حق (¬4). [النهي عن قول لو] الوجه الرابع والتسعون: أنه نهى الرجل بعد إصابة ما قدر له (¬5) أن يقول: لو ¬
[النهي عن طعام المتباريين]
أني فعلت لكان كذا وكذا، وأخبر أن ذلك ذريعة إلى عمل الشيطان (¬1)، فإنه لا يُجْدي عليه إلا الحُزْن والنَّدَم وضيقة الصدر والتسخط (¬2) على المقدور واعتقاد أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك، وذلك يُضعف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن، وإذا أعرض القلب عن هذا انفتح له عملُ الشَيطان، وما ذاك لمجرد لفظ "لو"، بل لما قارنها من الأمور القائمة بقلبه المنافية لكمال الإيمان الفاتحة لعمل الشيطان، بل أرشد العبد في هذه الحال إلى ما هو أنفع له وهو الإيمان بالقَدَر والتفويض والتسليم للمشيئة الإلهية وأنه ما شاء اللَّه كان ولا بد؛ فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط، فصلوات اللَّه وسلامه على مَنْ كلامه شفاء للصدور ونور للبصائر وحياة للقلوب وغذاء للأرواح، [وعلى آله] (¬3)؛ فلقد أنعم به على عباده أتم نعمة، ومَنَّ عليهم به أعظم منة؛ فلله النعمة وله المنة وله الفضل وله الثناء الحسن (¬4). [النهي عن طعام المتبارِيَيْن] الوجه الخامس والتسعون (¬5): أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن طعام المُتبَارِيَيْنِ (¬6)، وهما ¬
[أهل السبت]
الرجلان يقصد كل منهما مباراة الآخر ومباهاته، إما في التبرعات كالرجلين يصنعُ كلٌّ منهما دعوة يفتخر بها على الآخر ويباريه بها، وإما في المعاوضات كالبائعين (¬1) يُرْخِصُ كل منهما سلعته لمنع الناس من الشراء من صاحبه، ونص الإمام أحمد على كراهية الشراء من هؤلاء، وهذا النهي يتضمن سد الذريعة من وجهين: أحدهما: أن تسليط النفوس على الشراء منهما وأكل طعامهما تفريحٌ لهما وتقوية لقلوبهما وإغراء لهما على فعل ما كره اللَّه ورسوله. والثاني: أن تَرْك الأكل من طعامهما ذريعة إلى امتناعهما وكفِّهما عن ذلك. [أهل السبت] الوجه السادس والتسعون: (¬2) أنه تعالى عاقب الذين حفروا الحفائر يوم الجمعة فوقع فيها السمك يوم السبت فأخذوه يوم الأحد ومَسَخَهم [اللَّه] (¬3) قَرَدة ¬
[النهي عن كل بيع يعين على معصية]
وخنازير، وقيل: إنهم نَصَبُوا الشباك يوم الجمعة وأخذوا الصيد يوم الأحد، وصورة الفعل الذي فعلوه مخالف لما نُهُوا عنه، ولكنهم لما جعلوا الشباك والحفائر ذريعةً إلى أخذ ما يقع فيها من الصيد يوم السبت نُزلُوا منزلة من اصطاد (¬1) فيه؛ إذ صورة الفعل لا اعتبار بها، بل بحقيقته (¬2) وقَصْد فاعله، ويلزم من لم يسدَّ الذرائع أن لا يحرم مثل هذا كما صرحوا به في نظيره سواء، وهو لو نصب قبل الإحرام شَبَكة فوقع فيها صيدٌ وهو مُحرم جاز له أخذه بعد الحل، وهذا جارٍ على قواعد من لم يعتبر المقاصد ولم يسد الذرائع. [النهي عن كلِّ بيع يعين على معصية] الوجه السابع والتسعون (¬3): قال الإمام أحمد رضي اللَّه عنه: نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع السلاح في الفتنة (¬4)، ولا ريب أن هذا سد لذريعة الإعانة ¬
[النهي عن الخروج على الأئمة]
على المعصية، ويلزم من لم يسد الذرائع أن يجوِّز هذا البيع كما صرحوا به، ومن المعلوم أن هذا البيع يتضمن الإعانة على الإثم والعدوان، وفي معنى هذا كل بيع أو إجارة أو معاوضة تُعين على معصية اللَّه تعالى كبيع السلاح للكفار والبُغَاة وقُطَّاع الطريق، وبيع الرقيق لمن يفسق به أو يؤاجره لذلك، أو إجارة داره أو حانوته أو خانه لمن يقيم فيها سوق المعصية، وبيع الشمع أو إجارته لمن يعصي اللَّه عليه، ونحو ذلك مما هو إعانة على ما يبغضه اللَّه ويسخطه، ومن هذا عَصْر (¬1) العنب لمن يتخذه خمرًا وقد لعنه رسول اللَّه هو والمعتصر معًا (¬2)، ويلزم من لم يسد الذرائع أن لا يلعن العاصر، وأن يُجوِّز له أن يعصر العنب لكل أحد، ويقول: القصد غير معتبر في العقد، والذرائع غير معتبرة، ونحن مطالبون بالظواهر (¬3)، واللَّه يتولى السرائر، وقد صرَّحوا بهذا، ولا ريب في التنافي بين هذا وبين سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. [النهي عن الخروج على الأئمة] الوجه الثامن والتسعون: نهيه عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة -وإن ظلموا أو جاروا- ما أقاموا الصلاة (¬4)، سدًا لذريعة الفساد العظيم والشر الكثير بقتالهم كما هو الواقع؛ فإنه حَصَل بسبب قتالهم والخروج عليهم [من الشرور] (¬5) أضعاف أضعاف ما هم عليه، والأمةُ في بقايا تلك الشرور إلى الآن، وقال: "إذا ¬
[لم جمع عثمان المصحف على حرف واحد]
بُويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما" (¬1) سدًا لذريعة الفتنة (¬2). [لِمَ جمع عثمان المصحفَ على حرف واحد] الوجه التاسع والتسعون: جَمْع عثمان المصحف على حرف واحد من الأحرف السبعة (¬3) لئلا يكُون ذريعة إلى اختلافهم في القرآن، ووافقه على ذلك الصحابة -رضي اللَّه عنهم- (¬4). ولنقتصر على هذا العدد من الأمثلة الموافق لأسماء اللَّه الحسنى التي مَنْ أحصاها دخل الجنة (¬5)، تفاؤلًا بأنه من أحصى هذه الوجوه وعلم أنها من الدين وعمل بها دخل الجنة؛ إذ قد يكون قد اجتمع له معرفة أسماء الرب تعالى ومعرفة أحكامه، وللَّه وراء ذلك أسماء وأحكام (¬6). ¬
[باب قيمة سد الذرائع]
[باب قيمة سدّ الذرائع] وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف؛ فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان (¬1)؛ أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني: وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المَفْسَدة، فصار (¬2) سد الذرائع المُفْضِية إلى الحرام (¬3) أحد أرباع الدين. فصل [تجويز الحيل يناقض سد الذريعة] وتجويزُ الحِيَل (¬4) يُنَاقض سدَّ الذرائع مُنَاقَضَةً ظاهرةً؛ فإن الشارع يَسُدُّ الطريق إلى المفاسد بكل ممكن، والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة (¬5)، فأين مَنْ يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرَّم إلى مَنْ يعمل الحيلة في التوصل إليه؟ فهذه الوجوه الذي ذكرناها وأضعافُها تدل على تحريم الحِيَل والعمل بها والإفتاء بها في دين اللَّه (¬6)، ومن تأمل أحاديث اللَّعْن وجد عامتها لمن استحل ¬
محارم اللَّه، أو أسقط (¬1) فرائضه بالحيل، كقوله: "لَعَن اللَّه المحلل والمحلل له" (¬2)، "لعن اللَّه اليهود، حُرِّمَتْ عليهم الشحومُ فَجَمَلَوها وباعوها وأكلوا ثمنها" (¬3)، "لعن اللَّه الراشي والمرتشي" (¬4)، "لعن اللَّه آكل الربا ومُوكِلَه وكاتبه وشاهده" (¬5)، ومعلوم أن الكاتب والشاهد إنما يكتب ويشهد على الربا المحتال عليه ليتمكن من الكتابة والشهادة بخلاف ربا المجاهرة الظاهر (¬6)، ولعن في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها (¬7)، ومعلوم أنه إنما عصر عنبًا، ولعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة (¬8)، وقَرَنَ بينهما وبين آكل الربا وموكله، والمحلل والمحلل له (¬9)، في ¬
حديث ابن مسعود (¬1)، وذلك للقدر المشترك بين هؤلاء الأصناف وهو التدليس والتلبيس؛ فإن هذه تُظْهر من الخِلقْة ما ليس فيها، والمحلل يظهر من الرَّغْبة ما ليس عنده، وآكل الربا يستحله بالتدليس والمخادعة فيُظهر من عَقْد التبايع ما ليس له حقيقة، فهذا يستحل الربا بالبيع، وذاك يستحل الزنا باسم النكاح، فهذا يفسد الأموال، وذاك يفسد الأنساب، وابن مسعود هو راوي هذا الحديث، وهو راوي حديث: "ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلّوا بانفسهم العقاب" (¬2) واللَّه تعالى مسخ الذين استحلَّوا محارمه بالحيل قردَةً وخنازير جزاء من جنس عملهم؛ فإنهم لما مسخوا شَرْعه وغيَّروه عن وجهه مسخ وجوههم وغيرها عن خلقتها، واللَّه سبحانه وتعالى ذم أهل الخِدَاع والمكر، ومن يقول بلسانه ما ليس في قلبه، وأخبر أن المنافقين يُخادعون اللَّه (¬3) وهو خادعُهم، وأخبر عنهم بمخالفة ظواهرهم لبواطنهم وسرائرهم لعلانيتهم وأقوالهم لأفعالهم، وهذا شأن أرباب الحيل المحرمة، وهذه الأوصاف منطبقة عليهم؛ فإن المخادعة هي الاحتيال والمراوغة ¬
بإظهار أمر جائز ليتوصل به إلى أمر محرم يبطنه (¬1)، ولهذا يقال: "طريق خَيْدَع" إذا كان مخالفًا للقصد لا يُفطن له، ويقال للسراب: "الخيدع" لأنه يخدع من يَرَاه ويغرّه وظاهره خلاف باطنه، ويقال للضب: "خادع" وفي المثل: "أخدَعُ من ضَبٍّ" لمراوغته (¬2)، ويقال: "سوق خادعة" أي متلونة، وأصله الاختفاء والستر، ومنه "المَخْدَع" في البيت؛ فوزان بين قول القائل: آمنا باللَّه وباليوم الآخر، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه، إنشاءًا للإيمان وإخبارًا به، وهو غير مبطن لحقيقة هذه الكلمة ولا قاصدٍ له ولا مطمئنٍ به، وإنما قاله متوصلًا به (¬3) إلى أمْنه وحَقْن دمه أو نَيْل غرض دنيوي، وبين قول المرابي: بعتك هذه السلعة بمئة، وليس لواحدٍ منهما غرض فيها بوجه [من الوجوه] (¬4)، وليس مبطنًا لحقيقة هذه اللفظة، ولا قاصدًا له ولا مطمئنًا به، وإنما تكلم بها متوسلًا (¬5) إلى الربا، وكذلك قول المحلِّل: تزوجتُ هذه المرأة، أو قَبِلتُ هذا النكاح، وهو غير مبطن لحقيقة النكاح، ولا قاصدٍ له ولا مريدٍ أن تكون زوجَتَه بوجه، ولا هي مريدة لذلك ولا الولي، هل تجد بينهما فرقًا في الحقيقة أو العُرْفِ؟ فكيف يُسمَّى أحدهما مخادعًا دون الآخر، مع أن قوله: بعتُ واشتريتُ واقترضتُ وأنكحتُ وتزوجتُ غير قاصد به انتقالَ الملك الذي وُضِعتْ له هذه الصيغة ولا ينوي النكاح الذي جعلت (¬6) له هذه الكلمة بل قَصْدُه ما ينافي مقصود العقد أو أمر آخر خارج عن أحكام العقد -وهو عود المرأة إلى زوجها المطلِّق، وعود السلعة إلى البائع- بأكثر من ذلك الثمن بمباشرته لهذه الكلمات التي جُعلت لها حقائق ومقاصد مظهرًا لإرادة حقائقها ومقاصدها ومبطنًا لخلافه؛ فالأول نفاق في أصل الدين، وهذا نفاق في فروعه، يوضح ذلك ما ثبت عن ابن عباس رضي اللَّه عنه أنه جاءه رجل فقال: إن ¬
[دليل تحريم الحيل]
عمِّي طلق امرأته ثلاثًا، أيحلها له رجل؟ فقال: مَنْ يخادع اللَّه يخدعه (¬1)، وصح عن أنس و [عن] (¬2) ابن عباس أنهما سُئلا عن العِينَةِ، فقالا: إن اللَّه لا يُخْدَع، هذا مما حرَّم اللَّه ورسوله (¬3)، فسمَّيا ذلك خِداعًا، كما سَمَّى عثمان وابن عمر نكاحَ المحلِّل [نِكاح] (¬4) دلسة (¬5)، وقال أيوب السختياني في أهل الحِيل: يُخادعون اللَّه كأنما يُخادِعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانًا كان أهون عليَّ (¬6)، وقال شريك بن عبد اللَّه القاضي في "كتاب الحيل" (¬7): هو كتاب المخادعة. [دليل تحريم الحيل] وتلخيص هذا أن الحيل المحرَّمة مُخَادعة للَّه، ومخادعة اللَّه حرام: أما المقدمة الأولى فإن الصحابة والتابعين -وهم أعلم الأمة بكلام اللَّه ورسوله ومعانيه- سَمَّوْا ذلك خداعًا، وأما الثانية فإن اللَّه ذم أهل الخداع، وأخبر أن ¬
[عن أصحاب السبت]
خداعهم إنما هو لأنفسهم، وأن في قلوبهم مرضًا، وأنه سبحانه خادعُهم، وكل هذا عقوبة لهم، ومدار الخداع على أصلين: أحدهما: إظهار فعل لغير مقصوده الذي جُعِلَ له. الثاني: إظهار قول لغير مقصوده الذي وضع له، وهذا منطبق على الحيل المحرمة، وقد عاقب اللَّه سبحانه المتحيّلين على إسقاط نصيب المساكين وقت الجداد بجد (¬1) جنَّتهم (¬2) عليهم وإهلاك ثمارهم، فكيف بالمتحيّل على إسقاط فرائض اللَّه وحقوق خلقه؟ ولَعَن أصحاب السَّبْت ومَسَخهم قردة وخنازير على احتيالهم على فعل ما حرمه عليهم. [عن أصحاب السبت] قال الحسن البصري في قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} [البقرة: 65] قال: رَمَوُا الحيتان في السبت، ثم أرجؤوها في الماء، فاستخرجوها بعد ذلك، فطبخوها فأكلوها (¬3) واللهِ أوْخَمَ أكلَةٍ، أكلَةً أسْرَعُهُ (¬4) في الدنيا عقوبة وأسرعه عذابًا في الآخرة، واللَّه ما كانت لحوم الحيتان تلك أعظم (¬5) عند اللَّه من دماء قوم مسلمين، [إلا] أنه عَجَّلَ لهؤلاء وأخَّر لهؤلاء (¬6). وقوله: "رموها في السبت" يعني احتالوا على وقوعها في الماء يوم السبت كما بيَّن غيرُه أنهم حَفَرُوا لها حياضًا ثم فتحوها عشية الجمعة، [أو أنه أراد أنهم رموا الحبايل يوم السبت، ثم أخروها في الماء إلى يوم الأحد، فاستخرجوها بالحيتان يوم الأحد] (¬7) ولم يرد أنهم باشَرُوا رميها يوم السبت؛ إذ لو اجترءوا على ذلك ¬
لاستخرجوها، قال شيخنا (¬1) رضي اللَّه عنه: وهؤلاء لم يكفروا بالتوراة وبموسى (¬2)، وإنما فعلوا ذلك تأويلًا واحتيالًا ظاهرُهُ ظاهرُ الاتقاء وحقيقتُه حقيقةُ الاعتداء، ولهذا -واللَّه أعلم- مُسِخوا قِردةً لأن صورة القرد فيها شبه من صورة الإنسان، وفي بعض ما يذكر من أوصافه شبه منه، وهو مخالف له في الحد والحقيقة، فلما مَسَخَ أولئك المعتدون دينَ اللَّه بحيث لم يتمسكوا إلا بما (¬3) يشبه الدين في بعض ظاهره دون حقيقته مَسَخهم اللَّه قردة تشبه الإنسان في بعض ظاهره دون الحقيقة، جزاءً وفاقًا. يقوي ذلك أن بني إسرائيل أكلوا الربا و [أكلوا] (¬4) أموالَ الناس بالباطل [كما قصَّهُ اللَّه في كتابه] (¬5)، وهو أعظم من أكل الصيد [المحرَّم] (4) في يوم بعينه، [ألا ترى أن ذلك حرام في شريعتنا -أيضًا- والصيد في السبت ليس حرامًا علينا؟ ثم إن أَكَلة الربا وأموال الناس بالباطل لم يعاقبوا] (¬6) بالمسخ كما عُوقب به من استحلَّ الحرام بالحيلة [وإنما عوقبوا بشيء آخر من جنس عقوبات غيرهم، فيشبه -واللَّه أعلم- أن يكون هؤلاء] (¬7) لما كانوا أعظم جرمًا [كانت عقوبتهم أعظم] (¬8)، فإنهم بمنزلة المنافقين [يفعلون ما يفعلون] (¬9) و [هم] (¬10) لا يعترفون ¬
بالذنب بل [قد] (¬1) فسدت عقيدتهم وأعمالهم، [كما قال أيوب السختياني: "لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون عليّ"، كانت عقوبتهم أغلظ من عقوبة غيرهم، فإن] (¬2) مَنْ أكل الربا [وأموال الناس (بالباطل)] (¬3) والصيد المحرم عالمًا [بأنه حرام فقد اقترن] (¬4) بمعصيته اعترافُه بالتحريم (¬5) وخشيته للَّه واستغفاره وتوبته يومًا ما، واعترافه بأنه مذنب عاصٍ، وانكسار قلبه من ذل المعصية، وازدراؤه (¬6) على نفسه، ورجاؤه لمغفرة ربه له، وعد نفسه من (¬7) المذنبين الخاطئين، وهذا كله إيمان يُفْضِي بصاحبه إلى خير، بخلاف الماكر المخادع المحتال على قلب دين اللَّه، ولهذا حَذَّر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمته من ارتكاب الحيل فقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم اللَّه بأدنى الحيل" (¬8) وقد أخبر اللَّه تعالى أنه جعل هذه القرية أو هذه الفعلة التي فعلها بأهلها: {نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66] (¬9). ¬
[التحذير من استحلال محارم الله بالحيل]
[التحذير من استحلال محارم اللَّه بالحيل] فحقيقٌ بمن اتقى اللَّه وخاف نَكَالَه أن يَحْذَر استحلالَ محارم اللَّه بأنواع المكر والاحتيال، وأن يعلم أنه لا يخلصه من اللَّه ما أظهره مكرًا وخديعة من الأقوال والأفعال، وأن يعلم أن للَّه يومًا تَكَعُّ فيه الرجال، وتنسف فيه الجبال، وتترادف فيه الأهوال، وتشهد فيه الجوارح والأوصال، وتبلى فيه السرائر، وتظهر فيه الضمائر، ويصير الباطل فيه ظاهرًا، والسر علانية، المستور مكشوفًا، والمجهول معروفًا، [ويُحَصَّل] (¬1) ويبدو ما في الصدور، كما يُبَعْثرُ ويُخْرَجُ ما في القبور، وتجري أحكامُ الربِّ جل جلاله هنالك على القصود والنيات، كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات، يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة للَّه ورسوله وكتابه وما فيها من البر [والصدق] (1) والإخلاص للكبير المتعال، وتَسْوَدُّ وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغش والكذب والمكر والاحتيال، هنالك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون، وبدينهم كانوا يلعبون، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123] (¬2). [الأعمال تابعة لمقاصد عاملها] وقد فصل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ (¬3) ما نوى" (¬4) الأمْرَ في هذه الحيل وأنواعها، فأخبر أن الأعمال تابعة لمقاصدها ونياتها (¬5)، وأنه ليس للعبد من ظاهر قوله وعمله إلا ما نواه وأبطنه لا ما أعلنه وأظهره، وهذا نص في أن من نوى التحليل كان محللًا، ومَنْ نوى الربا بعقد التبايع كان مُرَابيًا، ومن نوى المكر والخداع كان ماكرًا مخادعًا، ويكفي هذا الحديث وحده في إبطال ¬
الحيل، ولهذا صدَّر به حافظ الأمة محمد بن إسماعيل البخاري إبطال الحيل (¬1)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أبطل ظاهر هجرة مهاجر أم قيس بما أبطنه ونَوَاه من إرادة أم قيس (¬2)، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "البيعان بالخيار ما لم يتفرَّقا (¬3)، إلا أن تكونَ صَفْقَة خيار، ولا يحلُّ له أن يفارقه خشيةَ أن يسْتقيله" (¬4) فاستدل به الإمام أحمد وقال: فيه إبطال الحيل، وقد أشكل هذا على كثير من الفقهاء بفعل ابن عمر؛ فإنه كان إذا أراد (¬5) أن يلزم البيع مشى خُطَوَات (¬6)، ولا إشكال بحمد اللَّه تعالى في الحديث، وهو مِنْ أظهر (¬7) الأدلة على بطلان التحيل لإسقاط حق مَنْ له حق؛ فإن الشارع ¬
صلواتَ اللَّه وسلامه عليه وعلى آله أثبت خيار المجلس في البيع حكمة ومصلحة للمتعاقدين، وليحصل تمام الرضى الذي شرطه اللَّه سبحانه [فيه] (¬1)؛ فإن العقد قد يقع بغتة من غير تروٍّ ولا نظر في القيمة، فاقتضت محاسن هذه الشريعة الكاملة أن يجعل للعقد حريمًا يتروَّى فيه المتبايعان، ويعيدان النظر، ويستدرك كل واحد منهما عيبًا كان خفيًا، فلا أحسن من هذا الحكم، ولا أرفق (¬2) لمصلحة الخلق؛ فلو مكّن أحد المتعاقدين الغابن للآخر من النهوض في الحال والمبادرة إلى التفرق لفاتت مصلحة الآخر، ومقصود الخيار بالنسبة إليه، وهب أنك أنت اخترت إمضاء البيع فصاحبك لم يتسع له وقت ينظر فيه ويتروَّى، فنهوضك حيلة على (¬3) إسقاط حقه من الخيار، فلا يجوز حتى يخيره؛ فلو فارق المجلس لغير هذه الحاجة (¬4) أو صلاة أو غير ذلك ولم يقصد إبطال حَقِّ الآخر (¬5) من الخيار لم يدخل في هذا التحريم، ولا يُقال: هو ذريعة إلى إسقاط حق الآخر من الخيار؛ لأن باب [سدّ] (¬6) الذرائع متى فاتت به مصلحةٌ راجحة أو تضمَّن مفسدة راجحة لم يُلتفت إليه؛ فلو مُنع العاقد من التفرق حتى يقوم الآخر لكان في ذلك إضرارٌ به ومفسدة راجحة؛ فالذي جاءت به الشريعة في ذلك أكمل شيء وأوفَقُه للحكمة والمصلحة وللَّه الحمد. وتأمل قوله: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم اللَّه بأدنى الحيل" (¬7) أي أسهلها وأقربها، وإنما ذكر أدنى الحيل لأنَّ المطلِّقَ ثلاثًا مثلًا من أسهل الحيل (¬8) عليه أن يعطي بعضَ التيوس المستعارة عشرةَ دراهم ويستعيره لينزو على امرأته نزوة وقد طيَّبها له، بخلاف الطريق الشرعي التي هي نكاح الرغبة؛ فإنها يصعب معها عَوْدُها إلى الأول جدًا، وكذلك من أراد أن يقرض ألفًا بألف وخمس مئة، فمن أدنى الحيل أن يعطيه ألفًا إلا درهمًا باسم القرض، ويبيعه خرقة تساوي [درهمًا] (¬9) بخمس مئة، ولو أراد ذلك بالطريق الشرعي لتعذّر عليه، ¬
وكذلك حيلة اليهود بنصب الشباك يوم الجمعة وأخذ ما وقع فيها يوم السبت من أسهل الحيل، وكذلك إذابتهم الشَّحْم وبيعه وأكل ثمنه. وقال الإمام أحمد في "مسنده": ثنا أسود بن عامر: ثنا أبو بكر، عن الأعمش، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا ضَنَّ (¬1) الناسُ بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينَة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل اللَّه؛ أنزل اللَّه بهم (¬2) بلَاءً فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم" (¬3) ورواه ¬
أبو داود بإسناد صحيح إلى حَيْوَةَ بن شُرَيْح [المصري] (¬1) عن إسحاق أبي (¬2) الرحمن الخراساني أن عطاء الخراساني حَدَّثه أن نافعًا حَدَّثه عن ابن عمر (¬3)، شيخنا (¬4) -رضي اللَّه عنه-: وهذان إسنادان حَسَنانِ؛ أحدهما يشد الآخر ويقويه، فأما رجالُ الأول فأئمة مشاهير، ولكن يخاف (¬5) أن لا يكون الأعمش سمعه من عطاء أو ¬
[العينة]
أن عطاء لم يسمعه من ابن عمر؛ فالإسناد (¬1) الثاني يبين أن للحديث أصلًا محفوظًا عن ابن عمر؛ فإن عطاء الخراساني ثقة مشهور، وحَيْوَة بن شريح كذلك وأفضل، وأما إسحاق أبو (¬2) عبد الرحمن فشيخ روى عنه أئمة المصريين مثل حَيْوة بن شُريح والليث بن سعد ويحيى بن أيوب وغيرهم، قال (¬3): فقد روينا (¬4) من طريق ثالثٍ من حديث السَّرِيّ بن سهل الجند يسابوري (¬5) بإسناد مشهور إليه [قال] (¬6): ثنا عبد اللَّه بن رشيد: ثنا عبد الرحمن [بن محمد] (¬7)، عن ليث عن عطاء، عن ابن عمر قال: لقد أتى علينا زمانٌ وما مِنَّا رجل يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ولقد سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إذا ضَنَّ الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعِينَة، وتركوا الجهاد، واتبعوا أذناب البقر، أدخل اللَّه عليهم ذلًا لا ينزعه (¬8) [عنهم] (¬9) حتى يتوبوا ويراجعوا دينهم" (¬10) وهذا يبين أن للحديث أصلًا عن عطاء (¬11). [العينة] وروى (¬12) محمد بن عبد اللَّه الحافظ المعروف بمطيَّن (¬13) في كتاب "البيوع" ¬
له عن أنس أنه سُئِل عن العِينة (¬1)، فقال: إن اللَّه لا يُخْدَع، هذا مما حرم اللَّه ورسوله (¬2)، وروَى (¬3) أيضًا في "كتابه" عن ابن عباس قال: اتَّقُوا هذه العِينة، لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حَرِيرة، وفي رواية أن رجلًا باع من رجل حريرة بمئة ثم اشتراها بخمسين فَسُئل (¬4) ابن عباس عن ذلك، فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة (¬5)، وسُئل ابن عباس عن العينة -يعني بيع الحريرة- فقال: إن اللَّه لا يُخْدَع، هذا مما حرم اللَّه ورسوله (¬6)، وروى ابن بَطَّة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع" (¬7) يعني العِينَةَ، وهذا المرسل صالح للاعتضاد به والاستشهاد، وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد. وقال (¬8) الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق السَّبيعي، عن امرأته "أنها دخلت على عائشة هي وأم ولد زيد بن أرقم وامرأة أخرى فقالت لها أم ولد زيد: إني بعْتُ من زيد غلامًا بثمان مئة نسيئةً، واشتريته بست مئة نقدًا، فقالت: "أبْلغِي زيدًا أنَّه (¬9) قد أبطل جهاده مع رسول للَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، إلا أن يتوب، بئسما شَرَيْتِ (¬10)، وبئسما اشتريت" (¬11) رواه الإمام أحمد وعمل به، ¬
وهذا حديث فيه شعبة، وإذا كان شعبة في حديث فاشْدُد يديك به، فمن جعل شعبة بينه وبين اللَّه فقد استوثق لدينه. وأيضًا فهذه امرأة أبي إسحاق -وهو أحد أئمة الإسلام الكبار- وهو أعلم بامرأته وبعدالتها، فلم يكن ليروِيَ عنها سنة يُحرِّم بها على الأمة وهي عنده غير ثقة ولا يتكلم فيها بكلمة، بل يحابيها في دين اللَّه، هذا لا يظن بمن هو دون أبي إسحاق. وأيضًا فإن هذه امرأة من التابعين قد دخلت على عائشة وسمعت منها وروت ¬
عنها، ولا يعرف أحد قَدَحَ فيها بكلمة، وأيضًا فإن الكذب والفسق لم يكن ظاهرًا في التابعين بحيث ترد به روايتهم (¬1). وأيضًا فإن هذه المرأة معروفة (¬2)، واسمها العالية، وهي جدة إسرائيل، كما رواه حرب من حديث إسرائيل: حدثني أبو إسحاق، عن جَدَته [العالية] (¬3) -يعني جدة إسرائيل؛ فإنه إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق، والعالية امرأة أبي إسحاق، وجدة يونس، وقد حملا عنها هذه السنة، وإسرائيل أعلم بجدته وأبو إسحاق أعلم بامرأته. وأيضًا فلم يُعرف أحدٌ قطُّ من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قَدحَ فيها من أجله، ويستحيل في العادة أن تروي حديثا باطلًا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر (¬4). وأيضًا فإن في الحديث قصة، وعند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلّهم على أنه محفوظ، قال أبو إسحاق؛ حدثتني امرأتي العالية، قالت: دخلتُ على عائشة في نسوة، فقالت: [ما] (¬5) حاجتُكنَّ؟ فكان أول من سألها أم محبة، فقالت: يا أم المؤمنين هل تعرفين زيد بن أرقم؟ قالت: نعم، قالت: فإني بِعْتُهُ جارية لي بثمان مئة درهم إلى العَطاء، وإنه أراد بيعها فابتعتُها منه بست مئة درهم نَقْدًا، فأقبلَتْ عليها وهي غَضبَى، فقالت: بئسما شَرَيْتِ، وبئسما اشتريت، أبلغي زيدًا أنه قد أبطل جِهَادَه إلا أن يتوب، وأفحمت صاحبتنا فلم تكلم طويلًا، ثمَّ إنها سهل عليها فقالت: يا أم المؤمنين أرأيت إن لم آخذ إلا رأس مالي؟ فَتَلَتْ عليها: ¬
{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} [البقرة: 275] (¬1). وأيضًا فهذا الحديث إذا انضمَّ إلى تلك الأحاديث والآثار أفادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين. وأيضًا فإن آثار الصحابة كما تقدم موافقة لهذا الحديث، مشتقة منه، مُفَسِّرة له. [وأيضًا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تحريمها أعظم من تحريم الربا؛ فإنها ربًا مُسْتَحل بأدنى الحيل] (¬2). وأيضًا فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكِلَ الربا ومُوكِلَه، وبالغت في تحريمه، وآذنَتْ صاحبه بحرب من اللَّه ورسوله، [أن] (¬3) تبيحه بأدنى الحِيَل مع استواء المفسدة؟ ولولا أن عند أم المؤمنين -رضي اللَّه عنها- علمًا من رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العِينَةِ لَمَا أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها، لا سيما إن كانت قصدت أن العمل يبطل بالردة، واستحلال الربا ردة، ولكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، كما عُذِر ابن عباس بإباحته بيعَ الدرهمِ بالدرهمين (¬4)، وإن لم يكنْ قَصْدُها هذا، بل قَصَدت أن هذا من الكبائر التي يقاوِم إثمُها ثوابَ الجهاد ويصير بمنزلة مَنْ عمل حسنة وسيئة بقدرها فكأنه لم يعمل شيئًا، ولو كان هذا اجتهادًا منها لم تمنع زيدًا منه، ولم تحكم ببطلان جهاده، ولم تَدعُه إلى التوبة؛ فإن الاجتهاد لا يحرم الاجتهاد، ولا يحكم بطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره، والصحابةُ -ولا سيما أم المؤمنين- أعلم باللَّه ورسوله، وأفْقَهُ في دينه من ذلك. وأيضًا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس أفْتَوْا بتحريم مسألة العِينَةِ (¬5)، وغَلَّظوا فيها هذا التغليظ في أوقات ووقائع مختلفة؛ [فلم] (¬6) يجيء عن واحد من الصحابة [ولا التابعين] (¬7) الرخصة في ذلك (¬8)، فيكون إجماعًا. ¬
فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومَنْ ذكرتم، فغاية الأمر أنها مسألة [ذات] (¬1) قولين للصحابة، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد. قيل: لم يُقل زيد قط إن هذا حلال، ولا أفتى بها يومًا [ما] (1)، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله؛ إذ لعله فعله ناسيًا أو ذاهلًا أو غير مُتأمِّل ولا ناظر أو متأولًا أو ذنبًا يستغفر [اللَّه] (¬2) منه ويتوب أو يُصِرُّ عليه وله حسنات تقاومه، فلا يُؤثِّر شيئًا، قال بعض السلف (¬3): "العلم علم الرواية (¬4)، يعني أنه يقول: رأيت فلانًا يفعل كذا وكذا؛ [إذ لعله] (¬5) قد فعله ساهيًا" وقال إياس بن معاوية (¬6): "لا تنظر إلى عمل الفقيه، ولكن سَلْه يَصدُقْك" (¬7)، ولم يُذكر عن زيد أنه أقام على هذه المسألة بعد إنكار عائشة، وكثيرًا ما يفعل الرجل الكبير الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة فإذا نُبِّهَ انتبه، وإذا كان الفعل محتملًا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن يُقَدَّمَ على الحكم، ولم يجُز أن يقال: مذهب زيد بن أرقم جواز العِينة، لا سيما وأم ولده قد دخلت على عائشة تستفتيها فأفتتها (¬8) بأخذ رأس مالها (¬9)، وهذا كله يدل على أنهما لم يكونا جازمين بصحة العقد وجوازه، وأنه مما أباحه اللَّه ورسوله. وأيضًا فبيع العِينَة إنما يقع غالبًا من مضطر إليها، وإلَّا فالمُسْتغني عنها لا يشغل ذمته بألف وخمس مئة في مقابلة ألف بلا ضرورة وحاجة تدعو إلى ذلك، وقد روى أبو داود من حديث علي: "نَهَى رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع المضطر، وبيع الغَرَر، وبيع الثمرة قبل أن تُدْركَ" (¬10). ¬
وفي "مسند الإمام أحمد" عنه قال: "سيأتي على الناس زمان عَضُوض، يعضُّ الموسر على ما في يَدَيه، ولم يؤثر (¬1) بذلك، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] وينهر (¬2) الأشرار، ويُسْتذلُّ الأخيار، ويُبايَعُ (¬3) المُضْطَّرون، وقد نهى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع المضطر، وعن بيع الغَرَر، وبيع الثمر قبل أن يطعم" (¬4). وله شاهد من حديث حذيفة، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رواه سعيد، عن هُشَيْم، عن كَوْثر بن حَكيم، عن مكحول: [بَلَغَنِي] (¬5) عن حذيفة أنه حدث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن بعد زمانكم هذا زمانًا عَضُوضًا، يعض الموسر على ما في يديه، ولم يؤثر بذلك قال اللَّه تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39]، وينهر (¬6) شِرارُ خلق اللَّه، يبايعون كل مضطر، ألا إن بيع المضطر حرام، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه، إن كان عندك خير فَعُد به على أخيك ولا تَزِدْه هلاكًا إلى هلاكه" (¬7) وهذا من دلائل النبوة، فإن عامة العِينَة إنما تقع من ¬
[مسألة التورق]
رجل مضطر إلى نَفَقة يضنُّ بها عليه الموسر بالقرض حتى يربح [عليه] (¬1) في المئة ما أحَبَّ. [مسألة التورّق] وهذا المضطر إن أعاد السلعة إلى بائعها فهي العِينة، وإن باعها لغيره فهو التورّق (¬2)، وإن رَجَعتْ إلى ثالث يدخل بينهما فهو مُحَلل الربا، والأقسام الثلاثة يعتمدها المرابون، وأخفها التورق، وقد كرهه عمر بن عبد العزيز، وقال هو أخِيةُ الربا (¬3)، وعن أحمد فيه روايتان (¬4)، وأشار في رواية الكراهة إلى أنه مضطَر (¬5) وهذا من فقهه -رضي اللَّه عنه-، قال: فإن هذا لا يدخل فيه إلا مضطر، وكان شيخنا رحمه اللَّه يمنع من مسألة التورق، وروجع فيها وأنا حاضر مرارًا (¬6)، فلم يرخص فيها، وقال: المعنى الذي لأجله حرم الربا موجود [فيها] (¬7) بعينه مع زيادة الكلفة ¬
[من الأدلة على تحريم الحيل]
بشراء السلعة وبيعها والخسارة فيها؛ فالشريعة لا تحرِّم الضرر الأدنى وتبيح ما هو أعلى منه (¬1). وقد تقدم الاستدلال على تحريم العينَةِ بقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يحل سَلَف وبيع، ولا شرطان في بيع" (¬2)، وبقوله: "مَنْ باعَ بيعتين في بيعة فله أوْكَسُهُما أو الربا" (¬3) وأن ذلك لا يمكن وقوعه [إلا على العِينة] (¬4). [من الأدلة على تحريم الحيل] ومما يدل على تحريم الحيل قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صَيْدُ البر لكم حلال، ما لم تصيدوه أو يُصَد لكم" (¬5) رواه أهل "السنن"، ومما يدل على تحريمها ما رواه ابن ماجه في "سننه" عن يحيى بن أبي إسحاق قال: سألت أنَسَ بن مالك: الرجلُ منا يُقْرِضُ أخاه المال فيُهدي إليه؟ فقال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا أقرض أحدكم قَرضًا فأهْدَى إليه أو حَمَلَه على الدابة فلا يَركَبها ولا يَقْبَله إلا أن يكون جَرَى بينه وبينه قبل ذلك" (¬6) رواه من حديث إسماعيل بن عياش عن عُتْبة بن حُميد الضَبيّ عن يحيى. قال شيخنا (¬7) -رضي اللَّه عنه-: [وهذا] (¬8) يحيى بن يزيد الهُنَائيّ من رجال مسلم، ¬
وعتبة بن حميد معروف بالرواية عن الهنائي، قال [فيه] (¬1) أبو حاتم (¬2) مع تشدده: هو صالح الحديث، وقال أحمد (¬3): ليس بالقويّ، وإسماعيل بن عياش ثقة في حديثه عن الشاميين [وغيرهم، وإنما يضعّف حديثه عن الحجازيين، وليس هذا عن الحجازيين، فثبت أنه حديث حسن. لكن في حديثه عن غيرهم نظر] (¬4)، ورواه سعيد في "سننه" عن إسماعيل بن عيَّاش، لكن قال: عن يزيد بن أبي إسحاق (¬5) الهُنَائيّ عن أنس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكذلك رواه البخاري في "تاريخه" عن يزيد بن [أبي] (¬6) يحيى الهنائي عن أنس يرفعه: "إذا أقْرَضَ أحدكم فلا يأخذ هدية" (¬7) قال شيخنا (¬8): وأظنه هو ذاك انْقَلَبَ اسمه. وفي "صحيح البخاري" عن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمْتُ المدينة، فلقيت عبد اللَّه بن سَلَام، فقال لي: إنك بأرضٍ الربا فيها فاش، فإذا كان لك على رجل حَقٌّ فأهدى إليك حَمْل تِبْن أو حَمل شعير أو حمل قَتٍّ (¬9) فلا تأخذه فإنه ربا (¬10)، وفي ¬
"سنن سعيد" هذا المعنى عن أبيّ بن كعب (¬1)، وجاء عن ابن مسعود أيضًا (¬2)، وأتى رجل عبد اللَّه بن عمر فقال: إني أقرضت رجلًا بغير معرفة فأهدى إليّ هدية جَزْلَةً، فقال: رُدُّ إليه هديته أو احسبها له (¬3)، وقال سالم بن أبي الجعد: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني أقرضت رجلًا يبيع السمك عشرين درهمًا فأهدى إليّ سمكة قومتها بثلاثة عشر درهمًا، فقال: خذ منه سبعة دراهم (¬4)، ذكرهما سعيد، وذكر حرب عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: إذا أسْلَفْتَ رجلًا سلفًا فلا تأخذ منه هدية ولا عارية ركوب دابة (¬5)؛ فنهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هو وأصحابه المُقْرِض عن قبول ¬
[دليل آخر على تحريم الحيل]
هدية المقترض قبل الوفاء؛ لأن (¬1) المقصود بالهدية أن يؤخر الاقتضاء -وإن كان لم يشترط ذلك- سدًا لذريعة الربا، فكيف تجوز الحيلة على الربا؟ ومن لم يَسُدَّ الذرائع ولم يراع المقاصد ولم يُحرِّم الحيل يبيح ذلك كلَّهُ، وسنةُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهدْيُ أصحابه أحق أن يُتَبع، وقد تقدم تحريم السلف والبيع لأنه يُتَّخذ حيلة إلى الربا. [دليل آخر على تحريم الحيل] ويدل عَلَى تحريم الحيل الحديثُ الصحيح، وهو قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يُجمع بين مُتفرِّق ولا يُفرَّق بين مُجْتَمع خَشْيَةَ الصدقة" (¬2)، وهذا نصٌ في تحريم الحيلة المفضية إلى إسقاط الزكاة أو تنقيصها بسبب الجمع والتفريق، فإذا باع بعضَ النصابِ قبل تمام الحول تحيُّلًا على إسقاط الزكاة فقد فرق بين المجتمع، فلا تسقط الزكاة عنه بالفرار منها، ومما يدل على تحريمها قوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قال المفسرون من السلف ومَنْ بعدهم: لا تعط عطاءً تطلب أكثر منه، وهو أن تهدي ليُهدى إليك أكثر من هديتك (¬3). وهذا كله يدل على أن صُوَر العقود غير كافية في حِلِّها وحصول أحكامها إلا إذا لم يُقصد بها قصدًا فاسدًا، [وكل ما لو شرطه في العقد كان حرامًا فاسدًا] (¬4) فقصده حرام فاسد، واشتراطه إعلانٌ وإظهارٌ للفساد، وقصده ونيَّته غِشٌّ وخداعٌ ومكر؛ فقد يكون أشد فسادًا من الاشتراط ظاهرًا من هذه الجهة، والاشتراط الظاهر أشد فسادًا منه من جهة إعلان المحرم وإظهاره. [إجماع الصحابة على تحريم الحيل] (¬5) ومما يدل على التحريم أن أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أجمعوا على تحريم هذه ¬
الحيل وإبطالها، وإجماعهم حجة قاطعة، بل هي من أقوى الحجج وآكدها، ومَنْ جَعَلهم بينه وبين اللَّه فقد استوثق لدينه. بيان المقدمة الأولى أن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه خَطَبَ الناسَ على منبر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال: لا أُوتي بمحلّل ولا محلَّل له إلا رجمتهما (¬1)، وأقرَّه سائرُ الصحابة على ذلك، وأفتى عثمان وعلي وابن عباس وابن عمر أن المرأة لا تحلُّ بنكاح التحليل (¬2)، وقد تقدم (¬3) عن غير واحد من أعيانهم كأُبيّ وابن مسعود وعبد اللَّه بن سَلَام وابن عُمر وابن عباس أنهم نَهَوُا المُقْرِض عن قبول هدية المقترض، وجعلوا قبولها ربًا. وقد تقدم (¬4) عن عائشة وابن عباس وأنس تحريم مسألة العِينة، والتغليظ فيها، وأفتى عمر وعثمان وعلي وأبيّ بن كعب وغيرهم من الصحابة أن المبتوتة في مرض الموت تَرِثُ (¬5)، ووافقهم سائر المهاجرين ¬
والأنصار من أهل بدر وبيعة الرضوان ومَنْ عداهم. ¬
وهذه وقائع متعددة لأشخاص متعددة في أزمان متعددة، والعادة تُوجب اشتهارها وظهورها بينهم، لا سيما وهؤلاء أعيان المُفتين من الصحابة الذين كانت تُضْبَطُ أقوالهم، وتنتهي إليهم فتاويهم، والناس عنقٌ واحد إليهم متلقُّون لفتاويهم، ومع هذا فلم يُحفظ عن واحدٍ منهم إلا الإنكار (¬1) ولا إباحة الحيل مع تباعد الأوقات وزوال أسباب السكوت، وإذا كان هذا قولهم في التحليل والعِينة وهدية المُقْترض إلى المقرض فماذا يقولون في التحيُّل لإسقاط حقوق المسلمين، بل لإسقاط حقوق رب العالمين، وإخراج الأبْضاع والأموال عن ملك أربابها، وتصحيح العقود الفاسدة والتلاعب بالدين؟ وقد صانهم اللَّه تعالى أن يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يُفتي به، كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة والحلولية والاتّحادية (¬2) وأضرابهم، وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها. وأما المقدمة الثانية فكل مَنْ له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصف لم يَشُك أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعُهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك. فإذا وازنت بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات ظهر لك التفاوت، وانضم إلى هذا أن التابعين موافقون لهم على ذلك؛ فإن الفقهاء السبعة وغيرهم من فقهاء المدينة الذين أخذوا عن زيد بن ثابت وغيره متفقون على إبطال الحيل، وكذلك أصحاب عبد اللَّه بن مسعود من أهل الكوفة، وكذلك أصحاب فقهاء البصرة كأيوب وأبي الشَّعْثاء والحسن وابن سيرين، وكذلك أصحاب ابن عباس. وهذا في غاية القوة من الاستدلال، فإنه انضم إلى كثرة فتاويهم بالتحريم في أفراد هذا الأصل وانتشارها أن عصرهم انصرم، ورقعة الإسلام متسعة (¬3)، وقد ¬
دخل الناس في دين اللَّه أفواجًا، وقد اتسعت الدنيا على المسلمين أعظم اتساع، وكثُر من كان يتعدى الحدود، وكان المقتضى لوجود هذه الحيل موجودًا فلم يُحفظ عن رجل واحد منهم أنه أفتى بحيلة واحدة منها أو أمر (¬1) بها أو دلَّ عليها، بل المحفوظ عنهم النهي والزجر عنها؛ فلو كانت هذه الحيل مما يسوغ فيها الاجتهاد لأفتى بجوازها رجلٌ منهم، ولكانت مسألة نزاع كغيرها. بل أقوالهم وأعمالهم وأحوالهم متفقة على تحريمها والمنع منها، ومضى على أثرهم أئمة الحديث والسنة في الإنكار، قال الإمام أحمد في رواية موسى بن سعيد الدِّنْدانيّ (¬2): لا يجوز شيء من الحيل (¬3)، وقال في رواية الميموني وقد سأله عَمَّن حلف على يمين ثم احتال لإبطالها، فقال: نحن لا نرى الحيلة (¬4) وقال في رواية بكر (¬5) بن محمد: إذا حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها فقد صَارَ إلى ذلك الذي حَلفَ عليه بعينه، وقال: [بَلَغني عن مالك، أو قال: قال مالك] (¬6): من احتال بحيلة فهو حانث، وقال في رواية صالح (¬7) وأبي الحارث وقد ذُكر له قول أصحاب الحيل فأنكره (¬8)، وقال في رواية إسماعيل بن سعيد (¬9) وقد سئل ¬
[من ذكروا الحيل لم يذكروا أنها كلها جائزة]
عمن احتال في إبطال الشفعة، فقال: لا يجوز شيء من الحيل في إبطال حق امرئ مسلم (¬1)، وقال في رواية أبي طالب وغيره في الرجل يحلف وينوي غير ذلك: فاليمين على نية ما يُحلّفه عليه صاحبه إذا لم يكن مظلومًا، فإذا كان مظلومًا حلف على نيته، ولم يكن عليه من نية الذي حلَّفه شيء، وقال في رواية عبد الخالق بن منصور: من كان عنده "كتاب الحيل" في بيته يُفتي به فهو كافر بما أنزل اللَّه على محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). [من ذكروا الحيل لم يذكروا أنها كلها جائزة] قلت: والذين ذكروا الحيل لم يقولوا أنها كلها جائزة، وإنما أخبروا أن كذا حيلة وطريق إلى كذا، ثم قد تكون الطريق محرَّمة، [وقد تكون مكروهة] (¬3)، وقد يُختلف فيها، فإذا قالوا: [إن] (¬4) الحيلة في فَسْخ المرأة النكاح أن ترتدَّ ثم تُسْلِم، والحيلة في سقوط القصاص عمن قتل أم امرأته أن يقتل امرأته إذا كان لها ولد منه، والحيلة في سقوط الكفارة عمن أراد الوطء في رمضان أن يتغدَّى ثم يطأ بعد الغداء، والحيلة لمن أرادت أن تفسخ نكاح زوجها أن تمكن ابنه من الوقوع عليها، والحيلة لمن أراد أن يفسخ نكاح امرأته ويحرمها عليه على التأبيد أن يطأ حماته أو يقبِّلها، والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه أن يَسْكر ثم يزني، والحيلة لمن أراد سقوط الحج عنه مع قدرته عليه أن يملك ماله لابنه أو زوجته عند خروج الركب فإذا بعد استردَّ ماله، والحيلة لمن أراد حرمان وارثه ميراثه أن يقرَّ بماله كله لغيره عند الموت، والحيلة لمن أراد إبطال الزكاة وإسقاط فَرضها عنه بالكلية أن يملك ماله عند الحَوْل لابنه أو امرأته أو أجنبي ساعة من زمان ثم يسترده منه، ويفعل هكذا كل عام، فيبطل فرض الزكاة عنه أبدًا، والحيلة لمن أراد أن يملك مال غيره بغير رضاه أن يُفْسِدَه عليه أو يغير صورته فيملكه، فيذبح شاته، ¬
[تكفير من يستحل الفتوى بهذه الحيل]
ويشق قميصه، ويَطْحَن حبَّه ويخبزه، ونحو ذلك، والحيلة لمن أراد قتل غيره ولا يُقْتَل به أن يضربه بدبوس أو مرزبة حديد ينثر دماغه فلا يجب عليه قصاص، والحيلة لمن أراد أن يزني بامرأة ولا يجب عليه الحد أن يستأجرها لكنس بيته أو لطيِّ ثيابه أو لغسلها أو لنقل متاع من مكان إلى مكان ثم يزني بها ما شاء مجانًا بلا حد ولا غرامة، أو يستأجرها لنفس الزنا، والحيلة لمن أراد أن يسقط عنه حد السرقة أن يَدَّعي أن المال له (¬1) أو أن له فيه شركة فيسقط القطع عنه (¬2) بمجرد دعواه، أو ينقب الدار ثم يَدَع غلامه أو ابنه أو شريكه يدخل ويخْرِج متاعه (¬3)، أو يَدَعه (¬4) على ظهر دابة تخرج به، ونحو ذلك، والحيلة لمن أراد سقوط حد الزنا عنه بعد أن يشهد به عليه أربعة عدول غير متهمين أن يصدقهم فيسقط عنه الحد بمجرد تصديقهم، والحيلة لمن أراد قَطْع يد غيره ولا يُقْطَع بها أن يمسك هو وآخر السكين أو السيف ويقطعانها معًا، والحيلة لمن أرادت التخلَّف عن زوجها في السفر أن تقرَّ لغيره بدين، والحيلة لمن أراد الصيد في الإحرام أن ينصب الشِّبَاك قبل أن يُحْرم ثم يأخذ ما وقع فيها حال إحرامه بعد أن يحل. [تكفير من يستحل الفتوى بهذه الحيل] (¬5) فهذه الحيل وأمثالها لا يحل لمسلم أن يُفتي بها في دين اللَّه تعالى، ومن استحل الفتوى بهذه (¬6) فهو الذي كَفَّره الإمام أحمد وغيره من الأئمة، حتى قالوا: إن مَنْ أفتى بهذه الحيل فقد قلب الإسلام ظَهْرًا لبطن، ونَقَضَ عُرَى الإسلام عُرْوة عروة، وقال بعض أهل الحيل: ما نقموا علينا من أنَّا عَمَدنا إلى أشياء كانت حرامًا عليهم فاحتلنا فيها حتى صارت حلالًا، وقال آخرُ منهم: إنّا نحتال للناس منذ كذا وكذا سنة في تحليل ما حرَّم اللَّه عليهم، قال أحمد بن زهير بن مروان: كانت امرأة هاهنا بمرو أرادت أن تختلع من زوجها، فأبى زوجها عليها، فقيل لها: لو ارتددت عن الإسلام لَبِنْتِ منه، فَفَعَلت، فذكرت ذلك لعبد اللَّه بن ¬
المبارك، فقال: من وَضَعَ هذا الكتاب فهو كافر، ومن سَمِعَ به ورضي به فهو كافر، ومن حَمَله من كورة إلى كورة فهو كافر، ومن كان عنده فرضي به فهو كافر، وقال إسحاق بن [إبراهيم بن] (¬1) راهويه عن شقيق بن عبد الملك: إن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أُمرت بالارتداد، وذلك في أيام أبي غسان، فذَكَر شيئًا، ثم قال ابن المبارك وهو مُغضب: أحدثوا في الإسلام، ومَنْ كان أَمَر بهذا فهو كافر، ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر به أو هويه ولم يأمر به فهو كافر، ثم قال ابن المبارك: ما أرى الشيطان كان يحسن مثل هذا، حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ، أو كان يحسنها ولم يجد من يُمضيها فيهم حتى جاءا مؤلاء، وقال إسحاق الطالقاني: قيل: يا أبا عبد الرحمن إن هذا الكتاب وضعه إلى ليس، قال: إبليسٌ من الأبالسة، وقال النضر بن شُمَيْل: في "كتاب الحيل" ثلاث مئة وعشرون أو ثلاثون مسألة كلها كفر، وقال أبو حاتم الرازي: قال شَرَيك، يعني: ابن عبد اللَّه قاضي الكوفة وذكر له "كتاب الحيل"، فقال: مَنْ يخادع اللَّه يَخْدَعْه، وقال حفص بن غِياث: ينبغي أن يُكتب عليه كتاب الفجور، وقال إسماعيل بن حماد: قال القاسم بن مَعْن يعني: ابن عبد الرحمن بن عبد اللَّه بن مسعود قاضي الكوفة: كتابكم هذا الذي كتبتموه (¬2) في الحيل كتاب الفجور، وقال حماد بن زيد: سمعت أيوب يقول: وَيْلَهم! مَنْ يخدعون (¬3)؟ يعني: أصحاب الحيل، وقال [عبد اللَّه بن] (¬4) عبد الرحمن الدَّارمي: سمعت يزيد بن هارون يقول: لقد أفتى أصحاب الحيل بشيء لو أفتى به اليهودي والنصراني كان قبيحًا، فقال: إني (¬5) حافتُ [أني لا] (¬6) أطلق امرأتي بوجه من الوجوه، وإنهم قد بذلوا لي مالًا كثيرًا، فة، ل له: قَبِّل أمها، فقال يزيد بن هارون: وَيْله! يأمره أن يقبل امرأة أجنبية؟ وقال حبيش بن سندي (¬7): سئل أبو عبد اللَّه -يعني الإمام ¬
[لماذا حكم الأئمة بما سبق؟]
أحمد- عن الرجل يشتري جارية ثم يعتقها من يومه ويتزوجها، أيطؤها من يومه؟ فقال: كيف يطؤها من يومه وقد وطئها ذاك بالأمس؟ هذا من طريق الحيلة، وغضب، وقال: هذا أخبث قول، وقال رجل للفُضَيلِ بن عياض: يا أبا علي استفتيتُ رجلًا في يمين حلفتُ بها، فقال لي: إن فعلتَ كذا حنثتَ، وأنا أحتال لك حتى تفعل ولا تحنث (¬1)، فقال له الفُضَيل: تعرف الرجل؟ [قال: نعم،] (¬2) قال: ارجع إليه فاسْتَثْبِتهُ فإني أحسبه شيطانًا شبِّه لك في صورة إنسان. [لماذا حكم الأئمة بما سبق؟] وإنما قال هؤلاء الأئمة وأمثالهم هذا الكلام في هذه الحيل لأن فيها الاحتيال على تأخير صوم رمضان، وإسقاط فرائض اللَّه تعالى من الحج والزكاة، وإسقاط حقوق المسلمين، واستحلال ما حرم اللَّه من الربا والزنا، وأخذ أموال الناس وسَفك دمائهم، وفَسْخ العقود اللازمة، والكذب وشهادة الزور وإباحة الكفر، وهذه الحيل دائرة بين الكفر والفسوق، ولا يجوز أن تُنْسَب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة، ومن نَسَبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم من الإسلام، وإن كان بعضُ هذه الحيل قد تنفذ على أصول إمام بحيث إذا فعلها المتحيل نفذ حكمها عنده، ولكن هذا أَمرٌ غير الإذن فيها وإباحتها وتعليمها فإن إباحَتَها شيءٌ ونفوذها إذا فعلت شيء، ولا يلزم من كون الفقيه والمفتي لا يبطلها أن يبيحها ويأذن فيها، وكثير من العقود يحرمها الفقيه ثم ينفذها ولا يبطلها، ولكن الذي نَدينُ اللَّه به تحريمها وإبطالها وعدم تنفيذها، ومقابلة أربابها بنقيض مقصودهم (¬3) موافقة لشرع اللَّه تعالى وحكمته وقدرته. [لا يجوز أن ينسب القول بجواز الحيل إلى إمام] والمقصود أن هذه الحيل لا تجوز أن تنسب إلى إمام؛ فإن ذلك قَدْح في إمامته، وذلك يتضمن القَدْحَ في الأمة حيث ائتمت بمن لا يصلح للإمامة [وفي ¬
[الأئمة برءاء مما نسب إليهم]
ذلك نسبة لبعض الأئمة إلى تكفير أو تفسيق] (¬1)، وهذا غيرُ جائز، ولو فرض أنه حُكي عن واحد من الأئمة بعض هذه الحيل المجمع على تحريمها فإما أن تكون الحكاية باطلة، أو يكون الحاكي لم يضبط [لفظه] (¬2) فاشتبه عليه فتواه بنفوذها بفتواه بإباحتها مع بُعْد ما بينهما، ولو فُرض وقوعها منه في وقت ما فلا بد أن يكون قد رجع عن ذلك، وإن لم يُحْمَل الأمر على ذلك لزم القدح في الإمام وفي جماعة المسلمين المؤتمين به، وكلاهما غير جائز، ولا خلاف بين الأمة أنه لا يجوز الإذنُ في التكلم بكلمة الكفر لغرض من الأغراض، إلا المكره إذا اطمأنَ قلبُهُ بالإيمان. ثم إن هذا على مذهب أبي حنيفة وأصحابه أشد؛ فإنهم لا يأذنون في كلمات وأفعال دون ذلك بكثير، ويقولون: إنها كفر، حتى قالوا: لو قال الكافر لرجل: "إني أريد أن أسلم" فقال له: "اصبر ساعة" فقد كفر (¬3)، فكيف بالأمر بإنشاء الكفر؟ وقالوا: لو قال: "مُسَيْجِد" أو صغَّر لفظ المصحف كَفَر (¬4). [الأئمة برءاء مما نسب إليهم] فعلمت أن هؤلاء المحتالين الذين يُفْتُونَ بالحيل التي هي كفر أو حرام ليسوا بمقتدين (¬5) بمذهب أحد من الأئمة (¬6)، وأن الأئمة أعلم باللَّه ورسوله ودينه وأتْقَى له من أن يُفْتُوا بهذه الحيل، وقد قال أبو داود في "مسائله": سمعت أحمد وذكر أصحاب الحيل: يحتالون لنقض سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)! وقال في رواية أبي ¬
الحارث الصانع: هذه الحيل التي وضعوها عمدوا إلى السنن واحتالوا لنقضها، والشيء الذي قيل لهم: إنه حرام احتالوا فيه حتى أحَلُّوه، قالوا: الرهن لا يحل أن يُسْتعمل، ثم قالوا: يُحتال له حتى يستعمل، فكيف يحل بحيلة ما حرَّم اللَّه ورسوله؟ وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن اللَّه اليهود حرِّمت عليهم الشحوم فأذابوها فباعوها وأكلوا أثمانها" (¬1) أذابوها حتى أزالوا عنها اسمَ الشَّحم، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المحلل والمحلل له (¬2)، وقال في رواية ابنه صالح: عجبتُ مما يقول أرباب الحيل في الحيل [في الأَيْمان، يبطلون الأيمان بالحيل] (¬3) وقد قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]، وقال: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وكان ابنُ عُيَيْنة يشتد عليه أمر هذه الحيل (¬4)، وقال في رواية الميموني وقد سأله: إنهم يقولون في رجل حَلَفَ على امرأته وهي على دَرَجة إن صَعَدتِ أو نَزَلْتِ فأنت طالق، قالوا: تُحمَلُ حَمْلًا، فقال: هذا هو الحنث بعينه، ليست هذه حيلة، هذا هو الحنث، وقالوا: إذا حلف لا يطأ بساطًا يطأ بساطين، وإذا حلف لا يدخل دارًا يُحمَل، فأقبل أبو عبد اللَّه يعجب (¬5)، وقال أبو طالب (¬6): "سمعت أبا عبد اللَّه قال له رجل: في "كتاب الحيل": إذا اشترى الرجل الأمة فأراد أن يقع بها يعتقها ثم يتزوجها، فقال أبو عبد اللَّه: سبحان اللَّه! ما أعجب هذا! أبطلوا كتاب اللَّه والسنة، جعل اللَّه العدة على الحرائر (¬7) من أجل الحَمْل، فليس من امرأة تُطلق أو يموت زوجها إلا تعتد من أجل الحمل، فَفَرجٌ يوطأ يشتريه ثم يعتقه على المكان فيتزوجها فيطؤها، فإن كانت حاملًا كيف يصنع؟ يطؤها رجل اليوم ويطؤها الآخر غدًا؟ [هذا] (¬8) نقض للكتاب والسنة، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُوطَأ الحامل حتى ¬
فصل [من الأدلة العقلية على تحريم الحيل]
تضع، ولا غير الحامل حتى تحيض" (¬1) ولا يدري هي (¬2) حاملٌ أم لا؟ سبحان اللَّه! ما أسْمَجَ هذا! " (¬3) وقال محمد بن الهيثم: سمعت أبا عبد اللَّه -يعني أحمد بن حنبل- يحكي عن محمد بن مقاتل (¬4) قال: شهدت هشامًا وهو يقرئ كتابًا، فانتهى بيده إلى مسألة فجازها، فقيل له في ذلك، فقال: دَعُوه، وكره مكاني، فتطلَّعتُ في الكتاب، فإذا فيه: لو أن رجلًا لَفَّ على ذكره (¬5) حَرِيرَةً في شهر رمضان ثم جامع امرأته نهارًا فلا قضاء عليه ولا كفارة. فصل (¬6) [من الأدلة العقلية على تحريم الحيل] ومما يدل على بطلان الحيل وتحريمها أن اللَّه سبحانه إنما أوجب الواجبات وحرَّم المحرمات لما تتضمن من مصالح عباده في معاشهم ومَعَادهم؛ فالشريعة لقلوبهم بمنزلة الغذاء الذي لا بد لهم منه والدواء الذي لا يندفع الداء إلا به، فإذا احتال العبدُ على تحليل ما حرم اللَّه وإسقاط ما فرض اللَّه وتعطيل ما شرع اللَّه كان ساعيًا في دين اللَّه بالفساد من وجوه: أحدها: إبطاله (¬7) ما في الأمر المحتال عليه من حكمة الشارع ونقض حكمته فيه ومناقضته له. والثاني: أن الأمر المحتال به ليس له عنده حقيقة، ولا هو مقصوده، وهو (¬8) ¬
[الإشارة إلى الحكمة في تحريم ما حرم الله]
ظاهر المشروع؛ فالمشروع ليس مقصودًا له، والمقصود له هو المحرم نفسه، وهذا ظاهرٌ كلَّ الظهور فيما يقصد الشارع؛ فإن المرابي مثلًا مقصوده الربا المحرم، وصورة البيع الجائز غير مقصودة له، وكذلك المتحيِّل على إسقاط الفرائض بتمليك ماله لمن لا يهبه درهمًا واحدًا حقيقة [بل] (¬1) حقيقة مقصودِهِ إسقاطُ الفرض، وظاهر الهبة المشروعة غير مقصودة له. الثالث: نسبته ذلك إلى الشارع الحكيم وإلى شريعته التي هي غذاء القلوب ودواؤها وشفاؤها، ولو أن رجلًا تحيل حتى (¬2) قلب الغذاء والدواء (¬3) إلى ضده، فجَعل الغذاء دواءً والدواء غذاءً، إما بتغيير اسمه أو صورته مع بقاء حقيقته؛ لأهلَكَ الناس، فمن عمد إلى الأدوية المسهلة فغيَّر صورتها أو أسماءها وجعلها غذاءً للناس، أو عمد إلى السموم القاتلة فغيَّر أسماءها (¬4) وصورتها وجعلها أدوية، أو إلى الأغذية الصالحة فغيَّر أسماءها (4) وصورها؛ كان ساعيًا بالفساد في الطبيعة، كما أن هذا ساع بالفساد في الشريعة؛ فإن الشريعة للقلوب بمنزلة الغذاء والدواء للأبدان، وإنما ذلك بحقائقها لا بأسمائها وصورها. [الإشارة إلى الحكمة في تحريم ما حَرَّم اللَّه] وبيان ذلك على وجه الإشارة أن اللَّه سبحانه وتعالى [إنما] (¬5) حرم الربا والزنا وتوابعهما ووسائلهما؛ لما في ذلك من الفساد، وأبَاحَ البيع والنكاح وتوابعهما؛ لأن ذلك مصلحة محضة، ولا بد أن يكون بين الحلال والحرام فَرْق في الحقيقة، وإلا لكان البيع مثل الربا والنكاح مثل الزنا، ومعلوم أن الفرق في الصورة دون الحقيقة مُلْغى عند اللَّه ورسوله و [في] (¬6) فِطَر عباده؛ فإن الاعتبار بالمقاصد والمعاني في الأقوال والأفعال، فإن الألفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدًا، فإذا اتفقت الألفاظ واختلفت المعاني كان حكمها مختلفًا، وكذلك الأعمال إذا اختلفت صورها واتفقت مقاصدها، وعلى هذه القاعدة ينبني (¬7) الأمر والنهي والثواب والعقاب، ومَنْ تأمل الشريعة علم بالاضطرار صحة هذا؛ فالأمر المُحْتال به على المُحرَّم صورتُه صورةُ الحلالِ، وحقيقتُه ومقصودُه ¬
[لا نعلق الأحكام إلا على المعاني]
حقيقة الحرام؛ فلا يكون حلالًا فلا يترتب عليه أحكامُ الحَلالِ فيقع باطلًا، والأمر المحتال عليه حقيقته حقيقة الأمر الحرام وإن لم تكن صورتُه صورتَه، فيجب أن يكون حرامًا لمشاركته للحرام في الحقيقة. [لا نعلّق الأحكام إلّا على المعاني] وياللَّه العجب! أين القياس والنظر في المعاني المؤثرة وغير المؤثرة فرقًا وجمعًا؟ والكلام في المناسبات ورعاية المصالح وتحقيق المَنَاطِ وتنقيحه وتخريجه (¬1) وإبطال قول مَنْ عَلّقَ الأحكام بالأوصاف الطَّرْدية التي لا مناسبة بينها وبين الحكم، فكيف يعلّقه بالأوصاف المناسبة لضد الحكم؟ وكيف تُعلّق الأحكام على مجرد الألفاظ والصُّور الظاهرة التي لا مناسبة بينها وبينها وَيدَع المعاني المناسبة المقتضية (¬2) لها التي ارتباطُها بها كارتباط العلل العقلية بمعلولاتها؟ والعجب منه كيف ينكر مع ذلك على أهل الظاهر (¬3) المتمسكين بظواهر كتاب ربهم وسنة نبيهم حيث لا يقوم دليل يخالف الظاهر ثم يتمسك بظواهر أفعال المكلفين وأقوالهم (¬4) حيث يعلم أن الباطنَ والقصدَ بخلافِ ذلك؟ ويعلم لو تأمل حق التأمل أن مقصودَ الشارعِ غير ذلك، كما يقطع بأن مقصوده ومن إيجاب الزكاة سد خَلّة المساكين وذوي الحاجات وحصول المصالح التي أرادها بتخصيص هذه الأوصاف (¬5) من حماية المسلمين والذَّبِّ عن حَوْزة الإسلام، فإذا أسقطها بالتحيل فقد خالف مقصود الشارع وحَصَّل مقصود المتحيل. [الواجب هو أن يحصل مقصود اللَّه ورسوله] والواجب الذي لا يجوز غيره أن يحصل مقصود اللَّه ورسوله وتبطل مقاصد ¬
[عود إلى الأدلة العقلية على بطلان الحيل]
المُتحيلين المخادعين، وكذلك يعلم قطعًا أنه إنما حرَّم الربا لما فيه من الضرر بالمحاويج، وأن مقصوده إزالة هذه المفسدة؛ فإذا أبيح التحيل على ذلك كان سَعْيًا في إبطال مقصود الشارع وتحصيلًا لمقصود المرابي، وهذه سبيل جميع الحيل المتوسَّل بها إلى تحليل الحرام وإسقاط الواجب، وبهذه الطريق تبطل جميعًا (¬1)، ألا ترى أن المتحيل لإسقاط الاستبراء مُبْطِل لمقصود الشارع من حكمة الاستبراء ومصلحته؛ فالمعينُ له على ذلك مُفوت لمقصود الشارع مُحصِّل (¬2) لمقصود المتحيل، وكذلك التحيل على إبطال حقوق المسلمين التي ملَّكهم إياها الشَّارع وجعله أحق بها من غيرهم إزالة لضررهم وتحصيلًا لمصالحهم. [عود إلى الأدلة العقلية على بطلان الحيل] فلو أباحَ التحيل لإسقاطها لكان عدم إثباتها للمستحقين أولى وأقل ضررًا من أن يثبتها ويوصي بها ويبالِغ في تحصيلها ثم يشرع التحيُّل (¬3) لإبطالها وإسقاطها، وهل ذلك إلا بمنزلة من بَنى بناءً مشيدًا وبالغ في إحهامه وإتقانه، ثم عاد فَنَقَضَه، وبمنزلة من أمر بإكرام رجل والمبالغة في برِّه والإحسان إليه وأداء حقوقه، ثم أباح لمن أمره أن يتحَيل بأنواع الحيل لإهانته وترك حقوقه، ولهذا يسيء الكُفّار والمنافقون ومَنْ في قلوبهم مرض (¬4) الظّنَّ بالإسلام والشرع الذي بعث [اللَّه] (¬5) به رسوله حيث ظنوا أن هذه الحيل مما جاء به الرسول وعَلِموا مناقضتها للمصالح مناقضةً ظاهرة ومنافاتها لحكمة الرب وعدله ورحمته وحمايته وصيانته لعباده؛ فإنه نهاهم عما نهاهم عنه حميةً وصيانةً، فكيف يبيح لهم الحيل على ما حماهم عنه؟ وكيف يبيح لهم التحيل على إسقاط ما فَرَضه عليهم وعلى إضاعة الحقوق التي أحقَّها عليهم لبعضهم بعضًا لقيام مصالح النوع الإنساني التي لا تتم إلا بما شرعه؟ فهذه الشريعة شَرَعَها [اللَّه] (¬6) الذي علم ما في ضمنها من المصالح والحكم والغايات المحمودة وما في خلافها من ضد ذلك، وهذا أمرٌ ثابتٌ لها لذاتها وبائن من أمر الرب تبارك وتعالى بها ونهيه عنها، فالمأمور به مصلحةٌ وحَسَنٌ في نفسه، و [اكتسى] (5) بأمر الرب تعالى مصلحة وحسنًا آخر، فازداد حُسنًا بالأمر ومحبة الرب وطَلَبِه له إلى حُسنه في نفسه، وكذلك المنهي عنه مَفْسَدة ¬
[وقبيح] (¬1) في نفسه، وازداد بنهي الرب تعالى عنه وبغْضه له وكراهيته له قبحًا إلى قبحه، وما كان هكذا لم يجز أن ينقلب حُسْنه قبحًا بتغير الاسم والصورة مع بقاء الماهية والحقيقة، ألا ترى أن الشارع صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله حَرَّم بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها (¬2) لما فيه من مفسدة التشاحن والتشاجر (¬3)، ولما يؤدي إليه -إن منع اللَّه الثمرة- من أكل مال أخيه بغير حق ظلمًا وعدوانًا، ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالتحيل على البيع قبل بدوّ الصلاح؛ فإن الحيلة لا تؤثر في زوال هذه المفسدة، ولا في تخفيفها، ولا في زوال ذرَّة منها؛ فمفسدة هذا العقد أمر ثابت له لنفسه، فالحيلة إن لم تَزِدْه فسادًا لم تُزِل فسادًا، وكذلك شرع اللَّه تعالى الاستبراء لإزالة مفسدة اختلاط المياه وفساد الأنساب وسَقي الإنسان بمائه (¬4) زَرْع غيره، وفي ذلك من المفاسد (¬5) ما تُوجِبُ العقولُ تحريمه [و] (¬6) لو لم تأت به شريعة، ولهذا فَطَرَ اللَّه الناس (¬7) على استهجانه واستقباحه، وَيرَوْن من أعظم الهجن أن يقوم هذا عن المرأة ويخلفه الآخر عليها، ولهذا حرم نكاح الزانية وأوجب العِدَدَ والاستبراء، ومن المعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراءِ، ومن المعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بالحيلة على إسقاط الاستبراء (¬8)، ولا تخِفّ، وكذلك شرع الحجَّ إلى بيته لأنه قوام للناس في معاشهم ومعادهم، ولو عُطِّل البيت الحرام عامًا واحدًا عن الحج لما أمهل الناس، ولَعُوجلوا بالعقوبة، وتوعَّد من ملك الزاد والراحلة ولم يحج بالموت على غير الإسلام (¬9)، ومعلوم أن التحيل لإسقاطه لا يزيل مفسدة الترك، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[طرف مما كان عليه أهل المدينة]
ولو أن الناس كلهم تحيَّلوا لترك الحج والزكاة لبطلت فائدة هذين الفرضين العظيمين، وارتفع من الأرض حُكمهما بالكُليَّة، وقيل للناس: إن شئتم كُلُّكم أن تتحيلوا لإسقاطهما فافعلوا، فليتصور العبد ما في إسقاطهما من الفساد المضاد لشرع اللَّه وإحسانه وحكمته، وكذلك الحدود جعلها اللَّه تعالى زَواجَر للنفوس وعقوبة ونكالًا وتطهيرًا، فَشَرْعُهَا من أعظم مصالح العباد في المعاش والمعاد، بل لا تتم سياسة مَلِك من ملوك الأرض إلا بزواجر وعقوبات لأرباب الجرائم، ومعلوم ما في التحيل لإسقاطها من منافاة هذا الغرض وإبطاله وتسليط النفوس الشريرة على تلك الجنايات إذا علمت أن لها طريقًا إلى إبطال عقوباتها فيها، وأنها تسقط تلك العقوبات بأدنى الحيل؛ فإنه لا فرق عندها البتة بين أن تعلم أنه لا عقوبة عليها فيها وبين أن تعلم أن لها عقوبة وأن لها إسقاطها بأدنى الحيل، ولهذا احتاج البلد الذي تظهر فيه هذه الحيل إلى سياسة والٍ أو أمير يأخذ على يَدِ الجُناة ويكفّ شرهم عن الناس إذا لم يمكن أرباب الحيل أن يقوموا بذلك، وهذا بخلاف الأزمنة والأمكنة التي قام الناس فيها بحقائق ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-؛ فإنهم لم يحتاجوا معها إلى سياسة أميرٍ ولا والٍ. [طرف مما كان عليه أهل المدينة] كما كان أهل المدينة في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فإنهم كانوا يحدّون بالرائحة وبالقَيْء وبالحبَل وبظهور المسروق عند السارق (¬1)، ويقتلون في القسامة، ويعاقبون أهل التهم، ولا يَقْبَلُون الدعوى التي تكذّبها العادة والعرف، ولا يرون الحيل في شيء من الدين ويعاقبون أربابها، ويحبسون (¬2) في التهم حتى يتبين حال المتهم، فإن ظهرت براءته خلّوا سبيله، وإن ظهر فجورُه قرَّروه بالعقوبة اقتداء بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في عقوبة المتهمين وحبسهم؛ فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حبس في تهمة وعاقب في تهمة، كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى (¬3) مِنْ ذِكْر ذلك عنه وعن أصحابه ما فيه شفاءٌ وكفاية وبيان لإغناء ما جاء به عن كل وال وسائس، وأن ¬
[ما في ضمن المحرمات من المفاسد يمنع أن يشرع إليها التحيل]
شريعته التي هي شريعته لا يحتاج معها إلى غيرها، وإنما يحتاج إلى غيرها مَنْ لم يُحِطْ بها علمًا أو لم يقم بها (¬1) عملًا. [ما في ضمن المحرمات من المفاسد يمنع أن يشرع إليها التحيل] والمقصود أن ما في ضمن المحرمات من المفاسد والمأمورات من المصالح يمنع أن يشرع إليها التحيل بما يبيحها ويسقطها، وأن ذلك مناقضة ظاهرة، ألا ترى أنه بالَغَ في لعن المحلِّل للمفاسد الظاهرة والباطنة التي في التحليل التي يعجز البشر عن الإحاطة بتفاصيلها؛ فالتحيل على صحة هذا النكاح بتقديم اشتراط التحيل عليه وإخلاء صُلْبه عنه إن لم يَزدْ مفسدتَه فإنه لا يُزِيلها ولا يخّففها، وليس تحريمه والمبالغة في لعن فاعله تعبدًا لا يُعْقَل معناه، بل هو معقول المعنى من محاسن الشريعة، بل لا يمكن شريعة الإسلام ولا غيرها من شرائع الأنبياء (¬2) أن تأتي بحيلة؛ فالتحيّل على وقوعه وصحته إبطال لغرض الشارع وتصحيح لغرض المتحيل المخادع. [لِمَ حرم الصيد في الإحرام] وكذلك الشارع حَرَّم الصيد في الإحرام وتوعَّدَ بالانتقام على مَنْ عاد إليه بعد التحريم (¬3)، لما فيه من المفسدة الموجبة لتحريمه وانتقام الرب من فاعله، ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة لا تزول بنصب الشِّباك له قبل الإحرام بلحظة، [فإذا وقع فيها حال الإحرام أخذه بعد الحِلّ بلحظة] (¬4)، فإباحته لمن فعل هذا إبطال لغرض الشارع الحكيم وتصحيح لغرض المخادع. [حكمة إيجاب الكفّارة على من وطئ نهار رمضان] وكذلك إيجاب الشارع الكفارة على مَنْ وطئ في نهار رمضان فيه من المصلحة جَبْر وَهن الصوم، وزجر الواطئ، وتكفير جُرمه، واستدراك فرطه، وغير ذلك من المصالح التي علمها مَنْ شرَع الكفارة وأحبها ورضيها، فإباحةُ التحيل لإسقاطها بأن يتغدَّى قبل الجماع ثم يجامع نقضٌ لغرض الشارع، وإبطالٌ له، ¬
[حكمة تشريع حدود الجرائم]
وإعمال لغرض الجاني المتحيل وتصحيح له، ثم إن ذلك جناية على حق اللَّه وحق العبيد؛ فهو إضاعة للحقين وتفويت لهما. [حكمة تشريع حدود الجرائم] وكذلك الشارع شَرَعَ حدود الجرائم التي تتقاضاها الطباع أشَدَّ تَقاضٍ لما في إهمال عقوباتها من مفاسد الدنيا والآخرة، بحيث لا يمكن سياسة ملكٍ ما من الملوك أن يخلو من عقوباتها ألبتة، ولا يقوم ملكه بذلك، فالإذن في التحيل لإسقاطها بصورة العقد وغيره مع وجود تلك المفاسد بعينها أو أعظم منها نَقْضٌ وإبطال لمقصود الشارع، وتصحيح لمقصود الجاني، وإغراء بالمفاسد، وتسليط للنفوس على الشر. [عود مرة أخرى إلى إبطال الحيل] وياللَّه العجب! كيف يجتمع في الشريعة تحريم الزنا والمبالغة في المنع منه وقتل فاعله شر القتلات وأقبحها وأشنعها وأشهرها ثم يسقط بالتحيل عليه بأن يستأجرها لذلك أو لغيره ثم يقضي غرضه منها؟ وهل يعجز عن ذلك زانٍ أبدًا؟ وهل في طباع وُلاة الأمران يقبلوا قول الزاني: أنا استأجرتها للزنا، أو استأجرتها لتَطويَ ثيابي ثم قضيت غرضي منها (¬1)، فلا يحل لك أن ¬
تقيم (¬1) عليّ الحد؟ وهل ركَّبَ اللَّه في فِطَرِ الناس سقوطَ الحد عن هذه الجريمة التي هي من أعظم الجرائم إفسادًا للفراش والإنساب بمثل هذا؟ وهل يسقط الشارع الحكيم الحد عمن أراد أن ينكح أمه أو ابنته أو أخته بأن يعقد عليها العقد ثم يطأها بعد ذلك (¬2)؟ وهل زادهُ صورة العقد المحرم إلا فجورًا ¬
فصل [أكثر الحيل تناقض أصول الأئمة]
وإثمًا واستهزاء بدين اللَّه وشرعه ولعبًا بآياته؟ فهل يليق به مع ذلك رفع هذه العقوبة عنه وإسقاطها بالحيلة التي فعلها مضمومة إلى فعلها الفاحشة بأمه [وأخته] (¬1) وابنته؟ فأين القياسُ وذكر المناسبات والعلل المؤثرة والإنكار على الظاهرية؟ فهل بلغوا بالتمسك بالظاهر عُشْرَ مِعْشار هذا؟ والذي يقضي منه العجب أن يقال: لا يعتد بخلاف المتمسكين بظاهر القرآن والسنة، ويعتد بخلاف هؤلاء، واللَّه ورسوله منزَّه عن هذا الحكم. وياللَّه العجب! كيف يَسقطُ القطعُ عمن اعتاد سرقة أموال الناس وكلما أمسك معه المال المسروق قال: هذا ملكي، والدار التي دخلتها داري، والرجل الذي دخلت داره عبدي؟ قال أرباب الحيل: فيسقط عنه الحد بدعوى ذلك، فهل تأتي بهذا سياسة قط جائرة أو عادلة، فضْلًا عن شريعة نبي من الأنبياء، فضْلًا عن الشريعة التي هي أكمل شريعة طرقت العالم؟ وكذلك الشارع أوجب الإنفاق على الأقارب؛ لما في ذلك من قيام مصالحهم ومصالح المنفق، ولما في تَرْكهم من إضاعتهم؛ فالتحيل لإسقاط الواجب بالتمليك في الصورة مناقضة لغرض الشارع وتتميم لغرض الماكر المحتال، وعَوْدٌ إلى نفس الفساد الذي قصد الشارع إعدامَه بأقرب الطرق، ولو تحيل هذا المخادع على إسقاط نفقة دَوابه لهلكوا، وكذلك ما فرضه اللَّه تعالى للوارث من الميراث هو حق له جعله أولى من سائر الناس به، فإباحةُ التحيل لإسقاطه بالإقرار بماله كله للأجنبي وإخراج الوارث مُضادَّة لشرع اللَّه ودينه ونقض لغرضه وإتمام لغرض المحتال، وكذلك تعليم المرأة أن تقر بدَيْنٍ لأجنبي إذا أراد زوجُهَا السفر بها. فصل [أكثر الحيل تناقض أصول الأئمة] وأكثر هذه الحيل لا تمشي على أصول الأئمة، بل تناقضها أعظم مناقضة. وبيانه أن الشافعي -رضي اللَّه عنه- يحرم مسألة مُدِّ عجوة ودرهم بمد ودرهم (¬2)، ويبالغ في ¬
[الحيل تقتضي رفع التحريم]
تحريمها بكل طريق خوفًا أن يُتَّخذ حيلة على نوع ما من ربا الفَضْل، فتحريمُهُ للحيل الصريحة التي يتوصل بها إلى ربا النساء أولى من تحريم مد عجوة بكثير؛ فإن التحيل بمد ودرهم من الطرفين على ربا الفضل أخف من التحيل بالعِينَةِ على ربا النساء، وأين مفسدة هذه من مفسدة تلك؟ وأين حقيقة الربا في هذه من حقيقته في تلك؟ وأبو حنيفة يحرِّم مسألة العِينة (¬1)، وتحريمه لها يوجب تحريمه للحيلة في مسألة مد عجوة بأن يبيعه خمسة عشر درهمًا بعشرة في خرقة؛ فالشافعي يبالغ في تحريم مسألة مد عجوة ويبيح العينة، وأبو حنيفة يبالغ في تحريم العينة ويبيح مسائل مد عجوة، ويتوسع فيها، وأصل كل من الإمامين -رضي اللَّه عنهما- في أحد البابين يستلزم إبطال الحيلة في الباب الآخر، وهذا من أقوى التخريج على أصولهم ونصوصهم، وكثير من الأقوال المُخَرَّجة دون هذا. [الحيل تقتضي رفع التحريم] فقد ظهر أن الحيل المحرمة في الدين تقتضي رفع التحريم مع قيام موجبه ومقتضيه وإسقاط الوجوب مع قيام سببه، وذلك حرامٌ من وجوه: أحدها: استلزامها فعل المحرم وترك الواجب. والثاني: ما تتضمنه (¬2) من المَكْر والخِداع والتلبيس. والثالث: الإغراء بها والدلالة عليها وتعليمها مَنْ لا يحسنها. والرابع: إضافتها إلى الشارع وأن أصول شرعه ودينه تقتضيها. والخامس: أن صاحبها لا يتوب منها ولا يعدّها ذنبًا. والسادس: أنه يُخادع اللَّه كما يخادع المخلوق. والسابع: أنه يسلِّط أعداء الدين على القَدْح فيه وسوء الظن به وبمن شرعه. والثامن: أنه يُعْمِلُ فكره واجتهاده في نقض ما أبرمه الرسولُ وإبطال ما أوجبه وتحليل ما حرمه. ¬
فصل [حجج الذين جوزوا الحيل]
والتاسع: أنه إعانة ظاهرة على الإثم والعُدْوان، وإنما اختلفت الطريقُ؛ فهذا يعين عليه بحيلة ظاهرُهَا صحيح مشروع يتوصل بها إليه، وذاك يعين عليه بطريقه المفْضية إليه بنفسها، فكيف كان هذا معينًا على الإثم والعدوان والمتحيّل المخادع يعين على البر والتقوى. العاشر: أن هذا ظلمٌ في حقِّ اللَّه، وحق رسوله، وحق دينه، وحق نفسه، وحق العبد المُعيَّن، وحق (¬1) عموم المؤمنين؛ فإنه يُغْرِي به ويعلمه ويدل عليه، والمتوصل إليه بطريق المعصية لا يظلم إلا نفسه، ومَنْ تعلق به ظلمه من المعيَّنين فإنه لا يزعم أنَّ ذلك دينٌ وشرع ولا يقتدي به الناس. فأين فسادُ أحدهما من الآخر وضرره من ضرره؟ وباللَّه التوفيق. فصل [حجج الذين جوَّزوا الحيل] قال أرباب (¬2) الحيل: قد أكثرتم من ذم الحيل، وأجلبتم بخَيْل الأدلة ورَجْلها وسمينها ومهزولها، فاسمعوا (¬3) الآن تقريرها واشتقاقها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وأئمة الإسلام، وأنه لا يمكن أحدًا إنكارها. [أدلتهم من القرآن] قال اللَّه تعالى لنبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فأذن لنبيه أيوب أن يتحلل من يمينه بالضرب بالضِّغْث، وقد كان نَذَر أن يضربها ضرباتٍ متعددة (¬4)، وهي في المتعارف الظاهر إنما تكون متفرقةً؛ فأرشده تعالى إلى الحيلة في خروجه من اليمين، فنقيس عليه سائر الباب، ونسميه وجوه المخارج من المضائق، ولا نسمّيه بالحيل التي ينفر الناس من اسمها. وأخبر اللَّه تعالى عن نبيه يوسف -عليه السلام- أنه جعل صُواعَه في رَحْل أخيه ليَتوَّصل بذلك إلى أخذه من إخوته، ومَدَحَه بذلك، وأخبر أنه برضاه وإذنه، كما قال: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ¬
[أدلتهم من السنة]
[نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (¬1)} [يوسف: 76] فأخبر أن هذا كيده لنبيه، وأنه بمشيئته، وأنه يرفع درجة عبده بلطيف العلم ودقيقه الذي لا يهتدي إليه سواه، وأن ذلك من علمه وحكمته. وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: 50] فأخبر تعالى أنه مكر بمن مكر بأنبيائه ورسله، وكثير من الحيل هذا شأنها، يمكر بها على الظالم والفاجر ومن يعسر تخليص الحق منه؛ فتكون وسيلة إلى نصر مظلوم وقهر ظالم ونصر حق وإبطال باطل. واللَّه تعالى قادر على أخذهم بغير وجه المكر الحسن، ولكن جازاهم بجنس عملهم، وليعلّم عباده أن المكر الذي يتوصَّلُ به إلى إظهار الحق ويكون عقوبة للماكر ليس قبيحًا. وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وخداعه لهم أن يظهر لهم أمرًا ويبطن لهم خلافه. فما تُنكرون على أرباب الحيل الذين يظهرون أمرًا يتوصلون به إلى باطن غيره اقتداءً (¬2) بفعل اللَّه تعالى؟ [أدلتهم من السنة] وقد روى البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة وأبي سعيد "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- استعمل رجلًا على خيبر، فجاءهم بتمرٍ جَنيبٍ (¬3)، فقال: أكلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: إنا لنأخذ الصالح من هذا بالصَّاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال: لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" (¬4) وقال في الميزان مثل (¬5) ذلك، فأرشده إلى الحيلة على التخلص من الربا بتوسط العقد الآخر، وهذا أصل في جواز العِينَةِ. وهل الحيل إلا معاريض في الفعل على وِزان (¬6) المعاريض في القَوْل؟ وإذا كان في المعاريض مَنْدوحة عن الكذب ففي معاريض الفعل مَنْدُوحة عن المحرمات وتخلّص من المضايق. ¬
ولقد لقي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- طائفةً من المشركين وهو في نَفَرٍ من أصحابه، فقال المشركون: ممن أنتم؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نحن مِنْ ماء" فنظر بعضهم إلى بعض، فقالوا: أحياء اليمن كثير، فلعلهم منهم، وانصرفوا (¬1). و [قد] (¬2) جاء رجل إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: احملني، فقال: "ما عندي (¬3) إلا ولد ناقة" فقال: ما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وهل يلد الإِبلَ إلا النوقُ؟ " (¬4). وقد رأت امرأةُ عبدِ اللَّه بن رواحة عبدَ اللَّه على جارية له، فذهبت وجاءت بسكين، فصادفته وقد قضى حاجته، فقالت: لو وجدتك على الحال التي كنت عليها لوَجَأتك، فأنكر، فقالت: فاقرأ إن كنت صادقًا، فقال: شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللَّه حقٌّ ... وأن النار مَثْوَى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طَافٍ (¬5) ... وفوق العرش رَبُّ العالمينا وتحملُه ملائكة كِرَام (¬6) ... ملائكة الإلهِ مُسَوَّمينا قالت (¬7): آمنت بكتاب اللَّه وكذَّبت بصري، فبلغ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فضحك ولم ¬
ينكر عليه (¬1)، وهذا تحيل منه بإظهار القراءة لما أوهم أنه قرآن ليتخلص به من مكروه المغيرة. ¬
[أدلة من عمل السلف]
[أدلة من عمل السَّلف] وكان بعض السلف إذا أراد أن لا يطعم طعامًا لرجل (¬1) قال: أصبحت صائمًا، يريد أن أصبح فيما سلف [صائمًا] (¬2) قبل ذلك اليوم، وكان محمد ابن سيرين إذا اقتضاه بَعْضُ غُرَمائه وليس عنده ما يعطيه قال: أعطيك في أَحدِ اليومين إن شاء اللَّه، يريد بذلك يومي الدنيا والآخرة، وسأل رجل عن المروزي وهو في دار أحمد بن حنبل، فكره الخروج إليه، فوضع [أحمد] (¬3) أصبعه في كفّه، فقال: ليس المروزي هاهنا، وما يصنع المروزي هاهنا (¬4)؟ وحضر سفيان الثوري مجلسًا، فلما أراد النهوض منعوه، فحلف أن (¬5) يعود، ثم خرج وترك نَعْله كالناسي لها، فلما خرج عاد وأخذها وانصرف، وقد كان لشُرَيح في هذا الباب فقه دقيق كما أعجب رجلًا فرسُه وأراد أخذها منه، فقال له شريح: إنها إذا ربضت (¬6) لم تقم حتى تقام، فقال الرجل: أف أف (¬7)، إنما أراد شريح أن اللَّه هو الذي يُقيمها، وباع من رجل ناقة، فقال له المشتري: كم تحمل؟ فقال: احمل على الحائط ما شئت، فقال: كم تَحْلِب؟ قال: احلب في أي إناء شئت، فقال: كيف سيْرُها؟ قال: الريح لا تُلْحَقُ، فلما قبضها المشتري لم يجد شيئًا من ذلك، فجاء إليه وقال: ما وجدتُ شيئًا من ذلك، فقال: ما كذَبتك. [أدلة أخرى لأصحاب الحيل] قالوا: ومن المعلوم أن الشارع جعل العُقُود وسائلَ وطرقًا إلى إسقاط الحدود والمأثم، ولهذا لو وطئ الإنسان امرأة أجنبية من غير عقد ولا شُبهة لزمه الحد، فإذا عقد عليها عقد النكاح ثم وطئها لم يلزمه الحد، وكان العقد حيلة على إسقاط الحد، بل قد جعل اللَّه سبحانه الأكل والشرب واللباس حيلة على دفع أذى الجوع والعطش والبرد، والاكتفاء حيلة إلى (¬8) دفع [أذى] (¬9) الصائل من ¬
[كتاب الخصاف في الحيل]
الحيوان وغيره، وعقد التبايع حيلة على حصول الانتفاع بملك الغير (¬1)، وسائر العقود حيلة على التوصل إلى ما لا يباح إلا بها، وشرع الرهن حيلة على رجوع صاحب الدَّيْن في ماله من عين الرهن إذا أفلس الراهن أو تعذَّر الاستيفاء منه. وقد روى سلمة بن صالح (¬2)، عن يزيد الواسطي، عن عبد الكريم، عن عبد اللَّه بن [أبي] (¬3) بريدة قال: سئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أعظم آية في كتاب اللَّه، فقال: لا أخرج من المسجد حتى أخبرك، فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من مجلسه، فلما أخرج إحدى رجليه أخبره بالآية قبل أن يخرج رجله الأخرى (¬4). [كتاب الخصاف في الحيل] وقد بني الخصاف (¬5) كتابه في الحيل على هذا الحديث، ووجَّه الاستدلال به أن من حلف [أن] (¬6) لا يفعل شيئًا فأراد التخلص من الحِنْثِ بفعل بعضه لم يكن حانثًا، فإذا حلف لا يأكل هذا الرغيف ولا يأخذ هذا المتاع فليَدَعْ بعضَه ويأخذ الباقي ولا يحنث، وهذا أصل في بابه في التخلص من الأيمان (¬7). [عود إلى الاستدلال بعمل السلف في جواز الحيل] وهذا السلف الطيب قد فتحوا لنا هذا الباب، ونهجوا لنا هذا الطريق، ¬
فروى قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم في رجل أخذه رجل فقال: إني (¬1) لي معك حقًا، [فقال: لا] (¬2)، فقال: احلف لي بالمشي إلى بيت اللَّه، فقال: يحلف له بالمشي إلى بيت اللَّه، ويعني به مسجد حَيِّهِ (¬3). وبهذا الإسناد أنه قال له رجل: إن فلانًا أمرني أن آتي مكان كذا وكذا، وأنا لا أقدرُ على ذلك المكان، فكيف الحيلة؟ قال: يقول: واللَّه ما أُبصرُ إلا ما سدَّدني غيري (¬4). وذكر عبد الملك بن مَيْسرة عن النَّزَّال بن سَبْرة قال: جعل حذيفة يحلف لعثمان بن عفان على أشياء باللَّه ما قالها، وقد سمعناه يقولها، [فقلنا: يا أبا عبد اللَّه، سمعناك تحلف لعثمان على أشياء ما قلتها، وقد سمعناك قلتها، فقال:] (¬5) إني أشتري (¬6) ديني بعضه ببعضٍ مخالفَةَ أن يذهب كله (¬7)، وذكر قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن إبراهيم أن رجلًا قال له: [إني] (¬8) أنال من رجل شيئًا فيبلغه عني، فكيف أعتذر إليه؟ فقال له إبراهيم: قل: واللَّه إن اللَّه ليعلم ما قلت من ذلك من شيء (¬9)، وكان إبراهيم يقول لأصحابه إذا خرجوا من عنده وهو مُستخفٍ من الحجَّاج: إن سُئلتم عني [وحلّفتم] فاحلفوا باللَّه لا تدرون أين أنا، ولا في أي موضع أنا، واعْنُوا [أنكم] لا تدرون أين أنا من البيت، وفي أي ¬
[الأدلة من الحديث]
موضع منه، وأنتم صادقون (¬1). وقال مجاهد عن ابن عباس: ما يسرُّني بمعاريض الكلام حُمُرُ النِّعَمِ (¬2). [الأدلة من الحديث] قد ثبت في "الصحيح" من حديث حُميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلْثُوم بنت عُقْبَة بن أبي مُعَيْط -وكانت من المهاجرات الأول- "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رخَّصَ في الكذب في ثلاث: في الرجل يُصْلِحُ بين الناس، والرجل يكذب لامرأته، والكذب في الحرب" (¬3). ¬
وقال مُعْتمر بن سُليمان التَّيميّ، عن أبيه: حدثني نُعيم بن أبي هِنْد، عن سُويد بن غَفَلَةَ أن عليًا كرم اللَّه وجهه في الجنة لما قتل الزنادقة نظر في الأرض، ثم رفع رأسه إلى السماء، ثم قال: صدق اللَّه ورسوله، ثم قام فدخل بيته، فأكثر الناس في ذلك، فدخلْتُ عليه فقلتُ: يا أمير المؤمنين أشيء عَهِدَ إليك رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أم شيء رأيته؟ فقال: هل عليّ من بأس أن أنظر إلى السماء؟ قلت: لا، قال: فهل عليّ من بأس أن انظر إلى [السماء أو إلى] الأرض؟ قلت: لا، قال: فهل عليّ من بأس أن أقول صدق اللَّه ورسوله؟ قلت: لا، قال: فإني رجلٌ مُكائِد (¬1). وقال حجاج بن مِنْهال: ثنا أبو عَوَانة، عن أبي مِسْكين قال: كنت عند إبراهيم وامرأتُه تعاتبه في جاريته وبيدها (¬2) مروحة، فقال: أشهدكم أنها (¬3) لها، ¬
[قولهم لا بأس بالحيل]
فلما خرجنا قال: علامَ شهدتم؟ قلنا: أشْهَدْتَنا أنك جعلت الجارية لها، قال: أما رأيتموني أشير إلى المروحة؟ (¬1). [قولهم لا بأسَ بالحيل] وقال محمد بن الحسن، عن عمرو بن ذر (¬2) عن الشعبي: لا بأس بالحيل فيما يحل ويجوز، وإنما الحيل شيء يتخلَّص به الرجل من [المآثم و] الحرام (¬3)، ويخرج به (¬4) إلى الحلال، فما كان من هذا ونحوه فلا بأس به، وإنما يكره من ذلك أن يحتال الرجل في حق الرجل حتى يُبْطله، أو يحتال في باطل حتى يُوهم أنه حق (¬5)، أو يحتال في شيء حتى يدخل فيه شبهة، وأما ما كان على السبيل (¬6) الذي قلنا فلا بأس بذلك (¬7). [استدلالهم بالقرآن] قالوا: وقد قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وقال غير واحد من المفسرين: مخرجًا مما ضاق على الناس، ولا ريب أن هذه الحيلَ مخارجُ مما ضاق على الناس، ألا ترى أن الحالف يضيق عليه إلزام (¬8) ما حلف عليه، فيكون له بالحيلة مخرج منه، وكذلك الرجل تشتد به الضرورة إلى نفقة ولا يجد مَنْ يُقْرضه فيكون له من هذا الضيق مخرج بالعِينة والتورق (¬9) ونحوهما، فلو لم يفعل ذلك لهلك ولهلكت عياله، واللَّه تعالى لا يشرع ذلك، ولا يضيق عليه (¬10) شرعه الذي وسع جميع خلقه؛ فقد دار أمره بين ثلاثة لا بد له من واحد منها: إما إضاعة نفسه وعياله، وإما الربا صريحًا، وإما المخرج من هذا الضيق [بهذه ¬
[استدلالهم بعمل السلف وقولهم]
الحيلة] (¬1)، فأوجدونا أمرًا رابعًا نصير إليه، وكذلك الرجل ينزغه (¬2) الشيطان فيقع به الطلاق فيضيق عليه جدًا مفارقةُ امرأته وأولاده وخراب بيته، فكيف ينكر في حكمة اللَّه ورحمته أن نتحيل له بحيلة تُخْرجه من هذا الإصر والغل؟ وهل الساعي في ذلك إلا مأجور غير مأزور كما قاله إمام الظاهرية في وقته أبو محمد بن حزم (¬3) وأبو ثور (¬4) وبعض أصحاب أبي حنيفة (¬5)، وحملوا أحاديثَ التحريم على ما إذا شرط في صلب العقد أنه نكاح تحليل؟ [استدلالهم بعمل السلف وقولهم] قالوا: وقد روى عبد الرزاق، عن هشام بن حسان، عن محمد ابن سيرين قال: أرْسَلَت امرأة إلى رجل، فزوَّجته نفسها ليحلها لزوجها، فأمره عمر [بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-] أن يُقيمَ معها ولا يطلقها، وأوْعَده إن يعاقبه أن طلَّقها (¬6)؛ فهذا أمير المؤمنين قد صحح نكاحه، ولم يأمره باستئنافه، وهو حجة في صحة نكاح المحلل والنكاح بلا ولي. وذكر عبد الرزاق، عن مَعْمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه كان لا يرى بأسًا بالتحليل، إذا لم يعلم أحد الزوجين (¬7)، قال ابن حزم (¬8): "وهو قول سالم بن عبد اللَّه والقاسم بن محمد". وصح عن عطاء فيمن نكح امرأة محلِّلًا ثم رَغِبَ فيها فأمسكها، قال: لا بأس بذلك (¬9). ¬
وقال الشعبي: لا بأس بالتحليل إذا لم يأمر به الزوج (¬1). وقال الليث بن سعد: إن تزوَّجها ثم فارقها لترجع إلى زوجها ولم يعلم المطلِّق ولا هي بذلك وإنما كان ذلك إحسانًا منه (¬2) فلا بأس أن ترجع إلى الأول، فإن بيَّن الثاني ذلك للأول بعد دخوله بها لم يضرُّه. وقال الشافعي وأبو ثور: المحلِّل الذي يفسد نكاحه هو الذي يعقد عليه في نفس عقد النكاح أنه يتزوجها (¬3) ليحلها ثم يطلقها، فأما من لم يشترط ذلك [عليه] في عقد النكاح فعقده (¬4) صحيحٌ لا داخلة فيه، سواء شرط ذلك عليه قبل العقد أو لم يشرط (¬5)، نوى ذلك [في نفسه] أو لم ينوه، قال أبو ثور: وهو مأجور (¬6). وروى بشر بن الوليد، عن أبي يوسف، عن (¬7) أبي حنيفة مثل هذا سواء. وروى أيضًا محمد وأبو يوسف (¬8) عن أبي حنيفة: إذا نوى الثاني تحليلها (¬9) للأول لم تحل له بذلك. وروى الحسن بن زياد عن زفر وأبي حنيفة (¬10): "أنه [و] إن اشترط (¬11) عليه في نفس العقد أنه إنما يتزوجها (¬12) ليحلها للأول فإنه نكاحٌ صحيح [ويحصنان به]، ويبطل الشرط، وله أن يقيم معها" (¬13). فهذه ثلاث روايات عن أبي حنيفة. ¬
قالوا: وقد قال اللَّه تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وهذا زوج، قد (¬1) عقد بمهر وولي ورضاها وخلوّها من الموانع الشرعية، وهو راغب في رَدِّها إلى الأول؛ فيدخل في حديث ابن عباس أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا نكاح إلا نكاح رغبة" (¬2) وهذا نكاح رغبة في تحليلها للمسلم كما أمر اللَّه تعالى بقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما شرط في عَوْدها إلى الأول مجردَ ذَوْق العُسَيْلة بينهما، وغيَّى (¬3) الحلَّ بذلك فقال: "لا، حتى تذوق عُسَيْلته ويذوق عسيلتها" (¬4) فإذا تذاوقا العسيلة حَلَّتْ له بالنص (¬5). ¬
[لم يلعن كل محلل]
قالوا: وأما نكاح الدُّلْسَة فنعم هو باطل، ولكن ما هو نكاح الدُّلْسَة (¬1)؟ فلعله أراد به أن تدلَّسَ له المرأة بغيرها، أو تدلِّسَ له أنها انقضت (¬2) عدتها ولم تنقض لتستعجل عَوْدَهَا إلى الأول. [لم يلعن كل مُحلِّل] وأما لعنة للمحلِّل فلا ريب أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُرِد كل محلل ومحلل له؛ فإن الولي مُحلّل لما كان حرامًا قبل العقد، والحاكم المزوج محلل بهذا الاعتبار، والبائع لأَمَتَه محلل للمشتري وَطْأها، فإن قلنا: "العام إذا خُصَّ صار مجملًا" بطل الاحتجاج بالحديث، وإن قلنا: "هو حجة فيما عدا محل التخصيص" فذلك مشروط ببيان المراد منه (¬3)، ولسنا ندري المحلِّل المراد من هذا النص، أهو الذي نَوَى التحليل أو شرطه قبل العقد أو شرطه في صُلْب العقد؟ أو الذي أحلَّ ما حرمه اللَّه ورسوله؟ ووجدنا كُلَّ من تزوج مطلقة ثلاثًا فإنه محلل، ولو لم يشترط التحليل ولم ينوه؛ فإن الحل حصل بوطئه وعقده (¬4)، ومعلوم قطعًا أنه لم يدخل في النص، فعُلِمَ أن النص إنما أراد به مَنْ أحل الحرام بفعله أو عَقْده، ونحن وكلُّ مسلم لا نشك في أنه أهل للعنة اللَّه، وأما مَنْ قصد الإحسان إلى أخيه المسلم ورَغِب في جمع شمله بزوجته، ولمَّ شَعَثِهِ وشَعَثِ أولاده وعياله؛ فهو محسن، و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] فضلًا عن أن تلحقهم لعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. [قواعد الفقه لا تحرم الحيل] ثم قواعد الفقه وأدلَّته لا تحرم مثل ذلك (¬5)؛ فإن هذه العقود التي لم يشترط ¬
[الفرق بين القصد والإكراه والشرط المقارن]
المُحرَّم في صُلْبها عقود صدرت من أهلها في محلِّها مقرونة بشروطها (¬1)، فيجبُ الحكم بصحتها؛ لأن السبب هو الإيجاب والقبول وهما تامَّان، وأهلية العاقد لا نِزاعَ فيها، ومحليَّةُ العقد قابلة، فلم يبق إِلا القصد المقرون بالعقد، ولا تأثير له في بطلان الأسباب الظاهرة، لوجوه: أحدها: أن المعتان (¬2) مثلًا إنما قصد الربح الذي وُضِعت له التجارة، "وإنما لكل امرئ ما نوى" (¬3) فإذا حصل له الربح حصل له مقصوده، وقد سلك الطريق المُفْضِية إليه في ظاهر الشرع، والمحلِّلُ غايتُه أنه قصد الطلاق ونواه إذا وطئ المرأة، وهو مما ملَّكه الشارع إياه، فهو كما [لو] (¬4) نوى المشتري إخراج المبيع عن ملكه إذا اشتراه، وسرُّ ذلك أن السببَ مقتضٍ لتأبُّد الملك، والنية لا تُغيّر موجب السبب حتى يقال: إن النية توجبُ تأقيت العقد، وليست (¬5) هي منافيةً لموجب العقد، فإن له أن يطلِّق. ولو نوى بعقد الشراء إتلاف المبيع وإحراقه أو إغراقه لم يقدح في صحة البيع، فنيّةُ الطلاق أولى، وأيضًا فالقصدُ لا يقدح في اقتضاءِ السبب لحكْمِه؛ لأنه خارج عما يتم به العقد، ولهذا لو اشترى عصيرًا ومن نيّته أن يتخِذَه خمرًا أو جاريةً ومن نيته أن يكرهها على البِغَاء أو يجعلها مغنية أو سلاحًا ومن نيته أن يقتل به معصومًا؛ فكلُّ ذلك لا أثر له في صحة البيع من جهة أنه منقطع عن السبب؛ فلا يخرج السبب عن اقتضاء حكمه. [الفرق بين القصد والإكراه والشرط المقارن] وقد ظهر بهذا الفرقُ بين هذا القصد وبين الإكراه؛ فإن الرضا شرطٌ في صحة العقد، والإكراه ينافي الرضا، وظهر أيضًا الفرقُ بينه وبين الشرط المقارِن؛ فإن الشرط المقارن يقدح في مقصود العقد؛ فغاية الأمر أن العاقد قصد محرَّمًا، لكن ذلك لا يمنع ثبوت الملك، كما لو تزوجها ليضارّ بها امرأة له أخرى، ومما يؤيد ما ذكرناه أن النية إنما تعملُ في اللفظ المُحتملِ للمنويِّ وغيره، مثل الكنايات، ومثل أن يقول: اشتريتُ كذا؛ فإنه يحتمل أن يشتريه لنفسه ولموكِّله، فإذا نوى أحدهما صح، فإذا كان السبب ظاهرًا متعينًا لمسببه لم يكن للنية الباطنة أثر في تغيير حكمه. ¬
[عن النية]
[عن النية] يوضّحه أن النية لا تؤثِّر في اقتضاء الأسباب الحسّيّة والعقلية المستلزمة لمسبِّباتها ولا تؤثر النية في تغييرها، يوضحه أن النية إمّا أن تكون (¬1) بمنزلة الشرط أو لا تكون، فإن كانت منزلة الشرط لزم أنه إذا نوى أن لا يَبيعَ ما اشتراه ولا يَهبَه ولا يتصرف فيه، أو نوى أن يخرجه عن ملكه، أو نوى أن لا يطلِّق (¬2) الزوجة أو يبيت عندها [كل ليلة] (¬3) أو لا يسافر عنها، بمنزلة أن يشترط ذلك في العقد، وهو خلاف الإجماع، وإن لم تكن بمنزلة الشرط فلا تأثير له حينئذ. [لنا الظواهر وللَّه السرائر] وأيضًا فنحن لنا ظواهر الأمور، وإلى اللَّه سرائرها وبواطنها؛ ولهذا يقول الرسُلُ لربهم تعالى [يوم القيامة] (¬4) إذا سألهم: {مَاذَا أُجِبْتُمْ} فيقولون: {لَا عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أنت عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109] كان لنا ظواهرهم، وأما ما انطوت عليه ضمائرهم وقلوبهم فأنت العالم به. [زعمهم أنه ظهر عذرهم في الأخذ بالحيل] قالوا: فقد ظَهَر عذرُنا، وقامت حجتنا، فتبين أنا لم نخرج فيما أصَّلْناه -من اعتبار الظّاهر (¬5)، وعدم الالتفات إلى القُصُود في العقود، وإلغاء الشروط المتقدمة الخالي عنها العقدُ، والتحيُّل على التخلّص من مضايق الأيْمان وما حرَّمه اللَّه ورسوله من الربا وغيره- عن كتاب رَبَّنَا وسنة نبيّنا وأقوال السلف الطيب. [ادعاء أن في مذاهب الأئمة فروعًا ينبنى عليها تجويز الحيل] ولنا بهذه الأصول رهنٌ عند كل طائفة من الطوائف المنكرة علينا. [الحيل عند الشافعية] [فلنا] (¬6) عند الشافعية رُهُون كثيرة في عدة مواضع، وقد سلَّموا لنا أن ¬
[الحيل عند المالكية]
الشرط المتقدم على العقد مُلْغَى، وسلموا لنا أن القصود غير معتبرة في العقود، وسلموا لنا جواز التحيّل على إسقاط الشُّفعة، وقالوا: يجوز (¬1) التحيل على بيع المعدوم من الثمار فضلًا عما لم يَبْدُ صلاحه بأن يؤجِّره الأرض ويُسَاقيه على الثمر من كل ألف جُزْء على جزء، وهذا نفسُ الحِيلة على بيع الثمار قبل وجودها، فكيف تنكرون علينا التحيل على بيعها قبل بدوّ صلاحها؟ وهل مسألة العِينَة إِلا مَلِك باب الحيل؟ وهم يبطلون الشرك (¬2) بالعروض ثم يقولون: الحيلَة في جوازها أن يبيعَ كلُّ منهما نصف عَرَضِه لصاحبه، فيصيران شريكين حينئذ بالفعل، ويقولون: لا يصح تعليق الوكالة بالشرط، والحيلة على جوازها أن يوكله الآن ويعلق تصرفه بالشرط، وقولهم في الحيل على عدم الحنث بالمسألة السُّرَيجية (¬3) معروف. وكل حيلة سواه (¬4) محلل بالنسبة إليه؛ فإن هذه المسألة حيلة على أن يحلف دائمًا بالطلاق ويحنث ولا يقع عليه الطلاق أبدًا. [الحيل عند المالكية] وأما المالكية فهم من أشد الناس إنكارًا علينا للحيل، وأصولهم تخالف أصولنا في ذلك؛ إذ عندهم أن الشرط المتقدِّم كالمقارِن، والشرط العُرْفي كاللفظي، والقُصُود في العقود معتبرة، والذرائع يجب سدها، والتغرير الفعلي كالتغرير القولي، وهذه الأصول تسد باب الحيل سدًا محكمًا. ولكن قد عِلِقْنا لهم برهون نطالبهم بفكاكها أو بموافقتهم لنا على ما أنكروه علينا، فجوَّزوا التحيل على إسقاط الشُّفعة، وقالواة لو تزوَّجها ومن نيته أن يقيم معها سنةً صح ¬
[الحيل عند الحنابلة]
النكاح، ولم تعمل هذه النية في فساده (¬1). [الحيل عند الحنابلة] وأما الحنابلة فبيننا وبينهم مُعْتَرك النزال في هذه المسائل؛ فإنهم هم الذين شنَّوا علينا الغارات، ورَمَوْنا بكل سلاح من الأثر والنظر، ولم يُراعوا (¬2) لنا حُرمة، ولم يرقبوا فينا إِلا ولا ذمَّة. وقالوا: لو نَصَب شِباكًا للصيد قبل الإحرام ثم أخذ ما وقع فيها حال الإحرام بعد الحِلِّ جَاز. وياللَّه العجب! أي فرق بين هذه الحيلة وحيلة أصحاب السَّبتِ على الحيتان؟ وقالوا: لو نوى الزوج الثاني أن يحلّها للأول ولم يشترط ذلك جاز وحلَّت له؛ لأنه لم يشترط ذلك في العقد، وهذا تصريح بأن النية لا تؤثر في العقد. وقالوا: لو تزوجها ومن نيته أن يقيم معها شهرًا ثم يطلقها صح العقد، ولم تكن نيّة التوقيت مؤثِّرة فيه، وكلامهم في باب المخارج من الأَيْمان بأنواع الحيل معروف، وعنَّا تلقوه، ومنا أخذوه (¬3). وقالوا: لو حلف أن لا يشتري [منه] ثوبًا فاتهبه (¬4) منه وشرط له العوض لا يحنث. وقالوا بجواز مسألة التورّق (¬5) وهي شقيقة مسألة العِينة؛ فأي فرق بين مصير السلعة إلى البائع وبين مصيرها إلى غيره؟ بل قد يكون عَوْدُها إلى البائع أرْفَقَ بالمشتري وأقل كلفة عليه وأرفع لخسارته وتعنيه (¬6). فكيف تحرِّمون الضرر اليسير وتبيحون ما هو أعظم منه والحقيقة في الموضوعين (¬7) واحدة وهي عشرة بخمسة عشر وبينهما حَرِيرة رجعت في إحدى الصورتين إلى مالكها وفي الثانية إلى غيره؟ وقالوا: لو حلف بالطلاق لا يزوج عبده بأَمَته أبدًا ثم أراد تزويجه بها ولا يحنث فإنه يبيع العبد والجارية من رجل ثم يزوجها المشتري ثم يستردّهما منه، قال القاضي: وهذا غيرُ مُمتنعٍ على أصلنا؛ لأن عقد النكاح قد وجد في حال ¬
زوال ملكه عنهما، ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد أن ملكهما؛ لأن التزويج عبارة عن العقد وقد انقضى وإنما بقي حكمه فلم يحنث باستدامة حكمه. وقالوا: لو كان له عليه مال وهو محتاج فأحب أن يَدَعَه له من زكاته فالحيلة أن يتصدَّق عليه بذلك القدر ثم يقبضه منه، ثم قالوا: فإن كان له شريكٌ فيه فخاف أن يخاصمه فيه فالحيلة أن يهب المطلوب للطالب مالًا بقدر حصة الطالب مما له عليه (¬1) ويقبضه منه للطالب ثم يتصدَّق الطالب على المطلوب بما وهبه له ويحتسب بذلك من زكاته ثم يهب المطلوب ما له عليه من الدَّين ولا يضمن الطالب لشريكه شيئًا؛ لأن هبةَ الدين لمن في ذمته براءة، وإذا أبرأ أحدُ الشريكين الغريم من نصيبه لم يضمن لشريكه شيئًا، وإنَّما يضمن إذا حصل الدَّين في ضمانه. وقالوا (¬2): لو أجَّره الأرض بأُجرة معلومة وشَرَط عليه أن يؤدّي خَرَاجها لم يجز؛ لأن الخراج على المالك لا على المستأجر، والحيلة في جوازه أن يؤجِّره إياها بمبلغ يكون زيادته بقدر الخراج ثم يأذن له أن يدفعَ في خراجها ذلك القدر الزائد على أجرتها. قالوا: لأنه متى زاد مقدار الخراج على الأجرة حصل ذلك دَيْنًا على المستأجر، وقد أمره أن يدفعه إلى مستحق الخراج وهو جائز. وقالوا (¬3): ونظير هذا أن يؤجره دابة ويشترط عَلَفها على المستأجر لم يجز، والحيلة في جوازه هكذا سواء، يزيد في الأجرة ويوكّله أن يعلف الدابة بذلك القدر الزائد. وقالوا: لا يصح استئجار الشجرة المثمرة (¬4)، والحيلة في ذلك أن يؤجِّره الأرض ويُسَاقيه على الثمرة من كل ألف جزء جزء مثلًا. وقالوا: لو وكله أن يشتري له جارية معيَّنة بثمن معين دفعه إليه، فلما رآها أراد شراءها لنفسه، وخاف أن يحلفه أنه إنما اشتراها بمال الموكِّل له، وهو وكيله، فالوجه أن يعزل نفسه عن الوكالة، ثم يشتريها بثمن في ذمته، ثم ينقد ما معه من الثمن، ويصير لموكله في ذمته نظيره. قالوا: وأما نحن فلا تأتي (¬5) هذه الحيلة على أصولنا؛ لأن الوكيل لا يملك عَزل نفسه إِلا بحضرة موكله. ¬
قالوا: وقد قالت (¬1) الحنابلة أيضًا: لو أراد إجارة أرض له فيها زرع [لم يجز، والحيلة] (¬2) في جوازه أن يبيعه الزرع ثم يؤجره الأرض، فإن أراد بعد ذلك أن يشتري منه الزرع جاز. وقالوا: لو شَرَط رب المال على المضارب ضمان مال المضاربة لم يصح، والحيلة في صحته أن يقرضه المال في ذمته ثم يقبضه المضارب منه، فإذا قبضه دفعه إلى مالكه الأول مضاربة ثم يدفعه رب المال إلى المضاربِ بضَاعةً فإن توى (¬3) فهو من ضمان المضارب؛ لأنه قد صار مضمونًا عليه بالقَرْض فتسليمه إلى رب المال مضاربة كتسليم مال له آخر. وحيلة أخرى، وهي أن يُقْرِضَ ربُّ المال المضاربَ ما يريد دفعه إليه، ثم يخرج من عنده درهمًا واحدًا، فيشاركه على أن يعملا بالمالين جميعًا على أن ما رزقه اللَّه فهو بينهما نصفين، فإن عمل أحدهما بالمال بإذن صاحبه فربح كان الرِّبح بينهما على ما شرطاه، وإن خسر كان الخسران على قدر المالين، على رب المال بقدر الدرهم وعلى المضارب بقدر رأس المال، وإنما جاز ذلك لأن المضارب هو الملزِمُ نفسَه الضمان بدخوله في القرض. وقالوا: لا تجوز المضاربة على العرض، فإن كان عنده عرض فأراد أن يضارب عليه فالحيلة في جوازه أن يبيعه العرض ويقبض ثمنه فيدفعه إليه مضاربة ثم يشتري المضارب ذلك المتاع بالمال. وقالوا (¬4): لو حلفته امرأته أن كل جارية يشتريها فهي حرة، فالحيلة في جواز الشراء ولا تُعتق أن يعني بالجارية السفينة ولا تعتق، وإن لم تحضره هذه النية وقت اليمين فالحيلة أن يشتريها صاحبه ويهبه إياها ثم يهبه نظير الثمن. وقالوا: لو حلَّفته أن كل امرأة يتزوجها عليها فهي طالق، وخاف من هذه اليمين عند من يصحح هذا التعليق فالحيلة أن ينوي كل امرأة أتزوجها على طلاقك: أي يكون طلاقُكِ صداقَهَا، أو كل امرأة أتزوجها على رقبتك: أن تكون ¬
رقبتُك صداقها فهي طالق، فلا يحنث بالتزويج على غير هذه الصفة. وقالوا: لو أراد أن يصرف دنانير بدراهم ولم يكن عند الصيرفي مبلغ الدراهم وأراد أن يصير عليه بالباقي لم يجز، والحيلة فيه أن يأخذ ما عنده من الدراهم بقدر صَرْفه ثم يقْرِضه إياها فيصرف بها الباقي، فإن لم يوف (¬1) فعل ذلك مرارًا حتى يستوفي صرفه، ويصير ما أقرضه دينًا عليه، لا أنه عوض الصرف. وقالوا: لو أراد أن يبيعه دراهم بدنانير إلى أجل لم يجز، والحيلة في ذلك أن يشتري منه متاعًا وينقده ثمنه ويقبض المتاع، ثم يشتري البائع منه ذلك المتاع بدنانير إلى أجل، والتأجيل جائز في ثمن المتاع. وقالوا: لو مات رب المال بعد أن قبض المضارب المال انتقل إلى ورثته، فلو اشترى المضارب به بعد ذلك متاعًا ضمن؛ لأنه تصرف بعد بطلان الشركة، والحيلة في تخلص المضارب من ذلك أن يشهد رب المال أن حِصَّته من المال الذي دفعه إليه مضاربة لولده، وأنه مقارض إلى هذا الشريك بجميع ما تركه، وأمره أن يشتري لولده ما أحب في حياته، وبعد وفاته، فيجوز ذلك؛ لأن المانع منه كونه متصرفًا في ملك الغير بغير وكالة ولا ولاية، فإذا أذن له في التصرف بريء من الضمان، وإن (¬2) كانت هذه الحيلة إنما تتم إذا كان الورثة أولادًا صغارًا. وقالوا: لو صالح عن المؤجل ببعضه حالًا لم يصح، والحيلة في تصحيحه أن يفسخا العقد الذي وقع على المؤجل ويجعلاه بذلك القدر الحال. وقالوا: لو لبس المتوضئ أحد الخفين قبل غسل [الرجل] (¬3) الأخرى ثم غسل الأخرى ولبس عليها لم يجز المسح؛ لأنه لم يلبس على كمال الطهارة، والحيلة في جواز المسح أن يخلع هذه الفردة الثانية ثم يلبسها (¬4). قالوا: ولو أوصى لرجل بخدمة عبدِه أو بما في بطن أمته جاز، فلو أراد الورثة شراء خدمة العبد أو ما في بطن الأمة من الموصى له لم يجز، والحيلة في جوازه أن يصالحوه عن (¬5) الموصى به على ما يبذلونه له فيجوز، وإن لم يجز البيع فإن الصلح يجوز فيه ما لا يجوز في البيع. ¬
قالوا: ولا (¬1) تجوز الشركة بالعروض، فإن كان لأحدهما عرض يساوي خمسة آلاف درهم وللآخر عرض يساوي ألفًا فأحَبَّا أن يشتركا في العرضين، فالحيلة أن يشتري صاحب العرض الذي قيمته خمسة آلاف [من الآخر خمسَةَ أسداس عرضه بسدس عرضه هو؛ فيصير للذي يساوي عرضه ألفًا سدس جميع المال، وللآخر خمسة أسداسه] (¬2)؛ لأن جميع ماليهما ستة آلاف، وقد حصل كل واحد من العرضين بهذه الشركة بينهما أسداسًا، خمسة أسداسه لأحدهما وسدسه للآخر، فإذا هلك أحدهما هلك على الشركة. قالوا: ولا تقبل شهادة الموكل لموكله فيما هو وكيل (¬3) فيه، فلو لم يكن [له] (¬4) شاهد غيره وخاف ضياع حقه فالحيلة أن يَعْزِلَه حتى يشهد له ثم يوكله بعد ذلك إن أراد. قالوا: ولو أعتق عبده في مرضه، وثلثه يحتمله، وخاف عليه من الورثة أن يجحدوا المال ويرثوا ثلثيه؛ فالحيلة أن يدفع إليه مالًا يشتري (¬5) نفسه منه بحضرة شهود، ويشهدون أنه قد أَقْبضه الماله، وصار العبد حرًا. قالوا: وكذلك الحيلة لو كان لأحد الورثة دَيْن على الموروث (¬6)، وليست له به بينة، فاراد بيعه (¬7) العبد بَدْينه الذي له عليه فعل مثل ذلك [سواء] (¬8). قالوا: ولو قال: "أوصيتُ إلى فلان، وإن (¬9) لم يقبل فإلى فلان" وخاف أن تبطل الوصية على مذهب مَنْ لا يرى جواز تعليق الوصية (¬10) بالشرط، [فالحيلة] (¬11) أن يقول: "فلانٌ وفلانٌ وصيّان، فإن لم يقبل أحدهما وقبل الآخر فالذي قبل هو الوصي" فيجوز على قول الجميع؛ لأنه لم يعلّق الولاية بالشرط. قالوا: ولو أراد ذمي أن يُسْلِم وعنده خمرٌ كثير، فخاف أن يذهب عليه ¬
[جواب الذين أبطلوا الحيل]
بالإسلام؛ فالحيلة أن يبادر ببيعها من ذمي آخر ثم يسلم، فإنه يملك تقاضيه بعد الإسلام، فإن بادر الآخر وأسلم لم يسقط عنه ذلك، وقد نصّ عليه الإمام أحمد (¬1) في مجوسي باع مجوسيًا خمرًا ثم أسلما يأخذ الثمن، قد وجب له يوم باعه. قال أرباب الحيل: فهذا رهن الفرق عندنا بأنهم قالوا بالحيل وأفتوا بها، فماذا ينكرون علينا بعد ذلك ويشنّعون (¬2)؟ ومثالنا ومثالهم في ذلك كقوم وَجَدُوا كنزًا فأصاب كل منهم طائفة منه في يديه، فمستقل ومستكثر، ثم أقبل بعضُ الآخذين ينقم (¬3) على بقيتهم، وما أخذه من الكنز في يديه (¬4)، فليَرْم بما أخذ منه ثم ليُنكر على الباقين. [جواب الذين أبطلوا الحيل] قال المبطلون للحيل: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إلهَ إِلَّا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حولَ ولا قوة إِلَّا باللَّه [العلي العظيم] (¬5)، فسبحان [اللَّه] (5) الذي فرَضَ الفرائض [وحرَّم المحارم] (5) وأوجب الحقوق رعاية لمصالح العباد في المعاش والمعاد، وجعل شريعته الكاملة قيامًا للناس وغذاءً لحفظ حياتهم، ودواءً لدفعِ أدوائهم، وظله الظليل الذي من استظلَّ به أَمِنَ من الحَرَور، وحِصْنه الحصين الذي من دخله نجا من الشُّرور، فتعالى شارعُ هذه الشريعة الفائقة لكل شريعة أن يشرع (¬6) فيها الحيل التي تُسْقِطُ فرائضه، وتحل محارمه، وتبطل حقوق عباده، ويفتح للناس أبواب الاحتيال وأنواع المكر والخداع، وأن يحيى التوصل بالأسباب المشروعة، إلى الأمور المحرمة الممنوعة، وأن يجعلها مُضْغة (¬7) لأفواه المحتالين، عرضه لأغراض المخادعين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويُظهرون خلاف ما يبطنون، ويرتكبون العَبَثَ الذي لا فائدة فيه سوى ضحكة الضاحكين ¬
[كمال الشريعة الإلهية وعظمتها وأثرها]
وسخرية الساخرين، فيخادعون اللَّه كما يخادعون الصبيان، ويتلاعبون بحدودِه كتلاعب المُجَّان، فيحرمون الشيء ثم يستحلّونه [إياه] (¬1) بعينه بأدنى الحيل، ويسلكون إليه نفسه طريقًا توهم أن المراد غيره [وقد علموا أنه هو المراد لا غيره] (¬2)، ويسقطون الحقوق التي وصَّى اللَّه بحفظها وأدائها بأدنى شيء، ويفرقون بين متماثلين [من كل] (¬3) وجه لاختلافهما في الصورة أو الاسم أو الطريق الموصل إليهما، ويستحلون بالحيل ما هو أعظم فسادًا مما يحرمونه ويسقطون بها ما هو أعظم وجوبًا مما يوجبونه. [كمال الشريعة الإلهية وعظمتها وأثرها] والحمد للَّه الذي نزَّه شريعته عن هذا التناقض والفساد، وجعلها كفيّة (¬4) وافية (¬5) بمصالح خلقه في المعاش والمَعَاد، وجعلها من أعظم آياته الدالة عليه، ونَصَبها طريقًا مرشدًا لمن سلكه إليه؛ فهو نورُه المبين، وحِصْنُه الحصين، وظله الظليل، وميزانه الذي لا يَعُولُ، لقد تعرَّف بها إلى ألِبَّاء عباده غاية التعرف (¬6)، وتحبب بها إليهم غاية التحبب، فأنِسُوا [بها] (¬7) منه حكمته البالغة، وتمت بها عليهم منه نعمُه السابغة، ولا إله إلّا اللَّه الذي في شرعه أعظم آية تدل على تفرده بالإلهية وتوحده بالربوبية، وأنه الموصوف بصفات الكمال، المستحق لنعوت الجلال، الذي له الأسماء الحسنى والصفات العُلَى وله المَثَلُ الأعلى، فلا يدخل السوء في أسمائه ولا النقص والعيب في صفاته، ولا العبث ولا الجور في أفعاله، بل هو منزَّه في ذاته وأوصافه وأفعاله وأسمائه عما يضاد كماله بوجه من الوجوه، وتبارك اسمه، وتعالى جَدُّه، وبهرت حكمته، وتمت نعمتُه، وقامت على عباده حجتُه، واللَّه أكبر كبيرًا أن يكون في شرعه تناقض واختلاف، فلو {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] بل هي شريعة مؤتلفة النظام، متعادلة الأقسام، مبّرأة من كل نقص، ومطهَّرة من كل دَنَس، {مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة: 71]، مؤسسة على العدل والحكمة، والمصلحة والرحمة، قواعِدُها ¬
ومبانيها، إذا حَرَّمت فسادًا حرمت ما هو أولى منه أو نظيره، وإذا رَعَت صلاحًا رَعَتْ ما هو فوقه أو شبهه؛ فهي (¬1) صراطه المستقيم الذي لا أمْتَ فيه ولا عِوَج، ومِلّته الحنيفية السَّمْحَة التي لا ضيق فيها ولا حرج، بل هي حنيفية التوحيد سمحة العمل، لم تأمر بشيء فيقول العقل: لو نهت عنه لكان أوفق، ولم تَنْهَ عن شيء فيقول الحِجَى: لو أباحته لكان أرفق، بل أمرت بكل صلاح، ونهت عن كل فساد، وأباحت كل طيب، وحرمت كل خبيث، فأوامرها غذاءٌ ودواء، ونواهيها حِمْيَة وصيانة، وظاهرُها زينةٌ لباطنها، وباطنُها أجملُ من ظاهرها، شعارُهَا الصدق، وقوامها الحق، وميزانها العدل، وحكمها الفَصْل، لا حاجة بها البتة إلى أن تكمل بسياسة ملك أو رَأي ذي رأي أو قياس فقيه أو ذوق ذي رياضة أو منام ذي دين وصلاح، بل بهؤلاء (¬2) كلهم أعظم الحاجة إليها، ومَنْ وفق منهم للصواب فلاعتماده وتعويله عليها، لقد أكملَهَا الذي أتم نعمته علينا بشرعها قبل سياسات الملوك، وحيل المتحيلين، وأقيسه القياسيين، وطرائق الخلافيين، وأين كانت هذه الحيل والأقْيسَة والقواعد المتناقضة والطرائق القِدَدُ وقتَ نزول قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وأين كانت يوم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لقد تركتكم على المَحَجَّةِ البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها [بعدي] إِلَّا هالك" (¬3) ويوم ¬
قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما تركت من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم عن (¬1) النار إِلا أعلمتكموه" (¬2)؟ وأين كانت عند قول أبي ذر: لقد توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وما طائر يقلِّبُ جناحيه في السَّماء إِلا ذكَرَ لَنَا منه علمًا (¬3)، وعند قول القائل لسَلْمَان: لقد ¬
علَّمكم نبيكم كلَّ شيء حتى الخِرَاءَة، فقال: أجل (¬1)؟ فأين علَّمهم الحيل والمخادعة والمكر وأرشدهم إليه ودلهم عليه؟ كلا واللَّه! بل حَذَّرهم (¬2) أشد التحذير، وأوعدهم عليه أشد الوعيد، وجعله منافيًا للإيمان، وأخبر عن لعنة اليهود لما ارتكبوه، وقال لأمَّته: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم اللَّه تعالى بأدنى الحيل" (¬3)، وأغلق أبواب المكر والاحتيال، وسَدّ الذرائع، وفصل الحلال من الحرام، وبَيَّنَ الحدودَ، وقسم شريعته إلى حلال بَيِّن وحرام بَيِّن وبَرْزَخ بينهما، فأباح الأول، وحرم الثاني، وحض الأمة على اتقاء الثالث خشية الوقوع في الحرام (¬4)، وقد أخبر اللَّه تعالى عن عقوبة المحتالين على حِلِّ ما حرَّمه عليهم وإسقاط ما فرضه (¬5) عليهم في غير موضع من كتابه. قال أبو بكر الآجري (¬6)، وقد ذكر بعض الحيل الربوية التي يفعلها [بعض] (¬7) الناس: لقد مسخ اليهود قِرَدَة بدون هذا. وصدق واللَّه لآكِلُ حوتٍ صِيدَ يوم السبت أهونُ عند اللَّه وأقل جرمًا من آكل الربا الذي حرمه اللَّه بالحيل والمخادعة! ولكن كما قال الحسن: عُجِّل لأولئك عقوبة تلك الأكْلَة الوخيمة وأرجِئَت عقوبة هؤلاء (¬8). وقال الإمام أبو يعقوب الجُوْزجَاني: وهل أصاب الطائفة من بني إسرائيل المسخُ إِلا باحتيالهم على أمر اللَّه بأن حفروا الحفائر (¬9) على الحيتان في يوم سبتهم فمنعوها الانتشار يومها إلى الأحد فأخذوها؟ وكذلك السلسلة التي كانت ¬
تأخذ بعنق الظالم فاحتال لها صاحب الدُّرَّة إذ صيَّرها [في قصبة] (¬1) ثم دفع القصبة إلى خصمه وتقدم إلى السلسلة ليأخذها فرُفِعت (¬2). وقال بعض الأئمة: في هذه القصة (¬3) مزجرة عظيمة للمتعاطين الحيل على المَنَاهي الشرعية ممن تَلَبَّسَ بعلم الفقه وليس بفقيه؛ إذ الفقيه مَنْ يخشى اللَّه عز وجل في الربويّات، واستعارة التيس الملعون لتحليل المطلَّقات، وغير ذلك من العظائم والمصايب الفاضحات، التي لو اعتمدها مخلوق مع مخلوق لكان في نهاية القبح، فكيف بمن يعلم السر وأخفى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (¬4)؟ وقال: وإذا وازَنَ اللبيبُ بين حيلة أصحاب السبت والحيل التي يتعاطاها أرباب الحيل في كثير من الأبواب ظَهَر له التفاوت ومراتب المفسدة التي بَيْنها وبين هذه الحيل، فإذا عرف قدر الشرع وعظمة الشارع وحكمته وما اشتمل عليه شرعه من رعاية مصالح العباد تبيّنَ له حقيقة الحال، وقطع بأن اللَّه تعالى يتنزه ويتعالى أن يسوغ (¬5) لعباده نقض شرعه وحكمته بأنواع الخداع والاحتيال (¬6). ¬
فصل [الجواب على شبه الذين جوزوا الحيل تفصيلا]
فصل [الجواب على شبه الذين جوزوا الحيل تفصيلًا] قالوا: ونحن نذكر ما تمسكتم به في تقرير الحيل والعمل بها، ونبيِّن ما فيه، مُتَحَرِّينَ للعدل والإنصاف، منزهين لشريعة اللَّه وكتابه وسنة رسوله عن المَكْر (¬1) والخِدَاع والاحتيال المحرَّم، ونبيِّن انقسام الحيل والطرقِ إلى ما هو كفر محض، وفسق ظاهر، ومكروه، وجائز، ومستحب، وواجب عقلًا أو شرعًا، ثم نذكر فصلًا نبيِّن فيه التعويض بالطرق الشرعية عن الحيل الباطلة، فنقول وباللَّه التوفيق و [هو] (¬2) المستعان وعليه التكلان: [الكلام على قصة أيوب] أما قوله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فقال شيخنا رحمه اللَّه (¬3): الجواب أن هذا ليس مما نحن فيه؛ فإن للفقهاء في موجب هذه اليمين في شرعنا قولين، يعني إذا حلف ليضربَنَّ عبده أو امرأته مئة ضربة: أحدهما: قول من يقول موجبها الضرب مجموعًا أو مُفَرَّقًا، ثم منهم من يشترط مع الجمع الوصول إلى المضروب؛ فعلى هذا تكون [هذه] (¬4) الفُتيا موجب هذا اللفظ عند الإطلاق، وليس هذا (¬5) بحيلة، إنما الحيلة أن يُصْرَفَ اللفظُ عن موجبَه عند الإطلاق. والقول الثاني: إن موجبه الضرب المفرَّق (¬6)، وإذا كان هذا موجبه في شرعنا لم يصح الاحتجاج علينا بما يخالف شرعنا من شرائع من قبلنا؛ لأنَّا إن قلنا: "ليس شرعًا لنا مطلقًا" فظاهر، وإن قلنا: "هو شرع لنا" فهو مشروطٌ بعدم مخالفته لشرعنا، وقد انتفى الشرط. وأيضًا؛ فمن تأمَّل الآية علم أن هذه الفُتْيَا خاصة الحكم؛ فإنها لو كانت ¬
[متى شرعت كفارة اليمين؟]
عامة الحكم في حق كل أحد لم يَخْفَ على نبيٍ كريم موجَبُ يمينِهِ، ولم يكن في اقتصاصها علينا كبير عبرة؛ فإنما يقص ما خرج عن نظائره [لنعتبر به ونستدل به على حكمة اللَّه فيما قَصَّه علينا] (1)، أما ما كان [هو] (¬1) مقتضى العادة والقياس فلا يقص، ويدل على الاختصاص قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَهُ صَابِرًا} [ص: 44] وهذه الجملة خرجت مخرج التعليل كما في نظائرها؛ فعلم أن اللَّه [سبحانه وتعالى] (1) إنما أفْتَاه بهذا جزاءً له على صبره، وتخفيفًا عن امرأته، ورحمةً بها، لا أن هذا [هو] (¬2) موجب هذا اليمين، [وأيضًا فإن اللَّه سبحانه وتعالى] (¬3) إنما أفْتَاه بهذه الفُتْيَا لئلا يحنث، كما أخبر تعالى (¬4). [متى شرعت كفارة اليمين؟] وهذا يدل على أن كفارة الأَيمْان لم تكن مشروعة بتلك الشريعة، بل ليس في اليمين إِلا البر [أو] (¬5) الحنث، كما هو ثابت في نذر التبرُّر في شريعتنا؛ وكما [كان في أول الإسلام] (¬6) قالت عائشة -رضي اللَّه عنها-: لم يكن أبو بكر يحنث في يمين، حتى أنزل اللَّه كفارة اليمين (¬7)، فدلَّ على أنها لم تكن مشروعة في أول الإسلام. وإذا كان كذلك صار كأنه قد نذر ضربها، وهو نذر لا يجب الوفاء به؛ لما فيه من الضَّرر عليها، ولا يغني عنه كفارة اليمين (¬8)؛ لأن تكفير النذر فرع عن (¬9) تكفير اليمين، فإذا لم يكن كفارة النذر إذ ذاك مشروعة فكفارة اليمين أولى، وقد علم أن الواجب بالنذر يحتذى به حَذْوَ الواجب بالشرع، وإذا كان الضرب الواجب بالشرع يجب تفريقه إذا كان المضروب صحيحًا ويجوز جَمْعه إذا كان المضروب مريضًا مأيوسًا منه عند الكل أو مريضًا على الإطلاق عند بعضهم، كما ثبتت بذلك السنة عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬10)، جاز أن يقام الواجب بالنذر مقام ذلك ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[عن النذر في الإسلام]
عند العذر، وقد كانت امرأة أيوب -عليه السلام- ضعيفة عن احتمال مئة ضربة (¬1) التي حلف أن يضربها إياها، وكانت كريمةً على ربها، فخفف عنها برحمته الواجب باليمين بأنْ أفْتَاه بجمع الضربات بالضِّغْثِ كما خفف عن المريض. [عن النذر في الإسلام] ألا ترى أن (¬2) السنة قد جاءت فيمن نذر الصدقة بجميع ماله أنه يجزيه الثلث (¬3). ¬
فأقام الثلث في النذر مقام الجميع رحمة بالناذر وتخفيفًا عنه (¬1)، كما أُقيم مقامه في الوصية رحمة بالوارث ونظرًا له، وجاءت السنة فيمن نذرت الحج ماشيةً أن تركب وتُهْدِيَ (¬2)، إقامةً لترك بعض الواجب بالنَّذر مقام ترك [بعض] (¬3) الواجب ¬
بالشرع في المناسك عند العجز عنه كطواف الوداع عن الحائض. وأفتى ابن عباس وغيره [في] (¬1) مَنْ نذر ذَبْح ابنه بشاة (¬2)، إقامةً لذبح الشاة مقام ذبح الابن كما شُرع ذلك للخليل [صلوات اللَّه وسلامه عليه] (1)، وأفْتَى أيضًا مَنْ نَذَر أن يطوف على أربع بأن يطوف أسبوعَيْن (¬3)، إقامة لأحد الأسبوعين مقام طواف اليدين، [وأفْتَى أيضًا هو وغيره من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- المريضَ الميئوسَ منه والشيخَ الكبيرَ الذي لا يستطيع الصوم بأن يفطرًا ويطعما كل يوم مسكينًا (¬4)، إقامة للإطعام مقام الصيام. وأفْتَى أيضًا هو وغيره من الصحابة الحاملَ والمرضعَ إذا خافتا على ولديهما أن تُفطرا وتُطعما كل يوم مسكينًا (¬5)، إقامة للإطعام مقام ¬
فصل [الكلام عن حيلة يوسف]
الصيام (¬1)، وهذا كثير جدًا] (¬2)، وغير مستنكر في واجبات الشريعة أن يخفف اللَّه تعالى الشيء منها عند المشقة بفعل ما يشبهه من بعض الوجوه كما في الإبدال وغيرها، لكن مثل قصة أيوب لا يحتاج إليها في شرعنا؛ لأن الرجل لو حَلَفَ ليضربَنَّ أمته (¬3) أو امرأته مئة ضربة أمكنه أن يكفِّر عن يمينه من غير احتياج إلى حيلة وتخفيف (¬4) الضرب بجَمْعه، ولو نذر ذلك فهو نذر معصية فلا شيء عليه عند طائفة، وعند طائفة عليه كفارة يمين (¬5)، وأيضًا فإن المُطْلَق من كلام الآدميين محمولٌ على ما فسر به المطلق من كلام الشارع خصوصًا في الأيمان؛ فإن الرجوع فيها إلى عُرف الخطاب شرعًا أو عادة أولى من الرجوع [فيها] (¬6) إلى موجب اللفظ في أصل اللُّغة، واللَّه سبحانه وتعالى قد قال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ]} (¬7) [النور: 4] وفهم الصحابة والتابعون ومَنْ بعدهم من ذلك أنه ضربات متعددة متفرقة لا مجموعة، إِلا أن يكون المضروب معذورًا عذرًا لا يُرْجى زواله؛ فإنه يُضرب؛ ضربًا مجموعًا، وإن كان يُرْجى زواله فهل يُؤخَّر إلى الزَّوال، أو يقام عليه مجموعًا؟ فيه خلاف بين الفقهاء، فكيف يقال: إن الحالف ليضربن موجَبُ يمينه هو الضربُ المجموع مع صحة المضروب وقوته؟ فهذه الآية هي أقوى ما يعتمد عليه أرباب الحيل، وعليها بنوا حيلهم، وقد ظهر بحمد اللَّه تعالى أنه لا متمسك لهم فيها البتَّة. فصل [الكلام عن حيلة يوسف] وأما إخباره سبحانه وتعالى عن يوسف -عليه السلام- أنه جعل صُوَاعه في رَحْل أخيه ¬
[جعل بضاعتهم في رحالهم]
ليتوصل بذلك إلى أخذه وَكَيْد إخوته، فنقول لأرباب الحيل: أولًا: هل تجوِّزون أنتم مثل هذا حتى يكون حجةً لكم؟ وإلا فكيف تحتجون بما لا تجوِّزون فعله؟! فإن قلتم: فقد كان جائزًا في شريعته، قلنا: وما ينفعكم إذا لم يكن جائزًا في شرعنا؟ قال شيخنا (¬1) -رضي اللَّه عنه-: و [من هذا الباب] (2) مما قد يُظنُّ أنه من جنس الحيل التي بيَّنا تحريمها وليس من جنسها قصةُ يوسف [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) حين كاد اللَّه له في أخذ أخيه كما قَصَّ ذلك سبحانَه (¬3) في كتابه، فإن فيه ضروبًا من الحيل الحسنة: [جعل بضاعتهم في رحالهم] أحدها: قوله لفتيانه (¬4): {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [يوسف: 62] فإنه تسبَّبَ بذلك إلى رجوعهم، وقد ذكروا في ذلك معاني: منها: أنه تخوَّف أن لا يكون عندهم وَرِق يرجعون بها. ومنها: أنه خشي أن يضرَّ أخذ الثمن بهم. ومنها: أنه رأى لومًا [إذا] (¬5) أخذ الثمن منهم. ومنها: أنه أراهم كرمه في رد البضاعة ليكون أدعى لهم إلى العَوْد، [وقد قيل] (¬6)؛ إنه علم أن أمانتهم تُحْوجهم إلى العَوْد ليردوها إليه (¬7)؛ فهذا المحتالُ به عملٌ صالح، والمقصود رجوعهم ومجيء أخيه، وذلك أمر فيه منفعة لهم ولأبيهم [وله] (¬8)، وهو مقصود صالح، وإنما لم يعرِّفهم نفسه لأسباب أُخر فيها أيضًا منفعة له ولهم (¬9) ولأبيهم وتمام لما أراده اللَّه بهم من الخير في البلاء. [جعله السقاية في رحل أخيه] الضرب الثاني: أنه في المرة الثانية لما {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي ¬
رَحْلِ أَخِيهِ} [يوسف: 70]، وهذا القدر تضمن إيهام أن أخاه سارق، وقد ذكروا أن هذا كان بمواطأة من أخيه ورضًا منه بذلك، والحق له فيم ذلك (¬1)، وقد دل على ذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ [قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]} (¬2) [يوسف: 69] [وفيه قولان: أحدهما: أنه عرَّفه أنه يوسُفُ ووطَّنه عَلَى عدم الابتئاس بالحيلة التي فعلها في أخذه منهم. والثاني: أنه] (¬3) لم يصرِّح له بأنه يوسف، وإنما أراد إني (¬4) مكان أخيك المفقود [فلا تبتئس بما يعاملك به إخوتك من الجفاء] (¬5). ومَنْ قال هذا قال: إنه وضع السقاية في رَحْل أخيه والأخ لا يشعر، ولكن هذا (¬6) خلاف المفهوم من القرآن وخلاف ما عليه الأكثرون، وفيه ترويعٌ لمن لم يستوجب الترويع (¬7). وأما على القول الأول [فقد قال] (¬8) كعب [وغيره] (¬9): لما قال له: إني أنا أخوك، قال [بنيامين] (¬10): فأنا لا أفارقك، قال يوسف [عليه السلام] (¬11): فقد علمتَ اغتمام -والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمُّه (¬12)، ولا يمكنني هذا إِلا بعد أن أُشْهِرك بأمر فظيع وأنسبك إلى ما لا يُحْتمل، قال: لا أبالي، فافعل ما بدا لك فإني لا أفارقك، قال: فإني أدسُّ صُوَاعي (¬13) هذا في ¬
[موقف عدي بن حاتم حين هم قومه بالردة]
رَحْلك، ثم أنادي عليك بالسّرقة ليتهيأ لي ردك [بعد تسريحك] (¬1)، قال: فافعل (¬2)؛ [وعلى هذا فهذا التصرف إنما كان بإذن الأخ ورضاه] (¬3). [موقف عدي بن حاتم حين هَمَّ قومُه بالرّدة] ومثل هذا النوع ما ذكر أهل السير عن عديّ بن حاتم [-رضي اللَّه عنه-] (¬4) أنه لما همَّ قومُه بالردة بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كَفَّهم عن ذلك، وأمرهم بالتربص (¬5)، وكان يأمر ابنه إذا رعى إبل الصدقة أن يبعد، فإذا جاء خاصَمَه بين يدي قومه وَهمَّ بضربه، فيقومون فيشفعون إليه فيه؛ ويأمره كل ليلة أن يزداد بعدًا، فلما [تكرر ذلك؛ أمره ذات ليلة] (¬6) أن يبعد بها [جدًا] (¬7)، وجعل ينتظره بعد ما دخل (¬8) الليل وهو يَلُوم قومه على شفاعتهم [فيه] (¬9) ومَنْعِهم إياه من ضربه (¬10)، وهم يعتذرون [إليه] (¬11) عن ابنه، ولا ينكرون إبطاءه، حتى إذا أبهار الليل (¬12) ركب في طلبه [فلحقه] (¬13)، واستاق الإبل حتى قدم بها عَلَى أبي بكر -رضي اللَّه عنه-؛ فكانت صدقات طيء مما استعان بها أبو بكر في قتال أهل الردة (¬14). وكذلك في الحديث [الصحيح] (11) أن عديًا قال لعمر -رضي اللَّه عنه-: [في بعض الأمراء] (¬15) أما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: بلى، ¬
[عود إلى قصة يوسف]
أعرفك، أسلمت إذ كفروا، ووفيت إذا غدروا، وأقبلت إذ أدبروا (¬1)، وعرفت إذ أنكروا (¬2). ومثل هذا ما أذن [فيه] (¬3) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للوفدِ الذين أرادوا قتل كعب بن الأشْرَف أن يقولوا (¬4)، وأذن للحجَّاج بن عِلاط عام خيبر أن يقول (¬5)، و [في] (¬6) هذا كله [من الاحتيال المُبَاح؛ لكون صاحب الحق قد أذن فيه ورضي به] (¬7)، والأمر المحتال عليه طاعة للَّه وأمر مباح. [عود إلى قصة يوسف] الضرب الثالث: أنه أذَّنَ مؤذنٌ {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ¬
مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) [قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)} إلى قوله: {قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ] (¬1) أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 70 - 76]، وقد ذَكَروا في تسميتهم سارقين وجهين (¬2): أحدهما: أنه من باب المعاريض وأن يوسف نَوَى بذلك أنهم سرقوه من أبيه (¬3) حيث غَيَّبوه [عنه] (¬4) [في الجبِّ] (¬5) بالحيلة التي احتالوها (¬6) عليه، وخانوه فيه، والخائن يسمى سارقًا، وهو من الكلام [المرموز، ولهذا يُسمَّى خونة الدواوين] (¬7) لصوصًا. افثاني: أن المنادي هو الذي قال ذلك من غير أمر يوسف، قال القاضي أبو يعلى وغيره: أمر يوسفُ بعضَ أصحابه أن يجعل الصواع (¬8) في رَحْل أخيه، ثم قال بعضُ الموكَّلين [بالصيعان] (¬9) وقد فقدوه ولم يدر (¬10) [من] (¬11) أخذه [منهم] (9): {أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] على ظنٍّ منهم أنهم كذلك، [من غير أمر يوسف لهم] (¬12) بذلك، [فلم يكن قول هذا القائل كذبًا إذ كان في حقه وغالب ظنه ما هو عنده، و] (¬13) لعل يوسف قد قال للمنادي: هؤلاء [قد] (9) سرقوا، وعَنَى [أنهم سرقوه] (¬14) من أبيه، [والمنادي فهم سَرِقَةَ الصُّوَاع (¬15)، فصَدَق يوسف في قوله، وصَدَق المنادي، وتأمل حذف المفعول ¬
في قوله: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ليصح أن يضمن سرقتهم ليوسف فيتم التعريض، ويكون الكلام صِدْقًا، وذكر المفعول في قوله: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} [يوسف: 72] وهو صادقٌ في ذلك (¬1)، فصَدَقَ في الجملتين معًا تعريضًا وتصريحًا، وتأَمَّل قول يوسف: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [يوسف: 79] ولم يقل: إِلا مَنْ سرق، وهو أخصر لفظًا، تحريًا للصدق، فإن الأخ لم يكن سارقًا بوجه، وكان المتاع عنده (¬2) حقًا؛ فالكلام من أحسن المعاريض وأصدقها] (¬3). ومثل هذا قول المَلَكين (¬4) لداود -عليه السلام-: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} إلى قوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 22 - 23] أي: غَلَبني في الخطاب، ولكن تخريج هذا الكلام على المعاريض لا يكاد يتأتَّى، وإنما وجهه أنه كلام خرج على ضرب المثال: أي إذا كان كذلك فكيف الحكمُ بيننا. ونظير هذا (¬5) قول المَلَك للثلاثة الذين أراد اللَّه أن يبتليهم: "مسكينٌ وغريبٌ وعابرُ سبيل، وقد تقطَّعت بي الحبال، ولا بلاغ لي اليوم إِلا باللَّه ثم بك، فأسألك بالذي أعطاك هذا المال بعيرًا أتبلَّغ به في سَفرِي هذا" (¬6) وهذا ليس بتعريض، وإنما هو تصريح على وجه ضرب المثال وإيهام أني أنا صاحب [هذه] (¬7) القضية كما أوهم الملكان داود أنهما صاحبا القصة ليتم الامتحان. ¬
فصل [استنباط من قصة يوسف وتعقيب عليه]
ولهذا قال نَصرُ بن حاجب (¬1): سُئل ابنُ عُيَيْنة عن الرجل يعتذر إلى أخيه من الشيء الذي قد فعله، ويحرِّف القول فيه ليرضيه، لم يأثم (¬2) في ذلك؛ فقال: ألم تسمع قوله: "ليس بكاذب مَنْ أصلح بين الناس فكذب فيه" (¬3)؛ فإذا أصلح بينه وبين أخيه المسلم خير من أن يصلح بين الناس بعضهم في (¬4) بعض، وذلك إذا (¬5) أراد به مرضاة اللَّه، وكره أذى المؤمن (¬6)، ويندم على ما كان منه، ويدفع شره عن نفسه، ولا يريد بالكذب اتخاذ المنزلة عندهم ولا طمعًا (¬7) في شيء يصيب منهم؛ فإنه لم يرخص في ذلك ورخص (¬8) له إذا كره مَوْجِدَتهم وخاف عداوتهم. قال حذيفة: إني أشتري ديني بعضَه ببعض مخافة أن أُقدم (¬9) على ما هو أعظم منه (¬10). [وكره -أيضًا- أن يتغير قلبه عليه] (¬11)، قال سفيان: وقال الملكان: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] أرادا معنى شيء ولم يكونا خَصْمين فلم يصيرا بذلك كَاذِبَيْن، وقال إبراهيم: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وقال يوسف: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] [أراد معنى أمرهم] (¬12)، فبيَّن سفيان أن هذا [كله] (¬13) من المعاريض المباحة [مع تسميته كذبًا، وإن لم يكن في الحقيقة كذبًا كما تقدم التنبيه على ذلك] (13). فصل [استنباط من قصة يوسف وتعقيب عليه] وقد احتجَّ بعضُ الفقهاء بقصة يوسف على أنه جائز للإنسان التوصُّلُ إلى ¬
أخذ حقه من الغير بما يمكنه الوصول إليه بغير رضا مَنْ عليه الحق. قال شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬1): وهذه الحجة ضعيفة؛ فإن يوسف لم يكن يملك حبس أخيه عنده بغير رضاه، ولم يكن هذا الأخ ممن ظَلَم يوسف حتى يقال: [إنه] (¬2) قد اقتصَّ منه، وإنما سائر الإخوة هم الذين كانوا قد فعلوا ذلك، نعم تخلّفه عنده كان (¬3) يؤذيهم من أجل تأذّي أبيهم والميثاقِ الذي أخذه عليهم، وقد استثنى (¬4) في الميثاق [بقوله] (¬5): {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66]، وقد أُحيط بهم، ويوسف -عليه السلام- لم يكن قصده (¬6) باحتباس أخيه الانتقام من إخوته؛ فإنه كان أكْرَمَ من هذا، وكان في ذلك (¬7) من الإيذاء لأبيه (¬8) أعظم مما فيه من إيذاء إخوته، وإنما هو أمرٌ أمره اللَّه به ليبلغَ الكتابُ أجَلَه ويتم البلاء الذي استحق به يعقوب ويوسف [عليه السلام] (¬9) كمالَ الجزاء، وتبلغ حكمة اللَّه التي قضاها لهم نهايتها. ولو كان يوسف قصد القصاص (¬10) منهم بذلك فليس هذا موضع الخلاف بين العلماء؛ فإن الرجل له أن يعاقب بمثل ما عوقب به (¬11)، وإنما مَوْضِع الخِلاف: هل يجوز له أن يسرق أو يخون مَنْ سرقه أو خانه (¬12) مثل ما سرق منه (¬13) أو خانه إياه (¬14)؟ ¬
[كيد الله]
وقصة يوسف لم تكن (¬1) من هذا الضرب، نعم لو كان يوسف أخذ أخاه بغير أمره لكان لهذا المحتج شبهة، مع أنه لا دلالة في ذلك على هذا التقدير أيضًا؛ فإن مثل هذا لا يجوز في شرعنا بالاتفاق، [وهو] (¬2) أن يُحبس رجل بريء ويُعتقل للانتقام من غيره من غير أن يكون له جُرْم، [ولو قدر أن ذلك وقع من يوسف فلا بد أن يكون بوحي من اللَّه ابتلاءً منه] (¬3) لذلك المعتقل، كأمر إبراهيم -عليه السلام- (¬4) بذَبْح ابنه، فيكون المبيح له على هذا التقدير وحيًا خاصًا كالوحي الذي جاء إبراهيم بذبح ابنه، وتكون حكمته في حق المبتلى امتحانه وابتلاءه لينال درجة الصبر على حكم اللَّه والرضا بقضائه، فيكون (¬5) حاله في هذا كحال أبيه يعقوب في احتباس يوسف عنه. [كيد اللَّه] وهذا معلوم من فقه القصة وسياقها (¬6) ومن حال يوسف، ولهذا قال تعالى (¬7): {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ] (8)} [يوسف: 76] فنسب اللَّه تعالى هذا الكيد إلى نفسه كما نَسَبَه إلى نفسه في قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15 - 16] و [في] (¬8) قوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا} [النمل: 50] وفي قوله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (¬9) [الأنفال: 30]. وقد قيل: إن تسمية ذلك مكرًا وكيدًا واستهزاءً وخِداعًا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] ونحو قوله: {فَمَنِ ¬
[ما كيد به ليوسف]
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقيل وهو أصوب: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإن المكر إيصالُ الشر (¬1) إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة، ولكنه نوعان: * قبيحٌ، وهو إيصال ذلك لمن لا يستحقه. * وحَسَن، وهو إيصاله إلى مستحقه عقوبة له؛ فالأول مذموم والثاني ممدوح، والرب تعالى إنما يفعل من ذلك ما يُحمد عليه عدلًا منه وحكمة، وهو تعالى يأخذ الظالم والفاجر من حيث لا يحتسب [لا] (¬2) كما يفعل الظلمة بعباده، وأما السيئة فهي فعيلة مما يسوء، ولا ريب أن العقوبة تسوء صاحبها؛ فهي سيئة له حسنة من الحَكَمِ العَدْل. [ما كيد به ليوسف] وإذا عرفت ذلك] (¬3) فيوسف الصديق كان قد كِيد غير مرة: أولها أن إخوته كادوا به كيدًا حيث احتالوا [به] (¬4) في التفريق بينه وبين أبيه [كما دل عليه قوله: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا}] (¬5)، ثم إن امرأة العزيز كادَتْهُ بما (¬6) أظهرت أنه راوَدَهَا عن نفسه (¬7) [(¬8) ثم أودع السجن، ثم إن النسوة كادوه حتى استجار (¬9) باللَّه من كيدهن فصرفه عنه، وقال (¬10) له يعقوب: {لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5] وقال الشاهد لأمرأة العزيز: {إِنَّهُ ¬
فصل [مكر الله تعالى على ضربين]
مِنْ كَيْدِكُنَّ [إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ] (1)} [يوسف: 28]، وقال تعالى في حق النسوة: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [يوسف: 34] وقال للرسول: {[وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ] (¬1) ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] فكادَ اللَّه سبحانه له أحسنَ كيدٍ وألطفه وأعدله، بأن جمع بينه وبين أخيه، وأخرجه من أيدي إخوته بغير اختيارهم كما أخرجوا يوسف من يد أبيه بغير اختياره، وكاد له عوض كيد المرأة بأن أخرجه من ضِيق السِّجن إلى فضاء المُلْك، ومكَّنه في الأرض يتبوَّأ منها حيث يشاء، وكاد له في تصديق النسوة اللاتي كذَّبنه وراودنه حتى شهدن ببراءته وعفَّته، وكاد له في تكذيب امرأة العزيز لنفسها واعترافها بأنها هي التي راودته وأنه من الصادقين؛ فهذه عاقبة مَنْ صبر على كيد الكائد له بَغْيًا وعُدْوانًا]. فصل [مكر اللَّه تعالى على ضربين] وكيد اللَّه تعالى (¬2) لا يخرج عن نوعين: أحدهما -وهو الأغلب-: أن يفعل تعالى (¬3) فعلًا خارجًا عن قدرة العبد الذي كاد له، فيكون الكيد قَدَرًا مَحْضًا (¬4) ليس هو من باب الشرع (¬5)، كما كاد [الذين كفروا بأن انتقم] (¬6) منهم بأنواع العقوبات، وكذلك كانت قصة يوسف؛ فإن [يوسف] (¬7) أكثر ما قَدِر (¬8) أن يفعل: أن ألقى الصُّواعَ في رَحْل أخيه، وأن أذَّنَ مؤذن (¬9) بسرقتهم، فلما أنكروا قال: {فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} [يوسف: 74] أي جزاء السارق أو جزاء السُّرَّقِ {قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ¬
[إعراب جملة في قصة يوسف]
[يوسف: 75] أي جزاؤه نفس السارق، يستعبده المسروق منه إمّا مطلقًا [وإما] (¬1) إلى مدة، وهذه كانت شريعة آل يعقوب. [إعراب جملة في قصة يوسف] ثم في إعراب هذا الكلام وجهان (¬2): أحدهما: أن قوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} [يوسف: 75] جملة مستقلة قائمة من مبتدأ وخبر، وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جملة ثانية كذلك مؤكدة للأولى مُقَررة لها (¬3)، والفرق بين الجملتين أن الأولى إخبارٌ عن استحقاق المسروق لرقبة السارق، والثانية إخبار أن هذا جزاؤه في شرعنا وحكمنا؛ فالأولى إخبار عن المحكوم عليه، والثانية إخبار عن الحكم، وإن كانا متلازِمَيْن، وإن أفادت الثانية معنى الحصر فإنه لا جزاءَ له غيره. والقول (¬4) الثاني: أن {جَزَاؤُهُ} الأول مبتدأ وخبرُه الجملة الشرطية، والمعنى: جزاءُ السارق (¬5) أن مَنْ وُجِد المسروق في رَحْله كان هو الجزاء، كما تقول: جزاء السرقة مَنْ سرق قطعَت يدهُ، وجزاء الأعمال مَنْ عمل حسنة فبعشر أو سيئة فبواحدة، ونظائره. قال شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬6): وإنما احتمل الوجهين لأن الجَزَاء قد يراد به نفس ¬
الحكم باستحقاق العقوبة، وقد يراد به نفس فعل العقوبة، وقد يراد به نفس الألم الواصل إلى المُعاقَب؛ [والمقصود أن إلهام اللَّه سبحانه [لهم هذا الكلام] (¬1) كيدٌ كاده ليوسف خارج] (¬2) عن قدرته؛ إذ قد كان يمكنهم أن يقولوا: لا (¬3) جزاءَ عليه حتى يثبت أنه هو الذي سَرَقَ؛ فإن مجرد وجوده في رَحْله لا يوجب ثبوت السرقة (¬4)، وقد كان يوسف عادلًا لا [يمكنه أن] (¬5) يأخذهم بغير حجَّة، [وقد كان يمكنهم أن] (¬6) يقولوا: [جزاؤُه أن] يُفعل (¬7) به ما يُفعل بالسَّراق في دينكم، وقد كان في (¬8) دين ملك مصر -كما قاله أهل التفسير- أن يُضرب السارق (¬9) ويُغرَّم قيمة المسروق مرتين، ولو قالوا ذلك لم يمكنه أن يلزمهم ما لا يلزمه غيرهم (¬10)، ولهذا قال تعالى (¬11): {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [يوسف: 76]، أي: ما كان يمكنه أخذه في دين ملك بمصر؛ إذ لم يكن في دينه طريقٌ له إلى أخذه (¬12)، [وعلى هذا فقوله:] (¬13) {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع، [أي] (¬14) لكن إن شاء اللَّه أَخَذَه بطريق آخر، أو يكون متصلًا على بابه؛ أي إِلا أن يشاء اللَّه ذلك فيهيئ له سببًا (¬15) يُؤخذ به في دين الملك من ¬
[ما تدل عليه قصة يوسف]
الأسباب التي كان الرجل [في دين الملك] (¬1) يُعتقل بها، فإذا كان المراد بالكَيْد (¬2) فعلًا من اللَّه -بأن ييسر لعبده المؤمن المظلوم المتوكل عليه أمورًا يحصل بها مقصودُه من الانتقام (¬3) من الظالم- و [وغير ذلك؛ فإذا هذا خارج] (¬4) عن الحيل الفقهية؛ فإن كلامنا في الحيل التي (¬5) يفعلها العبد، لا فيما يفعله اللَّه تعالى (¬6)، بل في قصة يوسف تنبيهٌ على [بطلان الحيل و] (¬7) أن مَنْ كاد كيدًا محرَّمًا؛ فإن اللَّه يكيده [ويعامله بنقيض قصده وبمثل عمله] (7)، وهذه (¬8) سنة اللَّه في أرباب الحيل (¬9) المحرمة أنه لا يبارك لهم فيما نالوه بهذه الحيل (¬10)، [كما هو الواقع] (¬11) ويهيء لهم كيدًا على يد من يشاء من خلقه يُجْزَوْنَ به من جنس كيدهم وحيلهم] (7). [ما تدل عليه قصة يوسف] وفيها تنبيه على أن المؤمن المتوكل على اللَّه إذا كاده الخلقُ فإن اللَّه يكيد له وينتصر له بغير حول منه ولا قوة. (¬12) وفيها دليلٌ على أن وجود المسروق بيد السارق كافٍ في إقامة الحد عليه، بل هو بمنزلة إقراره، وهو أقوى من البينة (¬13)، وغاية البينة أن يستفاد منها ظن، وأما وجود المسروق بيد السارق فيستفاد منه اليقين وبهذا جاءت السنة في وجوب الحد بالحَبَلِ (¬14) والرائحة في الخمر (¬15) كما اتفق عليه الصحابة، والاحتجاج بقصة ¬
فصل [النوع الثاني من كيد الله تعالى لعبده]
يوسف على هذا أحسن وأوضح (¬1) من الاحتجاج بها على الحيل (¬2). وفيها تنبيه على أن العِلَم الخفيّ [الذي] (¬3) يُتوصَّل به إلى المقاصد الحسنة مما يرفع اللَّه به درجات العبد؛ لقوله بعد ذلك: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] قال زيد بن أسلم وغيره: بالعلم (¬4). وقد أخبر تعالى عن رفعه درجات أهل العلم في ثلاثة مواضع من كتابه: أحدها: قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83] فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء بعلم الحجة. وقال في قصة يوسف: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] [فأخبر أنه يرفع درجات من يشاء] (¬5) بالعلم الخفي الذي يتوصل به صاحبه إلى المقاصد المحمودة. وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] فأخبر أنه يرفع درجات أهل العلم والإيمان (¬6). فصل (¬7) [النوع الثاني من كيد اللَّه تعالى لعبده] النوع الثاني من كيده لعبده [المؤمن] (¬8): هو أن يُلْهمه سبحانه (¬9) أمرًا مباحًا ¬
فصل [الجواب عن حديث أبي هريرة في تمر خيبر من صور النزاع]
أو مستحبًا أو واجبًا يوَصِّله به إلى المقصود الحسن؛ فيكون على هذا إلهامه ليوسف أن يفعل ما فعل هو من كيده تعالى (¬1) أيضًا، وقد دل على ذلك قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف: 76] فإن فيه (¬2) تنبيهًا على أن العلم الدقيق الموصل إلى المقصود الشرعي صفة مدح، كما أن العلم الذي يخصم به المبطَل صفةُ مدحٍ [حيث قال في قصة إبراهيم: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83].] (¬3)؛ وعلى هذا فيكون من الكيد ما هو مشروع، لكن لا يجوز أن يُراد به الكيد الذي تُستحلُّ به المحرمات أو تسقط به الواجبات؛ فإن هذا كيدٌ للَّه، واللَّه هو الذي يكيدُ الكائدَ، ومحال (¬4) أن يشرع اللَّه تعالى أن يُكاد دينُه، وأيضًا فإن هذا الكيد لا يتم إِلا بفعل يُقصد به غير مقصوده الشرعي، ومحال أن يشرع اللَّه لعبده أن يقصدَ بفعله ما لم يشرع اللَّه ذلك الفِعَل له (¬5). فهذا هو الجواب عن احتجاج المتحيلين بقصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وقد تبين أنها من أعظم الحجج عليهم، وباللَّه التوفيق (¬6). فصل [الجواب عن حديث أبي هريرة في تمر خيبر من صور النزاع] وأما حديث أبي هريرة وأبي سعيد "بع الجَمْع (¬7) بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" (¬8) فما أصحه من حديث، ونحن نتلقاه بالقبول والتسليم، والكلام معكم فيه من (¬9) مقامين: ¬
[بحث في دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام]
أحدهما: إبطال استدلالكم به على جواز الحيل (¬1). وثانيهما (¬2): بيان دلالته على نقيض مطلوبكم؛ إذ هذا شأن كل دليل صحيح احتج به محتج على باطل؛ فإنه لا بد أن يكون فيه ما يدل على بطلان قوله ظاهرًا أو إيماءً، مع عدم دلالته على قوله. [بحث في دلالة المطلق والفرق بينه وبين العام] فأمَّا المقام الأول فنقول: غاية ما دل الحديث [عليه] (¬3) أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمره أن يبيع سلعته الأولى بثمنٍ ثم يبتاع بثمنها تمرًا آخر، ومعلوم قطعًا أن ذلك إنما يقتضي البيع الصحيح؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يأذن في العقد الباطل؛ فلا بد أن يكون العقد الذي أذن فيه صحيحًا، والشأن كل الشأن في العقد المتنازع فيه؛ فلو سلم لكم المنارعُ صحته لاستغنيتم عن الاستدلال بالحديث، ولا يمكن الاستدلال [بالحديث] (¬4) على صحته؛ لأنه ليس بعام؛ فإن قوله: "بع" مطلق لا عام؛ فهذا البيع لو كان صحيحًا متفقًا على صحته لم يكن هناك لفظ عام يحتج به على تناوله، فكيف وهذا البيع مما قد دلت السنة الصحيحة وأقوالُ الصحابة والقياسُ الصحيح على بطلانه كما تقدم؟ ولو اختلف رجلان في بيعٍ هل هو صحيح أو فاسد، وأراد كل واحد منهما إدخاله في هذا اللفظ؛ لم يمكنه ذلك حتى يثبت أنه بيع صحيح ومتى أثبت أنه بيع صحيح لم يحتج إلى الاستدلال بهذا المطلق؛ فتبين أنه لا حجة فيه على صورة من صور النزاع ألبتة. ونكتة الجواب أن يقال: الأمر المطلق بالبيع إنما يقتضي البيع الصحيح، ومَنْ سلَّم لكم أن هذه الصورة التي تَوَاطأ فيها البائع والمشتري على الربا وجعلا (¬5) السلعة الدخيلة محللًا له غير مقصودة بالبيع بيعٌ صحيح؟ واذا كان الحديث ليس فيه عموم، وإنما هو مطلق، والأمر بالحقيقة المطلقة لشى أمرًا بشيء من صُورَها؛ لأن الحقيقة مشتركة بين الأفراد، والقَدْر المشترك ليس هو ما (¬6) يميز به كل واحد من الأفراد عن (¬7) الآخر، ولا هو مستلزمًا له؛ فلا يكون الأمر بالمشترك أمرًا بالمميز بحال، وإن كان مستلزمًا لبعض تلك القيود لا بعينه، فيكون ¬
عامًا لها على سبيل البَدَل، لكن ذلك لا يقتضي العموم للأفراد على سبيل الجمع (¬1)، وهو المطلق (¬2) في قوله: "بع هذا الثوب" لا يقتضي الأمر ببيعه من زيد أو عمرو، ولا بكذا أو كذا، ولا بهذه السوق أو هذه؛ فإن اللفظ لا دلالة له على شيء [من شيء] (¬3) من ذلك، إذا أتى بالمسمَّى حصل ممتثلًا من جهة وجود تلك الحقيقة، لا من جهة [وجود] (¬4) تلك القيود، وهذا الأمر لا خلاف فيه، لكن بعض الناس يعتقد أن عدم الأمر بالقيود يستلزم عدم الإجزاء إذا أتى بها إِلا بقرينة وهو خطأ، والصواب أن القيود لا تنافي الأمر ولا تستلزمه، وإن كان لزوم بعضها لزومًا عقليًا ضرورة وقوع القدر المشترك في ضمنِ قيدٍ من تلك القيود، وإذا تبين هذا فليس في الحديث أمره أن يبيع التمر لبائع النوع الآخر ولا لغيره ولا بحلولٍ ولا بأجلٍ (¬5) ولا بنقدِ البلد ولا غيره (¬6) ولا بثمن المثل أو غيره، وكل هذه القيود خارجة عن مفهوم اللفظ، ولو زعم زاعمٌ أن اللفظ يعم هذا كله كان مبطلًا، لكن اللفظ لا يمنع الإجزاء إذا أتى بها، وإنما استفيد عدم الامتثال إذا بيع بدون ثمن المثل أو بثمن مؤجَّل أو بغير نقد البلد من العُرْفِ الذي ثبت للبيع المطلق، وكذلك ليس في اللفظ ما يدل على أنه يبيعه من البائع بعينه ولا غيره، كما ليس فيه ما يمنعه، بل كل واحد من الطرفين يحتاج إلى دليل خارج عن اللفظ المُطْلق؛ فما (¬7) قام الدليل على إباحته أبيح فعله بالدليل الدال على جوازه لا بهذا اللفظ وما قام دليل على المنع منه لم يُعارَض دليلُ المنع بهذا اللفظ المطلق حتى يطلب الترجيح، بل يكون دليل المنع سالمًا عن المعارضة بهذا، فإن عورض بلفظ عام متناول لإباحته بوضع اللفظ له أو بدليل خاص صحت المعارضة؛ فتأمل هذا الموضع (¬8) الذي كثيرًا ما يغلط فيه الناظر والمناظر، وباللَّه التوفيق. وقد ظهر بهذا جواب مَنْ قال: "لو كان الابتياع من المشتري حرامًا لنهى ¬
عنه" فإن مقصوده -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما كان لبيان (¬1) الطريق التي بها يحصل اشتراء التمر الجيد لمن عنده رديء وهو أن يبيع الرديء بثمن ثم يبتاع بالثمن جيِّدًا، ولم يتعرض لشروط البيع (¬2) وموانعه؛ لأن المقصود ذكر الحكم على وجه الجملة، أو لأن المخاطب أحِيلَ على فهمه وعلمه بأنه إنما أُذِن له في بيعٍ يتعارفه الناس، وهو البيع المقصود في نفسه، ولم يُؤذن له في بيع يكون وسيلة وذريعة ظاهرة إلى ما هو ربًا صريح، وكان القوم أعلم باللَّه ورسوله وشريعته من أن يفهموا عنه أنه أذِنَ لهم في الحيل الربوية التي ظاهرها بيعٌ وباطنها ربًا، ونحن نشهد باللَّه أنه كما لم يأذن فيها بوجه لم يفهمها عنه أصحابه بخطابه بوجه، وما نظير هذا الاستدلال إِلا استدلال بعضهم على جواز أكل [كل] (¬3) ذي الناب والمخْلَب بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، واستدلال آخر بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] على جواز نكاح الزانية المُصِرَّة على الزنا، واستدلال آخَرَ على ذلك بقوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ [وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ]} (¬4) [النور: 32]، واستدلال غيره به على صحة نكاح التحليل بذلك (¬5)، وعلى صحة نكاح المتعة، واستدلال آخر (¬6) على جواز نكاح المخلوقة من مائهِ إذا كان زانيًا، ولو أن رجلًا استدل بذلك على [جواز] (¬7) نكاح المرأة على عمتها وخالتها وأخَذَ يُعَارض به السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال، بل لو استدل به على كل نكاح حرَّمته السنة لم يكن فرق بينه وبين هذا الاستدلال، وكذلك قوله: "بع الجمع" (¬8) لو استدل به مستدلٌ على بيع من البيوع المتنازع فيها لم يكن فيه حجة، وليس الغالب (¬9) أن بائع التمر بدراهم يبتاع بها من المشتري حتى يُقال: هذه الصورة غالبة فيُحمل اللفظ عليها، ولا هو المتعارف عند الإطلاق عرفًا وشرعًا. وبالجملة فإرادة هذه الصورة وحدها من اللفظ ممتنع، وإرادتها مع غيرها فرعٌ على عمومه، ولا عُمُومَ له، وإرادة القدر المشترك بين أفراد البيع إنما تنصرف إلى البيع المعهود عرفًا وشرعًا، وعلى التقديرات كلها لا تدخل هذه الصورة. ¬
ومما يدل على ذلك أن هذه الصورة لا تدخل في أمر الرجل لعبده وولده ووكيله أن يشتري له كذا، فلو قال: "بع هذه الحنطة العتيقة واشْتَرِ لنا جديدة" لم يفهم السامع إِلا بيعًا مقصودًا، وشراءً (¬1) مقصودًا، فثبت أن الحديث ليس فيه إشعار بالحيلة الربوية البتة. يوضحه أن قوله: "بع كذا، واشتر كذا" أو "بعت، واشتريت" لا يفهم [منه] (¬2) إِلا البيع الذي يُقْصَد به نَقلُ ملك المبيع نقلًا مستقرًا؛ ولهذا لا يفهم منه بيع الهازل ولا المكرِه، ولا بيع الحيلة، ولا بيع العِينَةِ، ولا يعدُّ الناسُ من اتخذ خرزةً أو عرضًا يحلل به الرِّبا ويبيعه ويشتريه صورة خالية عن حقيقة البيع ومقصوده تاجرًا، وإنما يسمونه مرابيًا ومتحيلًا، فكيف يدخل هذا تحت لفظ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ يزيدهُ إيضاحًا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "من باع بيعتين في بيعة فله أوْكسُهُما أو الربا" (¬3) و"نهى عن بيعتين في بيعة" (¬4)، ومعلومٌ أنهما متى تواطَئَا على أن يبيعه بالثمن ثم يبتاع به منه فهو بيعتان في بيعة، فلا يكون ما نهى عنه داخلًا تحت ما أذن فيه (¬5). يوضحه أيضًا أنه قال: "لا يحل سَلَفٌ وبيع، ولا شَرْطان في بيع" (¬6) وتواطؤهما على أن يبيعه السلعة بثمن ثم يشتري منه غيرها بذلك الثمن منطبق على لفظ الحديث؛ فلا يدخل ما أخبر أنه لا يحل تحت ما أذن فيه. يوضحه أيضًا أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبًا" (¬7) وهذا يقتضي بيعًا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك فقد اتفقا على العقدين معًا؛ فلا يكون الثاني عقدًا مستقلًا مبتدأ، بل هو من تتمّة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهرُ الحديثِ أنه أمر بعقدين مستقلين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا ينبني عليه. ¬
فصل [حكمة مشروعية البيع تمنع من صورة الحيلة]
ولو نَزَلنا عن ذلك كله وسلمنا أن الحديث عام عمومًا لفظيًا يدخل تحته صورة الحيلة فهو لا ريب مخصوص بصور كثيرة؛ فنخص منه هذه الصورة المذكورة بالأدلة المتقدمة على بطلان الحيل وأضعافها، والعام يُخص بدون مثلها بكثير، فكم قد خَصَّ العمومَ المفهومُ وخبرُ الواحد والقياسُ (¬1) وغيرُ ذلك، فتخصيصه (¬2) -لو فرض عمومه- بالنصوص والأقيسة وإجماع الصحابة على تحريم الحيل أولى وأحرى، بل واحد من تلك الأدلة التي ذكرناها على المنع من الحيل وتحريمها كاف في التخصيص، وإذا كنتم قد خصصتم قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لعن اللَّه المحلل والمحلل له" (¬3) مع أنه عام عمومًا لفظيًا فخصصتموه بصورة واحدة وهي ما اشترطا في صُلْب العقد أنه إنما تزوجَّها ليحلها ومتى أحلَّها فهي طالق، مع أن هذه الصورة نادرة جدًا لا يفعلها محلل (¬4)، والصور الواقعة في التحليل أضعاف [أضعاف] (¬5) هذه، فحملتم اللفظ العام عمومًا لفظيًا ومعنويًا على أنْدَرِ صورة تكون لو قدر وقوعها، وأخليتموه عن الصور الواقعة المستعملة بين المحللين؛ فقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بع الجمع بالدراهم" (¬6) أولى بالتقييد بالنصوص الكثيرة والآثار والأقيسة الصحيحة التي هي في معنى الأصل وحمله على البيع المتعارف المعهود عُرفًا وشرعًا، وهذا بحمد اللَّه تعالى في غاية الوضوح، ولا يخفى على منصف يريد اللَّه ورسوله والدار الآخرة، وباللَّه التوفيق. فصل [حكمة مشروعية البيع تمنع من صورة الحيلة] ومما يوضح فساد حمل الحديث على صورة الحيلة وأن كلام الرسول ومنصبه العالي منزَّه (¬7) عن ذلك أن المقصود الذي شرع اللَّه تعالى له البيع وأحلّه لأجله هو أن يحصل ملك الثمن للبائع ويحصل ملك المبيع للمشتري؛ فيكون كلٌّ منهما قد حصل له مقصوده بالبيع، هذا ينتفع بالثمن وهذا بالسلعة، ولهذا إنما ¬
يكون إذا قَصَد المشتري نفسَ السِّلعة للانتفاع بها أو التجارة فيها وقَصَد البائع نفس الثمن، ولهذا يحتاط كل واحد منهما فيما يصير إليه من العرض هذا في وزن الثمن ونقده ورواجه وهذا في سلامة السلعة من العيب وأنها تساوي الثمن الذي بَذله فيها، فإذا كان مقصود كل منهما ذلك فقد قصدا بالسبب ما شرعه اللَّه له (¬1)، وأتى بالسبب حقيقة وحكمًا، وسواء حصل مقصوده بعقد أو توقَّف على عقود مثل أن يكون بيده سلعة وهو يريد أن يبتاع سلعة أخرى لا تباع [سلعته بها لمانعٍ] (¬2) شرعيٍّ أو عرفي أو غيرهما فيبيع سلعته ليملك ثمنها وهذا بيعٌ مقصود وعوضه مقصود ثم يبتاع بالثمن سلعة أخرى، وهذه قصة بلال في تمر خيبر سواء، فإنه إذا ابتاع الجميع (¬3) بالدراهم فقد أراد بالبيع ملك الثمن وهذا مقصود مشروع، ثم إذا ابتاع بالدراهم جنيبًا فقد عقد عقدًا ([مقصودًا مشروعًا] (¬4)؛ فلما كان بائعًا قصد [تملك الثمن حقيقة، ولما كان مبتاعًا قصد] (4) تملك) (¬5) السلعة حقيقة، فإن ابتاع بالثمن من غير المشتري [منه] (¬6) فهذا لا محذور فيه؛ إذ كل من العقدين مقصود مشروع، ولهذا يستوفيان حكم العقد الأول من النقد والقبض وغيرهما، وأما إذا أبتاع بالثمن من مبتاعه من جنس ما باعه فهذا يخشى منه أن لا يكون العقد الأول مقصودًا لهما، بل قصدهما بيع السلعة الأولى بالثانية فيكون ربًا بعينه، ويظهر هذا القصد بأنهما يتفقان على صاع بصاعين أولًا ثم يتوصلان (¬7) إلى ذلك ببيع الصاع بدرهم ويشتري به صاعين (¬8) ولا يبالي البائع بنقد ذلك الثمن ولا بقَبْضه ولا بعيب فيه ولا بعدم رواجه ولا يحتاط (¬9) لنفسه فيه احتياطَ مَنْ قَصْدُه تملكُ الثمن؛ إذ قد علم هو والآخر أن الثمن بعينه خارج منه عائد إليه، فنقدُهُ وقبضُه والاحتياط فيه يكون عبثًا، وتأمل حالَ باعةِ الحلي عِينة (¬10) كيف يخرج كل حلقة من غير جنسه ¬
أو قطعة ما ويبيعك إياها بذلك الثمن ثم يبتاعها منك؟ فكيف لا تسأل عن قيمتها ولا عن وزنها ولا مساواتها للثمن؟ بل قد تساوي أضعافه وقد تساوي بعضه؛ إذ ليست هي القصد، وإنما القصدُ أمرٌ وراءها وجعلت هي محللًا لذلك المقصود، وإذا عرف هذا فهو إنما عقد معه العقد الأول ليعيد إليه الثمن بعينه ويأخذ العوض الآخر، وهذا تواطؤ منهما حين عَقَداه على فسخه، والعقد إذا قصد به فسخه لم يكن مقصودًا، وإذا لم يكن مقصودًا كان وجوده كعدمه، وكان توسطه عبثًا. ومما يوضح الأمر في ذلك أنه إذا جاءه بتمر أو زبيب أو حنطة ليبتاعه (¬1) به من جنسه فإنهما يتشارطان ويتراضيان (¬2) على سعر أحدهما من الآخر، وأنه مد بمد ونصف مثلًا، ثم بعد ذلك يقول: بعتك هذا بكذا وكذا درهمًا، ثم يقول: بعني بهذه الدراهم كذا وكذا صاعًا من النوع الآخر، وكذلك في الصرف، وليس للبائع ولا للمشتري غرض في الدراهم، والغَرَضُ معروفٌ، فأين من يبيعه السلعة بثمن ليشتري به منه من جنسها إلى من (¬3) يبيعه إياها بثمن له غرض في تملكه وقبضه؟ وتوسطُ الثمن في الأول عبثٌ محض لا فائدة فيه، فكيف يأمر به الشارع الحكيم مع زيادة التعب والكلفة فيه. ولو (¬4) كان هذا سائغًا لم يكن في تحريم الربا حكمة -سوى تضييع الزّمان وإتعاب النفوس بما لا فائدة فيه (¬5)؛ فإنه لا يشاء أحد أن يبتاع ربويًا بأكثر منه من جنسه [الأول] (¬6) إِلا قال: بعتك هذا بكذا، وابتعت منك هذا بهذا الثمن؛ فلا يعجز أحد عن استحلال ما حرمه اللَّه قط بأدنى الحيل. يوضحه أن الربا نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة، فأمَّا ربا الفضل فيمكنه في كل مال ربوي أن يقول: بعتك هذا المال بكذا، ويُسَمَّي ما شاء، ثم يقول: اشتريت منك هذا -للذي هو من جنسه- بذلك الذي سمَّاه، ولا حقيقة له مقصودة، وأما ربا النسيئة فيمكنه أن يقول: بعتك هذه الحريرة بألف درهم أو عشرين صاعًا إلى سنة، وابتعتها منك بخمس مئة حالَّة أو خمسة عشر صاعًا، ويمكنه ربا الفضل، فلا يشاء مُرَابٍ (¬7) إِلا أقرضه ثم حاباه في بيع أو إجارة أو غيرهما، ويحصل ¬
فصل [الحكم إذا باع ربويا بثمن]
مقصوده من الزيادة، فيا سبحان اللَّه! أيعود الربا -الذي قد عَظم اللَّه شأنه في القرآن، وأوجب محاربة مستحله (¬1)، ولعن آكله وموكله وشاهديه (¬2) وكاتبه، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجيء في غيره- إلى أن يُسْتَحل نوعاه بأدنى حيلة لا كلفْةَ فيها أصلًا إِلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحك منها ويستهزأ بها؟ فكيف يستحسن أن ينسب إلى نبي من الأنبياء فضلًا عن سيد الأنبياء، بل أن يَنسب رب العالمين إلى أن يحرم هذه المحرمات العظيمة ويوعد عليها بأغلظ العقوبات وأنواع الوعيد، ثم يبيحها بضرَبٍ من الحيل والعبث والخداع الذي ليس له حقيقة مقصودة [البتّة] (¬3) في نفسه للمتعاقدين؟ وترى كثيرًا من المرابين (¬4) -لمَّا علم أن هذا العقد ليس له حقيقة مقصودة البتة- قد جعل عنده خَرزَة ذهب، فكل من جاءه يريد أن يبيعه جنسًا بجنسه أكثر منه أو أقلَّ ابتاع منه ذلك [الجنس] (3) بتلك الخرزة، ثم ابتاع الخرزة بالجنس الذي يريد أن يعطيه إياه، أفيستجيز عاقلٌ أن يقول: إن الذي حرم بيع الفضة بالفضة متفاضلًا أحلَّها بهذه الخرزة؟ وكذلك كثير من الفجَّار (¬5) قد أعَدَّ سلعة لتحليل ربا النساء، فإذا جاءه مَنْ يريد ألفًا بألف ومئتين أدْخَلَ تلك السلعة محللًا، ولهذا كانت أكثر حيل الربا في بابها أغْلَظَ من حيل التحليل، ولهذا حرمها أو بعضَهَا من لم يحرم التحليل؛ لأن القصد في البيع معتبرٌ في فِطَرِ الناس؛ ولأن الاحتيال في الربا غالبًا إنما يتم بالمُوَاطأة اللفظية أو العرفية، ولا يفتقر إلى شهادة، ولكن يتعاقدان ثم يشهد (¬6) أن له في ذمته دينًا، ولهذا إنما لُعن شاهداه إذا عَلِما به، والتحليل لا يمكن إظهاره (¬7) وقت العقد؛ لكون الشهادة شرطًا فيه، والشروط المتقدمة تؤثر كالمقارِنَةِ كما تقدم تقريره؛ إذ تقديم الشرط ومقارنته لا يخرجه عن كونه عقدَ تحليلٍ ويدخله في نكاح الرغبة، والقصود معتبرة في العقود. فصل (¬8) [الحكم إذا بَاع ربويًا بثمن] وجماع الأمر أنه إذا باعه رِبَويًا بثمنٍ وهو يريد أن يشتري منه بثمنه من ¬
جنسه، فإما أن يواطئه على الشراء منه لفظًا، أو يكون العرف بينهما قد جرى بذلك أو لا يكون، فإن كان الأول فهو باطلٌ كما تقدم تقريره؛ فإن هذا لم يقصد ملك الثمن ولا قصد هذا تمليكه، وإنما قصد تمليك المُثْمن بالمثمن (¬1)، وجعلا تسمية الثمن تلبيسًا وخداعًا ووسيلة إلى الربا؛ فهو في هذا العقد بمنزلة التّيْسِ الملعون في عقد التحليل، وإن لم تَجْرِ بينهما مواطأة لكن قد علم المشتري أن البائع يريد أن يشتري منه ربويًا بربوي فكذلك؛ لأن عِلْمه بذلك ضرب من المواطأة، وهو يمنع قصد الثمن الذي يخرجان (¬2) به عن قصد الربا، وإن قَصَد البائعُ الشراءَ منه بعد البيع ولم يعلم المشتري؛ فقد قال الإمام أحمد: هاهنا لو باع من رجل دنانير بدراهم لم يجز أن يشتري بالدراهم منه ذهبًا إِلا أن يمضي ويبتاع بالورِقِ من غيره ذهبًا، فلا يستقيم فيجوز أن يرجع إلى الذي ابتاع منه الدنانير فيشتري منه ذهبًا (¬3)، وكذلك (¬4) كره مالك أن تصرف دراهمك من رجل بدنانير، ثم تبتاع منه بتلك الدنانير دراهم غير دراهمك في الوقت أو بعد يوم أو يومين، قال ابن القاسم: فإن طال الزمان وصح أمرهما فلا بأس به (¬5)؛ فوجه ما منعه الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- أنه متى قصد المشتري منه تلك الدنانير لم يقصد تملك الثمن، ولهذا لا يحتاط في النقد والوزن، ولهذا يقول: إنه متى بَدَا له بعد القبض والمفارقة أن يشتري منه -بأن يطلب من غيره فلا يجد- لم يكن في العقد الأول خَلَلٌ -والمتقدمون من أصحابه حملوا هذا المنع منه على التحريم (¬6). وقال القاضي وابن عقيل وغيرهما: إذا لم يكن شرطٌ (¬7) ومواطأة بينهما لم يحرم (¬8)، وقد أوما إليه الإمام أحمد في رواية حرب؛ فإنه قال: قلت لأحمد: أشتري من رجل ذهبًا ثم أبتاعه (¬9) منه، قال: بَيْعُه من غيره أحَبُّ إليَّ (¬10)، وذكر ¬
[حكم بيع الدراهم بالدنانير، ثم شراء هذه الدراهم بالدنانير]
ابن عقيل أن أحمد لم يكرهه في رواية أخرى (¬1). [حكم بيع الدراهم بالدنانير، ثم شراء هذه الدراهم بالدنانير] وكره ابن سيرين للرجل أن يبتاع من الرجل الدراهم بالدنانير ثم يشتري منه بالدراهم دنانير (¬2)، وهذه المسألة في ربا الفضل كمسائل العِينَةِ في النساء، ولهذا عدَّها من الربا الفقهاء السبعةُ وأكثر العلماء، وهو قول أهل المدينة كمالك وأصحابه (¬3)، وأهل الحديث كأحمد وأصحابه، وهو مأثور عن ابن عمر (¬4)؛ ففي هذه المسألة (¬5) قد عاد الثمن إلى المشتري (¬6)، وحصلا على ربا الفضل أو النساء، وفي العِينَة قد عاد المبيع إلى البائع وأفْضى إلى ربا الفضل والنساء جميعًا، ثم إن كان في الموضعين (¬7) لم يقصد الثمن ولا المبيع، وإنما جعل وُصْلَة إلى الربا؛ فهذا الذي لا ريب في تحريمه، والعقد الأول [هاهنا] (¬8) باطل بلا توقف عند من يبطل الحيل، وقد صرح به القاضي في مسألة العِينَة في غير موضع، وحكى أبو الخطاب في صحته وجهين. [من أحكام العينة] قال شيخنا (¬9): والأول هو الصواب، وإنما تردد مَنْ تردد من الأصحاب (¬10) في العقد الأول في مسألة العينة؛ لأن هذه المسألة إنما ينصب (¬11) الخلاف فيها في العقد الثاني بناءً على أن الأول صحيح، وعلى هذا التقدير فليست من مسائل الحيل، وإنما هي من مسائل الذرائع، ولها مأخذ آخر يقتضي التحريم عند أبي ¬
فصل [عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية]
حنيفة وأصحابه؛ [فإنهم لا يحرِّمون الحيل ويحرمون مسألة العينة] (¬1)، وهو أن الثمن (¬2) إذا لم يُسْتَوْفَ لم يتم العقد الأول؛ فيصير الثاني مَبنيًا عليه، وهذا تعليلٌ خارجٌ عن قاعدة الحيل والذرائع، فصار للمسألة (¬3) ثلاثة مآخذ، فلما لم يتمحض تحريمها على قاعدة الحيل توقَّف في العقد الأول مَنْ توقف، قال شيخنا رضي اللَّه عنه (¬4): والتحقيق أنها إذا كانت من (¬5) الحيل أعطيت حكم الحيل، وإلا اعتبر فيها المأخذان الآخران، هذا إذا لم يقصد العقد الأول، فإن قصد حقيقته فهو صحيح (¬6)، لكن ما دام الثمن في ذمة المشتري لم يجز أن يشتري منه المبيع بأقل منه من جنسه، ولا يجوز أن يبتاع منه بالثمن ربويًا لا يُباع بالأول نساء؛ لأن أحكام العقد الأول لا تتم (¬7) إِلا بالتقابض؛ فمتى لم يحصل التقابض كان ذريعةً إلى الربا (¬8)، وإن تقابضا وكان العقد مقصودًا فله أن يشتري منه كما يشتري من غيره، وإذا كان الطريق إلى الحلال هي العقود المقصودة المشروعة التي لا خِدَاع فيها ولا تحريم لم يصح أن تلحق بها صورة عقد لم تقصد حقيقته (¬9) [من ملك الثمن والمثمن] (¬10) وإنما قصد [التوصل] (11) به [إلى] (¬11) استحلال ما حرَّمه اللَّه [من الربا] (10)، واللَّه الموفق. وإنما أطلنا الكلام على هذه الحجة لأنها عمدة أرباب الحيل من السنة، كما [أن] (¬12) عمدتهم من الكتاب: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 44]. فصل [عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية] فهذا تمام الكلام على المقام الأول، وهو عدم دلالة الحديث على الحيل الربوية بوجهٍ من الوجوه. ¬
وأما المقام الثاني -وهو دلالته على تحريمها وفسادها- فلأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهاه أن يشتري الصاع بالصاعين، ومن المعلوم أن الصفة التي في الحيل مقصودة يرتفع سعره لأجلها، والعاقل لا يخرج صاعين ويأخذ صاعًا إِلا لتميز ما يأخذه بصفة أو لغرضٍ له في المأخوذ ليس في المبذول، والشارع حكيمٌ لا يمنع المكلف مما هو مصلحة له ويحتاج إليه إِلا لتضمنه أو لاستلزامه مفسدةً أرجح من تلك المصلحة، وقد خفيت هذه المفسدة على كثير من الناس حتى قال بعض المتأخرين: لا يتبين لي وجه تحريم ربا الفضل والحكمة فيه، وقد تقدم أن هذا من أعظم حكمة الشريعة ومراعاة مصالح الخلق، وأن الربا نوعان: ربا نسيئة، وتحريمه تحريم المقاصد، وربا فضل، وتحريمه تحريم الذرائع والوسائل؛ فإن النفوس متى ذاقت الربح فيه عاجلًا تسوَّرت منه إلى الربح الآجل، فسدَّت عليها الذريعة (¬1) وحمى جانب الحمى، وأي حكمة وحكم أحسن من ذلك؟ وإذا كان كذلك فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منع بلالًا من أخذ مدّ بمدِّين لئلا يقع في الربا (¬2)، ومعلوم أنه لو جوَّز له ذلك بحيلة لم يكن في منعه من بيع مدين بمد فائدة أصلًا، بل كان بيعه كذلك أسهل وأقل مفسدة من توسط (¬3) الحيلة الباردة التي لا تغني من المفسدة شيئًا، وقد نبه على هذا بقوله في الحديث: "لا تفعل" أوه (¬4)، عين الربا" (¬5) فنهاه عن الفعل، والنَّهي يقتضي المنع بحيلة أو غير (¬6) حيلة؛ لأن المنهي عنه لا بد أن يشتمل على مفسدة لأجلها يُنهى عنه، وتلك المفسدة لا تزول بالتحيُّل [عليها] (¬7)، بل تزيد، وأشار إلى المنع بقوله: " [أوه] (7) عين الربا" فدل على أن المنع إنما كان لوجود حقيقة الربا وعينه، وأنه لا تأثير للصورة المجردة مع قيام الحقيقة؛ فلا يهمل قوله: "عين الربا" فَتَحْتَ هذه اللفظة ما يشير إلى أن الاعتبار بالحقائق، وأنها هي ¬
فصل [الجواب عن قولهم: إن الحيل معاريض فعلية]
التي عليها المعوَّل، وهي محل التحليل والتحريم، واللَّه تعالى لا ينظر إلى صُورَها وعباراتها التي يكسوها إياها العبد، وإنما ينظر إلى حقائقها وذواتها، واللَّه الموفق (¬1). فصل [الجواب عن قولهم: إن الحيل معاريض فعلية] وأما تمسكهم بجواز المَعَاريض وقولهم: "إن الحيل معاريضٌ فِعْلية على وزان المعاريض القولية" فالجواب من وجوه: أحدها: أن يقال: ومَنْ سلَّم لكم أن المعاريض إذا تضمنت استباحَةَ الحرام وإسقاطَ الواجبات وإبطالَ الحقوق كانت جائزة؛ بل هي من الحيل القولية، وإنما تجوز المَعَاريض إذا كان فيها تخلُّص من ظالم، كما عَرَّضَ الخليل بقوله: "هذه أختي" (¬2)، فإذا تضمنت نصر الحق أو إبطال باطل كما عرَّض الخليل بقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63]، وكما عرض المَلَكَان (¬3) لداود بما ضرباه له من المثال الذي نسباه إلى أنفسهما، وكما ¬
عرَّض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "نحن من ماء" (¬1)، وكما كان يُوَرِّي عن الغزوة بغيرها (¬2) لمصلحة الإسلام والمسلمين إذا لم تتضمن مفسدة في دين ولا دنيا، كما عرَّض -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "إنا حاملوك على ولد الناقة" (¬3)، وبقوله: "إن الجنة لا تدخلها العُجُزُ" (¬4)، ¬
[ما قيست عليه الحيل الربوية نوعان]
وبقوله: "مَنْ يشتري مني هذا العبد" (¬1) يريد عبد اللَّه، وبقوله لتلك المرأة: "زوجُك الذي في عينيه بياض" (¬2) إنما أراد به البياض الذي خلقه اللَّه في عيون بني آدم، وهذه (¬3) المعاريض ونحوها من أصدق الكلام، فأين في جواز هذه ما يدل على جواز الحيل المذكورة؟ [ما قيست عليه الحيل الربوية نوعان] وقال شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬4): والذي قيست عليه الحيل الربوية وليست مثله نوعان: أحدهما: المعاريض، وهي أن يتكلم الرجل بكلام جائز يقصد به معنى صحيحًا، ويوهم غيره أنه يقصد به (¬5) معنًى آخر؛ فيكون سبب ذلك الوهم (¬6) كون اللفظ مشتركًا بين حقيقتين لغويتين أو عُرْفيتين أو شرعيتين أو لغوية مع إحداهما أو عرفية مع إحداهما أو شرعية مع إحداهما (¬7)، فيعني (¬8) أحدَ معنييه ويوهم السامع [له] (¬9) أنه إنما عنى الآخر: إما لكونه لم يعرف إلا ذلك، وإما لكون دلالة الحال ¬
تقتضيه (¬1)، [وإما لقرينة حالية أو مقالية يضمها إلى اللفظ] (¬2)، أو يكون سبب التوهم كونَ اللفظ ظاهرًا في معنى فينوي به (¬3) معنى يحتمله باطنًا [فيه] (¬4)؛ بأن ينوي مَجَازَ اللفظ دون حقيقته، أو ينوي بالعام الخاصَّ أو بالمطلق المقيدَ، أو يكون سببُ التوهم كونَ المخاطب إنما يفهم من (¬5) اللفظ غير حقيقته لعرفٍ خاصٍ به (¬6) أو غفلة منه أو جهل [منه] (¬7) أو غير ذلك من الأسباب، مع كون المتكلم إنما قصد حقيقته؛ فهذا [كله] (¬8) إذا كان المقصود به دفع (¬9) ضرر غير مستحق [فهو] (8) جائز، كقول الخليل [صلوات اللَّه وسلامه عليه] (7): "هذه أختي" (¬10)، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نحن من ماء" (¬11)، وقول الصدِّيق -رضي اللَّه عنه-: "هادٍ يهديني السبيل" (¬12)، [وأن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا أراد غزوة ورّى بغيرها (¬13)، وكان يقول: "الحرب خدعة" (¬14)، وكإنشاد عبد اللَّه بن رواحة (¬15): شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللَّه حقٌّ ... وأن النار مَثْوَى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طَافٍ ... وفوق العرش رَبُّ العالمينا لما استقرأته امرأته القرآن، حيث اتهمته إصابة جاريته] (¬16)، وقد يكون ¬
[ضابط عن التعريض]
واجبًا إذا [تضمن دَفْعَ ضررٍ يجب دفعه] (¬1) ولا يندفع إلا بذلك (¬2). وهذا الضرب [وإن كان نوع حيلة] (¬3) في الخطاب لكنه يفارق الحيل المحرَّمة من الوجه المحتال عليه والوجه المحتال به؛ أما الأول فلكونه (¬4) دفع ضرر غير مستحق، [فلو تضمن كتمان ما يجب إظهاره من شهادة أو إقرار أو علم أو نصيحة مسلم أو التعريف بصفةِ معقودٍ عليه في بيع أو نكاح أو إجارة فإنه غشٌّ محرم بالنص. قال مثنى الأنباري: قلت لأحمد بن حنبل: كيف الحديث الذي جاء في المعاريض؟ فقال: المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، تكون في الرجل يُصْلِح بين الناس أو نحو هذا] (¬5). [ضابط عن التعريض] قال شيخنا رضي اللَّه عنه (¬6): والضابط أن كُلَّ ما وجب بيانه فالتعريضُ فيه حرامٌ؛ لأنه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق، والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على [الإنسان و] (7) العقود [بأسرها] (7)، ووصف المعقود عليه، والفُتيا والحديث والقضاء [إلى غير ذلك] (¬7)، وكل ما حَرُم بيانه فالتعريضُ فيه جائزٌ، بل واجب [إن اضطر إلى الخطاب، وأمكن التعريض فيه] (¬8)، كالتعريض لمسائل [عن مال معصوم أو نفسه يريد أن يعتدي عليه] (¬9)، وإن كان بيانه جائزًا أو ¬
كتمانه (¬1) جائزًا؛ فإما (¬2) أن تكون المصلحة في كتمانه أو في إظهاره أو كلاهما متضمن للمصلحة؛ فإن كان الأول فالتعريضُ مستحب كتورية الغازي عن الوجه الذي يريده (¬3)، وتورية الممتنع عن الخروج والاجتماع بمن يصدُّه عن طاعة أو مصلحة راجحة كتورية أحمد عن المروزي (¬4)، وتورية الحالف لظالم له أو لمن استحلفه يمينًا لا تجب عليه ونحو ذلك، وإن كان الثاني فالتورية فيه مكروهة، والإظهار مستحب، وهذا في كل موضع يكون البيان فيه مستحبًا، وإن تساوى الأمران وكان كل منهما طريقًا إلى المقصود لكون ذلك المخاطب التعريضُ والتصريحُ بالنسبة إليه سواء جاز الأمران، كما لو كان يَعْرف بعدة ألسن وخطابه بكل لسان منها يحصل مقصوده، ومثل هذا ما لو كان له غرضٌ مباح في التعريض ولا حَذَرَ (¬5) عليه في التصريح، والمخاطب لا يفهم مقصوده، وفي هذا ثلاثة أقوال للفقهاء وهي في مذهب الإمام أحمد: أحدها: له التعريض؛ إذ لا يتضمن كتمان الحق (¬6) ولا إضرارًا بغير مستحق. والثاني: ليس له ذلك، فإنه إيهامٌ للمخاطب من غير حاجة إليه، وذلك تغريرٌ، وربما أوقع السامع في الخبر الكاذب، وقد يترتب عليه ضرر به. والثالث: له التعريض في غير اليمين. وقال الفضل (¬7) بن زياد: سألت أحمد عن الرجل يُعرِّض (¬8) في كلامه يسألني عن الشيء أكره أن أخبره به، قال: إذا لم يكن يمينًا (¬9) فلا بأس، في ¬
[المقصود بالمعاريض]
المعاريضِ مندوحةٌ عن الكذب، وهذا عند الحاجة إلى الجواب (¬1)، فأما الابتداء [فالمنع فيه ظاهر] (¬2)، كما دل عليه حديث أم كلثوم أنه لم يُرخِّص فيما يقول الناس: [إنه كذب] (¬3) إلا في ثلاث (¬4)، وكلها مما يحتاج إليه المتكلم، وبكل حال فغاية هذا القسم تجهيل السامع بأن يوقعه المتكلم في اعتقاد ما لم يُرِده بكلامه، وهذا التجهيل قد تكون مصلحته أرجح من مفسدته، وقد تكون مفسدتُه أرجح من مصلحته، وقد يتعارض الأمران، ولا ريب أن مَنْ كان علمه بالشيء يحمله على ما يكرهه اللَّه ورسوله كان تجهيله به وكتمانه عنه أصلح له وللمتكلم، وكذلك ما كان (¬5) في علمه مضرة على القائل أو تفوت عليه مصلحة هي أرجح من مصلحة البيان فله أن يكتمه عن السامع؛ فإن أبى إلا استنطاقه فله أن يعرض له. [المقصود بالمعاريض] فالمقصود بالمعاريض فعل واجب أو مستحب أو مباح أباح الشارع السعي في حصوله ونصب له سببًا يُفْضِي إليه؛ فلا يقاس بهذه الحيل التي تتضمن سقوط ما أوجبه الشارع وتحليل ما حرمه، فأين أحد البابين من الآخر؟ وهل هذا إلا من أفسد القياس؟ وهو كقياس الربا على البيع والميتة على المذَكَّى. فصل (¬6) فهذا [الفرق] (7) من جهة المحتال عليه، وأما [الفرق] (¬7) من جهة المحتال به فإن المُعرِّض إنما تكلم بحق، ونطق بصدق فيما بينه وبين اللَّه تعالى، لا سيما إن لم ينو باللفظ خلاف ظاهره في نفسه، وإنما كان [علم] (¬8) الظهور من ضَعْف فهم السامع وقصوره في فهم (¬9) دلالة اللفظ، ومعاريض النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومُزَاحه كانت ¬
[المعاريض على نوعين]
من هذا النوع، كقوله: "نحن من ماء" (¬1)، وقوله: " [إنَّا] حاملوك على ولد الناقة" (¬2)، و"لا يدخل الجنة العُجُز" (¬3)، و"زوجك الذي [في] عينيه بياض" (¬4) وأكثر معاريض السلف كانت من هذا، ومن هذا الباب التدليس في الإسناد، لكن هذا مكروه (¬5) لتعلقه بأمر الدين (¬6) وكون البيان في العلم واجبًا (¬7)، بخلاف ما قصد به دفع ظالم [أو دفع ضرر عن المتكلم] (¬8). [المعاريض على نوعين] والمعاريض نوعان: أحدهما: أن يستعمل اللفظ في حقيقته وما وُضع له فلا يخرج به عن ظاهره، ويقصد فردًا من أفراد حقيقته، فيتوهم السامع أنه قصد غيره: إما لقصور فهمه، وإما لظهور ذلك الفرد عنده أكثر من غيره، وإما لشاهد الحال عنده، وإما لكيفية المخبر وقت التكلم من ضحك أو غضب أو إشارة ونحو ذلك، وإذا تأملت المعاريض النبوية والسلفية وجدت عامَّتَها من هذا النوع. الثاني: أن يستعمل العام في الخاص والمطلق في المقيد، وهو الذي يسميه المتأخرون الحقيقة والمجاز، وليس يفهم أكثر من المطلق والمقيد؛ فإن لفظ الأسد والبحر والشمس عند الإطلاق له معنى، وعند التقييد له معنى يسمّونه المجاز، ولم يفرقوا بين مقيد ومقيد ولا بين قيد وقيد، فإن قالوا: "كل مقيد مجاز" لزمهم أن يكون كل كلام مركب مجازًا؛ فإن التركيب يقيده بقيود زائدة على اللفظ المطلق، وإن قالوا: "بعض القيود يجعله مجازًا دون بعض" سُئِلوا عن ¬
الضابط ما هو؟ ولن يجدوا إليه سبيلًا، وإن قالوا: "يُعتبرُ اللفظ المفرد من حيث هو مفرد قبل التركيب، وهناك يُحكم عليه بالحقيقة والمجاز". قيل لهم: هذا أبعد وأشدُّ فسادًا؛ فإن اللفظ قبل العقد والتركيب بمنزلة الأصوات التي ينعق بها ولا تفيد شيئًا، وإنما إفادتها بعد تركيبها، وأنتم قلتم: الحقيقة هي اللفظ المستعمل، وأكثركم يقول: استعمال اللفظ فيما وضع له أولًا، والمجاز بالعكس؛ فلا بد في الحقيقة والمجاز من استعمال اللفظ فيما وُضع له، وهو إنما يستعمل بعد تركيبه، وحينئذ فتركيبه بعدة بقيود يُفهم منها مراد المتكلم، فما الذي جعله مع بعض تلك القيود حقيقة ومع بعضها مجازًا؟ وليس الغرض إبطال هذا التقسيم الحادث المبتَدَع المتناقض فإنه باطل من أكثر من أربعين وجهًا (¬1)، وإنما الغرض التنبيه على نَوْعي التعريض، وأنه تارة يكون مع استعمال اللفظ في ظاهره وتارة يكون بإخراجه عن ظاهره، ولا يذكر المُعرِّض قرينة تبين مراده، ومن هذا النوع عامة التعريض في الأَيْمان والطلاق، كقوله: "كل امرأة له فهي طالق" وينوي في بلد كذا وكذا، أو ينوي (¬2) فلانة، أو قوله: "أنت طالق" وينوي من زوجٍ كان قبله ونحو ذلك؛ فهذا القسم شيء والذي قبله شيء، فأين هذا من قصد المحتال بلفظ العقد أو صورته ما لم (¬3) يجعله الشارع مقتضيًا له بوجه بل جعله مقتضيًا لضدِّه؟ ولا يلزم من صلاحية اللفظ له إخبارًا صلاحيته له إنشاءً؛ فإنه لو قال: "تزوَّجت" في المعاريض وعَنَى نكاحًا فاسدًا كان صادقًا كما لو بيَّنه، ولو قال: "تزوجت" إنشاءً وكان فاسدًا لم ينعقد، وكذلك في جميع الحيل؛ فإن الشارع لمْ يشرع القَرْضَ إلا لمن قصد أن يسترجع مثل قرضه، ولم يشرعه لمن قصد أن يأخذ أكثر منه لا بحيلةٍ ولا بغيرها، وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرضٌ في تمليك الثمن وتملك (¬4) السلعة، ولم يشرعه قطٌّ لمن قصد به ربا الفضل أو النساء ولا غرض له في الثمن [ولا في المُثْمن] (¬5) ولا في السلعة، وإنما غرضهما الربا، وكذلك النكاح لم يشرعه إلا لراغب في المرأة، لم يشرعه ¬
[متى تباح المعاريض؟]
للمحلِّل (¬1)، وكذلك الخلع لم يشرعه إلا للمُفْتَديةِ (¬2) نفسَها من الزوج تتخلص (¬3) منه من سوء العشرة، ولم يشرعه للتحيل (¬4) على الحنث قط، وكذلك التمليك لم يشرعه اللَّه سبحانه وتعالى إلا لمن قصد نفع الغير والإحسان إليه بتمليكه سواء كان محتاجًا أو غير محتاج، ولم يشرعه لإسقاط فرض من زكاة أو حج أو غيرهما قط، وكذلك المعاريض لم يشرعها إلا لمحتاج إليها أو لمن لا يُسْقِط بها حقًا ولا يَضُرُّ بها أحدًا، ولم يشرعها إذا تضمنت إسقاط حق أو إضرارًا لغير مستحق. [متى تباح المعاريض؟] فثبت أن التعريض المباح ليس من المخادعة للَّه في شيء، وغايته أنه مخادعة لمخلوق أباح الشارع مخادعته لظلمه، ولا يلزم من جواز مُخَادعة الظَّالمِ المُبْطل جواز مخادعة المحق؛ فما كان من التعريض مخالفًا لظاهر اللفظ كان قبيحًا إلا عند الحاجة وما لم يكن منها مخالفًا لظاهر اللفظ كان جائزًا إلا عند تضمن مفسدة. [بمَ تكون المعاريض] والمعاريض كما تكون بالقول تكون الفعل، وتكون بالقول والفعل معًا، مثال ذلك أن يُظْهِر المحاربُ أنه يريد وجهًا من الوجوه ويسافر إليه ليحسب العدو أنه لا يريده ثم يكرُّ عليه وهو آمن من قصده، أو يستطرد المُبارز بين يدي خَصْمه ليظن هزيمته ثم يعطف عليه، وهذا من خداعات الحرب. فصل [النوع الثاني من المعاريض] فهذا أحد النوعين الذي قيست عليه (¬5) الحيل المحرَّمة. والنوع الثاني: الكيدُ الذي شرعه اللَّه للمظلوم أن يكيد به ظَالِمه وبخدعه به، إما للتوصّل إلى أخذ حقه منه، أو عقوبة له، أو لكف شره وعُدْوانه عنه، كما روى (¬6) ¬
فصل [الجواب على أن العقود حيل]
الإمام أحمد في "مسنده" "أن رجلًا شكا إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من جاره أنه يؤذيه، فأمره رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَطْرَحَ متاعه في الطريق، ففعل، فجعل كل مَنْ مرّ يسأل عن شأن المتاع، فيُخْبَر بأن جار صاحبه يؤذيه، فيسبّه ويلعنه، فجاء إليه وقال: "رُدَّ متاعك إلى مكانه فواللَّه لا أوذيك بعد ذلك أبدًا" (¬1) فهذا من أحسن المعاريض الفعلية، وألطف الحيل التي يتوصل بها إلى دفع ظلم الظالم. ونحن لا ننكر هذا الجنس، وإنما الكلام في الحيل على استحلال مَحَارم اللَّه، وإسقاط فرائضه، وإبطال حقوق عباده؛ فهذا النوع هو الذي يفوت أفرادُ الأدلة على تحريمه الحَصْرَ (¬2). فصل [الجواب على أنَّ العقود حيل] وأما قولكم: "جعل العقود حِيَلًا على التوصل إلى ما لا يباح إلا بها إلى آخره" فهذا موضع الكلام في الحيل، وانقسامها إلى الأحكام الخمسة (¬3)، فنقول: ¬
ليس كل ما يُسمى حيلة [يُسمَّى] (¬1) حرامًا، قال اللَّه تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً [وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا] (¬2)} [النساء: 98] أراد بالحيلة التحيُّل على التخلص من بين الكفار، وهذه حيلة محمودة يُثَاب عليها، وكذلك الحيلة على هزيمة الكفار، كما فعل نُعيم بن مسعود يوم الخندق (¬3)، أو على تخليص ماله منهم كما فعل الحَجَّاج بن عِلاط بامرأته (¬4)، وكذلك الحيلة على قتل رأسٍ من رؤوس أعداء اللَّه كما فعل الذين قتلوا ابن أبي الحُقَيقِ اليهودي ¬
[اشتقاق الحيلة وبيان معناها]
وكعب بن الأشرف وأبا رافع وغيرهم (¬1)؛ فكل هذه حيل محمودة محبوبة للَّه ومرضية له. [اشتقاق الحيلة وبيان معناها] والحِيلَة: مشتقة من التحوَّل، وهي النوع والحالة كالجِلْسَة والقِعْدَة والرِّكبَة فإنها بالكسر للحالة، وبالفتح للمرة، كما قيل: الفَعْلَة للمرة (¬2)، والفِعْلَة للحالة، والمَفْعَل للموضع، والمِفْعَل للآلة، وهي من ذوات الواو، فإنها من التحول من حَالَ يَحُولُ، وإنما انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وهو قلب مَقِيس مُطّرد في كلامهم، نجو مِيزان وميقات وميعاد؛ فإنها مِفْعَال من الوَزْن والوَقْت والوَعْد (¬3)، فالحيلة هي نوع مخصوص من التصرف والعمل الذي يتحوَّلُ به فاعلُه من حال إلى حال، ثمْ غلب عليها بالعُرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصَّل بها الرجلُ إلى حصول غرضه، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة؛ فهذا أخص من موضوعها في أصل اللغة، وسواء كان المقصود أمرًا جائزًا أو محرمًا، وأخَصُّ من هذا استعمالُها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعًا أو عقلًا أو عادة فهذا (¬4) هو الغالب عليها في عُرْف الناس؛ فإنهم يقولون: فلان من أرباب الحيل، ولا تُعَاملوه فإنه مُتَحَيِّل (¬5)، وفلان يُعَلّمَ الناسَ الحيلَ، وهذا من استعمال المطلق في بعض أنواعه كالدابة والحيوان وغيرهما. [انقسام الحيلة إلى الأحكام الخمسة وأمثلتها] وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة؛ فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها؛ فالأكل والشرب واللبس والسفر ¬
الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومُبَاحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها، وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مَوْرد التقسيم إلى مباح ومحظور؛ فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب، وترك المحرَّم (¬1)، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم، وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات، ولما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهودُ فتستحلوا محارمَ اللَّه بأدنى الحيل" (¬2) غلب استعمال الحيل في عرف الفقهاء علي النوع المذموم، وكما يذم الناسُ أربابَ الحيل فهم يذمُّون أيضًا العاجزَ الذي لا حِيلَةَ عنده لعجزه وجهله بطرق تحصيل مصالحه، فالأول ماكرٌ مخادع، والثاني عاجزٌ مفرِّط، والممدوح غيرهما، وهو مَنْ له خبرة بطرق الخير والشر خَفِيِّها وظاهرها فيحسن التوصل إلى مقاصده المحمودة التي يحبُّها اللَّه ورسوله بأنواع الحيل، ويعرف طرقَ الشر الظاهرة والخفيِّة التي يتوصل بها إلى خِدَاعه والمكر به فيحترز منها ولا (¬3) يفعلها ولا يدل عليها، وهذه كانت حال سادات الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، فإنهم كانوا أبَرِّ الناس قلوبًا، وأعلم الخلق بطرق الشر ووجوه الخداع، وأتقَى للَّه من أن يرتكبوا منها شيئًا أو يُدْخلوه في الدين، كما قال عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: لست بخَبٍّ ولا يخدعني الخب (¬4)، وكان حذيفة أعلم الناس بالشر والفتن، وكان الناس يسألون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخير، وكان هو يسأله عن الشر (¬5)، والقلبُ السليم ليس هو الجاهل بالشر الذي لا يعرفه، بل الذي يعرفه ولا يريده، بل يريد الخير والبر، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد سمَّى الحرب خُدْعَة (¬6)، ولا ريبَ في انقسام الخِداع إلى ما يحبه اللَّه ¬
فصل [الحيل التي تعد من الكبائر]
ورسوله وإلى ما يبُغضه ويَنهى عنه، وكذلك المكر ينقسمَ إلى قسمين: محمودٍ، ومذموم؛ فالحيلة والمكر والخديعة تنقسم إلى محمود ومذموم؛ فالحيل (¬1) منها ما هو كفرٌ، ومنها ما هو كبيرةٌ، ومنها ما هو صغيرة، وغير المحرمة منها ما هو مكروه، ومنها ما هو جائز، ومنها ما هو مستحب، ومنها ما هو واجب؛ فالحيلة بالرَّدة على فسخ النكاح كفر، ثم إنها لا تتأتى إلا على قول من يقول بتعجيل (¬2) الفسخ بالردة، فأما مَنْ وقَفَه على انقضاء العدة فإنها لا يتم لها غرضها حتى تنقضي عدتها؛ فإنها متى عُلم بردتها قتلت إلا على قول [من يقول: لا تُقتل] (¬3) المرتدَّة، بل يحبسها حتى تُسْلِمَ أو تموت، وكذلك التحيل بالردة على حرمان الوارث كفرٌ، والإفتاء بها كفر، ولا تتم إلا على قول مَنْ يرى أن مال المرتد لبيت المال، فأما على القول الراجح أنه لورثته من المسلمين فلا تتم الحيلة، وهذا القول هو الصواب (¬4)؛ فإن ارتداده أعظم من مرض الموت المَخُوف، وهو في هذه الحال قد تعلق حق الورثة مسألة، فليس له أن يُسْقط هذا التعليق (¬5) بتبرع، فهكذا المرتدُّ بردته تعلق حق الورثة مسألة إذ صار مستحقًا للقتل. فصل [الحيل التي تعد من الكبائر] وأما الحيل التي هي من الكبائر فمثل قتل امرأته إذا قتل حماته وله من امرأته ولد، والصواب أن هذه الحيلة لا تُسْقط عنه القَوَد، وقولُهم: "إنه ورث ابنه ¬
فصل [حيل محرمة]
بعض دم أبيه فسقط عنه القَوَد" ممنوعٌ؛ فإن القَوَد وجب [عليه] (¬1) أولًا بقتل أم المرأة، وكان لها أن تستوفيه، ولها أن تسقطه، فلما قتلها قام وليها في هذه الحال مقامها بالنسبة إليها وبالنسبة إلى أمها، ولو كان ابن القاتل؛ فإنه لم يدل كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا ميزان عادل على أن الولد لا يستوفي القصاصَ من والده لغيره، وغاية ما يدل عليه الحديث أنه لا يُقَاد الوالد بولده (¬2)، على ما فيه من الضَّعْف وفي حكمه من النزاع، ولم يدل على أنه لا يُقَاد بالأجنبي إذا كان الولد هو مستحق [القَوَد] (¬3)، والفرق بينهما ظاهر؛ فإنه في مسألة المنع قد أُقِيدَ بابنه (¬4)، وفي هذه الصورة إنما أقيد بالأجنبي، وكيف تأتي شريعةٌ أو سِياسة عادلة بوجوب القَوَدِ على من قتل نفسًا بغير حق فإن عاد فقتل نفسًا أخرى بغير حق وتضاعف إثمُه وجرمه سقط عنه القود، بل لو قيل بتحتم قَتْله ولا بد إذا قصد هذا كان أقرب إلى المعقول والقياس (¬5). فصل [حيل محرّمة] ومن الحيل المحرَّمة التي يكفر مَنْ أفتى بها تمكينُ المرأة ابنَ زوجها من نفسها لينفسخَ نكاحُها حيث صارت موطوءة ابنه، وكذا العكس (¬6)، أو وطئه حماته لينفسخ نكاح امرأته، مع أن هذه الحيلة لا تتمشى إلا على قول من يرى أن حرمة المصاهرة تثبت بالزنا كما تثبت بالنكاح كما يقوله أبو حنيفة (¬7) وأحمد في المشهور من مذهبه (¬8)، والقول الراجح أن ذلك لا يحرم كما هو قول ¬
[مناظرة بين الشافعي ومن قال: إن الزنا يوجب حرمة المصاهرة]
الشافعي (¬1) وإحدى الروايتين عن مالك (¬2)؛ فإن التحريم بذلك موقوف على الدليل، ولا دليلَ من كتابٍ ولا سنةٍ ولا إجماعٍ ولا قياسٍ صحيح، وقياسُ السفاحِ على النكاح [في ذلك لا يصح] (3) لما بينهما من الفروق، واللَّه تعالى جعل الصِّهْرَ قَسيمَ النسب، وجعل ذلك من نعمهِ التي امتنَّ بها على عباده، فكلاهما من نعمه وإحسانه؛ فلا يكون الصهر من آثار الحرام وموجباته كما لا يكون النسب من آثاره، بل إذا كان النسب الذي هو أصلٌ لا يحصل بوطء الحرام [فالصِّهْرُ الذي هو فرعٌ عليه ومُشَبَّه به أولى ألا يحصل بوطء الحرام،] (¬3) وأيضًا فإنه لو ثبت تحريم المصاهرة لا تثبت المحرمية التي هي من أحكامه، فإذا لم تثبت المحرمية لم تثبت الحرمة، وأيضًا فإن اللَّه تعالى [إنما] (3) قال: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ [الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ]} (¬4) [النساء: 23] ومن زَنَا بها الابن لا تُسمَّى حليلة لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، وكذلك قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [مِنَ النِّسَاءِ (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)]} (¬5) [النساء: 22] إنما المراد به النكاح الذي هو ضد السفاح، ولم يأتِ في القرآن أن النكاح المراد به الزنا قط، ولا الوطء المجرد عن عقد. [مناظرة بين الشافعي ومن قال: إن الزنا يُوجب حرمة المصاهرة] وقد تناظر الشافعي هو وبعض العراقيين في هذه المسألة ونحن نذكر مناظرته بلفظها. قال الشافعي: الزنا لا يُحرِّم الحلال، وقال به ابن عباس (¬6)، قال الشافعي: ¬
[أحكام النكاح لا يتعلق منها شيء بالزنا]
لأن الحرام ضد الحلال، ولا يقاس شيء على ضِدِّه، فقال في قائل: ما تقول لو قبَّلت امرأةُ الرجل ابنَه بشهوة حرمت على زوجها أبدًا، فقلت [له] (¬1): لم قلت ذا واللَّه تعالى إنما حرم أمهات نسائكم ونحو هذا بالنكاح فلم يجز أن يُقَاس الحرامُ بالحلال؟ فقال: أجد جماعًا وجماعًا، قلت: جماعًا حُمِدَت به وأحصنت (¬2) وجماعًا رُجِمت به، أحدُهما نقمة والآخر نعمة، وجعله اللَّه سبحانه نسبًا وصهرًا وأوجب به حقوقًا، وجعلك مَحْرَمًا لأم امرأتك (¬3) وابنتها تسافر بهما، وجعل على الزنا نقمة في الدنيا بالحدِّ (¬4) وفي الآخرة بالنار، إلا أن يعفو اللَّه، فتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة؟ [وقلت له: فلو قال لك] (¬5): وجدت المطلقة ثلاثًا تحل بجماع زوج وإصابة فأحلّها بالزنا لأنه جماع كجماع، قال: إذا أخطأ؛ لأن اللَّه تعالى أحلّها بنكاح زوج، قلت: وكذلك ما حرم اللَّه في كتابه بنكاح زوج وإصابة زوج، قال: أفيكون شيء يحرمه الحلال ولا يحرمه الحرام أقول به؟ قلت: نعم ينكح أربعًا فيحرم عليه أن ينكح من النساء خامسة، أفيحرمُ عليه إذا زنا بأربع شيء من النساء؟ قال: لا يمنعه الحرام مما يمنعه الحلال، قال: فقد ترتد فتحرم على زوجها، قلت: نعم، وعلى جميع الخلق، وأقتلها وأجعل مالها فَيْئًا، قال: فقد نجد الحرام يُحرِّم الحلال، قلت: أما في مثل ما اختلفنا فيه من أمر النساء فلا (¬6)، انتهى. [أحكام النكاح لا يتعلق منها شيء بالزنا] ومما يدل على صحة هذا القول أن أحكام النكاح التي رتَّبها اللَّه تعالى عليه من العِدة والإحدَاد والميراث والحل والحرْمة ولحوق النسب ووجوب النفقة والمهر وصحة الخُلع والطلاق والظهار والإيلاء والقصر على أربع ووجوب القَسْم والعَدْل بين الزوجات وملك الرجعة وثبوت الإحصان والإحلال للزوج الأول وغير ذلك من الأحكام لا يتعلق شيء منها بالزنا، وإن اختلف في العدة والمهر، والصواب أنه لا مَهْر لبغي كما دلت عليه سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬7)، وكما فَطَرَ اللَّه ¬
[إبطال حيلة لإسقاط حد السرقة]
سبحانه عقول الناس على استقباحه، فكيف يثبت تحريم [هذه] (¬1) المصاهرة من بين هذه الأحكام؟ والمقصود أن هذه الحيلة باطلة شرعًا كما هي محرمة في الدين (¬2). [إبطال حيلة لإسقاط حد السرقة] وكذلك الحيلة على إسقاط حد السرقة يقول السارق: هذا مُلْكي، وهذه داري، وصاحبها عبدي، من الحيل التي هي إلى المضحكة والسخرية والاستهزاء بها أقرب منها إلى الشرع، ونحن نقول: معاذ اللَّه أن يجعل في فطر الناس وعقولهم قبول [مثل] (¬3) هذا الهَذَيان البارد المناقض للعقول والمصالح، فضلًا عن أن يشرع لهم قبوله، وكيف يُظَنّ باللَّه وشَرْعِه ظن السوء أنه شرع ردَّ الحق بالباطل الذي يقطع كلُّ أحدٍ ببطلانه، وبالبهتان الذي يجزم كلُّ حاضر (¬4) ببهتانه، ومتى كان البهتان والوقاحة والمجاهرة بالزور والكذب مقبولًا في دين من الأديان أو شريعة من الشرائع أو سياسة أحد من الناس؟ ومن له مسكة من عقل وإن بُلي بالسرقة فإنه لا يرضى لنفسه بدعوى هذا البهت والزور، وياللَّه و [يا] (¬5) للعقول! أيعجز سارقٌ قط عن التكلم بهذا البهتان ويتخلَّص من قطع اليد؟ فما معنى شرع قطع يد السارق ثم إسقاطه بهذا الزور والبهتان؟! [إبطال حيلة إسقاط اليمين عن الغاصب] وكذلك إذا غَصَبَ شيئًا فادعاه المغصوب منه، فأنكر، فطلب تحليفه. قالوا: فالحيلة في إسقاط اليمين عنه أن يُقِرَّ به لولده الصغير فيسقط عنه اليمين ويفوز بالمغصوب، وهذه حيلة باطلة في الشرع كما هي محرمة في الدين، بل المُقَر له إن كان كبيرًا صار هو الخصم في ذلك، وتوجهت عليه اليمين، وإن ¬
[إبطال حيلة لإسقاط القصاص]
كان صغيرًا توجَّهَت اليمين على المُدَّعى عليه فإن نكلَ قُضي به للمدَّعِي، وغرم قيمته لمن أقر له به؛ لأنه بنكوله قد فوَّته عليه. [إبطال حيلة لإسقاط القصاص] وكذلك إذا جرح رجلًا، فخشيَ أن يموت من الجرح، فدفع إليه دواء مسمومًا فقتله. قال أرباب الحيل: يسقط عنه القصاصُ، وهذا خطأ عظيم، بل يجب عليه القصاصُ بقتله بالسُّم، كما يجب عليه بقتله بالسيف، ولو أسقط الشارعُ القتلَ عمن قَتَل بالسم لما عجز قاتل عن قتل من يريد قتله به آمنًا؛ إذ قد علم أنه لا يجبُ عليه القَوَد، وفي هذا من فساد العالم ما لا تأتي به شريعة. [إبطال حيلة لإخراج الزوجة من الميراث] وكذلك وإذا أراد إخراج زوجته من الميراث في مرضه، وخاف أن الحاكم يُورِّث المبتوتة، قالوا: فالحيلة أن يقر أنه كانْ طلَّقها (¬1) ثلاثًا، وهذه حيلة مُحَرمة باطلة لا يحل تعليمها، ويفسق من علَّمها المريض، ويستحق عقوبة اللَّه ومع ذلك فلا تنفذ، فإنه كما هو متَّهم بطلاقها فهو متهم بالإقرار بتقدّم الطلاق على المرض، وإذا كان الطلاق لا يمنع الميراث بالتهمة (¬2) فالإقرار لا يمنعه للتهمة، ولا فرق بينهما؛ فالحيلة باطلة محرَّمة. [إبطال حيلة لإسقاط الزكاة] وكذلك إذا كان في يده نصاب فباعه أو وهبه قبل الحَوْلِ، ثم استردَّه، قال أرباب الحيل: تسقط عنه الزكاة، بل لو ادّعى ذلك لم يأخذ العامل زكاته، وهذه حيلة محرمة باطلة، ولا يُسْقِط ذلك عنه فَرْضَ اللَّه الذي فرضه وأوعده (¬3) بالعقوبة الشديدة مَنْ ضيَّعه وأهْمَلَه، فلو جاز إبطاله بالحيلة التي هي مكر وخداع لم يكن في إيجابه والوعيد على تركه فائدة. وقد استقرت سنة اللَّه في خلقه شرعًا وقدرًا على معاقبة العبد بنقيض قصده، ¬
[إبطال حيلة لإسقاط الكفارة]
كما حَرَم القاتلُ الميراثَ، وورَّث المطلقة في مرض الموت، وكذلك الفارُّ من الزكاة لا يسقطها عنه فِرَاره ولا يُعَان على قصده الباطل فيتم مقصوده ويسقط مقصود الرب تَعَالى، وكذلك عامة الحيل إنما يُساعدُ فيها المتحيَّل على بلوغ غرضه ويبطل غرض الشارع (¬1). [إبطال حيلة لإسقاط الكفارة] وكذلك المُجَامع في نهار رمضان إذا تغدَّى أو شرب الخمر أولًا ثم جامع، قالوا: لا تجب عليه الكفارة، وهذا ليس بصحيح؛ فإن إضمامه إلى إثم الجماع إثمَ الأكل والشرب لا يناسب التخفيف عنه، بل يناسب تغليظ الكفارة عليه، ولو كان هذا يسقط الكفارة لم تجب كفارة على واطئ اهتدى لجرعة ماء أو ابتلاع لُبَابة أو أكل زبيبة، فسبحان اللَّه! هل أوجب الشارع الكفارة لكون الوطء لم يتقدمه مُفطِر قبله أو للجناية على زمن الصوم الذي لم يجعله اللَّه محلًا للوطء؟ أفَترى بالأكل والشرب قبله صار الزمان محلًّا للوطء فانقلبت (¬2) كراهة الشارع له محبة ومَنْعُه إذنًا؟ هذا من المحال، وأفسَدُ من هذا قولهم: إن الحيلة في إسقاط الكفارة أن ينوي قبل الجماع قَطْعَ الصوم، فإذا أتى بهذه النية فليجامع آمنًا من وجوب الكفارة، ولازم [على] (¬3) هذا القولِ الباطل أنه لا تجب كفارة على مُجَامع أبدًا، وإبطال هذه الشريعة رأسًا؛ فإن المجامع لا بد أن يعزم على الجماع قبل فعله، وإذا عزم على الجماع فقد تضمنت نيتُه قطعَ الصوم فأفطر قبل الفعل بالنية الجازمة للإفطار فصادفه الجماع وهو مفطر بنيّة الإفطار السابقة على الفعل، فلم يفطر به، فلا تجب الكفارة (¬4)، فتأمل كيف تتضمن الحيل المحرمة مناقضة الدين وإبطال الشرائع (¬5)؟ [إبطال حيلة لإسقاط وجوب قضاء الحج] وكذلك قالوا: لو أن مُحْرمًا خاف الفوت وخشي القضاء من قابل فالحيلة في ¬
[إبطال حيلة لإسقاط حق صاحب الحق]
إسقاط القضاء أن يكفر باللَّه ورسوله في حال (¬1) إحرامه فيبطل إحرامه، فإذا عاد إلى الإسلام لم يلزمه القضاء من قابل، بناءً على أن المرتد كالكافر الأصلي، فقد أسلم إسلامًا مستأنفًا لا يجب عليه فيه قضاء ما مضى، ومن له مسكة من علم ودين يعلم أن هذه الحيلة مناقضة لدين الإسلام أشد مناقضة، فهي (¬2) في شق والإسلام في شق. [إبطال حيلة لإسقاط حق صاحب الحق] وكذلك لو وكَّلَ رجلًا في استيفاء حقه فرفعه إلى الحاكم فأراد أن يحلّفه بالطلاق أنه لا حقَّ لوكيله قِبَله، فالحيلة في حَلْفه صادقًا أن يُحضر الموكل إلى منزله ويدفع إليه حقه ثم يغلق عليه الباب ويمضي مع الوكيل، فإذا حلف أنه لا حق لوكيله قبله حَلَفَ صادقًا، فإذا رجع إلى البيت فشأنه وشأن صاحب الحق. وهذه شرٌّ من حيلة اليهود أصحاب الحيتان، وهذه وأمثالها إنما هي من حيل اللصوص وقطاع الطريق، فما لدين اللَّه ورسوله وإدخالها فيه؟ ولا يجدي عليه هذا الفعل في بره باليمين شيئًا، بل هو حانث كل الحنث؛ إذ لم يتمكن صاحب الحق من الظفر بحقه فهو في ذمة الحالف كما هو، وإنما يبرأ منه إذا تمكَّن صاحبه من قبضه، وعدَّ نفسه مستوفيًا لحقه (¬3). [إبطال حيلة لإسقاط زكاة عروض التجارة] وكذلك لو كان له عروض (¬4) للتجارة فأراد أن يُسْقِطَ زكاتها، قالوا: فالحيلة ¬
[إبطال حيلة أخرى لإبطال الزكاة]
أن ينوي بها القُنْيَة (1) في آخر الحول يومًا أو أقل، ثم ينقض هذه النية ويعيدها للتجارة، فيستأنف بها حولًا، ثم يفعل هكذا في آخر كل حول، فلا تجب عليه زكاتها أبدًا. فياللَّه العجب! أيروج هذا الخداع والمكر والتلبيس على أحكم الحاكمين الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19)} [غافر: 19]؟ ثم إن هذه الحيلة كما هي مخادعة للَّه، ومكر بدين الإسلام، فهي باطلة في نفسها، فإنها إنما تصير للقُنْية (¬1) إذا لم يكن من نيته إعادتها للتجارة، فأما وهو يعلم أنه لا يقتنيها البتة ولا له حاجة باقتنائها، وإنما أعَدَّها للتجارة، فكيف تتصور منه النية الجازمة للقنية (¬2) وهو يعلم قطعًا أنه لا يقتنيها ولا يريد اقتناءَها، وإنما هو مجرد حديث [النفس أو] (¬3) خاطر أجراه على قلبه بمنزلة من يقول (¬4) بلسانه: "أعددتها للقنية" وليس ذلك في قلبه؟ أفلا يستحيي من اللَّه مَنْ يسقط فرائضه بهذا الهوس وحديث النفس؟ [إبطال حيلة أخرى لإبطال الزكاة] وأعجب من هذا أنه لو كان عنده عَيْنٌ من الذهب والفضة (¬5) فأراد إسقاط زكاتها في جميع عمره، فالحيلة أن يدفعها إلى محتال مثله أو غيره في آخر الحول ويأخذ منه نظيرها فيستأنف له الحول، [ثم (في) آخره] (¬6) يعود فيستبدل بها مثلها، فإذا هو فعل [مثل] (¬7) ذلك لم تجب عليه زكاته ما عاش، وأعظم من هذه البلية إضافة هذا المكر والخداع إلى الرسول، وأن هذا من الدين الذي جاء به. ومثل هذا وأمثاله مَنَع كثيرًا من أهل الكتاب من الدخول في الإسلام، وقالوا: كيف يأتي رسول بمثل هذه الحيل؟ وأساءوا ظنهم به وبدينه، وتواصوا بالتمسك بما هم عليه، وظنوا أن هذا هو الشرع الذي جاء به، وقالوا: كيف تأتي بهذا شريعة أو تقوم به مصلحة أو يكون من عند اللَّه؟ ولو أن ملكًا من الملوك ساس رعيته بهذه السياسة لقدح ذلك في ملكه، قالوا: وكيف يشرعُ الحكيمُ الشيءَ ¬
[إبطال حيلة لإبطال الشهادة]
لما في شرعه من المصلحة ويحرِّم (¬1) لما في فعله من المفسدة ثم يبيح [إبطال] (¬2) ذلك بأدنى حيلة تكون؟ وترى الواحد منهم إذا ناظره المسلم في صحة دين الإسلام إنما يحتج عليه بهذه الحيل، كما هو في كتبهم، وكما نسمعه من لفظهم عند المناظرة، فاللَّه المستعان. وكذلك قالوا: لو كان له نصاب من السائمة فأراد إسقاط زكاتها فالحيلة في ذلك أن يعلفها يومًا واحدًا ثم تعود إلى السَّوْم، وكذلك يفعل في كل حول، وهذه حيلة باطلة لا تسقط عنه وجوب الزكاة، بل وكل حيلة (¬3) يتحيَّل بها على إسقاط فرض من فرائض اللَّه أو حق من حقوق عباده لا يزيد ذلك الفرض إلا تأكيدًا وذلك الحق إلا إثباتًا. [إبطال حيلة لإبطال الشهادة] وكذلك قالوا: إذا علم أن شاهدين يشهدان عليه فأراد [أن] (2) يبطل شهادتهما فليخاصمهما قبل الرفع إلى الحاكم، وهذه الحيلة حسنة إذا كانا يشهدان عليه بالباطل، فإذا علم أنهما يشهدان بحق لم تحل له مخاصمتهما (¬4)، ولا تُسقط هذه المخاصمة شهادتهما. [إبطال حيلة لضمان البساتين] وكذلك قالوا: لا يجوز ضمان البساتين، والحيلة على ذلك أن يؤجِّره الأرض ويساقيه على الثمر من كل ألف جزءٍ على جزء، وهذه الحيلة لا تتم إذا كان البستان وَقْفًا وهو ناظِرُه أو كان ليتيم، فإن هذه المحاباة في المساقاة تقدح في نَظَره ووصيّته. فإن (¬5) قيل: إنها تُغتفر لأجل العقد الآخر وما فيه من محاباة (¬6) المستأجر له، فهذا لا يجوز له أن يحابي في المساقاة لما حصل للوقف واليتيم من محاباة أخرى، وهو نظير أن يبيع له سلعة بربح ثم يشتري له سلعة بخسارة توازن ذلك الربح، هذا إذا لم يُبْنَ (¬7) أحد العقدين على الآخر، فإن بُني عليه كانا عقدين في ¬
عقد، وكانا بمنزلة (سَلَف وبيع، وشَرْطين في بيع)، وإن شرط أحد العقدين في الآخر فَسَدا، مع (¬1) أن هذه الحيلة لا تتم إلا على أصل مَنْ لم ير جواز المساقاة أو مَنْ خصَّها بالتحيّل (¬2) وحده، ثم فيها مفسدة أخرى، وهي أن المساقاة عقد جائز، فمتى أراد أحدهما فَسْخَها فَسَخها وتضرر (¬3) الآخر، ومفسدة ثانية، وهي أنه يجب عليه تسليم هذا الجزء من ألف جزء من جميع ثمرة البستان من كل نوع من أنواعه، وقد يتعذَّر عليه ذلك أو يتعسَّر، إما بأن يأكل الثمرة أو يهديها كلها أو يبيعها على أصولها، فلا يمكنه تسليم ذلك الجزء، وهذا (¬4) يقع سواء، ثم قد يكون ذلك الجزء من الألف يسيرًا جدًا، فلا يطالب به عادة، فيبقى في ذمته لليتيم وجهة (¬5) الوقف، إلى غير ذلك من المفاسد التي في هذه الحيلة، وأصحابُ رسولُ اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم كانوا أفقَهَ من ذلك، وأعْمَقَ علمًا، وأقل تكلفًا، وأبَرَّ قلوبًا، فكانوا يرون ضمان الحدائق بدون هذه الحيلة، كما فعله عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- بحديقة أسيد بن حضير (¬6)، ووافقه عليه جميع الصحابة، ¬
فصل [الحيلة السريجية لعدم وقوع الطلاق أصلا]
فلم ينكره منهم رجل واحد، وضمان البساتين كما هو إجماع الصحابة فهو مُقتَضى القياس الصحيح، كما تضمن الأرض لمغلّ الزرع فكذلك تضمن الشجر لمغل الثمر، ولا فرق بينهما البتة؛ إذ الأصل هنا كالأرض (¬1) هناك، والمغل يحصل بخدمة المستأجر والقيام على الشجر كما يحصل بخدمته والقيام على الأرض، ولو استأجر أرضًا ليحرثها ويسقيها ويستغل ما ينبته اللَّه تعالى فيها من غير بَذر (¬2) منه كان بمنزلة استئجار الشجر من كل وجه، لا فرق بينهما البتة، فهذا أفقه من هذه الحيلة، وأبعد من (¬3) الفساد، وأصلح للناس، وأوفق للقياس، وهو اختيار أبي الوفاء ابن عقيل وشيخ الإسلام ابن تيمية -رضي اللَّه عنهما-، وهو الصواب (¬4). فصل [الحيلة السريجية لعدم وقوع الطلاق أصلًا] ومن هذا الباب الحيلة السُّرَيْجية (¬5) التي حدثت في الإسلام بعد المئة الثالثة، وهي تمنع الرجل من القدرة على الطلاق ألبتَّة، بل تسد عليه [باب] (¬6) الطلاق بكل وجه، فلا يبقى له سبيل إلى التخلص منها، ولا يمكنه مخالعتها عند مَنْ يجعل الخلع طلاقًا (¬7)، وهي نظير سد الإنسان على نفسه باب النكاح بقوله: كل امرأة أتزوجها فهي طالق، فهو لو صح تعليقه لم يمكنهُ في الإسلام أن يتزوج امرأة ما عاش، وذلك لو صح شرعه لم يمكنه أن يطلق امرأة أبدًا. وصورة هذه الحيلة أن يقول: كما طلقتك -أو كما وقع عليك طلاقي- فأنت طالق قبله ثلاثًا، قالوا: فلا يتصور وقوع الطلاق بعد ذلك؛ إذ لو وقع لزم ¬
فيه وقوع ما علَّق به وهو الثلاث، وإذا وقعت الثلاث امتنع وقوع هذا المنجَّز، فوقوعه يُفضي إلى عدم وقوعه، وما أفضى وجودُه إلى عدم وجوده لم يوجد، هذا اختيار أبي العباس بن سُريج، ووافقه عليه جماعة من أصحاب الشافعي (¬1)، وأبى ذلك جمهور الفقهاء من المالكية (¬2) والحنفية (¬3) والحنبلية (¬4) وكثير من الشافعية (¬5)، ثم اختلفوا في وجه إبطال هذا التعليق؛ فقال الأكثرون: هذا التعليق لغوٌ وباطلٌ من القول؛ فإنه يتضمن المحال، وهو وقوع طلقة مسبوقة بثلاث، وهذا محال، فما تضمنه فهو باطلٌ من القول، فهو بمنزلة قوله: إذا وقع عليك طلاقي لم يقع، وإذا طلقتك لم يقع عليك طلاقي، ونحو هذا من الكلام الباطل، بل قوله: "وإذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" أدْخَلُ في الإحالة والتناقض؛ فإنه في الكلام الأول جَعَلَ وقوع الطلاق [مانعًا من وقوعه] (¬6) مع قيام الطلاق، وهنا جعل وقوعه مانعًا من وقوعه مع زيادة محال عقلًا وعادةً، فالمتكلم به يتكلم بالمحال قاصدًا للمحال، فوجودُ هذا التعليق وعدمُه سواء، فإذا طلقها بعد ذلك نَفذَ طلاقه (¬7) ولم يمنع منه مانعٌ، وهذا اختيار [أبي الوفاء] (¬8) ابن عقيل وغيره من أصحاب أحمد وأبي العباس بن القاص (¬9) من أصحاب الشافعي. وقالت فرقة أخرى: بل المحال إنما جاء من تعليق الثلاث على المنجَّز، وهذا المحال (¬10) أن يقع المنجز ويقع جميع ما علق به؛ فالصواب أن يقع المنجَّز ويقع [جميع ما علق به] (¬11) أو تمام الثلاث من المعلق، وهذا اختيار القاضي ¬
[مسائل عديدة من الدور الحكمي]
وأبي بكر وبعض الشافعية [ومذهب أبي حنيفة] (¬1). والذين منعوا وقوع الطلاق جملة قالوا: هو ظاهر كلام الشافعي، فهذا تلخيص الأقوال في هذا التعليق. قال المصححون للتعليق (¬2): صَدَرَ من هذا الزوج طلاقان منجَّز ومعلّق، والمحل قابلٌ، وهو ممن يملك التنجيز والتعليق، والجمعُ بينهما ممتنعٌ، ولا مزية لأحدهما على الآخر، فتمانعا وتساقطا، وبقيت الزوجية بحالها، وصار كما لو تزوج أختين في عقد واحد فإنه يبطل نكاحهما لهذا الدليل بعينه. وكذلك إذا أَعتقَ أمَتَه في مرض موته وزوَّجها عبده (¬3) ولم يدخل بها وقيمتها مئة ومهرها مئة وباقي التركة مئة لم يثبت لها الخيار؛ لأن إثبات الخيار يقتضي سقوط المهر، وسقوط المهر يقتضي نفي الخيار، والجمع بينهما لا يمكن، وليس أحدهما أولى من الآخر؛ لأن طريق ثبوتهما الشَّرعُ، فأبقينا النكاح ورفضنا الخيار ولم يسقط المهر، وكل ما أفضى وقوعُه إلى عدم وقوعه فهذه سبيلُه. ومثاله في الحس إذا تشاحَّ اثنان في دخول دار، وهما سواء في القوة، وليس لأحدهما على الآخر مزية توجب تقديمه؛ فإنهما يتمانعان فلا يدخل واحدٌ منهما، وهذا مشتق من دليل التمانع على التوحيد، وهو [أنه] (¬4) يستحيل أن يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل؛ فإن استقلالَ كل منهما ينفي استقلال الآخر، فاستقلالهما يمنع استقلالهما، ووِزَانُه (¬5) في هذه المسألة أن وقوعهما يمنع وقوعهما. [مسائل عديدة من الدور الحكمي] قالوا: وغاية ما في هذا الباب استلزام هذا التعليق لدَوْرٍ حكمي يمنع وقوع المعلَّق والمنجَّز، ونحن نريكم من مسائل الدور التي يُفْضي وقوعها إلى عدم وقوعها كثيرًا، منها ما ذكرناه (¬6)، ومنها ما لو وجد من أحدهما ريح وشكَّ كل واحد منهما هل هي منه أو من صاحبه، لم يجز اقتداء أحدهما بالآخر؛ لأن ¬
اقتداءه به يبطل اقتداءه، وكذلك لو كان معهما (¬1) إناءان أحدهما نجس [فاجتهد] (¬2) فأدَّى اجتهاد كل منهما إلى إناء لم تجز القدوة بينهما؛ لأنها تُفْضي إلى إبطال القُدوَة. وكذلك إذا اجتهدا في الثَّوْبين والمَكَانَين. ومنها لو زوج عبدَه حرة وضمن السيد مهرها ثم باعها زوجَها (¬3) قبل الدخول بها (¬4) فالبيع باطل؛ لأن صحته تؤدي إلى فساده، إذ لو صح لبطل النكاح؛ لأنها إذا ملكت زوجها بطل نكاحها، وإذا بطل سقط مهرها؛ لأن الفُرقة من جهتها، وإذا سقط مهرُها وهو الثمن بطل البيع (¬5) والعتق البتة، بل إما أن يصحّ البيع ولا يقع العتق إذ لو وقع العتق لبطل البيع، وإذا بطل بطل العتق؛ فوقوعه يؤدي إلى عدم وقوعه، وهذا قول المزني، وقال ابن سُرَيج: لا يصح بيعه؛ لأنه لو صح لوقع العتق قبله، ووقوع العتق قبله يمنع صحة البيع، فصحة البيع تمنع صِحَّته. وكذلك لو قال له: "إذا رهنتك فأنت حر قبله بساعة". وكذلك لو قال لعبيده ولا مال له سواهم وقد أفلس: "إنْ حَجَر الحاكم عليّ فأنتم أحرار قبل الحجر بيوم" لم يصح الحَجْر؛ لأن صحته تمنع صحته. ومثله لو قال لعبده: "متى صالحت عليك فأنت حر قبل الصلح"، ومثله لو قال لامرأته: "إن صالحت فلانًا وأنتِ امرأتي فأنتِ طالقٌ قبله بساعة" لم يصح الصلح؛ لأن صحته تمنع صحته. ومثله لو قال لعبده: "متى ضمنتُ عنك صداقَ امرأتك فأنت حرٌّ قبله إن كنت في حال الضمان مملوكي" ثمن ضمن عنه الصداق لم يصح؛ لأنه لو صح لعتق قبله، وإذا عتق [قبله] (¬6) لم يصادت الضمان شرطه، وهو كونه مملوكه وقت الضمان، وكذلك لا يقع العتق؛ لأن وقوعه يؤدي إلى أن لا يصح الضمان عنه، وإذا لم يصح الضمان [عنه] (6) لم يصح العتق، فكل من الضمان والعتق تؤدي صحتُه إلى بطلانه (¬7)؛ فلا يصح واحدٌ منهما. ¬
[مسائل يفضي ثبوتها إلى إبطالها]
ومثله [ما] (¬1) لو قال: "إن شاركني في هذا العبد شريك فهو حرٌّ قبله بساعة" لم تصح الشركة فيه بعد ذلك؛ لأنها لو صحت لعتق العبد وبطلت الشركة، فصحتها تُفْضي إلى بطلانها (¬2). ومثله [ما] (¬3) لو قال: "إن وكَّلتُ إنسانًا ببيع هذا العبد أو رَهْنِه أو هبته وكالةً صحيحة فهو قَبْلها بساعة حر" لم تصح الوكالة؛ لأن صحتها تؤدي إلى بطلانها. ومثله [ما] (3) لو قال لامرأته: "إن وكَّلت وكيلًا في طلاقك فأنت طالق قبله أو معه ثلاثًا" لم يصح توكيله في طلاقها؛ إذ لو صحت الوكالة [لطلقت في حال الوكالة أو قبلها، فتبطل الوكالة،] (¬4) فصحتُها تؤدي إلى بطلانها. وكذلك لو خلَّف الميت ابنًا، فأقَّر بابن آخر للميت، فقال المُقَر به: "أنا ابنه، وأما أنت فلستَ بابنه" لم يقبل إنكار المقر به؛ لأن قبول قوله يبطل قوله، ومن هاهنا قال الشافعي: لو ترك أخًا لأب وأم فأقرَّ الأخ بابن للميت ثبت نسبه ولم يرث؛ لأنه لو ورث لخرج المُقِر عن أن يكون وارثًا، وإذا لم يكن وارثًا لم يقبل إقراره بوارث آخر، فتوريث الابن يُفْضي إلى عدم توريثه، ونازعه الجمهور في ذلك، وقالوا: إذا ثبت نسبه ترتيب عليه أحكام النسب. ومنها الميراث، ولا يُفْضي توريثه إلى عدم توريثه؛ لأنه بمجرد الإقرار يثبت النسب ويترتب عليه الميراث والأخ كان وارثًا في الظاهر، فحين أقر كان هو كل الورثة، وإنما خرج عن الميراث بعد الإقرار وثبوت النسب؛ فلم يكن توريث الابن مبطلًا لكون [ابن] (¬5) المقر وارثًا حين الإقرار، وإن بطل كونه وارثًا بعد الإقرار وثبوت النسب، وأيضًا فالميراث تابع لثبوت النسب، والتابع أضعف من المتبوع، فإذا ثبت المتبوع الأقوى فالتابع أولى، ألا ترى أن النِّساء تقبل شهادتهن منفردات في الولادة ثم في النسب (¬6)، ونظائر ذلك كثيرة. [مسائل يفضي ثبوتها إلى إبطالها] ومن المسائل التي يفضي ثبوتها إلى إبطالها لو أَعْتقت المرأة في مَرَضها عبدًا فتزوَّجها وقيمته تخرج من الثلث صح النكاح ولا ميراث له؛ إذ لو ورثها ¬
فصل [مسائل يؤدي ثبوتها إلى نفيها]
لبطل تبرعها له بالعتق؛ لأنه يكون تبرعًا لوارث، وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل بطل الميراث، وكان توريثه يؤدي إلى إبطال توريثه، وهذا [على] (¬1) أصل الشافعي، وأما على قول الجمهور فلا يبطل ميراثه ولا عتقه ولا نكاحه؛ لأنه حين العتق لم يكن وارثًا، فالتبرع نَزَل في غير وارث، والعتق المنجَّز يتنجز (¬2) من حينه، ثم صار وارثًا بعد ثبوت عتقه، وذلك لا يضره شيئًا. ومن ذلك لو أوصى له بابنه، فمات قبل قبول الوصية، وخَلَّف إخوة لأبيه، فقبلوا الوصية، عَتَقَ على الموصى له ولم يصح ميراثه منه؛ إذ لو ورث لأسقط ميراثَ الإخوة، وإذا سقط ميراثُهم بطل قبولهم للوصية، فيبطل عتقه؛ لأنه مرتب على القبول، وكان توريثه مُفْضيًا إلى عدم توريثه. والصواب قول الجمهور أنه يرث، ولا دَور؛ لأن العتق حصل حال القبول وهم وَرَثة، ثم ترتيب على العتق تابعه وهو الميراث، وذلك بعد القبول، فلم يكن الميراث مع القبول ليلزم (¬3) الدور، وإنما ترتيب على القبول العتقُ وعلى العتق الميراثُ؛ فهو مترتب عليه بدرجتين. ومن المسائل التي يُفْضي ثبوتها إلى بطلانها لو زوج عبده امرأةً ولجعل رقبته صداقها لم يصح؛ إذ لو صح لملكته وانفسخ النكاح. ومنها لو قال لأمته: "متى أكرهتك فأنت حرة حال النكاح أو قبله" فأكرهها على النكاح لم يصح؛ إذ لو صح النكاح عَتَقَت، ولو عتقت بطل إكراهها، فيبطل نكاحها. ومنها لو قال لامرأته قبل الدخول: "متى استقر مهرك عليّ فأنت طالق قبله ثلاثًا" ثم وطئها لم يستقر مهرها بالوطء؛ لأنه لو استقرّ لبطل النكاح قبله، ولو بطل النكاح قبله لكان المستقر نصفَ المهر لا جميعه؛ فاستقرارُه يؤدي إلى بطلان استقراره، هذا على قول ابن سريج، وأما على قول المُزَني فإنه يستقر المهر بالوطء، ولا يقع الطلاق؛ لأنه مُعَلَّق على صفة تقتضي حكمًا مستحيلًا. فصل [مسائل يؤدي ثبوتها إلى نفيها] ومن المسائل التي يؤدي ثبوتُها إلى نفيها لو قال لامرأته: "إن لم أطلّقك ¬
اليوم فأنت طالق اليوم" ومضى اليوم [ولم يطلقها] (¬1) لم تطلق؛ إذ لو طلقت بمضي اليوم لكان طلاقها مستندًا إلى وجود الصفة وهي عدم طلاقها اليوم، وإذا مضى اليوم ولم يطلقها لم يقع الطلاق المعلَّق باليوم. ومنها: [ما] (¬2) لو تزوج أمَةً [ثم قال لها] (¬3): "إن مات مولاك وورِثْتُك فأنت طالق" أو قال: "إن ملكتك فأنت طالق" ثم ورثها أو ملكها بغير إرث لا يقع الطلاق؛ إذ لو وقع لم تكن الزوجة في حال وقوعه ملكًا له؛ لاستحالة وقوع الطلاق في ملكه، فكان وقوعه مُفْضيًا إلى عدم وقوعه. ومنها: [ما] (¬4) لو كان العبد بين مُوسِرَين فقال كل منهما لصاحبه: "متى أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل ذلك" فأعتق أحدهما نصيبه لم ينفذ عتقه؛ لأنه لو نفذ لوجب عتق نصيب صاحبه قبله، وذلك يوجب السّرَاية إلى نصيبه، فلا يصادف إعتاقه محلًا، فنفوذ عتقه يؤدي إلى عدم نفوذه. والصواب في هذه المسألة بطلان هذا التعليق لتضمنه المحال، وأيهما عتق نصيبه صح وسَرَى إلى نصيب شريكه. ومنها لو قال لعبده: "إن دَبَّرتك فأنت حر قبله" ثم دَبَّره صح التدبير ولم يقع العتق؛ لأن وقوعه يمنع صحة التدبير، وعدم صحته يمنع وقوع العتق، وكانت صحته تُفْضي إلى بطلانه، هذا على قول المزني، وعلى قول ابن سريج لا يصح التدبير؛ لأنه لو صح لوقع العتق قبله، وذلك يمنع التدبير، وكان وقوعه يمنع وقوعه. ونظيره أن يقول لمدبَّره: "متى أبطلت تدبيرك فأنت حرٌّ قبله" ثم أبطله بطل ولم يقع العتق. على قول المزني؛ إذ لو وقع لم يصادف إبطال التدبير محلًا، وعلى قول ابن سريج لا يصح إبطال التدبير؛ لأنه لو صَحَّ إبطاله لوقع العتق، ولو وقع العتق لم يصح إبطال التدبير. ومثله لو قال لمدبره: "إن بعتك فأنت حر قبله" ومثله لو قال لعبده: "إن كاتبتك غدًا فأنت اليوم حر". ثم كاتبه من الغد. ومثله لو قال لمكاتبه: "إن عجزت عن (¬5) كتابتك (¬6) فأنت [حر] (¬7) قبله". ¬
ومثله لو قال: "متى زنيتَ أو سرقتَ أو وجبَ عليك حدٌّ وأنت مملوك فأنت حرٌّ قبله" ثم وجد الوصف وجب الحد ولم يقع العتق المعلَّق به؛ إذ لو وقع لم توجد الصفة، فلم يصح، وكان مستلزمًا لعدم وقوعه. ومثله أو يقول له: "متى جنيتَ جنايةً وأنت مملوكي فأنت حرٌّ قبله" ثم جنى لم يعتق. ومثله لو قال (¬1): "متى بعتك وتم البيع فأنت حر قبله" ثم باعه، فعلى قول المزني: يصح البيع ولا يقع العتق؛ لأن وقوعه يستلزم عدم (¬2) وقوعه، وعلى قول ابن سريج لا يصح البيع؛ لأنه يعتق قبله، وعتقه [له] (¬3) يمنع صحة بيعه. ومثله لو قال لأمته: "إن صلَّيتِ ركعتين مكشوفةَ الرأس فأنت حرة قبل ذلك" فصلت مكشوفة الرأس، فعلى قول المزني تصح الصلاة دون العتق، وعلى قول ابن سريج لا تصح الصلاة لأنها لو صحت عتقت قبل ذلك، وإذا عتقت بطلت صلاتها، وكانت صحة صلاتها مستلزمة لبطلانها. ومنها لو زوَّج أمته بحُرٍّ، وادعى عليه مَهْرَها قبل الدخول، وادعى الزوج الإعسار، وادعى سيدُ الأمة يَسارَه قبل نكاحه (¬4) الأمة بميراثٍ أو غيره، لم تُسمع دعواه؛ إذ لو ثبتت دعواه لبطل النكاح؛ لأنه لا يصح نكاح الأمة مع وجود الطَّول، وإذا بطل النكاح بطل دعوى المهر. وكذلك لو تزوج بأمَةٍ فادعت أن الزوج عِنين لم تُسمع دعواها؛ إذ لو ثبتت دعواها لزال خوف العنت الذي هو شرط في نكاح الأمة، وذلك يبطل النكاح، وبطلانه يوجب بطلان الدعوى منها، فلما كانت صحة دعواها تؤدي إلى إفسادها أفسدناها. وكذلك المرأة إذا اذعَتْ على سيِّد زوجها أنه باعه إياها بمهرها (¬5) قبل الدخول لم تصح دعواها؛ لأنها لو صحَّت لسقط نصف المهر وبطل البيع في العبد. وكذلك لو شهد شاهدان على عتق عبد فحُكِمَ بعتقه، ثم ادعى العبدُ بعد ¬
[الرد على المسألة السريجية]
الحكم بحرِّيته على أحد الشاهدين أنه مملوكه؛ لم تسمع دعواه؛ لأن تحقيقها يؤدي إلى بطلان الشهادة على العتق، فتبطل دعوى ملكه للشاهد. وكذلك لو سُبِيَ مراهق من أهل الحرب ولم يُعلم بلوغه، فأنكر البلوغ، لم يُستحلف؛ لأن إحلافه يؤدي إلى إبطال استحلافه، فإنا لو حلَّفناه لحكمنا بصغره والحكم بالصغر يمنع الاستحلاف. ونظيره لو ادعى على مُرَاهق (¬1) ما يوجب القصاص أو قذفًا يوجب الحد أو مالًا من مبايعة أو ضمان أو غير ذلك، وادَّعى أنه بالغ، وأنه يلزمه الحكم بذلك فأنكر الغلام ذلك، فالقول قوله، ولا يمين عليه؛ إذ لو حلفناه لحكمنا بصغره، والحكم بالصغر يُسْقِطَ اليمين عنه، وإذا لم يكن هنا يمين لم يكن رد يمين؛ لأن رَدَّ اليمين إنما يكونَ عند نكول مَن هو من أهلها. وكذلك لو أعتق المريض جارية له قيمتها مئة، وتزوَّج بها في مرض موته، ومَهَرَهَا مئة وترك مئتي درهم، فالنكاح صحيحٌ، ولا مَهرَ لها، ولا ميراث، أما الميراث فلأنها لو ورثت لبطلت الوصية بعتقها؛ لأن العتق في المرض وصية، وفي بطلان الوصية بطلان الحرية، وفيها (¬2) بطلان الميراث. وأما سقوط المهر فلأنه لو ثبت لركب السيدَ دَيْنٌ، ولم تخرج قيمتها من الثلث، فيبطل عتقها كلها، فلم يكن للزوج أن ينكحها وبعضها رقيق؛ فيبطل المهر، فكان ثبوت المهر مؤديًا إلى بطلانه. فالحكم بإبطالها مستفاد من قوله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92] فعيَّر تعالى مَنْ نقض شيئًا بعد أن أثبته؛ فدل على أن كل ما كان إثباته مؤديًا إلى نفيه وإبطاله كان باطلًا، فهذا ما احتجَّ به السُّرَيْجِيُّونَ (¬3). [الرد على المسألة السريجية] قال الآخرون: لقد أطلتم الخَطْب في هذه المسألة، ولم تأتوا بطائل، وقلتم ولكن [كم] (¬4) تركتم مقالًا لقائل، وتأبى قواعد اللغة والشرع والعقل لهذه المسائل ¬
[مناقضة السريجية للعقل والشرع واللغة]
تصحيحًا، والميزان العادل لها عند الوزن ترجيحًا، وهيهات أن تكون شريعتنا في هذه المسألة مشابهة لشريعة أهل الكتاب؛ إذ يستحيل وقوعُ الطلاق وتُسَدُّ دونه الأبواب، وهل هذا إلا تغييرٌ لما عُلِمَ بالضرورة من الشريعة (¬1)، وإلزام لها بالأقوال الشنيعة؟ وهذا أشنع من سد باب النكاح بتصحيح تعليق [وقوع] (¬2) الطلاق لكل مَنْ تزوجها في مدة عمره (¬3)؛ فإنه وإن كان نظيره (¬4) سَدَّ باب الطلاق، لكن قد ذهب إليه بعض السلف، وأما هذه المسألة فمما حدث في الإسلام بعد انقراض الأعصار المفضلة. [مناقضة السريجية للعقل والشرع واللغة] ونحن نبين مناقضة هذه المسألة للشرع واللغة والعقل، ثم نجيب عن شبهكم شبهة شبهة. أما مناقضتها للشرع فإن اللَّه تعالى شرع للأزواج -إذا أرادوا استبدال زوج مكان زوج والتخلص (¬5) من المرأة- الطلاقَ- وجعله بحكمته ثلاثًا توسعة (¬6) على الزوج؛ إذ لعله يبدو له ويندم فيراجعها، وهذا من تمام حكمته ورأفته ورحمته بهذه الأمة، ولم يجعل أنكحتهم كأنكحة النصارى تكون المرأة غلًا في عُنُقِ الرجل (¬7) إلى الموت، ولا يخفى ما بين الشريعتين من التفاوت، وأن هذه المسألة منافية لإحداهما منافاة ظاهرة، ومشتقة من الأخرى اشتقاقًا ظاهرًا، ولكفي هذا الوجه وحده في إبطالها. [مناقضتها للغة] وأما مناقضتها للغة فإنها تضمنت كلامًا ينقض بعضه بعضًا، ومضمونه إذا وُجد الشيء لم يوجد، وإذا وجد الشيء اليوم فهو موجود قبل اليوم، وإذا فعلتُ الشيء اليوم فقد وقع مني قبل اليوم، ونحو هذا من الكلام المتناقض في نفسه الذي هو إلى المحال أقرب منه إلى الصحيح من المقال. ¬
[مناقضتها لقضايا العقول]
[مناقضتها لقضايا العقول] وأما مناقضتها لقضايا العقول فلأن الشرط يستحيل أن يتأخر وجوده عن وجود المشروط، ويتقدم المشروط عليه في الوجود، هذا مما لا يُعقل عند أحد من العقلاء؛ فإن رتبة الشرط التقدم أو المقارنة، والفقهاء وسائرُ العقلاء معهم مجمعون على ذلك؛ فلو صح تعليق المشروط بشرطٍ متأخر بعده لكان ذلك إخراجًا له عن كونه شرطًا أو جزء شرط أو علة أو سببًا؛ فإن الحكم لا يسبق شَرْطَه ولا سببه ولا علَّته؛ إذ في ذلك إخراج الشروط والأسباب والعلل عن حقائقها وأحكامها، ولو جاز تقديم الحكم على شرطه لجَازَ تقديم وقوع الطلاق على إيقاعه؛ فإن الإيقاعَ سبب، والأسباب تتقدم مسبباتها، كما أن الشروط رتبتها التقدم؛ فإذا جاز إخراج هذا عن رتبته جاز إخراج الآخر عن رتبته، فجوَّزوا حينئذٍ تقدمَ الطلاق على التطليق والعتق على الإعتاق والملك على البيع، وحِل المنكوحة على عقد النكاح. وهل هذا في الشرعيات إلا بمنزلة تقدم (¬1) الانكسار على الكَسْر والسيل على المطر والشبع على الأكل والولد على الوطء وأمثال ذلك؟ ولا سيما على أصل منْ يجعل هذه العلل والأسباب علاماتٍ محضةً، ولا تأثير لها، بل هي معرِّفات، والمعرِّف يجوز تأخيره عن المعرَّف (¬2). وبهذا يخرج الجواب عن قولكم: إن الشروط الشرعية مُعَرِّفات وأمارات وعلامات، والعلامة يجوز تأخرها؛ فإن هذا وهم وإيهام من وجهين: أحدهما: أن الفقهاء مجمعون على أن الشرائط الشرعية لا يجوز تأخرها عن المشروط، ولو تأخرت لم تكن شروطًا. [أنواع الشروط وأحكام أنواعها] الثاني: أن هذا شرط لغوي كقوله: "إن كلَّمتِ زيدًا فأنت طالق" ونحو ذلك، و"إن خرجت بغير إذني فأنت طالق" ونحو ذلك، والشروط اللغوية أسباب وعلل مقتضية لأحكامها اقتضاء المسببات لأسبابها، ألا ترى أن قوله: "إن دخلت الدار فأنت طالق" سبب ومسبب ومؤثر وأثر، ولهذا يقع جوابًا عن العلة، فإذا قال: "لم أطلقها؟ " قال: لوجود الشرط الذي علقت عليه الطلاق، فلولا أن وجوده مؤثر في الإيقاع لما صح هذا الجواب، ولهذا يصح أن يخرجه بصيغة ¬
القسم فيقول: الطلاق يلزمني لا تدخلين الدار؛ فيجعل إلزامه للطلاق في المستقبل مسببًا عن دخولها الدار بالقسم والشرط، وقد غلط في هذا طائفة من الناس حيث قَسَّموا الشرط إلى شرعي ولغوي وعقلي، ثم حكموا عليه بحكم شامل فقالوا: الشرط يجب تقديمه على المشروط ولا يلزم من وجوده وجود المشروط، ويلزم من انتفائه انتفاء المشروط كالطهارة للصلاة والحياة للعلم. ثم أوردوا على نفسهم (¬1) الشرطَ اللغوي؛ فإنه يلزم من وجوده وجود المشروط، ولا يلزم من انتفائه انتفاؤه؛ لجواز وقوعه بسبب آخر، ولم يجيبوا عن هذا الإيراد بطائل، والتحقيق أن الشروط اللغوية أسباب عقلية، والسبب إذا تم لزم من وجوده وجود مسببه، وإذا انتفى لم يلزم نفي المسبب مطلقًا؛ لجواز خلف سبب آخر، بل يلزم انتفاء السبب المعين عن هذا المسبب (¬2). وأما قولكم: "إنه صَدَرَ من هذا الزوج طلاقان مُنَجز ومُعَلق، والمحل قابل لهما" فجوابه بالمنع، فإن المحل ليس بقابل للمعلق؛ فإنه يتضمن المحال، والمحل لا يقبل المحال، نعم هو قابل للمنجز وحده، فلا مانع من وقوعه، وكيف تصح دعواكم أن المحلَّ قابل للمعلق، ومنازعكم إنما نازَعَكم فيه، وقال: ليس المحل بقابل للمعلق، فجعلتم نفس الدعوى مقدمة في الدليل. وقولكم: "إن الزوج ممن يملك التنجيز والتعليق" جوابه أنه إنما يملك (¬3) التعليق الممكن، فأما التعليق المستحيل فلم يملكه شرعًا ولا عرفًا ولا عادةً، وقولكم: "لا مزية لأحدهما على الآخر" باطلٌ، بل المزية كل المزية لأحدهما على الآخر؛ فإن المنجَّزَ له مزية الإمكان في نفسه، والمعلق له مزية الاستحالة والامتناع، فلم يتمانعا ولم يتساقطا، فلم يمنع من وقوع المنجز مانعٌ (¬4)، وقولكم: "إنه نظير ما لو تزوج أختين في عقد" جوابه أنه تنظير باطل؛ فإنه ليس نكاح إحداهما شرطًا في نكاح الأخرى، بخلاف مسألتنا، فإن المنجز شرط في وقوع المعلق، وذلك عين المحال. وقولكم: "إنه لا مزية لأحد الطلاقين على الآخر" باطل، [بل للمنجز مزية] (¬5) من عدة وجوه: ¬
أحدها: قول التنجيز على التعليق. الثاني: أن التنجيز لا خلاف في وقوع الطلاق به. وأما التعليق ففيه نزاع مشهور بين الفقهاء (¬1)، والموقِعُون لم يقيموا (¬2) على المانعين حجةً توجب المصير إليها مع تناقضهم فيما يَقْبل التعليق وما لا يقبله، فمنازعوهم يقولون: الطلاق لا يقبل التعليق كما قلتم أنتم في الإسقاط والوقف والنكاح والبيع، ولم يفرق هؤلاء بفرقِ صحيح، وليس الغرض ذكر تناقضهم، بل الغرض أن للمنجَّز مزية على المعلَّق. الثالث: أن المشروط هو المقصود لذاته والشرط تابع ووسيلة. الرابع: أن المنجز لا مانع من وقوعه لأهلية الفاعل وقبول المحل، والتعليق المحال لا يصلح أن يكون مانعًا من اقتضاءِ السببِ الصحيح أثره. الخامس: أن صحة التعليق فرع على ملك التنجيز، فإذا انتفى ملكه للمنجز في هذه المسألة انتفى صحة التعليق، فصحة التعليق تمنع من صحته، وهذه معارضة صحيحة في أصل المسألة فتأملها. السادس: أنه لو قال في مرضه: "إذا أعتقتُ سالمًا فغانمٌ حرٌّ" ثم أعتق سالمًا ولا يخرجان من الثلث قدم المُعْتَق (¬3) المنجَّز على المعلق لقوته؛ يوضحه: الوجه السابع: أنه لو قال لغيره: "ادخل الدار فإذا دخلت [فقد] (¬4) أخرجتك" وهو نظيره في القوة؛ فإذا دخل لم يمكنه إخراجه، وهذا المثال وزان ¬
فصل [عود إلى صور الدور التي يفضي ثبوتها إلى إبطالها]
مسألتنا، فإن المعلق هو الإخراج والمنجز هو الدخول. الثامن: أن المنجز في حيز الإمكان والمعلق قد قارنه ما جعله مستحيلًا. التاسع: أن وقوع المنجز يتوقف على أمر واحد وهو التكلم باللفظ [اختيارًا، ووقوع المعلق يتوقف على التكلم باللفظ،] (¬1) ووجودِ الشرط، وما توقف على شيء (¬2) واحد أقرب وجودًا مما توقف على أمرين. العاشر: أن وقوع المنجز موافق لتصرف الشارع وملك المالك، ووقوعُ المعلق بخلافه؛ لأن الزوج لم يملكه الشارع ذلك. فهذه عشرة أوجه تدل على مزية المنجز وتبطل قولكم إنه لا مزية له، واللَّه أعلم. فصل [عود إلى صور الدور التي يفضي ثبوتها إلى إبطالها] وأما سائر الصور التي ذكرتموها من صُوَر الدَّوْر التي يُفضِي ثبوتها إلى إبطالها فمنها ما هو ممنوع الحكم لا يسلّمه لكم منازعكم، وإنما هي مسائل مذهبية يحتج لها ولا يحتج بها، وهم يفكون الدور تارة بوقوع الحُكْمين معًا وعدم إبطال أحدهما للآخر ويجعلونهما معلولَيْ علة واحدة ولا دَوْر، وتارة يسبق (¬3) أحد الحكمين للآخر سبق السبب لمسببه ثم يترتب الآخر عليه، ومنها ما هو مسلم الحكم وثبوت الشيء فيه يقتضي إبطاله. ولكن هذا حجة لهم في إبطال هذا التعليق؛ فإنه لو صح لأفضى ثبوته إلى بُطْلانه، فإنه لو صح لزم منه وقوع طَلْقة مسبوقة بثلاث، وسَبْقها بثلاث يمنع وقوعها، فبطل (¬4) التعليق من أصله [للزوم المحال] (¬5)؛ فهذه الصور التي استشهدتم بها من أقوى حججهم [عليكم] (¬6) على بطلان التعليق. وأدلتكم في هذه المسألة نوعان: أدلة صحيحة وهي إنما تقتضي (¬7) بطلان التعليق. ¬
[أدلتهم التي تقتضي بطلان المنجز]
[أدلتهم التي تقتضي بطلان المنجز] وأما الأدلة التي تقتضي بطلان المنجز فليس منها دليل صحيح؛ فإنه طلاق صَدَر من أهله في محله؛ فوجب الحكم بوقوعه؛ أما أهلية المطلِّق فلأنَّه زوج مكلف مختار، وأما محلية المطلقة فلأنها زوجة والنكاحُ صحيحٌ فتدخل (¬1) في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وفي سائر نصوص الطلاق؛ إذ لو لم يلحقها (¬2) طلاقٌ لزم واحد من ثلاثة، وكلها منتفية: • إما عدم أهلية المطلِّق. • وإما عدم قبول المحلّ. • وإما قيامُ مانعٍ يمنع من نفوذ الطلاق، والمانعُ مفقودٌ؛ إذ ليس مع مدعي قيامه إلا التعليق المحال الباطل شرعًا وعقلًا، وذلك لا يصح أن يكون مانعًا. يوضِّحه: أن المانع من اقتضاء السبب لمسببه إنما هو وصف ثابت يعارض سببيته فيوقفها عن اقتضائها، فأما المستحيل فلا يصح أن يكون مانعًا معارضًا للوصف الثابت، وهذا في غاية الوضوح، وللَّه الحمد. فصل [رد السريجيين] قال السريجيون (¬3): لقد ارتقيتم مرتَقًى صعبًا، وأسأتم الظن بمن قال بهذه المسألة وهم أئمة علماء لا يُشَقّ غبارُهم، ولا تُغْمَز قناتُهم، كيف وقد أخذوها من نص الشافعي رحمه اللَّه تعالى، وبَنَوْها على أصوله، ونَظّرُوا لها النظائر، وأتوا لها بالشواهد؟ فنص الشافعي على أنه إذا قال: "أنت طالق قبل موتي بشهر" ثم مات لأكثر من شهر بعد هذا التعليق؛ وقع الطلاق قبل موته بشهر وهذا إيقاعُ طلاقٍ في زمن ماض سابق لوجود الشرط وهو موته، فإذا وجد الشرط تبيَّنا وقوع الطلاق قبله، وإيضاح ذلك بإخراج الكلام يخرج الشرط، كقوله: "إن مت -أو إذا متُّ- فأنت طالق قبل موتي بشهر" ونحن نلزمكم بهذه المسألة على هذا الأصل، فإنكم ¬
موافقون عليه، وكذا قوله قبل دخوله: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" فإنه يقع بها طلقتان وإحداهما وقعت في زمن ماض سابق على التطليق، وبهذا خرج الجواب عن قوله: "إن الوقوعَ كما لم يسبق الإيقاع فلا يسبق الطلاقُ التطليق فكذا لا يسبق شرطُه فإن الحكم لا يتقدم عليه، ويجوز تقدمُه على شرطه وأحد سببيه أو أسبابه" فإن الشرط مُعَرِّف محض، ولا يمتنع تقديم المعرف عليه، وأما تقديمه على أحد سببيه فكتقديم الكفارة على الحِنْث بعد اليمين، وتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب، وتقديم الكفارة على الجرح قبل الزهوق، ونظائره. وأما قولكم: "إن الشرط يجب تقدمه (¬1) على المشروط" فممنوعٌ بل مُقتضى الشرط (¬2) توقفُ المشروطِ على وجوده، وأنه لا يوجد بدونه، وليس مقتضاه تأخر المشروط عنه، وهذا يتعلق باللغة والعقل والشرع، ولا سبيل لكم إلى نص عن أهل اللغة في ذلك ولا إلى دليل شرعي ولا عقلي، فدعواه غير مسموعة، ونحن لا ننكر أن من الشروط ما يتقدم مشروطَه، ولكن دعوى أن ذلك حقيقة الشرط وأنه إن لم يتقدم خرج عن أن يكون شرطًا دعوى لا دليل عليها، وحتى لو جاء عن أهل اللغة ذلك لم يلزم مثله في الأحكام الشرعية؛ لأن الشروط في كلامهم تتعلق بالأفعال كقوله: "إن رزتني أكرمتك" و"إذا طلعت الشمس جئتك" فيقتضي الشرط ارتباطًا بين الأول والثاني: فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم، وأما الأحكام فتقبل التقدم والتأخر والانتقال، كما لو قال: "إذا متُّ فأنت طالق قبل موتي بشهر" ومعلوم أنه لو قال مثل هذا في الحسيات كان محالًا، فلو قال: "إذا زُرْتني أكرمتك قبل أن تزورني بشهر" كان محالًا، إلا أن يحمل كلامه على معنى صحيح، وهو إذا أردت أو عزمت على زيارتي أكرمتك قبلها. وسر المسألة: أن نقَل الحقائق عن مواضعها ممتنعٌ، والأحكام قابلة للنقل والتحويل والتقديم والتأخير، ولهذا لو قال: "أعْتِق عبدك عني" ففعل؛ وقع العتق عن القائل، وجعل الملك متقدمًا على العتق (¬3) حكمًا، وإن لم يتقدم عليه حقيقة. وقولكم: "يلزمنا تجويز تقديم الطلاق على التطليق" فذلك غيرُ لازمٍ؛ فإنه إنما يقع بإيقاعه؛ فلا يسبق إيقاعه، بخلاف الشرط، فإنه لا يوجب وجود ¬
[طلاقان يسبق أحدهما الآخر]
المشروط، وإنما يرتبط به، والارتباط أعم من السابق والمقارن والمتأخر، والأعم لا يستلزم الأخص. ونكتة الفرق: أن الإيقاع موجِبٌ للوقوع؛ فلا يجوز أن يسبقه أثره وموجبه، والشرط علامة على المشروط؛ فيجوز أن يكون قبله وبعده، فوِزانُ الشرط وزِانُ الدليل، ووزانُ الإيقاع وزانُ العلة، فافترقا. وأما قولكم: "إن هذا التعليق يتضمن المُحَالَ إلى آخره" فجوابه أن هذا التعليق تضمن شرطًا ومشروطًا، وقد تعقد القضية الشرطية في ذلك للوقوع، وقد تعقد للإبطال؛ فلا يوجد فيها الشرط ولا الجزاء، بل تعليق (¬1) ممتنع بممتنع، فتصدق الشرطية وإن انتفى كلٌّ من جزئيها، كما تقول: "لو كان مع اللَّه إلهٌ آخر لفسد العالم"، وكما في قوله: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} [المائدة: 116] ومعلوم أنه لم يقله ولم يعلمه اللَّه، وهكذا قوله: "إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" فقضيةٌ عقدت لامتناع وقوع طرفيها، وهما المنجز والمعلق. [طلاقان يسبق أحدهما الآخر] ثم نذكر في ذلك قياسًا [آخر] (¬2) حَرَّره الشيخ أبو إسحاق رحمه اللَّه تعالى، فقال: طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر؛ فوجب أن ينفي السابقُ منهما المتأخر. نظيره أن يقول لامرأته: "إن قَدِم زيد فأنت طالق ثلاثًا (¬3)، وإن قدم عمرو (¬4) فأنت طالقٌ طلقة، فقدم زيد بُكرةً وعمرو عشيةً (¬5). ونكتة المسألة أنَّا لو أوقعنا الطلاق المباشر لزمنا أن نوقع قبله ثلاثًا ولو أوقعنا قبله ثلاثًا لامتنع وقوعه في نفسه؛ فقد أدى الحكم بوقوعه إلى الحكم بعدم وقوعه، فلا يقع. [عود إلى رد السُّريجيين] وقولكم: "إن هذه اليمين تُفْضِي إلى سد باب الطلاق، وذلك تغيير [لشرع اللَّه] (¬6)؛ فإن اللَّه مَلكَ الزوجَ الطلاق رحمة به -إلى آخره" جوابه أن هذا ليس فيه تغيير للشرع، وإنما هو إتيانٌ بالسبب الذي ضيَّق به على نفسه ما وسعه اللَّه عليه، وهو هذه اليمين، وهذا ليس تغييرًا للشرع. ألا ترى أن اللَّه تعالى وَسَّع عليه ¬
أمر الطلاق فجعله واحدة بعد واحدة ثلاث مرات لئلا يندم، فإذا ضيق على نفسه وأوقعها بفمٍ واحدٍ حصر نفسه وضيّق عليها ومنعها ما كان حلالًا لها، وربما لم يبق له سبيل إلى عَوْدها إليه، ولذلك جعل اللَّه تعالى الطلاق إلى الرجال، ولم يجعل للنساء فيه حظًا؛ لنقصان عقولهن وأديانهن، فلو جعله إليهن لكان فيه فسادُ كبيرٌ تأباه حكمة الرب تعالى ورحمته بعباده، فكانت المرأة لا تشاء أن تستبدل بالزوج إلا استبدلت به، بخلاف الرجال؛ فإنهم أكمل عقولًا وأثبت، فلا يستبدل بالزوجة إلا إذا عِيلَ صبره، ثم إن الزوج (¬1) قد يجعل طلاق امرأته (¬2) بيدها، بأن يملّكها ذلك أو يحلف عليها أن (¬3) لا تفعل كذا، فتختار طلاقه متى شاءت، ويبقى الطلاق بيدها، وليس في هذا تغيير للشرع؛ لأنه هو الذي ألزم نفسه هذا الحرج بيمينه وتمليكه، ونظير هذا ما قاله فقهاء الكوفة قديمًا وحديثًا: إنه لو قال: "كل امرأة أتزوجها فهي طالق" لم يمكنه أن يتزوج بعد ذلك امرأة، حتى قيل: إن أهل الكوفة أطبقوا (¬4) على هذا القول، ولم يكن [في] (5) ذلك تغيير للشريعة؛ فإنه هو الذي ضيَّق على نفسه ما وَسَّع اللَّه عليه، ونظير هذا لو قال: "كل عبد وأمة أملكهما فهما حُرَّان" لم يكن [له] (¬5) سبيل بعد هذا إلى ملك رقيق أصلًا، وليس في هذا تغيير للشرع، بل هو المضيق على نفسه، والضيق والحرج الذي يُدْخِله المكلف على نفسه لا يلزم أن يكون الشارع قد شَرَعه له، وإن ألزمه به بعد أن ألزم نفسه، ألا ترى أن مَنْ كان معه ألف دينار فاشترى بها جارية فأولدها ثم ساءت العشرة بينهما لم يبق له طريق إلى الاستبدال بها، وعليه ضررٌ في إعتاقها أو تزويجها أو إمساكها ولا بد له من أحَدِها. ثم نقول في معارضة ما ذكرتم: قد (¬6) يكون في هذه اليمين مصلحة له وغرض صحيح، بأن يكون محبًا لزوجته شديدَ الإلفِ بها، وهو مشفقٌ من أن ينزغ الشيطان بينهما فيقع منه طلاقها من غضبة أو موجدة، أو يحلف يمينًا بالطلاق أو يُبْلَى بمن يستحلفه بالطلاق ويضطر إلى الحنث، أو يُبْلَى بظالم يكرهه على الطلاق ويرفعه إلى حاكم ينفذه، أو يُبْلَى بشاهدَيْ زورٍ يشهدان عليه بالطلاق، وفي ذلك ضرر عظيم به، وكان من محاسن الشريعة أن يُجعل له طريقًا إلى الأمن من ذلك كله، ولا طريق أحسن من هذه؛ فلا ينكر من محاسن هذه الشريعة الكاملة أن ¬
فصل [الجواب على شبه أصحاب الحيلة السريجية]
تأتي بمثل ذلك، ونحن لا ننكر أن في ذلك نوع ضرر عليه، لكن رأى احتماله لدفع ضرر الفراق الذي هو أعظم من ضرر البقاء، وما يُنكر في الشريعة من دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما؟ فصل [الجواب على شبه أصحاب الحيلة السريجية] قال الموقّعون: لقد دعوتم الشُّبَهَ الجَفَلَى (¬1) إلى وليمة هذه المسألة، فلم تَدَعُوا منها داعيًا ولا مجيبًا، واجتهدتم في تقريرها ظانين إصابةَ الاجتهاد، وليس كل مجتهد مصيبًا، ونثرتم عليها ما لا يصلح مثلها (¬2) للنثار، وزيّنتموها بأنواع الحلي، ولكنه حُلىٌّ مستعار؛ فإذا استردت العارية زال الالتباس والاشتباه، وهناك (تسمع بالمُعَيْدِيِّ خير من أن تراه) (¬3). فأما قولكم: "أنا ارتقينا مرتقى صعبًا، وأسأنا الظن بمن قال بهذه المسألة" فإن أردتم بإساءة الظن بهم تأثيمًا أو تبديعًا فمعاذ اللَّه! بل أنتم أسأتم بنا الظن، وإن أردتم بإساءة الظن أنَّا لم نصوبهم في هذه المسألة، ورأينا الصواب في خلافهم فيها؛ فهذا قدر مشترك بيننا وبينكم في كل ما تَنَازَعْنا فيه، بل سائر المتنازعين بهذه المثابة، وقد صرح الأربعة الأئمة (¬4) بأن الحق في واحد من الأقوال المختلفة، وليست كلها صوابًا (¬5). ¬
وأما قولكم: "إن هذه المسألة مأخوذة من نص الشافعي" فجوابه من وجهين: أحدهما: أنها لو كانت منصوصة له فقوله بمنزلة قول غيره من الأئمة يحتج له ولا يحتج به، وقد نازعه الجمهور فيها، والحجة تفصل ما بين المتنازعين. الثاني: أن الشافعي رضي اللَّه تعالى عنه لم ينصَّ عليها ولا على ما يستلزمها. وغاية ما ذكرتم نصه على صحة قوله: "أنت طالق قبل موتي بشهر" (¬1) فإذا مات لأكثر من شهر من وقت هذا التعليق تبينَّا وقوع الطلاق، وهذا [قد] (¬2) وافقه عليه مَنْ يبطل هذه المسألة، وليس فيه ما يدل على صحة هذه المسألة ولا هو نظيرها، وليس فيه سبق الطلاق لشرطه، ولا هو متضمن للمُحَال؛ إذ حقيقتُه؛ إذا بَقي من حياتي شهر فأنت طالق. وهذا الكلام معقول غير متناقض ليس فيه تقديم الطلاق على زمن التطليق ولا على شرط وقوعه، وإنما نظير المسألة المتنازع فيها أن يقول: "إذا مت فأنت طالق قبل موتي بشهر" وهذا المحال بعينه، وهو نظير قوله: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا" أو يقول: "أنت طالق عامَ الأول" فمسألة الشافعي شيء ومسألة ابن سريج شيء، ويدل عليه أن الشافعي إنما أوقع عليه الطلاق إذا مات لأكثر من شهر من حين التعليق؛ فلو مات عقيب اليمين لم تطلق، وكانت بمنزلة قوله: "أنت طالق في الشهر الماضي" وبمنزلة قوله: "أنت طالق قبل أن أنكحك" فإن كلا الوقتين ليس بقابل للطلاق؛ لأنها في أحدهما لم تكن محلًا، وفي الثاني لم تكن فيه طالقًا قطعًا، فقوله: "أنت طالق في وقت قد مضى" ولم تكن فيه طالقًا إما إخبارٌ كاذب أو إنشاءٌ باطل، وقد قيل: يقعُ عليه الطلاق ويلغو قوله: "أمس" لأنه أتى بلفظ الطلاق ثم وَصَلَ به ما يمنع وقوعه أو يرفعه فلا يصح (¬3) ويقع لغوًا، وكذلك قوله: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" ليس فيه إيقاع ¬
الطلقة (¬1) الموصوفة بالقَبْلية في الزمن الماضي ولا تقدمها على الإيقاع، وإنما فيه إيقاع طلقتين إحداهما قبل الأخرى؛ فمن ضرورة قوله: "قبلها طلقة" إيقاعُ هذه السابقة أولًا ثم إيقاع الثانية بعدها؛ فالطلقتان إنما وقعتا بقوله: "أنت طالق" لم تتقدم إحداهما على زمن الإيقاع، وإن تقدمت على الأخرى تقديرًا، فأين هذا من التعليق المستحيل؟ فإن أبيتم وقلتم: قد وصل (¬2) الطلقة المنجّزة بتقدّم مثلها عليها، والسبب هو قوله: أنت طالق؛ فقد تقدم وقوع الطلقة المعلَّقة بالقَبْلية على المنجزة، ولما كان هذا نكاحًا صح، وهكذا قوله: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبلها ثلاثًا" أكثَرُ ما فيه تقدم الطلاقِ السابق على المنجز، ولكن المحل لا يحتملهما؛ فتدافعا وبقيت الزوجية بحالها، ولهذا لو قال: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قَبْله واحدة" صح لاحتمال المحل لهما. فالجواب أنه أوقع طلقتين واحدة قبل واحدة، ولم تسبق إحداهما إيقاعه، ولم يتقدم شرط الإيقاع؛ فلا محذور، وهو كما لو قال: "بعدها طلقة، أو معها طلقة" وكأنه قال: "أنت طالق طلقتين معًا، أو واحدة (¬3) بعد واحدة" ويلزم من تأخر واحدة (¬4) عن الأخرى سبق إحداهما للأخرى، فلا إحالة، أما وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فهو محال وقَصْدُه باطل، والتعبير عنه إن كان خبرًا فهو كذبٌ، وإن كان إنشاءً فهو منكرٌ؛ فالتكلّمُ به منكرٌ من القول وزور (¬5) في إخباره، منكر في إنشائه، وأما كون المعلق تمام الثلاث فههنا لمنازعيكم قولان تقدم حكايتهما وهما وجهان في مذهب أحمد (¬6) والشافعي رضي اللَّه عنهما (¬7): أحدهما: يصح هذا التعليق ويقع المنجز والمعلق، وتصير المسألة على وزان ما نص عليه الشافعي من قوله: "إذا مات زيد فأنت طالق قبله بشهر" فمات بعد شهر، فهكذا إذا قال: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله واحدة" ثم مضى زمن تمكن فيه القَبْلية ثم طلقها تبينَّا وقوع المعلق في ذلك الزمان وهو متأخر عن الإيقاع؛ فكأنه قال: "أنت طالق في الوقت السابق على تنجيز الطلاق أو وقوعه معلقًا" فهو تطليق في زمن متأخر. ¬
والقول الثاني: أن هذا محال أيضًا، ولا يقع المعلق؛ إذ حقيقته أنت طالق في الزمن السابق على تطليقك تنجيزًا أو تعليقًا فيعود إلى (¬1) سبق الطلاق للتطليق، وسبق الوقوع للإيقاع (¬2)، وهو حكمٌ بتقديم (¬3) المعلول على علَّته. يوضحه أن قوله: "إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله" إما أن يريد طالق قبله بهذا الإيقاع أو بإيقاعٍ متقدم. والثاني ممتنع، لأنه لم يسبق هذا الكلام منه شيء. والثاني لأنه يتضمن (¬4): "أنت طالق قبل أن أطلقك" وهذا عين المحال. فهذا كشف حجاب هذه المسألة وسر مأخذها، وقد تبين أن مسألة الشافعي هذه لون وهي لون آخر (¬5). وأما قولكم: "إن الحُكمَ لا يجوز تقدمه على علّته، ويجوز تقدمه على شرطه (¬6) كما يجوز تقدمه على أحد سببيه -إلى آخره" فجوابه أن الشرط إما أن يوجد جزءًا من المُقْتضى أو يوجد خارجًا عنه، وهما قولان للنُّظار، والنزاع لَفْظِيٌّ؛ فإن أريد بالمقتضى التام فالشرط جزءٌ منه، وإن أريد به المقتضى الذي يتوقف اقتضاؤه على وجود شرط وعدم مانعه فالشرطُ ليس جزءًا منه، ولكن اقتضاؤه يتوقف عليه، والطريقة الثانية طريقة القائلين بتخصيص العلة، والأولى (¬7) طريقة المانعين من التخصيص، وعلى التقديرين فيمتنع تأخر الشرط عن وقوع المشروط؛ لأنه يستلزم وقوع الحكم بدون سببه التام؛ فإن الشرط إن كان جزءًا من المقتضى فظاهرٌ، وإن كان شرطًا لاقتضائه فالمعقق على الشرط [لا] (¬8) يوجد (¬9) عند عدمه، وإلا لم يكن شرطًا؛ فإنه لو كان يوجد بدونه لم يكن شرطًا، فلو ثبت الحكم قبله لثبت بدون سببه التام، فإن سببه لا يتم إلا بالشرط، فعاد الأمر إلى سبق الأثر لمؤثره والمعلول لعلته، وهذا محال، ولهذا لما لم يكن لكم حيلةَ في دَفْعه وعلمتم لزومه فررتم إلى ما لا يُجْدِي عليكم شيئًا، وهو جَعلُ ¬
الشرط مجرد علامة ودليل ومعرِّف، وهذا إخراج للشرط عن كونه شرطًا وإبطال لحقيقته؛ فإن العلامة والدليل والمعرف ليست شروطًا في المدلول المعرَّف، ولا يلزم من نفيها نفيه، فإن الشيء يثبت بدون علامةٍ ومعرِّف له، والمشروط ينتفي لانتفاء شرطه وإن لم يوجد لوجوده. وكل العقلاء متفقون على الفرق بين الشرط والأمارة المَحْضَة وأن حقيقة أحدهما وحكمه دون حقيقة الآخر وحكمه، وإن كان قد يقال: إن العلامة شرط في العلم بالمعلم والدليل شرط في العلم بالمدلول، فذاك أمر وراء الشرط في الوجود الخارجي، فهذا شيء وذاك (¬1) شيءٌ آخر، وهذا حقٌّ، ولهذا ينتفي العلم بالمدلول عند انتفاء دليله، ولكن هل يقول أحد: إن المدلول ينتفي لانتفاء دليله؟ فإن قيل: نعم، قد قاله غير واحد، وهو انتفاء الحكم الشرعي لانتفاء دليله. قيل: نعم فإن الحكم الشرعي لا يثبت بدون دليله، فدليلُه موجِبٌ لثبوته، فإذا انتفى الموجِب انتفى الموجَب، ولهذا [يقال:] (¬2) لا موجِبَ فلا موجَبَ، أما شرط (¬3) اقتضاء السبب لحكمه فلا يجوز اقتضاؤه بدون شرطه، ولو تأخر الشرط عنه لكان مقتضيًا بدون شرطه، وذلك يستلزم إخراج الشرط عن حقيقته، وهو محال. وأما تقديم الحكم على أحد سببيه في الصورة التي ذكرتموها على إحدى الطريقتين، أو تقديمه على شرط بعد وجود سببه على الطريقة الأخرى؛ فالتنظير به مَغْلَطة (¬4)؛ فإن الحكم لم يتقدم على سببه ولا شرطه، وهذا محال، وإن وقع تسامحٌ في عبارة الفقهاء، فإن انقضاء الحول مثلًا والحنثُ والموتُ بعد الجرح شرطٌ للوجوب (¬5)، ونحن لم نقدِّم الوجوبَ على شرطه ولا سببه، وإنما قدَّمنا فعلَ الواجب. والفرق بين تقدم الحكم بالوجوب، وبين تقدم أداء الواجب، فظهر أن هذا وهم أو إيهام (¬6)، وقد ظهر أن تقديمَ شَرْط علة الحكم وموجبه على (¬7) الحكم أمرٌ ثابت عقلًا وشرعًا، ونحن لم نأخذ ذلك عن نصِّ أهل اللغة حتى تطالبونا بنقله، بل ذلك أمر ثابت لذات الشرط وحكم من أحكامه. وليس ذلك متلقَّى من [أهل] (¬8) ¬
[عن القضية الشرطية]
اللغة، بل هو ثابت في نفس الأمر لا يختلف بتقدم لفظ (¬1) ولا تأخره، حتى لو قال: "أنتِ طالقٌ إن دخلت الدار" أو قال: "يبعثك اللَّه إذا متِّ" أو (¬2) "تجب عليك الصلاة إذا دخل وقتها" ونحو ذلك فالشرط متقدم عقلًا وطبعًا وشرعًا وإن تأخر لفظًا. وأما قولكم: "إن الأحكام تقبل النقل عن مواضعها فتتقدم وتتأخر" فتطويلٌ بلا تحصيل، وتهويل بلا تفصيل، فهل تقبل النقل عن ترتيبها على (¬3) أسبابها وموجباتها بحيث يثبت الحكم بدون سببه ومقتضيه؟ نعم قد يتقدم ويتأخر وينتقل لقيام سبب آخر يقتضي ذلك فيكون مرتبًا على سببه الثاني بعد انتقاله كما كان مرتبًا على الأول قبل انتقاله، وفي كل من الموضعين هو مرتب (¬4) على سببه هذا في حكمه وذاك في محله، وأما تنظيركم بنقل الأحكام وتقدمها على أسبابها بقوله: "أنت طالق قبل موتي بشهر" وقولكم: "إن نظيره في الحسيّات أن تقول: إن زُرتني أكرمتُك قبل زيارتك بشهر" فوهم أيضًا أو إيهام (¬5)، فإن قوله: "أنت طالق قبل موتي بشهر" إنما تطلق إذا مضى شهر بعد هذه اليمين حتى يتبين وقوع الطلاق بعد إيقاعه، فلو مات قبل مضي شهر لم تطلق على الصحيح؛ لأنه يصير بمنزلة: أنت طالق عام الأول؛ وليس كذلك قوله: "إن زرتنى أكرمتُك قبله بشهر" (¬6) فإن الطلاق حكم يمكن تقدير وقوعه قبل الموت، والإكرام فعل حسي (¬7) لا يكون إكرامًا بالتقدير، وإنما يكون إكرامًا بالوقوع، وأما استشهادكم بقوله: "أعتق عبدك [عنّي] (¬8) " فهو حجة عليكم؛ فإنه يستلزم تقدم الملك التقديري على العتق الذي هو أثره وموجَبُه، والملك شرطه، ولو جاز تأخر الشرط القدر الملك له بعد العتق، وهذا محالٌ، فعلم أن الأسباب والشروط يجب تقدمها، سواء كانت محققة أو مقدرة. [عن القضية الشرطيّة] وقولكم: "إن هذا التعليق يتضمن (¬9) شرطًا ومشروطًا، والقضية الشرطية قد ¬
[عن الطلاقين المتعارضين]
تعقد للوقوع وقد تعقد لنفي الشرط والجزاء- إلى آخره " فجوابه [أيضًا أن هذا] (¬1) من الوهم أو الإيهام (¬2)؛ فإن القضية الشرطية هي التي يصح الارتباط بين جزءيها، سواء كانا ممكنين أو ممتنعين، ولا يلزم من صدقها شرطية صدق جزءيها جملتين؛ فالاعتبار إنما هو بصدقها في نفسها؛ ولهذا كان قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] من أَصْدق الكلام وجُزءا الشرطية ممتنعان، لكن أحدهما ملزومٌ للآخر، فقامت القضية الشرطية من التلازم الذي بينهما؛ فإن تعدد الآلهة مستلزم لفساد السماوات والأرض، فوجودُ آلهةٍ مع اللَّه ملزومٌ لفساد السموات والأرض، والفساد لازم، فإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه، فصَدَقت الشرطية دون مفردَيْها، وأما الشرطية في مسألتنا فهي كاذبة في نفسها؛ لأنها عُقدت للتلازم بين وقوع الطلاق المنجز وسبق الطلاق الثلاث عليه، وهذا كذب في الإخبار باطل في الإنشاء؛ فالشرطية نفسها باطلة لا تصح بوجه؛ فظهر أن تنظيرها بالشرطية الصادقة الممتنعة الجزءين وهم أو إيهام (¬3) ظاهر لا خفاء به. [عن الطلاقين المتعارضين] وأما قياسكم المحرر، وهو قولكم: "طلاقان متعارضان يسبق أحدهما الآخر، فوجب أن ينفي (¬4) السابق منهما [المتأخر] (¬5) كقوله: "إن قدم زيد -إلى آخره " فجوابه أنه لما قدم زيد طلقت ثلاثًا، فقدم عمرو بعده وهي أجنبية، فلم يصادف الطلاق الثاني محلًا، فهذا معقول شرعًا ولغةً وعرفًا، فأين هذا من تعلق (¬6) مستحيل شرعًا وعرفًا؛ ولقد وهَنَتْ كلَّ الوهنِ مسألة إلى مثل هذا القياس استنادُهَا، وعليه اعتمادها (¬7). وأما قولكم: "نكتة المسألة أنا لو أوقعنا المنجّز لزمنا أن نوقع قبله ثلاثًا -إلى آخره" فجوابه أن يقال: هذا كلام باطل في نفسه، فلا يلزم من إيقاع المنجز إيقاع الثلاث (¬8) قبله، لا لغةً ولا عقلًا ولا شرعًا ولا عرفًا، فإن قلتم: لأنه شرط ¬
[عن الطلاق الثلاث جملة]
للمعلق قبله (¬1)، فقد تبين فساد المعلق بما فيه كفاية، ثم نقلب عليكم هذه النكتة (¬2) قلبًا أصح منها شرعًا وعقلًا ولغةً، فنقول: إذا أوقعنا المنجَّز لم يمكنا (¬3) أن نوقع قبله ثلاثًا قطعًا (¬4)، وقد وُجد سببُ وقوع المنجز وهو الإيقاع، فيستلزم موجبه وهو الوقوع، وإذا وقع موجبه استحال وقوع الثلاث؛ فهذه (¬5) النكتة أصح وأقرب إلى الشرع والعقل واللغة، وباللَّه التوفيق. وأما (¬6) قولكم: "إن المكلف أتى بالسبب الذي ضيق به على نفسه فألزمناه حكمه -إلى آخره" فجوابه أن هذا إنما يصح فيما يملكه من الأسباب شرعًا، فلا بد أن يكون السبب مقدورًا ومشروعًا، وهذا السبب الذي أتى به غير مقدورٍ ولا مشروع؛ فإن اللَّه تعالى لم يملّكه طلاقًا ينجزه تسبقه ثلاث قبله، ولا ذلك مقدور له؛ فالسبب لا مقدور ولا مأمور، بل هو كلام متناقض فاسد؛ فلا يترتب عليه تغيير (¬7) أحكام الشرع، وبهذا خرج الجواب عما نظرتم به من المسائل، أما: [عن الطلاق الثلاث جملة] المسألة الأولى -وهي إذا طلَّق امرأته ثلاثًا جملة- فهذه مما يحتجُّ لها، ولا يحتج بها -وللناس فيها أربعة أقوال: أحدهما الإلزام بها. والثاني: إلغاؤها جملة وإن كان هذا إنما يعرف عن فقهاء الشيعة (¬8). والثالث: أنها واحدة، وهذا (¬9) قول أبي بكر الصديق رضي اللَّه عنه (¬10)، ¬
وجميع الصحابة في زمانه، وإحدى الروايتين عن ابن عباس (¬1)، واختيار أعلم الناس بسيرة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- محمد بن إسحاق والحارث العكلي وغيره، وهو أحد القولين في مذهب مالك حكاه التلمساني في "شرح تفريع ابن الجلاب" (¬2)، وأحد القولين في مذهب الإمام أحمد اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رضي اللَّه عنه (¬3). والرابع: أنها واحدة في حق التي لم يدخل بها، وثلاث (¬4) في حق المدخول بها، وهذا مذهب إمام أهل خراسان في وقته إسحاق بن راهويه نظير الإمام أحمد والشافعي ومذهب جماعة من السلف. وفيها مذهب خامس، وهو أنها إن كانت منجَّزة وقعت، وإن كانت معلَّقة لم تقع، وهو مذهب حافظ الغرب وإمام أهل الظاهر في وقته أبو محمد بن حزم (¬5)، ولو طولبتم بإبطال هذه الأقوال وتصحيح قولكم بالدليل الذي يركن إليه العالم لم يمكنكم ذلك، والمقصود أنكم تستدلون بما يحتاج إلى إقامة الدليل عليه، والذين يَسَلِّمون لكم وقوع الثلاث جملة واحدة فريقان: * فريق يقول بجواز إيقاع الثلاث فقد أتى المكلف عنده بالسبب المشروع المقدور فترتب عليه سبَبُه. * وفريق يقول: تقع وإن كان إيقاعها محرمًا كما يقع الطلاق في الحيض والطُّهر الذي أصابها فيه وإن كان محرمًا لأنه ممكن، بخلاف وقوع طلقة مسبوقة بثلاث فإنه محال، فأين أحدهما من الآخر؟ ¬
[فصل] [عن تمليك الرجل امرأته الطلاق]
[فصل] (¬1) [عن تمليك الرجل امرأته الطلاق] وأما نقضكم الثاني بتمليك الرجل امرأتَه الطلاقَ وتضييقه على نفسه بما وَسّع اللَّه سبحانه عليه مِنْ جَعْله بيده، فجوابه من وجوه: أحدها: أنه بالتمليك لم يخرج الطلاق عن يده، بل هو في يده كما هو، هذا إن قيل: إنه تمليك، وإن قيل: إنه توكيل فله عَزْلُهَا متى شاء. الثاني: أن هذه المسألة (¬2) فيها نزاع معروف بين السلف والخلف؛ فمنهم من قال: لا يصح تمليك المرأةِ الطلاقَ ولا توكيلها فيه، ولا يقع الطلاق إلا ممن أخذ بالساق، وهذا مذهب أهل الظاهر، وهو مأثور عن بعض السلف؛ فالنقض بهذه الصورة يستلزم إقامة الدليل عليها، والأدنى (¬3) لا يكون دليلًا. ومن هنا قال بعض أصحاب مالك: إنه إذا علَّق اليمين بفعل الزوجة لم تطلق إذا حنث؛ لأن (¬4) اللَّه تعالى مَلَّكَ الزوجَ الطلاقَ، وجعله بيده رحمةً منه، ولم يجعله إلى المرأة؛ فلو وقع الطلاق بفعلها لكان إليها إن شاءت أن تفارِقَه وإن شاءت أن تقيمَ معه، وهذا خلاف شَرْع اللَّه، وهذا أحد الأقوال في مسألة تعليق الطلاق بالشرط كما تقدم (¬5). والثاني: أنه لغو وباطل، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن ابن بنت (¬6) الشافعي ومذهَبُ أهل الظاهر والثالث: أنه موجب لوقوع الطلاق عند وقوع الصفة، سواء كان يمينًا أو تعليقًا محضًا، وهذا المشهور عند الأئمة الأربعة وأتباعهم. والرابع: أنه إن كان بصيغة التعليق لزم، وإن كان بصيغة القسَم والالتزام لم يلزم إلا أن ينويه، وهذا اختيار أبي المحاسن الروياني وغيره. والخامس: أنه إن كان بصيغة التعليق وقع، وإن كان بصيغة القَسَم والالتزام لم يقع وإن نواه، وهذا اختيار القَفَّال في "فتاويه". ¬
فصل [إذا علق عتق عبده على ملكه]
والسادس: أنه إن كان الشرط والجزاء مقصُودَيْن وقع، وإن كانا غير مقصودين -وإنما حلف به قاصدًا منع الشرط والجزاء- لم يقع، ولا كفارة فيه، وهذا اختيارُ بعض أصحاب أحمد. والسابع: كذلك (¬1)، إلا أن فيه الكفارة إذا خرج مخرج اليمين، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رضي اللَّه عنه (¬2)، والذي قبله اختيار أخيه. وقد تقدَّم حكاية قول مَنْ حكى إجماع الصحابة أنه إذا حنث فيه لم يلزمه الطلاق (¬3)، وحكينا لفظه. والمقصود الجواب عن النقض بتمليك المرأة الطلاق أو توكيلها فيه. وأما قولكم في النقض الثالث: "إن فقهاء الكوفة صحَّحوا تعليق الطلاق بالنكاح، وهو يسد باب النكاح" فهذا القول مما أنكره عليهم سائر الفقهاء، وقالوا: هو سَدّ لباب النكاح، حتى الشافعي (¬4) نفسه أنكره عليهم بذلك وبغيره من الأدلة. ومن العجب أنكم قلتم في الرد عليهم؛ لا يصح هذا التعليق؛ لأنه لم يصادف محلًا، وهو لا يملك الطلاق المنجَّز فلا يملك المعلق؛ إذ كلاهما مُسْتَدْعٍ لقيام محله، ولا محل، فهلا قبلتم منهم احتجاجَهم عليكم في [هذه] (¬5) المسألة السُّرَيجية بمثل هذه الحجة، وهي أن المحل غير قابِلٍ لطلقة مسبوقة بثلاث، وكان هذا الكلام لغوًا وباطلًا فلا ينعقد، كما قلتم أنتم في تعليق النكاح بالطلاق: إنه لغوٌ وباطلٌ فلا ينعقد (¬6). فصل [إذا علق عتق عبده على ملكه] وأما النقض الرابع بقوله: "كلُّ عبدٍ أو أمة أملكه فهو حرٌّ" فهذا للفقهاء فيه قولان، وهما روايتان عن الإمام أحمد: إحداهما: أنه لا يصح كتعليق الطلاق. والثاني: أنه يصح، والفرق بينه وبين تعليق الطلاق أن ملك العبد قد شرع ¬
فصل [النقض بمن معه ألف دينار]
طريقًا إلى زوال ملكه عنه بالعتق، إما بنفس الملك كمن ملك ذا رَحِم مَحْرَم، وإما باختيار الإعتاق كمن اشترى عبدًا ليعتقه عن كفارته أو ليتقرب به إلى اللَّه عز وجل، ولم يشرع اللَّه النكاح طريقًا إلى زوال ملك البُضْع ووقوعِ الطلاق، بل هذا يترتب عليه ضد مقصوده شرعًا وعقلًا وعرفًا، [والعتق المترتب] (¬1) على الشراء ترتيب لمقصوده عليه شرعًا وعرفًا، فأين أحدهما من الآخر؟ وكونه قد سَدَّ على نفسه باب ملك الرقيق فلا يخلو إما أن يعلق ذلك تعليقًا مقصودًا أو تعليقًا قسميًا؛ فإن كان مقصودًا فهو قد قصد التقرب إلى اللَّه بذلك، فهو كما لو التزم صَوْم الدهر وسدَّ على نفسه باب الفطر. وإن كان تعليقًا قسَميًا فله سَعَة بما وسَّع اللَّه عليه من الكفارة كما أفتى به الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وقد تقدم. فصل [النقض بمن معه ألف دينار] وأما النقض الخامس بمن معه ألف دينار فاشترى بها جاريةً وأوْلَدها (¬2)، فهذا أيضًا نقض فاسد؛ فإنه بمنزلة مَنْ أنفقها في شهواته وملاذه، وقعد مَلُومًا محسورًا، أو تزوج بها امرأة وقَضَى وطره منها نحو ذلك. فأين هذا من سد باب الطلاق وبقاء المرأة كالغل في عنقه إلى أن يموت أحدهما؟ فصل [لم تبن الشرائع على الصور النادرة] وقولكم: قد يكون له في هذه اليمين مصلحة وغرض صحيح، بأن يكون محبًا لزوجته ويخشى وقوع الطلاق بالحلف أو غيره فيسرّحها" جوابه أن الشرائع العامة لم تُبْنَ على الصور النادرة، ولو كان لعموم المطلِّقين في هذا مصلحة لكانت حكمة أحكم الحاكمين تمنع الرجالَ من الطلاق بالكليّة، وتجعل الزوج (¬3) في ذلك بمنزلة المرأة لا تتمكن من فراق زوجها. ولكن حكمته تعالى أولى وأليق من مراعاة هذه المصلحة الجزئية التي في مراعاتها تعطيل مصلحة أكبر منها وأهم، وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات (¬4) أدناهما، ودفع أعلى ¬
فصل [بطلان الحيلة بالخلع لفعل المحلوف عليه]
المفسدتين وإن وقع أدناهما (¬1)، وهكذا ما نحن فيه سواء؛ فإن مصلحة تمليك الرجالِ الطلاقَ أعلى وأكبَرُ من مصلحة سده عليهم، ومفسدةُ سدِّه عليهم أكبر من مفسدة فتحه لهم المُفْضِية إلى ما ذكرتم. وشرائع الرب سبحانه وتعالى كلها حِكمٌ ومصالح وعدل ورحمة، وإنما العبث والجور والشِّدة في خلافها، وباللَّه التوفيق. وإنما أطلنا الكلام في هذه المسألة لأنها من أمهات الحيل وقواعدها، والمقصود بيان بطلان الحيل؛ فإنها (¬2) لا تتمشَّى على قواعد الشريعة ولا أصول الأئمة، وكثير منها -بل أكثرها- من توليدات المنتسبين إلى الأئمة وتفريعهم، والأئمة بَرَاء منها. فصل [بطلان الحيلة بالخلع لفعل المحلوف عليه] ومن الحيل الباطلة الحيلة على التخلص من الحنث بالخُلْع، ثم يفعل المحلوف عليه في حال البينونة، ثم يعود إلى النكاح، وهذه الحيلة باطلة شرعًا، وباطلة على أصول أئمة الأمصار: أما بطلانها شرعًا فإن هذا خُلع لم يشرعه اللَّه ولا رسوله، وهو تعالى لم يمكِّن الزوج من فسخ النكاح متى شاء؛ فإنه لازمٌ، وإنما مكَّنه من الطلاق، ولم يجعل له فَسْخَه إلا عند التشاحن (¬3) والتباغض إذا خافا أن لا يقيما حدود اللَّه، فشرع لهما التخلص بالافتداء؛ وبذلك جاءت السنة (¬4)، ولم يقع في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا زمن أصحابه قط خلع حيلة، ولا في زمن التابعين، ولا تابعيهم، ولا نص عليه أحد من الأئمة الأربعة وجعله طريقًا للتخلص من الحنث، وهذا من كمال فقههم -رضي اللَّه عنهم-؛ فإن الخلع إنما جعله الشارع مقتضيًا للبينونة ليحصل مقصود المرأة من الافتداء من زوجها، وإنما يكون ذلك مقصودها إذا قصدت أن تفارقه على وجه لا يكون له عليها سبيل، فإذا حصل هذا ثم فعل المحلوف عليه وَقعَ وليست زوجته فلا يحنث، وهذا إنما حصل تبعًا ¬
فصل [المتأخرون هم الذين أحدثوا الحيل ونسبوها إلى الأئمة]
للبينونة التابعة لقصدهما، فإذا خالعها ليفعل المحلوف عليه لم يكن قصدهما البينونة، بل حلّ اليمين، وحلُّ اليمين إنما يحصل تبعًا للبينونة لا أنه المقصود بالخلع الذي شرعه اللَّه ورسوله (¬1)، وأما خلع الحيلة فجاءت البينونة فيه لأجل حل اليمين، وحل اليمين جاء لأجل البينونة؛ فليس عقد الخلع بمقصود (¬2) في نفسه للرجل ولا للمرأة، واللَّه تعالى لا يشرع عقدًا لا يقصد واحد من المتعاقدين حقيقته، وإنما يقصدان به ضد ما شرعه [اللَّه] (¬3) له؛ فإنّه شُرِع لتخلُّص المرأة من الزوج، والمتحيّل يفعله لبقاء النكاح؛ فالشَّارع شرعه لقطع النكاح، والمتحيّل يفعله لدوام النِّكاح. فصل [المتأخرون هم الذين أحدثوا الحيل ونسبوها إلى الأئمة] والمتأخرون (¬4) أحْدَثوا حيلًا لم يصح القول بها عن أحد من الأئمة، ونسبوها إلى الأئمة، وهم مخطئون في نسبتها إليهم، ولهم مع الأئمة موقفٌ بين يدي اللَّه عز وجل، ومن عَرَف سيرة الشافعي وفضله ومكانه من الإسلام علم أنه لم يكن معروفًا بفعل الحيل، ولا بالدلالة عليها، ولا كان يشيرُ على مسلمٍ بها. [تبرئة الشافعي من تهمة الحيل] وأكثر الحيل التي ذكرها المتأخرون المنتسبون إلى مذهبه من تصرفاتهم، تَلَقّوْها عن المشرقيين، وأدخلوها في مذهبه، وان كان رحمه اللَّه تعالى يجري العقود على ظاهرها، ولا ينظر إلى قصد العاقد ونيته، كما تقدم حكاية كلامه، فحاشاه ثم حاشاه أن يأمر الناس بالكذب والخداع والمكر والاحتيال وما لا ¬
حقيقةَ له، بل ما يتيقن (¬1) أن باطنه خلاف ظاهره، ولا يُظن بمن دون الشافعي من أهل العلم والدين أنه يأمر أو يبيح ذلك؛ فالفرق [ظاهرٌ] (¬2) بين أن لا يعتبر القصد في العقد ويجريه على ظاهره وبين (¬3) أن يُسِّوغ عقدًا قد علم بناؤه على المكر والخداع وقد علم أن باطنه خلاف ظاهره. فواللَّه ما سَوَّغ الشافعي ولا إمام من الأئمة هذا العقد قط، ومن نسب ذلك إليهم فهم خصماؤه عند اللَّه؛ فالذي سوغه الأئمة بمنزلة الحاكم يُجْرِي الأحكام على ظاهر عدالة الشهود وإن كانوا في الباطن شهودَ زورٍ، والذي سوغه أصحاب الحيل بمنزلة الحاكم يعلم أنهم في الباطن شهود زور كَذَبة وأنَّ ما شهدوا به لا حقيقةَ له (¬4) ثم يحكم بظاهر عدالتهم. وهكذا في مسألة العِينة: إنما جوَّز الشافعي أن يبيع السلعة ممن اشتراها منه جَرْيًا على ظاهر عقود المسلمين وسلامتها من المكر والخداع، ولو قيل للشافعي: "إن المتعاقدين قد تواطئا على ألفٍ بالفٍ ومئتين، وتراوضا على ذلك، وجعلا السلعة محللًا للربا" [لم] (¬5) يجوَّز ذلك، ولأنكره غاية الإنكار. ولقد كان الأئمة من أصحاب الشافعي (¬6) ينكرون على مَنْ يحكي عنه الإفتاء بالحيل، قال الإمام أبو عبد اللَّه بن بطة (¬7): "سألت أبا بكر الآجري وأنا وهو بمنزله بمكة (¬8) عن هذا الخلع الذي يفتي به [بعض] (¬9) الناس، وهو أن يحلف رجل أن [لا] (¬10) يفعل شيئًا، ولا بد له من فعله، فيقال له: اخلع زوجتك وافعل ما حَلَفْتَ عليه ثم راجعها، واليمين بالطلاق ثلاثًا، وقلت له: إن قومًا يفتون [هذا] (¬11) الرجل الذي يحلف بأيمان البيعة ويحنث أن لا شيء عليه، ويذكرون أن ¬
فصل [أمران لا بد من معرفتهما]
الشافعي لم ير على من حلف بأيمان البيعة شيئًا، فجعل أبو بكر يعجب من سؤالي عن هاتين المسألتين في وقت واحد، ثم قال [لي] (1): [أعلم أني] (¬1) منذ كتبتُ العلم وجلست للكلام فيه وللفتوى ما أفتيت في هاتين المسألتين بحرف، ولقد سألت أبا عبد اللَّه الزبيري [الضرير -رحمه اللَّه-] (1) عن هاتين المسألتين كما سألتني عن (¬2) التعجب ممن يقدم (¬3) على الفتوى (¬4) فيهما، فأجابني فيهما بجواب كتبته عنه، ثم قام فأخرج لي كتاب "أحكام الرجعة والنشوز" من كتاب الشافعي، وإذا مكتوب على ظهره بخط أبي بكر [-رحمه اللَّه-] (1): سألت أبا عبد اللَّه الزبيري، [فقلت له: الرجل يحلف بالطلاق ثلاثًا أن لا يفعل شيئًا، ثم يريد أن يفعله] (¬5)، وقلت له: إن أصحاب الشافعي [رحمه اللَّه] (¬6) يفتون فيها بالخلع، [يخالع] (6) ثم يفعل، فقال الزبيري: ما أعرف هذا من قول الشافعي، ولا بلغني أن له في هذا قولًا معروفًا، ولا أرى من يذكر هذا عنه [إلا مُحِيلًا] " (¬7). والزبيري أحد الأئمة الكبار من الشافعية، فإذا كان هذا قوله وتنزيهه للشافعي عن خلع اليمين فكيف بحيل الربا الصريح وحيل التَّحليل وحيل إسقاط الزكاة والحقوق وغيرها من الحيل المحرمة؟ فصل (¬8) [أمران لا بُدَّ من معرفتهما] [تنزيه الشَّريعة] ولا بد من أمرين أحدهما أعظم من الآخر، وهو: * النصيحة للَّه ولرسوله وكتابه ودينه وتنزيهه عن الأقوال الباطلة المناقضة لما بعث اللَّه به رسوله من الهدى والبيِّنات، التي هي خلاف الحكمة والمصلحة والرحمة والعدل، وبيان نفيها عن الدين وإخراجها منه، وان أدخلها فيه مَنْ أدخلها بنوع تأويل. ¬
[من فضل الأئمة]
[من فضل الأئمة] * والثاني: معرفة فضل أئمة الإسلام ومقاديرهم وحقوقهم ومراتبهم، وأن فضلهم وعلمهم ونصحهم للَّه ورسوله لا يوجب قبول كل ما قالوه، وما وقع في فتاويهم من المسائل التي خفي عليهم فيها ما جاء به الرسول فقالوا بمبلغ علمهم والحق في خلافها لا يُوجب اطَّراح أقوالهم جملة وتنّقصهم والوقيعة فيهم. فهذان طرفان جائران عن القصد، وقَصْدُ السبيل بينهما، فلا نُؤثّم ولا نَعْصم، ولا (¬1) نسلك بهم مسلك الرافضة في عليّ ولا مسلكهم في الشيخين، بل نسلك [بهم] (¬2) مسلكهم أنفسهم فيمن قبلهم من الصحابة، فإنهم لا يؤثّمونهم [ولا يعصمونهم] (¬3)، ولا يقبلون كل أقوالهم ولا يهدرونها. فكيف ينكرون علينا في الأئمة الأربعة مسلكًا يسلكونه هم في الخلفاء الأربعة وسائر الصحابة؟ ولا منافاة بين هذين الأمرين لمن شرح اللَّه صدره للإسلام، وإنما يتنافيان عند أحد رجلين: * جاهل بمقدار الأئمة وفضلهم. * أو جاهل بحقيقة الشريعة التي بعث اللَّه بها رسوله. ومن له علم بالشرع والواقع؛ يعلم قطعًا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قَدَم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهَفْوَة والزَّلَّة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده؛ فلا يجوز أن يُتَّبع فيها، ولا يجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين (¬4). قال عبد اللَّه بن المبارك: كنتُ بالكوفة فناظروني في النَّبيذ المختلف فيه، فقلت لهم: تعالَوْا فليحتج المحتج منكم عمَّن شاء من أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالرخصة، فإن لم نبين الرد عليه عن ذلك الرجل بشدة (¬5) صحَّت عنه، فاحتجُّوا. فلما (¬6) [جاءوا عن أحد برخصة إلا جئناهم بشدة (¬7)، فلما] (¬8) لم يبق في يد أحد ¬
منهم إلا عبد اللَّه بن مسعود (¬1)، وليس احتجاجهم عنه في شدة النبيذ بشيء يصح عنه، إنما يصح عنه أنه لم ينتبذ له في الجرِّ (¬2) الأخضر، قال ابن المبارك فقلت للمحتج عنه في الرخصة: يا أحمقٌ عُدَّ (¬3) أن ابن مسعود لو كان هاهنا جالسًا فقال: هو لك حلال، وما وصفنا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه في الشدة كان ينبغي لك أن تحذر وتخشى، فقال قائل (¬4): يا أبا عبد الرحمن فالنخعي والشعبي -وسَمَّى عدة معهما- كانوا يشربون الحرام (¬5)؟ فقلت [لهم] (¬6): دعوا عند المناظرة تسميه الرجال، فربّ رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن تكون منه زَلَّة، أفيجوز لأحد أن يَحتجَّ بها؟ فإن أبيتم فما قولكم في عطاء وطاوس وجابر بن زيد وسعيد بن جبير وعكرمة؟ قالوا: كانوا خيارًا، قلت: فما قولكم في الدرهم بالدرهمين يدًا بيد؟ قالوا: حرام، فقلت: إن هؤلاء رأوه حلالًا، أفماتوا وهم ياكلون الحرام؟ فبُهتوا وانقطعت حجتهم (¬7). قال ابن المبارك: "ولقد أخبرني المعتمر بن سليمان قال: رآني أبي وأنا أُنشد الشِّعرَ، فقال: يا بنيَّ لا تنشد الشعر، فقلت: يا أبت كان الحسن ينشد الشعر، وكان ابن سيرين ينشد، فقال: أي بُنَيَّ إن أخذت بشرِّ ما في الحسن وبشرِّ ما في ابن سيرين اجتمع فيك الشَّرُّ كلُّه! " (¬8). قال شيخ الإسلام: "وهذا الذي ذكره (¬9) ابن المبارك متَّفقٌ عليه بين العلماء، فإنه ما من أحد من أعيان الأئمة من (¬10) السابقين الأولين ومَنْ بعدهم إلا وله ¬
أقوال وأفعال خفي عليهم فيها السنة" (¬1). قلت: وقد قاله (¬2) أبو عمر بن عبد البر في أول "استذكاره" (¬3). قال شيخ الإسلام (¬4): "وهذا باب واسع لا يُحصى، مع أن ذلك لا يغضُّ من أقدارهم، ولا يسوغ اتباعهم فيها، [كما] (¬5) قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، قال مجاهد (¬6) والحكم بن عُتيبة (¬7) ومالك (¬8) وغيرهم (¬9): ليس أحد من خَلْق اللَّه إلا يُؤخذ من قوله وبترك إلا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال سليمان التيمي: إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشرُّ كله (¬10)، قال ابن عبد البر (¬11): هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا، وقد روي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه في هذا المعنى ما ينبغي تأمله، فروى كثير بن عبد اللَّه بن عمرو بن عوف المُزنيّ، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إني لأخاف (¬12) على أمتي من بعدي من أعمالٍ ثلاثة، قالوا: وما هي يا رسول اللَّه؛ قال: إني أخاف عليهم من زلَّةِ العالم، ومن ¬
حكم الجائر (¬1)، ومن هَوًى متبع" (¬2). وقال زياد بن حُدَير (¬3): قال عمر [-رضي اللَّه عنه-] (¬4): ثلاثٌ يهدِمْنَ الدين: زلةُ عالم، وجدالُ مناقٍ بالقرآن، وأئمةٌ مضلِّون (¬5). وقال الحسن: قال أبو الدرداء: إن مما أخشى عليكم زلة العالم، وجدال المنافق بالقرآن، والقرآن حق، وعلى القرآن منارٌ كأعلام الطريق (¬6). وكان معاذ بن جبل يقول في خطبته كل يوم، قلما يخطئه (¬7) أن يقول ذلك: اللَّه حَكَمٌ قسط، هلك المرتابون، إن وراءكم فِتَنًا يكثر فيها المال، ويفتح فيها (¬8) القرآن، حتى يقرأه المؤمن والمنافق والمرأة والصَّبي والأسود والأحمر، فيوشك ¬
أحدهم [أن يقول] (¬1): قد قرأت القرآن فما أظنّ أن يتّبعوني حتى ابتدع لهم غيره، فإيّاكم وما ابتدع، فإن كل بدعة ضلالة، وإيّاكم وزيغةَ الحكيم فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وإن المنافق قد يقول كلمة الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به، فإن على الحق نورًا، قالوا: [و] (¬2) كيف زيغة الحكيم؟ قال: هي كلمةٌ تروعكم وتنكرونها وتقولون ما هذه، فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه، فإنه يوشك أن يفيء (¬3) و [أن] (2) يراجع الحق، وإن العلم والإيمان مكانهما إلى يوم القيامة، فمن ابتغاهما وجدهما (¬4). وقال سلمان الفارسي: كيف أنتم عند ثلاثٍ: زلةِ عالمٍ، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم؟ فأما زلة العالم فإن اهتدى فلا تقلدوه دينكم [وتقولون نصنع مثل ما يصنع فُلَان [وننتهي عمّا ينتهي عنه فلان] (¬5)، وإن أخطأ فلا تقطعوا إياسكم منه فتعينوا عليه الشيطان] (¬6)، وأما مجادلة منافق (¬7) بالقرآن فإن للقرآن مَنَارًا كمنار الطريق، فما عرفتم منه فَخُذُوه (¬8) وما لم تعرفوا فَكِلُوا (¬9) إلى اللَّه [تعالى] (¬10)، وأما دنيا تقطع أعناقكم فانظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم (¬11). وعن ابن عباس: "ويلٌ للأتباعِ من عَثَرات العالم، قيل: كيف ذلك (¬12)؟ ¬
قال: يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد مَنْ هو أعلم منه برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1) فيترك قوله [ذلك] (¬2) ثم يمضي الأتْباعُ" (¬3). ذكر أبو عمر هذه الآثار كلها وغيره (¬4). فإذا كنا قد حُذِّرْنَا [من] (¬5) زلة العالم وقيل لنا: إنها من أخوف ما يُخاف علينا، وأمِرْنا مع ذلك أن لا نرجع عنه، فالواجب على من شرح اللَّه صدره للإسلام إذا بلغته مقالة ضعيفة عن بعض الأئمة أن لا يحكيها لمن يتقلَّدها، بل يسكت عن ذكرها إن تيقَّن صحتها (¬6)، وإلا توقف في قبولها؛ [فكثيرًا] (¬7) ما يُحكى عن الأئمة ما لا حقيقة له، وكثير من المسائل يخرِّجها بعضُ الأتباع على قاعدة متبوعِهِ (¬8) مع أن ذلك الإمام لو رأى أنها تفْضِي إلى ذلك لما التزَمها، [وأيضًا فلازِمُ المذهبِ ليس بمذهب، وإن كان لازم النص حقًا (¬9)؛ لأن الشارع لا يجوز عليه التناقض، فلازم قوله حق، وأما مَنْ عداه فلا يمتنع عليه أن يقول الشيء ويخفى عليه لازمُهُ، ولو علم أن هذا لازمه لما قاله؛ فلا يجوز أن يقال: هذا مذهبه، ويُقوَّل ما لم يقله، وكل مَنْ له علم بالشريعة وقدرها وبفضل الأئمة ومقاديرهم وعلمهم وورعهم ونصيحتهم للدِّين تيقن أنهم لو شاهدوا أمر هذه الحيل وما أفْضَتْ إليه من التلاعب بالدين لقطعوا بتحريمها] (¬10). ¬
ومما يوضح ذلك أن الذين أفتوا من العلماء ببعض مسائل الحيل وأخذوا (¬1) ذلك من بعض قواعدهم لو بلغهم ما جاء في ذلك عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه لرجَعُوا عن ذلك يقينًا؛ فإنهم كانوا في غاية الإنصاف، وكان أحدهم يرجع عن رأيه بدون ذلك، وقد صرَّح بذلك غير واحد منهم وإن كانوا كلهم مُجْمِعين على ذلك، قال الشافعي [-رضي اللَّه عنه-] (¬2): إذا صح الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاضربوا بقولي الحائط (¬3)، وهذا وإن كان لسانَ (¬4) الشافعي فإنه لسان (4) الجماعة كلهم (¬5)، [ومن الأصول التي أتفق عليها الأئمة] (¬6) أن أقوال أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المنتشرة لا تُترك إلا بمثلها، [وقد ذكرنا في التحليل والعِينة، وغيرهما من الأحاديث والآثار ما يقطع معه اللبيب أن لا حجَّةَ لأحد في مخالفتها، ولم تشتمل كتب من خالفها من الأئمة عليها حتى يقال: إنهم تأولوها، فعُلم أنها لم تبلغهم] (¬7). يوضح ذلك أن القول بتحريم الحيل قطعي ليس من مسالك الاجتهاد (¬8). إذ لو كان من مسالك (¬9) الاجتهاد لم يتكلم الصحابة والتابعون والأئمة في أرباب (¬10) الحيل بذلك الكلام الغليظ الذي ذكرنا منه اليسير من الكثير، وقد اتفق السلف على أنها بدعة مُحْدَثة؛ فلا يجوز تقليد مَنْ يفتي بها، ويجب نقض حكمه، ولا يجوز الدلالة للمقلِّد على مَنْ يفتي بها، وقد نص الإمام أحمد رحمه اللَّه على ذلك كله، ولا خلاف في ذلك بين الأئمة، كما أن المكيين والكوفيين لا يجوز تقليدهم في مسألة المُتْعَة والصرف والنَّبيذ، ولا يجوز تقليد بعض المدنيين في ¬
[خطأ من زعم أن مسائل الخلاف لا إنكار فيها]
مسألة الحشوس وإتيان النساء (¬1) في أدبارهن بل عند فقهاء الحديث أن مَن شرب النبيذ المخْتَلَف فيه حُدَّ، وهذا فوق الإنكار باللسان، بل عند فقهاء أهل المدينة يفسَّق، ولا تقبل شهادته. [خطأ من زعم أنّ مسائل الخلاف لا إنكار فيها] وهذا يرد قول مَنْ قال: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وهذا [خلاف] (¬2) إجماع الأئمة، ولا يُعلم إمام من أئمة الإسلام قال ذلك، وقد نص الإمام أحمد على أن من تزوج ابنته من الزنا يُقتل، والشافعي (¬3) وأحمد (¬4) ومالك (¬5) لا يَرَوْن خلاف أبي حنيفة (¬6) فيمن تزوج أمه وابنته أن يُدْرَأ عنه الحد بشبهة دارئة للحد، بل عند الإمام أحمد -رضي اللَّه عنه- يقتل، وعند الشافعي ومالك يحد حد الزنا [في] (¬7) هذا، مع أن القائلين بالمتعة والصَّرْف معهم سُنَّةٌ وإن كانت منسوخة (¬8)، وأرباب الحيل ليس معهم سنة، ولا أثر عن صاحب ولا قياس صحيح. [خطأ قول من قال: لا إنكار في المسائل الخلافية] وقولهم: "إن مسائل الخلاف لا إنكار فيها" ليس بصحيح؛ فإن الإنكار إما أن يتوجه إلى القول والفتوى أو العمل (¬9)، أما الأول فإذا كان القولُ يخالف سنةً ¬
[متى يسوغ الاجتهاد؟]
أو إجماعًا شائعًا (¬1) وجب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك فإنَّ بيان ضعفه ومخالفته للدليل إنكار مثله، وأما العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره بحسب درجات الإنكار، وكيف يقولُ فقيهٌ: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، والفقهاءُ من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقضِ حكم الحاكم إذا خالف كتابًا أو سنةً وإن كان قد وافق فيه بعض العلماء؟ وأما إذا لم يكن في المسألة سنةٌ ولا إجماعٌ وللاجتهاد فيها مَسَاغٌ لم يُنكر (¬2) على مَنْ عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا. وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ممن ليس لهم تحقيق في العلم. [متى يسوّغ الاجتهاد؟] والصواب ما عليه الأئمة (¬3) أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب (¬4) العمل به وجوبًا ظاهرًا مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ فيها -إذا عدم فيها الدليل الظاهر الذي يجب العمل به- الاجتهاد لتعارض الأدلة أو لخفاء الأدلة فيها، وليس في قول العالم: "إن هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا (¬5) يسوغ فيها الاجتهاد" طَعْنٌ على مَنْ خالفها، ولا نسبة له إلى تعمّد (¬6) خلاف الصواب، والمسائل التي اختلف فيها السلف والخلف وقد تيقَّنا صحة أحد القولين فيها كثير، مثل كون الحامل تعتد بوضع الحمل (¬7)، وأن إصابة الزوج ¬
الثاني شرط في حلِّها للأول (¬1)، وأن الغسل يجب بمجرد الإيلاج وإن لم يُنْزِل (¬2)، وإن ربا الفَضْل حَرَام (¬3)، وأن المتعة حرام (¬4)، وأن النَّبيذ المُسْكر حرام (¬5)، وأن المسلم لا يقتل بكافر (¬6)، وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفرًا (¬7)، وأن السنة في الركوع وضع اليدين على الركبتين دون التطبيق (¬8)، وأن رفع اليدين عند ¬
الركوع والرفع منه سنة (¬1)، وأن الشفعة ثابتة في الأرض والعَقَار (¬2)، وأن الوقف صحيح لازم (¬3)، وأن دية الأصابع سواء (¬4)، وأن يد السارق تقطع في ثلاثة دراهم (¬5)، وأن الخاتم من حديد (¬6) يجوز أن يكون صُدَاقًا (¬7)، وأن التيمم إلى ¬
الكُوعين بضربة واحدة جائز (¬1)، وأن صيام الوليّ عن الميت يُجزئ عنه (¬2)، وأن الحاج يلبّي حتى يرمي جمرة العقبة (¬3)، وأن المحرم له استدامة الطيب دون ابتدائه (¬4)، وأن السنة أن يسلّم في الصلاة عن يمينه وعن يساره: السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه (¬5)، وأن خِيَارَ المجلس ثابتٌ في البيع (¬6)، وأن المُصَرَّاة يرد معها عوض اللبن صاعًا من تمر (¬7)، وأن صلاة الكسوف ¬
[لا عذر يوم القيامة للمقلد]
بركوعين في كل ركعة (¬1)، وأن القضاء جائزٌ بشاهد ويمين (¬2)، إلى أضعاف أضعاف ذلك من المسائل، ولهذا صرح (¬3) الأئمة بنقض حكم مَنْ حكم بخلاف كثير من هذه المسائل، من غير طعن منهم على من قال بها. [لا عذر يوم القيامة للمقلِّد] وعلى كل حال فلا عذر عند اللَّه يوم القيامة (¬4) لمن بلغه [ما] (¬5) في المسألة من هذا الباب وغيره من الأحاديث والآثار التي لا معارض لها إذا نَبَذَها وراء ظهره، وقلَّد مَنْ نهاه عن تقليده، وقال له: لا يحلُّ لك أن تقول بقولي إذا خالف السنة، وإذا صح الحديث فلا تعبأ بقولي، وحتى لو لم يقل له ذلك لكان (¬6) هذا هو الواجب عليه وجوبًا لا فسحة [له] (5) فيه، وحتى لو قال له خلاف ذلك لم يَسَعْه إلا اتباع الحجة، ولو لم يكن في هذا الباب شيء من الأحاديث والآثار البتة (¬7) فإن المؤمن يعلم بالاضطرار أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يكن يُعلِّم أصحابه هذه الحيل، ولا يدلّهم عليها، ولو بلغه عن أحد فعل شيئًا منها لأنكر عليه، ولم يكن أحد من أصحابه (¬8) يفتي بها ولا يعلمها، وذلك مما يَقطع به كل مَنْ له أدنى اطلاع على أحوال القوم وسيرتهم وفتاويهم، وهذا القدر لا يحتاج إلى دليل أكثر من معرفة حقيقة [الدين] (5) الذي بعث اللَّه به رسوله. ¬
فصل [بيان بطلان الحيل على التفصيل]
فصل [بيان بطلان الحيل على التفصيل] فلنرجع إلى المقصود، وهو بيان (¬1) بطلان هذه الحيل على التفصيل، وأنها لا تتمشى لا (¬2) على قواعد الشرع ومصالحه وحكمه ولا على أصول الأئمة. [إبطال حيلة تصحيح وقف الإنسان على نفسه] قال شيخنا (¬3): "ومن الحيل الجديدة (¬4) التي لا أعلم بين فقهاء الطوائف خلافًا في تحريمها أن يريد الرجل أن يقف على نفسه وبعد (¬5) موته على جهات متصلة، [فيقول أرباب الحيل] (¬6): أقِرَّ أن هذا المكان (¬7) الذي بيدك وَقْفٌ عليك من غيرك، ويعلِّمونه الشروط التي يريد إنشاءها، فيجعلها إقرارًا؛ فيعلّمونه الكذب في الإقرار، [ويشهدون على الكذب وهم يعلمون] (¬8)، ويحكمون بصحته، ولا يستريب مسلم في (1) أن هذا حرام؛ فإن الإقرار شهادة (¬9) [من] (¬10) الإنسان على نفسه، فكيف يلقّن شهادة الزور ويشهد عليه بصحتها؟ ثم (¬11) إن كان وقف الإنسان على نفسه باطلًا في دين اللَّه فقد علَّمتموه (¬12) حقيقة الباطل؛ فإن اللَّه تعالى (¬13) قد علم أن هذا لم يكن وقفًا قبل الإقرار، ولا صار وقفًا والإقرار الكاذب (¬14)، فيصير المال حرامًا على مَنْ يتناوله (¬15) إلى يوم القيامة، وإن كان وقف الإنسان ¬
فصل [حيلة في الوقف]
على نفسه صحيحًا (¬1) فقد أغنى اللَّه تعالى عن تكلف الكذب". قلت: ولو (¬2) قيل: إنه مسألة خلاف يسوغ فيها الاجتهاد فإذا وقفه على نفسه كان لصحته مَسَاغ لما فيه من الاختلاف السائغ (¬3)، وأما الإقرار بوقفه من غير إنشاء متقدم فكذب بَحْت، ولا يجعله ذلك وقفًا اتفاقًا إذا أخذ الإقرار على حقيقته، ومعلوم قطعًا أن تقليد الإنسان لمن يفتي بهذا القول ويذهب إليه أقربُ إلى الشرع والعقل من توصله إليه بالكذب والزور والإقرار الباطل؛ فتقليد عالم من علماء المسلمين أعْذرُ عند اللَّه من تلقين الكذب والشهادة عليه. فصل (¬4) [حيلة في الوقف] ولهم حيلة أخرى -وهي أن الذي يريد الوقف يملّكه لبعض مَنْ يثق به (¬5) ثم يَقِفُه ذلك المملَّكُ عليه بحسب اقتراحه- وهذا لا شك في قبحه وبطلانه؛ فإنَّ [حد] التمليك [المشروع المعقول] (¬6) أن يرضى المملِّك بنقل الملك إلى المملَّك بحيث يتصرف فيه بما يُحِب (¬7) من وجوه التصرفات، وهنا قد علم اللَّه تعالى [والحفَظَة الموكلون بالعبد ومن يشاهدهم (¬8) من بني آدم] (¬9) من هذا (¬10) [المملِّك] (6) أنه لم يرض بنقل الملك إلى هذا، ولا خَطَر له على بال، ولو سأله درهمًا واحدًا فلعله كان لم يسمح به عليه (¬11)، ولم يرض بتصرفه فيه إلا بوقفه على المملك خاصة، بل قد ملَّكه إياه بشرط أن يتبرع عليه به وقفًا إما بشرط (¬12) مذكور وإما بشرط (12) معهود متواطأ عليه، وهذا تمليكٌ فاسدٌ قطعًا، وليس بهبة ولا صدقة ولا هدية ولا وصية ولا إباحة، وليس هذا بمنزلة العُمْرَى والرُّقْبَى ¬
فصل [إبطال حيلة لتأجير الوقف مدة طويلة]
المشروط فيها [العَوْد] (¬1) إلى المعمر، فإنه (¬2) هناك مَلَّكه التصرف فيه، وشَرَطَ العود، وهنا لم يملكه شيئًا [قط]، إنما تكلم بلفظ التمليك غيرَ قاصد معناه، والموهوب له يصدقه أنهما لم يقصدا حقيقة الملك، بل هو استهزاء بآيات اللَّه وتلاعب بحدوده، وسنذكر إن شاء اللَّه تعالى في الفصل الذي بعد هذا الطريق [الشرعية] (¬3) المُغْنية عن هذه الحيلة الباطلة. فصل [إبطال حيلة لتأجير الوقف مدة طويلة] ومن الحيل الباطلة: تحيّلهم على إيجار الوقف مئة سنة مثلًا، وقد شرط الواقف ألا يؤجّر أكثر من سنتين أو ثلاثًا؛ فيؤجره المدة الطويلة في عقود متفرقة في مجلس واحد، وهذه الحيلة باطلة قطعًا؛ فإنه إنما قصد بذلك دفع المفاسد المترتبة على طول مدة الإجارة، فإنها مفاسد كثيرة جدًا، وكم قد ملك من الوقف بهذه الطريق (¬4)، وخرج عن الوقفيّة بطول المدة واستيلاء المستأجر فيها على الوقف هو وذريته وورثته سنينًا بعد سنين؟ وكم فات البطون اللواحق من منفعة الوقفما [بالإيجار الطويل؟ وكم أوجر الوقف] (¬5) بدون إجارة مثله لطول المدة وقبض الأجرة؟ وكم زادت أجرة الأرض أو العَقَار (¬6) أضعاف ما كانت ولم يتمكن الموقوف عليه من استيفائها؟ وبالجملة فمفاسد هذه الإجارة تفوت العَدَّ، والواقف إنما قصد دفعها، وخشي منها بالإجارة (¬7) الطويلة، فصرَّح بأنه لا يؤجّر أكثر من تلك المدة التي شرطها، فإيجاره أكثر منها سواء كان في عقد أو عقودٍ مخالفةٍ صريحة لشرطه، مع ما فيها من المفسدة بل المفاسد العظيمة. وياللَّه العجب! هل تزول هذه المفاسد بتعدد العقود في مجلس واحد؟ وأي غرضٍ للعاقل أن يمنع الإجارة لأكثر من تلك المدة ثم يجوّزها في ساعة واحدة ¬
في عقود متفرقة؟ وإذا أخره في عقوده متفرقة أكثر من ثلاث سنين، أيصحُّ أن يقال: وَفَّى بشرط الواقف ولم يخالفه؟ هذا من أبطل الباطل وأقبح الحيل، وهو مخالف لشرط الواقف ومصلحة الموقوف عليه، وتعريض لإبطال هذه الصدقة، وأن لا يستمر نفعها، وألا (¬1) يصل إلى من بعد الطبقة الأولى وما قاربها، فلا يحل لمُفْتٍ أن يفتي بذلك، ولا لحاكم أن يحكم به، ومتى حكم به نقض حكمه، اللهم إلا أن يكون فيه مصلحة الوقف (¬2)، بأن يخرب ويتعطل (¬3) نفعه فتدعو الحاجة إلى إيجاره مدة طويلة يعمر فيها بتلك الأجرة، فهنا يتعين مخالفة شرط الواقف تصحيحًا لوقفه واستمرارًا لصدقته، وقد يكون هذا خيرًا من بيعه والاستبدال به، وقد يكون البيع أو الاستبدال (¬4) خيرًا من الإجارة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]. والذي يُقضى منه العجب التحيّل على مخالفة شرط الواقف وقصدِه الذي يقطع بأنه قَصْدُه مع ظهور المفسدة، والوقوفُ مع ظاهر شرطه ولفظِهِ المخالفِ لقصده وللكتاب والسنة ومصلحة الموقوف عليه، بحيث يكون مرضَاةَ للَّه ورسوله ومصلحة الواقف وزيادة أجره ومصلحة الموقوف عليه وحصول الرفق به مع كون العمل أحبَّ إلى اللَّه ورسوله، لا يغير شرط الواقف، وبجري مع ظاهر لفظه، وإن ظهر قصده بخلافه، وهل هذا إلا من قلَّة الفقه؟ بل من عدمه، فإذا تحيلتم على إبطال مقصود الواقف حيث يتضمن المفاسدَ العظيمةَ فهلا تحيَّلتم على مقصوده ومقصود الشارع حيث يتضمن المصالح العظيمة (¬5) بتخصيص لفظه أو تقييده أو تقديم شرط اللَّه عليه؟ فإن شرط اللَّه أحق وأوثق، بل يقولون هاهنا: نصوص الواقف كنصوص الشارع، وهذه جملة من أبطل الكلام، وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدًا، بل نصوص الواقف يتطرق إليها (¬6) التناقض والاختلاف، وبجب إبطالها إذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها، ولا حرمة لها حينئذ البتة، ويجوز -بل يترجح- مخالفتها إلى ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله منها وأنفع للواقف والموقوف عليه، ويجوز اعتبارها والعدول عنها مع تساوي الأمرين، ولا يتعيّن الوقوف معها، وسنذكر إن شاء اللَّه تعالى فيما بعد، ونبين ما يحل الإفتاء به وما ¬
فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف ألا يفعل ما لا يفعله بنفسه عادة]
لا يحل من شروط الواقفين؛ إذ القصد بيان بطلان هذه الحيلة شرعًا وعرفًا ولغةً. فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف ألا يفعل ما لا يفعله بنفسه عادة] ومن الحيل الباطلة ما لو حلف أن لا يفعل شيئًا، ومثله لا يفعله نفسه أصلًا، كما لو حلف السلطان أن لا يبيع كذا، ولا يحرث هذه الأرض ولا يزرعها، ولا يُخرج هذا من بلده، ونحو ذلك، فالحيلة أن يأمر غيره أن يفعل ذلك، ويبر في يمينه، إذا لم يفعله بنفسه، وهذا من أبرد الحيل وأسمجها وأقبحها، وفعل ذلك هو الحنث الذي حلف عليه بعينه، ولا يشك في أنه حانث، ولا أحد من العقلاء، وقد علم اللَّه ورسوله والحَفَظَة -بل والحالف نفسه (¬1) - أنه إنما حلف على نفي الأمر والتمكين من ذلك، لا على مباشرته، والحيل إذا أفْضَتْ إلى مثل هذا سمجت غاية السماجة، ويلزم أرباب الحيل والظاهر أنهم يقولون: إنه إذا حلف أن لا يكتب لفلان توقيعًا ولا عهدًا ثم أمر كُتَابه أن يكتبوه له، فإنه لا يحنث، سواء كان أميًا أو كاتبًا، وكذلك إذا حلف أن لا يحفر هذا (¬2) البئر، ولا يَكْرِيَ هذا النهر، فأمر غيره بحَفْره وإكرائه أنه لا يحنث. فصل [إبطال حيلة لمن حلف لا يفعل شيئًا ففعل بعضه] ومن الحيل الباطلة لو حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يسكن في [هذه] (¬3) الدار هذه السنة، أو لا يأكل هذا الطعام، [قالوا: يأكل] (¬4) الرغيف ويدع [منه] (¬5) لقمة واحدة، ويسكن السنة كلها إلا يومًا واحدًا، ويأكل الطعام كله إلا القَدْرَ اليسير منه ولو أنه لقمة. وهذه الحيلة باطلة باردة (¬6)، ومتى فعل ذلك فقد أتى بحقيقة الحِنْث، وفَعَلَ ¬
فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الحضانة]
نَفْسَ ما حلف عليه، وهذه الحيلة لا تتأتى على قول من يقول: يحنث بفعل (¬1) بعض المحلوف عليه (¬2) ولا على قول من يقول: لا يحنث، لأنه لم يرد مثل هذه الصورة قطعًا، وإنما أراد به إذا أكل لقمة مثلًا من الطعام الذي حلف أنه لا (¬3) يأكله أو حبة من القِطْفِ الذي حلف على تركه، ولم يرد أنه يأكل القِطْفَ إلا حبَّة واحدة منه، وعالم لا يقول هذا. ثم يلزم هذا المتحيل أن يجوِّز للمكلف فعل [كل] (¬4) ما نهى الشارع عن جملته فيفعله إلا القدر اليسير منه؛ فإن البر والحنث في الأيمان نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، ولذلك (¬5) لا يبر إلا بفعل المحلوف عليه جميعِهِ، لا بفعل بعضه، كما لا يكون مطيعًا إلا بفعله جميعِهِ، ويحنث بفعل بعضه كما يعصي بفعل بعضه، فيلزم هذا القائل أن يجوِّز للمحرم في الأحرام حَلْقَ (¬6) تسعة أعشار رأسه، بل وتسعة أعشار العشر الباقي؛ لأن اللَّه تعالى إنما نهاه عن حَلْق رأسه كله، لا عن بعضه، كما يُفتي لمن حلف لا يحلق رأسَه أن يحلقه إلا القدر اليسير منه. وتأمل لو فعل المريض هذا فيما نهاه الطبيب عن تناوله، هل يُعَدُّ قابلًا منه؟ أو لو فعل مملوكُ الرجلِ أو زوجته أو ولده ذلك فيما نهاهم عنه، هل يكونون مطيعين له أم مخالفين؟ وإذا تحيل أحدهم على نقض غرض الآمر وإبطاله بأدنى الحيل، هل كان يقبل ذلك منه ويحمده عليه أو يعذره؟ وهل يعذر أحدًا من الناس يعامله بهذه الحيل؟ فكيف يُعامِل هو بهذا مَنْ لا تخفى عليه خافية؟ فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الحضانة] ومن الحيل الباطلة المحرمة ما لو أراد الأب إسقاط حَضَانة الأم أن يسافر إلى غير بلدها، فيتبعه الولد. وهذه الحيلة مُنَاقِضة لما قصده الشارع؛ فإنه جعل الأم أحق بالولد من الأب مع ¬
قرب الدار وإمكان اللقاء كل وقت لو قضى به للأب، وقضى أن لا تولَّه والدة على ولدها، وأخبر أن مَنْ فَرَّق بين والدة وولدها فرّق اللَّه بينه وبين أحبته يوم القيامة (¬1)، ¬
ومنع أن تباع (¬1) الأم (¬2) دون ولدها والولد دونها، وان كانا في بلد واحد (¬3)، فكيف يجوز مع هذا التحيلُ على (¬4) التفريق بينها وبين ولدها تفريقًا تعزُّ معه رؤيته ولقاؤه ويعز عليها الصبر عنه وفقده؟ وهذا (¬5) من أمحل المحال، بل قضاء اللَّه ورسوله أحق أن الولد للأم: سافر الأب أو أقام، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال للأم: "أنتِ أحَقُّ به ما لم تنكحي" (¬6) ¬
فصل [إبطال حيلة لجعل تصرفات المريض نافذة]
فكيف يقال: أنت أحق به ما لم يسافر الأب (¬1)؟ وأين هذا في كتاب اللَّه عز وجل أو سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فتاوى أصحابه رضي اللَّه عنهم أو القياس الصحيح؟ فلا نص ولا قياس ولا مصلحة. فصل [إبطال حيلة لجعل تصرفات المريض نافذة] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد حِرْمَان امرأته من الميراث، أو كانت (¬2) ترِكَتُه كلها عبيدًا وإماءً فأراد جَعْلَ تدبيرهم (¬3) من رأس المال، أن يقول في الصورة الأولى: إذا مُتُّ من مرضي هذا فأنت طالق قبل مرضي بساعةٍ ثلاثًا، ويقول في الصورة الثانية: إذا متُّ في (¬4) مرضي هذا فأنتم عُتَقَاء قبله بساعة، وحينئذ فيقع الطلاق والعتق في الصحة. وهذه حيلة باطلة؛ فإن التعليق إنما وقع منه في حال مرض موته، ولم يقارنه أثره، وهو في هذه الحال لو نَجَّزَ العتق والطلاق لكان العتق من الثلث والطلاق غير مانع للميراث (¬5)، مع مقارنة أثره [له] (¬6)، وقوة المنجَّز وضعف المعلَّق، وأيضًا فالشرط هو موته في (¬7) مرضه، والجزاء المعلق عليه هو العتق والطلاق، والجزاء يستحيل (¬8) أن يسبق شرطه؛ إذ في ذلك إخراج الشرط عن حقيقته وحكمه، وقد تقدم تقرير ذلك في الحيلة السُّرَيْجية. فصل [إبطال حيلة لتأخير رأس مال السلم] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا كان مع أحدهما دينار رديء ومع الآخر نصف دينار جيد، فأراد بيع أحدهما بالآخر، قال أرباب الحيل: الحَيلةُ أن يبيعه دينارًا بدينار في الذمّة، ثم يأخذ البائع الدينارَ الذي يريد شراءه بالنصف، فيريد الآخر دينارًا عوضه، فيدفع إليه نصف الدينار وفاءً، ثم يستقرضه منه، فيبقى له في ¬
[تحيل في السلم]
ذمته نصف دينار، ثم يعيده إليه وفاءً عن قرضه، فيبرأ منه (¬1)، ويفوز كل منهما بما كان مع الآخر. [تحيل في السلم] ومثل هذه الحيلة لو أراد أن يجعل بعض رأس مال السَّلَم دينارًا (¬2) يوفيه إياه في وقت آخر، بأن يكون معه نصف دينار [ويريد أن يُسلم إليه دينارًا] (¬3) في كَرِّ حنطةٍ، فالحيلة أن يسلم إليه دينارًا غير معين، ثم يوفيه نصف الدينار، ثم يعود فيستقرضه منه، ثم يوفيه إياه عمَّا له عليه من دين، فيتفرَّقان وقد بقي له في ذمته نصف دينار. وهذه الحيلة من أقبح الحيل؛ فإنهما لا يخرجان بها عن بيع دينار بنصف دينار (¬4)، ولا عن تأخير رأس مال السلم عن مجلس العقد، ولكن توصَّلَا إلى ذلك بالقَرْض الذي جعلا صورته مبيحة لصريح الربا، ولتأخير قبض رأس مال السلم، وهذا غير القرض الذي جاءت به الشريعة، وهو قَرْضٌ لم يشرعه اللَّه، وإنما اتخذه المتعاقدان تلاعبًا بحدود اللَّه وأحكامه، واتخاذًا لآياته هزوًا، وإذا كان القرض الذي يجر النفع ربًا عند صاحب الشرع، فكيف بالقرض الذي يجر صريح الربا وتأخير قبض رأس مال السلم؟ فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الشفعة] ومن الحيل الباطلة المحرمة التحيل على إسقاط ما جَعله اللَّه سبحانه حقًا للشريك على شريكه من استحقاق الشفعة دفعًا للضرر، والتحيل لإبطالها مناقض لهذا الغرض، وإبطال لهذا الحكم بطريق التحيل (¬5). وقد ذكروا وجوهًا من الحيل: منها: أن يتفقا على مقدار الثمن، ثم عند العقد يصبره صُبْرة غير موزونة، فلا يعرف الشفيع ما يدفع، فإذا فَعَلَا ذلك فللشفيع أن يستحلف (¬6) المشتري أنه لا ¬
يعرف قدر الثمن، فإن نكل قضى عليه بنكوله، وإن حلف فللشفيع أخذ الشَّقْصِ بقيمته. ومنها: أن يَهَبَ الشقص للمشتري، ثم يهبه المشتري ما يرضيه، وهذا لا يسقط الشفعة، وهذا بيع وإن لم يتلفظَّا به، فله أن يأخذ الشقص بنظير الموهوب. ومنها: أن يشتري الشقص، ويضم إليه سكينًا أو منديلًا بألف درهم، فيصير حصة الشقص من الثمن مجهولة، وهذا لا يُسقط الشفعة، بل يأخذ الشفيع الشقص بقيمته كما لو اسْتُحِق أحد العوضين وأراد المشتري أخذ الآخر، فإنه يأخذه بحصته من الثمن إن انقسم الثمن عليهما بالأجزاء، وإلا فبقيمته، وهذا الشقص مستحق شرعًا؛ فإن الشارع جعل الشفيع أحق به من المشتري بثمنه، فلا يسقط حقه منه بالحيلة والمكر والخداع. ومنها: أن يشتري الشقص بألف دينار، ثم يصارفه عن كل دينار بدرهمين فإذا أراد أخْذَه أخَذَه بالثمن الذي وقع عليه العقد. وهذه الحيلة لا تسقط الشفعة، وإذا أراد أخْذَه أخَذَه بالثمن الذي استقر عليه العقد وتواطأ عليه البائع والمشتري؛ فإنه هو الذي انعقد به العقد، ولا عبرة بما أظهراه من الكذب والزور والبهتان الذي لا حقيقة له؛ ولهذا لو استحق المبيع فإن المشتري لا يرجع على البائع بألف دينار، وإنما يرجع عليه بالثمن الذي تواطآ عليه واستقر عليه العقد؛ فالذي يرجع به عند الاستحقاق هو الذي يدفعه الشفيع عند الأخذ، هذا محض العَدْلِ الذي أرسل اللَّه سبحانه به رسله وأنزل به كتبه ولا تحصل (¬1) الشريعة سواه. ومنها: أن يشتري بائعُ الشّقْص [من المشتري عبدًا قيمته مئة درهم بألف درهم في ذمته، ثم يبيعه الشقص بالألف (¬2)، وهذه الحيلة لا تبطل الشفعة، ويأخذ الشفيع الشقص] (¬3) بالثمن الذي يرجع به المشتري على البائع إذا استحق المبيع، وهو قيمة العبد. ومنها: أن يشتري الشَّقْصَ بألف وهو يساوي مئة، ثم يبرئه البائع من تسع مئة، وهذا لا يسقط الشفعة، ويأخذه الشفيع بما بقي من الثمن بعد الإسقاط، وهو الذي يرجع به إذا استحق المبيع. ¬
ومنها: أن يشتري جزءًا من الشقص بالثمن كله، ثم يهب له بقية الشقص. وهذا لا يُسْقِطها، ويأخذ الشفيع الشقص كلَّه بالثمن؛ فإن هذه الهبة لا حقيقة لها، والموهوب هو المبيع بعينه، ولا تغيّر حقائق العقود وأحكامها التي شرعت فيها بتغيّر العبارة. وليس للمكلَّف أنْ يغيّر حكم العقد بتغيير عبارته فقط مع قيام حقيقته، وهذا لو أراد من البائع أن يهبه جزءًا من ألف جزء من الشَّقْص بغير عوض لما سمحتْ نفسُه بذلك البتة، فكيف يَهَبهُ ما يساوي مئة ألف بلا عوض؟ وكيف يشتري منه (¬1) الآخر مئة درهم بمئة ألف [درهم] (¬2)؟ وهل هذا إلا سَفَهٌ يقدح في صحة العقد؟ قال الإمام أحمد رضي اللَّه عنه في رواية إسماعيل بن سعيد، وقد سأله عن الحيلة في إبطال الشفعة، فقال: لا يجوز شيء من الحيل في ذلك، ولا في إبطال حق مسلم (¬3). وقال عبد اللَّه بن عمر -رضي اللَّه عنه- في هذه الحيل (¬4) وأشباهها: مَنْ يخدع اللَّه يخدعه، والحيلة خديعة (¬5). وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تحلُّ الخَدِيعَةُ لمسلم" (¬6)، واللَّه تعالى ذم المخادعين، والمتحيل مخادع؛ لأن (¬7) الشفعة شُرعت لدفع الضرر، فلو شرع ¬
فصل [إبطال حيلة لتفويت حق القسمة]
التحيل لإبطالها لكان عَوْدًا على مقصود الشريعة بالإبطال، ولَلَحِقَ الضرر الذي قصد إبطاله. فصل [إبطال حيلة لتفويت حق القسمة] ومن الحيل الباطلة التحيلُ على إبطال القسمة في الأرض القابله لها، بأن يقف الشريك منها سَهْمًا من مئة ألف سهم مثلًا على [مَنْ يريد] (¬1)، فيصير الشريك شريكًا في الوقف، والقسمة بيع (¬2)؛ فتبطل. وهذه حيلة (¬3) فاسدة باردة لا تبطل حق الشريك من القسمة، وتجوز القسمة ولو وقف حصته كلها؛ فإن القسمة إفراز حق وإن تضمنت مُعَاوضة، وهي غير البيع حقيقة واسمًا وحكمًا وعرفًا، ولا يُسمَّى القاسم بائعًا لا لغةً ولا شرعًا ولا عرفًا، ولا يقال للشريكين إذا تقاسما: تَبَايَعا، ولا يقال لواحد منهما: إنه قد باع ملكه، ولا يدخل المتقاسمان تحت نص واحد من النصوص المتناولة للبيع، ولا يقال لناظر الوقف إذا أفرز الوقف وقسمه من غيره: إنه قد باع الوقف، وللآخر إنه قد اشترى الوقف، وكيف ينعقد البيع بلفظ القسمة؟ ولو كانت بيعًا لوجَبَتْ فيها الشفعة، ولو كانت بيعًا لما أُجبر الشريك عليها إذا طلبها شريكه؛ فإن أحدًا لا يُجْبَر على بيع ماله، ويلزم (¬4) بإخراج القرعة، بخلاف البيع، ويتقدَّر أحد النصيبين فيها بقدر النصيب الآخر إذا تساويا، وبالجملة فهي منفردة عن البيع باسمها وحقيقتها وحكمها. فصل [إبطال حيلة لتصحيح المزارعة مع القول بفسادها] ومن الحيل الباطلة التحيل على تصحيح المزارعة لمن يعتقد فسادها، بأن يدفع الأرض إلى المزارع ويؤجّره نصفها مشاعًا مدة معلومة يزرعها ببذره على أن يزرع للمؤجر النصف الآخر ببذره تلك المُدَّة، ويحفظه ويسقيه ويحصده ويذريه، فإذا فعلا ذلك أخرج البذر منهما نصفين نصفًا من المالك ونصفًا من المزارع، ثم ¬
خَلَطاه، فتكون الغلة بينهما نصفين، فإذا أراد صاحب الأرض أن يعود إليه ثلثا الغلة آجَرَه ثلث الأرض مدة معلومة على أن يزرع له مدة الإجارة ثلثي الأرض ويخرجان البذر منهما أثلاثًا ويخلطانه، وإن أراد المزارع أن يكون له ثلثا البذر استأجر ثلثي الأرض بِزَرع (¬1) الثلث الآخر كما تقدم (¬2). فتأمل هذه الحيلة الطويلة الباردة المتعبة، وترك الطريق المشروعة التي فعلها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى كأنها رأي عين، واتفق عليها الصحابة، وصَحَّ فعلها عن الخلفاء الراشدين صحةً لا يشك فيها، كما حكاه البخاري في "صحيحه" (¬3)، فما مثل هذا (¬4) العدول عن طريقة القوم إلى هذه الحيلة الطويلة السمجة إلا بمنزلة مَنْ أراد الحجّ (¬5) من المدينة على الطريق التي حجّ فيها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه، فقيل له: هذه الطريق مسدودة، وإذا أردت أن تحج فاذهب إلى الشام ثم منها إلى العراق، ثم حج على دَرْب العراق وقد وصلت. فياللَّه العجب! كيف تُسدُّ عليه الطَّريقُ القريبة السهلة القليلة الخطر التي سلكها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه ويُدل على الطرق (¬6) الطويلة الصعبة المشقة الخطرة التي لم يسلكها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا أحد من أصحابه؟ فلله العظيمِ عظيمُ حمدٍ ... كما أهدى لنا نعمًا غزارًا وهذا شأن جميع الحيل إذا كانت صحيحة جائزة، وأما إذا كانت باطلة (4) محرمة فتلك لها شأن آخر، وهي طريق إلى مقصد آخر (¬7) غير الكعبة البيت الحرام، وباللَّه التوفيق. ¬
فصل [إبطال حيلة لإسقاط حق الأب في الرجوع في الهبة ونحو ذلك]
فصل [إبطال حيلة لإسقاط حقّ الأب في الرجوع في الهبة ونحو ذلك] ومن الحيل الباطلة التي لا تُسقط الحقَّ [إذا أراد الابنُ] (¬1) مَنْعَ الأب الرجوعَ فيما وهبه إياه أن يبيعه لغيره، ثم يستقيله إياه، وكذلك المرأة إذا أرادت منع الزوج من الرجوع في نصف الصداق باعته ثم استقالته. وهذا لا يمنع الرجوع؛ فإن المحذور إبطال حق الغير من العين، وهذا لا يبطل للغير حقًا، والزائل العَائد كالذي لم يزل ولا سيما (¬2) إذا كان زواله إنما جُعل ذَرِيعة وصورة إلى إبطال حق الغير؛ فإنه لا يبطل بذلك. يوضحه أن الحق كان متعلّقًا بالعين تعلقًا قَدَّمَ الشارعُ مستحقَّه على المالك لقوته، ولا يكون صورة إخراجه عن يد المالك إخراجًا لا حقيقة له أقوى من الاستحقاق الذي أثبت الشارع به انتزاعه من يد المالك، بل لو كان الإخراج حقيقةً ثم عاد لعاد حَقُّ الأول من الأخذ لوجود مقتضيه وزوال مانعه، والحكم إذا كان له مقتضٍ فمنعَ مانعٌ من إعماله ثم زال المانعُ اقتضى المُقتضى عمله. فصل [إبطال حيلة لتجويز الوصية للوارث] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أراد أن يخص بعض ورثته ببعض الميراث، وقد علم أن الوصية لا تجوز، وأن عطيّته في مرضه وصية؛ فالحيلة أن يقول: كنت وهبت له كذا وكذا في صحتي، أو يقرّ له بدَيْن، فيتقدم به. وهذا باطل، والإقرار للوارث في مرض الموت لا يصح للتهمة عند الجمهور (¬3)، بل مالك يرده للأجنبي إذا ظهرت التهمة (¬4)، وقوله هو الصحيح، ¬
فصل [تحيل لمحاباة وارثه في مرضه]
وأما إقراره أنه كان وهَبَه إياه في صحته فلا يقبل أيضًا كما لا يقبل (¬1) إقراره له بالدَّيْن، ولا فرق بين إقراره له بالدين أو بالعين، وأيضًا فهذا المريض لا يملك إنشاء عقد التبرع المذكور؛ فلا يملك الإقرار به، لاتحاد المعنى الموجب لبطلان الإنشاء، فإنه بعينه قائم في الإقرار، وبهذا يزول (¬2) النقض بالصور التي يملك فيها الإقرارَ دون الإنشاء، فإن المعنى الذي منع من الإنشاء هناك لم يوجد في الإقرار، فتأمل هذا الفرق. فصل [تحيل لمحاباة وارثه في مرضه] ومن الحيل الباطلة [المحرمة] (¬3) إذا أراد أن يحابي وارثَه في مرضه أن يبيع أجنبيًا شفيعُه وارثُه شِقْصًا بدون ثمنه، ليأخذه وارثه بالشفعة. فمتى قصد ذلك حرمت المحاباة المذكورة، وكان للورثة إبطالها إذا كانت حيلة على محاباة الوارث، وهذا كما يبطل الإقرار له؛ لأنه [قد] (¬4) يتخذ حيلة لتخصيصه. وقال أصحابنا: له الأخذ بالشفعة، وهذا لا يستقيم على أصول المذهب، إلا إذا لم يكن حيلة، فأما إذا كان حيلة فأصولُ المذهب تقتضي ما ذكرناه، ومن اعتبر سَدَّ الذرائع فأصله يقتضي عدم الأخذ بها وإن لمَ يقصد الحيلة، فإن قصد التحيل امتنع الأخذ لذلك، وإن لم يقصده امتنع سَدًّا للذريعة. فصل [تحيلهم لإسقاط الأرش (¬5) في الموضحة] ومن الحيل الباطلة المحرمة إذا أوْضَحَ رأسَه في موضعين وجب عليه عشرة [أبْعِرَةٍ] (¬6) من الإبل، فإذا أراد جعلها خمسة فليوضحه ثالثة تخرق ما بينهما. ¬
فصل [إبطال حيل لإسقاط حد السرقة]
وهذه الحيلة مع أنها محرمة فإنها لا تُسْقِطُ ما وجب عليه، فإن العَشْرَ لا تجب عليه إلا بالاندمال، فإذا فعل ذلك بعد الاندمال فهي موضحة (¬1) ثالثة، وعليه ديتها، فإن كان قبل الاندمال ولم (¬2) يستقر أرْشُ الموضحتين الأوليين حتى صار الكل واحدة من جَانب (¬3)، واحد فهو كما لو سَرَتِ الجناية حتى خرقت ما بينهما فإنها تصير واحدة. وهكذا لو قطع أصبعًا بعد أصبع من امرأة حتى قطع أربعًا؛ فإنه يجب عشرون، ولو اقتصر على الثلاث وجب ثلاثون، وهذا بخلاف ما لو قطع الرابعة بعد الاندمال؛ فإنه يجب فيها عَشْر، كما لو تعدد الجاني فإنه يجب على كل واحد أرْشُ جنايته قبل الاندمال وبعده، وكذلك لو قطع أطراف رجل وجب عليه دِيَّاتٌ، فإن اندملت ثم قتله بعد ذلك فعليه مع تلك الديات دية نفس، ولو قتله قبل الاندمال فدية واحدة، كما لو قطَّعه عضوًا عضوًا حتى مات. فصل [إبطال حيل لإسقاط حد السرقة] ومن الحيل الباطلة الحيلُ التي فتحت للسُّرَّاق واللصوص التي لو صحت لم تقطع يد سارق أبدًا، ولعمَّ الفساد، وتتابع السراق في السرقة. فمنها: أن ينقب أحدهما [السطح] (¬4) ولا يدخل، ثم يُدخل عبده أو شريكه فيُخْرِجُ المتاع [من السَّطح] (¬5). ومنها: أن ينزل أحدهما من السطح، فيفتح الباب من داخل، ويدخل الآخر فيخرج المتاع. ومنها: أن يدعي أنه ملكه، وأن رب البيت عَبْده، فبمجرد ما يدعي ذلك ¬
فصل [إبطال حيلة لإسقاط حد الزنا]
يسقط عنه القطع، ولو كان رب البيت معروفَ النسب، والناس تعرف (¬1) أن المالَ ماله، وأبلغ من هذا أنه لو ادعى العبدُ السارقُ أن المسروق لسيده وكذَّبه السيد، قالوا: فلا قطع عليه، بل يسقط عنه [القطع] بهذه الدعوى (¬2). ومنها: أن يَبْلَعَ الجوهرة أو الدنانير ويخرج بها. ومنها: أن يغير هيئة المسروق بالحِرْزِ (¬3) ثم يخرج به. ومنها: أن يدعي أن ربَّ الدار أدخله داره، وفتح له باب داره، فيسقط عنه القطع، وإن كذبه، إلى أمثال ذلك من الأقوال التي حقيقتُها أنه لا يجب القطع على سارق البتة. وكل هذه حيل باطلة لا تُسْقِطُ القطع، ولا تُثِيرُ أدنى شبهة، ومحال أن تأتي شريعة بإسقاط عقوبة هذه الجريمة بها، بل ولا سياسة عادلة؛ فإن الشرائع مبنية على مصالح العباد، وفي هذه الحيل أعْظَمُ الفساد، ولو أن ملكًا من الملوك وَضَع عقوبة على جريمة من الجَرَائم لمصلحة رعيته ثم أسقطها بأمثال (¬4) هذه الحيل عُدَّ متلاعبًا. فصل [إبطال حيلة لإسقاط حد الزنا] ومن الحيل الباطلة الحيلَةُ التي تتضمن إسقاط حد الزنا بالكلية، وترفع هذه الشريعة من الأرض، بأن يستأجر المرأة لتطوي له ثيابه، أو تحوِّل له متاعًا من جانب الدار إلى جانب آخر، أو يستأجرها لنفس الزنا، ثم يزني بها؛ فلا يجب عليه الحد (¬5). ¬
فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف لا يأكل شيئا ثم غيره عن حاله الأول]
وأعظم من هذا كله أنه إذا أراد أن يزني بأمُّه أو أخته (¬1) أو ابنته أو خالته أو عمته ولا يجب عليه الحد فليعقد عليها عقد النكاح بشهادة فاسِقَين، ثم يطؤها ولا حد عليه (¬2). وأعظم من ذلك أن الرجلَ المحصَنَ إذا أراد أن يزني ولا يُحدّ فليرتدّ ثم يسلم فإنه إذا زنَى بعد ذلك فلا حَدَّ عليه أبدًا حتى يستأنف نكاحًا أو وطئًا جديدًا. وأعظم من هذا كله أنه إذا زنى بأمُّه وخاف من إقامة الحد عليه فليقتلها، فإذا فعل ذلك سقط عنه الحد، وإذا شهد عليه الشهود بالزنا ولم يمكنه القَدْح فيهم فليصدقهم (¬3)، فإذا صدقهم سقط عنه الحد. ولا يخفى أمر هذه الحيل ونسبتها إلى دين الإسلام، وهل (¬4) هي نسبة موافقة أو هي نسبة مناقضة؟! (¬5) فصل [إبطال حيلة لإبرار من حلف لا يأكل شيئًا ثم غيَّره عن حاله الأول] ومن الحيل الباطلة أنه إذا حلف لا يأكل من هذا القمح، فالحيلة أن يطحنه ويعجنه ويأكله خبزًا، وطَرْدُ هذه الحيلة الباردة أنه إذا حلف لا يأكل هذه الشاة فليذبحها وليطبخها ثم يأكلها، وإذا حلف أنه (¬6) لا يأكل من هذه النخلة فليجدَّ ثمرها ثم يأكله (¬7)، فإن طردوا ذلك فمن الفضائح الشنيعة، وإن فرَّقوا تناقضوا، ¬
فصل [حيلة اليهود في الشحوم وإبطالها]
فإن قالوا: "الحنطة يمكن أكلها صحاحًا بخلاف الشاة والنخلة، فإنه لا يمكن فيها ذلك" قيل: والعادة أن الحنطة لا يأكلها صحاحًا إلا الدواب والطير، وإنما تؤكل خبزًا، فكلاهما سواء عند الحالف وكل عاقل. فصل [حيلة اليهود في الشحوم وإبطالها] ومن الحيل الباطلة المحرمة المضاهية [للحيلة اليهودية] (¬1) ما لو حلف أنه لا يأكل هذا الشحم فالحيلة أن يُذِيبه ثم يأكله (¬2). وهذا كله تصديق لقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لتتبعُنَّ سنَنَ مَنْ كان قبلكم حَذْوَ القُذْةِ بالقذة (¬3)، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فَمنْ؟ " (¬4) وتصديق قوله: "لتأخذن أمتي ما أخذ الأمم قبلها شبرًا بشبر (¬5)، وذراعًا بذراع، حتى لو كان منهم مَنْ أتى أمه علانية لكان فيهم مَنْ يفعله" (¬6). ¬
[فصل] [إبطال حيلة لتجويز نكاح الأمة مع الطول]
وهذه الحيلة في الشحوم هي حيلة اليهود (¬1) بعينها، بل أبلغ منها (¬2) فإن أولئك لم يأكلوا الشحم بعد إذابته وإنما أكلوا ثمنه. [فصل] [إبطال حيلة لتجويز نكاح الأمة مع الطَّوْل] ومن الحيل الباطلة المحرمة لمن أراد أن يتزوج بأمةٍ وهو قادر على نكاح حرة أن يُمَلِّكَ ماله لولده ثم يعقد على الأمة ثم يسترد المال منه. وهذه الحيلة لا ترفعٍ المفسدة التي حُرِّم (¬3) لأجلها نكاح الأمة، ولا تخففها، ولا تجعله عادمًا للطَّوْلِ، فلا تدخل في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ [يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ] (¬4)} [النساء: 25] وهذه الحيلة حيلة على استباحة نفس ما حرم اللَّه تعالى. فصل [تحيلهم لتعلية الكافر بناءَه على مسلم وإبطاله] ومنها لو علَّا (¬5) كافر بناءه على مسلم مُنِعَ من ذلك، فالحيلة على جوازه أن ¬
فصل [إسقاط حيلة لإبراء الغاصب من الضمان]
يعليها مسلم ما شاء ثم يشتريها الكافر منه فيسكنها. وهذه الحيلة وإن ذكرها بعض الأصحاب فهي مما أدخلت في المذهب غلطًا محضًا، ولا توافق أصوله ولا فروعه؛ فالصواب المقطوع به عدم تمكينه من سكناها؛ فإن المفسدة لم تكن في نفس البناء، وإنما كانت في ترّفعه على المسلمين. ومعلوم قطعًا أن هذه المفسدة في الموضعين واحدة. فصل [إسقاط حيلة لإبراء الغاصب من الضمان] ومن الحيل الباطلة إذا غَصَبَه (¬1) طعامًا ثم أراد أن يبرأ منه ولا يعلمه به، فليَدْعُه إلى داره، ثم يقدم له ذلك الطعام، فإذا أكله برئ الغاصب. وهذه الحيلة باطلة، فإنه لم يملكه إياه، ولا مكَّنه من التصرف فيه، فلم يكن بذلك رادًا لعين ماله [إليه] (¬2). فإن قيل: فما تقولون لو أهداه إليه فقَبله وتصرَّف فيه وهو لا يعلم أنه ماله؟ قيل: إن خاف من إعلامه به ضررًا يلحقه منه برئ بذلك، وإن لم يخف ضررًا وإنما أراد المنة عليه ونحو ذلك لم يبرأ، ولا سيما إن كافأه على الهدية فقبل، فهذا لا يبرأ قَطْعًا. فصل [إبطال حيل في الأيمان] ومن الحيل الباطلة بلا شك الحيلُ التي يُفتى بها مَنْ حلف لا يفعل الشيء ثم حلف ليفعلنه، فيتحيل له حتى يفعله بلا حنث، وذكروا لها صورًا: أحدها: أن يحلف لا يأكل هذا الطعام، ثم يحلف هو أو غيره ليأكلنَّه، فالحيلة أن يأكل إلا لقمة منه، فلا يحنث. ومنها لو حلف أن لا يأكل هذا الجبن (¬3)، ثم حلف ليأكلنه، قالوا (¬4): فالحيلة أن يأكله بالخبز، ويبر ولا يحنث. ومنها: لو حلف لا يلبسُ هذا الثوب، ثم حلف هو أو غيره ليلبسنَّه، ¬
فصل [إبطال حيل في الظهار والإيلاء ونحوهما]
فالحيلة أن يقطع منه شيئًا يسيرًا ثم (¬1) يلبسه، فلا يحنث. وطَرْدُ قولهم أن ينسل (¬2) منه خيطًا ثم يلبسه. ولا يخفى أمر هذه الحيلة وبطلانها، وأنها من أقبح الخداع وأسمجه، ولا يتمشَّى على قواعد الفقه ولا فروعه ولا أصول الأئمة؛ فإنه إن كان بِتَرْك البعض لا يُعَدُّ آكلًا ولا لابسًا فإنه لا يبرأ بالحلف ليفعلن فإنه إن عدَّ فاعلًا وجب أن يحنث في جانب النفي، وإن لم يعد فاعلًا وجب أن يحنث في جانب الثبوت، فأما أن يُعد فاعلًا بالنسبة إلى الثبوت وغيرَ فاعلٍ بالنسبة إلى النفي فتلَاعُبٌ. فصل [إبطال حيل في الظهار والإيلاء ونحوهما] ومنها الحيل التي تُبْطِل الظهار والإيلاء والطلاق والعتق بالكلية، وهي مشتقة من الحيلة السريجية، كقوله: إن تَظَاهَرْتُ منك أو آليتُ منك فأنتِ طالق [قبله] (¬3) ثلاثًا، فلا يمكنه بعد ذلك ظهار ولا إيلاء، وكذلك يقول: إن أعتقتكَ فأنتَ حرٌّ قبل الإعتاق، وكذلك لو قال: إن بعتك فأنت حر قبل البيع، وقد تقدم بطلان هذه الحيل كلها. فصل [إبطال حيلة لحسبان الدَّيْن من الزكاة] ومن الحيل الباطلة [المحرمة] (¬4) أن يكون له على رجل مال، وقد أفْلَسَ غريمُه وأيس من أخذه منه، وأراد أن يحسبه من الزكاة، فالحيلة أن يعطيه من الزكاة بقدر ما عليه، فيصير مالكًا للوفاء، فيطالبه حينئذ بالوفاء، فإذا أوفاه برئ وسقطت الزكاة عن الدافع (¬5). [بطلان الحيلة السابقة] وهذه حيلة باطلة، سواء شرط عليه الوفاء أو منعه من التصرف فيما دفعه إليه ¬
أو مَلَّكه إياه بنية أن يستوفيه من دينه، فكل هذا لا يسقط عنه الزكاة، ولا يُعد مخرجًا لها لا شرعًا ولا عرفًا كما لو أسقط دينه وحَسَبه من الزكاة. قال مهَّنأ (¬1): سألت أبا عبد اللَّه عن رجل له على رجل دين برَهْنٍ، وليس عنده قضاؤه، ولهذا الرجل زكاة مال، قال: يفرقه (¬2) على المساكين، فيدفع إليه رهنه، ويقول له: الدَّين الذي لي عليك هو لك، ويحسبه من زكاة ماله، قال: لا يجزئه ذلك؟ فقلت له: فيدفع إليه (¬3) زكاته فإن رده إليه قضى مما أخذه [من ماله] (¬4)؟ قال: نعم. وقال في موضع آخر -وقيل له: فإن أعطاه ثم رده إليه؟ - قال: إذا كان بحيلة فلا يعجبني، قيل له: فإن استقرض الذي عليه الدين دراهم فقضاه إياها ثم ردها (¬5) عليه وحَسَبها من الزكاة؟ قال: إذا أراد بهذا إحياءَ ماله فلا يجوز. ومطلقُ كلامه ينصرف إلى هذا المقيد (¬6)؛ فيحصل (¬7) من مذهبه أن دَفْعَ الزكاة إلى الغريم (¬8) جائز، سواء دفعها ابتداء أو استوفى حقه ثم دفع ما استوفاه إليه، وإلا أنه متى قَصَد بالدفع إحياء ماله واستيفاء دينه لم يجز؛ لأن الزكاة حق للَّه وللمستحق، فلا يجوز صَرْفها إلى الدافع، ويفوز بنفعها العاجل (¬9). ومما يوضح ذلك أن الشارع مَنَعه من أخْذِها من المستحق بعوضها، فقال عليه السلام: "لا تشتَرِها (¬10) ولا تَعُدْ في صدقتك" (¬11) فجعله بشرائها منه [بثمنها] (¬12) عائدًا فيها، فكيف إذا دفعها إليه بنية أخذها منه؟ قال جابر بن ¬
[المنع من شراء ما أخرجه من الزكاة]
عبد اللَّه: إذا جاء المصَّدِّق فادفع إليه صدقتك، ولا تشترِها، فإنهم كانوا يقولون: "ابتعها" فأقول: إنما هي للَّه سبحانه (¬1). وقال ابن عمر: لا تشترِ طهورَ مالك (¬2). [المنع من شراء ما أخرجه من الزكاة] وللمنع من شراءه (¬3) علتان: إحداهما: أنه يتخذ ذَرِيعَةَ وحيلة إلى استرجاع شيء منها؛ لأن الفقير يستحي منه فلا يُمَاكسه في ثمنها، وربما أرْخَصَها ليطمع أن يدفع إليه صدقة أخرى، وربما علم أو توهم أنه إن لم يَبِعْهُ إياها استرجعها (¬4) منه فيقول: ظَفَرِي بهذا الثمن خير من الحرمان. العلة الثانية: قطع طمع (¬5) نفسه عن العَوْد في شيء أخرجه للَّه سبحانه بكل طريق، فإن النفس متى طمعت في عوده بوجه ما فآمالُهَا بعدُ متعلقةٌ به، فلم تطب به نفسًا للَّه وهي متعلقة به، فقطع عليها طمعها (¬6) في العَوْد، ولو بالثمن، ليتمحص الإخراج للَّه سبحانه، وهذا شأن النفوس الشريفة (¬7) ذوات الأقدار والهمم، وأنها إذا أعطت عطاءً لم تسمح بالعود فيه بوجه لا بشراء ولا بغيره (¬8)، وتعد ذلك دناءة، ولهذا مثل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- العائدَ في هبته بالكلب يعود في قيئه (¬9) لخسته ودناءة نفسه وشحه بما قاءه أن يفوته. فمن محاسن الشريعة منع المتصدق من شراء صدقته (¬10)، ولهذا منع من ¬
[اعتراض ورده]
سُكنى بلاده التي هاجر منها للَّه وإن صارت بعد ذلك دار إسلام، كما منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المهاجرين بعد الفتح من الإقامة بمكة فوق ثلاثة أيام (¬1)؛ لأنهم خرجوا عن ديارهم للَّه؛ فلا ينبغي أن يعودوا في شيء تركوه للَّه، وإن زال المعنى الذي تركوها لأجله. [اعتراض وردّه] فإن قيل: فأنتم تجوّزون له (2) أن يقضي بها دين المدين، إذا كان المستحقُّ له (2) غيره، فما الفرق بين (2) أن يكون الدين له أو لغيره؟ ويحصل للغريم براءة ذمته وراحة من ثقل الدَّين في الدنيا ومن حمله في الآخرة؟ فمنفعته ببراءة ذمته خيرٌ له من منفعة الأكل والشرب واللباس؟ فقد انتفع هو بخلاصه من رق الدين، وانتفع رب المال بتوصله إلى أخذ حقه، وصار هذا كما لو أقرضه مالًا ليعمل فيه ويوفيه دينه من كسبه. قيل: هذه المسألة فيها روايتان منصوصتان عن الإمام أحمد رحمه اللَّه: إحداهما: أنه لا يجوز [له] (¬2) أن يقضي دينه من زكاته، بل يدفع إليه الزكاة ويؤديها هو عن نفسه. والثانية: يجوز له أن يقضي (¬3) دينه من الزكاة، قال أبو الحارث: قلت للإمام أحمد: رجل عليه ألف، وكان على رجل زكاة ماله ألف، فأداها عن هذا الذي عليه الدَّيْن، أيجوز هذا من زكاته؟ قال: نعم، ما أرى بذلك بأسًا (¬4). وعلى هذا فالفرق ظاهر؛ لأن الدافع لم ينتفع هاهنا بما دفعه إلى الغريم، ولم يرجع إليه، بخلاف ما إذا دفعه إليه ليستوفيه منه؛ فإنه قد أحْيا ماله بماله، ووَجْه القول بالمنع أنه قد يُتخذ ذريعةً إلى انتفاعه بالقضاء، مثل أن يكون الدين لولده أو لامرأته أو لمن (¬5) يلزمه نفقته فيستغني عن الإنفاق عليه؛ فلهذا (¬6) قال ¬
فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها]
الإمام أحمد: أحَبُّ إليَّ أن يدفعه إليه حتى يقضي هو عن نفسه، قيل: هو محتاجٌ يخاف أن يدفع إليه فيأكله ولا يقضي دينه، قال: فقيل له: يوكله حتى يقضيه (¬1). والمقصود أنه متى فعل ذلك حيلةً لم تسقط عنه الزكاة [بما دفعه] (¬2)؛ فإنه لا يحل له مطالبة المعسر، وقد أسقط اللَّه عنه المطالبة، فإذا توصَّل إلى وجوبها بما يدفعه إليه فقد دفع إليه شيئًا ثم أخذه، فلم يخرج [منه شيء] (¬3)، فإنه لو أراد الآخذُ التصرفَ في المأخوذ وسد خَلَّته منه لما أمكنه (¬4)، فهذا هو الذي لا تسقط (¬5) عنه الزكاة، فأما لو أعطاه عطاءً قطع طمعه من عَوْده إليه ومَلَّكه ظاهرًا وباطنًا (¬6) ثم دفع إليه الآخذ دينه من الزكاة فهذا جائزٌ كما لو أخذ الزكاة من غيره ثم دفعها إليه، واللَّه أعلم. فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها] ومن الحيل الباطلة التحيل على نفس ما نهى عنه الشارع من بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها والحب قبل اشتداده (¬7)، بأن يبيعه ولا يذكر تبقيته ثم يخلّيه إلى وقت كماله فيصح البيع ويأخذه وقت إدراكه، وهذا هو نفس ما نهَى عنه الشارع إن لم يكن فعله بأدنى الحيل، ووجه هذه الحيلة أن موجَبَ العقد القطع، فيصح وينصرف إلى موجبه، كما لو باعها بشرط القطع، ثم القطع حقٌّ لهما [لا يَعْدُوهما] (¬8)، فإذا اتفقا على تركه جاز. [بطلان الحيلة] ووجه بطلان هذه الحيلة أن هذا هو الذي نهى عنه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعينه للمفسدة التي يُفضي إليها من التشاجر والتشاحن (¬9)، فإن الثمار تصيبها العاهات كثيرًا، فيُفْضِي بيعها قبل كمالها إلى أكْلِ مال المشتري بالباطل، كما علَّل به ¬
فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع شيء حلف ألا يبيعه]
صاحب الشرع، ومن المعلوم قطعًا أن هذه الحيلة لا ترفع (¬1) المفسدة، ولا تزيل (¬2) بعضها، وأيضًا فإن اللَّه سبحانه وملائكته والناس قد علموا أن من اشترى الثمار وهي شِيصٌ (¬3) لم يمكن أحدًا أن يأكل منها، فإنه لا يشتريها للقطع، ولو اشتراها لهذا الغرض لكان سفهًا وبيعه مردود، وكذلك الجوز والخوخ والإجاص وما أشبهها من الثمار التي لا ينتفع بها قبل إدراكها، لا يشتريها أحد إلا بشرط التبقية، وإن سكت عن ذكر (¬4) الشرط بلسانه فهو قائمٌ بقلبه (¬5) وقلب البائع، وفي هذا تعطيل للنص وللحكمة التي نهى الشارع لأجلها؛ أما تعطيل الحكمة فظاهر، وأما تعطيل النص فإنه إنما (¬6) يحمله على ما إذا باعها بشرط التبقية لفظًا، فلو سكت عن التلفظ بذلك وهو مراده ومراد البائع [جاز] (¬7)، وهذا تعطيل لما دل عليه النص وإسقاط لحكمته. فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع شيء حلف ألا يبيعه] ومن الحيل الباطلة أنه إذا حلف لا يبيعه هذه الجارية، ثم أراد أن يبيعها منه فليبعه منها تسع مئة وتسعة وتسعين سهمًا، ثم يهبه السهم الباقي (¬8)، وقد تقدم نظير هذه الحيلة الباطلة، وكذلك لو حلف لا يبيعه ولا يهبه (¬9) إياها ففعل ذلك لم يحنث. ولو وقعت هذه الحيلة في جارية قد وطئها الحالف اليوم فأراد المالك أن يطأها بلا استبراء فله حيلتان على إسقاط الاستبراء: إحداهما: أن يعتقها ثم يتزوجها. والثانية: أن يملّكها لرجل [ثم] (¬10) يزوجه إياها، فإذا قضى وطَرَه منها ثم ¬
فصل [إبطال حيلة في الأيمان]
أراد بيعها أو وطأها بملك اليمين فليشترها من المملَّك فينفسخ نكاحه، فإن شاء باعها وإن شاء أقام على وطئها. وتقدم أن نظير هذه الحيلة لو حلف أن لا يلبس هذا الثوب فلينسل (¬1) منه خيطًا ثم يلبسه، أو لا يأكل هذا الرغيف فليخرج منه لُبَابَةً (¬2) ثم يأكله. قال غير واحد من السلف (¬3): لو فعل المحلوف عليه على وجه لكان أخفَّ وأسهل من هذا الخداع، ولو قابل العبدُ أمْرَ اللَّه ونهيه بهذه المقابلة لعُدَّ عاصيًا مخادعًا، بل لو قابل أحدُ الرعية أمْرَ الملكِ ونهيه أو العبدُ أمر سيده ونهيه أو المريضُ أمر الطبيب ونهيه بهذه المقابلة لما عذره أحد قَطُّ، ولعدَّهُ كل أحد عاصيًا، وإذا تدبر العالم في الشريعة أمر هذه الحيل لم يَخْفَ عليه نسبتها إليها ومحلها منها، واللَّه المستعان. فصل [إبطال حيلة في الأيمان] ومن الحيل الباطلة: لو حلف لا يبيع هذه السلعة بمئة دينار أو زاد عليها؛ فلم يجد مَنْ يشتريها بذلك فليبعها بتسعة وتسعين دينارًا، أو مئة جزء من دينار، أو أقل من ذلك، أو يبيعها بدراهم تساوي ذلك، أو يبيعها بتسعين دينارًا ومنديلًا أو ثوبًا أو نحو ذلك. وكل هذه حيل باطلة، فإنها تتضمن نفس مخالفته لما نواه وقصده وعقد قلبه عليه، وإذا كانت يمين الحالف على ما يُصدَّقه عليه صاحبه، -كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬4) فيمينه على ما يعلمه اللَّه من قلبه كائنًا من (¬5) كان؛ فلْيَقُلْ ما شاء، ولْيتحيَّل ما شاء، فليست يمينه إلا على ما عَلِمه اللَّه من قلبه، قال اللَّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فأخبر تعالى أنه إنما يُعْتَبر في الأيمان قَصْدُ القلب وكَسْبُه، لا مجرد اللفظ الذي لم يقصده أو لم يقصد معناه، على التفسيرين في اللغو (¬6)، فكيف إذا كان ¬
فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع أم الولد]
قاصدًا لضد ما يتحيل (¬1) عليه؟ فصل [إبطال حيلة لتجويز بيع أم الولد] ومن الحيل الباطلة على أن يطا أمَتَهُ وإذا حبلت منه لم تَصِرْ أمَّ ولدٍ، فله بيعها: أن يُمَلكها لولده الصغير، ثم يتزوجها ويطؤها، فإذا ولدت منه عَتق الأولاد على الولد؛ لأنهم إخوته، ومن مَلَكَ أخاه عَتَقَ عليه. قالوا: فإن خاف أن لا تتمشى هذه الحيلة على قول الجمهور الذين لا يجوِّزون للرجل أن يتزوج بجارية ابنه -وهو قول الإمام أحمد (¬2) ومالك (¬3) والشافعي (¬4) - فالحيلة أن يملِّكها لذي رَحِم محرم منه، ثم يزوِّجه إياها، فإذا ولدت عتق الولد على ملك ذي الرَّحِمِ؛ فإذا أراد بيع الجارية فليهبها له، فينفسخ النكاح، وإن لم يكن [له ذو] (¬5) رَحِم مَحْرَم فليملكها أجنبيًا، ثم يزوجها به (¬6)، فإن خاف من رِقِّ الولد فَلْيُعلِّق الأجنبي عتقهم بشرط الولادة، فيقول: كل ولد تلدينه فهو حر، فيكون الأولاد كلهم أحرارًا؛ فإذا أراد بيعها [بعد ذلك] (¬7) فليتّهِبْهَا من الأجنبي ثم يبيعها. ¬
[بطلان هذه الحيلة]
[بطلان هذه الحيلة] وهذه الحيلة أيضًا باطلة؛ فإن حقيقة التمليك لم توجد، إذ حقيقتُه نَقْلُ الملك إلى المملَّكِ يتصرف فيه كما أحب، هذا هو الملك المشروع المعقول المتعارف، فأما تمليكٌ لا يتمكن فيه المملَّك من التصرف إلا بالتزويج وحده؛ فهو تلبيسٌ لا تمليك؛ فإن المملَّك لو أراد وطأها أو الخلوة بها أو النّظَر إليها بشهوة (¬1) أو التصرفَ فيها كما يتصرف المالكُ في مملوكه لما أمكنه ذلك؛ فإن هذا تمليكُ تلبيسٍ وخِدَاع ومكر، لا تمليك حقيقة، بل قد علم اللَّه والمملِّكُ والمملَّكُ أن الجارية لسيدها ظاهرًا وباطنًا (¬2)، وأنه لم يَطِبْ قلبه بإخراجها عن ملكه بوجه من الوجوه، وهذا التمليك بمنزلة تمليك الأجنبي ماله كله ليسقط عنه زكاته ثم يسترده منه، ومعلوم قطعًا أنه لا حقيقة لهذا التمليك عُرْفًا ولا شرعًا، ولا يُعّد المملَّك له على هذا الوجه غنيًا به، ولا يجب عليه به الحج والزكاة والنفقة وأداء الديون، ولا يكون به واجدًا للطَّوْل معدودًا في جملة الأغنياء؛ فهذا هو الحقيقة، لا التمليك الباطل الذي هو مكر وخِدَاع وتلبيس. فصل [إبطال حيلة للتمكّن من رجعة البائن بغير علمها] ومن الحيل الباطلة التَّحيلُ على ردّ امرأته بعد أن بانت منه وهي لا تشعر بذلك، وقد ذكر أرباب الحيل وجوهًا كلها باطلة؛ فمنها: أن يقول لها: حلفْتُ يمينًا واستفتيت فقيل لي: جَدِّد نكاحك؛ فإن كان الطلاق قد وقع وإلا لم يضرُّك، فإذا أجابته قال: اجعلي الأمر إليّ في تزويجك، ثم يحضر الولي والشهود ويتزوّجها، فتصير امرأته بعد البينونة وهي لا تشع؛ فإن لم يتمكن من هذا الوجه فلينتقل إلى وجه ثان، وهو أن يظهر أنه يريد سَفَرًا ويقول: لا آمن الموت وأنا أريد أن (3) أكتب لك هذه الدار وأجعل لك هذا المتاع صَدَاقًا بحيث لا يمكن إبطاله وأريد أن أشهد على ذلك، فاجعلي أمْرَكِ إليَّ حتى أجعله صداقًا؛ فإذا فعلت عَقَدَ نكاحها على ذلك وتم الأمر؛ فإن لم يرد السفر فليُظهر أنه مريض، ثم يقول لها (¬3): أريد أن أجعل لك ذلك، وأخاف أن أقر لك به فلا يقبل؛ فاجعلي ¬
[بطلان هذه الحيل]
أمرك إليَّ حتى أجعله صداقًا، فإذا فعلت أحْضَرَ وليها وتزوَّجها؛ فإن حذرت المرأة من ذلك كله ولم يتمكن منه لم يبق له إلا حيلة واحدة، وهي أن يحلف بطلاقها، أو يقول: قد حلفت بطلاقك أن (¬1) أتزوج عليك في هذا اليوم أو هذا الأسبوع، أو أسافر بك، وأنا أريد أن أتمسك بك ولا أدخل عليك ضرة ولا تسافرين، فاجعلي أمرك إليَّ حتى أخالعك وأردك بعد انقضاء اليوم وتتخلصي من الضرة والسفر، فإذا فعلت أحْضَرَ الشهود والولي (¬2) ثم يردها (¬3). [بطلان هذه الحيل] وهذه الحيلة باطلة؛ فإن المرأة إذا بانت صارت أجنبية منه؛ فلا يجوز نكاحها إلا بإذنها ورضاها، وهي لم تأذن في هذا النكاح الثاني، ولا رضيت به، ولو علمت أنها قد مَلَكت نفسها وبانت منه فلعلها لا ترغب في نكاحه، فليس له أن يَخدَعها على نفسها ويجعلها له زوجة (¬4) بغير رضاها. [الاعتراض بجعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- جد النكاح كهزله] فإن قيل: إن النبي (¬5) -صلى اللَّه عليه وسلم- قد جعل جِدَّ النكاح كهْزله (¬6)، وغاية هذا أنه هازل. قيل: هذا ليس بصحيح، وليس هذا كالهازل؛ فإن الهازل لم يظهر أمرًا يريد خلافه، بل تكلم باللفظ قاصدًا [أنه لا] (¬7) يلزمه موجبه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، وأما هذا فماكرٌ مخادعٌ للمرأة على نفسها، مظهر أنها زوجته وأن الزوجية بينهما باقية وهي أجنبية محضة؛ فهو يمكر (¬8) بها ويخادعها بإظهار أنها زوجته وهي في الباطن أجنبية؛ فهو كمن يمكر برجل ويخادعه على أخذ ماله بإظهار أنه يحفظه له ويَصُونه ممن يذهب به، بل هذا أفحشُ؛ لأن حرمة البُضْع أعظم من حرمة المال، والمخادعة عليه (¬9) أعظم من المخادعة على المال، [واللَّه أعلم] (¬10). ¬
فصل [إبطال حيلة لوطء المكاتبة]
فصل [إبطال حيلة لوطء المكاتبة] ومن الحيل الباطلة الحيلةُ على وَطء مكاتبته بعد عقد الكتابة، قال أرباب الحيل: الحيلة في ذلك أن يهبها لولده الصغير، ثم يتزوجها وهي على ملك ابنه ثم يكاتبها لابنه، ثم يطؤها بحكم النكاح، فإن أتت بولد كانوا أحرارًا؛ إذ ولده قد ملكهم، فإن عجزت عن الكتابة عادت قِنًّا لولده والنكاح بحاله. [بطلان هذه الحيلة] وهذه الحيلة باطلة على قول الجمهور، وهي باطلة في نفسها؛ لأنه لم يملِّكها لولده تمليكًا حقيقيًا، ولا كاتبها له حقيقة، بل خداعًا ومكرًا، وهو يعلم أنها أَمَتُه ومكاتبته في الباطن وحقيقة الأمر، وإنما أظهر خلاف ذلك توصُّلًا إلى وطء الفرج الذي حرم عليه بعقد [الكتابة، فاظهر تمليكًا لا حقيقة له، وكتابةً عن غيره، وفي الحقيقة إنما هي عن] (¬1) نفسه، واللَّه يعلم ما تخفي الصدور. فصل [بيان حيلة العقارب وإبطالها] ومن الحيل المحرمة الباطلة (¬2) الحيلةُ التي تسمى حيلة العقارب، ولها صور: منها: أن يُوقِف داره أو أرضه ويُشهد على وقفه (¬3) ويكتمه ثم يبيحها، فإذا علم أن المشتري قد سكنها أو استغلها بمقدار ثمنها أظهرَ كتابَ الوقف وادَّعى على المشتري بأجرة المنفعة، فإذا قال له المشتري: أنا وزنت الثمن، قال: و [أنت] (1) انتفعتَ بالدار والأرض فلا تذهب المنفعة مجانًا. ومنها: أن يملِّكها لولده أو امرأته، ويكتم ذلك، ثم يبيعها، ثم يدعي بعد ذلك من ملكها على المشتري، ويعامله تلك المعاملة وضمنه المنافع تضمين الغاصب (¬4). ¬
ومنها: أن يؤجِّرها لولده أو امرأته، [ويكتم ذلك] (¬1)، ثم يؤجرها من شخص آخر، فإن ارتفع الكِرَى أخرج الإجارة الأولى، وفسخ إجارة الثاني، وإن نقص الكِرَى أو استمر أبقاها. ومنها: أن يرهن داره أو أرضه، ثم يبيعها ويأخذ الثمن فينتفع به مدة، فمتى أراد فسخ البيع واسترجاع المبيع أظهر كتاب الرَّهْن. وأمثال هذه العقارب التي يأكل بها أشباهُ العقارب أموالَ الناس بالباطل، ويمشيها لهم مَنْ رَق علمه ودينه ولم يراقب اللَّه تعالى ولَم يَخف مقامه تقليدًا لمن قلد قوله في تضمين المقبوض بالعقد الفاسد تضمين الغاصب [تقليدًا لمن يقلده] (¬2)؛ فيجعل قوله إعانة لهذا الظالم المعتدي على الإثم والعدوان، ولا يجعل القول الذي قاله غيره إعانة للمظلوم على البر والتقوى، وكأنه أخذ بشق الحديث وهو: "انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا" (¬3) واكتفى بهذه الكلمة دون ما بعدها، وقد أعاذ اللَّه أحدًا من الأئمة من تجويز الإعانة على الإثم والعدوان، ونَصْر الظالم، وإضاعة حق المظلوم جهارًا. وذلك الإمام وإن قال: "إن المقبوضَ بالعقد الفاسدِ يُضمن ضمان المغصوب" فإنه لم يقل: إن المقبوض به على هذا الوجه -الذي هو حيلة (¬4) ومكر وخداع وظلم محض للمشتري وغرور له- يوجب تضمينه وضياع حقه وأخذ ماله كله وإيداعه في الحبس على ما بقي وإخراج الملك من يده، فإن الرجل قد يشتري (¬5) الأرض أو العَقَار وتبقى في يده مدة طويلة تزيد أجرتها على ثمنها (¬6) أضعافًا مضاعفة، فيؤخذ منه العقار، ويُحْسَب عليه ثمنه من الأجرة، ويبقى الباقي بقدر الثمن مرارًا، فربما أخذ ما فوقه وما تحته وفضلت عليه فَضْلة فيجتاح الظالمُ الماكرُ ماله ويَدَعُه على الأرض الخالية، فحاشا إمامًا واحدًا من أئمة الإسلام أن يكون عَوْنًا لهذا العقرب الخبيث على هذا الظلم والعدوان، والواجبُ عقوبةُ مثل هذا العقوبَةَ التي تَرْدَعه عن لَدْغ الناس والتحيل على استهلاك أموال الناس، وأن لا يمكَّن مِنْ طَلَبِ عوض المنفعة. أما على أصل مَنْ لا ¬
[اعتراض ورده]
يضُمِّن منافع الغصب -وهم الجمهور كأبي حنيفة (¬1) ومالك (¬2) وأحمد (¬3) في إحدى الروايتين عنه وهي أصحهما دليلًا- فظاهر، وأما مَنْ يُضَمِّنُ الغاصبَ كالشافعي (¬4) وأحمد (¬5) في الرواية الثانية فلا يتأتى تضمين هذا على قاعدته؛ فإنه ليس بغاصب، وإنما استوفى المنفعة بحكم العقد، فإذا تبين أن العقد باطل وأن البائع غَرَّه لم يجب عليه ضمان، فإنه إنما دخل على أن ينتفع بلا عوض، وأن يضمن المبيع بثمنه لا بقيمته؛ فإذا تلف المبيع بعد القبض تلف من ضمانه بثمنه، فإذا انتفع به انتفع [به] (¬6) بلا عوض؛ لأنه على ذلك دَخَلَ، ولو قُدِّر وجوب الضمان فإن الغارّ هو الذي يضمن؛ لأنه تسبب إلى إتلاف مال الغير بغروره، وكل من أتلف مال غيره بمباشرة أو سبب فإنه يضمنه [ولا بد] (¬7). ولا يقال: المشتري هو الذي باشر الإتلاف، وقد وُجِدَ متسبب ومباشر، فيحال الحكم على المباشر؛ فإن هذا غلط محض هاهنا؛ فإن المضمون هو مال المشتري الذي تلف عليه بالتضمين، وإنما تلف بتسبب الغارِّ، وليس هاهنا مباشر يحال عليه الضمان. [اعتراض وردُّه] فإن قيل: فهذا (¬8) إنما يدل على أنَّا إذا ضمنا المغرور رجع على الغارّ (¬9)، ¬
ولا (¬1) يدل على تضمين الغار أبدًا (¬2). قيل: هذا فيه قولان للسلف والخلف، وقد نص الإمام أحمد رحمه اللَّه على أن من اشترى أرضًا فبنى فيها أو غَرَسَ ثم استحقَّتْ؛ فللمستحق قَلْعُ ذلك، ثم يرجع المشتري على البائع بما نقص، ونص في موضع آخر أنه ليس للمستحق قلعه إلا أن يضمن نقصه ثم يرجع به على البائع، وهذا أفقه النصين وأقربهما إلى العدل؛ فإن المشتري غَرَسَ وبنى غراسًا وبناءً مأذونًا فيه، [وليس] (¬3) ظالمًا به، فالعرق ليس بظالم، فلا يجوز للمستحقّ قلعه حتى يضمن له نقصه، والبائع هو الذي ظلم المستحق ببيعه ماله وغرَّ المشتري ببنائه وغراسه؛ فإذا أراد المستحق الرجوع في عين ماله ضمن المغرور ما نقصَ بقلعه ثم رجع (¬4) به على الظالم، وكان تضمينه له أولى من تضمين المغرور ثم تمكينه من الرجوع على الغار. ونظير هذه المسألة ما لو قبض مغصوبًا من غاصبه ببيع أو عارية أو اتهاب أو إجارة وهو يظن أنه مالك لذلك أو مأذون له فيه ففيه قولان: أحدهما: أن المالك مخيَّر بين تضمين أيهما شاء، وهذا المشهور عند أصحاب الشافعي (¬5) وأحمد (¬6)، ثم قال أصحاب الشافعي: إن ضمن المشتري وكان عالمًا بالغصب لم يرجع بما ضمن على الغاصب، وإن لم يعلم نظرت فيما ضمن فإن التزم ضمانه بالعقد كبدَل العين وما نقص منها لم يرجع به على الغاصب؛ لأن الغاصب لم يغره، بل دخل معه على أن يضمنه، وهذا التعليل يوجب أن يرجع بما زاد على ثمن المبيع إذا ضمنه؛ لأنه إنما التزم ضمانه بالثمن لا بالقيمة، فإذا ضمنه إياه بقيمته رجع بما بينهما من التفاوت. قالوا: وإن لم يلتزم ضمانه نظرت: فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع به على الغاصب لأنه غَرَّه ودخل معه على أنه لا يضمنه، ¬
وإن حصلت له به في [مقابلته] (¬1) منفعة كالأجرة والمهر وأرْشِ البكَارة ففيه قولان: أحدهما: يرجع به؛ لأنه غرَّه ولم يدخل معه على أن يضمنه. والثاني: لا يرجع؛ لأنه حصل (¬2) له في مقابلته منفعة، وهذا التعليل أيضًا يوجب على هذا القول أن يرجع بالتفاوت (¬3) الذي بين المسمَّى ومهر المثل وأجرة المثل اللذين ضمنهما؛ فإنه إنما دخل على الضمان بالمسمى، لا بعوض المثل، والمنفعة التي حصلت له إنما هي بما التزمه من المسمَّى (¬4)، ومذهب الإمام أحمد وأصحابه نحو ذلك. وعَقْد الباب عندهم أنه يرجع إذا غُرم (¬5) على الغاصب بما [لم] (¬6) يلتزم ضمانه خاصة، فإذا غرم وهو مُودعٌ أو مُتَّهب قيمة العين والمنفعة رجع بهما؛ لأنه لم يلتزم ضمانًا (¬7)، وإنْ ضَمن وهو مستأجر قيمة العين والمنفعة رجع بقيمة العين والقدر الزائد على ما بذله من (¬8) عوض المنفعة، وقال أصحابنا: لا يرجع بما ضمنه من عِوَض المنفعة؛ لأنه دخل على ضمانه، فيقال لهم: نعم دخل على ضمانه بالمسمَّى لا بعوض المثل، وإنْ كان مشتريًا، وضمن قيمة العين [والمنفعة؟] (¬9) فقالوا: يرجع بقيمة المنفعة دون قيمة العين؛ لأنه التزم ضمان العين ودخل على استيفاء المنفعة بلا عوض والصحيح أنه يرجع بما زاد من قيمة العين على الثمن الذي بذله، وإن كان مستعيرًا وضمن قيمة العين والمنفعة [رجع بما غرمه من ضمان المنفعة؛ لأنه دخل على استيفائها مجانًا، ولم يرجع بما ضمنه من قيمة العين؛ لأنه دخل على ضمانها بقيمتها] (¬10). وعن الإمام أحمد رواية أخرى أن ما حصل له منفعة تقابل ما غرم كالمهر والأجرة في المبيع وفي الهبة وفي العارية، وكقيمة الطعام إذا (¬11) قدم له أو وهب منه (¬12) فأكله ¬
فإنه لا يرجع به؛ لأنه استوفى العوض، فإذا غرم عوضه لم يرجع به، والصحيح قوله (¬1) الأول؛ لأنه لم يدخل على استيفائه بعوض، ولو علم أنه يستوفيه بعوضه لم يدخل على ذلك، ولو علم الضيف أن صاحب البيت أو غيره يغرمه الطعام لم يأكله، ولو ضمّن المالك ذلك كله للغاصب جاز، ولم يرجع على القابض إلا بما (¬2) يرجع به عليه، فيرجع عليه إذا كان مستأجرًا بما غرمه من الأجرة. وعلى القول الذي اخترناه إنما يرجع عليه بما التزمه من الأجرة خاصة، ويرجع عليه إذا كان مشتريًا بما غرمه من قيمة العين، وعلى القول الآخر إنما يرجع عليه (¬3) بما بذله (¬4) من الثمن، ويرجع عليه إذا كان مستعيرًا بما غرمه من قيمة العين؛ إذ لا مسمى هناك، وإذا كان مُتَّهِبًا أو مودعًا لم يرجع عليه بشيء، فإن كان القابض من الغاصب هو المالك فلا شيء له بما استقر عليه (¬5) لو كان أجنبيًا، وما سواه فعلى الغاصب؛ لأنه لا يجب له على نفسه شيء، وأما ما لا يستقر عليه لو كان أجنبيًا بل يكون قراره على الغاصب فهو على الغاصب أيضًا هاهنا. والقول الثاني: أنه ليس للمالك مطالبة المغرور ابتداءً، كما ليس له مطالبته قرارًا، وهذا هو الصحيح، ونص عليه الإمام أحمد رحمه اللَّه في المُودِع إذا أودعها -يعني الوديعة- عند غيره من غير حاجة (¬6) فتلِفَت فإنه لا يضمن الثاني إذا لم يعلم، وذلك لأنه مغرور (¬7). وطَرْد هذا النص أنه لا يطالب (¬8) المغرور في جميع هذه الصور، وهو الصحيح؛ فإنه مغرور (¬9) ولم يدخل على أنه مطالب، فلا هو التزم المطالبة ولا الشارع ألزمه بها، وكيف يُطالب المظلوم المغرور ويُترك الظالم الغارّ؟ ولا سيما إن كان محسنًا بأخْذِهِ الوديعة {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] (¬10) {إِنَّمَا ¬
السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] وهذا شأن الغار الظالم. وقد قضى عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أن المشتري المغرور بالأمة إذا وطئها ثم خرجت مستَحَقَّة، وأخذ منه سيدها المهر، رجع به على البائع لأنه غَرَّه (¬1). وقضى علي رضي اللَّه عنه أنه لا يرجع به لأنه استوفى عوضه (¬2). وهاتان الروايتان عن الصحابة هما قولان للشافعي [وروايتان عن الإمام أحمد] (¬3)، ومالك (¬4) أخذ بقول عمر، وأبو حنيفة (¬5) أخذ بقول علي رضي اللَّه عنه. وقولُ عمر أفقه لأنه لم يدخل على أنه يستمتع بالمهر، وإنما دخل على الاستمتاع بالثمن وقد بَذَله. وأيضًا فالبائع ضمن له بعقد البيع سلامَةَ الوطء كما ضمن له سلامة الولد، فكما يرجع عليه بقيمة الولد يرجع عليه بالمهر. فإن قيل: فما تقولون في أجرة الاستخدام إذا ضمنه إياها المستحق، هل يرجع بها على الغارِّ؟ قلنا: نعم يرجع بها، وقد صرح بذلك القاضي وأصحابه، وقد قضى أمير المؤمنين [عليٌّ كرم اللَّه وجهه] (¬6) أيضًا بأن الرجل إذا وجد امرأته بَرْصَاء أو عَمْيَاء أو مجنونة فدخل بها فلها الصداق، ويرجع به على مَنْ غرَّه (¬7). وهذا محضُ ¬
القياسِ والميزان الصحيح؛ لأن الولي لما لم يعدمه وأتلف عليه المهر لزمه (¬1) غرمه. فإن قيل: هو الذي أتلفه على نفسه بالدخول. قيل: لو علم أنها كذلك لم يدخل بها، وإنما دخل بها بناءً على السلامة التي غرَّه بها الولي، ولهذا لو علم العيبَ ورضي به ودخل بها لم يكن هناك فسخ ولا رجوع، ولو كانت المرأة هي التي غرَّته سقط مهرها. ونكتة المسألة أن المغرور إما محسن، وإما معذور (¬2)، وكلاهما لا سبيل عليه، بل ما يلزم المغرور (¬3) باستلزامه له (¬4) لا يسقط عنه كالثمن في المبيع والأجرة في عقد الإجارة. فإن قيل: فالمهر قد التزمه، فكيف يرجع به؟ قيل: إنما التزمه في محل سليم، ولم يلتزمه في مَعِيبة ولا أمَةٍ مستحقة؛ فلا يجوز أن يُلْزَمَ به. فإن قيل: فهذا ينتقض عليكم بالنكاح الفاسد؛ فإن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ألزمه فيه بالصداق بما استحل من فَرْجها (¬5)، وهو لم يلتزمه (¬6) إلا في نكاح صحيح. قيل: لما أقدم على الباطل لم يكن هناك مَنْ غَرَّه، بل كان هو الغار لنفسه، فلا يذهب استيفاء المنفعة فيه مجانًا، وليس هناك مَنْ يرجع عليه، بل لو فسد النكاح بغرور المرأة سقط مهرها، أو بغرور الولي رجع عليه. ¬
فصل [التحيل لتجويز بيع العينة]
فصل [التحيل لتجويز بيع العينة] (¬1) ومن الحيل المحرمة الباطلة التحيلُ على جواز مسألة العِينة، مع أنها حيلة في نفسها على الربا، وجمهور الأئمة (¬2) على تحريمها. وقد ذكر أرباب الحيل لاستباحتها عدة حيل (¬3): منها: أن يُحْدث المشتري في السِّلْعة حدثًا ما تنقص به أو تتعيَّبُ؛ فحينئذ يجوز لبائعها أن يشتريها بأقل مما باعها [به] (¬4). ومنها: أن تكون السلعة قابلةً للتجزئ فيمسك منها جزءًا ما ويبيعه بقيتها. ومنها: أن يضمَّ البائع إلى السلعة سكينًا أو منديلًا أو حلقة حديدًا أو نحو ذلك، فيمسكه (¬5) المشتري ويبيعه السلعة بما يتفقان عليه من الثمن. ومنها: أن يهبها المشتري لولده أو زوجته أو مَنْ يثق به، فيبيعها الموهوب له من بائعها، فإذا قبض الثمن أعطاه للواهب. ومنها: أن يبيعه إياها نفسه (¬6) من غير إحداث شيء ولا هبة لغيره، لكن يضم إلى ثمنها خاتمًا من حديد أو منديلًا أو سكينًا ونحو ذلك. ولا ريب أن العِينَةَ على وجهها أسْهَلُ من هذا التكلف (¬7)، وأقل مفسدة، وإن كان الشارع قد حرم مسألة العِينَةِ لمفسدة فيها فإن المفسدة لا تزول بهذه الحيلة، بل هي بحالها، وانضم إليها مفسدة أخرى أعظم منها، وهي مفسدة المكر والخداع واتخاذ أحكام اللَّه هُزُوًا وهي أعظم المفسدتين. وكذلك سائر الحيل، لا تزيل المفسدة التي حرم لأجلها، وإنما يضم إليها مفسدة الخداع والمكر، وإن كانت العينة لا مفسدة فيها فلا حاجة إلى الاحتيال عليها. ثم إن العِينَة في نفسها من أدنى الحيل إلى الربا، فإذا تحيل عليها المحتال صارت حيلًا متضاعفة، ¬
فصل [تحيلهم لبيع المعيب دون بيان عيبه]
ومفاسد متنوعة، والحقيقة والقصد معلومان للَّه وللملائكة وللمتعاقِدَيْن ولمن حضرهما من الناس، فليَصْنَعْ أربابُ الحيل ما شاءوا، وليسلكوا أية طريق سلكوا؛ فإنهم لا يخرجون بذلك عن بيع مئة بمئة وخمسين إلى سنة، فليدخلوا محلِّل الربا (¬1) أو يُخْرجُوه فليس هو المقصود، والمقصود معلومٌ، واللَّه سبحانه وتعالى لا يخادع ولا تروج عليه الحيل ولا تلبس عليه الأمور. فصل [تحيلهم لبيع المعيب دون بيان عيبه] ومن الحيل المحرمة الباطلة -إذا أراد أن يبيع سلعةً بالبراءة من كل عيب، ولم يأمن أن يردها عليه المشتري، ويقول: لم يعين لي عيب كذا وكذا؛ أن يوكل رجلًا غريبًا لا يعرف في بيعها، ويضمن للمشتري درك المبيع، فإذا باعها قبض منه ربُّ السلعة الثمن، فلا يجد المشتري مَنْ يرد عليه السلعة. وهذا غش حرام، وحيلة لا تسقط المأثم، فإن علم المشتري بصورة [الحال] (¬2) فله الرد، وإن لم يعلم فهو المُفَرِّطُ، حيث لم يضمن الدرك المعروف [الذي] (3) يتمكن من مخاصمته، فالتفريط من هذا والمكر والخداع من ذلك. فصل [إبطال حيلة لإسقاط الاستبراء] ومن الحيل المحرمة الباطلة أن يشتري جارية ويريد وطأها بملك اليمين في الحال من غير استبراء فله عدة حيل: منها: أن يزوِّجه إياها البائع قبل أن يبيعها منه، فتصير زوجته، [ثم يبيعه إياها فينفسخ النكاح، ولا يجب عليه استبراء؛ لأنه مَلَك زوجته] (¬3)، وقد كان وطؤها حلالًا له بعقد النكاح؛ فصار حلالًا بملك اليمين. ومنها: أن يزوجها غيره، ثم يبيعها من الرجل الذي يريد شراءها، فيملكها [مزوجة] (¬4) وفرجها عليه حرام؛ فيؤمر الزوج بطلاقها، فإذا فعل حلت للمشتري. ¬
[أعاجيب متناقضات أرباب الحيل]
ومنها: أن مشتريها لا يقبضها حتى يزوجها من عَبْده أو غيره، ثم يقبضها بعد التزويج، فإذا قبضها طلقها الزوج، فيطؤها سيده بلا استبراء. قالوا: فإن خاف المشتري أن لا يطلقها الزوج استوثق بأن يجعل الزوجُ أمْرَها بيد السيد، فإذا فعل طلقها [هو] (¬1) ثم وطئها بلا استبراء. ولا يخفى نسبة هذه الحيل (¬2) إلى الشرع، ومحلها منه، وتضمنها أن بائعها يطؤها (3) بكرةً ويطؤها (¬3) المشتري عشيةً، وأن هذا مناقض لما قصده الشارع من الاستبراء، ومبطل لفائدة الاستبراء بالكلية. ثم إن هذه الحيل كما هي محرمة فهي باطلة قطعًا؛ فإن السيد لا يحل له أن يزوج موطوءته حتى يستبرئها، وإلا فكيف يُزَوِّجها لمن يطؤها ورحِمُها مشغول بمائِهِ؟ وكذلك إن أراد بَيْعَها وجب عليه استبراؤها على أصح القولين، صيانةً لمائِهِ، ولا سيما إن لم يأمن من وطء المشتري لها بلا استبراء، فههنا يتعين عليه الاستبراء قطعًا، فإذا [أراد] (¬4) زوجها حيلة على إسقاط حكم اللَّه تعالى وتعطيل أمره كان نكاحًا باطلًا لإسقاط ما أوجبه اللَّه من الاستبراء، وإذا طلَّقها الزوج بناءً على صحَّة هذا النكاح الذي هو مكر وخداع واتخاذٌ لآيات اللَّه هزوًا لم يحل للسيد أن يطأها بدون الاستبراء: [فإن الاستبراء] (¬5) وجب عليه بحكم المِلْك المتجدد، والنكاح العارض حال بينه وبينه، لأنه لم [يكن] (4) يحل له وطؤها، فإذا زال المانع عَمِل المُقتضى عَمَله، وزوالُ المانع لا يزيل اقتضاء المقتضى مع قيام سبب الاقتضاء منه. وأيضًا فلا يجوز تعطيل الوصف عن موجبه ومقتضاه من غير فواتِ شرطٍ أو قيامِ مانعٍ. وبالجملة فالمفسدة التي منع الشارع المشتري لأجلها من الوطء بدون الاستبراء لم تزل بالتحيل والمكر، بل انضمَّ إليها مفاسد المَكْرِ والخداع والتحيل. [أعاجيب متناقضات أرباب الحيل] فياللَّه العجب من شيء حرم لمفسدة فإذا انضم إليه مفسدة أخرى هي أكبر من مفسدته بكثير صار حلالًا، فهو بمنزلة لحم الخنزير إذا ذبح كان حرامًا، فإن ¬
مات حَتفَ أنْفِه أو خُنِقَ حتى يموت صار حلالًا؛ لأنه لم يذبح، قال الإمام أحمد: هو حرام من وجهين، وهكذا هذه المحرمات إذا احتيل عليها صارت حرامًا من وجهين وتأكد تحريمها (¬1). والذي يقضى منه العجب أنهم يَجْمَعون بين سقوط الاستبراء بهذه الحيل وبين جوب استبراء الصغيرة التي لم توطأ ولا يوطأ مثلها، وبين استبراء البكر التي لم يقرعها (¬2) فحل، واستبراء العجوز الهرمة التي قد أيست من الحبل والولادة، واستبراء الأمة التي يقطع ببراءة رحمها، ثم يسقطونه (¬3) مع العلم بأن رحمها مشغول، فأوجبتموه حيث لم يوجبه الشارع، وأسقطتموه حيث أوجبه. قالوا: وليس هذا بعجيب (¬4) من تناقضكم، بل وأعجب منه إنكار كون القرعة طريقًا لإثبات الحكم مع ورود السنة الصحيحة عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وعن أصحابه رضي اللَّه عنهم بها (¬5)، وإثبات حل الوطء بشهادة شاهدي زورٍ يعلم الزوج الواطئ أنهما شهدا بالزور على طلاقها حتى يجوز لأحد الشاهدين أن يتزوجها فيثبت الحل بشهادتهما. وأعجب من ذلك أنه لو كان له أمة هي سُرِّية يطؤها كل وقت لم تكن فراشًا له، ولو ولدت [ولدًا] (¬6) لم يلحقه الولد، ولو تزوج امرأة ثم قال بحضرة الحاكم والشهود في مجلس العقد: "هي طالق ثلاثًا" وكانت (¬7) بأقصى المشرق وهو بأقصى المغرب صارت فراشًا بالعقد؛ فلو أتت بعد ذلك بولد لأكثر من ستة أشهر لحقه نسبه. وأعجب من ذلك قولكم: لو منع الذميُّ دينارًا واحدًا [من الجزية، وقال:] (¬8) "لا أؤديه" انتقض عَهْدُه وحَل ماله ودمه، ولو سَبَّ اللَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وكتابه على رؤوسنا أقبحَ سب وحَرَق أفضل المساجد على الإطلاق ¬
واستهان بالمصحف بين أيدينا أعظم استهانة وبذلَ ذلك الدينارَ فعهدُه باقٍ ودمه معصوم. ومن العجب (¬1) تجويز قراءة القرآن بالفارسية، ومنع رواية الحديث بالمعنى. ومن العجب إخراجُ الأعمال عن مُسَمَّى الإيمان وأنه مجرد التصديق، والناس فيه سواء، وتكفير من يقول مُسَيْجد أو فُقَيْه (¬2)، أو يُصلّي بلا وضوء (¬3)، أو يلتذ بآلات الملاهي (¬4)، ونحو ذلك. ومن العجب إسقاط الحد عَمَّنْ استأجر امرأة للزنا أو لكنس بيته فزنا بها، وإيجابه على مَنْ وجد امرأة أجنبية على فراشه في الظلمة فجامعها يظنها امرأته. ومن العجب التشديد في المياه حتى تنجس القناطير المقنطرة منها بقطرة بَوْل أو قطرة دم، وتجويز الصلاة في ثوب رُبْعُه مُضَمّخ بالنجاسة، فإن كانت مغلظة فبقدر راحة الكف. ومن العجب أنه لو شهد عليه أربعة [شهود] (¬5) بالزنا فكذب الشهود حُدَّ، وإن صدقهم سقط عنه الحد (¬6). ومن العجب [أنه] (¬7) لا يصح استئجار دار لتتَّخذَ مسجدًا يعبد اللَّه سبحانه فيه، ويصح استئجارها [كي] (¬8) تجعل كنيسة يعبد فيها الصليب أو بيت نار تعبد فيها النار. ومن العجب أنه لو ضحك في صلاة فقهقهَ بطل وضوءهُ (¬9)، ولو غَنّى في ¬
صلاة (¬1) أو قَذَف المحصنات أو شهد الزور (¬2) ونحو ذلك فوضوءه بحاله. ومن العجب [أنه] (¬3) لو وقع في البئر نجاسة نزح منها (¬4) أدْلَاء معدودة، فإذا حصل الدلو في البئر تنجَّس وغرف الماء نجسًا، وما أصاب حيطان البئر من ذلك الماء نجسها، وكذلك ما بعده من الدلاء إلى أن تنتهي النوبة إلى الدلو الأخير فإنه ينزل نجسًا ثم يصعد طاهرًا فيقشقش النجاسة كلها من قَعْر البئر إلى رأسه، قال بعض المتكلمين: ما رأيت أكرم من هذا الدلو ولا أعقل (¬5). ومن العجب أنه لو حلف لا يأكل فاكهة (¬6) حنث بأكل الجوز واللوز والفستق، ولو كان يابسًا قد أتت عليه السنون، ولا يحنث بأكل الرطب والعنب والرُّمان. وأعجب من ذلك تعليل هذا بأن هذه الثلاثة من خيار الفاكهة وأعلى أنواعها، فلا تدخل في الاسم المطلق. ومن العجب أنه لو حلف أن لا يشرب من النيل أو الفرات أو دِجْلَةَ فشرب بكفَّيه (¬7) أو بكوز أو دَلْو من هذه الأنهار لم يحنث، فإذا شرب بفيه مثل البهائم حنث. ومن العجب أنه لو نام في المسجد وأغلقت عليه الأبواب ودَعَتْه الضرورة إلى الخلاء فطاقُ القبلةِ ومحراب المسجد أولى بذلك من مؤخر المسجد. ومن العجب أمر هذه الحيل التي لا يزداد بها المنهي عنه إلا فسادًا مضاعفًا، كيف تباح مع تلك المفسدة الزائدة بالمكر والخداع وتحرم بدونها؟ وكيف تنقلب مفاسدُهَا بالحيل صلاحًا (¬8)، وتصير خمرتها خلًا، وخبثها طيبًا؟ قالوا: فهذا فصل في الإشارة إلى بيان فساد هذه الحيل على وجه التفصيل، كما تقدم الإشارة إلى فسادها وتحريمها على وجه الإجمال، ولو تتبعناها حيلة حيلة لطال الكتاب، ولكن هذه أمثلة يُحْتَذَى عليها، واللَّه الموفق للصواب (¬9). ¬
فصل [قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها]
فصل [قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها] قال أرباب الحيل: قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] والحيل مخارج من المضايق. والجواب إنما يتبين بذكر قاعدة في أقسام الحيل ومراتبها، فنقول [وباللَّه التوفيق] (¬1): هي أقسامٌ: [القسم الأول من الحيل طرق يتوصل بها إلى ما هو حرام] القسم الأول: الطرق الخفية التي يُتَوَصَّل بها إلى ما هو محرم في نفسه، بحيث لا يحل بمثل ذلك السبب بحال، فمتى كان المقصود بها محرَّمًا في نفسه فهي حرام باتفاق المسلمين، وكذلك (¬2) كالحيل على أخذ أموال الناس وظُلْمهم في نفوسهم وسَفْك دمائهم وإبطال حقوقهم وإفساد ذات بَيْنهم، وهي من جنس حيل الشياطين على إغواء بني آدم بكل طريق. [تحيل الشياطين على الناس] وهم يتحيّلون عليهم [ليوقعوهم في واحدة من] (¬3) ستة ولابد؛ فيتحيلون عليهم بكل طريق [أن يوقعوهم في الكفر والنفاق] (3) على اختلاف أنواعه، فإذا عملت (¬4) حيلهم في ذلك قرَّت عيونُهم، فإن عجزت حيلهم عن مَنْ صحت فطرته وتلاها شاهد الإيمان من ربه بالوحي الذي أنزله على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعْمَلوا الحيلَةَ في إلقائه (¬5) في البِدْعة على اختلاف أنواعها وقبول القلب لها وتهيئته (¬6) واستعداده، ¬
فإن تَمت حِيَلهم كان ذلك أحَبَّ إليهم من المعصية، وإن كانت كبيرة، [ثم ينظرون في حال] (¬1) مَنِ استجاب (¬2) لهم إلى البدعة؛ فإن كان مُطَاعًا مَتْبُوعًا في الناس [أمَرُوه] (1) بالزهد والتعبد ومحاسن الأخلاق والشيم، ثم أطاروا له الثناء بين الناس ليصطادوا عليه الجهال ومَنْ لا علم عنده بالسنة (¬3)، وإنْ لم يكن كذلك جَعَلُوا بدعته عَوْنًا له على ظلمه أهلَ السنةِ وأذاهم والنيل منهم، وزَيَّنُوا له أن هذا انتصار لما هم عليه من الحق، فإن أَعجزتهم هذه الحيلة ومَنَّ اللَّه تعالى على العبد بتحكيم السنة ومعرفتها والتمييز بينها وبين البدعة ألقوه في الكبائر، وزيَّنوا له فعلها بكل طريق، وقالوا له: أنت على السُّنَّة، وفُسَّاقُ أهل السنة أولياء اللَّه، وعُبَّاد أهل البدعة أعداء اللَّه، وقبورُ فساق أهل السنة رَوْضَة من رياض الجنة، وقبور عُبَّاد أهل البدع حُفْرة من حفر النار، والتمسك بالسنة يُكفِّر الكبائر، كما أن مخالفة السنة تحبط الحسنات، وأهل السنة إن قَعَدَتْ بهم أعمالُهم قامت بهم عقائدهم، وأهل البدعة (¬4) إذا قامت بهم أعمالهم قعدت بهم عقائدهم، وأهل السنة [هم] (¬5) الذين أحسنوا الظن بربهم إذ وصَفُوه بما وصَفَ به نفسَه ووصفه به رسوله ووصفوه بكل كمال وجلال ونَزَّهُوه عن كل نقص، واللَّه تعالى عند ظن عبده به، وأهل البدع هم الذين يظنون بربهم ظَنَّ السَّوء؛ إذ يُعَطِّلُونه عن صفات كمالِه وينزهونه عنها، وإذا عَطَّلوه عنها لزم اتصافه بأضدادها ضرورة؛ ولهذا قال اللَّه تعالى في حق من أنكر صفة واحدة من صفاته وهي صفة العلم ببعض الجزئيَّات: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23]، وأخبر (¬6) عن الظانين باللَّه ظن السَّوْء أن {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6] (¬7) فلم يتوعَّدْ بالعقاب أحدًا أعظم ممن ظن به [ظن] (¬8) السوء، وأنت لا تظن به ظن السوء، فمالك وللعقاب؟ وأمثال هذا من الحق الذي يجعلونه وُصْلَة لهم، وحيلة إلى الاستهانة (¬9) بالكبائر، وأخذه الأمنَ لنفسه. وهذه حيلة لا ينجو منها إلا الراسخ في العلم، العارف (¬10) بأسماء اللَّه ¬
وصفاته، فإنه كلما (¬1) كان باللَّه أعرف كان له أشد خشية، وكلما (¬2) كان به أجْهَلَ كان أشد غرورًا به وأقل خشية. فإن أعجزتهم هذه الحيلة وعَظُم وقار اللَّه في قلب العبد هَوَّنُوا عليه الصغائر، وقالوا له: إنها تقع مُكَفَّرة باجتناب الكبائر حتى كأنها لم تكن، وربما مَنَّوه أنه إذا تاب منها -[كبائر كانت أو صغائر] (3) - كتِبَ له مكانَ كل سيئة حسنة، فيقولون [له] (¬3): كثِّر منها ما استطعت، ثم اربح مكان كل سيئة حسنةً بالتوبة، ولو قَبْلَ الموت بساعة؛ فإن أعجزتهم هذه الحيلة وخلَّصَ اللَّه عبده منها نَقَلوه إلى الفُضُول من أنواع المُبَاحات والتوسُّعِ فيها، وقالوا له: قد كان لداود مئة امرأة إلا واحدة ثم أراد تكميلها بالمئة، وكان لسليمان ابنه مئة امرأة، وكان للزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان رضي اللَّه عنهم من الأموال ما هو معروف (¬4) وكان لعبد اللَّه بن المبارك والليث بن سعد من الدنيا وسَعَة المال ما لا يجهل، ويُنْسُوه ما كان هؤلاء من الفضل، وأنهم لم ينقطعوا عن اللَّه بدنياهم، بل ساروا بها إليه، فكانت طريقًا لهم إلى اللَّه عز وجل؛ فإن أعجزتهم هذه الحيلة -بأن تفتح بصيرة قلب العبد (¬5) حتى كأنه يشاهد بها الآخرة وما أعد اللَّه فيها لأهل طاعته وأهل معصيته، فأخذ حذره، وتأهب للقاء ربه تعالى، [واستقصر مدة هذه الحياة] (6) [في] الدنيا في جَنْب الحياة الباقية الدائمة- نقلوه إلى الطاعات [المفضولة الصغيرة] (¬6) الثواب ليشغلوهُ بها عن الطاعات الفاضلة الكثيرة الثواب، [فيعمل] (¬7) حيلته في تركه كل طاعةٍ كبيرة إلى ما هو دونها، [فيعمل] (7) حيلَتَه في تفويت الفضيلة عليه؛ فإن أعجزتهم هذه الحيلة -وهيهات- لم يبق لهم إلا حيلة واحدة، وهي تسليط أهل الباطل والبِدَع والظّلَمة عليه يؤذونه، ويُنَفِّرون الناسَ عنه، ويمنعونهم من الاقتداء به؛ ليفوِّتوا عليه مصلحة ¬
[من حيل شياطين الإنس]
الدعوة إلى اللَّه سبحانه [وعليهم] (¬1) مصلحة الإجابة. فهذه مجامع أنواع حيل الشيطان، ولا يُحصي أفرادها إلا اللَّه، ومن له مسكة من العقل يعرف الحيلة التي تمت عليه [من هذه الحيل، فإن كانت له همة إلى التخلص منها، وإلا فيسأل (¬2) من تمت عليه] (¬3)، واللَّه المستعان. [من حيل شياطين الإنس] وهذه الحيل من شياطين الجن نظيرُ حيل شياطين الإنس المجادِلين بالباطل ليدحضوا به الحق ويتوصلوا به إلى أغراضهم الفاسدة في الأمور الدينية والدنيوية وذلك كحيل القَرَامطة الباطنية على إفساد الشرائع، وحيل الرُّهْبَان على أشباه الحمير من عابدي الصليب (¬4) بما يموّهون به عليهم من المخاريق والحيل كالنور المصنوع وغيره مما هو معروف عند الناس، وكحيل أرباب الإشارات من اللاذن والتيسير والتغبير (¬5) وإمساك الحيَّات ودخول النار في الدنيا قبل الآخرة، وأمثال ذلك من حيل أشباه النصارى التي تروجُ على أشباه الأنعام، وكحيل أرباب الدك وخفة اليد التي تخفى على الناظرين أسبابها ولا يتفطَّنون لها (¬6). [السحر وحيل السحرة] وكحيل السَّحرة على اختلاف أنواع السحر؛ فإن سحر البيان هو من أنواع التحيل: إما لكونه بلغ في اللطف والحسن (¬7) إلى حد استمالة القلوب فأشبه السحر من هذا الوجه، وإما لكَوْن القادر على البيان يكون قادرًا على تحسين ¬
[حيل أرباب الملاهي وغيرهم]
القبيح وتقبيح الحسن فهو أيضًا يشبه السحر من هذا الوجه أيضًا، وكذلك سحر الوَهْم أيضًا هو حيلة وهمية (¬1)، والواقع شاهد بتأثير الوهم والإيهام (¬2)، ألا ترى أن الخشبة التي يتمكَّن الإنسان من المشي عليها إذا كانت قريبة من الأرض لا يمكن (¬3) المشي عليها إذا كانت على مَهْوَاة بعيدة القَعْر، والأطباء تنهى صاحِبَ الرُّعَاف عن (4) النظر إلى الشيء الأحمر، وتنهى المصروع عن (¬4) النظر إلى الأشياء القوية اللمعان أو الدوران، فإن النفوس خلقت مطية الأوهام (¬5)، والطَّبيعة فعَّالة (¬6)، والأحوال الجسمانية تابعة للأحوال النفسانية، وكذلك السحر بالاستعانة بالأرواح الخبيثة إنما هو بالتحيل على استخدامها بالإشراك بها والاتصاف بهيآتها الخبيثة، ولهذا لا يعمل السحر إلا مع الأنفس الخبيثة المناسبة لتلك الأرواح، وكلما كانت النفس أخْبَثَ كان سحرها أقوى، وكذلك سحر التمزيجات -وهو أقوى ما يكون من السحر- أن يمزج بين (¬7) القوى النفسانية الخبيثة الفعالة والقوى الطبيعية المنفعلة، والمقصود أن السحر من أعظم أنواع الحيل [التي ينال بها الساحِرُ غرضَه، وحيل الساحر من أصعب (¬8) الحيل] (¬9) وأقواها، ولكن لا تؤثر تأثيرًا مستقرًا إلا في الأنفس البطالة (¬10) المنفعلة للشهوات الضعيفة تعلقُهَا بفاطر الأرض والسموات المنقطعة عن التوجه إليه والإقبال عليه؛ فهذه النفوس محل تأثير السحر. [حيل أرباب الملاهي وغيرهم] وكحِيَلِ أرباب الملاهي والطرب على استمالة النفوس إلى محبة الصُّوَر والوصول إلى الالتذاذ بها؛ فحيلة السماع الشيطاني على ذلك من أدنى الحيل عليه، حتى قيل: أولُ ما وقع الزنا في العالم فإنما كان بحيلة اليَرَاع (¬11) والغِناء، لمَّا أراد الشيطانُ ذلك لم يجد عليه حيلة أدنى من الملاهي، وكحِيَلِ اللصوص ¬
[أرباب الحيل نوعان]
والسُّرَّاق على أخذ أموال الناس، وهم أنواع لا تُحصى؛ فمنهم السراق بأيديهم، ومنهم السراق بأقلامهم، ومنهم السراق بأمانتهم (¬1)، ومنهم السراق بما يظهرونه من الدِّين والفقر والصلاح والزهد وهم في الباطن بخلافه، ومنهم السراق بمَكْرِهم وخِداعهم وغشهم (¬2)، وبالجملة فحيل هذا الضرب من الناس من أكثر الحيل، وتليها حيلُ عُشَّاق الصُّوَر على الوصول إلى أغراضهم فإنها تقع في الغالب خفية، وإنما تتم غالبًا على النفوس القابلة المنفعلة الشهوانية، وكحِيلَ التتار التي ملكوا بها البلاد وقهروا بها العباد وسفكوا بها الدماء واستباحوا بها الأموال، وكحِيلَ اليهود وإخوانهم من الرافضة فإنهم بيت المكر والاحتيال، ولهذا ضُرِبَت على الطائفتين الذِّلَّةُ، وهذه سنة اللَّه تعالى في كل [مكار] (¬3) مخادع محتال بالباطل. [أرباب الحيل نوعان] ثم أرباب هذه الحيل نوعان: * نوع يقصد به حصول مقصوده، ولا يظهر أنه حلال، كحيل اللصوص وعشَّاق الصُّور المحرمة ونحوهما. ¬
* ونوع يظهر صاحبه أن مقصوده خير وصلاح ويُبْطِن خلافه. وأرباب النوع الأول أسلم عاقبةَ من هؤلاء؛ فإنهم أتوا البيوت من أبوابها والأمر من طريقه ووجهه، وأما هؤلاء فقَلَبوا مواضع (¬1) الشرع والدين، ولما كان أرباب هذا النوع إنما يباشرون الأسباب الجائزة ولا يظهرون مقاصدهم أعْضلَ أمرُهم، وعظم الخَطْبُ بهم، وصعب الاحتراز منهم، وعزَّ على العالم استنقاذ قتلاهم، فاسْتبِيحت بحيلهم الفرُوج، وأُخِذت بها الأموال من أربابها فأعطيت لغير أهلها، وعُطِّلت بها الواجبات، وضُيِّعت بها الحقوق، وعَجَّت الفرُوج والأموال والحقوق إلى ربها عجيجًا، وضجَّت مما حل بها إليه ضجيجًا، ولا يختلف المسلمون أن تعليم هذه الحيل حرام، والإفتاء بها حرام، والشهادة على مضمونها حرام، والحكم بها مع العلم بحالها حرام، والذين جَوَّزوا منها ما جوَّزه (¬2) من الأئمة لا يجوز أن يظن بهم أنهم جوّزوه على وجه الحيلة إلى المحرم وإنما جوزوا صورة ذلك الفعل، ثم إن المتحيل المخادع المكَّار (¬3) أخذ صورة ما أفتوا به فتوسَّل به إلى ما منعوا منه، وركَّبَ ذلك على أقوالهم وفتاواهم، وهذا فيه الكذب عليهم وعلى الشارع، مثالُه أن الشافعي رحمه اللَّه تعالى يجوّز إقرار المريض لوارثه (¬4)؛ فيتخذه مَنْ يريد أن يوصي لوارثه وسيلةً إلى الوصية له بصورة الإقرار ويقول: هذا جائز عند الشافعي، وهذا كذب على الشافعي؛ فإنه لا يجوّز الوصية للوارث بالتحيل عليها بالإقرار؛ فكذلك (¬5) الشافعي رحمه اللَّه يجوز للرجل إذا اشترى من غيره سِلْعة بثمن أن يبيعه إياها بأقلَّ مما اشتراها منه بناء على ظاهر السلامة (¬6). ولا يجوز ذلك حيلة على بيع مئة بمئة وخمسين إلى سنة؛ فالذي يسدُّ الذرائع يمنع ذلك وبقول: هو يُتَّخذ حيلة إلى (¬7) ما حرمه اللَّه تعالى ورسوله، فلا ¬
[الحيل المحرمة على ثلاثة أنواع]
يقبل إقرار المريض لوارثه، ولا يصح هذا البيع؛ ولا سيما (¬1) فإن إقرار المرء شهادة على نفسه، فإذا تطرق إليها التهمة بطلت كالشهادة على غيره. والشافعي رحمه اللَّه يقول: أقبل إقراره إحسانًا للظن بالمقر، وحَمْلًا لإقراره على السلامة، ولا سيما عند الخاتمة. ومن هذا الباب احتيال المرأة على فَسْخِ نكاح الزوج بما يُعلمه إياها أربابُ المكر والاحتيال، بأن تنكر أن تكون أذِنَتْ للوليّ، أو بأن النكاح لم يصح لأن الولي أو الشهودَ [جلسوا] (¬2) وقت العقد على فراش حرير، أو استندوا إلى وسادة حرير. وقد رأيتُ مَنْ يستعمل هذه الحيلة إذا طلق الزوجُ امرأته ثلاثًا، وأراد تخليصه من عار التحليل وشَنَاره أرشده إلى القدْح في صحة النكاح بفسق الولي أو الشهود، فلا يصح (¬3) الطلاق في النكاح الفاسد، وقد كان النكاح صحيحًا لما كان مقيمًا معها عدة سنين، فلما أوقع الطلاق الثلاث فسد النكاح. ومن هذا احتيال البائع على فسخ البيع بدعواه أنه لم يكن بالغًا وقت العقد، أو لم يكن رشيدًا، أو كان محجورًا عليه، أو لم يكن المبيع ملكًا له ولا مأذونًا له في بيعه. فهذه الحيل وأمثالها لا يستريب مُسْلم في أنها من كبائر الإثم وأقبح المحرَّمات، وهي من التلاعب بدين اللَّه، واتخاذ آياته هزوًا، وهي حرام من جهتها في نفسها لكونها كذبًا وزورًا، وحرام من جهة المقصود بها، وهو إبطال حق وإثبات باطل. [الحيل المحرمة على ثلاثة أنواع] فهذه ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون الحيلة مُحرَّمة ويُقصد بها المحرَّم. الثاني: أن تكون مباحة في نفسها ويُقصد بها المحرم؛ فتصير حرامًا تحريمَ الوسائلِ كالسفر لقطع الطريق وقتل النفس المعصومة. وهذان القسمان تكون الحيلة فيهما موضوعة للمقصود الباطل المحرم، ومُفْضِية إليه، كما هي موضوعة للمقصود الصحيح الجائز ومفضية إليه؛ فإن السفر طريق صالح لهذا وهذا. ¬
[نوع رابع من الحيل ينقسم إلى ثلاثة أقسام يقصد بها أخذ حق]
الثالث: أن تكون الطريق لم توضع للإفضاء إلى المحرم، وإنما وضعت مُفْضِية إلى المشروع كالإقرار والبيع والنكاح والهبة ونحو ذلك، فيتخذها المتحيل سُلَّمًا وطريقًا إلى الحرام، وهذا معترك الكلام في هذا الباب، وهو الذي قصدنا الكلام فيه بالقصد الأول (¬1). [نوع رابع من الحيل ينقسم إلى ثلاثة أقسام يقصد بها أخذ حق] القسم الرابع: أن يقصد بالحيلة أخذ حقٍ أو دفع باطلٍ، وهذا القسم ينقسم إلى ثلاثة أقسام أيضًا [القسم الأول من القسم الرابع] أحدها: أن يكون الطريق محرَّمًا في نفسه، وإن كان المقصود به حقًّا، مثل أن يكون له على رجل جق فيجحده، ولا بيّنة له، فيقيم صاحبه شاهدي زور يشهدان به، ولا يعلمان ثبوتَ (¬2) ذلك الحق، ومثل أن يطلق الرجل امرأته ثلاثًا، ويجحد الطلاق، ولا بينة لها، فتقيم (¬3) شاهدين يشهدان أنه طلقها، ولم يسمعا الطلاق منه، ومثل أن يكون له على رجل دَيْن، وله عنده وديعة، فيجحد الوديعة، فيجحد هو الدين، أو بالعكس، ويحلف ما له عندي حق، أو ما أودعني شيئًا، وإن كان يجيز هذا من يجيز مسألةَ الظَّفر، ومثل أن تدعي عليه المرأة كسوة أو نفقة ماضية كذبًا وباطلًا، فينكر أن تكون مَكَّنته من نفسها أو سَلّمت نفسها إليه، أو يقيم شاهدي زور أنها كانت ناشزًا؛ فلا نفقة لها ولا كسوة، ومثل أن يقتل رجل وليه فيقيم شاهدي زور ولم يشهدا القتل فيشهدا أنه قَتَله، ومثل أن يموت موروثه (¬4) فيقيم شاهدي زور أنه مات وأنه وارثه، وهما لا يعلمان ذلك، ونظائره ممن له حق لا شاهد له به فيقيم شاهدي (¬5) زور يشهدان له به؛ فهذا يأثم على الوسيلة دون المقصود، وفي مثل هذا جاء الحديث: "أدِّ الأمانة إلى مَنِ ائتمنك، ولا تَخُنْ من خانك" (¬6). ¬
فصل [القسم الثاني: أن تكون الطريق مشروعة]
فصل [القسم الثاني: أن تكون الطريق مشروعة] القسم الثاني: أن تكون الطريق مشروعة، وما تُفْضي إليه مشروع، وهذه هي الأسباب التي نصبها الشارع مُفْضِية إلى مسبَّباتها كالبيع والإجارة والمُسَاقاة والمزارعة والوكالة، بل الأسباب محل حكم (¬1) اللَّه ورسوله، وهي في اقتضائها ¬
لمسبباتها شرعًا على وزان الأسباب الحِسِّية في اقتضائها لمسبباتها قدرًا؛ فهذا شرع الرب تعالى وذلك قدره، وهما خلقه وأمره، واللَّه له الخلق والأمر، ولا تبديل لخلق اللَّه، ولا تغيير لحكمه، فكما لا يخالف سبحانه بالأسباب القدرية أحكامها بل يُجْريها على أسبابها (¬1) وما خُلِقت له؛ فهكذا الأسباب الشرعية لا يُخْرجها عن سببها وما شرعت له، بل هذه سنته شرعًا وأمرًا (¬2)، وتلك سنته قضاءً وقدرًا وسنته الأمرية قد تبدل وتتغير كما يُعْصَى أمره ويخالف، وأما سنته القدرية {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43]، كما لا يُعصى أمره الكوني القدري. ويدخل في هذا القسم التحيل على جلب المنافع و [على] (¬3) دفع المضار، وقد ألهم اللَّه تعالى ذلك لكل حيوان، فلأنواع الحيوانات من أنواع الحيل والمكر ما لا يهتدي إليه بنو آدم. وليس كلامنا ولا كلام السلف في ذم الحيل متناولًا لهذا القسم، بل العاجز مَنْ عجز عنه، والكَيَّسُ من كان به أفْطَنَ وعليه أقْدَرَ، ولا سيما في الحرب فإنها خدعة (¬4) والعجز كل العجز في ترك هذه الحيلة، والإنسان مندوب إلى الاستعاذة (¬5) باللَّه تعالى من العجز والكسل؛ فالعجز عدم القدرة على الحيلة النافعة، والكسل عدم الإرادة لفعلها؛ فالعاجز لا يستطيع الحيلة، والكسلان لا يريدها، ومن لم يَحْتَلْ وقد أمكنته هذه الحيلة أضاع فرصته وفَرَّطَ في مصالحه، كما قال (¬6): إذا المرء لم يَحْتَلْ وقد جَدَّ جِدَّه ... أضاع، وقَاسَى أمَرُه، وَهْوَ مُدْبِرُ وفي هذا قال بعض السلف: الأمرُ أمران: أمرٌ فيه حيلة فلا يعجز عنه (¬7)، وأمر لا حيلة فيه فلا يجزع منه (¬8). ¬
فصل [الاحتيال على الوصول إلى الحق بطريق مباحة لكنها لم تشرع له]
فصل [الاحتيال على الوصول إلى الحق بطريق مباحة لكنها لم تشرع له] القسم الثالث: أن يحتال على التوصل إلى الحق أو على دفع الظلم بطريق مباحة لم توضع مُوصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها هو طريقًا إلى هذا المقصود الصحيح، أو تكون (¬1) قد وضعت له لكن تكون خفيّة ولا يفطن لها، والفرق بين هذا القسم والذي قبله أن الطريق في الذي قبله نُصبَتْ مُفْضِية إلى مقصودها ظاهرًا، فسالكها سالك للطريق المعهود، والطريق في هذا القسم نصبت مفضية إلى غيره فيتوصل بها إلى ما لم توضع له؛ فهي في الفعال كالتعريض الجائز في المقَال، أو تكون مُفْضِية إليه لكن بخَفَاء، ونذكر لذلك أمثلةً ينتفع بها في هذا الباب. [أمثلة للقسم الثالث] المثال الأول: إذا استأجر منه دارًا مدة سنين بأجرة معلومة، فخاف أن يَغدُر به المكري في آخر المدة ويتسبب إلى فسخ الإجارة بأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإيجار أو أن المؤجَّرَ ملكٌ لابنه أو امرأته أو أنه كان مؤجرًا قبل إيجارِه، ويتبين أن المقبوض أجرة المثل لما استوفاه من المدة وينتزع المؤجر [له] (¬2) منه؛ فالحيلة في التخلّص من هذه الحيلة أن يُضَمنه المستاجر درك العين المؤجرة له أو لغيره، فإذا استحقت أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه، أو يأخذ إقرار مَنْ يخاف منه بأنه لا حق له في العين وأن كل دعوى يدعيها بسببها فهي باطلة، أو يستأجرها منه بمئة دينار مثلًا ثم يُصَارفه كل دينار بعشرة دراهم، فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقعَ عليها العقد، فإنه لم (¬3) يخف من ذلك، ولكن يخاف (¬4) أن يغدر به في آخر المدة، فليقسط (¬5) مبلغ الأجرة على عدد السنين، ويجعل معظمها للسنة التي يخشى غدره فيها، وكذلك إذا خاف المؤجِّرُ أن يغدر المستأجر ويرحل في آخر المدة، فليجعل معظم الأجرة على المدة التي يامن فيها [من] (¬6) رحيلِهِ، والقدر اليسير منها لآخر المدة. ¬
[مذهب أحمد في صور المضاربة بالدين]
المثال الثاني: أن يخاف ربُّ الدار غيبة المستأجر، ويحتاج إلى داره فلا يسلمها أهله إليه، فالحيلة في التخلص من ذلك أن يؤجرها ربها من امرأة المستأجر، ويضمن الزوج أن ترد إليه المرأة الدار وتفرغها متى انقضت المُدَّة، أو تضمن المرأة ذلك إذا استاجر الزوج، فمتى استأجر أحدهما وضمن الآخر الرد لم يتمكن أحدهما من الامتناع، وكذلك إن مات المستاجر فجحَدَ ورثته الإجارة وادّعوا أن الدار لهم نَفَع ربَّ الدار كفالةُ الورثة وضمانُهم رد الدار إلى المؤجِّر، فإن خاف المؤجر إفلاس المستأجر وعدم تمكنه من قبض الأجرة؛ فالحيلة أن يأخذ منه كفيلًا (¬1) بأجرة ما سكن أبدًا، ويسمي أجرة كل شهر للضمين، ويشهد عليه بضمانه. المثال الثالث: أن يأذن رب الدار للمستأجر أن يكون في الدار ما يحتاج إليه أو يعلف الدابة بقدر حاجتها، وخاف أن لا يحتسب له ذلك من الأجرة؛ فالحيلة في اعتداده به عليه أن يقدِّر ما تحتاج إليه الدابة أو الدار (¬2)، ويسمى له قدرًا معلومًا، ويحسبه من الأجرة، ويُشهد على المؤجِّر أنه قد وكله في صَرْف ذلك القدر فيما تحتاج إليه الدار أو الدابة. فإن قيل: فهل تجَوِّزون لمن له دَيْن على رجل أن يوكله في المضاربة به أو الصدقة به أو إبراء نفسه منه أو أن يشتري له شيئًا (¬3)، ويبرأ المدين إذا فعل ذلك؟ [مذهب أحمد في صور المضاربة بالدَّين] قيل: هذا مما اختلف فيه، وفي صورة المضاربة بالدَّين قولان في مذهب الإمام أحمد: أحدهما: أنه لا يجوز ذلك، وهو المشهور، لأنه يتضمن قبض الإنسان من نفسه وإبراءه لنفسه من دَيْن الغريم بفعل نفسه، لأنه متى أخرج الدين وضارب به فقد صار [المال] (¬4) أمانة وبرئ منه؛ وكذلك إذا اشترى به شيئًا أو تصدق به (¬5). والقول الثاني: أنه يجوز (¬6)، وهو الراجح في الدليل، وليس في الأدلة ¬
الشرعية ما يمنع من جواز ذلك، ولا يقتضي تجويزُه مخالفةَ قاعدة من قواعد الشرع، ولا وقوعًا في محظورٍ من ربا ولا قمار ولا بيع غَرَرٍ، ولا مفسدة في ذلك بوجه ما؛ فلا يليق بمحاسن الشريعة المنع منه، وتجويزه من محاسنها ومقتضاها (¬1). وقولهم: "إنه يتضمن إبراءَ الإنسان لنفسه بفعل نفسه" كلامٌ فيه إجمال يوهم أنه هو المستقل بإبراء نفسه، وبالفعل الذي به يبرأ، وهذا إيهامٌ؛ فإنه إنما برئ بما أذن له ربُّ الدَّيْن من مُبَاشرة الفعل الذي تضمن براءَته من الدَّيْن، فأي محذور في أن يفعل فعلًا أذن له فيه ربُّ الدَّيْن، ومستحقه يتضمن براءته؟ فكيف ينكر أن يقع في الأحكام الضمنية التبعية (¬2) ما لا يقع مثله في المتبوعات (¬3)، ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر؟ حتى لو وكَّله أو أذن له أن يبرئ نفسه من الدين جاز وملك ذلك، كما لو وكل المرأة أن تُطَلِّق نفسها؛ فأي فرق بين أن يقول: طلقي نفسك إن شئت (¬4)، أو يقول لغريمه: أبرئ نفسك إن شئت، وقد قالوا: لو أذن لعبده في التكفير بالمال ملك ذلك على الصحيح، فلو أذن له في الإعتاق ملكه، فلو أعتق نفسه صح على أحد القولين، والقول الآخر لا يصح لمانع آخر، وهو أن الولاء للمعْتِق، والعبد ليس من أهل الولاء، نعم المحذور أن يملك إبراء نفسه من الدين بغير رضا ربه وبغير إذنه؛ فهذا هو المخالف لقواعد الشرع. فإن قيل: فالدين لا يتعين، بل هو مطلق كلي ثابت في الذمة، فإذا أخرج مالًا واشترى به أو تصدق به لم يتعين أن يكون هو الدين، ورب الدَّين لم يعينه، فهو باقٍ على إطلاقه. قيل: هو في الذمة مطلق، وكل فرد من أفراده طابقه صح أن يعيَّن عنه ويجزئ، وهذا كإيجاب الرب تعالى الرقبة المطلقة في الكفارة فإنها غير مُعيَّنةٍ، ولكن أي رقبة عيَّنها المكلف وكانت مُطَابقة لذلك المطلق تأدى بها الواجب. ونظيره ههُنَا أن أيَّ فرد عيَّنه، وكان مطابقًا لما في الذمة تعين وتأدَّى به الواجب. وهذا كما يتعين عند الأداء إلى ربه، وكما يتعين عند التوكيل في قبضه؛ فهكذا يتعين عند توكيله لمن هو في ذمته أن يعينه ثم يضارب به أو يتصدق أو يشتري به ¬
[شرط صحة النقض]
شيئًا؛ وهذا محض الفقه وموجب القياس، وإلا فما الفرق بين تعينه (¬1) إذا وكل الغير في قبضه والشراء أو التصدق به وبين تعيينه إذا وكَّل مَنْ هو في ذمته أن يعينه ويضارب أو يتصدق به؟ فهل يوجب (¬2) التفريقَ فقهٌ أو مصلحة لهما أو لأحدهما أو حكمةٌ للشارع فيجب مراعاتها؟ فإن قيل: فجوِّزوا (¬3) على هذا أن يقول له: اجْعَلِ الدَّيْنَ الذي عليك رأس مال السَّلم في كذا وكذا. [شرط صحة النقض] قيل: شرط صحة النقض (¬4) أمران: أحدهما: أن تكون الصورة التي تنقض بها (¬5) مُسَاوية لسائر الصور في المعنى الموجب للحكم. الثاني: أن يكون الحكم فيها معلومًا بنص أو إجماع، وكلا الأمرين مُنْتَفٍ هاهنا، فلا إجماع معلوم في المسألة وإن كان قد حُكي وليست (¬6) مما نحن فيه؛ فإن المانع من جوازها رأى أنها من باب بيع الدَّيْن بالدَّيْن، بخلاف ما نحن فيه، والمجوِّز لها يقول: ليس عن الشارع نص عامِ في المنع من بيع الدَّيْن بالدَّيْن، وغاية ما ورد فيه حديث وفيه ما فيه: "أنه نَهَى عن بيع الكالئ بالكالئ" (¬7) والكالئ: هو المؤخَّر، وهذا كما إذا كان رأس مال السَّلم دَيْنًا في ذمة المسلم، فهذا هو الممنوع منه بالاتفاق؛ لأنه يتضمن شغل الذمتين بغير مصلحة لهما، وأما ¬
[هل ينفع إشهاد رب الدار على نفسه أنه مصدق]
إذا كان الدين في ذمة المسلّم إليه فاشترى به شيئًا في ذمته فقد سقط الدين من ذمته وخلفه دين آخر واجب فهذا من باب بيع الساقط بالواجب، فيجوز كما يجوز بيع الساقط بالساقط في باب المُقَاصَّة، فإن بَنَى المستأجر أو أنفق على الدابة وقال: أنفقت كذا وكذا، وأنكر المؤجِّر، فالقول قول المؤجر؛ لأن المستأجر يدعي براءة نفسه من الحق الثابت عليه، والقول قول المنكر (¬1). [هل ينفع إشهاد رَبِّ الدار على نفسه أنه مصدق] فإن قيل: فهل ينفعه إشْهَادُ ربِّ الدار (¬2) أو الدابة على نفسه أنه مُصَدَّق فيما يدعي إنفاقه؟ قيل: لا ينفعه ذلك، وليس بشيء، ولا يُصَدَّق أنه أنفق شيئًا إلا ببينة؛ لأن مقتضى العقد ألا يقبل قوله في الإنفاق، ولكن ينتفع بعد الإنفاق بإشهاد المؤجر أنه صادق فيما يدعي أنه أنفقه، والفرق بين الموضعين أنه بعد الإنفاق مُدَّعٍ، فإذا صدقه المدَّعى عليه نفعه ذلك، وقبل الإنفاق ليس مدعيًا، فلا ينفعه (¬3) شهاد المؤجر بتصديقه فيما سوف يدعيه في المستقبل؛ فهذا شيء وذاك شيء آخر. [الحيلة على أن يصدق المؤجِّر المستأجر] فإن قيل: فما الحيلة على أن يصدق المؤجر (¬4) المستأجر فيما يدعيه من النفقة؟ قيل: الحيلة أن يُسْلِف المستأجر رب الدار أو الحيوان من الأجرة ما يعلم أنه بقدر الحاجة (¬5)، ويشهد عليه بقبضه، ثم يدفع رب الدار إلى المستأجر ذلك الذي قبضه منه، ويوكّله في الإنفاق على داره أو دابته، فيصير أمينه فيصدَّق على ما يدَّعيه إذا كان ذلك نفقة مثله عرفًا، فإن خرج عن العادة لم يصدق به، وهذه حيلة لا يدفع بها حقًا، ولا يتوصل بها لمحرَّم (¬6)، ولا يقيم بها باطلًا. ¬
[خوف رب الدار من أن يؤخر المستأجر تسليمها]
[خوف رب الدار من أن يؤخر المستأجر تسليمها] المثال الرابع: إذا خاف رب الدار أو الدابة أن يُعَوّقها عليه المستأجر بعد المدة، فالحيلة في أمْنِه من ذلك أن يقول: متى حبستها بعد انقضاء المدة فأجرتها كل يوم كذا وكذا، فإنه يخاف من حَبْسها أن يلزمه بذلك (¬1). [استئجار الشمع ليشعله] المثال الخامس: لا يجوز استئجار الشَّمْع ليُشْعله، لذهاب عين المستأجر، والحيلة في تجويز هذا العقد أن يبيعه من الشمعة أوَاقِيَ معلومة، ثم يؤجّره إياها، فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر، وإلا احتسب له بما أذهبه منها، وأحْسَنُ من هذه الحيلة أن يقول: بعتك من هذه الشمعة كل أوقية منها بدرهم، قلّ المأخوذ منها أو كثر، وهذا جائز على أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا (¬2)، وهو الصواب المقطوع به، وهو مُخَرَّجٌ على نَصِّ الإمام أحمد في جواز إجارة الدار كل شهر بدرهم (¬3)، وقد أخر علي كرم اللَّه وجهه في الجنة نفسه كل دلو بتمرة (¬4)، ولا محذور في هذا أصلًا، ولا يُفْضِي إلى تنازع ولا تشاحن، بل عملُ الناس في أكثر بياعاتهم عليه، ولا يضره جهالة كَمِّية المعقود عليه عند البيع؛ لأن الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدّي إلى القمار والغَرَر، ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل، وهذه لا تؤدي إلى شيء من ذلك، بل إن أراد قليلًا أخذ والبائع راضٍ، وإن أراد كثيرًا أخذ والبائعُ راضٍ، والشريعة لا تحرم مثل هذا ولا تمنع منه، بل هي أسمح من ذلك وأحكم. [اعتراض وردّه] فإن قيل: لكن في العقد على هذا الوجه محذوران: أحدهما: تضمنه للجمع بين البيع والإجارة. والثاني (¬5): أن مورد عقد الإجارة يذهب عينه أو بعضه بالإشعال. قيل: لا محذور في الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده، كما لو باعه ¬
[اشتراط الزوجة دارها أو بلدها ونحو ذلك]
سلعة وأجَّره دارًا (¬1) شهرًا بمئة درهم، وأما ذهاب أجزاء المستأجر بالانتفاع فإنما لم يجز لأنه لم يتعوض عنه المؤجر، وعقد الإجارة يقتضي رد العين بعد الانتفاع، وأما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضي ضمان المتلف بثمنه الذي قدر له وأجرة انتفاعه بالعين قبل الإتلاف، فالأجرة في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها، والثمن في مقابلة ما أذهب منها، فدعونا من تقليد آراء الرجال، ما الذي حرَّم هذا؟ وأين هو في كتاب اللَّه وسنة رسوله أو أقوال الصحابة أو القياس الصحيح الذي يكون فيه الفرع (¬2) مساويًا للأصل ويكون حكم الأصل ثابتًا بالكتاب أو السنة أو الإجماع؟ وليس كلامنا في هذا الكتاب مع المقلِّد المتعصب المقرّ على نفسه بما شهد عليه به جميعُ أهل العلم أنه ليس من جملته (¬3) فذاك وما اختار لنفسه، وباللَّه التوفيق. [اشتراط الزوجة دارها أو بلدها ونحو ذلك] المثال السادس: أن تشترط المرأة دارها أو بلدها أو أن لا يتزوَّج عليها، ولا يكون هناك حاكم يصحح هذا الشرط، أو تخاف أن يرفعها إلى حاكم يبطله (¬4)، فالحيلة في تصحيحه أن تلزمه عند العقد بأن يقول: إن تزوَّجتُ عليك امرأة فهي طالق، وهذا (¬5) الشرط يصح وإن قلنا: "لا يصح تعليق الطلاق بالنكاح" نص عليه أحمد؛ لأن هذا الشرط لما وجَبَ الوفاء به من (¬6) منع التزويج بحيث لو تزوج فلها الخيار بين المقام معه ومفارقته جاز اشتراط طلاق من يتزوَّجها (¬7) عليها، كما جاز اشتراط عدم نكاحها (¬8)، فإن لم تتم لها هذه الحيلة فلتأخذ شرطه أنه إن تزوج عليها فأمْرُها بيدها، أو أمرُ الضرة بيدها، ويصح تعليق ذلك بالشرط (¬9)؛ لأنه توكيلٌ على الصحيح، ويصح تعليق الوكالة على الشرط على الصحيح من قولي العلماء، وهو قول الجمهور ومالك (¬10) وأبي حنيفة (¬11) وأحمد (¬12) رضي اللَّه عنهم كما يصح تعليق الولاية على الشرط بالسنة الصحيحة ¬
[تزوج المرأة بشرط ألا يتزوج عليها]
الصريحة (¬1)، ولو قيل: "لا يصح تعليق الوكالة بالشرط" لصَحَّ تعليق هذا التوكيل الخاص؛ لأنه يتضمن الإسقاط، فهو كتعليق الطلاق والعتق بالشرط، ولا ينتقض هذا بالبراءة فإنه يصح تعليقها بالشرط، وقد فعله الإمام أحمد، وأصولُه تقتضي صحته، وليس عنه نص بالمنع، ولو سلم أنه تمليك لم يمنع تعليقه بالشرط كما تعلق الوصية، وأولى [بالجواز] (¬2)؛ فإن الوصية تمليك مال وهذا ليس كذلك؛ فإن لم تتم لها هذه الحيلة فلتتزوجه (¬3) على مَهْر مسمَّى على أنه إن أخرجها من دارها فلها مهرُ مثلها وهو أضعاف ذلك المسمى، ويقر الزوج بأنه مهر مثلها، وهذا الشرط صحيح؛ لأنها لم ترض بالمسمى، إلا بناء على قرارها (¬4) في دارها، فإذا لم يَسْلم لها ذلك وقد شرطت في مقابلته زيادةً جاز، وتكون تلك الزيادة في مقابلة ما فاتها من الغرض (¬5) الذي إنما أرخصت المهر ليَسْلَم لها، فإذا لم يسلم لها (¬6) انتقلت إلى المهر الزائد، وقد صرح [أصحاب أبي حنيفة] (¬7) بجواز مثل ذلك مع قولهم بأنه لا يصح اشتراط دارها ولا أن يتزوج عليها، وقد أغنى اللَّه سبحانه عن هذه الحيلة بوجوب الوفاء بهذا الشرط الذي هو أحق الشروط أن يُوفى به وهو مقتضى الشرع والعقل والقياس الصحيح، فإن المرأة لم ترض ببذل بُضْعها للزوج إلا على هذا الشرط، ولو لم يجب الوفاء به لم يكن العقد عن تَرَاضٍ، وكان إلزامًا لها بما لم تلتزمه وبما لم يلزمها (¬8) اللَّه تعالى ورسوله [به] (¬9)، فلا نص ولا قياس واللَّه الموفق. [تزوج المرأة بشرط ألا يتزوج عليها] المثال السابع: إذا خاصمته امرأته وقالت: قل: "كلُّ جارية أشتريها فهي حرة، وكل امرأة أتزوجها فهي طالق" فالحيلة (¬10) في خلاصه أن يقول ذلك ويعني ¬
بالجارية السفينة لقوله تعالى (¬1): {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] ويمسك بيده حَصَاة أو خرقة ويقول: "فهي (¬2) طالق" فيرد الكناية إليها، فإن تفقَّهت عليه الزوجة وقالت: بل قل (¬3): "كل رقيقة أو أمة" فليقل ذلك وليَعْنِ فهي حُرَّةُ الخصال غير فاجرة، فإنه لو قال ذلك لم تعتق كما لو قال له رجل: "غلامك فاجر زانٍ" فقال: ما أعرفه إلا حرًا عفيفًا، ولم يرد العتق، لم يعتق. وإن تفقَّهت عليه وقالت: قل: "فهي (¬4) عتيقة" فليقل ذلك ولْيَنْوِ (¬5) ضد الجديدة، أي عتيقة في الرق، فإن تفقَّهت وقالت: قل: "فهي معتوقة" أو: "قد أعتقتها إن ملكتها" فليردَّ الكناية إلى حَصَاة في يده (¬6) أو خرقة، فإن لم تَدَعْه أن يمسك شيئًا فليردّها إلى نفسه، ويعني أن قد أعتقها من النار بالإسلام، أو فهي حرة ليست رقيقة لأحد، ويجعل الكلام جملتين، فإن حصرته وقالت: قل: "فالجارية التي أشتريها معتوقة" فليقيّد ذلك بزمَن معين، أو مكان معين في نيته (¬7) ولا يحنث بغيره، فإن حصرته وقالت: من غير تورية ولا كناية ولا نية تخالف قولي، وهذا (¬8) آخر التشديد، فلا يمنعه ذلك من التورية والكناية، وإن قال بلسانه: "لا أوري ولا أكني" والتورية والكناية في قلبه، كما لو قال: "لا أستثني" بلسانه ومن نيته الاستثناء [بقلبه] (¬9)، ثم استثنى فإنه ينفعه، حتى لو لم ينو الاستثناء ثم عزم عليه واستثنى نَفعه ذلك بالسنة الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها بوجه في غير حديث، كقول المَلَكِ لسليمان: قل إن شاء اللَّه (¬10)، وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إلا الإذْخِرَ" (¬11) بعد أن ذَكَّره به ¬
العباس، وقوله عليه السلام: ["إن شاء اللَّه" بعد أن قال] (¬1): "لأغْزُوَنَّ قريشًا، ثلاث مرات" ثم قال بعد الثلاثة وسكوته: "إن شاء اللَّه" (¬2) والقرآن صريح في نفع الاستثناء إذا نسيه أو لم ينوه في أول كلامه ولا أثناءه في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24]، وهذا إما أن يختصَّ بالاستثناء إذا نسيه كما فسرَّه به جمهور المفسرين، أو يعمَّه ويعم غيره وهو الصواب (¬3)؛ فأما أن يخرج منه الاستثناء الذي سِيقَ الكلامُ لأجله ويرد إلى غيره فلا يجوز، ولأن الكلام الواحد لا يعتبر في صحته نية كل جملة من جُمَله وبعضٍ من أبعاضه؛ فالنص والقياس يقتضي نفع الاستثناء، وإن خطر له بعد انقضاء الكلام، وهذا هو الصواب المقطوع به (¬4). ¬
[إجارة الأرض المشغولة بالزرع]
[إجارة الأرض المشغولة بالزرع] المثال الثامن: لا تصح إجارة الأرض المشغولة بالزرع (¬1)، فإن أراد ذلك فله حيلتان جائزتان: إحداهما: أن يبيعه الزرع ثم يؤجِّره الأرض، فتكون الأرض مشغولة بملك المستأجر، فلا يقدح في صحة الإجارة، فإن لم يتمكن من هذه الحيلة لكون الزرع لم يَشْتَدَّ أو كان زرعًا للغير انتقل إلى. . . الحيلة الثانية: وهي أن يؤجره إياها لمدة تكون بعد أخذ الزرع، ويصح هذا بناء على صحة الإجارة المضافة. [استئجار الأرض بخراجها مع الأجرة] المثال التاسع: لا تصح إجارة الأرض على أن يقوم المستأجر بالخَرَاج مع الأجرة، أو يكون قيامه به هو أجرتها، ذكره القاضي؛ لأن الخراج مؤنة تلزم المالك بسبب تمكّنه من الانتفاع؛ فلا يجوز نقله إلى المستأجر. والحيلة في جوازه أن يُسَمِّي مقدار الخراج، ويضيفه إلى الأجرة -قلت: ولا يمنع أن يؤجره الأرض بما عليها من الخراج إذا كان مقدارًا معلومًا لا جهالة فيه- فيقول: أجرتكها بخراجها تقوم به عني، فلا محذور في ذلك، ولا جهالة، ولا غَرَر، وأي فرق بين أن يقول: آجرتك كل سنة بمئة أو بالمئة التي عليها كل سنة خراجًا؟ فإن قيل: الأجرة تدفع إلى المؤجِّر والخراج إلى السلطان. قيل: بل تدفع الأجرة إلى المؤجر أو إلى مَن أذن له بالدفع إليه، فيصير وكيله في الدفع (¬2). [استئجار الدابة بعلفها] المثال العاشر: لا يصح أن يستأجر الدابة بعَلَفها لأنه مجهول. والحيلة في جوازه أن يسمّي ما يعلم أنها تحتاج إليه من العلف فيجعله أجرة ثم يوكّله في إنفاق ذلك عليها. وهذه الحيلة غير محتاج إليها على أصلنا؛ فإنا نجوِّز أن يستأجر الظِّئرَ (¬3) بطعامها وكسوتها والأجيرَ بطعامه وكسوته، فكذلك إجارة الدابة ¬
[الإجارة مع عدم معرفة المدة]
بعلفها وسقيها (¬1). فإن قيل: عَلَفُ الدابة على مالكها، فإذا شرطه على المستأجر فقد شرط ما ينافي مقتضى العقد، فأشبه ما لو شرط في عقد النكاح أن تكون نفقة الزوجة على نفسها. قيل: هذا من أفسد القياس؛ لأن العلف قد جعل في مقابلة الانتفاع فهو نفسه أجرة مغتفرة جهالتها اليسيرة للحاجة، بل الحاجة إلى ذلك أعظم من حاجة استئجار الأجير بطعامه وكسوته؛ إذ يمكن الأجير أن يشتري له بالأجرة، ذلك، فأما الدابة فإن كَّلف ربَّها أن يصحبها ليعلفها شق عليه ذلك فتدعو الحاجة إلى قيام المستأجر عليها، ولا يظن به تفريطه في علفها لحاجته إلى ظهرها، فهو يعلفها لحاجته وإن لم يمكنها مخاصمته (¬2). [الإجارة مع عدم معرفة المدة] المثال الحادي عشر: إذا أراد أن يستأجر دارًا أو حانوتًا، ولا يَدْرِي مدة مقامه، فإن استأجره سنة فقد يحتاج إلى التحول قبلها. فالحيلة أن يستاجر كل شهر بكذا وكذا، فتصح الإجارة وتلزم في الشهر الأول، وتصير جائزة فيما بعده من الشهور، فلكل واحد منهما الفسخ عقيب كل شهر إلى تمام يوم، وهذا قول أبي حنيفة، وقال الشافعي: الإجارة فاسدة، وعن أحمد نحوه، والصحيح الأول؛ فإذا خاف المستأجر أن يتحول قبل تمام الشهر الثاني فيلزمه أجرته فالحيلة أن يستأجرها كل أسبوع بكذا، فإن خاف التحول قبل الأسبوع استأجرها كل يوم بكذا، ويصح ويكون حكم اليوم كحكم الشهر. [شراء الوكيل ما وُكِّل فيه لنفسه] المثال الثاني عشر: لو وكله أن يشتري له جارية معينة، فلما رآها الوكيل أعجبته وأراد شراءها لنفسه من غير إثم يدخل عليه ولا غدر بالموكِّل جاز ذلك ¬
لأن شراءه لنفسه عَزْل لنفسه وإخراج لها من الوكالة، والوكيل يملك عزل نفسه في حضور الموكِّل وغيبته، وإذا عزل نفسَه واشترى الجارية لنفسه بماله ملكها، وليس ذلك بيع على بيع أخيه ولا شراء على شراء أخيه (¬1)، إلا أن يكون سيَّدها قد ركن إلى الموكل وعزم على إمضاء البيع له؛ فيكون شراء الوكيل لنفسه حينئذ حرامًا لأنه شراء على شراء أخيه، ولا يقال: "العقد لم يتم والشراء على شرائه هو أن يطلب من البائع فَسْخَ العقد في مدة الخيار ويعقد معه هو" لعدة أوجه: أحدها: أن هذا حمل الحديث على الصورة النادرة، والأكثر خلافها. الثاني: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قَرَن ذلك بخطبته على خطبة أخيه (¬2)، وذلك إنما يكون قبل عقد النكاح. الثالث: أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى أن يَسُومَ على سَوْم أخيه (¬3)، وذلك أيضًا قبل العقد. الرابع: أن المعنى الذي حَرَّم الشارع لأجله ذلك لا يختص بحالة الخيار، بل هو قائم بعد الركون والتراضي وإن لم يعقداه كما هو قائم بعد العقد. الخامس: إن هذا تخصيص لعموم الحديث بلا موجب، فيكون فاسدًا، فإن شراءه على شراء أخيه متناول لحال الشراء وما بعدهُ، والذي غَرَّ من خَصَّه بحالة الخيار ظنه أن هذا اللفظ إنما يصدق على من اشترى بعد شراء أخيه، وليس كذلك، بل اللفظ صادق على القسمين. السادس: أنه لو اختص اللفظ بما بعد الشراء لوجب تعديته بتعدية علته إلى حالة السَّوْم. أما (¬4) على أصل أبي حنيفة فلا يتأتَّى ذلك؛ لأن الوكيل لا يملك عزل نفسه في غيبة الموكل، فلو اشتراها لنفسه لكان عزلًا لنفسه في غيبة موكله، وهو لا يملكه (¬5). قالوا: فالحيلة في شرائها لنفسه أن يشتريها بغير جنس الثمن الذي وكِّل أن يشتري به، وحينئذ فيملكها (¬6)؛ لأن هذا العقد غير الذي وُكل فيه، فهو بمنزلة ما لو وكله في شراء شاة فاشترى فرسًا؛ فإن العقد يكون للوكيل دون الموكِّل؛ فإن أراد الموكل الاحتراز من هذه الحيلة وأنْ لا يمكنَ الوكيلَ من شرائها لنفسه ¬
فليشهد عليه أنه متى اشتراها لنفسه فهي حرة؛ فإن وكل الوكيل من يشتريها له انبنى ذلك على أصلين: أحدهما: أن الوكيل هل له أن يوكل أم لا؟ والثاني: أن مَنْ حلف لا يفعل شيئًا؛ فوكَّل في فعله هل يحنث أم لا؟ وفي الأصلين نزاع معروف، فإن وكله رجل في بيع جارية ووكله آخر في شرائها، وأراد هو شراءها لنفسه فالحكم على ما تقدم، غير أن هاهنا أصلًا، آخر، وهو أن الوكيل في بيع الشيء هل يملك بيعه لنفسه؟ فيه روايتان عن الإمام أحمد (¬1): إحداهما: لا يملك ذلك سَدًّا للذريعة؛ لأنه لا يَستقصي في الثمن. والثانية: يجوز إذا زاد على ثمنها في النداء لتزول التهمة؛ فعلى هذه الرواية يفعل ذلك من غير [حاجة إلى] (¬2) حيلة، والثانية لا يجوز فعل هذا، وهل يجوز (¬3) له التحيل على ذلك؟ فقيل: له أن يتحيل عليه بأن يدفع إلى غيره دراهم ويقول له: اشْتَرِها لنفسك، ثم يتملَّكها منه، والذي تقتضيه قواعد المذهب أن هذا لا يجوز؛ لأنه تحيل على التوصل إلى فعل محرم، ولأن ذلك ذريعة إلى عدم استقصائه واحتياطه في البيع، بل يسامح في ذلك لعلمه أنَّها تصيرُ إليه، وأنه هو الذي يزن الثمن، ولأنه يعرض نفسه للتهمة، ولأن الناس يرون ذلك نوع غَدْر ومكر؛ فمحاسن الشريعة تأبى الجواز. فإن قيل: فلو وكله أحدهما في بيعها والآخر في شرائها ولم يُرد أن يشتريها لنفسه؛ فهل يجوز ذلك؟ قيل: هذا ينبني على شراء الوكيل في البيع لنفسه؛ فإن أجزناه هناك جاز هاهنا بطريق الأولى، وإن منعناه هناك، فقال القاضي: لا يجوز أيضًا هاهنا؛ لتضاد الغرضين؛ لأن وكيل البيع يستقصي في زيادة الثمن، ووكيل الشراء يستقصي في نقصانه؛ فيتضادان، ولم يذكر غير ذلك، ويتخرَّج الجواز -وإن منعنا الوكيل من الشراء لنفسه من نص أحمد- على جواز كون الوكيل في النكاح وكيلًا من الطرفين، وكونه أيضًا وليّا من الطرفين، وأن يَلِي بذلك على إيجاب العقد وقَبُوله، ولا ريب أن التهمة التي تلحقه في الشِّرَاء لنفسه أظهر من التهمة التي تلحقه في الشراء لموكله. ¬
[حيلة في التخلص من طلاق امرأته]
والحيلة الصحيحة. في ذلك كله أن يبيعها بيعًا بتاتًا ظاهرًا لأجنبي يثق به، ثم يشتريها منه شراء مستقلًا؛ فهذا لا بأس به، واللَّه أعلم. [حيلة في التخلص من طلاق امرأته] المثال الثالث عشر: إذا قال الرجل لامرأته: "الطلاق يلزمني لا تقولين لي شيئًا إلا قلتُ لك مثله"، فقالت له: أنت طالق ثلاثًا. فالحيلة في التخلّص من أن يقول لها مثل ذلك أن يقول لها: قلتِ لي: أنتَ طالق ثلاثًا. قال أصحاب الشافعي: وفي هذه الحيلة نظر لا يخفى؛ لأنه لم يقل لها مثل ما قالت له، وإنما حكَى كلامَها من غير أن يقول لها نظيره. ولو أن رجلًا سبَّ رجلًا فقال له المسبوب: "أنت قلت لي: كذا وكذا" لم يكن قد ردّ عليه عند أحد، [لا] (¬1) لغةً ولا عرفًا؛ فهذه الحيلة ليست بشيء. وقالت طائفة أخرى: الحيلة أن يقول لها: "أنْتَ طالق ثلاثًا" -بفتح التاء- فلا تطلق، وهذا نظير ما قالت له سواء، وهذه وإن كانت أقْرَبَ من الأولى؛ فإن المفهوم المتعارف لغةً وعقلًا وعُرْفًا من الرد على المرأة أن يخاطبها خطاب المؤنث؛ فإذا خاطبها خطاب المذكر لم يكن ذلك ردًا ولا جوابًا، ولو فرض أنه ردّ لم يمنع وقوع الطلاق بالمُوَاجهة وإن فتح التاء، كأنه قال: [أيها] (¬2) الشخص أو الإنسان. وقالت طائفة أخرى: الحيلة في ذلك أن يقول: أنْتِ طالق ثلاثًا إن شاء اللَّه، أو إن كلمتِ السلطان، أو إن سافرت، ونحو ذلك؛ فيكون قد قال لها نظير ما قالت، ولا يضر زيادة الشرط، وهذه الحيلة أقرب من التي قبلها، ولكن في كون المتكلم بها رادًا أو مجيبًا نظر لا يخفى؛ لأن الشرط وإن تضمن زيادة في الكلام لكنه يخرجه عن كونه نظيرًا لكلامها، ومِثْلًا له، وهو إنما حلف أن يقول لها مثل ما قالت له، والجملة الشرطية ليست مثل الجملة الخبرية، بل الشرط يدخل على الكلام التام فيصيّره ناقصًا يحتاج إلى الجواب، ويدخل على الخبر فيقلبه إنْشَاءً، ويغير صورة الجملة الخبرية ومعناها، ولو قال رجل لغيره: "لعنك اللَّه"، فقال له: "لعنك اللَّه إن بَدَّلْتَ دينك أو ارتددت عن الإسلام" لم يكن سابًا له، ولو قال له: ¬
[الإحرام وقد ضاق الوقت]
"يا زان (¬1) " فقال: "بل أنت زانٍ إن وطئت فرجًا حرامًا" لم يكن الثاني قاذفًا [له] (¬2). ولو بذلَتْ له مالًا على أن يطلقها، فقال: أنتِ طالق إن كلَّمتِ السلطان، لم يستحق المال، ولم يكن مُطَلقًا. وقالت طائفة أخرى: لا حاجة إلى شيء من ذلك، والحالف لم تدخل هذه الصورة في عموم كلامه، وإن دخلت فهي من المخصوص بالعرف والعادة والعقل؛ فإنه لم يرد هذه الصورة قطعًا، ولا خطرت بباله، ولا تناولها لفظه؛ فإنه إنما تناول لفظه القول الذي يصح أن يُقال له، وقولُها: "أنْتَ طالق ثلاثًا" ليس من القول الذي يصح أن يواجَهَ به؛ فهو لغو محضٌ وباطل، وهو بمنزلة قوله (¬3): "أنت امرأتي" وبمنزلة قول الأمة لسيدها: "أنتَ أمتي وجاريتي" ونحو هذا من الكلام اللغو الذي لم يدخل تحت لفظ الحالف ولا إرادته، أما عدم دخوله تحت إرادته فلا إشكال فيه، وأما عدم تناول لفظه له؛ فإن اللفظ العام إنما يكون عامًا فيما يصلح له وفيما سيق لأجله. وهذا أقوى من جميع ما تقدم، وغايته تخصيص العام بالعُرْف والعادة، وهذا أقرب لغةً [وعرفًا] (¬4) وعقلًا وشرعًا من جعل ما تقدم مطابقًا ومماثلًا لكلامها مثله، [فتأمله] (¬5)، واللَّه الموفق. [الإحرام وقد ضاق الوقت] المثال الرابع عشر: إذا خاف الرجل لضيق الوقت أن يحرم بالحج فيفوته فيلزمه القضاء ودم الفوات؛ فالحيلة أن يحرم إحرامًا مطلقًا ولا يعيّنه؛ فإن اتسع له الوقت جعله حجًا أو قِرانًا أو تمتعًا، وإن ضاق عليه الوقت جعله عمرة، ولا يلزمه غيرها. [من جاوز الميقات غير محرم] المثال الخامس عشر: إذا جاوز الميقات غير محرم لزمه الإحرام ودم لمجاوزته للميقات غير محرم. فالحيلة في سقوط الدم عنه أن لا يحرم من ¬
[حيلة للبر في يمين]
موضعه، بل يرجع إلى الميقات فيحرم منه؛ فإن أحرم من موضعه لزمه الدم، وإلا (¬1)؛ فيسقط برجوعه إلى الميقات. [حيلة للبر في يمين] المثال السادس عشر: إذا سُرق له متاع، فقال لامرأته: إن لم تخبريني مَنْ أخذه فأنت طالق ثلاثًا، والمرأة لا تعلم مَنْ أخذه، فالحيلة في التخلص من هذه اليمين أن تذكر الأشخاص التي لا يخرج المأخوذ عنهم [وهذا لا يتأتى إلا فيما إذا علم أن السارق أحدهم واشتبه وجهلت عينه] (¬2)، ثم تفرد كل واحد واحد، وتقول: هو أخذه؛ فإنها تكون مُخْبرة عن الآخذ وعن غيره فيبرّ في يمينه ولا تطلق. [ادعاء المرأة نفقة ماضية] المثال السابع عشر: إذا ادَّعَتِ المرأة النفقة والكسوة لمدة ماضية، فقد اختلف في قبول دعواها، فمالك وأبو حنيفة (¬3) [لا يقبلان (¬4) دعواها، ثم اختلفا في مأخذ الرد؛ فأبو حنيفة] (¬5) يسقطها بمضي الزمان، كما يقوله منازعوه في نفقة القريب، ومالك لا يسمع الدعوى التي يكذّبها العرف والعادة، ولا يُحلف [عنده] (¬6) فيها، ولا يُقبل فيها بينة (¬7)، كما لو كان رجل حائزًا دارًا متصرفًا (¬8) فيها مدة السنين الطويلة بالبناء والهَدْم والإجارة والعمارة وينسبها إلى نفسه ويضيفها إلى ملكه وإنسان حاضر يراه ويشاهد أفعاله فيها طول هذه المدة ومع ذلك لا يعارضه فيها، ولا يذكر أن له فيها حقًا، ولا مانع يمنعه من خوف أو شركة في ميراث، ونحو ذلك، ثم جاء بعد تلك المدة فادّعاها لنفسه، فدعواه غير مسموعة فضلًا عن إقامة بينته (¬9). قالوا: وكذلك إذا كانت المرأة مع الزوج مدة سنين يشاهده الناسُ والجيرانُ داخلًا ببيته بالطعام والفاكهة واللحم والخبز، ثم ادعت بعد ذلك أنه لم ينفق عليها [في] (¬10) هذه المدة؛ فدعواها غير مسموعة، فضلًا عن أن ¬
يحلف لها، أو يسمع لها بينة. قالوا: وكل دعوى ينفيها (¬1) العرف وتكذبها العادة فإنها مرفوضة غير مسموعة. وهذا المذهب هو الذي نَدينُ اللَّه به، ولا يليق بهذه الشريعة الكاملة سواه، وكيف يليق بالشريعة أن تسمع مثلَ هذه الدعوى التي قد علم اللَّه وملائكته والناس أنها كذب وزور؟ وكيف تَدَّعي المرأة أنها أقامت مع الزوج ستين سنة أو أكثر لم ينفق عليها فيها يومًا واحدًا ولا كساها فيها ثوبًا، ويقبل قولها عليه، ويُلزم بذلك كله؟ ويقال: الأصل معها! وكيف يعتمد على أصل يكذّبه العرف والعادة والظاهر الذي بلغ في القوة إلى حد القطع؟ والمسائل التي يقدَّمُ فيها الظاهر القوي على الأصل أكثر من أن تحصى (¬2)، ومثل هذا المذهب في القوة مذهب أبي حنيفة، وهو سقوطها بمضي الزمان؛ فإن البيّنة قد قامت بدونها؛ فهي كحق المبيت والوطء. ولا يعرف أحد من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع أنهم أئمة الناس في الورع والتخلص من الحقوق والمظالم- قضى لامرأة بنفقة ماضية، أو استحلّ امرأة منها، ولا أخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بذلك امرأة واحدة منهن، ولا قال لها: ما مضى من النفقة حق لك عند الزوج؛ [فإنْ شئتِ فطالبيهِ (¬3)، وإنْ شئتِ حللتيه (¬4)، وقد] (¬5) كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يتعذَّر عليه نفقة أهله أيامًا حتى سألنه إياها (¬6)، ولم يقل لهن (¬7): هي باقية في ذمتي حتى يوسِّع اللَّه وأقضيكنَّ، ولما وَّسع اللَّه عليه لم يقض لامرأة منهن ذلك، ولا قال لها: هذا عِوَض عمَّا فاتك من الإنفاق، ولا سمع الصحابة رضي اللَّه عنهم لهذه المسألة خبرًا؛ وقول عمر -رضي اللَّه عنه- للغياب: "إما أن تطلِّقوا وإما أن تَبْعثوا بنفقة ما مضى" (¬8) في ¬
ثبوته نظر، وإن (¬1) قال ابنُ المنذر: "ثبت عن عمر" (¬2) فإنَّ في إسناده ما يمنع ثبوته. ولو قدر صحته فهو حُجَّة عليهم، ودليل على أنهم إذا طلقوا لم يلزمهم بنفقة ما مضى. فإن قيل: وحجة عليكم في إلزامه لهم بها، وأنتم لا تقولون بذلك. قيل: بل نقول به، وإن الأزواج إذا امتنعوا من الواجب عليهم مع قدرتهم عليه لم يسقط بالامتناع ولزمهم ذلك، وأما المعذور العاجز فلا يحفظ عن أحد من الصحابة أنه جعل النفقة دَيْنًا في ذمته أبدًا، وهذا التفصيل هو أحسن ما يقال في هذه المسألة. والمقصود أن على هذين المذهبين لا تُسمع [هذه] (¬3) الدعوى، ويسمعها الشافعي وأحمد (¬4) رحمهما اللَّه بناءً على قاعدة الدعاوى، وأن الحق قد ثبت ومستحقه ينكر قبضه فلا يقبل قول الدافع عليه إلا ببينة؛ فعلى قولهما يحتاج الزوج إلى طريق تخلّصه من هذه الدعوى، ولا ينفعه دعوى النشوز، فإن القول فيه قول المرأة، ولا يخلصه دعوى عدم التسليم الموجب للإنفاق لتمكّن المرأة من إقامة البينة عليه، فله حيلتان: ¬
[شراء معيب ثم تعيبه عند المشتري]
إحداهما: أن يقيم البيِّنة على نفقته وكسوته لتلك المدة، وللبينة أن تشهد على ذلك بناء على ما علمته وتحققته بالاستفاضة والقرائن المفيدة للقطع؛ فإن الشاهد يشهد بما علمه بأي طريق علمه، وليس على الحاكم أن يسأل البينة عن مستند التحمل، ولا يجب على الشاهد أن يبين مستنده في الشهادة. والحيلة (¬1) الثانية: أن ينكر التمكين الموجب لثبوت المُدَّعى به في ذمته، ويكون صادقًا في هذا الإنكار؛ فإن التمكين الماضي لا يوجب عليه ما ادعت به الزوجة إذا كان قد أداه إليها، والتمكين الذي يوجب ما ادعت به لا حقيقة له؛ فهو صادق في إنكاره. [شراء معيب ثم تعيّبه عند المشتري] المثال الثامن عشر: إذا اشترى رِبَوِيًا بمثله فتعيَّب عنده ثم وجد به عيبًا، فإنه لا يمكنه رده للعيب الحادث، ولا يمكنه أخذ الأرْش لدخول التفاضل فالحيلة في استدراك ظُلَامته أن يدفع إلى البائع ربويًا معيبًا (¬2) بنظير العيب الذي وجده (¬3) بالمبيع ثم يسترجع منه الذي دفعه إليه فإن استهلكه استرد منه نظيره، وهذه الحيلة على أصل الشافعي، وأما على أصل أبي حنيفة فالحيلة في الاستدراك أن يأخذ [عوض العيب] (¬4) من غير جنسه، بناءً على أصله في تجويز مسألة مُدِّ عَجْوة، وأما على أصل الإمام أحمد فإن كان البائع عَلِم بالعيب فكتمه لم يمنع العيبُ الحادثُ عند المشتري ردّه عليه، بل لو تلَف جميعُه رجع عليه بالثمن عنده. وإن لم يكن من البائع تدليس فإنه يرد عليه المبيع ومعه أرش العيب الحادث عنده، ويسترد العوض، وليس في ذلك محذور، فإنه يبطل العقد؛ فالزيادة ليست زيادة في عوض، فلا يكون رِبًا (¬5). [إبراء الغريم في مرض الموت] المثال التاسع عشر: إذا أبرأ الغريم من دَيْنه في مرض موته ودينه يخرج من الثلث وهو غير وارث فخاف المبرأ (¬6) أن تقول الورثة: "لم يخلّف مالًا سوى ¬
[حيلة لنفاذ عتق عبده مع خوفه جحد الورثة]
الدين" ويطالبون (¬1) بثلثيه، فالحيلة أن يخرج المريض إلى الغريم مالًا بقدر دَيْنه فيهبه إياه، ثم يستوفيه منه من دينه، فإن عجز عن ذلك ولم تغب عنه الورثة فالحيلة أن يقر بأنه شريكه بقدر الدَّيْن الذي عليه. فإن عَجَزَ عن ذلك فالحيلة أن يقر بأنه كان قَبَضَه منه أو أبرأه منه في صحته، فإن خاف أن يتعذر عليه مطالبته به إذا توفي (¬2) فالحيلة أن يُشهد عليه أنه إن ادّعى عليه أو أي وقت ادعى عليه أو متى ادعى عليه بكذا وكذا فهو صادق في دعواه، فإن (¬3) لم يدّع عليه بذلك لم يلزمه، وليس لوارثه بعده أن يدعي به، فإنه إنما صدق الموروث إن ادعى، ولم تحصل دعواه، وإنما ينتقل إلى الورثة ما ادعى به الموروث وصدقه المُدَّعى عليه (¬4)، ولم يتحقق ذلك. [حيلة لنفاذ عتق عبده مع خوفه جحد الورثة] المثال العشرون: إذا أراد أن يعتق عبده وخاف أن يَجْحَدَ الورثة المال ويُرِقّوا ثلثيه (¬5)، فالحيلة أن يبيعه لأجنبي، ويقبض ثمنه منه، ثم يهب الثمن للمشتري، ويسأله إعتاق العبد، ولا ينفعه أن يأخذ إقرار الورثة أن العبد يخرج من الثلث؛ لأن الثلث إنما يُعتبر عند الموت لا قبله، فإن لم يرد تنجيز عتقه وأحَبَّ تدبيره وخاف عليه من ذلك فالحيلة أن يملكه لرجل يثق به، ويعلّق المشتري عتقه بموت السيد المملك، فلا يجد الورثة إليه سبيلًا (¬6). [حيلة لمن يريد إثبات دين على الموروث] المثال الحادي والعشرون: إذا كان لأحد الورثة دين على الموروث وأحَبَّ أن يوفيه إياه ولا بيّنة له به، فإن أقر له به أبطلنا إقراره، وإن أعطاه عوضه كان تبرعًا في الظاهر فلباقي الورثة رده، فالحيلة في (¬7) خلاصه من دَيْنِه أن يقبض الوارث ماله عليه [من الدين] (¬8) في السر، ثم يبيعه سلعة أو دارًا أو عبدًا بذلك الثمن، فيسترد منه المال، ويدفع إليه تلك السلعة التي هي بقدر دينه. فإن قيل: وأي حاجة له إلى ذلك إذا أمكنه أن يعطيه ما له عليه في السر؟ ¬
[حيلة لمن خاف انفساخ نكاح بموته]
قيل: بل في ذلك خلاص الوارث من دعوى بقية الورثة واتهامهم [له] (¬1) وشكواهم إياه أنه استولى على مال موروثنا أو صار إليه بغير الحق (¬2)، فإذا لم يخرج المال الذي عاينوه عند الموروث عن التركة سَلِمَ من تطرق التهمة والأذى والشكوى. [حيلة لمن خاف انفساخ نكاح بموته] المثال الثاني والعشرون (¬3): إذا زوج عبده من ابنته صح، فإن خاف من انفساخ النكاح بموته حيث تملَّكه أو بعضه، فالحيلة في إبقاء (¬4) النكاح أن يبيعه من أجنبي ويقبض ثمنه أو يهبه إياه، فإن مات بعد ذلك هو أو الأجنبي لم ينفسخ النكاح. المثال الثالث والعشرون: إذا كان مولاه (¬5) سفيهًا إن زوَّجه طلَّق وإن سَرَّاه أعتق وإن أهمله فسق، فالحيلة أن يشتري جارية من مال نفسه ويزوجه إياها فإن أعتقها لم ينفذ عتقه وإن طلقها رجعت إلى سيدها فلا يطالبه بمهرها. [تزويج عبده جاريته بعد أن حلف لا يزوجه إياها] المثال الرابع والعشرون: إذا طَلب عبده منه أن يزوجه جاريته فحلف بالطلاق لا يزوجه إياها، فالحيلة على جواز تزويجه بها ولا يحنث أن يبيعهما جميعًا أو يملّكهما لمن يُثق به، ثم يزوّجهما المشتري، فإذا فعل ذلك استردهما ولا يحنث؛ لأنه لم يزوج أحدهما الآخر، وإنما فعل ذلك غيره، قال (¬6) القاضي أبو يعلى: وهذا غير ممتنع على أصلنا؛ لأن الصفة قد وُجِدتْ في حال زوال ملكه، فلا يتعلّق به حنثٌ ولا يتعلق الحنث باستدامة العقد بعد أن ملكهما؛ لأنّ التّزوبجَ عبارة عن العقد وقد تَقَضَّي، وإنما بقي حكمه فلم يحنث باستدامته، قال: ويفارق هذا إذا حلف على عبده لا أدخل هذه الدار فباعه ودخلها ثم ملكه ودخلها بعد ذلك فإنه يحنث لأن الدخول عبارة عن الكون، وذلك موجود بعد الملك كما كان ¬
[الشركة بالعروض والفلوس]
موجودًا في الملك الأول، قال: وقد علَّق أحمد القول في رواية مهنَّأ في رجل قال لامرأته: "أنت طالق إن رهنت كذا [وكذا"، فإذا هي] (¬1) قد رهنته قبل اليمين، فقال: أخاف أن يكون [قد] (¬2) حنث، قال: وهذا محمول على أنه قال: "إن كنت رهنتيه" فيحنث لأنه حلف على ماض. ولا يخفى ما في هذا الحمل من مخالفة ظاهر كلام السائل وكلام الإمام أحمد؛ أما كلام السائل فظاهر في أنه إنما أراد رهنًا تنشئه بعد اليمين فإن أداة الشرط تخلّص الفعل الماضي للاستقبال، فهذا الفعل مستقبل بوضع اللغة والعرف والاستعمال. وأما كلام الإمام أحمد فإنه لو فهم من السائل ما حمله عليه القاضي لجزم بالحنث، ولم يقل: "أخاف" فهو إنما يطلق هذه اللفظة فيما عنده فيه نوع توقف. واستقراء أجوبته يدل على ذلك، وإنما وجه هذا أنه جعل استدامة الرهن رهنًا كاستدامة اللبس والركوب والسكنى والجماع والأكل والشرب ونحو ذلك. ولما كان لها شبه بهذا وشبه باستدامة النكاح والطيب ونحوهما لم يجزم بالحنث، بل قال: أخاف أن يكون قد حنث، واللَّه أعلم. [الشركة بالعروض والفلوس] المثال الخامس والعشرون: هل تصحُّ الشركة بالعروض والفلوس -إنْ قلنا: هي عروض- والنقود المغشوشة؟ على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد (¬3)، فإن جوَّزنا الشركة بها لم يحتج إلى حيلة، بل يكون رأس المال قيمتها وقت العقد، وإن لم نجوز الشركة بها (¬4) فالحيلة على أن يصيرا (¬5) شريكين فيها أن يبيع كلُّ واحدٍ منهما صاحبه نصف عرضه بنصف عرضه مشاعًا، فيصير كل منهما شريكًا لصاحبه في عرضه، ويصير عرض كل واحد منهما بينهما نصفين، ثم يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، هذا إذا كان قيمة العرضين سواء، فإذا كانا متفاوتين -بأن يساوي أحدهما مئة والآخر مئتين- فالحيلة أن يبيع صاحب العرض ¬
[الصلح عن الدين ببعضه]
الأدنى ثلثي عرضه بثلث عرض صاحبه كما تقدم، فيكون العرضان بينهما أثلاثًا، والربح على قدر الملكين عند الشافعي (¬1) وعند أحمد (¬2) على ما شَرَطَاه، ولا تمتنع هذه الحيلة على أصلنا فإنها لا تبطل حقًا، ولا تثبت باطلًا، ولا توقع في محرَّم. [الصلح عن الدين ببعضه] المثال السادس والعشرون: إذا كان له عليه ألف درهم فأراد أن يصالحه على بعضها فلها ثمان صور، فإنه إما يكون مقرًا أو منكرًا، وعلى التقديرين فإما أن تكون حالّةً أو مؤجلة، ثم الحلول والتأجيل إما أن يقع في المُصَالحَ عنه أو في المصالح به، وإنما تتبين أحكام هذه المسائل بذكر صورها وأصولها (¬3): الصورة الأولى: أن يصالحه عن (¬4) ألف حالّةٍ قد أقرَّ بها على خمس مئة حالَّة؛ فهذا صُلْح على الإقرار، وهو صحيح على أحد القولين، باطل على القول الآخر، فإن الشافعي لا يصحح الصلح إلا على الإقرار (¬5)، والخرقي ومن وافقه من أصحاب الإمام أحمد لا يصححه إلا على الإنكار (¬6)، وابن أبي موسى وغيره يصححونه على الإقرار والإنكار (¬7)، وهو ظاهر النص، وهو الصحيح، فالمبطلون له مع الإقرار يقولون: هو هَضْم للحق؛ لأنه إذا أقر له فقد لزمه ما أقر به، فإذا بَذَل (¬8) له دونه فقد هَضَمه حقه، بخلاف المنكر فإنه يقول: إنما افتديت يميني والدعوى عليَّ بما بذلته، والآخذ يقول: أخذتُ بعضَ حقي، والمصححون له يقولون: إنما يمكن الصلح مع الإقرار لثبوت الحق به، فتمكن المصالحة على بعضه، وأما مع الإنكار فأي شيء ثبت حتى يصالح عليه؟ فإن قلتم: "صالحه عن الدعوى واليمين وتوابعهما، فإن هذا لا تجوز المعاوضة عليه، ولا هو مما يقابل بالأعواض، فهذا أصل، والصواب جواز الأمرين للنص والقياس والمصلحة، ¬
فإن اللَّه تعالى أمرنا (¬1) بالوفاء بالعقود ومراعاة العهود، وأخبر النبي (¬2) -صلى اللَّه عليه وسلم- أن المسلمين على شروطهم (¬3)، وأخبر أنَّ "الصلح بين المسلمين جائز إلا صلحًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا" (¬4)، وقول مَنْ منع الصلح على الإقرار [به] (¬5) "إنه هَضْم ¬
للحق" ليس كذلك، وإنما الهَضْم أن يقول: لا أقر لك حتى تهَبَ لي كذا وتَضَعَ عني كذا وأما إذا أقرَّ له ثم صالحه ببعض ما أقر به فأي هضم هناك؟ وقول مَن منع الصلح على الإنكار: "إنه يتضمن المعاوضة عما لا تصح المعاوضة عليه" فجوابه أنه افتداء لنفسه من الدعوى واليمين وتكليف إقامة البينة كما تفتدي المرأة نفسَها من الزوج بما (¬1) تبذله له، وليس هذا بمخالف لقواعد الشرع، بل حكم (¬2) الشرع وأصوله وقواعده ومصالح المكلفين تقتضي ذلك. فهاتان (¬3) صورتان: صُلحٌ عن الدَّيْن الحال [وصلح] (¬4) ببعضه حالًّا مع الإقرار ومع الإنكار. الصورة الثالثة (¬5): أن يصالح عنه ببعضه مؤجلًا مع الإقرار والإنكار، فهاتان صورتان أيضًا، فإن كان مع الإنكار ثبت التأجيل، ولم تكن له المطالبة به قبل الأجل؛ لأنه لم يثبت له قبله دينٌ [حالّ] (¬6) فيقال: لا يقبل التأجيل، وإن كان مع الإقرار ففيه ثلاثة أقوال للعلماء، وهي في مذهب الإمام أحمد رحمه اللَّه (¬7): أحدها: لا يصح الإسقاط ولا التأجيل، بناءً على أن الصلح لا يصح مع الإقرار وعلى أن الحال لا يتأجل. والثاني: أنه يصح الإسقاط دون التأجيل، بناءً على صحة الصلح مع الإقرار. والثالث: أنه يصح الإسقاط والتأجيل، وهو الصواب، بناءً على تأجيل القَرْض والعارية، وهو مذهب أهل المدينة، واختيار شيخنا (¬8). وإن كان الدَّين مؤجلًا فتارة يصالحه على بعضه مؤجَّلًا مع الإقرار والإنكار (¬9)، فحكمه ما تقدم، وتارة يصالحه ببعضه حالًا مع الإقرار والإنكار، فهذا للناس فيه ثلاثة أقوال أيضًا: ¬
أحدها: أنه (¬1) لا يصح مطلقًا، وهو المشهور عن مالك (¬2)؛ لأنه يتضمن بيع المؤجل ببعضه حالًا، وهو عين الربا، وفي الإنكار المُدَّعي يقول: هذه المئة الحالة عوض عن مئتين مؤجلة، وذلك لا يجوز، وهذا قول ابن عمر (¬3). [والقول الثاني: أنه يجوز] (¬4)، وهو قول ابن عباس (¬5)، وإحدى الروايتين عن الإمام أحمد حكاها ابن أبي موسى (¬6) وغيره، واختاره شيخنا (¬7)؛ لأن هذا عكس الربا، فإن (¬8) الربا يتضمن الزيادة في أحد العوضين في مقابلة الأجل، [وهذا يتضمن براءة ذمته من بعض العوض في مقابلة سقوط الأجل] (¬9)، [فسقط بعض العوض في مقابلة سقوط بعض الأجل] (¬10)، فانتفع (¬11) به كل واحد منهما، ¬
فصل [الحيلة على الصلح على الإنكار والإقرار]
ولم يكن هنا ربًا لا حقيقةً ولا لغةً ولا عرفًا، فإن الربا الزيادة وهي منتفية هاهنا، والذين حرَّموا ذلك إنما قاسوه على الربا، ولا يخفى الفرق الواضح بين قوله: "إما أن تُرْبي وإما أن تَقْضِي" وبين قوله: عَجِّلْ لي وأهَبُ لك مئة، فأين أحدهما من الآخر؟ فلا نص في تحريم ذلك ولا إجماع ولا قياس صحيح. والقول الثالث: يجوز ذلك في دَينِ الكتابة، ولا يجوز في غيره، وهو قول الشافعي (¬1) وأبي حنيفة (¬2)، قالوا: لأن ذلك يتضمن تعجيل العتق المحبوب إلى اللَّه، "والمكاتبُ عبدٌ ما بقي عليه درهم" (¬3)، ولا ربا بين العبد وبين سيده، فالمكاتب وكسبه للسيد، فكأنه أخذ بعض كسبه وترك له بعضه، ثم تناقضوا فقالوا: لا يجوز أن يبيعه درهمًا بدرهمين؛ لأنه في المعاملات معه كالأجنبي سواء (¬4). فياللَّه العجب! ما الذي جَعَله معه كالأجنبي في هذا الباب من أبواب الربا وجعله معه بمنزلة العبد القِنِّ في [هذا] (¬5) الباب الآخر؟ فهذه صورة هذ المسائل وأصولها ومذاهب العلماء فيها، وقد تبين أن الصواب جوازها كلها، فالحيلة على التوصل إليها حيلة على أمر جائز ليست على حرام. فصل [الحيلة على الصلح على الإنكار والإقرار] فالحيلة على الصلح على الإنكار عند من يمنعه أن يجيء رجل أجنبي فيقول للمدَّعي: أنا أعلم أن ما في يد المدَّعى عليه لك، وهو يعلم أنك صادق في ¬
فصل
دعواك، وأنا وكيلُه، فصالحني على كذا، فينقلب حينئذ صلحًا على الإنكار (¬1)، ثم ينظر فإن كان فعل ذلك بإذن المدعى عليه رجَع بما دفعه إلى المدعي، وإن كان بغير إذنه لم يرجع عليه. وإن دفع المدعي عليه المال إلى الأجنبي وقال: "صالِح عني بذلك" جاز أيضًا (¬2). فصل (¬3) والحيلة في جواز الصلح على الإقرار عند من يمنعه أن يبيعه سلعة ويحابيه فيها بالقدر الذي اتفقا على إسقاطه بالصلح. فصل [الحيلة في الصلح عن الحال ببعضه مؤجَّلًا] والحيلة في الصلح عن الحالِّ ببعضه مؤجلًا حتى يلزمه التأجيل أن يبرئه من الحالِّ، ويُقِرُّ أنه لا يستحق عليه إلا المؤجل، والحيلة في الصلح عن المؤجَّل ببعضه حالًا أن يتفاسخا العقدَ الأول، ثم يجعلانه بذلك القدر الحال، فإذا اشترى منه سلعة أو استأجر منه دابة أو خالَعَتْه على عوض مؤجل فسَخا العقد [ثم جعلا] (¬4) عوضه ذلك القدر الحال، فإن لم يكن فيه الفسخ كالدِّية وغيرها فالحيلة في جواز ذلك أن يعاوض على الدَّيْن بسلعة أو بشيء (¬5) غير جنسه، وذلك جائز لأن غاية ما فيه بيع الدين ممن هو في ذمته، فإن أتلف له مثليًا لزمُه مثله دينًا عليه، فإن صالح عليه بأكثر من جنسه لم يجز؛ لأنه ربا، وإن كان المتلف متقومًا لزمه قيمته، فإن صالح عليه بأكثر من قيمته فإن كان من جنسها لم يجز ذلك (¬6)، وإن كان من غير جنسها جاز، إذ هو بيعٌ للقيمة، وهي دَيْن بذلك العوض، وهو جائز. [اختلاف الوكيل والموكل في ثمن ما وكَّله في شرائه] المثال السابع والعشرون: إذا وكله في شراء جارية بألف، فاشتراها الوكيل، ¬
[الحيلة في سقوط الضمان عن المودع]
وقال: أذنْتَ لي في شرائها بألفين وقد فعْلتُ، فالقول قول الوكيل، ولا يلزمه الألفان، ولا يملك الجارية والوكيل مقرٌّ أنها للموكِّل، فإنه (¬1) لا يحل له وطؤها، والألف الزائدة دين عليه، ولا يمكن الوكيل بيعها ولا التصرف فيها؛ لأنه معترف أنها ملك للموكل، وأن الألف الأخرى في ذمته والوكيل ضامنٌ لها، فالحيلة في ملك الوكيل لها أن يقول له الموكل: إن كنتُ أذنت لك في شرائها (¬2) بألفين فقد بعتكها بالألفين (¬3)، فيقول: قد اشتريتها منك، فيملكها حينئذ، ويتصرف فيها، وهذا قول المزني وأكثر أصحاب الشافعي (¬4)، ولا يضر تعليق البيع بصورة الشرط، فإنه لا يملك (¬5) صحته إلا على هذا الشرط، فهو كما لو قال: "إن كانت ملكي فقد بعتكها بألفين" ولا يلتفت إلى نصف فقيه يقول: هذا تعليقٌ للبيع بالشرط فيبطل، كما لو قال: إن قدم زيد فقد بعتك كذا [بكذا، بل هذا نظيرُ قوله: إن كنت جائز التصرف فقد بعتك كذا] (¬6)، وإن أعطيتني ثمن هذا المبيع (¬7) فقد بعتكه، [ونحو ذلك] (¬8). [الحيلة في سقوط الضمان عن المودع] المثال الثامن والعشرون (¬9): إذا أودَعه وديعة وأشهد عليها (¬10) فتَلِفت من غير تفريطه لم يضمن، فإن ادَّعى عليه قبض الوديعة فأنكر فأقام البينة عليه ضمن، فإن ادعى التلف بعد ذلك لم يُقبل منه لأنه معترف أنه غير أمين له، وقد قامت البينة على قبضه ماله فيضمنه، ولا ينفعه تكذيب البينة، فالحيلة في سقوط الضمان أن يقول: مالك عندي شيء، فإن حلَّفه حلف حلفًا صادقًا، فإن أقام البيِّنة بالوديعة فليصدق البينة، ويقول: صدقت فيما شهدت به، ويدعي التلف بغير تفريط؛ فإن كذَّب البينة لزمه الضمان، ولا ينفعه دعوى التلف. [الحيلة في تضمين الراهن تلف المرهون] المثال التاسع والعشرون: إذا رهن عنده رهنًا، ولم يثق بأمانته، وخاف أن ¬
[الحيلة في سقوط ضمان المستعير عند من يقول ربه]
يدعي هلاكه ويذهب به، فالحيلة في أن يجعله مضمونًا عليه أن يعيره إياه أولًا، فإذا قبضه رهنه منه بعد ذلك، فإذا تلف كان في (¬1) ضمانه؛ لأن طَرَيان الرهن على العارلة لا يبطل حكمها؛ لأن المرتهن يجوز له الانتفاع بها بعد الرهن بهما كان ينتفع بها قبله، ولو بطل لم يجز له الانتفاع. [الحيلة في سقوط ضمان المستعير عند من يقول ربه] المثال الثلاثون: اختلف الناس في العارية: هل توجب الضمان إذا لم يفرّط المستعير؟ على أربعة أقوال: أحدها: يوجب الضمان مطلقًا، وهو قول الشافعي (¬2) وأحمد [مطلقًا] (¬3) في المشهور عنه (¬4). الثاني: لا يوجب الضمان، وَيدُ المستعيرِ يَدُ أمانة، وهو قول أبي حنيفة (¬5). الثالث: [أنه] (¬6) إن كان التلف بأمر ظاهر كالحريق وأخذ السَّيْل (¬7) وموت الحيوان وخراب الدار لم يضمن، وإن كان بأمر لا يطلع عليه كدَعْوَى سرقة الجوهرة والمنديل والسكين ونحو ذلك ضمن، وهو قول مالك (¬8). الرابع: أنه إن شرط نفي ضمانها لم يضمن، وإن أطلق ضمن، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد (¬9). ¬
[حيلة في لزوم تأجيل قرض أو عارية]
والقول بعدم الضمان قويٌّ متَّجه، وإن كنا لا نقبل قوله في دعوى التلف لأنه ليس بأمينِه، لكن إذا صدقه المالك في التلف بأمر لا يُنْسَب فيه إلى تفريط فعدم التضمين أقوى (¬1). فالحيلة في سقوط الضمان أن يشترط نفيه، فإن خاف أن لا يفي له بالشرط فله حيلة أخرى وهي أن يُشْهد عليه أنه متى ادعى عليه بسبب هذه العين ما يوجب الضمان فدعواك باطلة. فإن لم تسعد (¬2) معه هذه الحيلة أو خاف من ورثته بعده الدعوى فله حيلة ثالثة، وهي أن يستأجر العين منه بأقل شيء للمدة التي يريد الانتفاع بها، أو يستأجرها منه بأجرة مثلها ويشهد عليه أنه قبض الأجرة أو أبرأه منها، فإن تلفت بعد ذلك لم يضمنها، وليست هذه الحيلة مما تحلل حرامًا [أو] تحرم حلالًا (¬3). [حيلة في لزوم تأجيل قرض أو عارية] المثال الحادي والثلاثون: اختلف الناس في تأجيل القَرْض والعارية إذا أجَّلها؛ فقال الشافعي (¬4) وأحمد (¬5) في ظاهر مذهبه وأبو حنيفة (¬6): لا يتأجَّل شيء من ذلك بالتأجيل، وله المطالبة به متى شاء، وقال مالك (¬7): يتأجَّل بالتأجيل، فإن أطلق ولم يؤجّل ضرب له أجل مثله، وهذا هو الصحيح لأدلة كثيرة مذكورة في موضعها. [الحيلة في لزوم تأجيل القرض والعارية] وعلى هذا القول فالمستقرض والمستعير آمن من غَدْر المقرض غني عن ¬
[حيلة في جواز بيع الرهن عند حلول الأجل]
الحيلة للزوم الأجل، وعلى القول الأول فالحيلة في لزوم التأجيل أن يشهد عليه أنه لا يستحق ما عليه (¬1) من الدين إلى مدة كذا وكذا، ولا يستحق المطالبة بتسليم العين إلى مدة كذا وكذا، فإن أراد حيلة غير هذه فليستأجر منه العينَ إلى تلك المدة ثم يبرئه من الأجرة كما تقدم، وأما القرض فالحيلة في تأجيله أن يشتري من المقرض شيئًا ما بمبلغ (¬2) القرض ثم يكتبه مؤجلًا من ثمن مبيع قبضه المشتري، فإنه لا يتمكن من المطالبة به قبل الأجل، وهذه حيلة (¬3) على أمر جائر لا يبطل بها حقٌّ فلا تكره. [حيلة في جواز بيع الرهن عند حلول الأجل] المثال الثاني والثلاثون: إذا رهنه رهنًا بدين، وقال: "إنْ وفَّيتُك الدين إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك بما عليه" صح ذلك، وفعله الإمام أحمد، وقال أصحابنا: لا يصح (¬4)، وهو المشهور من مذهب الأئمة الثلاثة (¬5)، واحتجوا بقوله: "لا يغلق الرهن" (¬6) ولا حجة لهم فيه، فإن هذا كان موجبهُ في الجاهلية أن ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
المرتهن يتملك الرهن بغير إذن المالك إذا لم يوفه؛ فهذا هو غلق الرهن الذي أبطله النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأما بيعه للمرتهن بما عليه عند الحلول فلم يُبْطِله كتاب ولا سنة ¬
[حيلة للخلاص إذا أقر بدين مؤجل]
ولا إجماع ولا قياس صحيح ولا مفسدة ظاهرة، وغاية ما فيه أنه بيع عُلِّق على شرط، ونعَمْ فكان ماذا؟ وقد تدعو الحاجة والمصلحة إلى هذا من المرتهنين (¬1)، ولا يحرم عليهما ما لم يحرمه اللَّه ورسوله، ولا ريب أن هذا خيرٌ للراهن والمرتهن من تكليفه (¬2) الرفْعَ إلى الحاكم، وإثباته الرهن، واستئذانه في بيعه والتعب الطويل الذي لا مصلحة فيه سوى الخسارة والمشقة، فإذا اتفقا على أنه له بالدين عند الحلول كان أصلح لهما وأنفع وأبعد من الضرر والمشقة والخسارة، فالحيلة (¬3) في جواز ذلك بحيث لا يحتاج إلى حاكم أن يملكه العين التي يريد أن يرهنها منه، ثم يشتريها منه بالمبلغ الذي يريد استدانته، ثم يقول: إن وفيتك الثمن إلى كذا وكذا وإلا فلا بيع بيننا، فإن وفاه وإلا انفسخ البيع وعادت السلعة إلى (¬4) ملكه. وهذه حيلة حسنة محصِّلة (¬5) لغرضهما من غير مفسدةٍ ولا تضمُّن لتحريم ما أحل اللَّه، ولا لتحليل ما حرم اللَّه. [حيلة للخلاص إذا أقرَّ بدين مؤجل] المثال الثالث والثلاثون: إذ كان عليه دَيْن مؤجل فادعى به صاحبه وأقر (¬6) به فالصحيح المقطوع به أنه لا يؤخذ به قبل أجله؛ لأنه إنما أقر به على هذه الصفة فإلزامه به على غير ما أقر به إلزامٍ بما لم يقر به (¬7)، وقال بعض أصحاب أحمد والشافعي: يكون مقرًا بالحق مدِّعيًا للتأجيل، فيؤاخذ (¬8) بما أقر به، ولا تُسمع منه دعواه (¬9) الأجل إلا ببينة، وهذا في غاية الضعف، فإنه إنما أقر به إقرارًا مقيدًا لا مطلقًا، فلا (¬10) يجوز أن يلغي التقييد ويحكم عليه بحكم الإقرار المطلق كما لو قال: له عليَّ ألف إلا خمسين أو له عليَّ ألف من ثمن مبيع لم أقبضه، أو له عليّ ألف من نقد كذا وكذا (¬11) أو معاملة كذا وكذا، فيلزمهم في هذا ونحوه أن يبطلوا هذه التقييدات كلها ويلزموه بألف (¬12) كاملة من النقد الغالب، ولا يقبل قوله: إنها ¬
من ثمن مبيع لم أقبضه، ومما يبين بطلان هذا القول أن إقرار المرء على نفسه شهادة منه على نفسه كما قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] ولو شهد عليه شاهدان بألف مؤجلة لم يحكم عليه بها (¬1) قبل الأجل اتفاقًا، فهكذا إذا أقر بها مؤجلة فالحيلة في خلاصه من الإلزام بهذا القول الباطل أن يقول: لا يلزمني توفية [ما يدعيه عليّ أو أداؤه] (¬2) إليك (¬3) إلى مدة كذا وكذا، ولا يزيد على هذا، فإن ألح عليه وقال: "لي عليك كذا أم ليس لي عليك شيء؟ " ولا بد من أن يجيب (¬4) بأحد الجوابين، فالحيلة في خلاصه أن يقول: إن ادعيتها مؤجلة فأنا مقرٌّ بها، وإن ادعيتها حالَّة فأنا منكر. وكذلك لو كان قد قضاه الدين وخاف أن يقول: كان له عليّ وقضيته، فيجعله الحاكم مقرًا بالحق مدعيًا لقضائه، فالحيلة أن يقول: ليس له عليَّ شيء، ولا (¬5) يلزمني أداء ما يدعيه، فإن ألح عليه لم يكن له جواب غير هذا، على أن القول الصحيح أنه لا يكون مقرًا بالحق مدعيًا لقضائه، بل منكرًا الآن لثبوته في ذمته فكيف يلزم به؟ فإن قيل: هو أقر بثبوت سابق وادعى قضاءً طارئًا عليه. قيل: لم يقر بثبوت مطلق، بل بثبوت مقيد بقيد وهو الزمن الماضي، ولم يقر بأنه ثابت الآن في ذمته، فلا يجوز إلزامه به الآن استنادًا إلى إقراره به في الزمن الماضي؛ لأنه غير منكر ثبوته في الماضي، وإنما هو منكر لثبوته الآن، فكيف يجعل مقرًا بما هو منكر له؟ وقياسهم هذا الإقرار على قوله: "له عليَّ ألف لا يلزمني أو لا يثبت (¬6) في ذمتي" قياس باطل، فإنه كلام متناقض لا يعقل، وأما هذا فكلام معقول، وصِدْقه فيه ممكن، ولم يقر بشغل ذمته الآن بالمدَّعَى به، فلا يجوز شَغْل ذمته به بناء على إقراره بشغلها في الماضي، وما نظير هذا إلا قول الزوج: "كنت طلقت امرأتي وراجعتها" فهل يُجعل بهذا الكلام مطلقًا الآن (¬7)؟ وقول القائل: كنت فيما مضى كافرًا ثم أسلمت، فهل يجعل بهذا الكلام كافرًا ¬
[حيلة في تأجيل الدين على المعسر]
الآن؟ وقول القائل: كنت عبدًا فأعتقني مولاي، هل يجعل بهذا الكلام رقيقًا؟ فإن طَرَدوا الحكم في هذا كله وطلَّقوا [على] (¬1) الزوج وكفَّروا المعترف بنعمة اللَّه عليه وأنه كان كافرًا فَهَدَاه اللَّه وأمروه أن يجدد إسلامه وجعلوا هذا قنًّا، قيل لهم: فاطردوا ذلك فيمن قال: كانت هذه الدار أو هذا البستان أو هذه الأرض أو هذه الدابة لفلان ثم اشتريتها منه، فأخرجوها من ملكه بهذا الكلام، وقولوا: قد أقر بها لفلان ثم ادعى [أنه] (¬2) اشتراها فيُقبل إقراره ولا تقبل دعواه فمن جَرَتْ هذه الكلمة على لسانه وقال الواقعَ فأخرجوا ملكه من يده، وكذلك إذا قالت المرأة: كنت مزوجة بفلان ثم طلقني، اجعلوها بمجرد هذا الكلام زوجته، والكلام بآخره، فلا يجوز أن يؤخذ منه بعضه ويلغى بعضه، ويقال: قد لزمك (¬3) حكم ذلك البعض، وليس علينا من بقية كلامك، فإن هذا يرفع حكم الاستثناء والتقييدات جميعها، وهذا لا يخفى فساده، ثم إن هذا على أصل مَنْ لا يقبل الجواب إلا على وَفق الدعوى يحول بين الرجل وبين التخلُّص من ظلم المدعي، ويلجئه إلى أن يقر له بما يتوصل به إلى الإضرار به وظلمه، أو إلى أن يكذب بيانه أنه إذا استدان منه ووفاه، فإن قال: "فليس له عليَّ شيء" لم يقبلوا منه؛ لأنه لم يُجِبْ على نفي الدعوى، وإن قال: "كنت استدنت منه ووفيته" لم تسمعوا منه آخر كلامه وسمعتم منه أوله، وإن قال: "لم أستدن منه" وكان (¬4) كاذبًا فقد ألجأتموه إلى أن يظلم أو يكذب ولا بد، فالحيلة لمن بُلي بهذا القول أن يستعمل التورية، ويحلف ما استدان منه، وينوي أن تكون ما موصولة، فإذا قال: "واللَّه إني ما استدنت منه" أي إني الذي استدنت منه، وينفعه (¬5) تأويله بالاتفاق إذا كان مظلومًا، كما لا ينفعه إذا كان ظالمًا بالاتفاق. [حيلة في تأجيل الدين على المعسر] المثال الرابع والثلاثون: إذا كان عليه دين فأعْسَرَ به فادَّعى عليه به، فإن أنكره كان كاذبًا، وإن أقر له به ألزمه إياه، وإن جحده أقام به البينة، فإن ادَّعى الإعسار بعد ذلك فإن المدعي قد ظهر للحاكم كذبه في جَحْده الحق فهكذا هو كاذب في دعوى الإعسار، فالحيلة في تخليصه أن يقول: لا يلزمني توفية ما يدعيه ¬
[حيلة في تقديم بينة الخارج]
عليَّ ولا أداؤه، فإن طالبه الحاكم بجواب يطابق السؤال فله أن يورِّي بما تقدم (¬1)، ويحلف على ذلك، فإن خشي من إقامة البينة فهنا تعز عليه الحيلة، ولم يبق له إلا تحليف المدعي أنه لا يعلم عجزه عن الوفاء (¬2) أو إقامة البينة بأنه (¬3) عاجز عن الوفاء، فإن حلف المدعي ولم تقم له بينة بالعجز لم يبق له حيلة غير الصبر. [حيلة في تقديم بينة الخارج] المثال الخامس والثلاثون: إذا تداعَيَا عينًا هي في يد أحدهما فهي لصاحب اليد، فإن أقام الآخر بينة حكم له ببينته؛ فإن أقام كل واحد منهما بينة، فقال الشافعي (¬4): بينة صاحب اليد أولى؛ لأن البينتين قد تعارضتا، وسلمت اليدُ عن معارض، وقال الإمام أحمد في ظاهر مذهبه: بينة الخارج أولى (¬5)؛ لأن معها زيادة علمٍ خفَيت على بينة صاحب اليد فإنها تستند إلى ظاهر اليد (¬6)، وبينة الخارج تستند أيضًا إلى سبب خفي على بينة الداخل فتكون أولى، فالحيلة في تقديم بينة الخارج عند من يقدم بينة الداخل أن يدعي الخارج أنه في يد الداخل غصْبًا أو عارية أو وديعة أو ببيع فاسد. ثم تشهد البينة على وَفق ما ادعاه، فحينئذ تقدَّم بينة الخارج على الصحيح عندهم (¬7). [حيلة في التخلص من لدغ المخادع] المثال السادس والثلاثون: الحيلة المخلصة من لَدْغ العقارب، وذلك إذا اشترى الماكر المخادع [من رجل] (¬8) دارًا أو بستانًا أو سلعة، وأشهد عليه بالبيع، ثم مضى إلى البيت (¬9) أو الحانوت ليأتيه بالثمن، فأقر بجميع ما في يَدِه لولده أو ¬
لامرأته، فلا يصل البائع إلى أخذ الثمن، فالحيلة له أن يبيعه بحضرة الحاكم أو يمضي بعد البيع معه إليه ليثبت له التبايع، ثم يسأله قبل مفارقته أن يحجر على المشتري في ماله، ويقفه حتى يسلم إليه الثمن؛ لئلا يتلف ماله أو يتبرع به فيتعذر عليه الوصول إلى حقه. ويلزم الحاكم إجابته إذا خشي ذلك من المشتري؛ لأن فيه إعانة لصاحب الحق على التوصل إلى حقه، فإن تعذرت عليه هذه الحيلة ولدغته العقرب وادعى الإعسار [فللبائع الفسخ إذا لم يكن عالمًا بعسرته وقت العقد ولا راضيًا بها فإن الإعسار عيب في محل الحق، فيثبت له خيار الفسخ كما لو كان العيب بالعوض ولهذا إذا احتال على من يظنه موسرًا فبان معسرًا فله فسخ الحوالة والرجوع على المحيل لوجود العيب في محل الحق الذي لم يرضى به المحتال، وإذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد ملك البائع الرجوع في عين ماله إذا أفلس المشتري، فكذلك إذا بأن مفلسًا مع أن الحديث نص في تمليكه الفسخ إذا عرض له الإفلاس، وليس فيه اشتراط حجر الحاكم ولا دل عليه بوجه ولا له أصل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة للناس، فمن أين لكم أنه لا يملك الفسخ حتى يحجر عليه الحاكم، وحكم سيد الحكام بالرجوع في عين المال وفسخ البيع أولى بالاعتبار والمراعاة من آحاد الناس، فإذا كان سيد الحكام قد حكم له بالفسخ والرجوع لم يجز أن يقال: لا رجوع لك حتى يحكم حاكم بالفلس والإعسار، فإن قيل: إنما شرطنا ذلك ليتحقق ثبوت فلسه، قيل: لو تحقق ثبوت فلسه بحيث ألا يشك فيه، ولم يحكم به حاكم لم تمكنوه من الفسخ، وهذا مخالف للسنة، والقياس المحض كما تقدم إذ العيب في محل العوض كالعيب في العوض فإن سأل الحاكم الحجر عليه، وفعل ذلك رجع عليه في عين ماله عند الجمهور] (¬1) فإن كانت العقرب داهيةً بأن غيَّر العين المبيعة أو مَلّكها لولده أو زوجته أو كان الحاكم لا يرى رجوعَ البائع في عين المبيع إذا أفلس المشتري؛ فالحيلة أن يتوصل إلى إبطال العقد بإقرار سابق على المبيع [أن] (¬2) المبيع لولده أو لزوجته أو يرهنه أو يبيعه لمن يثق به، ويقدم تاريخ ذلك على بيع العقرب، وله أن يتوصل بهذه الحيلة فإن كانت مكرًا وخداعًا؛ فإن المكر والخداع حَسَنٌ إذا ¬
[حيلة في عدم سقوط نفقة القريب بمضي الزمان]
كان على وجه المقابلة لا على وجه الظلم، كما قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا [وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] (¬1)} [النمل: 50]، وقال: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وأخبر تعالى أنه كادَ ليوسف في مقابلة كيد إخوته وقد تقدم ذلك. [حيلة في عدم سقوط نفقة القريب بمضي الزمان] المثال السابع (¬2) والثلاثون: إذا تحيَّل المكَّار المخادع على سقوط نفقة القريب بالمماطلة وقال: إنها تسقط بمضي الزمان فلا يبقى دينًا عليّ، فتركها آمنًا من إلزامه بها لما مضى، فالحيلة للمنفَقِ عليه أن يرفعه إلى الحاكم ليفرضها عليه، ثم يستأذنه في الاستدانة عليه بقدرها، فإذا فعل ألزمه الحاكم بقضاء ما استدانه المنفَقُ عليه، فإن فرضها عليه ولم يستأذنه في الاستدانة ومَضَى الزمان فهل تستقر عليه بذلك؟ فيه وجهان لأصحاب الشافعي (¬3)، والأكثرون منهم صرَّحُوا بسقوطها مطلقًا فرضت أو لم تفرض، ومنهم من قال: إن فرضت لم تسقط، فإن لم يمكنه الرفع إلى الحاكم فليقل له: اشفع لي إلى فلان لينفق (¬4) عليّ أو يعطيني ما أحتاج [إليه] (1)، فإذا فعل فقد لزم الشافع؛ لأن ذلك حق أدَّاه إلى المشفوع عنده عن الشفيع بإذنه، فإن أنفق عليه الغيرُ بغير إذنه ناويًا للرجوع فله الرجوع في أصح المذهبين، وهو مذهب مالك (¬5) وأحمد في إحدى الروايتين (¬6)، وهكذا كل من أذى عن غيره واجبًا بغير إذنه [بشرط] (¬7) أن يكون واجبًا على المنصوص من مذهب مالك وأحمد، فإن أحمد رحمه اللَّه نصَّ في رواية الجرجرائي (¬8) على رجوع من عَمَّر قناة غيره بغير إذنه، وهو مذهب مالك، ولو أن القريب استدان ¬
[حيلة في جواز بيع الماء]
وأنفق على نفسه ثم أحال بالدين على مَنْ تلزمه نفقته لزمه أن يقوم له به؛ لأنه أحال على مَنْ له عليه حق، ولا يُقال: قد سقطت بمضي الزمان فلم تصادف الحوالة محلًا؛ لأنها إنما تسقط بمضي الزمان إذا لم يكن المنفَقُ عليه قد استدان على المنفِقِ، بل تبَّرع له غيره أو تكلف أو صبر، فأما إذا استدان عليه بقدر نفقته الواجبة عليه فهنا لا وَجْهَ لسقوطها، وإن كان الأصحاب وغيرهم قد أطلقوا السقوط فتعليلهم يدل على ما قلناه، فتأمله. [حيلة في جواز بيع الماء] المثال الثامن (¬1) والثلاثون: إذا استنبط في ملكه أو أرض استأجرها عينَ ماء مَلكَه ولم يملك بيعه لمن [يسوقه إلى] (¬2) أرضه أو [يسقي به] (3) بهائِمَه، بل يكون أولى به من كل أحد، وما فَضَلَ [منه] (¬3) لزمه بَذلُه لبهائم غيره وزرعه، فالحيلة (¬4) على جواز المعاوضة أن يبيعه نصف العين أو ثلثها أو يؤخره ذلك، فيكون الماء بينه وبينه على حسب ذلك، ويدخل الماء تبعًا لملك العين أو منفعتها، ولا تدخل هذه الحيلة تحت النهي عن بيع الماء (¬5)، فإنه لم يبعه، وإنما باع العين، ودخل الماء تبعًا، والشيء قد يستتبع ما لا يجوز أن يُفرد وحده. [حيلة في عدم تسويغ بيع المشتري إلا لمن باعه] المئال التاسع (¬6) والثلاثون: إذا باعَ عبدَه من رجل وله غَرضٌ أن لا يكون إلا عنده أو عند بائعه، فالحيلة في ذلك أن يشهد عليه أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن، وهذا (¬7) يجوز على نص أحمد، وهو قول عبد اللَّه بن مسعود (¬8)، ولا محذور في ذلك، وقول المانعين: "إنه يخالف مقتضى العقد" فنعم يخالف مقتضى ¬
[حيلة في تجويز شهادة الوكيل لموكله]
العقد المطلق، وجميع الشروط اللازمة تخالف مقتضى العقد المطلق، ولا تخالف مقتضى العقد المقيَّد، بل هي مقتضاه، فإن لم تسعد (¬1) معه هذه الحيلة فله حيلة أخرى، وهي أن يقول له في مدة الخيار: إما أن تقول: "متى بعته فهو حر" وإلا فسخت البيع، فإذا قال ذلك فمتى باعه عَتقَ عليه بمجرد الإيجاب قبل قبول (¬2) المشتري على ظاهر المذهب؛ فإن الذي علَّق عليه العتق هو الذي يملكه البائع وهو الإيجاب، وذلك بيع حقيقة، ولهذا يقال: "بعته العبد فاشتراه" فكما أن الشراء هو قبول المشتري، فكذلك البيع هو إيجاب البائع، ولهذا يقال: البائع والمشتري، قال الشاعر: وإذا تُبَاع كريمةٌ أو تُشْتَرَى ... فسواك بائعُهَا وأنت المشتري هذا منصوص أحمد، فإن لم تسعد (¬3) معه هذه الحيلة فليقل له في مدة الخيار: "إما أن تقول: متى بعتك فأنت حر قبله بساعة، وإما أن أفسخ" فمتى قال ذلك لم يمكنه بيعه البتة. [حيلة في تجويز شهادة الوكيل لموكله] المثال الأربعون (¬4): إذا كان للموكل عند وكيله شهادة تتعلق بما هو وكيله (¬5) فيه لم تُقبل، فإن أراد قبولها فليعزِله أو ليعزل نفسه قبل الخصومة ثم يقيم الشهادة، فإذا تمت عاد توكله به (¬6)، وليس في هذه الحيلة محذور؛ فلا تكون محرَّمة. [حيلة في تجويز المسح على الخفين] المثال الحادي والأربعون (¬7): إذا توضأ ولبس أحد (¬8) خفيه قبل غسل رجله الأخرى، ثم غسل رجله الأخرى وأدخلها [في] (¬9) الخف، جاز له المسحُ على ¬
[حيلة في عدم حنث الحالف]
أصح القولين، وفيه قول آخر أنه لا يجوز؛ لأنه لم يلبس الأُولى على طهارة كاملة؛ فالحيلة في جواز المسح أن ينزعَ خُفَّ الرِّجل الأولى ثم يلبسه، وهذا نوع عَبَث لا غرض للشارع فيه، ولا مصلحة للمكلَّف؛ فالشرع لا يأمره به (¬1). [حيلة في عدم حنث الحالف] المثال الثاني والأربعون (¬2): إذا (¬3) اسْتُحْلِفَ على شيء، فأحب أن يحلف ولا يحنث؛ فالحيلة أن يحرك لسانه بقوله: "إن شاء اللَّه"، وهل يشترط أن يسمعها نفسه؟ فقيل: لا بد أن يُسمع نفسه، وقال شيخنا: هذا لا دليل عليه، بل متى حرَّك لسانه بذلك كان متكلمًا، وإن لم يسمع نفسه، وهكذا حكم الأقوال الواجبة والقراءة الواجبة (¬4)، قلت: وكان بعض السلف يطبق شفتيه ويحرك لسانه بلا إله إلا اللَّه ذاكرًا، وإن لم يسمع نفسه، فإنه لا حَظَّ للشفتين في حروف هذه الكلمة، بل كلها حلقية [لسانية] (¬5)؛ فيمكن الذاكر أن يحرِّك لسانه بها ولا يسمع نفسه ولا أحدًا من الناس، ولا تراه العين يتكلم، [وهكذا التكلم بقول] (¬6): "إن شاء اللَّه" يمكن مع إطباق الفم؛ فلا يسمعه أحدٌ ولا يراه، وإن أطبق أسنانه (¬7) وفتح شفتيه أدنى شيء سمعته أذناه بجملته. [حيلة في سقوط القصاص عمن قتل زوجته التي لاعنها أو قتل ولدها] المثال الثالث (¬8) والأربعون: إذا لاعَنَ امرأته وانتفى من ولدها، ثم قتل الولد لزمه القصاص، وكذلك إن قتلها فلولدها القصاص إذا بلغ، فإن أراد إسقاط القصاص عن نفسه؛ فالحيلة أن يكذب نفسه، ويقر بأنه ابنه؛ فيسقط القصاص في الموضعين، وفي جواز هذه الحيلة نظر. ¬
[حيلة في التخلص من المطالبة بدين كان أداه]
[حيلة في التخلص من المطالبة بدين كان أدَّاه] المثال الرابع (¬1) والأربعون: إذا كان له عليه حق وقد أبرأه منه ولا بينة له بالإبراء ثم عاد فادّعاه؛ فإن قال: "قد أبرأني منه" لم يكن مقرًا به كما لو قال: "كان له عليّ [وقَضَيْتُه] (¬2) " وعلى القول الآخر يكون مقرًا [به] (¬3) مدَّعيًا للإبراء، فيكلّف (¬4) البينة؛ فالحيلة على التخلص أن يقول: قد أبرأني (¬5) من هذه الدعوى؛ فإذا قال ذلك لم يكن مقرًا بالمدَّعى به؛ فإذا سأل إحلاف خَصْمه أنه لم يُبْرئه من الدعوى مَلَكَ ذلك؛ فإن لم يحلف صرفها (¬6) [الحاكم] (¬7)، وإن حلف طولب بالجواب، ولا يسمع منه بعد ذلك أنه أبرأه من الدعوى؛ فإن قال: "أبرأني (5) من الحق" ففيه الخلاف المذكور، وإن قال: "لا شيء عندي" اكتفى منه بهذا الجواب عند الجمهور؛ فإن طالبه الحاكم بالجواب على وفقِ الدعوى فالحيلة أن يُجِيبَ (¬8) ويُوَرِّيَ كما تقدم. [حيلة في المضاربة] المثال الخامس (¬9) والأربعون: إذا خاف المضارب أن يسترجع ربُّ المالِ منه المال فقال: "قد ربحت ألفًا" لم يكن له الاسترجاع؛ لأنه قد صار شريكًا؛ فإن (¬10) قال: "ذلك حيلة، ولم يربح" فقال بعد ذلك: "كذبت" لم يسمع منه؛ فالحيلة في تخلصه أن يدعي خسارتها بعد ذلك أو تَلَفَهَا فيقبل قوله مع يمينه. [حيلة في تجويز نظر الواقف على وقفه] المثال السادس (¬11) والأربعون: إذا وقف وَقْفًا وجعل النظر فيه لنفسه مدة حياته ثم من بعده لغيره، صح ذلك عند الجمهور، وهو اتفاقٌ من الصحابة؛ فإن عمر -رضي اللَّه عنه- كان يلي صَدَقته (¬12)، وكذلك الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة ¬
رضي اللَّه عنهم، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لما أشار على عمر بوقف أرضه (¬1) لم يقل له: "لا يصح ذلك حتى تخرجها عن يدك ولا تلي نظرها" وأي غرض للشارع في ذلك؟ وأي مصلحة للواقف أو الموقوف عليه؟ بل المصلحة خلاف ذلك؛ لأنه أخبَرُ بماله، وأقْوَمُ بعمارته ومصالحه وحفظه من الغريب الذي ليست خبرته وشفقته كخبرة صاحبه وشفقته، ويكفي في صحة الوقف إخراجه عن ملكه وثبوت نظره ويده عليه كثبوت نظر الأجنبي ويده، ولا سيما إن كان متبرعًا، فأي مصلحة في أن يقال له: "لا يصح وقفك حتى تجعله في يد مَنْ لست على ثقة من حفظه والقيام بمصالحه وإخراج نظرك عنه"؟ فإن قيل: إخراجه للَّه يقتضي رفع يده عنه بالكلية كالعتق. قيل: بالعتق خرج العبد [عن] (¬2) أن يكون مالًا، وصار محرَّرًا (¬3) محضًا، فلا تثبت عليه يد أحد. وأما الوقف فإنه لا بد من ثبوت اليد عليه لحفظه والقيام بمصالحه، وأحق ما يثبت عليه يدُ أشفَقِ الناس عليه وأقومهم بمصالحه، وثبوتُ يدهِ ونظره لا ينافي وقفه للَّه، [فإنه وَقَفه للَّه] (¬4) وجعل نظره عليه ويده للَّه فكلاهما قربة وطاعة، فكيف يُحرم ثواب هذه القربة ويقال له: لا [يصح لك] (¬5) قربة ¬
[حيلة لتجويز وقف الإنسان على نفسه]
الوقف إلا بحرمان قربة النظر والقيام بمصالح الوقف؟ فأي نص وأي قياس. وأي مصلحة وأي غرض للشارع أوْجَبَ ذلك؟ بل أي صاحب قال ذلك؟ فإن احتاج الواقف إلى ذلك في موضع لا يُحْكم فيه إلا بقول مَنْ يبطل الوقف إذا لم يخرجه عن يده وإذا شرط النظر لنفسه، فالحيلة في ذلك أن يفوض النظر إلى مَنْ يثق به ويجعل إليه تفويض النظر لمن شاء، فيقبل الناظر ذلك، ويصح الوقف ويلزم، ثم يفوضه الناظر إليه؛ فإنه قد صار أجنبيًا بمنزلة سائر الناس، فهذه حيلة صحيحة يتوصل بها إلى حق، فهي (¬1) جائزة، وكذلك لو جعل النظر فيه للحاكم ثم فوَّضه الحاكم إليه، فإنْ خاف أن لا يفوضه الحاكم إليه فليملّكه لمن يثق به، ويقفه (¬2) ذلك على ما يريد المملِّكُ، ويشترط أن يكون نظره له، وأن يكون تحت يده. [حيلة لتجويز وقف الإنسان على نفسه] المثال السابع (¬3) والأربعون: إذا وقف على نفسه ثم على غيره صح في إحدى (¬4) الروايتين عن الإمام أحمد (¬5)، وهو قول أبي يوسف (¬6)، [وعليه عمل الحنفية] (¬7)، وقول (¬8) بعض الشافعية، وممن اختاره أبو عبد اللَّه الزبيري (¬9)، وعند الفقهاء الثلاثة (¬10) لا يصح. ¬
[قول المانعين من صحة الوقف على نفسه]
[قول المانعين من صحة الوقف على نفسه] والمانعون من صحته قالوا: يمتنع كون الإنسان معطيًا من نفسه لنفسه؛ ولهذا لا يصح أن يبيع نفسه ولا يهب نفسه ولا يؤجر ماله من نفسه، فكذا لا يصح وقفه على نفسه. [قول المجوزين لصحة وقف الإنسان على نفسه] قال المجوِّزون: الوقف شبيه العتق والتحرير من حيث إنه يمتنع نقل الملك في رقبته، ولهذا لا يفتقر إلى قبول إذا كان على غير معيَّن اتفاقًا، ولا إذا كان على معين على أحد القولين، وأشْبَهُ شيء به أم الولد. وإذا كان مثل التحرير لم يكن الواقف مملكًا لنفسه، بل يكون مخرجًا للملك عن نفسه، ومانعًا لها من التصرف في رقبته مع انتفاعه بالعين كام الولد. وهذا إذا قلنا بانتقال رقبة الوَقْف إلى اللَّه تعالى ظاهر؛ فإن الواقف أخرج رقبة الوقف للَّه وجعل نفسه أحق المستحقين (¬1) للمنفعة مدة حياته فإن لم يكن أولى من البطون المرتبة فلا يكون دون بعضهم، فهذا محض القياس. وإن قلنا: الوَقْفُ ينتقل إلى الموقوف عليهم بطنًا بعد بطن يتلقونه من الواقف، فالطبقةُ الأولى أحد الموقوف عليهم، ومعلوم أن أحد الشريكين إذا اشترى لنفسه أو باع من مال الشركة جاز على المختار لاختلاف حكم الملكين، فلأن (¬2) يجوز أن ينقل ملكه المختص إلى طبقات موقوف عليها [هو أحدها] (¬3) أولى؛ لأنه في كلا الموضعين نقل ملكه المختص إلى ملك مشترك اسه فيه نصيبٌ، بل في الشركة الملكُ الثاني من جنس الأول يملك به التصرف في الرقبة، وفي الوقف ليس من جنسه فيكون أولى بالجواز. يؤيده أنه لو وقف على جهة عامة جاز أن يكون كواحد من تلك الجهة، كما وقف عثمان بئر رُومَة (¬4) وجعل دَلْوَه فيها كدِلاء المسلمين (¬5)، وكما يصلي المرء ¬
في المسجد الذي وقفه، ويشرب من السِّقاية التي وقفها، ويُدفن في المقبرة التي سَبَّلها، ويمر (¬1) في الطريق التي فتحها، وينتفع بالكتاب الذي وقفه، ويجلس على البساط والحصير اللذين وقفهما، وأمثال ذلك، فإذا جاز للواقف أن يكون موقوفًا عليه في الجهة العامة جاز مثله في الجهة الخاصة؛ لاتفاقهما في المعنى، بل الجواز هنا أولى من حيث إنه موقوف عليه بالتعيين، وهناك دَخَلَ في الوقف بشمول الاسم له. وتقليد هذا القول خير [له] (¬2) من الحيلة الباردة التي يملِّك الرجل فيها ماله لمن لا تطيب له نفسه أن يعطيه درهمًا ثم يقفه (¬3) ذلك المملَّك على المملِّك؛ فإن هذه الحيلة تضمنت أمرين: أحدهما: لا حقيقة له، وهو انتقال الملك إلى المملِّك. والثاني: اشتراطه عليه أن يقف على هذا الوجه، أو إذنه له فيه (¬4)، وهذا في المعنى توكيل [له] (5) في الوقف، كما أن اشتراطه حَجْر عليه في التصرف بغير الوقف؛ فصار وجود هذا التمليك وعدمه سواء لم يملكه المملَّك ولا يمكنه [وجود] (¬5) التصرف فيه، ولو مات قبل وقفه لم يحل لورثته أخذه، ولو أنه أخذه ولم يقفه على صاحبه ولم يرده إليه عُدَّ ظالمًا غاصبًا (¬6)، ولو تصرف فيه صاحبه بعد هذا التمليك لكان تصرفه فيه نافذًا كنفوذه قبله، هذا فيما (¬7) بينه وبين اللَّه ¬
تعالى، وكذلك في الحكم إن قامت بينة بأنهما تواطئَا على ذلك وأنه إنما وهبه إياه بشرط أن يقفه (¬1) عليه أو أقرَّ له بذلك. فإن قيل: فهل عندكم أحسن من هذه الحيلة؟ قيل: نعم، أن يقفه على الجهات التي يريد، ويستثني غلَّته ومنفعته لنفسه مدة حياته أو مدة معلومة، وهذا جائز بالسنة الصحيحة والقياس الصحيحَ، وهو مذهب فقهاء أهل الحديث؛ فإنهم يجوِّزون أن يبيع الرجل الشيء أو يهبه أو يعتق العبد ويستثني بعض منفعة ذلك مدة. ويجوزون أن يقف الشيء على غيره ويستثني بعض منفعته مدة معلومة أو إلى حين موته (¬2). ويستدلون بحديث جابر (¬3)، وبحديث عتقِ (¬4) أمِ سلمة سفينةَ (¬5)، وبحديث عتق صفيَّة (¬6)، وبآثار صحاح كثيرة عن الصحابة رضي اللَّه عنهم لم يُعلم فيهم مَنْ خالفها، ولهذا القول قوَّة في القياس. فإن قيل: فلو عدل إلى الحيلة الأولى فما حكمها في نفس الأمر؟ وما حكم الموقوف عليه إذا علم بالحال، هل يطيب له تناول الوقف أم لا؟ قيل: لا يمنع ذلك صحة الوقف ونفوذه، ويطيب للموقوف عليه تناولُ ¬
الوقف؛ فإن المقصود مقصود صحيح شرعي وإن كانت الطريق إليه غير مشروعة وهذا كما إذا أعتق العبد أو طلق المرأة وجَحَد ذلك فأقام العبد أو المرأة شاهدين لم يعلما ذلك فشهدا به وسعَ العبد أن يتصرف لنفسه والمرأة أن تتزوج. وفِقْهُ المسألة: أن هذا الإذن والتوكيل في الوقف وإن حصل في ضمن عقد فاسد فإنه لا يفسد بفساد العقد، كما لو فسدت الشركة أو المضاربة لم يفسد تصرف الشريك والعامل لما تضمنه العقد الفاسد من الإذن، بل هذا أولى من وجهين: أحدهما: أن الاتفاق يلزمهما قبل التمليك إذنٌ صحيح ووكالة صحيحة في الباطن لم يرد بعدها ما ينافيها. وأيضًا [فإنما بطل] (¬1) عقد الهبة لكونه شَرَط على الموهوب له أن لا يتصرف فيه إلا بالوقف على الواهب، ومعلوم أن التصرف في العين لا يتوقف على الملك بل يصح بالوكالة (¬2) وبطريق الولاية؛ فلا يلزم من إبطال الملك بطلان الإذن الذي تضمنه الشرط لأن الإذن مستند (¬3) غير الملك. فإن قيل: فإذا (¬4) بطل الملك ينبغي أن يبطل التصرف الذي هو من توابعه. قيل: لا يلزم ذلك؛ لأن التصرف في مثل هذه الصورة ليس من توابع الملك الحقيقي، وإنما هو من توابع (¬5) الإذن والتوكيل. يوضِّحه أن هذه الحيل التي لا حقيقة لها يجب أن تسلب الأسماء التي أعيرتها وتُعطى الأسماء الحقيقية، كما سُلب منها ما يسمَّى بيعًا ونكاحًا وهدية هذه الأسماء وأعطي اسم الربا (¬6) والسفاح والرشوة؛ فكذلك هذه الهبة تسلب اسم الهبة وتسمَّى إذنًا وتوكيلًا، ولا سيما فإن صحة الوكالة لا تتوقف على لفظ مخصوص، بل تصح بكل لفظ يدل على الوكالة؛ فهذه الحيلة في الحقيقة توكيل للغير أن يوقف (¬7) على الموكل، فمن اعتقد صحة وقف الإنسان (¬8) على نفسه ¬
اعتقد جواز هذا الوقف، ومن اعتقد بطلانه وبطلان الحيل المُفْضِية إلى الباطل فإنه عنده يكون منقطع الابتداء، وفيه من الخلاف ما هو مشهور، فَمَنْ أبطله رأى أن الطبقة الثانية ومَنْ بعدها تبع للأولى (¬1)، فإذا لم يصح في المتبوع ففي التابع أولى أن لا يصح، ولأن الواقف لم يَرْضَ أن تصير الثانية (¬2) إلا بعد الأولى، فلا يجوز أن يُلزم بما لم يَرضَ به، إذ لا بد في صحَّة التصرف من رضا المتصرف ومُوَافقة الشرع؛ فعلى هذا هو باقٍ على ملك الواقف، فإذا مات فهل يصح الوقف حينئذ؟ يحتمل وجهين، ويكون مأخذهما [أن] (¬3) ذلك كما لو قال: "هو وقف بعد موتي" فيصح، أو أنه وقْفٌ معلّق على شرط، وفيه وجهان: فإن قيل بصحته كان من الثُلثِ وفي الزائد يقف على إجازة الورثة، وإن قيل ببطلانه كان ميراثًا، ومَنْ رأى صحته قال: قد أمكن تصحيح تصرف العاقل الرشيد بأن يصحح الوقف ويصرفه في الحال إلى جهته (¬4) التي يصح الوقف عليها، وتلغى الجهة التي لا يصح فتجعل كالمعدومة. وقيل على هذا القول: بل تصرف مصرفَ الوقفِ المنقطع، فإذا مات الواقف صرف مصرف الجهة الصحيحة. فإن قيل: فما تقولون لو سلك حيلة غير هذا كله، وأسهل منه وأقرب؟ وهي أن يقرَّ أن ما في يده من العقار وقف عليه انتقل إليه من جائز الملك جائز الوقف، ثم بعده على كذا وكذا، فما حكم هذه الحيلة في الباطن وحكم مَنْ علم بها من الموقوف عليهم؟ قيل: هذه الحيلة إنما قَصَدَ المتكلم بها إنشاءَ الوقف، وإن أظهر أنه قصد بها الإخبار، فهي إنشاءٌ في الباطن إخبارٌ في الظاهر، فهي كمن أقر بطلاق أو عتاق ينوي به الإنشاء، والوقف ينعقد بالصريح وبالكناية مع النية [وبالفعل مع النية] (¬5) عند الأكثرين، وإذا كان مقصودُه الوقف على نفسه وتكلم بقوله: "هذا وقف عليّ" وميّزه بفعله عن ملكه صار وقفًا، فإن الإقرار يصح أن يكون كنايةً عن الإنشاء مع النية، فإذا قصده به صح كما أن لفظ الإنشاء يجوز أن يقصد به الإخبار، وإذا أراد به الإخبار دُيِّنَ، فكل من الأمرين صالح لاستعماله في الآخر، فقد يقصد بالإقرار الإخبار عما مضى، وقد يقصد به الإنشاء، وإنما ذكر بصيغة الإخبار لغرض من الأغراض. ¬
[صيغ العقود إنشاءات وإخبارات]
[صيغ العقود إنشاءات وإخبارات] يوضح ذلك أن صيغ العقود قد قيل هي إنشاءاتٌ وقيل إخباراتٌ؛ والتحقيق أنها متضمنة للأمرين؛ فهي إخبار عن المعاني التي في القلب، وقصد تلك المعاني إنشاء؛ فاللفظ خبر والمعنى إنشاء (¬1)، فإذا أخبر أن هذا وقف عليه وهو يعلم أن غيره لم يقفه (¬2) عليه وإنما مقصوده أن يصير وقفًا بهذا الإخبار فقد اجتمع لفظ الإخبار وإرادة الإنشاء، فلو كان أخبر عن هذه الإرادة لم يكن هناك ريب أنه أنشأ الوقف، لكن لما كان لفظه إخبارًا عن غير ما عَنَاه، والذي عَنَاه لم ينشئ له لفظًا صارت المسألة محتملة، ونشات الشبهة؛ ولكن هذه النية مع هذا اللفظ الصالح [يقوم مقام التكلم باللفظ الذي ينشأ به الوقف] (¬3)، للكناية مع الفعل الدال على الوقف واللَّه أعلم. [بيع الشيء مع استثناء منفعته مدة] المثال الثامن (¬4) والأربعون: لو باع غيره دارًا أو عبدًا أو سلعة؛ واستثنى منفعة المبيع مدة معلومة جاز كما دلّتْ عليه النصوصُ والآثار والمصلحة والقياس الصحيح؛ فإن خاف أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا الشرط فيبطله عليه، فالحيلة في تخليصه (¬5) من ذلك أن يُوَاطئه قبل البيع على أن يؤجره إياه تلك المدة بمبلغ معين، ويقر بقبض الأجرة، ثم يبيعه إياه، ثم يستأجره كما اتفقا عليه، ويقر له بقبض الأجرة، وهذه حيلة صحيحة جائزة لا تتضمن تحليل حرام ولا تحريم حلال. [حيلة في إسقاط نفقة المطلقة البائنة] المثال التاسع (¬6) والأربعون: المطلقة البائنة لا نَفَقَةَ لها ولا سكنى بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها (¬7)، بل هي موافقة ¬
[حيلة في الشراء]
لكتاب اللَّه، وهي مقتضى القياس، وهي مذهب فقهاء أهل الحديث (¬1)، فإن خاف المطلِّق أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوب النفقة والسكنى أو السكنى وحدها فالحيلة في تخليصه أن يعلق طلاقَهَا على البراءة الصحيحة من ذلك، فيقول: إن صحت براءتك لي من النفقة والسكنى أو من دعوى ذلك فأنت طالق، فلا يمكنها بعد ذلك أن تدعي بهما البتة. وله حيلة أخرى وهي أن يخالعها على نظير ما يعلم أنه يُفْرَضُ عليه للنفقة والسكنى أو أكثر منه، فإذا ادعت بذلك وفَرَضَه عليه الحاكم صار لها عليه مثل الذي له عليها، فإما أن يأخذ منها ويعطيها وإما أن يتقاصَّا. [حيلة في الشراء] المثال الخمسون (¬2): إذا اشترى سلعة من رجل غريب فخاف أن تستحق أو تظهر معيبة ولا يعرفه فالحيلة أن يقيم له وكيلًا يخاصمه إن ظهر ذلك، فإن خاف أن يعزل البائع الوكيل فالحيلة أن يشتريها من الوكيل نفسه ويضمنه درك المبيع. [حيلة في الوكالة والوديعة] المثال الحادي والخمسون (¬3): إذا دفع إليه مالًا يشتري به متاعًا من [بلد] (¬4) غير بلده فاشتراه وأراد تسليمه إليه وإقامته في تلك البلدة فإن أوْدَعه غيره ضمن لأنه لم يأذن له ربُّه، وإن وكل غيره في دفعه إليه ضمن أيضًا، وإن استأجر من يوصله إليه ضمن؛ لأنه لم [يكن يأمن] (¬5) غيره عليه، فالحيلة في إيصاله إلى ربه أن يشهد عليه قبل الشراء أو بعده أن يعمل في المال برأيه، وأن يوكِّل فيه أو أن يودع (¬6) إذا رأى المصلحة في ذلك كله، فإن أبى ذلك الموكل وقال: "لا يوافيني به غيرُك" فقد ضاقت عليه الحيلة، فليخرج نفسه من الوكالة، فتصير يده يد مودع، فلا يلزمه مؤنة رد الوديعة، بل مؤنة ردها على صاحبها، فإن أحب أخذ ماله أرسل مَنْ يأخذه أو جاء هو في طلبه. ¬
[إسلام ذمي وعنده خمر]
فإن قيل: فلو لم يعزل نفسه كان (¬1) مؤنة الرد عليه؟ قيل: لما دخل معه في عقد الوكالة فقد التزم [له أن يسلم إليه المال، فيلزمه ما التزم] (¬2) به، فإذا أخرج نفسه من الوكالة بقي كالمودع المحض، فإن كان وكيلًا بجُعْل فهو كالأجير فمؤنة الرد عليه، ولا يملك إخراج نفسه من الوكالة قبل توفية العمل كالأجير (¬3). [إسلام ذمي وعنده خمر] المثال الثاني والخمسون (¬4): إذا أراد الذمي أن يسلم وعنده خمر، فخاف إن أسلم يجب عليه إراقتها ولا يجوز له بيعها، فالحيلة أن يبيعها من ذمي آخر بثمن معين أو في ذمته، ثم يسلم، ويتقاضاه الثمن، ولا حَرَج عليه في ذلك؛ فإن تحريمها عليه بالإسلام كتحريمها بالكتاب بعد أن لم تكن حرامًا، وفي الحديث: "إن اللَّه تعالى يُعَرِّضُ بالخمر، فمن كان عنده منها شيء فليَبِعْهُ" (¬5). فإن قيل: فلو أسلم من اشتراها ولم يؤدِّ ثمنها هل يسقط عنه؟ قيل: لا يسقط، لثبوته في ذمته قبل الإسلام. فإن قيل: فلو أسلم إليه في خمر ثم أسْلَمَا أو أحدهما. قيل: ينفسخ العقد، ويرد إليه رأس ماله. فإن قيل: فلو أراد أن يشتري [منه] (¬6) خمرًا ثم عزم على الإسلام، وخاف أن يلزمه بثمنها، فهل له حيلة في التخلص من ذلك؟ قيل: الحيلة أن لا يملكها بالشراء، بل بالقَرْض، فإذا اقترضها منه ثم [أسلما أو أحدهما] (¬7) لم يجب عليه رد بدل القرض، فإن موجَبَ القرضِ [ردُّ] (¬8) المثل، وقد تعذَّر بالإسلام. ¬
[حيل في الشفعة]
[حيل في الشفعة] المثال الثالث (¬1) والخمسون: إذا اشترى دارًا أو أرضًا وقد وقعت الحدود وصُرِفَتِ الطرق بينه (¬2) وبين جاره فلا شفعةَ فيها، وإن كانت الحدود لم تقع ولم تصرف الطرق بل طريقهما (¬3) واحدة ففيها (¬4) الشفعة، هذا أصح الأقوال في شفعة الجوار، وهو (¬5) مذهب أهل البصرة، وأحَدُ الوجهين في مذهب الإمام أحمد (¬6)، واختاره شيخ الإسلام (¬7) وغيره، فإن خاف المشتري أن يرفعه الجار إلى حاكم يرى الشفعة وإن صرفت الطرق فله التحيّل على إبطالها بضروب من الحيل: أحدها: أن يشتريها منه بألف دينار ويكاتبه على ذلك، ثم يعطيه عِوَضَ كل دينار درهمين أو نحو ذلك (¬8). وثانيها: أن يهب (¬9) منه الدار والأرض (¬10) ثم يهبه ثمنها. وثالثها: أن يقول المشتري للشفيع: إن شئت بعتكها بما اشتريتها به أو أقل (¬11) من ذلك أو أَصْبر عليك بالثمن، فيجيبه إلى ذلك فتسقط شفعته. ورابعها: أن يتصادق البائع والمشتري على شرط أو صفة تفسد البيع كأجلٍ مجهول أو خيار مجهول أو إكراه أو تَلْجئه ونحو ذلك، ثم يقرّها البائع في يد المشتري، ولا يكون للشفيع سبيل عليها. وخامسها: أن يشترط الخيار مدة طويلة، فإن صح لم يكن له أن يأخذ قبل انقضائه، وإن بطل لم يكن له أن يأخذ ببيع فاسد. وسادسها: أن يهب له تسعة أعشار الدار أو الأرض، ويبيعه العشر الباقي بجميع الثمن. ¬
[اعتراض ورده]
وسابعها: أن يوكِّل الشفيع في بيع داره أو أرضه، فيقبل الوكالة [فيبيع] (¬1)، أو يوكله المشتري في الشراء له. وثامنها: أن يَزِنَ له الثمن الذي اتفقا عليه سرًا ثم يجعله صُبْرة غير معلومة ويبيعه الدار بها. وتاسعها: أن يقر البائع بسهم من ألف سهم للمشتري فيصير شريكه، ثم يبيعه باقي الدار، فلا يجد جاره إليها سبيلًا؛ لأن حق الشريك مقدَّم على حق الجار. وعاشرها: أن يتصدق عليه ببيت من الدار، ثم يبيعه باقيها بجميع الثمن، فيصير شريكًا، فلا شفعة لجاره. وحادي عشرها: أن يأمر غريبًا أو مسافرًا بشرائها، فإذا فعل دفعها إليه ثم وكله بحفظها، ثم يُشْهد (¬2) على الدفع إليه وتوكيله حتى لا يخاصمه الشفيع. وثاني عشرها: أن يجيء المشتري إلى الجار قبل البيع فيشتري منه داره ويرغبه في الثمن أضعاف ما تساوي، ويشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام، ثم في مدة الخيار يمضي ويشتري تلك الدار التي يريد شراءها، فإذا تم العقد بينهما فسخ البيع الأول، ولا يستحق جاره عليه شفعة؛ لأنه حين البيع لم يكن جارًا، وإنما طرأ له الجوار بعد البيع. وثالث عشرها: أن يؤجر المشتري لبائع الدار عَبْدَه أو ثوبه شهرًا بسهم من الدار، فيصير شريكه، ثم بعد يومين أو ثلاثة يشتري منه بقيتها، فلا يكون لجاره عليه سبيل. ورابع عشرها: أن يشتريها بثمن مؤجل أضعاف ما تساوي، فإن الجار لا يأخذها بذلك الثمن، فإذا رغب عنها صالحه من ذلك الثمن على ما يساويه حالًا من غير جنسه (¬3). [اعتراض وردّه] فإن قيل: فأنتم قد بالغتم في الإنكار على من احتال ببعض هذه الوجوه على ¬
[صحة تعليق الوكالة والولاية بالشرط]
إسقاط الشفعة، وذكرتم تلك الآثار، فنكيل لكم بالكيل الذي كلتم به لنا. قلنا: لا سواء (¬1) نحن وأنتم في ذلك، فإنا ذكرنا هذه الوجوه تحيلًا على إبطال ما أبطله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله: "فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" (¬2) فلما أبطل الشفعة تحيلنا على تنفيذ حكمه وأمره بكل طريق فكنا في هذه الحيل منفذين لأمره، وأما أنتم فأبطلتم بها ما أثبته بحكمه وقضائه بالشفعة فيما لم يقسم [للبيع] (¬3)، وأنه لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه (¬4)، فإذا حرم عليه البيع قبل استئذانه فما الظن بالتحيل على إسقاط شفعته؟ فتوصلتم أنتم بهذه الحيل إلى إسقاط ما أثبته، وتوصلنا نحن بها إلى إسقاط ما أسقطه وأبطله، فأي الفريقين أحق بالصواب، وأتْبَعُ لمقصود الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ واللَّه المستعان. [صحة تعليق الوكالة والولاية بالشرط] المثال الرابع (¬5) والخمسون: يصح تعليق الوكالة بالشرط، كما يصح تعليق الولاية بالشرط، كما صحت به السنة، بل تعليق الوكالة أولى بالجواز (¬6)؛ فإن الولي وكيل وكالة عامة، فإنه إنما يتصرف نيابة عن المولى، فوكالته أعم من وكالة الوكيل في الشيء المعين، فإذا صح تعليقها فتعليق الوكالة الخاصة أولى بالصحة، وقال الشافعي رحمه اللَّه (¬7): لا تصح؛ فإذا دعت الحاجة إلى ذلك فالحيلة في جوازه أن يوكله مطلقًا ثم يعلق التصرف على شرط فيصح، ولا يظهر فرق فقهي بين امتناع هذا وجواز هذا، والمقصود من التوكيل التصرف، والتوكيل وسيلة إليه، فإذا صح تعليق الغاية فتعليق الوسيلة أولى بالصحة. [حيلة لإبطال الشهادة على الزنى] المثال الخامس (¬8) والخمسون: إذا رفع إلى الإمام وادعى عليه أنه زنى، فخاف إن أنكر أن تقوم عليه البينة فيحد؛ فالحيلة في إبطال شهادتهم أن يقر إذا سُئل مرة واحدة، ولا يزيد عليها؛ فلا تسمع البينة مع الإقرار، وليس للحاكم ولا ¬
[حيلة في الخلاص من الحنث بيمين]
للإمام أن يقرره تمام النصاب، بل إذا سكت لم يتعرض له (¬1)؛ فإن كان الإمام ممن يَرَى وجوب الحد بالمرة الواحدة؛ فالحيلة أن يرجع عن إقراره فيسقط عنه الحد؛ فإذا خاف من إقامة البينة عليه أقر أيضًا ثم رجع، وهكذا أبدًا، وهذه الحيلة جائزة؛ فإنه يجوز له دَفْعُ الحد عن نفسه، وأن يُخْلِد إلى التوبة، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للصحابة لما فَرَّ ماعز من الحد: "هَلَّا تركتموه يتوب فيتوب اللَّه عليه" (¬2) فإذا فر من الحد إلى التوبة فقد أحسن (¬3). [حيلة في الخلاص من الحنث بيمين] المثال السادس (¬4) والخمسون: إذا حَلَفَ لغادر أو جاسوس أو سارق أن لا يخبر به أحدًا، ولا يدل عليه، فأراد التخلص من هذه اليمين وأن لا يخفيه، فالحيلة أن يسأل عن أقوام هو من جملتهم؛ فإذا سُئل عن غيره قال: لا، فإذا انتهت النوبة إليه سكت؛ فإنه لا يحنث ولا يأثم بالسَّتْر عليه وإيوائه، وسئل أبو حنيفة رحمه اللَّه عن هذه المسألة بعينها، قال له السائل: نزل بي اللصوص؛ فأخذوا مالي واستحلفوني (¬5) بالطلاق ألا أخبر أحدًا بهم، فخرجت فرأيتهم يبيعون مَتَاعي في السوق جَهْرة، فقال له: اذهب إلى الوالي فقل له يجمع أهل المحلة أو السكة الذين هم فيهم ثم يحضرهم ثم يسألك عنهم واحدًا واحدًا؛ فإذا سالك عمن ليس منهم، فقل: ليس منهم، وإذا سألت عمن هو منهم فاسكت؛ ففعل الرجل، فأخذ الوالي متاعه منهم، وسلمه إليه (¬6). فلو عملت هذه الحيلة مع مظلوم لم تنفع، وحنث الحالف؛ فإن المقصود الدفع عنه، وبالسكوت قد أعان عليه، ولم يدفع عنه. [حيلة لأبي حنيفة في الطلاق] المثال السابع (¬7) والخمسون: ما سئل عنه أبو حنيفة رحمه اللَّه عن امرأة قال لها زوجها: أنت طالق إذا (¬8) سألتيني الخلع إن لم أخلعك؛ وقالت المرأة: كل ¬
[حيلة لأخوين زفت زوجة كل منهما إلى الآخر]
مملوك لي حر إن لم أسألك الخلع اليوم، فجاء الزوج إلى أبي حنيفة رحمه اللَّه فقال: أحضر المرأة؛ فأحضرها، فقال لها أبو حنيفة: سليه الخلع، فقالت: سألتك أن تخلعني (¬1)، فقال له [أبو حنيفة] (¬2): قل لها قد خلعتك على ألف درهم تعطينيها، فقال لها ذلك، فقال لها قولي: لا أقبل، فقالت [: لا أقبل] (¬3)، فقال [لها] (¬4): قومي مع زوجك فقد بَرَّ كل واحد منكما ولم يحنث في شيء، ذكرها محمد بن الحسن في كتاب "الحيل" (¬5) له، وإنما تتم هذه الحيلة على الوجه الذي ذكره، فلو قالت له: "أسألك الخلع على ألف درهم حالة، أو إلى شهر" فقال: "قد خلعتك على ذلك" وقع الخلع؛ بخلاف ما إذا قالت له: "أخلعني" قال: "خلعتك على ألف" فإن هذا لا يكون خلعًا حتى تقبل وترضى، وهي لم ترض بالألف؛ فلا يقع الخلع. فإن قيل: فكيف يبرأ إذا لم (¬6) يقع الخلع؟ قيل: هو إنما حلف على فعله لا على قبولها، فإذا قال: "قد خلعتك على ألفٍ" فقد وجد الخلع من جهته، فانحلت يمينه، ولم يقف حل اليمين على قبولها، كما إذا حلف لا يبيع، فباع، ولم يقبل المشتري، ولا نية له (¬7)؛ فإنه يحنث. [حيلة لأخوين زفت زوجة كل منهما إلى الآخر] المثال الثامن (¬8) والخمسون: ما ذكره محمد (¬9) في كتابه (¬10) أيضًا عنه [أنه] (¬11) أتاه أخَوَان قد تزوجا بأختين؛ فزفت كل امرأة منهما إلى زوج أختها؛ فدخل بها ولم يعلم، ثم على الحال لما أصبحا؛ فذكرا له ذلك، وسألاه ¬
[حيلة للمرأة تريد الخلاص من زوج لا ترضى به]
المخرج، فقال لهما: كل منكما راضٍ بالتي دخل بها؟ فقالا: نعم، فقال: ليطلق كل منكما امرأته التي عَقَدَ عليها تطليقة؛ ففعلا، فقال: ليعقد كل منكما على المرأة التي دخل بها، ففعلا، فقال: ليمض كل منكما إلى أهله، وهذه الحيلة في غاية اللطف؛ فإن المرأة التي دخل بها كل منهما قد وَطِئها بشبهة؛ فله أن ينكحها في عدَّتها؛ فإنه لا يصان ماؤها (¬1) عن مائه، وأمره أن يطلق واحدة فإنه لم يدخل بالتي طلقها فالواحدة تُبينها، ولا عدة عليها منه، فللآخر أن يتزوجها (¬2). [حيلة للمرأة تريد الخلاص من زوج لا ترضى به] المثال التاسع (¬3) والخمسون: إذا تزوجت المرأة وخافت (¬4) أن يسافر عنها الزوج ويَدَعها أو يسافر بها ولا تريد الخروج من دارها أو أن يتزوج عليها أو يتسرَّى أو يشرب المسكر أو يضربها من غير جُرْم أو يتبين (¬5) فقيرًا وقد ظنته غنيًا أو مَعيبًا وقد ظنته سليمًا أو أميًا وقد ظنته قارئًا أو جاهلًا وقد ظنته عالمًا أو نحو (¬6) ذلك، فلا (¬7) يمكنها التخلص، فالحيلة لها في ذلك كله أن تشترط عليه أنه متى وُجِدَ (¬8) شيء من ذلك فأمرها بيدها، إن شاءت أقامت معه وإن شاءت فارقته، وتشهد عليه بذلك، فإن خافت أن [لا] (¬9) تشترط ذلك بعد لزوم العقد فلا يمكنها إلزامه بالشرط فلا تأذن لوليها أن يزوجها منه إلا على هذا الشرط، فيقول: زوجتكها (¬10) على أن أمرها بيدها إن كان الأمرُ كيت وكيت؛ فمتى كان الأمر كذلك ملكت تطليق نفسها، ولا بأس بهذه الحيلة؛ فإن المرأة تتخلص بها من نكاح مَنْ لم ترض بنكاحه، وتستغني بها عن رفع أمرها إلى الحاكم ليفسخ [نكاحها] (¬11) بالغيبة والإعسار [وغيرهما واللَّه أعلم] (¬12). [عن صحة ضمان ما لا يجب ضمانه] المثال الستون (¬13): يصح ضمان ما لا يجب كقوله: "ما أعطيتَ لفلان فهو ¬
عليَّ" عند الأكثرين، كما دل عليه القرآن في قول مؤذن يوسف: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] والمصلحة تقتضي ذلك، بل قد تدعو إليه الحاجة أو الضرورة (¬1)، وعند الشافعي لا يجوز (¬2)، وسلم جوازه إذا تبين سبب وجوبه كدرك المبيع. والحيلة في جوازه على هذا القول أنه إذا رضي بأن يلتزم عنه مقدارًا له لم يجب عليه بعد أن يقر المضمون عنه به للدافع ثم يضمنه عنه الضامن، فإن خشي المقر أن يطالبه المقر له بذلك ولا يدفعه إليه فالحيلة أن يقول: هو عليَّ من ثمن مبيع لم أقبضه، فإن تحرج من الإخبار بالكذب فالحيلة أن يبيعه ما يريد أخذه منه بالمبلغ الذي التزم الضامن أداءه، فإذا صار في ذمته ضمنه عنه، وهذا الحكم إذا زوج ابنه أو عبده أو أجيره وضمن للمرأة نفقتها وكسوتها فالصحيحُ في هذا كله جواز الضمان، والحاجة تدعو إليه، ولا محذور فيه، وليس بعقد معاوضة فتؤثر فيه الجهالة، وعقود الالتزام لا تؤثر فيها الجهالة كالنذر، ثم يمكن رفع الجهالة بأن يحد له حدًا فيقول: من درهم إلى كذا وكذا (¬3). فإن قيل: ما بين الدرهم والغاية مجهول لا يدري كم يلزمه منه! قيل: لا يقدح ذلك في جواز الالتزام؛ لأنه يتبين في الآخر (¬4) كم هو الواجب منه، [ثم] (¬5) لو أقر بذلك فقال: "له علي ما بين درهم إلى ألف" صح؛ فهكذا إذا قال: "ضمنت عنه ما بين درهم إلى ألف". فإن قيل: الضامن فرع على المضمون عنه، فإذا كان الأصل لم يثبت في ذمته شيء فعلى أي شيء ينبني الضمان ويتفرع؟ قيل: إنما يصير ضامنًا إذا ثبت في ذمة المضمون عنه، وإلا في الحال فليس هو ضامنًا. وإن صح أن يقال: "هو ضامن بالقوة" ففي الحقيقة هو ضمان مُعَلق على شرط، وذلك جائز، واللَّه أعلم. ¬
[حيلة في الخلاص مما سبق به اللسان]
[حيلة في الخلاص مما سبق به اللسان] المثال الحادي (¬1) والستون: إذا سبق لسانُه بما يؤاخذ به في الظاهر ولم يرد معناه، أو أراده ثم رجع عنه وتاب منه، أو خاف أن يشهد عليه به شهود زور ولم يتكلم به، فرفع إلى الحاكم وادعى عليه به، فإن أنكر شهدوا عليه. وإن أقرَّ حكم عليه، ولا سيما إن كان لا يرى قبول التوبة من ذلك، فالحيلة في الخلاص أن لا يقر به ولا ينكر، فيشهد عليه الشهود، بل يكفيه في الجواب أن يقول: "إن كنت قلته فقد رجعت عنه، وأنا تائب إلى اللَّه منه" وليس للحاكم بعد ذلك أن يقول: لا أكتفي منك بهذا الجواب، بل لا بد من الإقرار أو الإنكار، فإن هذا جواب كافٍ في مثل هذه الدعوى، وتكليفه بعد ذلك [خطة الخسف] (¬2) بالإقرار -وقد يكون كاذبًا فيه، أو الإنكار وقد تاب منه بينه وبين اللَّه تعالى، فيشهد عليه الشهود- ظلم (¬3) وباطل؛ فلا يحل للحاكم أن يسأله بعد هذا هل وقع منك (¬4) ذلك أو لم يقع، بل أبلغ من هذا لو شهد عليه بالردة فقال: "لم أزل أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه منذ عَقَلْت وإلى الآن" لم يُسْتَكْشف عن شيء، ولم يسأل لا هو ولا الشهود عن سبب ردته، كما ذكره الخرقي في "مختصره" (¬5) وغيرُهُ من أصحاب الشافعي، فإذا ادعى عليه بأنه قال كذا وكذا فقال: "إن كنت قلته فأنا تائب إلى اللَّه منه" أو: "قد (¬6) تبت منه" فقد اكتفى منه بهذا الجواب، ولم يكشف عن شيء منه (¬7) بعد ذلك. [هل يجوز تعليق التوبة بالشرط؟] فإن قيل: هذا تعليق للتوبة أو الإسلام بالشرط، ولا يصح تعليقه بشرط. قيل: هذا من قلَّة فقه مُورِدِه؛ فإن التوبة لا تصح إلا على هذا الشرط، تلفظ به أو لم يتلفَّظ به، وكذلك تجديدُ الإسلام لا يصح إلا بشرط أن يوجَدَ ما يناقضه فتلفظه بالشرط تأكيد لمقتضى عقد التوبة والإسلام، وهذا كما إذا (¬8) قال: "إن ¬
كان هذا ملكي فقد بعتك إياه" فهل يقول أحد: إن هذا بيع معلق بشرط فلا يصح؟ وكذلك إذا قال: "إن كانت هذه امرأتي فهي طالق" لا يقول أحد: إنه طلاق معلق، ونظائره أكثر من أن تذكر، وقد شرع اللَّه سبحانه لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد، حتى بينه وبين ربه كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لضباعة بنت الزبير وقد شَكَتْ إليه وقت الإحرام، فقال: "حُجِّي واشترطي على ربك فقولي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني فإن لك ما اشترطت على ربك" (¬1) فهذا شرط مع اللَّه في العبادة، وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الأمة إليه، ويفيد شيئين: جواز التحلل (¬2)، وسقوط الهَدْي، وكذلك الداعي بالخيرة يشترط على ربه في دعائه، فيقول: اللهم إن كان هذا الأمر خيرًا لي في ديني ومَعَاشي وعاقبة أمري [عاجله وآجله] (¬3) فاقْدُرْهُ لي ويسره لي (¬4)، فيعلق طلب الإجابة بالشرط لحاجته إلى ذلك لخفاء المصلحة عليه. وكذلك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- اشترط على ربه أيما رجل سَبَّهُ أو لعنه وليس لذلك بأهل أن يجعلها كفارة له وقربة يقربه بها إليه (¬5)، وهذا تعليق للمدعو به بشرط الاستحقاق. وكذلك المصلِّي على الميت شرع له تعليق الدعاء بالشرط، فيقول: اللهم أنت أعلم بسره وعلانيته، وإن كان محسنًا فتقبل حسناته، وإن كان مسيئًا فتجاوز عن سيئاته (¬6)؛ فهذا طلب للتجاوز عنه ¬
بشرط، فكيف يمنع تعليق التوبة بالشرط؟ وقال شيخنا: كان يشكل عليَّ أحيانًا حالُ مَنْ أصلِّي عليه [من] (¬1) الجنائز، هل هو مؤمن أو منافق؟ فرأيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في المنام فسألته عن مسائل عديدة منها هذه المسألة، فقال: يا أحمد الشرط الشرط، أو قال: علق الدعاء بالشرط، وكذلك أرشد أمته -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) إلى تعليق الدعاء بالحياة والموت بالشرط فقال: "لا يتمنى (¬3) أحدكم الموتَ لضر نزل به، ولكن ليَقُلْ: اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرًا لي، وتَوَفَّني إذا كانت الوفاة خيرًا لي" (¬4). وكذلك قوله في الحديث الآخر: "وإذا أردت بعبادك فتنة فتوفني إليك غيرَ مفتون" (¬5) ¬
[تعليق العقود والفسوخ بالشروط]
وقال: "المسلمون عند شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا (¬1) ". [تعليق العقود والفسوخ بالشروط] وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة أو الحاجة أو المصلحة؛ فلا يستغني عنه المكلف، وقد صح تعليق النذر (¬2) بالشرط بالإجماع ونص الكتاب، وتعليق الضمان بالشرط بنص القرآن، وتعليق النكاح بالشرط في تزويج موسى عليه السلام بابنة صاحب مَدْين وهو من أصح نكاح على وجه الأرض، ولم يأت في شريعتنا ما ينسخه، بل أتَتْ مقررة له كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬3) فهذا صريح في أن حل الفروج (¬4) بالنكاح قد يعلق على شرط، ونص الإمام أحمد رحمه اللَّه على جواز تعليق النكاح بالشرط، وهذا هو الصحيح، كما يُعَلَّق الطلاق والجعالة والنذر وغيرها من العقود، وعلق أمير المؤمنين عمر -رضي اللَّه عنه- عقد المزارعة بالشرط، فكان يدفع أرضه إلى مَنْ يعمل عليها على أنه إن جاء عمر بالبذر فله كذا وإن جاء العامل بالبذر فله كذا، وذكره البخاري (¬5)، ولم يخالفه صاحب، ونص الإمام أحمد (¬6) على جواز تعليق البيع بالشرط في قوله: إن بعْتَ هذه الجارية فأنا أحق بها بالثمن، واحتج بأنه قول ابن مسعود رضي اللَّه عنه (¬7)، ورهن ¬
الإمام أحمد نَعْلَه وقال للمرتهن: إن جئتك بالحق إلى كذا وإلا فهو لك، وهذا (¬1) بيع بشرط، فقد (¬2) فعله وأفتى به. وكذلك تعليق الإبراء بالشرط (¬3)، نص على جوازه فِعْلًا منه، فقال لمن اغتابه ثم اسْتَحَله: "أنت في حل إن لم تعد" فقال له الميموني: قد اغتابك وتحلله؟ فقال: ألم ترني قد اشترطت عليه أن لا يعود؟ والمتأخرون من أصحابه يقولون. لا يصح تعليق الإبراء بالشرط وليس ذلك موافقًا لنصوصه ولا لأصوله، وقد علق النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولاية الإمارة بالشرط (¬4)، وهذا تنبيه على تعليق الحكم في كل ولاية، وعلى تعليق الوكالة الخاصة والعامة، وقد علق أبو بكر تولية عمر -رضي اللَّه عنه- بالشرط (¬5)، ووافقه عليه سائر الصحابة رضي اللَّه عنهم فلم ينكره منهم رجل واحد، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ باع نخلًا قد أُبِّرَتْ فثمرتُها للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع" (¬6) فهذا الشرط (¬7) خلاف مقتضى العقد المطلق، وقد جوزه الشارع، وقال: "مَنْ أعتق (¬8) عبدًا وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع" (¬9) وفي "السنن" عنه: "مَنْ أعتق عبدًا وله مال فمال العبد له إلا أن يشترطه السيد" (¬10) وفي "المسند" و"السنن" عن سفينة قال: "كنت مملوكًا لأم ¬
سلمة، فقالت: أعتقتك، واشترطت (¬1) عليك أن تخدم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عِشْتَ، فقلت: إن (¬2) لم تشترطي عليَّ ما فَارَقْتُ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عِشْتُ، فأعتقتْنِي واشترطت علي" (¬3)، وذكر البخاري في "صحيحه" عن عمر [بن الخطاب] (¬4) -رضي اللَّه عنه- قال: مَقَاطعُ الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت (¬5)، وقال البخاري في باب الشروط في القرض: "وقال ابن عمر وعطاء: إذا أجَّله في القرض جاز" (¬6) وقال ¬
في باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا (¬1) في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم (¬2): "قال ابن عون (¬3) عن ابن سيرين قال: قال رجل لِكَرِيِّه: أدْخِل (¬4) ركابكَ فإن لم أرحل معك [في] (¬5) يوم كذا وكذا فلك مئة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: مَنْ شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه. وقال أيوب عن ابن سيرين: إن رجلًا باع طعامًا فقال (¬6): إنْ لم آتِكَ الأربعاء فليس بيني وبينك بيْع، فقال للمشتري: أنتَ أخلفْتَه، فقضى عليه". وقال في باب الشروط في المهر [عند عُقْدَةِ النكاح] (¬7): وقال المسور سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ذكر صهرًا له فأثْنَى عليه في مصاهرته فأحسن، فقال: "حدثني فصَدَقَني، ووعدني فوفاني" (¬8) ثم ذكر فيه حديث "أحَقُّ الشروط أن تُوفوا به ما استحللتم به الفروج" (¬9). وقال في كتاب الحَرْث [والمزارعة] (¬10): وعامَلَ عمرُ الناسَ على [أنه إن] (¬11) جاء عمرُ بالبَذْر من عنده فلهم الشَّطْر، وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا (¬12). وهذا صريح في جواز "إن خطْتَه اليوم فَلك كذا، وإن خِطْتَه ¬
غدًا فلك كذا" (¬1) وفي جواز "بعتكه بعشرة نقدًا أو بعشرين نسيئة" فالصواب جواز هذا كله للنص والآثار والقياس. وقال جابر: بِعْتُ رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بعيرًا، واشترطت حملانه إلى أهلي (¬2). وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبد الرحمن بن فروخ عن نافع بن عبد الحارث عامل عمر على مكة أنه اشترى من صَفْوَان بن أمية دارًا لعمر بن الخطاب بأربعة آلاف درهم، واشترط عليه نافع إن رضي عمر فالبيع له، كان لم يَرْضَ فلصفوان أربع مئة درهم (¬3)، ومن هاهنا قال الإمام أحمد: لا بأس ببيع العُربون (¬4) لأن عمر فعله، وأجاز هذا البيع والشرطَ فيه مجاهد ومحمد ابن سيرين وزيد بن أسلم ونافع بن عبد الحارث، وقال أبو عمر (¬5): وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6)، وذكر الإمام أحمد ¬
[شأن الشروط عند الشارع]
أن محمد بن مسلمة الأنصاري اشترى من نَبَطِي حزمة حطب، واشترط عليه حملَها إلى قصر سعد (¬1)، واشترى عبدُ اللَّه بن مسعود جاريةً من امرأته وشَرَطَتْ عليه أنه إن باعها فهي لها بالثمن (¬2)، وفي ذلك اتفاقهما على صحة البيع والشرط، ذكره الإمام أحمد (¬3) وأفتى به. [شأن الشروط عند الشارع] والمقصود أن للشروط عند الشارع شأنًا ليس عند كثير من الفقهاء؛ فإنهم يُلْغُونَ شروطًا لم يُلْغِها الشارعُ، ويفسدون بها العقدَ من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود وما لا يقبله؛ فليس (¬4) لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل؛ فالصواب الضابط الشرعي الذي دلّ عليه النصُّ أن كل شرط خالف حكم اللَّه تعالى وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف (¬5) حكمه فهو لازم. يوضحه أن الالتزام بالشرط كالالتزام بالنذر، والنذر لا يبطل منه إلا ما ¬
[الشرط الباطل والشرط الحق]
خالف حكم اللَّه وكتابه، بل الشروط (¬1) في حقوق العباد أوْسَعُ من النذر في حق اللَّه، والالتزام به أوفى (¬2) من الالتزام بالنذر. وإنما بسطتُ (¬3) القولَ في هذا لأن باب الشروط يدفع حيل أكثر المتحيلين، ويجعل للرجل مخرجًا مما يخاف منه ومما يضيق عليه؛ فالشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد، وقد قال اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقال: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]. [الشرط الباطل والشرط الحق] وهاهنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث اللَّه سبحانه به [رسوله] (¬4): إحداهما: أن كل شرط خالف حكم اللَّه وناقض كتابه فهو باطل كائنًا ما كان. والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه -وهو ما يجوز بذله (¬5) وفعله بدون الشرط- فهو لازم بالشرط، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب اللَّه عز وجل وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- واتفاق الصحابة رضي اللَّه عنهم، ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية [فإنها لا تهدم] (¬6) قاعدة من قواعد الشرع؛ فالشروط في حق المكلفين كالنذر في حقوق رب العالمين، فكل طاعة جاز فعلها قبل النذر لزمت (¬7) بالنذر، وكذلك كل شرط قد جاز بَذْله بدون الاشتراط لزم بالشرط، فمقاطع الحقوق عند الشروط. وإذا كان من علامات النفاق إخلاف الوعد وليس بمشروط فكيف الوعد المؤكد بالشرط؟ بل تَرْكُ الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخلف والخيانة والغدر، وباللَّه التوفيق. [حيلة لمن خاف رد جارية معيبة باعها] المثال الثائي والستون (¬8): إذا باعه جاريةً مَعِييةً وخاف [من] (¬9) ردها عليه ¬
بالعيب فليبين له [من] (¬1) عيبها ويشهد أنه دخل عليه، فإن خاف رَدَّها بعيب آخر لا يعلمه البائع فلْيعيِّن له عيوبًا يدخل في جملتها (¬2) وأنه رضي بها كذلك. فإن كان العيب غير متصور ولا يدخل (¬3) في جملة تلك العيوب فليقل: "وأنت رضيتَ بها بجملة ما فيها من العيوب التي توجب الرد" مقتصرًا على ذلك. ولا يقل: "وأنك [إن] (¬4) أسقطْتَ حقك من الرد" ولا (¬5) "أبرأتني من كل دعوى توجب الرد" ولا يبيعها بشرط البراءة من كل عيب؛ فإن هذا لا يسقط الرد عند كثير من الفقهاء، وهي مسألة البيع بالبراءة من العيوب. وللشافعي رحمه اللَّه فيها ثلاثة أقوال (¬6): أحدها: صحة البيع والشرط. والثاني: صحة البيع وفساد الشرط وأنه لا يبرأ من شيء من العيوب. والثالث: أنه يبرأ من العيوب الباطنة في الحيوان خاصة دون غيرها (¬7). والمشهور من مذهب مالك جواز العقد والشرط وأنه يبرأ من جميع العيوب (¬8). وهل يعمُّ ذلك جميعَ المبيعات أو يخص بعضها؟ فذكر ابن حبيب عن مالك وابن وهب أنه يعم جميع المبيعات عَزضًا كان المبيع أو حيوانًا. وعنه أنه يختص ببعض المبيعات. واختلف عنه في تعيينه فالذي في "المُوَطّأ" (¬9) عنه أنه يختص بالحيوان ناطقًا كان أو بهيمًا (¬10). والذي في "التهذيب" اختصاصه بناطق الحيوان (¬11). قالوا: وعلى [هذا] (¬12) المذهب في صحة ذلك مطلقًا، كبيع (¬13) السلطان وبيع ¬
الميراث إذا علم أنه ميراث جارٍ مجرى بيع البراءة كان لم يشترط، وعلى هذا فإذا قال أبيعك بيع الميراث لا قيام بعيب صح ذلك ويكون بيع براءة (¬1)؛ وفي الميراث لا يحتاج إلى ذكره. قالوا: وإذا قلنا إن البراءة تنفع فإنما منفعتها في امتناع الرد بعيب لم يعلم به البائع؛ وأما ما علم به البائع فإن شرط البراءة لا يمنع رد المشتري به إذا لم يكن عالمًا به وقت العقد؛ فإذا ادعى المشتري علم البائع فأقرَّ أو نَكَلَ بعد توجه اليمين عليه توجَّهَ الرد عليه. قالوا: ولو ملك شيئًا ثم باعه قبل أن يستعمله بشرط البراءة لم ينفعه ذلك حتى يستعمله ويستبرئه ثم يبيعه بشرط البراءة، قال في "التهذيب" في التجار يقدمون بالرقيق فيبيعونه بالبراءة ولم تطل إقامة الرقيق عندهم: هؤلاء يريدون أن يذهبوا بأموال الناس باطلًا، لا تنفعهم البراءة. وقال (¬2) عبد الملك وغيره: لا يشترط استعماله (¬3)، ولا طول مقامه عنده، بل تنفعه البراءة كما تنفعه مع الطول والاستعمال (¬4). قالوا: وإذا كان في المبيع عيب يعلمه البائع بعينه فادخله في جملة عيوب ليست موجودة، وتبرأ منها كلها، لم يبرأ منه حتى يفرده بالبراءة ويعين موضعه وجنسه ومقداره بحيث لا يبقى للمبتاع فيه قول. قالوا: وكذلك لو أراه العيبَ وشاهده لم يبرأ منه إذا كان ظاهره لا يستلزم الإحاطة بباطنه وباطنه فيه فساد آخر كما إذا أراه دَبَرَةَ البعير (¬5) وشاهدها وهي مُنغِلة مفسدة (¬6) فلم يذكر له ما فيها من نَغَل وغيره، ونظائر ذلك. قالوا: وكذلك لو أخبره أن به إباقًا أو سرقةً وهو (¬7) إباق بعيد أو سرقة عظيمة والمشتري يظنه يسيرًا لم يبرأ حتى يبين له ذلك، قال أبو القاسم ابن الكاتب: لا يختلف قول مالك في أن بيع (¬8) السلطان بيع براءة على المفلس أو لقضاء ديون من تركة ميت بيع براءة أيضًا كان لم يشترطها، قال: وإنما كان كذلك لأنه حكم منه بالبيع وبيعُ البراءَة مختلف فيه، فإذا حكم السلطان بأحد أقوال العلماء لم تردَّ قضيته عند من يرى خلاف رأيه فيما حكم به (¬9)، وردَّ ذلك عليه المازريُّ وغيره، وقالوا: ¬
السلطان لم يتعرض في البيع إلى خلاف ولا وِفاق، ولا قصد إلى حكم به يرفع النزاع، وقد حكى بعض الشيوخ الخلاف في بيع البراءة ولو تولاه السلطان بنفسه، قال: وذلك لأن سحنون قال: وكان قول مالك القديم أن بيع السلطان وبيع المواريث لا قيام فيه بعيب ولا بعهدة، قال: وهذا يدل على أن له قولاً آخر خلاف هذا، قال (¬1): ويدل عليه أن (¬2) ابن القاسم قال: إذا بيع عبد على مُفلِس فإن للمشتري أن يرده بالعيب، قال: فالصواب (¬3) أن بيع السلطان وبيع الورثة كغيرهما، قال المازري: أما بيع الورثة لقضاء ديونه وتنفيذ وصاياه فإن فيه الخلاف المشهور، قال: وأما ما باعوه لأنفسهم للانفصال من شركة بعضهم لبعض فملتحق (¬4) ببيع الرجل مال نفسه بالبراءة، وكذلك من باع للإنفاق على من في ولايته. قلت: وقول المازري: "إن بيع السلطان لا تعرض فيه لحكم (¬5) " مبني على أصل، وهو أن الحاكم إذا عقد بنفسه عقدًا مختلفًا فيه هل يكون بمنزلة حكمه به [فيسوغ تنفيذه، ولا يسوغ رده أو لا يكون حكمًا منه به] (¬6) فيسوغ لحاكم آخر خلافه؟ وفي هذا الأصل قولان للفقهاء، وهما في مذهب الإمام أحمد (¬7) وغيره، فهذا تقرير مذهب مالك في هذه المسألة (¬8). وأما مذهب أبي حنيفة: فإنه يصحح البيع والشرط (¬9)، ولا يمكن المشتري من الرد بعد اشتراط البراءة العامة، سواء علم البائع العيبَ أو لم يعلمه (¬10)، حيوانًا كان المبيع أو غيره، وتناظر في هذه المسألة أبو حنيفة وابن أبي ليلى، فقال ابن أبي ليلى: لا يبرأ إلا من عيب أشار إليه ووضع يَدَه عليه، فقال أبو ¬
[الصحيح في هذه المسألة والنكول ورد اليمين]
حنيفة: فلو أن امرأة من قريش باعمت عبدًا زنجيًا على ذكره عيب أفتضَعُ أصبعها على ذكره؟ فسكت ابن أبي ليلى (¬1). وأما مذهب الإمام أحمد فعنه ثلاث روايات (¬2): إحداهن: [أنه] (¬3) لا يبرأ بذلك ولا يسقط حق المشتري من الرد بالعيب إلا من عيب عينه وعلم به المشتري. والثانية: أنه يبرأ مطلقًا. والثالثة: أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه، ولا يبرأ من كل عيب علمه حتى يعلم به المشتري. فإن صححنا البيع والشرط فلا إشكال، كان أبطلنا الشرط فهل يبطل البيع أو يصح ويثبت الرد فيه؟ وجهان، فإذا (¬4) أثبتنا الرد وأبطلنا الشرط فللبائع الرجوع بالتفاوت الذي نقص من ثمن السلعة بالشرط الذي لم يسلم له؛ فإنه إنما باعها بذلك الثمن بناء على أن المشتري لا يردها عليه بعيب، ولو علم أن المشتري يتمكن من ردها لم يبعها بذلك الثمن؛ فله الرجوع بالتفاوت، وهذا هو العدل وقياس أصول االشريعة؛ فإن المشتري كما يرجع بالأرْشِ عند فوات غرضه من سلامة المبيع فهكذا البائع يرجع بالتفاوت عند فوات غرضه من الشرط الذي أبطلناه عليه. [الصحيح في هذه المسألة والنكول ورد اليمين] والصحيح في هذه المسألة ما جاء عن الصحابة رضي اللَّه عنهم؛ فإن عبد اللَّه بن عمر باع زيد بن ثابت عبدًا بشرط البراءة بثمان مئة درهم، فأصاب به زيدٌ عيبًا، فأراد رده على ابن عمر، فلم يقبله، فترافعا إلى عثمان رضي اللَّه عنه، فقال عثمان لابن عمر: تحلف أنك لم تعلم بهذا (¬5) العيب، فقال: لا، فرده عليه، فباعه ابن عمر بألف درهم (¬6)،. . . . . . ¬
ذكره (¬1) الإمام أحمد وغيره، وهذا اتفاق منهم على صحة البيع وجواز شرط البراءة، واتفاق من عثمان وزيد على أن البائع إذا علم بالعيب لم ينفعه شرط البراءة، وعلى أن المدعى عليه متى نَكَلَ عن اليمين قضى عليه بالنكول، ولم ترد اليمين على المدعي، لكن هذا فيما إذا كان المدعى عليه منفردًا بمعرفة الحال، فإذا لم يحلف مع كونه عالمًا بصورة الحال قضى عليه بالنكول، وأما إذا كان المدعى هو المنفرد بالعلم بالحال أو كان مما لا يخفى عليه علمها ردت عليه اليمين؛ فمثال الأول: قضية ابن عمر هذه (¬2)، فإنه هو العالم بأنه هل كان يعلم العيب أو لا يعلمه، بخلاف زيد بن ثابت، فإنه لا يعلم علم ابن عمر بذلك، ولا عدم علمه، فلا يشرع رد اليمين عليه. ومثال الثاني: إذا ادعى على وارثِ ميتٍ أنه أقرض مورثه مئة درهم أو باعه سلعة ولم يقبضه ثمنها أو أودعه وديعة والوارث غائب لا يعلم ذلك، وسأل إحلافه، فنكل عن اليمين، لم يقض عليه بالنكول، وردت اليمين على المدعي؛ لأنه منفرد بعلم ذلك، فإذا لم يحلف لم يقض له. ومثال الثالث: إذا ادعى عليه أنه باعه أو أجره فنكل عن اليمين، حلف المدعي وقضي له، فإن لم يحلف لم يقض له بنكول المدعى عليه؛ لأنه عالم بصحة ما ادعاه، فإذا لم يحلف ولم يقم له بينة لم يكن مجردُ نكولِ خصمه مصححًا لدعواه. فهذا التحقيق أحسنُ ما قيل في مسألة النكول ورد اليمين، وعليه تدل آثار ¬
[متى يثبت تحليف المدعي]
الصحابة ويزول عنها الاختلاف، [ويكون هذا في موضعه وهذا في موضعه] (¬1). وعرف حذيفة جملًا له فادعاه، فنكل المدعَى عليه، وتوجهت اليمين على حذيفة، فقال: أتراني أترك جَمَلِي؟ فحلف (¬2) باللَّه أنه ما باع ولا وهبَ (¬3). [متى يثبت تحليف المدعي] فقد (¬4) ثبت تحليف المدعي إذا أقام شاهدًا واحدًا، والشاهد أقوى من النكول، فتحليفهُ مع النكول أولى، وقد شرع اللَّه سبحانه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- تحليف المدعي في أيمان القَسَامة؛ لقوة جانبه باللّوْث، فتحليفه مع النكول أولى، وكذلك شَرَع تحليفَ الزوج في اللِّعَان، وكذلك شرع تحليف المدعي إذا كان شاهدُ الحال يصدقه كما إذا تداعَيَا متاع البيت أو تداعى النجار والخياط آلة كل منهما فإنه يُقْضَى لمن تدل الحال على صحة دعواه مع يمينه، وقد روي في حديث مرفوع أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رَدَّ اليمين على طالب الحق (¬5)، ذكره الدارقطني وغيره، وهذا محض ¬
الفقه والقياس؛ فإنه إذا نكل قَوِيَ جانبُ المدعي فظُنَّ (¬1) صدقه، فشرع اليمين في حقه؛ فإن اليمين إنما شرعت في جانب المدعى عليه لقوة جانبه بالأصل، فإذا شهد الشاهدُ الواحدُ ضعف هذا الأصل ولم يتمكن قوته من الاستقلال، وقوى (¬2) جانب المدعي باليمين، وهكذا إذا نَكَلَ ضعف أصل البراءة (¬3)، ولم يكن النكول مستقلًا بإثبات الدعوى؛ لجواز أن يكون لجهله بالحال، أو لتورعه عن اليمين، أو للخوف من عاقبة اليمين، أو لموافقة قضاء وقدر؛ فظن الظانُّ أنه بسبب اليمين، أو لترفعه (¬4) عن ابتذاله باستحلاف خصمه له مع علمه بأنه لو حلف كان صادقًا، وإذا احتمل نكولُه هذه الوجوه لم يكن مستقلًا؛ بل غايته أن يكون مقويًا لجنبة المدعي فترد اليمين عليه، ولم تكن هذه المسألة مقصودة، وإنما جر إليها الكلام في أثر ابن عمر وزيد في مسألة البراءة (¬5). وقد علم حكم هذا الشرط، وأين ينتفع به البار، وأين لا ينتفع به. وإن (¬6) قيل: فهل ينفعه أن يشترط على المشتري أنه متى رده فهو حر أم لا ينفعه وإذا خاف توكيله في الرد استوثق منه بقوله: "متى رددته أو وكلت في رده" فإن خاف من رد الحاكم عليه حيث يرده بالشرع فلا يكون المشتري هو الراد ولا وكيله بل الحاكم المنفذ للشرع فاستوثق منه بقوله: "إذا ادعيت رده فهو حر" فهنا تصعب الحيلة على الرد، إلا على مذهب أبي ثور (¬7) وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد (¬8)، وهو إجماع الصحابة رضي اللَّه عنهم أن تعليق العتق متى قصد به الحَضُّ أو المنع (¬9) فهو يمين جكمه حكم اليمين بالحج والصوم والصدقة، وحكم ما لو قال: "إن رددته فعليَّ أن أعتقه" بل أولى بعدم العتق، فإن هذا نذر قربة، ¬
ولكن إخراجه مخرج اليمين منع لزوم الوفاء به، مع أن الالتزام به أكثر من الالتزام بقوله: "فهو حر" فكل ما في التزام قوله: "فهو [حر] (¬1) " فهو داخل في التزام (¬2): "فعليَّ أن أعتقه" ولا ينعكس، فإن قوله: "فعليّ أن أعتقه" يتضمن وجوبَ الإعتاق وفعل العتق ووقوع الحرية، فإذا منَعَ قصدَ الحض (¬3) أو المنع وقوع ثلاثَةِ [أشياء] (4) فلأن يمنع وقوع واحد منها أولى وأحْرَى، وهذا لا جواب عنه، وهو مما يبين [فضل] (¬4) فقه الصحابة رضي اللَّه عنهم، وأن بين فقههم وفقه من بعدهم كما بينهم (¬5) وبينهم، وحتى لو لم يصح ذلك عنهم لكان هذا مَحْضَ القياس ومقتضى قواعد الشرع وأصوله من أكثر من عشرين وجهًا لا تخفى على متبحّر (¬6) تتبعها، ويكفي قولُ فقيه الأمة وحَبْرِهَا وترجمان القرآن ابن عباس رضي اللَّه عنه: "العتق ما ابتغي به وجه اللَّه، والطلاق ما كان عن وطر" (¬7). فتأمل هاتين الكلمتين الشريفتين الصادرتين عن علم قد رسخ أسفلُه، وبَسَقَ أعلاه، وأينعت ثمرتُه، وذللت للطالب قطوفُه، ثم احكم بالكلمتين (¬8) على أيمان الحالفين بالعتق والطلاق، هل تجد الحالفَ بهذا ممن يبتغي به (¬9) وجه اللَّه والتقربَ إليه بإعتاق هذا العبد؟ وهل تجد (¬10) الحالفَ بالطلاق ممن له وطر في طلاق زوجته؟ فرضي اللَّه عن [حَبْرِ هذه الأمة] (¬11) لقد شَفَتْ كلمتاه هاتان الصدورَ، وطبقتا المفصلَ (¬12)، وأصابَتَا المحزَّ (¬13)، وكانتا برهانًا على استجابة دعوة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[له] (¬14) أن يعلمه اللَّه التأويل ويفقهه في ¬
[العالم صاحب الحق]
الدين (¬1)، ولا يوحشنَّك (¬2) مَنْ قد أقرَّ على نفسه هو وجميع أهل العلم أنه ليس من أولي العلم، فإذا ظفرتَ برجل [واحد] (¬3) من أولي العلم طالبٍ للدليل مُحَكم له متبع للحق حيث كان وأين كان ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة، ولو خالفك فإنه يخالفك ويعذرك، والجاهل الظالم يخالفك بلا حجّة ويكفّرك أو يُبَدِّعُكَ بلا حجة، وذنبك رغبتك عن طريقته الوخيمة، وسيرته الذميمة، فلا تغتر بكثرة هذا الضرب، فإن الآلاف المؤلفة منهم لا يعدلون بشخص واحد من أهل العلم، والواحد من أهل العلم يعدل بملء الأرض منهم. [العالم صاحب الحق] واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق، وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض، قال عمرو بن ميمون الأوْدِيُّ: صحبت معاذًا باليمين، فما فارقتُه حتى واريتُه في التُّراب بالشَّام، ثم صحبتُ [من] (3) بعده أفقه الناس عبد اللَّه بن مسعود فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد اللَّه على الجماعة (¬4)، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيولى (¬5) عليكم ولاة يؤخِّرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها؛ فهي الفريضة، وصلَّوا معهم فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدّثون (¬6)، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول لي: صلِّ الصلاة وحدك وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة وهي نافلة، قال: يا عمرو بنَ ميمون: قد كنتُ أظنُّكَ من أفقه أهل هذه القرية، أتدري (¬7) ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة هم الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحقَّ وإنْ كنتَ وحدَك، وفي لفظ آخر: فضربَ على فخذي وقال: ويحك! إنَّ جمهورَ الناس ¬
فارقوا الجماعة، كان الجماعة ما وافق طاعة اللَّه تعالى (¬1). وقال نُعيم بن حمَّاد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة حينئذ، ذكرهما البيهقي (¬2) وغيره. وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم، فقال: أتدري (¬3) ما السواد الأعظم؟ هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه (¬4). فمسخ المختلفون (¬5) الذين جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور، وجعلوهم عيارًا على السنة (¬6)، وجعلوا السنة بدعة، والمعروف منكرًا لقلة أهله وتفردهم في الأعصار والأمصار، وقالوا: مَنْ شَذَّ شَذَّ اللَّه به في النار، وما عرف المختلفون (3) أنَّ الشَّاذَّ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه (¬7) إلا واحدًا منهم فهم الشاذون، وقد شَذَّ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفرًا (¬8) يسيرًا؛ فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه [كلهم] (¬9) هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة، ولما لم تحمل هذا عقول الناس قالوا للخليفة: يا أمير المؤمنين أتكون أنت وقُضَاتك ووُلاتَك والفقهاء والمفتون كلهم ¬
[حيلة للتخلص من نفقة المبتوتة وسكناها]
على الباطل وأحمد وحده [هو] (¬1) على الحق؟ فلم يتسع علمه لذلك؛ فأخذه بالسياط والعقوبة بعد الحبس الطويل؛ فلا إله إلا اللَّه، ما أشبه الليلة بالبارحة، وهي السبيل المَهْيَع لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23] [ولا حول ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم] (¬2). [حيلة للتخلص من نفقة المبتوتة وسكناها] المثال الثالث (¬3) والستون: إذا وقعت الفرقة البائنة بين الزوجين لم تجب لها عليه نفقة ولا سكنى بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الصحيحة الصريحة (¬4)، فإن خاف أن ترفعه إلى حاكم يرى وجوب ذلك (5) عليه فالحيلة أن يتغيب مدة العدة. فإذا رفعته بعد ذلك لم يحكم بها عليه؛ لأنها تسقط عنه بمضي الزمان، كما يقوله الأكثرون في نفقة القريب، وكما هو متفق عليه في نفقة العبد والحيوان البهيم، ولا كراهة في هذه الحيلة لأنها وسيلة إلى إسقاط ما أسقطه اللَّه تعالى ورسوله، بخلاف الحيلة على إسقاط ما أوجبه اللَّه ورسوله (¬5)، فهذه لون وتلك لون، فإن لم تمكنه الغيبة وأمكنه أن يرفعها إلى حاكم يحكم بسقوط ذلك فَعَلَ. والحيلة في أن يتوصل إلى حكم حاكم (¬6) بذلك أن ينشئ الطلاق أو يقر (¬7) به بحضرته ثم يسأله الحكم (¬8) بما يراه من سقوط النفقة والسكنى بهذه الفرقة، مع علمه باختلاف العلماء في ذلك، فإن بَدَرَتْه إلى حاكم يرى وجوبها فقد ضاقت عليه وجوه الحيل، ولم يبق له إلا حيلة واحدة، وهي دعواه أنها كانت بانت منه قبل ذلك بمدة تزيد على انقضاء عدتها وأنه نسي سبب البينونة. وهذه الحيلة تدخل في قسم التوصل إلى الجائز بالمحظور كما تقدم [نظائره] (¬9). ¬
[اختلاف الفقهاء في الضمان]
[اختلاف الفقهاء في الضمان] المثال الرابع (¬1) والستون: اختلف الفقهاء في الضمان (¬2)، هل هو تعدد لمحل الحق وقيام للضمين مقام المضمون عنه أو هو استيثاق بمنزلة الرهن؟ على قولين، وهما روايتان عن مالك (¬3)، يظهر أثرهما في مطالبة الضامن مع التمكن من مطالبة المضمون عنه، فمن قال بالقول الأول -وهم الجمهور- قالوا: لصاحب الحق مطالبة مَنْ شاء منهما على السواء، ومن قال بالقول الثاني (¬4) قال: ليس له مطالبة الضامن إلا إذا تعذر عليه مطالبة المضمون عنه، واحتج هؤلاء بثلاث حجج: إحداها (¬5): أن الضامن فرع، والمضمون عنه أصل، وقاعدة الشريعة أن الفروع والأبدال لا يصار إليها إلا عند تعذر الأصول كالتراب (¬6) في الطهارة والصوم في كفارة اليمين، وشاهد الفرع مع شاهد الأصل. [وقد اطرد هذا في ولاية النكاح واستحقاق الميراث] (¬7) لا يلي فرع (¬8) مع أصله ولا يرث معه. الحجة (¬9) الثانية: أن الكفالة توثقه وحفظ للحق، فهي جارية مجرى الرهن، ولكن ذاك رهن عين وهي رهن ذمة أقامها الشارع (¬10) مقام رهن الأعيان للحاجة إليها واستدعاء المصلحة لها. والرهن لا يستوفى منه إلا مع تعذر الاستيفاء من الراهن، فكذا الضمين. ولهذا كثيرًا ما يقترن الرهن والضمين لتواخيهما وتشابههما وحصول الاستيثاق بكل منهما. ¬
الحجة الثالثة: أن الضامن في الأصل لم يوضع لتعدد محل الحق كما لم يوضع لنقله، وإنما وضع ليحفظ صاحب الحق حقه من التّوَى (¬1) والهلاك، ويكون له محل يرجع إليه عند تعذر الاستيفاء من محله الأصلي، ولم ينصب الضامن نفسه لأن يطالبه المضمون له مع وجود الأصيل ويُسْرَته والتمكن [من مطالبته] (¬2). والناسُ يستقبحون هذا، ويعدون فاعله متعديًا، ولا يعذرونه بالمطالبة، حتى إذا تعذر عليه مطالبة الأصيل عذروه بمطالبة الضامن وكانوا عَوْنًا له عليه، وهذا أمر مستقر في فطر الناس ومعاملاتهم بحيث لو طالب الضامن والمضمون عنه إلى جانبه والدراهم في كمه وهو متمكن من مطالبته لاستقبحوا ذلك غاية الاستقباح. وهذا القول في القوة كما ترى، وهو رواية ابن القاسم في الكتاب عن مالك (¬3). ولا ينافي هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الزعيم غارم" (¬4) فإنه لا عموم له، ولا يدل على ¬
[ليس الضمان مشتقا من الضم]
أنه غارم في جميع الأحوال، ولهذا لو أدّى الأصيلُ لم يكن غارمًا، ولحديث (¬1) أبي قتادة (¬2) في ضمان دين الميت لتعذر مطالبة الأصيل. [ليس الضمان مشتقًا من الضم] ولا يصح الاحتجاج [بأن] (¬3) الضمان مشتق من الضم فاقتضى لفظه ضم إحدى الذمتين إلى الأخرى لوجهين: أحدهما: أن الضم من المضاعف، والضمان من الضمين (¬4)، فمادتهما مختلفة ومعناهما مختلف وإن تشابها لفظًا ومعنى في بعض الأمور. الثاني: أنه لو كان مشتقًا من الضم فالضم قدر مشترك بين ضم يطالبُ معه استقلالًا وبدلًا، والأعم لا يستلزم الأخص (¬5). [حيلة بتعليق الضمان بالشرط] وإذا عرف هذا وأراد (¬6) الضامن الدخول [عليه] (¬7) فالحيلة أن يعلق الضمان بالشرط فيقول: إن توِيَ المالُ على الأصيل (¬8) فأنا ضامن له، ولا يمنع تعليق [الضمان] (¬9) بالشرط وقد صرح القرآن بتعليقه بالشرط، وهو محض القياس؛ فإنه ¬
[حكم عقد الإجارة المبهم]
التزام، فجاز تعليقه بالشرط كالنذر (¬1)، و"المؤمنون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا" (¬2) وهذا ليس واحدًا منهما، و"مقاطع الحقوق عند الشروط" (¬3)، فإن خاف من قاصر في الفقه (¬4) غير راسخ في حقائقه فَلْيَقل: "ضمنت لك هذا الدين عند تعذر استيفائه ممن هو عليه" فهذا ضمان مخصوص بحالة مخصوصة فلا يجوز إلزامه به في غيرها، كما لو ضمن الحال مؤجلًا أو ضمنه في مكان دون مكان، فإن خاف من إفساد هذا أيضًا فليشهد عليه أنه لا يستحق المطالبة له به إلا عند تعذر مطالبة الأصيل، وأنه متى طالبه أو ادعى عليه به مع قدرته على الأصيل كانت دعواه باطلة، واللَّه أعلم. [حكم عقد الإجارة المبهم] المثال الخامس (¬5) والستون: قد تدعو الحاجة إلى أن يكون عقد الإجارة مبهمًا غير معين، فمثاله أن يقول له: إنْ ركبت هذه الدابة إلى أرض كذا [فلك عشرة وإن ركبتها إلى أرض كذا فلك] (¬6) خمسة عشر، أو يقول: إن خِطْتَ هذا القميص اليوم فلك درهم، كان خطته غدًا [فلك] (¬7) فنصف درهم، وإن زرغتَ هذه الأرض حنطة فأجرتها مئة، أو شعيرًا فأجرتها خمسون، ونحو ذلك؛ فهذا (¬8) كله جائز صحيح، لا يدل على بطلانه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس، بل هذه الأدلة تقتضي صحته، كان كان فيه نزاع متأخر (¬9)، فالثابت عن الصحابة رضي اللَّه عنهم الذي لا يُعْلَم عنهم فيه نزاع جوازه كما ذكره البخاري في "صحيحه" عن عمر أنه دفع أرضه إلى مَنْ يزرعها وقال: إن جاء عمر بالبذْرِ من عنده فله كذا، كان جاءوا بالبذر فلهم كذا (¬10)، ولم يخالفه صحابي واحد، ولا محذور في ذلك، ولا خطر، ولا غَرَر، ولا أهل مال بالباطل، ولا جهالة تعود إلى العمل ولا إلى العوض، فإنه لا يقع إلَّا معينًا، والخِيَرَةُ إلى الأجير؛ أيَّ ذلك أحَبَّ أن يستوفي فَعَلَ، فهو كما لو قالماله: أي ثوب أخذته من هذه الثياب فقيمته (¬11) ¬
[الحيلة على جواز عقد الإجارة المبهم]
كذا، أو أي دابة ركبتها فأجرتها كذا، أو أجرة هذه الفرس كذا أو أجرة (¬1) هذا الحمار كذا، فأيها شئت فخذه، أو ثمن هذا الثوب مئة وثمن هذا مئتان، ونحو ذلك مما ليس فيه غرر ولا جهالة ولا ربا ولا ظلم، فكيف تأتي الشريعة بتحريمه؟ وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على فعله، وكثير من المتأخرين من أتباع الأئمة يبطل [مثل] (¬2) هذا العقد. [الحيلة على جواز عقد الإجارة المبهم] فالحيلة على جوازه أن يقول: استأجرتك لتخيطه اليوم بدرهم، فإن (¬3) خطته غدًا فلك أجرة [مثله] (¬4) نصف درهم، وكذا يقول: أجرتك هذه الدابة إلى أرض كذا بعشرة، [فإن ركبتها إلى أرض كذا] (¬5) وكذا فعليك أجرة مثلها كذا وكذا، فإن خاف أن تكون يده يد عُدوَانٍ ضمنه (¬6) فليقل: فإذا انقضت المسافة الأولى فهي أمانة عندك، هذا عند من لم يصحح الإجارة المضافة، ومن صححها فالحيلة عنده أن يقول: فإذا قطعت هذه المسافة فقد آجرتكها إلى مسافة كذا [وكذا] (4)، فإذا انتهت آجرتكها إلى مسافة [كذا] (4) وكذا، فإن خشي المستأجر أن ينقضي شغله قبل ذلك فيبقي عقد الإجارة لازمًا له وقد فرغ شغْلُه فالحيلة أن يقول: إذا انقضت المسافة أو المدة فقد وكلتك في إجارتها لمن شئت، فليؤجرها لغيره ثم يستأجرها منه، فإن خاف أن لا تتمَّ هذه الحيلة على أصل مَنْ لا يجوز تعليق الوكالة بالشرط فليوكله في الحال وكالة غير معلقة، ثم يعلق تصرفه بالشرط، فيقول: أنت وكيلي في إجارتها، [فإذا انقضَتِ المدة فقد أذنت لك في إجارتها] (¬7). وقال القاضي أبو يعلى في كتاب "إبطال الحيل": إن احتال في إجازة هذا الشرط فقال: استأجرها إلى دمشق بكذا، ومن دمشق إلى الرملة بكذا، ومن الرملة إلى مصر بكذا، جاز [له] (¬8)؛ لأنه إذا سمى لكل من المسافتين أجرة معلومة فكل واحدة منهما كالمعقود عليه على حاله، فلا يمنع صحة العقد. قلت: ولكن لا تنفعه هذه الحيلة إذا انقضى غرضُه عند المسافة الأولى، ¬
[بيع المقاثي والباذنجان بعد بدو صلاحها]
ويبقى عقد الإجارة لازمًا له فيما وراءها، فتصير كما لو استأجرها إلى مصر فانقضى غرضه في الرملة، فما الذي أفاده تعددُ العقود؟ فوجود هذه الحيلة وعدمها (¬1) سواء، فالوجه ما ذكرناه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. [بيع المقاثي والباذنجان بعد بدو صلاحها] المثال السادس (¬2) والستون: يجوز بيع المَقَاثي (¬3) والباذنجان ونحوها (¬4) بعد أن يبدو صلاحهما كما تباع الثمار في رؤوس الأشجار (¬5)، ولا يمنع من صحة البيع تلاحُقُ المبيع شيئًا بعد شيء، كما لم يمنع ذلك صحة بيع التوت والتين وسائر ما يخرج شيئًا بعد شيء، هذا محض القياس، وعليه تقوم مصالح بني آدم، ولا بد لهم منه، ومَنْ منع بيع ذلك إلا لقطة لقطة فمع أن ذلك متعذر في الغالب لا سبيل إليه إذ (¬6) هو في غاية الحرج والعسر فهو مجهول لا ينضبط ولا ما هي اللقطة المبيعة أهي الكبار أو الصغار أو المتوسط أو بعض ذلك؟ وتكون المقثأة كبيرة جدًا لا (¬7) يمكن أخذ اللقطة الواحدة إلا في أيام متعددة فيحدث كل يوم لقطة أخرى تختلط بالمبيع ولا يمكن تميزها منه ولا سبيل إلى الاحتراز من ذلك إلا أن يجمع دوابَّ المصر كلها في يوم واحد، ومَنْ أمكنه من القَطَّافين ثم يقطع الجميع في يوم واحد ويعرضه للتلف والضياع، وحاشا أكمل الشرائع -بل غيرها من الشرائع- أن تاتي بمثل هذا، وإنما هذا من الأغلاط الواقعة بالاجتهاد، وأين حرم اللَّه تعالى ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- على الأمة ما (¬8) هم أحوج الناس إليه [ثم] (¬9) أباح ¬
[قسمة الدين المشترك]
لهم نظيره؟ فإن كان هذا غَرَرًا (¬1) فبيع الثمار المتلاحقة الأجزاء غرر، وإن [لم] (¬2) يكن ذلك غررًا فهذا مثله، والصواب أن كليهما ليس غررًا [لا] (¬3) لغة ولا عرفًا ولا شرعًا؛ ودعوى أن ذلك غرر دعوى بلا برهان، فإن ادعى ذلك على اللغة طولب بالنقل، ولن يجد إليه سبيلًا، وإن ادعى ذلك على العرف فالعرف شاهد بخلافه، وأهل العرف لا يعدون ذلك غَررًا، وإن ادعاه على الشرع طولب بالدليل الشرعي، فإن بُلي بمن يقول هكذا في الكتاب وهكذا قالوا؛ فالحيلة في الجواز أن يشتري ذلك بعروقه، فإذا استوفى ثمرته تصرَّف في العروق بما يريد. والمانعون يُجَوِّزون هذه الحيلة، ومن المعلوم أن العروق غير مقصودة، وإنما المقصود الثمرة، فإن امتنع البيع لأجل الغرر فالغرر لم يزل بملك العروق، وهذا في غاية الظهور، وبيع ذلك كبيع الثمار، وهو قول أهل المدينة (¬4)، وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا (¬5). [قسمة الدين المشترك] المثال السابع والستون (¬6): تجوز قسمة الدَّيْن المشترك بميراث أو عقد [أو] (¬7) إتلافِ فينفرد كل من الشريكين بحصته، ويختص بما قبضه، سواء كان في ذمة واحدة أو في ذمم متعددة، فإنَّ الحق لهما فيجوز أن يتفقا على قسمته أو على (¬8) بقائه مشتركًا ولا محذور في ذلك، بل هذه أولى بالجواز من قسمة المنافع بالمهاياة بالزمان أو بالمكان، ولا سيما فإن المهايأة بالزمان تقتضي تقدم أحدهما على الآخر، وقد تسلم (¬9) المنفعة ¬
إلى نَوْبة الشريك، وقد تتوى (¬1)، والدين في الذمة (¬2) يقوم مقام العين، ولهذا تصح المعاوضة عليه من الغريم وغيره، وتجب على صاحبه زكاته إذا تمكَّن من قبضه، ويجب عليه الإنفاق على أهله وولده ورقيقه منه، ولا يُعدّ فقيرًا معدمًا، فاقتسامه يجري مجرى اقتسام الأعيان والمنافع، فإذا رضي كل من الشريكين أن يختص بما يخصه من الدين فينفرد هذا برجل يطالبه وهذا برجل يطالبه، أو ينفرد هذا بالمطالبة بحصته وهذا بالمطالبة بحصته، لم يهدما بذلك قاعدة من قواعد الشريعة، ولا استحلا (¬3) ما حرَّم اللَّه، ولا خالفا (¬4) نص كتاب اللَّه ولا سنة رسوله ولا قول صاحب ولا قياسًا (¬5) شهد له الشرع بالاعتبار، وغاية ما يقدر (¬6) عدم تكافؤ الذمم ووقوع التفاوت فيها، وأنَّ (¬7) ما في الذمة لم يتعيَّن فلا يمكن قسمته، وهذا لا يمنع تراضيهما بالقسمة مع التفاوت، فإن الحق لا يعدوهما، وعدم تعين ما في الذمة لا يمنع القسمة فإنه يتعين تقديرًا، ويكفي في إمكان (¬8) القسمة التعين بوجه، فهو معين تقديرًا ويتعين بالقبض تحقيقًا، وأما قول أبي الوفاء ابن عقيل: "لا تختلف الرواية عن أحمد في جواز (¬9) قسمة الدَّين في الذمة الواحدة، واختلفت الرواية [عنه] (10) في جواز قسمته إذا كان في الذمتين، فعنه [فيه] (¬10) روايتان"، فليس كذلك، بل عنه في كل من الصورتين روايتان، وليس في أصوله ما يمنع جواز القسمة، كما ليس في أصول الشريعة ما يمنعها، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة على الجواز، وأما من منع من القسمة فقد تشتد الحاجة إليها، فيحتاج إلى التحيّل عليها، فالحيلة أن يأذن لشريكه أن يقبض من الغريم ما يخصه، فإذا فعل لم يكن لشريكه أن يخاصمه (¬11) فيه بعد الإذن، على الصحيح من المذهب ¬
[بيع المغيبات في الأرض]
كما صرَّح به الأصحاب، وكذلك (¬1) لو قبض حصته ثم استهلكها قبل المحاصَّة لم يضمن (¬2) لشريكه شيئًا، وكان المقبوض من ضمانه خاصة، وذلك أنه لما أذن لشريكه في قبض ما يخصه فقد أسقط حقه من المحاصة، فيختص الشريك بالمقبوض، وأما إذا استهلك الشريك ما قبضه فإنه لا يضمن لشريكه حصته منه قبل المحاصة؛ لأنه لم يدخل في ملكه، ولم يتعين له بمجرد قبض الشريك له، ولهذا لو وفَّى شريكه نظيره لم يقل انتقل إلى القابض الأول ما كان ملكًا (¬3) للشريك، فدل على أنه إنما يصير ملكًا له بالمحاصّة لا بمجرد قبض الشريك. ومن الأصحاب من فرق بين كون الدَّين بعقد وبين كونه بإتلاف أو إرث، ووجه الفرق أنه إذا كان بعقد فكأنه عقد مع الشريكين، فلكل منهما أن يطالب بما يخصه، بخلاف دَيْن الإرث والإتلاف، واللَّه أعلم (¬4). [بيع المغيَّبات في الأرض] المثال الثامن (¬5) والستون: اختلف الفقهاء في جواز بيع المغيبات في الأرض من البصل والثوم والجزر (¬6) واللفت والفجل والقلقاس ونحوها على قولين (¬7): أحدهما: المنع من بيعه كذلك لأنه مجهول غير مشاهد، والوَرَق لا يدل على باطنه، بخلاف ظاهر الصُّبرة. وعند أصحاب هذا القول لا يباع حتى يُقلع. والقول الثاني: يجوز بيعه كذلك على ما جَرَت به عادة أصحاب الحقول. وهذا قول أهل المدينة (¬8)، وهو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد (¬9)، اختاره ¬
شيخنا (¬1)، وهو الصواب المقطوع به فإن في المنع من بيع ذلك حتى يقلع أعظم الضرر والحرج والمشقة مع ما فيه من الفساد الذي لا تأتي به شريعة، فإنه إن قلعه كله في وقت واحد تعرَّض للتلف والفساد. وإن قيل: "كما أردت بيع شيء منه فاقلعه" كان فيه من الحرج والعُسْر ما هو معلوم. وإن قيل: "اتركه في الأرض [حتى] (¬2) يفسد ولا تبعه فيها" فهذا لا تأتي به شريعة، وبالجملة فالمفتون بهذا القول لو بُلوا بذلك في حقولهم (¬3) أو ما هو وقف عليهم ونحو ذلك لم يمكنهم إلا بيعه في الأرض ولا بد، أو إتلافه وعدم الانتفاع به، وقول القائل: "إن هذا غرر ومجهول" فهذا ليس حظّ الفقيه ولا هو من شأنه، وإنما هذا من شأن أهل الخبرة بذلك، فإن عَدُّوه قمارًا أو غررًا فهم أعلم بذلك، وإنما حظُ الفقيه: يحل كذا لأن اللَّه أباحه ويحرم كذا لأن اللَّه حرمه وقال اللَّه تعالى وقال رسوله وقال الصحابة، وأما أن يرى هذا (¬4) خطرًا وقمارًا أو غررًا فليس من شانه بل أربابه أخبر بهذا منه، والمرجع إليهم فيه، كما يرجع إليهم في كون هذا الوصف عيبًا أم لا، وكون هذا البيع (¬5) مربحًا أم لا، وكون هذه السلعة نافقة في وقف كذا وبلد كذا (¬6)، ونحو ذلك من الأوصاف الحسية والأمور العرفية، فالفقهاء بالنسبة إليهم فيها مثلهم بالنسبة إلى ما في (¬7) الأحكام الشرعية. فإن بليت بمن يقول: هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا؛ فالحيلة في الجواز أن تستأجر منه الأرض المشغولة بذلك مدة يعلم فراغه منها، ويقر له إقرارًا مشهودًا [له] (¬8) به أن ما في باطن الأرض [له] (¬9) لا حق للمؤجِّر فيه، ولكن عكس هذه الحيلة (¬10) لو أصابته آفة لم يتمكن من وضع الجائحة عنه، بخلاف ما إذا اشتراه بعد بدوّ صلاحه فإنه كالثمرة على رؤوس الشجر إن (¬11) أصابته آفة وضعت عنه الجائحة، وهذا هو الصواب في المسألتين: جواز بيعه، ووضع الجوائح فيه، واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. ¬
[المبايعة يوميا والقبض عند رأس الشهر]
[المبايعة يوميًا والقبض عند رأس الشهر] المثال التاسع (¬1) والستون: اختلف (¬2) الفقهاء في جواز البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت العقد (¬3)، وصورتها البيع ممن يعامله من خبّاز أو (4) لحّام أو (¬4) سمّان أو (4) غيرهم، يأخذ منه كل يوم شيئًا معلومًا ثم يحاسبه عند رأس الشهر أو السنة على الجميع ويعطيه ثمنه (¬5)، فمنعه الأكثرون وجعلوا القبض به غير ناقل للملك (¬6)، وهو قبض فاسد يجري مجرى المقبوض بالغَصْب؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد. هذا، وكلهم إلا من شدَّد على نفسه يفعل ذلك، ولا (¬7) يجد منه بدًا، وهو يفتي ببطلانه، وأنه باقٍ على ملك البائع (¬8)، ولا يمكنه التخلص من ذلك إلا بمساومته له عند كل حاجة يأخذها قلَّ ثمنها أو أكثر، كان كان ممن شَرَطَ الإيجاب والقبول لفظًا، [فلا بد مع المساومة أن يقرن بها الإيجاب والقبول لفظًا] (¬9). والقول الثاني -وهو الصواب المقطوع به، وهو عمل الناس في كل عصر ومصر- جواز البيع بما ينقطع به السعر، وهو منصوص الإمام أحمد، واختاره شيخنا (¬10)، وسمعتُه يقول: هو أطيب لقلب المشتري من المساومة، يقول: لي أسوةٌ بالناس آخذ بما يأخذ به غيري، قال رحمه اللَّه ورضي عنه: والذين يمنعون من ذلك لا يمكنهم تركه، بل هم واقعون فيه، وليس في كتاب اللَّه تعالى ولا سنة رسوله (¬11) ولا إجماع الأمة ولا قول صاحب ولا قياس صحيح ما يحرِّمه، وقد أجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل، وأكثرهم يجوِّز (¬12) عقد الإجارة بأجرة المثل كالنكاح (¬13) والغَسَّال والخبَّاز والملَّاح وقيّم الحَمّام والمكاري (¬14)، والبيع بثمن المثل كبيع ماء الحمام، فغاية البيع بالسعر أن يكون بيعًا (¬15) بثمن ¬
[توكيل الدائن في استيفاء الدين من غلة الوقف]
المثل، فيجوز، كما تجوز المعاوضة بثمن المثل (¬1) في [مثل] (¬2) هذه الصورة وغيرها، فهذا هو القياس الصحيح، ولا تقوم مصالح الناس إلا به. فإن بليت بالقائل: هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا؛ فالحيلة في الجواز أن يأخذ ذلك قرضًا في ذمته، فيجب عليه للدافع مثله، ثم يعاوضه عليه بثمن معلوم، فإنه بيع للدَّين من الغريم وهو جائز. ولكن في هذه الحيلة آفة، وهو (¬3) أنه قد يرتفع السعر فيطالبه بالمثل فيتضرر الآخذ، وقد ينخفض فيعطيه المثل فيتضرر الأول، فالطريق الشرعية التي لم يحرمها اللَّه و [لا] (2) رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بهما، واللَّه أعلم. [توكيل الدائن في استيفاء الدَّين من غلة الوقف] المثال السبعون (¬4): إذا كان له عليه دين، وله وقف من غلة دار أو بستان، فوكَّل صاحب الدين أن يستوفي ذلك من دينه جاز، فإن خاف أن يحتال عليه ويعزله عن الوكالة، فليجعلها حوالة على من في ذمته عوض ذلك المغل، فإن لم يكن قد آجر الدار أو الأرض لأحد، فالحيلة أن يستأجرها منه صاحب الدين بعوض في ذمته، ثم يعاوضه (¬5) بدينه من ذلك العوض، فإن أراد أن يكون هو وكيله في استيفاء دينه من تلك المنافع لا بطريق الإجارة ولا بطريق الحوالة، بل بطريق الوكالة في قبض ما يصير إليه من غلَّة ذلك الوقف، وخاف عزله، فالحيلة أن يأخذ إقراره أن الواقف شَرَط أن يقضي ما عليه من الدَّين أولًا، ثم يصرف إليه بعد الدين كذا وكذا، وأنه وجب لفلان -وهو الغريم- عليه من الدين كذا وكذا، وأنه يستحقه من مغل هذا الوقف مقدمًا به على سائر مصارف الوقف، وأنه لا ينتقل من الموقوف شيء قبل قضاء الدين، وأن ولاية أمر هذا الوقف إلى فلان حتى يستوفي دينه، فإذا استوفاه فلا ولاية له عليه، كان حكم حاكم بذلك كان أوفق. [تعليق الإبراء بالشرط] المثال الحادي والسبعون (¬6): إذا كان له عليه دين فقال: "إن متَّ قبلي فأنت ¬
[استدراك الأمين لما غلط فيه]
في حل، كان مت قبلك فأنت في حل" صح وبرئ في الصورتين، فإنَّ إحداهما وصية والأخرى إبراء معلق بالشرط، ويصح تعليق الإبراء بالشرط؛ لأنه إسقاط، كما يصح تعليق العتق والطلاق، وقد نص (¬1) الإمام أحمد رحمه اللَّه في الإحلال من العرض والمال مثله. وقال أصحابنا وأصحاب الشافعي: إذا قال: "إن مت قبلك فأنت في حل" هو إبراء صحيح لأنه وصية، كان قال: "إن مت قبلي فأنت في حل" لم يصح، لأنه تعليق للإبراء بالشرط، ولم يقيموا شبهة فضلًا عن دليل صحيح على امتناع تعليق الإبراء بالشرط، ولا يدفعه نص ولا قياس ولا قول صاحب، فالصواب صحة الإبراء في الموضعين، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حيلة. فإن بلي بمن يقول: هكذا في الكتاب، وهكذا قالوا؛ فالحيلة أن يشهد عليه أن لا يستحق عليه شيئًا (¬2) بعد موته من هذا الدَّين ولا في تركته، وإن [شاء] (¬3) كتب الفصلين في سجل واحد، وضمَّنه الوصية له به إن مات رب الدين، وإن مات المدين فلا (¬4) حق له به قبله، فيصح حينئذ مستندًا إلى ظاهر الإقرار، وهو إبراء في المعنى واللَّه سبحانه أعلم (¬5). [استدراك الأمين لما غلط فيه] المثال الثاني والسبعون (¬6): لو غَلِط المضارب أو الشريك وقال: "ربحت ألفًا" ثم أراد الرجوع لم يقبل منه؛ لأنه إنكار بعد إقرار، ولو أقام بينة على الغلط فالصحيح أنها تُقبل، وقيل: لا تقبل؛ لأنه مكذب لها؛ فالحيلة في استدراكه ما غلط فيه بحيث تقبل منه أن يقول: خسرتها بعد أن ربحتها، فالقول قوله في ذلك، ولا يلزمه الألف، وهكذا الحيلة في استدراك كل أمين لظلامته كالمودع إذا ردَّ الوديعة التي دفعت إليه ببيِّنة ولم يشهد على ردها، فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه ¬
[تصرف المدين الذي استغرقت الديون ماله]
قولان هما روايتان عن الإمام أحمد (¬1)، فإذا خاف أن لا يقبل قوله فالحيلة في تخلّصه أن يدّعي تلفها من غير تفريط، فإن حلَّفه على ذلك فليحلف (¬2) مورِّيًا متأولًا أنَّ تلفها من عنده خروجها من تحت يده ونظائر ذلك، واللَّه أعلم. [تصرف المدين الذي استغرقت الديون ماله] المثال الثالث (¬3) والسبعون: إن (¬4) استغرقت الديون ماله لم يصح تبرعه بما يضر بأرباب الديون، سواء حَجَر عليه الحاكم أو لم يحجر [عليه] (¬5)، هذا مذهب مالك واختيار (¬6) شيخنا (¬7). وعند الثلاثة يصح تصرفه في ماله قبل الحجر بأنواع التصرف، والصحيح هو القول الأول، وهو الذي لا يليق بأصول المذهب غيره، بل هو مقتضى أصول الشرع وقواعده؛ لأن حق الغرماء قد تعلَّق بماله؛ ولهذا يحجر عليه الحاكم، ولولا تعلُّق حق الغرماء بماله لم يسع الحاكم الحجر عليه، فصار كالمريض مرض الموت لما تعلق حق الورثة بماله منعه الشارع من التبرّع بما زاد على الثلث، فإن في تمكينه من التبرع بماله إبطال حق الورثة منه، وفي تمكين هذا المديان من التبرع إبطال حقوق الغرماء، والشريعة لا تأتي بمثل هذا؛ فإنها إنما جاءت بحفظ حقوق أرباب الحقوق (¬8) بكل طريق، وسدِّ الطرق المفضية إلى إضاعتها، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّاها اللَّه عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه اللَّه" (¬9)، ولا ريب أن هذا التبرع إتلاف لها، فكيف ينفذُ تبرع [من] (¬10) دعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فاعله؟ وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه اللَّه ¬
يحكي عن بعض علماء عصره من أصحاب أحمد أنه كان ينكر هذا المذهب ويضعِّفه، قال: إلى أن بُلي بغريم تبرَّع قبل الحجر عليه فقال: واللَّه مذهب مالك هو الحق في هذه المسألة، وتبويب البخاري وترجمته واستدلاله يدل على اختياره هذا المذهب، فإنه قال (¬1) في باب: (من ردَّ أمر السفيه والضعيف [العقل] وإن لم يكن حجر عليه الإمام): ويُذكر عن جابر أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رد على المتصدِّق قبل النهي ثم نهاه، فتأمل هذا الاستدلال، قال عبد الحق (¬2): أراد به -واللَّه أعلم- حديث جابر في بيع المدبر (¬3)، ثم قال البخاري في هذا الباب نفسه: وقال مالك: إذا كان لرجل [على رجل] (¬4) مال وله عبد [و] (¬5) لا شيء [له] (¬6) غيره فأعتقه لم يجز عتقه، ثم ذكر حديث: "من أخذ أموال الناس يريد أداءها أداها اللَّه عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه اللَّه" (¬7)، وهذا الذي حكاه عن مالك هو في كتب أصحابه، وقال ابن الجلاب (¬8): "ولا تجوز هبة المفلس ولا عتقه ولا صدقته إلا بإذن غرمائه، وكذلك المديان الذي لم يفلسه غرماؤه في عتقه وهبته وصدقته". وهذا القول هو الذي لا نختار غيره، وعلى هذا فالحيلة لمن تبرَّع غريمه بهبة أو صدقة (¬9) أو وقف أو عتق وليس في ماله سعة له ولدائنه (¬10) أن يرفعه إلى حاكم يرى بطلان هذا التبرع، ويسأله الحكم ببطلانه، فإن لم يكن في بلده حاكم يحكم بذلك فالحيلة أن يأخذ عليه إذا خاف منه ذلك الضمين أو الرهن، فإن بادر الغريم وتبرع قبل ذلك فقد ضاقت الحيلة على صاحب الحق، ولم يبق له غير أمر واحد، وهو التوصل إلى إقراره بأنَّ ما في يده أعيان أموال الغرماء فيمتنع التبرع بعد الإقرار، فإن قدَّم تاريخ الإقرار بطل التبرع المتقدم أيضًا، وليست هذه حيلة على إبطال حق ولا تحقيق باطل، بل على [إبطال] (¬11) جور وظلم؛ فلا بأس بها، واللَّه أعلم. ¬
[خوف الدائن من جحد المدين]
[خوف الدائن من جحد المدين] المثال الرابع (¬1) والسبعون: إذا كان له [عليه] (¬2) دين ولا بيَّنة له به، ويخاف (¬3) أن يجحده، أو له بينة [به] (¬4) ويخاف أن يمطله فالحيلة أن يستدين منه بقدر دينه إن أمكن، ولا يضره أن يعطيه به رهنًا أو كفيلًا، فإذا ثبت له في ذمته نظير دينه قاصَّه به، كان لم يرض على أصح المذاهب، فإن حذَّر غريمه من ذلك وأمكنه أن يشتري منه سلعة ولا يعين الثمن ويخرج النقد فيضعه بين يديه فإذا قبض السلعة وطلب منه الثمن قاصَّه بالدين الذي عليه، وبكل حال فطريق الحيلة أن يجعل له [عليه] (2) من الدين نظير ماله. [خوف زوج الأمة من رق أولاده] المثال الخامس (¬5) والسبعون: إذا خاف العنت ولم يجد طَوْل حرَّة وكره رق أولاده فالحيلة في عتقهم أن يشترط على السيد أن ما ولدته زوجته منه من الولد (¬6) فهم أحرار، فكل ولد تلده بعد ذلك منه فهو حر، ويصح تعليق العتق بالولادة كما لو قال لأمته: كل ولد تلدينه فهو حر، قال ابن المنذر: لا أحفظ فيه خلافًا (¬7). فإن قيل: فهل تجوّزون نكاح الأمة بدون الشرطين إذا أمن رقَّ ولده بهذا التعليق؟ قيل: هذا محل اجتهاد، ولا تأباه أصول الشريعة، وليس فيه إلا أن الولد يثبت عليه الولاء للسيد، وهو شعبة من الرق، ومثل هذا هل ينتهض سببًا لتحريم نكاح الأمة أو يقال -وهو أظهر-: أن اللَّه تعالى منع من نكاح الإماء لأنهن في الغالب لا يحجبن حجب الحرائر، وهن في مهنة ساداتهن وحوائجهن (¬8)، وهن ¬
[الحيلة في الخلاص من بيع جاريته]
برزات لا مخدرات؟ وهذه كانت عادة العرب في إمائهن (¬1)، وإلى اليوم، فصان اللَّه تعالى الأزواج أن تكون زوجاتهم بهذه المثابة، مع ما يتبع ذلك من رق الولد، وأباحه لهم عند الضرورة إليه كما أباح الميتة والدم ولحم الخنزير عند المخمصة، وكل هذا منع منه سبحانه وتعالى كنكاح غير المحصنة، ولهذا شرط تعالى في نكاحهن أن يكن {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء: 25] أي غير زانية مع من كان، ولا زانية مع خدنها (¬2)، وعشيقها دون غيره، فلم يبح [لهم] (¬3) نكاح الإماء [إلا] (¬4) بأربعة شروط: عدم الطَّوْل، وخوف العنت، وإذن سيدها، وأن تكون عفيفة غير فاجرة فجورًا عامًا ولا خاصًا، واللَّه [تعالى] (¬5) أعلم. المثال السادس (¬6) والسبعون: إذا لم تمكّنه أمته من نفسها حتى يعتقها ويتزوجها، وهو لا يريد إخراجها عن ملكه (¬7)، ولا تصبر نفسُه عنها؛ فالحيلة أن يبيعها أو يهبها لمن يثق به، ويُشهد عليه من حيث لا تعلم هي، والبيع أجود؛ لأنه لا يحتاج إلى قبض، ثم يعتقها، ثم يتزوجها، فإذا فعل [ذلك] (¬8) استردها من المشتري من حيث لا تعلم الجارية، فانفسخ النكاح، فيطؤها بملك اليمين ولا عدة عليها. [الحيلة في الخلاص من بيع جاريته] المثال السابع (¬9) والسبعون: إذا أراده من لا يملك (¬10) ردَّه على بيع جاريته منه فالحيلة في خلاصه أن يفعل ما ذكرناه (¬11) سواء، ويُشهد على عتقها أو نكاحها (¬12)، ثم يستقيله البيع، فيطؤها بملك [اليمين] (¬13) في الباطن وهي زوجته في الظاهر، ويجوز هذا لأنه يدفع به عن نفسه، ولا يسقط به حق ذي حق، كان شاء احتال بحيلة أخرى وهي إقراره بأنها وضعت منه ما يتبين (¬14) به خَلْق الإنسان ¬
فصارت بذلك أم ولد لا يمكن نقل الملك فيها فإن أحبَّ دفع التهمة عنه وأنه قصد بذلك التحيل فيبيعها (¬1) لمن يثق به، ثم يواطئ المشتري على أن يدَّعي عليه أنها وضعت في ملكه ما فيه سورة إنسان، ويقر بذلك فينفسخ البيع، ويكتب بذلك (¬2) محضرًا فإنه يمتنع بيعها بعد ذلك. المثال الثامن (¬3) والسبعون: إذا أراد أن يبيع الجارية من رجل بعينه، ولم تَطْب نفسُه بأنْ (¬4) تكونَ عند غيره، فله في ذلك أنواع من الحيل: إحداها (¬5): أن يشترط عليه أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، كما اشترطت ذلك امرأة عبد اللَّه بن مسعود عليه (¬6)، ونص الإمام أحمد على جواز [هذا] (¬7) البيع والشرط في رواية علي بن سعيد، وهو الصحيح، فإن لم تتم له هذه الحيلة لعدم مَنْ يَنفِّذها [له] (¬8) فليشترط عليه أنَّك إنْ (¬9) بعتها لغيري فهي حرة، ويصح هذا الشرط، وتعتق عليه إنْ باعها لغيره، إما بمجرد الإيجاب عند صاحب "المغني" (¬10)، وغيره، وإما بالقبول فيقع العتق عقيبه وينفسخ البيع عند صاحب "المحرَّر" (¬11)، وهذه طريقة القاضي، [قال] (¬12) في كتاب "إبطال الحيل": إذا قال: "إن بعتك هذا العبد فهو حر"، وقال المشتري: "إن اشتريته فهو حر" فباعه عتق على البائع؛ لأنه ليس له عند دخوله في ملك الآخر (¬13) حال استقرار حتى يعتق عليه بنيته (¬14) التابعة؛ لأن خيار المجلس ثابت للبائع، فملك المشتري غير مستقر، و [هو] (¬15) قول صاحب "المحرر": "وانفسخ البيع " (¬16) تقريرٌ لهذه الطريقة وأنه إنما يعتق بالقبول، ويعتق في مدة الخيار على أحد الوجوه الثلاثة؛ فإن لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح (¬17) هذا التعليق ويقول: إذا اشتراها مَلَكَها ¬
[حيلة في تعليق الطلاق قبل التزويج]
ولا تعتق بالشرط في ملك الغير كما يقوله أبو حنيفة فله حيلة أخرى وهي أن يقول: إذا بعتها فهي حرة قبل البيع، فيصح هذا التعليق، فإذا باعها حكمنا بوقوع العتق قبل البيع على أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأحمد -رضي اللَّه عنهما-، فإذا (¬1) لم تتم له هذه الحيلة عند من لا يصحح هذا التعليق فله حيلة أخرى وهي أن يقول: إذا اشتريتها فهي [حرة] (¬2) مدبرة، فيصح هذا التعليق، ويمتنع بيعها عند أبي حنيفة رحمه اللَّه فإن التدبير عنده جار مجرى العتق المعلَّق بصفة، فإذا اشتراها صارت مدبرة، ولم يمكنه بيعها عنده، فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من لا يجوز تعليق التدبير بصفة فالحيلة أن يأخذ البائع إقرار المشتري بأنه دبر هذه الجارية بعدما اشتراها، وأنه جعلها حرة بعد موته، فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من يجوز بيع المدبر -وهو الإمام أحمد ومن قال بقوله- فالحيلة أن يُشهد عليه قبل أن يبيعها منه أنه كان تزوجها من سيدها تزويجًا صحيحًا، وأنها ولدت منه ولدًا ثم اشتراها بعد ذلك فصارت أم ولده، فلا (¬3) يمكنه بيعها. فإن لم تتم له هذه الحيلة على قول من يعتبر في كونها أم ولد أن تحمل وتضع في ملكه ولا يكفي أن تلد منه في غير ملكه كما هو ظاهر مذهب أحمد والشافعي -فقد ضاقت عليه وجوه الحيل، ولم يبق له إلا حيلة واحدة وهي أن يتراضى سيد الجارية والمشتري برجل ثقة عدل بينهما فيبيعها هذا العدل بطريق الوكالة عن سيدها بزيادة على ثمنها الذي اتفقا عليه، ويزيد ما شاء، ويقبض منه الثمن الذي اتفقا عليه، فإن أراد المشتري بيعها طَالبَه بباقي الثمن الذي أظهره، ولو لم يدخلا بينهما ثالثًا بل اتفقا على ذلك فقال: "أبيعكها بمئة دينار وآخذ (¬4) منك أربعين، فإن بعتها طالبتك بباقي الثمن، كان لم تبعها لم أطالبك" جاز، لكن في توسط [العدل] (¬5) الذي يثق به المشتري كأبيه (¬6) وصاحبه، تطييب لقلبه وأمان له من مطالبة البائع له بالثمن الكثير. [حيلة في تعليق الطلاق قبل التزويج] المثال التاسع (¬7) والسبعون: إذا طلب منه ولده أو عبده أن يزوجه، وخاف أن يلحقه ضرر بالزوجة ويأمره (¬8) بطلاقها فلا يقبل، فالحيلة أن يقول له: لا ¬
[حيلة في جواز بيع المدبر]
أزوجك إلا أن تجعل أمر الزوجة بيدي، فإن وثق منه بذلك الوعد قال له بعد التزويج: أمرها بيدك، كان لم يثق منه به وخاف أنه إذا قبل العقد لا يفي (¬1) له بما وعده، فالحيلة أن لا يأذن له حتى يعلق ذلك بالنكاح، فيقول: إن تزوجتها (¬2) فأمرها بيدك، ويصح هذا التعليق على مذهب أهل المدينة وأهل العراق، فإن أراد أن يكون ذلك مجمعًا عليه فليكتب في كتاب الصداق: "وأقر الزوج المذكور أن أمر الزوجة (¬3) المذكورة بيد السيد أو الأب" فإذا وقع ما يحذره منها تمكن حينئذ من التطليق عليه، واللَّه تعالى أعلم. لكن قد يخرجه عن الوكالة بعد ذلك فلا يتم مراده، فالحيلة أن يشترط عليه أنه متى أخرجه عن الوكالة فهي طالق. [حيلة في جواز بيع المدبر] المثال الثمانون (¬4): إذا دبر عبده أو أمته جاز له بيعه ويبطل تدبيره، فإن خاف أن يرفعه العبد إلى حاكم لا يرى بيع المدبر فيحكم عليه بالمنع من بيعه، فالحيلة أن يقول: إن مت وأنت في ملكي فانت حر بعد موتي، فإذا قال ذلك تم له الأمر كما أراد، فإن أراد بيعه ما دام حيًا فله ذلك، كان مات وهو في ملكه عتق عليه، والفرق بين (¬5) أن يقول: "أنت حر بعد موتي"، [وبين أن يقول: "إن مت وأنت في ملكي فأنت حر بعد موتي"] أن هذا تعليق للعتق بصفة، وذلك (¬6) لا يمنع بيع العبد كما لو قال: "إن دخلت الدار فأنت حر" فله بيعه قبل وجود الصفة، بخلاف قوله: "أنت حر بعد موتي" فإنه جزم بحريته في ذلك الوقت، ونظير هذا أنه لو قال [له] (¬7): "إن مت قبلي فأنت في حل من الدين الذي عليك" فهو إبراء معلق بصفة، ولو قال له: "أنت في حل بعد موتي" (¬8) صح ولم يكن تعليقًا للإبراء بالشرط، ونظيره لو قال: "إن مت فداري وقف" فإنه تعليق للوقف بالشرط، ولو قال: "هي وقف بعد موتي" صح، واللَّه تعالى أعلم. ¬
[براءة أحد الضامنين بتسليم الآخر]
[براءة أحد الضامنين بتسليم الآخر] المثال الحادي (¬1) والثمانون: لو أن رجلين ضمنا رجلًا بنفسه، فدفعه أحدهما إلى الطالب، برئ الذي لم يدفع، وهذا بمنزلة رجلين ضمنا لرجل مالًا فدفعه إليه أحدهما فإنهما يبران جميعًا (¬2)؛ لأن المضمون هو إحضار واحد، فإذا سلَّمه أحدهما فقد وجد الإحضار (¬3) المضمون فبرئا جميعًا، قال القاضي: وربما ألزمه بعض القضاة الضمان بنفس المطلوب (¬4)، ولا يجعل دفع الآخر براءة للذي لم يدفع، فالحيلة أن يضمنا للطالب هذا الرجل بنفسه، على أنه إذا دفعه أحدهما فهما جميعًا بريئان، فيتخلص على قول الكل، أو يشهد أن (¬5) كل واحد منهما وكيل صاحبه في دفع هذا الرجل إلى الطالب والتبري إليه، فإذا دفعه أحدهما برئا جميعًا منه؛ لأنه إذا كان كل منهما وكيل صاحبه كان تسليمه كتسليم موكله. [زواج أحد دائني المرأة إياها بنصيبه من الدين] المثال الثاني والثمانون (¬6): قال القاضي في كتاب " [إبطال] (¬7) الحيل": إذا كان لرجلين على امرأة مال وهما شريكان، فتزوجها أحدهما على نصيبه من المال الذي عليها، لم يضمن لصاحبه شيئًا من المهر؛ لأنه لم يجعل نصيبه في ضمانه، فصار كما لو أبرأه، وربما ضمَّنه بعض الفقهاء، فالحيلة فيه أن يهب لها نصيبه مما عليها ثم يتزوجها بعد ذلك على مقدار ما وهبها، ثم تهب المرأة للزوج المهر الذي تزوجها عليه؛ لأن أحد الشريكين إذا وهب نصيبه من المال المشترك لا يضمن لكونه متبرعًا، فإذا تزوجها بعد ذلك على مهر ووهبته له حصل مقصوده وتخلص من أقاويل المختلفين. [حيلة في عدم الحنث في يمين] المثال الثالث (¬8) والثمانون: لو (¬9) حلف رجل بالطلاق أنه لا يضمن عن أحد ¬
[حيلة في ضمان شريكين]
شيئًا (¬1) فحلف آخر بالطلاق [أن] (¬2) لا بد أن تضمن عني، فالحيلة [في] (2) أن يضمن عنه، ولا يحنث، أن يشاركه ويشتري متاعًا بينه وبين شريكه، قال القاضي: فإنه يضمن عن شريكه نصف الثمن، ولا يحنث الحالف [في يمينه] (¬3)؛ لأن المحلوف عليه (¬4) عقد الضمان، وما يلزمه في مسألتنا لا يلزمه بعقد الضمان، وإنما يلزمه بالوكالة؛ لأن كل واحد من الشريكين وكيل صاحبه فيما يشتريه، فلهذا لم (¬5) يحنث في يمينه، فإن كانت بحالها ولم يكن بينه وبين المحلوف عليه شركة لكنه وكله المحلوف عليه فاشتراها لم يحنث أيضًا لما بيَّنا. [حيلة في ضمان شريكين] المثال الرابع (¬6) والثمانون: شريكان شركة عنان (¬7) ضمنا عن رجل مالًا بأمره على أنه إن أدى المال أحد الشريكين رجع به على شريكه، وإن أداه الآخر فشريكه منه بريء، وللمسألة أربع صور: إحداها (¬8): أن يقولا أينا أداه رجع به على شريكه. الثانية: عكسه. الثالثة: أن يقول: إن أديته أنا رجعت به عليك ولا ترجع به عليَّ إن أديته. الرابعة: عكسه. فالصورة الأولى والثانية لا تحتاج إلى حيلة، وأما الثالثة والرابعة فالحيلة في جوازهما أن يضمن أحد الشريكين عن المدين ما عليه لصاحبه، ثم يجيء شريكه فيضمن ما لصاحب الحق عليهما، فإذا أدَّى هذا الشريك المال رجع به على شريكه والأصيل (¬9)، وإذا أداه شريكه والأصيل لم يرجعا على الشريك بشيء؛ لأن ¬
[تحيل المظلوم على مسبة الناس للظالم]
شريكه قد صار صاحب الأصل (¬1) هاهنا، فلو رجع عليه لرجع هو عليه، فمن حيث يثبت يسقط، فلا معنى للرجوع عليه. [تحيل المظلوم على مسبة الناس للظالم] المثال الخامس (¬2) والثمانون: لا بأس للمظلوم أن يتحيل على مسبة الناس لظالمه والدعاء عليه والأخذ من عرضه، كان لم يفعل ذلك بنفسه؛ إذ لعل ذلك يردعه ويمنعه من الإقامة على ظلمه، وهذا كما لو أخذ ماله فلبس أرثَّ الثياب بعد أحسنها، وأظهر البكاء والنَّحيب والتأوه، أو اذاه في جواره فخرج من داره وطرح متاعه على الطريق، أو أخذ دابته فطرح حمله على الطريق وجلس يبكي، ونحو ذلك، فكل هذا مما يدعو الناس إلى لعن الظالم له وسبه والدعاء عليه، وقد أرشد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المظلوم بأذى جاره له إلى نحو ذلك، ففي (¬3) "السنن" و"مسند الإمام أحمد" من حديث أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- "أن رجلًا شكا إلى النبي (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- من جاره، فقال: اذهب فاصبر، فأتاه مرتين أو ثلاثًا، فقال: اذهب فاطرح متاعك في الطريق، فطرح متاعه في الطريق، فجعل الناس يسألونه فيخبرهم خبره، فجعل الناس يلعنونه: "فَعَلَ اللَّه به وفعل، فجاء إليه جاره فقال له: ارجع لا ترى مني شيئًا تكرهه" (¬5) [هذا لفظ أبي داود] (¬6). [من لطائف حيل أبي حنيفة] المثال السادس (¬7) والثمانون: ما ذكر في "مناقب أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى" أن رجلًا أتاه بالليل فقال: أَدْرِكني قبل الفجر وإلا طلقت امرأتي، فقال: وما ذاك؟ قال: تركت الليلة كلامي، فقلت لها: إن طلع الفجر ولم تكلميني فأنت طالق ثلاثًا، وقد توسلَّت إليها بكل أمران تكلمني فلم تفعل، فقال [له] (¬8): اذهب فمر مؤذن المسجد أن ينزل فيؤذن قبل الفجر، فلعلها إذا سمعته أن تكلمك، واذهب إليها وناشدها أن تكلمك قبل أن يؤذن المؤذن، ففعل الرجل، ¬
[حيلة أخرى له]
وجلس يناشدها، وأذَّن المؤذن، فقالت: قد طلع الفجر وتخلصت منك، فقال: قد كلمتيني قبل الفجر وتخلَّصتُ من اليمين (¬1)، وهذا من أحسن الحيل. [حيلة أخرى له] المثال السابع (¬2) والثمانون: قال بشر بن الوليد (¬3): كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلسه، فقال له يومًا: إني أريد التزوج بامرأة، وقد طلبوا مني من المهر فوق طاقتي، و [قد] (¬4) تعلقت بالمرأة، فقال له: أعطهم ما طلبوا منك، ففعل، فلما عقد العقد جاء إليه فقال: قد طلبوا مني المهر، فقال: احتل واقترض وأعطهم ففعل، فلما دخل بأهله قال: إني أخاف المطالبين بالدين وليس عندي ما أوفيهم (¬5)، فقال: أظْهر أنك تريد سفرًا بعيدًا، وأنك تريد الخروج بأهلك، ففعل، واكترى جمالًا، فاشتد ذلك على المرأة وأوليائها، فجاءوا إلى أبي حنيفة رحمه اللَّه، فسألوه، فقال: له أن يذهب بأهله حيث شاء، فقالوا: نحن نرضيه ونرد إليه ما أخذنا منه ولا يسافر، فلما سمع الزوج طمع وقال (¬6): لا واللَّه حتى يزيدوني، فقال له: إن رضيت بهذا، وإلا أقرَّت المرأة أن عليها دَيْنًا لرجل، فلا يمكنك أن تخرجها حتى توفيه. فقال: باللَّه لا يسمع أهل المرأة ذلك منك (¬7)، أنا أرضى بالذي أعطيتهم (¬8). [تعليق الفسخ والبراءة بالشروط] المثال الثامن (¬9) والثمانون: قال القاضي أبو يعلى: إذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مئة درهم يؤديها إليه في شهر كذا فإن لم يفعل وأخَّرها إلى شهر (¬10) آخر فعليه مئتان، فهو جائز، وقد أبطله قوم آخرون، ¬
قال (¬1): أما جواز الصلح من ألف على مئة (¬2) فالوجه فيه أن التسع مئة لا يستفيدها بعقد الصلح وإنما استفادها بعقد المداينة وهو العقد السابق؛ فعلم أنها ليست مأخوذة على وجه المعاوضة (¬3)، وإنما هي على طريق الإبراء عن بعض حقه، قال: ويفارق هذا إذا كانت له ألف مؤجلة فصالحه على تسع مئة حالة أنه لا يجوز؛ لأنه استفاد هذه التسع مئة بعقد الصلح؛ لأنه لم يكن مالكًا لها (¬4) حالَّة، وإنما كان يملكها مؤجلة، فلهذا لم يصح. وأما جوازه على الشرط المذكور -وهو أنه إنْ لم يفعل فعليه مئتان- فلأن المصالح إنما علَّق فسخَ البراءة بالشرط، والفسخ يجوز تعليقه بالشرط وإن لم يجز تعليق البراءة بالشرط، ألا ترى أنه لو قال: "أبيعك هذا الثوب بشرط أن تنقدني الثمنَ اليوم، فإن لم تنقدني الثمن اليوم فلا بيعَ بيننا" [أنه] (¬5) إذا لم ينقد الثمن في يومه انفسخ العقد بينهما، كذلك هاهنا، ومَنْ لم يُجِز (¬6) ذلك يقول: هذا تعليق براءة المال بالشرط، وذلك لا يجوز، قال: والوجه في جواز هذا الصلح على مذهب الجميع أن يعجل (¬7) رب المال حطَّ ثمان مئة يحطّها على كل حال، ثم يصالح المطلوب من المئتين الباقيتين على مئة يؤديها إليه في شهر كذا على أنه إنْ أخَّرها عن هذا الوقت فلا صلح بينهما، فإذا فعل هذا فقد استوثق في قول الجميع؛ لأنه متى صالحه على مئتين و [قد] (¬8) حطَّ عنه الباقي يصير كأنه لم يكن عليه من الدَّين إلا مئتا درهم، ثم صالحه عن (¬9) المئتين الباقيتين على مئة يؤدّيها إليه في شهر كذا، فإنْ أخَّرها فلا صلح بينهما، فيكون [على] (¬10) قول الجميع فسخ العقد معلّقًا بترك النقد، وذلك جائز على ما بينّاه في البيع. فإن أراد أن يكاتب عبده على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فعليه ألف أخرى، فهي كتابة (¬11) فاسدة؛ لأنه علَّق إيجاب المال بخطر، وتعليق ¬
[صلح الشفيع من الشفعة]
المال بالأخطار لا يجوز، والحيلة في جوازه أن يكاتبه على ألفي درهم، ويكتب عليه بذلك كتابًا، ثم يصالحه بعد ذلك على ألف درهم يؤديها إليه في سنتين فإن لم يفعل فلا صلح بينهما، فيكون تعليقًا للفسخ بخطر، وذلك جائز على ما قدمناه من مسألة البيع؛ فإن كان السيد كاتب عبده على ألفي درهم إلى سنتين فأراد العبد أن يصالح سيّده على النصف يعجلها له؛ فإن ذلك جائز عندنا، ويبطله غيرنا، انتهى كلامه. [صلح الشفيع من الشفعة] المثال التاسع (¬1) والثمانون: قال القاضي: إذا اشترى رجل من رجل دارًا بالف درهم؛ فجاء الشفيع يطلب الشفعة؛ فصالحه المشتري على أن أعطاه نصف الدار بنصف الثمن، جاز؛ لأن الشفيع صَالحَ على بعض حقه، وذلك جائز كما لو صالح من ألف على خمس مئة؛ فإن صالحه على بيت من الدار بحصته من الثمن لم يجز؛ لأنه صالح على شيء مجهول؛ لأن ما يأخذه الشفيع يأخذه على وجه المعاوضة، وحصة المبيع [من الثمن] (¬2) مجهولة، وجهالة العوض تمنع صحة العقد؛ فالحيلة حتى يسلم البيت للشفيع والدار للمشتري أن يشتري الشفيع هذا البيت من المشتري بثمن مسمَّى، ثم يسلم الشفيع للمشتري ما بقي من الدار، وشراء الشفيع لهذا البيت تسليم للشفعة، ومساومته بالبيت (¬3) تسليم للشفعة؛ لأنه إذا اشتراه بثمن مسمَّى كان عوض البيت معلومًا، ودخوله في شراء البيت تسليم للشفعة فيما بقي من الدار، وذلك جائز؛ فالحيلة (¬4) أن يأخذ البيت بهذا الثمن المسمى من غير أن يكون مسلمًا للشفعة حتى يجب له البيت أن يبدأ المشتري فيقول للشفيع: هذا البيت ابتعتُه لك بكذا وكذا درهمًا، فيقول الشفيع: قد رضيتُ واستوجبتُ؛ لأن المشتري متى ابتدأ بقوله: "هذا البيت لك بكذا" لم يكن الشفيع مسلمًا للشفعة. [مشاركة العامل للمالك وأنواعها] المثال التسعون (¬5): تجوز المغارسة عندنا على شجر الجوز وغيره، بأن يدفع ¬
[كل ما مضى شركة صحيحة]
إليه أرضه ويقول: اغرسها من الأشجار كذا وكذا والغرس بيننا نصفان (¬1)، وهذا كما يجوز أن يدفع إليه ماله يتجر فيه والربح بينهما نصفان (1)، وكما يدفع إليه أرضه يزرعها والزرع بينهما، وكما يدفع إليه شجرة يقوم عليها والثمر (¬2) بينهما، وكما يدفع إليه بقره أو غنمه أو إبله يقوم عليها (¬3) والدَّرُّ والنَّسْل بينهما، وكما يدفع إليه زيتونه يعصره والزيت بينهما، وكما يدفع إليه دابته يعمل عليها والأجرة بينهما، وكما يدفع إليه فرسه يَغْزُو عليها وسهمها بينهما، وكما يدفع إليه قناة يستنبط ماءها والماء بينهما، ونظائر ذلك. [كل ما مضى شركة صحيحة] فكل (¬4) ذلك شركة صحيحة قد دلَّ على جوازها النص والقياس واتفاق الصحابة ومصالح الناس، وليس فيها ما يوجب تحريمها من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس ولا مصلحة ولا معنى صحيح يوجب فسادها، والذين منعوا ذلك (¬5) عذرهم أنهم ظنوا ذلك كله من باب الإجارة فالعوض مجهول فيفسد (¬6). [حكم المساقاة والمزارعة والمضاربة] ثم منهم من أجاز المساقاة والمزارعة للنص الوارد فيها والمضاربة للإجماع (¬7) دون ما عدا ذلك، ومنهم من خص الجواز بالمضاربة، ومنهم من جوَّز بعض أنواع المساقاة والمزارعة، ومنهم من منع الجواز فيما إذا كان بعض الأصل يرجع إلى العامل كقفيز الطَّحان وجوزه فيما إذا رجعت إليه (¬8) الثمرة مع بقاء الأصل كالدر والنسل، والصواب جواز ذلك كله، وهو مقتضى أصول الشريعة وقواعدها؛ فإنه من باب المشاركة التي يكون العامل فيها شريك المالك؛ هذا بماله وهذا بعمله، وما رزق (¬9) اللَّه فهو بينهما، وهذا عند طائفة من أصحابنا أولى بالجواز من الإجارة، [حتى] قال شيخ الإسلام (¬10): هذه المشاركات أحل من ¬
الإجارة، قال: لأن المستأجر يدفع ماله وقد يحصل له مقصوده وقد لا يحصل، فيفوز المؤجر بالمال والمستأجر على الخطر، إذ قد يكمل الزرع وقد لا يكمل، بخلاف المشاركة؛ فإن الشريكين في الفوز وعدمه (¬1) على السواء، إن رزق اللَّه الفائدة كانت بينهما، وإن منعها استويا في الحرمان وهذا غاية العدل؛ فلا تأتي الشريعة بحل الإجارة وتحريم هذه المشاركات، وقد أقر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المضاربة على ما كانت عليه قبل الإسلام، فضارب (¬2) أصحابه في حياته وبعد موته، وأجمعت عليها الأمة (¬3)، ودفع خيبر إلى اليهود يقومون عليها ويعمرونها من أموالهم بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع (¬4)، وهذا كأنه رأي عين، [ثم] (¬5) لم ينسخه ولم ينه عنه ولا امتنع منه خلفاؤه الراشدون وأصحابه بعده، بل كانوا يفعلون ذلك بأراضيهم وأموالهم يدفعونها إلى من يقوم عليها بجزء مما يخرج منها، وهم مشغولون بالجهاد وغيره، ولم ينقل عن رجل واحد منهم المنع إلا فيما منع منه النبي (¬6) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وهو ما قال الليث بن سعد: إذا نظر ذو البصر بالحلال والحرام علم أنه لا يجوز، ولو لم تأت هذه النصوص والآثار فلا حرام إلا ما حرمه اللَّه ورسوله، واللَّه ورسوله لم يحرم شيئًا من ذلك، وكثير من الفقهاء يمنعون [من] (¬7) ذلك، فإذا بلي الرجل بمن يحتج [في التحريم] (¬8) بأنه هكذا في الكتاب وهكذا قالوا، ولا بد له من فعل ذلك، إذ لا تقوم مصلحة الأمة إلا به، فله أن يحتال على ذلك بكل حيلة تؤدي إليه (¬9)، فإنها حيل تؤدي إلى فعل ما أباحه اللَّه ورسوله ولم يحرمه على الأمة، وقد تقدم ذكر الحيلة على جواز المساقاة والمزارعة، ونظيرها في الاحتيال على المغارسة أن يؤجّره الأرض يغرس فيها ما شاء من الأشجار لمدة (¬10) كذا وكذا سنة بخدمتها وغرس كذا وكذا من الأشجار فيها، فإن ¬
اتفقا بعد ذلك [على] (¬1) أن يجعلا لكل منها غراسًا معيَّنًا مقررًا (¬2) جاز، كان أحب (¬3) أن يكون [الجميع] (¬4) شائعًا بينهما، فالحيلة أن يقر كل منهما للآخر أن جميع ما في هذه الأرض من الغراس [فهو] (4) بينهما نصفين، أو غير ذلك، والحيلة في جواز المشاركة على البقر والغنم بجزء من درّها ونسلها أن يستأجره للقيام عليها كذا وكذا سنة للمدة التي يتفقان عليها بنصف الماشية أو ثلثها، على حسب ما يجعل له (¬5) من الدرّ والنسل، ويقر له بأن هذه الماشية بينهما نصفين أو أثلاثًا، فيصير درها ونسلها بينهما على حسب ملكيهما (¬6)، فإن خاف رب الماشية أن يدَّعي عليه العامل بملك نصفها حيث أقر له به فالحيلة أن يبيعه ذلك النّصف بثمن في ذمته، ثم يسترهنه على ذلك الثمن، فإن ادعى الملك بعد هذا طالبه بالثمن، فإن ادعى الإعسار اقتضاه من الرهن (¬7). والحيلة في جواز قفيز الطَّحان (¬8) أن يملكه جزءًا من الحبِّ أو الزيتون، إما ربعه أو ثلثه أو نصفه، فيصير شريكه فيه، ثم يطحنه أو يعصره فيكون بينهما على حسب ملكيهما فيه، فإن خاف أن يملكه ذلك فيملكه عليه ولا يحدث [فيه] (¬9) عملًا، فالحيلة أن يبيعه إياه بثمن في ذمته، فيصير شريكه فيه، فإذا عمل فيه سلم إليه بحصته أو أبرأه (¬10) من الثمن، فإن خاف الأجير أن يطالبه بالثمن [ويتسلم الجميع] (4) ولا يعطيه أجرته، فالحيلة في أمنه من ذلك أن يشهد عليه أن الأصل مشترك بينهما قبل العمل، فإذا أحدث فيه العمل فهو على الشركة. وهكذا الحيلة في جميع هذا الباب، وهي حيلة جائزة، فإنها لا تتضمن إسقاط حق ولا تحريم حلال ولا تحليل حرام [واللَّه تعالى أعلم] (¬11). ¬
[حيلة في إسقاط المحلل في السباق]
[حيلة في إسقاط المحلل في السباق] المثال الحادي والتسعون (¬1): إذا خرج المتسابقان في النِّضَال معًا جاز في أصح القولين، والمشهور من مذهب مالك أنه لا يجوز، وعلى القول بجوازه فأصح القولين أنه لا يحتاج إلى محلل كما هو مقتضى المنقول عن الصِّدِّيق (¬2)، وأبي عبيدة بن الجرَّاح (¬3)، -رضي اللَّه عنهما- واختيار شيخنا (¬4) وغيره. والمشهور من أقوال الأئمة الثلاثة (¬5) أنه لا يجوز إلا بمحلل، على تفاصيل لهم في المحلل وحكمه، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير في "الفروسية الشرعية (¬6) "، وذكرنا فيه وفي كتاب ¬
[اشتراط الخيار لأكثر من ثلاثة أيام]
"بيان الاستدلال، على بطلان اشتراط محلل السباق والنضال" بيان بطلانه من أكثر من خمسين وجهًا، وبيّنا ضعف الحديث الذي احتج به من اشترطه، وكلام الأئمة في ضعفه، وعدم الدلالة منه على تقدير صحته (¬1). والمقصود هنا بيان وجه الحيلة على الاستغناء عنه عند من يقنع بهذا (¬2) قالوا: وهكذا في الكتاب، فالحيلة على تخلّص المتسابقين المخرجين منه أن يملكا العوضين لثالث يثقان به، ويقول الثالث: أيكما سبق فالعوضان له، كان جئتما معًا فالعوضان بينكما، فيجوز هذا العقد، وهذه الحيلة ليست حيلة على جواز [أمر] (¬3) محرَّم، ولا تتضمن إسقاط حق، ولا تدخل في مأثم، فلا بأس بها، واللَّه أعلم. [اشتراط الخيار لأكثر من ثلاثة أيام] المثال الثاني والتسعون (¬4): يجوز اشتراط الخيار في البيع فوق ثلاث على أصح قولي العلماء، وهو منهب الإمام أحمد (¬5) ومالك (6) -رضي اللَّه عنهما-[على تفاصيل عند مالك] (¬6)، وقال الشافعي (¬7) وأبو حنيفة (¬8) -رضي اللَّه عنهما-: لا يجوز، وقد تدعو الحاجة إلى جوازه، لكون (¬9) المبيع لا يمكنه استعلامه في ثلاثة أيام، أو لغيبة من يشاوره ويثق برأيه، أو لغير ذلك، والقياس المحض جوازه كما يجوز تأجيل الثمن فوق ¬
[حيل في الرهن]
ثلاث، والشارع لم يمنع من الزيادة على الثلاثة، ولم يجعلها حدًا فاصلًا بين ما يجوز من المدة وما لا يجوز، وإنما ذكرها في حديث حَبَّان بن منقذ (¬1) وجعلها له بمجرد البيع كان لم يشترطه (¬2)؛ لأنه كان يُغلب في البيوع، فجعل له ثلاثًا في كل سلعة يشتريها، سواء شرط ذلك أو لم يشترطه (¬3)، هذا ظاهر الحديث، فلم يتعرض للمنع من الزيادة على الثلاثة (¬4) بوجه من الوجوه، فإن أراد الجواز على قول الجميع، فالمخرج أن يشترط الخيار ثلاثًا، فإذا قارب انقضاء الأجل فسخه ثم اشترط ثلاثًا، وهكذا حتى تنقضي المدة التي اتفقا عليها، وليست هذه الحيلة محرَّمة؛ لأنها لا تدخل في باطل، ولا تخرج من حق، وهذا بخلاف الحيلة على إيجار الوقف مئة سنة وقد شرط الواقف أن لا يؤخِّر أكثر من سنة واحدة فيتحيل (¬5) على إيجاره أكثر منها بعقود متفرقة في ساعة واحدة كما تقدَّم. [حيل في الرهن] المثال الثالث (¬6) والتسعون: إذا أراد أن يقرض رجلًا (¬7) مالًا ويأخذ منه (¬8) رهنًا، فخاف أن يهلك الرهن فيسقط من دينه بقدره عند حاكم يرى ذلك، فالمخرج له أن يشتري العين التي يريد ارتهانها بالمال الذي يقرضه، ويشهد عليه أنه لم يقبضه، فإن وثق بكونه عند البائع تركه عنده، فإن تلف تلف من ضمانه، وإن بقي تمكن من أخذه منه متى شاء، كان رد عليه المال أقاله البائع. وأحسن من هذه الحيلة أن يستودع العين قبل القرض، ثم يقرضه وهي عنده، فهي في الظاهر وديعة، وفي الباطن رهن، فإن تلفت لم يسقط بهلاكها شيء من حقه. فإن خاف الراهن أنه إذا وفاه حقه لم يقله البيع فالمخرج [له] (¬9) أن يشترط عليه الخيار إلى المدة التي يعلم أنه يوفيه فيها على قول أبي يوسف ومحمد ومالك وأحمد. فإن خاف المرتهن أن يستحق الرهن أو بعضه فالمخرج له أن يضمن درك ¬
[بيع الثمر وقد بدا صلاح بعضه دون بعضه الآخر]
الرهن غير الراهن، أو يشهد على من يخشى دعواه الاستحقاق بأنه متى ادعاه كانت دعواه باطلة، أو يضمنه الدرك نفسه. [بيع الثمر وقد بدا صلاح بعضه دون بعضه الآخر] المثال الرابع (¬1) والتسعون: إذا بدا الصَّلاح في بعض الشجرة جاز بيع جميعها وكذلك يجوز بيع ذلك النوع كله في البستان، وقال شيخنا (¬2): يجوز بيع البستان كله تبعًا لما بدا صلاحه، سواء كان من نوعه أو لم يكن، تقارب إدراكه وتلاحق (¬3) أم تباعد، وهو مذهب الليث بن سعد (¬4)، وعلى هذا فلا حاجة إلى الاحتيال على الجواز، وقالت الحنفية: إذا خرج (¬5) بعض الثمرة دون بقيتها أو خرج الجميع وبعضه قد بدا صلاحه دون بعض لا يجوز البيع، للجمع بين الموجود والمعدوم والمتقوّم وغيره، فتصير حصة (¬6) الموجود المتقوم مجهولة فيفسد البيع، وبعض الشيوخ كان يفتي بجوازه في الثمار والباذنجان ونحوهما، جعلًا المعدوم (¬7) تبعًا للموجود. وأفتى محمد بن الحسن بجوازه في الورد لسرعة تلاحقه، قال شمس الأئمة السرخسي: والأصح المنع (¬8). قالوا: فالحيلة في الجواز أن يشتري الأصول، وهذا قد لا يتأتى غالبًا، قالوا: فالحيلة أيضًا أن يشتري الموجود الذي بدا صلاحه بجميع الثمن، ويشهد عليه أنه قد أباح له ما يحدث [من] (¬9) بعد، وهذه الحيلة أيضًا قد تتعذر، إذ قد ¬
[حيلة في بيع الموكل لموكله]
يرجع (¬1) في الإباحة، كان جعلت هبة فهبة المعدوم لا تصح، كان ساقاه على الثمرة من كل ألف جزء (¬2) -مثلًا- لم تصح المساقاة عندهم، وتصح عند أبي يوسف ومحمد (¬3)، وإن آجره الشجرة لأخذ ثمرتها لم تصح (¬4) الإجارة عندهم وعند غيرهم، فالحيلة إذًا أن يبيعه الثمرة الموجودة ويشهد عليه أن ما يحدث بعدها فهو حادث على ملك المشتري، لا حَقَّ للبائع فيه، ولا يذكر سبب الحدوث، ولهم حيلة أخرى فيما إذا بدت الثمار أن يشتريها بشرط القطع، أو يشتريها ويطلق، ويكون القطع [هو] (¬5) موجب العقد ثم يتفقان (¬6) على التبقية إلى وقت الكمال، ولا ريب أن المَخْرج صها إذا بدا صلاح بعضها أو بإجارة الشجر (¬7) أو بالمساقاة أقرب إلى النص والقياس وقواعد الشرع من ذلك كما تقدم تقريره (¬8). [حيلة في بيع الموكل لموكله] المثال الخامس (¬9) والتسعون: إذا وكله أن يشتري له بضاعة، وتلك البضاعة عند الوكيل، وهي رخيصة تساوي أكثر مما اشتراها به، لا تسمح نفسه أن يبيعها بما اشتراها به فالحيلة أن يبيعها بما تساويه (¬10) بيعًا تامًا صحيحًا لأجنبي، ثم إن شاء اشتراها من لموكله، ولكن (¬11) تدخل هذه الحيلة سدًا للذرائع، إذ قد يتخذ ذلك ذريعة إلى أن يبيعها بأكثر مما تساوي فيكون قد غش الموكل، ويظهر هذا إذا اشتراها بعينها دون غيرها، فيكون قد غرَّ الموكل (¬12)، فإن كان الموكل لو اطلع على الحال لم يكره ذلك ولم يره غرورًا فلا بأس به، وإن كان لو اطلع عليه لم يرضه لم يجز، واللَّه أعلم. ¬
[مقابلة المكر بالمكر]
[مقابلة المكر بالمكر] المثال السادس (¬1) والتسعون: إذا اشترى منه دارًا وخاف احتيال البائع عليه بأن (¬2) يكون قد ملكها لبعض ولده فيتركها في يده [مدة] (¬3) ثم يدعيها عليه ويحسب سكناها بثمنها كما يفعله المخادعون الماكرون فالحيلة أن يحتاط لنفسه بأنواع من الحيل: منها: أن يضمن من يخاف منه الدرك. ومنها: أن يشهد عليه أنه إن ادّعى هو أو وكيله في الدار كانت دعوى (¬4) باطلة، وكل بينة يقيمها [فهي] (¬5) زور. ومنها: أن يضمن الدرك لرجل معروف يتمكن من مطالبته. ومنها: أن يجعل ثمنها أضعاف ما اشتراها به، فإن استحقت رجع عليه بالثمن الذي أشهد به، مثاله: أن [يتفقا على أن] (¬6) الثمن ألف فيشتريها بعشرة آلاف ثم يبيعه بالعشرة آلاف سلعة (¬7) ثم يشتريها منه بالألف (¬8)، وهي الثمن، فيأخذ الألف، ويشهد عليه أن الثمن عشرة آلاف، وأنه قبضه، وبرئ منه (¬9) المشتري، فإذا (¬10) استحقت رجع عليه بالعشرة آلاف (¬11)، وبالجملة فمقابلة الفاسد بالفاسد (¬12) والمكر بالمكر والخداع بالخداع، [و] (¬13) قد يكون حسنًا، [بل] (¬14) مأمورًا به، وأقل درجاته (¬15) أن يكون جائزًا كما تقدم بيانه. [حيلة في شراء العبد نفسه من سيده] المثال السابع (¬16) والتسعون: إذا اشترى العبد نفسه من سيده بمال يؤديه إليه، فأدى إليه معظمه، ثم جحد السيد أن يكون باعه نفسه، وللسيد في يد العبد مال أذن له في التجارة به، فالحيلة أن يشهد العبد في السر أن المال الذي في يده ¬
[حيلة في دفع الظلم]
لرجل أجنبي، فإن وفَّى له سيده بما عاقده عليه وفَّى له العبد وسلَّمه ماله، وإن غدر به تمكن العبد من الغدر به وإخراج المال عن يده، وهذه الحيلة لا تتأتى على أصل من يمنع مسألة الظفر، ولا على قول من يجيزها، فإن السيد إذا ظلمه بجحده (¬1) حقه لم يكن له أن يظلمه بمنعه ماله وأن يحول بينه وبينه فيقابل الظلم بالظلم، ولا يرجع إليه منه فائدة، ولكن فائدة هذه الحيلة أن السيد متى علم بصورة الحال وأنه متى جحده البيع حال بينه وبين ماله بالإقرار الذي يظهره منعه ذلك من جحود البيع فيكون بمنزلة رجل أمسك ولد غيره ليقتله فظفر هو بولده قبل القتل فأمسكه وأراه أنه إن قتل ولده قتل هو ولده أيضًا (¬2)، ونظائر ذلك. وكذلك إن (¬3) كان السيد هو الذي يخاف من العبد أن لا يقر له بالمال ويقر به لغيره يتواطآن عليه فالحيلة أن يبدأ السيد فيبيع العبد لأجنبي في السر، ويشهد على بيعه (¬4)، ثم يبيع العبد من نفسه، فإذا قبض المال فاظهر العبد إقرارًا بأن (¬5) ما في يده لأجنبي أظهر السيد أن بيعه (¬6) لنفسه كان باطلًا، وأن فلانًا الأجنبي قد اشتراه، فإذا علم العبد أن عتقه يبطل ولا يحصل [له] (¬7) مقصوده امتنع من التحيل على إخراج مال السيد عنه إلى أجنبي. [حيلة في دفع الظلم] ونظير هذه الحيلة إذا أراد ظالم (¬8) أخذ داره بشراء أو غيره فالحيلة أن يملكها لمن يثق به، ثم يشهد على ذلك، وأنها خرجت عن ملكه، ثم يظهر أنه وقفها على الفقراء والمساكين، ولو كان في بلده حاكم يرى صحة وقف الإنسان على نفسه وصحة استثناء الغلة له [وحده] (¬9) مدة حياته وصحة وقفه لها بعد موته فحكم له بذلك استغنى عن هذه الحيلة. ¬
[الحيلة على ثلاثة أنواع]
[الحيلة على ثلاثة أنواع] وحيل هذا الباب ثلاثة أنواع: * حيلة (¬1) عل دفع الظلم والمكر حتى لا يقع. * وحيلة على رفعه بعد وقوعه. * وحيلة على مقابلته بمثله حيث لا يمكن رفعه. فالنوعان الأولان جائزان، وفي الثالث تفصيل (¬2)، فلا يمكن القول بجوازه على الإطلاف ولا بالمنع منه على الإطلاق، بل إن كان المتحيَّلُ به حرامًا لحق اللَّه لم يجز مقابلته بمئله، كما لو جرعه الخمر أو زنى بحرمته، وإن كان حرامًا لكونه ظلمًا له في ماله وقدر على ظلمه بمثل ذلك فهي (¬3) مسألة الظفر، وقد توسع فيها قوم حتى أفرطوا وجوزوا قلع الباب ونقب الحائط وخرق السقف (¬4) ونحو ذلك لمقابلته بأخذ (¬5) نظير ماله، ومنعها قوم بالكلية، وقالوا: لو كان [له] (¬6) عنده وديعة أو له عليه دين لم يجز له أن يستوفي منه قدر حقه إلا بإعلامه [به] (¬7)، وتوسط آخرون وقالوا: إن كان سبب الحق ظاهرًا كالزوجية والأبوة والبنوة وملك اليمين الموجب للإنفاف فله أن يأخذ قدر حقه من غير إعلامه، وإن لم يكن ظاهرًا كالقرض وثمن المبيع ونحو ذلك لم يكن له الأخذ إلا بإعلامه، وهذا أعدل الأقوال في المسألة، وعليه تدل [السنة] (7) دلالة صريحة، والقائلون به أسعد بها، وباللَّه التوفيق. وإن كان بهتًا له أو كذبًا (¬8) عليه أو قذفًا له أو شهادة عليه بالزور لم يجز له مقابلته بمثله (¬9)، وإن كان دعاء عليه أو لعنًا أو مسبَّةً فله مقابلته بمثله على أصح القولين، وإن منعه كثير من الناس، وإن كان إتلاف [مال له] (¬10) فإن كان محترمًا كالعبد والحيوان لم يجز له مقابلته بمثله، وإن كان غير محترم فإن خاف تعديه فيه لم يجز له مقابلته بمثله كما لو حرق داره لم يجز له أن يحرق داره، وإن لم يتعد فيه -بل كان يفعل به نظير ما فعل به سواء كما لو قطع شجرته أو كسر إناءه أو ¬
[في الضمان والكفالة]
فتح قفصًا عن طائره أو حَلَّ وكاء مائع له أو أرسل الماء على مِسْطَاحه فذهب بما فيه ونحو ذلك وأمكنه مقابلته بمثل ما فعل سواء- فهذا محل اجتهاد لم يدل على المنع منه كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح. بل الأدلة [الصحيحة] (¬1) المذكورة تقتضي جوازه كما تقدم بيانه في أول الكتاب. وكان شيخنا -رضي اللَّه عنه- يرجح هذا ويقول: هو (¬2) أولى بالجواز من إتلاف طرفه بطرفه (¬3)، واللَّه أعلم. [في الضمان والكفالة] المثال (¬4) الثامن والتسعون: الضمان والكفالة من العقود اللازمة، ولا يمكن الضامن والكفيل أن يتخلص متى شاء، ولا سيما عند من يقول إن الكفالة توجب ضمان المال إذا تعذر إحضار المكفول به مع بقائه، كما هو مذهب الإمام أحمد ومن وافقه. وطريق التخلص من وجوه: أحدها (¬5): أن يؤقتها بمدة فيقول: ضمنته، أو تكفلت به شهرًا أو جمعة، أو نحو ذلك، فيصح. الثاني: أن يقيدها بمكان دون مكان فيقول: ضمنته أو تكفَّلْتُ (¬6) به ما دام في هذا البلد أو في هذا السوق. الثالث: أن يعلقها (¬7) على شرط فيقول: ضمنت أو كفلت (¬8) إن رضي فلان، أو يقول: ضمنت ما عليه إن كفل فلان بوجهه، ونحو ذلك. الرابع: أن يشترط في الضمان أنه (¬9) لا يطالبه حتى يتعذر مطالبة الأصيل، فيجوز هذا الشرط، بل هو حكم الضمان في أشهر الروايتين عن مالك، فلا يطالب الضامن حتى يتعذر مطالبة الأصيل، وإن لم يشترطه (¬10)، حتى لو شرط أن يأخذ من أيهما شاء كان [الشرط] (¬11) باطلًا عند ابن القاسم وأصبغ. ¬
[تعليق البيع وغيره بالشرط]
الخامس: أن يقول: كفلت بوجهه على أني بريء مما عليه، فلا يلزمه ما عليه إذا لم يحضره، بل يلزم بإحضاره إذا تمكن منه. السادس: أن يطالب المضمون عنه بأداء المال إلى ربه ليبرأ هو من الضمان إذا كان قد ضمن بإذنه، ويكون خصمًا في المطالبة، وهذا مذهب مالك، فإن ضمنه بغير إذنه لم يكن له [عليه] (¬1) مطالبته بأداء المال إلى ربه، فإن أداه عنه (¬2) فله مطالبته به حينئذ. [تعليق البيع وغيره بالشرط] المثال التاسع (¬3) والتسعون: إذا كان له داران فاشترى منه إحديهما (¬4) على [أنه] إن استحقت فالدار الأخرى له بالثمن، فهذا جائز، إذ غايته تعليق البيع بالشرط، وليس في [شيء من] (¬5) الأدلة الشرعية ما يمنع صحته، وقد نصَّ الإمام أحمد على جوازه فيمن باع جارية وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن، وفعله بنفسه لما (¬6) رهن نعله وشرط للمرتهن أنه إن جاءه (¬7) بفكاكها إلى وقت كذا وإلا فهي له بما عليها (¬8)، ونص على جواز تعليق النكاح بالشرط فالبيع أولى، ونص على جواز تعليق التولية بالشرط كما نص عليه صاحب الشرع (¬9) نصًا لا يجوز مخالفته وقد تقدم تقرير ذلك، وكثير من الفقهاء يبطل البيع المذكور؛ فالحيلة في جوازه عند الكل أن يشتري منه المشتري الدار الأخرى التي لا يريد شراءها، ويقبضها منه، ثم يشتري بها الدار التي يريد شراءها ويسلمها إليه، ويتسلم داره، فإن استحقت هذه الدار عليه رجع [في ثمنها] (¬10) وهو الدار ¬
[حيلة في شراء جارية من رجل غريب وخشي أن تكون مستحقة أو معيبة]
الأخرى وهذه حيلة لطيفة جائزة لا تتضمن إبطال حق ولا دخولًا في باطل، وهي مثال لما كان من جنسها من هذا النوع مما يخاف استحقاقه، ويشترط على البائع أخذ ما يقابله من حيوان أو رقيق (¬1) أو غير ذلك. [حيلة في شراء جارية من رجل غريب وخشي أن تكون مستحقة أو معيبة] المثال الموفي المئة (¬2): رجل أراد أن يشتري جارية أو سلعة من رجل غريب، فلم يأمن أن تستحق أو تخرج معيبة فلا يمكنه الرجوع ولا الرد، فإن قال له البائع: "أنا أوكل من تعرفه فيما تدعي به من عيب أو رجوع" لم يأمن أن يحتال عليه ويعزله فيذهب حقه، فالحيلة في التوثق أن يكون الوكيل هو الذي يتولى البيع بنفسه، ويضمن له صاحب السلعة الدرك، ويكون وكيلًا لهذا الذي تولى البيع، فيمكن المشتري حينئذ مطالبة هذا الذي تولَّى البيع بنفسه ويأمن ما يحذره. المثال الحادي بعد المئة (¬3): رجل قال لغيره: "اشتر هذه الدار -أو هذه السلعة من فلان- بكذا وكذا، وأنا أربحك فيها كذا وكذا" فخاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يريدها ولا يتمكن من الرد، فالحيلة أن يشتريها على أنه بالخيار ثلاثة أيام أو أكثر، ثم يقول للآمر: قد اشتريتها بما ذكرت، فإن أخذها منه وإلا تمكن من ردها على البائع بالخيار، فإن لم يشترها الآمر إلا بالخيار فالحيلة أن يشترط له خيارًا أنقص (¬4) من مدة الخيار التي اشترطها هو على البائع ليتسع له زمن الرد إن ردت عليه. المثال الثاني بعد المئة (¬5): إذا اشترى منه جارية أو سلعة ثم اطلع على عيب بها فخاف إن ادعى أنه اشتراها بكذا وكذا أن ينكر البائع قبض الثمن ويسأل الحاكم الحكم عليه بإقراره أو ينكر البيع ويسأله تسليم الجارية إليه فالحيلة التي تخلصه أن يردها عليه [أولًا] (¬6) فيما بينه وبينه، ثم يدّعي [عليه] (¬7) عند الحاكم ¬
[حيلة يتخلص بها من غريم يريد الإنقاص أو التأجيل]
باستحقاق ثمنها، ولا يعين السبب، فإن أقر فلا إشكال، وإن أنكر لم يلزم المشتري الثمن، فإما أن يقيم عليه بينة أو يحلفه. [حيلة يتخلص بها من غريم يريد الإنقاص أو التأجيل] المثال الثالث (¬1) بعد المئة: إذا كان له عليه مال حالٌ فأبى أنْ يُقِرَّ له به حتى يصالحه على بعضه أو يؤجله، ولا بيِّنةَ له، فأراد حيلة يتوصل بها إلى أخذ ماله كله حالًا ويبطل الصلح والتأجيل فالحيلة له أن يواطئ رجلًا يدَّعي عليه بالمال الذي له على فلان عند حاكم، فيقر له به، ويصح إقراره بالدين الذي له على الغير، فإنه قد يكون المال مضاربة فيصير ديونًا على الناس، فلو لم يصح إقرارُه به له لضاع ماله، وأما قول أبي عبد اللَّه بن حمدان في "الرعاية"، ولو قال دَيْني الذي على زيد لعمرو احتمل الصحة (¬2)، والبطلان أظهر، فهذا إنما هو فيما إذا أضاف الدين إليه ثم قال: هو لعمرو، فيصير نظير ما لو قال: ملكي كله لعمرو، أو داري هذه له فإن هذا لا يصح إقرارًا على أحد الوجهين للتناقض ويصح هبة، فأما إذا قال: "هذا الدَّين الذي على زيد لعمرو ويستحقه دوني" صح ذلك قولًا واحدًا، كما لو قال: "هذه الدار له، أو هذا الثوب له" على أن الصحيح صحة الإقرار ولو أضاف الدين أو العين إلى نفسه، ولا تناقض؛ لأن الإضافة تصدق مع كونه ملكًا للمقر له، فإنه يصح أن يقال: هذه دار فلان، إذا كان ساكنها بالأجرة، ويقول [المضارب] (¬3): دَيْني على فلان، وهذا الدين لفلان، يعني أنه يستحق المطالبة به والمخاصمة فيه، فالإضافة تصدق بدون هذا، ثم يأتي صاحب المال إلى من هو في ذمته فيصالحه على بعضه أو يؤجله ثم يجيء المقر له فيدعي على من عليه المال بجملته حالًا، فإذا أظهر كتاب الصلح والتأجيل قال المقر له: هذا باطل، فانه تصرف فيما لا يملك المصالح، فإن كان الغريم إنما أقر باستحقاف غريمه الدين مؤجلًا أو بذلك القدر منه فقط بطلت هذه الحيلة. [إيداع الشهادة] ونظير هذه الحيلة حيلة إيداع الشهادة، وصورتها أن يقول له الخصم: لا أقر لك حتى تبرئني من نصف الدين أو ثلثه، وأشهد (¬4) عليك أنك لا تستحق علي بعد ¬
[حيلة تتخلص بها امرأة من رجل عليه حق لها، ويأبى إلا إذا أقرت له بالزوجية]
ذلك شيئًا، فيأتي صاحب الحق إلى رجلين فيقول: اشهدا أني على طلب حقي كله من فلان، وأني لم أبرئه من شيء منه، وأني أريد أن أظهر مصالحته على بعضه لأتوصل (¬1) بالصلح إلى أخذ بعض حقي، وأني إذا أشهدت أني لا أستحق عليه سوى ما صالحني عليه فهو إشهاد باطل، [وأني إنما أشهدت] (¬2) على ذلك توصلًا إلى أخذ بعض حقي، فهذه تُعرف بمسألة إيداع الشهادة، فإذا فعل ذلك جاز له أن يدعي بقاءه على حقه، ويقيم الشهادة بذلك، هذا مذهب مالك، وهو مطرد على قياس مذهب أحمد وجار (¬3) على أصوله، فإن له التوصل إلى حقه بكل طريق جائز (¬4)، بل لا يقتضي المذهب غير ذلك، فإن هذا مظلوم توصل إلى [أخذ] (¬5) حقه بطريق (¬6) لم يسقط بها حقًّا لأحد (¬7)، ولم يأخذ بها ما لا يحل له أخذه، فلا خَرَجَ بها من حق، ولا دخل بها في باطل. [حيلة تتخلص بها امرأة من رجل عليه حق لها، ويأبى إلا إذا أقرت له بالزوجية] ونظير هذا أن يكون للمرأة على رجل حق، فيجحده ويأبى أن يقر به حتى تقر له بالزوجية، فطريق الحيلة أن تشهد على نفسها أنها ليست امرأة فلان، وأني أريد أن أقر له بالزوجية إقرارًا كاذبًا لا حقيقة له لأتوصَّلَ بذلك إلى أخذ مالي عنده، فاشهدوا أن إقراري بالزوجية باطل أتوصل به إلى أخذ حقي. ونظيره أيضًا أن ينكر نسب أخيه، ويأبى أن يقر له به حتى يشهد أنه لا يستحق في تركة أبيه شيئًا، وأنه قد أبرأه من جميع ماله في ذمته منها، أو أنه وهب له جميع ما يخصه منها، أو أنه قبضه أو اعتاض عنه أو (¬8) نحو ذلك، فيودع الشهادة عدلين أنه باق على حقه وأنه يظهر ذلك الإقرار توصلًا إلى إقرار أخيه بنسبه، وأنه لم يأخذ من ميراث أبيه شيئًا، ولا أبرأ أخاه، ولا عاوضه ولا وهبه. [إقرار المضطهد] وهذا يشبه إقرار المضطهد الذي [قد] (5) اضطهد ودفع عن حقه حتى يسقط ¬
[الفرق بين المضطهد والمكره]
حقًا آخر، والسلف كانوا يسمون مثل هذا مضطهدًا، كما قال (¬1) حماد بن سلمة: حدثنا حميد، عن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة وأراد (¬2) سفرًا، فأخذه أهلها، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، [فلما قدم خاصموه] (¬3) إلى علي -رضي اللَّه عنه- (¬4) فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا، فردها عليه (¬5). ومعلوم أنه لم يكن هناك إكراه بضرب ولا أخذ مال، وإنما طالبوه بما يجب [لها] (¬6) عليه من نفقتها، وذلك ليس بإكراه، ولكن لما تعنتوه باليمين جعله مضطهدًا لأنه عقد اليمين ليتوصل إلى قصده من السفر، فلم يكن حلفه عن اختيار (¬7)، بل هو كالمحمول عليه. [الفرق بين المضطهد والمكره] والفرق بينه وبين المكره أن المكره قاصد لدفع الضرر (¬8) باحتمال ما أكره عليه، وهذا قاصد للوصول إلى حقه بالتزام ما طلب منه، وكلاهما غير راض، ولا مؤثر (¬9) لما التزمه، وليس له وَطَر فيه. فتأمل هذا، ونزله على قواعد الشرع ومقاصده، وهذا ظاهر جدًّا في أن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- (¬10) لم يكن يرى الحلف بالطلاق موقعًا للطلاق إذا حنث به، وهو قول شُرَيْح وطاوس وعكرمة وأهل الظاهر وأبي عبد الرحمن الشافعي (¬11) وهو أجل أصحابه على الإطلاق، قال بعض الحفاظ: ولا يعلم لعلي مخالف من الصحابة (¬12)، وسيأتي الكلام في المسألة، إن شاء اللَّه تعالى، إذ المقصود أن من أقرَّ أو حلف أو وهب أو صالح لا عن رضا منه، ولكن منع حقه إلا بذلك، فهو ¬
[حبس العين على ثمنها وأجرتها]
بالمكره أشبه منه بالمختار، ومثل هذا لا يلزمه ما عقده من هذه العقود. ومن له قدم راسخ في الشريعة ومعرفة بمصادرها ومواردها، وكان الإنصافُ أحبَّ إليه من التَّعصُّب والهوى، والعلم والحجة آثر عنده من التقليد، لم يكد يخفى عليه وجه الصواب، واللَّه الموفق. وهذه المسألة من نفائس هذا الكتاب، والجاهل الظالم لا يرى الإحسان إلا إساءة، ولا الهدى إلا الضلالة: فَقُل للعيون الرُّمَّدِ: للشمس أعينٌ ... سِوَاكِ تراها في مَغِيبٍ ومَطْلَعِ وسامح نفوسًا بالقُشور قد ارتَضَتْ ... وليسَ لها لِلُّبِّ مِنَ مُتَطَلِّعِ [حبس العين على ثمنها وأجرتها] المثال الرابع (¬1) بعد المئة: اختلف الفقهاء هل يملك البائع حبس السلعة على ثمنها؟ وهل يملك المستأجر حبس العين بعد العمل على الأجرة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: يملكه في الموضعين، وهو قول مالك وأبي حنيفة، [وهو المختار] (¬2). الثاني: لا يملكه في الموضعين، وهو المشهور من مذهب أحمد (¬3) عند أصحابه. والثالث: يملك حبس العين المستأجرة على عملها، ولا يملك حبس المبيع (¬4) على ثمنه، والفرق بينهما أن العمل يجري مجرى الأعيان، ولهذا يقابل بالعوض، فصار كأنه شريك (¬5) لمالك العين بعمله، فأَثَرُ عمله قائم بالعين، فلا يجب [عليه] (¬6) تسليمه قبل أن يأخذ عِوَضَهُ، بخلاف المبيع، فإنه قد دخل في ملك المشتري، وصار الثمن في ذمته ولم يبق للبائع تعلق بالعين، ومن سوَّى بينهما قال: الأجرة قد صارت في الذمة، ولم يشترط رهن العين عليها، فلا (¬7) يملك حبسها. [وعلى هذا] (2) فالحيلة في الحبس في الموضعين حتى يصل إلى حقه أن ¬
يشترط عليه رهن العين المستأجرة على أجرتها، فيقول: رهنتُك هذا الثَّوبَ على أجرته، وهي كذا وكذا، وهكذا في المبيع يشترط على المشتري رهنه على ثمنه حتى يسلمه إليه، ولا محذور في ذلك أصلًا، ولا معنى، ولا مأخذ قوي يمنع صحة هذا الشرط والرهن، وقد اتفقوا أنه لو شرط عليه رهن عين أخرى على الثمن جاز، فما الذي يمنع جواز رهن المبيع على ثمنه؟ ولا فرق بين أن يقبضه أو لا يقبضه على أصح القولين، وقد نص الإمام أحمد على جواز اشتراط رهن المبيع على ثمنه، وهو الصواب ومقتضى قواعد الشرع وأصوله، وقال القاضي وأصحابه: لا يصح، وعلّله ابن عقيل بأن المشتري رهن ما لا يملك، فلم يصح، كما لو شرط أن يرهنه عبدًا لغيره يشتريه ويرهنه، وهذا تعليل باطل، فإنه إنما حصل الرهن بعد ملكه، واشتراطه قبل الملك لا يكون بمنزلة رهن الملك. والفرق بين هذه المسألة وبين اشتراط (¬1) رهن عبد زيد أن اشتراط [رهن عبد زيد غرر] (¬2) قد يمكن وقد لا يمكن، بخلاف اشتراط رهن المبيع على ثمنه، فإنه إن تم العقد صار المبيع رهنًا، وإن لم يتم تبيَّنا أنه لا ثمن يحبس عليه الرهن، فلا غرر البتة، فالمنصوص أفقه وأصح، وهذا على أصل مَنْ يقول: "للبائع حبس المبيع على ثمنه" ألزمُ، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي وبعض أصحاب أحمد (¬3)، وهو الصحيح وإن كان خلاف منصوص أحمد؛ لأن عقد البيع (¬4) يقتضي استوائهما (¬5) في [التسلم] (¬6) والتسليم، ففي إجبار البائع على التسليم قبل حضور الثمن وتمكينه من قبضه إضرار به، فإذا [كان] (¬7) ملك حبسه على ثمنه (¬8) من غير شرط فلأن يملكه مع الشرط أولى [وأحرى] (6)، فقول القاضي وأصحابه مخالف لنص أحمد وللقياس (¬9)، [فإن شرط أن يقبض المشتري المبيع ثم يرهنه على ثمنه عند بائعه فأولى بالصحة. ¬
وقال ابن عقيل في "الفصول" (¬1): والرهن (¬2) أيضًا باطل؛ لأنهما شرطا رهنه قبل ملكه، وقد عرفت ما فيه، وعلله أيضًا بتعليل آخر فقال: إطلاق البيع يقتضي تسليم الثمن من غير المبيع، والرهن يقتضي استيفاءه من عينه إن كان عينًا أو ثمنه إن كان عرضًا فيتضادا (¬3)، وهذا التعليل أقوى من الأول، وهو الذي أوجب له القول ببطلان الرهن قبل القبض وبعده، فيقال: المحذور من التضاد إنما هو التدافع بحيث يدفع كل من المتضادين (¬4) المتنافيين الآخر، فأما إذا لم يدفع أحدهما الآخر فلا محذور، والبائع إنما يستحق ثمن المبيع، وللمشتري أن يؤديه (¬5) إياه من عين المبيع ومن غيره، فإن له أن يبيعه ويقبضه ثمنه منه، وغاية عقد الرهن أن يوجب ذلك، فأي تدافع و [أي] (¬6) تناف هنا؟ وأما قوله: "إطلاق العقد يقتضي التسليم (¬7) للثمن من غير المبيع" فيقال: بل إطلاقه يقتضي تسليم الثمن من أيِّ جهة شاء المشتري، حتى لو باعه قفيز حنطة بقفيز حنطة وسلّمه إليه مَلَك أن يوفيه إياه ثمنًا كما استوفاه مبيعًا، كما لو اقترض منه ذلك ثم وفاه إياه بعينه. ثم قال ابن عقيل: وقد قال الإمام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه: إذا حَبَسَ السلعة ببقية الثمن فهو غاصب، ولا يكون رهنًا إلا أن يكون شَرَط عليه في نفس البيع الرهن، فظاهرُ هذا أن (¬8) شرط كون المبيع رهنًا [في حال العقد أصح (¬9)، قال: وليس هذا الكلام على ظاهره، ومعناه إلا أن يشترط عليه في نفس البيع رهنًا] (¬10)، غير المبيع؛ لأن اشتراط رهن البيع (¬11) اشتراط تعويق التسليم في المبيع (¬12). ¬
[منافاة كلام ابن عقيل لظاهر كلام أحمد في المسألة]
[منافاة كلام ابن عقيل لظاهر كلام أحمد في المسألة] قلت: ولا يخفى منافاة ما قاله لظاهر كلام الإمام أحمد، فإن كلام أحمد المستثنى والمستثنى منه في صورة حبس المبيع على ثمنه، فقال: "هو غاصب إلا أن يكون شَرَط عليه في نفس البيع الرهن" أي فلا يكون غاصبًا بحبس السلعة بمقتضى شرطه، ولو كان المراد ما حَمَله عليه لكان معنى الكلام إذا حبس السلعة ببقية الثمن فهو غاصب إلا أن يكون قد شرط له رهنًا آخر غير المبيع يسلمه إليه، وهذا كلام لا يرتبط أوله بآخره، ولا يتعلق به، فضلًا عن أن يدخل في الأول ثم يستثنى منه، ولهذا جعله أبو البركات ابن تيمية نصًا في صحة هذا الشرط، ثم قال: وقال القاضي لا يصح (¬1). وأما قوله: "إن اشتراط رهن المبيع تعويق للتسليم في المبيع (¬2) " فيقال: واشتراط التعويق إذا كان لمصلحة البائع وله فيه غرض صحيح وقد قدم عليه المشتري فأي محذور فيه؟ ثم هذا يبطل باشتراط الخيار؛ فإن فيه تعويقًا للمشتري عن التصرف في المبيع، وباشتراط المشتري تأجيل الثمن؛ فإنَّ فيه تعويقًا للبائع عن تسلمه أيضًا، ويبطل على أصل الإمام أحمد وأصحابه باشتراط البائع انتفاعه بالمبيع مدة يستثنيها؛ فإن فيه تعويقًا للتسليم، ويبطل أيضًا ببيع العين المؤجرة. فإن قيل: إذا اشترط (¬3) أن يكون رهنًا قبل قبضه تدافع موجب البيع والرهن، فإن موجب الرهن أن يكون تلفه من ضمان مالكه لأنه أمانة في يد المرتهن، وموجب البيع أن يكون تلفه قبل التمكين (¬4) من قبضه من ضمان البائع، فإذا تلف هذا الرهن قبل التمكن من قبضه، فمن ضمان أيهما يكون؟ (¬5). قيل: هذا السؤال أقوى من السؤالين المتقدمين، والتدافع فيه أظهر من التدافع في التعليل الثاني، وجواب هذا السؤال أن الضمان قبل التمكن من القبض كان على البائع [كما كان] (¬6)، ولا يزيل هذا الضمان إلا تمكن المشتري من القبض، فإذا لم يتمكن من قبضه فهو مضمون على البائع كما كان، وحبسه إياه على ثمنه لا يدخله في ضمان المشتري ويجعله مقبوضًا له كما لو حبسه بغير شرط] (¬7). ¬
[صور حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها]
فإن قيل (¬1): فأحمد رحمه اللَّه [تعالى] (¬2) قد قال: "إنه إذا حبسه على ثمنه كان غاصبًا إلا أن يشترط (¬3) عليه الرهن" وهذا يدل على أنه [قد] (2) فرق في ضمانه بين أن يحبسه بشرط أو [يحبسه] (2) بغير شرط، وعندكم هو مضمون عليه في الحالين، وهو خلاف النص. الجواب أن [الإمام] (2) أحمد رحمه اللَّه [تعالى] (2) إنما جعله غاصبًا بالحبس، والغاصب عنده يضمن العين بقيمتها أو مثلها، ثم يستوفي الثمن أو بقيته من المشتري، وأما إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع، بمعنى أنه ينفسخ العقد فيه، ولا يملك مطالبة المشتري بالثمن، وإن كان قد قبضه منه أعاده إليه فهذا الضمان شيء وضمان الغاصب شيء آخر. فإن قيل: فكيف (¬4) يكون رهنًا وضمانه على المرتهن؟ قيل: لم يضمنه المرتهن من حيث هو رهن، وإنما ضمنه من حيث كونه مبيعًا لم يتمكن مشتريه من قبضه، فحق توفيته بعد على بائعه. [صور حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها] فإن قيل: فما تقولون لو حبس البائع السلعة لاستيفاء حقه منها، وهذا يكون في صور: إحداها (¬5): أن يبيعه دارًا له فيها متاع لا يمكن (¬6) نقله في وقت واحد. والثانية: أن يستثني البائع الانتفاع بالمبيع مدة معلومة على أصلكم، أو نحو ذلك (¬7)، فإذا تلفت في يد البائع قبل تمكن المشتري من القبض في هاتين الصورتين هل تكون من ضمانه أو [من] (¬8) ضمان البائع؟ (¬9) ¬
[إقرار المريض بدين الورثة]
الثالثة: أن يشترط الخيار ويمنعه من تسليم المبيع قبل انقضاء الخيار. قيل: الضمان في هذا كله على البائع؛ لأنه لم يدخل تحت يد المشتري، ولم يتمكن من قبضه، فلا يكون (¬1) مضمونًا عليه. فإن قيل: فهل يكون من ضمانه بالثمن أو بالقيمة؟ قيل: بل يكون مضمونًا عليه بالثمن؛ بمعنى أن العقد ينفسخ بتلفه؛ فلا يلزم المشتري تسليم الثمن. [إقرار المريض بدين الورثة] المثال الخامس (¬2) بعد المائة: إقرار المريض لوارثه بدَيْن باطل عند الجمهور، للتُّهْمَة، فلو كان له عليه دين ويريد أن تبرأ ذمته منه قبل الموت وقد علم أن إقراره له باطل فكيف الحيلة في براءة ذمته ووصول صاحب الدَّين إلى ماله؟ فههنا وجوه. أحدها: أن يأخذ إقرار باقي الورثة بأن هذا الدين على الميت؛ فإن الإقرار إنما بطل لحقهم (¬3)، فإذا أقروا به لزمهم، فإن لم تتم [له] (¬4) هذه الحيلة فله: وجه ثان: وهو أن يأتي برجل أجنبي يثق به يقر له بالمال فيدفعه الأجنبي إلى ربه، فإن لم تتم له هذه الحيلة فله: وجه ثالث: وهو أن يشتري منه سلعة بقدر دينه، ويقر المريض بقبض الثمن منه، أو يقبض منه [الثمن] (5) بمحضر الشهود ثم يدفعه إليه سرًا، فإن لم تتم [له] (5) هذه الحيلة فليجعل الثمن وديعة عنده فيكون أمانة فيقبل قوله في تلفه، ويتأول أو يدعي رده إليه والقول قوله. وله: وجه آخر: وهو أن يحضر الوارث شيئًا ثم يبيعه [من] (¬5) موروثه (¬6) بحضرة الشهود ويسلمه إليه فيقبضه ويصير ماله، ثم يهبه الموروث لأجنبي ويقبضه منه، ثم يهبه الأجنبي للوارث، فإذا فعلت هذه الحيلة ليصل المريض إلى براءة ذمته والوارث إلى أخذ دينه جاز ذلك، وإلا فلا. ¬
[الإحالة بالدين وخوف هلاك المحال به]
[الإحالة بالدين وخوف هلاك المحال به] المثال السادس (¬1) بعد المئة: إذا أحاله بدينه على رجل فخاف أن يتوى (¬2) ماله على المحال عليه فلا يتمكن من الرجوع على المحيل؛ لأن الحوالة تحوّل الحق وتنقله، فله ثلاث حيل: إحداها (¬3): أن يقول: [أنا] (4) لا أحتال، ولكن أكون وكيلًا [لك] (4) في قبضه، فإذا قبضه فإن استنفقه ثبت له ذلك في ذمة الوكيل، وله في ذمة الموكل نظيره فيتقاصَّان، فإن خاف الموكل أن يدعي الوكيل ضياع المال من غير تفريط فيعود يطالبه بحقه، فالحيلة له: أن يأخذ إقراره بأنه متى [ثبت] (4) قبضه منه فلا شيء له على الموكل، وما يدعي [عليه] (4) بسبب هذا الحق [أو] (¬4) من جهته (¬5) فدعواه باطلة، وليس هذا إبراء معلقًا بشرط حتى يتوصل إلى إبطاله، بل هو إقرار بأنه لا يستحق عليه شيئًا في هذه الحالة (¬6). الحيلة الثانية: أن يشترط عليه أنه إن توى (¬7) المال [رجع عليه] (¬8) ويصح هذا الشرط على قياس المذهب؛ فإن المحتال إنما قَبِل الحوالة على هذا الشرط، فلا يجوز أن يلزم بها دون (¬9) الشرط، كما لو (¬10) قبل عقد البيع بشرط الرهن أو الضمين أو التأجيل أو الخيار (¬11)، أو قبل عقد الإجارة بشرط الضمين للأجرة أو تأجيلها، أو قبل عقد النكاح بشرط تأجيل الصداق، أو قبل عقد الضمان بشرط تأجيل [الدَّين الحال على المضمون عنه] (¬12)، أو قبل عقد الكفالة بشرط أن لا ¬
[حيلة في لزوم تأجيل الدين الحال]
يلزمه من المال الذي عليه شيء، أو قبل عقد الحوالة بشرط ملاءة المحال عليه وكونه غير محجور (¬1)، ولا مماطل، وأضعاف أضعاف ذلك من الشروط التي لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا، فإنها جائز اشتراطها لازم الوفاء بها كما تقدم تقريره نصًا وقياسًا، وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بصحة هذا الشرط في الحوالة، فقالوا واللفْظُ للخَصَّاف (¬2): "يجوز أن يحتال الطالب بالمال على غريم المطلوب على أن هذا الغريم إن لم يوف الطالب هذا المال إلى كذا وكذا فالمطلوب ضامن لهذا المال على حاله، وللطالب أخذه بذلك، وتقع الحوالة على هذا الشرط، فإن وفّاه الغريم إلى الأجل الذي يشترطه، وإلا رجع إلى المطلوب وأخذه بالمال". ثم حكى عن شيخه قال: قلت: وهذا جائز؟ قال: نعم. الحيلة الثالثة: أن يقول طالب الحق للمُحَال عليه: اضمن لي هذا الدين الذي على غريمي، ويرضى منه بذلك بدَلَ الحوالة، فإذا ضمنه تمكن من مطالبة أيهما شاء، وهذه من أحسن الحيل وألطفها. [حيلة في لزوم تأجيل الدين الحال] المثال السابع (¬3) بعد المئة: إذا كان له عليه دين حالّ، فاتفقا على تأجيله، وخاف مَنْ عليه الدين أن لا يفي له بالتأجيل؛ فالحيلة في لزومه أن يفسخ العقد الذي هو سبب الدين الحال، ثم يعقده عليهم (¬4) مؤجلًا، فإنْ كان عن ضمان أو كان بدل مُتْلفٍ أو عن دية قد حلت (¬5) أو نحو ذلك فالحيلة في لزوم التأجيل أن يبيعه سلعة بمقدار هذا الدين، ويؤجّل عليه ثمنها، ثم يبيعه المدين تلك السلعة بالدين الذي أجَّله عليه أولًا، فيبرأ منه، ويثبت في ذمته نظيرُه مؤجلًا، فإنْ خاف صاحبُ الحقِّ أن لا يفي له مَنْ عليه (¬6) بأدائه عند كل نجم [كما أجله] (¬7) فالحيلة أن يشترط (¬8) عليه أنه إن حل نجم ولم يؤده (¬9) قسطه فجميع المال عليه حال، فإذا ¬
[وصية المريض الذي لا وارث له بجميع ماله في البر]
نَجَّمَهُ على هذا الشرط جاز، وتمكن من مطالبته به حالًا ومنجمًا عند من يرى لزوم تأجيل الحالِّ ومن لا يراه، أما من لا يراه فظاهر، وأما من يراه فإنه يجوز تأجيله لهذا الشرط (¬1) كما صرح به أصحاب أبي حنيفة، واللَّه أعلم. [وصية المريض الذي لا وارث له بجميع ماله في البر] المثال الثامن (¬2) بعد المئة: إذا أراد المريض الذي لا وارث له أن يُوصِيَ بجميع أمواله (¬3) [في أبواب البر، فهل له ذلك؟ على قولين: أصحهما أنه يملك ذلك، لأنه إنما منعه الشارع فيما زاد على الثلث [وكان] (¬4) له ورثة، فمن لا وارث له لا يعترض عليه فيما صنع في ماله، فإن خاف أن يبطل ذلك حاكم لا يراه فالحيلة له أن يقر لإنسان يثق بدينه وأمانته بدين يحيط بماله كله، ثم يوصيه إذا أخذ ذلك المال أن يضعه في الجهات التي يريد، فإن خاف المقر له أن يلزم بيمين باستحقاقه لما أقر له به المريض اشترى منه المريض عرضًا من العروض بماله كله، ويسلم العرض فإذا حلف المقر له حلف بارًا، فإن خاف المريض أن يصح فيأخذه البائع بثمن العرض فالحيلة أن يشتريه بشرط الخيار سنة، فإن مات بطل الخيار، وإن عاش فسخ العقد، فإن كان المال أرضًا أو عقارًا أو أراد (¬5) أن يوقفه جميعه على قوم يستغلونه ولا يمكن إبطاله فالحيلة أن يقر أن واقفًا وَقَفَ ذلك جميعه عليه، ومن بعده على الجهات التي يعينها، ويشهد على إقراره بأن هذا العقار في يده على جهة الوقف من واقف كان ذلك العقار ملكًا له إلى حين الوقف أو يقر بأن واقفًا معينًا وقفه على تلك الجهات، وجعله ناظرًا عليه، فهو في يده على هذا الوجه، وكذلك الحيلة إذا كان له بنت أو أم أو وارث بالفرض لا يستغرق ماله ولا عصبة له، ويريد أن لا يتعرض له السلطان فله أنواع من المخارج: منها: أن يبيع الوارث تلك الأعيان، ويقر بقبض الثمن منه، وإن أمكنه أن يشهد على قبضه بأن يحضر الوارث مالًا يقبضه إياه، ثم يعيده إليه سرًا، فهو أولى. ومنها: أن يشتري المريض من الوارث سلعة بمقدار التركة: من الثمن، ¬
[أمران مخوفان في هذه الحيلة]
ويشهد على الشراء، ثم يعيد إليه تلك السلعة، ويرهنه المال كله على الثمن، فإذا أراد السلطان مشاركته قال: وفّوني حقّي وخذوا (¬1) ما فَضَل. ومنها: أن يبيع ذلك لأجنبي يثق به، ويقر بقبض الثمن منه، أو يقبض (¬2) بحضرة الشهود، ثم يأذن للأجنبي في تمليكه للوارث أو وقفه عليه. ومنها: أن يقر لأجنبي يثق به بما يريد، ثم يأمره بدفع ذلك إلى الوارث. [أمران مخوفان في هذه الحيلة] ولكن في هذه الحيل وأمثالها أمران مخوفان: أحدهما: أنه قد يصح فيحال بينه وبين ماله. والثاني: أن الأجنبي] (¬3) قد يَدَّعي ذلك لنفسه، ولا يسلمه إلى الوارث، فلا خلاص من (¬4) ذلك إلا بوجه واحد، وهو أن يأخذ إقرار الأجنبي، ويشهد عليه في مكتوب ثان أنه متى أدَّعَى لنفسه أو لمن يخاف أن يواطئه على المريض أو وارثه هذا المال أو شيئًا منه أو حقًا من حقوقه كانت دعواه باطلة وإن أقام به بينة فهي بينة زور، وأنه لا حقَّ له قبل فلان بن فلان ولا وارثه بوجه من الوجوه (¬5)، ويمسك الكتاب عنده، فيأمن هو والوارث ادعاء ذلك لنفسه، واللَّه أعلم. [اقتضاء الدين وتواري المدين] المثال التاسع (¬6) بعد المئة: رجل يكون له الدَّين، ويكون عليه الدين، فيوكل وكيلًا في اقتضاء ديونه، ثم يتوارى عن غريمه، فلا يمكنه اقتضاء دينه منه، فأراد الغريم ممن له الدين على هذا الرجل حيلة يقتضي بها دينه منه، ولا يضره تواري من عليه الدين، فالحيلة أن يأتي هذا الذي له الدين إلى من عليه الدين فيقول له: وكلتك بقبض مالي على فلان وبالخصومة فيه، ووكلتك أن تجعل ماله عليك قصاصًا بمالي عليه، وأجزت أمرك في ذلك وما عملت فيه من شيء فيقبل الوكيل، ويشهد على الوكالة على هذا الوجه شهودًا، ثم يشهدهم الوكيل أنه قد ¬
[إثبات المال على غائب]
جعل الألف درهم التي لفلان عليه قصاصًا بالألف التي لموكله على فلان، فيصير الألف قصاصًا، ويتحول ما كان للرجل المتواري على هذا الوكيل [للرجل] (1) الذي وكله. وهذه الحيلة جائزة؛ لأن الموكل أقام الوكيل مقام نفسه، والوكيل يقول: مطالبتي لك بهذا الدين كمطالبة موكلي [به] (¬1) فانا أطالبك بألف (¬2) وأنت تطالبني به، فاجعل الألف الذي تطالبني به عوضًا عن الألف الذي أطالبك به، ولو كانت الألف لي لحصلت المُقاصَّة، إذ لا معنى لقبضك الألف (¬3) مني ثم أدائها إليَّ، وهذا بعينه فيما إذا طالبتك بها لموكلي؛ أنا أستحق عليك أن تدفع إليّ الألف وأنت تستحق عليَّ [أن أدفع إليك] (¬4) ألفًا، فنتقاص [في] (1) الألفين. [إثبات المال على غائب] المثال العاشر (¬5) بعد المئة: رجل له على رجل مال، فغاب الذي عليه المال، فأراد الرجل أن يثبت ماله عليه، حتى يحكم له الحاكم عليه وهو غائب، فليرفعه إلى حاكم يرى الحكم على الغائب، فإن (¬6) كان حاكم البلد لا يرى الحكم على الغائب فالحيلة أن يجيء رجل فيضمن لهذا الذي له المال جميع ما صحَّ له (¬7) على الرجل الغائب، ويسميه وينسبه، ولا يذكر مبلغ المال، بل يقول: ضمنت له جميع ما صح [أنه] (¬8) له في ذمته، ويُشهد على ذلك ثم يقدمه إلى القاضي، فيقر الضامن بالضمان، ويقول: لا أعرف له على فلان شيئًا (¬9)، فيسأل القاضي المضمون له: هل لك بينة؟ فيقول: نعم، فيأمره بإقامتها، فإذا شهدت ثبت الحق على الغائب، وحكم على الضمين بالمال، وجعله (¬10) خصمًا على الغائب؛ لأنه قد ضمن ما عليه، ولا ينفذ حكمه على الضامن بثبوت المال على وجه الضمان حتى يحكم على الغائب المضمون عنه بالثبوت؛ لأنه هو الأصل، والضامن فرعه، وثبوت الفرع بدون أصله ممتنع، وهو جائز على أصل أهل ¬
العراق، حيث يجوزون الحكم على الغائب إذا اتصل القضاء بحاضر محكوم عليه كوكيل الغائب (¬1)، وكما لو ادعى أنه اشترى من غائب [ما فيه] (¬2) شفعة فإنه يقضي عليه بالبيع وبالشفعة على المدعي (¬3)، وكهذه المسألة ما (¬4) لو ادعت زوجة غائب أن له عند فلان وديعة (¬5)، فإنه يفرض لها مما في يديه (¬6). المثال الحادي عشر (¬7) بعد المئة: ليس للمُرتهن أن ينتفع بالرهن إلا بإذن الراهن، فإن أذن له كان إباحة أو عارية له الرجوع فيها متى شاء، ويقضى له بالأجرة من حين الرجوع في أحد الوجهين، فالحيلة في انتفاع المرتهن بالرهن آمنًا من الرجوع ومن الأجرة أن يستأجره منه للمدة التي يريد الانتفاع به فيها، ثم يبرئه من الأجرة، أو يقر بقبضها، و [يجوز أن] (¬8) يرد عقد الإجارة على عقد الرهن ولا يبطله، كما يجوز أن يرهنه ما استأجره، فيرد كل من العقدين على الآخر، وهو في يده أمانة في الموضعين، وحقه متعلق به فيهما، [إلا] (8) أن الانتفاع بالمرهون مع الإجارة والرهن بحاله. المثال الثاني عشر (¬9) بعد المائة: إذا كان له على رجل مال، وبالمال (¬10) رهن، فادَّعى صاحب الرهن به عند الحاكم، فخاف المرتهنُ أن يقرَّ بالرهن، فيقول الراهن: قد أقررتَ بأنَّ لي رهنًا في يدك، واذَّعيتَ الدَّين، فينزعه من يده، ولا يقر له بالدين، فقد ذكروا له حيلةَ تُحرزُ (¬11) حقَّه، وهي أن لا يقر [له] (¬12) به حتى يقر له صاحبُه بالدين، فإن ادعاه وسأل إحلافه أنكر وحلف، وعَرَّض في يمينه، بأن ينوي أن هذا ليس له قبل ملكه أو إذا باعه أو ليس له عاريًا عن تعلق الحق به، ونحو ذلك. وأحسن من هذه الحيلة أن يفصل في جواب الدعوى فيقول: إن ادعيته (¬13) ¬
[حيلة في إبرار زوج وزوجة]
رهنًا في يدي على ألف لي عليك فأنا مقر به، وإن ادعيته على غير هذا الوجه فلا أقر به (¬1)، وينفعه هذا الجواب، كما قالوا فيما إذا ادعى عليه ألفًا، فقال: إن ادعيتها من ثمن مبيع لم أقبضه منك فأنا مقر، وإلا فلا، وهذا مثله سواء. فإن كان الغريم هو المدعي للمال فخاف الراهن أن يقر بالمال فيجحد المرتهن الرهن فيلزم الراهن المال ويذهب رهنه (¬2)، فالحيلة في أمنه من ذلك أن يقول: إن ادعيت هذا المال وأنك تستحقه من غير رهن لي عندك فلا أقر به، وإن ادعيته مع كوني رهنتك به كذا وكذا فأنا مقر به، ولا يزيد على هذا. وقالت الحنفية: الحيلة أن يقر منه بدرهم فيقول: لك عليَّ درهم، ولي عندك رهن كذا وكذا، فإذا سأل الحاكم المدعي عن الرهن، فإما أن يقر به، وإما أن ينكر، فإن أقر به فليقر له خصمه بباقي دينه، وإن أنكره وحلف عليه وسع الآخر أن يجحد باقي الدين ويحلف عليه إن كان الرهن بقدر الدين أو أكثر منه، وإن كان أقل منه لزمه أن يعطيه ما زاد على قيمة الرهن من حقه، قالوا: لأن الرهن إن كان قد تلف بغير تفريطه سقط ما يقابله من الدين (¬3)، وإن كان قد فرط فيه صارت قيمته دينًا عليه، فيكون قصاصًا بالدين الذي له (¬4). وهذا بناء على أصلين لهم: أحدهما (¬5): أن الرهن (¬6) مضمون على المرتهن بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الدين. والثاني: جواز الاستيفاء في مسألة الظفر (¬7). [حيلة في إبرار زوج وزوجة] المثال الثالث (¬8) عشر بعد المئة: إذا قال لامرأته: "إن لم أطأك الليلة فأنت ¬
طالق ثلاثًا" فقالت: "إن وطئتني الليلة فأمتي حرة" فالمخلص من ذلك أن تبيعه الجارية فإذا وطئها بعد ذلك لم تعتق؛ لأنها خرجت من ملكها ثم تستردها (¬1). فإن خافت أن يطأ الجارية على قول من لا يرى على الرجل استبراء الأمة التي يشتريها من امرأته (¬2) كما ذهب إليه بعض الشافعية والمالكية فالحيلة أن تستردها (¬3) منه عقيب الوطء فإن خافت أن لا يرد إليها الجارية ويقيم على ملكها فلا تصل إليها، فالحيلة لها أن تشترط عليه أنه إن لم يرد الجارية إليها عقيب الوطء فهي حرة. فإن خافت أن يملكها لغيره تلجئة (¬4) فلا يصح تعليق عتقها فالحيلة [لها] (¬5) أن تشترط عليه [أنه] (5) إن لم يردها إليها عقيب الوطء فهي طالق، فهنا تضيق عليه الحيلة (¬6) في استدامة ملكها ولم يجد بدًا من مفارقة إحديهما (¬7). المثال الرابع (¬8) عشر بعد المئة: إذا أراد [الرجل] (5) أن يخالع امرأته الحامل على سكناها ونفقتها جاز ذلك، وبرئ منهما، هذا منصوص أحمد، وقال الشافعي: لا يصح الخلع، ويجب مهر المثل، واحتج له بأن النفقة لم تجب بعد فإنها إنما تجب بعد الإبانة (¬9)، وقد (¬10) خالعها بمعدوم، فلا يصح، كما لو خالعها على عوض شيء يتلفه (¬11) عليها، وهذا اختيار أبي بكر عبد العزيز، وقال أصحاب أبي حنيفة: إذا خالعها على أن لا سكنى لها ولا نفقة فلا نفقة لها، وتستحق عليه السكنى، قالوا: لأن النفقة حق لها وقد أسقطته (¬12)، والسكنى حق للشارع (¬13) فلا تسقط بإسقاطها، فيلزمه إسكانها قالوا: فالحيلة على سقوط الأجرة عنه أن يشترط (¬14) الزوج في الخلع أن لا يكون عليه مؤنة السكنى، وأن مؤنتها تلزم المرأة في مالها، وتجب أجرة المسكن عليها. فإن قيل: لو أبرأت المرأة زوجها من النفقة (¬15) قبل أن تصير دينًا في ذمته ¬
[للتحليل بعد الطلاق الثلاث]
لم يصح، ولو شرط في عقد الخلع براءة الزوج عن النفقة صح. قيل: الفرق بينهما أن الإبراء إذا شرط في الخلع كان إبراء بعوض، والإبراء (¬1) بعوض استيفاء لما وقعت البراءة عنه؛ لأن العوض قائم مقام ما وقعت البراءة عنه والاستيفاء يجوز قبل الوجوب بدليل ما لو تسلَّفت (¬2) نفقة شهر جملة، وأما الإبراء من النفقة في غير خلع (¬3) قبل ثبوتها فهو إسقاط لما لم يجب فلا يسقط، كما لو أسقطت حقها من القَسْم فإن لها أن ترجع فيه متى شاءت، وأما قول صاحب: "المحرر": "وقيل: إن أوجبنا نفقة الزوجة بالعقد صح، وإلا فهو خلع بمعدوم وقد بينا حكمه" (¬4) يعني: إن قلنا: إنَّ نفقة الحامل نفقة زوجة وإن النفقة لها من أجل الحمل وإنها تجب بالعقد فيكون خلعًا بشيء ثابت، وإن قلنا: إن النفقة إنما تجب بالتمكين فقد زال التمكين بالخلع وصارت النفقة نفقة قريب، فالخلع بنفقة الزوجة حينئذٍ خلع بمعدوم، هذا أقرب ما يتوجه به كلامه، وفيه ما فيه، واللَّه أعلم (¬5). [للتحليل بعد الطلاق الثلاث] المثال الخامس (¬6) عشر بعد المئة: إذا وقع الطلاق الثلاث بالمرأة، وكان دِينها ودِين وليها وزوجها المطلق أعز عليهم من التعرض للعنة اللَّه ومقته بالتحليل الذي لا يحلها ولا يطيبها بل يزيدها خبثًا فلو أنها أخرجت من مالها ثمن مملوك فوهبته لبعض من تثق به فاشترى به مملوكًا ثم خطبها على مملوكه فزوجها منه فدخل بها المملوك ثم وهبها إياه (¬7) انفسخ النكاح ولم يكن هناك تحليلٌ مشروطٌ ولا منويٌّ ممن تؤثر نيَّتُه وشرطه وهو الزوج، فإنه لا أثر لنية الزوجة (¬8) ولا الولي، وإنما التأثير لنية الزوج الثاني، فإنه إذا نوى التحليل كان محللًا فيستحق اللعنة ثم يستحقها الزوج المطلق إذا رجعت إليه بهذا النكاح الباطل، فأما إذا لم يعلم الزوج الثاني ولا الأول بما في قلب المرأة أو وليها من نية التحليل لم يضر ذلك ¬
[الإبرار من حلف بالطلاق]
العقد شيئًا. وقد علم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من امرأة رفاعة أنها كانت تريد أن ترجع إليه ولم يجعل ذلك مانعًا من رجوعها إليه، وإنما جعل المانع عدم وطء الثاني فقال [النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬1): "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" (¬2)، وقد صرح أصحابنا بأن ذلك يحلها، فقال صاحب "المغني" (¬3) فيه: "فإن تزوجها مملوك ووطئها أحلها، وبذلك قال عطاء ومالك والشافعي وأصحاب الرأي، ولا نعلم لهم مخالفًا". قلت: هذه (¬4) الصورة غير الصورة التي منع منها الإمام أحمد (¬5)، فإنه منع من حِلِّها إذا كان الزوج المطلق [قد] (¬6) اشترى العبد وزوّجه بها بإذن وليها ليحلها، فهذه حيلة لا تجوز عنده، وأما هذه المسألة فليس للزوج الأول ولا للثاني فيها نية، ومع هذا فيكره؛ لأنها نوع حيلة. [الإبرار من حلف بالطلاق] المثال السادس (¬7) عشر بعد المئة: قال عبد اللَّه بن أحمد [في "مسائله"] (¬8): "سألت أبي عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن لم أجامعك اليوم، وأنت طالق إن اغتسلت منك اليوم، فقال: يصلي العصر ثم يجامعها، فإذا غابت الشمس اغتسل إن لم يكن أراد بقوله: "اغتسلت" المجامعة". ونظير هذا أيضًا ما نص [عليه] (¬9) في رجل قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطأك في رمضان، فسافر مسيرة أربعة أيام أو ثلاثة ثم وطئها، فقال: لا يعجبني؛ لأنها حيلة [ولا يعجبني الحيلة] (¬10) في هذا ولا في غيره. وقال (¬11) القاضي: إنما كره الإمام أحمد هذا لأن السفر الذي يبيح الفطر لا بد أن يكون سفرًا مقصودًا مباحًا، وهذا لا يقصد به غير حل اليمين. قال الشيخ ¬
[المخارج من التحليل في الطلاق]
أبو محمد المقدسي: والصحيح أن هذا تنحلُّ به اليمين، ويباح له الفطر فيه؛ لأنه سفر بعيد مباح لقصد صحيح، وإرادة (¬1) حل يمينه من المقاصد الصحيحة. وقد أبحنا لمن له طريقان قصيرة لا يقصر فيها وبعيدة أن يسلك البعيدة ليقصر فيها الصلاة ويفطر، مع أنه لا قصد له سوى الترخص، فههنا أولى (¬2). قلت: ويؤيد اختيار الشيخ -قدس اللَّه روحه- ما رواه الخطيب في كتابه (¬3) "الفقيه والمتفقه" أخبرنا الأزهريُّ: ثنا سهل (¬4) بن أحمد: ثنا محمد بن محمد [بن] الأشعث (¬5) الكوفي حدثني موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه- (¬6)، ثنا أبي، عن أبيه، عن جده جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي (¬7) في رجل حلف فقال: امرأته طالق [ثلاثًا] (¬8) إن لم يطأها في شهر رمضان نهارًا، قال: يسافر ثم يجامعها نهارًا (¬9). [المخارج من التحليل في الطلاق] المثال السابع عشر بعد المئة (¬10): في المخارج من الوقوع في التحليل الذي ¬
[الأول أن يكون زائل العقل]
لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من غير وجه فاعله المطلق والمحلَّلَ له (¬1)، فأي قول من أقوال المسلمين خرج به من لعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان أعذر عند اللَّه ورسوله وملائكته وعباده المؤمنين من ارتكابه لما يُلعن عليه ومباءته باللعنة، فإن هذه المخارج التي نذكرها دائرة بين ما دل عليه الكتاب والسنة أو أحدهما أو أفتى به الصحابة، بحيث لا يعرف عنهم فيه خلاف (¬2)، أو أفتى به بعضهم، أو هو خارج عن أقوالهم (¬3)، أو هو قول جمهور الأئمة (¬4) أو بعضهم [أو إمام] (¬5) من الأئمة الأربعة أو أتباعهم أو غيرهم من علماء الإسلام، ولا تخرج هذه الآثار (¬6) التي نذكرها عن ذلك، فلا يكاد يوصل إلى التحليل بعد مجاوزة جميعها إلا في أندر النادر، ولا ريب أن من نصح (¬7) للَّه ورسوله وكتابه ودينه ونصح نفسه ونصح عباده أن أيًا منها ارتكب فهو أولى من التحليل (¬8). [الأول أن يكون زائل العقل] المخرج الأول: أن يكون المطلق أو الحالف زائل العقل إما بجنون أو إغماء أو شرب دواء أو شرب مسكر يعذر به أو لا يعذر أو وسوسة، وهذا المخلص مجمع عليه بين الأمة إلا في شرب (¬9) مسكر لا يعذر به، فإن المتأخرين من الفقهاء اختلفوا فيه، والثابت عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- الذي لا يعلم فيه خلاف بينهم أنه لا يقع طلاقه. قال البخاري في "صحيحه" (¬10): باب الطلاق في الإغلاق والمكره ¬
والسكران والمجنون وأمرهما والغَلَط والنسيان في الطلاق والشرك [وغيره] لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأعمال بالنية، ولكل امرئ ما نوى" (¬1)، وتلا الشعبي: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأنَا} [البقرة: 286]، وما لا يجوز من إقرار الموسوس، وقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- للذي أقر على نفسه: "أبك جنون" (¬2)، وقال علي: بقر حمزة [خواصر] شارفي (¬3) فطفق (¬4) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يلوم حمزة، فإذا حمزة قد ثمل محمرة عيناه ثم قال حمزة: هل أنتم إلا عبيد لآبائي؟ فعرف النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قد ثمل، فخرج وخرجنا معه. وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق (¬5)، وقال ابن عباس: طلاق ¬
السكران والمستكره ليس بجائز (¬1). وقال عقبة بن عامر: لا يجوز طلاق الموسوس" (¬2)، هذا لفظ الترجمة، ثم ساق بقية الباب، ولا يعرف عن رجل من الصحابة أنه خالف عثمان وابن عباس رضي اللَّه عنهم في ذلك، ولذلك رجع الإمام أحمد إلى هذا القول بعد أن كان يفتي بنفوذ طلاقه؛ فقال أبو بكر عبد العزيز في كتاب "الشافي"، و"الزاد": قال أبو عبد اللَّه في رواية الميموني: قد كنت أقول: إن (¬3) طلاق السكران يجوز، حتى تبينته (¬4)، فغلب عليَّ أنه لا يجوز طلاقه، لأنه لو أقر لم يلزمه، ولو باع لم يجز بيعه، قال: وألزمه الجناية (¬5)، وما كان من غير ذلك فلا يلزمه، قال أبو بكر: وبهذا أقول. وفي "مسائل الميموني"؛ سألت أبا عبد اللَّه عن طلاق السكران، فقال: أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه الطلاق، قلت: أليس كنت مرة تخاف أن يلزمه؟ قال: بلى، ولكن أكثر ما عندي فيه أنه لا يلزمه [الطلاق] (¬6)؛ لأني رأيته ممن لا يعقل، قلت: السكر شيء أدخله ¬
على نفسه فلذلك يلزمه، قال: قد يشرب رجل البنج (¬1) أو الدواء فيذهب عقله؟ قلت: فبيعه وشراؤه وإقراره؟ قال: لا يجوز وقال في رواية أبي الحارث (¬2): أرفع شيء في حديث الزهري، عن أبان بن عثمان، عن عثمان: "ليس لمجنون ولا سكران طلاق" (¬3). وقال في رواية أبي طالب: والذي لا يأمر بالطلاق فإنما أتى خصلة واحدة والذي يأمر بالطلاق قد أتى خصلتين حرمها عليه وأحلها لغيره، فهذا خير من هذا وأنا أتقي جميعها (¬4). وممن ذهب إلى القول بعدم نفوذ طلاق السكران من الحنفية أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن الكرخي، وحكاه صاحب "النهاية" عن أبي يوسف وزفر. ومن الشافعية المزني وابن سُريج وجماعة ممن اتبعهما، وهو الذي اختاره الجويني في "النهاية"، والشافعي [رحمه اللَّه] نص على وقوع طلاقه (¬5)، ونص في أحد قوليه على أنه لا يصح ظهاره، فمن أتباعه من نقل عن (¬6) الظهار قولًا إلى الطلاق، وجعل المسألة على قولين، ومنهم من قرر حُكْمَ النصين ولم يفرق بطائل. والصحيح أنه لا عبرة بأقواله من طلاق ولا عتاق ولا بيع ولا هبة ولا وقف ولا إسلام ولا ردة ولا إقرار، لبضعة عشر دليلًا ليس هذا موضع ذكرها، ويكفي منها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باستنكاه (¬7) ما عز لما أقرَّ بالزنا بين يديه (¬8)، وعدم أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حمزة بتجديد إسلامه لما قال في سكره: "أنتم عبيد ¬
فصل [المخرج الثاني ويشتمل على القول في طلاق الغضبان]
لآبائي" (¬1)، وفتوى عثمان وابن عباس (¬2) -رضي اللَّه عنهما- ولم يخالفهما أحد من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، والقياس الصحيح المحض على زائل العقل بدواء أو بنج أو مسكر هو فيه معذور بمقتضى قواعد الشريعة (¬3)، فإن السكران لا قصد له، فهو أولى بعدم المؤاخذة من اللاغي ومن جرى اللفظ على لسانه من غير قصد له، وقد صرَّح أصحاب أبي حنيفة بأنه لا يقع طلاق الموسوس، وقالوا: لا يقع طلاق المعتوه (¬4)، وهو من كان قليل الفهم مختلط الكلام فاسد التدبير، إلا أنه لا يضرب ولا يشتم كما يفعل المجنون. فصل [المخرج الثاني ويشتمل على القول في طلاق الغضبان] المخرج الثاني: أن يُطلِّق أو يحلف في حال غضب شديد وقد حال بينه وبين كمال قصده وتصوره، فهذا لا يقع طلاقه ولا عتقه ولا وقفه، ولو بدرت منه كلمة الكفر في هذا الحال لم يكفر، وهذا نوع من الغلق والإغلاق الذي منع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقوع الطلاق والعتاق فيه (¬5)، نص على ذلك الإمام أحمد وغيره، قال أبو بكر عبد العزيز في كتاب "زاد المسافر" (¬6) له: باب في الطلاق في الإغلاق (¬7)، قال أحمد في رواية حنبل: وحديث عائشة -رضي اللَّه عنها-[أنها] (¬8) سمعت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا طَلاقَ ولا عِتاقَ في إغلاق" (¬9) يعني الغضب، وبذلك فسره أبو داود [في "سننه"] عقب ذكره الحديث] (¬10)، فقال: والإغلاق أظنه الغضب (¬11). ¬
[التحقيق في مسألة طلاق الإغلاق]
وقسم شيخ الإسلام [ابن تيمية قدس اللَّه روحه] الغضب إلى ثلاثة أقسام (¬1): قسم يزيل العقل كالسكر، فهذا لا يقع معه طلاق بلا ريب. وقسم يكون في (¬2) مبادئه بحيث لا يمنعه من تصور ما يقول وقصده، فهذا يقع معه الطلاق (¬3)، وقسم يشتد بصاحبه، ولا يبلغ به زوال عقله، بل يمنعه من التثبت والتروي (¬4) ويخرجه عن حال اعتداله، فهذا محل اجتهاد (¬5). [التحقيق في مسألة طلاق الإغلاق] والتحقيق أن الغلق يتناول كل من انغلق عليه طريق قصده وتصوره كالسكران والمجنون والمبرسم (¬6) والمكره والغضبان، فحال هؤلاء كلهم حال إغلاق، والطلاق إنما يكون عن وَطَر، فيكون عن قصد من المطلق وتصور لما يقصده، فإن تخلف أحدهما لم يقع طلاقه (¬7)، وقد نص الإمام مالك والإمام وأحمد (¬8) في إحدى الروايتين عنه فيمن قال لامرأته: "أنت طالق ثلاثًا" ثم قال: أردت أن أقول: إن كلَّمتِ فلانًا، أو خرجت من بيتي بغير إذني، ثم بدا لي فتركت اليمين، ولم أُرِدْ التَّنجيز في الحال، إنه لا تطلق عليه، وهذا هو الفقه بعينه لأنه لم يرد التنجيز، ولم يتم اليمين. وكذلك لو أراد أن يقول: "أنت طاهر" فسبق لسانه فقال: "أنت طالق" لم يقع طلاقه، لا في الحكم الظاهر ولا فيما بينه وبين اللَّه عز وجل (¬9)، نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايتين، والثانية لا يقع ¬
فصل [المخرج الثالث ويشتمل على القول في طلاق المكره]
فيما بينه وبين اللَّه عز وجل، ويقع في الحكم، وهذا إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وقال ابن أبي شيبة: ثنا محمد بن مروان، عن عمارة: سُئل جابر بن زيد عن رجل غلط بطلاق امرأته، فقال: ليس على المؤمن غلط (¬1)، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، [عن جابر]، عن عامر في رجل أراد أن يتكلم في شيء فغلط، فقال الشعبي: ليس بشيء (¬2). فصل [المخرج الثالث ويشتمل على القول في طلاق المكره] المخرج الثالث: أن يكون مُكْرهًا على الطلاق أو الحلف به عند جمهور الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو قول أحمد ومالك الشافعي وجميع أصحابهم، على اختلاف بينهم في حقيقة الإكراه وشروطه (¬3)، قال الإمام أحمد في رواية أبي طالب: يمين المستكره إذا ضرب، ابن عمر و [ابن الزبير] (¬4) لم يرياه شيئًا، وقال في رواية [أبي] الحارث: إذا طلَّق المكره لم يلزمه الطلاق، فإذا (¬5) فعل به كما فعل بثابت بن الأحنف فهو مكره؛ لأن ثابتًا عصروا رجله حتى طلَّق، فأتى ابن عمر و [ابن الزبير] (4) فلم يريا ذلك شيئًا (¬6)، وكذا قال اللَّه تعالى: ¬
[رأي علي وغيره من الصحابة والأئمة في طلاق المكره]
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وقال الشافعي -رضي اللَّه عنه- (¬1): "قال اللَّه عز وجل: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]، وللكفر أحكام، فلما وضعها اللَّه سبحانه عنه (¬2) سقطت أحكام الإكراه عن القول كله؛ لأن الأعظم إذا سقط عن الناس سقط ما هو أصغر منه"، وفي "سنن ابن ماجه"، و"سنن البيهقي" من حديث بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن ابن عباس عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه وضع عن أمتي"، وقال البيهقي: "تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (¬3)، وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه تجاوز لأمتي ما توسوس به صدورها، ما لم تعمل به أو تتكلم به" زاد ابن ماجه: "وما استكرهوا عليه" (¬4). [رأي علي وغيره من الصحابة والأئمة في طلاق المكره] وقال (¬5) الشافعي رحمه اللَّه: "روى حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن عليًا (¬6) قال: لا طلاق لمكره (¬7)، وذكر الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير ¬
[أن] (¬1) ابن عباس: لم يجز طلاق المكره" (¬2)، وذكر أبو عبيد (¬3) عن علي وابن عباس وابن عمر وابن الزبير وعطاء وعبد اللَّه بن [عبيد بن] (¬4) عمير أنهم كانوا يرون طلاقه غير جائز. وقال ابن أبي شيبة: ثنا عبد اللَّه بن طلحة (¬5)، عن أبي يزيد المديني (¬6) عن ابن عباس قال: ليس على المكره ولا المضطهد طلاق (¬7)، وحدثنا أبو معاوية، عن عبد اللَّه بن عمير، عن ثابت مولى أهل المدينة، عن ابن عمر وابن الزبير كانا لا يريان طلاق المكره شيئًا (¬8)، ثنا وكيع، عن الأوزاعي، عن رجل، عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه لم يره شيئًا (¬9). ¬
[تحقيق رأي عمر في طلاق المكره]
[تحقيق رأي عمر في طلاق المكره] قلت: قد اختلف على عمر، فقال إسماعيل بن أبي أويس: حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم الجمحي، عن أبيه، أن رجلًا تَدَلّى يَشْتَارُ عسلًا في زمن عمر -رضي اللَّه عنه-، فجاءته امرأته فوقفت على الحبل، فحلفت لتقطعنَّه، أو لتطلقني ثلاثًا، فذكَّرها اللَّه والإسلام، فأبت إلا ذلك، فطلَّقها ثلاثًا، فلما ظهر أتى عمر فذكر له ما كان منها إليه و [ما كان] منه إليها، فقال: ارجع إلى أهلك فليس (¬1) هذا بطلاق (¬2)، تابعه عبد الرحمن بن مهدي عن عبد الملك (¬3)، وهو المشهور عن عمر. وقال أبو عبيد: حدثني يزيد، عن عبد الملك بن قدامة، عن أبيه، عن عمر بهذا، لكنه (¬4) قال: فرفع إلى عمر فأبانها منه (¬5)، قال أبو عبيد: "وقد روي عن عمر خلافه"، ولم يصح عن أحد من الصحابة تنفيذ طلاق المكره سوى هذا الأثر عن عمر، وقد اختلف فيه عنه، والمشهور أنه ردها إليه (¬6)، ولو صح إبانتها (¬7) منه لم يكن صريحًا في الوقوع، بل لعله رأى من المصلحة التفريق بينهما، وأنهما لا يتصافيان بعد ذلك، فألزمه بإبانتها. [رأي شريح وإبراهيم والشعبي] ولكن الشعبي (¬8) وشريح (¬9) وإبراهيم (¬10) يجيزون طلاق المكره حتى قال ¬
[مذهب ثالث عن الشعبي]
إبراهيم: لو وضع السيف على مفرقه ثم طلق لأجزت طلاقه. [مذهب ثالث عن الشعبي] وفي المسألة مذهب ثالث، قال ابن أبي شيبة (¬1): ثنا ابن إدريس، عن حصين، عن الشعبي في الرجل يُكره على أمر من أمر العتاق أو الطلاق، فقال: إذا أكرهه السلطان جاز، وإذا أكرهه اللصوص لم يجز. ولهذا القول غور وفقه دقيق لمن تأمله. فصل [المكره يظنُّ أن الطلاق يقع به فينويه] واختلفوا في المكره يظن أن الطلاق يقع به فينويه، هل يلزمه؟ على قولين وهما وجهان للشافعية، فمن ألزمه رأى أن النية قد قارنت اللفظ، وهو لم يكره على النية، فقد أتى بالطلاق المنويّ اختيارًا فلزمه، ومن لم يلزمه [به] (¬2) رأى أن لفظ المكره لغو لا عبرة به، فلم يبق إلا مجرد النية، وهي لا تستقل بوقوع الطلاق. فصل [المكره يمكنه التورية فلا يوري] واختلف في ما لو أمكنه التورية فلم يُوَرِّ، والصحيح أنه لا يقع به الطلاق (¬3) وإن تركها، فإن اللَّه سبحانه (¬4) لم يوجب التورية على من أكره على كلمة الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان، مع أن التورية هناك أولى، ولكن المكره إنما لم يعتبر لفظه لأنه غير قاصد لمعناه، ولا مريد لموجبه، وإنما تكلم به فداء لنفسه من ضرر الإكراه، فصار تكلمه باللفظ لغوًا (¬5) بمنزلة كلام المجنون والنائم ومن لا قصد له، ¬
فصل [المخرج الرابع: ويشتمل على حكم الاستثناء في الطلاق]
سواء (¬1) ورَّى أولم يُوَرِّ، وأيضًا فاشتراط التورية إبطال لرخصة التكلم مع الإكراه، ورجوع إلى القول بنفوذ طلاق المكره، فإنه لو ورَّى بغير إكراه لم يقع طلاقه، والتأثير إذًا إنما هو للتورية لا للإكراه، وهذا باطل، وأيضًا (¬2) فإن المورّيَ إنما لم يقع طلاقه مع قصده للتكلم باللفظ؛ لأنه لم يقصد مدلوله، وهذا المعنى بعينه ثابت في الإكراه، فالمعنى الذي منع من النفوذ في [التورية هو الذي منع النفوذ في] (¬3) الإكراه. فصل [المخرج الرابع: ويشتمل على حكم الاستثناء في الطلاق] المخرج الرابع: أن يستثني في يمينه أو طلاقه، وهذا موضع اختلف فيه الفقهاء (¬4)، فقال الشافعي وأبو حنيفة [رحمهما اللَّه] (¬5): يصح الاستثناء في الإيقاع والحلف، فإذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه"، أو "أنت حرة إن شاء اللَّه"، أو "إن كلَّمتِ فلانًا فأنت طالق إن شاء اللَّه"، أو "الطلاق يلزمني لأفعلنَّ كذا إن شاء اللَّه"، أو "أنت عليَّ حرام أو الحرام يلزمني إن شاء اللَّه" نفعه الاستثناء، ولم يقع به طلاق في ذلك [كله] (3). ثم اختلفا في الموضع الذي يعتبر فيه الاستثناء، فاشترط أصحاب أبي حنيفة اتصاله بالكلام فقط، سواء نواه من أوله أو قبل الفراغ من كلامه أو بعده. وقال أصحاب الشافعي: إن عقد اليمين ثم عنَّ له الاستثناء لم يصح، وإن عَنَّ له الاستثناء في أثناء اليمين فوجهان: أحدهما: يصح. والثاني: لا يصح. وإن نوى الاستثناء مع عقد اليمين صح وجهًا واحدًا، وقد ثبت بالسنة الصحيحة أن سليمان بن داود -رضي اللَّه عنه- (¬6) قال: لأطوفنَّ الليلة على كذا وكذا امرأة تحمل كل امرأة منهنَّ غلامًا يقاتل في سبيل اللَّه، فقال له المَلَك الموكل به: قل: إن شاء اللَّه، فلم يقل، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده لو ¬
قالها لقاتلوا في سبيل اللَّه [فرسانًا] أجمعون" (¬1)، وهذا صريح في نفع الاستثناء المقصود بعد عقد اليمين. وثبت في "السنن" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "واللَّه لأغزون قريشًا، واللَّه لأغزون قريشًا، واللَّه لأغزون قريشًا"، ثم سكت قليلًا ثم قال: "إن شاء اللَّه" ثم لم يغزهم (¬2)، رواه أبو داود. وفي "جامع الترمذي" من حديث ابن عمر [-رضي اللَّه عنهما-] (¬3) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حلف على يمين فقال: إن شاء اللَّه فلا حنث عليه" (¬4)، وقد قال تعالى: {ولَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) ¬
إلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] فهذه النصوص الصحيحة لم يشترط في شيء منها البتة (¬1) في صحة الاستثناء ونفعه أن ينويه مع الشروع في اليمين ولا قبلها، بل حديث سليمان صريح في خلافه، وكذلك حديث: "لأغزون قريشًا"، وحديث ابن عمر متناول (¬2) لكل من قال: إن شاء اللَّه بعد يمينه، [سواء] (¬3) نوى الاستثناء قبل الفراغ أو لم ينوه، والآية دالة على نفع ¬
الاستثناء مع النسيان أظهر دلالة، ومن شرط النية قبل الفراغ لم يكن لذكر الاستثناء بعد النسيان عنده تأثير. وأيضًا فالكلام بآخره، وهو كلام [واحد] (¬1) متصل بعضه ببعض، فلا (¬2) معنى لاشتراط النية في أجزائه وأبعاضه، وأيضًا فإن الرجل قد يستحضر بعد فراغه من الجملة ما يرفع بعضها، ولا يذكر ذلك في حال تكلّمه بها، فيقول: لزيد عندي ألف درهم، ثم في الحال يذكر أنه قضاه منها مئة فيقول: إلا مئة، فلو اشترط نية الاستثناء قبل الفراغ لتعذر عليه استدراك ذلك وألجئ إلى الإقرار بما لا يلزمه والكذب [فيه] (¬3). وإذا كان هذا في الإخبار فمثله في الإنشاء سواء، فإن الحالف قد يبدو له فيعلِّق اليمين بمشيئة اللَّه، وقد يذهل في أول كلامه عن قصد الاستثناء، أو يشغله شاغل عن نيته، فلو لم ينفعه الاستثناء حتى يكون ناويًا له من أول يمينه لفات مقصود الاستثناء، وحصل الحرج الذي رفعه اللَّه تعالى عن الأمة به، ولما قال لرسوله إذا نسيه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] وهذا متناول لذكره إذا نسي الاستثناء قطعًا، فإنه سب النزول (¬4)، ولا يجوز إخراجه وتخصصيه لأنه مراد قطعًا، وأيضًا فإن صاحب هذا القول إن طرده لزمه ألا يصح مخصِّص من صفة أو بدل أو غاية أو استثناء بإلا ونحوها حتى ينويه المتكلم من أول كلامه، فإذا قال: له عليّ ألف مؤجلة إلى سنة" هل يقول عالم: إنه لا يصح وصفها بالتأجيل حتى يكون منويًا من أول الكلام؟ وكذلك إذا قال: "بعتك هذا بعشرة" فقال: "اشتريته على أن لي الخيار ثلاثة أيام" يصح هذا الشرط وإنْ لم ينوه من أول كلامه، بل عَنَّ له الاشتراط عقيب القبول. ومثله لو قال: "وقفت داري على أولادي أو غيرهم بشرط كونهم فقراء مسلمين (¬5)، أو متأهلين، وعلى أنه من مات منهم فنصيبه لولده أو للباقين" (¬6) صح [له] (¬7) ذلك وإن عنَّ له ذكر هذه الشروط بعد تلفظه بالوقف. ولم يقل أحد: لا تقبل منه هذه الشروط إلا أن يكون قد نواها قبل الوقف أو معه، ولم يقع في زمن من الأزمنة [قط] (¬8) سؤال الواقفين عن ذلك، وكذلك لو قال: "له عَلَيَّ مئة درهم إلا عشرة" فإنه يصح الاستثناء، وينفعه، ولا يقول له الحاكم: "إنْ كنتَ نويتَ ¬
الاستثناء من أول كلامك لزمك تسعون، وإنْ كنتَ إنما نويته بعد الفراغ لزمك مئة" ولو اختلف الحال لبيَّن له الحاكم (¬1) ذلك، ولساغ له أن يسأله بل (¬2) يُحَلِّفُه أنه نوى ذلك قبل الفراغ إذا طلب المقرُّ له ذلك، وكذلك (¬3) لو ادّعى عليه أنه باعه أرضًا فقال: نعم بعته هذه الأرض إلا هذه البقعة، لم يقل أحد: إنه قد أقر [له] (¬4) ببيع الأرض جميعها إلا أن يكون قد نوى استثناء البقعة في أول كلامه، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مكة: "إنه لا يختلى خلاها" (¬5) فقال له العباس: "إلا الإذْخِر" فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ثم قال: "إلا الإذخر" (¬6)، وقال في أسرى بدر: "لا ينفلت أحد منهم إلا بفداء أو ضربة (¬7) عنق" فقال له ابن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فقال: "إلا سهيل بن بيضاء" (¬8)، ومعلوم أنه لم ينو واحدًا من هذين ¬
[شبهة من اشترط النية قبل الاستثناء]
الاستثناءين في أول كلامه، بل أنشأه (¬1) لما ذُكِّر به، كما أخبر عن سليمان بن داود صلى اللَّه عليهما أنه لو أنشأه (¬2) بعد أن ذكَّره به الملك نفعه ذلك (¬3). [شبهة من اشترط النية قبل الاستثناء] وشبهة مَنْ اشترط ذلك أنه إذا لم ينو الاستثناء من أول كلامه فقد لزمه موجب كلامه، فلا يقبل منع رفعه (¬4)، ولا رفع بعضه [بعد لزومه] (¬5). وهذه الشبهة لو صحت لما نفع الاستثناء في طلاق ولا عتاق ولا إقرار البتة، نواه أو لم ينوه؛ لأنه إذا لزمه موجب كلامه لم يقبل منه رفعه ولا رفع بعضه بالاستثناء، وقد طرد هذا بعض الفقهاء فقالوا: لا يصح الاستثناء في الطلاق توهمًا لصحة هذه الشبهة. [جواب الشبهة] وجوابها [أنه] (¬6) إنما يلزمه موجب كلامه إذا اقتصر عليه، فأما إذا وصله بالاستثناء أو الشرط ولم يقتصر على ما دونه فإن موجب كلامه ما دل عليه سياقه وتمامه من تقييد باستثناء أو صفة أو شرط أو بدل أو غاية، فتكليفه نية (¬7) ذلك التقييد من أول الكلام وإلغاؤه إن لم ينوه أولًا تكليف ما لا يكلفه اللَّه به ولا رسوله ولا يتوقف صحة الكلام عليه، [وباللَّه التوفيق] (5). ¬
فصل [رأي مالك]
فصل [رأي مالك] وقال مالك: لا يصح الاستثناء في إيقاعهما، ولا الحلف بهما، ولا الظهار ولا الحلف به، ولا النذر، ولا في شيء من الأيمان، إلا في اليمين باللَّه تعالى وحده. [رأي أحمد] وأما الإمام أحمد فقال أبو القاسم الخرقي (¬1): وإذا استثنى في العتاق والطلاق (¬2) فأكثر الروايات عن أبي عبد اللَّه أنه توقف عن الجواب (¬3)، وقد قطع في مواضع [أخر] (¬4) أنه لا ينفعه الاستثناء، فقال في رواية ابن منصور: من حلف فقال: "إن شاء اللَّه" لم يحنث، وليس له استثناء في الطلاق والعتاق، وقال في رواية أبي طالب إذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه" [لم] (¬5) تطلق، وقال في رواية [أبي] (¬6) الحارث: إذا قال لامرأته: "أنت طالق إن شاء اللَّه": الاستثناء إنما يكون في الأيمان. قال الحسن وقتادة وسعيد بن المسيب: ليس له ثنيا في الطلاق. وقال قتادة: وقوله: "إن شاء اللَّه" قد شاء اللَّه الطلاق حين أذن فيه، وقال في رواية حنبل: من حلف فقال: "إن شاء اللَّه" لم يحنث، وليس له استثناء في الطلاق والعتاق، قال (¬7) حنبل: لأنهما ليسا من الإيمان، وقال صاحب "المغني" (¬8) [وغيره] (5): وعنه ما يدل على أن الطلاق لا يقع وكذلك العتاق. [في هذه المسألة ثلاث روايات عن أحمد بن حنبل] فعلى هذا يكون عنه في المسألة ثلاث روايات: الوقوع، وعدمه، والتوقف ¬
[تعليق الطلاق على فعل يقصد به الحض والمنع]
فيه، وقد قال في رواية الميموني: إذا قال لامرأته: "أنت طالق يوم أتزوج بك إن شاء اللَّه" ثم تزوجها لم يلزمه شيء، ولو قال لأمة: "أنت حرة يوم أشتريك إن شاء اللَّه" صارت حرة، فلعل أبا حامد الإسفرائيني وغيره ممن حكى عن أحمد الفرق بين "أنت طالق إن شاء اللَّه" فلا تطلق "وأنت حرة إن شاء اللَّه" فتعتق استند [إلى] (¬1) هذا النص، وهذا من غلطه على أحمد، بل هذا تفريق منه بين صحة تعليق العتق على الملك وعدم صحة تعليق الطلاق على النكاح، وهذا قاعدة مذهبه، والفرق عنده أن الملك قد شرع سببًا لحصول العتق كملك ذي الرحم المحرم، [وقد يعقد البيع سببًا لحصول العتق اختيارًا كشراء من يريد عتقه في كفارة أو قربة أو فداء كشراء قريبه، ولم يشرع اللَّه النكاح سببًا لإزالته البتة، فهذا فقهه وفرقه] (1)، فقد (¬2) أطلق القول بأنه لا ينفع الاستثناء في إيقاع الطلاق والعتاق (¬3)، وتوقف في أكثر الروايات عنه، فتخرَّج المسألة على وجهين صرح بهما الأصحاب، وذكروا وجهًا ثالثًا، وهو: أنه إنْ قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة لم تطلق، وإن قصد التبرك أو التأدب (¬4) طلقت، وقيل عن أحمد: يقع العتق دون الطلاق، ولا يصح هذا التفريق عنه، بل هو خطأ عليه. قال شيخنا (¬5): وقد روي في الفرق حديث موضوع على معاذ بن جبل يرفعه (¬6). [تعليق الطلاق على فعل يقصد به الحض والمنع] فلو علَّق الطلاق على فعل يقصد به الحض أو المنع كقوله: "أنت طالق إن كلَّمت فلانًا إن شاء اللَّه" فروايتان منصوصتان عن الإمام أحمد. إحداهما (¬7): ينفعه الاستثناء، ولا تطلق إن كلمت فلانًا، وهو قول أبي عبيد (¬8)؛ لأنه بهذا التعليق قد صار حالفًا، وصار تعليقه يمينًا باتفاق الفقهاء، فصح (¬9) استثناؤه فيها لعموم النصوص المتناولة للاستثناء في الحلف واليمين. ¬
[لم يجعل ابن تيمية الكفارة في يمين الطلاق]
والثانية: لا يصح الاستثناء، وهو قول مالك كما تقدم؛ لأن الاستثناء إنما ينفع في الأيمان المكفَّرة، فالتكفير والاستثناء متلازمان، ويمين الطلاق والعتاق لا يكفَّران، فلا ينفع فيهما الاستثناء. [لم يجعل ابن تيمية الكفارة في يمين الطلاق] ومن هنا (¬1) خرَّج شيخنا على المذهب إجزاء التكفير فيهما؛ لأن أحمد -رضي اللَّه عنه- نص على أن الاستثناء إنما يكون في اليمين المكفَّرة، ونص على أن الاستثناء ينفع في اليمين بالطلاق والعتاق، فيخرج (¬2) من نصه إجزاء الكفارة في اليمين بهما (¬3)، وهذا تخريج في غاية الظهور والصحة، ونص أحمد على الوقوع لا يبطل صحة هذا التخريج، كسائر نصوصه ونصوص غيره من الأئمة التي يخرج منها على مذهبه خلاف ما نص عليه، وهذا أكثر وأشهر من أن يذكر. [رأي بعض أصحاب أحمد] ومن أصحابه من قال: إنْ أعاد الاستثناء إلى الفعل نفعه قولًا واحدًا، وإنْ أعاده إلى الطلاق فعلى روايتين، ومنهم من جعل الروايتين على اختلاف حالين، فإنْ أعاده إلى الفعل نفعه، وإن أعاده إلى قوله: "أنت طالق" لم ينفعه. وإيضاح ذلك أنه إذا قال: "إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء اللَّه" فإنه تارة يريد: "فأنت طالق إن شاء اللَّه طلاقك"، وتارة يريد: "إن شاء اللَّه تعليق اليمين بمشيئة اللَّه" أي إن شاء اللَّه عقد هذه اليمين فهي معقودة، فيصير كقوله: "واللَّه لأقومنَّ إن شاء اللَّه" فإذا قام علمنا أن اللَّه قد شاء القيام، وإن لم يقم علمنا أن اللَّه لم يشأ قيامه (¬4)، [فما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن] (¬5)، فلم يوجد الشرط فلم يحنث، [فينقل هذا بعينه إلى الحلف بالطلاق] (5)؛ فإنه (¬6) إذا قال: "الطلاق يلزمني لأقومن إن شاء اللَّه [لي] (¬7) القيام" فلم يقم لم يشأ اللَّه له القيام، فلم يوجد الشرط فلم يحنث، فهذا الفقه بعينه. ¬
فصل [حكم: أنت طالق إلا أن يشاء الله]
فصل [حكم: أنت طالق إلا أن يشاء اللَّه] فإن قال: "أنت طالق إلا أن يشاء اللَّه" فاختلف الذين يصححون الاستثناء في قوله: "أنت طالق إن شاء اللَّه" هاهنا: هل ينفعه الاستثناء ويمنع وقوع الطلاق أو لا ينفعه؟ على قولين، وهما وجهان لأصحاب الشافعي، والصحيح عندهم أنه لا ينفعه الاستثناء ويقع الطلاق، والثاني ينفعه [الاستثناء] (¬1)، ولا تطلق، وهو قول أصحاب أبي حنيفة، والذين لم يصححوا الاستثناء احتجوا بأنه أوقع الطلاق وعلَّق رفعه بمشيئة لم تعلم (¬2)، إذ المعنى قد وقع عليك الطلاق إلا أن يشاء اللَّه رفعه وهذا يقتضي وقوعًا منجزًا ورفعًا معلقًا بالشرط، والذين صححوا الاستثناء قولهم أفقه، فإنه لم يوقع طلاقًا (¬3) منجَّزًا، وإنما وقع طلاقًا معلقًا على المشيئة، فإن معنى كلامه: أنت طالق إن (¬4) شاء اللَّه طلاقك، فإن شاء عدمه لم تطلقي، بل لا تطلقين إلا بمشيئته، فهو داخل في الاستثناء من قوله: إن شاء اللَّه، فإنه جعل مشيئة اللَّه لطلاقها شرطًا فيه، وهاهنا (¬5) أضاف إلى ذلك جَعْلَه عدم مشيئته مانعًا من طلاقها. [تحقيق المسألة] والتحقيق أن كل واحد من الأمرين يستلزم الآخر، فقوله: "إن شاء اللَّه" يدل على الوقوع عند وجود المشيئة صريحًا، وعلى انتفاع الوقوع عند انتفائها لزومًا، وقوله: "إلا أن يشاء اللَّه" يدلل على عدم الوقوع عند عدم المشيئة صريحًا، وعلى الوقوع عندها لزومًا، فتأمله، فالصورتان سواء كما سوَّى بينهما أصحاب أبي حنيفة وغيرهم من الشافعية. وقولهم: "إنه أوقع الطلاق وعلَّق رفعه بمشيئة لم تعلم" (¬6) فهذا بعينه يحتج به عليهم من قال: إن الاستثناء لا ينفع في الإيقاع بحال، فإن صحت هذه الحجة بطل الاستثناء في الإيقاع جملة، وإن لم يصح لم يصح الفرق وهو لم يوقعه مطلقًا، وإنما علقه بالمشيئة نفيًا وإثباتًا كما قررناه (¬7)، فالطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع. ¬
[من قال: إن شاء الله وهو لا يعلم معناها]
[من قال: إن شاء اللَّه وهو لا يعلم معناها] وعلى هذا فإذا قال: "إن شاء اللَّه"، وهو لا يعلم معناها أصلًا، فهل ينفعه هذا الاستثناء؟ قال أصحاب أبي حنيفة: إذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه"، ولا يدري أي شيء "إن شاء اللَّه" لا يقع [الطلاق] (¬1)، قالوا: لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع، فعلمه وجهله سواء، قالوا: ولهذا لما كان سكوت البكر رضا استوى فيه العلم والجهل، حتى لو زوَّجها أبوها فسكتت وهي لا تعلم أن السكوت رضا صح النكاح، ولم يُعتبر جهلها. ثم قالوا: فلو قال (¬2) لها: "أنت طالق" فجرى على لسانه من غير قصد: "إن شاء اللَّه"، وكان قصده إيقاع الطلاق لم يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد حقيقة، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعًا، وهذا القول في طرف وقول من يشترط نية الاستثناء في أول الكلام أو قبل الفراغ منه في طرف آخر، وبينهما أكثر من بعد المشرقين. [حكم قوله: أنت طالق إن لم يشأ اللَّه، أو ما لم يشأ اللَّه] لو (¬3) قال: "أنت طالق إن لم يشأ اللَّه (¬4)، أو ما لم يشأ اللَّه" فهل يقع الطلاق في الحال أو لا يقع؟ على قولين، وهما وجهان في مذهب أحمد: • فمن أوقعه احتج بأن كلامه تضمن أمرين: محالًا، وممكنًا، فالممكن التطليق (¬5)، والمحال وقوعه على هذه الصفة، وهو إذا لم يشأه اللَّه (¬6)، فإن ما شاء اللَّه وجب وقوعه، فيلغو هذا التقييد المستحيل، ويسلم أصل الطلاق فينفذ. • الوجه (¬7) الثاني: لا يقع، ولهذا القول مأخذان: أحدهما: أن تعليق الطلاق على الشرط المحال يمنع من وقوعه، كما لو قال: "أنت طالق إن جمعت بين الضدين" أو "إن شربت ماء الكوز"، ولا ماء فيه لعدم وقوع شرطه، فهكذا إذا قال: "أنت طالق إن لم يشأ اللَّه" فهو (¬8) تعليق للطلاق على شرط مستحيل، وهو عدم مشيئة اللَّه، فلو طلقت لطلقت بمشيئته، وشرط وقوع الطلاق عدم مشيئته. ¬
فصل [رأي من قال: إن الاستثناء في الطلاق لا يفيد]
والمأخذ الثاني -وهو أفقه- أنه استثناء في المعنى، وتعليق على المشيئة، والمعنى إن لم يشأ اللَّه عدم طلاقك، فهو كقوله: "إلا أن يشأ اللَّه" سواء كما تقدم بيانه. فصل [رأي من قال: إن الاستثناء في الطلاق لا يفيد] قال الموقِعُون: قال إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني: حدثنا خالد [بن يزيد] (¬1) بن أسد القسري: ثنا جُميع بن عبد الحميد الجعفي، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري وابن عمر -رضي اللَّه عنهما- قالا: كنَّا معاشر أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نرى الاستثناء جائزًا في كل شيء إلا في الطلاق والعتاق (¬2)، قالوا: وروى أبو حفص ابن شاهين بإسناده عن ابن عباس -رضي اللَّه عنه- قال: إذا قال الرجل لامرأته: "أنت طالق إن شاء اللَّه" فهي طالق (¬3)، [وكذلك روى عن أبي بردة، قالوا: ولأنه استثناء يرفع جملة الطلاق فلم يصح، كقوله: "أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا"] (¬4) قالوا: ولأنه إنشاء حكم في محل، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح، قالوا: ولأنه إزالة ملك فلم يصح تعليقه على مشيئة اللَّه تعالى، كما لو قال: أبرأتك إن شاء اللَّه، قالوا: ولأنه تعليق على ما لا سبيل إلى العلم به، فلم يمنع وقوع الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إن شاءت السموات والأرض، قالوا: وإن كان لنا سبيل إلى العلم بالشرط صح الطلاق لوجود شرطه، ويكون الطلاق حينئذٍ معلقًا على شرط [قد] (¬5) تحقق وجوده بمباشرة الآدمي سببه، قال قتادة: قد شاء اللَّه حينئذ أن تطلق (¬6)، ¬
قالوا: ولأن اللَّه تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظة شرعًا وقدرًا، فإذا أتى بها المكلف فقد أتى بما شاءه اللَّه تعالى، فإنه لا يكون شيء قط إلا بمشيئة اللَّه عز وجل، واللَّه عز وجل شاء (¬1) الأمور بأسبابها، فإذا شاء تكوين شيء وإيجاده شاء سببه، فإذا أتى المكلف بسببه فقد أتى [به] (¬2) بمشيئة اللَّه، ومشيئة السبب مشيئة للمسبب، فإنه لو لم يشأ وقوع الطلاق لم يكن المكلف أن يأتي به، فإن ما لم يشأ اللَّه يمتنع وجوده كما أن ما شاءه وجب وجوده، قالوا: وهذا في القول نظير المشيئة في الفعل، فلو قال: "أنا أفعل كذا إن شاء اللَّه تعالى"، وهو متلبس بالفعل (¬3) صح ذلك، ومعنى كلامه أن فعلي هذا إنما هو بمشيئة اللَّه، كما لو قال حال دخوله الدار (¬4): "أنا أدخلها إن شاء اللَّه" أو قال من تخلَّص من شر "تخلَّصت إن شاء اللَّه"، وقد قال يوسف لأبيه وأخوته: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] في حال دخولهم، والمشيئة راجعة إلى الدخول المقيَّد بصيغة الأمر (¬5)، فالمشيئة متناولة لهما جميعًا، قالوا: ولو أتى بالشهادتين ثم قال عقيبهما: "إن شاء اللَّه" أو قال: "أنا مسلم إن شاء اللَّه" فإن ذلك لا يؤثر في صحة إسلامه شيئًا، ولا يجعله إسلامًا معلقًا على شرط، [قالوا] (2): ومن المعلوم قطعًا أن اللَّه قد شاء تكلّمه بالطلاق، فقوله بعد ذلك: "إن شاء اللَّه" تحقيق لما قد علم قطعًا أن اللَّه شاءه، فهو (¬6) بمنزلة قوله: " [أنت طالق] (¬7) إن كان اللَّه أباح الطلاق وأذن فيه" (¬8)، ولا فرق بينهما، وهذا بخلاف قوله: "أنت طالق إن كلمت فلانًا" فإنه شَرَط في طلاقها ما يمكن وجوده وعدمه، فإذا وجد الشرط وقع ما علق به، ووجود الشرط في مسألة المشيئة إنما يعلم بمباشرة العبد سببه، فإذا باشره علم أن اللَّه قد شاءه، قالوا: وأيضًا فالكفارة أقوى من الاستثناء؛ لأنها ترفع حكم اليمين، والاستثناء يمنع عقدها، والرافع أقوى من المانع، وأيضًا فإنها تؤثر متصلة ومنفصلة، والاستثناء لا يؤثر مع الانفصال، ثم الكفارة مع قوتها لا تؤثر في الطلاق والعتاق، فأن لا يؤثر فيه الاستثناء أولى وأحرى، قالوا: وأيضًا فقوله: ¬
"إن شاء اللَّه" إن كان استثناء فهو رافع لجملة المستثنى منه فلا يرتفع، وإن كان شرطًا فإما أن يكون معناه: إن كان اللَّه قد شاء طلاقك، [أو: إن] (¬1) شاء اللَّه أن أوقع عليك في المستقبل طلاقًا غير هذا؛ فإن كان المراد هو الأول فقد شاء اللَّه طلاقها بمشيئته لسببه، وإن كان المراد هو الثاني فلا سبيل للمكلف إلى العلم بمشيئته تعالى فقد علق الطلاق بمشيئته من لا سبيل [للمكلف] (¬2) إلى العلم بمشيئته؛ فيلغو التعليق، ويبقى أصل الطلاق فينفذ. قالوا ولأنه علق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن، فوجب نفوذه، كما لو قال: "أنت طالق إن علم اللَّه" أو: "إن قدر اللَّه" أو: "إن سمع [اللَّه] (¬3) " أو (¬4): "إن رأى". يوضحه أنه حذف مفعول المشيئة، ولم ينو مفعولًا معيَّنًا، فحقيقة لفظه: أنت طالق إن كان للَّه مشيئة، أو إن شاء أي شيء كان، ولو كانت [نيته إن شاء اللَّه] (¬5) هذا الحادث المعين وهو الطلاق لم يمنع جعل المشيئة المطلقة التي (¬6) هذا الحادث فرد من أفرادها شرطًا في الوقوع (¬7)، ولهذا لو سئل المستثني عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة (¬8) بل لعلها لا تخطر بباله، وإنما تكلم بهذا اللفظ بناءً على ما اعتاده الناس من قول هذه الكلمة عند اليمين والنذر والوعد. قالوا: ولأن الاستثناء إنما بابه بالأيمان، كقوله: "من حلف فقال: إن شاء اللَّه فإن شاء فعل، وإن شاء ترك"، وليس له دخول في الأخبار ولا في الإنشاءات، فلا يقال: "قام زيد إن شاء اللَّه"، ولا "قم إن شاء اللَّه"، ولا "لا تقم إن شاء اللَّه"، ولا "بعت و [لا] (¬9) قبلت إن شاء اللَّه". وإيقاع الطلاق والعتاق من إنشاء العقود التي لا تعلَّق على الاستثناء، فإن زمن الاستثناء مقارن له، فعقود الإنشاءات (¬10) تقارنها أزمنتها، فلهذا لا تعلق بالشروط. قالوا: والذي يكشف سر المسألة أن هذا الطلاق المعلق على المشيئة إما ¬
[جواب المانعين وإثبات أن الاستثناء يمنع وقوع الطلاق]
أن يريد به طلاقًا ماضيًا أو مقارنًا للمتكلَّم به أو مستقبلًا؛ فإن أراد الماضي أو المقارن وقع لأنه لا يعلق على الشرط، وإن أراد المستقبل -ومعنى كلامه إن شاء اللَّه أن تكوني في المستقبل طالقًا فأنت طالق- وقع أيضًا؛ لأن مشية اللَّه بطلاقها (¬1) الآن يوجب طلاقها في المستقبل، فيعود معنى الكلام إلى أنّي إنْ طلَّقتك الآن بمشيئة اللَّه فأنت طالق، وقد طلَّقها بمشيئته، فتطلق؛ فههنا ثلاث دعاوي: أحداها (¬2): أنه طلقها. والثانية (¬3): أنَّ اللَّه شاء ذلك. الثالثة: أنها قد طلقت؛ فإن صحَّت الدعوى الأولى صحت الأخريان (¬4)، وبيان صحتها أنه تكلم بلفظ صالح للطلاق، فيكون طلاقًا وبيان الثانية أنه حادث؛ فيكون (¬5) بمشيئة اللَّه، فقد شاء اللَّه طلاقها فتطلق، فهذا غاية ما تمسك به الموقعون. [جواب المانعين وإثبات أن الاستثناء يمنع وقوع الطلاق] قال المانعون: أنتم معاشر الموقعين قد ساعدتمونا على صحة تعليق الطلاق بالشرط، ولستم ممن يبطله كالظَّاهرية وغيرهم كأبي عبد الرحمن الشافعي، فقد كفيتمونا نصف المؤنة، وحَمَلتم عنا كلفة الاحتجاج لذلك، فبقي الكلام معكم في صحة هذا التعليق المعيَّن، هل هو صحيح أم لا؟ فإن ساعدتمونا على صحة التعليق قرُب الأمر، وقطعنا نصف المسافة الباقية. ولا ريب أن [هذا] (¬6) التعليق صحيحٌ؛ إذ لو كان محالًا لما صح تعليق اليمين والوعد والنَّذر وغيرهما بالمشيئة، ولكان ذلك لغوًا لا يفيد، وهذا بيِّن البطلان عند جميع الأمَّة، فصح التعليق حينئذ فبقي بيننا وبينكم منزلة أخرى، وهي [أنه] (7) هل وجود هذا الشرط ممكن أم لا؟ فإن ساعدتمونا على الإمكان ولا ريب في هذه المساعدة قربت المسافة جدًّا وحصلت المساعدة على أنه طلاق معلَّق صحّ تعليقه على شرط ممكن، فبقيت منزلة أخرى، وهي أنَّ تأثير الشرط وعمله يتوقف على الاستقبال أم لا يتوقف [عليه] (¬7) بل يجوز تأثيره في الماضي والحال والاستقبال؟ ¬
فإن ساعدتمونا على توقف تأثيره على الاستقبال، وأنه لا يصح تعلقه (¬1) بماض ولا حال -وأنتم بحمد اللَّه على ذلك مساعدون- بقي بيننا وبينكم منزلة واحدة، وهي أنه هل لنا سبيل إلى العلم بوقوع هذا الشرط فيترتب المشروط عليه عند وقوعه، أم لا سبيل لنا إلى ذلك البتة، فيكون التعليق عليه تعليقًا على ما لم يجعل اللَّه لنا طريقًا إلى العلم به؟ فههنا معترك النزال، ودعوة الأبطال، فنَزَالِ نَزَال، فنقول: من أقبح القبائح، وأبْيَن الفضائح، التي تشمئز منها قلوب المؤمنين، وتنكرها فطر العالمين، ما تمسَّك به بعضكم (¬2)، وهذا لفظه بل حُرُوفه (¬3)، قال: لَنا أنَّه علَّق الطلاق بما لا سبيل لنا إليه فوجب أن يقع؛ لأن أصله الصفات المستحيلة، مثل قوله: "أنت طالق إنْ شاء الحَجَرُ" أو "إنْ شاء الميتُ"، أو "إن شاء هذا المجنون المطبق الآن"، فيالك من قياس ما أفسده، وعن طريق الصواب ما أبعده! وهل يستوي في عقل أو رأي أو نظر أو قياس مشيئة الرب -جلَّ جلاله-، ومشيئة الحجر والميت والمجنون (¬4) عند أحد من عقلاء الناس؟ وأقبحُ من هذا -واللَّه المستعان، وعليه التكلان، وعياذًا به (¬5) من الخذلان، ونزغات الشيطان- تمسّك بعضهم بقوله: "علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ لا تُعلم مشيئته فلم يصح التعليق" (¬6)، كما لو قال: "أنت طالق إن شاء إبليس"، فسبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدُّك (¬7)، ولا إلهَ غيرُك، وعياذًا بوجهك الكريم، من هذا الخذلان العظيم، ويا سبحان اللَّه! لقد كان لكم في نصرة هذا القول غنًى عن هذه الشبهة الملعونة في (¬8) ضروب الأقيسة، وأنواع المعاني والإلزامات فسحة ومتسع، واللَّه شرف نفوس الأئمة الذين رفع اللَّه قدرهم، وشاد في العالمين ذكرهم، حيث يأنفون لنفوسهم ويرغبون بها عن أمثال هذه الهذيانات التي تسودُّ بها الوجوه قبل الأوراق، وتُحِلُّ بقمر الإيمان المحاقَ، وعند هذا فنقول: علَّق الطلاق بمشيئة مَنْ جميعُ الحوادث مستندةٌ إلى مشيئته، وتُعْلَم مشيئته عند وجود كل حادث أنه إما وقع بمشيئته، فهذا التعليق من أصح التعليقات، فإذا أنشأ المعلِّق طلاقًا في المستقبل تبينّا وجود الشرط بإنشائه فوقع؛ فهذا أمر معقول شرعًا وفطرة، وقدرًا وتعليق مقبول. ¬
يبينه أن قوله: إن شاء اللَّه لا يريد به إن شاء اللَّه طلاقًا (¬1) ماضيًا قطعًا بل إما أن يريد به هذا الطلاق الذي تلفَّظ به، أو طلاقًا مستقبلًا غيره، فلا (¬2) يصح أن يراد به هذا الملفوظ، فإنه لا يصح تعليقه بالشرط، إذ الشرط إنما يؤثر في الاستقبال، فحقيقةُ هذا التعليق: أنت طالق إن شاء اللَّه طلاقَكِ في المستقبل، ولو صرح بهذا لم تطلق حتى ينشئ لها طلاقًا آخر. ونقرره (¬3) بلفظ آخر فنقول: علَّقه بمشيئة مَنْ له مشيئة صحيحة معتبرة، فهو أولى بالصحة من تعليقه بمشيئة آحاد الناس، يبيّنه أنه لو علَّقه بمشيئة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في حياته لم يقع في الحال، ومعلوم أن ما شاءه اللَّه (¬4) فقد شاءه رسوله، فلو (¬5) كان التعليق بمشيئة اللَّه موجبًا للوقوع في الحال؛ لكان التعليق بمشيئة رسوله في حياته كذلك، وبهذا يبطل ما عوَّلتم عليه. وأما قولُكم: "إن اللَّه تعالى قد شاء الطلاق حين تكلّم به المكلّف (¬6) " فنعم إذا؛ لكن شاء الطلاق المُطْلَق أو المعلّق؟ ومعلوم أنه لم يقع منه طلاق مُطْلَق، بل الواقع منه طلاق معلَّق على شرط، فمشيئة اللَّه [سبحانه له] (¬7) لا تكون مشيئة للطلاق المُطْلَق، فإذا طلَّقها بعد هذا علمنا أن الشرط قد وجد، وأن اللَّه قد شاء طلاقها فطلقت. وعند هذا فنقول: لو شاء اللَّه أن يطلق (¬8) العبد لأنطقه بالطلاق مطلقًا من غير تعليق ولا استثناء، فلما أنطقه به مقيَّدًا بالتعليق والاستثناء، علمنا أنه لم يشأ له الطلاق المنجز، فإن ما شاء اللَّه كان، وما لم يشأ لم يكن. ومما يوضح هذا الأمر أن مشيئة اللفظ لا تكون مشيئة الحكم حتى يكون اللفظ صالحًا للحكم، ولهذا لو تلفظ المكره أو زائلُ العقل أو الصبي أو المجنون بالطلاق، فقد شاء اللَّه منهم وقوع اللفظ، ولم يشأ وقوع الحكم، فإنه لم يرتب على ألفاظ هؤلاء أحكامها لعدم إرادتهم لأحكامها فهكذا المعلِّقُ طلاقَه بمشيئة اللَّه يريد (¬9) أن لا يقع طلاقه، وإن كان اللَّه قد شاء [له] (¬10) التلفظ بالطلاق، وهذا في غاية الظهور لمن أنصف. ¬
[لا بد من مشيئة الله لوقوع فعل العبد]
ويزيده وضوحًا: أن المعنى الذي منع الاستثناء عقد اليمين لأجله، هو بعينه في الطلاق والعتاق؛ فإنه إذا قال: "واللَّه لأفعلنَّ اليوم كذا -إن شاء اللَّه-" فقد التزم فعله في اليوم إن شاء اللَّه له ذلك، فإن فعله فقد علمنا مشيئة اللَّه له، وإن لم يفعله علمنا أن اللَّه لم يشأه؛ إذ لو شاءه لوقع ولا بدُّ. [لا بد من مشيئة اللَّه لوقوع فعل العبد] ولا يكفي في وقوع الفعل مشيئة العبد (¬1) إن شاءه فقط، فإن العبد قد يشاء الفعلَ ولا يقع، فإن مشيئته ليست موجبة (¬2) ولا تلزمه، بل لا بد من مشيئة اللَّه [له] (¬3) أن يفعل، وقد قال تعالى في المشيئة الأولى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]، وقال في المشيئة الثانية: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 54 - 56]، وإذا كان تعليق الحلف بمشيئته تعالى (¬4) يمنع من انعقاد اليمين، وكذلك تعليق الوعد، فإذا قال: "أفعل إنْ شاء اللَّه"، ولم يفعل لم يكن مُخْلِفًا كما لا يكون في اليمين حانثًا وهكذا إذا قال: "أنت طالق إن شاء اللَّه" فإن طلَّقها بعد ذلك، علمنا أن اللَّه [سبحانه] (¬5) قد شاء الطلاق فوقع، وإن لم يطلقها تبيّنَّا أن اللَّه لم يشأ الطلاق فلا تطلق، فلا فرق في هذا بين اليمين والإيقاع، فإن كلًا منهما إنشاءٌ وإلزامٌ مُعلَّق بالمشيئة. قالوا: وأما الأثران اللّذان ذكرتموهما عن الصحابة فما أحسنهما لو ثبتا ولكن كيف بثبوتهما (¬6) وعطية ضعيف، وجميع بن عبد الحميد مجهول، وخالد بن يزيد ضعيف؟ قال ابن عدي (¬7): أحاديثه لا يتابع عليها وأثرُ ابن عباس لا يعلم حالُ إسناده حتى يُقبل أو يُرد. [آثار في مقابلة آثار المانعين من الأخذ بالاستثناء] على أن هذه الآثار مقابلة بآثار أُخر لا تثبت أيضًا: فمنها: ما رواه البيهقي في "سننه" من حديث إسماعيل بن عيَّاش، عن ¬
حميد بن مالك، عن مكحول، عن معاذ بن جبل قال: قال لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا معاذ، ما خلق اللَّه شيئًا على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق، و [ما خلق اللَّه شيئًا على وجه الأرض] (¬1) أحب إليه من العتاق، فإذا قال الرجل لمملوكه: أنت حرٌّ إن شاء اللَّه، فهو حرّ ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، فله استثناؤه ولا طلاق عليه" (¬2) ثم ساقه من طريق [محمد بن مصفَّى: ثنا معاوية بن حفص، عن حميد، عن مالك اللخمي: حدثني مكحول، عن معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه-: [أنه سأل] (¬3) رسولَ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، فقال: ¬
"له استثناؤه"، فقال الرجل (¬1): يا رسول اللَّه، وإن قال لغلامه: أنت حرٌّ إن شاء اللَّه قال: "معتق (¬2)، لأن اللَّه يشاء العتق، ولا يشاء الطلاق"] (¬3). ثم ساق من طريق إسحاق بن أبي نجيح (¬4)، [عن عبد العزيز بن أبي روَّاد: عن ابن جريج، عن عطاء] (¬5)، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: مَنْ قال لامرأته: أنت طالق إن شاء اللَّه، أو لغلامه: أنت حر إن شاء اللَّه، أو عليه المشي إلى بيت اللَّه الحرام إن شاء اللَّه؛ فلا شيء عليه" (¬6)، ثم ساق من طريق الجارود [بن يزيد] (¬7)، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا في الطلاق وَحْدَهُ أنه لا يقع (¬8). ¬
ولو كنَّا ممن يفرح بالباطل ككثير من المصنِّفين الذين يفرح أحدهم بما وجده مؤيدًا لقوله لفرحنا بهذه الآثار، ولكن ليس فيها غنية، فإنها كلها آثار باطلة موضوعة على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. أما الحديث الأول: ففيه عدة بلايا: إحداها (¬1): حميد بن مالك، ضعّفه أبو زرعة وغيره. الثانية: أن مكحولًا لم يَلْقَ مُعاذًا، قال أبو زرعة: (¬2) مكحول عن معاذ منقطع. الثالثة: أنه قد اضطرب فيه حميد هذا الضعيف، فمرة يقول: عن مكحول عن معاذ، ومرة يقول: عن مكحول، عن خالد بن معدان، عن معاذ، وهو منقطع أيضًا وقيل: مكحول عن مالك بن يخامر عن معاذ، قال البيهقي: [و] (¬3) لم يصح. الرابعة: أن إسماعيل بن عياش ليس ممن يقبل تفرده بمثل هذا. ولهذا لم يذهب أحد من الفقهاء إلى هذا الحديث، وما حكاه أبو حامد الإسفرائيني عن أحمد من القول به فباطل عنه لا يصح البتة، وكل من حكاه عن أحمد فمستنده حكاية أبي حامد الإسفرائيني أو من تَلَقّاها عنه. وأما الأثر الثاني؛ فإسناده ظُلمات (¬4) بعضها فوق بعض، حتى انتهى أمره إلى الكذّاب: إسحاق بن [أبي] (¬5) نجيح الملطي (¬6). وأما الأثر الثالث؛ فالجارود بن يزيد قد ارتقى من حَدِّ الضعف إلى حد الترك!! والمقصود أن الآثار من الطرفين لا مُسْتَراحَ فيها. ¬
فصل [الرد على المانعين]
فصل [الرد على المانعين] وأما قولُكم: "إنه استثناءٌ يرفع جملة الطلاق فلم يصح، كقوله: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا"، فما أبردها من حجَّة، فإن الاستثناء لم يرفع حكم الطلاق بعد وقوعه، وإنما منع [من] (¬1) انعقاده منجزًا بل انعقد معلَّقًا كقوله: "أنت طالق إن شاء فلان"، فلم يشأ فلان؛ فإنها لم (¬2) تطلق، ولا يقال: إن الاستثناء رفع جملة الطلاق (¬3). وأما قولكم: "إنه إنشاءُ حكم في محل، فلم يرتفع بالمشيئة كالبيع والنكاح" فأبْرَدُ من الحجة التي قبلها؛ فإن البيع والنكاح لا يصح تعليقهما بالشرط، بخلاف الطلاق. وأما قولكم: "إزالة ملك؛ فلا (¬4) يصح تعليقه على مشيئة اللَّه كالإبراء" فكذلك أيضًا فإن الإبراء لا يصح تعليقه على الشرط مطلقًا عندكم، سواء كان الشرط مشيئة اللَّه (¬5) أو غيرها، فلو قال: "أبرأتك إن شاء زيد" لم يصحّ، ولو قال: "أنت طالق إن شاء زيد" صح. وأما قولكم: "إنه تعليق على ما لا سبيل إلى العلم به" فليس كذلك، بل هو تعليقٌ على ما لنا سبيل إلى علمه؛ فإنه إذا أوقعه في المستقبل علمنا وجود الشرط قطعًا وأن اللَّه قد شاءه. وأما قولكم: "إن اللَّه قد شاءه بتكلم المُطَلَّق به" (¬6) فالذي شاءه اللَّه إنما هو طلاق معلَّق، والطلاق المنجّز لم يشأه اللَّه، إذ لو شاءه لوقع ولا بد، فما شاءه اللَّه لا يُوجب وقوع الطلاق في الحال، وما يوجب وقوعه في الحال لم يشأه اللَّه. وأما قولكم: "إن اللَّه [سبحانه و] (¬7) تعالى وضع لإيقاع الطلاق هذه اللفظَةَ شرعًا وقدرًا" فَنَعَمْ وضع تعالى (¬8) المنجز لإيقاع المنجز، والمعلَّق لوقوعه عند وقوع ما عُلِّقَ به. ¬
وأما قولكم (¬1): "لو لم يشأ الطلاق لم يأذن للمكلَّف في التكلم به" فنعم شاء المعلَّق وأذنَ فيه، والكلام في غيره. وقولكم: " [إن] (¬2) هذا نظير قوله، وهو متلبِّس (¬3) بالفعل: أنا أفعل إن شاء اللَّه"، فهذا فصل النزاع في المسألة، فإذا أراد بقوله: "أنت طالق إن شاء اللَّه هذا التطليق الذي صَدَرَ مني" لزمه الطلاق قطعًا لوجود الشرط، وليس كلامنا فيه، وإنما كلامنا فيما إذا أراد: "إن شاء اللَّه طلاقًا مستقبلًا" أو أطْلَق ولم يكن له نيّة، فلا ينبغي النزاع في القسم الأول، ولا يظن أن أحدًا من الأئمة ينازع فيه، فإنه تعليق على شرط مستقبل ممكن لا (¬4) يجوز إلغاؤه، كما لو صرَّح به فقال: "إن شاء اللَّه أن أطلقك غدًا فأنت طالق" إلا أن يستروح (¬5) إلى ذلك المسلك الوخيم أنه علَّق الطلاق بالمستحيل فلغا التعليق كمشيئة الحجر والميت. وأما إذا أطلق ولم يكن له نية، فيحمل مُطْلَقُ كلامه على مقتضى الشرط لُغةً وشرعًا وعرفًا [وهو اقتضاؤه للوقوع في المستقبل] (¬6). وأما استدلالكم بقول يوسف لأبيه وإخوته: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99] , فلا حجة فيه، فإن الاستثناء إن عاد إلى الأمر المطلوب دَوَامه واستمرارهُ فظاهر، وإن عاد إلى الدخول المقيَّد به فمن أين لكم أنه قال لهم هذه المقالة حال الدخول أو بعده؟ ولعله إنما قالها عند تَلَقّيه لهم، ويكون دخولهم عليه في منزلة (¬7) اللقاء فقال لهم حينئذ: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} فهذا محتمل، وإن كان إنما قال لهم ذلك بعد دخولهم عليه في دار مملكته، فالمعنى: ادخلوها دخول استيطان واستقرار آمنين إن شاء اللَّه. وأما قولكم: "إنه لو أتى بالشهادتين ثم قال: إن شاء اللَّه أو قال: أنا مسلم إن شاء اللَّه صحّ إسلامه في الحال"، فَنَعَمٌ إذًا فإن الإسلام لا يَقبل التعليق بالشرط، فإذا علَّقه بالشرط تنجز، كما لو علق الردة بالشرط فإنها تنجز (¬8)، وأما الطلاق فإنه يصح تعليقه بالشرط. ¬
وأما قولكم: "إنه من المعلوم قطعًا أن اللَّه قد شاء تكلمه بالطلاق، فقوله بعد ذلك: إن شاء اللَّه تحقيقٌ لما علم أن اللَّه قد شاءه"، فقد (¬1) تقدم جوابه، وهو أن اللَّه إنما شاء الطلاق المعلّق، فمن أين لكم أنه شاء المنجز؟ ولم تذكروا عليه دليلًا. وقولكم: "إنه بمنزلة قوله: أنت طالق إن كان اللَّه أذن في الطلاق أو أباحه (¬2)، ولا فرق بينهما" فما أَعْظَم الفرق بينهما وبينه حقيقة ولغة، وذلك ظاهر عن تكلف بيانه؛ فإن بيان الواضحات نوع من العي، بل نظير ذلك أن يقول: أنت طالق إن كان اللَّه قد شاء تلفظي بهذا اللفظ؛ فهذا يقع قطعًا. وأما قولكم: "إن الكفارة أقوى من الاستثناء؛ لأنها ترفع حكم اليمين، والاستثناء (¬3) يمنع عقدها وإذا لم تدخل الكفارة في الطلاق والعتاق، فالاستثناء أولى" فما أوْهَنَهَا (¬4) من شبهة، وهي عند التحقيق لا شيء؛ فإن الطلاق والعتاق إذا وقعا لم تؤثِّر فيهما الكفارة شيئًا ولا يمكن حلَّهما بالكفارة، بخلاف اليمين (¬5) فإن حلها بالكفارة ممكن، وهذا تشريع شَرَعه شارع الأحكام هكذا فلا يمكن تغييره، فالطلاق والعتاق لا يقبل الكفارة، كما (¬6) لم تقبلها سائر العقود، كالوقف، والبيع، والهبة، والإجارة، والخُلع، الكفارة مختصة بالأيْمان، وهي من أحكامها التي لا تكون لغيرها وأما الاستثناء فيشرع في أعم من اليمين كالوعد والوعيد، والخبر عن المستقبل، كقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وإنا إنْ شاء اللَّه بكم لا حقون" (¬7)، وقوله عن أبيّ بن خَلَف: "بل أنا أقتله إن شاء اللَّه" (¬8). ¬
وكذلك (¬1) الخبر عن الحال نحو: "أنا مؤمن إن شاء اللَّه"، ولا تدخل الكفارة في شيء من ذلك، فليس بين الاستثناء والتكفير تلازم، بل تكون الكفارة حيث لا استثناء، والاستثناء حيث لا كفارة، والكفارة شرعت تَحِلَّةً لليمين بعد عَقْدها والاستثناء شرع لمعنًى آخر، وهو تأكيد التوحيد، وتعليق الأمور بمشيئة مَنْ لا يكون شيء إلا بمشيئته، فشرع للعبد أن يفوض الأمر الذي عزم عليه، وحلف على فعله أو تركه إلى مشيئة اللَّه، ويعقد نطقه بذلك فهذا شيء والكفارة شيء آخر. وأما قولكم: "إن الاستثناء إن كان رافعًا فهو رافع لجملة المُستثنى منه فلا يرتفع"، فهذا كلام عارٍ عن التحقيق؛ فإن هذا ليس باستثناء بأداة "إلا" وأخواتها التي يخرج بها بعض المذكور، ويبقى بعضُه حتى يلزم ما ذكرتم، وإنما هو شرط ينتفي المشروط عند انتفائه كسائر الشروط، ثم (¬2) كيف يقول هذا القائل في قوله: "أنت طالق إن شاء زيد اليوم"، ولم يشأ؟ فموجب دليله أن هذا لا يصح. فإن قيل: فلو أخرجه بأداة إلا فقال: "أنت طالق إلا أن يشاء اللَّه" كان رفعًا لجملة المستثنى منه. ¬
قيل: هذه مغالطة (¬1) ظاهرة؛ فإن الاستثناء هاهنا ليس إخراج جملة ما تناوله المذكور ليلزم ما ذكرت، وإنما هو تقييد لمطلق الكلام الأول بجملة أخرى مخصصة لبعض أحوالها أي: أنت طالق في كل حالة إلا حالة واحدة، وهي حالة لا يشاء اللَّه فيها الطلاق؛ فإذا لم يقع منه طلاق بعد هذا علمنا بعدم وقوعه أن اللَّه تعالى (¬2) لم يشأ الطلاق؛ إذ لو شاءه لوقع، ثم ينتقض هذا بقوله: "إلا أن يشاء زيد"، و"إلا أن تقومي" ونحو ذلك؛ فإن الطلاق لا يقع إذا لم يشأه زيد، وإذا لم تقم، وسُمِّي هذا التعليق بمشيئة اللَّه تعالى (¬3) استثناء في لغة الشارع؛ كقوله تعالى (2): {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 17 - 18] أي: لم يقولوا: إن شاء اللَّه، فمَنْ حلف فقال: إن شاء اللَّه، فقد استثنى؛ فإن الاستثناء استفعال من ثَنَيْتُ الشيءَ، [كأنَّ المستنثى] (¬4)، بإلَّا قد عاد على كلامه، فَثنى آخره على أوله بإخراج ما أدخله أولًا في لفظه (¬5)، وهكذا التقييد (¬6) بالشرط سواء؛ فإن المتكلم به قد ثَنَى آخرَ كلامه على أوله، فقيَّد به ما أطلقه أولًا، وأما تخصيص الاستثناء بإلَّا وأخواتها فعُرْفٌ خاصٌ للنُّحاة. وقولكم: "إن كان شرطًا ويراد به: إن كان اللَّه قد شَاءَ طلاقك [في المستقبل] (¬7) فينفذ لمشيئة اللَّه تعالى له بمشيئته لسببه، وهو الطلاق المذكور، وإن أراد به إن شاء اللَّه أن أطلِّقك في المستقبل، فقد علَّقه بما لا سبيل إلى العلم به، فيلغو التعليق، ويبقى أصل الطلاق"، فهذا هو أكبر عُمْدة الموقعين، ولا ريب أنه إن أراد بقوله: أنت طالق إن كان اللَّه قد شاء تكلُّمي -بهذا اللفظ- أو شاء طلاقكِ بهذا اللفظ، طلقتِ، [و] (7) لكن المُستثني لم يُرِدْ هذا بل ولا خطر على باله، فيبقى (¬8) القسم الآخر؛ وهو أن يريد: إن شاء اللَّه وقوع الطلاق عليك فيما يأتي، فهذا تعليقٌ صحيح معقول، يمكن العلم بوجود ما علق عليه بوجود سَببه كما تقدم بيانه. ¬
وأما قولكم: "إنه علَّق الطلاق بما لا يخرج عنه كائن، فوجب (¬1) نفوذه، كما لو قال: أنت طالق إن عَلِم اللَّه، أو إن قدر [اللَّه] (¬2)، أو سمع [اللَّه] (2) إلى آخره"، فما أبطلها من حجة! فإنها لو صحَّت لبطُلَ حكم الاستثناء في الأيمان لما ذكرتموه بعينه، ولا نفع الاستثناء في موضع واحد (¬3)، ومعلوم أن المُستثني لم يخطر هذا على باله، وإنما أراد تفويض الأمر إلى مشيئة اللَّه وتعليقه به، وأنه إن شاءه وقع (¬4)، وإن لم يشأه لم يقع، ولذلك (¬5) كان مستثنيًا أي وإن كنت قد التَزَمْتُ اليمين أو الطلاق أو العتاق، فإنما التزمته (¬6) بعد مشيئة اللَّه وتبعًا لها فإن شاءه فهو تعالى (¬7) ينفذه بما يحدثه من الأسباب، ولم يُرد المُستثني إن كان للَّه (¬8) مشيئة أو علم أو سمع أو بصر فأنت طالق، ولم يخطر ذلك بباله البتة. يوضحه أن هذا مما لا يقبل التعليق، ولا سيّما بأداة (إنْ) التي [هي] (¬9) للجائز الوجود والعدم، ولو شك في هذا لكان ضالًا بخلاف المشيئة الخاصة؛ فإنها يمكن أن تتعلَّق بالطلاق وأن لا تتعلق به، وهو شاكٌ فيها كما يشك العبدُ فيما يمكن أن يفعله اللَّه [سبحانه] (9) به، وأن لا يفعله هل شاءهُ أم لا؟ فهذا هو المعقول الذي في فطر الحالِفين والمُستثنين، وحذف مفعول المشيئة لم يكن لما ذكرتم، وهو عدم إرادة مفعول معيّن، بل للعلم به، ودلالة الكلام عليه، وتعيّن إرادته (¬10)؛ إذ المعنى: إن شاء اللَّه طلاقَك فأنت طالق، كما لو قال: "واللَّه لأسافرنَّ إن شاء اللَّه" أي إن شاء [للَّه] (9) سَفَري، وليس مراده: إن كان للَّه صفة هي المشيئة؛ فالذي قدّرتموه من المشيئة المطلقة هو الذي لم يخطر ببال الحالف والمطلِّق، وإنما الذي لم يخطر بباله سواه هو المشيئة المعينة الخاصة. [و] (¬11) قولكم: "إن المُستثني لو سئل عما أراد لم يفصح بالمشيئة الخاصة، بل تكلَّم بلفظ الاستثناء بناءً على ما اعتاده الناس من التكلم بهذا اللفظ" كلامٌ غير سَديد، فإنه لو صح لما نفع الاستثناء في يمين قط، ولهذا نقول: إن قصد التحقيق ¬
والتأكيد بذكر المشيئة ينجز (¬1) الطلاق، ولم يكن ذلك استثناء. وأما (¬2) قولكم: "إن الاستثناء بابه الأيْمان" إن أردتم به اختصاص الأيمان به، فلم تذكروا على ذلك دليلًا وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حلف فقال: إن شاء اللَّه فقد استثنى" (¬3)، وفي لفظ آخر: "من حلف فقال: إن شاء اللَّه فهو بالخيار؛ إن (¬4) شاء فعل، وإن شاء لم يفعل" (¬5) فحديث حسن، [و] (¬6) لكن لا يوجب اختصاص الاستثناء بالمشيئة باليمين، وقد قال اللَّه تعالى (¬7): {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]، وهذا ليس بيمين، ويشرع الاستثناء في الوعد والوعيد، والخبر عن المستقبل، كقوله: غدًا أفعل إن شاء اللَّه، وقد عتب اللَّه سبحانه على رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- حيث قال لمن سأله من أهل الكتاب عن أشياء: "غدًا أخبركم"، ولم يقل: إن شاء اللَّه، فاحتبس الوحيُ عنه شهر ثم نزل عليه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24] (¬8) أي إذا نسيت ذكره بالاستثناء (¬9) عقيب كلامك فاذكره به إذا ذكرت، هذا معنى الآية، وهو الذي أراده ابن عباس بصحة الاستثناء المتراخي (¬10)، ولم يقل ابن عباس قط، ولا من هو دونه (¬11): إن الرجل إذا قال ¬
لامرأته: "أنت طالق"، أو لعبده: "أنت حر"، ثم قال بعد سنة: "إن شاء اللَّه" إنها لا تطلق، ولا يعتق العبد، وأخطأ من نقل ذلك عن ابن عباس، أو عن أحد من أهل العلم البتة، ولم يفهموا مراد ابن عباس، والمقصود أن الاستثناء لا يختص باليمين [لا] (¬1) شرعًا ولا عرفًا ولا لغةً، وإن أردتم بكون بابه الأيمان كثرتَهُ فيها؛ فهذا لا ينفي دخوله في غيرها. وقولكم (¬2): "إنه لا يدخل في الإخبارات ولا في الإنشاءات، فلا يقال: قام زيد إن شاء اللَّه، ولا قم إن شاء اللَّه، ولا بعتُ إن شاء اللَّه، فكذا لا يدخل في قوله: "أنت طالق إن شاء اللَّه" فليس هذا بتمثيل صحيح، والفرق بين البابين أن الأمور الماضية علم أنها وقعت بمشيئة اللَّه، والشرط إنما يؤثر في الاستقبال، فلا يصح أن يقول: قمت أمس إن شاء اللَّه، فلو أراد الإخبار عن وقوعها بمشيئة اللَّه، أتى بغير صيغة الشرط، فيقول: فعلت كذا بمشيئة اللَّه وَعَوْنه وتأييده، ونحو ذلك، بخلاف قوله: غدًا أفعل إن شاء اللَّه، وأما قوله: "قم إن شاء اللَّه"، و"لا تقم إن شاء اللَّه" فلا فائدة في هذا الكلام؛ إذ قد علم أنه لا يفعل إلا بمشيئة اللَّه، فأي معنى لقوله: إن شاء اللَّه لك القيام فقم، وإن لم يشأه فلا تقم؟ نعم لو أراد بقوله: قم أو لا تقم الخبر (¬3)، وأخرجه مخرج الطلب تأكيدًا أي: تقوم إن شاء اللَّه، صحَّ ذلك، كما إذا قال: مُتْ على الإسلام إن شاء اللَّه، ولا تمت إلا على توبة إن شاء اللَّه، ونحو ذلك: وكذا إن أراد بقوله: "قم إن شاء اللَّه" ردَّ المشيئة إلى معنى خَبَري، أي: [ولا تقوم إلا أن يشاء اللَّه] (¬4)؛ فهذا صحيحٌ مستقيم لفظًا ومعنى، وأما: "بعت إن شاء اللَّه، واشتريت إن شاء اللَّه" فإن أراد به التحقيق صح وانعقد العقد، وإن أراد به التعليق لم يكن المذكور إنشاءً، وتنافى الإنشاء والتعليق؛ إذ زمن الإنشاء يقارنُ وجودَ معناه، وزمن وقوع المعلَّق يتأخر عن التعليق، فتنافَيَا. وأما قولكم: "إن هذا الطلاق المعلَّق على المشيئة إما أن يريد طلاقًا ماضيًا أو مقارنًا أو مستقبلًا -[إلى آخره] " (¬5) فجوابه ما قد تقدم مرارًا أنه إن أراد به [رد] (¬6) المشيئة إلى هذا اللفظ المذكور، وأنَّ اللَّه (إنْ كان [قد]) (¬7) شاءه فأنت ¬
فصل [التحقيق في موضوع الاستثناء]
طالق طلقت، ولا ريب أن المستثني لم يرد هذا وإنما أراد ألا يقع الطلاق، فردَّه إلى مشيئة اللَّه [سبحانه] (¬1)، وأن اللَّه إن شاءه بعد هذا وقع، فكأنه قال: [لا] (¬2) أريد طلاقك ولا أرَبَ لي فيه إلا أن يشاء اللَّه ذلك فينفذ رضيت أم سخطت، كما قال نبيُّ اللَّه شعيب -عليه السلام-: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف: 89] أي نحن لا نعود في ملّتكم، ولا نختار ذلك، إلا أن يشاء اللَّه ربنا شيئًا فينفذ ما شاءه (¬3)، وكذلك قال إبراهيم [-عليه السلام-] (1): {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الأنعام: 80] أي لا يقع بي مَخُوفٌ من جهة آلهتكم أبدًا إلا أن يشاء ربي شيئًا فينفذ ما شاءه، فرد الأنبياء ما أخبروا ألَّا يكون (¬4) إلى مشيئة الربِّ تعالى وإلى علمه استدراكًا واستثناءً أي: لا يكون ذلك أبدًا ولكن إنْ شاءه (¬5) اللَّه [تعالى] (¬6) كان، فإنه تعالى (¬7) عالم بما لا نعلمه نحن من الأمور التي تقتضيها حكمته وحده. فصل [التحقيق في موضوع الاستثناء] فالتحقيق في المسألة أن المستثنيَ إما أن يقصد (¬8) بقوله: "إن شاء اللَّه" التحقيقَ أو التعليق؛ فإن قصد به التحقيقَ والتأكيد وقع الطلاق، وإن قصد به التعليق وعدم الوقوع في الحال لم تطلق، هذا هو الصواب في المسألة، وهو اختيار شيخنا (¬9)، وغيره من الأصحاب، وقال أبو عبد اللَّه بن حمدان في "رعايته": قلت: إن قصد التأكيد والتبرك وقع، وإنْ قصد التعليق وجهل استحالة العلم بالمشيئة فلا [يقع] (¬10) وهذا قول آخر غير الأقوال الأربعة المحكيّة [في المسألة] (6)، وهو أنه إنما ينفعه الاستثناء إذا قصد التعليق وكان جاهلًا باستحالة العلم بمشيئة اللَّه تعالى، فلو علم استحالة العلم بمشيئته تعالى لم ينعقد الاستثناء، والفرق بين علمه بالاستحالة وجهله بها: أنه إذا جهل استحالة العلم بالمشيئة، ¬
فصل [الكلام على نية الاستثناء ومتى تعتمد؟]
[فقد علَّق الطلاق بما هو ممكن في ظنه فيصح تعليقه، وإذا لم يجهل استحالة العلم بالمشيئة] (¬1)، فقد علَّقه على محال يعلم استحالته فلا يصح [التعليق] (¬2)، وهذا أحد الأقوال في تعليقه بالمحال. قلت: وقولهم: "إن العلم بمشية الرب محال" خطأ محض، فإن [مشيئة الرب تُعْلَم بوقوع الأسباب التي تقتضي مسبباتها؛ فإن مشيئة المسبب] (¬3) مشيئة لحكمه، فإذا أوقع عليها بعد ذلك طلاقًا علمنا أن اللَّه تعالى قد شاء طلاقَهَا. فهذا تقرير (¬4) الاحتجاج من الجانبين، ولا يخفى ما تضمنه من رُجحان أحد القولين، واللَّه أعلم. فصل [الكلام على نية الاستثناء ومتى تعتمد؟] وقد قدمنا اختلاف الفقهاء في اشتراط نية الاستثناء وزمنها وأن (¬5) أضيق الأقوال قول من يشترط النية من أول الكلام، وأوسع منه قول من يشترطها قبل فراغه، وأوسع منه قول من يجوِّز إنشاءها بعد الفراغ من الكلام، كما يقوله أصحاب أحمد وغيرهم، وأوسع منه قول من يجوّزه بالقرب، ولا يشترط اتصاله بالكلام، كما نص عليه أحمد في رواية المروزي فقال: حديث ابن عباس -رضي اللَّه عنه- أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "واللَّه لأغزونَّ قريشًا واللَّه لأغزون قريشًا [واللَّه لأغزون قريشًا] " (¬6) ثم سكت ثم قال: "إن شاء اللَّه" (¬7)، إذ هو استثناء بالقُرب، ولم يخلط كلامه بغيره، وقال إسماعيل بن سعيد الشالنجي: "سألت أحمد بن حنبل عن الاستثناء في اليمين، فقال: من استثنى بعد اليمين فهو جائز، على مثل فعل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- إذ قال: "واللَّه لأغزونَّ قريشًا" ثم سكت ثم قال: "إن شاء اللَّه"، ولم يبطل ذلك (¬8)، قال: ولا أقول فيه بقول هؤلاء، يعني: مَنْ لم يَرَ ذلك إلا متصلًا" هذا لفظ الشالنجي في "مسائله"، وأوسع من ذلك قول من قال: ينفعه الاستثناء، ويصح ما دام في المجلس، نص عليه الإمام أحمد في إحدى الروايات عنه، وهو ¬
قول الأوزاعي (¬1) كما سنذكره، وأوسع منه من وجه قَوْل من لا يشترط النية بحال، كما صرَّح به أصحاب أبي حنيفة، قال (¬2) صاحب "الذخيرة" في (كتاب الطلاق) في الفصل السادس عشر منه: ولو قال لها: "أنت طالق إن شاء اللَّه"، ولا يدري أيّ شيء شاء اللَّه لا يقع الطلاق؛ [لأن الطلاق مع الاستثناء ليس بإيقاع، فعِلْمه وجهله يكون سواء، ولو قال لها: "أنت طالق"] (¬3) فجرى على لسانه من غير قَصْد: "إن شاء اللَّه"، وكان قَصْدهُ إيقاع الطلاق لا يقع الطلاق؛ لأن الاستثناء قد وجد حقيقة، والكلام مع الاستثناء لا يكون إيقاعًا"، وقال الجوزجاني في "مترجمه": حدثني صفوان: ثنا عمر (¬4) قال: سُئل الأوزاعي رحمه اللَّه عن رجل حلف: واللَّه لأفعلنَّ كذا وكذا ثم سكت ساعةً لا يتكلم ولا يحدث (¬5) نفسه بالاستثناء، فيقول له إنسان إلى جانبه: قل: إن شاء اللَّه، فقال: إن شاء اللَّه، أيكفِّرُ عن يمينه؟ فقال: أراه قد استثنى. وبهذا الإسناد عن الأوزاعي أنه سُئل عن رجل وصله قريبُه بدراهم فقال: واللَّه لا آخذها فقال قريبه: واللَّه لتأخذها فلما سمعه قال: "واللَّه لتأخذها" استثنى في نفسه فقال: إن شاء اللَّه، وليس بين قوله: واللَّه لا آخذها وبين قوله: إن شاء اللَّه كلامٌ إلا انتظاره ما يقول قريبه، أيكفِّر [عن] (¬6) يمينه إن هو أخذها؟ فقال: لم يحنث؛ لأنه قد استثنى. ولا ريب أن هذا أفقه وأصح من قول من اشترط نيته مع الشروع في اليمين؛ فإن هذا القول موافق للسنة الصحيحة فعلًا عن (¬7) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحكايةً عن أخيه سليمان -عليه السلام- أنه [لو] (3) قال: "إن شاء اللَّه" بعدما حلف، وذكره المَلَك كان نافعًا له (¬8)، وموافقًا للقياس ومصالح العباد، ومقتضى الحنيفية السَّمْحَة، ولو اعتبر ما ذكر من اشتراط النية في أول الكلام والاتصال الشديد؛ لزالت رخصة الاستثناء، وقلَّ من انتفع بها إلا مَنْ قد درس على هذا القول وجعله منه على بال. وقد ضيَّق بعض المالكية في ذلك فقال: لا يكون الاستثناء نافعًا إلا وقد ¬
فصل [هل يشترط في الاستثناء النطق به؟]
أراده صاحبه قبل أن يُتمَّ (¬1) اليمين كما قال بعض الشافعية، وقال ابن الموَّاز: شرطُ نفعه أن يكون مقارنًا ولو [لآخر حرف] (¬2) من حروف اليمين، ولم يشترط مالك شيئًا من ذلك (¬3)، بل قال في "موطئه" -وهذا [لفظ روايته-: "قال] (¬4) عبد اللَّه بن يوسف: أحسنُ ما سمعت في الثنيا في اليمين أنها لصاحبها ما لم يقطع كلامه، وما كان نَسَقًا يتبع بعضه بعضًا قبل أن يسكت، فإذا سكت وقطع كلامه فلا ثنيا له" (¬5) انتهى. ولم أر عن أحد من الأئمة قَطُّ اشتراطَ النيّة مع الشروع، ولا قبل الفراغ، وإنما هذا من تصرف الأتباع. فصل [هل يشترط في الاستثناء النطق به؟] وهل من شرط الاستثناء أن يتكلم به، أو ينفع إذا كان في قلبه، وإن لم يتلفظ به؟ (¬6) فالمشهور من مذاهب الفقهاء أنه لا ينفعه حتى يتلفظ به، ونص عليه أحمد (¬7) فقال في رواية ابن منصور: لا يجوز له أن يستثني في نفسه حتى يتكلم به، وقد قال أصحاب أحمد وغيرهم: لو قال: "نسائي طوالق"، واستثنى بقلبه: "إلا فلانة" صحَّ استثناؤه، ولم تطلق، ولو قال: "نسائي الأربع طوالق"، واستثنى بقلبه إلا فلانة لم ينفعه، وفرَّقوا بينهما بأن الأول ليس نصًا في الأربع، فجاز تخصيصه بالنيّة، بخلاف الثاني، ويلزمهم على هذا الفرق أن يصح تقييده بالشرط بالنية؛ لأن غايته أنه تقييد مطلق؛ فعمل النية فيه أولى من عملها في تخصيص العام؛ لأن العام متناول للأفراد وضعًا والمطلق لا يتناول جميع الأحوال بالوضع (¬8)، فتقييده بالنية أولى من تخصيص العام بالنية، وقد قال صاحب "المغني" (¬9)، وغيره [إنه] (¬10): "إذا قال: ¬
"أنت طالق"، ونوى بقلبه من غير نطق إن دخلت الدار أو بعد شهر أنه يُدَيَّنُ فيما بينه وبين اللَّه تعالى، وهل يقبل في الحكم؟ على روايتين (¬1)، وقد قال الإمام أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم (¬2) فيمن حلف لا يدخل الدار وقال: "نويتُ (¬3) شهرًا" قُبل منه، أو قال: "إذا دخلت دار فلان فأنت طالق"، ونوى تلك الساعة، أو ذلك اليوم قبلت نيته، قال: والرواية الأخرى لا تقبل؛ فإنه قال: إذا قال لامرأته: ["أنت طالق"] (¬4)، ونوى في نفسه إلى سَنَة تطلق، ليس ينظر إلى نيته، وقال: إذا قال: "أنت طالق"، وقال: نويتُ إن دَخَلت الدار، لا يصدق" قال الشيخ (¬5): "ويمكن أن يجمع بين هاتين الروايتين بأن يحمل قوله في القبول (¬6) على أنه يُدَيَّنُ، وقوله في عدم القبول على الحكم؛ فلا يكون بينهما اختلاف، قال: والفرق بين هذه الصورة والتي قبلها -يعني مسألة: نسائي طوالق وأراد بعضهن- أن إرادة الخاص بالعام شائع كثير، وإرادة (¬7) الشرط من غير ذكره [غير] (4) شائع، وهو قريب من الاستثناء. ويمكن أن يقال: هذا كله (¬8) من جملة التخصيص" انتهى كلامه. وقد تضمن أن الحالف إذا أراد الشرط دُيِّنَ وقُبل في الحكم في إحدى الروايتين، ولا يفرق فقيه ولا محصل (¬9) بين الشرط بمشيئة اللَّه (¬10) حيث يصح وينفع وبين غيره من الشروط، وقد قال [الإمام] (¬11) أحمد في رواية حرب: إن كان مظلومًا فاستثنى في نفسه رجوتُ أنه يجوز إذا خاف على نفسه، ولم ينص على خلاف هذا في المظلوم، [وإنما] (¬12) أطلق القول، وخاصُّ كلامه ومُقيّده يقضي على مُطلقه [وعامه] (¬13)؛ فهذا مذهبه. ¬
فصل [هل يشترط في الاستثناء أن يسمع نفسه؟]
فصل [هل يشترط في الاستثناء أن يسمع نفسه؟] وهل يشترط أن يسمع نفسه أو يكفي تحرك لسانه بالاستثناء، وإن كان بحيث لا يسمعه؟ فاشترط أصحاب أحمد وغيرهم أنه لا بد وأن يكون بحيث يسمعه هو أو غيره. ولا دليل على هذا من لغةٍ ولا عرفٍ ولا شرعٍ، وليس في المسألة إجماع. قال أصحاب أبي حنيفة -واللفظ لصاحب "الذخيرة" (¬1) -: "وشرط الاستثناء أن يتكلَّم بالحروف، سواء كان مسموعًا أو لم يكن عند الشيخ أبي الحسن الكرخي، وكان الفقيه أبو جعفر يقول: لا بد وأن يسمع نفسه، وبه كان (¬2) يفتي الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل" وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يميل إلى هذا القول، وباللَّه التوفيق. وهذا (¬3) بعض ما يتعلق بمخرج الاستثناء، ولعلك لا تظفر به في غير هذا الكتاب. فصل [المخرج الخامس: فعل المحلوف عليه مع الذهول ونحوه] المخرج الخامس: أن يفعل المحلوف عليه ذاهلًا أو ناسيًا أو مخطئًا أو جاهلًا أو مكرهًا أو متأولًا أو معتقدًا أنه لا يحنث به تقليدًا لمن أفتاه بذلك، أو مغلوبًا على عقله، أو ظنًا منه أن امرأته طلقت، فيفعل المحلوف عليه بناء على أن المرأة أجنبية، فلا يؤثر فعل المحلوف عليه في طلاقها شيئًا. [الذهول والفرق بينه وبين النسيان] فمثال الذهول (¬4) أن يحلف أنه لا يفعل شيئًا هو مُعْتادٌ لفعله، فيغلب عليه الذهول والغفلة فيفعله، والفرق بين هذا وبين الناسي أن الناسي يكون قد غاب (¬5) عنه اليمين بالكلية فيفعل المحلوف عليه ذاكرًا له، عامدًا لفعله، ثم يتذكر أنه كان ¬
قد حلف على تركه، وأما الغافل والذاهل واللاهي فليس بناسٍ ليمينه، ولكنه لَهَا عنها أو ذهل كما يذهل الرجل عن الشيء في يده أو حجره بحديث أو نظر إلى شيء أو نحوه، كما قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 8 - 10] يقال: لهى عن الشيء يَلْهَى، كَغَشِيَ يَغْشَى إذا غفل [عنه] (¬1)، ولها به يَلْهُو، إذا لعب؛ وفي الحديث: "فلها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بشيء كان في يديه" (¬2) أي اشتغل به، ومنه (¬3) الحديث الآخر: "إذا استأثر اللَّه بشيء فَالْهَ عنه" (¬4)، وسئل الحسن عما يجده الرجل من البلل (¬5) بعد الوضوء والاستنجاء، فقال: "إلْهَ عنه" (¬6)، وكان ابن الزبير إذا سمع صوت الرعد لَهَا عن حديثه (¬7)، وقال عمر -رضي اللَّه عنه- لرجل بعثه بمال إلى أبي عبيدة ثم قال [للرسول] (¬8) "تَله عنه ثم انظر ماذا يصنع به" (¬9)، ومنه قول كعب بن زهير (¬10): ¬
وقال كل صديق كنت آملُهُ ... لا أُلْهينَّكَ؛ إني عَنْكَ مشغول أي لا أشغلك عن شأنك وأمرك، وفي "المسند": "سألت ربي أن لا يعذب اللاهين من أمتي" (¬1)، وهم البُلْهُ الغافلون الذين لم يتعمدوا الذنوب، وقيل: هم ¬
فصل [النسيان ضربان]
الأطفال الذين لم يقترفوا ذنبًا (¬1) فصل [النسيان ضربان] وأما [الناسي فهو] (¬2) ضربان: ناس لليمين، وناس للمحلوف عليه؛ فالأول ظاهر، والثاني كما إذا حلف على شيء وفعله وهو ذاكر ليمينه، لكن نسي أن هذا هو المحلوف عليه بعينه، وهذا كما لو حلف لا يأكل طعام كذا وكذا فنسيه (¬3)، ثم أكله، وهو ذاكر ليمينه، ثم ذكر أن هذا هو الذي حلف عليه؛ فهذا إن (¬4) كان يعتقد أنه غير المحلوف عليه، ثم بأن أنه هو فهو خطا فإن (¬5) لم يخطر بباله كونه المحلوف عليه، ولا غيره فهو نسيان. [الفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه والمخطئ] والفرق بين الجاهل بالمحلوف عليه والمخطئ (¬6) أن الجاهل قصد الفعل ¬
[درجات التأويل]
ولم يظنه المحلوف عليه، والمخطئ لم يقصده كما لو رمى طائرًا فأصاب إنسانًا. والمكره نوعان؛ أحدهما: [له] (¬1) فعل اختياري؛ لكن محمولٌ عليه، والثاني: مُلْجأ لا فعل له، بل هو آلة محضة (¬2). والمتأول كمن حلف (¬3) أنه لا يكلم زيدًا وكاتبه يعتقد أن مكاتبته ليست (¬4) تكليمًا وكمن حلف (¬5) أنه لا يشرب خمرًا فشرب نبيذًا مختلفًا فيه متأولًا وكمن حلف لا يرابي فباع بالعينة (¬6)، أو لا يطأ فرجًا حرامًا فوطئ في نكاح تحليل مختلف فيه ونحو ذلك. [درجات التأويل] والتأويل ثلاث درجات: قريبٌ، وبعيد، ومتوسط، ولا تنحصر أفراده. والمعتقد أنه لا يحنث بفعله تقليدًا سواء كان المفتي مصيبًا أو مخطئًا كمن قال لامرأته: إن خرجت من بيتي فأنت طالق، أو الطلاق يلزمني لا تخرجين من بيتي، فأفتاه مُفْت بأن هذه اليمين لا يلزم بها الطلاق بناء على أن الطلاق [المعلَّق] (¬7) لغو كما يقوله بعض أصحاب الشافعي، كأبي عبد الرحمن الشافعي، ¬
[المغلوب على عقله]
وبعض أهل الظاهر كما صرَّح به صاحب "المحلى"، فقال (¬1): والطلاق بالصفة عندنا كالطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم. [المغلوب على عقله] والمغلوب على عقله كمن يفعل (¬2) المحلوف عليه في حال سكر (¬3) أو جنون أو زَوَال عقل بشرب دواء أو بنج أو غضب شديد ونحو ذلك. [ظن الطلاق] والذي يظن أن امرأته طلقت، [فيفعل المحلوف] (¬4) عليه بناء على أنه لا يؤثر في الحنث، كما إذا قال: إن كلمت فلانًا فأنت طالق ثلاثًا ثم قال: إن فعلت كذا فامرأتي طالق ثلاثًا فقيل له (¬5): إن امرأتك قد (¬6) كلَّمت فلانًا فاعتقد صدق القائل، وأنها قد بانت منه (6)، ففعل المحلوف عليه بناء على أن العصمة قد انقطعت، ثم بأن له أن المخبر كاذب. وكذلك لو قيل له: قد كلمت فلانًا فقال: طلقت مني ثلاثًا ثم بأن [له] (¬7) أنها لم تكلمه، ومثل ذلك لو قيل له: إن امرأتك قد مسكت تشرب الخمر مع فلان، فقال: هي طالق ثلاثًا ثم ظهر كذب المخبر وأن ذلك لم يكن منه شيء. [أقوال من أفتى بعدم الحنث] فاختلف الفقهاء في ذلك [اختلافًا لا ينضبط] (¬8). فنذكر أقوال من أفتى بعدم الحنث في ذلك؛ إذ هو الصواب بلا ريب، وعليه تدل الأدلة الشرعية ألفاظها وأقيستها واعتبارها وهو مقتضى قواعد الشريعة (¬9)؛ فإن البر والحنث في اليمين نظير الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، فلو (¬10) فعل المكَّلف ذلك في أمر الشارع ونهيه لم يكن عاصيًا فأولى في باب اليمين أن لا يكون حانثًا. ¬
يوضحه (¬1) أنه إنما عقد يمينه على فعل ما يملكه، والنسيان والجهل والخطأ والإكراه غير داخل تحت قدرته، فما فعله (¬2) في تلك الأحوال لم يتناوله يمينه، ولم يقصد منع نفسه منه. يوضحه أن اللَّه تعالى قد رفع المؤاخذة عن المخطئ والناسي والمكره، فإلزامه بالحنث أعظم مؤاخذة لما (¬3) تجاوز اللَّه عن المؤاخذة به، كما أنه تعالى لما تجاوز للأمة عمَّا حدثت به أنفسها لم تتعلق به المؤاخذة في الأحكام. يوضحه أن فعل الناسي والمخطئ بمنزلة فعل النائم في عدم التكليف به، ولهذا هو عفو لا يكون به مُطيعًا ولا عاصيًا. يوضحه أن اللَّه تعالى إنما رتَّب الأحكام في الألفاظ لدلالتها على قصد المتكلِّم بها وإرادته، فإذا تيقَّنا أنه قصد كلامها ولم يقصد معانيها ولم يقصد مخالفة ما التزمه، ولا الحنث؛ فإن الشارع لا يلزمه بما لم يقصده، بل قد رفع المؤاخذة عنه بما لم يقصده من ذلك. يوضحه أن اللفظ دليل على القصد، فاعتبر لدلالته عليه، فإذا علمنا يقينًا خلاف المدلول لم يجز أن نجعله (¬4) دليلًا على ما تيقنّا خلافه، وقد رفع اللَّه سبحانه المؤاخذة عمن (¬5) قتل المسلم المعصوم بيده مباشرة إذا لم يقصد قتله بل قتله خطأً ولم يلزمه شيئًا من ديته، بل حمَّلها غيره، فكيف يؤاخذه بالخطأ والنسيان في باب الأيمان؟ هذا من الممتنع على الشارع. وقد رفع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المؤاخذة عمن أكل وشرب (¬6) في نهار رمضان ناسيًا لصومه (¬7)، مع أن أكله وشربه فعل لا يمكن تداركه (¬8)، فكيف يؤاخذه بفعل ¬
المحلوف عليه ناسيًا ويطَلِّق عليه امرأته، ويخرب بيته (¬1)، ويشتت شمله وشمل أولاده وأهله، وقد عفا له عن الأكل والشرب في نهار الصوم ناسيًا؟ وقد عفا عمَّن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدًا غير ناس لما تأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بالحبلين المعروفين (¬2)، فجعل يأكل حتى تبيَّنا له وقد طلع النهار، وعفا له عن ذلك، ولم يأمره بالقضاء، لتأويله، فما بال الحالف المتأول لا يعفى له عن الحنث بل يخرب بيته (¬3)، ويفرق بينه وبين حبيبته (¬4)، ويشتت شمله كل مشتت؟ وقد عفا عن المتكلم في صلاته عمدًا ولم يأمره بالإعادة لما كان جاهلًا بالتحريم ولم (¬5) يتعمد مخالفة حكمه، فألغى كلامه، ولم يجعله مبطلًا للصلاة (¬6)، فكيف لا يقتدي به ويلغي قول الجاهل وفعله في باب الأيمان ولا يحنثه كما لم يؤثمه الشارع؟ وإذا كان قد عفا عمن قدم شيئًا أو أخّره من [أعمال] (¬7) المناسك من الحلق والرمي والنحر نسيانًا أو جهلًا (¬8) فلم يؤاخذه بترك ترتيبها نسيانًا (¬9)، فكيف يحنث ¬
من قدَّم ما حلف على تأخيره أو أخَّر ما حلف على تقديمه ناسيًا أو جاهلًا؟ وإذا كان قد عفا عمَّن حَمَل القذر في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا [به] (¬1)، فكيف يؤاخذ الحالف ويحنث به؟ وكيف تكون أوامر الرب تعالى ونواهيه دون ما التزمه الحالف بالطلاق والعتاق؟ وكيف يحنِّث [الشارع] (¬2) من لم يتعمد الحنث؟ وهل هذا إلا بمنزلة تأثيمه من لم يتعمد الإثم، وتكفيره (¬3) من لم يتعمد الكفر؟ وكيف يُطلِّق أو يُعتق على من لم يتعمد الطلاق والعتاق، ولم يطلق على الهازل إلا لتعمُّده فإنه تعمّد الهزل ولم يرد حكمه، وذلك ليس إليه، بل إلى الشارع، فليس الهازل معذورًا بخلاف (¬4) الجاهل والمخطئ والناسي (¬5). وبالجملة فقواعد الشريعة وأصولها تقتضي ألا يحنث الحالف في جميع ما ذكرنا ولا يطرد على القياس ويَسْلم من التناقض إلا هذا القول. ¬
[من حنث في بعض ذلك دون بعض، وروايات الإمام أحمد]
وأما تحنيثه في جميع ذلك فإن صاحبه وإن سلم من التناقض لكن قوله مخالف لأصول الشريعة وقواعدها وأدلتها. [مَنْ حنَّث في بعض ذلك دون بعض، وروايات الإمام أحمد] ومن حنث في بعض ذلك دون بعض تناقض ولم يطرد له قول، ولم يسلم له دليل عن المعارضة. وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد في ذلك؛ ففيه ثلاث روايات (¬1) إحداها: أنه لا يحنث في شيء من الأيمان بالنسيان ولا الجهل بفعل المحلوف عليه [مع النسيان] (¬2) سواء كانت من الأيمان المكفَّرة أو غيرها وعلى هذه الرواية فيمينه باقية لم تنحل بفعل المحلوف عليه مع النسيان والجهل؛ لأن اليمين كما لم يتناول حالة الجهل والنسيان بالنسبة إلى الحنث لم يتناولها (¬3) بالنسبة إلى البر؛ إذ (¬4) لو كان فاعلًا المحلوف (¬5) عليه بالنسبة إلى البر (¬6)؛ لكان فاعلًا له بالنسبة إلى الحنث. وهذه الرواية [هي] (¬7) اختيار شيخ الإسلام (¬8) وغيره، وهي أصح قولي الشافعي اختاره جماعة من أصحابه (¬9). والثانية: يحنث في الجميع، وهي مذهب أبي حنيفة (¬10)، ومالك (¬11). والثالثة: يحنث في اليمين التي لا تكفَّر كالطلاق والعتاق، ولا يحنث في اليمين المكفَّرة، وهي اختيار القاضي وأصحابه (¬12). ¬
[تخريج مذاهب المحنثين مطلقا والذين فرقوا]
[تخريج مذاهب المحنثين مطلقًا والذين فرَّقوا] والذين حنَّثوه [مطلقًا] (¬1) نظروا إلى صورة الفعل، وقالوا: قد وجدت المخالفة، والذين فرَّقوا قالوا: الحلف بالطلاق والعتاق من باب التعليق على الشرط، فإذا وُجد الشرط وُجد المشروط، سواء كان مختارًا لوجوده أو لم يكن، كما لو قال: "إن قَدِمَ زيدٌ فأنت طالق" ففعل (¬2) المحلوف عليه في حال جنونه، فهل هو كالنائم فلا يحنث أو كالناسي فيجري فيه الخلاف؟ على وجهين في مذهب الإمام أحمد والشافعي، وأصحها (¬3) أنه كالنائم؛ لأنه غير مكلَّف، ولو حلف على من يقصد منعه كعبده وزوجته وولده وأجيره، ففعل المحلوف عليه ناسيًا أو جاهلًا فهو كما لو حَلَف على فعل نفسه فَفَعَله ناسيًا أو جاهلًا، [هو] (¬4) على الروايات الثلاث، و [كذلك هو] (4) على القولين في مذهب الشافعي، فإن منعه لمن (¬5) يمتنع بيمينه كمنعه لنفسه؛ فلو حلف لا يسلِّم على زيد فسلم على جماعة هو فيهم ولم يعلم فإن لم نحنِّث الناسي فهذا أولى [بعدم الحنث] (4) لأنه لم يقصده، والناسي قد قصد التسليم عليه، وإن حنَّثنا الناسي هل (¬6) يحنث هذا؟ على روايتين: إحداهما (¬7): يحنث (¬8) لأنه بمنزلة الناسي؛ إذ هو جاهل بكونه معهم (¬9). والثانية: [وهي أصح -أنه لا يحنث] (¬10)، قاله أبو البركات (¬11) وغيره، وهذا يدل على أن الجاهل أعذر من الناسي وأولى بعدم الحنث، وصرَّح به أصحاب الشافعي في الأيمان، ولكن تناقضوا [كلهم] (¬12) في جعل الناسي في الصوم أولى بالعذر من الجاهل، ففطَّروا الجاهل دون الناسي، وسوَّى شيخنا بينهما، وقال (¬13): الجاهل أولى بعدم الفطر [من الناسي، (فسلم) (¬14) من التناقض] (12)، وقد سووا بين ¬
فصل [فعل المحلوف عليه مكرها]
الجاهل والناسي فيمن حمل النجاسة في الصلاة ناسيًا أو جاهلًا ولم يعلم حتى فرغ منها، فجعلوا الروايتين والقولين في الصورتين سواء، وقد سوَّى اللَّه تعالى بين المخطئ والناسي في عدم المؤاخذة، وسوَّى بينهما (¬1) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في قوله: "إن اللَّه تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان" (¬2) فالصواب التسوية بينهما. فصل [فعل المحلوف عليه مكرهًا] وأما إذا فعل المحلوف عليه مُكْرَهًا؛ فعن أحمد روايتان منصوصتان: إحداهما: يحنث في الجميع. والثانية: لا يحنث في الجميع، وهما قولان للشافعي، وخرَّج أبو البركات (¬3) رواية ثالثة أنه يحنث باليمين (¬4) بالطلاق والعتاق دون غيرهما من الأيمان من نصِّه على الفرق في صورة الجاهل والناسي، فإن ألجئ أو حمل أو فتح فمه [وأوجر (¬5) ما حلف أنه لا يشربه فإن لم] (¬6) يقدر على الامتناع لم يحنث، وإن قدر على الامتناع فوجهان، وإذا لم يحنث فاستدام ما ألجئ عليه كما لو ألجئ إلى دخول دار حلف ألا يدخلها (¬7)، فهل يحنث؟ فيه وجهان، ولو حلف على غيره ممن يقصد منعه على ترك فعل ففعله مكرهًا أو ملجأً فهو على هذا الخلاف [سواء] (¬8) [اللَّه أعلم] (¬9). فصل [حكم المتأول، والجاهل، والمقلّد] أما (¬10) المتأوِّل فالصواب أنه لا يحنث، كما لم يأثم في الأمر والنهي، وقد صرِّح به الأصحاب فيما لو حلف أنه (¬11) لا يفارق غريمه حتى يقبض حقه فأحاله به ففارقه يظن أن ذلك قبض، وأنه برَّ في يمينه، فحكوا فيه الروايات الثلاث، ¬
وطَرْدُ هذا كل متأول ظن أنه لا يحنث بما فعله؛ فإن غايته أن يكون جاهلًا بالحنث. وفي الجاهل الروايات الثلاث. وإذا ثبت هذا في حق المتأول فكذلك في حق المقلِّد أولى (¬1)، فإذا حلف بالطلاق ألا يكلم فلانًا أو لا يدخل داره فأفتاه مُفت بعدم وقوع الطلاق في هذه اليمين، اعتقادًا لقول علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه (¬2)، وطاوس، وشُريح، أو اعتقادًا (¬3) لقول أبي حنيفة، والقفّال في صيغة الالتزام دون صيغة الشرط، أو اعتقادًا (3) لقول أشهب -وهو أجلُّ أصحاب مالك- أنه إذا علَّق الطلاق بفعل الزوجة [أنه] (¬4) لم يحنث بفعلها أو اعتقادًا (3) لقول أبي عبد الرحمن الشافعي [أجل أصحاب الشافعي] (¬5): إن الطلاق المعلّق لا يصح كما لا يصح النكاح والبيع والوقف المعلق، وهو مذهب جماعة من أهل الظاهر، لم يحنث في ذلك كله، ولم يقع الطلاق، ولو فرض فساد هذه الأقوال كلها فإنه إنما فعل المحلوف عليه متأولًا مقلدًا ظانًا أنه لا يحنث به، فهو أولى بعدم الحنث من الجاهل والناسي، وغاية ما يقال [في الجاهل] (¬6): [إنه] (¬7) مفرط حيث لم يستقص ولم يسأل غير (7) من أفتاه، وهذا بعينه يقال في الجاهل: إنه مفرط حيث لم يبحث، ولم يسأل (¬8) عن المحلوف عليه، فلو صح هذا الفرق لبطل عذر الجاهل البتة، فكيف والمتأول مطيع للَّه مأجور إما أجرًا واحدًا أو أجرين؟ (¬9)، والنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يؤاخذ خالدًا في تأويله حين قتل بني جذيمة بعد إسلامهم (¬10)، ولم يؤاخذ أسامة حين قتل من قال: لا إله إلا اللَّه، لأجل التأويل (¬11)، ولم يؤاخذ من أكل نهارًا ¬
في الصوم عمدًا لأجل التأويل (¬1)، ولم يؤاخذ أصحابه حين قَتَلوا من سلَّم عليهم وأخذوا غنيمته لأجل التأويل (¬2)، ولم يؤاخذ المستحاضة بتركها الصوم والصلاة لأجل التأويل (¬3)، [ولم يؤاخذ عمر -رضي اللَّه عنه- حين ترك الصلاة لما أجنب في السفر ¬
ولم يجد ماءً] (¬1) [لأجل التأويل]، ولم يؤاخذ من تمعَّك (¬2) في التراب كتمعك الدابة وصلى لأجل التأويل (¬3)، وهذا أكثر من أن يُستقصى. وأجمع أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن، فهو هدر في قتالهم في الفتنة، قال الزهري: وقعت الفتنة وأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كلهم متوافرون، فأجمعوا (¬4) على أن كل مال أو دم أصيب بتأويل القرآن فهو هدر، أنزلوهم منزلة الجاهلية، ولم يُؤاخذ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين رمى حاطب بن أبي بلتعة المؤمن البدري بالنفاق لأجل التأويل (¬5)، ولم يؤاخذ أسيد بن حضير بقوله لسعد سيد الخزرج: "إنك منافقٌ تجادل عن المنافقين" (¬6) لأجل التأويل، ولم يؤاخذ من قال عن مالك بن الدُّخُشم: "ذلك [المنافق] (¬7) نرى وجهه وحديثه إلى المنافقين" لأجل التأويل (¬8)، ¬
ولم يؤاخذ عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- حين (¬1) ضرب صَدْر أبي هريرة حتى وقع على الأرض [وقد ذهب] (¬2) للتبليغ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بأمره فمنعه عمر وضربه وقال: "ارجع"، وأقرَّه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على فعله، ولم يؤاخذه لأجل التأويل (¬3). وكما رفع مؤاخذة التأثيم (¬4) في هذه الأمور وغيرها رفع مؤاخذة الضمان في الأموال و [القضاء في] (¬5) العبادات، فلا يحل لأحد أن يفرِّق بين رجل (¬6) وامرأته لأمر يخالف مذهبه، وقوله الذي قلّد فيه بغير حجة، فإذا (¬7) كان الرجل قد تأول وقلّد من أفتاه بعدم الحنث فلا يحل له أن يحكم [عليه] (¬8) بأنَّه حانث في حكم اللَّه ورسوله ولم يتعمد الحنث، بل هذه (¬9) فرية على اللَّه ورسوله وعلى الحالف، وإذا وصل [به] (10) الهوى إلى هذا الحد فصاحبه تحت الدرك، وله مقام وأي مقام بين يدي اللَّه [يوم القيامة] (¬10) يوم لا ينفعه شيخه ولا مذهبه ومن قلّده، واللَّه المستعان. وإذا قال الرجل لامرأته: "أنت طالق ثلاثًا لأجل كلامك لزيد وخروجك من بيتي" فبان أنَّها لم تكلمه، ولم تخرج من بيته لم تطلق، صرَّح به الأصحاب، قال ابن أبي موسى في "الإرشاد" (¬11): فإن قال: "أنت طالق أن دخلت الدار" بنصب الألف، والحالف من أهل اللسان، فإن كان تقدم لها دخول إلى تلك الدار قبل اليمين طلقت في الحال؛ لأن ذلك للماضي من الفعل دون المستقبل، وإن كانت لم تدخلها قبل اليمين بحال لم تطلق، وإن دخلت الدار بعد اليمين إذا كان الحالف قصد بيمينه الفعل الماضي دون المستقبل؛ لأن معنى ذلك (¬12): إن كنت دخلت الدار فأنت طالق، وإن كان الحالف جاهلًا باللسان وإنما أراد باليمين الدخول المستقبل فمتى دخلت الدار بعد اليمين طلقت بما حلف به قولًا واحدًا، ¬
وإن كان تقدم لها دخول [إلى] (¬1) الدار قبل اليمين فهل يحنث بالدخول الماضي أم لا؟ على وجهين أصحهما لا يحنث. والمقصود أنه إذا عُلل الطلاق بعلَّة ثم تبين انتفاؤها؛ فمذهب أحمد أنه لا يقع بها (¬2) الطلاق، وعند شيخنا لا يشترط ذكر التعليل بلفظه، ولا فرق عنده بين أن يطلقها لعلة مذكورة [في اللفظ] (¬3) أو غير مذكورة، فإذا تبيَّن انتفاؤها لم يقع [به] الطلاق (¬4)، وهذا هو الذي لا يليق بالمذهب غيره، ولا تقتضي قواعد الأئمة غيره، فإذا قيل له: امرأتك قد (¬5) شربت مع فلان أو باتت (¬6) عنده، فقال: اشهدوا عليَّ أنها طالق ثلاثًا ثم علم أنها كانت تلك الليلة في بيتها قائمة تصلّي فإن هذا الطلاق لا يقع به قطعًا وليس بين هذا وبين قوله: "إن كان الأمر كذلك فهي طالق [ثلاثًا] " فرق البتة، لا عند الحالف ولا في العرف ولا في الشرع، فإيقاع الطلاق بهذا وهمٌ محض، إذ يقطع بأنه لم يُرد طلاق من ليست كذلك، وإنما أراد طلاق من فعلت ذلك، وقد أفتى جماعة من الفقهاء من أصحاب الإمام أحمد والشافعي -منهم الغزالي والقفال وغيرهما- الرجل يمر على المكَّاس برقيق له فيطالبه بمكسهم (¬7) فيقول: "هم أحرار" ليتخلَّص من ظلمه، ولا غرض له في عِتْقِهِم، أنهم لا يُعتقون، وبهذا أفتينا نحنُ تجارَ اليمن لما قدموا [منها] (3)، ومَروا على المكاسين فقالوا لهم ذلك، وقد صرَّح (¬8) أصحاب الشافعي في باب الكتابة (¬9) بما إذا دفع إليه العوض فقال: "اذهب فأنت حر" بناء على أنه سلَّم له العوض فظهر العوض مستحقًا ورجع به على صاحبه أنه لا يعتق، وهذا هو الفقه بعينه، وصرَّحوا أن الرجل لو علَّق طلاق امرأته بشرط فظن أن الشرط قد وقع فقال: "اذهبي فأنت طالق"، وهو يظن أن الطلاق قد وقع بوجود الشرط فبان أن الشرط لم يوجد لم يقع الطلاق، ونص على ذلك شيخنا قدس اللَّه روحه (¬10)، ومن هذا ¬
فصل [مذهب مالك]
القبيل لو قال: "حلفت بطلاق امرأتي ثلاثًا إلا أفعل كذا"، وكان كاذبًا ثم فعله لم يحنث ولم تطلق عليه امرأته، قال الشيخ في "المغني" (¬1): إذا قال: حلفتُ (¬2)، ولم يكن حلف فقال الإمام أحمد: هي كذبة ليس عليه يمين، وعنه عليه الكفارة، لأنه أقرَّ على نفسه، والأول هو المذهب لأنه الحكم فيما بينه وبين اللَّه تعالى، فإنه (¬3) كذب في الخبر به كما لو قال: "ما صليتُ"، وقد صلى. قلت: قال أبو بكر عبد العزيز: باب القول في إخبار الإنسان بالطلاق واليمين كاذبًا قال في رواية الميموني: إذا قال: "قد حلفت بيمين" (¬4)، ولم يكن حلف فعليه كفارة يمين، فإن قال: "قد حلفتُ بالطلاق"، ولم يكن حلف [بها] (¬5) يلزمه الطلاق، ويرجع إلى نيته في الواحدة والثلاث، وقال في رواية محمد بن الحكم في الرجل يقول: قد حلفت ولم يكن حلف: فهي كذبة ليس عليه يمين، فاختلف أصحابنا على ثلاث طرق (¬6): إحداها (¬7): أن المسألة على روايتين. والثانية: -وهي طريقة أبي بكر- قال عقيب حكاية الروايتين: قال عبد العزيز في الطلاق: يلزمه وفيما لا (¬8) يكون من الأيمان: لا يلزمه. والطريقة الثالثة: أنه حيث ألزمه أراد به في الحكم، وحيث لم يلزمه [بقي فيما] (¬9) بينه وبين اللَّه، وهذه الطريقة أفقه وأطرد على أصول مذهبه، واللَّه أعلم. فصل [مذهب مالك] وأما مذهب مالك في هذا الفصل فالمشهور فيه التفريق بين النسيان والجهل والخطأ وبين الإكراه والعجز، ونحن نذكر كلام أصحابه في ذلك. قالوا: من حلف ألا يفعل (¬10) حنث بحصول الفعل (¬11)، عمدًا أو سهوًا أو ¬
فصل [في تعذر فعل المحلوف عليه وعجز الحالف عنه]
خطًا واختار أبو القاسم السيوري ومن تبعه (¬1) من محققي الأشياخ أنه لا يحنث إذا نسي اليمين، وهذا اختيار القاضي أبي بكر [ابن] العربي، قالوا: ولو أكره لم يحنث (¬2). فصل [في تعذر فعل المحلوف عليه وعجز الحالف عنه] (¬3) قال أصحاب مالك: مَنْ حلف على شيء ليفعلنَّه فحيل بينه وبين فَعْلِه، فإنْ أجَّل أجلًا فامتنع الفعلُ لعدم (¬4) المحل وذهابه كموت (¬5) العبد المحلوف على ضربه أو الحمامة المحلوف على ذبحها فلا حنث عليه بلا خلافٍ منصوص، وإن امتنع الفعل لسبب منع الشرع [منه] (¬6) كمن حلف ليطأنَّ زوجته أو أمته فوجدها حائضًا فقيل: لا شيء عليه (¬7). قلت: وهذا هو الصواب، لأنه إنما حلف على وطء يملكه، ولم يقصد الوطءَ الذي لم يملّكه الشارع إياه، فإنْ قصدَه حنث، [وهذا هو الصواب، لأنه إنما حلف على وطء يملكه] (¬8)، وهكذا في صورة العجز الصواب أنه لا يحنث، فإنه إنما حلف على شيء يدخل تحت قدرته، ولم يلتزم فعل ما لا يقدر عليه، فلا تدخل حالة العجز تحت يمينه، وهذا بعينه قد قالوه في المكره والناسي والمخطئ، والتفريق (¬9) تناقضٌ ظاهر، فالذي يليق بقواعد أحمد وأصوله أن لا يحنث في صورة العجز، سواء كان العجز لمنع (¬10) شرعي أو منع كوني قدري، كما هو قوله فيما [لو] (¬11) كان العجز لإكراه مكره، ونصه على خلاف ذلك لا يمنع أن يكون عنده رواية مخرَّجة من أصوله المذكورة، وهذا من أظهر التخريج، فلو وطئ مع الحيض وعصى فهل يتخلَّص من الحنث؟ فيه وجهان في مذهب مالك وأحمد (¬12): أحدهما: يتخلص وإن أثم بالوطء كما لو حلف بالطلاق ليشربنَّ هذه ¬
الخمر، فشربها (¬1) فإنه لا تطلق عليه زوجته. والثاني: لا يبر؛ لأنه إنما حلف [به] (¬2) على فعل وطء مباح، فلا تتناول يمينه المحرم، [فيقال: إذا كان إنما حلف على وطء مأذون فيه شرعًا لم تتناول يمينه المحرم] (¬3) فلا يحنث بتركه بعين (¬4) ما ذكرتم من الدليل وهذا ظاهر. وحرف المسألة أن يمينه لم تتناول المعجوزَ عنه لا شرعًا ولا قدرًا فلا يحنث بتركه، وإنْ (¬5) كان الامتناع بمنع ظالم كالغاصب والسارق أو غير ظالم كالمستحق فهل يحنث أم لا؟ قال أشهب: لا يحنث وهو الصواب، لما ذكر، وقال غيرُه من أصحاب مالك: يحنث؛ لأن المحلَّ باقٍ، وإنما حيل بينه وبين الفعل فيه، وللشافعي في هذا الأصل قولان، قال أبو محمد الجويني: "ولو حلف ليشربنَّ ما في هذه الإداوة غدًا فأُريقَ قبل الغد بغير اختياره فعلى قولي الإكراه. قال: والأولى أن لا يحنث، وإن حنَّثنا المكره لعجزه عن الشرب وقدرة المكره على الامتناع" فجعل الشيخ أبو محمد العاجز أولى بالعذر من المكره، وسوَّى غيره بينهما ولا ريب أن قواعد الشريعة وأصولها تشهد لهذا القول (¬6) فإن الأمر والنهي من الشارع نظير الحض والمنع في اليمين، وكما أن أمره ونهيه منوط بالقدرة فلا واجب مع عجز ولا حرام مع ضرورة فكذلك الحض والمنع في اليمين إنما هو مقيَّد (¬7) بالقدرة. يوضحه أن الحالف يعلم أنَّ سرَّ نفسه أنه لم يلتزم (¬8) فعل المحلوف عليه مع العجز عنه وإنما التزمه مع قدرته عليه (¬9)، ولهذا لم يحنث المغلوب على الفعل بنسيان أو إكراه، ولا من لا قَصْد له إليه كالمغمى عليه وزائل العقل، وهذا قول جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية والشافعية (¬10)، وهو مقتضى أصول الإمام أحمد وإن كان المنصوص عنه خلافه (¬11)، فإنه قال في رواية ابنه ¬
فصل [حكم التزام الطلاق]
صالح (¬1): إذا حلف أن يشرب هذا الماء الذي في هذا الإناء فانصبَّ فقد حنث، ولو حلف أن يأكل رغيفًا فجاء كلب فأكله فقد حنث؛ لأن هذا لا يقدر عليه، وقال في رواية جعفر بن محمد: إذا حلف الرجل على غريمه أن لا يفارقه حتى يستوفي منه ماله (¬2) فهرب منه مخاتلة فإنه يحنث، وهذا (¬3) وأمثاله من نصوصه مبني (¬4) على قوله في المكره والناسي والجاهل: "إنه يحنث" كما نص عليه، فإنه قال في رواية أبي الحارث (¬5): إذا حلف أن لا يدخل الدار فحُمل كرهًا فأدخل فإنه لا يحنث (¬6)، وكذلك نص على حنث الناسي والجاهل، فقد جعل الناسي والجاهل والمكره والعاجز بمنزلة، ونص في رواية أبي طالب: إذا حلف [أن] (¬7) لا يدخل الدار فحُمل كرهًا فأدخل [فلا شيء عليه] (¬8)، وقد قال في رواية أحمد بن القاسم: والذباب يدخلُ حَلْقَ الصائم والرجل يرمي بالشيء فيدخل [في] (7) حلق الآخر وكلُّ أمر غلب عليه فليس عليه قضاء ولا غيره، وتواترت نصوصه فيمن أكل في رمضان أو شرب ناسيًا فلا قضاء عليه، فقد سوَّى بين الناسي والمغلوب، وهذا محض القياس والفقه، ومقتضى ذلك التسوية بينهما في باب الأيمان كما نص عليه في المكره، فتخرج مسألة العاجز والمغلوب على الروايتين (¬9)، بل المغلوب والعاجز أولى بعدم الحنث من الناسي والجاهل، كما تقدم بيانه، وباللَّه التوفيق. فصل [حكم التزام الطلاق] المخرج السادس: أخذه بقول من يقول: إن (¬10) التزام الطلاق لا يلزم، ولا يقع به طلاقٌ [ولا] (¬11) حنث، وهذا إذا أخرجه بصيغة الالتزام، كقوله: "الطلاق يلزمني، أو لازمٌ لي، أو ثابت عليَّ، أو حق عليَّ، أو واجب عليَّ، أو متعيّن عليَّ ¬
إن فعلت، أو إن لم أفعله" (¬1)، وهذا مذهب أبي حنيفة، وبه أفتى جماعة من مشايخ مذهبه، وبه أفتى القفَّال في قوله: "الطلاق يلزمني"، ونحن نذكر كلامهم بحروفه. قال صاحب "الذخيرة" من الحنفية: لو قال لها: "طلاقك عليَّ واجب، أو لازم، أو فرض، أو ثابت" ذكر (¬2) أبو الليث خلافًا بين المتأخرين، فمنهم من قال: يقع واحدة رجعية نوى أو لم ينوِ، ومنهم من قال: لا يقع نوى أو لم ينو، ومنهم من قال: في قوله: "واجب" يقع بدون النية، وفي قوله: "لازمٌ" لا يقع وإن نوى، وعلى هذا الخلاف إذا قال: "إن فعلت كذا فطلاقك عليَّ واجبٌ، أو [قال] (¬3) لازم، أو ثابت" ففعلت، وذكر القدوري في "شرحه" أن على قول أبي حنيفة لا يقع الطلاق في الكُلّ، وعند أبي يوسف إنْ نوى الطلاق يقع في الكل، وعن محمد أنه يقع في قوله: لازم (¬4) ولا يقع في قوله: واجب، ثم ذكر من اختار من المشايخ الوقوع ومن اختار عدمه، فقال: وكان الإمام ظهير الدين المرغيناني (¬5) يُفتي بعدم الوقوع في الكل (¬6). وقال القفَّال [في "فتاويه"] (¬7): إذا قال: "الطلاقُ يلزمني" فليس بصريحٍ ولا كنايةٍ حتى لا يقع به وإن نواه، ولهذا القول مأخذان: أحدهما: أن الطلاق لا بد فيه من الإضافة إلى المرأة (¬8)، ولم تتحقق الإضافة هاهنا (¬9) ولهذا لو قال: "أنا منك طالق" لم تطلق، ولو قال لها: "طلِّقي نفسك" فقالت: "أنت طالق" لم تطلق. [و] (7) المأخذ الثاني: لأصحاب أبي حنيفة (¬10) -أنه التزامٌ لحكم الطلاق، وحكمه لا يلزمه إلا بعد وقوعه، وكأنه قال: "فعلي أن أطلقك"، وهو لو صرَّح بهذا لم تطلق بغير خلاف، فهكذا المصدر، وسر المسألة أن ذلك التزام لأن يطلِّق أو التزام لطلاق واقع، فإن كان التزامًا (¬11) [لأن يطلق لم تطلق، وإن كان التزامًا] (7) ¬
فصل [المخرج السابع، وفيه البحث في الطلاق المعلق يراد به الحضر أو المنع]
لطلاق واقع فكأنَّه قال: "إن فعلت كذا فأنت طالق طلاقًا يلزمني" طلقت إذا وجد الشرط، ولمن رجح هذا أن يحيل فيه على العرف، فإن الحالف لا يقصد إلا هذا ولا يقصد التزام التطليق (¬1)، وعلى هذا [فيظهر أن] (¬2) يُقال: إن نوى [بذلك] (2) التزام التطليق لم تطلق، وإن نوى وقوع الطلاق طلقت، وهذا قول أبي يوسف و [قول] (2) جمهور أصحاب الشافعي، ومن جعله صريحًا في وقوع الطلاق حكم فيه [بالعرف وغلبة] (¬3) استعمال هذا اللفظ في وقوع الطلاق، وهذا قول أبي المحاسن الروياني، والوجوه الثلاثة في مذهب الشافعي، حكاها شارح "التنبيه" (¬4)، وغيره. وفي المسألة قولان آخران، [وهما] (¬5) للحنفية: أحدهما: أنه إن قال: "فالطلاق عليَّ واجبٌ" يقع نواه أو لم ينوه، وإن قال: "فالطلاقُ لي لازمٌ" لا يقع نواه أو لم ينوه، ووجه هذا الفرق أن قوله: "لازم" التزام لأن يطلق، فلا تطلق بذلك، وقوله: "واجب" إخبار عن وجوبه عليه، ولا يكون واجبًا إلا وقد وقع، ولمن سوَّى بينهما أن يقول: هو إيجاب للتطليق وإخبار عن وقوع الطلاق، ولا ريب أن اللفظ محتمل لهما كاحتمال قوله: "الطلاق يلزمني" سواء، وهذا هو الصواب، والفرق تحكّم. والثاني: قول محمد بن الحسن، وهو عكس هذا القول، أن الطلاق يقع بقوله: "الطلاق يلزمني أو لي لازم" (¬6)، ولا يقع بقوله: "هو عليَّ واجب"، وعلى هذا الخلاف قوله: "إن فعلت كذا فالعتق يلزمني، أو فعليَّ العتق، أو فالعتق لازم لي، أو واجب [عليَّ] " (¬7). فصل [المخرج السابع، وفيه البحث في الطلاق المعلَّق يراد به الحضر أو المنع] المخرج السابع: أخذه بقول أشهب من أصحاب مالك، بل هو أفقههم على الإطلاف، فإنه قال: إذا قال الرجل لامرأته: "إن كلمت زيدًا أو خرجت من بيتي ¬
[مكانة أشهب عند المالكية]
بغير إذني"، ونحو ذلك مما يكون من فعلها "فأنت طالق"، وكلَّمت زيدًا أو خرجت من بيته تقصد أن يقع عليها (¬1) الطلاق لم تطلق، حكاه أبو الوليد ابن رشد في كتاب الطلاق من كتاب "المقدِّمات" له (¬2)، وهذا القول هو الفقه بعينه، [و] (¬3) لا سيما على أصول مالك وأحمد في مقابلة العبد بنقيض قصده كحرمان القاتل ميراثه من المقتول، وحرمان الموصى له وصية من قتله بعد الوصية، وتوريث امرأة من طلَّقها في مرض موته فرارًا من ميراثها وكما يقول (¬4) مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنهما وقبلهما عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- فيمن تزوج في العدة وهو يعلم: يُفرَّق بينهما (¬5) ولا تحل له أبدًا ونظائر ذلك كثيرة؛ فمعاقبة المرأة هاهنا بنقيض قصدها هو محض الفقه والقياس (¬6)، ولا ينتقض هذا على أشهب بمسألة المخيَّرة ومن جعل طلاقها بيده؛ لأنَّ الزوج قد ملكها ذلك وجعله بيدها بخلاف الحالف فإنه لم يقصد طلاقها بنفسه، ولا جعله بيدها باليمين، حتى لو قصد ذلك فقال: "إن أعطيتيني ألفًا فأنت طالق" أو "إن أبرأتيني (¬7) من جميع حقوقك فأنت طالق" فأعطته أو أبرأته طلقت. ولا ريب أن هذا الذي قاله (¬8) أشهب أفقه من القول بوقوع الطلاق؛ فإنَّ الزوج [إنما] (¬9) قصد حضها ومنعها ولم يقصد تفويضَ الطلاق إليها ولا خطر ذلك بقلبه، ولا قصدَ وقوع الطلاق عند المخالفة. [مكانة أشهب عند المالكية] ومكان أشهب من العلم والإمامة غير مجهول؛ فذكر أبو عمر بن عبد البر ¬
فصل [هل الحلف بالطلاق يمين أو لا؟]
في كتاب "الانتقاء" (¬1) عن محمد بن عبد اللَّه بن عبد الحكم قال: "أشهب أفقه من ابن القاسم مئة مرة"، وأنكر ابن لبابة (¬2) ذلك، وقال: "ليس [هذا] عندنا كما قال محمد، وإنما قاله لأن أشهب شيخه ومعلّمه"، قال أبو عمر: "أشهب شيخه [ومعلمه] (¬3)، وابن القاسم شيخه، وهو (¬4) أعلم بهما لكثرة مجالسته (¬5) لهما وأخذِه عنهما" (¬6). فصل [هل الحلف بالطلاق يمين أو لا؟] المخرج الثامن: أخذه بقول من يقول: إن الحلف بالطلاق لا يلزم (¬7)، ولا يقع على الحانث به طلاق ولا يلزمه كفارة [ولا غيرها] (¬8)، وهذا مذهب خلق من السلف والخلف، صح ذلك عن [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب (¬9). قال بعض فقهاء (¬10) المالكية وأهل الظاهر: ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، هذا لفظ أبي القاسم التميمي (¬11) في "شرح أحكام ¬
عبد الحق"، وقاله قبله أبو محمد بن حزم (¬1)، وصح ذلك عن طاوس أجلّ أصحاب ابن عباس -رضي اللَّه عنه-، وأفقههم على الإطلاق، قال عبد الرزاق في "مصنفه" (¬2): أنبأنا ابنُ جُرَيْج قال: أخبرني ابنُ طاوس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا قلت: أكان يراه يمينًا (¬3)؟ قال: لا أدري، وهذا أصح إسناد عمَّن هو [من] (¬4) أجل التابعين وأفقههم، وقد وافقه أكثر من أربع مئة عالم ممن بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياس، ومن آخرهم أبو محمد بن حزم، قال في كتابه "المحلى" (¬5): مسألة، اليمين (¬6) بالطلاق لا يلزم، سواء (¬7) برَّ أو حنث، لا يقع به طلاق، و"لا طلاق إلا كما أمر اللَّه [تعالى] (4)، ولا يمين إلا كما شرع [اللَّه تعالى] (4) على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- " (¬8)، ثم قرر ذلك، وساق اختلاف الناس في ذلك، ثم قال: فهؤلاء علي بن أبي طالب وشُريح وطاوس لا يقضون بالطلاق على من حلف به فحنث، ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف (¬9) من الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. قلت: أما أثر علي -رضي اللَّه عنه- فرواه (¬10) حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن أن رجلًا تزوج امرأة، وأراد سفرًا فأخذه أهل امرأته، فجعلها طالقًا إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر، فجاء الأجل ولم يبعث إليها بشيء، فلما قدم خاصموه إلى علي، فقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬11): اضطهدتموه حتى جعلها طالقًا فردَّها عليه (¬12)، ولا متعلق لهم بقوله: "اضطهدتموه" لأنه لم يكن هناك إكراه، فإنهم إنما طالبوه بحق نفقتها فقط، ومعلوم أن ذلك ليس بإكراه على الطلاق ولا على اليمين، وليس في القصة أنهم أكرهوه بالقتل أو بالضرب أو بالحبس [أو أخذ المال على اليمين] (¬13) حتى يكون يمين مكره، والسائلون لم يقولوا لعلي شيئًا من ذلك البتَّة، وإنما ¬
خاصموه في حكم اليمين فقط، فنزَّل علي [-رضي اللَّه عنه-] (¬1) [ذلك] منزلة المضطهد حيث لم يرد طلاق امرأته وإنما أراد التخلص إلى سفره بالحلف، فالحالف والمضطهد كلٌّ منهما لم يرد طلاق امرأته، فالمضطهد محمولٌ على طلاق تكلَّم به ليتخلص من ضرر الإكراه، والحالف حلف به ليتوصل إلى غرضه من الحض أو المنع (¬2) أو التصديق أو التكذيب، ولو اختلف حال الحالف بين أن يكون مكرهًا أو مختارًا لسأله علي -رضي اللَّه عنه- (¬3) عن الإكراه وشروطه وحقيقته، وبأي شيء أكره، وهذا ظاهر بحمد اللَّه، فارض للمقلد بما رضي لنفسه. وأما أثرُ شُريح ففي "مصنف عبد الرزاق" (¬4) عن هشام بن حسان، عن محمد ابن سيرين، عن شُريح أنه خوصم إليه في رجل طلَّق امرأته إنْ أحدث في الإسلام حدثًا فاكترى بغلًا إلى حمام أعين (¬5)، فتعدى به إلى أصبهان فباعه واشترى به خمرًا فقال شريح: إن شئتم شهدتم عليه أنه طلقها فجعلوا يردِّدون عليه القصة ويردِّد عليهم (¬6)، فلم يَرَه حدثًا ولا متعلق بقول الراوي (¬7) -إما محمد وإما هشام-، فلم يره حدثًا فإنما ذلك ظن منه، قال أبو محمد (¬8): وأي حدث أعظم ممن تعدّى من حمام أعين وهو على مسيرة أميال يسيرة من الكوفة إلى أصبهان ثم باع بغل مسلم ظلمًا واشترى (¬9) به خمرًا؟ قلت: والظاهر أنّ شُريحًا لما رُدَّت عليه (¬10) المرأة ظَنّ مَنْ شاهد القصة أنه لم ير ذلك حدثًا؛ إذ لو رآه حدثًا لأوقع [عليها] (¬11) الطلاق، وشُريح إنما ردَّها ¬
[المنقول عن السلف في ذلك]
لأنه علم أنه لم يقصِدْ طلاقَ امرأته، وإنما قصدَ اليمين فقط، فلم يلزمه بالطلاق [فقال الراوي فيهم: فلم ير ذلك حدثًا] (¬1)، وشريح أفقه في دين اللَّه أن لا يرى مثل هذا حدثًا. ممن روي عنه عدم وقوع الطلاق على الحالف إذا حنث عكرمة مولى ابن عباس، كما ذكره سُنيد بن داود في "تفسيره" في أول سورة النور عنه بإسناده (¬2) أنه سئل عن رجل حلف بالطلاق أنه لا يكلم أخاه، فكلَّمه، فلم ير ذلك طلاقًا ثم قرأ: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168, 208, الأنعام: 142] (¬3). [المنقول عن السلف في ذلك] ومن تأمَّل المنقول عن السلف [في ذلك] (¬4)، وجده أربعة أنواع (¬5): * صريح في عدم الوقوع (¬6). * وصريح في الوقوع (6). * وظاهر في عدم الوقوع. * وتوقف عن الطرفين. فالمنقول عن طاوس وعكرمة صريحٌ في عدم الوقوع. وعن علي (¬7) وشُريح ظاهرٌ في ذلك، وعن ابن عيينة صريح في التوقف، وأما التصريح بالوقوع فلا يُؤثر عن صحابي واحد إلا فيما هو محتمل لإرادة الوقوع عند الشرط، كالمنقول عن أبي ذر، بل الثابت عن الصحابة عدم الوقوع في صورة العتق الذي هو أولى بالنفوذ من الطلاق، ولهذا ذهب إليه أبو ثور وقال: القياس أن الطلاق مثله، إلا أن تُجمع الأمة عليه، فتوقف في الطلاق لتوهم الإجماع، وهذا عذر أكثر الموقعين للطلاق، وهو ظنهم [أن] (¬8) الإجماع على الوقوع، مع اعترافهم أنه ليس في الكتاب والسنة والقياس الصحيح ما يقتضي ¬
الوقوع، وإذا تبيَّن أنه ليس في المسألة إجماع تبين أن لا دليل أصلًا يدل على الوقوع، والأدلة الدالة على عدم الوقوع في غاية القوة والكثرة، وكثير منها لا سبيل إلى دفعه، فكيف يجوز معارضتها بدعوى إجماع قد علم بطلانه قطعًا؟ فليس بأيدي الموقعين آية من كتاب اللَّه تعالى ولا أثر (¬1) عن رسول اللَّه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) ولا عن أصحابه ولا قياس صحيح، والقائلون بعدم الوقوع لو لم يكن معهم إلا الاستصحاب الذي لا يجوز الانتقال عنه إلا لما هو أقوى منه لكان كافيًا فكيف ومعهم الأقيسة التي أكثرها من باب قياس الأولى؟ والباقي من القياس المساوي وهو قياس النظير على نظيره، والآثار والعمومات والمعاني الصحيحة والحكم [والمناسبات التي شهد لها الشرع بالاعتبار ما لم يدفعهم منازعوهم عنهم بحجة أصلًا؟ وقولهم] (¬3)، وسط بين قولين متباينين غاية التباين: أحدهما: قول من يعتبر التعليق فيوقع به الطلاق على كل حال، سواء كان تعليقًا قَسَميًا يقصد به الحالف منع الشرط والجزاء أو تعليقًا شرطيًا يقصد به حصول الجزاء عند حصول الشرط. والثاني: قول من يقول: إن هذا التعليق كله لغوٌ لا يصح بوجه ما ولا يقع الطلاق به البتة، كما سنذكره في المخرج الذي بعد هذا إن شاء اللَّه، فهؤلاء توسطوا بين الفريقين، وقالوا: يقع الطلاق (¬4) في صورة التعليق [المقصود به وقوع الجزاء، ولا يقع في صورة التعليق القَسَمي] (¬5)، وحجتهم قائمة على الفريقين، وليس لأحد منهما حجة صحيحة عليهم، بل كل حجة صحيحة احتج بها الموقعون فإنما تدل على الوقوع في صورة التعليق المقصود وكل حجة احتج بها المانعون صحيحية فإنما تدل على عدم الوقوع في صورة التعليق القسمي فهم قائلون بمجموع حجج الطائفتين وجامعون للحق الذي مع الفريقين ومعارضون كل من الفريقين وحججهم بقول الفريق الآخر وحججهم (¬6). ¬
فصل [المخرج التاسع وفيه حكم الطلاق المعلق بالشرط]
فصل [المخرج التاسع وفيه حكم الطلاق المعلق بالشرط] المخرج التاسع: أخذه بقول [من يقول] (¬1): إن الطلاق المعلَّق بالشرط لا يقع، ولا يصح تعليق الطلاق، كما لا يصح تعليق النكاح، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز [الشافعي] (1) أحد أصحاب الشافعي الأجلّة أو أجلهم، وكان الشافعي يجلّه ويكرمه ويكنيه ويعظمه، وأبو ثور (¬2)، وكانا يكرمانه (¬3)، وكان بصره ضعيفًا فكان الشافعي يقول: لا تدفعوا إلى أبي عبد الرحمن الكتاب يُعارض به فإنه يخطئ، وذكره أبو إسحاق الشيرازي في "طبقات أصحاب الشافعي" (¬4)، ومحل الرجل من (¬5) العلم والتضلع منه لا يُدفع، وهو في العلم بمنزلة أبي ثور وتلك الطبقة، [وكان رفيق أبي ثور] (1)، وهو أجل من جميع أصحاب الوجوه [من] (1) المنتسبين إلى الشافعي، [فإذا نزل بطبقته إلى طبقة أصحاب الوجوه كان قوله وجهًا وهو أقل درجاته. وهذا مذهب لم ينفرد به، بل قد قال به غيره من أهل العلم] (1) قال أبو محمد بن حزم في "المحلى" (¬6): والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين، كل ذلك لا يلزم وباللَّه التوفيق، ولا يكون طلاقًا إلا كما أمر اللَّه تعالى، وعلمه، وما عداه فباطل وتعدِّ لحدود اللَّه تعالى. وهذا القول وإن لم يكن قويًا في النظر (¬7) فإن الموقعين [للطلاق] (1) لا يمكنهم إبطاله [البتة] (1) لتناقضهم، وكان (¬8) أصحابه يقولون لهم: قولنا في تعليق الطلاق بالشرط كقولكم (¬9) في تعليق الإبراء والهبة (¬10) والوقف والبيع والنكاح سواء، فلا يمكنكم (¬11) ¬
[البتة] أن تفرِّقوا (¬1) بين ما صح تعليقه من عقود التبرعات والمعارضات والإسقاطات بالشروط، وما لا يصح تعليقه، فلا تبطلوا قول منازعيكم في صحة تعليق الطلاق [بالشرط] (¬2) بشيء إلا كان هو بعينه حجة عليكم في إبطال قولكم في منع صحة تعليق الإبراء والهبة والوقف والنكاح، فما الذي أوجب إلغاء هذا التعليق وصحة ذلك التعليق؟ فإن فرَّقتم بالمعاوضة، وقلتم: "إن عقود المعاوضات لا تقبل التعليق بخلاف غيرها" انتقض عليكم طَرْدًا بالجعَالة وعَكسًا بالهبة والوقف؛ فانتقض عليكم الفرق طردًا وعكسًا وإن فرَّقتم بالتمليك والإسقاط فقلتم: "عقود التمليك لا تقبل التعليق بخلاف عقود الإسقاط" انتقض أيضًا طرده بالوصية، وعكسه بالإبراء؛ فلا طَرْد ولا عكس، وإن فرقتم بالإدخال في ملكه والإخراج عن ملكه وصحَّحتم (¬3) التعليق في الثاني دون الأول انتقض [عليكم] (¬4) أيضًا فَرْقكم؛ فإن الهبة والإبراء إخراج عن ملكه ولا يصح تعليقها عندكم، وإن فرقتم بما يحتمل الغرر وما لا يحتمله، فلا يحتمل الغرر والأخطار يصح تعليقه بالشرط كالطلاق والعتق والوصية، وما لا يحتمله لا يصح تعليقه كالبيع والنِّكاح والإجارة، انتقض عليكم بالوكالة، فإنها لا تقبل التعليق عندكم وتحتمل الخطر؛ ولهذا يصح أن يوكله في شراء عبد، ولا يذكر قدره ولا وصفه ولا سِنَّه ولا ثمنه، بل يكفي ذكر جنسه فقط، أو أن يوكله في شراء دار، ويكتفي بذكر محلها وسكنها فقط، أو أن يوكله في التزوج بامرأة فقط، ولا يزيد على كونها امرأة، ولا يذكر له جنس مهرها ولا قدره ولا وصفه، وأي خطر فوق هذا؟ ومع ذلك منعتم من تعليقها بالشرط، وطرد هذا الفرق يوجب عليكم صحة تعليق النكاح بالشرط، فإنه يحتمل من الخطر ما لا يحتمل غيره من العقود، فلا [يشترط فيه] (¬5) رؤية الزوجة، ولا صفتها ولا تعيين العوض جنسًا ولا قدرًا ولا وصفًا ويصح مع جهالته وجهالة المرأة، ولا يعلم (¬6) عقد يحتمل من الخطر ما يحتمله؛ فهو أولى بصحة التعليق من الطلاق والعتاق إن صح هذا الفرق. وقد نص الشافعي على صحة تعليقه فيما لو قال: "إن كانت جاريتي ولدت بنتًا فقد زوجتكها"، وهذا وإن لم يكن تعليقًا على شرط مستقبل فليس (¬7) بمنزلة قوله: "متى ولدت جارية (¬8) فقد زوجتكها" لأن ¬
[عن نكاح المتعة]
هذا فيه خطر ليس في صورة النص، وهذا فَرْقٌ صحيح، ولكن لم يوفوه حقه، ولم يطرد فقهه، فلو قال: "إن كان أبي مات وورثِتُ منه هذا المتاع فقد بعتكه" أبطلتموه، وقلتم: هو بيع معلَّق على شرط، والبطلان هاهنا (¬1) في غاية البعد من الفقه، ولا معنى تحته، ولا خطر هناك ولا غرر البتة (¬2)، وقد نص الإمام أحمد على صحة تعليق النكاح على الشرط، قال صاحب "المستوعب": وأما (¬3) إذا علَّق انعقاد النكاح على شرط مثل أن يقول: "زوجتكَ إذا جاء رأس الشهر، أو إذا رَضِيت أُمَّها" ففيه روايتان: إحداهما (¬4): يبطل النكاح من أصله، والأخرى (¬5) يصح. وذكر في [هذا] (¬6) الفصل أنه إذا تزوجها بشرط الخيار وإن جاءها بالمهر إلى وقت كذا، وإلا فلا نكاح بينهما ففيه روايتان: إحداهما (4): يبطل النكاح [من أصله] (7). والثانية: يبطل الشرط ويصح العقد، نص عليه في رواية الأثرم، وقد ذكر القاضي رواية عنه أنه إذا تزوجها بشرط الخيار يصح العقد والشرط [جميعًا] (¬7) فصار عنه ثلاث روايات: صحة العقد والشرط وبطلانهما، وصحة العقد وفساد الشرط، لكن هذا فيما إذا اشترط (¬8) الخيار أو إن جاءها بالمهر إلى وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما وأما إذا قال: "زوجتك إن رضيت أمها" فنص على صحة العقد إذا رضيت أمها وقال: [هو نكاح] (7). [عن نكاح المتعة] وقال في رواية عبد اللَّه (¬9) وصالح (¬10) وحنبل: نكاح المتعة حرام، وكل نكاح فيه وقت أو شرط فاسد. [المفرقون بين ما يقبل التعليق بالشروط، وما لا يقبله ليس لهم ضابط] والمقصود أن المفرّقين بين ما يقبل التعليق بالشروط، وما لا يقبل إلى ¬
فصل [المخرج العاشر: زوال سبب اليمين]
الآن (¬1) لم يستقر لهم ضابط في الفرق، فمن قال من أهل الظاهر وغيرهم: إن الطلاق لا يصحُّ تعليقُه بالشرط (¬2) لم يتمكن من الرد عليه مَنْ قولُه مضطربٌ فيما يعلق وما لا يعلق، ولا يرد عليه بشيء إلا تمكن من (¬3) ردِّه عليهم بمثله أو أقوى منه، وإنْ ردَّوا عليه بمخالفته لآثار الصحابة ردَّ عليهم بمخالفة النصوص المرفوعة في صور عديدة [و] (¬4) قد تقدم ذكر بعضها وإن فرَّقوا طالبهم بضابط ذلك أولًا وبتأثير (¬5) الفرق شرعًا ثانيًا (¬6) فإن الوصف الفارق لا بد أن يكون مؤثرًا كالوصف الجامع؛ فإنه لا يصح تعليق الأحكام جمعًا وفرقًا بالأوصاف التي لا يُعلم (¬7) أن الشارع اعتبرها فإنه وضع شرع لم يأذن به اللَّه، وبالجملة فليس بطلان هذا القول أظهر في الشريعة من بطلان التحليل، بل العلم بفساد [نكاح] (¬8) التحليل أظهر من العلم بفساد هذا القول، فإذا جاز التقرير على التحليل وترك إنكاره مع ما فيه من النصوص والآثار التي اتفق عليها أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم على المنع منه ولعن فاعله وذمّه فالتقرير على هذا القول أجود وأجوز (¬9). هذا (¬10) ما لا يستريب فيه عالم منصف، وإن كان الصواب في خلاف القولين جميعًا ولكن أحدهما أقل خطأ وأقرب إلى الصواب، واللَّه أعلم. فصل [المخرج العاشر: زوال سبب اليمين] المخرج العاشر: [مخرج] (8) زوال السبب، وقد كان الأَوْلى تقديمه على هذا المخرج لقوته وصحته، فإن الحكم يدور مع علته وسببه وجودًا وعدمًا. [الحكم يدور مع علته وسببه وجودًا وعدمًا] ولهذا إذا علَّق الشارع حكمًا بسبب أو علة زال [ذلك] (¬11) الحكم بزوالها ¬
[حكم الحالف على أمر لا يفعله فزال السبب]
كالخمر علق بها حكم التنجيس وجوب الحد لوصف (¬1) الإسكار، فإذا زال عنها وصارت خلًا زال الحكم، وكذلك وصف الفسق علق عليه المنع من قبول الشهادة والرواية، فإذا زال الوصف زال الحكم الذي علق عليه، وكذلك السفه والصغر والجنون والإغماء تزول الأحكام المعلقة عليها بزوالها والشريعة مبنية على هذه القاعدة. [حكم الحالف على أمر لا يفعله فزال السبب] فهكذا الحالف إذا حلف على أمر لا يفعله لسبب فزال السبب لم يحنث بفعله؛ لأن يمينه تعلَّقت به لذلك الوصف (¬2)، فإذا زال الوصف زال تعلق اليمين فإذا دُعي إلى شراب مسكر ليشربه فحلف أن لا يشربه، فانقلب (¬3) خلًا فشربه لم يحنث، فإن منع نفسه منه نظير منع الشارع، فإذا زال منع الشارع بانقلابه، خلا وجب أن يزول منع نفسه بذلك، والتفريق بين الأمرين تحكّم محض لا وجه له؛ فإذا كان التحريم والتنجيس ووجوب الإراقة ووجوب الحد وثبوت الفسق قد زال بزوال سببه فما الموجب لبقاء المنع في صورة اليمين وقد زال سببه؟ وهل يقتضي محض الفقه إلا زوال حكم اليمين؟ يوضحه أن الحالف يعلم من نفسه أنه لم يمنعها من شرب غير المسكر، ولم يخطر بباله، فإلزامه ببقاء حكم اليمين وقد زال سببها إلزامٌ [له] (¬4) بما لم يلتزمه هو، ولا ألزمه به الشارع، وكذلك لو حلف على رجل أن لا يقبل له قولًا ولا شهادة لما يعلم من فسقه، ثم تاب وصار من خيار الناس؛ فإنه يزول حكم المنع باليمين كما يزول [حكم] (¬5) المنع من ذلك بالشرع، وكذلك إذا حلف أن لا يأكل هذا الطعام أو لا (6) يلبس هذا الثوب أو لا (¬6) يكلِّم هذه المرأة ولا يطأها لكونه لا يحلُّ له ذلك، فمَلَك الطعام والثوب وتزوج المرأة فأكل الطعام (¬7) ولبس الثوب ووطئ المرأة لم يحنث؛ لأن المنع بيمينه [كالمنع بمنع الشارع] (¬8)، ومنع الشارع يزول بزوال الأسباب التي ترتب عليها المنع؛ فكذلك منع الحالف، وكذلك إذا حَلَف: لا دَخلتُ هذه الدار، وكان سبب يمينه أنها تُعمل فيها ¬
[مسائل لها هذا الحكم صرح به الفقهاء]
المعاصي (¬1)، وتشرب الخمر (¬2)؛ فزال ذلك وعادت مجمعًا للصالحين وقراءة القرآن والحديث، أو قال: "لا أدخل هذا المكان"؛ لأجل [ما رأى فيه من] (3) المنكر، فصار [بيتًا] (¬3) من بيوت اللَّه تعالى تُقام فيه الصلوات (¬4) لم يحنث بدخوله، وكذلك إذا (¬5) حلف لا يأكل لفلان طعامًا [وكان سبب اليمين أنه يأكل الربا] (¬6)، و [يأكل] (3) أموال الناس بالباطل؛ فتاب [وخرج من المظالم] (3)، وصار طعامه من كسب يده أو تجارة مباحة لم يحنث [بأكل طعامه] (3)، ويزول حكم [منع اليمين] (¬7) كما يزول حكم منع الشارع، [وكذلك لو حلف] (¬8) لا بايعتُ فلانًا [وسبب يمينه كونه] (¬9) مفلسًا أو سفيهًا؛ فزال [الإفلاس والسفه] (3)؛ فبايعه لم يحنث، وأضعاف أضعاف هذه المسائل، [كما إذا اتُّهم بصحبة مُريب فحلف لا أصاحبه فزالت الريبة وخلفها ضدها فصاحبه لم يحنث، وكذلك لو حلف المريض لا يأكل لحمًا أو طعامًا وسبب يمينه كونه يزيد في مرضه فصح وصار الطعام نافعًا له لم يحنث بأكله] (3)، وقد صرح الفقهاء بمسائل من هذا الجنس. [مسائل لها هذا الحكم صرح به الفقهاء] - فمنها (¬10): لو حلف لوالٍ أن لا أفارق البلد إلا بإذنك (¬11)، فعُزل ففارق البلد بغير إذنه لم يحنث. [- ومنها: لو حلف على زوجته لا تخرجين من بيتي إلا بإذني، أو على عبده (¬12) لا يخرج إلا بإذنه (¬13)، ثم طلَّق الزوجة وأعتق العبد فخرجا بغير إذنه لم يحنث، (¬14)، ذكره أصحاب الإمام أحمد. ¬
قال صاحب "المغني" (¬1): لأن قرينةَ الحال تنقل حكم الكلام إلى نفسها وهو إنما يملك (¬2) منع الزوجة والعبد مع ولايته عليهما؛ فكأنه قال: ما دُمْتما في ملكي، ولأن السبب يدل على النية في الخصوص كدلالته [عليها] (¬3) في العموم، وكذلك لو (¬4) حلف لقاض أن لا أرى منكرًا إلا رفعته إليك فعزل لم يحنث بعدم الرفع إليه بعد العزل، وكذلك إذا حلف [لامرأته ألا أبيتُ خارج بيتك أو خارج هذه الدار فماتت أو طلقها لم يحنث إذا بات خارجها وكذلك إذا حلف] (3) على ابنه ألا يبيت خارج البيت لخوفه عليه من الفُسَّاق، لكونه أمرد، فالتحى وصار شيخًا لم يحنث بمبيته خارج الدار، وهذا كله مذهب مالك وأحمد؛ فإنهما يعتبران النية في الأيمان ومناط (¬5) اليمين وسببها وما هيَّجها؛ فيحملان اليمين على ذلك. [و] (6) قال أبو عمر بن عبد البر في [كتاب الأيمان من] (¬6) كتابه: "الكافي في مذهب مالك" (¬7): والأصل في هذا الباب مراعاة ما نواه (¬8) الحالف؛ فإن لم يكن له نية نظر إلى بساط قصته (¬9)، وما أثاره على الحلف، ثم حكم عليه بالأغلب من ذلك في [نفوس أهل] (6) وقته. وقال صاحب "الجواهر" (¬10): "المقتضيات للبر والحنث أمور: الأول: النية إذا كانت مما (¬11) يصلح أن يراد اللفظ بها سواء كانت مطابقة له أو زائدة فيه أو ناقصة عنه بتقييد مطلقه وتخصيص عامه. الثاني: السبب المثير لليمين [يتعرف منه] (¬12)، ويعبر عنه بالبساط (¬13) أيضًا وذلك أن القاصد لليمين لا بد أن تكون له نية، وإنما يذكرها في بعض الأوقات وينساها في بعضها؛ فيكون المحرِّك على اليمين [وهو] (¬14) البساط (¬15) -دليلًا عليها [لكن قد يظهر مقتضى المحرك ظهورًا لا إشكال فيه، وقد يخفى في بعض ¬
[عند أصحاب أحمد]
الحالات، وقد يكون ظهوره وخفاؤه بالإضافة] (¬1). وكذلك أصحاب [الإمام] (¬2) أحمد صرَّحوا باعتبار النية وحمل اليمين على مقتضاها فإن عدمت رجع إلى سبب اليمين وما هيجها فحمل اللفظ عليه؛ لأنه دليل على النية. حتى صرح أصحاب مالك (¬3) فيمن دفن مالًا ونسي مكانه فبحث عنه فلم يجده فحلف على زوجته أنها هي التي أخذته ثم وجده لم يحنث، قالوا: لأن قصده ونيته إنما هو إن كان المال قد ذهب فأنت التي أخذتيه (¬4)؛ فتأمل كيف جعلوا القصد والنية في قوة الشرط، وهذا هو محض الفقه. ونظير هذا ما لو دُعي إلى طعام فظنه حرامًا فحلف لا أطعمه ثم ظهر أنه حلال (¬5) لا شبهة فيه فإنه لا يحنث بأكله؛ لأن يمينه إنما تعلقت به إن كان حرامًا وذلك قصده. ومثله لو مرَّ به رجل فسلم عليه فحلف لا يرد عليه السلام لظنِّه أنه مبتدع أو ظالم أو فاجر، فظهر أنه غير ذلك الذي ظنه لم يحنث بالرد عليه. ومثله لو قدمت له دابة ليركبها فظنها قطوفًا أو جموحًا أو متعسرة الركوب فحلف لا يركبها فظهرت [له] (¬6) بخلاف ذلك لم يحنث بركوبها. [و] (¬7) قال أبو القاسم الخرقي في "مختصره" (¬8): ويرجع في الأيمان إلى النية؛ فإن لم ينو شيئًا رجع إلى سبب اليمين وما هيَّجها. [عند أصحاب أحمد] وقال أصحاب الإمام أحمد: إذا دُعي إلى غداء فحلف [أن] (7) لا يتغدى أو قيل [له] (7): اقعد فحلف أن لا يقعد اختصت يمينه بذلك الغداء وبالقعود في ذلك الوقت؛ لأن عاقلًا لا يقصد أن لا يتغدى أبدًا ولا يقعد أبدًا. [ثم] (¬9) قال صاحب "المغني" (¬10): إن كان له نيَّة فيمينه على ما نوى، ¬
[عند الحنفية]
فإن (¬1) لم تكن له نية؛ فكلام أحمد يقتضي روايتين: إحديهما (¬2): أن اليمين محمولة على العموم؛ لأن أحمد سئل عن رجل حلف أن لا يدخل بلدًا لظلم رآه فيه فزال الظلم، قال أحمد: النَّذر يوفي به يعني: لا يدخله، ووجه ذلك أن اللفظ لفظ الشارع إذا كان عامًا لسبب خاص وجب الأخذ بعموم اللفظ دون خصوص السبب، كذلك يمين الحالف. ونازعه [في ذلك] (¬3) شيخنا (¬4)، فقال: إنما منعه أحمد من دخول البلد بعد زوال الظلم؛ لأنه نذر للَّه أن لا يدخلها، وأكد نذره باليمين، والنذر قربة، فقد نذر التقرب إلى اللَّه بهجران ذلك البلد؛ فلزمه (¬5) الوفاء بما نذره. هذا هو الذي فهمه الإمام أحمد، وأجاب به السائل حيث قال: النذر يوفي به؛ ولهذا منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- المهاجرين من الإقامة بمكة بعد قضاء نسكهم (¬6) فوق ثلاثة أيام (¬7)؛ لأنهم تركوا ديارهم للَّه تعالى، فلم يكن لهم العود فيها وإن زال السبب الذي تركوها لأجله، وذلك نظير مسألة ترك البلد للظلم (¬8)، والفواحش التي فيه إذا نذره الناذر؛ فهذا سر جوابه، وإلا فمذهبه الذي عليه نصوصه وأصوله اعتبار النية والسبب في اليمين وحمل كلام الحالف (¬9) على ذلك، وهذا في نصوصه أكثر من أن يذكر (¬10) فلينظر فيها. [عند الحنفية] وأما مذهب أصحاب أبي حنيفة فقال في كتاب: "الذخائر" في (كتاب الأيمان): الفصل السادس في تقييد الأيمان المطلقة بالدلالة: إذا أرادت المرأة الخروج من الدار فقال الزوج: "إنْ خَرَجْتِ [من الدار] (¬11) فأنت طالق" فجلست ساعة ثم خرجت لا تطلق، وكذلك لو أراد رجل أن يضربه فحلف آخر أن لا يضربه، فهذا على تلك الضربة، حتى (¬12) لو مكث ساعة ثم ضربه لا يحنث، ويُسمَّى هذا يمين الفور، وهذا لأن الخرجة التي قصد والضربة التي قصد هي ¬
[السبب يقوم مقام النية في اليمين]
المقصودة بالمنع منها عرفًا وعادة، فيتعيَّن ذلك بالعرف والعادة، فإذا (¬1) دخل الرجل على رجل [يتغدى] (¬2) فقال: [تعال] (¬3) تغد معي، فقال: واللَّه لا أتغدى، فذهب إلى بيته وتغدى مع [جميع] (3) أهله لا يحنث، وكذلك إذا قال الرجل لغيره: كل مع فلان، فقال: واللَّه لا آكل، ثم ذكر تقرير ذلك بأنه جواب لقول الآمر له، والجواب كالمعاد في السؤال؛ فإنه يتضمن ما فيه، قال: وليس كابتداء اليمين؛ لأن كلامه لم يخرج جوابًا لتقييد (¬4)، بل خرج ابتداءً، [هو مطلق عن القيد فينصرف] (¬5) إلى كل غداء، قال: وإذا قال لغيره: كلِّم لي زيدًا اليوم في كذا، فقال: واللَّه لا أكلِّمه، فهذا يختص باليوم؛ لأنه خرج جوابًا عن الكلام السابق، وعلى هذا إذا قال [له] (¬6): إيتني اليوم، فقال: امرأته طالق إنْ أتاك. وقد صرح أصحاب أبي حنيفة بأن النية تعمل في اللفظ لتعيين (¬7) ما احتمله اللفظ، فإذا تعين باللفظ ولم يكن اللفظ محتملًا لما نوى لم تؤثر النية [فيه] (¬8)؛ فإنه حينئذ يكون الاعتبار بمجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في إثبات الحكم؛ فإذا احتملها اللفظ فعيَّنت بعض محتملاته أثَّرت حينئذ، قالوا: ولهذا لو قال: "إن لبستُ ثوبًا أو أكلتُ طعامًا أو شربتُ شرابًا أو كلمتُ امرأة فامرأتي طالق" (¬9)، ونوى ثوبًا أو طعامًا أو شرابًا أو امرأةً معينًا دُيِّنَ فيما بينه وبين اللَّه، وقبلت نيته بغير خلاف، ولو حذف المفعول واقتصر على الفعل؛ فكذلك عند أبي يوسف في رواية عنه والخصاف، وهو قول مالك والشافعي وأحمد (¬10). [السبب يقوم مقام النية في اليمين] والمقصود أن النية تؤثر [في اليمين] (8) تخصيصًا وتعميمًا وإطلاقًا وتقييدًا والسبب يقوم مقامها عند عدمها ويدل عليها فيؤثر ما يؤثره (¬11)، وهذا هو الذي ¬
[التعليل كالشرط]
يتعين الإفتاء به، ولا يحمل الناس على ما يقطع أنهم لم يريدوه بأيمانهم، فكيف إذا علم قطعًا أنهم أرادوا خلافه؟ واللَّه أعلم. [التعليل كالشرط] والتعليل يجري مجرى الشرط، فإذا قال: "أنت طالق لأجل خروجك من الدار" فبان أنَّها لم تخرج لم تطلق قطعًا صرح به صاحب "الإرشاد" فقال: وإن قال: "أنت طالق أن دخلت الدار" بنصب الألف والحالف من أهل اللسان، ولم يتقدم لها دخول قبل اليمين بحال، لم تطلق، ولم يذكر فيه خلافًا وقد قال (¬1) الأصحاب وغيرهم: إنه إذا قال: "أنت طالق"، وقال أردت الشرط دين؛ فكذلك إذا قال: "لأجل كلامك زيدًا أو خروجك (¬2) من داري بغير إذني" فإنه يُديَّن، ثم إن تبين أنها لم تفعل لم يقع الطلاق، ومن أفتى بغير هذا فقد وهم على المذهب، واللَّه أعلم. فصل [الخلع] المخرج الحادي عشر: خلع اليمين عند من يجوِّزه كأصحاب الشافعي وغيرهم، وهذا وإن كان غير جائز على قول أهل المدينة وقول الإمام أحمد وأصحابه كلهم فإذا دعت الحاجة إليه أو إلى التحليل كان أولى من التحليل من وجوه [عديدة] (¬3): أحدها: أن اللَّه تعالى (¬4) شرع الخُلع رفعًا لمفسدة المشاقة [الواقعة] (3) بين الزوجين، وتخلّص كل منهما من صاحبه؛ فإذا شرع الخلع رفعًا لهذه المفسدة التي هي بالنسبة إلى مفسدة التحليل كتفلة في بحر فتسويغه لدفع (¬5) مفسدة التحليل أولى. يوضحه: الوجه الثاني: أن الحيل المحرَّمة إنما منع منها لما تضمنه من الفساد الذي (¬6) اشتملت عليه تلك المحرَّمات التي يتحيل عليها بهذه الحيل، وأما حيلة تدفع (¬7) ¬
مفسدة هي من أعظم المفاسد فإن الشارع لا يحرمها. [يوضحه] (¬1): الوجه الثالث: أن هذه الحيلة تتضمن مصلحة بقاء (¬2) النِّكاح المطلوب للشارع بقاؤه، ودفع مفسدة التحليل التي بالغ الشارع كل المبالغة في دفعه [والمنع منه] (¬3)، ولعن أصحابه، فحيلة تحصِّل المصلحة المطلوب إيجادها وتدفع المفسدة المطلوب إعدامها لا يكون ممنوعًا منها. الوجه الرابع: أن ما حرَّمه الشارع فإنما حرمه لما يتضمنه من المفسدة الخالصة أو الراجحة، فإذا كانت مصلحة خالصة أو راجحة لم يحرمه البتة، وهذا الخلع مصلحته أرجح من مفسدته. الوجه الخامس: أن غاية ما في هذا الخلع (¬4) اتفاق الزوجين ورضاهما بفسخ النكاح بغير شقاق واقع بينهما وإذا وقع الخلع من غير شقاق صح، وكان غايته الكراهية؛ لما فيه من مفسدة المفارقة، وهذا الخلع أريد به لم شعث النكاح بحصول عقد بعده يتمكن (¬5) الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف، وبدونه لا يتمكنان من ذلك، [بل إما ليتمكن الزوجان فيه من المعاشرة بالمعروف وبدونه لا يتمكنان من ذلك] (¬6) بل إما خراب البيت وفراق الأهل، وإما التعرض للعنة من لا يقوم للعنته شيء، وإما التزام ما حلف عليه وإن كان فيه فساد دنياه وأُخراه كما إذا حلف ليقتلنَّ ولده اليوم، أو ليشربنَّ [هذا] (7) الخمر، أو ليطأنَّ هذا الفرج الحرام، أو حلف أنه لا يأكل ولا يشرب ولا يستظل بسقف ولا يعطي فلانًا حقه، ونحو ذلك، فإذا دار الأمر بين مفسدة التزام المحلوف عليه أو مفسدة الطلاق وخراب البيت وشتات الشمل أو مفسدة التزام لعنة اللَّه بارتكاب التحليل وبين ارتكاب الخلع المخلِّص من ذلك [جميعه] (¬7) لم يخف على العاقل أي ذلك أولى. الوجه السادس: أنهما لو اتفقا على أن يطلقها من غير شقاق بينهما بل ليأخذ غيرها لم يمنع من ذلك فإذا اتفقا على الخلع ليكون سببًا إلى دوام اتصالهما (¬8) كان أولى وأحرى. ¬
[و] (¬1) يوضحه: [الوجه] (1) السابع: أن الخلع إن قيل: "إنه طلاق" فقد اتفقا على الطلاق بعوض لمصلحة لهما في ذلك، فما الذي يحرمه؟ وإن قيل: "إنه فسخ" فلا ريب أن النكاح من العقود اللازمة، والعقد اللازم إذا اتفق المتعاقدان على فسخه ورفعه لم يمنعا من ذلك، إلا أن يكون العقد حقًا للَّه، والنكاح محض حقهما فلا يمنعان من الاتقاق على فسخه. الوجه الثامن: أن الآية اقتضت جواز الخلع إذا خاف الزوجان ألا يقيما حدود اللَّه، فكان الخلع طريقًا إلى تمكُّنهما من إقامة حدود اللَّه، وهي حقوقه الواجبة عليهما في النكاح، فإذا كان الخلع مع استقامة الحال طريقًا إلى [تمكنهما من] (¬2) إقامة حدوده التي تعطل [ولا بد بدون] (¬3) الخلع [تعين الخلع حينئذ] (4) طريقًا إلى إقامتها. فإن قيل: لا يتعين الخلع طريقًا بل هاهنا طريقان [آخران] (¬4): أحدهما: مفارقتهما. والثاني: عدم إلزام الطلاق بالحنث إذا أخرجه مخرج اليمين إما بكفارة أو بدونها (¬5)؛ كما هي ثلاثة أقوال للسلف معروفة صرَّح بها أبو محمد بن حزم (¬6) وغيره. قيل: نعم هذان طريقان، [و] (4) لكن إذا أحكم سدَّهما غاية الإحكام، ولم (¬7) يمكنه سلوك أحدهما وأيهما سلك ترتب عليه غاية الضرر (¬8) في دينه ودنياه لم يحرم عليه -والحالة هذه- سلوك طريق الخلع، وتعيَّن في حقه [طريقان] (4): * إما طريق الخلع. * وإما سلوك طريق أرباب اللعنة. وهذه المواضع وأمثالها لا تحتملها إلا العقول الواسعة التي لها إشراف على أسرار الشريعة [ومقاصدها] (¬9) وحكمها وأما عَقْل لا يتسع لغير [تقليد] (2) من اتفق ¬
[الحيلة المحرمة]
له تقليده وترك جميع أقوال أهل العلم لقوله فليس الكلام معه. الوجه التاسع: أن غاية ما مع المانعين (¬1) من صحة هذا الخلع أنه حيلة، والحيل باطلة؛ ومنازعوهم ينازعوهم في [كلتا] (¬2) المقدمتين، فيقولون: الاعتبار في العقود بصورها دون نيّاتها ومقاصدها فليس لنا أن نسأل الزوج إذا أراد خلع امرأته: ما أردت بالخلع؟ وما السبب الذي حملك عليه؟ هل هو المشاقة أو التخلص من اليمين؟ بل نجري حكم التخالع على ظاهره، ونكل سرائر الزوجين إلى اللَّه، قالوا: ولو ظهر لنا قصد الحيلة فالشأن في المقدمة الثانية، فليس كل حيلة باطلة محرمة، وهل هذا الفصل الطويل الذي نحن فيه إلا في أقسام الحيل؟ [الحيلة المحرمة] والحيلة المحرمة الباطلة (¬3) هي التي تتضمن تحليل ما حرَّمه اللَّه أو تحريم ما أحله اللَّه أو إسقاط ما أوجبه؟ وأما حيلة تتضمن الخلاص من الآصار والأغلال والتخلص من لعنة الكبير المتعال فأهلًا بها من حيلة وبأمثالها {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220]، والمقصود تنفيذ أمر اللَّه ورسوله بحسب الإمكان واللَّه المستعان. الوجه العاشر: أنه ليس القول ببطلان خلع اليمين أولى [من القول] (¬4) بلزوم الطلاق للحالف به غير القاصد له، فهلمَّ نحاكمكم (¬5) إلى كتاب اللَّه (¬6) تعالى وسنة رسوله وأقوال الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وقواعد الشريعة [المطهرة] (4)، وإذا وقع التحاكم تبيَّن أن القول بعدم لزوم الطلاق للحالف به أقوى أدلةً وأصح أصولًا وأطرد قياسًا وأوفق لقواعد الشرع، وأنتم معترفون بهذا شئتم أم أبيتم (¬7)، فإذا ساغ لكم العدول عنه إلى القول المتناقض المخالف للقياس ولما أفتى به الصحابة ولما تقتضيه قواعد الشريعة وأصولها فلأن يسوغ (¬8) لنا العدول عن قولكم ببطلان خلع اليمين إلى ضده تحصيلًا لمصلحة الزوجين ولمًّا لشعث النكاح وتعطيلًا لمفسدة التحليل وتخليصًا (¬9) لامرأين مسلمين من لعنة اللَّه ورسوله أولى وأحرى واللَّه أعلم. ¬
فصل [المخرج الثاني عشر وفيه بحث أن يمين الطلاق من الأيمان المكفرة]
فصل [المخرج الثاني عشر وفيه بحث أن يمين الطلاق من الأيمان المكفَّرة] المخرج الثاني عشر: أخذه بقول من يقول: "الحلف بالطلاق من الأيمان الشرعية التي تدخلها الكفارة"، وهذا أحد الأقوال في المسألة، حكاه أبو محمد بن حزم في كتاب "مراتب الإجماع" (¬1) له، فقال: واختلفوا فيمن حلف بشيء غير أسماء اللَّه أو بنحر ولده أو هديه أو أجنبي (¬2) أو بالمصحف أو بالقرآن أو بنذر أخرجه مخرج اليمين أو بأنه (¬3) مخالف لدين المسلمين (¬4) أو بطلاق أو بظهار أو تحريم شيء من ماله، ثم ذكر صورًا أخرى، ثم قال: فاختلفوا في جميع هذه الأمور: أفيها كفارة أم لا؟ ثم قال: واختلفوا في اليمين بالطلاق، أهو طلاق فيلزم، أم [هو] (¬5) يمين فلا يلزم؟ [فقد] (¬6) حكى في كونه طلاقًا [فيلزم] (¬7) أو يمينًا [لا يلزم قولين] (¬8) وحكى قبل ذلك هل فيه كفارة أم لا على قولين، واختار هو ألا يلزم، ولا كفارة فيه، وهذا اختيار شيخنا أبي محمد ابن تيمية أخي شَيخ الإسلام [ابن تيمية] (¬9). [رأي ابن تيمية] قال شيخ الإسلام (¬10): والقول بأنه يمين مكفَّرة هو مقتضى المنقول عن الصحابة في الحلف بالعتق، بل بطريق الأَوْلى؛ فإنهم إذا أفتوا من قال: "إنْ لم أفعل كذا فكل مملوك لي حر" بأنه يمين تُكفَّر فالحالف بالطلاق أولى، قال: وقد علَّق القول به أبو ثور، فقال: إن لم تجمع الأمة على لزومه فهو يمين تكفر، وقد تبين أن الأمة لم تجمع على لزومه، وحكاه شيخ الإسلام عن جماعة من العلماء ¬
الذين سمت هممُهم وشرفت نفوسُهم فارتفعت عن حضيض التقليد المحض إلى أوج (¬1) النظر والاستدلال، ولم يكن مع خصومه ما يردون [به] (¬2) عليه أقوى من الشكاية إلى السلطان، فلم يكن له برد هذه الحجة قبل، وأما [ما] (¬3) سواها فبيَّن فساد جميع حججهم، ونقضها أبلغ نقض، وصنف في المسألة ما بين مطول ومتوسط ومختصر ما يقارب ألفي ورقة، وبلغت الوجوه التي استدل بها عليها من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس وقواعد إمامه خاصة وغيره (¬4) من [الأئمة] (2) زهاء أربعين دليلًا وصار إلى ربه وهو مقيم عليها [داع إليها] (2) مباهل لمنازعيه، باذل نفسه [وعرضه] (2)، وأوقاته لمستفتيه؛ فكان يفتي في الساعة الواحدة فيها (¬5) بقلمه ولسانه أكثر من أربعين فتيا؛ فعطلت لفتاواه (¬6) مصانع التحليل، وهدمت صوامعه وبيعه، وكسدت سوقه، وتقشَّعت (¬7) سحائب اللعنة عن المحلِّلين، والمحلَّل لهم من المطلقين، وقامت سوق الاستدلال بالكتاب والسنة والآثار السلفية، وانتشرت مذاهب الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة الإسلام للطالبين، وخرج من حبس تقليد المذهب المعيّن به من كرمت عليه نفسه من المستبصرين (¬8)، فقامت قيامة أعدائه وحُسّاده ومن لا يتجاوز ذكر أكثرهم باب داره أو محلته، وهجنوا ما ذهب إليه بحسب المستجيبين لهم غاية التهجين، فمن استخفّوه من الطغام وأشباه الأنعام قالوا: هذا قد رفع الطلاق بين المسلمين، وكثَّر أولاد الزنا في العالمين، ومن صادفوا عنده (¬9) مسكة عقل ولب قالوا: هذا قد أبطل الطلاق المعلّق بالشرط وقالوا لمن تعلقوا به من الملوك والولاة: هذا قد حل (¬10) بيعة السلطان من أعناق الحالفين، ونسوا أنهم هم الذين حلوها بخلع اليمين، وأما هو فصرح في كتبه أن أيمان الحالفين لا تغير شرائع الدين، فلا يحل لمسلم حل بيعة السلطان بفتوى أحد من المفتين، ومن أفتى بذلك كان من الكاذبين المفترين على شريعة أحكم الحاكمين. ¬
[محنة ابن تيمية كمحنة السلف]
[محنة ابن تيمية كمحنة السلف] ولعمر اللَّه لقد مني (1) من هذا بما مُني (¬1) به من سلف من الأئمة المرضيين، فما أشبه الليلة بالبارحة للناظرين، فهذا مالك بن أنس توصل أعداؤه إلى ضربه بأن قالوا للسلطان: إنه يحل عليك أيمان البيعة بفتواه أن يمين المكره لا تنعقد، وهم يحلفون مكرهين غير طائعين، فمنعه السلطان، فلم يمتنع (¬2) لما أخذه اللَّه في الميثاق على من آتاه اللَّه علمًا أن يبينه للمسترشدين، ثم [تلاه على أثره] (¬3) محمد بن إدريس الشافعي فوشى به أعداؤه إلى الرشيد أنه يحل أيمان البيعة بفتواه أن اليمين بالطلاق قبل النكاح لا تنعقد، ولا تطلق إن تزوجها الحالف، وكانوا يُحلِّفونهم في جملة الأيمان: "وإن كل امرأة أتزوجها فهي طالق"، وتلاهما على آثارهما شيخ الإسلام فقال حسَّاده: هذا ينقض عليكم أيمان البيعة، فما فَتَّ ذلك في عضد أئمة الإسلام، ولا ثَنَى عزماتهم (¬4) في اللَّه وهممهم، ولا صدهم ذلك عما أوجب اللَّه تعالى عليهم [من] (¬5) اعتقاده والعمل به من الحق الذي أداهم إليه اجتهادهم، بل مضوا لسبيلهم، وصارت أقوالهم أعلامًا يهتدي بها المهتدون، تحقيقًا لقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24]. فصل [الصحابة والتابعون ومن بعدهم أفتوا بذلك] ومن له اطلاع وخبرة وعناية بأقوال العلماء يعلم أنه [لم يزل] (¬6) في الإسلام من عصر الصحابة من يفتي في هذه المسألة بعدم اللزوم وإلى (¬7) الآن. فأما الصحابة رضي اللَّه عنهم فقد ذكرنا فتاواهم في الحلف (¬8) بالعتق بعدم اللزوم، وأن الطلاق أولى منه، وذكرنا فتوى علي بن أبي طالب (¬9) -رضي اللَّه عنه- بعدم لزوم اليمين بالطلاق، وأنه لا مخالف له من الصحابة. ¬
[رأي الأئمة بعد التابعين]
وأما التابعون فذكرنا فتوى طاوس بأصح إسناد عنه (¬1)، وهو من أجل التابعين، وأفتى عكرمة وهو من أغزر أصحاب ابن عباس علمًا على ما أفتى به طاوس [سواء] (¬2)، قال سُنيد بن داود في "تفسيره" المشهور [في] (2) قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [النور: 21]: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ]}) (¬3) [النور: 21] قال: النذور في المعاصي، حدثنا عباد بن عباد المهلبي (¬4)، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في رجل قال لغلامه: "إن لم أجلدك مئة سوط فامرأتي طالق" (¬5) قال: لا يجلد غلامه ولا تطلق امرأته، هذا من خطوات الشيطان. [رأي الأئمة بعد التابعين] وأما من بعد التابعين فقد حكى المعتنون بمذاهب العلماء كأبي محمد بن حزم وغيره ثلاثة أقوال في ذلك [للعلماء] (6)، وأهل الظاهر لم يزالوا متوافرين على عدم لزوم الطلاق للحالف به (¬6)، ولم يزل منهم الأئمة والفقهاء والمصنِّفون والمقلِّدون لهم، وعندنا بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها عن جماعة من أهل العلم الذين هم أهله في عصرنا وقبله أنهم كانوا يفتون بها أحيانًا فأخبرني صاحبنا الصادق محمد بن شهوان (¬7) قال: أخبرني شيخنا الذي قرأت عليه القرآن -وكان من أصدق الناس- الشيخ محمد بن المحلى (¬8) قال: أخبرني شيخنا الإمام خطيب جامع دمشق عز الدين الفاروقي (¬9) قال: كان والدي يرى هذه المسألة، ويفتي بها ببغداد. ¬
[رأي أهل المغرب]
[رأي أهل المغرب] وأما أهل المغرب فتواتر (¬1) عمن يعتني بالحديث ومذاهب السلف منهم أنه كان يفتي بها وأوذي بعضهم على ذلك وضرب، وقد ذكرنا فتوى (¬2) القفال في قوله: "الطلاق يلزمني" أنه لا يقع به طلاق وإن نواه، وذكرنا فتاوى أصحاب أبي حنيفة في ذلك، وحكايتهم إياه عن الإمام نصًا، وذكرنا فتوى أشهب من المالكية فيمن قال لامرأته: "إنْ خرجتِ من داري أو كلَّمتِ فلانًا -ونحو ذلك- فأنت طالق" ففعلتْ لم تَطْلُق، ولا يختلف عالمان متحليان بالإنصاف أن اختيارات شيخ الإسلام لا تتقاصر عن اختيارات ابن عقيل وأبي الخطاب بل وشيخهما أبي يعلى، فإذا (¬3) كانت اختيارات هؤلاء وأمثالهم وجوهًا يفتي بها في الإسلام ويحكم بها الحكام فلاختيارات شيخ الإسلام أسوة بها إن لم ترجح عليها (¬4)، واللَّه المستعان وعليه التكلان. فصل (¬5) [القول في جواز الفتوى بالآثار السلفية] في جواز الفتوى بالآثار السلفية (¬6)، والفتاوى الصحابية، وأنها أولى بالأخذ [بها] (7) من أراء المتأخرين وفتاويهم، وأن قُرْبها إلى الصواب بحسب قرب أهلها من عصر الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله، وأن فتاوى الصحابة أولى أن يؤخذ بها من فتاوى التابعين، وفتاوى التابعين أولى من [فتاوى] (¬7) تابعي ¬
التابعين، وهلم جرّا وكلما كان العهد بالرسول (¬1) أقرب كان الصواب أغلب، وهذا حكم بحسب الجنس (¬2) لا بحسب كل فرد فرد من المسائل، كما أن عصر التابعين -وإن كان أفضل من عصر تابعيهم- فإنما هو بحسب الجنس لا بحسب كل شخص شخص، ولكن المُفضَّلون في العصر المتقدم أكثر من المفضلين في العصر المتأخر، وهكذا الصواب في أقوالهم أكثر من الصواب في أقوال من بعدهم؛ فإن التفاوت بين علوم المتقدمين والمتأخرين كالتفاوت الذي بينهم في الفضل والدين (¬3)، ولعله لا يسع المفتي والحاكم عند اللَّه أن يفتي ويحكم بقول فلان وفلان من المتأخرين من مقلدي الأئمة ويأخذ برأيه وترجيحه (¬4) ويترك الفتوى والحكم بقول البخاري وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن نصر المروزي وأمثالهم (¬5)، بل يترك قول ابن المبارك والأوزاعي [وسفيان الثوري] (¬6) وسفيان بن عيينة وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وأمثالهم (¬7)، بل لا يَلْتفت إلى قول ابن أبي ذئب والزهري والليث بن سعد وأمثالهم (¬8)، بل لا يلتفت إلى قول (¬9) سعيد بن المسيب، والحسن، والقاسم، وسالم (¬10)، وعطاء، وطاوس، وجابر بن زيد، وشُريح، وأبي وائل، وجعفر بن محمد وأضرابهم مما (¬11) يسوغ الأخذ بقولهم (¬12) بل يرى تقديم ¬
[قول] (1) المتأخرين من أتباع من قلَّده على [فتوى] (¬1) أبي بكر الصديق (¬2) وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبيّ بن كعب وأبي الدرداء وزيد بن ثابت وعبد اللَّه بن عباس وعبد اللَّه بن عمر وعبد اللَّه بن الزبير وعبادة بن الصامت وأبي موسى الأشعري وأضرابهم (¬3)، فلا يدري ما عذره غدًا عند اللَّه (¬4) إذا سوَّى بين أقوال أولئك وفتاويهم وأقوال هؤلاء وفتاويهم (¬5)، فكيف إذا رجَّحها عليها؟ فكيف إذا عيَّن (¬6) الأخذ بها حكمًا وإفتاءً (¬7)، ومنع الأخذ بقول الصحابة (¬8)، واستجاز عقوبة من خالف المتأخرين لها (¬9)، وشهد عليه بالبدعة والضلالة (¬10)، ومخالفة أهل العلم وأنه يكيد الإسلام (¬11)؟ تاللَّه لقد أخذ بالمثل المشهور: "رمتني بدائها وانْسَلّتْ" (¬12)، وسمَّى ورثة الرسول باسمه هو، وكساهم أثوابه، ورماهم بدائه، وكثير من هؤلاء يصرخ ويصيح (¬13) ويقول ويعلن أنه يجب على الأمة كلهم الأخذ بقول من قلدناه ديننا (¬14)، ولا يجوز الأخذ بقول أبي بكر وعمر وعثمان ¬
[ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة]
وعلي وغيرهم من الصحابة وهذا كلامٌ مَنْ أخذ به وتقلَّده ولّاه اللَّه ما تولى، ويجزيه [عليه] (¬1) يوم القيامة الجزاء الأوفى (¬2)، والذي ندين اللَّه به ضد هذا القول، والرد عليه، فنقول: [ترتيب الأخذ بفتاوى الصحابة] إذا قال الصحابي قولًا فإما أن يخالفه صحابي آخر أو لا يخالفه، فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر (¬3)، وإن خالفه أعلم منه كما إذا خالف الخلفاءُ الراشدون (¬4) أو بعضهم غيرهم من الصحابة في حكم، فهل يكون الشق الذي فيه الخلفاء الراشدون أو بعضهم حجة على الآخرين؟ فيه قولان للعلماء، وهما روايتان عن الإمام أحمد، والصحيح أن الشق الذي فيه الخلفاء [الراشدون] (¬5) أو بعضهم أرجح وأَوْلى أن يؤخذ به من الشق الآخر (¬6)، فإن كان ¬
[رجحان أقوال الصديق]
الأربعة في شق [فلا شك أنَّه الصواب (¬1)، وإن كان أكثرهم في شق] (¬2) فالصواب فيه أغلب (¬3)، وإن كانوا اثنين واثنين فشق أبي بكر وعمر أقرب إلى الصواب؛ فإن اختلف أبو بكر وعمر فالصواب مع أبي بكر (¬4)، وهذه جملة (¬5) لا يعرف تفصيلها إلا من له خبرة واطلاع على ما اختلف فيه الصحابة وعلى الراجح من أقوالهم. [رجحان أقوال الصديق] ويكفي في ذلك معرفة رجحان قول الصديق في الجد والإخوة (¬6)، وكون الطلاق الثلاث بفم واحد مرة واحدة وإن تلفظ فيه بالثلاث (¬7)، وجواز بيع أمهات الأولاد، وإذا نظر العالم المنصف في أدلة هذه المسائل من الجانبين تبين له أن جانب الصدِّيق أرجح، وقد تقدم بعض ذلك في مسألة الجد والطلاق الثلاث بفم واحد، ولا يُحفظ للصديق خلاف نص واحد أبدًا ولا يحفظ له فتوى ولا حكم ¬
فصل [إن لم يخالف الصحابي صحابيا آخر]
مأخذها ضعيف أبدًا (¬1) وهو تحقيق لكون خلافته خلافة نبوة (¬2). فصل [إن لم يخالف الصحابي صحابيًا آخر] وإن لم يخالف الصحابي صحابيٌّ آخر (¬3) فإما أن يشتهر قوله في الصحابة أو لا يشتهر، فإن اشتهر فالذي عليه جماهير الطوائف من الفقهاء أنه إجماع وحجة، وقالت طائفة منهم: هو حجة وليس بإجماع (¬4)، وقالت شرذمة من المتكلمين ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وبعض الفقهاء المتأخرين: لا يكون إجماعًا ولا حجة (¬1)، وإن لم يشتهر قوله أو لم يعلم [هل] (¬2) اشتهر أم لا فاختلف الناس: هل يكون حجة أم لا؟ فالذي عليه جمهور الأمة أنه حجة هذا قول جمهور الحنفية، صرح به محمد بن الحسن، وذكر عن أبي حنيفة نصًا وهو مذهب مالك وأصحابه، وتصرفه في "موطئه" دليل عليه (¬3)، وهو قول إسحاق ابن راهويه وأبي عبيد، وهو منصوص الإمام أحمد في غير موضع [عنه] (¬4)، واختيار جمهور أصحابه، وهو منصوص الشافعي في القديم والجديد، أما القديم فأصحابه مقرون به، وأما الجديد فكثير منهم يحكي عنه فيه أنه ليس بحجة، وفي هذه الحكاية عنه نظر ظاهر جدًا؛ فإنه لا يحفظ عنه (¬5) في الجديد حرف واحد أن قول الصحابي ليس بحجة، وغاية ما يتعلق به (¬6) من نقل ذلك أنه يحكي أقوالًا للصحابة في الجديد ثم يخالفه (¬7) ولو كانت عنده حجة لم يخالفها وهذا تعلُّق ضعيف جدًا فإن مخالفة المجتهد الدليل (¬8) المعيَّن لما هو أقوى في نظره منه (¬9) لا يدل على أنه لا يراه دليلًا من حيث الجملة، بل خالف دليلًا لدليل أرجح منه عنده (¬10)، وقد تعلَّق بعضهم بأنه يراه في الجديد إذا ذكر ¬
أقوال الصحابة موافقًا لها لا يعتمد عليها وحدها كما يفعل بالنصوص، بل يعضدها بضروب من الأقيسة؛ فهو تارة يذكرها ويصرح بخلافها وتارة يوافقها ولا يعتمد عليها بل يعضدها بدليل آخر، وهذا أيضًا تعلق أضعف من الذي قبله؛ فإن تظافر (¬1) الأدلة وتعاضدها وتناصرها من عادة أهل العلم قديمًا وحديثًا ولا يدل ذكرهم دليلًا ثانيًا وثالثًا على أن ما ذكروه قبله ليس بدليل (¬2)، وقد صرَّح الشافعي في الجديد من رواية الربيع عنه بأن قول الصحابة (¬3) حجة يجب المصير إليه، فقال: المُحدثات من الأمور ضربان: أحدهما (¬4): ما أحدث يخالف كتابًا أو سنة أو إجماعًا أو أثرًا (¬5) فهذه البدعة الضلالة، والربيع إنما أخذ عنه بمصر (¬6)، وقد جعل مخالفة الأثر الذي ليس بكتاب ولا سنة ولا إجماع ضلالة، وهذا فوق كونه حجة، وقال البيهقي في كتاب "مدخل السنن" (¬7) له: باب ذكر أقاويل الصحابة إذا تفرقوا (¬8)، قال الشافعي (¬9): أقاويل الصحابة إذا تفرَّقوا فيها نصير إلى ما وافق الكتاب والسنة أو الإجماع إذا (¬10) كان أصح في القياس، وإذا قال الواحد منهم القول لا يُحفظ عن غيره منهم فيه له موافقة ولا خلاف (¬11) صرت إلى اتباع قوله إذا لم أجد كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا ولا شيئًا (¬12) في معناه يحكم له بحكمه أو وجد معه قياس، قال البيهقي: وقال في كتاب "اختلافه مع مالك" (¬13): ما كان ¬
[طبقات العلم عند الشافعي]
الكتاب والسنة موجودين فالعذر على من سمعه مقطوع إلا [بإتيانه] (¬1)، فإن لم يكن ذلك (¬2) صرنا إلى أقاويل الصحابة أو [واحد منهم] (¬3)، ثم كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان رضي اللَّه عنهم إذا صرنا إلى التقليد أحب إلينا وذلك إذا لم نجد دلالة في الاختلاف تدل على أقرب الاختلاف من الكتاب (¬4) والسنة فنتبع القول الذي معه الدلالة؛ لأن قول الإمام مشهور بأنه يلزم الناس (¬5)، ومن لزم قوله الناس كان أشهر ممن يفتي الرجل أو النفر وقد يأخذ بفتياه ويدعها وأكثر المفتين يفتون الخاصة في بيوتهم ومجالسهم ولا يعتني (¬6) العامة بما قالوا عنايتهم بما قال الإمام (¬7)، وقد وجدنا الأئمة ينتدبون (¬8) فيسألون عن العلم من الكتاب والسنة فيما أرادوا أن يقولوا فيه ويقولون فيخبرون بخلاف قولهم، فيقبلون من المخبر، ولا يستنكفون عن أن يرجعوا لتقواهم اللَّه تعالى وفضلهم، فإذا لم يوجد عن الأئمة (¬9) فأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم في الدين في موضع الأمانة أخذنا بقولهم، وكان اتباعهم أولى بنا من اتباع من بعدهم. [طبقات العلم عند الشافعي] قال الشافعي (¬10) -رضي اللَّه عنه-: والعلم (¬11) طبقات. الأولى (¬12): الكتاب والسنة. الثانية: الإجماع فيما ليس كتابًا ولا سنة. ¬
الثالثة: أن يقول صحابي فلا يعلم له مخالف من الصحابة (¬1). الرابعة: اختلاف الصحابة. الخامسة (¬2): القياس، هذا كله كلامه في الجديد، قال البيهقي -بعد أن ذكر [هذا-: وفي الرسالة القديمة للشافعي -بعد ذكر] (¬3) الصحابة وتعظيمهم- قال: وهم فوقنا في كل علم واجتهاد وورع وعقل وأمر استدرك به علم، ورأيهم (¬4) أحمدُ وأولى بنا من رأينا (¬5)، ومن أدركنا ممن نرضى أو حُكي لنا عنه ببلدنا صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرَّقوا (¬6)، وكذا نقول: ولم نخرج عن (¬7) أقوالهم كلهم قال: وإذا قال الرجلان منهم في شيء قولين نظرت (¬8)، فإن كان قول أحدهما أشبه بالكتاب والسنة أخذت به، لأن معه شيئًا قويًا، فإن لم يكن على واحد من القولين دلالة بما وصفت كان قول الأئمة أبي بكر وعمر وعثمان (¬9) أرجح عندنا من واحد (¬10) لو خالفهم غير إمام. قال البيهقي: وقال في موضع آخر (¬11): فإن لم يكن على القول دلالة من كتاب ولا سنة كان قول أبي بكر وعمر وعثمان أحبَّ إليَّ من قول غيرهم (¬12)، فإن اختلفوا صرنا إلى القول الذي عليه دلالة، وقلَّما يخلو اختلافهم من ذلك، ¬
وإن (¬1) اختلفوا بلا دلالة نظرنا إلى الأكثر (¬2)، فإن تكافؤوا نظرنا أحسن أقاويلهم مخرجًا عندنا (¬3)، وإن وجدنا للمفتين في زماننا أو قبله إجماعًا في شيء تبعناه (¬4)، فإذا نزلت نازلة لم نجد فيها واحدة من هذه الأمور فليس إلا اجتهاد الرأي (¬5)، فهذا كلام الشافعي رحمه اللَّه ورضي عنه بنصه، ونحن نشهد باللَّه أنه لم يرجع عنه، بل كلامه في الجديد مطابق لهذا موافق له كما تقدم ذكر لفظه، و [قد] (¬6) قال في الجديد في قتل الراهب: إنه القياس [عنده] (¬7)، ولكن أتركه لقول أبي بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- (¬8)، فقد أَخَبَرنا أنه ترك القياس الذي هو دليل عنده لقول الصاحب، فكيف يترك موجب الدليل لغير دليل؟ وقال: في الضلع بعيرٌ، قلته تقليدًا لعمر رضي اللَّه عنه (¬9)، وقال في موضع آخر: قلته تقليدًا لعثمان -رضي اللَّه عنه-، وقال في الفرائض: هذا مذهب تلقيناه عن زيد [بن ثابت] (¬10). ولا تستوحش من لفظة التقليد في كلامه، وتظن أنها تنفي [كون] قوله حجة (¬11) بناء على ما تلقيته من اصطلاح المتأخرين أن التقليد قبول قول الغير بغير حجة، فهذا اصطلاح حادث (¬12)، وقد صرَّح الشافعي في موضع من كلامه بتقليد خبر الواحد فقال: قلت هذا تقليدًا للخبر (¬13)، وأئمة الإسلام كلهم على قبول قول الصحابي، قال ¬
نعيم بن حماد: ثنا ابنُ المبارك قال: سمعت أبا حنيفة يقول: إذا جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم (¬1)، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم (¬2). وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وأكثر المتكلمين (¬3) [إلى] أنه ليس بحجة (¬4)، وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة، وإلا فلا، قالوا: لأنه إذا خالف القياس لم يكن إلا عن توقيف (¬5) وعلى هذا فهو حجة وإن خالفه صحابي آخر، والذين قالوا: "ليس بحجة" قالوا: لأن الصحابي مجتهد من المجتهدين يجوز عليه الخطأ فلا يجب تقليده، ولا يكون قوله حجة كسائر المجتهدين، ولأن الأدلة الدالة على بطلان التقليد تعم تقليد الصحابة ومن دونهم (¬6)، [و] لأن التابعي إذا أدرك عصر الصحابة اعتد بخلافه (¬7) عند أكثر الناس، فكيف يكون قول الواحد حجة عليه؟ ولأن الأدلة ¬
[الأدلة على وجوب اتباع الصحابة]
[قد] (¬1) انحصرت في الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب، وقول الصحابي ليس واحدًا منها، ولأن امتيازه بكونه أفضل وأعلم وأتقى لا يوجب وجوب اتباعه على مجتهد آخر من علماء التابعين بالنسبة إلى مَنْ بعدهم. [الأدلة على وجوب اتباع الصحابة] فنقول: الكلام في مقامين: أحدهما: في الأدلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة -رضي اللَّه عنهم-. الثاني: في الجواب عن شبه (¬2) النفاة. فأما الأول: فمن وجوه. أحدها: ما احتج به مالك، وهو قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}] (¬3) [التوبة: 100] فوجه الدلالة أن اللَّه تعالى أثنى على من اتبعهم، فإذا قالوا قولًا فاتَّبعهم مُتَّبعٌ عليه قبل أن يعرف صحته فهو متبع لهم، فيجب أن يكون محمودًا على ذلك، وأن يستحق ¬
[اعتراض]
الرضوان (¬1)، ولو كان اتباعهم تقليدًا محضًا كتقليد بعض المفتين لم يستحق من اتبعهم الرضوان إلا أن يكون عاميًا، فأما العلماء المجتهدون فلا يجوز لهم اتباعهم حينئذ (¬2). [اعتراض] فإن قيل: اتباعهم هو أن يقول ما قالوا بالدليل فهو (¬3) سلوك سبيل الاجتهاد؛ لأنهم إنما قالوا بالاجتهاد والدليل عليه قوله: {بِإِحْسَانٍ}، ومن قلَّدهم لم يتبعهم بإحسان لأنه لو كان مطلق الاتباع محمودًا لم يفرق بين الاتباع بإحسان أو بغير إحسان، وأيضًا فيجوز أن يراد به اتباعهم في أصول الدين (¬4)، وقوله: {بِإِحْسَانٍ} أي بالتزام الفرائض واجتناب المحارم، ويكون المقصود أن السابقين [قد] (¬5) وجب لهم الرضوان وإن أساءوا؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم- "وما يدريك أن اللَّه قد اطَّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (¬6). وأيضًا فالثناء على من اتَّبعهم (¬7) كلهم، وذلك اتباعهم فيما أجمعوا عليه، وأيضًا فالثناء على من اتبعهم لا يقتضي وجوبه، وإنما يدل على جواز تقليدهم، ¬
[دفع الاعتراض]
وذلك دليل على جواز تقليد العالم كما هو مذهب طائفة من العلماء، أو تقليد الأعلم كقول طائفة أخرى (¬1)، أما الدليل على وجوب اتباعهم فليس في الآية ما يقتضيه. [دفع الاعتراض] فالجواب من وجوه: أحدها: أن الاتباع لا يستلزم الاجتهاد (¬2) لوجوه: أحدها: أن الاتباع المأمور به في القرآن كقوله تعالى: {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158]، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 115]، ونحوه لا يتوقف (¬3) على الاستدلال على صحة القول مع الاستغناء عن القائل (¬4). الثاني: أنه لو كان المراد اتباعهم في الاستدلال والاجتهاد لم يكن فرق بين السابقين وبين جميع الخلائق؛ لأن اتباع موجب الدليل يجب أن يُتَّبع فيه كل أحد، فمن قال قولًا بدليل صحيح وجب موافقته فيه. الثالث: أنه إما أن تجوز مخالفتهم في قولهم بعد الاستدلال أو لا [تجوز] (¬5) فإن لم تجوز فهو المطلوب، وإن جازت مخالفتهم فقد خُولفوا في خصوص الحكم (¬6)، واتبعوا في أحسن الاستدلال (7)، فليس جَعْل من فعل ذلك متبعًا لموافقتهم في الاستدلال بأولى من جعله مخالفًا لمخالفته في عين الحكم (¬7). ¬
الرابع: أن من خالفهم في الحكم الذي أفتوا به لا يكون متبعًا لهم أصلًا بدليل أن من خالف مجتهدًا [من المجتهدين] (¬1) في مسألة بعد اجتهاده (¬2) لا يصح أن يقال: "اتبعه"، وإن أطلق ذلك فلا بد من تقييده بأن يقال: اتبعه في الاستدلال والاجتهاد (¬3). الخامس: أن الاتِّباع افتعال من اتبع، وكون الإنسان تابعًا لغيره نوع افتقار إليه ومشي خلفه، وكلُّ واحد من المجتهدين المستدلين ليس تبعًا للآخر ولا مفتقرًا إليه بمجرد ذلك (¬4) حتى يستشعر موافقته والانقياد له (¬5)، ولهذا لا يصح أن يقال لمن وافق رجلًا في اجتهاده أو فتواه اتفاقًا إنه متَّبعٌ له. السادس: أن الآية قصد بها مدح السابقين والثناء عليهم، وبيان استحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين، وبتقدير ألا يكون (¬6) قولهم موجبًا للموافقة ولا مانعًا من المخالفة -بل إنما يتبع القياس مثلًا- لا يكون لهم [هذا] (¬7) المنصب، ولا يستحقون هذا المدح والثناء (¬8). السابع: أن من خالفهم في خصوص [الحكم فلم] (¬9) يتبعهم في ذلك الحكم ولا فيما استدلوا به على ذلك الحكم فلا يكون متبعًا لهم بمجرد مشاركتهم في صفة عامة، وهي مطلق الاستدلال والاجتهاد، ولا سيما وتلك الصفة العامة لا اختصاص لها به (¬10)؛ لأن ما ينفي الاتباع أخص مما يثبته، وإذا وجد الفارق الأخص والجامع الأعم -وكلاهما مؤثر- كان التفريق رعاية للفارق أولى (¬11) من الجمع رعاية للجامع. وأما قوله: {بِإِحْسَانٍ} فليس المراد به أن يجتهد، وافق أو خالف؛ لأنه إذا ¬
خالف لم يتبعهم (¬1) فضلًا عن أن يكون بإحسان؛ ولأن (¬2) مطلق الاجتهاد ليس فيه اتباع لهم، لكن الاتباع لهم اسم يدخل فيه كل من وافقهم في الاعتقاد (¬3) والقول، فلا بد مع ذلك أن يكون المتَّبعُ محسنًا بأداء الفرائض واجتناب المحارم (¬4)، لئلا يقع اغترار (¬5) بمجرد الموافقة قولًا، وأيضًا فلا بد أن يحسن المتبع لهم القول فيهم، ولا يقدح فيهم، اشترط اللَّه ذلك لعلمه بأن (¬6) سيكون أقوام ينالون منهم (¬7). وهذا مثل قوله تعالى بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر: 10]، وأما تخصيص اتّباعهم بأصول الدين دون فروعه فلا يصح؛ لأن الاتباع عام، ولأن من اتبعهم في أصول الدين فقط لو كان متبعًا لهم على الإطلاق لكنا متبعين للمؤمنين من أهل الكتاب (¬8)، ولم يكن فرق بين أتباع السابقين من هذه الأمة وغيرها. وأيضًا فإنه إذا قيل: "فلان يتبع فلانًا، واتبع فلانًا (¬9)، وأنا (¬10) متبع فلانًا" ولم يقيد ذلك بقرينة لفظية ولا حالية؛ فإنه (¬11) يقتضي اتباعه في كل الأمور التي يتأتَّى فيها الاتباع؛ لأن من اتبعه في حال وخالفه في أخرى لم يكن وصفه بأنه متبع أولى من وصفه بأنه مخالف، ولأن الرَّضوان حكمٌ تعلق باتباعهم، فيكون الاتباع سببًا [له؛ لأن الحكم المعلق بما هو مشتق يقتضي أن ما منه الاشتقاق سبب، وإذا كان اتباعهم سببًا] (¬12) للرضوان اقتضى الحكم في جميع موارده، ولا اختصاص للاتِّباع (¬13) بحال دون حال، ولأن الاتباع يؤذن بكون الإنسان تبعًا لغيره ¬
فصل [الأحكام المتعلقة بأسماء عامة تثبت لكل فرد]
وفرعًا عليه، وأصول الدين ليست كذلك (¬1)؛ ولأن الآية تضمنت الثناء عليهم وجعلهم أئمة لمن بعدهم، فلو لم يتناول إلا اتباعهم في أصول الدين دون الشرائع لم يكونوا أئمة في ذلك لأن ذلك معلوم مع قطع النظر عن اتِّباعهم. فصل [الأحكام المتعلقة بأسماء عامة تثبت لكل فرد] وأما قولهم: "إن الثناء على من اتبعهم كلهم" فنقول: الآية اقتضت الثناء على من اتبع كل واحد منهم، كما أن قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ. . . وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ} [التوبة: 100] يقتضي حصول الرِّضوان لكل واحد من السابقين والذين اتبعوهم في قوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} [التوبة: 100] وكذلك في قوله: {اتَّبَعُوهُمْ} لأنه حكم عُلِّق عليهم في هذه الآية، فقد تناولهم مجتمعين ومنفردين (¬2)، وأيضًا, فإن الأصل في الأحكام المعلقة بأَسماء عامة ثبوتها لكل فرد [فرد] (¬3) من تلك المسميات كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (¬4) [الحج: 78] , وقوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18]، وقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (¬5). [الأحكام المتعلقة بمجموع] وأيضًا؛ فإن الأحكام المعلَّقة على المجموع يُؤتى فيها باسم يتناول المجموع دون الأفراد كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} ¬
[الآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين]
[النساء: 115] فإن لفظ الأمة ولفظ سبيل المؤمنين لا يمكن توزيعه على أفراد الأمة وأفراد المؤمنين، بخلاف لفظ السابقين، فإنه يتناول كل فرد من السابقين (¬1). [الآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين] وأيضًا فالآية تعم اتباعهم مجتمعين ومنفردين في كل ممكن؛ فمن اتَّبع جماعتَهم (¬2) إذا اجتمعوا واتبع آحادهم فيما وجد (¬3) عنهم مما لم يخالفه فيه غيره منهم فقد صَدَق عليه أنه اتَّبع السابقين، أما من خالف بعض السابقين فلا يصح أن يقال: "اتبع السابقين" لوجود مخالفته لبعضهم، لا سيما إذا خالف هذا مرة وهذا مرة، وبهذا يظهر الجواب عن اتّباعهم إذا اختلفوا؛ فإن اتباعهم هناك قبول (¬4) [بعض] (¬5) تلك الأقوال باجتهاد واستدلال، إذ هم مجتمعون على تسويغ (¬6) كل واحد من تلك الأقوال لمن أدَّى اجتهاده إليه، فقد قصد اتباعهم أيضًا، أما إذا قال الرجل قولًا ولم يخالفه غيره، فلا يُعلم أن السابقين سوَّغوا خلاف ذلك القول. [الآية تقتضي اتباعهم مطلقًا] وأيضًا؛ فالآية تقتضي اتّباعهم مطلقا، فلو فرضنا أن الطالب وقف (¬7) على نص يخالف قول الواحد منهم، فقد علمنا أنه لو ظفر بذلك النص لم يعدل عنه، أما إذا رأينا رأيًا فقد يجوز أن يخالف ذلك الرأي (¬8)، وأيضًا فلو لم يكن اتّباعهم إلا فيما أجمعوا عليه كلهم لم يحصل اتباعهم إلا فيما قد علم أنه من دين الإسلام بالاضطرار؛ لأن السابقين الأولين خَلقٌ عظيم، [و] (¬9) لم يعلم أنهم أجمعوا إلا على ذلك (¬10)؛ فيكون هذا الوجه هو الذي قبله، وقد تقدم بطلانه؛ إذ ¬
فصل [الرد على من زعم أن الآية لا توجب اتباعهم]
الاتباع في ذلك غير مؤثر، وأيضًا فجميع السابقين قد مات منهم أُناسٌ في حياة رسول اللَّه (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحينئذ فلا يحتاج في ذلك الوقت إلى اتباعهم للاستغناء [عنه] (¬2) بقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم لو فرضنا أحدًا تبعهم (¬3) إذ ذاك لكان من السابقين، فحاصله أن التابعين لا يمكنهم اتباع جميع السابقين. وأيضًا؛ فإن معرفة قول جميع السابقين كالمتعذِّر، فكيف يتبعون كلهم في شيء لا يكاد يُعلم؛ وأيضًا فإنهم إنما استحقوا منصب الإمامة والاقتداء بهم بكونهم هم السابقين، وهذه صفة موجودة في كل واحد منهم، فوجب أن يكون كل منهم إمامًا للمتقين كما استوجب الرضوان والجنَّة (¬4). فصل [الرد على من زعم أن الآية لا توجب اتباعهم] وأما قوله: "ليس فيها ما يوجب اتباعهم" فنقول: الآية تقتضي الرضوان عمن اتبعهم بإحسان، وقد قام الدليل على أن القول في الدين بغير علم حرام؛ ¬
فلا يكون [اتباعهم] (¬1) قولًا بغير علم، بل قولًا بعلم (¬2)، و [هذا] (1) هو المقصود، وحينئذ فسواء يُسمَّى (¬3) تقليدًا أو اجتهادًا (¬4)، وأيضًا؛ فإن كان تقليد العالم للعالم (¬5) حرامًا، كما هو قول الشافعية والحنابلة، فاتباعهم ليس بتقليد لأنه مرضي، وإن كان تقليدهم جائزًا أو كان تقليدهم مستثنى من التقليد المحرَّم، فلم يقل أحد: إن تقليد العلماء من موجبات الرضوان (¬6)؛ فعلم أن تقليدهم خارج عن هذا؛ لأن [تقليد] (¬7) العالم -وإن كان جائزًا- فتركه إلى قول غيره أو إلى اجتهاد (¬8) جائز أيضًا [بالاتفاق] (¬9)، والشيء المباح لا يستحق به الرضوان، وأيضًا فإن رضوان اللَّه غاية المطالب [التي] (7) لا تُنال إلا بأفضل الأعمال، ومعلوم أن التقليد الذي يجوز خلافه ليس بأفضل الأعمال، بل الاجتهاد أفضل [منه] (¬10) فعلم أن اتباعهم هو أفضل ما يكون في مسألة اختلفوا فيها هم ومن بعدهم، وأن اتباعهم دون من بعدهم هو الموجب لرضوان اللَّه (¬11)؛ فلا ريب أن رُجْحَان أحد القولين يوجب اتباعه (¬12)، وقولهم أرجح (¬13) بلا شك، ومسائل الاجتهاد لا يتخير الرجل فيها بين القولين (¬14)، ¬
وأيضًا فإن اللَّه أثنى على الذين اتبعوهم بإحسان، والتقليد وظيفة العامة (¬1)، وأما (¬2) العلماء فإما أن يكون مباحًا لهم أو محرَّمًا؛ إذ الاجتهاد أفضل منه لهم بغير خلاف، وهو (¬3) واجبٌ عليهم، فلو أُريد باتباعهم التقليد الذي يجوز خلافه لكان للعامة في ذلك النَّصيب الأوفى، وكان حظُّ علماء الأمة [من هذه الآية] (¬4) أبخس الحظوظ، ومعلوم أن هذا فاسد، وأيضًا فالرضوان عمن اتبعهم دليل على أن اتباعهم صواب ليس بخطأ (¬5)؛ فإنه لو كان خطأ لكان غاية صاحبه أن يُعفى له عنه، فإن المخطئ إلى أن يعفى عنه أقرب منه إلى أن يُرضِى عنه؛ وإذا كان صوابًا وجب اتباعه؛ لأن خلاف الصواب خطأ والخطأ يَحْرم اتباعه إذا عُلم أنه خطأ وقد علم أنه خطأ بكون الصواب خلافه، وأيضًا فإذا كان اتباعهم موجب الرضوان لم يكن ترك اتباعهم موجب الرضوان؛ لأن الجزاء لا يقتضيه وجود الشيء وضده ولا وجوده عدمه؛ لأنه يبقى عديم الأَثر في ذلك الجزاء، وإذا كان في المسألة قولان أحدهما يوجب الرضوان والآخر لا يوجبه كان الحق ما يوجبه، وهذا هو المطلوب (¬6)، وأيضًا فإن طلب رضوان اللَّه واجبٌ؛ لأنه (¬7) [إذا] (¬8) لم يوجد رضوانه فإما سخطهُ أو عفوه، والعفو إنما يكون مع انعقاد سبب الخطيئة، وذلك لا تُباح مباشرته إلا بالنص، وإذا كان رضوانه إنما هو في اتّباعهم، واتباع رضوانه واجب، كان اتباعهم واجبًا، وأيضًا، فإنه إنما أثنى على المتبع بالرضوان، ولم يصرح بالوجوب؛ لأن إيجاب الاتِّباع يدخل فيه الاتباع في الأفعال، ويقتضي تحريم مخالفتهم مطلقًا فيقتضي ذم المخطئ وليس كذلك، أما الأقوال فلا وجه لمخالفتهم فيها بعدما ثبت أن فيها رضا اللَّه تعالى (¬9)، وأيضًا فإن القول إذا ثبت أن فيه رضا اللَّه لم يكن رضا اللَّه في ¬
[اعتراض ورده]
ضدِّه، بخلاف الأفعال فقد يكون رضا اللَّه في الأفعال المختلفة وفي الفعل والترك بحسب قصدين وحالين. أما الاعتقادات والأقوال فليست كذلك، فإذا ثبت أن في قولهم رضوان اللَّه تعالى لم يكن الحق والصواب إلا هو؛ فوجب اتباعه. [اعتراض ورده] فإن قيل: السابقون الذين صلَّوا إلى القبلتين، أو هم أهل بيعة الرضوان ومن قبلهم، فما الدليل على اتّباع من أسلم بعد ذلك؟ قيل: إذا ثبت وجوب اتباع أهل بيعة الرضوان فهو أكبر المقصود، على أنه لا قائل بالفرق، وكل الصحابة سابق بالنسبة إلى من بعدهم (¬1). فصل [رد على من زعم أن اتباع الصحابة غير لازم] الوجه الثاني (¬2): قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] هذا قَصَّهُ اللَّه سبحانه وتعالى (¬3) عن صاحب ياسين، على سبيل الرضاء بهذه المقالة، والثناء على قائلها، والإقرار [له] (¬4) عليها، وكلُّ واحد من الصحابة لم يسألنا أجرًا وهم مهتدون، بدليل قوله تعالى خطابًا لهم: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] و"لعلَّ" من اللَّه واجبٌ (¬5)، وقوله تعالى: [{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا] (¬6) زَادَهُمْ هُدًى [وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ] (4)} [محمد: 16، 17] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا (¬7) فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ ¬
[آيات توجب اتباع الصحابة]
أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 4 - 5]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، وكلٌّ منهم قاتل في سبيل اللَّه وجاهد إما بيده أو بلسانه (¬1)، فيكون اللَّه قد هداهم، وكلٌّ من هداه فهو مهتد (¬2) فيجب اتباعه بالآية (¬3). [آيات توجب اتباع الصحابة] الوجه الثالث: قول تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15]، وكلٌّ من الصحابة منيبٌ إلى اللَّه فيجب اتباع سبيله، وأقوالُه واعتقاداته من أكبر سبيله، والدليل على أنهم مُنيبون إلى اللَّه تعالى أن اللَّه تعالى قد هداهم و [قد] (¬4) قال: {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13]. [هم على بصيرة] الوجه الرابع: قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108] فأخبر تعالى أن من اتّبع الرسول يدعو إلى اللَّه، ومن دعا إلى اللَّه على بصيرة وجب اتباعه، لقوله تعالى فيما حكاه عن الجن ورضيه: {يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ [وَآمِنُوا بِهِ] (4)} [الأحقاف: 31]؛ ولأن من دعا إلى اللَّه على بصيرة فقد دعا إلى الحق عالمًا به، والدعاءُ إلى أحكام اللَّه دعاءٌ إلى اللَّه؛ لأنه دعاء إلى طاعته فيما أمر ونهى، وإذن فالصحابة (¬5) رضوان اللَّه عليهم قد اتبعوا الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيجب اتباعهم (¬6) إذا دعوا إلى اللَّه (¬7). ¬
[هم المصطفون]
[هم المصطفون] الوجه الخامس: قوله تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] [قال ابن عباس في رواية أبي مالك] (¬1): هم أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضى عنهم (¬2)، والدليل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] وحقيقة الاصطفاء: افتعال من التصفية، فيكون قد صفاهم (¬3) من الأكدار، والخطأ من الأكدار فيكونون مصفين منه، ولا ينتقض هذا بما إذا اختلفوا لأن الحق لم يَعْدُهم، فلا يكون قول بعضهم كدرًا؛ لأن مخالفته الكدر (¬4) وبيانه يزيل كونه كدرًا بخلاف ما إذا قال بعضهم قولًا ولم يُخالف فيه، فلو كان [قولًا] (¬5) باطلًا ولم يَردُّه راد (¬6) لكان حقيقة الكدر، وهذا لأن خلاف بعضهم لبعض بمنزلة معاتبة (¬7) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في بعض أموره، فإنها لا تخرجه عن حقيقة الاصطفاء. [أوتوا العلم] الوجه السادس: أن اللَّه تعالى شهد لهم بأنهم أوتو العلم بقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6]، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} [محمد: 16]، وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، واللام في "العلم" ¬
[هم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر]
ليست للاستغراق، وإنما هي للعهد، أي العلم الذي بعث اللَّه به نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإذا (¬1) كانوا قد أوتوا [هذا] العلم كان اتباعهم واجبًا (¬2). [هم الآمرون بالمعروف الناهون عن المنكر] الوجه السابع: قوله تعالي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [تَأمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]} (¬3) [آل عمران: 110] شهد لهم اللَّه تعالى (¬4) بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر (¬5)، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم لم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف ولا نهى فيها عن منكر؛ إذ الصوابُ معروفٌ بلا شك، والخطأ منكر من بعض الوجوه، ولولا ذلك لما صح التمسك بهذه الآية على كون الإجماع حجة، وإذا كان هذا باطلًا علم أن خطأ من يعلم في العلم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قوله حجة. [هم الصادقون] الوجه الثامن: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119]، قال غير واحد من السلف: هم أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم (¬6)، ولا ريبَ أنهم أئمة الصادقين، وكلُّ صادق بعدهم فبهم يأتم في صدقه، بل حقيقةُ صدقه اتباعه له وكونه معهم، ومعلوم أن مَن خالفهم في شيء -وإن وافقهم في غيره- لم يكن معهم فيما خالفهم فيه، وحينئذٍ فيصدق عليه أنه ليس معهم، فتنتفي عنه المعيَّة المطلقة، وإن ثبت [له] (¬7) قسط من المعية فيما وافقهم ¬
[المعية المطلقة ومطلق المعية]
فيه، فلا يصدق عليه أنه معهم بهذا القسط، وهذا كما نفى اللَّه ورسوله الإيمان المطلق عن الزاني والشارب والسارق والمنتهب بحيث لا يستحق اسم المؤمن، وإن لم ينتف عنه مطلق الاسم الذي يستحق لأجله أن يقال: معه شيء من الإيمان، [وهذا] (¬1) كما أن اسم الفقيه والعالم عند الإطلاق لا يقال لمن معه مسألة أو مسألتان من فقه وعلم، وإن قيل: معه شيء من العلم. [المعية المطلقة ومطلق المعية] ففرقٌ بين المعية المطلقة ومطلق المعية (¬2)، ومعلوم أن المأمور به الأول لا الثاني (¬3)، فإن اللَّه تعالى لم يرد منَّا أن نكون معهم في شيء من الأشياء وأن نحصلَ من المعية ما يطلق عليه الاسم (¬4)، وهذا غلط عظيم في فهم مراد الرب [تعالى] (¬5) من أوامره؛ فإذا أمرنا بالتقوى والبر [والصبر] (¬6) والصدق والعفة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحو ذلك لم يرد منا أن نأتي من ذلك بأقل ما يطلق عليه الاسم وهو مطلق الماهية المأمور بها بحيث نكون ممتثلين لأمره إذا أتينا بذلك، وتمام تقرير هذا الوجه بما تقدم في تقرير الأمر بمتابعتهم سواء. [هم أمة وسط] الوجه التاسع: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا] (5)} [البقرة: 143]، ووجه الاستدلال بالآية أنه ¬
[هم المجتبون]
سبحانه (¬1) أخبر أنه جعلهم أمة [وسطًا أي] (¬2): خيارًا عدولًا (¬3)، هذا حقيقة الوسط، فهم خير الأمم وأعدلها في أقوالهم وأعمالهم وإرادتهم ونياتهم، وبهذا استحقوا أن يكونوا شُهداء للرسل على أممهم يوم القيامة، واللَّه تعالى يَقْبل (¬4) شهادتهم عليهم، فهم شهداؤه، ولهذا نوّه بهم ورفع ذكرهم وأثنى عليهم؛ لأنه سبحانه لما اتخذهم شهداء أَعلَم خلقه من الملائكة وغيرهم بحال هؤلاء الشهداء، وأمر ملائكته أن تصلي عليهم وتدعو لهم وتستغفر لهم، والشاهد المقبول عند اللَّه هو الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندًا إلى علمه به كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقًا من غير علم به (¬5)، وقد يعلمه ولا يخبر به؛ فالشاهدُ المقبولُ عند اللَّه هو الذي يخبر به عن علم؛ فلو كان علمهم أن يفتي أحدهم بفتوى وتكون خطأً مخالفة لحكم اللَّه ورسوله ولا يفتي غيره بالحق الذي هو حكم اللَّه ورسوله إما مع اشتهار فتوى الأول أو بدون اشتهارها كانت هذه الأمة العدل الخيار قد أطبقت (¬6) على خلاف الحق، بل انقسموا قسمين قسمًا أفتى بالباطل وقسمًا سكت عن الحق، وهذا من المستحيل فإن الحق لا يعدوهم ويخرج عنهم إلى من بعدهم قطعًا ونحن نقول لمن (¬7) خالف أقوالهم: (لو كان خيرًا ما سبقونا إليه (¬8)) (¬9). [هم المجتبون] الوجه العاشر: [أن] (¬10) قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (¬11) [الحج: 78]، ¬
فأخبر سبحانه (¬1) أنه اجتباهم، والاجتباء كالاصطفاء. وهو افتعال من "اجتبى الشيء يجتبيه" (¬2) إذا ضمَّه إليه وحازه إلى نفسه (¬3) فهم المجتبون الذين اجتباهم اللَّه إليه وجعلهم أهله وخاصته وصفوته من خلقه بعد النبيين والمرسلين، ولهذا أمرهم سبحانه (1) أن يجاهدوا فيه حق جهاده، فيبذلوا له أنفسهم، ويفردوه بالمحبة والعبودية، ويختاروه وحده إلهًا معبودًا محبوبًا على كل ما سواه كما اختارهم على من سواهم، فيتخذونه وحده إلههم ومعبودهم الذي يتقربون إليه بألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم ومحبتهم وإرادتهم (¬4)، فيؤثرونه في كل حال على من سواه، كما اتخذهم عبيده وأولياءه، وأحباءه وآثرهم بذلك على مَنْ سواهم، ثم أخبرهم سبحانه (¬5) أنه يسَّر عليهم دينهم (¬6) غاية التيسير، ولم يجعل عليهم فيه من حرج البتَّة لكمال محبته لهم ورأفته ورحمته وحنانه بهم، ثم أمرهم بلزوم ملة إمام الحنفاء أبيهم إبراهيم، وهي إفراده سبحانه (1) وحده بالعبودية والتعظيم والحب والخوف والرَّجاء والتوكل والإنابة والتفويض والاستسلام (¬7)؛ فيكون تعلّق (¬8) ذلك من قلوبهم به وحده لا بغيره (¬9)، ثم أخبر تعالى أنه نوَّه بهم وأثنى عليهم قبل وجودهم وسمَّاهم عباده المسلمين قبل أن يُظهرهم، ثم نوَّه بهم وسماهم كذلك بعد أن أوجدهم اعتناءً بهم ورفعة لشأنهم وإعلاءً لقدرهم، ثم أخبر تعالى أنه فعل ذلك (¬10) ليشهد عليهم رسوله ويشهدوا هم على الناس؛ فيكونون مشهودًا لهم (¬11) بشهادة الرسول شاهدين على الأمم بقيام حجج (¬12) اللَّه عليهم، فكان هذا التنويه وإشارة الذكر لهذين الأمرين الجليلين ولهاتين الحكمتين العظيمتين، والمقصود أنهم إذا كانوا بهذه المنزلة عنده تعالى (¬13) فمن المحال أن يُحرمهم كلهم الصواب ¬
[هم معتصمون بالله وهدوا إلى الحق]
في مسألة فيفتي فيها بعضهم بالخطأ ولا يفتي فيها غيره بالصواب، ويظفر فيها بالهدى من بعدهم، واللَّه المستعان (¬1). [هم معتصمون باللَّه وهدوا إلى الحق] الوجه الحادي عشر: قوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]، ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه أخبر عن المعتصمين به أنهم (¬2) قد هدوا إلى الحق، فنقول: الصحابة رضوان اللَّه عليهم معتصمون باللَّه فهم مهتدون (¬3)، فاتباعهم واجب (¬4)، أما المقدمة الأولى فتقريرها من وجوه: أحدها: قوله تعالى (¬5): {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج: 78]، ومعلوم كمال تَولي اللَّه تعالى [لهم] (¬6) ونصره إياهم أتم نصرة، وهذا يدل على أنهم اعتصموا به أتم اعتصام، فهم مهديون (¬7) بشهادة الرب تعالى لهم بلا شك، واتباع المهدي واجب شرعًا وعقلًا وفطرة بلا شك، وما يرد على هذا الوجه من أن المتابعة لا تستلزم المتابعة في جميع أمورهم فقد تقدم جوابه. [أصحاب محمد أولى بوصف الأئمة من أصحاب موسى] الوجه الثاني عشر: قوله سبحانه عن أصحاب موسى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فأخبر سبحانه أنه جعلهم أئمة يأتم بهم من بعدهم لصبرهم ويقينهم؛ إذ بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين فإن الداعي إلى اللَّه تعالى لا يتم له أمره إلا بيقينه (¬8) للحق الذي يدعو إليه وبصيرته به وصبره على تنفيذ الدعوة إلى اللَّه باحتمال مشاق الدعوة وكف النَّفس عما يوهن عزمه ويضعف إرادته، فمن كان بهذه المثابة كان من الأئمة الذين يهدون بأمره سبحانه، ومن المعلوم أن أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- أحق وأولى بهذا الوصف من أصحاب موسى، فهم أكمل يقينًا وأعظم صبرًا من جميع الأمم، فهم ¬
[هم إمام، بما دعوا إلى الله وأثنى عليهم]
أولى بمنصب هذه الإمامة، وهذا أمر ثابتٌ [لهم] (¬1) بلا شك بشهادة اللَّه لهم وثناءه عليهم، وشهادة الرسول لهم بأنهم خير القرون، وأنهم خيره اللَّه وصفوته، ومن المحال على من هذا شأنهم أن يخطئوا كلهم الحق (¬2)، ويظفر به المتأخرون، ولو كان هذا ممكنًا لانقلبت الحقائق، وكان المتأخرون أئمة لهم يجب عليهم الرجوع إلى فتاويهم وأقوالهم، وهذا كما أنه محال حسًا وعقلًا فهو محال شرعًا وباللَّه التوفيق. [هم إمام، بما دعوا إلى اللَّه وأثنى عليهم] الوجه الثالث عشر: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] وإمام بمعنى قدوة، وهو يصلح للواحد والجمع كالأمة (¬3) والأسوة، وقد قيل: هو جمعه آمم كصَاحب وصِحاب وراجل ورجال وتاجر وتجار، و [قيل] (¬4): هو مصدر كقِتَال وضِرَاب، أي ذوي إمام، والصواب الوجه الأول، فكل من كان من المتقين وجب عليه أن يأتم بهم، [والتقوى واجبة، فالائتمام (¬5) بهم واجب، ومخالفتهم فيما أفتوا به مخالف للائتمام بهم] (¬6)، وإن قيل: "نحن نأتم بهم في الاستدلال (¬7) وأصول الدين" (¬8) فقد تقدم من جواب هذا ما فيه كفاية. [هم خير قرن] الوجه الرابع عشر: ما ثبت عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في الصحيح (¬9) من وجوه متعددة أنه قال: "خير القرون القرن الذي بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" (¬10) فأخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن خير القرون قرنه مطلقًا وذلك يقتضي تقديمهم في ¬
[هم أمنة الأمة]
كل باب من أبواب الخير، وإلا [لو كانوا] (¬1) خيرًا من بعض الوجوه فلا يكونون خير القرون مطلقًا فلو جاز أن يخطئ الرجل منهم في حكم وسائرهم لم يفتوا بالصواب -وإنما ظفر بالصواب من بعدهم وأخطأوا (¬2) هم- لزم أن يكون ذلك (¬3) القرن خيرًا منهم من ذلك الوجه؛ لأن القرن المشتمل على الصواب خير من القرن المشتمل على الخطأ في ذلك الفن، ثم هذا يتعدد في مسائل عديدة (¬4)؛ لأن من يقول: "قول الصحابي ليس بحجة" يجوز عنده أن يكون من بعدهم أصاب في كل مسألة قال فيها الصحابي قولًا ولم يخالفه صحابي آخر، وفات هذا الصواب الصحابة، ومعلوم أن هذا يأتي في مسائل كثيرة تفوق العد والإحصاء، فكيف يكونون خيرًا ممن بعدهم وقد امتاز القرن الذي بعدهم بالصواب فيما يفوق العد والإحصاء مما (¬5) أخطأوا فيه؟ ومعلوم أن فضيلة العلم ومعرفة الصواب أكمل الفضائل وأشرفها، فيا سبحان اللَّه! أي وصمة أعظم من أن يكون الصدّيق أو الفاروق أو عثمان أو علي أو ابن مسعود أو سلمان الفارسي أو عبادة بن الصامت وأضرابهم -رضي اللَّه عنهم- قد أخبر عن حكم اللَّه أنه كيت وكيت في مسائل كثيرة وأخطأ في (¬6) ذلك ولم يشتمل قرنهم على ناطق بالصواب في تلك المسائل حتى نبغ (¬7) من بعدهم فعرفوا حكم اللَّه الذي جهله أولئك السادة وأصابوا الحق الذي أخطأه أولئك الأئمة (¬8)؟ سبحانك هذا بهتان عظيم! [هم أمنة الأمة] الوجه الخامس عشر: ما رَوى مسلم في "صحيحه" من حديث أبي موسى الأشعري -رضي اللَّه عنه- قال: صلَّينا المغرب مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاء، فجلسنا فخرج علينا فقال: "ما زلتم هاهنا؟! " فقلنا: يا رسول اللَّه ¬
[هم كالملح لا يصلح الطعام بدونه]
صلينا معك المغرب ثم قلنا: نجلس حتى نصلي معك العشاء قال: "أحسنتم وأصبتم" ورفع رأسه إلى السماء وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء، فقال: "النجوم أَمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" (¬1)، ووجه الاستدلال بالحديث أنه جعل نسبة أصحابه إلى من بعدهم كنسبته إلى أصحابه، وكنسبة النجوم إلى السماء، ومن المعلوم أن هذا التشبيه يعطي من وجوب اهتداء الأمة بهم ما هو نظير اهتدائهم بنبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، ونظير اهتداء (¬2) أهل الأرض بالنجوم، وأيضًا فإنه جعل بقاءهم بين الأمة أمنة لهم (¬3)، وحِرْزًا من الشر وأسبابه (¬4)، فلو جاز أن يخطئوا فيما أفتوا به ويظفر به من بعدهم لكان الظافرون بالحق أمنة الصحابة وحرزًا لهم (¬5). وهذا من المحال. [هم كالملح لا يصلح الطعام بدونه] الوجه السادس عشر: ما رواه أبو عبد اللَّه بن بطة من حديث الحسن، عن أنس رضي اللَّه عنه [أنه] (¬6) قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن مثل أصحابي في أمتي كمثل الملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح" (¬7) قال الحسن: قد ذهب ¬
ملحنا فكيف نصلح؟ وروى ابن بطة أيضًا بإسنادين (¬1) إلى عبد الرزاق: أخبرنا معمر عمَّن سمع الحسن يقول: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل أصحابي في الناس كمثل الملح في الطعام" (¬2) ثم يقول الحسن: هيهات! ذهب ملح القوم. وقال (¬3) الإمام أحمد: حدثنا حسين (¬4) بن علي الجعفي، عن [أبي موسى -يعني] (¬5) إسرائيل-، عن الحسن قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مثل أصحابي كمثل الملح في الطعام" (¬6) قال: يقول الحسن: هل يطيب الطعام إلا بالملح؟ ويقول الحسن: فكيف بقوم ذهب ملحُهم؟ ووجه الاستدلال أنه شبَّه أصحابه في صلاح دين الأمة بهم بالملح الذي صلاح الطعام به، فلو جاز أن يفتوا بالخطأ ولا يكون في عصرهم من يفتي بالصواب ويظفر به من بعدهم لكان من بعده ملحًا لهم، وهذا محال؛ يوضحه أن الملح كما أن به صلاح الطعام؛ فالصواب به صلاح الأنام، فلو أخطأوا فيما أفتوا به لاحتاج ذلك إلى ملح يصلحه، فإذا أفتى من بعدهم بالحق كان قد أصلح خطأهم فكان ملحًا لهم. ¬
[لا يزن إنفاق مثل أحد ذهبا مد أحدهم أو نصيفه]
[لا يزن إنفاق مثل أحد ذهبًا مد أحدهم أو نصيفه] الوجه السابع عشر: ما روى البخاري في "صحيحه" من حديث الأعمش قال: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تسبُّوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدَّ أحدهم ولا نَصِيفه" (¬1)، وفي لفظ: "فوالذي نفسي بيده" (¬2)، وهذا خطاب منه لخالد بن الوليد ولأقرانه من مُسلمة الفتح والحديبية (¬3)، فإذا كان مد أحد أصحابه أو نصيفه (¬4) أفضل عند اللَّه من مثل أحد ذهبًا من مثل خالد وأضرابه من الصحابة فكيف يجوز أن يحرمهم اللَّه الصواب في الفتاوى ويظفر به من بعدهم؟ هذا من أبَيْن المحال. [هم وزراء الرسول وأنصاره وأصهاره] الوجه الثامن عشر: ما روى الحُميديُّ: ثنا محمد بن طلحة قال: حدثني عبد الرحمن بن سالم بن عبد الرحمن بن عويم (¬5) بن ساعدة، عن أبيه، عن جده أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "إن اللَّه اختارني، واختار لي أصحابًا (¬6)، فجعل (¬7) لي منهم وزراء وأنصارًا وأصهارًا" (¬8) الحديث، ومن المحال أن يُحرم اللَّه الصواب من اختارهم لرسوله وجعلهم وزراءه وأنصاره وأصهاره (¬9)، ويعطيه من بعدهم في شيء من الأشياء. ¬
[قلوبهم خير قلوب العباد]
[قلوبهم خير قلوب العباد] الوجه التاسع عشر: ما روى أبو داود الطيالسي: ثنا المسعودي، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: إن اللَّه نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبة نبيه ونصرة دينه، فما رآه المسلمون (¬1) حسنًا فهو عند اللَّه حسن، وما رآه المسلمون قبيحًا فهو عند اللَّه قبيح (¬2)، ومن المحال أن يخطئ الحق في حكم اللَّه خير قلوب العباد بعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويظفر به من بعدهم، وأيضًا فإن ما أفتى به أحدهم وسكت عنه الباقون كلهم فإما أن يكونوا قد رأوه حسنًا أو يكونوا قد رأوه قبيحًا فإن كانوا قد رأوه حسنًا فهو حسن عند اللَّه، وإن كانوا [قد] (¬3) رأوه قبيحًا ولم ينكروه لم تكن قلوبهم من خير قلوب العباد، وكان من أنكره بعدهم خيرًا منهم وأعلم، وهذا من أبين المحال. [هم أبر الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا] الوجه العشرون: ما رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن مسعود -رضي اللَّه عنه- قال: "من كان متاسيًا فليتأس بأصحاب رسول اللَّه (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم؛ فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمَّة قلوبًا وأعمقها علمًا وأقلّها تكلفًا وأقومها هديًا وأحسنها حالًا قوم اختارهم اللَّه لصحبة نبيه وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم، واتّبعوا آثارهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم" (¬5)، ومن المحال أن يُحرم اللَّه أَبرّ هذه الأمة قلوبًا وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا وأقومها هديًا الصواب في أحكامه ويوفق له من بعدهم. ¬
[هم السابقون إلى كل خير]
[هم السابقون إلى كل خير] الوجه الحادي والعشرون: ما رواه الطبراني وأبو نُعيم وغيرهما عن حذيفة بن اليمان أنه قال: يا معشر القرَّاء، خذوا طريق من كان قبلكم، فواللَّه لئن استقمتم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا ولئن تركتموه يمينًا وشمالًا لقد ضللتم ضلالًا بعيدًا (¬1)، ومن المحال أن يكون الصواب في غير طريق من سبق إلى كل خير على الإطلاق. [اتباع الحق في سنتهم] الوجه الثاني والعشرون: ما قاله (¬2) جُندب بن عبد اللَّه لفرقة دخلت عليه من الخوارج، فقالوا: ندعوك إلى كتاب اللَّه، فقال: أنتم؟ قالوا: نحن، قال: أنتم؟ قالوا: نحن، فقال: يا أخابيث (¬3) خلق اللَّه في اتباعنا تختارون (¬4) الضلالة، أم في غير سنتنا تلتمسون الهُدى؟ اخرجوا عني (¬5). ومن المعلوم أن من جَوَّز أن يكون الصحابة أخطأوا في فتاويهم فمن بعدهم وخالفهم فيها فقد اتبع الحق في غير سنتهم، وقد دعاهم إلى كتاب اللَّه؛ فإن كتاب اللَّه إنما يدعو إلى الحق، وكفى ذلك إزراءً على نفوسهم وعلى الصحابة. [هم الراشدون المهديون] الوجه الثالث والعشرون: ما رواه الترمذي من حديث العرباض بن سارية ¬
قال: وعظنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول اللَّه كأنها موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: "عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة [بدعة، (وكل بدعة)] ضلالة" (¬1)، وهذا حديث حسن، إسناده لا بأس به، فقرن سنة خلفائه (¬2) بسنَّته، وأمر باتباعها كما أمر باتباع سنته، وبالغ في الأمر بها حتى أمر بأن (¬3) يعض عليها بالنواجذ، وهذا يتناول ما أفتوا به وسنوه للأمة وإن لم يتقدم من نبيهم فيه شيء، وإلا (¬4) كان ذلك سنته، ويتناول (¬5) ما أفتى به جميعهم أو أكثرهم أو بعضهم لأنه علَّق ذلك بما سنه الخلفاء الراشدون، ومعلوم أنهم لم يسنوا ذلك [وهم خلفاء] في آن واحد، فعلم أن ما سنه كل واحد منهم في وقته فهو من سنة الخلفاء الراشدين [و] (¬6) رواه الإمام أحمد في "مسنده" من حديث عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي سمع العرباض بن سارية، فذكر نحوه (¬7). ¬
سلسلة مكتبة ابن القيم [6] إعلام الموقعين عن رب العالمين تصنيف أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب المعروف بابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ قرأه وقدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان شارك في التخريج أبو عمر أحمد عبد الله أحمد [المجلد السادس] دار ابن الجوزي
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِعلامُ الموقِّعِين عَن رَبِّ العَالمين [6]
حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة لدار ابْن الْجَوْزِيّ الطبعة الأولى رَجَب 1423 هـ حُقُوق الطَّبْع مَحْفُوظَة © 1423 هـ لَا يسمح بِإِعَادَة نشر هَذَا الْكتاب أَو أَي جُزْء مِنْهُ بِأَيّ شكل من الأشكال أَو حفظه ونسخه فِي أَي نظام ميكانيكي أَو إلكتروني يُمكن من استرجاع الْكتاب أَو تَرْجَمته إِلَى أَي لُغَة أُخْرَى دون الْحُصُول على إِذن خطي مسبق من الناشر دَار ابْن الْجَوْزِيّ للنشر والتوزيع المملكة الْعَرَبيَّة السعودية الدمام - شَارِع ابْن خلدون ت: 8428146 - 8467589 - 8467593 ص ب: 2982 - الرَّمْز البريدي: 31461 - فاكس: 8412100 الإحساء - الهفوف - شَارِع الجامعة ت: 5883122 جدة ت: 6516549 الرياض ت: 4266339
[إيجاب الاقتداء بهم]
[إيجاب الاقتداء بهم] الوجه الرابع والعشرون: ما رواه الترمذي من حديث الثوري عن عبد الملك بن عُمير، عن هلال مولى رِبعي بن حِراش (¬1)، عن رِبعي، عن حذيفة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وتمسكوا بعهد ابن أم عبد" (¬2) قال الترمذي: هذا حديث حسن، ووجه الاستدلال (¬3) به ما تقدم في تقرير المتابعة (¬4). [الرشد في طاعة أبي بكر وعمر] الوجه الخامس والعشرون: ما رواه مسلم في "صحيحه" [من حديث عبد اللَّه بن رَبَاح] (5)، عن أبي قتادة أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[قال] (¬5): "إن يُطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا" (¬6)، وهو في حديث الميضأة الطويل (¬7)، فجعل الرشد معلَّقًا بطاعتهما (¬8)، فلو أفتوا بالخطأ في حكم وأصابه من بعدهم لكان الرشد في خلافهما (¬9). الوجه السادس والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال لأبي بكر (¬10) وعمر في شأن تأمير القَعْقَاعِ بن حكيم والأقرع بن حابس: "لو اتفقتما على شيء لم أخالفكما" (¬11) فهذا رسول -صلى اللَّه عليه وسلم- يخبر أنه لا يخالفهما لو اتفقا، ومن يقول قولهما ¬
ليس بحجة يُجوز مخالفتهما وبعض غلاتهم يقول: لا يجوز الأخذ بقولهما ويجب الأخذ بقول إمامنا الذي قلّدناه، وذلك موجود في كتبهم. الوجه السابع والعشرون: أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نظر إلى أبي بكر وعمر فقال: "هذان السَّمعُ والبصر" (¬1) أي هما مني بمنزلة السمع والبصر، أو هما من الدين بمنزلة ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
السمع والبصر، ومن المحال أن يحرم سمع الدين وبصره الصواب ويظفر به من بعدهما. الوجه الثامن والعشرون: ما رواه أبو داود وابن ماجه [من حديث ابن إسحاق، عن مكحول، عن غضيف بن الحارث] (1)، عن أبي ذر قال: مرَّ فتى على عمر [-رضي اللَّه عنه-] (1)، فقال [عمر] (¬1): نِعمَ الفتى، قال: فتبعه أبو ذر، فقال: يا فتى استغفر لي، فقال (¬2): يا أبا ذر أستغفر لك وأنت صاحب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قال: استغفر لي، قال: لا أو تخبرني (¬3)، قال: إنك مررتَ على عمر فقال: نعم الفتى، وإني سمعت النبي (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "إن اللَّه جعل الحق على لسان عمر وقلبه" (¬5)، ومن المحال أن يكون الخطأ في مسألة أفتى بها من جعل اللَّه الحقَّ ¬
على لسانه وقلبه حظَّه (¬1)، ولا ينكره [عليه] (¬2) أحد من الصحابة، ويكون الصواب فيها حَظَّ من بعده، هذا من أبين المحال. الوجه التاسع والعشرون: ما رواه مسلم في "صحيحه" من حديث عائشة -رضي اللَّه عنها- قالت: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "قد كان فيمن خَلا من الأمم أناس مُحدَّثون، فإن يكن في أمتي أحد [منهم] فهو عمر" (¬3)، وهو في "المسند"، و"الترمذي" وغيرهما من حديث أبي هريرة، والمحدَّثُ: هو المتكلم (¬4) الذي يُلقي اللَّه في روعه الصواب يحدثه به المَلَكُ عن اللَّه، ومن المحال أن يختلف هذا ومن بعده في مسألة، ويكون الصواب فيها مع المتأخر دونه، فإن ذلك يستلزم أن [يكون ذلك] (¬5) الغير هو المحدث بالنسبة إلى هذا (¬6) الحكم دون أمير المؤمنين [-رضي اللَّه عنه-] (5)، وهذا وإن أمكن في أقرانه من الصحابة فإنه لا يخلو عصرهم من الحق إما على لسان عمر، وإما على لسان غيره منهم، ومن (¬7) المحال أن يفتي أمير المؤمنين المحدث بفتوى أو يحكم بحكم، ولا يقول أحد من الصحابة غيره، ويكون خطأ ثم يُوفَّقَ له من بعدهم فيصيب الحق، ويخطئه الصحابة. الوجه الثلاثون: ما رواه الترمذي [من حديث بكر بن عمرو، عن مِشْرَح بن ¬
هاعان] (¬1)، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يَقول: "لو كان بعدي نبي لكان عمر" (¬2)، وفي لفظ: "لو لم أبعث فيكم لبعث [فيكم] عمر" (¬3) قال الترمذي: حديث حسن، ومن المحال أن يختلف مَن هذا شأنه، ومن بعده من المتأخرين في حكم من أحكام الدين، ويكون حظ عمر منه الخطأ وحظ ذلك المتأخر منه الصواب. ¬
الوجه الحادي والثلاثون: ما روى إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي أن عليًا -رضي اللَّه عنه- (¬1) قال: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر (¬2)، ومن المحال ¬
أن يكون من بعدَهُ من المتأخرين أسعدَ بالصواب منه في أحكام اللَّه تعالى (¬1)، ورواه عمرو بن ميمون عن زرّ عن علي -رضي اللَّه عنه-. الوجه الثاني والثلاثون: ما رواه واصل الأحدب، عن أبي وائل، عن ابن مسعود [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) قال: ما رأيت عمر إلا وكأنّ بين عينيه مَلَكًا يسدده (¬3)، ومعلوم قطعًا أن هذا أولى بالصواب ممن ليس بهذه المَثَابة. الوجه الثالث والثلاثون: ما رواه الأعمش عن شقيق قال: قال عبد اللَّه (¬4): [واللَّه] (5) لو أن علم عمر وُضعَ في كفة ميزان، وجُعل علم أهل الأرض في كفّة لرجَحَ علم عمر، فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: قال عبد اللَّه: [واللَّه] (¬5) إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم (¬6)، ومن أبعد الأمور أن يكون المخالف لعمر بعد انقراض عصر الصحابة أولى بالصواب منه في شيء من الأشياء. الوجه الرابع والثلاثون: ما رواه ابن عيينة، عن عبيد اللَّه (¬7) بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس إذا سُئل عن شيء، وكان في القرآن أو السنة قال به، وإلا قال بما ¬
قال به أبو بكر وعمر، فإن لم يكن قال برأيه (¬1). فهذا ابن عباس -واتِّباعه للدليل وتحكيمه للحجة معروف، حتى [إنه] (¬2) يخالف لما قام عنده من الدليل أكابرَ الصحابة- يجعل (¬3) قول أبي بكر وعمر حجة يؤخذ بها بعد قول اللَّه ورسوله، ولم يخالفه في ذلك أحد من الصحابة. الوجه الخامس والثلاثون: ما رواه منصور، عن زيد بن وهب، عن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "رضيتُ لأمتي ما رضي لها ابنُ أم عبد" (¬4)، كذا رواه يحيى بن يعلى المحاربي عن زائدة (¬5) عن منصور، والصواب ما رواه إسرائيل وسفيان عن منصور عن القاسم بن عبد الرحمن عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرسلًا ولكن قد روى جعفر بن عون (¬6) عن المسعودي عن جعفر بن عمرو بن حُريث (¬7) عن أبيه قال: قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد اللَّه بن مسعود: "اقرأ عليَّ" قال: أقرأ [عليك] (¬8) وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، فافتتح سورة النساء حتى إذا بلغ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] فاضَتْ عينا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكفَّ عبدُ اللَّه [بن مسعود] (¬9)، فقام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وتكلَّم فحمد اللَّه [وأثنى عليه] (8) في أول كلامه وأثنى على اللَّه، وصلّى على نبيه (¬10) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وشهد شهادة الحق، وقال: "رضينا (¬11) باللَّه ربًا وبالإسلام دينًا ورضيت لكم ما رضي [لكم] (8) ابن أم عبد" (¬12)، ومن قال: ليس قوله بحجة، ¬
وإذا خالفه غيره ممن بعده يجوز أن يكون الصواب في قول المخالف [له] (¬1) لم يَرْضَ للأمة ما رضيه (¬2) لهم ابن أم عبد، ولا ما رضيه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الوجه السادس والثلاثون: ما رواه أبو إسحاق، عن حارثة بن مُضرِّب قال: كتب عمر -رضي اللَّه عنه- إلى [أهل] (¬3) الكوفة: "قد بعثت إليكم عمار بن ياسر أميرًا و [عبد اللَّه] (¬4) بن مسعود معلمًا ووزيرًا وهما من النُّجباء من أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل بدر، فاقتدوا بهما واسمعوا قولهما وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي" (¬5)، فهذا عمر قد أمر أهل الكوفة أن يقتدوا بعمار وابن مسعود، ويسمعوا قولهما ومن لم يجعل قولَهما حجة يقول: لا يجب الاقتداء بهما ولا سماع أقوالهما إلا فيما أجمعت عليه الأمة، ومعلوم أن ذلك لا اختصاص لهما به، بل فرق فيه بينهما (¬6) وبين غيرهما من سائر الأمة. الوجه السابع والثلاثون: ما قاله عُبادة بن الصَّامت وغيره: بايعنا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على أن نقول بالحق حيث كنا ولا نخاف في اللَّه لومة لائم (¬7)، ونحن نشهد باللَّه أنهم وَفَوْا بهذه البيعة، وقالوا بالحق، وصدعوا به، ولم تأخذهم في اللَّه لومة لائم، ولم يكتموا شيئًا منه مخافة سوط ولا عصا (¬8)، ولا أمير ولا وال كما هو ¬
معلوم لمن تأمله من هديهم (¬1) وسيرتهم، فقد أنكر أبو سعيد على مروان وهو أمير على المدينة (¬2)، وأنكر عبادة بن الصامت على معاوية وهو خليفة (¬3)، وأنكر ابن عمر على الحجاج مع سَطْوته وبأسه، وأنكر على عمرو بن سعيد (¬4)، وهو أمير على المدينة، وهذا كثير [جدًا] (¬5) من إنكارهم على الأمراء والولاة إذا خرجوا عن العدل لم يخافوا سَوطهم (¬6) ولا عقوبتهم، ومن بعدهم لم تكن لهم (¬7) هذه المنزلة، بل كانوا يتركون كثيرًا من الحق خوفًا من ولاة الظلم وأمراء الجور، فمن المحال أن يوفَّق هؤلاء (¬8) للصواب ويحرمه أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. الوجه الثامن والثلاثون: ما ثبت في "الصحيح" من حديث أبي سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: "أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- رقى المنبر فقال: "إن عبدًا خيّره اللَّه بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عند اللَّه" فبكى أبو بكر -رضي اللَّه عنه- وقال: بل نفديك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا لبكائه أن يُخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل خُيّر فكان المخيّر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وكان أبو بكر أعلمنا به (¬9)، وقال (¬10) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أمَنَّ الناس علينا في صحبته وذات يده أبو بكر، ولو كنت مُتّخذًا من [أهل] الأرض خليلًا لاتخذتُ أبا بكر خليلًا ولكن أخوةُ الإسلام ومودّته، لا يبقى (¬11) في المسجد باب إلا سُدَّ إلا باب ¬
أبي بكر" (¬1)، و [من] (¬2) المعلوم أن فَوْت الصواب في الفتوى لأعلم الأمة برسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ولجميع الصحابة معه، وظَفَرَ فلان وفلان من المتأخرين بهذا من أمحل المحال (¬3)، ومن لم يجعل قولَه حجة يُجَوِّزُ ذلك، بل يحكم بوقوعه، واللَّه المستعانُ. الوجه التاسع والثلاثون: ما رواه زائدة، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن عبد اللَّه قال: لما قُبض رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال (¬4) الأنصار: منَّا أمير ومنكم أمير فأتاهم عمر، قال: ألستم تعلمون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمر أبا بكر أن يَؤُمَّ الناس؟ قالوا: بلى، قال: فأيكم تطيب نفسُهُ أن يتقدم على أبي بكر؟ فقالوا: نعوذ باللَّه أن نتقدم على أبي بكر (¬5). ونحن نقول لجميع المفتين: أيكم تطيب نفسه أن يتقدَّم على أبي بكر إذا أفتى بفتوى وأفتى من قلَّدتموه بغيرها؟ ولا سيما مَنْ قال من زعمائكم: إنه يجب تقليد من قلّدناه ديننا ولا يجوز تقليد أبي بكر الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) اللهم إنا نُشهدكَ أن أنفسنا لا تطيب بذلك، ونعوذ بك أن تطيب به نفسًا (¬7). الوجه الأربعون (¬8): ما ثبت في "الصحيح" [من حديث الزهري] (6)، [عن حمزة بن عبد اللَّه، عن أبيه عن] (¬9) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بينما أنا نائم إذ أُتيتُ بقدح لبن، فقيل لي: اشرب، فشربت منه، حتى إني أرى الرِّيَّ يجري في أظفاري (¬10)، ثم أعطيت فضلتي (¬11) عمر، قالوا: فما أوَّلت ذلك؟ قال: العلم" (¬12). ¬
ومن أبعد الأشياء أن يكون الصواب مع من خالفه في فتيا أو حكم لا يُعلم أن أحدًا من الصحابة خالفه فيه، وقد شهد له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بهذه الشهادة. الوجه الحادي والأربعون: ما ثبت في "الصحيح" [من حديث عبد اللَّه بن أبي زيد] (1)، عن ابن عباس [-رضي اللَّه عنهما-] (¬1): أنه وُضع للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وضوءًا، فقال: من وضع هذا؟ قالوا: ابن عباس، فقال: "اللهم فقهه في الدين" (¬2)، وقال عكرمة: ضمني إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "اللهم علمه الحكمة" (2). ومن المستبعد جدًا بل [من] (¬3) الممتنع أن يُفتي حبر الأمة وترجمان القرآن الذي دعا له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بدعوة مستجابة قطعًا أن يفقِّهه في الدين ويعلّمه الحكمة ولا يخالفه فيها أحد من الصحابة، ويكون فيها على خطأ، ويفتي واحد من المتأخرين بعده بخلاف فتواه، ويكون الصواب معه، فيظفر به هو ومقلدوه (¬4)، ويحرمه ابن عباس والصحابة -رضي اللَّه عنهم-. الوجه الثاني والأربعون (¬5): أن صورة المسألة ما إذا لم يكن في الواقعة حديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ولا اختلاف بين الصحابة -رضي اللَّه عنهم-، وإنما قال بعضهم فيها قولًا وأفتى بفُتيا ولم يعلم أن قوله وفتياه اشتهر (¬6) في الباقين ولا أنهم خالفوه، وحينئذ فنقول: من تأمَّل المسائل الفقهية، والحوادث الفرعية (¬7)، وتدَّرب بمسالكها، وتصرَّف في مداركها، وسلك سُبُلها ذللًا، وارتوى من مواردها عللًا (¬8) ونهلًا (¬9)، علم قطعًا أن كثيرًا منها قد تشتبه فيها وجوه الرأي بحيث لا يُوثق فيها بظاهر مُراد (¬10)، أو قياس صحيح ينشرح له الصدر ويثلج له الفؤاد، بل تتعارض فيها ¬
الظواهر والأقيسة على وجه يقف المجتهد في أكثر المواضع حتى لا يبقى للظنِّ رجحان بيِّن، لا سيما إذا اختلف الفقهاء؛ فإن عقولهم من أكمل العقول وأوفرها (¬1) فإذا تلدَّدوا (¬2) وتوقفوا ولم يتقدموا ولم يتأخروا لم يكن [ذلك] (¬3) في المسألة طريقة واضحة ولا حجة لائحة، فإذا وجد فيها قول لأصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[ورضي اللَّه عنهم] (3) الذين هم سادات الأمة، وقدوة الأئمة، وأعلم الناس بكتاب ربهم [تعالى] (3) وسنة نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد شاهدوا التنزيل وعرفوا التأويل ونسبة من بعدهم في العلم إليهم كنسبتهم إليهم في الفضل والدين كان الظن والحالة هذه بأن الصواب في جهتهم والحق في جانبهم (¬4) من أقوى الظنون (¬5) وهو أقوى من [الظن] (¬6) المستفاد من كثير [من] (3) الأقيسة، هذا ما لا يمتري فيه عاقل منصف، وكان الرأي الذي يوافق رأيهم هو الرأي السداد [الرأي] الذي لا رأي سواه، وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظن راجح ولو استند إلى استصحاب أو قياس علة أو دلالة أو شبه (¬7) أو عموم مخصوص أو محفوظ مطلق أو وارد على سبب (¬8)، فلا شك أن الظن الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يخالف أرجح من كثير من الظنون المستندة إلى هذه الأمور أو أكثرها، وحصول الظن الغالب في القلب ضروري (¬9) كحصول الأمور الوجدانية، ولا يخفى على العالم أمثلة ذلك. الوجه الثالث والأربعون: أن الصحابي إذا قال قولًا أو حكم بحكم (¬10) أو ¬
أفتى بفتيا فله مدارك ينفرد بها عنَّا، ومدارك نشاركه فيها، فأما ما يختص به فيجوز أن يكون سمعه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شفاهًا أو من صحابي آخر عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1)، فإن ما انفردوا به من العلم عنا أكثر من أن يُحاط به، فلم يَروِ [كلٌّ منهم كلَّ] (¬2) ما سمع، وأين ما سمعه الصديق [-رضي اللَّه عنه-] (3) والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (¬3) إلى ما رووه؟ فلم يرو عنه صدِّيقُ الأمة مئة حديث (¬4) وهو لم يغب عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- شيء من مشاهده، بل صحبه من حين بعث [بل قبل البعث] (¬5) إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به -صلى اللَّه عليه وسلم- بقوله (¬6) وفعله وهديه وسيرته، وكذلك أجلَّة الصحابة (¬7) روايتهم قليلة جدًا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم، وشاهدوه، ولو رووا كل ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة -رضي اللَّه عنه- أضعافًا مضاعفة، فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين، وقد روى عنه الكثير، فقول (¬8) القائل: "لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيءٌ عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لذكره" قولُ (¬9) مَنْ لم يعرف سِيرَ القوم وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الروايةَ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬10) ويعظِّمونها ويقلِّلونها خوف الزيادة والنقص، ويحدِّثون بالشيء الذي سمعوه من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- مرارًا، ولا يصرحون بالسماع، ولا يقولون: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬11). ¬
فتلك الفتوى التي يفتي بها أحدهم لا تخرج عن ستة وجوه (¬1): أحدها: أن يكون سمعها من النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2). الثاني: أن يكون سمعها ممن سمعها منه. الثالث: أن يكون فهمها من آية من كتاب اللَّه فهمًا خفي علينا. الرابع: أن يكون [قد] (¬3) اتفق عليها ملؤهم، ولم يُنقل إلينا إلا قول المفتي بها وحده. الخامس: أن يكون لكمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على الوجه الذي انفرد (¬4) به عنا، أو لقرائن حالية اقترنت بالخطاب، أو لمجموع أمور (¬5) فهموها على طول الزمان من رؤية النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ومشاهدة أفعاله وأحواله وسيرته، وسماع كلامه والعلم بمقاصده وشهود تنزيل الوحي ومشاهدة تأويله بالفعل، فيكون فَهِم ما لا نفهمه نحن (¬6)، وعلى هذه التقادير الخمسة تكون فتواه حجة يجب اتباعها. ¬
فصل [من وجوه فضل الصحابة]
السادس: أن يكون فَهِم ما لم يُرِده الرسول (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأخطأ في فهمه، والمراد غير ما فهمه، وعلى هذا التقدير لا يكون قوله حجة، ومعلوم قطعًا أن وقوع احتمال (¬2) من خمسة أغلب [على الظن] (¬3) من وقوع احتمال واحد معيَّن، هذا ما لا يشك فيه عاقل [من بعده] (¬4)، يفيد ظنًا غالبًا قويًا على أن الصواب في قوله دون ما خالفه (¬5) من أقوال من بعده، وليس المطلوب إلا الظن الغالب، والعمل به متعين، ويكفي العارف هذا الوجه. فصل [من وجوه فضل الصحابة] هذا فيما انفردوا به عنا، أما المدارك التي شاركناهم فيها (¬6) من دلالات الألفاظ والأقيسة فلا ريب أنهم كانوا أَبرَّ قلوبًا، وأعمق علمًا وأقل تكلّفًا وأقرب إلى أن يوفَّقوا فيها لما لم نوفق له نحن، لما خصَّهم اللَّه [تعالى] (¬7) به من توقّد الأذهان، وفصاحة اللسان، وسعة العلم، وسهولة الأخذ، وحسن الإدراك وسرعته، وقلّة المعارض (¬8) أو عدمه، وحسن القصد، وتقوى الرب تعالى (¬9)، فالعربية طبيعتهم وسليقتهم، والمعاني الصحيحة مركوزة في فطرهم وعقولهم (¬10)، ولا حاجة بهم إلى النظر في الإسناد وأحوال الرواة وعلل الحديث والجرح ¬
والتعديل، ولا إلى النظر في قواعد الأصول وأوضاع الأصوليين، بل قد غنوا (¬1) عن ذلك كله، فليس في حقهم إلا أمران: أحدهما: قال اللَّه [تعالى] (¬2) كذا، وقال رسوله كذا. والثاني: معناه كذا وكذا، وهم أسعد الناس بهاتين المقدمتين، وأحظى الأمة بهما (¬3) فقواهم متوفرة (¬4) مجتمعة عليهما، وأما المتأخرون فقواهم (¬5) متفرقة، وهممهم متشعبة، فالعربية وتوابعها قد أخذت من قوى أذهانهم شعبة، والأصول [وقواعدها قد أخذت منها شعبة] (6)، وعلم الإسناد و [أحوال] (¬6) الرواة [قد أخذ منها] (6) شعبة، وفكرهم في كلام مصنّفيهم وشيوخهم على اختلافهم وما أرادوا به قد أخذ منها شعبة، إلى غير ذلك من الأمور، فإذا وصلوا إلى النصوص النبوية إنْ كان لهم هممٌ تسافر إليها وصلوا إليها بقلوبٍ وأذهانٍ قد كلَّتْ من السير في غيرها، وأوهن قواها (¬7) مواصلةُ السرى في سواها، فأدركوا من النصوص ومعانيها بحسب [تلك] (¬8) القوة، وهذا أمر يحس به الناظر في مسألة إذا استعمل قوى ذهنه في غيرها، ثم صار إليها وَافَاها بذهن كالٍ وقوة ضعيفة (¬9). وهذا شأن من استعمل قواه (¬10) في الأعمال غير المشروعة تَضعُف قوته عند ¬
العمل المشروع، كمن استفرغ قوَّته في السماع الشيطاني فإذا جاء قيام الليل قام إلى ورده بقوة كالّة، وعزيمة باردة، وكذلك من صرف قوى حبِّه وإرادته إلى الصور أو المال (¬1) أو الجاه، فإذا طالب قلبه بمحبة اللَّه فإن انجذب معه انجذب بقوة ضعيفة قد استفرغها في محبة غيره، فمن استفرغ قوى فكره في كلام الناس، فإذا جاء إلى كلام اللَّه و [كلام] رسوله جاء بفكرة كالَّةٍ (¬2) فأعطى بحسب ذلك (¬3). والمقصود أن الصحابة أغناهم اللَّه تعالى عن ذلك كله (¬4)، فاجتمعت قواهم على تينك المقدمتين فقط، هذا إلى ما خصوا به من قوى الأذهان وصفائها، وصحتها وسرعة إدراكها (¬5)، وكماله، وكثرة المعاون، وقلة المعاوق (¬6)، وقرب العهد بنور النبوة، والتلقي من تلك المشكاة النبوية، فإذا كان هذا حالنا وحالهم فيما تميزوا به علينا وما شاركناهم فيه فكيف نكون نحن أو شيوخنا (¬7) أو شيوخهم أو من قلَّدناه أسعد بالصواب منهم في مسألة من المسائل؟ ومن حدّث نفسه بهذا فليعرِّها (¬8) من الدين والعلم، واللَّه المستعان (¬9). الوجه الرابع والأربعون (¬10): أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق" (¬11) وقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬12): "لن تخلو الأرض من قائم للَّه بحُجَّة لكيلا تبطل حُجَجُ اللَّه وبيّناته" (¬13)، فلو جاز أن يخطئ الصحابة في حكم ولا ¬
يكون في [ذلك] (¬1) العصر ناطق بالصواب في ذلك الحكم لم يكن في الأمة قائم بالحق في [ذلك] (1) الحكم؛ لأنهم بين ساكت ومخطئ، ولم يكن في الأرض قائم للَّه بحجة في ذلك الأمر، ولا من يأمر فيه بمعروف أو ينهى فيه عن منكر، حتى نبغت نابغة فقامت بالحجة وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، وهذا خلاف ما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع. الوجه الخامس والأربعون: أنهم إذا قالوا قولًا أو بعضهم ثم خالفهم مخالف من غيرهم كان مبتديًا لذلك القول ومبتدعًا له (¬2)، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها، وعضَّوا عليها بالنَّواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، [فإن كل بدعة ضلالة"] (¬3)، وقول من جاء بعدهم يخالفهم من محدثات الأمور فلا يجوز اتّباعهم. وقال عبد اللَّه بن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة (¬4)، وقال أيضًا: إنَّا نقتدي (¬5) ولا نبتدي، ونتَّبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأثر (¬6)، وقال أيضًا: إياكم والتبدُّع، وإياكم ¬
والتنطُّع، وإياكم والتعمق، وعليكم [بالدين] العتيق (¬1)، وقال أيضًا: أنا لغير الدجال أخوف عليكم من الدجال، أمور تكون من كُبرائكم، فأيما مُرَيّة أو رُجيل (¬2) أدرك ذلك الزمان فالسّمتَ الأول، فالسمتَ (¬3) الأول، فإنا اليوم على السنة (¬4). وقال أيضًا: [و] (¬5) إياكم والمحدثات؛ فإن شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ¬
ضلالة (¬1)، وقال أيضًا: اتبع ولا تبتدع، فإنك لن تضل ما أخذت بالأثر (¬2). ¬
وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنه-: كان يقال: عليكم بالاستقامة والأثر، وإياكم والتبدع (¬1). وقال شُرَيح: إنما أقتفي الأثر، فما وجدتُ قد سبقنا إليه غيركم حدثتكم به (¬2). وقال [إبراهيم] (¬3) النخعي: [لو] (¬4) بلغني عنهم -يعني: الصحابة- أنهم لم يجاوزوا بالوضوء ظفرًا (¬5) ما جاوزته به، وكفى على قوم إزراءً (¬6) أن تخالف أعمالُهم أعمالَ أصحاب نبيهم [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬7). وقال عمر بن عبد العزيز: "إنه لم يبتدع الناس بدعة إلا وقد مضى فيها ما هو دليل وعبرة فيها (¬8)، والسنة إنما سنَّها (¬9) مَنْ علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحُمق والتَّعمُّق، فارْضَ لنفسك ما رضي القوم [لأنفسهم] " (¬10) وقال ¬
أيضًا: "قف حيث وقف القوم، وقل كما قالوا، واسكت عما (¬1) سكتوا، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر ناقد كَفُّوا، وهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، [أي] (¬2) فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فلقد سبقتموهم إليه، ولئن قلتم: حَدَثَ بَعْدهم فما أحدثه إلا من سلك غير سبيلهم ورغب بنفسه عنهم، وإنهم لهُم السابقون، ولقد تكلموا منه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم مقصِّر، ولا فوقهم محسِّر (¬3)، ولقد قصر عنهم قوم فجفوا، وطمح آخرون [عنهم] (2) فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم" (¬4). وقال أيضًا كلامًا كان مالك بن أنس وغيره من الأئمة يستحسنونه ويحدثون به دائمًا، قال: "سنّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وولاة (¬5) الأمر بعده سننًا الأخذُ بها تصديق لكتاب اللَّه واستكمال لطاعته وقوة على دينه، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سنّوا فقد اهتدى (¬6)، ومن استنصر بها منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولّاه اللَّه ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرًا" (¬7). ¬
ومِنْ هنا أخذ الشافعي الاحتجاج بهذه الآية على أن الإجماع حجة (¬1). وقال الشعبي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإِياك وآراء الرجال وإن زَخْرَفوا لك القول (¬2)، وقال أيضًا: ما حدثوك به عن أصحاب محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- فخذه، وما حدثوك [به] (¬3) عن رأيهم فانبذه في الحشِّ (¬4). قال الأوزاعي: اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يسعك ما وسعهم، وقل بما قالوا، وكفَّ عما كفوا، ولو كان هذا خيرًا ما خُصصتم به دون أسلافكم؛ فإنهم لم يدخر عنهم خير [خبِّئ لكم دونهم لفضل عندكم] (¬5)، وهم أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم الذين اختارهم [اللَّه] (¬6) له وبعثه فيهم ووصفهم فقال: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ] (¬7)} الآية (¬8). الوجه السادس والأربعون: أنه لم يزل أهل العلم في كل عصر ومصر يحتجون بما هذا سبيله من فتاوى الصحابة وأقوالهم، ولا ينكره منكر منهم، ¬
وتصانيف العلماء شاهدة بذلك، ومناظراتهم ناطقة به. قال بعض علماء المالكية: أهل الأعصار مجمعون على الاحتجاج بما هذا سبيله، وذلك مشهور في رواياتهم وكتبهم ومناظراتهم واستدلالاتهم، ويمتنع والحالة هذه إطباق هؤلاء (¬1) [كلهم] (¬2) على الاحتجاج بما لم يشرع اللَّه ورسوله الاحتجاج به ولا نصبه دليلًا للأمة، فأي كتاب شئت من كتب السلف والخلف المتضمنة للحكم والدليل وجدت فيه الاستدلال بأقوال الصحابة، ووجدت ذلك طرازها وزينتها، ولم تجد فيها قط ليس قول أبي بكر وعمر حجة، ولا يُحتج بأقوال أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- و [لا] (¬3) فتاويهم، ولا ما يدل على ذلك، وكيف يطيب قلب عالم [أن] (¬4) يقدّم على أقوال من وافق ربه تبارك وتعالى في غير حكم فقال وأفتى بحضرة الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- ونزل القرآن بموافقة ما قال لفظًا ومعنى قولَ متأخر بعده ليس [له هذه] (¬5) الرتبة ولا [ما] (¬6) يدانيها؟ وكيف يظن أحد أن الظن [المستفاد من آراء المتأخرين أرجح من الظن] (¬7) المستفاد من فتاوى السابقين الأولين الذين شاهدوا الوحي والتنزيل وعرفوا التأويل وكان الوحي [ينزل] (¬8) خلال بيوتهم وينزل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو بين أظهرهم؟. قال جابر: "والقرآن ينزل على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو يعرف تأويله، فما عمل به من شيء عملنا به" (¬9) في حديث حجة الوداع؛ فمستندهم في معرفة مراد الرب تعالى من كلامه ما يشاهدونه من فعل رسوله وهديه الذي [هو] (¬10) يفصِّل القرآن ويفسره، فكيف يكون أحد من الأمة بعدهم أولى بالصواب منهم في شيء من الأشياء؟ هذا عين المحال. فإن قيل: فإذا كان هذا حكم أقوالهم في أحكام الحوادث، فما تقولون في ¬
أقوالهم في تفسير القرآن؟ هل هي حجة يجب المصير إليها؟ (¬1). قيل: لا ريب أن أقوالهم (¬2) في التفسير أصوب من أقوال من بعدهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن تفسيرهم في حكم المرفوع، قال أبو عبد اللَّه الحاكم في "مستدركه" (¬3): وتفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع. ومراده أنه ¬
في [حكمه في] (¬1) الاستدلال به والاحتجاج، لا أنه (¬2) إذا قال الصحابي في الآية قولًا فلنا أن نقول: هذا القول قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3)، وله وجه آخر، وهو أن يكون في حكم المرفوع بمعنى أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بين لهم معاني القرآن وفسّره لهم (¬4) كما وصفه اللَّه سبحانه (¬5) بقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [لنحل: 44] فبين لهم القرآن بيانًا شافيًا كافيًا، وكان إذا أشكل على أحد منهم معنًى سأله عنه فأوضحه [له] (¬6) كما سأله الصِّدِّيق عن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] فبيَّن له المراد (¬7)، وكما سأله الصحابة عن قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82] فبيَّن لهم معناها (¬8)، وكما سألته أم سلمة عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] فبين لها أنه العرض (¬9)، وكما سأله عمر عن الكلالة [فأحاله على] آية الصَّيف التي في آخر السورة (¬10)، وهذا كثير جدًا، فإذا نقلوا لنا تفسير القرآن ¬
فتارة ينقلونه عنه بلفظه، وتارة بمعناه، فيكون ما فسَّروه (¬1) بألفاظهم من باب الرواية بالمعنى، كما يروون عنه السنة تارة بلفظها وتارة بمعناها، وهذا أحسن الوجهين، واللَّه أعلم. فإن قيل: فنحن نجد لبعضهم أقوالًا في التفسير تخالف الأحاديث المرفوعة الصحاح، وهذا كثير، كما فسَّر ابن مسعود الدخان بأنه الأثر الذي حصل عن الجوع الشديد والقحط (¬2)، وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه دخان يأتي قبل يوم القيامة يكون من أشراط الساعة مع الدابة والدَّجال وطلوع الشمس من مغربها (¬3)، وفسر عمر بن الخطاب قوله [تعالى] (¬4): {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] بأنها للبائنة والرجعية، حتى قال: لا ندع كتابَ ربنا (¬5) لقول امرأة (¬6). مع أن السنة الصحيحة في البائن تخالف هذا التفسير (¬7)، وفسَّر علي بن أبي طالب (¬8)، قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] أنها عامة في الحامل والحائل، فقال: تعتد أبعد الأجلين (¬9)، والسنة ¬
الصحيحة بخلافه (¬1)، وفسر ابن مسعود قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] بأن الصفة لنسائكم الأولى والثانية، فلا تحرم أم المرأة حتى يدخل بها (¬2)، والصحيح خلاف قوله، وأن أم المرأة تحرم بمجرد العقد على ابنتها، والصفة راجعة إلى قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وهو قول جمهور الصحابة (¬3)، وفسَّر ابن عباس السجل بأنه كاتب للنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسمَّى السجل (¬4)، ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وذلك وهم، وإنما السجل الصحيفة المكتوبة، واللام مثلها في قوله تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] وفي قول الشاعر (¬1): فخرَّ صريعًا لليدين وللفم أي نطوي (¬2) السماء كما يُطوى السجل على ما فيه من الكتاب (¬3)، وهذا كثير جدًا، فكيف يكون تفسير الصحابي حجة في حكم المرفوع؟ قيل: الكلام في تفسيره كالكلام في فتواه سواء [بسواء] (¬4)، وصورة المسألة هنا كصورتها هناك سواء بسواء، وصورتها أن لا يكون في المسألة نص يخالفه (¬5)، ¬
ويقول في الآية قولًا لا يخالفه (¬1) فيه أحد من الصحابة، سواء علم اشتهاره (¬2) أو لم يعلم، وما ذكر من هذه الأمثلة فقد فُقد فيه الأمران (¬3)، وهو نظير ما رُوي عن بعضهم من الفتاوى التي تخالف النص وهم مختلفون فيها سواء. فإن قيل: لو كان قوله حجة بنفسه لما أخطأ، ولكان معصومًا، لتقوم الحجة بقوله، فإذا كان يفتي بالصواب تارة وبغيره أخرى، وكذلك تفسيره فمن أين لكم أن هذه الفتوى المعينة والتفسير المعين من قسم الصواب؟ إذ صورة المسألة أنه لم يقم على المسألة دليل غير قوله، وقوله ينقسم فما الدليل على أن هذا القول المعين من أحد القسمين ولا بد؟ قيل: الأدلة المتقدمة تدل على انحصار الصواب في قوله في الصورة المفروضة الواقعة، وهو أنه (¬4) من الممتنع أن يقولوا في كتاب اللَّه الخطأ المحض، ويمسك الباقون عن الصواب فلا يتكلمون به، وهذه الصورة المذكورة وأمثالها قد تكلَّم فيها غيرهم بالصواب، والمحظور إنما هو خُلُوُّ عصرهم عن ناطق بالصواب واشتماله على ناطق بغيره فقط، فهذا هو المحال، وبهذا خَرَجَ الجوابُ عن قولكم: لو كان قولُ الواحد منهم حجة لما جاز عليه الخطأ، فإن قوله لم يكن بمجرده حجة، بل بما انضاف إليه مما تقدم ذكره من القرائن (¬5). ¬
فإن قيل: فبعض ما ذكرتم من الأدلة يقتضي أن التابعي إذا قال قولًا ولم يخالفه صحابي ولا تابعي أن يكون قوله حجة (¬1). فالجواب: أن التابعين انتشروا انتشارًا لا ينضبط لكثرتهم، وانتشرت المسائل في عصرهم، فلا يكاد يغلب على الظن عدمُ المخالف لما أفتى به الواحد منهم، فإن فرض ذلك فقد اختلف السلف في ذلك، فمنهم من يقول: يجب اتباع التابعي فيما أفتى به ولم يخالفه [فيه] (¬2) صحابي ولا تابعي، وهذا قول بعض الحنابلة والشافعية (¬3)، وقد صرح الشافعي في موضع بأنه قاله تقليدًا لعطاء، وهذا من كمال علمه وفقهه -رضي اللَّه عنه- (¬4)، فإنه لم يجد في المسألة غير قول عطاء (¬5)، فكان قوله عنده أقوى ما وجد في المسألة، وقال في موضع آخر: وهذا يخرَّج على معنى قول عطاء، والأكثرون يفرقون بين الصحابي والتابعي، ولا يخفى ما بينهما (¬6) من الفروق، على أن في الاحتجاج بتفسير التابعي عن الإمام أحمد روايتين، ومن تأمَّل ¬
كتب الأئمة ومن بعدهم وجدَهَا مشحونة بالاحتجاج بتفسير التابعي (¬1). فإن قيل: فما تقولون في قوله (¬2) إذا خالف القياس؟ قيل: من يقول بأن قوله ليس بحجة (¬3) فلهم قولان فيما إذا خالف القياس: أحدهما: أنه أولى أن لا يكون حجة؛ لأنه قد خالف حجَّة شرعية، وهو ليس بحجة في نفسه. والثاني: أنه حجة في هذه الحال، ويحمل [على] (¬4) أنه قاله توقيفًا، ويكون بمنزلة المُرْسَل الذي عمل به مُرْسِلُه. وأما من يقول: إنه حجة (¬5) فلهم أيضًا قولان: أحدهما: أنه حجة، وإن خالف القياس، بل هو مقدَّم (¬6) على القياس، ¬
فصل [فوائد تتعلق بالفتوى]
والنص مقدم عليه، فترتب الأدلة عندهم: القرآن، ثم السنة، ثم قول الصحابي، ثم القياس (¬1). والثاني: ليس بحجة؛ لأنه قد خالف دليلًا شرعيًا (¬2) وهو القياس؛ فإنه لا يكون حجة إلا عند عدم المُعارض، والأوَّلون يقولون: قول الصحابي أقوى من المعارض الذي خالفه هن القياس لوجوه عديدة (¬3)، والأخذ بأقوى الدليلين متعيّن، وباللَّه التوفيق. فصل (¬4) [فوائد تتعلق بالفتوى] ولنختم الكتاب بفوائد تتعلق بالفتوى. [أنواع الأسئلة] الفائدة الأولى: أسئلة السائلين لا تخرج عن أربعة أنواع لا خامس لها (¬5): ¬
الأول: أن يَسْأل عن الحكم فيقول: ما حكم كذا وكذا؟. الثاني: أن يسأل عن دليل الحكم. الثالث: أن يسأل عن وجه دلالته. الرابع: أن يسأل عن الجواب عن معارضيه (¬1). فإن سأل (¬2) عن الحكم، فللمسئول حالتان؛ إحداهما: أن يكون عالمًا به. والثانية: أن يكون جاهلًا به فإن كان جاهلًا به حرم عليه الإفتاء، بلا علم، فإن فعل، فعليه إثمه وإثم المُستفتي، فإن كان يعرف في المسألة ما قاله الناس، ولم يتبيَّن له الصواب من أقوالهم، فله أن يذكر له ذلك فيقول: فيها اختلاف بين العلماء ويحكيه إن أمكنه للسائل، وإن كان عالمًا بالحكم فللسائل حالتان: إحداهما: أن يكون قد حضره وقت العمل وقد احتاج إلى السؤال، فيجب على المُفتي المبادرة على الفور إلى جوابه، فلا يجوز له تأخير [بيان الحكم له] (¬3) عن وقت الحاجة. والحالة الثانية: أن يكون قد سأل عن الحادثة (¬4) قبل وقوعها، فهذا لا يجب على المفتي أن يجيبه عنها، وقد كان السلف الطيّب إذا سئل أحدهم عن مسألة يقول للسائل: هل كانت أو وقعت، فإن قال: لا، لم يجبه، وقال: دعنا في عافية (¬5)، وهذا لأن الفتوى بالرأي لا تجوز إلا عند الضرورة، فالضرورة تبيحه، ¬
كما تبيح الميتة عند الاضطرار، وهذا إنما هو في مسألة لا نصَّ فيها، ولا إجماع، فإن كان فيها نص أو إجماع فعليه تبليغه بحسب الإمكان، فـ"من سئل عن علم فكتمه ألجمه اللَّهُ يوم القيامة، بلجامٍ من نار" (¬1)، هذا إذا أَمِن المفتي غائلة ¬
[للمفتي العدول عن السؤال إلى ما هو أنفع]
الفتوى، فإن لم يأمن غائلتها، وخاف من ترتُّب شرٍّ أكبر (¬1) من الإمساك عنها، أمسك عنها ترجيحًا لدفع أعلى المفسدتين باحتمال أدناهما، وقد أمسك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن نقض الكعبة وإعادتها على قواعد إبراهيم [عليه السلام] (¬2)؛ لأجل حَدَثان عهد قريش بالإسلام، وإن ذلك ربما نفَّرهم عنه بعد الدخول فيه (¬3)، وكذلك إن كان عَقْل السائل لا يحتمل الجواب عما سأل عنه وخاف المسؤول أن يكون فتنة له أمسك عن جوابه، قال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما- (¬4) لرجل سأله عن تفسير آية: وما يؤمنك أنَّي لو أخبرتُك بتفسيرها كفرتَ به؟ أي جَحَدته، وأنكرته، وكَفَرت به (¬5)، ولم يرد أنك تكفر باللَّه ورسوله. [للمفتي العدول عن السؤال إلى ما هو أنفع] الفائدة الثانية: يجوز للمفتي أن يعدل عن جواب المستفتي عما سأله عنه [إلى ما هو أنفع له منه، ولا سيما إذا تضمن ذلك بيان ما سأل عنه] (¬6) وذلك من كمال علم المفتي وفقهه ونصحه، وقد قال تعالى (¬7): {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ] (¬8)} [البقرة: 215] فسألوه عن المُنْفَق؟ فأجابهم بذكر المصرف؛ إذ هو أهم مما سألوا عنه ونبَّههم عليه بالسياق مع ذكره لهم في موضع آخر، وهو قوله [تعالى] (¬9): {قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219]، وهو ما سهل عليهم (¬10) [إنفاقه]، ولا يضرهم إخراجه (¬11)، وقد ظنَّ بعضهم أن من ذلك قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ ¬
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] فسألوه عن سبب ظهور الهلال خفيًا، ثم لا يزال يتزايد فيه (¬1) النور على التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان؟ فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر [عبادة من] عباداتهم، وهو الحج (¬2). فإن (¬3) كانوا قد سألوا عن السبب، فقد أُجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك، فقد أُجيبوا عن عين ما سألوا عنه ولفظ سؤالهم محتمل، فإنهم قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقًا، ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم، ثم يأخذ في النقص. ¬
[جواب المفتي بأكثر من السؤال]
[جواب المفتي بأكثر من السؤال] الفائدة الثالثة: يجوز للمفتي أن يجيب السائل بأكثر مما سأل عنه، وهذا (¬1) من كمال نصحه وعلمه وإرشاده، ومن عاب ذلك فلقلَّة علمه وضيق عطنه (¬2) وضعف نصحه، وقد ترجم البخاري على ذلك في "صحيحه" (¬3) فقال: (باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل عنه)، ثم ذكر حديث ابن عمر -رضي اللَّه عنهما-: ما يلبس المحرم فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا يلبس القُمُصَ (¬4)، ولا العمائم، ولا السراويلات، ولا الخِفَاف إلا أن لا يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين" (¬5). فسئل [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬6) عمَّا يلبس المُحْرِم؟ فأجاب عما لا يلبس، فتضمن (¬7) ذلك الجواب عما يلبس، فإن ما لا يلبس محصور (8)، وما يلبسه غير محصور (¬8)، فذكر لهم النوعين وبيَّن لهم حكم لبس الخف عند عدم النعل، وقد سألوه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬9) عن الوضوء بماء البحر، فقال [لهم] (6): "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" (¬10). ¬
[إذا منع المفتي من محظور دل على مباح]
[إذا منع المفتي من محظور دلَّ على مباح] الفائدة الرابعة: من فقه المفتي ونصحه إذا سأله المستفتي عن شيء فمنعه منه، وكانت حاجته تدعوه إليه أن يدله على ما هو عوض له منه، فيسد عليه باب المحظور، ويفتح [له] (¬1) باب المباح، وهذا لا يتأتَّى إلا من عالم ناصح مشفق قد تاجر اللَّه (¬2) وعامله بعلمه فمثاله في العلماء مثال الطيب العالم النَّاصح في الأطباء يحمي العليل عما يضرُّه ويصف له ما ينفعه، فهذا شأن أطباء الأديان والأبدان، وفي "الصحيح" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ما بعث اللَّه من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمَّته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم" (¬3). ¬
[ينبغي للمفتي أن ينبه السائل إلى الاحتراز عن الوهم]
وهذا شأن خَلف الرسل (¬1) وورثتهم من بعدهم، ورأيت شيخنا قدَّس اللَّه روحه يتحرَّى ذلك في فتاويه مهما أمكنه، ومن تأمل فتاويه وجد ذلك ظاهرًا فيها، وقد منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلالًا أن يشتري صاعًا من التمر الجيد بصاعين من الرديء، ثم دلَّه على الطريق المباح فقال: "بعْ الجمع (¬2) بالدراهم، ثم اشتر بالدراهم جنيبًا" (¬3)، فمنعه من الطريق المحرَّم، وأرشده إلى الطريق المباح، ولما سأله عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث والفضل بن عباس أن يستعملهما في [جباية] (¬4) الزكاة ليصيبا ما يتزوجان به منعهما من ذلك، وأمر مَحْمِية بن جزء (¬5)، وكان على الخمس أن يعطيهما [منه] (¬6) ما ينكحان به (¬7)، فمنعهما من الطريق المحرم، وفتح لهما [باب] (6) الطريق المباح، وهذا اقتداء منه بربه تبارك وتعالى، فإنه يسأله عبده الحاجة فيمنعه إياها (¬8) ويعطيه ما هو أصلح [له] (6)، وأنفع منها (¬9)، وهذا غاية الكرم والحكمة. [ينبغي للمفتي أن ينبِّه السائل إلى الاحتراز عن الوهم] الفائدة الخامسة: إذا أفتى المفتي للسائل بشيء ينبغي له أن ينبهه على وجه الاحتراز مما قد يذهب إليه الوهم [منه] (¬10) من خلاف الصواب، وهذا باب لطيف من أبواب العلم والنصح والإرشاد، [و] (10) مثال هذا قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬11): "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬12)، فتامل كيف أتبع الجملة الأولى بالثانية رفعًا لتوهم إهدار دماء الكفار مطلقًا، وإن كانوا في عهدهم، فإنه لما قال: "لا يقتل مؤمن بكافر"، فربما ذهب [الوهم] (10) إلى أن دماءهم هدر، ¬
ولهذا لو قتل أحدهم مسلم لم يقتل به، فرفع هذا التوهم بقوله: "ولا ذو عهد في عهده"، ولقد خفيت هذه اللطيفة الحسنة على من قال: يقتل المسلم بالكافر المعاهد، وقدَّر (¬1) في الحديث، ولا ذو عهد في عهده بكافر، ومنه قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تجلسوا على القبور، ولا تصلَّوا إليها" (¬2) فلما كان نهيه عن الجلوس [عليها] (¬3) نوع تعظيم لها عقبه بالنهي عن المبالغة في تعظحمها حتى تُجعَل قِبْلَة، وهذا يعينه مشتق من القرآن كقوله تعالى لنساء نبيه: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ [إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ] (¬4) وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32] فنهاهن عن الخضوع بالقول، فربما ذهب الوهم إلى الإذن في الإغلاظ في القول والتجاوز، فرفع هذا التوهم (¬5) بقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} [الأحزاب: 32]، ومن ذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ (¬6) وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] لما أخبر اللَّه سبحانه بإلحاق الذرية ولا عمل لهم بآبائهم في الدرجة، فربما توهم متوهم [أن يحطّ] (¬7) الآباء إلى درجة الذرية، فرفع هذا التوهم بقوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] أي: ما نقصنا [من] (¬8) الآباء [شيئًا] (¬9) من أجور أعمالهم، بل رفعنا ذريتهم إلى درجتهم، ولم نحطهم من (¬10) درجتهم بنقص أجورهم، ولما كان الوهم قد يذهب إلى أنه يفعل ذلك بأهل النار، كما يفعله بأهل الجنة، قطع هذا الوهم (¬11) بقوله تعالى: {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، ومن هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]، فلما كان ذكر ربوبيته البلدة ¬
[مما ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله]
الحرام قد يوهم (¬1) الاختصاص عقبه بقوله: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل: 91]، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3]، فلما ذكر كفايته للمتوكِّل عليه، فربما أوهم ذلك تعجيل الكفاية وقت التوكل فعقبه بقوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] أي: وقتًا لا يتعدَّاه، فهو يسوقه [إلى وقته الذي قدّره له، فلا يستعجل المتوكل ويقول: قد توكلت، ودعوت فلم أر شيئًا، ولم تحصل لي] (¬2) الكفاية، فاللَّه [بالغ] (¬3) أمره في وقته الذي قدره له (¬4)، وهذا كثيرٌ جدًا في القرآن والسنة، وهو باب لطيف من أبواب فهم النصوص. [مما ينبغي للمفتي أن يذكر الحكم بدليله] الفائدة السادسة: ينبغي للمفتي أن يذكر دليل الحكم، [ومأخذه] (¬5) ما أمكنه من ذلك، ولا يلقيه (¬6) إلى المستفتي ساذجًا مجردًا عن دليله ومأخذه، فهذا لضيق عطنه، وقلة بضاعته من العلم، ومن تأمل فتاوى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الذي قوله حجة بنفسه، رآها مشتملة على التنبيه على حكمة الحكم ونظيره، ووجه مشروعيته، وهذا، كما سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال: "أينقصُ الرطب إذا جفَّ؟ قالوا: نعم، فزجر عنه" (¬7)، ومن المعلوم أنه كان يعلم نقصانه بالجفاف، ولكن نبَّههم على علة التحريم وسببه (¬8)، ومن هذا قوله لعمر، وقد سأله عن قُبلة امرأته وهو صائم فقال: "أرأيت لو تمضمضت، ثم مججته أكان يضر شيئًا قال: لا" (¬9). فنبه على أن مقدمة المحظور لا يلزم أن تكون محظورة، فإن غاية القُبلة أنها مقدمة الجماع، فلا يلزم من تحريمه تحريم مقدمته، كما أن وضع الماء في الفم مقدمة ¬
شربه وليست المقدمة محرَّمة، ومن هذا قوله [-صلى اللَّه عليه وسلم] (¬1): "لا تُنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، فإنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم" (¬2)، فذكر لهم الحكم ونبَّههم على علة التحريم، ومن ذلك قوله لأبي النعمان بن بشير، وقد خصَّ بعض ولده بغلام نَحَله (¬3) إياه؛ فقال: "أيسرُّك أن يكونوا لك في البِرِّ سواء؟ ". قال: نعم. قال "فاتقوا اللَّه واعدالوا بين (¬4) أولادكم" وفي لفظ: "إن هذا لا يصلح"، وفي لفظ: "إني لا أَشْهد على جور"، وفي لفظ: "أَشْهِد على هذا غيري" (¬5) تهديدًا لا إذنًا، فإنه لا يأذن في الجور قطعًا وفي لفظ: "رده" والمقصود أنه نبَّهه على علة الحكم (¬6)، ومن هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لرافع بن خديج، وقد قال له: إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مدًى أفنذبحُ بالقصب؟ فقال: "ما أنهرَ الدمَ وذُكر اسم اللَّه عليه فكل ليس السن والظفر وسأحدثك عن ذلك أمَّا السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة" (¬7) فنبه على أعلة، المنع من التذكية بهما بكون أحدهما عظمًا، وهذا تنبيه على عدم التذكية بالعظام إما لنجاسة بعضها، وأما لتنجيسه على مؤمني الجن (¬8)، ولكون (¬9) الآخر مدى الحبشة ففي التذكية (¬10) بها تشبه بالكفار، ومن ذلك قوله: "إن اللَّه ورسوله ينهيانكم (¬11) عن لحوم الحمر الإِنسية، فإنها رجس" (¬12)، ومن ذلك قوله في الثمرة تصيبها الجائحة: "أرأيتَ إنْ منع اللَّه الثمرة ¬
فبِمَ يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق؟ " (¬1)، وهذا التعليل بعينه ينطبق على من استأجر أرضًا للزراعة فأصاب (¬2) الزرع آفة سماوية لفظًا ومعنًى فيقال للمؤجِّر: أرأيت إن منع اللَّه الزرع فبم تأكل مال أخيك بغير حق، وهذا هو الصواب الذي ندين اللَّه به [في المسألة] (¬3)، وهو اختيار شيخ الإسلام [ابن تيمية] (¬4). والمقصود أن الشارع مع كون قوله حجة بنفسه يرشد الأمة إلى علل الأحكام ومداركها وحكمها فورثته من بعده كذلك. ومن ذلك نهيه عن الخذف (¬5)، وقال: "إنه يفقأ العين ويكسر السن" (¬6)، ومن ذلك إفتاؤه للعاض يد غيره بإهدار دية ثنيته (¬7) لما سقطت بانتزاع [المعضوض يده من فيه ونبه على العلة بقوله: "أيدع يده في فيك تقضمها، كما يقضم الفحل" (¬8)، وهذا من أحسن التعليل وأبينه، فإن العاض لما صال على المعضوض جاز له أن يرد صياله عنه بانتزاع] (¬9) يده من فمه فإذا أدَّى ذلك إلى إسقاط ثناياه كان سقوطها بفعل مأذون فيه من الشارع، فلا يقابل بالدية (¬10)، وهذا كثير جدًا في السنة فينبغي للمفتي أن ينبِّه السائل على علة الحكم، ومأخذه إن عرف ذلك وإلا حرم عليه أن يفتي بلا علم. ¬
[من أدب المفتي أن يمهد للحكم المستغرب]
وكذلك أحكام القرآن يرشد سبحانه فيها إلى مداركها وعللها كقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فأمر سبحانه نبيه أن يذكر [لهم] (¬1) علة الحكم قبل الحكم، وكذلك قوله [تعالى] (¬2): {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] وكذلك قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا [نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ] (¬3)} [المائدة: 38]، وقوله (¬4) تعالى في جزاء الصيد: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95]. [من أدب المفتي أن يمهد للحكم المستغرب] الفائدة السابعة: إذا كان الحكم مستغربًا جدًا مما لم تألفه النفوس، وإنما ألفت خلافه فينبغي للمفتي أن يوطئ قبله ما كان مأذونًا به (¬5) كالدليل عليه والمقدمة بين يديه، فتأمل ذكره سبحانه قصة زكريا وإخراج الولد منه عليه السلام بعد انصرام عصر الشبيبة وبلوغه السن الذي لا يُولد [فيه] (¬6) لمثله في العادة، فذكر قصته مقدمة بين يدي قصة المسيح عليه السلام، وولادته (¬7) من غير أَب، فإن النفوس لما آنست بولد من [بين] (6) شيخين كبيرين لا يولد لهما عادة سهل عليها التصديق بولادة ولد من غير أب، وكذلك ذكر سبحانه [قبل] (6) قصة المسيح موافاة مريم رزقها في غير وقته وغير إبّانه، وهذا الذي شجع نفس زكريا وحرَّكها لطلب الولد، وإن كان في غير إبّانه. وتأمل قصة نسخ القبلة لما كانت شديدة على النفوس جدًا كيف وطَّأ سبحانه قبلها (¬8) عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها أن يأتي بخير من المنسوخ أو مثله، ومنها أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم، فعموم قدرته وعلمه صالح لهذا الأمر الثاني، كما كان صالحًا للأول (¬9)، ومنها تحذيرهم الاعتراض ¬
[يجوز للمفتي أن يحلف على ثبوت الحكم]
على رسوله (¬1)، كما اعترض من قبلهم على موسى، بل أمرهم بالتسليم والانقياد، ومنها تحذيرهم من الإصغاء (¬2) إلى اليهود، وأنْ تستخفَّهم شُبهُهم (¬3)، فإنهم يودُّون أن يردّوهم كفارًا من بعد ما تبيَّن لهم الحق، ومنها إخباره أَنَّ دخول الجنة ليس بالتَّهوُّد، ولا بالتَّنصُّر، وإنما هو بإسلام الوجه والقصد والعمل والنية للَّه مع متابعة أمره، ومنها إخباره سبحانه عن سعته، وأنه حيث ولَّى المصلي وجهه فثمَّ وجه ربه تبارك وتعالى (¬4)، فإنه واسع عليم فذكر الإحاطتين الذاتية والعلمية، فلا يتوهمون أنَّهم في القبلة الأولى لم يكونوا مستقبلين وجهه تبارك وتعالى، ولا في الثانية، بل حيثما توجهوا فثم وجهه [تبارك و] تعالى، ومنها أنه سبحانه [وتعالى] (¬5) حذَّر نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- من اتباع أهواء الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، بل أمره (¬6) أن يتبع هو وأمته ما أوحى إليه فيستقبلونه بقلوبهم وحدها (¬7)، ومنها أنه ذكر عظمة بيته الحرام و [عظمة] (5) بانيه وملَّته، وسفه من يرغب عنها وأمر باتباعها فنوَّه بالبيت وبانيه وملته وكل هذا توطئة بين يدي التحويل مع ما في ضمنه من المقاصد الجليلة (¬8) والمطالب السنية، ثم ذكر فضل هذه الأمة، وأنهم الأمة الوسط العدل الخيار، فاقتضى ذلك أن يكون نبيهم -صلى اللَّه عليه وسلم- أوسط الأنبياء [صلوات اللَّه وسلامه عليهم] (¬9) وخيارهم وكتابهم كذلك ودينهم كذلك وقبلتهم التي يستقبلونها كذلك، فظهرت المناسبة شرعًا وقدرًا في أحكامه تعالى الأمرية والقدرية، وظهرت حكمته الباهرة، وتجلت للعقول الزكية المستنيرة بنور ربها تبارك وتعالى. والمقصود أَنَّ المفتي جدير أن يذكر بين يدي الحكم الغريب الذي لم يُولف مقدمات تؤنس به وتدل عليه وتكون توطئة بين يديه، وباللَّه التوفيق. [يجوز للمفتي أن يحلف على ثبوت الحكم] الفائدة الثامنة: يجوز للمفتي والمُناظِر أن يحلف على ثبوت الحكم عنده، ¬
وإن لم يكن حلفه موجبًا لثبوته عند السائل والمنازع ليشعر السائل والمنازع له أنه على ثقة ويقين مما قال [له] (¬1)، وأنه غير شاك فيه (¬2)، فقد تناظر رجلان في مسألة فحلف أحدهما على ما يعتقده فقال له منازعه: لا يثبت الحكم بحلفك فقال: إني لم أحلف [لأجل تثبيت] (¬3) الحكم عندك، ولكن لأعلمك أني على يقين وبصيرة من قولي، وأنَّ شبهتك لا تغيِّر عندي في وجه يقيني بما أنا جازم به. وقد أمر اللَّه نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يحلف على ثبوت الحق الذي جاء به في ثلاثة مواضع من كتابه أحدهما: قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] والثاني: قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأتِيَنَّكُمْ [عَالِمِ الْغَيْبِ] (¬4)} [سبأ: 3]. والثالث: قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7]، وقد أقسم النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما أخبر به من الحق في أكثر من ثمانين موضعًا وهي موجودة في "الصحاح" و"المسانيد" (¬5) وقد كان الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يحلفون على الفتاوى والرواية، فقال علي -رضي اللَّه عنه- (¬6) لابن عباس في مُتعة النساء: إنك امرؤ تائه، فانظر ما تفتي به في متعة النساء، فواللَّه وأشهد باللَّه لقد نهى عنها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه [وآله] وسلم (¬7)، ولما وَلي عمر -رضي اللَّه عنه- حمد اللَّه وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
أحل، المتعة ثلاثًا، [ثم حرمها ثلاثًا]، (¬1)، فأنا أقسم باللَّه قسمًا لا أجد أحدًا من المسلمين متمتعًا إلا رجمته إلا أن يأتي بأربعة من المسلمين يشهدون أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أحلها بعد أن حرَّمها (¬2). وقد حلف الشافعي في بعض أجوبته فقال محمد بن الحكم: سألت الشافعي [-رضي اللَّه عنه-] (¬3) عن المتعة كان يكون (¬4) فيها طلاق أو ميراث أو نفقة [أو عدة] أو شهادة فقال: لا واللَّه ما أدري (¬5). وقال يزيد بن هارون: من قال القرآن مخلوق أو شيء منه مخلوق فهو واللَّه عندي زنديق (¬6). وسئل عن حديث جرير في الرؤية (¬7) فقال: واللَّه الذي لا إله إلا ¬
هو من كَذَّب به ما هم إلا زنادقة (¬1). وأما الإمام أحمد رحمة اللَّه عليه ورضوانه (¬2)، فإنه حلف على عدة مسائل من فتاويه (¬3)، قيل [له]: أيزيد الرجل في الوضوء على ثلاث مرات؛ فقال: لا واللَّه إلا رجل مبتلى، يعني بالوسواس (¬4). وسُئل أيخلِّل (¬5) الرجل لحيته إذا توضأ فقال: إي واللَّه (¬6). وسئل يكون الرجل في الجهاد بين الصفين يبارز عِلْجًا بغير إذن الإمام فقال: لا واللَّه (¬7). وقيل له: أتكره الصلاة في المقصورة فقال: إي واللَّه (¬8)، قلت: وهذا لما كانت المقصورة تُحمى للأمراء (¬9) وأتباعهم، وسئل: أيُؤجَر الرجل على بغض من خالف حديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: إي واللَّه (¬10). وسئل: من قال: القرآن مخلوق كافر؟ فقال: إي واللَّه (¬11). وسئل هل صح عندك (¬12) في النبيذ حديث فقال: واللَّه ما صح عندي حديث واحد إلا على ¬
التحريم (¬1)، [وسئل: أيكره (¬2) الخضاب بالسواد؟ فقال: إي واللَّه] (¬3)، وسئل عن الرجل يؤم أباه ويصلّي الأب خلفه فقال: إي واللَّه (¬4). [وسئل هل يكره النفخ في الصلاة؟ فقال: إي واللَّه (¬5)، (وسئل عن تزوج الرجل المسلم الأمة من أهل الكتاب فقال: لا واللَّه)] (¬6)، وسئل عن المرأة تستلقي على قفاها وتنام يكره ذلك؟ فقال: إي واللَّه (¬7). وسئل عن الرجل يرهن جاريته فيطؤها وهي مرهونة فقال: لا واللَّه (¬8)؟ وسئل عن حديث عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه قضى في رجل استسقى قومًا، وهو عطشان فلم يسقوه فمات فأغرمهم عمر الدية (¬9) تقول أنت كذا؟ قال: إي واللَّه (¬10). [وسئل عن الرجل إذا حُدَّ في القذف، ثم قذف زوجته يلاعنها فقال: إي واللَّه] (¬11). وسئل أيضرب الرجل رقيقه فقال: إي واللَّه (¬12). ذكر هذه المسائل القاضي أبو علي الشريف (¬13). ¬
وقال الإمام أحمد في "رواية ابنه صالح": "واللَّه لقد أعطيتُ المجهود من نفسي ولوددتُ أتي أنجو من هذا الأمر [كفافًا لا عليَّ، ولا لي" (¬1)، وقال في روايته أيضًا: "واللَّه لقد تمنيتُ الموت في الأمر] (¬2) الذي كان، وإني لأتمنى الموت في هذا، وهذا فتنة الدنيا" (¬3). وقال إسحاق بن منصور لأحمد يكره الخاتم من ذهب أو حديد؟ فقال: إي واللَّه (¬4). وقال إسحاق أيضًا: [قلت] (¬5) لأحمد: يؤجر الرجل يأتي أهله وليس له شهوة في النساء؟ فقال (¬6): إي واللَّه، يحتسب الولد، وإن لم يرد الولد، إلا أنه يقول: هذه امرأة شابة (¬7)، وقال له محمد بن عوف (¬8): يا أبا عبد اللَّه يقولون: إنك وقفت في (¬9) عثمان؟ فقال: كذبوا واللَّه عليَّ، وإنما حدَّثتهم بحديث ابن عمر: كنَّا نفاضل بين أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نقول: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي فيبلغ ذلك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فلا ينكره (¬10)، ولم ¬
يقُل (¬1) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: لا تخايروا بعد هؤلاء، [ولا بين أحد، ليس في ذلك حجة لأحد] فمن وقف على عثمان، ولم يُربِّع بعلي (¬2) فهو على غير السنة (¬3). وسئل أحمد هل المقام بالثغر أفضل من المقام بمكة؟ فقال: إي واللَّه (¬4). وذكر أبو أحمد بن عدي في "الكامل": أن أَيوب بن إسحاق بن سافري (¬5) قال: سألتُ أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد اللَّه، ابنُ إسحاق إذا انفرد بحديث (¬6) تقبله؟ فقال: لا، واللَّه إني رأيته يحدث عن جماعة بالحديث [الواحد]، ولا يفصل كلام ذا من كلام ذا (¬7). وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: نقتل الحية والعقرب في الصلاة؟ فقال: ¬
إي واللَّه (¬1)، وقال أيضًا: قلت لأبي: تجهر بآمين؟ فقال: إي واللَّه؛ الإمام وغير الإمام (¬2)، وقال أيضًا: قلت لأبي: يفتح على الإمام؟ قال: إي واللَّه (¬3). وقال الميموني: قلت لأحمد: ونحن نحتاج في رمضان أن نبيّت الصوم من الليل؟ فقال: إي واللَّه (¬4)، وقال الميموني [أيضًا] (¬5): [قلت لأحمد] [تُباع الفرس الحبيس إذا عطبت، وإذا فسدت؟ فقال: إي واللَّه (¬6)، وقال [الميموني] (7) أيضًا: قلت لأحمد] (¬7): هل ثبت (¬8) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في العقيقة شيء؟ فأملى عليّ: إي واللَّه، وفي (¬9) غير حديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "عن الغلام شاتان مكافئتان (¬10)، وعن الجارية شاة" (¬11). ¬
وقال إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: التسبيح للرِّجال والتصفيق للنساء قال: إي واللَّه (¬1). وقال الكوسج أيضًا: قلت لأحمد: قال سفيان: تجزئه تكبيرة إذا نوى بها افتتاح الصلاة؟ قال أحمد: إي واللَّه تجزئه إذا نوى [قاله] ابن عمر وزيد (¬2)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: المؤذن يجعل أصبعيه في أذنيه؟ قال: إي واللَّه (¬3)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: سئل سفيان عن امرأة ماتت وفي بطنها ولد يتحرك، ما أرى بأسًا أن يشق بطنها، قال أحمد: بئس واللَّه ما قال -يردد ذلك- سبحان اللَّه! بئس ما قال (¬4)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: تجوز شهادة رجل وامرأتين (¬5) في الطلاق؟ قال [أحمد]: لا واللَّه (¬6)، وقال أيضًا: قلت لأحمد: المُرجئ إذا كان داعيًا ¬
[يجفا]، قال: إي واللَّه يُجْفَى ويُقْصَى (¬1). وقال (¬2) أبو طالب: قلت لأحمد: رجل قال: القرآن كلام اللَّه، وليس بمخلوق، ولكن لفظي هذا به مخلوق، قال: من قال هذا، فقد جاء بالأمر كله، إنما هو كلام اللَّه على كل حال، والحجة فيه حديث أبي بكر -رضي اللَّه عنه- (¬3): {الم (¬4) (1) غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 1 - 2] فقيل له (¬5): هذا مما جاء به صاحبك؟ فقال: لا واللَّه ولكنَّه كلام اللَّه، هذا وغيره، كلام اللَّه (¬6) قلت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] هذا الذي قرأت الساعة كلام اللَّه؟ قال: إي واللَّه هو كلام اللَّه، ومن قال: "لفظي بالقرآن مخلوق"، فقد جاء بالأمر كله (¬7). وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد اللَّه عن حديث ابن شبرمة عن الشعبي في رجل [نذر أن] (¬8) يطلق امرأته فقال له الشعبي: أوفِ بنذرك، أترى ذلك؟ فقال: لا واللَّه (¬9)، وقال الفضل أيضًا: سمعت أبا عبد اللَّه، وذكر (¬10) يحيى بن ¬
سعيد القطان فقال: لا واللَّه ما أدركنا مثله (¬1). وذكر أحمد في "رسالته إلى مسدد": "ولا عينٌ تطرف (2) بعد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خير من أبي بكر، ولا بعد أبي بكر عين تطرف (2) خير من عمر، ولا بعد عمر عين تطرف (2) خير من عثمان، ولا بعد عثمان عين تطرف (¬2) خير من علي بن أبي طالب -رضي اللَّه عنه-، ثم قال أحمد: هم واللَّه الخلفاء الراشدون المهديون (¬3). وقال الميموني: قلت لأحمد [عن] جابر الجُعفي؟ قال: كان يرى التشيع، قلت: قد يُتَّهم في حديثه بالكذب؟ قال: إي واللَّه (¬4). قال القاضي: فإن قيل كيف استجاز الإمام أحمد أن يحلف في مسائل مختلف فيها؟ قيل: أما مسائل الأصول، فلا يسوغ فيها اختلاف، فهي إجماع (¬5)، وأما [مسائل] (¬6) الفروع، فإنه لما غلب على ظنّه صحةُ ذلك حلف عليه، كما لو وجد في دفتر أبيه أن له على فلان دَيْنًا جاز [له] (¬7) أن يدَّعيه لغلبة الظن بصدقه، قلت: ويحلف عليه، قال: فإن قيل: أليس قد امتنع من اليمين على إسقاط الشفعة بالجوار؟ قيل: لأن اليمين هناك عند الحاكم، والنية نية الخصم (¬8). قلت: ولم (¬9) يمنع أحمد اليمين لهذا، بل شفعة الجوار عنده مما يسوغ القول بها، وفيها أحاديث صحاح لا ترد (¬10)، ولهذا اختلف قوله فيها، فمرةً نفاها، ومرةً أثبتها، ومرة فصَّل بين أن يشتركا في حقوق الملك كالطريق والماء ¬
[من أدب المفتي أن يفتي بلفظ النصوص]
وغيره وبين ألا يشتركا في [شيء من] (¬1) ذلك، فلا تثبت. وهذا هو الصواب الذي لا ريب فيه وبه تجتمع الأحاديث، وهو اختيار شيخ الإسلام (¬2)، ومذهب فقهاء البصرة، ولا نختار غيره (¬3)، وقد روى أحمد عن جماعة من الصحابة والتابعين أنهم حلفوا في الرواية والفتوى، وغيرهما (¬4) تحقيقًا وتأكيدًا للخبر (¬5) لا إثباتًا له باليمين، وقد قال تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23]، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية (¬6)، وقال تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، وكذلك أقسم [بكلامه كقوله] (¬7) تعالى: {يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ} [يس: 1 - 2]، {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1]، وأما إقسامه بمخلوقاته التي هي آيات دالة عليه فكثير جدًا. [من أدب المفتي أن يفتي بلفظ النصوص] الفائدة التاسعة: ينبغي للمفتي أن يفتي بلفظ النص مهما أمكنه، فإنه يتضمن الحكم والدليل [مع البيان التام، فهو حكم مضمونٌ له الصواب، متضمن للدليل] (8) عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعيَّن ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة [الذين سلكوا على منهاجهم] (8) يتحرون ذلك غاية التحري حتى خَلَفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص [واشتقوا لهم ألفاظأ غير ألفاظ النصوص] (¬8) ¬
فأوجب ذلك هجر النصوص، [ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص] (¬1) من الحكم والدليل وحسن البيان فتولَّد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا اللَّه، فألفاظ النصوص عصمة وحجة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب، ولما كانت هي عصمة [عهدة] (¬2) الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك [وهلم جرًّا] (¬3). ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض. وقد كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إذا سُئلوا عن مسألة يقولون: قال اللَّه كذا، قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا، وفعل كذا (¬4)، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلًا قط فمن تأمل أجوبتهم وجدها شفاء لما في الصدور فلما طال العهد وبُعد الناس من نور النبوة صار هذا عيبًا عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال اللَّه (¬5)، وقال رسول اللَّه (¬6)، أما أصول دينهم فصرحوا في كتبهم أن قول اللَّه و [قول] (¬7) رسوله لا يفيد اليقين في مسائل أصول الدين، وإنما يحتج بكلام اللَّه ورسوله فيها الحشوية والمجسمة والمشبهة، وأما فروعهم فقنعوا بتقليد من اختصر لهم بعض المختصرات التي لا يذكر فيها نص عن اللَّه تعالى، ولا عن رسول اللَّه (¬8) -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا عن الإمام الذي زعموا أنهم قلدوه دينهم، بل عمدتهم فيما يفتون ويقضون به وينقلون به الحقوق ويبيحون به الفروج والدماء والأموال على قول [ذلك] (¬9) المصنِّف، وأجلّهم عند نفسه وزعيمهم عند بني جنسه من يستحضر لفظ [ذلك] (¬10) الكتاب ويقول: هكذا قال، وهذا لفظه، فالحلال (¬11) ما أحفَه ذلك الكتاب، والحرام ما حرمه، والواجب ما أوجبه، والباطل ما أبطله، والصحيح ما صححه هذا، وأنَّى لنا بهؤلاء في مثل هذه الأزمان، فقد دفعنا إلى ¬
أمر تضج منه الحقوق إلى اللَّه ضجيجًا وتعج منه الفروج والأموال والدماء (¬1) إلى ربها عجيجًا تبدل فيه (¬2) الأحكام، ويُقلب [فيه] (¬3) الحلال بالحرام، ويُجعل المعروف فيه (¬4) أعلى مراتب المنكرات، و [المنكر] (¬5) الذي لم يشرعه اللَّه ورسوله من أفضل القُرُبات، الحق فيه غريب، وأغرب منه من يعرفه، وأغرب منهما من يدعو إليه وينصح به نفسه والناس، قد فلق بهم (¬6) فالقُ الإصباح صُبْحه عن غياهب الظلمات، وأبان [لهم] (¬7) طريقه المستقيم من بين تلك الطرق (¬8) الجائرات، وأراه بعين قلبه ما كان عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه -رضي اللَّه عنهم-، مع ما عليه أكثر الخلق من البدع المضلات، رفع له علم الهداية فشمَّر إليه (¬9)، ووضح [له] (¬10) الصراط المستقيم فقام واستقام عليه، وطوبى له من وحيد على كثرة السكان، غريب على كثرة الجيران، بين أقوام رؤيتهم قذى العيون، وشجى الحلوق، وكرب النفوس، وحمَّى الأرواح، وغم الصدور، ومرض القلوب، إن (¬11) أنصفتهم لم تقبل طبيعتهم الإنصاف (¬12)، وإن طلبته [منهم] (¬13)، فأين الثريا من يد الملتمس، قد انتكست قلوبهم، وعمي عليهم مطلوبهم، رضوا بالأماني، وابتلوا بالحظوظ، وحصلوا على الحرمان، وخاضوا بحار العلم لكن بالدعاوي الباطلة وشقاشق (¬14) الهذيان، ولا واللَّه ما ابتلت من وَشَله (¬15) أقدامهم، ولا زكت به عقولهم وأحلامهم، ولا ابيضت به لياليهم وأشرقت بنوره أيامهم، ولا ضحكت بالهدى، والحق منه وجوه الدفاتر (¬16) إذ بُلَّتْ بمدادهِ أقلامُهم (¬17) أَنفقوا في غير ¬
فصل [من أدب المفتي أن يتوجه لله ليلهم الصواب]
[شيء] (¬1) نفائسَ الأنفاس وأَتعبوا أنفسهم وحيَّروا مَنْ خلفهم من الناس، ضيعوا الأصول، فحُرِمُوا الوصول، وأعرضوا عن الرسالة فوقعوا في نهاية (¬2) الحيرة وبيداء الضلالة. والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير، ومَنْ (¬3) رَامَ إدراك الهدى، ودين الحق من غير مِشْكَاتها، فهو عليه عسيرٌ غير يُسير. فصل [من أدب المفتي أن يتوجه للَّه لِيُلْهَمَ الصواب] الفائدة العاشرة: ينبغي للمفتي الموفَّق إذا نزلت به المسألة أن ينبعث من قلبه الافتقارُ الحقيقيُّ [الحالي] (¬4) لا العلمي (¬5) المجرد إلى مُلْهم الصَّواب، [ومعلم الخير وهادي القلوب، أنْ يلهمه الصواب] (¬6)، ويفتح له طريق السداد، ويدلّه على حُكمه الذي شرعه لعباده في هذه المسألة فمتى قرع هذا الباب، فقد قرع باب التوفيق، وما أجدر من [أمَّل] (¬7) فَضْلَ ربه تعالى أن لا يحرمه إياه، فإذا وجد من قبله (¬8) هذه الهمة فهي طلائع بشرى التوفيق فعليه أن يوجه وجهه ويحدق نظره إلى منبع الهدى ومعدن الصواب ومطلع الرشد، وهو النصوص من القرآن والسنة وآثار الصحابة فيستفرغ وسعه في تعرف حكم تلك النازلة منها، فإن ظفر بذلك أخبر به، وإن اشتبه عليه بادر إلى التوبة والاستغفار والإكثار من ذكر اللَّه، فإن العلم نورُ اللَّه يقذفه في قلب عبده والهوى والمعصية (¬9) رياحٌ عاصفةٌ تطفئ ذلك النور أو تكاد (¬10)، ولا بد أن تُضْعِفَه. وشهدت شيخ الإسلام قدَّس اللَّه روحه إذا أعيته المسائل (¬11)، واستعصت (¬12) عليه فرَّ [منها] إلى التوبة (¬13) والاستغفار والاستغاثة (¬14) باللَّه واللَّجَأ ¬
[لا يفتي ولا يحكم إلا بما يكون عالما بالحق فيه]
إليه، واستنزال الصواب من عنده والاستفتاح من خزائن رحمته فقلَّما يلبث المدد الإلهي أن يتتابع عليه مَدًا (¬1)، وتزدلف الفتوحات الإلهية [إليه] (¬2) بأيتهن يبدأ، ولا ريب أن من وفِّق لهذا الافتقار علمًا وحالًا وسار قلبه في ميادينه حقيقة وقصدًا (¬3)، فقد أُعطي حظه من التوفيق، ومن حرمه، فقد مُنع الطَّريقَ والرَّفيقَ فمتى أُعين مع هذا (¬4) الافتقار ببذل الجهد في درك الحق، فقد سلك به الصراط المستقيم وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه ذو الفضل العظيم. [لا يفتي ولا يحكم إلا بما يكون عالمًا بالحق فيه] الفائدة الحادية عشرة (¬5): إذا نزلت بالمفتي أو الحاكم نازلة (¬6)، فإما أن يكون عالمًا بالحق فيها أو غالبًا على ظنه بحيث قد استفرغ وسعه في طلبه ومعرفته أو لا، فإن لم يكن عالمًا بالحق فيها، ولا غلب على ظنه لم يحل له أن يفتي، ولا يقضي بما لا يعلم ومتى أقدم على ذلك فقد تعرض لعقوبة اللَّه (¬7)، ودخل تحت قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا] (¬8) وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33] فجعل القول عليه بلا علم أعظم المحرمات الأربع التي لا تُباح بحال، ولهذا حصر التحريم فيها بصيغة الحصر ودخل تحت قوله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ ¬
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 168 - 169] ودخل في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أفتى بغير علم، فإنما إثمه على من أفتاه" (¬1)، وكان أحد القضاة الثلاثة [الذين ثُلثَاهم في النار (¬2)، وإن كان قد عرف الحق في المسألة علمًا أو ظنًا غالبًا لم يحل له أن يفتي، ولا يقضي بغيره بالإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وهو أحد القضاة الثلاثة] (¬3)، والمفتين الثلاثة والشهود الثلاثة، وإذا (¬4) كان من أفتى أو حكم أو شهد بغير علم مرتكبًا لأعظم الكبائر فكيف من (¬5) أفتى أو حكم أو شهد بما يعلم خلافه؟ فالحاكم والمفتي والشاهد كل منهم يخبر (¬6) عن حكم اللَّه، فالحاكم مخبر منفذ، ¬
[الواجب على الراوي والمفتي والحاكم والشاهد]
والمفتي مخبر غير منفذ، والشاهد مخبر عن الحكم الكوني القدري المطابق للحكم الديني الأمري، فمن أخبر منهم عما يعلم خلافه، فهو كاذب على اللَّه عمدًا {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60]، ولا (¬1) أظلم ممن كذب على اللَّه وعلى دينه، وإن أخبروا بما لم يعلموا، فقد كذبوا على اللَّه جهلًا، وإن أصابوا في الباطن وأخبروا بما لم يأذن اللَّه لهم في الإخبار به، وهم أسوأ حالًا من القاذف إذا رأى الفاحشة وحده فأخبر بها، فإنه (¬2) كاذب عند اللَّه، وإن أخبر بالواقع، فإن اللَّه لم يأذن له في الإخبار بها إلا إذا كان رابع أربعة (¬3)، فإن كان (¬4) كاذبًا عند اللَّه في خبر مطابق (¬5) لمخبره حيث لم يأذن له في الإخبار [به] (¬6)، [كيف بمن أخبر عن حكمه بما لم (¬7) يعلم أن اللَّه حكم به، ولم يأذن له في الإخبار به؟] (¬8)، قال اللَّه تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ [إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ] (¬9) وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116 - 117]، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ} [الزمر: 32]، والكذب [على اللَّه] (6) يستلزم التكذيب بالحق والصدق، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] وهؤلاء [الآيات] (8) وإن كانت في حق المشركين والكفَّار، فإنها متناولة لمن كذب على اللَّه في توحيده ودينه وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا تتناول المخطئ المأجور إذا بذل جهده (¬10)، واستفرغ وسعه في إصابة حكم اللَّه وشرعه، فإن هذا هو الذي فرضه اللَّه عليه، فلا يتناول المطيع للَّه إن أخطأ، وباللَّه التوفيق. [الواجب على الراوي والمفتي والحاكم والشاهد] الفائدة الثانية عشرة: حكم اللَّه ورسوله يظهر على أربعة ألسنة: لسان ¬
الراوي، ولسان المفتي، ولسان الحاكم (¬1)، ولسان الشاهد، فالراوي يَظْهر على لسانه لفظ حكم اللَّه ورسوله، والمفتي يظهر على لسانه معناه وما استنبطه من لفظه، والحاكم يظهر على لسانه الإخبار بحكم اللَّه وتنفيذه، والشاهد يظهر على لسانه الإخبار بالسبب الذي يثبت حكم الشارع، والواجب على هؤلاء الأربعة أن يُخبروا بالصدق المستند إلى العلم فيكونون عالمين بما يخبرون به صادقين في الإخبار به، وآفة أحدهم الكذب والكتمان، فمتى كَتمَ الحق أو الكذب فيه فقد خان اللَّه (¬2) سبحانه في شرعه ودينه، وقد أجرى اللَّه سنَّته أن يمحق عليه (¬3) بركة علمه ودينه ودنياه إذا فعل ذلك، كما أجرى عادته سبحانه في المتبايعَيْن إذا كتما وكذبا أن يمحق بركة بيعهما (¬4)، ومن التزم الصدق والبيان [منهم] (¬5) في مرتبته بُورك له في علمه [ووقته] (¬6) ودينه ودنياه، وكان مع {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] (69) (¬7) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 69 - 70]، ¬
[من أدب المفتي ألا ينسب الحكم إلى الله إلا بالنص]
فبالكتمان يعزل الحق [عن] (¬1) سلطانه، وبالكذب يقلبُه عن وجهه والجزاءُ من جنس العمل فجزاء [أحدهم أن يعزله اللَّه عن سلطان المهابة والكرامة والمحبة والتعظيم الذي يُلبسه أهل الصدق والبيان، ويُلبسه ثوب الهَوانِ والمقت والخزي] (¬2) بين عباده، فإذا كان يوم القيامة (¬3) جازى اللَّه سبحانه [من يشاء] (¬4) من الكاذبين [الكاتمين] (1) بطمس الوجوه، وردّها على أدبارها كما طمسوا وجهَ الحقِّ وقلبوه عن وجهه جزاءً وفاقًا، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]. [من أدب المفتي ألا ينسب الحكم إلى اللَّه إلا بالنص] الفائدة الثالثة عشرة: لا يجوز للمفتي أن يشهد على اللَّه ورسوله بأنه أحلَّ كذا أو حرمه (¬5) أو أوجبه [أو أحبه] (¬6) أو كرهه إلا لما يعلم أنَّ الأمر فيه كذلك مما نص اللَّه ورسوله على إِباحته أو تحريمه أو إيجابه أو كراهته، وأما ما وجده في كتابه الذي تلقاه عمَّن قلده دينه فليس له أن يَشهد على اللَّه ورسوله به، ويغرَّ الناس بذلك، ولا علم له بحكم اللَّه ورسوله. قال غير واحد من السلف: ليحذر أحدكم أن يقول: أحلَّ اللَّه كذا، أو حرم [اللَّه] (7) كذا، فيقول اللَّه [له] (¬7) كذبتَ لم أحل كذا، ولم أحرمه (¬8). وثبت في "صحيح مسلم" من حديث بُريدة بن الحُصَيب أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "وإذا حاصرتَ حِصْنًا (¬9) فسألوك أن تنزلهم على حكم اللَّه ورسوله، فلا تنزلهم على حكم اللَّه ورسوله، فإنك لا تدري أتصيب (¬10) حكم اللَّه فيهم أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك" (¬11). ¬
[حال المفتي مع المستفتي على ثلاثة أوجه]
وسمعتُ شيخ الإسلام يقول: حضرتُ مجلسًا فيه القضاة وغيرهم، فجرت حكومة حكم فيها أحدهم بقول زفر، فقلت له: ما هذه الحكومة؟ فقال: هذا [حكم اللَّه، فقلت له: صار قول زفر هو حكم اللَّه الذي] (¬1) حكم به وألزم [به] (¬2) الأمة؟! قل: هذا حكم زفر (¬3)، ولا تقل: هذا حكم اللَّه (¬4) أو نحو هذا من الكلام. [حال المفتي مع المستفتي على ثلاثة أوجه] الفائدة الرابعة عشرة: المفتي إذا سُئل عن مسألة، فإما أن يكون قصد (¬5) السائل فيها معرفة حكم اللَّه ورسوله (¬6) ليس إلا، وإما أن يكون قصده [معرفة] (¬7) ما قاله الإمامُ الذي شهَّر المفتي نفسَه (¬8) باتّباعه وتقليده دون غيره من الأئمة، وإما أن يكون مقصوده [معرفة] (7) ما ترجَّح عند ذلك المفتي وما يعتقده فيها لاعتقاده علمه ودينه، وإمامته (¬9) فهو يرضى تقليده (¬10) أهو، وليس له غرض في قول إمام بعينه، فهذه أجناس الفتيا التي تَرِد على المفتين. ففرض (¬11) المفتي في القسم الأول أن يجيب بحكم اللَّه ورسوله إذا عرفه وتيقَّنه لا يسعه غير ذلك. وأما في القسم الثاني: فإذا عرف قول الإمام نفسه (¬12) وسعه أن يخبر به، ولا يحل له أن ينسب إليه القول ويطلق عليه أنه قوله بمجرد ما يراه في بعض الكتب التي حفظها أو طالعها (¬13) من كلام المنتسبين إليه؛ فإنه قد ¬
[يفتي المفتي بما يعتقد أنه الصواب وإن كان خلاف مذهبه]
اختلطت أقوال الأئمة وفتاويهم بأقوال المنتسبين إليهم واختياراتهم فليس كل ما في كتبهم منصوصًا عن الأئمة، بل كثير منه يخالف نصوصهم، وكثير منه (¬1) لا نص لهم فيه، وكثير منه يُخرَّج على فتاويهم، وكثير منه (¬2) أفتوا به بلفظه أو بمعناه، فلا يحل لأحد أن يقول: "هذا قول فلان ومذهبه" إلا أن يعلم (¬3) يقينًا أنه قوله ومذهبه، فما أعظم خطر المفتي وأصعب مقامه بين يدي اللَّه تعالى (¬4)! وأما القسم الثالث: فإنه يسعه أن يخبر المستفتي (¬5) بما عنده في ذلك ما يغلب (¬6) على ظنه أنه الصواب بعد بذل جهده واستفراغ وسعه، ومع هذا فلا يلزم (7) المُستفتي الأخذ بقوله وغايته أنه يسوغ له الأخذ به. فلينزل المفتي نفسه في منزلة من هذه المنازل الثلاث وليقم بواجبها، فإن الدِّينَ دينُ اللَّه، واللَّه سبحانه [ولا بُدَّ] (¬7) سائله عن كل ما أفتى به، وهو مَوْقرة (¬8) عليه، ومحاسب ولا بد، واللَّه المستعان. [يفتي المفتي بما يعتقد أنه الصواب وإن كان خلاف مذهبه] الفائدة الخامسة عشرة: ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي اللَّه [سبحانه] (¬9) أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا فتحمله الرياسة على أن يقتحم (¬10) الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائنًا للَّه ورسوله وللسائل وغاشًا له، واللَّه لا يهدي كيد الخائنين، وحرَّم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضادٌّ للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد [فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده] (¬11) ¬
[لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة]
فنحكي (¬1) المذهب [ثم نحكي المذهب] (¬2) الراجح ونرجِّحه، ونقول: هذا هو الصواب، وهو أولى أن يُؤخذ به، وباللَّه التوفيق. [لا يجوز للمفتي إلقاء المستفتي في الحيرة] الفائدة السادسة عشرة (¬3): لا يجوز للمفتي الترويج وتخيير السائل (¬4)، وإلقاؤُه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبيّن بيانًا مزيلًا للإشكال متضمنًا لفصل الخطاب كافيًا في حصول المقصود لا يحتاج معه إلى غيره (¬5)، ولا يكون كالمفتي الذي سئل عن مسألة في المواريث فقال: يقسم بين الورثة على فرائض اللَّه عز وجل وكتبه فلان، وسُئل آخر عن صلاة الكسوف فقال: تصلَّى على حديث عائشة (¬6)، وإن كان هذا أعلم من الأول، وسئل آخر عن مسألة من الزكاة فقال: أما أهل الإيثار فيخرجون المال [كله] (¬7)، وأما غيرهم فيخرج القدر الواجب عليه (¬8) أو كما قال. وسئل آخر عن مسألة فقال: فيها قولان، ولم يزد. قال أبو محمد بن حزم (¬9): وكان عندنا مُفْت إذا سئل عن مسألة لا يفتي فيها حتى يتقدمه من يكتب فيكتب [هو] (¬10): جوابي فيها مثل جواب الشيخ، فقُدِّر ¬
أن مفتيين اختلفا [في جواب] (¬1) فكتب تحت جوابهما: جوابي (¬2) مثل جواب الشيخين، فقيل له: إنهما قد تناقضا فقال: وأنا أتناقض كما تناقضا. وكان في زماننا رجل مشار (¬3) إليه بالفتوى، وهو مقدَّم في مذهبه، وكان نائب السلطان يرسل إليه في الفتاوى فيكتب يجوز كذا أو يصح كذا (¬4)، أو ينعقد بشرطه فأرسل إليه يقول [له] (1): تأتينا فتاوى [منك] (1) فيها يجوز أو ينعقد أو يصح بشرطه، ونحن لا نعلم شرطه، فإما أن تبيّن شرطه، وأما أن لا تكتب ذلك. وسمعت شيخنا يقول: كلُّ أحد يحسن أن يفتي بهذا الشرط، فإن (¬5) أي مسألة وردت عليه يكتب فيها يجوز بشرطه أو يصح بشرطه أو يقبل (¬6) بشرطه ونحو ذلك، وهذا ليس بعلم، ولا يفيد فائدة أصلًا سوى حيرة السائل وتنكده (¬7)، وكذلك قول بعضهم في فتاويه: يرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، فيا سبحان اللَّه! واللَّه لو كان الحاكم شُريحًا وأشباهه لما كان مردُّ أحكام اللَّه ورسوله إلى رأيه، فضلًا عن حُكَّام زماننا، فاللَّه المستعان. وسئل بعضهم (¬8) عن مسألة فقال: فيها خلاف، فقيل له: كيف يعمل المفتي؟ فقال: يختار له [القاضي] (¬9) أحد المذهبين. قال أبو عمرو بن الصلاح (¬10): كنت عند أبي السعادات ابن الأثير الجزري، فحكي له (¬11) عن بعض المفتين أنَّه سُئل عن مسألة فقال: فيها قولان، فأخذ يزري عليه، وقال (¬12): هذا حيدٌ عن الفتوى، ولم يخلِّص السائل من ¬
عمايته (¬1)، ولم يأت بالمطلوب. قلت: وهذا فيه تفصيل، فإن المفتي المتمكن من العلم المضطلع به قد يتوقف في الصواب في المسألة المتنازع فيها، فلا يقدم على الجزم بغير علم وغاية ما يمكنه أن يذكر الخلاف فيها للسائل، وكثيرًا ما يسأل الإمام أحمد [-رضي اللَّه عنه-] (¬2) وغيره من الأئمة عن مسألة فيقول: فيها قولان أو قد اختلفوا فيها، وهذا كثير في أجوبة (¬3) الإمام أحمد لسعة علمه، وورعه، وهو كثير في كلام [الإمام] (2) الشافعي [-رضي اللَّه عنه-] (2) يذكر المسألة ثم يقول: فيها قولان، وقد اختلف أصحابه (¬4) هل يضاف القولان اللَّذان يحكيهما إلى مذهبه ويُنسبان إليه أم لا؟ على طريقين، وإذا اختلف عليُّ وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وزيد وأبيّ وغيرهم من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-]، ولم يتبين للمفتي القول الراجح من أقوالهم فقال: هذه مسألة اختلف فيها فلان وفلان من الصحابة، فقد انتهى (¬5) إلى ما يَقْدر عليه من العلم. قال أبو إسحاق الشيرازي (¬6): سمعت شيخنا أبا الطيب [الطبري] يقول: سمعت أبا العباس الخُضَري (¬7) يقول: كنت جالسًا عند أبي بكر بن داود الظاهري فجاءته ¬
[الإفتاء في شروط الواقفين]
امرأة فقالت: ما تقول في رجلٍ له زوجة لا [هو] (¬1) مُمسكها ولا [هو] (1) مطلِّقها؟ فقال [لها] (1): اختلف في ذلك أهل العلم فقال قائلون: تُؤمر بالصَّبر والاحتساب ويُبعثُ (¬2) على التطلّب والاكتساب، وقال قائلون: يُؤمر بالإنفاق: ولا (¬3) يُحمل على الطلاق، فلم تفهم المرأة قوله فأعادت المسألة فقال: يا هذه! [قد] (¬4) أجبتُك عن (¬5) مسألتك، وأرْشدتُك إلى طلبتك، ولست بسلطان (¬6) فأمضي، ولا قاض (¬7) فاقضي، ولا زوج فأُرْضِي، انصرفي (¬8). [الإفتاء في شروط الواقفين] الفائدة السابعة عشرة (¬9): إذا سئل عن مسألة فيها شرط واقف لم يحل له أن يلزم بالعمل به، بل ولا يسوغه على الإطلاق حتى ينظر في ذلك الشرط، فإن كان يخالف حكم اللَّه ورسوله فلا حُرمةَ له، ولا يحل له تنفيذه، ولا يسوغ تنفيذه، وإن لم يخالف حكم اللَّه ورسوله فلينظر هل فيه قربة أو رجحان عند الشارع أم لا؟ فإن لم يكن فيه قربة ولا رجحان لم يجب التزامه، ولم يحرم، فلا تضر مخالفته، وإن كان فيه قربة وهو راجح على خلافه، فلينظر هل يفوت بالتزامه والتقييد به ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله وأرضى له، وأنفع للمكلف وأعظم تحصيلًا لمقصود الواقف من الأجر (¬10)؟، فإن فات ذلك بالتزامه لم يجب التزامُه ولا التّقييدُ به قطعًا وجاز العدول، بل يُستحب (¬11) إلى ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله، وأنفع للمكلف وأكثر تحصيلًا لمقصود الواقف (¬12) وفي جواز التزام شرط (¬13) الواقف في هذه الصورة (¬14) تفصيل سنذكره إن شاء اللَّه [تعالى] (¬15)، ¬
وإن كان [فيه] (¬1) قربة وطاعة، ولم يفت بالتزامه (¬2) ما هو أحب إلى اللَّه ورسوله منه وتساوى هو وغيره في تلك القربة، ويحصل (¬3) غرض الواقف بحيث يكون هو وغيره طريقين موصلين (¬4) إلى مقصوده ومقصود الشارع من كل وجه لم يتعيَّن عليه التزام الشرط، بل له العدول عنه إلى ما هو أسهل عليه وأرفق [به] (¬5)، وإن ترجَّح موجب الشرط، وكان قصد القربة والطاعة فيه أظهر وجب التزامه. فهذا هو القول الكلي في شروط الواقفين، وما يجب التزامه منها (¬6)، وما يسوغ، وما لا يجب. ومن سلك غير هذا المسلك تناقض أظهر تناقض، ولم يثبت له قدم يعتمد عليه. فإذا شَرَط الواقف أن يصلِّي الموقوف عليه في هذا المكان المعيَّن الصلوات الخمس، ولو (¬7) كان وحده إلى جانبه المسجد الأعظم وجماعة المسلمين لم يجب عليه الوفاء بهذا الشرط، بل، ولا يحل [له] (11) التزامه إذا فاتته الجماعة، فإن الجماعة إما شرطٌ لا تصح الصلاة بدونها، وإما واجبة يستحق تاركها العقوبة، وإن صحَّت صلاته، وإما سنة مؤكدة يقاتل تاركها (¬8) وعلى (¬9) كل تقدير، فلا يحل (¬10) التزام شرط يُخلُّ بها. وكذلك إذا شرط الواقف العزوبية وترك التأهل لم يجب الوفاء بهذا [الشرط بل] (¬11)، ولا التزامه، بل من التزمه رغبةً عن السنة فليس من اللَّه ورسوله في شيء، فإن النِّكاح عند الحاجة إليه إما فرضٌ يُعاقب (¬12) تاركه، وإما سنة الاشتغال به (¬13) ¬
أفضل من صيام النهار وقيام الليل وسائر أوراد التطوعات، وإما سنة يثاب [فاعلها، كما يثاب] (¬1) فاعل السنن والمندوبات، وعلى كل تقدير، فلا يجوز اشتراط تعطيله أو تركه إذ يصير مضمون هذا الشرط [أنه] (¬2) لا يستحق تناول الوقف إلا من عطَّل ما فرض اللَّه عليه وخالف سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن فعل ما فرضه [اللَّه عليه] (1) وقام بالسنة لم يحل له أن يتناول من هذا الوقف شيئًا، ولا يخفى ما في التزام هذا الشرط والإلزام به من مضادة اللَّه ورسوله، وهو أقبح (¬3) من اشتراطه (¬4) ترك الوتر والسنن الراتبة وصيام الاثنين والخميس (¬5) والتطوع بالليل، بل أقبح من اشتراطه (¬6) ترك ذكر اللَّه بكرة وعشيًا ونحو ذلك. ومن ذلك (¬7) اشتراطه أن يصلي الصلوات في التربة المدفون بها ويدع المسجد، وهذا أيضًا مضاد لدين الإسلام أعظم مضادة، فإن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لعن المتخذين قبور أنبيائهم مساجد (¬8)، فالصلاة في المقبرة معصية للَّه ورسوله باطلة عند كثير من أهل العلم لا يقبلها اللَّه، ولا تبرأ الذمة بفعلها (¬9)، فكيف يجوز التزام شرط الواقف لها وتعطيل شرط اللَّه ورسوله، فهذا يغير (¬10) الدين لولا أن اللَّه سبحانه يقيم له من يبيِّن أعلامه ويدعو إليه. ¬
ومن ذلك اشتراط إيقاد سراج أو قنديل على قبر، فلا يحل للواقف اشتراط ذلك (¬1)، ولا للحاكم تنفيذه، ولا للمفتي تسويغه، ولا للموقوف عليه فعله والتزامه، فقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المتخذين السُّرُج على القبور (¬2)، فكيف يحل للمسلم أن يُلْزم أو يُسَوِّغ فعل ما لعن رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاعلَه؟ وحضرتُ بعض قضاة الإسلام يومًا، وقد جاءه كتابُ وقف على تربة ليثبته (¬3)، وفيه: "وأنه (¬4) يُوقد على القبر كلَّ ليلة قنديلٌ" فقلتُ له: كيف يَحلُّ لك أن تثبت هذا الكتاب وتحكم بصحته مع علمك بلعنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- المتخذين (¬5) السُّرُجَ على القبور؟ فأمسك عن إثباته، وقال: الأمر كما قلت أو كما قال. ومن ذلك أن يشترط القراءة عند قبره دون البيوت التي {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ¬
وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ [يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ]} (¬1) [النور: 36] والناس لهم [فيها] (¬2) قولان: أحدهما: أن القراءة لا تصل إلى الميت، فلا فَرْقَ [بين] (¬3) أن يقرأ عند القبر أو بعيدًا منه عند هؤلاء. [و] (¬4) الثاني: أنها تصل، ووصولها فرع حصول الثواب (¬5) للقارئ، ثم ينتقل منه إلى الميت فإذا كانت قراءة القارئ ومجيئه إلى القبر إنما هو لأجل الجعل، [و] (3) لم يقصد به التقرب إلى اللَّه لم يحصل له ثواب فكيف ينقل عنه إلى الميت وهو فرعه؟ فما زاد بمجيئه إلى التربة إلا العناء والتعب (¬6) بخلاف ما إذا قرأ [اللَّه] (4) في المسجد أو غيره في مكان [يكون] (¬7) أسهل عليه وأعظم لإخلاصه، ثم جعل ثواب ذلك للميت وصل إليه. وذاكرت مرةً (¬8) بهذا المعنى بعض الفضلاء فاعترف به، وقال: لكن (¬9) بقي شيء آخر، وهو أن الواقف قد يكون قصد انتفاعه بسماع القرآن على قبره ووصول بركة ذلك إليه، فقلت له: انتفاعه بسماع القرآن مشروطٌ بحياته فلما مات انقطع عمله [كله] (4)، واستماع القرآن من أفضل الأعمال الصالحة، وقد انقطع بموته، ولو كان ذلك ممكنًا لكان السلف الطئب من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم أولى بهذا الحظ العظيم لمسارعتهم إلى الخير وحرصهم عليه ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فالذي لا شك فيه أنه لا يجب حضور التربة (¬10)، ولا تتعيَّن القراءة عند القبر. ¬
ونظير هذا ما لو وقف وقفًا يتصدَّق به عند القبر، كما يفعل (¬1) كثير من الجهال، فإن في ذلك من تعنية الفقير وإتعابه وإزعاجه من موضعه إلى الجبَّانة في حال الحر والبرد والضعف حتى يأخذ تلك الصدقة عند القبر مما لعله (¬2) أن يحبط أجرها ويمنع (¬3) انعقاده بالكلية. ومن هذا لو شرط واقف الخانقاه وغيرها على أهلها أن لا يشتغلوا بكتابة العلم وسماع الحديث والاشتغال بالفقه، فإن هذا شرط باطل مضاد لدين الإسلام لا يحل تنفيذه، ولا التزامه، ولا يستحق من قام به شيئًا من [هذا] (¬4) الوقف، فإن مضمون هذا الشرط أن الوقف المعيَّن إنما يستحقه من ترك ما يجب عليه من العلم النافع وجهل أمر اللَّه ورسوله ودينه (¬5)، و [جهل] (¬6) أسماءه وصفاته وسنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأحكام الثواب والعقاب، ولا ريب أن هذا الصنف [من] شرار خلق اللَّه وأمقتهم (¬7) عند اللَّه ورسوله وهم خاصة الشيطان وأولياؤه وحزبه {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19]. ومن ذلك أن يشترط الواقف أن لا يقرأ في ذلك المكان شيء من آيات الصفات وأحاديث الصفات، كما أمر به بعض [أعداء اللَّه] (¬8) من الجهمية لبعض الملوك، وقد وقف مسجدًا للَّه تعالى، ومضمون هذا الشرط المضاد لما بعث اللَّه به رسوله أن تُعطَّل أكثرُ آيات القرآن عن التلاوة والتَّدبُّر والتَّفهُّم (¬9)، وكثير من السنة أو أكثرها [عن] (4) أن تُذكر أو تُروى أو تُسمع أو يُهتدى بها ويُقام سوق التجهم والكلام المبتدع [المذموم] (¬10) الذي هو كفيل بالبدع والضلالة والشك والحيرة (¬11). ومن ذلك أيضًا أن يقف مكانًا أو مسجدًا أو مدرسة أو رباطًا على طائفة معينة [من الناس] (¬12) دون غيرهم كالعجم مثلًا أو الروم أو الترك أو غيرهم، ¬
وهذا من أبطل الشروط؛ [فإن مضمونه] (¬1) أن أقارب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذرية المهاجرين والأنصار لا يحل لهم أن يصلّوا في هذا المسجد، ولا ينزلوا في هذا الرباط أو المدرسة أو الخانقاه (¬2)، بل لو أمكن أن يكون أبو بكر وعمر وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان -رضي اللَّه عنهم- بين أظهرنا حرم عليهم النزول بهذا المكان الموقوف. وهذه الشروط والاشتغال بها والاعتداد بها من أسمج الهذيان، ولا تصدر من قلب طاهر ولا ينفذها من شم روائح العلم الذي بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. وكذلك لو شرط أن يكون المقيمون بهذه الأمكنة طائفة من أهل البدع، كالشيعة والخوارج والمعتزلة والجهمية (¬3) والمبتدعين في أعمالهم، كأصحاب الإشارات، واللاذن، والشير (¬4)، والتغبير (¬5) وأكل الحيَّات وأصحاب النار وأشباه الذئاب المشتغلين بالأكل والشرب والرقص لم يصح هذا الشرط، وكان غيرهم أحق بالمكان منهم وشروط اللَّه أحق. فهذه الشروط [وأضعافها] (¬6) وأضعاف أضعافها من باب التعاون على الإثم والعدوان واللَّه تعالى إنما أمر بالتعاون على البر والتقوى، وهو ما شرعه على لسان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دون ما لم يشرعه فكيف بما شُرع (¬7) خلافه؟! والوقف إنما يصح على القُرَب والطاعات، [ولا فرق] (6) في ذلك بين مصرفه وجهته وشرطه (8)، فإن الشرط صفة وحال في الجهة [والمصرف] (6) فإذا اشترط (¬8) أن يكون [المصرف] (¬9) قربة وطاعة فالشرط كذلك، ولا يقتضي الفقه إلا هذا، ولا ¬
يمكن أحدًا أن ينقل عن أَئمة الإسلام الذين لهم في الأمة لسان صدق ما يخالف ذلك [البتة] (¬1)، بل نَشهد باللَّه وللَّه (¬2) أن الأئمة لا تخالف ما ذكرناه (¬3)، [وأن هذا نفس قولهم، وقد أعاذهم اللَّه من غيره] (1)، وإنما يقع الغلط لكثير (¬4) من المنتسبين إليهم في فهم أقوالهم، كما وقع لبعض من نصب نفسه للفتوى من أهل عصرنا: ما تقول السادة الفقهاء في رجل وقف على أهل الذمة هل يصح ويتقيد الاستحقاق بكونه منهم؛ فأجاب بصحة الوقف وتقييد الاستحقاق بذلك الوصف، وقال: هكذا قال أصحابنا، ويصح الوقف على أهل الذمة (¬5)، فأنكر ذلك شيخنا عليه غاية ¬
الإنكار، وقال: مقصود الفقهاء بذلك أن كونه من أهل الذمة ليس مانعًا من صحة الوقف عليه بالقرابة (¬1) أو بالتعيين وليس مقصودهم أن الكفر باللَّه ورسوله وعبادة الصليب (¬2) وقولهم: إن المسيح ابن اللَّه شرط لاستحقاق الوقف حتى أن مَنْ آمن باللَّه ورسوله واتّبع دين الإسلام لم يحل له أن يتناول بعد ذلك من الوقف فيكون حل تناوله مشروطًا بتكذيب اللَّه ورسوله والكفر بدين الإسلام، ففرق (¬3) بين كون وصف الذمة مانعًا من صحة الوقف وبين كونه مقتضيًا، فغلظ طبع هذا المفتي وكثف فهمه وغلظ حجابه [عن] (4) ذلك [ولم يميز] (¬4). ونظير هذا أن يقف على الأغنياء، فهذا يصح إذا كان الموقوف عليه غنيًا أو ذا قرابة (¬5)، فلا يكون الغنى مانعًا، ولا يصح أن يكون جهة الاستحقاق هو الغنى فيستحق ما دام غنيًا فإذا افتقر واضطر إلى ما يقيم أوَدَه حرم عليه تناول الوقف، فهذا لا يقوله إلا مَنْ حُرم التّوفيق وصَحِبه الخُذْلان، ولو رأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[أحدًا] (4) من الأمة (¬6) يفعل [لك] (4) لاشتدَّ إنكاره وغضبه [عليه، ولما أقره ألبتة] (4)، وكذلك لو رأى رجلًا من أمته قد وقف على من يكون من [الرجال] (4) عزبًا غير متأهل، فإذا تأهّل حرم عليه تناول الوقف لاشتد غضبه ونكيره (¬7) عليه، بل دينه يخالف هذا، فإنه [كان] (4) إذا جاءه مال أعطى العزب حظًا وأعطى الآهل حظين (¬8)، وأخبر أن ثلاثة حق على اللَّه عونهم [فذكر منهم] (4): الناكح يريد العفاف (¬9). ¬
وملتزمُ (¬1) هذا الشرط حقٌّ عليه عدم إعانة الناكح. ومن هذا أن يشترط أنه لا يستحق الوقف إلا من ترك الواجب عليه من طلب النصوص ومعرفتها والتفقه في متونها والتمسك بها إلى الأخذ بقول فقيه معيَّن يَتْرك لقوله قول من سواه، بل يترك النصوص لقوله، فهذا شرطٌ من أبطل الشروط، وقد صرح الشافعي (¬2) وأحمد [رحمهما اللَّه تعالى] (¬3) بأن الإمام إذا شرط [على القاضي] (¬4) أن لا يقضي إلا بمذهب معيَّن بطل الشرط، ولم يجز له التزامه (¬5)، وفي بطلان التولية قولان مَبنيَّان على بطلان العقود بالشروط الفاسدة، وطرد هذا أن المفتي متى (¬6) شرط عليه ألا يفتي إلا بمذهب معين بطل [الشرط] (¬7) وطرده أيضًا أن الواقف متى (6) شرط على الفقيه أن لا ينظر ولا يشتغل إلا بمذهب معيَّن بحيث يهجر [له] (7) كتاب اللَّه وسنة رسوله [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (7) وفتاوى الصحابة [ومذاهب العلماء] (7) لم يصح هذا الشرط قطعًا، [ولا يجب التزامه، بل، ولا يسوغ. وعقد هذا الباب وضابطه] (¬8) أن المقصود [إنما هو] (3) التعاون على البر والتقوى، وأن يطاع اللَّه ورسوله بحسب الإمكان، [وأن يُقدَّم مَنْ قدَّمه اللَّه ورسوله ويُؤخَّر مَنْ أخَّره اللَّه ورسوله] (¬9)، ويُعتبر ما اعتبره اللَّه ورسوله، ويُلغى ما ألغاه اللَّه ورسوله، وشروط الواقفين لا تزيد على نذر الناذرين؛ فكما أنه لا يُوفَّى من النذور (¬10) إلا بما كان طاعةً للَّه ورسوله، [فلا يلزم (¬11) من شروط الواقفين إلا ما كان طاعة للَّه ورسوله. فإن قيل: الواقف إنما نَقَل مالَه لمن قام بهذه الصفة فهو الذي رَضي بنقل ماله إليه، ولم يَرضَ بنقله إلى غيره وإن كان أفضل منه، فالوقفُ يجري مجرى الجعالة، فإذا بذل الجاعل ماله لمن يعمل عملًا لم يستحقه من عمل غيره، وإن ¬
كان بينهما في الفضل كما بين السماء والأرض. قيل: [هذا] (¬1) منشأ الوهم والإيهام في هذه المسألة، وهو الذي قام بقلوب ضعفة المتفقِّهين فالتزموا وألزموا من الشروط بما غيره أحبُّ إلى اللَّه وأرضى له منه بإجماع الأمة بالضرورة المعلومة من الدين. وجواب هذا الوهم أن الجاعل يبذل ماله في غرضه الذي يريده إما محرمًا أو مكروهًا أو مباحًا أو مستحبًا أو واجبًا (¬2) لينال غرضه الذي بذل فيه ماله، وأما الواقف فإنما يبذل ماله فيما يقربه إلى اللَّه [وثوابه، فهو لما علم أنه لم يبق له تمكَّن من بذل ماله في أغراضه أحبَّ أن يبذله فيما يقربه إلى اللَّه] (¬3) وما هو أنفع له في الدنيا والآخرة (¬4)، ولا يشك عاقل أن هذا غرض الواقفين، بل، ولا يشك واقف أنَّ هذا غرضه واللَّه سبحانه وتعالى ملَّكه المال لينتفعَ به في حياته وأذن له أن يحبسه لينتفع به بعد وفاته فلم يملِّكه أن يفعل به بعد موته ما كان يفعل به في حياته، بل حجر عليه فيه وملكه ثلثه يُوصي به بما يجوز ويسوغ أن يوصي به حتى إن خاف (¬5) أو جار أو أثم في وصيته جَازَ (¬6)، بل وجَبَ على الموصي (¬7)، والورثة رد ذلك الجور والحيف (8) والإثم؛ ورفع سبحانه الإثم عمن يرد ذلك الحيف (¬8) والإثم من الورثة والأوصياء، فهو سبحانه لم يملكه أن يتصرف في تحبيس ماله بعده (¬9) إلا على وجه يقرّبه إليه ويدنيه من رضاه لا على أي وجه [أراد، ولم يأذن اللَّه ولا رسوله للمكلف أن يتصرف في تحبيس ماله بعده على أي وجه أراده] (¬10) أبدًا، فأين في كلام اللَّه ورسوله أو أحد من الصحابة ما يدل على أن لصاحب المال أن يقف ما أراد على من أراد، ويشرط ما أراد، ويجب على الحكام والمفتين أن ينفذوا وقفه ويلزموا بشروطه] (¬11)، وأما ما قد لهج به بعضهم من قوله: "شروط الواقف (¬12) كنصوص الشارع"، [فهذا يرادُ به معنى صحيح ومعنى باطل] (¬13)، فإن أريد أنها كنصوص الشارع في الفهم والدلالة وتقييد ¬
مطلقها بمقيدها وتقديم خاصها على عامها والأخذ فيها بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فهذا حق من حيث الجملة، وإن أريد أنها كنصوص الشارع في وجوب مراعاتها والتزامها وتنفيذها، فهذا من أبطل الباطل (¬1)، بل يبطل منها ما لم يكن طاعة للَّه ورسوله، وما غيره أحب إلى اللَّه [وأرضى له ولرسوله منه] (2)، وينفذ منها ما كان قربة وطاعة، [كما تقدم] (¬2). ولما نذر (¬3) أبو إسرائيل أن يصوم ويقوم في الشمس، [ولا يجلس] (2)، ولا يتكلم أمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يجلس في الظل ويتكلم ويتم صومه (¬4)، فألزمه (¬5) بالوفاء بالطاعة ونهاه عن الوفاء بما ليس بطاعة. وكذا (¬6) أخت عقبة بن عامر لما نذرت الحج ماشية مكشوفة الرأس أمرها أن تختمر [وتركب] وتحج وتهدي بَدَنة (¬7). ¬
فهكذا الواجب على أتباع الرسول صلوات اللَّه وسلامه عليه [وعلى آله] (¬1) أن يعتمدوا في شروط الواقفين، وباللَّه التوفيق. ¬
[لا يطلق المفتي الجواب إذا كان في المسألة تفصيل]
[لا يطلق المفتي الجواب إذا كان في المسألة تفصيل] الفائدة الثامنة عشرة (¬1): ليس للمفتي أن يُطلق الجواب في مسألة فيها تفصيل إلا إذا علم أن السائل إنما سأل عن أحد تلك الأنواع، بل إذا كانت المسألة تحتاج إلى التفصيل [استفصله] (¬2)، كما استفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا لما أقرَّ بالزنا هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه (¬3) عن الحقيقة استفصله: هل به جنون فيكون إقراره غير معتبر أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: [بأن أمر باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاحٍ استفصله] (2). هل أحصن [أم لا] (2)؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد (¬4). ومن هذا قوله لمِن سألته: هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال: "نعم إذا رأت الماء" (¬5)، فتضمن هذا الجواب الاستفصال بأنها يجب عليها الغسل في حال، ولا يجب عليها في حال. ومن ذلك أن أبا النَّعمان بن بشير سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يَشْهد على غلام نَحَله ابنَه فاستفصله، وقال: أكُلَّ ولدك نحلته (¬6) كذلك؟ فقال: لا، فأبى أن يشهد (¬7)، وتحت هذا الاستفصال (¬8) أنَّ ولدك إن كانوا اشتركوا في النَّحل صح ذلك وإلا لم يصح (¬9). ومن ذلك أَن ابنَ أم مكتوم استفتاه هل يجد له رخصة أن يصلي في بيته (¬10)؟ فقال: هل تسمع النداء؟ قال: نعم. قال: "فأجب" (¬11) فاستفصله بين أن يسمع النداء أو لا يسمعه. ¬
ومن ذلك أنه [لما] (¬1) استُفتي عن رجلٍ وقع على جارية امرأته فقال: "إن كان استكرهها (¬2) فهي حرَّة وعليه مثلها، وإن كانت طاوعته فهي له وعليه لسيدتها مثلها" (¬3)، وهذا كثير في فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-. فإذا سئل المفتي عن رجل دفع ثوبه إلى قصَّار يقصره، فأنكر القصَّار الثوب ثم أقر به هل يستحق الأُجرة على القصارة أم لا؟ (¬4)، فالجواب بالإطلاق خطأ نفيًا وإثباتًا، والصواب التفصيل، فإن كان قصره [قبل الجحود (¬5)، فله أجرة القصارة لأنه قصره لصاحبه، وإن كان] (¬6) قصره بعد جحوده، فلا أجرة له لأنه قصره لنفسه. وكذلك إذا سئل عن رجلٍ حَلَف [لا] (¬7) يفعل كذا [وكذا ففعله] (¬8) لم يجز [له] (¬9) أن يفتي بحنثه، حتى يستفصله (¬10): هل كان ثابت العقل وقت فعله أم لا؟ وإذا كان ثابت العقل فهل كان مختارًا في يمينه أم لا؟ وإذا كان مختارًا فهل استثنى [عقيب يمينه أم لا] (11)؟ وإذا لم يستثن فهل فعل المحلوف عليه عالمًا ذاكرًا [مختارًا] (11) أم كان ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا؟ وإذا كان عالمًا [مختارًا] (11) فهل كان المحلوف عليه داخلًا في قصده ونيته [أو قصد عدم دخوله فخصَّصه بنيته] (¬11) أو لم يقصد دخوله، ولا نوى تخصيصه، فإن الحنث يختلف باختلاف ذلك كله. ورأينا من مفتي العصر من بادر إلى التحنيث (¬12) فاستفصلناه فوجدناه (¬13) غير حانث في مذهب من أفتاه، وَقَع ذلك مرارًا، فخطر المفتي عظيم فإنه موقّع عن اللَّه ورسوله زاعم أن اللَّه أمر بكذا وحرَّم كذا وأوجب كذا (¬14). ومن ذلك أن يستفتيه عن الجمع بين الظهر والعصر [مثلًا] (11) هل يجوز له أن يفرق بينهما فجوابه بتفصيل المسألتين، وأن الجمع إن كان في وقت الأُولى لم ¬
يجز التفريق، هان كان في وقت الثانية جاز (¬1). ومن ذلك أنه لو قال له: "إن لم تَحرِق هذا المتاع أو تهدم هذه الدار أو تتلف هذا المال وإلا قتلتك"، ففعل، هل يضمن [أم لا] (¬2)؟ جوابه بالتفصيل، فإن كان المال المكره على إتلافه للمُكْرِه لم يضمن، وإن كان لغيره ضمنه. وكذلك لو سأله المظاهر إذا وطئ في أثناء الكفارة هل يلزمه الاستئناف أو يبني؟ فجوابه بالتفصيل أنه إنْ كان كفَّر بالصيام فوطئ في أثنائه لزمه الاستئناف، وإن كفَّر بالإطعام لم يلزمه الاستئناف وله البناء، فإنَّ حكم تتابع الصوم وكونه قبل المسيس قد انقطع بخلاف الإطعام. وكذلك لو سأله عن المكفِّر بالعتق إذا عتق عبدًا مقطوعة إصبعه فجوابه بالتفصيل: إن كان إبهامًا لم يجزه وإلا أجزأه، فلو قال له: مقطوع الإصبعين وهما الخنصر والبنصر فجوابه بالتفصيل أيضًا إن كانا من يد واحدة لم يجزه (¬3)، وإن كانت كل أصبع من يد أجزأه. وكذلك لو سأله عن فاسق التقط لقطة أو لقيطًا هل يقر في يده؟ فجوابه بالتفصيل: تقرّ اللقطة دون اللقيط لأنها كسب، فلا يمنع منه الملتقط، وثبوت يده على اللقيط ولاية وليس من أهلها. ولو قال له: "اشتريت سمكة فوجدت في جوفها مالًا ما أصنع به؟ " فجوابه إن كان لؤلؤة أو جوهرة فهو للصياد لأنه (¬4) ملكه بالاصطياد، ولم تطب نفسه لك به، وإن كان خاتمًا أو دينارًا فهو لقطة يجب تعريفها كغيرها. وكذلك لو قال له: "اشتريت حيوانًا فوجدت في جوفه جوهرة" فجوابه إن كانت شاةً فهي لقطة للمشتري يلزمه تعريفها حولًا، ثم هي له بعده، وإن كانت (¬5) ¬
سمكة أو غيرها من دواب البحر فهي ملك الصياد (¬1)، والفرق واضح. ومن ذلك لو سأله عن عبد التقط لقطة، فأنفقها، هل تتعلق بذمته أو برقبته؟ فجوابه أنه [إن] (¬2) [كان] (¬3) أنفقها قبل التعريف حولًا فهي في رقبته، وإن أنفقها بعد حول التعريف فهي في ذمته يتبع بها بعد العتق، نصَّ عليها (¬4) الإمام أحمد مفرِّقًا بينهما لأنه قبل الحول ممنوع منها، فإنفاقه لها جناية منه عليها وبعد الحول غير ممنوع منها بالنسبة إلى مالكها [فإذا أنفقها في هذه الحال] (2) فكأنه أنفقها بإذن مالكها فتتعلق بذمته كديونه. ومن ذلك لو سأله عن رجل جَعَلَ جُعْلًا لمن ردَّ عليه لُقَطته فهل يستحقه من ردَّها؟ فجوابه إن التقطها قبل بلوغ قول الجاعل لم يستحقه لأنه لم يلتقطها لأجل الجُعْل، وقد وجب عليه ردها بظهور مالكها، وإن التقطها بعد أن بلغه الجُعل استحقه. ومن ذلك أن يسأل [فيقول] (2): هل يجوز للوالدين أن يتملَّكا مال ولدهما أو يرجعا (¬5) فيما وهباه؟ فالجواب أن ذلك للأب دون الأم. وكذلك إذا شهد له اثنان من ورثته غير الأب والابن بالجرح، فالجواب فيه تفصيل، فإن شهدا قبل الاندمال لم تُقبل (¬6) للتهمة، وإن شهدا بعده قبلت لعدم التهمة. ومن ذلك إذا (¬7) سئل عن رجل [ادَّعى نكاح امرأة فأقرَّت له هل يقبل إقرارها (¬8) أم لا؟ جوابه بالتفصيل إن] (¬9) ادعى زوجيتها وحده قبل إقرارها، وإن ادعاها معه آخر لم يقبل. [ومن ذلك] (¬10) لو سئل عن رجل مات فادَّعى ورثَتُه شيئًا من تركته، وأقاموا شاهدًا حلف كل منهم يمينًا مع الشاهد، فإن حلف بعضهم استحق قدر نصيبه من المدَّعي، وهل يشاركه من لم يحلف في قدر حصته التي انتزعها بيمينه أم لا [يشاركه؟ فالجواب فيه تفصيل إن كان المُدَّعى دينًا لم يشاركه] (9) وينفرد الحالف ¬
بقدر حصته، وإن (¬1) كان عينًا شاركه من لم يحلف لأن الدين غير متعيّن، فمن حلف فإنما يثبت (¬2) بيمينه مقدار حصته (¬3) من الدين لا غيره، ومن لم يحلف لم يثبت له حق، وأما العين فكل واحد من الورثة يقر أن كل جزء منها مشترك بين جماعتهم وحقوقهم متعلقة بعينه فالمخلص (¬4) مشترك بين جماعتهم والباقي غصب على جماعتهم. ومن ذلك إذا سئل عن رجل استعدى على [خصمه، ولم يُحرِّر الدعوى هل يُحضره الحاكم؟ الجواب بالتفصيل، إن استعدى على] (¬5) حاضرٍ في البلد أحضره لعدم المشقة، وإن كان غائبًا لم يحضره حتى يحررها. ومن ذلك لو سئل عن رجل قطع عضوًا من صيد وأفلت هل يحلُّ أكل العضو؟ الجواب بالتفصيل إن كان صيدًا بحريًا حلَّ أكله، وإن كان بريًا لم يحل. ومن ذلك لو سئل عن تاجر أهل الذمة هل يُؤخذ منه العشر؟ فالجواب بالتفصيل إن كان رجلًا أخذ منه العشر، وإن كانت امرأة ففيها تفصيل إن اتجرت إلى أرض الحجاز أخذ منها [العشر] (¬6)، وإن اتجرت إلى [أرض] (¬7) غيرها لم يؤخذ منها [شيء] (¬8)؛ لأنها تقر في غير أرض الحجاز بلا (¬9) جزية. ومن ذلك لو سئل عن ميّت مات فطلب الأب ميراثه، ولم يعلم من [هم] (¬10) الورثة غيرُه، كم يُعطى الأب؟ فالجواب بالتفصيل إن كان الميت ذكرًا أعطي الأب أربعة من سبعة وعشرين [سهمًا؛ لأن غاية ما يمكن أن يقدر معه زوجة وأم وابنتان فله أربعة بلا شك من سبعة وعشرين] (¬11)، وإن كان الميت أنثى فله سهمان من خمسة عشر [(قطعًا) (¬12)؛ لأن أكثر ما يمكن أن يقدر [معه] (¬13) زوج وأم وابنتان فله سهمان من خمسة عشر قطعًا. فإن قال السائل: مات ميت وترك ثلاث بنات ابن بعضهن أسفلُ من بعض، ¬
مع العليا جدها، قال المفتي: إنْ كان الميت ذكرًا فالمسألة محال لأن جدَّ العليا نفس الميت، وإنْ كان الميت أنثى، فجد العليا إما أنْ يكون زوج الميتة (¬1) أو لا يكون كذلك، فإن كان زوجها فله الربع، وللعليا النّصف، وللوسطى السدس تكملة الثلثين، والباقي للعصبة. فلو قال السائل: ميتٌ خلَّف ابنتين وأبوين، ولم تقسم التركة حتى ماتت إحداهما وخلفت من خلفت، قال المفتي: إن كان الميت ذكرًا فمسألته من ستة: للأبوين سهمان ولكل بنت سهمان، فلما ماتت إحداهما خلفت جدة وجدًا وأختًا لأب فمسألتها من ستة وتصح من ثمانية عشر وتركتها سهمان توافق مسألتها بالنصف فترد إلى تسعة، ثم تضربها في ستة تكون أربعة وخمسين، ومنها تصح، وإن كان الميت أنثى ففريضتها أيضًا من ستة، ثم ماتت إحدى البنتين عن سهمين وخلفت جدة وجدًا من أم وأختًا لأب، فلا شيء للجد وللجدة السدس وللأخت النصف والباقي للعصبة فمسألتها من ستة وسهامها اثنان فاضرب ثلاثة في المسألة الأولى تكن ثمانية عشر] (¬2). والمقصود التنبيه على وجوب التفصيل إذا كان [يجد] (¬3) السؤال محتملًا، وباللَّه التوفيق (¬4)، فكثيرًا ما يقع غلط المفتي في هذا القسم فالمفتي ترد عليه (¬5) المسائل في قوالب متنوعة جدًا، فإنْ لم يتفطَّنْ لحقيقة السؤال وإلا هلك وأَهْلَكَ (¬6)، فتارة تُورَد عليه المسألتان صورتهما واحدة وحكمهما مختلِفٌ، فصورة (¬7) الصحيح والجائز صورة الباطل والمحرَّم ويختلفان في الحقيقة (¬8)، فيذهل بالصورة عن الحقيقة، فيجمع بين ما فرق اللَّه ورسوله [بينه] (¬9)، وتارة تورد عليه المسألتان صورتهما مختلفة وحقيقتهما واحدة وحكمهما واحد، فيذهل باختلاف الصورة عن تساويهما [في الحقيقة] (8)، فيفرق بين ما جمع اللَّه بينه، وتارة تُورد عليه المسألة [مجملة] (¬10) تحتها عدة أنواع، فيذهب وهمُه إلى واحد ¬
منها ويذهل عن (¬1) المسئول عنه [منها] (¬2) فيجيب بغير الصواب، وتارة تُورد عليه المسألة الباطلة في دين اللَّه في قالبٍ مُزخرف ولفظ حسنٍ، فيبادر (¬3) إلى تسويغها وهي من أبطل الباطل، وتارة بالعكس. فلا إله إلا اللَّه، كم هاهنا من مزلّة أقدام، ومحل (¬4) أوهام، وما دعا محقٍّ إلى حق إلا أخرجه الشيطان على لسان أخيه ووليه من الإنس في قالب تنفر عنه خفافيشُ البصائر وضعفاء العقول، وهم أكثر الناس، وما حذر أحد من باطل إلا أخرجه الشيطان على لسان وليه من الإنس في قالب [مزيَّف] (¬5) مزخرف يستخفُّ به عقولَ ذلك الضرب من الناس فيستجيبون له، وأكثرُ الناس نظرهم قاصر على الصور لا يتجاوزها (¬6)، إلى الحقائق فهم محبوسون في سجن الألفاظ، مقيَّدون بقيود العبارات، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ] (¬7) فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام: 112 - 113]. وأذكر لك من هذا مثالًا (¬8) وقع في زماننا، وهو أن السلطان أمر أن يلزم أهل الذمة بتغيير (¬9) عمائمهم، وأن تكون خلاف ألوان عمائم المسلمين فقامت لذلك قيامتهم وعظم عليهم، وكان في ذلك من المصالح وإعزاز الإِسلام (¬10) وإذلال الكفرة (¬11) ما قرَّت به عيون المسلمين فألقى الشيطان على ألسنة أوليائه وإخوانه أن صوَّروا فتيا يتوصلون بها إلى إزالة هذا الغيار (¬12)، وهي: ما تقول السادة العلماء في قوم من أهل الذمة أُلزموا بلباس غير لباسهم المعتاد، وزي غير زيهم المألوف، فحصل لهم بذلك ضرر عظيم في الطرقات والفلوات وتجرأ عليهم بسببه السفهاء والرعاع (¬13) وآذوهم غاية الأذى فطمع بذلك في إهانتهم والتعدي ¬
عليهم؟ فهل يسوغ للإمام ردهم إلى زيهم الأول، وإعادتهم إلى ما كانوا عليه مع حصول التميز بعلامة يُعرفون بها؟ وهل في ذلك مخالفة (¬1) للشرع أم لا؟ فأجابهم مَنْ مُنِع التوفيق، وصُدَّ عن الطَّريق بجواز ذلك، وإن للإمام (¬2) إعادتهم إلى ما كانوا عليه، قال شيخنا: فجاءتني الفتوى، فقلتُ: لا تجوز إعادتهم [إلى ما كانوا عليه] (¬3) ويجب إبقاؤهم على [الزي] (¬4) الذي يتميزون به عن المسلمين، فذهبوا، ثم غيَّروا الفتوى (¬5)، ثم جاءوا بها في قالب آخر، فقلت: لا تجوز إعادتهم، فذهبوا، ثم أتوا (¬6) بها في قالب آخر، فقلت: هي المسألة المعينة، وإنْ خرجت في عدة قوالب، ثم ذهب إلى السلطان وتكلَّم عنده بكلامٍ عجب منه الحاضرون، فأطبق القوم على إبقائهم (¬7) وللَّه الحمد. ونظائر هذه الحادثة أكثر من أن تحصى، فقد ألقى الشيطان على ألسنة أوليائه أن صوروا فتوى فيما يحدث ليلة النصف (¬8) في الجامع وأخرجوها في قالب حسن، حتى استخفوا عقل بعض المفتين فأفتاهم بجوازه، وسبحان اللَّه كم توصل بهذه الطريق (¬9) إلى إبطال حق وإثبات باطل! وأكثر الناس إنما هم أهل ظواهر في الكلام واللباس والأفعال وأهل النقد منهم الذين يعبرون من الظاهر إلى حقيقته وباطنه لا يبلغون عشر معشار غيرهم (¬10)، ولا قريبًا من ذلك، فاللَّه المستعان. ¬
[على المفتي ألا يفصل إلا حيث يجب التفصيل]
[على المفتي ألا يُفصِّل إلا حيث يجب التفصيل] الفائدة التاسعة عشرة (¬1): إذا سئل عن مسألة من الفرائض لم يجب عليه أن يذكر موانع الإرث، فيقول (¬2): بشرط ألا يكون كافرًا، ولا رقيقًا، ولا قاتلًا، وإذا سئل عن فريضةٍ (¬3) فيها أخ، وجب عليه أن يقول: إن كان لأب فله كذا، وإن كان لأم فله كذا، وكذلك (¬4) إذ سئل عن الأعمام وبنيهم وبني الإخوة وعن الجد والجدة، فلا بد من التفصيل والفرق بين الموضعين [أن السؤال] (¬5) المطلق في الصورة الأولى يدل على الوارث الذي لم يقم به مانع من الميراث، كما لو سئل عن رجل باع أو آجر أو تزوج أو أقرَّ لم يجب عليه أن يذكر موانع (¬6) الصحة من الجنون والإكراه ونحوهما إلا حيث (¬7) يكون الاحتمال متساويًا. ومن تأمَّل أجوبة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رآه يستفصل حيث تدعو الحاجة إلى الاستفصال ويتركه حيث لا يحتاج إليه، ويحيل فيه مرة على ما عُلم من شَرعه ودينه من شروط الحكم وتوابعه، بل هذا كثير في القرآن كقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وقوله: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]، وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. ولا يجب على المتكلِّم [والمفتي] (¬8) أن يستوعب شرائط الحكم وموانعه كلها عند ذكر [حكم] (8) المسألة، ولا ينفع السائل [والمتكلم] (¬9) والمتعلم قوله: "بشرطه وعدم موانعه" ونحو ذلك، فلا بيان أتم من بيان اللَّه ورسوله، ولا هدي أكمل من هدي الصحابة والتابعين، وباللَّه التوفيق. [هل يجوز للمقلد أن يفتي؟] الفائدة العشرون: لا يجوز للمقلد أن يفتي في دين اللَّه بما هو مقلد فيه وليس على بصيرة [فيه] (8) سوى أنه قول من قلده دينه، هذا إجماع من السلف كلهم، وصرح به الإِمام أحمد والشافعي [-رضي اللَّه عنهما-] (8)، وغيرهما (¬10). ¬
قال أبو عمرو بن الصلاح: "قطع [الإمام] (¬1) أبو عبد اللَّه الحليمي إمام الشافعيين بما وراء النهر والقاضي أبو المحاسن الروياني صاحب "بحر المذهب" (¬2)، وغيرهما: بأنه لا يجوز للمقلد أن يُفتي بما هو مقلِّدٌ فيه" (¬3). وقال: "وذكر [الشيخ] (¬4) أبو محمد الجويني في "شرحه" لرسالة الشافعي عن شيخه أبي بكر القفَّال المروزي: أنه يجوز لمن حفظ مذهب (¬5) صاحب مذهب ونصوصه أن يُفتي به، [وإن لم يكن عارفًا بغوامضه وحقائقه] (4) وخالفه الشيخ أبو محمد، وقال: لا يجوز [أن يفتي بمذهب غيره إذا لم يكن مُتبحِّرًا فيه عالمًا بغوامضه وحقائقه، كما لا يجوز] (4) للعامي الذي جمع فتاوى المفتين أن يفتي بها، [وإذا كان متبحرًا فيه جاز أن يفتي به] (¬6). وقال أبو عمرو: "من قال: "لا يجوز له أن يفتي بذلك" معناه [أنه] لا يذكره في صورة ما يقوله من عند نفسه، بل يضيفه إلى غيره ويحكيه عن إمامه الذي قلَّده، فعلى هذا مَنْ عددناه في أصناف المفتين [من] المقلدين ليسوا على الحقيقة من المفتين، ولكنهم قاموا مقام المفتين، وادّوا (¬7) عنهم فعُدّوا معهم، وسبيلهم [في] (¬8) ذلك أن يقولوا مثلًا: مذهب الشافعي كذا وكذا، ومقتضى مذهبه كذا وكذا، وما أشبه ذلك، ومن ترك منهم إضافة ذلك إلى إمامه فإن كان ذلك اكتفاء منه بالمعلوم عن الصريح (¬9)، فلا بأس" (¬10). قلت: ما ذكره أبو عمرو حسن، إلا أن صاحب هذه المرتبة يحرم عليه أن يقول: "مذهب الشافعي" لما لا يعلم أنه نصه الذي أفتى به، أو يكون شهرته بين ¬
[هل يجوز أن يقلد الفتوى المتفقه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة؟]
أهل المذهب شهرة لا يحتاج معها إلى الوقوف على نصه كشهرة مذهبه في الجهر بالبسملة والقنوت في الفجر، ووجوب تبييت النية للصوم في الفرض (¬1) من الليل، ونحو ذلك، فأما مجرَّد ما يجد (¬2) في كتب من انتسب إلى مذهبه من الفروع، فلا يسعه أن يضيفها إلى نصه ومذهبه بمجرد وجودها في كتبهم، فكم فيها من مسألة لا نص له فيها البتة، ولا ما يدل عليه؟ وكم فيها من مسألة نصّه على خلافها؟ وكم فيها من مسألة اختلف المنتسبون إليه في إضافتها إلى مقتضى نصه ومذهبه؟ فهذا يضيف إلى مذهبه إثباتها، وهذا يضيف إليه نفيها، فلا ندري كيف يسع المفتي عند اللَّه أن يقول: هذا مذهب الشافعي، وهذا مذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة؟ وأما قول الشيخ أبي عمرو: "إن لهذا المفتي أن يقول (¬3): هذا مقتضى مذهب الشافعي [مثلًا] (¬4) " فلعمر اللَّه لا يقبل ذلك من كل من نصب نفسه للفتيا حتى يكون عالمًا بمأخذ صاحب المذهب ومداركه وقواعده جَمْعًا وفَرْقًا، ويعلم أن ذلك الحكم مطابق لأُصوله وقواعده، بعد استفراغ وسعه في معرفة ذلك فيها إذا أخبر أن هذا مقتضى مذهبه كان له حكم أمثاله ممن قال بمبلغ علمه] (¬5)، ولا يكلِّف اللَّه نفسًا إلا وسعها. وبالجملة فالمفتي مخبر [عن الحكم الشرعي، وهو [إما] (¬6) مخبر عما فهمه عن اللَّه ورسوله، وإما مخبر] (¬7) عما فهمه من كتاب (¬8) أو نصوص من قلده دينه، وهذا لون وهذا لون، فكما لا يسع [الأول أن يخبر عن اللَّه ورسوله إلا بما علمه فكذا لا يسع] (7) الثاني أن يخبر عن إمامه الذي قلَّده دينه إلا بما يعلمه، وباللَّه التوفيق. [هل يجوز أن يقلَّد الفتوى المتفقه القاصر عن معرفة الكتاب والسنة؟] الفائدة الحادية والعشرون: إذا تفقَّه الرجل وقرأ كتابًا من كتب الفقه أو أكثر، وهو مع ذلك قاصر في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف والاستنباط والترجيح ¬
فهل يسوغ تقليده في الفتوى؟ فيه للناس أربعة أقوال: الجواز مطلقًا، والمنع مطلقًا، والجواز عند عدم المجتهد، ولا يجوز مع وجوده، والجواز إن كان مطلعًا على [مأخذ] (¬1) من يفتي بقولهم والمنع إن لم يكن مطلعًا. والصواب فيه التفصيل وهو أنه إن كان السائل يمكنه التوصل إلى عالم يهديه السبيل لم يحل له استفتاء مثل هذا, ولا يحل لهذا أن ينصب (¬2) نفسه للفتوى مع وجود هذا العالم، وإن لم يكن في بلدته (¬3) أو ناحيته غيره بحيث لا يجد المستفتي من يسأله سواه، فلا ريب أن رجوعه إليه أولى من أن يُقدم على العمل بلا علم، أو يبقى مرتكبًا في حيرته مترددًا في عماه وجهالته، بل هذا هو المستطاع من تقواه المأمور بها. ونظير هذه المسألة إذا لم يجد السلطان من يوليه إلا قاضيًا عاريًا عن (¬4) شروط القضاء لم يعطل البلد عن قاض، وولَّى الأمثل فالأمثل. ونظير هذا؛ لو كان الفسق هو الغالب على أهل تلك البلد (¬5)، وإن لم تقبل شهادة بعضهم على بعض وشهادته له تعطلت الحقوق وضاعت (¬6) قبل شهادة الأمثل فالأمثل (¬7). [ونظيرها] (3) ولو غلب الحرام [المحض] (¬8) أو الشبهة (¬9) حتى لم يجد الحلال المحض، فإنه يتناول الأمثل فالأمثل. ونظير هذا (¬10) لو شهد بعض النساء على بعض بحق في بدن أو عرض أو مال، وهن منفردات بحيث لا رجل معهن كالحمَّامات والأعراس، قبلت شهادة الأمثل فالأمثل منهن قطعًا، ولا يضيع اللَّه ورسوله حق المظلوم، و [لا] (¬11) يعطل إقامة دينه في مثل هذه الصورة أبدًا (¬12)، بل قد نبه اللَّه تعالى (¬13) على القبول في ¬
مثل هذه الصورة بقبول شهادة الكفار على المسلمين في السفر في الوصية في آخر سورة أنزلت في [القرآن] (¬1)، ولم ينسخها شيء ألبتة، ولا نَسَخ هذا الحكم كتابٌ، ولا سنة، ولا أجمعت الأمة على خلافه، ولا يليق بالشريعة سواه فالشريعة شرعت لتحصيل مصالح العباد بحسب الإمكان وأي مصلحة لهم في تعطيل حقوقهم إذا لم يحضر أسباب تلك الحقوق شاهدان حرَّان ذكران عدلان؟ بل إذا قلتم: تقبل شهادة الفساق حيث لا عدل، وينفذ حكم الجاهل والفاسق إذا خلا الزمان عن قاض عالم عادل (¬2) فكيف لا تقبل شهادة النساء إذا خلا جمعهن (¬3) عن رجل، أو شهادة العبيد إذا خلا جمعهم عن حر أو شهادة (¬4) الكفار بعضهم على بعض إذا خلا جمعهم (¬5) عن مسلم؟ وقد قبل ابن الزبير -رضي اللَّه عنهما- شهادة الصبيان بعضهم على بعض في تجارحهم (¬6)، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة (¬7)، ¬
و [قد] (¬1) قال به مالك (¬2) و [الإِمام] (¬3) أحمد (¬4) [رحمهما اللَّه تعالى] (3) في إحدى الروايتين عنه حيث يغلب على الظن صدقهم بأن يجيبوا (¬5) قبل أن يجتنبوا (¬6) أو يتفرقوا إلى بيوتهم، وهذا هو الصواب (¬7)، وباللَّه التوفيق. وكلام أصحاب أحمد في ذلك يخرج على وجهين، فقد منع كثير منهم الفتوى والحكم بالتقليد وجوزه بعضهم لكن على وجه الحكاية لقول المجتهد، كما قال أبو إسحاق بن شَاقْلا، وقد جلس في جامع المنصور فذكر قول أحمد أن المفتي ينبغي [له] (¬8) أن يحفظ أربع مئة ألف حديث، ثم يفتي فقال له رجل: أنت (¬9) تحفظ هذا؟ فقال (¬10): إن لم أحفظ هذا، فأنا أفتي بقول من كان يحفظه، وقال [أبو] (¬11) الحسن بن بشار من كبار أصحابنا: ما ضرَّ رجلًا عنده ثلاث مسائل أو أربع [مسائل] (¬12) من فتاوى الإِمام أحمد يستند إلى هذه السارية، ويقول: قال أحمد [بن حنبل] (¬13) رحمه اللَّه تعالى. ¬
[هل للعامي إذا علم مسألة أن يفتي فيها]
[هل للعامي إذا علم مسألة أن يفتي فيها] الفائدة الثانية والعشرون: إذا عرف العامِّيُّ حكم حادثة بدليلها فهل له أن يفتي به ويسوغ لغيره تقليده فيه؟ ففيه ثلاثة أوجه للشافعية [وغيرهم] (¬1). أحدها: الجواز؛ لأنه قد حصل له العلم بحكم تلك الحادثة عن دليلها، كما حصل للعالم، وإن تميَّز العالم عنه بقوة (¬2) يتمكن بها من تقرير الدليل ودفع المعارض له، فهذا قدر زائد على معرفة الحق بدليله. والثاني: لا يجوز له ذلك مطلقًا لعدم أهليته للاستدلال وعدم علمه بشروطه وما يعارضه، ولعله يظن دليلًا ما ليس بدليل. والثالث: إن كان الدليل من كتاب (¬3) أو سنة جاز [له] (1) الإفتاء، وإن كان غيرهما لم يجز؛ لأن القرآن والسنة خطاب لجميع المكلفين، فيجب على المكلف أن يعمل بما وصل إليه من كتاب ربه تعالى وسنة نبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ويجوز له أن يرشد غيره إليه ويدله عليه. [الخصال التي يجب أن يتصف بها المفتي] الفائدة الثالثة والعشرون: ذكر أبو عبد اللَّه بن بطة في "كتابه في الخلع" عن الإِمام أحمد أنه قال: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس (¬4) خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على كلامه نور. والثانية: أن يكون له [علم] (¬5) وحلم، ووقار، وسكينة. ¬
[النية ومنزلتها]
الثالثة: أن يكون قويًا على ما هو فيه، وعلى معرفته. الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس. الخامسة: معرفة الناس (¬1). وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحلِّه من العلم والمعرفة، فإن هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه. [النية ومنزلتها] فأمّا النية فهي رأس الأمر وعموده وأساسه وأصله الذي عليه يُبنى، فإنها روح العمل وقائده وسائقه (¬2)، والعمل تابعٌ لها [وعليها يُبنى] (¬3) يصح بصحتها ويفسد بفسادها وبها يُستجلب التوفيق وبعدمها يحصل الخذلان وبحسبها تتفاوت الدرجات في الدنيا والآخرة، فكم بين مريد بالفتوى وجه اللَّه ورضاه والقرب منه، وما عنده، ومريد بها وجه المخلوق ورجاء منفعته، وما يناله منه تخويفًا أو طمعًا فيفتي الرجلان بالفتوى الواحدة وبينهما في الفضل والثواب أعظم مما بين المشرق والمغرب هذا يُفتي لتكون كلمة اللَّه هي العليا ودينه هو الظاهر ورسوله هو المطاع، وهذا يفتي ليكون قوله هو المسموع، وهو المشار إليه وجاهه هو القائم سواء وافق الكتاب والسنة أو خالفهما فاللَّه المستعان. و [قد] (¬4) جرت عادة اللَّه التي لا تُبدَّل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه، ويلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة [والبغضة (¬5) ما هو اللائق به، فالمخلص له المهابة والمحبة، وللآخر المقت] (¬6) والبغضاء. ¬
[العلم والحلم والوقار والسكينة]
[العلم والحلم والوقار والسكينة] وأما قوله: "أن يكون له حلم، ووقار وسكينة" فليس صاحب العلم والفتيا إلى شيء أحوج منه إلى الحلم والسكينة والوقار، فإنها كسوة علمه وجماله، وإذا فقدها كان علمه كالبدن العاري من اللباس، وقال (¬1) بعض السلف: ما قُرِنَ شيءٌ إلى شيء أحسن من علمٍ إلى حلم (¬2). والناس هاهنا أربعة أقسام فخيارهم من أوتي الحلم والعلم (¬3)، وشرارهم من عدمهما، الثالث من أوتي علمًا، بلا حلم، الرابع عكسه، فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات فالحليم لا يستفزه (¬4) البدوات، ولا يستخفه الذين لا يعلمون، و [لا] (¬5) يقلقه أهل الطيش والخفة والجهل، بل هو وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورود أوائل الأمور (¬6) عليه، ولا تملكه أوائلها وملاحظته للعواقب تمنعه من أن (¬7) تستخفه دواعي الغضب والشهوة فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد، وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير فيؤثره ويصبر عليه وعند الشر فيصبر عنه، فالعلم يعرفه رشده والحلم يثبته عليه، وإذا شئت أن ترى بصيرًا بالخير والشر لا صبر له على هذا ولا عن هذا رأيته (¬8)، [وإذا شئت أن ترى صابرًا على المشاق لا بصيرة له رأيته] (¬9)، وإذا شئت أن ترى من لا صبر له، ولا بصيرة رأيته، وإذا شئت أن ترى بصيرًا صابرًا لم تكد، فإذا رأيته، فقد رأيت إمام هدى حقًا فاستمسك بغرزه (¬10) والوقار والسكينة، ثمرة الحلم ونتيجته. ¬
[حقيقة السكينة]
ولشدة الحاجة إلى السكينة وحقيقتها وتفاصيلها وأقسامها نشير إلى ذلك [إشارة] (¬1) بحسب علومنا القاصرة وأذهاننا الجامدة وعباراتنا الناقصة، ولكن نحن أبناء الزمان والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، ولكلّ زمانٍ دولةٌ ورجال. [حقيقة السكينة] فالسكينة (¬2) فعيلة من السكون، وهي (¬3) طمأنينة القلب واستقراره وأصلها في القلب ويظهر أثرها على الجوارح وهي عامة وخاصة. فسكينة الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم أخص مراتبها وأعلى أقسامها كالسكينة التي حصلت لإبراهيم الخليل، وقد ألقي في المنجنيق مسافرًا إلى ما أضرم له أعداء اللَّه من النار (¬4)، فلله تلك السكينة التي كانت في قلبه حين ذلك السفر! وكذلك السكينة التي حصلت لموسى، وقد غشيه فرعون وجنوده من ورائهم والبحر أمامهم، وقد استغاث بنو إسرائيل يا موسى إلى [أين] (¬5) تذهب بنا؟ هذا البحر أمامنا، وهذا فرعون خلفنا، وكذلك السكينة التي حصلت له وقت تكليم اللَّه له نداءً وإيحاءً (¬6) كلامًا حقيقة سمعه حقيقة بأذنه، وكذلك السكينة التي حصلت له (¬7)، وقد رأى العصا ثعبانًا [مبينًا] (¬8)، وكذلك السكينة التي نزلت عليه، وقد رأى حبال القوم وعصيهم كأنها تسعى فأوجس [في نفسه] (8) خيفة، وكذلك السكينة التي حصلت لنبينا -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقد أشرف عليه وعلى صاحبه عدوهما وهما في الغار فلو نظر أحدهم إلى تحت قدميه لرآهما، وكذلك السكينة التي نزلت عليه في مواقفه العظيمة وأعداء اللَّه (¬9) قد أحاطوا به كيوم بدر ويوم حنين ويوم الخندق وغيره، فهذه السكينة أمر فوق عقول البشر، وهي من أعظم معجزاته (¬10) عند أَرباب البصائر، فإن الكذب (¬11)، -ولا سيما على اللَّه تعالى- أقلق ما يكون وأخوف ما يكون وأشده اضطرابًا في مثل هذه المواطن فلو لم يكن للرسل ¬
[السكينة الخاصة]
صلوات اللَّه وسلامه عليهم من الآيات إلا هذه وحدها لكفتهم. [السكينة الخاصة] وأما الخاصة (¬1) فتكون لأتباع الرسل بحسب متابعتهم وهي سكينة الإيمان وهي سكينة تسكن القلوب عن الريب والشك، ولهذا أنزلها (¬2) اللَّه تعالى على المؤمنين في أَصعب المواطن أحوج ما كانوا إليها [{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4] فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم والجنود الداخلة فيهم وهي السكينة] (¬3) عند القلق والاضطراب الذي لم يصبر عليه مثل عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- (¬4)، وذلك يوم الحديبية قال [اللَّه] (4) [سبحانه و] (4) تعالى يذكر نعمته عليهم بإنزالها أحوج ما كانوا إليها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] لمّا علم اللَّه سبحانه [وتعالى] (4) ما في قلوبهم من القلق والاضطراب لمَّا منعهم كفار قريش من دخول (¬5) بيت اللَّه وحبسوا الهدي عن محله واشترطوا عليهم تلك الشروط الجائرة الظالمة فاضطربت قلوبهم وقلقت، ولم تطق الصبر فعلم تعالى ما فيها فثبتها بالسكينة (¬6) رحمةً منه ورأفة ولطفًا، وهو اللطيف الخبير وتحتمل الآية وجهًا آخر، وهو أنه سبحانه علم ما في قلوبهم من الإيمان [والخير] (4) ومحبته ومحبة رسوله فثبتها بالسكينة وقت قلقها واضطرابها، والظاهر أن الآية تعم الأمرين، وهو أنه علم ما في قلوبهم مما يحتاجون معه (¬7) إلى [إنزال السكينة، وما في قلوبهم من الخير الذي هو سبب] (¬8) إنزالها، ثم قال تعالى: [بعد ذلك] (4): {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] (¬9)} [الفتح: 26] لمَّا كانت حمية الجاهلية توجب من ¬
فصل [السكينة عند القيام بوظائف العبودية]
الأقوال والأعمال ما يناسبها جعل اللَّه في [قلوب أوليائه سكينة تقابل] (¬1) حمية الجاهلية وفي ألسنتهم كلمة التقوى مقابلة لما توجبه حمية الجاهلية من كلمة الفجور، فكان حظُّ المؤمنين السكينةَ في قلوبهم وكلمة التَّقوى على ألسنتهم، وحظُّ أعدائهم (¬2) حمية الجاهلية في قلوبهم، وكلمة الفجور والعدوان على ألسنتهم فكانت هذه السكينة وهذه الكلمة جندًا من جند اللَّه أيَّد بها [اللَّه] (¬3) رسوله والمؤمنين في مقابلة جند الشيطان الذي في قلوب أوليائه [وألسنتهم] (¬4). وثمرة هذه السكينة الطمأنينة الخبر (¬5) تصديقًا وإيقانًا وللأمر تسليمًا وإذعانًا، فلا تدع شبهة تعارض الخبر (5)، ولا إرادة تعارض الأمر، فلا تمر (¬6) معارضات السوء [بالقلب] (¬7) إلا وهي مجتازة [من] (¬8) مرور الوساوس الشيطانية التي يُبتلي بها العبد ليقوى إيمانه ويعلو عند اللَّه ميزانه بمدافعتها وردّها وعدم السكون إِليها، فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند اللَّه تعالى. فصل [السكينة عند القيام بوظائف العبودية] ومنها السكينة عند القيام بوظائف العبودية وهي التي تورث الخضوع والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على اللَّه تعالى (¬9) بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه، والخشوع نتيجة هذه السكينة وثمرتها، وخشوع الجوارح نتيجة خشوع القلب، وقد رأى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا يعبث، بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" (¬10). ¬
[أسباب السكينة]
فإن قلت (¬1): قد ذكرت أقسامها ونتيجتها وثمرتها وعلامتها فما أسبابها الجالبة لها؟ [أسباب السكينة] قلت: سببها استيلاء مراقبة العبد لربه جل جلاله حتى كأنه يراه وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء والسكينة والمحبة والخضوع والخشوع ¬
[الاضطلاع بالعلم]
والخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها، فالمراقبةُ أساسُ الأعمال القلبية كلها وعمودها الذي قيامها به، ولقد جمع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أصول أعمال القلب وفروعها كلها في كلمة واحدة، وهي قوله في الإحسان: "أن تعبد اللَّه كأنك تراه" (¬1)، فتأمل كل مقام من مقامات الدين وكل عمل من أعمال القلوب كيف تجد هذا أصله ومنبعه؟ (¬2). والمقصود أن العبد محتاج إلى السكينة عند الوساوس المعترضة في أصل الإيمان ليثبت قلبه، ولا يَزيغ وعند الوساوس والخَطَرات القادحة في أعمال الإيمان لئلا تقوى وتصير همومًا وغمومًا وإرادات ينقص بها إيمانه وعند أسباب المخاوف على اختلافها ليثبت قلبه ويسكن جأشه، وعند أسباب الفرح لئلا يطمح به مركبُه، فيجاوز الحد الذي لا يعبر فينقلب ترحًا وحزنًا، وكم ممن (¬3) أنعم [اللَّه] عليه بما يُفرحه (¬4) فجمح به مركب الفرح (¬5) وتجاوز الحد، فانقلب ترحًا عاجلًا، ولو أُعِيْن بسكينة تُعَدِّل فرحَه لأُريد به الخيرِ، وباللَّه التوفيق، وعند هجوم الأسباب المؤلمة على اختلافها الظاهرة والباطنة فما أحوجه إلى السكينة حينئذ، وما أنفعها له وأجداها عليه وأحسن عاقبتها. والسكينة في هذه المواطن علامة على الظفر وحصول المحبوب، واندفاع المكروه، وفقدها علامة على ضد ذلك، لا يخطئ هذا, ولا هذا، واللَّه المستعان. [الاضطلاع بالعلم] وأما قوله: "أن يكون قويًا على ما هو فيه؛ وعلى معرفته" أي مستظهرًا مضطلعًا (¬6) بالعلم متمكنًا منه غير ضعيف فيه، فإنه إذا كان ضعيفًا قليل البضاعة غير مضطلع به؛ أحجم عن الحق في موضع ينبغي فيه الإقدام؛ لقلَّة علمه بمواضع الإقدام والإحجام، فهو يُقْدم في غير موضعه، ويُحْجم في غير موضعه، ¬
[الكفاية]
ولا (¬1) بصيرة له بالحق، ولا قوة له على تنفيذه، فالمفتي محتاج (¬2) إلى قوة في العلم وقوة في التنفيذ، فإنه لا ينفع تكلّم بحق لا نفاذ له. [الكفاية] وأما قوله: "الرابعة الكفاية وِإلا مضغه الناس"، فإنه إذا لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس وإلى الإخذ مما في أيديهم، فلا يأكل منهم شيئًا إلا أكلوا من لحمه وعرضه أضعافه، وقد كان لسفيان الثوري شيء من مال، وكان لا يتروى (¬3) في بذله، ويقول: لولا ذلك لتمندل (¬4) بنا هؤلاء (¬5)، فالعالم إذا منح غناء، فقد أعين على تنفيذ علمه، وإذا احتاج (¬6) إلى الناس، فقد مات عِلْمُه وهو ينظر. [معرفة الناس] وأما قوله: "الخامسة معرفة الناس"، فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهًا فيه فقيهًا في الأمر والنهي، ثم يطبق أحدهما على الآخر وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن [فقيهًا في الأمر] (¬7) له معرفة بالناس تُصَوِّر له الظالم بصورة المظلوم وعكسه والمُحِقّ بصورة المُبطل وعكسه، ورَاج عليه المكرُ [والخداعُ] (¬8) والاحتيال وتصوَّر له الزنديق في صورة (¬9) الصديق والكاذب في صورة الصادق ولبس كل مبطل ثوب (¬10) زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعُرْفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي له أن يكون فقيهًا في معرفة [مكر] (¬11) الناس وخداعهم ¬
[فوائد تتعلق بالفتوى مروية عن الإمام أحمد]
واحتيالهم وعوائدهم وعُرفياتهم، فإن الفتوى تتغيَّر بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال وذلك كله من دين اللَّه، كما تقدم بيانه، وباللَّه التوفيق. [فوائد تتعلق بالفتوى مروية عن الإِمام أحمد] الفائدة الرابعة والعشرون: في كلماتٍ حُفظت عن الإِمام أحمد [رحمه اللَّه تعالى ورضي عنه] (¬1) في أمر الفتيا سوى ما تقدم [آنفًا] (1). قال في "رواية ابنه صالح" (¬2): "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالمًا بوجوه القرآن عالمًا بالأسانيد الصحيحة عالمًا بالسنن" وقال في رواية أبي الحارث (¬3) "لا تجوز الفتيا إلا لرجل عالم بالكتاب والسنة". وقال في رواية حنبل (¬4): "ينبغي لمن أفتى أن يكون عالمًا يقول مَنْ تقدَّم وإلا فلا يفتي". وقال في رواية يوسف بن موسى: واجب (¬5) أن يتعلم الرجل كل ما [تكلَّم] (¬6) فيه الناس. وقال في رواية ابنه عبد اللَّه (¬7)، وقد سأله عن الرجل يريد أن يسأله عن [أمر] (¬8) دينه مما يُبتلى به (¬9) من الأيمان في الطَّلاق وغيره، وفي مِصْره من ¬
أصحاب الرأي، وأصحاب الحديث لا [يحفظون] (¬1)، ولا يعرفون الحديث الضعيف ولا الإسناد القوي، فلمن يسأل؟ لهؤلاء (¬2) أو لأصحاب الحديث [على قلة معرفتهم فقال: "يسأل أصحاب الحديث] (3)، ولا يسأل أصحاب الرأي، ضعيفٌ الحديث خير من الرأي". وقال في رواية محمد بن عبيد اللَّه ابن المنادي، وقد سمع رجلًا يسأله: إذا حفظ [الرجل] (¬3) مئة ألف حديث يكون فقيهًا؟ قال: لا، [قال: فمئتي ألف؟ قال: لا. قال: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قال] (1): فأربع مئة ألف؛ قال بيده هكذا وحركها، قال حفيده أحمد بن جعفر بن محمد: فقلت لجدي: كم كان يحفظ أحمد؟ فقال: أجاب عن ست مئة ألف [حديث] (¬4). وقال عبد اللَّه بن أحمد (¬5): سألت أبي عن الرجل يكون عنده الكتب المصنَّفة فيها قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة والتابعين وليس للرجل بصرٌ بالحديث الضعيف المتروك، ولا الإسناد القوي من الضعيف فيجوز أن يعمل بما شاء ويتخير منها فيُفتى به [ويعمل به] (¬6)؟ قال: لا يعمل حتى يسأل ما يؤخذ به منها فيكون يعمل على أمر صحيح يسأل عن ذلك أهل العلم. وقال أبو داود (¬7): سمعت أحمد وسئل عن مسألة فقال: دعنا من هذه المسائل المحدثة، وما أُحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف من العلم فيقول: لا أدري. وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفُتيا أحسن فتيًا منه كان أهون عليه أن يقول: "لا أدري" مَنْ يحسن [مثل] (¬8) هذا؟ سل العلماء. ¬
وقال أبو داود (¬1): قلت لأحمد: الأوزاعي هو أتبعُ من مالك؟ فقال: لا تقلِّد دينك أحدًا من هؤلاء؛ ما جاء عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه (¬2) فخذ به، ثم التابعين بعدُ الرجلُ فيه مخيَّر. وقال إسحاق بن هانئ (¬3): سألت أبا عبد اللَّه عن الذي جاء في الحديث: "أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار" (¬4) فقال: يفتي بما لم يسمع (¬5). وقال أيضًا (¬6): قلت لأبي عبد اللَّه: يطلب الرجل الحديث بقدر ما يظن أنه قد انتفع به؟ قال: العلم لا يعدله شيء، وجاءه رجل يسأله عن شيء فقال: لا أجيبك في شيء، ثم قال: قال عبد اللَّه بن مسعود: "إن كل من يفتي الناس في كل ما يستفتونه لمجنون" (¬7)، قال الأعمش: فذكرت ذلك للحكم (¬8) فقال: لو حدَّثتني به قبل اليوم ما أفتيتُ في كثير مما كنت أفتي به (¬9)، قال ابن هانئ (¬10): وقيل لأبي عبد اللَّه: يكون الرجل في قرية فيُسأل عن الشيء [الذي] (¬11) فيه اختلاف؟ قال: يفتي بما وافق الكتاب والسنة (¬12)، وما لم يوافق الكتاب والسنة أمسك عنه، قيل له: أفتخاف عليه؟ (¬13) قال: لا، قيل له: ما كان من كلام إِسحاق بن راهويه، وما [كان] (11) وضع ¬
[دلالة العالم للمستفتي على غيره]
في الكتب (¬1) وكلام أبي عبيد، ومالك، ترى النظر فيه؟ فقال: كل كتاب ابتدع فهو بدعة، أو كل كتاب محدث فهو بدعة، وأما ما كان من (¬2) مناظرة، يخبر الرجل بما عنده، وما يسمع من الفتيا، فلا أرى به بأسًا، قيل له: فكتاب أبي عبيد "غريب الحديث"؟ قال: ذلك شيء حكاه عن قوم أعراب، قيل له: فهذه الفوائد التي فيها المناكير تَرى أن تكتب؟ قال: المنكر أبدًا منكر. [دلالة العالم للمستفتي على غيره] الفائدة الخامسة والعشرون: في دلالة العالم للمستفتي على غيره، وهو موضع خطر جدًا فلينظر الرجل ما يحدث من ذلك، فإنه متسبب بدلالته إما إلى الكذب على اللَّه ورسوله في أحكامه [أو] (¬3) القول عليه بلا علم فهو معين على الإثم والعدوان، وإما معين على البر والتقوى فلينظر الإنسان إلى من يدل عليه وليتق اللَّه [ربه] (¬4)، وكان شيخنا -قدس اللَّه روحه- شديد التجنب (¬5) لذلك، ودللتُ مرَّةً بحضرته على مفت أو مذهب (¬6)، فانتهرني، وقال: مالك وله؟ دعه [عنك] , ففهمتُ من كلامه: إنك لتبوء بما عساه يحصل له من الإثم، ولمن أفتاه، ثم رأيت هذه المسألة بعينها منصوصة عن الإِمام أحمد. قال أبو داود [في "مسائله"]: قلت لأحمد: الرجل يَسأل عن المسألة فأدلّه على إنسان يسأله؟ فقال (¬7): إذا كان [يعني] (¬8) -الذي أرشد إليه (¬9) متبعًا (¬10) ويفتي بالسنة، فقيل لأحمد: إنه يريد الاتِّباع وليس كل قوله يصيب، فقال أحمد: ومن يصيب في كل شيء؟ قلت له: فرأي مالك؟ فقال: لا تتقلد (¬11) في مثل هذا بشيء (¬12). قلت: وأحمد كان يدل على أهل المدينة ويدل على الشافعي ويدل على إسحاق (¬13). ¬
ولا خلاف عنه (¬1) في استفتاء هؤلاء، ولا خلاف عنه [في] (¬2) أنه لا يُستفتى أهل الرأي المخالفون لسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وباللَّه التوفيق، ولا سيما كثير من المنتسبين إلى الفتوى في هذا الزمان وغيره، وقد رأى رجل ربيعة بن أبي عبد الرحمن يبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقال: "استُفتي من لا علم له، وظهر في الإِسلام أمر عظيم"، قال: "ولبَعضُ من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السُّرَّاق" (¬3). وقال بعض العلماء (¬4): "فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ وإقدام من لا علم عنده على الفتيا وتوثبه عليها، ومد باع التكلف إليها و [تسلقه] بالجهل (¬5) والجرأة عليها مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة، وهو [من] (¬6) بين أهل العلم منكر أو غريب، فليس له في معرفة الكتاب والسنة وآثار السلف نصيب، ولا يبدي جوابًا بإحسان، وإن ساعد القدر فتواه (¬7) كذلك يقول فلان ابن فلان (¬8). يَمُدُّون للإفتاء باعًا قصيرةً ... وأكثرهم عند الفتاوى يُكَذْلِكُ وكثير منهم نصيبهم مثل ما حكاه أبو محمد بن حزم (¬9) قال: كان عندنا مفت قليل البضاعة فكان لا يفتي حتى يتقدمه من يكتب الجواب، فيكتب (¬10) تحته: جوابي مثل جواب الشيخ، فقدر أن اختلف مفتيان في جواب (¬11)، فكتب تحتهما: جوابي مثل جواب الشيخين، فقيل له: إنهما قد تناقضا فقال: وأنا أيضًا تناقضت (¬12)، كما تناقضا. وقد أقام اللَّه سبحانه لكل عالم ورئيس وفاضل (¬13) مَنْ يُظهر مماثلته، ويرى الجهالُ وهم الأكثرون مساجلته ومشاكلته (¬14)، وأنه يجري ¬
[كذلكة المفتي]
معه في الميدان، وأنهما عند المسابقة كفَرَسي رهان، ولا سيما إذا طوّل الأردان، وأرخى الذوائب (¬1) الطويلة وراءه كذنب الأتان، وهذر باللسان وخلا له الميدان [الطويل] (¬2) من الفرسان. فلو لبسَ الحمارُ ثيابَ خَزٍّ (¬3) ... لقال الناس: يا لَك من حمارِ! [وهذا الضَّرب إنما يستفتونَ بالشَّكل لا بالفضل، وبالمناصب لا بالأهلية، قد غرَّهم عكوف من لا علم عنده عليهم، ومسارعة أجهل (¬4) منهم إليهم، تعج منهم الحقوق إلى اللَّه تعالى عجيجًا، وتضج منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجًا، فمن أقدم بالجرأة على ما ليس له بأهل فتيا أو قضاء أو تدريس، استحقَّ اسم الذم، ولم يحلّ قبولُ فتياه، ولا قضائه هذا حكم دين الإِسلام. وإنْ رَغِمَتْ أنوفٌ من أناسٍ ... فَقُلْ يا رب! لا ترغم سواها] (¬5) [كذلكة المفتي] الفائدة السادسة والعشرون: في حكم كذلكة (¬6) المفتي، ولا يخلو من حالين: إما أن يعلم صواب [جواب] (¬7) مَنْ تقدَّمه بالفتيا أو لا يعلم، فإنْ علم صواب جوابه فله أن يُكَذلِكَ، وهل الأولى له الكذلكة أو الجواب المستقل؟ (¬8) فيه تفصيل: فلا يخلو المبتدئ إما أن يكون أهلًا أو متسلِّقًا (¬9) متعاطيًا ما ليس له بأهل، فإنْ كان الثاني فتركه الكَذْلَكة أولى مطلقًا، إذ في (¬10) كَذْلكته تقرير له على الإفتاء، وهو كالشهادة له بالأهلية، وكان بعض أهل العلم (¬11) يضرب على فتوى مَنْ كتب وليس بأهل، فإن لم يتمكن من ذلك خوف الفتنة [منه فقد قيل] (¬12): لا يكتب معه في الورقة ويرد السائل، وهذا نوع تحامل والصواب أنه يكتب في ¬
الورقة الجواب، ولا يأنف من الإخبار بدين اللَّه (¬1) الذي يجب عليه الإخبار به لكتابة من ليس بأهل، فإن هذا ليس عذرًا (¬2) عند اللَّه ورسوله وأهل العلم في كتمان الحق، بل هذا نوع رياسة وكبر، والحق للَّه [عز وجل] (¬3)، فكيف يجوز أن يعطّل حقّ اللَّه ويكتم دينه؛ لأجل كتابة من ليس بأهل؟ وقد نص الإِمام أحمد على أن الرجل إذا شهد الجنازة [فرأى فيها] (¬4) منكرًا لا يقدر على إزالته أنه لا يرجع، ونص على أنه إذا دعي إلى وليمة عرس فرأى فيها منكرًا (¬5) لا يقدر على إزالته أنه يرجع، فسألتُ شيخنا عن الفرق؟ فقال: لأن الحق في الجنازة للميِّت، فلا يُترك حقّه لما فعله الحيُّ من المنكر، والحق في الوليمة لصاحب البيت، فإذا أتي فيها بالمنكر، فقد أسقط (¬6) حقَّه من الإجابة، وإن كان المبتدي بالجواب أهلًا للإفتاء، فلا يخلو إما أن يعلم المُكَذْلِكُ صواب جوابه أو لا يعلم، فإن لم يعلم صواب جوابه (¬7) لم يجز له أن يُكَذْلِكَ تقليدًا له؛ إذ لعله أن يكون قد غلط، ولو نُبّه لرجعَ، وهو معذور وليس المُكَذْلِكُ معذورًا (¬8)، بل مفتٍ بغير علم، ومَن أفتى بغير علم فإثمه على من أفتاه، وهو أحد المفتين الثلاثة الذين [ثلثاهم] (¬9) في النار، وإنْ علم أنه قد أصاب، فلا يخلو إما أن تكون [المسألَة] (9) ظاهرةً لا يخفى وجهُ الصواب فيها -بحيث لا يُظن بالمكَذْلِك أنه قلَّده فيما لا يعلم- أو تكون خفيَّة، فإنْ كانتْ ظاهرةً فالأَوْلى الكَذْلَكَة لأنه إعانةٌ على البر والتقوى، وشهادةٌ للمفتي بالصواب، وبراءة من الكِبْر والحميَّة، وإن كانتْ خفيَّة بحيث يظن بالمكَذلِك أنه وافقه تقليدًا محضًا، فإن أمكنه إيضاح ما أشكله الأول أو زيادة (¬10) بيان أو ذكر [قيد] (11) أو تنبيه على أمر أغفله؛ فالجواب المستقل أولى، وإنْ لم يمكنه ذلك، فإنْ شاء كَذْلَكَ، وإن شاء أجاب استقلالًا. فإن قيل: ما الذي يمنعه من الكَذْلَكة إذا لم يعلم صوابه تقليدًا [له] (¬11)، ¬
[للمفتي أن يفتي من لا يجوز شهادته له]
كما قلد المبتدي مَنْ فوقه؟ فإذا [أفتى الأول] (¬1) بالتقليد المحض فما الذي يمنع المكَذْلِك من تقليده؟ قيل: الجواب من وجوه: أحدها: أن الكلام في المفتي الأول أيضًا، فقد نص [الإمام] (¬2) الشافعي وأحمد، وغيرهما من الأئمة على أنه لا يحل للرجل أن يفتي بغير علم، وحكى (¬3) في ذلك الإجماع، وقد تقدم [ذكر] (¬4) ذلك مستوفى (¬5). الثاني: أن هذا الأول (¬6)، وإن جاز له التقليد للضرورة، فهذا المَكَذْلِكُ، المتكلِّف لا ضرورةَ له إلى تقليده (¬7)، بل هذا من بناء الضعيف على الضعيف وذلك لا يسوغ، كما لا تسوغ الشهادة على الشهادة وكما لا يجوز المسح على الخفين على طهارة التيمم ونظائر ذلك كثيرة. الثالث: أن هذا لو ساغ لصار الناس كلهم مفتين إذ ليس هذا بجواز (¬8) تقليد المفتي أولى من غيره، وباللَّه التوفيق. [للمفتي أن يفتي من لا يجوز شهادته له] الفائدة السابعة والعشرون: يجوز للمفتي أن يفتي أباه وابنه وشريكه، ومن لا تقبل شهادته له، وإن لم يجز أن يشهد له ولا يقضي له، والفرق بينهما أن الإفتاء يجري مجرى الرواية فكأنه حكم عام (¬9)، بخلاف الشهادة والحكم، فإنه يخص المشهود له والمحكوم له، ولهذا يدخل الراوي في حكم الحديث الذي يرويه ويدخل في حكم الفتوى التي يُفتي بها, ولكن لا يجوز له أن يحابي من يفتيه (¬10) فيفتي أباه أو ابنه أو صديقه بشيء ويفتي غيرهم بضدِّه محاباة، بل هذا يقدح في عدالته إلا أن يكون [ثَمَّ] (¬11) سبب يقتضي التخصيص غير المحاباة، ومثال هذا أن يكون في المسألة قولان قول بالمنع وقول بالإباحة، فيفتي ابنه وصديقه بقول الإباحة والأجنبي يقول المنع. ¬
فإن قيل: هل يجوز له أن يفتي نفسه؟ قيل: نعم، إذا كان له أن يفتي غيره، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استفتِ قلبك، وأن أفتاك المفتون" (¬1). ¬
فيجوز له أن يفتي نفسه بما يفتي به غيره (¬1)، ولا يجوز له أن يفتي نفسه بالرخصة وغيره بالمنع، ولا يجوز له إذا كان في المسألة [قولان] (¬2) قول بالجواز وقول بالمنع، أن يختار لنفسه قول الجواز ولغيره قول المنع (¬3). ¬
[لا يجوز الفتيا بالتشهي والتخير]
وسمعت شيخنا يقول: سمعت بعض الأمراء يقول عن بعض المفتين من أهل زمانه يكون عندهم (¬1) في المسألة ثلاثة أقوال أحدها: الجواز، والثاني: المنع، والثالث: التفصيل، فالجواز لهم، والمنع لغيرهم، وعليه العمل. [لا يجوز الفتيا بالتشهي والتخيّر] الفائدة الثامنة والعشرون: لا يجوز للمفتي أن يعمل بما شاء (¬2) من الأقوال والوجوه من غير نظر في الترجيح، ولا يعتد به، بل يكتفي في العمل بمجرد كون ذلك قولًا قاله إمام أو وجهًا ذهب إليه جماعة فيعمل بما شاء (¬3) من الوجوه والأقوال حيث رأى القول وفق (¬4) إرادته وغرضه عمل به فإرادته وغرضه هو المعيار وبها (¬5) الترجيح، وهذا حرام بإتفاق الأمة. وهذا مثل ما حكى القاضي أبو الوليد الباجي عن بعض أهل زمانه ممن نصب نفسه للفتوى [أنه كان يقول] (¬6): إن الذي لصديقي عليَّ إذا وقعت له حكومة أو فتيا أن أفتيه بالرواية التي توافقه، وقال: وأخبرني من أثق به أنه وقعت له واقعة فأفتاه جماعة من المفتين بما يضرُّه، وكان (¬7) غائبًا فلما حضر سألهم بنفسه، فقالوا: لم نعلم أنها لك، وأفتوه بالرواية الأخرى التي توافقه [قال: و] (6) هذا مما لا خلاف بين المسلمين، ممن يعتدُّ بهم في الإجماع أنه لا يجوز (¬8)، وقد قال مالك رحمه اللَّه في اختلاف الصحابة -رضي اللَّه عنهم-: "مخطئ ومصيب، فعليك بالاجتهاد" (¬9). وبالجملة، فلا يجوز العمل والإفتاء في دين اللَّه تعالى بالتشهي والتخير ¬
[أقسام المفتين أربعة]
وموافقة الغرض فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به، ويفتي [به] (¬1)، ويحكم به، ويحكم على عدوه [ويفتيه] (1) بضده، وهذا من أفسق الفسوق وأكبر الكبائر، واللَّه المستعان. [أقسام المفتين أربعة] الفائدة التاسعة والعشرون: [المفتون] (¬2) الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام (¬3): أحدهم (¬4): العالم بكتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليدُهُ لغيره أحيانًا، فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام، وقد قال الشافعي [رحمه اللَّه ورضي عنه] (1) [في موضع] (¬5) من الحج: "قلته تقليدًا لعطاء"، فهذا النوع هم الذين (¬6) يسوغ لهم الإفتاء ويسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرض الاجتهاد، وهم الذين قال [فيهم] (1) النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها" (¬7)، وهم غرس اللَّه الذين لا يزال يغرسهم في دينه وهم الذين قال فيهم علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] (1): لن تخلو الأرض من قائم للَّه بحُجّته (¬8). فصل النوع الثاني: مجتهد مقيد في مذهب من ائتم به، فهو مجتهد في معرفة فتاويه وأقواله، ومآخذه وأصوله، عارف بها، متمكن من التخريج عليها وقياس ما لم ينص من ائتم به عليه على منصوصه (¬9)، من غير أن يكون مقلِّدًا لإمامه لا في ¬
فصل
الحكم، ولا في الدليل، لكن سلك طريقه في الاجتهاد والفتيا، ودعا إلى مذهبه، ورتّبه، وقرره، فهو موافق له في مقصده وطريقه معًا. وقد ادّعى هذه المرتبة من الحنابلة القاضي أبو يعلى والقاضي أبو علي بن أبي موسى في "شرح الإِرشاد" الذي له، ومن الشافعية خلقٌ كثير، وقد اختلف (¬1) الحنفية في أبي يوسف (¬2)، ومحمد، وزفر بن الهذيل، والشافعية في المزني، وابن سريج، وابن المنذر، ومحمد بن نصر المروزي، والمالكية في أشهب، وابن عبد الحكم، وابن القاسم، وابن وهب، والحنابلة في أبي حامد (¬3)، والقاضي (¬4): هل كان هؤلاء مستقلين بالاجتهاد أو متقيدين (¬5) بمذاهب أئمتهم؟ على قولين، ومن تأمَّل أحوال هؤلاء وفتاويهم واختياراتهم علم أنهم لم يكونوا مقلّدين لأئمتهم في كل ما قالوه، وخلافهم لهم أظهر من أن ينكر، وإن كان منهم المستقل والمستكثر، ورتبة هؤلاء دون [رتبة] (¬6) الأئمة في الاستقلال بالاجتهاد. فصل النوع الثالث: من هو مجتهد في مذهب من انتسب إليه مقرر له بالدليل متقن لفتاويه، عالم بها, لا يتعدى أقواله وفتاويه، ولا يخالفها، وإذا وجد نص إمامه لم يعدل عنه إلى غيره ألبتة، وهذا شأن أكثر المصنفين في مذاهب أئمتهم، وهو حال أكثر علماء الطوائف، وكثير منهم يظن أنه لا حاجة به إلى معرفة الكتاب والسنة والعربية؛ لكونه مجتزيًا (¬7) بنصوص إمامه، فهي عنده كنصوص الشارع، قد اكتفى بها من كُلفة التَّعب والمشقة، وقد كفاه الإِمام استنباطَ الأحكام ومؤنة استخراجها من النُّصوص، وقد يرى إمامه ذكر حكمًا بدليله فيكتفي هو بذلك الدليل من غير بحث عن معارض له. وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطوَّلة والمختصرة، ¬
[فصل
وهؤلاء لا يدعون الاجتهاد، ولا يقرون بالتقليد، وكثير منهم يقول: اجتهدنا في المذاهب فرأينا أقربها إلى الحق مذهب إمامنا، وكل (¬1) منهم يقول ذلك عن إمامه، ويزعم أنه أولى بالاتباع من غيره، ومنهم من يغلو فيوجب اتّباعه ويمنع من اتباع غيره. فياللَّه العجب من اجتهاد نهض بهم إلى كون متبوعهم ومقلَّدهم أعلم من غيره، وأحق بالاتباع ممن سواه (¬2)، وأن مذهبه هو الراجح والصواب دائر معه، وقعد بهم عن الاجتهاد في كلام اللَّه ورسوله واستنباط الأحكام منه وترجيح ما يشهد له النص مع استيلاء كلام اللَّه ورسوله على غاية البيان وتضمنه لجوامع الكلم، وفصله للخطاب وبراءته من التناقض والاختلاف والاضطراب فقعدت بهم هممهم [واجتهادهم] (¬3) عن الاجتهاد فيه ونهضت بهم إلى الاجتهاد في كون إمامهم أعلم الأمة وأولاها بالصواب، وأقواله في غاية القوة وموافقة السنة والكتاب، واللَّه المستعان. [فصل النوع الرابع: طائفة تفقهت في مذاهب من انتسبت إليه] (¬4)، وحفظت فتاويه وفروعه، وأقرَّت على أنفسها بالتَّقليد المحض من جميع الوجوه، فإن ذكروا (¬5) الكتاب والسنة يومًا [ما في مسألة] (3)، فعلى وجه التَّبرُّك والفضيلة (¬6)، لا على وجه الاحتجاج والعمل، وإذا رأوا حديثًا صحيحًا مخالفًا لقول من انتسبوا إليه أخذوا يقول إمامهم (¬7) وتركوا الحديث، وإذا رأوا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًا وغيرهم من الصحابة -رضي اللَّه عنهم- قد أفتوا بفتيا، ووجدوا لإمامهم فتيا تخالفها أخذوا بفتيا إمامهم وتركوا فتاوى الصحابة، قائلين: الإِمام أعلم بذلك منا ونحن قد قلَّدناه، فلا نتعداه، ولا نتخطاه، بل هو أعلم بما ذهب إليه منّا، ومن عدا هؤلاء فمتكلِّف [و] متخلف قد دنا (¬8) بنفسه عن رُتبة المشتغلين (¬9)، وقصَّر عن درجة ¬
[منزلة كل نوع من المفتين]
المحصلين (¬1) فهو مُكَذْلك مع المَكْذِلكين، وإن ساعده القدر، واستقلَّ بالجواب قال: يجوز [بشرطه] (¬2)، ويصح بشرطه، ويجوز ما لم يمنع منه مانع شرعي، ويرجع في ذلك إلى رأي الحاكم، ونحو ذلك من الأجوبة التي يحسنها (¬3) كل جاهل، ويستحي منها كل فاضل. [منزلة كل نوع من المفتين] ففتاوى القسم الأول من جنس توقيعات الملوك وعلاماتهم (¬4)، وفتاوى النوع الثاني من جنس توقيعات نوّابهم وخلفائهم، وفتاوى النوع الثالث والرابع من جنس توقيعات خلفاء نوابهم (¬5)، ومن عداهم فمتشبع بما لم يعط متشبه بالعلماء محاك للفضلاء، وفي كل طائفة من الطوائف، متحققٌ بغيه (¬6)، ومُحاكٍ له، متشبهُ به، واللَّه المستعان. الفائدة الثلاثون: إذا كان الرجل مجتهدًا في مذهب إمام، ولم يكن مستقلًا بالاجتهاد، فهل له أن يُفتي يقول (¬7) ذلك الإِمام على قولين: وهما وجهان لأصحاب الشافعي وأحمد (¬8): أحدهما: الجواز ويكون متبعه مقلدًا للميت لا له، وإنما له مجرد النقل عن الإمام. والثاني: لا يجوز له أن يفتي لأن السائل [مقلِّد له لا للميت، وهو لم يجتهد له، والسائل] (¬9) يقول [له] (¬10): أنا أقلدك فيم تفتيني به (¬11). والتحقيق أن هذا فيه تفصيل، فإن قال [له] (11) السائل: " [أنا] (¬12) أريد حكم اللَّه تعالى في هذه المسألة، أو أريد الحق، أو ما يخلّصني" (¬13)، ونحو ذلك ¬
[هل للحي أن يقلد الميت من غير نظر للدليل]
لم يسعه إلا أن يجتهد له في الحق، ولا يسعه أن يفتيه بمجرد تقليد غيره من غير معرفة بأنه حق أو باطل، وإن قال له: "أريد أن أعرف في هذه النازلة قول الإِمام ومذهبه" ساغ له الإخبار به ويكون ناقلًا له ويبقى الدَّرك على السائل، فالدرك في الوجه الأول على المفتي، وفي الثاني على المستفتي. [هل للحي أن يقلد الميت من غير نظر للدليل] الفائدة الحادية والثلاثون: هل يجوز [للحيِّ] (1) تقليد الميت والعمل بفتواه من غير اعتبارها بالدليل الموجب لصحة العمل بها؟ فيه وجهان لأصحاب الإِمام أحمد والشافعي (¬1)؛ فمن منعه قال: يجوز تغيّر (¬2) اجتهاده لو كان حيًا، فإنه كان يجدد النَّظر عند نزول هذه النازلة إما وجوبًا، وإما استحبابًا على النزاع المشهور ولعله لو جدَّد النظر لرجع عن قوله [الأول] (¬3). والثاني (¬4): الجواز وعليه عمل [جميع] (5) المقلدين في [جميع] (¬5) أقطار الأرض، وخيار ما بأيديهم من التقليد تقليد الأموات، ومن منع [منهم] (¬6) تقليد الميت، فإنما هو شيء يقوله بلسانه وعمله في فتاويه وأحكامه بخلافه والأقوال لا تموت بموت قائلها، كما لا تموت الأخبار بموت رواتها وناقليها. [هل للمجتهد في نوع من العلم أن يفتي فيه؟] الفائدة الثانية والثلاثون: الاجتهاد حالة تقبل التجزؤ والانقسام فيكون الرجل مجتهدًا في نوع من العلم مقلدًا في غيره أو في باب من أبوابه كمن استفرغ وسعه في نوع العلم بالفرائض وأدلتها واستنباطها من الكتاب والسنة دون غيرها من العلوم أو في باب الجهاد أو الحج أو غير ذلك، فهذا ليس له الفتوى فيما لم يجتهد فيه، ولا تكون معرفته بما اجتهد فيه مسوغة له الإفتاء بما لا يعلم في غيره وهل له أن يفتي في ¬
النوع الذي اجتهد فيه؟ فيه ثلاثة أوجه أصحها الجواز، بل هو الصواب المقطوع به. والثاني: المنع. والثالث: الجواز في الفرائض دون غيرها (¬1). فحجَّةُ الجواز أنه قد عرف الحق بدليله، وقد بذل جهده في معرفة الصواب فحكمه في ذلك [النوع] (¬2) حكم المجتهد المطلق في سائر الأنواع. وحجة المنع تعلُّق أبواب الشرع وأحكامه بعضها ببعض، فالجهل ببعضها مظنة للتقصير في الباب والنوع الذي [قد] (¬3) عرفه، ولا يخفى الارتباط بين كتاب النكاح والطلاق والعدَّة وكتاب الفرائض، وكذلك الارتباط بين كتاب الجهاد، وما يتعلق به، وكتاب الحدود والأقضية والأحكام، وكذلك عامة أبواب الفقه. ومن فرَّق بين الفرائض وغيرها رأى انقطاع أحكام قسمة المواريث، ومعرفة الفروض، و [معرفة] (¬4) مستحقها عن كتاب البيوع والإجارات والرهون والنضال، وغيرها وعدم تعلقاتها (¬5)، وأيضًا، فإن عامة أحكام المواريث قطعية وهي منصوص عليها في الكتاب والسنة (¬6). فإن قيل: فما تقولون فيمن بذل جهده في [معرفة] (¬7) مسألة أو مسألتين هل له أن يفتي بهما؟ قيل: نعم يجوز في أصح القولين، وهما وجهان لأصحاب الإِمام أحمد، وهل هذا إلا من التبليغ عن اللَّه و [عن] (7) رسوله، وجزى اللَّه من أعان على ¬
[من تصدر للفتوى من غير أهلها أثم]
الإِسلام ولو بشطر كلمة خيرًا، ومَنْعُ هذا من الإفتاء بما عَلِم خطأ محض، وباللَّه التوفيق. [من تصدر للفتوى من غير أهلها أثم] الفائدة الثالثة والثلاثون: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاص، ومن أقرَّه من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضًا. قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه اللَّه (¬1): "ويلزم ولي الأمر منعهم، كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدلّ الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطبِّ، وهو يطب الناس، بل هو (¬2) أسوأ حالًا من هؤلاء كلهم، وإذا تعيَّن على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة، ولم يتفقه في الدين"؟ وكان شيخنا -رضي اللَّه عنه- (¬3) شديد الإنكار على هؤلاء فسمعته يقول: قال لي بعض هؤلاء: أجعلت (¬4) محتسبًا على الفتوى؟ فقلت له: يكون على الخبازين والطباخين محتسبٌ، ولا يكون على الفتوى محتسب؟ وقد روى الإِمام أحمد، وابن ماجه عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- منه [مرفوعًا] (¬5): "من أفتى بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه" (¬6)، وفي "الصحيحين" من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص [-رضي اللَّه عنهما-] (5) عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالًا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" (¬7)، وفي ¬
أثر مرفوع ذكره أبو الفرج وغيره: "من أفتى الناس بغير علم لعنته ملائكة السماء وملائكة الأرض" (¬1). وكان مالك -رحمه اللَّه ورضي عنه- يقول: من سئل عن مسألة فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها (¬2)، وسئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف أما سمعت قول اللَّه عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] , فالعلم كله ثقيل وخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة (¬3)، وقال: ما أفتيتُ حتى شهد لي سبعون أني أهلٌ لذلك (¬4)، وقال: لا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلًا لشيء حتى يسأل من هو أعلم منه، وما أفتيتُ حتى سألت ربيعة ويحيى بن سعيد، فأمراني (¬5) بذلك، ولو نهياني انتهيت (¬6)، قال: وإذا كان أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- تصعب عليهم المسائل، ولا يجيب أحد منهم في (¬7) مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رُزقوا من السَّداد ¬
والتوفيق والطهارة فكيف بنا الذين غطَّت (¬1) الذنوب والخطايا قلوبنا (¬2)؟ وكان -رحمه اللَّه- إذا سئل عن مسألة، فكأنه واقف بين الجنة والنار (¬3)، وقال عطاء بن أبي رباح: أدركت أقوامًا إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم، وإنه لَيَرْعَد (¬4). وسُئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أي البلاد شرّ فقال؟ "لا أدري حتى أسأل جبريل"، فسأله فقال: أسواقها (¬5). وقال الإِمام أحمد: من عرَّض نفسه للفتيا، فقد عرَّضها لأمر عظيم، إلا أنه ¬
قد تلجئ الضرورة (¬1) وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل [له] (¬2) ألا تستحيي من قولك: لا أدري، وأنت فقيه أهل العراق؟ فقال: لكن الملائكة لم تستحي حين قالوا: {لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} (¬3) [البقرة: 32] , وقال بعض أهل العلم: تعلَّم لا أدري، فإنك إنْ قلت: لا أدري علَّموك حتى تدري، وإن قلت: أدري سألوك حتى لا تدري (¬4)، وقال عقبة (¬5) بن مسلم: صحبت ابن عمر -رضي اللَّه عنهما- أربعة وثلاثين شهرًا، فكان كثيرًا ما يُسأل فيقول: لا أدري (¬6)، وكان سعيد بن المسيب لا يكاد يفتي فتيا, ولا يقول شيئًا إلا قال: اللَّهم سلِّمني وسلِّم مني (¬7). وسئل الشافعي عن مسألة فسكت فقيل: ألا تجيب؟ فقال: حتى أدري الفَضْلَ في سكوتي أو في الجواب (¬8)، وقال ابن أبي ليلى: أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث أو يسأل عن شيء إلا ودَّ أن أخاه كفاه (¬9). ¬
وقال أبو الحَصِين الأسدي (¬1): إن أحدهم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه لجمع لها أهل بدر (¬2)، وسئل القاسم بن محمد عن شيء فقال: إني لا أحسنه، فقال: له السائل: إني دفعت إليك (¬3) لا أعرف غيرك، فقال له القاسم: لا تنظر إلى طول لحيتي وكثرة الناس حولي، واللَّه ما أحسنه، فقال شيخ من قريش جالس إلى جنبه: يا ابن أخي الزمها فواللَّه ما رأيتك (¬4) في مجلس أنبل منك اليوم. فقال القاسم: واللَّه؛ لأن يُقْطَع لساني أحب إليَّ من أن أتكلم بما لا علم لي به (¬5). وكتب سلمان إلى أبي الدرداء -رضي اللَّه عنهما-، وكان بينهما مؤاخاة: [بلغني أنك قعدت طبيبًا فاحذر أن تكون متطببًا أو تقتل مسلمًا. فكان ربما جاءه الخصمان فيحكم بينهما، ثم يقول: ردُّوهما عليَّ، متطبِّب واللَّه، أعيدا عليَّ قضيتكما] (¬6). ¬
[حكم العامي الذي لا يجد من يفتيه]
[حكم العامي الذي لا يجد من يفتيه] الفائدة الرابعة والثلاثون: إذا نزلت بالعاميّ نازلة، وهو في مكان لا يجد من يسأله عن حكمها ففيه (¬1) طريقان للناس، أحدهما: أن له حكم ما قبل الشرع، على الخلاف في الحظر والإباحة والوقف (¬2)؛ لأن عدم المرشد في حقه بمنزلة عدم المرشد بالنسبة إلى الأمة. والطريقة الثانية: أنه يُخَرجُ على الخلاف في مسألة تعارض الأدلة عند المجتهد هل يعمل (¬3) بالأخف أو بالأشد أو يتخير (¬4)؟ والصواب أنه يجب عليه أن ¬
يتقي اللَّه ما استطاع، ويتحرَّى الحق بجهده ومعرفة مثله، وقد نصَّبَ اللَّه [سبحانه ¬
[من تجوز له الفتيا، ومن لا تجوز له]
و] (¬1) تعالى على الحق أمارات كثيرة، ولم يسوِّ اللَّه -سبحانه وتعالى- بين ما يحبه و [بين ما] (¬2) يسخطه من كل وجه بحيث لا يتميز هذا من هذا, ولا بد أن تكون الفطر السليمة مائلة إلى الحق مؤثرة له، ولا بد أن يقوم لها عليه بعض الأمارات المرجحة ولو بمنام أو بإلهام، فإن قدّر ارتفاع ذلك كله وعدمت في حقه جميع الإمارات فهنا يسقط التكليف عنه في حكم هذه النازلة ويصير بالنسبة إليها كمن لم تبلغه الدعوة، وإن كان مكلفًا بالنسبة إلى غيرها (¬3)؛ فأحكام التكليف تتفاوت بحسب التمكن من العلم والقدرة واللَّه أعلم. [من تجوز له الفتيا، ومن لا تجوز له] الفائدة الخامسة والثلاثون: الفتيا أوسع من الحكم [والشهادة] (¬4)، فيجوز فتيا العبد والحر، والمرأة والرجل، والقريب [والبعيد] (¬5) والأجنبي، والأمي والقارئ، والأخرس بكتابته، والناطق، والعدو والصديق (¬6)، وفيه وجه أنه لا تقبل (¬7) فتيا العدو، [ولا من] (¬8) لا تُقبل شهادته له كالشهادة، والوجهان في الفتيا كالوجهين (¬9) في الحكم، وإن كان الخلاف في الحاكم أشهر، وأما فتيا الفاسق، فإن أفتى غيره لم تُقبل فتواه وليس للمستفتي [أن يستفتيه] (¬10) وله أن يعمل بفتوى نفسه، ولا يجب عليه أن يستفتي غيره (¬11) وفي جواز استفتاء مستور ¬
[هل يجوز للقاضي أن يفتي؟]
الحال وجهان (¬1)، والصواب جواز استفتائه وإفتائه. قلت: وكذلك الفاسق (¬2) إلا أَن يكون معلنًا بفسقه داعيًا إلى بدعته فحكم استفتائه حكم إمامته وشهادته، وهذا يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة (¬3)، والقدرة والعجز فالواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبِّق بين الواقع والواجب (¬4)، [وينفذ الواجب بحسب استطاعته لا من يلقى العداوة بين الواجب والواقع] (¬5) فلكل زمان حكم والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، وإذا عم الفسوق وغلب على أهل الأرض وامتنعت (¬6) إمامة الفسَّاق (¬7) وشهاداتهم وأحكامهم وفتاويهم، وولاياتهم لعطلت الأحكام (¬8)، وفسد نظام الخلق وبطلت أكثر الحقوق ومع هذا فالواجب اعتبار الأصلح فالأَصلح (¬9)، وهذا عند القدرة والاختيار، وأما عند الضرورة والغلبة بالباطل فليس إلا الاصطبار والقيام بأضعف مراتب الإنكار (¬10). [هل يجوز للقاضي أن يفتي؟] الفائدة السادسة والثلاثون: لا فرق بين القاضي وغيره في جواز الإفتاء بما يجوز الإفتاء به (¬11)، ووجوبها إذا تعيَّنت، ولم يزل أمر السلف والخلف على هذا، فإن منصب الفتيا داخل في ضمن منصب القضاء عند الجمهور، والذين (¬12) ¬
لا يجوزِّون قضاء الجاهل فالقاضي مفتٍ ومثبتٍ، ومنفذ لما أفتى به. وذهب بعض الفقهاء من أصحاب [الإمام] (¬1) أحمد (¬2) والشافعي (¬3) إلى أنه يكره للقاضي أن يفتي في مسائل الأحكام المتعلقة به دون الطهارة والصلاة والزكاة ونحوها واحتج أرباب هذا القول بأن فتياه تفسير كالحكم منه على الخصم، ولا (¬4) يمكن نقضه وقت المحاكمة قالوا: ولأنه قد يتغير اجتهاده وقت الحكومة أو تظهر له قرائن لم تظهر له عند الإفتاء، فإن أصر على فتياه والحكم بموجبها حكم بخلاف ما يعتقد صحته، وإن حكم بخلافها طرق الخصم (¬5) إلى تهمته والتشنيع عليه بأنه يحكم [بخلاف] (¬6) ما يعتقده ويفتي به، ولهذا قال شُريح: "أنا أقضي لكم ولا أفتي" (¬7) حكاه ابن المنذر (¬8) واختار كراهية الفتوى (¬9) في مسائل الأحكام، وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائيني: لأصحابنا في فتواه في مسائل الأحكام جوابان، أحدهما: ليس له أن يفتي فيها؛ لأن لكلام (¬10) الناس عليه مجالًا، ولأحد الخصمين عليه مقالًا، والثاني: له ذلك لأنه أهل له (¬11). ¬
[فتيا الحاكم وحكمها]
[فتيا الحاكم وحكمها] الفائدة السابعة والثلاثون: فتيا الحاكم ليست حكمًا منه، ولو (¬1) حكم غيره بخلاف ما أفتى به لم يكن نقضًا لحكمه، ولا هي كالحكم، ولهذا يجوز أن يفتي للحاضر والغائب، ومن يجوز حكمه [له] ومن لا يجوز (¬2)، ولهذا لم يكن في حديث هند (¬3) [دليل] (¬4) على الحكم على الغائب لأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- إنما أفتاها فتوى مجردة، ولم يكن ذلك حكمًا على الغائب، فإنه لم يكن غائبًا عن البلد، وكانت مراسلته وإحضاره ممكنة، ولا طلب البينة على صحة دعواها، وهذا ظاهر بحمد اللَّه [تعالى] (¬5). [هل يجيب المفتي عما لم يقع] الفائدة الثامنة والثلاثون (¬6): إذا سأل المستفتي عن مسألة لم تقع فهل تُستحب إجابته أو تكره أو يخير (¬7)؟ فيه ثلاثة أقوال، وقد حُكي عن كثير من السلف أنه [كان] (¬8) لا يتكلم فيما [لم] (¬9) يقع، وكان بعض السلف إذا مسألة الرجل عن مسألة قال: هل كان ذلك؟ فإن قال: نعم، تكلَّف له الجواب، وإلا قال: دعنا في عافية (¬10). وقال الإِمام أحمد لبعض أصحابه: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام". والحق التفصيل، فإن كان في المسألة نص من كتاب اللَّه أو سنة عن ¬
[لا يجوز للمفتي تتبع الحيل]
رسول اللَّه (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- أو أثر عن الصحابة -رضي اللَّه عنهم- لم يكره الكلام فيها، وإن لم يكن فيها نص، ولا أثر، فإن كانت بعيدة الوقوع أو مقدرة لا تقع لم يستحب له الكلام فيها، وإن كان وقوعها غير نادر، ولا مستبعد وغرض السائل الإحاطة بعلمها ليكون منها على بصيرة إذا وقعت استحب له الجواب بما يعلم لا سيما إن كان السائل يتفقه بذلك ويعتبر بها نظائرها ويفرع عليها فحيث كانت مصلحة الجواب راجحة كان هو الأولى، واللَّه أعلم. [لا يجوز للمفتي تتبع الحيل] الفائدة التاسعة والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحيل (¬2) المحرَّمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن (¬3) تتبع ذلك فسق، وحرم استفتاؤه، فإن (¬4) حسن قصده في حيلة جائزة لا شبهة فيها, ولا مفسدة ليخلِّص (¬5) المستفتي بها من حرج جاز ذلك، بل استحب، وقد أرشد اللَّه [سبحانه و] (¬6) تعالى نبيه أَيوب عليه السلام إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا (¬7) فيضرب به المرأة ضربة واحدة، وأرشد النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلالًا إلى بيع التمر بدراهم (¬8)، ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر فيتخلَّص من الربا (¬9)، فأحسن المخارج ما خلص من المآثم (¬10) وأقبح الحيل (¬11) ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه اللَّه تعالى ورسوله من الحق اللازم، وقد ذكرنا من النَّوعين ما لعلك لا تظفر بجملته (¬12) في غير هذا الكتاب، واللَّه الموفق للصواب. ¬
[حكم رجوع المفتي عن فتواه]
[حكم رجوع المفتي عن فتواه] الفائدة الأربعون: في حكم رجوع المفتي عن فتياه، إذا أفتى المفتي بشيء ثم رجع عنه، فإن (¬1) علم المستفتي برجوعه، ولم يكن عمل بالأول فقيل: يحرم عليه العمل به، وعندي في المسألة تفصيل، وأنه لا يحرم عليه الأول بمجرد رجوع المفتي، بل يتوقف حتى يسأل غيره، فإن أفتاه بموافقة الأول استمر على العمل به، وإن أفتاه بموافقة الثاني، ولم يُفته أحد بخلافه حرم عليه العمل بالأول، وإن لم يكن في البلد إلا مفت واحد سأله عن رجوعه عما أفتاه به، فإن رجع إلى اختيار خلافه مع تسويغه لم يحرم عليه، وإن رجع لخطأ (¬2) بأن له، وإنَّ ما أفتاه به لم يكن صوابًا حرم عليه العمل بالأول هذا إذا كان رجوعه لمخالفة دليل شرعي، فإن كان رجوعه لمجرد ما بأن له أنَّ ما أفتاه به (¬3) خلاف مذهبه لم يحرم على المستفتي ما أفتاه به أولًا (¬4) إلا أن تكون المسألة إجماعية. فلو تزوج بفتواه ودخل، ثم رجع المفتي لم يحرم عليه إمساك امرأته إلا بدليل شرعي يقتضي تحريمها, ولا يجب عليه مفارقتها لمجرد رجوعه (¬5)، ولا سيما إن كان إنما رجع لكونه (¬6) تبين له أن ما أفتى به خلاف مذهبه، وإن وافق مذهب غيره، هذا هو الصواب. وأطلق بعض أصحابنا (¬7) وأصحاب الشافعي (¬8) وجوب مفارقتها عليه، وحكوا في ذلك وجهين ورجَّحوا وجوب المفارقة قالوا: لأن المرجوع (¬9) عنه ليس مذهبًا له، كما لو تغير اجتهاد مَنْ قلَّده في القبلة في أثناء الصلاة، فإنه يتحول مع الإِمام في الأصح. ¬
فيقال لهم: المُستفتي قد دخل بامرأته دخولًا صحيحًا سائغًا، ولم يقم (¬1) ما يوجب مفارقته لها من نص، ولا إجماع، فلا يجب عليه مفارقتها بمجرد تغير اجتهاد المفتي، وقد رجع عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن القول بالتشريك وأفتى بخلافه، ولم يأخذ المال من الذين شرَّك بينهم أولًا (¬2)، وأما قياسكم ذلك على من تغير اجتهاده في معرفة القبلة فهو حجة عليكم، فإنه لا يبطل ما فعله المأموم بالاجتهاد الأول ويلزمه التحول ثانيًا لأنه مأمور بمتابعة الإِمام، بل نظير مسألتنا ما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ من الصلاة، فإنه لا تلزمه الإعادة ويصلي الثانية بالاجتهاد الثاني. وأما قول أبي عمرو بن الصلاح (¬3) وأبي عبد اللَّه بن حمدان (¬4) من أصحابنا: "إذا كان المفتي إنما يفتي على مذهب إمام معيَّن فإذا رجع لكونه بان له ¬
قطعًا أنه خالف في فتواه نص [مذهب] (1) إمامه، فإنه يجب نقضه، وإن كان ذلك في محل الاجتهاد؛ لأنَّ [نصَّ] (¬1) مذهب إمامه في حقه كنص الشارع في حق المفتي المجتهد المستقل". فليس كما قالا, ولم ينص على هذه المسألة أحد من الأئمة، ولا تقتضيها أصول الشريعة ولو كان نص إمامه بمنزلة نص الشارع لحرم عليه وعلى غيره مخالفته وفسق بخلافه. ولم يوجب أحد من الأئمة نقض حكم الحاكم، ولا إبطال فتوى المفتي بكونه خلاف (¬2) قول زيد أو عمرو، ولا يُعلم أحد سوّغ (¬3) النقض بذلك من الأئمة والمتقدمين من أتباعهم، وإنما [قالوا] (¬4): يُنقض من حكم الحاكم ما خالف نص كتاب أو سنة أو إجماع الأمة، ولم يقل أحد: يُنقض من حكمه ما خالف قول فلان أو فلان، وينقض من فتوى المفتي ما ينقض من حكم الحاكم، فكيف يسوغ نقض أحكام الحكام وفتاوى أهل العلم بكونها خالفت قول واحد من الأئمة؟ ولا سيما إذا وافقت نصًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو فتاوى الصحابة (¬5) أيسوغ (¬6) نقضها لمخالفة قول فلان وحده، ولم يجعل اللَّه تعالى ولا رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أحد من الأئمة قول فقيه من الأمة بمنزلة نص اللَّه ورسوله بحيث يجب اتباعه ويحرم خلافه، فإذا بان للمفتي أنه خالف إمامه، ووافق قول الأئمة الثلاثة لم يجب على الزوج أن يفارق امرأته، ويخرب بيته، ويشتت شمله، وشمل أولاده، بمجرَّد كون المفتي ظهر له أن ما أفتى به خلاف نص إمامه، ولا يحل له أن يقول [له] (¬7): "فارق أهلك" بمجرد ذلك، ولا سيما إن كان النص مع قول الثلاثة، وبالجملة فبطلان هذا القول أظهر من أن نتكلَّف بيانَه. فإن قيل: فما تقولون لو تغيَّر اجتهاد المفتي فهل يلزمه إعلام المستفتي؟ قيل: اختلف في ذلك؛ فقيل: لا يلزمه إعلامه، فإن (¬8) عمل أولًا بما يسوغ له فإذا لم يعلم بطلانه لم يكن آثمًا فهو في سعة من استمراره وقيل: بل يلزمه [إعلامه] (¬9) لأن ما رجع عنه قد اعتقد بطلانه وبان له أن ما أفتاه به ليس من ¬
الدين، فيجب عليه إعلامه، كما جرى لعبد اللَّه بن مسعود -رضي اللَّه عنه- حين أفتى رجلًا بحلِّ [أم] (¬1) امرأته التي فارقها قبل الدخول، ثم سافر إلى المدينة وتبين له خلاف هذا القول فرجع إلى الكوفة وطلب [هذا] (4) الرجل (¬2) وفرق بينه وبين أهله (¬3)، وكما جرى للحسن بن زياد اللؤلؤي لما استُفتي في مسألة فأخطأ فيها، ولم يعرف الذي أفتاه به فاستأجر مناديًا ينادي: إن الحسن بن زياد استُفتي [في] (1) يوم كذا وكذا في مسألة فأخطأ فمن كان أفتاه الحسن بن زياد في شيء (¬4) فليرجع إليه، ثم لبث أيامًا لا يفتي، حتى جاء (¬5) صاحب الفتوى فأعلمه أنه قد أخطأ (¬6)، وأن الصواب خلاف ما أفتاه به (¬7). وقال القاضي أبو يعلى في "كفايته": من أفتى بالاجتهاد، ثم تغير اجتهاده لم يلزمه إعلام المستفتي بذلك إن كان قد عمل به وإلا أعلمه (¬8). والصواب التفصيل، فإن كان المفتي ظهر له الخطأ قطعًا لكونه خالف نصَّ الكتاب أو السنة (¬9) التي لا معارض لها أو خالف إجماع الأمة فعليه (¬10) إعلام المستفتي، وإن كان إنما ظهر له أنه خالف مجرد مذهبه أو نص إمامه لم يجب عليه إعلام المستفتي وعلى هذا تُخرَّج قصة ابن مسعود [-رضي اللَّه عنه-] (¬11)، فإنه لما ناظر الصحابة في تلك المسألة بيَّنوا له أن صريح الكتاب يحرمها لكون اللَّه [تعالى] (11) أبهمها فقال تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ}، وظن عبد اللَّه أن قوله: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] راجع إلى الأول والثاني فبينوا له أنه إنما يرجع إلى أمهات الربائب خاصة، فعرف أنه الحق، وأن القول بحلِّها خلاف كتاب اللَّه [تعالى] (11) ¬
[هل يضمن المفتي المال أو النفس؟]
ففرَّق بين الزوجين، ولم يفرق بينهما بكونه تبين له أن ذلك خلاف قول زيد أو عمرو واللَّه تعالى أعلم. [هل يضمن المفتي المال أو النفس؟] الفائدة الحادية والأربعون: إذا عمل المُستفتي بفتيا مفت في إتلاف نفس أو مال ثم بأن خطؤه، قال أبو إسحاق الإسفرائيني من الشافعية (¬1): يضمن المفتي إن كان أهلًا للفتوى وخالف القاطع، وإن لم يكن أَهلًا فلا ضمان عليه لأن المستفتي قصَّر في استفتائه وتقليده، ووافقه على ذلك أبو عبد اللَّه بن حمدان (¬2) في كتاب: "آداب المفتي والمستفتي" (¬3) له، ولم أعرف هذا لأحد من الأصحاب قبله (¬4)، ثم حكى وجهًا آخر في تضمين من ليس بأهل [قال] (3): لأنه تصدَّى لما ليس له بأهل، وغرَّ من استفتاه بتصدِّيه لذلك. قلت: خطأُ المفتي كخطأ الحاكم والشاهد، وقد اختلفت الرواية في خطأ الحاكم في النفس أو الطرف (¬5)، فعن (¬6) الإمام أحمد في ذلك روايتان: إحداهما (¬7): أنه في بيت المال؛ لأنه يكثر منه ذلك [الحكم] (¬8)، فلو حَمَلته العاقلة لكان [ذلك] (¬9) إضرارًا عظيمًا بهم. والثانية: أنه على عاقلته، كما لو كان الخطأ بسبب غير [الحاكم] (¬10)، وأما خطؤه في المال فإذا حكم بحق ثم بأن كفر الشهود أو فسقهم نقض حكمه، ثم رجع المحكوم عليه ببدل المال على المحكوم له، وكذلك إذا كان الحكم بقود ¬
رجع أولياء المقتول ببدله على المحكوم له، و [كذلك] إن كان الحكم بحق اللَّه (¬1) بإتلاف مباشر (¬2) أو بالسراية ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الضمان على المزكِّين لأن الحُكمَ إنما وجب بتزكيتهم (¬3). والثاني: يضمنه الحاكم لأنه لم يثبت، بل فرَّط في المبادرة إلى الحكم وترك [البحث] (¬4) والسؤال. والثالث: أن للمستحق تضمين أيهما شاء والقرار على المزكين لأنهم ألجأوا الحاكم إلى الحكم، فعلى هذا إن لم يكن ثَمَّ تزكية فعلى الحاكم، وعن أحمد رواية أخرى أنه لا ينقض بفسقهم فعلى هذا لا ضمان. وعلى هذا إذا استفتى الإمام أو الوالي مفتيًا فأفتاه، ثم بأن [له] (¬5) خطؤه فحكم المفتي مع الإمام حكم المزكّين مع الحاكم، وإن عمل [المُستفتي] (¬6) بفتواه من غير [حكم] (4) حاكم، ولا إمام فأتلف نفسًا أو مالًا، فإن كان [المفتي] (4) أهلًا، فلا ضمان عليه والضمان على المُستفتي، وإن لم يكن أهلًا فعليه الضمان (¬7)؛ لقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من تطبب، ولم يعرف منه طبٌّ فهو ضامن" (¬8)، ¬
وهذا يدل على أنه إذا عرف منه طب وأخطأ لم يضمن والمفتي أولى بعدم الضمان من الحاكم والإمام؛ لأنَّ المستفتي مخيَّر بين قبول فتواه وردها، فإن قوله: لا يلزم بخلاف حكم الحاكم والإمام، وأما خطأ الشاهد فإما أَن يكونوا شهودًا بمال أو طلاق أو عتق أو حد أو قود، فإن بأن خطؤهم قبل الحكم لم يحكم بذلك (¬1)، وإن بأن بعد الحكم باستيفاء القود وقبل استيفائه لم يستوف قطعًا، وإن بأن بعد استيفائه فعليهم دية ما تلف ويتقسط الغرم على عددهم، وإن بأن خطؤهم قبل الحكم بالمال لغت شهادتهم، ولم يضمنوا، وإن بأن بعد الحكم به نقض حكمه، كما لو شهدوا بموت رجل باستفاضة فحكم الحاكم بقسم ميراثه، ثم بانت حياته، ¬
[أحوال ليس للمفتي أن يفتي فيها]
فإنه ينقض (¬1) حكمه، وإن بأن خطؤهم في شهادة الطلاق من غير جهتهم، كما لو شهدوا أنه طلَّق يوم كذا وكذا وظهر للحاكم أنه في ذلك اليوم كان محبوسًا لا يصل إليه أحد أو كان مغمًى عليه فحكم ذلك حكم ما لو بأن كفرهم أو فسقهم، فإنه ينقض حكمه وترد المرأة إلى الزوج ولو تزوجت بغيره بخلاف ما إذا قالوا: "رجعنا عن الشهادة"، فإن رجوعهم إن كان قبل الدخول ضمنوا نصف المسمَّى لأنهم قرروه عليه، ولا تعود [إليه] (2) الزوجة إذا كان الحاكم [قد] (¬2) حكم بالفرقة، وإن رجعوا بعد الدخول ففيه روايتان: إحداهما: أنهم لا يغرمون شيئًا لأن الزوج استوفى المنفعة (¬3) بالدخول فاستقر عليه عوضها (¬4). والثانية: يغرمون المسمى كله؛ لأنهم فوَّتوا عليه البضع بشهادتهم، وأصلهما (¬5) أن خروج البضع من (¬6) يد الزوج هل هو متقوَّم أم لا (¬7)؟ وأما شهود العتق، فإن بأن خطؤهم تبيَّنا أنَّه لا عتق، وإن قالوا: رجعنا غَرِموا للسيد قيمة العبد (¬8). [أحوال ليس للمفتي أن يفتي فيها] الفائدة الثانية والأربعون: ليس للمفتي الفتوى في حال غضب شديد أو جوع مفرط أو همٍّ مقلق أو خوف مزعج أو نعاس [غالب] (¬9) أو شغل قلب مستولٍ ¬
[على المفتي أن يرجع إلى العرف في مسائل]
[عليه] (¬1) أو حال مدافعة الأخبثين، بل متى أحسَّ من نفسه شيئًا (¬2) من ذلك يخرجه عن حال اعتداله وطمأنينته وتثبيته (¬3) أمسك عن الفتوى، فإن أفتى في هذه الحالة (¬4) بالصواب صحت فتياه ولو حكم في [مثل] هذه الحالة (¬5) فهل ينفذ حكمه أو لا ينفذ؟ فيه ثلاثة أقوال (¬6): النفوذ، وعدمه، والفرق بين أن يعرض له الغضب بعد فهم الحكومة فينفذ، وبين أن يكون سابقًا على فهم الحكومة فلا ينفذ، والثلاثة في مذهب الإمام أحمد [رحمه اللَّه تعالى] (¬7). [على المفتي أن يرجع إلى العرف في مسائل] الفائدة الثالثة والأربعون: لا يجوز له أن يفتي في الأقارير (¬8) والأيمان والوصايا، وغيرها مما يتعلَّق باللفظ بما اعتاده هو من فهم تلك الألفاظ دون أن يعرف عُرفَ أهلها والمتكلمين بها فيحملها على ما اعتادوه وعرفوه (¬9)، وإن كان مخالفًا لحقائقها الأصلية فمتى لم يفعل ذلك ضلَّ وأضل (¬10)؛ فلفظ الدينار عند طائفة اسم لثمانية (¬11) دراهم وعند طائفة اسم لاثني (¬12) عشر درهمًا والدرهم عند ¬
غالب البلاد اليوم اسم للمغشوش، فإذا أقر له بدراهم أو حلف ليعطيه (¬1) إياها أو أصدقها امرأته (¬2) لم يجز للمفتي ولا للحاكم أن يلزمه بالخالصة (¬3)، فلو كان في بلد إنما يعرفون الخالصة (¬4) لم يجز له أن يلزم المستحق بالمغشوشة. وكذلك في ألفاظ الطلاق والعتاق فلو جرى عرف أهل بلد أو طائفة في استعمالهم لفظ الحرية في العفَّة دون العتق فإذا قال أحدهم عن مملوكه: "إنه حر"، أو جاريته "إنها حرة" وعادته استعمال ذلك في العفة لم يخطر بباله غيرها لم يعتق بذلك قطعًا، وإن كان اللفظ صريحًا عند من ألِف استعماله في العتق، وكذلك إذا جرى عرف طائفة [في] (5) الطلاق بلفظ التسميح بحيث لا يعرفون لهذا المعنى غيره فإذا قالت: "اسمح لي"، فقال: "سمحتُ لك" فهذا صريح في الطلاق عندهم، وقد تقدم الكلام في هذا الفصل مشبعًا، وأنه لا يسوغ أن يقبل [تفسير] (¬5) من قال: "لفلان عليّ مال جليل أو عظيم" بدانق أو درهم ونحو ذلك، ولا سيما إن كان المفسر (¬6) من الأغنياء المكثرين أو الملوك (¬7)، وكذلك لو أوصى له بقوس في محلة (¬8) لا يعرفون إلا أقواس البندق أو الأقواس العربية أو أقواس الرجل، أو حلف لا يشم الريحان في محل لا يعرفون الريحان إلا هذا الفارسي، أو حلف لا يركب دابة في موضع عرفهم بلفظ الدابة الحمار أو الفرس، أو حلف لا يأكل ثمرًا في بلد عرفهم في الثمار نوع واحد منها لا يعرفون غيره، أو حلف لا يلبس ثوبًا في بلد عرفهم في الثياب القمص وحدها دون الأردية والأزر والجباب (¬9) ونحوها، تقيدت يمينه بذلك وحده [في جميع هذه الصور واختصت بعرفه دون موضوع (¬10) اللفظ لغة أو في] (¬11) عرف غيره، بل لو قالت المرأة لزوجها الذي لا يعرف التكلم بالعربية، ولا يفهمها: "قل لي: أنت طالق ثلاثًا"، وهو لا يعلم موضوع (10) هذه الكلمة فقال لها (¬12)، لم تطلق قطعًا ¬
[لا يعين المفتي على التحليل ولا على المكر]
في حكم اللَّه [تعالى] (¬1) ورسوله، وكذلك لو قال الرجل لآخر: "أنا عبدك ومملوكك" على سبيل (¬2) الخضوع له، كما يقوله (¬3) الناس لم يستبح ملك رقبته بذلك، ومن لم يراع المقاصد والنيّات والعرف في الكلام، فإنه يلزمه أن يجوز له بيع هذا القائل وملك رقبته بمجرد هذا اللفظ. وهذا باب عظيم يقع فيه المفتي الجاهل، فيغر الناس، ويكذب على اللَّه تعالى ورسوله، ويغير دينه، ويحرِّم ما لم يحرمه اللَّه، ويوجب ما لم يوجبه اللَّه، واللَّه المستعان. [لا يعين المفتي على التحليل ولا على المكر] الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيها تحيّل [على] (¬4) إسقاط واجب أو تحليل محرَّم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصده (¬5)، بل ينبغي له أن يكون بصيرًا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي [له] (¬6) أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرًا فطنًا فقيهًا بأحوال (¬7) الناس وأمورهم يؤازره فقه (¬8) في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل وباطنها مكر وخداع وظلم؟ (¬9) فَالغِرُّ (¬10) ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل كما يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم. والثاني: يخرج زيفها، كما يخرج الناقد (¬11) زيف النقود. وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق؟! و [كم] (¬12) من حق يخرجه بتهجينه (¬13) وسوء تعبيره في صورة باطل؟! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا ¬
يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس؛ ولكثرته وشهرته يستغني عن الأمثلة، بل من تأمل المقالات الباطلة والبدع [كلها] (9) وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة، وكسوها ألفاظًا يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها، ولقد أحسن القائل (¬1): تقول هذا جناءُ النَّحلِ تمدحُهُ ... وإنْ تشأ قلتَ ذا قيء الزنابيرِ مدحًا وذمًا، وما جاوزتَ وصفهما ... والحقُّ قد يعتريه سوءُ تعبيرِ ورأى بعض الملوك (¬2) كأن أسنانه [قد] (¬3) سقطت فعبَّرها (¬4) له معبر بموت أهله وأقاربه فأقصاه وطرده، واستدعى آخر فقال له: [لا عليك] (3) تكون أطول أهلك عمرًا، فأعطاه وأكرمه وقرَّبه، فاستوفى المعنى، وغيَّر له العبارة، وأخرج المعنى في قالب حسنٍ. والمقصود أنه لا يحلُّ له أن يفتي بالحيل المحرمة، ولا يعين عليها، [ولا يدلُّ عليها] (3)؛ فيضاد اللَّه في أمره قال [اللَّه] (3) تعالى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54]، وقال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 50 - 51]، وقال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] وقال تعالى: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]، وقال تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} (¬5) [البقرة: 9]، وقال تعالى: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 123]، وقال تعالى في حق أرباب الحيل المحرمة: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) ¬
فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 65 - 66]. وفي "صحيح مسلم" عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ملعون من ضارَّ مسلمًا أو مكر به" (¬1)، وقال: "لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلِّوا محارمَ اللَّه بأدنى الحيل" (¬2)، وقال: "المكرُ والخديعة في النار" (¬3)، وفي "سنن ابن ماجه" وغيره ¬
عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما بال أقوام يلعبون بحدود اللَّه ويستهزئون بآياته طلَّقتك راجعتك طلقتك راجعتك؟ "، وفي لفظ: "خلعتكِ راجعتك خلعتُك راجعتُكِ" (¬1)، وفي "الصحيحين" ¬
عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1): "لعن اللَّه اليهود حُرِّمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها، [وأكلوا أثمانها] (¬2) "، وقال أيوب السختياني: يخادعون اللَّه، كما يخادعون الصبيان (¬3)، وقال ابن عباس: من يخادع اللَّه يخدعه (¬4)، وقال بعضُ السلف: "ثلاث من كنَّ فيه كنَّ عليه: المكر، والبغي، والنكث. وقرأ (¬5): {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43]، وقال تعالى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]، وقال تعالى: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} (¬6) [الفتح: 10]. وقال الإمام أحمد: "هذه الحيل التي وضعها هؤلاء عَمَدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها أتوا إلى الذي قيل لهم: إنه حرام فاحتالوا فيه حتى حلَّلوه" (¬7) وقال: "ما أخبثهم، يعني: أصحاب الحيل يحتالون لنقض سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" (¬8)، وقال: "مَنْ احتال [بحيلة] فهو حانث" (¬9)، وقال: "إذا (¬10) حلف على شيء ثم احتال بحيلة فصار إليها، فقد صار إلى [ذلك] (¬11) الذي حلف عليه بعينه" (¬12). ¬
[حكم أخذ المفتي أجرة أو هدية]
وقد تقدم بسط الكلام في هذه المسألة مستوفى، فلا حاجة إلى (¬1) إعادته. [حكم أخذ المفتي أجرة أو هدية] الفائدة الخامسة والأربعون: في أخذ الأجرة والهدية والرزق على الفتوى، فيه ثلاث صور مختلفة السبب والحكم (¬2). فأما أخذه الأجرة فلا يجوز له؛ لأن الفُتيا منصب تبليغ (¬3) عن اللَّه ورسوله، فلا تجوز المعاوضة عليه، كما لو قال [له] (¬4): لا أعلّمك الإسلام أو الوضوء أو الصلاة إلا بأجرة، [أو سئل عن حلال أو حرام فقال للسائل: لا أجيبك عنه إلا بأجرة] (¬5)، فهذا حرام قطعًا، ويلزمه رد العِوَض، ولا يملكه. وقال بعض المتأخرين (¬6): إن أجاب بالخطِّ (¬7) فله أن يقول للسائل: لا يلزمني أن أكتب لك خطي إلا بأجرة وله أخذ الأجرة وجعله بمنزلة أجرة الناسخ، فإنه يأخذ الأجرة على خطه لا على جوابه، [وخطُّه قدر زائد على جوابه] (4). والصحيح خلاف ذلك، وأَنه يلزمه الجواب [مجانًا] (4) للَّه، بلفظه، وخطه، ولكن لا يلزمه الورق ولا الحبر. وأما الهدية ففيها تفصيل، فإنْ كانت بغير سبب الفتوى كمن عادته يهاديه أو من لا يعرف أنه مفتٍ، فلا بأسٍ بقبولها والأولى أن يكافئ عليها، وإن كانت ¬
[ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى]
بسبب الفتوى، فإن كانت سببًا إلى أن يفتيه بما لا يفتي (¬1) به غيره ممن لا يهدي له لم يجز له قبول هديته (¬2)، وإن كان لا فرق (¬3) بينه وبين غيره عنده في الفتيا، بل يفتيه بما يفتي به الناس كره له قبول الهدية لأنها [تشبه] (¬4) المعاوضة على الإفتاء (¬5). وأما أخذ الرزق من بيت المال، فإن كان محتاجًا إليه جاز [له] (1) ذلك، وإن كان غنيًا عنه ففيه وجهان، وهذا فرع مترددٌ بين عامل الزكاة وعامل اليتيم فمَن ألحقه بعامل الزكاة قال: النفع فيه عام فله الأخذ، ومن ألحقه بعامل اليتيم منعه من الأخذ وحكم القاضي في ذلك حكم المفتي، بل القاضي أولى بالمنع واللَّه أعلم (¬6). [ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى] الفائدة السادسة والأربعون: إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى، فإن ذكرها وذكر مستندها، ولم يتجدد له ما يوجب تغيّر اجتهاده أفتى [بها] (¬7) من غير نظر، ولا اجتهاد، وإن ذكرها ونَسي مستندها فهل له أن يفتي بها دون تجديد نظر واجتهاد؟ فيه وجهان لأصحاب الإمام أحمد (¬8) والشافعي (¬9): ¬
[كل الأئمة يذهبون إلى الحديث ومتى صح فهو مذهبهم]
أحدهما: أنه يلزمه تجديد النظر؛ [لاحتمال تغيّر اجتهاده وظهور ما كان خافيًا عنه. والثاني: لا يلزمه تجديد النظر] (¬1)؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان (¬2)، وإن ظهر له ما يغير اجتهاده لم يجز له البقاء على القول الأول، ولا يجب عليه نقضه، ولا يكون اختلافه مع نفسه قادحًا في علمه، بل هذا من كمال علمه، وورعه، ولأَجل هذا خرج عن الأئمة في المسألة قولان فأكثر وسمعت شيخنا رحمه اللَّه تعالى يقول: حضرتُ عقدَ مجلس عند نائب السلطان [في وقف] (3) أفتى فيه قاضي البلد بجوابين مختلفين، فقرأ جوابه الموافق للحق، فأخرج بعض الحاضرين جوابه [الأول] (¬3)، وقال: هذا جوابُك بضد هذا، فكيف تكتب جوابين متناقضين في واقعة واحدة؟ فوجم الحاكم، فقلت: هذا من علمه ودينه، أفتى أولًا بشيء، ثم تبيَّن له الصواب فرجع إليه، كما يُفتي إمامه بقول ثم يتبين له خلافه فيرجع إليه، ولا يقدح ذلك في علمه ولا دينه، وكذلك سائر الأئمة، فسُرَّ القاضي بذلك وسُرِّي عنه. [كل الأئمة يذهبون إلى الحديث ومتى صح فهو مذهبهم] الفائدة السابعة والأربعون: قول الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "إذا وجدتم في كتابي خلاف سُنَّة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقولوا بسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ودعوا ما قلته" (¬4)، (وكذلك [قوله] (¬5): "إذا صح الحديث عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وقلت أنا قولًا فأنا راجع عن قولي وقائل بذلك الحديث") (¬6)، وقوله (¬7): "إذا صح الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
فاضربوا بقولي الحائط" (¬1)، وقوله: "إذا رويتُ حديثًا عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2) ولم أذهب إليه فاعلموا أن عقلي قد ذهب" (¬3)، وغير ذلك من كلامه في هذا المعنى صريحٌ في مدلوله، وأن مذهبه ما دلَّ عليه الحديث، لا قول له غيره، ولا يجوز أن يُنسب إليه ما خالف الحديث ويقال: "هذا مذهب الشافعي" [ولا يحل الإفتاء بما خالف الحديث على أنه مذهب الشافعي] (¬4)، ولا الحكم به، وصرح بذلك جماعة من أئمة أتباعه (¬5)، حتى كان منهم من يقول للقارئ إذا قرأ عليه مسألة من كلامه: قد صح الحديث بخلافها، اضرب على هذه المسألة فليست مذهبه، وهذا هو الصواب قطعًا، ولم ينص عليه، فكيف إذا نص عليه وأبدى فيه وأعاد وصرح فيه (¬6)، بألفاظ كلها صريحة في مدلولها؟ فنحن نشهد باللَّه أن مذهبه وقوله الذي لا قول له سواه ما وافق الحديث، دون ما خالفه، [وأنَّ] (¬7) مَنْ نسب إليه خلافه فقد نسب إليه خلاف مذهبه، ولا سيما إذا ذكر هو ذلك الحديث وأخبر أنه إنما خالفه لضعف في سنده أو لعدم بلوغه له من وجه يَثِق به، ثم ظهر للحديث سند صحيح لا مطعن فيه وصححه أئمة الحديث من وجه لم يبلغه (¬8)، فهذا لا يشك عالم ولا يماري في أنه مذهبه قطعًا، وهذا كمسألة الجوائح؛ فإنه علل حديث سفيان بن عيينة بأنه كان ربما ترك ذكر الجوائح، وقد صحَّ الحديث (¬9) من غير طريق سفيان صحةً لا مرية فيها، ولا علة، ولا شبهة بوجه؛ فمذهب الشافعي (¬10) وضع الجوائح، وباللَّه التوفيق (¬11). ¬
[هل تجوز الفتيا لمن عنده كتب الحديث؟]
وقد صرَّح بعض أئمة الشافعية بأن مذهبه (¬1) أن الصلاة الوسطى صلاة العصر، وأن وقت المغرب يمتد إلى [مغيب] (¬2) الشفق، وأن [من] (¬3) مات وعليه صيام صام عنه وليه، وأن أكل لحوم الإبل ينقض الوضوء، وهذا بخلاف الفطر بالحجامة وصلاة المأموم قاعدًا إذا صلى إمامه كذلك، فإن الحديث، وإن صح في ذلك فليس بمذهبه (¬4)، فإن الشافعي قد رواه (¬5) وعرف صحته، ولكن خالفه لاعتقاده نسخه، وهذا شيء وذاك شيء، ففي هذا القسم يقع النظر في النسخ وعدمه وفي الأول يقع النظر في صحة الحديث وثقة السند فاعرفه. [هل تجوز الفتيا لمن عنده كتب الحديث؟] الفائدة الثامنة والأربعون: إذا كان عند الرجل "الصَّحيحان" أو أحدهما أو كتاب من سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- موثوق بما فيه، فهل له أن يفتي بما يجده فيه؟ فقالت طائفة من المتأخرين: ليس له ذلك؛ لأنه قد يكون منسوخًا أو له مُعارِض أو يفهم من دلالته خلاف ما يدل عليه أو يكون أمر ندب فيفهم منه الإيجاب أو يكون عامًا له مخصِّص أو مطلقًا له مقيِّد، فلا يجوز له العمل، ولا الفتيا [به] (3) حتى يسأل أهل الفقه [والفتيا] (¬6). وقالت طائفة: بل له أن يعمل به ويفتي به، بل يتعيَّن عليه، كما كان الصحابة يفعلون إذا بلغهم الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وحدَّث به بعضهم بعضًا بادروا إلى العمل به من غير توقّف، ولا بحث عن معارض، ولا يقول أحد منهم قط: هل عمل بهذا فلان وفلان؟! ولو رأوا من يقول ذلك لأنكروا عليه أشد الإنكار، وكذلك التابعون، وهذا معلوم بالضرورة لمن له أدنى خبرة بحال القوم وسيرتهم وطول العهد بالسنة وبُعد الزمان وعتقها لا يسوغ ترك الأخذ بها (¬7) [والعمل بغيرها] (¬8) ولو كانت سنن (¬9) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لا يسوغ العمل بها بعد ¬
صحتها حتى يعمل بها فلان [أو فلان] (¬1) لكان قول فلان أو فلان عيارًا على السنن ومزكيًا لها وشرطًا في العمل بها، وهذا من أبطل الباطل، وقد أقام اللَّه الحجة برسوله دون آحاد الأمة، وقد أمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بتبليغ سنته (¬2)، ودعا لمن بلغها (¬3). فلو (¬4) كان من بلغته لا يعمل بها حتى يعمل بها الإمام فلان، والإمام فلان، لم يكن في تبليغها فائدة وحصل الاكتفاء بقول فلان وفلان. قالوا: والنسخ الواقع في الأحاديث الذي أجمعت عليه الأمة لا يبلغ عشرة أحاديث البتة، [بل] (¬5) ولا شطرها؛ فتقدير وقوع الخطأ في الذهاب إلى المنسوخ (¬6) أقل بكثير من وقوع الخطأ في تقليد من يصيب ويخطئ (¬7)، ويجوز عليه التناقض والاختلاف ويقول القول ثم (¬8) يرجع عنه، ويُحكى عنه في المسألة الواحدة عدة أقوال، ووقوع الخطأ في [فهم] (¬9) كلام المعصوم أقل بكثير من وقوع الخطأ في فهم كلام الفقيه المعيَّن، فلا يفرض احتمال خطأ لمن عمل بالحديث [وأفتى به] (1) إلا وأضعاف [أضعاف] (¬10) أضعافه حاصلٌ لمن أفتى [بتقليد من] (¬11) لا يعلم خطؤه من صوابه. ¬
والصواب في هذه المسألة التفصيل، فإن كانت دلالة الحديث ظاهرة بيِّنة لكلِّ مَنْ سمعه لا يحتمل غير المراد فله أن يعمل به ويفتي به، ولا يطلب له التزكية من قول فقيه أو إمام، بل الحجة قول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإن خالفه من خالفه، وإن كانت دلالته خفيَّة لا يتبين [له] (¬1) المراد منها لم يجز له أن يعمل ولا يفتي بما يتوهمه مرادًا حتى يسأل ويطلب بيان الحديث، [ووجهه] (¬2)، وإن كانت دلالته ظاهرة كالعام على أفراده والأمر على الوجوب والنهي على التحريم، فهل له العمل والفتوى [به] (¬3)؟ يخرَّج على أصل (¬4)، وهو العمل بالظواهر (¬5) قبل البحث عن المعارض (¬6)، وفيه ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره (¬7): الجواز والمنع والفرق بين العام [والخاص] (¬8)، فلا يعمل به قبل البحث عن المخصِّص والأمر والنهي فيعمل به قبل البحث عن المعارض، وهذا كله إذا كان ثَمَّ نوع أهلية ولكنه قاصر في معرفة الفروع وقواعد الأصوليين والعربية، وإذا لم تكن ثمة (¬9) أهلية قط (¬10) ففرضه ما قال اللَّه [تعالى] (2): {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] (¬11). وقول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا سألوا إذا لم يعلموا إنما شفاء العي السؤال" (¬12)، وإذا جاز اعتماد المستفتي على ما يكتبه المفتي من كلامه أو كلام شيخه، وإن علا وصعد (¬13) فمن كلام إمامه، فلأن يجوز اعتماد الرجل على ما كتبه الثقات من كلام رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بالجواز، وإذا قدِّر أنه لم يفهم الحديث، كما لو لم يفهم فتوى المفتي فيسأل من يعرِّفه معناه، كما يسأل من يعرفه معنى جواب المفتي، وباللَّه التوفيق. ¬
[هل للمفتي أن يفتي بغير مذهب إمامه؟]
[هل للمفتي أن يفتي بغير مذهب إمامه؟] الفائدة التاسعة والأربعون: هل للمنتسب إلى تقليد إمام معين أن يفتي بقول غيره؟ لا يخلو [الحال] (¬1) من أمرين: إما أن يسأل عن مذهب ذلك الإمام فقط فيقال له: ما مذهب الشافعي مثلًا في كذا وكذا؟ أو يسأل عن حكم اللَّه الذي أداه إليه اجتهاده، فإن سئل عن مذهب ذلك الإمام لم يكن له أن يخبره بغيره إلا على وجه الإضافة إليه، وإن سئل عن حكم اللَّه من غير أن يقصد السائل قول فقيه معيّن، فههنا يجب عليه الإفتاء بما هو راجح عنده، وأقرب إلى الكتاب والسنة من مذهب إمام أو مذهب من خالفه لا يسعه غير ذلك، فإن لم يتمكن منه وخاف أن يؤدي إلى ترك الإفتاء في تلك المسألة (¬2) لم يكن له أن يفتي بما لا يعلم يعلم أنه صواب، فكيف بما يغلب على ظنه أَنَّ الصواب في خلافه؟ ولا يسع الحاكم والمفتي غير هذا البتة، فإن اللَّه سائلهما عن رسوله وما جاء به، لا عن الإمام المعيَّن، وما قاله، وإنما يُسأل الناس في قبورهم ويوم معادهم عن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- فيُقال له في قبره: ما كنت تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ (¬3). {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ (¬4) فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، ولا (¬5) يُسأل أحد قط عن إمام، ولا شيخ، ولا متبوعٍ غيره، بل يسأل عمن اتَّبعه وأئتم به غيره، فلينظر بماذا يجيب وليعد للجواب صوابًا. وقد سمعت (¬6) شيخنا رحمه اللَّه يقول: جاءني بعض الفقهاء من الحنفية فقال: أستشيرك (¬7) في أمر، قلت: وما (¬8) هو؟ قال: أريد أن انتقل عن مذهبي، قلت له: ولم؟ قال: لأني أرى الأحاديث الصحيحة كثيرًا تخالفه واستشرت في هذا بعض أئمة أصحاب الشافعي فقال لي: ولو (8) رجعت عن مذهبك لم يرتفع ¬
[إذا ترجح عند المفتي مذهب غير مذهب إمامه، فهل يفتي به؟]
ذلك من المذهب، وقد تقرَّرتْ المذاهبُ، ورجوعك غير مفيد، وأشار عليَّ بعض مشايخ التصوف (¬1) بالافتقار إلى اللَّه والتضرع إليه وسؤال الهداية لما يحبه ويرضاه، فماذا تشير به أنت عليَّ؟ قال: فقلت له: اجعل المذهب (¬2) ثلاثة أقسام: قسمٌ الحق فيه ظاهر بيّن موافق للكتاب والسنة فاقض به وأنت به طيّب النفس منشرح الصدر، وقسم مرجوحٌ ومخالفُه معه الدليل، فلا تفت به، ولا تحكم به وادفعه عنك (¬3)، [وقسم] (¬4) من مسائل الاجتهاد التي الأدلة فيها متجاذبة، فإن شئت أن تفتي به، وإنْ شئتَ أن تدفعه عنك فقال: جزاك اللَّه خيرًا، أو كما قال. وقالت طائفة [أخرى] (¬5) منهم أبو عمرو بن الصلاح (¬6)، وأبو عبد اللَّه بن حمدان (¬7): من وجد حديثًا يخالف مذهبه، فإن كملت [آلة] (4) الاجتهاد فيه مطلقًا أو في مذهب إمامه أو في ذلك النوع أو في تلك المسألة فالعمل بذلك الحديث أولى، وإن لم تكمل آلته (¬8)، ووجد في قلبه حزازة من مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنده جوابًا شافيًا (¬9) فلينظر: هل عمل بذلك الحديث إمام مستقل أم لا، فإن وجده فله أن يتمذهب بمذهبه في العمل بذلك الحديث ويكون ذلك عذرًا له في ترك مذهب إمامه في ذلك (¬10)، واللَّه أعلم. [إذا ترجح عند المفتي مذهب غير مذهب إمامه، فهل يفتي به؟] الفائدة الخمسون: هل للمفتي المنتسب إلى مذهب إمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده؟ فإن كان سالكًا سبيل ذلك الإمام في الاجتهاد ومتابعة الدليل أين كان، وهذا هو المتبع للإمام حقيقة فله أن يفتي بما ترجَّح عنده من قول غيره، وإن كان مجتهدًا متقيدًا بأقوال ذلك الإمام لا يعدوها إلى غيرها، فقد قيل: ليس له أن يفتي بغير قول إمامه (¬11)، فإن أراد ذلك حكاه عن ¬
[إذا تساوى عند المفتي قولان فماذا يصنع؟]
قائله حكاية محضة (¬1). والصواب أنه إذا ترجَّح عنده قول غير إمامه بدليل راجح، فلا بد أن يخرَّج على أصول إمامه وقواعده، فإن (¬2) الأئمة متفقة (¬3) على أصول الأحكام ومتى قال بعضهم قولًا مرجوحًا فأصوله ترده وتقتضي القول الراجح فكل قول صحيح فهو يخرج على قواعد الأئمة بلا ريب، فإذا تبيَّن لهذا المجتهد [المقيَّد] (¬4) رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به، وباللَّه التوفيق. وقد قال القفال: لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة قلت: مذهب الشافعي كذا لكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد [أن] (¬5) أعرِّفه [أنَّ] (5) الذي أفتيتُه به غير [مذهبه (5)، فسألت شَيَخنا -قدَّس اللَّه روحه- عن ذلك فقال: أكثر المُستفتين لا يخطر بقلبه] (¬6) مذهب معين عند الواقعة التي يسأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه. [إذا تساوى عند المفتي قولان فماذا يصنع؟] الفائدة الحادية والخمسون: إذا اعتدل عند المفتي قولان، ولم يترجح له أحدهما على الآخر، فقال القاضي أبو يعلى (¬7): له أن يفتي بأيهما شاء، كما يجوز له أن يعمل بأيهما شاء (¬8)، وقيل: بل يُخيِّر المُستفتي فيقول له: أنت مخيَّر بينهما؛ لأنه إنما يفتي بما يراه، والذي يراه هو التخيير (¬9)، وقيل: بل يفتيه بالأحوط من القولين. قلت: الأظهر أنه يتوقف، ولا يفتيه بشيء حتى يتبين له الراجح منهما؛ لأن أحدهما خطأ فليس له أن يفتيه بما لا يعلم أنه صواب وليس له أن يخيره بين الخطأ والصواب، وهذا كما [إذا] (¬10) تعارض عند الطبيب في أمر المريض أمران ¬
[هل للمفتي أن يفتي بالقول الذي رجع عنه إمامه؟]
خطأ وصواب، ولم يتبين له أحدهما لم يكن له أن يقدم على أحدهما ولا يخيره، وكما لو استشاره في أمر فتعارض عنده الخطأ والصواب من غير ترجيح لم يكن له أن يشير بأحدهما ولا يخيره، وكما لو تعارض عنده طريقان مهلكة وموصلة، ولم يتبيَّن له طريق الصواب لم يكن له الإقدام، ولا التخيير فمسائل الحلال والحرام أولى بالتوقف، واللَّه أعلم. [هل للمفتي أن يفتي بالقول الذي رجع عنه إمامه؟] الفائدة الثانية والخمسون: أتْبَاعُ الأئمة يفتون كثيرًا بأقوالهم القديمة التي رجعوا عنها، وهذا موجود في سائر الطوائف، فالحنفية يفتون بلزوم المنذورات (¬1) التي مخرجها مخرج اليمين كالحج والصوم والصدقة (¬2)، وقد حكوا هم عن أبي حنيفة أنه رجع قبل موته بثلاثة أيام إلى التكفير (¬3)، والحنابلة يفتي كثيرٌ منهم بوقوع طلاق السكران، وقد صرَّح الإمام أحمد بالرجوع عنه إلى عدم الوقوع (¬4)، كما تقدم حكايته، والشافعية يفتون بالقول القديم في مسألة التثويب (¬5)، وامتداد وقت المغرب (¬6) ومسألة التباعد عن النجاسة في الماء الكثير (¬7) وعدم [استحباب] (¬8) قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين (¬9) وغير ذلك من المسائل وهي أكثر من عشرين مسألة (¬10)، ومن المعلوم أن القول الذي صرَّح بالرجوع عنه لم يبق مذهبًا له، فإذا أفتى المفتي به مع نصه على خلافه لرجحانه عنده، لم يخرجه ذلك عن التمذهب بمذهبه، فما الذي يحرم (¬11) عليه أن يفتي بقول غيره من الأئمة الأربعة وغيرهم إذا ترجح عنده؟ ¬
[لا يجوز للمفتي أن يفتي بما يخالف النص]
فإن قيل: الأول قد كان مذهبًا له مرة بخلاف ما لم يقل به قط. قيل: هذا فرق عديم التأثير؛ إذ ما قال به وصرح بالرجوع عنه بمنزلة ما لم يقله، وهذا كلُّه مما يبيّن أن أهل العلم لا يتقيدون بالتَّقليد المحض الذي يهجرون لإجله قولَ كلِّ مَن خالف من قلَّدوه (¬1). وهذه طريقة ذميمة وخيمة حادثة في الإسلام، مستلزمة لأنواع من الخطأ ومخالفة الصواب، واللَّه أعلم. [لا يجوز للمفتي أن يفتي بما يخالف النص] الفائدة الثالثة (¬2) والخمسون: يحرم على المفتي أن يفتي بضد لفظِ النَّص وإن وافق مذهبه. ومثاله: أن يُسأل عن رجل صلَّى من الصبح ركعة، ثم طلعت الشمس هل يتم صلاته أم لا؟ فيقول: لا يتمّها، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "فليتم صلاته" (¬3). ومثل أن يُسئل عمَّن مات (¬4) وعليه [دين] (¬5) صيام هل يصوم عنه وليه؟ فيقول: لا يصوم عنه وليه (¬6)، ورسول اللَّه (¬7) -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول (¬8): "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬9). ومثل أن يُسأل عن رجل باع متاعه ثم أفلس المشتري فوجده بعينه، هل هو ¬
أحق به؟ فيقول: ليس [هو] (¬1) أحق به، وصاحب الشرع يقول: "فهو أحقُّ به" (¬2). ومثل أن يُسأل عن رجل أكل في رمضان أو شرب ناسيًا هل يتم صومه؟ فيقول: لا يتم [صومه، وصاحب الشرع] يقول: "فليتم صومه" (¬3). ومثل أن يُسأل عن أكل ذي ناب من السباع هل هو حرام؟ فيقول: ليس بحرام، ورسول اللَّه (¬4) -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "أكلُّ كل ذي ناب من السباع حرام" (¬5). ومثل أن يُسأل عن الرجل هل له منع جاره من غرز خشبة في جداره؟ فيقول: له أن يمنعه، وصاحب الشرع يقول: "لا يمنعه" (¬6). ومثل أن يُسأل: هل تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه من ركوعه وسجوده؟ [فيقول: تجزيه صلاته، وصاحب الشرع [-صلى اللَّه عليه وسلم-]، (¬7) يقول: "لا تجزئ صلاة لا يقيم الرَّجلُ فيها صلبه بين ركوعه وسجوده" (¬8). [أو يُسأل] (¬9) عن مسألة التفضيل بين الأولاد في العطيِّة هل يصح (¬10) أو لا يصح (10)؟ وهل هو جَوْر أم لا؟ فيقول: يصح (10)، وليس بجور، وصاحب الشرع يقول: "إن هذا لا يصح" (10)، ويقول: "لا تشهدني على جور" (¬11). ومثل أن (¬12) يُسأل عن الواهب: هل يحل له أن يرجع في هبته؟ فيقول: نعم ¬
يحل له [أن يرجع] (¬1) إلا أن يكون والدًا أو قرابة، فلا يرجع وصاحب الشرع يقول: "لا يحل لواهب أن يوجع في هبته إلا الوالد فيما يهب ولده" (¬2). ومثل أن يُسأل عن رجل له شِرْك في أرض أو دار أو بستان هل يحلُّ له أن يبيع حصته (¬3) قبل إعلام شريكه بالبيع وعرضها عليه؟ فيقول: نعم، يحل له أن يبيع قبل إعلامه وصاحب الشرع يقول: "من كان له شِرْك في أرض أو رَبْعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه" (¬4). ومثل أن يُسأل عن قتل المسلم بالكافر، فيقول: نعم، يقتل بالكافر وصاحب الشرع يقول: "لا يقتل مسلم بكافر" (¬5). ومثل أن يُسأل عمن زرع في أرض قوم بغير إذنهم [هل الزرع له أم لصاحب الأرض] (¬6)؟ فيقول: له الزرع (¬7)، وصاحب الشرع يقول: " [من زرع في أرض قوم بغير إذنهم] (6) فليس له من الزرع شيء وله نفقته" (¬8). ومثل أن يُسأل: هل يصح تعليق الولاية بالشرط؟ (¬9) فيقول: لا يصح، ¬
وصاحب الشرع يقول: "أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد اللَّه بن رواحة" (¬1). ومثل أن يُسأل: هل يحل القضاء بالشاهد واليمين؟ فيقول: لا يجوز، وصاحب الشرع قضى بالشاهد واليمين (¬2). ومثل أن يُسأل عن الصلاة الوسطى: هل هي صلاة العصر أم لا (¬3)؟ فيقول: ليست العصر، وقد قال صاحب الشريعة (¬4): "صلاة الوسطى صلاة العصر" (¬5). ومثل أن يُسأل عن يوم الحج الأكبر: هل هو يوم النحر أم لا؟ فيقول: ليس يوم النحر، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يوم الحج الأكبر يوم النحر" (¬6). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ومثل أن يُسأل هل يجوز الوتر بركعة واحدة؟ فيقول: لا يجوز الوتر بركعة واحدة، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" (¬1). ومثل أن يُسأل: هل يسجد في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، و {اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]؟ فيقول: لا يسجد [فيهما] (¬2)، وقد سجد فيهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬3). ومثل أن يُسأل عن رجل عض يد رجل، فانتزعها من فيه فسقطت أسنانه؟ فيقول: له ديتها، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا ديةَ له" (¬4). ومثل أن يُسأل عن رجل اطَّلع في بيت رجل فخذفه ففقأ عينه: هل عليه جناح؟ فيقول: نعم عليه جناح، وتلزمه دية عينه، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إنه لو فعل ذلك لم يكن عليه جناح (¬5). ومثل أن يُسال عن رجل اشترى شاة أو بقرة أو ناقة فوجدها مصرَّاة فهل له ردها ورد صاع من تمر معها أم لا؟ فيقول (¬6): لا يجوز له ردها ورد الصاع من ¬
التمر معها، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن سخطها ردها وصاعًا من تمر" (¬1). ومثل أن يُسأل عن الزاني البكر: هل عليه مع الجلد تغريب؟ فيقول: لا تغريب عليه، وصاحب الشرع يقول: "عليه جلد مئة وتغريب عام" (¬2). ومثل أن يُسأل عن الخضراوات: هل فيها زكاة؟ فيقول: يجب فيها الزكاة، وصاحب الشرع يقول: "لا زكاة في الخضراوات" (¬3). أو يُسأل عما دون خمسة أوْسُق: هل فيه زكاة؟ فيقول: نعم، تجب فيه الزكاة وصاحب الشرع يقول: "لا زكاة فيما دون خمسة أوسق" (¬4). أو يُسأل عن امرأة أنكحت نفسها بدون إذن وليها فيقول: نكاحها (¬5) صحيح، وصاحب الشرع يقول: "فنكاحها باطل [باطل باطل] " (¬6). أو يُسال عن المحلِّل والمحلَّل له: هل يستحقان اللعنة؟ فيقول: لا يستحقان اللعنة، وقد لعنهما رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في غير وجه (¬7). ¬
أو يُسأل عن إكمال عدة شعبان (¬1) ثلاثين يومًا ليلة الإغمام (¬2)، فيقول: لا يجوز إكماله ثلاثين يومًا (¬3)، وقد قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: " [فإن غُمَّ عليكم] فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا" (¬4). أو يُسأل عن المطلقة المبتوتة: هل لها نفقة وسكنى؟ فيقول: نعم لها النفقة والسكنى وصاحب الشرع يقول. "لا نفقة لها، ولا سكنى" (¬5). أو يُسأل عن الإمام: هل يستحب له أن يسلم في الصلاة تسليمتين؟ فيقول: يُكره ذلك، ولا يستحب، وقد روى خمسة عشر نفسًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه "كان يسلم عن يمينه وعن يساره السلام عليكم ورحمة اللَّه، السلام عليكم ورحمة اللَّه" (¬6). أو يُسأل عمن رفع يديه عند الركوع والرفع منه: هل صلاته مكروهة أو [هي] (¬7) ناقصة؟ فيقول: نعم تكره صلاته، أو هي ناقصة، وربما غلا فقال: باطلة، وقد روى بضعة وعشرون نفسًا عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه: "كان يرفع يديه عند الافتتاح وعند الركوع و [عند] الرفع منه" (¬8) بأسانيد صحيحة لا مطعن فيها (¬9). أو يُسأل عن بول الغلام الذي لم يأكل الطعام هل يجزئ فيه الرش [أم ¬
يجب الغسل] (¬1)؛ فيقول: لا يجزئ [فيه الرش] (8)، وصاحب الشرع يقول: "يرش من بول الغلام" (¬2). ورشه [هو] (¬3) بنفسه (¬4). أو يُسأل عن التيمم: هل يكفي بضربة واحدة إلى الكوعين؟ فيقول: لا يكفي ولا يجزئ، وصاحب الشرع قد نص [على] (¬5) أنه يكفي نصًا صحيحًا [صريحًا] (¬6) لا مدفع له (¬7). أو يُسأل عن بيع الرطب بالتمر: هل يجوز؟ فيقول: نعم يجوز، وصاحب الشرع يسأل عنه فيقول: "لا آذن" (¬8). ¬
أو يُسأل عن رجل أعتق ستة عبيد لا يملك غيرهم عند موته: هل تكمل الحرية في اثنين منهم [أو يعتق من كل واحد سدسه؟ فيقول: لا تكمل (¬1) الحرية في اثنين منهم، وقد أقرع [بينهم] (¬2) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكمل الحرية في اثنين] (¬3)، وأرق أربعة (¬4). أو يُسأل عن القرعة: هل هي جائزة أم باطلة؟ فيقول: [لا] (¬5)، بل هي باطلة، وهي من أحكام الجاهلية، وقد أقرع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأمر بالقرعة في غير موضع (¬6). أو يُسأل عن الرجل يصلي خلف الصف وحده هل له صلاة أم لا [صلاة له] (¬7)؟ هل يؤمر بالإعادة؟ فيقول: نعم له صلاة، ولا يؤمر بالإعادة، وقد قال صاحب الشريعة (¬8): "لا صلاة له"، وأمره بالإعادة (¬9). أو يُسأل: هل للرجل (¬10) رخصة في ترك الجماعة من غير عذر؟ فيقول: نعم له رخصة، ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "لا أجد لك رخصة" (¬11). ¬
أو يسأل عن رجل أسلف رجلًا مالًا (¬1) وباعه سلعة هل يحل ذلك؟ فيقول: نعم يحل ذلك، وصاحب الشرع [صلى اللَّه عليه وسلم]، يقول: "لا يحل سلف وبيع" (¬2). ونظائر ذلك كثيرة جدًا، وقد كان السَّلفُ الطَّيِّب يشتدُّ نكيرُهم وغضبُهم على مَنْ عارض حديثَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- برأي أو قياس أو استحسان أو قول أحد من الناس كائنًا من كان، ويهجرون فاعل ذلك (¬3)، وينكرون على من يضرب له الأمثال (¬4)، ولا يسوِّغون غير الانقياد [له] (¬5) والتسليم والتلقي بالسمع والطاعة، ولا يخطر بقلوبهم (¬6) التوقف في قبوله حتى يشهد له عمل أو قياس أو يوافق قول فلان وفلان، بل كانوا عاملين بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ ¬
[لا يجوز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي]
وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، وبقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وبقوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] وأمثالها، فدفعنا إلى زمان إذا قيل لأحدهم: "ثبت عن النبي (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال كذا وكذا"، يقول: من قال بهذا (¬2)؟! ويجعل هذا دفعًا في صدر الحديث، يجعل (¬3) جهله بالقائل [به] (¬4) حجة له في مخالفته وترك العمل به، ولو نصح نفسه لعلم أن هذا الكلام من أعظم الباطل، وأنه لا يحل له دفع سنن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بمثل هذا الجهل، وأقبح من ذلك عذره في جهله إذ يعتقد (¬5) أن الإجماع منعقد على مخالفة تلك السنة، وهذا سوء ظن بجماعة المسلمين إذ ينسبهم (¬6) إلى اتفاقهم على مخالفة سنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأقبح من ذلك: عذرُه في دعوى هذا الإجماع، وهو جهله وعدم علمه بمن قال بالحديث، فعاد (¬7) الأمر إلى تقديم جهله على السنة، واللَّه المستعان. ولا يعرف إمام من أئمة الإسلام البتة قال: لا نعمل بحديث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى نعرف من عمل به، [فإن جَهِل مَنْ بلغه الحديث مَنْ عَمِل به لم يحل له أن يعمل به] (¬8)، كما يقول (¬9) هذا القائل. [لا يجوز إخراج النصوص عن ظاهرها لتوافق مذهب المفتي] الفائدة الخامسة والخمسون (¬10): إذا سئل عن تفسير آية من كتاب اللَّه تعالى أو سنة رسول اللَّه (¬11) -صلى اللَّه عليه وسلم- فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه (¬12) التأويلات ¬
الفاسدة الموافقة (¬1) نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه، وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرَّح به أئمة الإسلام قديمًا وحديثًا. قال أبو حاتم الرازي: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي: "الأصل قرآن أو سنة، فإنْ لم يكن: فقياسٌ عليهما (¬2)، وإذا اتَّصل الحديثُ عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصحَّ الإسناد [به] (¬3) فهو المنتهى، والإجماع أكبر (¬4) من الخبر المنفرد (¬5)، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني (¬6): فما أشبَه منها ظاهره أولاها به، فإذا تكافأت الأحاديث فأصحَّها إسنادًا أولاها، وليس المنقطع بشيء، ما عدا منقطع [سعيد] (¬7) بن المسيِّب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال لأصل: لم؟ وكيف؟ وإنما يُقال للفرع: لم؟ (¬8) فإذا صَحَّ قياسُه على الأصل صح وقامت به الحجة". رواه الأصم عن أبي حاتم (¬9). وقال أبو المعالي الجويني في "الرسالة النظامية، في الأركان الإسلامية" (¬10): ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب [تعالى] (¬11)، والذي نرتضيه رأيًا وندين اللَّه به عقدًا (¬12) اتباع سلف الأمة، فالأولى الاتباع وترك الابتداع والدليل السمعي القاطع في ذلك أن إجماع الأمة حجة متبعة، وهو مستند معظم الشريعة، وقد درج صحب الرسول (¬13) -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة ¬
الإسلام والمستقلون بأعباء الشريعة، وكانوا لا يألون جهدًا في ضبط قواعد الملَّة، والتَّواصي بحفظها، وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغًا أو محتومًا لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين [لهم] (¬1) على الإضراب عن التأويل، كان ذلك قاطعًا بأنه الوجه المتبع، فحقّ على ذي الدين أن يعتقد تنزيه الباري عن صفات المحدثين، ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى (¬2). وعند (¬3) إمام القرَّاء وسيدهم الوقوف (¬4) على قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] من العزائم، ثم الابتداء بقوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]. ومما استحسن من كلام مالك أنه (¬5) سئل عن قوله تعالى (¬6): {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة (¬7)، فلْتُجْر آية الاستواء والمجيء وقوله: ¬
{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [طه: 75]، وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ [ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ]} (¬1) [الرحمن: 27] وقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول (¬2)، وغيره على ما ذكرنا انتهى كلامه. وقال أبو حامد الغزالي: الصواب للخلف [سلوك مسلك السلف في] (¬3) الإيمان المرسل، والتصديق المجْمل، وما قاله اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلا بحثٍ و [لا] (¬4) تفتيش. وقال في كتاب "التفرقة" (¬5): "الحق الاتِّباع والكف عن تغيير الظواهر رأسًا، والحذر من (¬6) أتباع تأويلات لم يصرح بها الصحابة، وحسم باب السؤال رأسًا، والزجر عن الخوض في الكلام والبحث" إلى أن قال: "ومن الناس من يبادر إلى التأويل ظنًا لا قطعًا، فإن كان فَتْحُ هذا الباب والتصريح به يؤدي إلى تشويش قلوب العوام بُدِّعَ صاحبه، وكل ما لم يؤثر عن السلف ذكره، وما يتعلق من هذا الجنس بأصول العقائد المهمة، فيجب تكفير من يغيّر الظواهر (¬7) بغير برهان قاطع". وقال أيضًا: "كل ما لم يحتمل التأويل في نفسه وتواتر نقله ولم يتصور أن يقوم على خلافه برهان فمخالفته تكذيب [محض] (¬8)، وما تطرق إليه احتمال تأويل ولو بمجاز بعيد، فإن كان برهانه قاطعًا وجب القول به، وإن كان البرهان يفيد ظنًا غالبًا، ولا يعظم ضرره (¬9) في الدين فهو بدعة، وإن عظم ضرره [في الدين] فهو كفر" (¬10). قال: "ولم تجر عادة السلف [بالدعوة] (8) بهذه المجادلات (¬11)، بل شدَّدوا ¬
القول على من يخوض في الكلام ويشتغل بالبحث والسؤال". و [قد] (¬1) قال أيضًا: "الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف، والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم [في الصبا] (¬2)، بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذَّر التعبير عنها". قال: "وقال شيخنا أبو المعالي: يحرص الإمام ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل السلف في ذلك" (¬3)، انتهى. وقد اتَّفقتْ الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله، وكلام الإمام الشافعي ومذهبه فيهم معروف (¬4) عند جميع أصحابه، وهو: "أنهم يُضربون ويطاف بهم في قبائلهم وعشائرهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام" (¬5). وقال: "لقد اطّلعت من أهل الكلام على شيء ما كنت أظنه" (¬6) وقال: "لأن يبتلى العبد بكل شيء نهى عنه غير الكفر أيسر من أن يُبتلى بالكلام" (¬7)، وقال ¬
لحفص الفرد (¬1): أنا أخالفك في كل شيء حتى في قول: لا إله إلا اللَّه، أنا أقول: لا إله إلا اللَّه الذي يُرى في الآخرة، والذي كلم موسى تكليمًا، وأنت تقول: لا إله إلا اللَّه الذي لا يُرى في الآخرة، ولا يتكلم. وقال البيهقي في "مناقبه" (¬2): ذكر الشافعي إبراهيم بن إسماعيل ابن عليَّة فقال: "أنا مخالف له في كل شيء، وفي قوله: لا إله إلا اللَّه، لست أقول كما يقول، أنا أقول: لا إله إلا اللَّه الذي كلَّم موسى من وراء حجاب، وذاك يقول: لا إله إلا اللَّه الذي خلق كلامًا أسمعه موسى من وراء حجاب". وقال في أول خطبة "رسالته" (¬3): "الحمد للَّه الذي هو كما وصف به نفسه وفوق ما يصفه به الواصفون من خلقه". وهذا تصريح بأنه لا يوصف إلا بما وصف به نفسه [تعالى] (¬4)، وأنه يتعالى ويتنزه عما يصفه به المتكلمون وغيرهم مما لم يصف به نفسه. وقال (¬5) أبو نصر أحمد بن محمد بن خالد (¬6) السجزي: سمعت أبي يقول: قلت لأبي العباس بن سُريج: ما التوحيد؟ فقال: "توحيد أهل العلم وجماعة المسلمين: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه، وتوحيد أهل الباطل: الخوض في الأعراض والأجسام، إنما بعث رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بإنكار ذلك" (¬7). ¬
وقال بعض أهل العلم: كيف لا يَخشى الكذب على اللَّه ورسوله مَنْ يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز (¬1) والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية؟ وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال اللَّه فيهم (¬2): {وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء: 18]، قال الحسن: "هي واللَّه لكل واصف كذبًا إلى يوم القيامة" (¬3)، وهل يأمن أن يتناوله قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: 152] قال ابن عيينة: هي لكل مُفترٍ من هذه الأمة إلى يوم القيامة (¬4)، وقد نزَّه سبحانه [وتعالى] (¬5) نفسه عن كل ما يصفه به خلقه إلا المرسلين، فإنهم [إنما] (¬6) يصفونه بما أذن لهم أن يصفوه به فقال تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 180 - 181]، وقال تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 160 - 161]، ويكفي المتأولين كلام اللَّه تعالى وكلام رسوله (¬7) -صلى اللَّه عليه وسلم- بالتأويلات التي لم يردها، ولم يدل عليها كلام اللَّه [تعالى] (¬8) أنهم قالوا برأيهم على اللَّه [تعالى] (¬9)، وقدّموا آراءهم على نصوص الوحي وجعلوها (¬10) عيارًا على كلام اللَّه [تعالى] (9) ورسوله، ولو علموا أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها؛ لكان (¬11) أحدهم أن يخرَّ من السماء [إلى الأرض] (6) أحب إليه من أن يتعاطى شيئًا من ذلك، فكل صاحب باطل قد ¬
[الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل]
جعل ما تأوَّله المتأولون عذرًا له فيما تأوله [هو] (¬1)، وقال: ما الذي حرَّم عليَّ التأويل وأباحه لكم؟ فتأولت الطائفة المنكِرَة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات، بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وقالوا (¬2): كيف [نحن] (1) نعاقب على تأويلنا وتؤجرون [أنتم] (1) على تأويلكم؟ قالوا: ونصوص الوحي بالصفات أظهر وأكثر (¬3) من نصوصه بالمعاد، ودلالة النصوص عليها أَبين فكيف يسوغ تأويلها بما يخالف ظاهرها، ولا يسوغ لنا تأويل نصوص المعاد؟ وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (1)، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك القدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية [وغيرهم] (1) من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم، وكذلك القرامطة والباطنية طردت الباب، وطمَّت الوادي على القَرِيِّ (¬4)، وتأولت الدين كله، فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده اللَّه ورسوله بكلامه، ولا دلَّ عليه أنه مراده وهل اختلفت الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل؟ وهل وقدت في الأمة فتنة كبيرة أو صغيره إلا بالتأويل؟ فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل؟ [الأديان السابقة إنما فسدت بالتأويل] وليس هذا مختصًا بدين الإسلام فقط، بل سائر أديان الرسل لم تزل على الاستقامة والسداد حتى دخل عليها (¬5) التأويل فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد. وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد -صلى اللَّه عليه وسلم- في الكتب المتقدمة، ولكن سلَّطوا عليها التأويلات فأفسدوها، كما أخبر سبحانه عنهم (¬6) من التحريف والتبديل والكتمان، فالتحريف (¬7) تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يُرِدها ¬
[دواعي التأويل]
المتكلم بها، والتبديل تبديل لفظ بلفظ آخر، والكتمان جحده، وهذه الأدواء الثلاثة منها غيرت الأديان والملل، وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى إفساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد [قط] (1) مثله في شيء من الأديان، ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل، وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى إفساد ديانات الرسل [صلوات اللَّه وسلامه عليهم] (¬1) بالتأويل، ومن بابه دخلوا، وعلى أساسه بنوا، وعلى نقطه خطوا (¬2). [دواعي التأويل] والمتأوّلون أصناف عديدة، بحسب الباعث لهم على التأويل، وبحسب قصور أفهامهم ووفورها (¬3)، وأعظمهم توغلًا في التأويل الباطل من فَسَد قصدُه وفهمُه؛ فكلما ساء قصده وقَصُر فهمُه كان تأويلُه أشدَّ انحرافًا، فمنهم من يكون تأويله لنوع [هوًى من غير شُبهة، بل يكون على بصيرة من الحق، ومنهم من يكون تأويله لنوع] (¬4) شبهة عرضت له أخْفَتْ عليه الحق، [ومنهم من يكون تأويله لنوع هدًى من غير شبهة، بل يكون على بصيرة من الحق] (¬5)، ومنهم من يجتمع له الأمران الهوى في القصد والشُّبهة في العلم. [بعض آثار التأويل] وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرَّة وفتنة ابن الزبيز وهلم جرا بالتأويل، [وإنما دخل أعداء] (6) الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والباطنية والإسماعيلية والنُّصيرية من باب التأويل، [فما امتُحن] (¬6) الإسلام بمحنة قط إلا وسببها التأويل، فإن محنته إمَّا من المتأولين، وإما ممن (¬7) يسلط عليهم الكفار [بسبب] (6) ما ارتكبوا من التأويل وخالفوا ظاهر التنزيل وتعلَّلوا بالأباطيل، فما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل؟ حتى ¬
رفع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يديه وتبرأ إلى اللَّه من فعل المتأول بقتلهم وأخذ أموالهم (¬1)، وما الذي أوجب تأخر الصحابة -رضي اللَّه عنهم- يوم الحديبية عن موافقة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- غير التأويل؟ حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل (¬2)، وما الذي سفك دم أمير المؤمنين عثمان ظلمًا وعدوانًا وأوقع الأمة فيما أوقعها [فيه] (¬3) حتى الآن غير التأويل؟ وما الذي سفك دم علي [-رضي اللَّه عنه-] (3)، وابنه الحسين، وأهل بيته رضي اللَّه تعالى عنهم غير التأويل؟ وما الذي أراق دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل؟ وما الذي أراق دم ابن الزبير (¬4) وحُجْر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟ وما الذي أريقت [عليه] (3) دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل؟ وما الذي جرَّد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط [حتى] (3) عجَّت الخليقة إلى ربها تعالى غير التأويل؟ وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي (¬5) وخَلّد خلقًا من العلماء في [السجون] (¬6) حتى ماتوا غير التأويل؟ وما الذي سلَّط سيوف التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟ [وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟] (3) وهل فَتْح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم اللَّه في تعليمه عباده البيان الذي امتنَّ [اللَّه] (¬7) في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه؟ فالتأويل بالألغاز والأحاجيِّ والأغلوطات أولى منه بالبيان والتبيين، وهل فَرْقٌ بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن اللَّه وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له وبين رده وعدم قبوله؟ ولكن هذا رد جحود ومعاندة وذاك رد خِدَاع ومصانعة. قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بـ"الكشف عن مناهج ¬
[مثل المتأولين]
الأدلة" (¬1)، وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة إلى أن قال: " {فَأَمَّا (¬2) الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7] وهؤلاء أهل الجدل والكلام، وأشدُّ ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأوَّلوا كثيرًا مما ظنوه ليس على ظاهره، وقالوا: إن هذا التأويل [ليس] (¬3) هو المقصود به، وإنما أتى (¬4) اللَّه به في صورة المتشابه ابتلاءً لعباده واختبارًا لهم، ونعوذ باللَّه من هذا الظن (¬5) باللَّه، بل نقول: إن كتاب (¬6) اللَّه العزيز إنما جاء معجزًا من جهة الوضوح والبيان، فإذا ما (¬7) أبعد من مقصد الشارع من قال فيما ليس بمتشابه إنه [متشابه] (¬8)، ثم أوَّل ذلك المتشابه بزعمه، ثم (¬9) قال لجميع الناس: إن فرضكم [هو] (8) اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية [الاستواء] (8) على العرش، وغير ذلك مما قالوا: إن ظاهره متشابه" ثم قال: "وبالجملة فأكثر التأويلات التي زعم [القائلون بها] (¬10) أنها [من] المقصود من الشرع إذا تؤمِّلتْ وجدت ليس يقوم عليها برهان". [مثل المتأولين] إلى أن قال: "ومثال [مَنْ أوَّل] (¬11) شيئًا من الشرع وزعم أن ما أوله (¬12) هو الذي قصده الشرع (¬13) مثال من أتى إلى دواء قد ركّبه طبيبٌ [ماهرٌ] (10) ليحفظ صحَّة جميع الناس أو الأكثر (¬14)، فجاء رجل فلم يلائمه ذلك الدواءُ [المركب] الأعظم لرداءة مزاج [كان به ليس] (10) يعرض إلا للأقل من الناس، فزعم أن ¬
[بعض] (1) تلك الأدوية التي صرَّح باسمها الطبيب الأول [في ذلك الدواء] (1) العام المنفعة [المركب] لم يرد به ذلك الدواء العام الذي جرت العادة في اللسان أن يدل بذلك الاسم عليه، وإنما أراد به دواء [آخر مما يمكن أن] (1) يدل عليه بذلك باستعارة بعيدة، فأزال ذلك الدواء الأول من ذلك المركب الأعظم، وجعل فيه بدله الدواءَ الذي ظن أن قصده الطبيب، [وقال للناس: هذا هو الذي قصده الطبيب] (1) الأول، فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله [عليه] (¬1) هذا المتأول، ففسدت [به] أمزجة كثير من الناس، فجاء آخرون فشعروا بفساد أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب، فراموا إصلاحه بأن بدلوا بعض أدويته بدواء آخر غير الدواء الأول، فعرض من ذلك للناس (¬2) نوع من المرض غير النوع الأول، فجاء ثالث فتأول في أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني، فعرض للناس من ذلك نوع ثالث من المرض غير النوَعيْن المتقدِّمين، فجاء متأوّلٌ رابعٌ فتأوَّل دواءً آخر غير الأدوية المتقدّمة، [فعرض منه للناس نوع رابع من المرض غير الأمراض المتقدمة] (1)، فلما طال الزمان بهذا الدواء المركب الأعظم، وسلَّط الناس التأويل على أدويته وغيَّروها، وبدَّلوها عرض [منه] (1) للناس أمراض شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس. وهذه هي حالة (¬3) الفرق الحادثة [في هذه الطريقة] (¬4) مع الشريعة؛ وذلك أنَّ كلَّ فرقة منهم تأوَّلت [في الشريعة تأويلًا] غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه [هو الذي] (¬5) قصده صاحب الشرع حتى تمزق الشرع كلَّ ممزق، وبَعُد جدًا عن موضعهه (¬6) الأول. ولما علم صاحب الشرع [صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله] (1) لأن مثل هذا يعرض -ولا بد- في شريعته قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة" (¬7) يعني بالواحدة ¬
[لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي]
التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله (¬1). وأنت إذا تأملت ما عرض في الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض فيها من قِبَل التأويل تبيَّنت أن هذا المثال صحيح. وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج، ثم المعتزلة بعدهم، ثم الأشعرية، ثم الصوفية، ثم جاء أبو حامد (¬2) فطمَّ الوادي على القَرِيِّ" (¬3)، هذا كلامه بلفظه (¬4). ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين، وما نال الأمم قديمًا وحديثًا بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدَّة أسفار (¬5)، واللَّه المستعان. [لا يعمل بالفتوى حتى يطمئن لها قلب المستفتي] الفائدة السادسة والخمسون: لا يجوز العمل (¬6) بمجرد فتوى المفتي إذا لم تطمئن نفسه، وحاك في صدره من قبوله (¬7)، وتردد فيها؛ لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استفت نفسك (¬8)، وإن أفتاك الناس وأفتوك" (¬9)، فيجب عليه أن يستفتي نفسه أولًا، ولا تخلِّصه فتوى المفتي من اللَّه إذا كان يعلم أن الأمر في الباطن بخلاف ما أفتاه، كما لا ينفعه قضاء القاضي له بذلك، كما قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من قضيت له بشيء من [حق] (¬10) أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من نار" (¬11) والمفتي والقاضي ¬
في هذا سواء، ولا يظنّ المُستفتي أنَّ مجرد فتوى الفقيه تُبيح له ما سأل عنه إذا كان يعلم أن الأمر بخلافه في الباطن، سواء تردد أو حاك في صدره، لعلمه بالحال [في] (¬1) الباطن، أو لشكِّه فيه، أو لجهله به (¬2)، أو لعلمه جهل المفتي أو محاباته في فتواه (¬3)، أو عدم تقييده (¬4) بالكتاب والسنة، [أو] (1) لأنه معروف بالفتوى بالحيل والرُّخص المخالفة للسنة، وغير ذلك من الأسباب المانعة من الثقة بفتواه [وسكون] (6) النفس إليها، فإن كان عدم الثقة والطمأنينة لأجل المفتي سأل (¬5) ثانيًا وثالثًا، حتى تحصل له الطمأنينة، [فإن لم] (1) يجد، فلا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها والواجب تقوى اللَّه بحسب الاستطاعة. فإن كان في البلد مفتيان [أحدهما] (1) أعلم من الآخر، فهل يجوز استفتاء المفضول مع وجود الفاضل؟ فيه قولان للفقهاء، وهما وجهان [لأصحاب] (1) الشافعي وأحمد، فمن جوَّز ذلك رأى أنه يقبل قوله إذا كان وحده فوجود من هو أفضل منه لا يمنع [من قبول قوله] (1) كالشاهد، ومن منع استفتاءه قال: المقصود حصول ما يغلب على الظن الإصابة [وغلبة الظن بفتوى] الأعلم أقوى فيتعيَّن (¬6)، والحق التفصيل بأن المفضول إن ترجَّح بديانة أو ورع أو تحرٍّ للصواب، وعدم ذلك الفاضل فاستفتاء المفضول جائز إنْ لم يتعين، وإن استويا فاستفتاء الأعلم أولى، واللَّه أعلم (¬7). ¬
[الترجمان عند المفتي]
[الترجمان عند المفتي] الفائدة السابعة والخمسون: إذا لم يعرف (¬1) المفتي لسان السائل أو لم يعرف المستفتي لسان المفتي، أجزأ ترجمة واحد بينهما، لأنه خبر محض فيكتفي فيه بواحد كأخبار الديانات [والطب] (¬2)، وطرد هذا الاكتفاء بترجمة الواحد (¬3) في الجرح والتعديل، والرسالة والدعوى والإقرار والإنكار (¬4) بين يدي الحاكم، والتعريف في إحدى الروايتين، وهي مذهب أبي حنيفة (¬5) واختارها أبو بكر (¬6) إجراءً لها مجرى الخبر، والرواية الثانية: لا يقبل في هذه المواضع أقل من اثنين، إجراء لها مجرى الشهادة (¬7)، وسلوكًا بها سبيلها لأنها تُثبت الإقرار عند الحاكم وتثبت عدالة الشهود وجرحهم فافتقرت إلى العدد، كما لو شهد على إقراره شاهد واحد، فإنه لا يُكتفى به، وهذا بخلاف ترجمة الفتوى والسؤال فإنه خبر محض فافترقا. ¬
[ما يصنع المفتي في جواب سؤال يحتمل عدة صور]
[ما يصنع المفتي في جواب سؤال يحتمل عدة صور] الفائدة الثامنة والخمسون: إذا كان السؤال محتملًا لصور عديدة، فإن لم يعلم [المفتي] (¬1) الصورة المسئول عنها لم يجب عن صورة واحدة منها، وإن علم الصورة المسئول عنها فله أن يخصها بالجواب، ولكن يقيد لئلا يتوهم أن الجواب عن غيرها، فيقول: إن (¬2) كان الأمر كيت وكيت أو كان المسئول عنه كذا وكذا فالجواب كذا وكذا، وله أن يفرد كل صورة بجواب فيفصِّل الأقسام المحتملة ويذكر حكم كل قسم، ومنع بعضهم من ذلك لوجهين (¬3): أحدهما: أنه ذريعة إلى تعليم الحيل (¬4)، وفتح باب لدخول المستفتي وخروجه من حيث شاء. الثاني: أنه سبب لازدحام أحكام تلك الأقسام على فهم العامي فيضيع مقصودة. والحق التفصيل فيكره حيث استلزم ذلك، ولا يكره -بل يستحب- إذا كان فيه زيادة إيضاح وبيان وإزالة لبس، وقد فصَّل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في كثير من أجوبته بقوله: إن (¬5) كان كذا فالأمر كذا كقوله (¬6) في الذي وقع على جارية امرأته "إن كان استكرهها فهي حرة وعليه لسيدتها مثلها، وإن كانت مطاوعة فهي له وعليه لسيدتها مثلها" (¬7)، [وهذا كثير في فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬8). [ينبغي للمفتي أن يكون حذرًا] الفائدة التاسعة والخمسون: وهي مما ينبغي التفطن له، إن رأى (¬9) المفتي خلال السطور بياضًا يحتمل أن يُلحق به ما يفسد الجواب فليحترز منه، فربما دخل من ذلك عليه مكروه (¬10)، فإما أن يأمر بكتابة غير الورقة، وإما أن يخطَّ على البياض أو يشغله بشيء، كما يحترز منه كتَّاب الوثائق والمكاتيب. ¬
[ينبغي له أن يشاور من يثق به]
وبالجملة فليكن حذرًا فطنًا، ولا يحسن ظنه بكل أحد، وهذا الذي حمل بعض المفتين على أنه كان يقيد السؤال عنده في ورقة، ثم يجيب في ورقة السائل، ومنهم من كان يكتب السؤال في ورقة من عنده، ثم يكتب الجواب وليس شيء من ذلك بلازم، والاعتمادُ على قرائن الأحوال ومعرفة الواقع [والعادة] (¬1). [ينبغي له أن يشاور من يثق به] الفائدة الستون: إن كان عنده من يثق بعلمه ودينه فينبغي له أن يشاوره، ولا يستقل بالجواب ذهابًا بنفسه وارتفاعًا بها أن يستعين على الفتاوى بغيره من أهل العلم، وهذا من الجهل، فقد أثنى اللَّه سبحانه (1) على المؤمنين بأنَّ أمرهم شورى بينهم، وقال [سبحانه و] (¬2) تعالى: لنبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وقد كانت المسألة تنزل بعمر بن الخطاب [-رضي اللَّه عنه-] (¬4)، فيستشير لها من حضر من الصحابة [-رضي اللَّه عنهم-] (4)، وربما جمعهم وشاورهم حتى [كان] (4) يشاور ابن عباس (¬5) [-رضي اللَّه عنهما-] (¬6) وهو إذا ذاك أحدث القوم سنًا، وكان يشاور عليًا (7) [كرم اللَّه وجهه] (¬7) وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف (¬8) وغيرهم رضي اللَّه عنهم [أجمعين] (7)، ولا سيما إذا قصد بذلك تمرين أصحابه وتعليمهم وشحذ أذهانهم، قال البخاري في "صحيحه" (¬9): (باب إلقاء العالم المسألة على ¬
[يجمل بالمفتي أن يكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق]
أصحابه) (¬1)، وأَوْلى ما ألقى عليهم المسألة التي سئل عنها، هذا ما لم يعارض ذلك مفسدة من إفشاء سر السائل أو تعريضه للأذى أو مفسدة لبعض الحاضرين، فلا ينبغي له أن يرتكب ذلك، وكذلك الحكم في عابر الرؤيا؛ فالمفتي، والمعبِّر، والطَّبيب يطلعون من أسرار الناس وعوراتهم على ما لا يطلع عليه غيرهم، فعليهم استعمال الستر فيما لا يُحسن إظهارُه. [يجمل بالمفتي أن يكثر من الدعاء لنفسه بالتوفيق] الفائدة الحادية والستون: حقيق بالمفتي أن يكثر الدعاء بالحديث الصحيح: "اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنَّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" (¬2). وكان شيخُنا كثيرَ الدعاء بذلك، وكان [إذا أشكلت عليه المسائل] (¬3) يقول: "يا معلِّمَ إبراهيم [علمني] (¬4) "، ويكثر الاستغاثة بذلك (¬5) اقتداءً بمعاذ بن جبل [-رضي اللَّه عنه-] (¬6) حيث قال لمالك بن يخامر السكسكي عند موته، وقد رآه يبكي فقال: واللَّه ما أبكي على دنيا كنت (¬7) أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللذين كنت أتعلمهما منك، فقال معاذ بن جبل -رضي اللَّه عنه-: "إن العلم والإيمان مكانهما من ابتغاهما وجدهما، اطلب العلم عند أربعة: عند عويمر أبي الدرداء، وعند عبد اللَّه بن مسعود، وأبي موسى الأشعري، وذكر الرابع، فإن عجز عنه هؤلاء فسائرُ أهلِ الأرض عنه أعجز فعليك بمعلم إبراهيم [صلوات اللَّه عليه] " (¬8). وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ ¬
أنت الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (¬1) [البقرة: 32]. وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا باللَّه [العلي العظيم] (¬2)، وكان مالك يقول: ما شاء اللَّه لا قوة إلا باللَّه [العلي العظيم] (¬3)، وكان بعضهم يقول: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي} (¬4) [طه: 25 - 28] وكان بعضهم يقول: اللهم وَفّقني واهدني وسدّدني واجمع لي بين الصواب والثواب وأعذني من الخطأ والحرمان (¬5)، وكان بعضهم يقرأ الفاتحة، وجزَبنا ذلك نحن (¬6)، فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة. والمعوَّل في ذلك كله على حسن النية، وخلوص القصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلِّم الأول معلِّم الرسل والأنبياء [صلوات اللَّه وسلامه عليهم] (¬7)؛ فإنه لا يرد من صَدَق في التوجه إليه لتبليغ دينه وإرشاد عبيده ونصيحتهم والتخلّص من القول عليه بلا علم، فإذا صدقت نيّتُه ورغبته في ذلك لم يعدم أجرًا، إنْ فاته أجران، واللَّه المستعان. وسئل الإِمام أحمد، فقيل له: ربما اشتد علينا الأمر من جهتك فلمن نسأل بعدك؟ فقال: "سلوا عبد الوهاب الوراق، فإنه أهل أن يوفق للصواب" (¬8)، واقتدى الإِمام أحمد بقول عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-: "اقتربوا (¬9) من أفواه المطيعين واسمعوا منهم ما يقولون، فإنهم تجلَّى لهم أمورٌ صادقة، [وذلك] (¬10) لقُرْب قلوبهم من اللَّه، وكلَّما قَرُب القلبُ من اللَّه زالت عنه معارضاتُ الهوء، وكان نورُ كشفه (¬11) للحق أتمَّ ¬
[لا يسع المفتي أن يجعل غرض السائل سائق حكمه]
وأقوى، وكلّما بَعُد عن اللَّه كَثُرت عليه المعارضات، وضَعُف نورُ كشفهِ للصَّواب، فإنَّ العلمَ نور يقذفه اللَّه في القلب، يفرِّق به العبدُ بين الخطأ والصواب" (¬1). وقال مالك للشافعي -رضي اللَّه عنهما- (¬2) في أول ما لقيه: "إني أرى اللَّه قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بظلمة المعصية" (¬3)، وقد قال تعالى: " {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29]، ومن الفرقان النور الذي يفرق به العبد بين الحق والباطل، وكلما كان قلبه أقرب إلى اللَّه كان فرقانه أتم، وباللَّه التوفيق. [لا يسع المفتي أن يجعل غرض السائل سائق حكمه] الفائدة الثانية والستون: قد تكرر لكثير من أهل الإفتاء الإمساك عما يفتون به مما يعلمون أنه الحق إذا خالف غرض السائل ولم يوافقه، وكثير منهم يسأله عن غرضه، فإن صادفه عنده كتب له وإلا دَلَّهُ على مفتٍ أو مذهب يكون غرضه عنده، وهذا غير جائز على الإطلاق، بل لا بد فيه من التفصيل (¬4)، فإن كان المسئول عنه من مسائل العلم والسنة أو من المسائل العمليات (¬5) التي فيها نص عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يسع المفتي تركه إلى غرض السائل، بل لا يسعه توقُّفه في الإفتاء به على غرض السائل، بل ذلك إثم عظيم، وكيف يسعه من اللَّه أنْ يُقَدِّم غرضَ السائل على اللَّه ورسوله؟ وإن كانت المسألة من المسائل الاجتهادية التي يتجاذب أعنَّتها الأقوالُ والأقيسة، فإن لم يترجّح له قول منها لم يسع له أن يرجِّح لغرض (¬6) السائل، وإن ترجَّح له قول منها، وظن أنه الحق فأولى بذلك، فإن السائل إنما يسأل عما يلزمه في الحكم ويسَعه (¬7) عند اللَّه، فإنْ عرفه المفتي أفتاه به سواء وافق غرضَه أو ¬
[ذكر الفتوى مع دليلها أولى]
خالفه، ولا يسعه ذلك أيضًا إذا علم أَن السائل يدور على مَنْ يفتيه بغرضه في تلك المسألة، فيجعل استفتاءه تنفيذًا لغرضه (¬1)، لا تعبدًا للَّه بأداء حقِّه [عليه] (¬2)، ولا يسعه أَنْ يدلَّه على غرضه أين كان، بل، ولا يجب عليه أن يفتي هذا الضّربَ من الناس (¬3)؛ فإنهم لا يستفتون ديانة، وإنما يستفتون توصُّلًا إلى حصول أغراضهم بأيِّ طريق وافق (¬4)، فلا يجب على المفتي مساعدتهم، فإنهم لا يريدون (¬5) الحقَّ، بل يريدون أغراضهم [بأي طريق وافق] (¬6)، ولهذا إذا وجدوا أغراضهم في أيِّ مذهب اتفق اتَّبعوه في ذلك الموضع وتمذهبوا به، كما يفعله أَرباب الخصومات بالدعاوى عند الحكام، ولا يقصد أحدُهم حاكمًا بعينه، بل أي حاكم نفذ غرضه عنده صار إليه (¬7). وقال شيخنا [رحمه اللَّه] (¬8) مرة: أنا مخيَّر بين إفتاء هؤلاء وتركهم، فإنهم لا يستفتون للدِّين (¬9)، بل لوصولهم إلى أغراضهم حيث كانت، ولو وجدوها عند غيري لم يجيئوا إليَّ؛ بخلاف من يسأل عن دينه، وقد قال اللَّه تعالى لنبيه [-صلى اللَّه عليه وسلم-] (8) في حق من جاءه يتحاكم إليه لأجل غرضه لا لالتزامه لدينه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهل الكتاب: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا} [المائدة: 42] فهؤلاء لما لم يلتزموا دينه لم (¬10) يلزمه الحكم بينهم، واللَّه [تعالي] (7) أعلم. [ذكر الفتوى مع دليلها أولى] الفائدة الثالثة والستون: عاب بعض الناس ذكر الاستدلال في الفتوى (¬11) ¬
[هل يقلد المفتي الميت إذا علم عدالته]
وهذا العيب أولى بالمعيب (¬1)، بل جمال الفتوى وروحها هو الدليل، فكيف يكون ذكر كلام اللَّه ورسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- وإجماع المسلمين وأقوال الصحابة رضوان اللَّه عليهم والقياس الصحيح عيبًا؟ وهل ذكر قول اللَّه ورسوله إلا طراز الفتاوى؟ وقول المفتي ليس بموجب للأخذ به، فإذا ذكر الدليل فقد حرم على المستفتي أَن يخالفه وبرئ هو من عهدة الفتوى بلا علم. وقد كان [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يُسأل عن المسألة فيضرب لها الأمثال ويشبهها بنظائرها، هذا وقوله وحده حجة، فما الظن بمن ليس قوله بحجة ولا يجب الأَخذ به وأحسن أحواله وأعلاها أن يسوغ [له] (¬2) قبول قوله، وهيهات أن يسوغ بلا حجة، وقد كان] (¬3) أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها فيقول: قال اللَّه كذا، وقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كذا (¬4) أو فعل كذا (¬5)، فيشفى السائل، ويبلغ القائل (¬6)، وهذا كثير جدًا في فتاويهم لمن تأمَّلها، ثم جاء التابعون والأئمة بعدهم فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد وبعد العهد بالعلم وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط، ولا يذكر للجواب دليلًا، ولا مأخذًا ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله أن يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى (¬7) ما حالهم في الفتاوى، واللَّه المستعان. [هل يقلد المفتي الميت إذا علم عدالته] الفائدة الرابعة والستون: هل يجوز للمستفتي (¬8) تقليد الميت إذا علم [عدالته، و] (3) إنه مات عليها من غير أن يسأل الحي؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد (¬9) والشافعي (¬10) ¬
[إذا تكررت الواقعة فهل يستفتي من جديد؟]
أصحهما له ذلك، فإن المذاهب لا تبطل بموت أصحابها ولو بطلت بموتهم لبطل ما بأيدي الناس من الفقه عن أَئمتهم، ولم يسغ لهم تقليدهم والعمل بأقوالهم، وأيضًا لو بطلت أقوالهم بموتهم لم يعتد بهم في الإجماع والنزاع، ولهذا لو شهد الشاهدان ثم ماتا بعد الأداء وقُبِل الحكم بشهادتهما [لم تبطل شهادتهما] (¬1) وكذلك الراوي لا تبطل روايته بموته، [فكذلك المفتي لا تبطل فتواه بموته] (1)، ومن قال: تبطل فتواه بموته قال: أهليته زالت بموته ولو عاش لوجب عليه تجديد الاجتهاد، ولأنه قد يتغير اجتهاده، وممن حكى الوجهين في المفتي أبو الخطاب (¬2) فقال: إن مات المفتي قبل عمل المستفتي فله العمل بها، وقيل: لا يعمل [بها] (¬3)، واللَّه أعلم. [إذا تكررت الواقعة فهل يستفتي من جديد؟] الفائدة الخامسة والستون: إذا استفتاه في (¬4) حكم حادثة فأفتاه وعمل بقوله، ثم وقعت له مرة ثانية فهل له أن يعمل بتلك الفتوى الأولى أم يلزمه الاستفتاء مرة ثانية؟ فيه وجهان لأصحاب أحمد (¬5) والشافعي (¬6) فمن لم يُلزمه بذلك قال: الأصل بقاء ما كان فله أن يعمل بالفتوى وإن أمكن تغير الاجتهاد (¬7)، كما أن له أن يعمل بها بعد مدة من وقت الإفتاء، وإن جاز تغير اجتهاده، ومن منعه من ذلك قال: ليس على ثقة من بقاء المفتي على اجتهاده الأول، فلعله أن يرجع عنه فيكون المستفتي قد عمل بما هو خطأ عند من استفتاه، ولهذا رجَّح بعضهم العمل بقول الميت على قول الحي واحتجوا بقول ابن مسعود -رضي اللَّه عنه-: "من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة" (¬8). ¬
[هل يلزم استفتاء الأعلم؟]
[هل يلزم استفتاء الأعلم؟] الفائدة السادسة والستون: هل يلزم المستفتي أن يجتهد في أعيان المفتين ويسأل الأعلم والأدين أم لا يلزمه ذلك؟ فيه مذهبان كما سبق وبيَّنا مأخذهما والصحيح أنه يلزمه؛ لأنه المستطاع من تقوى اللَّه [تعالى] (¬1) المأمور بها كل أحد، وتقدم أنه إذا اختلف عليه مفتيان [أحدهما] (2) أورع و [الآخر] (¬2) أعلم فأيهما يجب تقليده؟ فيه ثلاثة مذاهب سبق توجيهها. [هل على العامي أن يتمذهب بمذهب واحد من الأربعة أو غيرهم؟] وهل يلزم العامي أن يتمذهب ببعض المذاهب المعروفة أم لا؟ فيه مذهبان (¬3): أحدهما: لا يلزمه، وهو الصواب المقطوع به إذ لا واجب إلا ما أوجبه اللَّه ورسوله، ولم يوجب اللَّه ولا رسوله على أحد من الناس أن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة فيقلده دينه دون غيره، وقد انطوت القرون الفاضلة [مبرأة مبرأ] (¬4) أهلها من هذه النسبة، بل لا يصح للعامي مذهب ولو تمذهب به فالعامي لا مذهب له لأن المذهب [إنما يكون] (1) لمن له نوع نظر واستدلال، [ويكون بصيرًا بالمذاهب] (¬5) على حسبه أو لمن قرأ كتابًا في فروع ذلك المذهب وعرف فتاوى إمامه وأقواله، وأما من لم يتأهل لذلك البتة، بل قال: أنا شافعي أو حنبلي أو غير ذلك لم يصر كذلك بمجرد القول، كما لو قال: أنا فقيه أو نحوي أو كاتب لم يصر كذلك بمجرد قوله. يوضحه أن القائل [أنه] (1) شافعي أو مالكي أو حنفي يزعم أنه متبع لذلك الإِمام سالك طريقه، وهذا إنما يصح له إذا سلك سبيله في العلم والمعرفة ¬
والاستدلال فأما مع جهله وبعده جدًا عن سيرة الإِمام وعلمه وطريقه (¬1) فكيف يصح له الانتساب إليه إلا بالدعوى المجردة والقول الفارغ من [كل] (¬2) معنى؟ والعامي (¬3) لا يتصور أن يصح له مذهب ولو تصور ذلك لم يلزمه ولا لغيره، ولا يلزم أحدًا قط أَن يتمذهب بمذهب رجل من الأمة [بحيث يأخذ أقواله كلها ويدع أقوال غيره. وهذه بدعة قبيحة حدثت في الأمة] (¬4) لم يقل بها أحد من أئمة الإِسلام وهم أعلى رُتبةً، وأجلُّ قدرًا، وأعلمُ باللَّه ورسوله من أن يُلزموا الناس بذلك، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بمذهب عالم من العلماء، وأبعد منه قول من قال: يلزمه أن يتمذهب بأحد المذاهب الأربعة. فياللَّه العجب، ماتت مذاهب أصحاب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومذاهب التابعين، وتابعيهم وسائر أئمة الإِسلام، وبطلت جملةً إلا مذاهب أربعة أنفس فقط من بين سائر الأمة والفقهاء؟! وهل قال ذلك أحد من الأئمة أو دعا إليه أو دلت عليه لفظة واحدة من كلامه عليه؟ والذي أوجبه اللَّه [تعالى] (2) ورسوله على الصحابة والتابعين وتابعيهم هو الذي أوجبه على من بعدهم إلى يوم القيامة لا يختلف الواجب، ولا يتبدل، وإن اختلفت كيفيته أو قدره باختلاف القدرة والعجز والزمان والمكان والحال فذلك أيضًا تابع لما أوجبه اللَّه ورسوله. ومَن صحَّح للعامي مذهبًا قال: هو قد اعتقد أن هذا المذهب الذي إنتسب إليه هو الحق فعليه الوفاء بموجب اعتقاده، وهذا الذي قاله هؤلاء لو صحَّ للزم منه تحريم استفتاء أهل غير المذهب الذي انتسب إليه، وتحريم تمذهبه بمذهب نظير إمامه، أو أرجح منه أو غير ذلك من اللوازم التي يدل فسادها على فساد ملزوماتها، بل يلزم منه أنه إذا رأى نصَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أو قول خلفائه الأربعة مع غير إمامه أن يترك النص وأقوال الصحابة ويقدِّم عليها قول من انتسب إليه. وعلى هذا فله أن يستفتي من شاء من أتباع الأئمة [الأربعة] (2) وغيرهم، ولا يجب عليه ولا على المفتي أن يتقيد بـ[أحد من الأئمة] (2) الأربعة بإجماع الأمة، كما لا يجب (¬5) على العالم أن يتقيد بحديث أهل بلده أو غيره من البلاد، بل إذا ¬
[ما الحكم إذا اختلف مفتيان؟]
صح الحديث وجب عليه العمل به حجازيًا كان أو عراقيًا أو شاميًا أو مصريًا (¬1) أو يمنيًا. وكذلك لا يجب على الإنسان التقيد بقراءة السبعة المشهورين باتفاق المسلمين، بل إذا وافقت القراءة رسم المصحف الإِمام وصحت في العربية وصح سندها جازت (¬2) القراءة بها وصحت الصلاة بها اتفاقًا، بل لو قرأ بقراءة تخرج عن مصحف عثمان وقد قرأ بها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- والصحابة بعده جازت القراءة بها ولم تبطل الصلاة بها على أصح الأقوال. والثاني: تبطل الصلاة بها، وهاتان روايتان منصوصتان عن الإِمام أحمد (¬3). والثالث: إن قرأ بها في ركن لم يكن مؤديًا لفرضه، وإن قرأ بها في غيره لم تكن مبطلة، وهذا اختيار أبي البركات ابن تيمية رحمة اللَّه عليه، قال: لأنه لم يتحقق الإتيان بالركن في الأول و [لا] (¬4) الإتيان بالمبطل في الثاني، ولكن ليس له أن يتبع (¬5) رخص المذاهب وأخذ غرضه من أي مذهب وجده فيه، بل عليه اتباع الحق بحسب الإمكان (¬6). [ما الحكم إذا اختلف مفتيان؟] الفائدة السابعة والستون: فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر فهل يأخذ بأغلظ الأقوال أو بأخفها أو يتخيَّر (¬7) أو يأخذ يقول الأعلم أو الأورع أو يعدل إلى مفت آخر فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها أو يجب عليه أن ¬
[هل يجب العمل بفتوى المفتي؟]
يتحرَّى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ فيه سبعة مذاهب (¬1) أَرجحها السابع فيعمل كما يعمل عند اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين، كما تقدم، وباللَّه التوفيق. [هل يجب العمل بفتوى المفتي؟] الفائدة الثامنة والستون: إذا استفتى فأفتاه المفتي فهل تفسير فتواه موجبة على المستفتي العمل بها بحيث يكون عاصيًا إن لم يعمل بها أو لا توجب عليه العمل؟ فيه أربعة أوجه لأصحابنا وغيرهم: أحدها: أنه لا يلزمه العمل بها إلا أن يلتزمه هو. والثاني: أنه يلزمه إذا شرع في العمل، فلا يجوز له حينئذ الترك. والثالث: أنه إن (¬2) وقع في قلبه صحة فتواه وأنها حق لزمه العمل بها. والرابع: أنه إذا (¬3) لم يجد مفتيًا آخر لزمه الأَخذ بفتياه، فإن فرضه التقليد وتقوى اللَّه ما استطاع، وهذا هو المستطاع في حقه، وهو غاية ما يقدر عليه (¬4). وإن وجد مفتيًا آخر، فإن وافق الأول فأبلغ في لزوم العمل، وإن خالفه، فإن استبان له الحق في إحدى الجهتين لزمه العمل به، وإن لم يستبن له الصواب فهل يتوقف أو يأخذ بالأحوط أو يتخيَّر أو يأخذ بالأسهل؟ فيه وجوه تقدمت. [العمل بخط المفتي وما يشبه ذلك] الفائدة التاسعة والستون: يجوز له العمل بخط المفتي، وإن لم يسمع الفتوى من لفظه إذا عرف أنه خطه أو أعلمه به من يسكن إلى قوله (¬5)، ويجوز له قبول قول الرسول: إنَّ هذا خطه، وإن كان عبدًا أو امرأة أو صبيًا أو فاسقًا، كما يقبل قوله في الهدية والإذن في دخول الدار اعتمادًا على القرائن والعرف، وكذا يجوز ¬
اعتماد الرجل على ما يجده من كتابة الوقف على كتاب أو رباط أو خان أو (¬1) نحوه فيدخله وينتفع به، وكذلك (¬2) يجوز له الاعتماد على ما يجده بخط أبيه في برنامجه (¬3) أن له على فلان كذا وكذا، فيحلف على الاستحقاق (¬4)، وكذا يجوز للمرأة الاعتماد على خط الزوج أنه أبانها فلها أن تتزوّج بناء على الخط، وكذا (¬5) الوصي والوارث يعتمد على خط الموصي فينفذ ما فيه وإن لم يشهد شاهدان، وكذا إذا كتب الراوي إلى غيره حديثًا جاز له أن يعتمد عليه ويعمل به ويرويه بناء على الخط إذا تيقن ذلك كله، هذا عمل الأمة قديمًا وحديثًا من عهد نبينا (¬6) صلى اللَّه عليه [وآله] (¬7) وسلم وإلى الآن، وإن أنكره من أنكره. ومن العجب أن من أنكر ذلك وبالغ في إنكاره ليس معه فيما يفتي به [وتقضي به] (¬8) إلا مجرد كتاب قيل: إنه كتاب فلان فهو يقضي (¬9) به ويُفتي ويحل ويحرم ويقول: هكذا (¬10) في الكتاب، [واللَّه الموفق] (7). وقد كان رسول اللَّه (¬11) -صلى اللَّه عليه وسلم- يرسل كتبه إلى الملوك وإلى الأمم يدعوهم إلى الإِسلام فتقوم عليهم الحجة بكتابه (¬12)، وهذا أظهر من أن ينكر، وباللَّه التوفيق. ¬
[ما العمل إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء؟]
[ما العمل إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء؟] الفائدة السبعون: إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد من العلماء فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز، وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يُسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، وقد قال [النبي] (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا (¬2) اجتهد فأخطأ فله أجر" (¬3)، وهذا يعم ما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله وما عرف فيه أقوالا واجتهد في الصواب منها، وعلى هذا درج السلف والخلف والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث، ومن له مباشرة لفتاوى الناس يعلم (¬4) أن المنقول وإن اتسع غاية الاتساع، فإنه لا يفي بوقائع العالم جميعها (¬5)، وأنت إذا تأمَّلت الوقائع رأيت مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة، ولا يعرف فيها كلام لأئمة المذاهب [ولا لأتباعهم] (¬6). والثاني: لا يجوز له الإفتاء، ولا الحكم، بل يتوقف حتى يظفر فيها بقائل، قال الإِمام أحمد لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام. والثالث: يجوز ذلك في مسائل الفروع لتعلقها بالعمل وشدة الحاجة إليها وسهولة خطرها, ولا يجوز في مسائل الأصول. والحق التفصيل، وأن ذلك يجوز -بل يستحب أو يجب- عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم (¬7)، فإن عُدم الأمران لم يجز، وإن وجد أحدهما دون الآخر احتمل الجواز والمنع والتفصيل فيجوز للحاجة دون عدمها، واللَّه [سبحانه] (¬8) أعلم. ¬
[من فتاوى إمام المفتين صلى الله عليه وسلم]
فصل ولنختم (¬1) الكتاب بذكر فصول يسير قدرها عظيم أمرها من فتاوى إمام المفتين (¬2)، ورسول رب العالمين، تكون روحًا لهذا الكتاب ورقمًا على جِلَّة (¬3) هذا التأليف. [فتاوى في مسائل من العقيدة] فصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل عن رؤية المؤمنين ربهم تبارك وتعالى فقال: "هل تُضارُّون (¬4) في رؤية الشمس صحوًا في الظهيرة ليس دونها سحاب"؟ قالوا: لا، فقال: "هل تُضارُّون (4) في رؤية القمر البدر صحوًا ليس دونه سحاب؟ "، قالوا: لا، قال: "فإنكم ترونه كذلك"؛ متفق عليه (¬5). وسئل: كيف (¬6) نراه ونحن ملء الأرض، وهو أحد؟ فقال: "أنبئكم عن ذلك في آلاء اللَّه: الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم ساعة واحدة لا تضارون في رؤيتهما ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه" (¬7)، ذكره أحمد. ¬
وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل عن مسألة القدر، وما يعمل الناس فيه، أمرٌ قد قُضي وفرغ منه أم أمر يستأنف؟ فقال: بل أمر قد قضي وفرغ منه، فسئل حينئذ: ففيم العمل؟ فأجاب بقوله: "اعملوا فكل ميسرٌ لما خلق له: أما من كان من أهل السعادة فسييسَّر لعمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فييسر (¬1) لعمل أهل الشقاوة"، ثم قرأ قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] إلى آخر الآيتين (¬2)، ذكره مسلم. ¬
وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سُئل عما يكتمه الناس في ضمائرهم هل يعلمه اللَّه؟ فقال: "نعم"، ذكره مسلم (¬1). وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل: أين كان ربُّنا قبل [أن تُخلق] (¬2) السموات والأرض؟ فلم ينكر على السائل، وقال: "كان في عماء (¬3) ما فوقه هواء، وما تحته هواء" (¬4)، ذكره أحمد. وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل عن مبدأ تخليق هذا العالم؟ فأجاب بأن قال: "كان اللَّه، ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء" (¬5)، ذكره البخاري. وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه سئل: أين يكون الناس يوم تُبَدَّل الأرض؟ فقال: "على ¬
الصراط"، وفي لفظ آخر: "هم في الظلمة دون الجسر"، فسئل: من أول الناس إجازة؟ فقال: "فقراء المهاجرين" (¬1)، ذكره مسلم، ولا تنافي بين الجوابين، فإن الظلمة أول الصراط، فهناك مبدأ التبديل وتمامه وهم على الصراط. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] , فقال: "ذلك العرض" (¬2)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أول طعام يأكله أهل الجنة؟ فقال: "زيادة كبد الحوت"، فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما غذاؤهم على أثره؟ فقال: "ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها"، فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما شرابهم عليه [فيها؟ فقال] (¬3): "من عين [فيها] (¬4) تُسمى سلسبيلًا" (¬5)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل رأيت ربك؟ فقال: "نورٌ أنَّى أَراه" (¬6)، ذكره مسلم، فذكر الجواز ونبَّه على المانع من الرؤية، وهو النور الذي هو حجاب الرب تعالى الذي لو كشفه لم يقم له شيء. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه كيف يجمعنا ربنا بعد ما تمزِّقنا الرياح والبلى والسباع؟ فقال للسائل: "أُنبئك بمثل ذلك في آلاء اللَّه، الأرض أشْرفتَ عليها، وهي مَدَرة (¬7) بَالية، فقلت: لا تحيى أبدًا، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عليك إلا أيامًا، ثم أشرفتَ عليها وهي شَرْبةٌ واحدة ولعمر إِلهك! لهو أقدر على أن يجمعهم من الماء على أن يَجمَع نباتَ الأرض" (¬8)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه ما يفعل بنا ربُّنا إذا لقيناه؟ فقال: "تُعرضون عليه باديةً له صفحاتُكم لا يخفى عليه خافية منكم فيأخذ ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلَكم فلعمر إِلهك! ما يخطئ وجه واحد منكم منها قطرة فأما المسلم فتدع وجهه مثل الرَّيطةِ (¬1) البيضاء، وأما الكافر فتخطمُه بمثل الحميم الأسود" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: بم نُبصر، وقد حبس الشمس والقمر؟ فقال للسائل: بمثل بَصَرِك ساعتك هذه وذلك مع طلوع الشمس وذلك في يوم أشَرَقت فيه الأرض، ثم واجهته الجبال. فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- بم نُجزى من حسناتنا وسيئاتنا؟ فقال: الحسنة بعشرة أمثالها والسيئة بمثلها أو يعفو". فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- على ما (¬3) يطلع من الجنة؟ فقال: "على أَنهار من عسل مصفَّى، وأَنهار من كأس ما بها من صداع، ولا ندامة، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن، وفاكهة، لعمرو إِلهك! مما تعلمون وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة". فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أَلنا فيها أزواج؟ فقال: "الصالحات للصالحين تلذونهن (¬4) مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد" (¬5)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كيفية إتيان الوحي إليه فقال: "يأتيني أحيانًا مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليٌ فيفصمُ عني، وقد وعيتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملك رجلًا" (¬6)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شبه الولد بأبيه تارة وبأمه تارة؟ فقال: "إذا سبق ماء الرجل ماء ¬
المرأة كان الشَّبه له، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل فالشبه لها" (¬1)، متفق عليه. وأما ما رواه مسلم في "صحيحه" أنه قال: إذا على ماءُ الرجل ماءَ المرأة أذكر الرجل بإذن اللَّه (¬2)، وإذا على ماء المرأة ماء الرجل آنثَ بإذن اللَّه" (¬3)، فكان شيخنا يتوقف في كون [هذا] (¬4) اللفظ محفوظًا ويقول: المحفوظا هو اللفظ الأول والإذكار والإيناث ليس له سبب طبيعي، وإنما هو بأمر (¬5) الرب تبارك وتعالى للملك أن يخلقه كما يشاء، ولهذا جعل مع الرزق والأجل والسعادة والشقاوة. قلت: فإن كان هذا اللفظ محفوظًا، فلا تنافي بينه وبين اللفظ الأول ويكون سبق الماء سببًا للشَّبه وعلوه على ماء الآخر سببًا للإذكار والإيناث واللَّه أعلم (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أهل الدار من المشركين يُبيَّتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم فقال: "هم منهم" (¬7) حديث صحيح ومراده -صلى اللَّه عليه وسلم- بكونهم منهم التبعية (¬8) في أحكام الدنيا وعدم الضمان، لا التبعية (8) في عقاب الآخرة، فإن اللَّه تعالى لا يعذب أحدًا إلا بعد قيام الحجة عليه. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] فقال: "إنما هو جبريل عليه السلام، لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرَّتين" (¬1)، ذكره مسلم. ولما نزل قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 30، 31]، سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ فقال: "نعم ليكررنَّ عليكم حتى تؤدّوا إلى كل ذي حقٍّ حقَّه" فقال الزبير: واللَّه إن الأمر لشديد (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: كيف يحشر الكافر على وجهه فقال: "أَليس الذي أَمشاه في الدُّنيا على رجليه قادر أن يُمشيه في الآخرة على وجهه؟ " (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل تذكرون أهاليكم يوم القيامة؟ فقال: "أما في ثلاث مواطن فلا يذكر أحد أحدًا: حيث يوضع الميزان حتى يعلم أيثقل ميزانه أم يخف، وحيث تتطاير الكتب حتى يعلم كتابه من يمينه أو من شماله أو من وراء ظهره، وحيث يوضع الصراط على جسر جهنم على حافتيه كلاليب وحَسَك (¬4) يحبس اللَّه به من يشاء من خلقه حتى يعلم أينجو أم لا ينجو" (¬5). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه الرجلُ يحبُّ القوم ولَمَّا يعمل بأعمالهم؟ فقال: "المرء مع من أحب" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكوثر؟ فقال: "هو نهر أعطانيه ربي في الجنة هو أشدُّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، فيه طيور أعناقها كأعناق الجُزر وقيل: يا رسول اللَّه إنها لناعمة قال: "آكلها أنعم منها" (¬2). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكثر ما يُدخل الناس النار؟ فقال: "الأَجوفان: الفم والفرج"، وعن أكثر ما يدخلهم الجنة؟ فقال: "تقوى اللَّه وحسن الخلق" (¬1). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المرأة تتزوج الرَّجلين والثلاثة مع من تكون منهم يوم القيامة؟ فقال: "تُخيَّر فتكون مع أحسنهم خُلُقًا" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الذنب أعظم؟ فقال: "أن تجعل للَّه ندًا وهو خلقك"، قيل: ثم ماذا؟ قال: "أن تَقتل ولدك خَشيةَ أن يطعَم معك". قيل: ثم ماذا؟ قال: "أن تزني (¬2) بحليلة جارك" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الأعمال أحبُّ إلى اللَّه؟ فقال: "الصلاة على وقتها" وفي لفظ: "لأول وقتها" قيل: ثم ماذا؟ قال: "الجهاد في سبيل اللَّه". قيل: ثم ماذا؟ قال: "بِرُّ الوالدين" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28] وبين عيسى وموسى عليهما السلام ما بينهما؟ فقال: "كانوا يسمّون بأنبيائهم، وبالصالحين قبلهم" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أول أشراط الساعة؟ فقال: "نارٌ تحشر الناس من المشرق ¬
إلى المغرب" (¬1). وهذه إحدى مسائل عبد اللَّه بن سلام الثلاث، والمسألة الثانية: ما أوَّل طعام يأكله أهل الجنة؟ والثالثة: سبب شبه الولد بأبيه وأمه، فولَّدها الكاذبون وجعلوها كتابًا مستقلًا سموه: "مسائل عبد اللَّه بن سلام"، وهي هذه الثلاثة في "صحيح البخاري" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإِسلام؟ فقال: "شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء (¬3) الزكاة وصوم رمضان وحج البيت" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإيمان؟ فقال: "أَن تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن "الإحسان؟ فقال: "أن تعبدَ اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون: 60] فقال: "هم الذين يصومون [ويصلون] ويتصدَّقون، ويخافون أن لا يقبل منهم" (¬7). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية؟ فقال: إن اللَّه تعالى خلق آدم، ثم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال: خَلقتُ هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح [على] (¬1) ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول اللَّه ففيم العمل؟ فقال: "إن اللَّه إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل النار" (¬2). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العوام" (¬1). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأدوية والرُّقى هل تردُّ من القدر شيئًا؟ فقال: "هي من القدر" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عمن يموت من أطفال المشركين؟ فقال: "اللَّه أعلم بما كانوا عاملين" (¬2) , ¬
وليس هذا [قولًا] (1) بالتوقف، كما ظنَّه بعضهم، ولا [قولًا] (¬1) بمجازاة اللَّه لهم على ما يعلمه منهم أنهم [كانوا] (¬2) عاملوه لو كانوا عاشوا، بل هو جواب فَصْل، وأن اللَّه تعالى يعلم ما هم عاملوه وسيجازيهم على معلومه فيهم بما يظهر منهم يوم القيامة لا على مجرَّد علمه، كما صرَّحت به سائر الأحاديث واتفق عليه أهل الحديث أنهم يُمتحنون يوم القيامة فمن أطاع دخل الجنة، ومن عصى دخل النار (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن سبأ هل هو أرض أم امرأة؟ فقال: ليس بأرض، ولا امرأة، ¬
ولكنه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن (¬1) منهم ستة وتشاءم (¬2) منهم أربعة؛ فأما الذين تشاءموا: فلَخْمٌ وجَذَام وغسَّان وعَامِلة، وأما الذين تيامنوا: فالأزد والأشعريون وحِمْيرَ وكِنْدَة ومُذْحَج، وأنمار. . . فقال رجل: يا رسول اللَّه، وما أنمار؟ فقال: "الذين منهم خَثْعم وبَجِيلة" (¬3). ¬
وسئل عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64] فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له" (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسئل عن أفضل الرقاب، يعني في العتق، فقال: "أَنفسُها عند أهلها، وأغلاها ثمنًا" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: عن أفضل الجهاد، فقال: "من عُقِرَ جواده وأُريق دمه" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: عن أفضل الصدقة، فقال: "أَن تتصدق، وأنت صحيحٌ شحيحٌ تخشى الفقر وتأمل الغنى" (¬3). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الكلام أفضل؟ فقال: "ما اصطفى اللَّه للملائكة، سبحان اللَّه وبحمده" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: متى وجبت لك النبوة؟ وفي لفظ: "متى كنت نبيًا؟ " فقال: "وآدم بين الروح والجسد" (¬2) هذا هو اللفظ الصحيح والعوام يروونه: "بين الماء والطين". ¬
قال شيخنا (¬1): وهذا باطل، وليس بين الماء والطين مرتبة واللفظ المعروف ما ذكرناه. ¬
وذكر الإِمام أحمد في "مسنده" أن أعرابيًا سأله: يا رسول اللَّه أخبرني عن الهجرة إليك، أينما (¬1) كنتَ أم لقومٍ خاصَّة، أم إلى أَرض معلومة، أم إذا من انقطعت فسأل ثلاث مرات، ثم جلس، فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يسيرًا، ثم قال: أين السائل؟ قال: ها هو ذا حاضر يا رسول اللَّه، قال: "الهجرة أَن تهجر الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، ثم أنت مهاجر، وإن مت في الحضر". فقام آخر فقال: يا رسول اللَّه أخبرني عن ثياب أهل الجنة، أتخلق خلقًا أم (¬2) تنسج نسجًا قال: فضحك [بعض] (¬3) القوم، فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "تضحكون من جاهل يسأل عالمًا؟ " فاستلبث (¬4) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ساعة، ثم قال: "أين السائل عن ثياب أهل الجنة؟ " فقال: ها هو ذا يا رسول اللَّه، قال: "لا، بل تنشق عنها ثمار الجنة (¬5)، ثلاث مرات" (¬6). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أنفضي إلى نسائنا في الجنة؟ وفي لفظ آخر: هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ فقال: "إي، والذي نفسي بيده إن الرجل ليفضي في الغداة الواحدة إلى مئة عذراء" (¬1)، قال الحافظ أبو عبد اللَّه المقدسي: رجال إسناده عندي على شرط الصحيح. ¬
وسئل: أنطأ في الجنة؟ فقال: "نعم، والذي نفسي بيده دَحْمًا دحمًا فإذا قام عنها رجعت مُطهَّرةَ بِكْرًا" (¬1)، ورجال إسناده على شرط "صحيح ابن حبان". ¬
وفي "معجم الطبراني" أنه سئل: هل يتناكح أهل الجنة؟ فقال: "بذكر لا يمل وشهوة لا تنقطع دَحْمًا دحمًا" (¬1). قال الجوهري (¬2): الدحْم: الدفع الشديد. ¬
وفيه أيضًا أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أيجامع أهل الجنة؟ فقال: "دحمًا دحمًا، ولكن لا منيّ، ولا منيّة" (¬1). وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أينام أهل الجنة؟ فقال: "النوم أخو الموت وأهل الجنة لا ينامون" (¬2). وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- هل في الجنة خيل؟ فقال: "إن دخَلتَ الجنة أُتيت بفرس من ياقوتة له جناحان، فحملت عليه فطار بك في الجنة حيث شئت" (¬3). ¬
وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل في الجنة إبل؟ فلم يقل للسائل مثل ما قال للأول، بل قال: "إنْ يُدخلك اللَّه الجنة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك وقرَّت عينُك" (¬1). ¬
وفي "معجم الطبراني" أن أم سلمة -رضي اللَّه عنها- سألته فقالت: يا رسول اللَّه أخبرني عن قول اللَّه عز وجل: {وَحُورٌ عِينٌ} (¬1) [الواقعة: 22] قال: "حورٌ بيض، [عينٌ] (¬2) ضخام العيون، شعر الحوراء (¬3) بمنزلة جناح النسر" قلت: أخبرني عن قول اللَّه عز وجل: {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23] فقال: "صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي"، قلت: أخبرني عن قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70]، قال: "خيرات الأخلاق، حسانُ الوجوه"، قلت: أخبرني عن قول اللَّه عز وجل: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] قال: "رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخل البيضة مما يلي القشرة" قلت: أخبرني يا رسول اللَّه عن قوله تعالى: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] قال: "هن اللواتي قُبضن في دار الدنيا عجائز رمصًا شُمطًا (¬4)، خلقهن اللَّه بعد الكبر فجعلهن [اللَّه] (5) عذارى عربًا متعشِّقات متحببات، أترابًا على ميلاد واحد" قلت: يا رسول اللَّه نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال: "بل نساء الدنيا [أفضل من الحور العين] (¬5) كفضل الظهارة على البطانة" قلت: يا رسول اللَّه وبم ذاك؟ قال: "بصلاتهنّ وصيامهنّ وعبادتهنّ اللَّه تعالى، أَلبس اللَّه وجوهنَّ النور وأجسادهن الحرير، بيض الأَلوان، خضر الثياب، صفر الحُلي مجامرهن الدر، وأمشاطهن الذهب، يقلن: نحن الخالدات فلا نموت، ونحن الناعمات فلا نبأس أبدًا، [ونحن المقيمات فلا نظعن أبدًا، ونحن الراضيات فلا نسخط أبدًا، طوبى لمن كنَّا له وكان لنا"] (5)، ¬
قلت: يا رسول اللَّه المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال: "يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقًا، فتقول: يا رب إن هذا كان أحسنهم معي خلقًا في دار الدنيا فزوجنيه، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] أين الناس يومئذ؟ قال: "على جسر جَهنَّم" (¬2). وسئل عن الإيمان؟ فقال: "إذا سرَّتك حسناتك وساءتك سيئاتك، فأنت مؤمن" (¬3). ¬
وسئل عن الإثم؟ فقال: "إذا ح الذي قلبك شيء فدعه" (¬1). وسُئل عن البر والإثم؟ فقال: "البرُّ ما اطمأنَّ إليه القلب، واطمأنت إليه النفس، والإثم ما حال في القلب، وتردد في الصدر" (¬2). وسأله عمر: هل نعمل في شيء نستأنفه (¬3) أم في شيء قد فرغ منه؟ قال: "بل في شيء قد فرغ منه، قال: ففيمَ العمل؟ قال: "يا عمر لا يُدرك ذلك إلا بالعمل"، قال: إذًا نجتهد يا رسول اللَّه (¬4). ¬
فصل [فتاوى تتعلق بالطهارة]
وكذلك سأله سُراقة بن لمالك بن [مالك بن] (¬1) جُعْشُم فقال: يا رسول اللَّه أخبرنا عن أمرنا كأننا ننظر إليه، أبما جرت به الأقلام، وثبتت به المقادير أم بما يستأنف؟ فقال: "لا، بل بما جرت به الأقلام وثبتت به المقادير"، قال: ففيم العمل إذًا؟ قال: "اعملوا فكل ميسر". قال سراقة: فلا أكون أبدًا أشدَّ اجتهادًا في العمل مني الآن (¬2). فصل [فتاوى تتعلق بالطهارة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء بماء البحر؟ فقال: "هو الطَّهورُ ماؤه والحِلُّ (¬3) ميتته" (¬4). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء (¬1) من بئر بضاعة (¬2)؟، وهي بئر يُلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الماء يكون بالفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع؟ فقال: "إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء" (¬4). ¬
وسأله أبو ثعلبة فقال: إنَّا بأرض قوم أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم، وقدورهم؟ فقال: "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء واطبخوا فيها، واشربوا" (¬1). وفي "الصحيحين": إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: "لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها، فاغسلوها ثم كلوا فيها" (¬2). ¬
وفي "المسند"، و"السنن": أفتنا في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها فقال: "إذا اضطررتم إليها فاغسلوها بالماء واطبخوا فيها" (¬1). وفي "الترمذي" سئل عن قدور المجوس؟ فقال: "أنقوها غسلًا، واطبخوا فيها" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يُخيَّل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المذْيّ؟ قال: يجزئ منه الوضوء، فقال له السائل: فكيف بما أصاب ثوبي منه؟ فقال: "يكفيك أَن تأخذ كفًا من ماء فتنضح به ثوبك حيث ترى أنه أصاب منه" (¬4)، صححه الترمذي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عمّا يوجب الغسل وعن الماء يكون بعد الماء؟ فقال: "ذاك المذي، وكل فحل يمذي، فتغسل من ذلك فرجك، وأنثييك وتوضأ وضوءك للصلاة" (¬1). وسألته فاطمة بنت أبي حُبيش، فقالت: إني امرأة استحاض، فلا أطهر أفأدع الصلاة؟ فقال: "لا إنَّما ذلك عِرْق وليس بحيضة، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، فإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم صلّي" (¬2). وسئل عنها أيضًا؟ فقال [النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3): "تدع الصلاة أيام أقرائها التي كانت ¬
تحيض فيها، ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء من لحوم الغنم؟ فقال: "إن شئت فتوضأ، وإن شئت، فلا تتوضأ" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء من لحوم الإبل؟ فقال: "نعم توضأ من لحوم الإبل" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في مرابض الغنم؟ فقال: "نعم صلوا فيها" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في مبارك الإبل؟ فقال: "لا" (¬5). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها فليس يأتي الرجل من امرأته شيء إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] فقال له النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "توضأ، ثم صلِّ" فقال معاذ: فقلت يا رسول اللَّه أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: "بل للمؤمنين عامة" (¬6). ¬
وسألته أم سليم فقالت: يا رسول اللَّه إن اللَّه لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نعم إذا رأت الماء". فقالت أم سلمة: أو تحتلم المرأة؟ فقال: "تربت يداك فِبمَ يُشبهها ولدها؟! " وفي لفظ: "أَن أم سليم سألت نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إذا رأت المرأة ذلك فلتغتسل" (¬1). وفي "المسند" أَن خولة بنت حكيم سألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل؟ فقال: "ليس عليها غسل حتى تُنزِل، كما أن الرجل ليس عليه غسل حتى ينزل" (¬2). ¬
وسأله [أمير المؤمنين] (¬1) علي بن أبي طالب [كرَّم اللَّه وجهه] (1) عن المذي؟ فقال: "من المذي الوضوء، ومن المني الغسل" (¬2)، وفي لفظ: "إذا رأيت المذي فتوضأ واغسل ذكرك، وإذا رأيت فضخ الماء فاغتسل" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يجد البلل، ولا يذكر احتلامًا، فقال: "يغتسل". وعن الرجل يرى أنه قد احتلم، ولم يجد البلل فقال: "لا غُسلَ عليه" (¬1)، ذكره أحمد. وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يجامع أهله، ثم يكسل (¬2)؟ وعائشة جالسة، فقال: "إني أفعل (¬3) ذلك أنا وهذه، ثم نغتسل"، ذكره مسلم (¬4). وسألته أم سلمة فقالت: يا رسول اللَّه إني امرأة أشُدُّ ضفر رأسي أفأنقضه لِغسل الجنابة؟ فقال: "لا إنما يكفيك أَن تحثي على رأسك ثلاث حثيات، ثم تفيضين (¬5) عليك الماء"، ذكره مسلم (¬6)، وعند أبي داود (¬7): "اغمزي (¬8) قرونك عند كل حفنة". ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه إن لنا طريقًا إلى المسجد منتنة فكيف نفعل [إذا مطرنا] (¬1)؟ فقال: أَليس بعدها طريق هي أطيبُ منها؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه. قال: "هذه بهذه" وفي لفظ: "أليس بعده ما هو أطيب منه"؟ قلت: بلى. قال: "فإن هذا يذهب بذاك" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: إنا نريد المسجد فنطأ الطريق النجسة؟ فقال: "الأرض يطهر بعضها بعضًا" (¬3)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ فقال: "تحته، ثم تقرُصُه بالماء، ثم تنضحه، ثم تصلي فيه" (¬4) متفق عليه. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن فأرة وقعت في سمن؟ فقال: "ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم" (¬1)، ذكره البخاري، ولم يصح فيه التفصيل بين الجامد والمائع (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- ميمونة عن شاة ماتت فألقوا إهابها؟ فقال: "هلا أخذتم مسكها؟ " فقالت: "نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنما قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145]، وإنكم لا تطعمونه إن تدبغوه تنتفعوا به" فأرسلت إليها فسلخت مَسْكَها فدبغته فاتخذت منه قربة حتى تخرَّقت عندها (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن جلود الميتة فقال: "ذكاؤها دباغها" (¬1)، ذكره النسائي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الاستطابة؟ فقال: "أو لا يجد أحدكم ثلاثة أحجار حجران للصفحتين وحجر للمسْرَبة" (¬2)، حديث حسن، وعند مالك مرسلًا: "أوَ لا يجد ¬
أحدكم ثلاثة أحجار؟ " (¬1)، ولم يزد. ¬
وسأله سُراقة عن التَّغوُّط؛ فأمره أَن يتنكَّب القبلة، ولا يستقبلها, ولا يستدبرها, ولا يستقبل الريحَ، وأن يستنجي بثلاثة أَحجار ليس فيها رجيع أو ثلاثة أعواد أو بثلاث حثيات من تراب (¬1)، ذكره الدارقطني. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الوضوء؟ فقال: "أَسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" (¬2)، ذكره أبو داود. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرو بن عَبَسة فقال: كيف الوضوء؟ قال: "أما الوضوء، فإنك إذا توضأت فغسلت كفيك، فأنقيتهما خرجت خطاياك من بين أظفارك، وأناملك، فإذا تمضمضت (¬1) واستنشقت وغسلت [به] (¬2) وجهك ويديك إلى المرفقين ومسحت رأسك وغسلت رجليك اغتسلتَ من عامة خطاياك كيوم ولدتك أمك (¬3) " ذكره النسائي. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي عن الوضوء، فأراه ثلاثًا ثلاثًا، ثم قال: "هكذا الوضوء ¬
فمن زاد على هذا، فقد أساء وتعدَّى وظلم" (¬1)، ذكره أحمد. [وسأَل النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬2) أعرابيٌّ فقال: يا رسول اللَّه الرجل منا يكون في الصلاة فيكون منه الرُّويحة ويكون في الماء قلة؟ فقال: "إذا فسا أحدكم فليتوضأ، ولا تأتوا النساء في أعجازهن، فإن اللَّه لا يستحيي من الحق" (¬3)، ذكره الترمذي. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المسح على الخفين؟ فقال: "للمسافر ثلاثة أيام، وللمقيم يومٌ وليلة" (¬1). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أُبيّ بن عمارة (¬1) فقال: يا رسول اللَّه أمسح على الخفين؟ فقال: نعم. قال: يومًا؟ قال: ويومين. قال: وثلاثة أيام؟ قال: "نعم وما شئت" (¬2)، ¬
ذكره أبو داود، فطائفة من أهل العلم أخذت بظاهره وجوَّزوا المسح بلا توقيت (¬1)، وطائفة قالت: هذا مطلق وأحاديث التوقيت مقيدة، والمقيد يقضي على المطلق (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: أَكون في الرَّمل أربعة أشهر أو خمسة أشهر، ويكون فينا النُّفساء والحائض والجنب، فما ترى؟ قال: "عليك بالتراب" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر: إني أغرب عن الماء ومعي أهلي فتصيبني الجنابة؟ فقال: "إن الصعيد الطيب طهور ما لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك" (¬1)، حديث حسن. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه] فقال: انكسرت إحدى زندي، "فأمره أن يمسح على الجبائر" (¬2)، ذكره ابن ماجه. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وقال ثوبان: استفتوا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الغسل من الجنابة فقال: "أما الرجل فَلْيَنْشُر رأسه فليغسله حتى يبلغ أصول الشعر، وأما المرأة فلا عليها أن لا تنقُضه، لتغِرفَ على رأسها ثلاث غرفات تكفيها" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أغتسلت من الجنابة وصليت الصبح، ثم أصبحت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه ماء؟ فقال: "لو كنت مسحتَ عليه بيدك أجزاك" (¬2)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة عن الحيض؟ فقال: "تأخذ إحداكنَّ ماءها وسِدْرها فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصبّ على رأسها، فتدلكه دلكًا شديدًا، حتى تبلغ شؤون ¬
رأسها، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فِرْصَة مُمسَّكة (¬1) فتطهَّر بها" (¬2). وسألتهُ -صلى اللَّه عليه وسلم- عن غسل الجنابة؟ فقال: "تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور، ثم تصب [الماء] على رأسها فتدلكه حتى يبلغ شؤون رأسها، ثم تفيض الماء عليها" (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل ما يحلُّ لي من امرأتي وهي حائض؟ فقال: "تشد عليها إزارَها، ثم شأنك بأعلاها" (¬4)، ذكره مالك. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مؤاكلة الحائض؟ فقال: "واكِلْها" (¬5)، ذكره الترمذي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- كم تجلس النُّفَساء؟ فقال: "تجلس أربعين يومًا إلا أَن ترى الطهر قبل ذلك" (¬1)، ذكره الدارقطني. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[فتاوى تتعلق بالصلاة وأركانها]
[فتاوى تتعلق بالصلاة وأركانها] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ثوبان عن أحبِّ الأعمال إلى اللَّه تعالى؟ فقال: "عليك بكثرة السجود [للَّه عز وجل] , فإنك لا تسجد للَّه سجدة إلا رفعك اللَّه بها درجة وحط بها عنك خطيئة"، ذكره مسلم (¬1). وسأله عبد اللَّه بن سعد (¬2): أيما أفضل، الصلاة في بيتي أو الصلاة في ¬
المسجد؟ فقال: "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد؟ فلأن أصلي في بيتي أحب إليَّ من أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة" (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صلاة الرجل في بيته؟ فقال: "نوِّروا بيوتكم" (¬2)، ذكره ابن ماجه. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- يصلي الصبي؟ فقال: "إذا عرف يمينه من شماله فمروه بالصلاة" (¬1). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن [قتل] رجل مخنَّث يتشبه بالنِّساء؟ فقال: "إني نُهيتُ عن قتل المصلين" (¬1)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن وقت الصلاة؟ فقال للسائل "صلِّ معنا هذين اليومين فلما زالت الشمس أمر بلالًا فأذَّن، ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر ¬
والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، وصلَّى العصر والشمس مرتفعة أخَّرها فوق الذي كان، وصلَّى المغرب قبل أَن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعد ما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها، ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا يا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: وقت صلاتكم [ما بين] ما رأيتم"، ذكره مسلم (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- هل من ساعة أقرب إلى اللَّه من الأخرى؟ قال: نعم، أقرب ما يكون الرب عز وجل من العبد جوف الليل الآخر (¬2)، فإن استطعت أَن تكون ممن يذكر اللَّه في تلك الساعة فكن" (¬3). وسئل [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] عن الصلاة الوسطى؟ فقال: "هي صلاة العصر" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- هل في ساعات الليل والنهار ساعة تكره الصلاة فيها؟ فقال: "نعم إذا صَليتَ الصبح فدع الصلاة حتى تطلع الشمس، فإنها تطلع بين قَرْني شيطان، ثم صلِّ، فإن الصلاة محضورة متقبَّلة حتى تستوي الشمس على رأسك كالرمح فدع الصلاة، فإن تلك الساعة تُسجَّر جهنم وتفتح [فيها] أَبوابها حتى ترتفع ¬
الشمس عن حاجبك الأيمن، فإذا زالت الشمس فالصلاة محضورة متقبلة حتى تصلي العصر، ثم دع الصلاة حتى تغيب الشمس" (¬1)، ذكره ابن ماجه، وفيه في ليل على تعلق النهي بفعل صلاة الصبح لا بوقتها. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لا أستطيع أن آخذ شيئًا من القرآن فعلّمني ما يجزيني؟ فقال: "قل سبحان اللَّه والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه". فقال: يا رسول اللَّه، هذالله، فما لي؟ فقال: "قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني" فقال بيده هكذا وقبضها. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما هذا، فقد ملأ يديه من الخير" (¬2)، ذكره أبو داود. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمران بن حصين -وكان (¬1) به بواسير- عن الصلاة؟ فقال: "صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنبك" (¬2)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أقرأ خلف الإِمام أو أنصت؟ قال: "بل أنصت، فإنه يكفيك" (¬3)، ذكره الدارقطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حطابة فقالوا (¬4): يا رسول اللَّه إنا لا نزال سَفْرًا، فكيف نصنع بالصلاة؟ فقال: "ثلاث تسبيحات ركوعا، ثلاث تسبيحات سجودًا" (¬5)، ذكره الشافعي مرسلًا. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عثمان بن أبي العاص فقال: يا رسول اللَّه إن الشيطان قد حال بين صلاتي وبين قراءتي يَلْبِسُها عليَّ؟ فقال: "ذاك اشيطان يقال هل خِنْزَب فإذا أحسسته فتعوذ باللَّه وأتْفِل على يسارك ثلاثًا" قال: ففعلت ذلك، فأذهبه اللَّه"، ذكره مسلم (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: "أصلي في ثوبي الذي آتي فيه أهلي؟ قال: نعم، إلا أَن ترى فيه شيئًا فتغسله" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- معاوية بن حيدة: يا رسول اللَّه عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" قال: قلت: يا رسول اللَّه الرجل يكون مع الرجل؟ قال: إن استطعتَ أن لا يراها أحد فافعل. قلت: فالرجل يكون خاليًا، قال: اللَّه أحق أن يستحيا منه" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في الثوب الواحد؟ قال: "أو كلُّكُم يجد ثوبين" (¬1) متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سلمة بن الأكوع: يا رسول اللَّه إني أكون في الصيد فأصلي وليس عليَّ إلا قميص واحد، فقال: "فازْرُره، وإن لم تجد إلا شوكة"، ذكره أحمد وعند النسائي: إني أكون؟ في الصيف وليس عليَّ إلا قميص (¬2). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: يا رسول اللَّه أصلي في الفراء؟ قال: "فأين الدباغ" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة في القوس والقرن؟ فقال: "اطرح القرن وصلِّ في القوس" (¬2) ¬
ذكره الدارقطني والقرن (¬1) بالتحريك الجعبة. وسألته أم سلمة: هل تصلي المرأة في درع [وخمار] وليس عليها إزار؟ فقال: "إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهر قدميها" (¬2)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر عن أول مسجد وضع في الأرض؟ قال: "المسجد الحرام" فقال: ثم أي- قال: المسجد الأقصى"، فقال: كم بينهما؟ قال: أربعون عامًا (¬3)، ثم الأرض لك مسجد حيث أدركتك الصلاة فصل" (¬4)، متفق عليه. ¬
وذكر الحاكم في "مستدركه" أن جعفر بن أبي طالب مسألة عن الصلاة في السفينة؟ فقال: "صلِّ فيها قائمًا إلا أن تخاف الغَرَق" (¬1). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن مسح الحصى في الصلاة؟ فقال: "واحدة أو دَعْ" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- جابر عن ذلك؟ فقال: "واحدة، ولأن تُمسك عنها خير لك من مئة ناقة كلها سواد الحَدَق" (¬2)، فقلت (¬3): المسجد كان مفروشًا بالحصباء فكان أحدهم يمسحه (¬4) بيديه لموضع سجوده فرخَّص النبي في مسحه واحدة وندبهم إلى تركها، والحديث في "المسند". وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الالتفات في الصلاة فقال: "هو اختلاسٌ يختلسه الشَّيطان من صلاة العبد" (¬5). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يصلي أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة أفأصلي معهم؟ فقال: "لك سهم جمع" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر عن الكلب الأسود يقطع الصلاة دون الأحمر والأصفر؟ فقال: "الكلب الأسود شيطان" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه إني صلَّيتُ فلم أدر أشفعت أو أوترت؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إياكم أن يتلعب بكم الشيطان في صلاتكم، مَنْ صلَّى فلم يدر أشفع أم أوتر فليسجد سجدتين، فإنَّهما تمام صلاته" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: لأي شيء فضلت يوم الجمعة؟ فقال: "لأن فيها طُبعت طينة [أبيك] آدم، وفيها الصعقة، والبعثة، و [فيها] البطشة، وفي آخر ثلاث ساعات منها ساعة من دعا اللَّه فيها استجيب له" (¬1). وسئل أيضًا عن ساعة الإجابة؟ فقال: "حين تُقام الصلاة إلى الإنصراف منها" (¬2)، ولا تنافي بين الحديثين لأن ساعة الإجابة، وإن كانت آخر ساعة بعد العصر فالساعة التي تقام فيها الصلاة أولى أن تكون ساعة الإِجابة، كما أَن المسجد الذي أُسس على التقوى هو مسجد قباء ومسجد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أولى بذلك منه، [وهو أولى] (¬3) من جمع بينهما بتنقُّلها، فتأمل. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه أخبرنا عن يوم الجمعة ما فيها من الخير؟ فقال: "فيه [خمس خِلَال] (¬1): فيه خُلق آدم، وفيه أهبط آدم إلى الأرض، وفيه توفي اللَّه آدم، وفيه ساعة لا يسأل اللَّه العبد فيها شيئًا إلا أعطاه إياه ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم، وفيه تقوم الساعة، فما من ملك مقرب، ولا سماء، ولا أرض، ولا جبال، ولا حجر إِلا وهو مشفق من يوم الجمعة" (¬2)، ذكره أحمد والشافعي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صلاة الليل فقال: "مثنى مثنى، فإذا خشيت الصبح فأوتر بواحدة" (¬1)، متفق عليه. وسأله أبو أمامة: بكم أوتر؟ قال: "بواحدة"، قال: إني أطيق أكثر من ذلك قال: "ثلاث"، ثم قال: "بخمس"، ثم قال: "بسبع" (¬2) وفي "الترمذي" أنه سئل عن الشفع والوتر، فقال: "هي الصلاة بعضها شفع وبعضها وتر" (¬3). ¬
وفي "سنن الدارقطني": أن رجلًا سأله عن الوتر؟ فقال: "افصل بين الواحدة والثنتين بالسلام" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الصلاة أفضل؟ قال: "طول القنوت" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل: أي القيام أفضل؟ قال: "نصف الليل وقليلٌ فاعله" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل من ساعة أقرب إلى اللَّه من الأُخرى؟ قال: "نعم جوفُ الليل الأوسط" (¬4)، ذكره النسائي. ¬
فصل [فتاوى تتعلق بالموت والموتى]
فصل [فتاوى تتعلق بالموت والموتى] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن موت الفجاءة فقال: "راحة للمؤمن وأخذةُ أَسفٍ للفاجر" (¬1) ¬
ذكره أحمد، ولهذا لم يكره أحمد موت الفجاءة في إحدى الروايتين عنه، وقد رُوي عنه كراهتها، ورَوَى في "مسنده" أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مرَّ بجدار أو حائط مائل، فأسرع المشي، فقيل له في ذلك، فقال: "إني أكره موت الفوات" (¬1)، ولا تنافي بين الحديثين، فتأمله. وسُئل: تمرُّ بنا جنازة الكافر أفنقوم لها؟ قال: "نعم، إنكم لستم تقومون ¬
لها، إنما تقومون إعظامًا للذي يقبض النفوس" (¬1)، ذكره أحمد، وقام لجنازة يهودية فسئل عن ذلك فقال: "إن للموت فزعًا فإذا رأيتم جنازة فقوموا" (¬2). وسئل عن امرأة أوصت أَن يُعتق عنها رقبة مؤمنة، فدعا بالرقبة، فقال: "من ربك"؟ قالت: اللَّه، قال: من أنا؟ قالت: رسول اللَّه. قال: اعتقها، فإنها مؤمنة" (¬3)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر رضي اللَّه عنه: هل ترد إلينا عقولنا في القبر وقت السؤال؟ فقال: "نعم كهيئتكم اليوم" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
فصل [فتاوى تتعلق الزكاة]
وسئل عن عذاب القبر فقال: "نعم عذاب القبر حق" (¬1). فصل [فتاوى تتعلق الزكاة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صدقة الإبل؟ فقال: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقَّها، -ومن حقها حلبها يوم ورودها (¬2) - إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاعٍ قَرْقر أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلًا واحدًا تطؤه بأخفافها، وتعضه بأفواهها، كما مر [عليه] أولاها رُدَّ عليه أُخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى [بين] العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البقر؟ فقال: "ولا صاحب بقر، ولا غنم لا يؤدي حقها إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قَرْقر (¬4) لا يفقد منها شيئًا ليس فيها عَقْصاء، ولا جَلْحاء، ولا عَضْباء (¬5)، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كما مرت أولاها رُدَّ عليه أُخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار" (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخيل؟ فقال: "الخيل ثلاثة: هي لرجل وِزْر، ولرجل سِتْر، ولرجل أجر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل اللَّه فأطال لها في مَرْجٍ أو روضة فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ولو أنه ¬
انقطع طيلها فاستنت شرفًا أو شرفين (¬1) كانت له آثارها وأرواثها حسنات ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها كانت له حسنات فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنيًا وتعففًا، ثم لم ينس حق اللَّه في رقابها, ولا في ظهورها فهي لذلك الرجل ستر ورجل ربطها فخرًا ورياءً ونواءً لأَهل الإِسلام فهي على ذلك وزر" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الحُمُر؟ فقال: "ما أنزل عليَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} (¬3)، ذكره مسلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة، فقالت: إني أَلبس أوضاحًا (¬4) من ذهب، أكنز هو؟ قال: "ما بلغ أن تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز" (¬5)، ذكره مالك. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أفي المال حقٌّ سوى الزكاة؟ قال: نعم، ثم قرأ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} (¬1)، ذكره الدارقطني. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن لي حليًا، وإن زوجي خفيف ذات اليد، وإن ¬
لي ابن أخ أفيجزئ عني أن أجعل زكاة الحلي فيهم؟ قال: "نعم" (¬1). وذكر ابن ماجه أن أبا سيَّارة سأله فقال: إن لي نخلًا، فقال: "أَد العشر" فقلت: يا رسول اللَّه، احمها لي، فحماها لي (¬2). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- العباس عن تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول، فأذن له في ذلك (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن زكاة الفطر؟ فقال: "هي على كل مسلم صغيرًا أو كبيرًا، حرًا أو عبدًا، صاعًا من تمر أو [صاعًا من] شعير أو أقط" (¬2). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحاب الأموال، فقالوا: إن أصحاب الصدقة يعتدون علينا أفنكتُم من أموالنا بقدر ما يعتدون [علينا]؟ قال: "لا" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل، فقال: إني ذو مال كثير، وذو أهل، وولد وحاضرة، فأخبرني كيف أنفق؟ وكيف أمنع؟ (¬2) فقال: "تُخرج الزكاة من مالك، فإنها طهرة تطهرك وتصل [بها رحمك و] (¬3) أقاربك وتعرف حقّ السائل والجار والمسكين". فقال: يا رسول اللَّه أقلل فيَّ، قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] فقال: حسبي، وقال: يا رسول اللَّه إذا أديتُ الزكاة إلى رسولك، فقد برئت منها إلى اللَّه ورسوله؟ قال رسول اللَّه: "نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها ولك أجرها وإثمها على من بدَّلها" (¬4)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصدقة على أبي رافع مولاه؟ فقال: "إنَّا آل محمد لا تحلُّ لنا الصدقة، وإن مولى القوم من أنفسهم" (¬5)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر عن أَرضه بخيبر واستفتاه ما يصنع فيها؟ وقد أراد أن يتقرب بها إلى اللَّه فقال: "إن شئت حَبستَ أصلها وتصدقت بها" ففعل (¬1). وتصدَّق عبد اللَّه بن زيد بحائط له، فأتاه (¬2) أبواه فقالا: يا رسول اللَّه إنها كانت قيم وجوهنا, ولم يكن لنا مال غيره فدعا عبد اللَّه فقال: "إن اللَّه قد قبل منك صدقتك وردَّها على أبويك" فتوارثاها بعد ذلك (¬3)، ذكره النسائي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الصدقة أفضل؟ فقال: "المنيحة؛ أَن يمنح أحدكم الدرهم أو الدابة أو لبن الشاة أو لبن البقرة" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة عن هذه المسألة، فقال: "جهد المقل وابدأ بمن تعول" (¬2)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- مرة أخرى عنها، فقال: "أَن تتصدق، وأنت صحيح شحيح ¬
تخشى الفقر وتأمل الغنى" (¬1). وسئل مرة أخرى عنها، فقال: "سقي الماء" (¬2). [وسئل مرة أخرى عنها، فقال] (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سُراقة بن مالك عن الإبل تغشى حياضه: هل له من أجر في ¬
سقيها؟ فقال: "نعم في كل كبد حَرَّى أجر" (¬1)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأتان عن الصدقة على أزواجهما؟ فقال: "لهما أجران: أجر القرابة وأجر الصدقة" (¬1) متفق عليه، وعند ابن ماجه: أَتجزئ عني من النفقة الصدقة على زوجي وأيتام في حِجْري؟ فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لها أجران أجر الصدقة وأجر القرابة" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أَسماء فقالت: مالي مال إلا ما أدخل عليَّ الزبير، أفأتصدق؟ فقال: "تصدقي، ولا تُوعي فيُوعى عليك" (¬3) متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- مملوك: أَتصدق من مال مولاي بشيء؟ فقال: "نعم، والأَجر بينكما نصفان". ذكره مسلم (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- عن شراء فرس تصدق به، فقال [له]: "لا تشتره، ولا تعد في صدقتك، وإن أعطاكه بدرهم، فإن العائد في هبته كالعائد في قيئه" (¬5) متفق عليه. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المعروف فقال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أَن تعطي صلة الحبل ولو أن تعطي شسع النعل، ولو أَن تفرغ من دلوك في إناء المُستسقي (¬1)، ولو أَن تنحي الشيء من طريق الناس يؤذيهم ولو أن تلقى أخاك، ووجهك إليه طلق (¬2) ولو أَن تلقى أَخاك فتسلِّم عليه، ولو أَن تؤنس الوحشان [في الأرض] " (¬3)، ذكره أحمد. ¬
فللَّه ما أجلَّ هذه الفتاوى، وما أحلاها، وما أنفعها، وما أجمعها لكل خير، فواللَّه لو أَن الناس صرفوا هممهم إليها لأغنتهم عن فتاوى فلان وفلان، واللَّه المستعان. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني تصدَّقتُ على أمي بعبد، وإنها ماتت فقال: "وجبت صدقتك، وهو لك بميراثك" (¬1)، ذكره الشافعي. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: "إني تصدَّقتُ على أمي بجارية، وإنها ماتت فقال: "وجب أجرُك وردها عليك الميراث" ذكره مسلم (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن أمي توفِّيت أفينفعها إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم" (¬3)، ذكره البخاري. وسأله آخر فقال: إني أمي افُتلِتَتْ نَفْسُها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ قال: "نعم" (¬4) متفق عليه. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إن أبي مات، ولم يوص أفينفعه أن أتصدق عنه؟ قال: "نعم" (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حكيم بن حزام فقال: يا رسول اللَّه أمورٌ كنت أتحنث بها في الجاهلية من صلة (¬2) وعتاقة وصدقة هل لى فيها أجر؟ قال: أسلمتَ على ما سلف لك من خير" (¬3)، متفق عليه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- عن ابن جُدْعان، وأَنه كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ فقال: "لا ينفعه، إنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (¬4)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الغنى الذي يحرم المسألة؟ فقال: "خمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب" (¬5)، ذكره أحمد. ¬
ولا ينافى هذا جوابه للآخر: "ما يغديه أو يعشيه" (¬1)، فإن هذا غناء اليوم وذاك غناء العام بالنسبة إلى حال ذلك السائل، واللَّه أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر [بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-] (¬2)، وقد أرسل إليه بعطاء فقال: أَليس ¬
فصل [فتاوى تتعلق بالصوم]
أخبرتنا أن خيرًا لأحدنا أن لا يأخذ من أحد شيئًا؟ فقال: "إنما ذلك من المسألة فأما ما كان عن غير مسألة فإنما هو رزق رزقكه اللَّه، فقال عمر: والذي نفسي بيده لا أسأل أحدًا شيئًا، ولا يأتيني شيء من غير مسألة إلا أخذته (¬1)، ذكره مالك. فصل [فتاوى تتعلق بالصوم] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الصوم أفضل؟ فقال: "شعبان لتعظيم (¬2) رمضان" قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "صدقة رمضان" (¬3)، ذكره الترمذي، والذي في "الصحيح" أنه سئل أي الصيام أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: "شهر اللَّه الذي تدعونه المحرَّم" قيل: فأي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: "الصلاة في جوف الليل" (¬4). قال شيخنا (¬5): ويحتمل أَن يريد بشهر اللَّه المُحرَّم أول العام، وأن يريد به الأَشهر الحرم واللَّه أعلم. ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنه- فقالت: يا رسول اللَّه دخلتَ عليَّ وأنت صائم، ثم أَكلتَ حَيْسًا (¬1) فقال: "نعم إنما منزلة من صام في غير رمضان أو قضاء رمضان في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه، وبخل بما شاء فأمسكه" (¬2)، ذكره النسائي. ودخل -صلى اللَّه عليه وسلم- على أم هاني فشرب، ثم ناولها فشربت، فقالت: إن كنت ¬
صائمة، فقال: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام، وإن شاء أفطر" (¬1)، ذكره أحمد. وذكر (¬2) الدارقطني أن أبا سعيد صنع طعامًا فدعا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وأصحابه فقال رجل من القوم: إني صائم. فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "صنع لك أخوك طعامًا وتكلف لك أخوك! أفطر وصم يومًا [آخر] مكانه" (¬3)، وذكر أحمد أن حفصة أُهديت لها ¬
شاة فأكلت منها هي وعائشة، وكانتا صائمتين فسألتا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك ¬
فقال: "أَبدلا يومًا مكانه" (¬1). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: قد اشتكيت عيني أفأكتحل وأَنا صائم؟ قال: "نعم" (¬1)، ذكره الترمذي، وذكر الدارقطني أنه سئل: أفريضة الوضوء من القيء؟ فقال: "لا، لو كان فريضة لوجدته في القرآن" (¬2)، وفي إسناد الحديثين مقال. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن أبي سلمة أيقبِّل الصائم؟ فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سل هذه" لأم سلمة فأخبرته أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يفعل ذلك، قال: يا رسول اللَّه قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فقال له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إني لأتقاكم للَّه وأخشاكم له"، ذكره مسلم (¬1)، وعند الإمام أحمد أنَّ رجلًا قبَّل امرأته وهو صائم في رمضان فوجد من ذلك وجدًا شديدًا، فأرسل امرأته فسألت أم سلمة عن ذلك فأخبرتها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[كان] (¬2) يفعله، فأخبرت زوجها فزاده ذلك شرًّا، وقال: لسنا مثل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إن اللَّه يحلُّ لرسوله ما شاء، ثم رجعت امرأته إلى أم سلمة فوجدت عندها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما هذه المرأة؟ " فأخبرته أم سلمة فقال: "ألا أخبرتيها أني أفعل ذلك؟ " قالت: قد أخبرتها فذهبت إلى زوجها فزاده ذلك شرًا، وقال: لسنا مثل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إن اللَّه يحل لرسوله ما شاء، فغضب رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقال: "واللَّه إني لأتقاكم للَّه وأعلمكم بحدوده" (¬3)، [ذكره مالك وأحمد والشافعي -رضي اللَّه عنهم-، وذكر أحمد أَنّ شابًا سأله] (¬4) فقال: أقبل وأَنا صائم؟ قال: "لا"، وسأله شيخ: أقبل وأَنا صائم؟ قال: "نعم"، ثم قال: "إن الشيخ يملك نفسه" (¬5). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أكلتُ وشربتُ ناسيًا، وأَنا صائم فقال: "أطعمك اللَّه وسقاك" (¬1)، ذكره أبو داود، وعند الدارقطني فيه بإسناد صحيح "أتم صومك، فإن اللَّه أطعمك وسقاك، ولا قضاء عليك" (¬2)، وكان أول يوم من رمضان. ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك امرأة أكلت معه فأمسكت، فقال: "مالَك؟ " فقالت: كنت صائمة فنسيت فقال ذو اليدين: الآن بعد ما شبعت؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتمّي صومك، فإنما هو رزق ساقه اللَّه إليك" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخيط الأبيض والخيط الأسود؟ فقال: "هو بياض النَّهار وسواد الليل" (¬2)، ذكره النسائي. ونهاهم عن الوصال، وواصل فسألوه عن ذلك، فقال: "إني لست كهيئتكم إني يُطعمني ربي ويسقيني" (¬3)، متفق عليه. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه تدركني الصلاة وأَنا جُنُب فأصوم؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وأنا تدركني الصلاة، وأنا جنب فأصوم" فقال (¬1): لست مثلنا يا رسول اللَّه قد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، فقال: "واللَّه إني لأرجو أن أكون أخشاكم للَّه وأعلمكم لما أتقي"، ذكره مسلم (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصوم في السفر فقال: "إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت" (¬3)، وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حمزة بن عمرو فقال: إني أجد فيَّ قوة على الصيام في السفر فهل عليَّ جُناح؟ فقال: "هي رخصة اللَّه فمن أخذ بها فحسن، ومن أحب أن يصوم، فلا جناح عليه" (¬4)، ذكرهما مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تقطيع قضاء رمضان، فقال: "ذلك إليك، أرأيت لو كان على أحدكم دين قضى الدرهم والدرهمين، أَلم يكن ذلك قضاء؟ فاللَّه أحق أن يعفو ويغفر" (¬5)، ذكره الدارقطني وإسناده حسن. ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفاصوم عنها؟ فقال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها؟ " قالت: نعم، قال: "فصومي عن أمك" (¬1) متفق عليه. وعند أبي داود أَنَّ امرأة ركبت البحر فنذرت إن اللَّه عز وجل نجاها أن تصوم شهرًا فنجَّاها اللَّه فلم تصم حتى ماتت، فجاءت ابنتها أو أختها إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمرها أن تصوم عنها (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- حفصة فقالت: إني أصبحتُ أنا وعائشة صائمتين متطوعتين فأُهدي لنا طعام فأفطرنا عليه، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقضيا مكانه [يومًا] " (¬3)، ذكره أحمد، ولا ينافي هذا قوله: "الصائم المتطوع أمير نفسه"، فإن القضاء أفضل (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: هلكت، وقعت على امرأتي وأَنا صائم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل تجد رقبة تعتقها؟ " قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا. قال: هل تجد إطعام ستين مسكينًا؟ قال: لا، قال: اجلس، فبينا نحن على ذلك إذ أُتي النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بِعَرق (5) فيه تمر -والعَرَق (¬5): المكتل الضخم- فقال: "أين السائل" قال: أنا، قال: "خذ هذا فتصدق به" فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول اللَّه؟ فواللَّه ما بين لابتيها -يريد الحرَّتين- أهل ¬
بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى بدت أنيابه، ثم قال: "أطعمه أهلك" (¬1)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: أي شهر تأمرني أن أصوم بعد رمضان؟ فقال: "إن كنت صائمًا بعد رمضان فصم المحرَّم، فإنه شهر فيه تاب اللَّه على قوم ويتوب فيه على قوم آخرين" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه لم نَركَ تصوم في شهر من الشهور ما تصوم في شعبان؟ فقال: "ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يُرفعَ [فيه] عملي وأَنا صائم" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صوم يوم الاثنين؟ فقال: "ذاك يومٌ ولدت فيه وفيه أنزل عليَّ [القرآن] " (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة فقال: يا رسول اللَّه إنك تصوم لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد تصوم إلا يومين إن دخلا في صيامك وإلا صمتهما؟ قال: أي يومين؟ قال: يوم الاثنين يوم الخميس، قال: ذانك يومان تعرض فيهما الأعمال على رب العالمين فأحب أن يعرض عملي، وأنا صائم" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل: يا رسول اللَّه إنك تصوم الاثنين والخميس؟ فقال: "إن يوم الاثنين والخميس يغفر اللَّه فيهما لكل مسلم إلا مُهْتَجرَيْن يقول: حتى يصطلحا" (¬1)، ذكره ابن ماجه. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه كيف بمن يصوم الدهر؟ قال: "لا صَامَ، ولا أفطر"، أو قال: "لم يصم، ولم يفطر" قال: كيف بمن يصوم يومين ويفطر يومًا. قال: "ويطيق ذلك أحد؟ ". قال: كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: "ذاك صوم داود -عليه السلام-". قال: كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: "وددت أني طُوِّقتُ ذلك"، ثم قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ثلاث من كل شهر ورمضان إلى رمضان هذا صيام الدهر كله، صيام يوم عرفة أحتسب على اللَّه أن يُكفِّر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء أحتسب على اللَّه أن يكفر السنة التي بعده" (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: أصومُ يوم الجمعة، ولا أكلِّم أحدًا؟ فقال: "لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في شهر، وأما أَن لا تكلم أَحدًا فلعمري أن تكلَّم بمعروف أو تنهى عن منكر خير من أَن تسكت" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: إني نذرت في الجاهلية أَن أعتكف يومًا في ¬
المسجد الحرام، فكيف ترى؟ فقال: "اذهب فاعتكف يومًا" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ليلة القدر، أفي رمضان أو في غيره؟ قال: "بل في رمضان" فقيل: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: "بل هي إلى يوم القيامة"، فقيل: في أي رمضان هي؟ قال: "التمسوها في العشر الأول، أو في العشر الآخر" فقيل: في أي العشرين؟ قال: "ابتغوها في العشر الأواخر لا تسألني عن شيء بعدها" فقال: أقسمت عليك بحقِّي (¬2) عليك لما أخبرتني في أي العشر هي، فغضب غضبًا شديدًا، وقال: "التمسوها في السبع الأواخر، لا تسألنَّ عن شيء بعدها" (¬3)، ذكره أحمد والسائل أبو ذر، وعند أبي داود أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل عن ليلة القدر فقال: "في كل رمضان" (¬4)، وسئل عنها أيضًا ¬
فقال: كم الليلة؟ فقال السائل: ثنتان وعشرون. فقال: "هي الليلة"، ثم رجع فقال: "أو القابلة" يريد ثلاثًا وعشرين (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن أنيس: "متى نلتمس هذه الليلة المباركة؟ فقال: "التمسوها هذه الليلة" وذلك مساء ليلة ثلاث وعشرين (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها-: إن وافقتها فبم أدعو؟ قال: "قولي اللهم إنك عفوٌّ ¬
تحب العفو فاعف عني" (¬1)، حديث صحيح. ¬
فصل [فتاوى تتعلق بالحج]
فصل [فتاوى تتعلق بالحج] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- فقالت: نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟ قال: "لكن أفضل الجهاد وأجمله حج مبرور"، ذكره البخاري وزاد أحمد: "هو لكنّ جهاد" (¬1). ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة: ما يعدلُ حجة معك؟ فقال: "عمرةٌ في رمضان" (¬1)، ذكره أحمد، وأصله في "الصحيح". وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم معقل فقالت: يا رسول اللَّه إنَّ عَلَيَّ حِجْة، وإن لأَبي معقل بَكرًا، فقال أبو معقل: صَدَقت، [قد] جعلته في سبيل اللَّه، فقال: "اعطها فلتحج عليه، فإنه في سبيل اللَّه" فأعطاها البكر فقالت: يا رسول اللَّه. إني امرأة قد كبرت سنِّي وسقمت، فهل من عمل يجزئ عني من حجتي فقال: "عمرة في رمضان تجزئ عن حجة" (¬2)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أُكرِّي [في] هذا الوجه، وكان الناس يقولون: ليس لك حج، فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فأرسل إليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقرأها عليه، وقال: "لك حج" (¬3)، ذكره أبو داود. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الحج أفضل؟ قال: "العجُّ والثجُّ" فقيل: ما الحاج؟ قال: "الشَّعِثُ التَّفِل" قال: ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة" (¬1)، ذكره الشافعي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا، وأن تعتمر فهو أفضل" (¬1)، قال الترمذي: صحيح، وعند (¬2) أحمد أَن أَعرابيًا قال: يا رسول اللَّه أخبرني عن ¬
العمرة أواجبة هي؟ فقال: "لا، وأن تعتمروا خيرٌ لكم" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أبي أدركه الإسلام، وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرَّحل والحج مكتوب علينا، أفأحج عنه؟ قال: "أنت أَكبر ولده" قال: نعم. قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه، كان ذلك يجزئ عنه" قال: نعم، قال: "فحج عنه" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو رزين (¬3) فقال: [إن] (¬4) أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الظعن، فقال له: "حج عن أبيك واعتمر" (¬5)، قال الدارقطني: رجال إسناده كلهم ثقات. وسأله رجل فقال: إن أبي مات، ولم يحجّ، أفأحج عنه؟ فقال: "أرأيت إن ¬
كان على أَبيك دين أكنت قاضيه"؟ قال: نعم. قال: "فدين اللَّه أحق" (¬1)، ذكره أحمد. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: "إن أمي ماتت، ولم تحج أفأحج عنها؟ قال: "نعم حجي عنها" (¬2)، حديث صحيح وعند الدارقطني أَنَّ رجلًا سأله قال: هلك أبي، ولم يحج، قال: "أرأيت لو كان على أَبيك دين فقضيته أيُقبل منك"؟ قال: نعم. قال: "فاحجج عنه" (¬3)، وهو يدل على أَنَّ السؤال والجواب إنما كانا عن ¬
القبول والصحة لا عن الوجوب، واللَّه أعلم (¬1). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- رجلًا سمعه يقول: لبيك عن شُبْرُمَة، قريب له، فقال: "أَحَجَجْتَ عن نفسك؟ " قال: لا. قال: "حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة" (¬2)، ذكره الشافعي وأحمد رحمهما اللَّه تعالى. وسألته امرأة عن صبي رفعته إليه فقالت: ألهذا حج؟ قال: "نعم ولك أجر"، ذكره مسلم (¬3). وسأله رجل فقال: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟ " قال: نعم. قال: "فاقضِ اللَّه فهو أحق ¬
بالقضاء" (¬1)، متفق عليه. وسُئل ما يلبس المحرم في إحرامه؟ فقال: "لا يلبس القميص، ولا العمامة، ولا البُرْنُس، ولا السراويل، ولا ثوبًا مسه وَرْسٌ (¬2) ولا زَعْفران، ولا الخفين إلا أن لا يجد نعلين فليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عليه جُبَّة، وهو مُتضمِّخ بالخَلُوق فقال: أحرمتُ بعمرة وأَنا كما ترى، فقال: "انزع عنك الجبَّة واغسل عنك الصُّفْرة". متفق عليه، وفي بعض طرقه: "واصنع في عمرتك ما تصنع في حجتك" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو قتادة عن الصيد الذي صاده، وهو حلالٌ فأكل أصحابه منه (¬5) وهم محرمون؟ فقال: "هل معكم منه شيء"؟ فناوله العَضُد فأكلها (¬6)، وهو محرم (¬7)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عمَّا يَقتل المُحْرِم؟ فقال: "الحية، والعقرب، والفُويْسِقَة (¬8)، والكلب العقور والسبع العادي"، زاد أحمد: "ويُرمى بالغراب، ولا يقتل" (¬9). ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- ضباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحجَّ، وأَنا شاكية؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "حجي واشترطي أَنَّ مَحلِّي حيث حبستني" (¬1)، ذكره مسلم. واستفتته أم سلمة في الحج، وقالت: إني أشتكي، فقال: "طوفي من وراء الناس، وأنت راكبة" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة فقالت: "يا رسول اللَّه ألا أدخل البيت؟ فقال: ادخلي ¬
الحِجْر، فإنه من البيت" (¬1). واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- عروة بن مُضرِّس فقال: يا رسول اللَّه جئت من جبليْ طي أذللت مطيتي وأتعبت نفسي واللَّه ما تركت من جبل إلا وقفت عليه هل لي من حج؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ أدرك معنا هذه الصلاة، يعني: صلاة الفجر، وأتى عرفات قبل ذلك ليلًا أو نهارًا تم حجه وقضى تفثُه" (¬2)، حديث صحيح. ¬
واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- ناس من أهل نجد فقالوا: يا رسول اللَّه كيف الحج؟ فقال: "الحج عرفة فمن جاء قبل صلاة الفجر تم حجه، ومن تأخر فلا إثم عليه". ثم أردف (¬1) رجلًا خلفه ينادي بهن (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لم أشْعُر فحلقت قبل أَن أذبح، فقال: "اذبح ولا ¬
حرج" وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أَن أَرمي، فقال: "ارم، ولا حرج" فما سئل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شيء قُدِّم، ولا أُخَّر إلا قال: "افعل، ولا حرج" (¬1)، متفق عليه. وعند أحمد: "فما سئل يومئذ عن أمر مما يَنْسى المرء أو (¬2) يجهل من تقديم بعض الأُمور على بعض وأشباهها إلا قال: "افعل ولا حرج" (¬3)، وفي لفظ: حلقتُ قبل أن أنحر قال: "اذبح، ولا حرج"، وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر قال: حلقت (¬4)، ولم أرم. قال: "ارم، ولا حرج" وفي لفظ: أنه سئل عمَّن ذبح قبل أَن يحلق أو حلق قبل أَن يذبح قال: "لا حرج" (¬5)، و [قال] (¬6): كان الناس يأتونه فمن قائل: يا رسول اللَّه سعيت قبل أَن أَطوف وأخَّرتُ شيئًا، وقدمت شيئًا، فكان يقول: "لا حرج إلا على رجل اقترض عِرْض مسلم وهو ظالم فذلك الذي حَرِج وهلك" (¬7)، ذكره أبو داود. ¬
وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- كعب بن عُجرة أَن يحلق رأسه، وهو محرم لأَذى القمل، أن ينسك بشاة أو يطعم ستة مساكين أو يصوم ثلاثة أيام (¬1). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من أهدى بدنة أن يركبها (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ناجيةُ الخزاعي: ما يصنع بما عطب من الهدي؟ فقال: "انحرها واغمس نعلها في دمها وأضرب به صفحاتها (¬3) وخلِّ بينها وبين الناس فيأكلوها، ولا يأكل منه هو، ولا أحد من أهل رفقته" (¬4). ¬
وسأله عمر فقال: إني أُهديتُ نَجيبًا فأعطيت بها ثلاث مئة دينار فأَبيعها فأشتري بها بدنًا؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا انحرها إياها" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن أرقم: ما هذه الأضاحي؟ فقال: "سنة أبيكم إبراهيم صلاة اللَّه وسلامه عليه" قال: فما لنا منها؟ قال: "بكل شعرة حسنة"، قالوا: يا رسول اللَّه فالصوف قال: "بكل شعرة من الصوف حسنة" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب [كرم اللَّه وجهه]؛ عن يوم الحج الأَكبر؟ فقال: "يوم النحر" (¬1)، ذكره الترمذي، وعند أبي داود بإسناد صحيح أَن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها، فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر، فقال: هذا يوم الحج الأكبر"، وقد قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}، وإنما أذَّن المؤذن بهذه البراءة يوم النحر (¬2)، وثبت في "الصحيح" عن أبي هريرة أنه قال: يوم الحج الأكبر يوم النحر (¬3). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه بجواز فسخهم الحج إلى العمرة، ثم أَفتاهم باستحبابه، ثم أفتاهم بفعله حتمًا، ولم ينسخه شيء بعده (¬4)، والذي (¬5) ندين اللَّه به أَنَّ القول بوجوبه أَقوى وأَصح من القول بالمنع منه، وقد صح عنه صحة لا شك فيها أنه قال: "من لم يكن أهدى فليهل بعمرة، ومن كان أهدى فليهل بحج مع عمرة" (¬6)، وأما ما فعله هو، فإنه صح عنه أنه قرن بين الحج والعمرة من بضعة وعشرين ¬
وجهًا رواه عنه ستة عشر نفسًا من أصحابه (¬1)، ففعل القران وأمر بفعله من ساق الهدي وأمر بفسخه إلى التمتع من لم يسق الهدي، وهذا من فعله وقوله كأنه رأي عين، وباللَّه التوفيق (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة أنثى أفأضحي بها؟ قال: "لا، ولكن خذ من شعرك وأظفارك، وقُصَّ شاربك، وتحلق عانتك وذلك تمام أضحيتك عند اللَّه" (¬3)، ذكره أبو داود، والمنيحة: الشاة التي أعطاه إياها غيره لينتفع بلبنها فمنعت من التضحية بها لأنها (¬4) ليست ملكه، وإن كان قد منحها هو غيره وقتًا معلومًا لزم الوفاء له بذلك، فلا يضحي بها أيضًا. وأمر [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬5) سبعة من أصحابه كانوا معه فأخرج كل واحد منهم درهمًا فاشتروا أُضحية، فقالوا: يا رسول اللَّه لقد أغلينا بها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن أفضل الضحايا أَغلاها وأسمنها" فأمر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[فأخذ رَجلٌ برِجْلٍ، ورجلٌ برِجْل] (¬6)، ورجل بيد، ورجل بيد، ورجل بقرن، ورجل بقرن، وذبحها السابع وكبَّروا عليها جميعًا" (¬7)، ذكره أحمد، نَزَّل هؤلاء النفر منزلة أهل البيت الواحد ¬
في إجزاء الشاة عنهم؛ لأنهم كانوا رفقة واحدة. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن عليَّ بدنة، وأَنا موسر (¬1) بها، ولا أجدها فأشتريها؟ فأفتاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أَن يبتاع سبع شياه فيذبحهن (¬2)، ذكره أحمد رحمه اللَّه تعالى. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- زيد بن خالد عن جَذَع من المعز، فقال: "ضَحِّ به" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بردة بن نِيَار عن شاة ذبحها يوم العيد، فقال: "أقبْلَ (¬1) الصلاة؟ " قال: نعم، قال: "تلك شاة لحم" قال: عندي عَنَاق جَذَعَة (¬2) هي أحب إليِّ (¬3) من مُسنَّة، قال: "تجزئ عنك، ولن تجزئ عن أحد بعدك" (¬4)، ذكره أحمد، وهو صحيح صريح في أَنَّ (¬5) الذبح قبل الصلاة لا يجزئ، سواء دخل وقتها، أو لم يدخل، وهذا الذي ندين اللَّه به قطعًا، ولا يجوز غيره. وفي "الصحيحين" من حديث جندب بن سفيان البَجَلي عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من كان ذبح قبل أَن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم اللَّه" (¬6). وفي "الصحيحين" من حديث أَنس عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "من كان ذبح قبل الصلاة فليُعِد" (¬7)، ولا قول لأحد مع رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو سعيد فقال: اشتريت كبشًا أضحي به فعدا الذئب فأخذ أليته فقال: "ضحِّ به" (¬8)، ذكره أحمد. ¬
وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من أراد الخروج إلى بيت المقدس للصلاة أَن يصلي في مكة (¬1)، ذكره أحمد. ¬
فصل [فتاوى في بيان فضل بعض سور القرآن]
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر يوم فتح مكة فقال: إني نذرتُ إن فتح اللَّه عليك مكة أن أصلِّي في بيت المقدس، فقال: "صلِّ هاهنا"، ثم سأله فقال: "شأنك إذًا" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر أي مسجد وضع في الأرض أوَّلَ؟ قال: "المسجد الحرام"، قال: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى"، قال: كم بينهما؟ قال: "أربعون عامًا" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أي المسجدين أسس على التقوى؟ قال: "مسجدكم هذا" يريد: مسجد المدينة (¬3)، ذكره مسلم، وزاد الإمام أحمد: "وفي ذلك خيرٌ كثير" (¬4)، يعني: مسجد قباء. فصل [فتاوى في بيان فضل بعض سور القرآن] وسئل: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ ¬
الْقَيُّومُ} (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ضربت خِبَائي على قبر، وأَنا لا أحسب أنه قبر فإذا [قبر] (¬2) إنسان يقرأ سورة الملك حتى ختمها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هي المانعة هي المنجية تنجيه من عذاب القبر" (¬3)، ذكره الترمذي، وقال ابن عبد البر: هو صحيح. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أقرئني سورة جامعة، فأقرأه: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} حتى فرغ منها فقال الرجل: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها أبدًا، ثم أدبر الرجل فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أفلح الرُّويجل" (¬1) مرتين، ذكره أبو داود. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: "إني أُحب سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فقال: "حبُّك إياها أدخلك الجنة" (¬1). ¬
[فتاوى في بيان فضل الأعمال]
وقال له عقبة بن عامر: أقرأ سورة هود وسورة يوسف؟ فقال: "لن تقرأ شيئًا أبلغ عند اللَّه من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} " (¬1)، ذكره النسائي. [فتاوى في بيان فضل الأعمال] وفي الترمذي عنه أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الأعمال أحبُّ إلى اللَّه؟ قال: "الحال المرتحل" (¬2)، وفهم بعضهم من هذا أنه كلما (¬3) فرغ من ختم القرآن قرأ فاتحة ¬
الكتاب وثلاث آيات من سورة البقرة لأنه حلَّ بالفراغ وارتحل بالشروع، وهذا لم يفعله أحد من الصحابة، ولا التابعين، ولا استحبه أحد من الأئمة والمراد بالحديث: الذي كلَّما حل من غزاة ارتحل في أخرى أو كلما حل من عمل ارتحل في (¬1) غيره تكميلًا له، كما كمل الأول، وأما هذا الذي يفعله بعض القرَّاء فليس مراد الحديث قطعًا، وباللَّه التوفيق. وقد جاء تفسير الحديث متصلًا به أن يضرب من أول القرآن إلى آخره كلما حل ارتحل، وهذا له معنيان أحدهما: أنه كلما حل من سورة أو جزء ارتحل في غيره، والثاني: أنه كلما حل من ختمة ارتحل في أخرى. وسئل عن أهل اللَّه: من هم؟ فقال: "هم أهل القرآن، أهل اللَّه وخاصته" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن عمرو [بن العاص] (¬3) في كم أقرأ القرآن؛ فقال: "في شهر" فقال: أطيق أفضل من ذلك، فقال: في عشرين، فقال: "أطيق أفضل من ذلك" فقال: "في خمس عشرة" فقال: أطيق أفضل من ذلك، قال: "في عشرة" فقال: أطيق أفضل من ذلك قال: "في خمس" قال: أطيق أفضل من ذلك. قال: ¬
"لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" (¬1)، ذكره أحمد. واختلف رجلان في آية كل منهما أخذها عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسألاه عنها فقال لكل منهما: "هكذا أنزلت"، ثم قال: "أنزل القرآن على سبعة أحرف" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي المجاهدين أعظم أجرًا؟ قال: "أكثرهم للَّه ذكرًا" قيل: فأي الصائمين أعظم أجرًا؟ قال: "أَكثرهم للَّه ذكرًا"، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول: "أكثرهم للَّه ذكرًا" فقال: أبو بكر لعمر -رضي اللَّه عنهما-: ذهب الذاكرون بكل خير فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أجل" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن المفرِّدين الذين هم أهل السبق؟ فقال: "الذاكرون اللَّه كثيرًا" (¬1)، وفي لفظ: "المشتهرون بذكر اللَّه، يضع الذكر عنهم أَثقالهم فيأتون [يوم] القيامة خفافًا" (¬2)، ذكره الترمذي. وسئل عن رياض الجنة؟ فقال: "حِلَقُ الذِّكر" (¬3). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أهل الكرم الذين يقال لهم يوم القيامة: سيعلمُ أهلُ الجمع من أهل الكرم؟ فقال: "هم أهل الذكر في المساجد" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل عن غنيمة مجالس الذكر؟ فقال: "غنيمة مجالس الذكر الجنة" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوم غزوا فقالوا: ما رأينا أفضل غنيمة ولا أَسرع رجعة منهم، فقال: "أدلكم على قوم أفضل غنيمة منهم، وأسرع رجعة؟ قوم شهدوا صلاة الصبح، ثم جلسوا يذكرون اللَّه حتى طلعت الشمس فأولئك أَسرع رجعة وأفضل غنيمة" (¬1)، ذكره الترمذي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن خيار الناس؟ فقال: "الذين إذا رُؤوا ذُكر اللَّه" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن خير الأعمال وأزكاها عند اللَّه وأرفعها في الدرجات؟ فقال: "ذكر اللَّه" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ الدعاء أَسْمع؟ فقال: "جوف الليل الأخير (¬1) ودبر الصلوات المكتوبات" (¬2)، ذكره الإمام أحمد، وقال: "الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد"، قالوا: فماذا نقول يا رسول اللَّه؟ قال: "سلوا اللَّه العافية في الدنيا والآخرة" (¬3)، ذكره الترمذي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- بأيِّ شيء نختم الدعاء؟ فقال: "بآمين" (¬1)، ذكره أبو داود. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن تمام النعمة؟ فقال: "الفوز بالجنة والنجاة من النار" (¬1)، ذكره الترمذي، فنسأل اللَّه تمام نعمته بالفوز بالجنة والنجاة من النار. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الاستعجال المانع من إجابة الدعاء، فقال: "يقول: قد دعوت ودعوت (¬2) فلم يستجب لي فيستحسر (¬3) عند ذلك ويدع الدعاء" (¬4)، ذكره مسلم، وفي لفظ: "يقول: قد سألتُ وسألتُ فلم أعط شيئًا" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الباقيات الصالحات؟ فقال: "التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه" (¬6)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الصديق -رضي اللَّه عنه- أَن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته؟ فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا (¬1) يغفر الذنوب إِلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وأرحمني [إنك] أنت الغفور الرحيم" (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الأَعرابي الذي علَّمه أن يقول: "لا إله إِلا اللَّه وحده لا شريك له، اللَّه أكبر كبيرًا والحمد للَّه كثيرًا وسبحان اللَّه رب العالمين، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه العزيز الحكيم" فقال: هذا لربي فما لي؟ فقال: "قل: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني وعافني، فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك"، ذكره مسلم (¬3). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رياض الجنة؟ فقال: "المساجد"، فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرتع فيها فقال: "سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر" (¬1)، ذكره الترمذي. واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لا أَستطيع أن آخذ من القرآن شيئًا فعلمني ما يجزيني، قال: "قل سبحان اللَّه والحمد للَّه، ولا إله إِلا اللَّه واللَّه أكبر، ولا حول ولا قوة إِلا باللَّه" قال: يا رسول اللَّه هذا للَّه، فما لي؟ قال: "قل اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني" فقال هكذا بيده وقبضها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أما هذا، فقد ملأ يده من الخير" (¬2)، ذكره أبو داود. ومر -صلى اللَّه عليه وسلم- بأبي هريرة، وهو يغرس غرسًا فقال: "ألا أدلك على غِرَاس خير لك من هذا؟ سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إِلا اللَّه واللَّه أكبر، يُغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة" (¬3)، ذكره ابن ماجة. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: كيف يكسب أحدُنا كلَّ يوم أَلف حسنة؟ قال: "يسبِّح مئة تسبيحة يكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة" (¬1)، ذكره مسلم. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من قال له: لدغتني عقرب، بأنه: "لو قال حين أمسى: "أعوذ بكلمات اللَّه التامَّات من شر ما خلق" لم تضره (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أن يعلمه تعوذًا يتعوذ به، فقال: "قل: اللهم إني أعوذ بك من شرِّ سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منِيي (¬3)، يعني الفرج" (¬4)، ذكره النسائي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن كيفية الصلاة عليه؟ فقال: "قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم (1) إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم (¬1) إنك حميد مجيد" (¬2) متفق عليه. وقال له -صلى اللَّه عليه وسلم- معاذ: يا رسول اللَّه أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار؟ قال: "لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسَّره اللَّه عليه، تعبد اللَّه، ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، ثم قال: "ألا أدلك على أبواب الخير؟ " قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: "الصوم جُنَّة والصدقة تُطفئ الخطيئة كما يُطفئ الماء النار، وصلاة الرجل في جوف ¬
الليل"، ثم قال: ألا أخبركم (¬1) برأس الأمر وعموده، وذروة سنامه؟ رأسُ الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد [في سبيل اللَّه] " (¬2)، ثم قال: "ألا أخبرك بملاك ذلك كله"؟ قلت: بلى يا رسول اللَّه، قال: "كُفَّ عليك هذا" وأشار إلى لسانه، قلت: يا رسول اللَّه، وإنَّا لمؤأخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثكلتك أمّك يا معاذ وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم إِلا حصائد ألسنتهم" (¬3)، حديث صحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: دلَّني على عمل إذا عملته دخلت الجنة؟ قال: "تعبد اللَّه ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان" فقال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فلما ولَّى قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من سَرَّه أَن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا" (¬4)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل آخر فقال: أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني (¬5) من ¬
النار؟ فقال: "تعبد اللَّه، ولا تشرك به شيئًا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصلُ الرحم" (¬1)، متفق عليه. وسأله أعرابي فقال: علِّمني عملًا يدخلني الجنة؟ فقال: "لئن كنت أقصرتَ الخطبة لقد أعرضت المسألة أعتق النسمة، وفُكَّ الرقبة" قال: أو ليسا واحدًا؟ قال: "لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها، والمنحة الوكوف (¬2)، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تطق ذلك فأطعم الجائع واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وأنْهَ عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكفَّ لسانك إِلا من خير" (¬3)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: ما الإسلام؟ فقال: "أن يَسْلم قلبك للَّه، وأن يسلم المسلمون من لسانك ويدك"، قال: "فأي الإسلام أفضل؟ قال: "الإيمان" قال: وما الإيمان؟ قال: "تؤمن باللَّه وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت" قال: فأي الإيمان أفضل؟ قال: "الهجرة" قال: وما الهجرة؟ قال: "أن تهجر السوء" قال: فأي الهجرة أفضل؛ قال: "الجهاد" قال: وما الجهاد؟ قال: "أن تقاتل الكفار إذا لقيتهم" قال: فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من عُقر جواده وأهريق دمه، ثم عَمَلان هما أفضل الأعمال إِلا من عمل بمثلهما: حجة مبرورة أو عمرة" (¬4)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ فقال: "الإيمان باللَّه وحده، ثم الجهاد، ثم ¬
حجة مبرورة تفضل سائر العمل، كما بين مطلع الشمس ومغربها" (¬1)، ذكره الإمام أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا: أي الأعمال أفضل؟ قال (¬2): "أن تحب للَّه وتبغض للَّه وتعمل لسانك في ذكر اللَّه" قال السائل: وماذا يا رسول اللَّه؟ قال: "أن (¬3) تحبَّ للناس ما تحب لنفسك، وأن تقول خيرًا أو تصمت" (¬4). واختلف نفر من الصحابة في أفضل الأعمال؛ فقال بعضهم: سقاية الحاج، ¬
وقال بعضهم: عمارة المسجد الحرام، [وقال بعضهم: الحج] (¬1)، وقال بعضهم: الجهاد في سبيل اللَّه، فاستفتى عمر في ذلك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه عز وجل: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إلى قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} (¬2) [التوبة: 19 - 20]. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه شهدت أن لا إله إِلا اللَّه، وأَنك رسول اللَّه وصلّيت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان؟ فقال: "من مات على هذا كان مع النَّبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا" ونصب أصابعه "ما لم يعق والديه" (¬3)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: أرأيت إذا صليت المكتوبة وصمت رمضان وأحللت ¬
الحلال وحرمت الحلال ولم أزد على ذلك شيئًا، أدخل الجنة؟ قال: نعم". قال: واللَّه لا أزيدنَّ على ذلك شيئًا (¬1)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال خير؟ قال: أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو هريرة فقال: [إني] (¬3) إذا رأيتك طابت نفسي وقرَّت عيني، فانبئني عن كل شيء؟ فقال: "كلُّ شيء خُلق من ماء"، قال: أنبئني عن أمر إذا أخذت به دخلت الجنة؟ قال: "أفش السلام وأطعم الطعام وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم أدخل الجنة بسلام" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فشكا إليه قسوة قلبه، فقال: "إذا أردت أن يَلينَ قلبُك فأطعم المسكين وامسح رأس اليتيم" (¬1). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: "طول القيام"، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: "جهد المقل"، قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: "من هجر ما حرَّم اللَّه عليه"، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: "من جاهد المشركين بماله ونفسه". قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: "من أهريق دمه وعقر جواده" (¬1)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحج مبرور" (¬2). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر فقال: من أين أتصدَّق وليس لي مال؟ قال: "إن من أبواب الصدقة التكبير، وسبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إِلا اللَّه، وأستغفر اللَّه، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتعزل الشوكة عن طريق الناس والعظم والحجر، وتهدي الأعمى، وتُسمع الأصم والأبكم حتى يفقه، وتدل المستدل على حاجة له، قد علمت مكانها، وتسعى بشدة ساقيك إلى اللهفان المستغيث، وترفع بشدة ذراعيك مع الضعيف، كل ذلك من أَبواب الصدقة منك على نفسك، ولك من جِمَاعك لزوجتك أجر" فقال أبو ذر: فكيف يكون لي أجر في شهوتي؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أرأيت لو كان لك ولد ورجوت أجره فمات أكنت تحتسب به؟ " قلت: نعم. قال: "أنت خلقته؟ " قلت: بل اللَّه خلقه، قال: "فأنت هديته" قلت: بل اللَّه هداه، قال: "فأنت كنت ترزقه (¬1)؟ " قلت: بل اللَّه كان يرزقه، قال: "فكذلك فضعه (¬2) في حلاله وجنِّبه حرامه، فإن شاء اللَّه أحياه، وإن شاء اللَّه أَماته ولك أجر" (¬3)، ذكره أحمد. وسأل -صلى اللَّه عليه وسلم- أصحابه يومًا: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال: "من اتبع منكم اليوم جنازة؟ " قال أبو بكر: أَنا، قال: "من أطعم منكم [اليوم] مسكينًا؟ " قال [أبو بكر: أنا، قال:] "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ " قال أبو بكر: أنا. قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما اجتمعن في رجل إِلا دخل الجنة" (¬4)، ذكره مسلم. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: يا رسول اللَّه الرجل يعمل العمل فيُسِرَّه فإذا اطُّلع عليه أعجبه؟ فقال: "له أجران أجر السر وأجر العلانية" (¬1)، ذكره الترمذي. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر: يا رسول اللَّه أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه؟ قال: "تلك عاجل بُشرى المؤمن" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: "أي العمل أفضل"؟ فقال: "الإيمان باللَّه وتصديقٌ به، ¬
وجهادٌ في سبيله" قال: أريد أهون من ذلك يا رسول اللَّه؟ قال: "السماحة والصبر"، قال: أريد أهون من ذلك، قال: "لا تتهم اللَّه تعالى في شيء قضى لك" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة عن فواضل الأعمال فقال: "يا عقبة صِلْ مَنْ قطعك وأعط من حرمك وأعرض عمَّن ظلمك" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
فصل [فتاوى في الكسب والأموال]
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أنَّي قد أحسنت، وإذا أسأت أني قد أسأت؟ فقال: "إذا قال جيرانك: إنك قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا قالوا: قد أسأت، فقد أسأت" (¬1)، ذكره ابن ماجة، وعند الإمام أحمد، "إذا سمعتهم يقولون: قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت" (¬2). فصل [فتاوى في الكسب والأموال] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ الكسب أطيب (¬3)؟ قال: "عملُ الرجل بيده، وكلُّ بيع مبرور" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن لي مالًا، وولدًا، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي؟ قال: "أنت ومالك لأبيك، إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم فكلوه هنيئًا" (¬1)، ذكره أبو داود وأحمد. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إنَّا كَلٌّ على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: "الرطب تأكلينه (¬2) وتهدينه" (¬3)، ذكره أبو داود، وقال عقبه: الرطب يعني به ما يفسد إذا بقي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إِنَّا نأخذ على كتاب اللَّه أجرًا؟ فقال: "إن أَحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللَّه" (¬1)، ذكره البخاري في قصة الرقية. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أموال السلطان؟ فقال: "ما أتاك اللَّه منها من غير مسألة، ولا إشراف فكله وتموّله" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أجرة الحجَّام؟ فقال: "أعْلِفه ناضحك وأطعمه رقيقك" (¬3)، ذكره مالك. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عن عَسْب الفحل فنهاه فقال: إنَّا نُطرِق الفَحْلَ فنُكْرَم، فرخَّص له في الكرامة (¬1)، حديث حسن، ذكره الترمذي. ¬
[إرشادات لبعض الأعمال]
[إرشادات لبعض الأعمال] ونهى عن القُسامة (¬1) -بضم القاف- فسئل عنها فقال: "الرَّجل يكون على الفئام من الناس فيأخذ من حظ هذا وحظ هذا" (¬2)، ذكره أبو داود. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: "سَقي الماء" (¬3). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت يا رسول اللَّه: إني أحبُّ الصلاة معك؟ فقال: "قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتُك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حُجْرَتك، وصلاتك في حُجْرتك خيرٌ من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خيرٌ من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتكِ في مسجد قومك خيرٌ من صلاتك في مسجدي" فأَمرت فبُني لها مسجد في أقَصى شيء من بيتها وأظلم فكانت تصلي فيه حتى لقيت اللَّه عز وجل (¬4). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيُّ البقاع شرٌّ؟ قال: "لا أدري حتى أسأل جبريل" فسأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل ميكائيل فجاء فقال: خير البقاع المساجد وشرها الأسواق (¬1). وقال: "في الإنسان ستون وثلاث مئة مَفْصِل عليه أَن يتصدق عن كل مفصل صدقة، فسألوه مَنْ يُطيق ذلك؟ قال "النخاعة (¬2) تراها في المسجد فتدفنها أو الشيء فتنحيه عن الطريق، فإن لم تجد فركعتا الضحى يجزيانك" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الصلاة قاعدًا؟ فقال: "من صلَّى قائمًا فهو أفضل، ومن صلى قاعدًا فله نصف أجر القائم، ومن صلَّى نائمًا (¬4) فله نصف أجر القاعد" (¬5). قلت: وهذا له محملان، أحدهما: أن يكون في النافلة عند من يجوِّزها مضطجعًا، والثاني: على المعذور فيكون له بالفعل النصف والتكميل بالنيَّة. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ما يمنعني أَن أتعلم القرآن إِلَّا خشية أَن لا أقوم به، فقال: "تعلَّم القرآن واقرأه وارقد، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقال به كمثل جِرابٍ محشوٍّ مِسْكًا يفوح ريحه على كل مكان، ومن تعلمه ورقد، وهو في جوفه كمثل جراب وُكي على مِسْك" (¬6). ¬
وقال عن رجل من أصحابه توفِّي (¬1): "ليته مات في غير مولده" فسُئل لم ذلك؟ فقال: "إن الرجل إذا مات في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة" (¬2). ذكر هذه الأحاديث أبو حاتم ابن حبان (¬3) في "صحيحه". وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيغني الدواء شيئًا؟ فقال: "سبحان اللَّه! وهل أنزل اللَّه تبارك وتعالى من داء في الأرض إِلا جعل له شفاء" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرقى والأدوية هل ترد من قدر اللَّه شيئًا؟ قال: "هي من قَدَر اللَّه" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل من المسلمين طَعَن رجلًا من المشركين في الحرب ¬
فقال: خذها، وأنا الغلام الفارسي، فقال: "لا بأس في ذلك يُحمد ويُؤجر" (¬1)، ذكرهما أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أن يعمله ما ينفعه، فقال: "لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا ولو أن تُفرغ من دلوك في إناء المستقي (¬2)، ولو أن تُكَلِّم أخاك، ووجهك مُنبسطٌ إليه، وإياك وإسبال الإزار، فإنها من المَخِيَلة، ولا يحبُّها اللَّه، وإن امرؤ (¬3) شتمك بما يعلم فيك، فلا تشتمه بما تعلم منه، فإنَ أجره لك، ووباله على مَنْ قاله" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لحوم الحمر الأهلية، فقال: "لا تحلُّ لمن شهد أَنِّي رسول اللَّه" (¬5)، ذكره إحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأُمراء الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها: كيف يصنع معهم؟ فقال: "صلِّ الصلاة لوقتها، ثم صَلِّ معهم، فإنها لك نافلة" (¬6)، حديث صحيح. ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة صفوان بن المعطِّل السُّلمي، فقالت: إنه يضربني إذا صلَّيتُ ويُفطِّرني إذا صُمْتُ، ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس، فسأله عما قالت امرأته، فقال: أما قولها: يضربني إذا صليتُ، فإنها تقرأ بسورتين، وقد نهيتها عنهما فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كانت سورة واحدة لكفت الناس"، وأما قولها: يفطرني إذا صمت، فإنها تنطلق فتصوم، وأنا رجل شاب، ولا أصبر، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم- يومئذ: "لا تصوم امرأة إِلا بإذن زوجها" قال: وأما قولها: لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت لا نكاد أن نستيقظ حتى تطلع الشمس فقال: "صلِّ إذا استيقظت" (¬1)، ذكره ابن حبان. قلت: ولهذا صادف أم المؤمنين في قصة الإفك لأنه كان في آخر الناس، ولا ينافي هذا الحديث قوله في حديث الإفك: "واللَّه ما كشفتُ كَنَفَ أنثى قط" (¬2)، فإنه إلى ذلك الوقت لم يكشف كنف أنثى [قط] (¬3)، ثم تزوج بعد ذلك. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتل الوزغ فأمر بقتله (¬4)، ذكره ابن حبان. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل نذر أن يمشي إلى الكعبة فجعل يُهادي بين رجلين فقال: "إن اللَّه لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسه" وأمره أن يركب (¬1). واستفتاه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل في جار له يؤذيه فأمره بالصبر، ثلاث مرات، فقال له في الرابعة: "اطرح متاعك في الطريق" ففعل، فجعل الناس يمرُّون به ويقولون: ماله؟ ويقول: آذاه جاره، فجعلوا يقولون: لعنه اللَّه، فجاءه جاره فقال: ردَّ متاعك واللَّه لا أوذيك أبدًا (¬2)، ذكره أحمد وابن حبّان. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أذنبت ذنبًا كبيرًا، فهل لي من توبة؟ فقال له: "ألك والدان؟ " فقال: لا، قال: "فلك خالة؟ " قال: نعم، قال: "فبِرَّها" (¬3)، ذكره ابن حبان. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل قد أوجب، فقال: "أعتقوا عنه رقبة يعتق اللَّه بكل عضو منها عضوًا منه من النار" (¬4)، ذكره ابن حبان أيضًا. ¬
أوجب: أي استوجب النار بذنب عظيم ارتكبه. وسأله رجل فقال: إن أبويّ قد هلكا فهل بقي من بعد موتِهما شيء؟ فقال: "نعم، الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عقودهما من بعدهما، وإكرام ¬
صديقهما، وصلة رحمهما التي لا رَحِم لك إِلا من قبلهما". قال الرجل: ما ألذَّ هذا وأطيبه! قال: "فاعمل به" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل شَدَّ على رجل من المشركين ليقتله، فقال: إني مسلم فقتله، فقال فيه قولًا شديدًا، فقال: إنما قاله تعوّذًا من السيف، فقال: "إن اللَّه حرَّم عليَّ أن أقتل مؤمنًا" (¬2)، حديث صحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أخبرنا بخيرنا من شرنا؟ فقال: "خيرُكُم من يُرجى خيره ويؤمن شَرُّه، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يُؤمن شره" (¬3)، ذكره ابن حبان. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: ما الذي بعثك اللَّه به؟ فقال: "الإسلام" فقال: وما الإسلام؟ قال: "أن تسلم قلبك للَّه، وتوجِّه (¬1) وجهك للَّه، وأن تصلي الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، أخوان نصيران، لا يقبل اللَّه من عبد توبة أشرك بعد إسلامه" (¬2)، ذكره ابن حبان أيضًا. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الأسود بن سريع فقال: أرأيت إن لقيتُ رجلًا من المشركين فقاتلني فضرب إحدى يديَّ بالسيف، فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمتُ للَّه، أفأقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تقتله" فقلت: يا رسول اللَّه إنه قطع إحدى يديَّ، ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله؟ قال: "لا تقتله، فإنك إن قتلته، فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أَنْ يقول كلمته ¬
التي قال" (¬1)، حديث صحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه مررت برجل فلم يُضيِّفْني، ولم يَقْرِني أفأحْتَكِم؟ قال: "بل أَقْرِه" (¬2)، ذكرهما ابن حبان وقوله: أحتكم؟ يعني (¬3) أعامله إذا مر بي بمثل ما عاملني به. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ذر فقال: الرجل يحب القوم، ولا يستطيع أن يعمل بعملهم؟ قال: "يا أبا ذر أنت مع من أحببت" قال: فإني أحب اللَّه ورسوله، قال: "أنت يا أبا ذر مع من أحببت" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ناس من الإعراب، فقالوا: أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، أفتنا في كذا، فقال: "أيها الناس إن اللَّه قد وضع عنكم الحَرَج إِلا من اقترض من عِرْض أخيه فذلك الذي حَرِجَ وهَلَك" قالوا: أفنتداوى يا رسول اللَّه؟ قال: "نعم إن اللَّه لم ينزل داءً إِلَّا أنزل له دواء غير داء واحد". قالوا: وما هو يا رسول اللَّه؟ (¬5) قال: "الهرم". قالوا: فأي الناس أحب إلى اللَّه يا رسول اللَّه؟ قال: "أحب الناس ¬
إلى اللَّه أحسنهم خلقًا" (¬1)، ذكره أحمد وابن حبان. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عدي بن حاتم فقال: إن أبي كان يصلُ الرحم، وكان يفعل ويفعل؟ فقال: "إن أباك أراد أمرًا فأدركه" يعني الذِّكْر قال: قلت: يا رسول اللَّه إني أسالك عن طعام لا أدعه إِلا تحرُّجًا، قال: "لا تدع شيئًا ضَارَع النصرانية فيه" قال: قلت: إني أرسل كلبي [المعلم] فيأخذ صيدًا، فلا أجد ما أذبح به إِلا المروة والعصي (¬2)، قال: "أهرق الدم بما شئت واذكر اسم اللَّه" (¬3)، ذكره ابن حبان. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة عن ابن جُدْعان، وما كان يفعل في الجاهلية من صلة الرحم وحسن الجوار وقرى الضيف هل ينفعه؟ فقال: "لا؛ لأنه لم يقل يومًا رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سفيان بن عبد اللَّه الثقفي أن يقول له قولًا لا يسأل عنه أحدًا بعده؟ فقال: "قل آمنت باللَّه، ثم استقم" (¬5). ¬
وسُئل -صلى اللَّه عليه وسلم- من أكرم الناس؟ فقال: "أتقاهم للَّه": قالوا: لسنا عن هذا نسألك، قال: "فعن معادن العرب تسألوني، خيارُكم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" (¬1). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: "إني نذرت إن ردَّك اللَّه سالمًا أن أضربِ على رأسك بالدفِّ، فقال: "إن [كنتِ] نذرتِ فافعلي، وإلا، فلا". قالتْ إني كنت نذرت، فقعد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فضربت بالدف (¬2)، حديث صحيح، وله وجهان: أحدها: أن يكون أباح لها الوفاء بالنذر المباح تطييبًا لقلبها، وجبرًا وتأليفًا لها على زيادة الإيمان وقوته وفرحها بسلامة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. والثاني: أن يكون هذا النذر قربة لما تضمنه من السرور والفرح بقدوم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سالمًا مؤيدًا منصورًا على أعدائه قد أظهره اللَّه وأظهر دينه، وهذا من أفضل القرب فأُمِرت بالوفاء [به] (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه، الرجل يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي من عرض الدنيا؟ فقال: "لا أَجَرَ له، فأعظم ذلك الناس فقالوا للرجل: أَعِد لرسول اللَّه فلعلك لم تفهمه. فقال الرجل: يا رسول اللَّه، رجلٌ يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي من عرض الدنيا؟ فقال: "لا أجر له" فأعظم ذلك الناس، فقالوا: أعد لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأعاد، فقال: "لا أجر له" (¬4). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أُقاتِلُ أو أُسْلمُ؟ قال: "أَسْلِم، ثم قاتل" "فأسلم، ثم قاتل فقُتِل فقال رسول اللَّه (¬1) -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا عمل قليلًا وأُجِر كثيرًا" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: ما أكثر ما تخاف عليَّ؟ فأخذ بلسانه ثم قال: "هذا" (¬3). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: قل لي قولًا ينفعني اللَّه به وأقْلِل لعلي أعقله (¬1) فقال: "لا تغضب" فردَّد مرارًا كل ذلك يقول له: "لا تغضب" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن لي ضرة، فهل عليَّ جناح إن استكثرتُ من زوجي بما لا يعطيني؟ فقال: "المتشبِّع بما لم يُعط كلابس ثوبيّ زُور" (¬3)، وكل هذه الأحاديث في الصحيح. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فأوصني بشيء أتشبّث به؟ فقال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر اللَّه" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أرسل ناقتي وأتوكل على اللَّه؟ فقال: "بل اعْقِلها وتوكل" (¬1)، رواه (¬2) ابن حبان والترمذي. وقال له -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: يا رسول اللَّه ليس عندي ما أتزوج به، فقال (¬3): "أوليس معك {قُلْ هُوَ اللَّه أَحَدٌ} " قال: بلى، قال: "ثلث (¬4) القرآن" قال: "أليس معك {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} " قال: بلى. قال: "ربع القرآن" قال: "أليس معك {إِذَا زُلْزِلَتِ [الْأَرْضُ]} (¬5) "؟ قال: بلى. قال: "ربع القرآن". قال: "أليس معك {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ [وَالْفَتْحُ] (¬6)} "؟ قال: بلى، قال: "ربع القرآن، أليس معك آية ¬
الكرسي"؟ قال، بلى. قال: "ربع القرآن"، [قال] (¬1): "تزوَّجْ، تزوَّج، تزوَّجْ، ثلاث مرات" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- معاذ فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إن كانت (¬3) علينا أمراء لا يستنون بسنتك، ولا يأخذون بأمرك فما تأمرنا في أمرهم؟ قال: "لا طاعة لمن لم يطع اللَّه" (¬4)؟ ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أنس أن يشفع له، فقال: "إني فاعل" قال: فأين أطلبك يوم القيامة؟ قال: "اطلبني أول ما تطلبني على الصراط" قلت: فإذا لم ألقك على الصراط؟ قال: "فأنا على الميزان" قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: "فأنا عند الحوض لا أُخطئ هذه الثلاث مواطن يوم القيامة" (¬1)، ذكرهما أحمد. وسأل -صلى اللَّه عليه وسلم- الحجاج بن عِلَاط فقال: إنَّ لي بمكة مالًا، وإن لي بها أهلًا وأريد أن آتيهم، فأنا في حِلّ إن أنا نلت منك أو قلت شيئًا؟ فأذن له رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ¬
أن يقول ما شاء (¬1)، ذكره أحمد. وفيه دليل على أن الكلام إذا لم يرد به قائله معناه إما لعدم قصده له، أو لعدم علمه به، أو أَنه أراد به غير معناه، لم يلزمه ما لم يُرِدْه بكلامه، وهذا هو دين اللَّه الذي أرسل به رسوله، ولهذا لم يُلزم المكره على التكلّم بالكفر؛ الكفر، ولم يُلزم زائل العقل بجنون أو نوم أو سكر ما تكلَّم به، ولم يلزم الحجاج بن علاط حكم ما تكلَّم به؛ لأنه أراد به غير معناه، ولم يعقد قلبه عليه، وقد قال اللَّه تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] وفي الآية الأخرى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] فالأحكام في الدنيا والآخرة مرتبة على ما كسبه القلب وعقد عليه وأراده من معنى كلامه (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه، إن نساءً في الجاهلية أسعدتنا (¬3)، يعني في النَّوح، أفنسعدهنّ (¬4) في الإسلام؟ فقال: "لا إسعاد في الإسلام، ولا شِغَار في الإسلام، ولا عَقْرَ في الإسلام، ولا جَلَب في الإسلام، ومن انتهب فليس منا" (¬5)، ذكره أحمد. فالإسعاد (¬6) إسعاد المرأة في مصيبتها بالنَّوح، والشِّغار أن يزوِّج الرجل ابنته على أَن يزوجه الآخر ابنته، والعَقْر: الذبج على قبور الموتى. والجَلَب: الصياح على الفرس في السباق، والجنب (¬7): أن يجنب فرسًا فإذا أَعيت فرسه انتقل إلى تلك في المسابقة. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- بعض الأنصار، فقالوا: قد كان لنا جملٌ نسير (¬1) عليه، وإنه قد استصعب علينا، ومنعنا ظهره، وقد عطش الزرع والنخل فقال لأصحابه: قوموا. فقاموا فدخل الحائط والجمل في ناحيته فمشى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- نحوه، فقالت الأنصار: يا نبي اللَّه، إنه قد صار مثل الكَلْب الكَلِبِ، وإنَّا نخاف عليك صولته، فقال: "ليس عليَّ منه بأس" فلمَّا نظر الجمل إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أقبل نحوه حتى خرَّ ساجدًا بين يديه، فأخذ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بناصيته أَذل ما كان قط حتى أدخله في العمل فقال له الصحابة: يا نبي اللَّه هذا بهيمة لا تعقل، تسجد لك ونحن نعقل، فنحن أحق أن نسجد لك، فقال: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر ولو صلح لبشر أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عِظَمِ حقِّه عليها، والذي نفسي بيده لو كان من قدمه إلى مفرق رأسه تتبجّس (¬2) بالقيح والصديد، ثم استقبلته تلحسه ما أدت حقه" (¬3)، ذكره أحمد، فأخذ المشركون مع مريديهم بسجود الجمل ¬
لرسول اللَّه وتركوا قوله: "لا يصلح لبشر أن يسجد لبشر" وهؤلاء من الذين يتبعون المتشابه ويدعون المحكم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: إن أهل الكتاب يحتفُون (¬1) ولا ينتعلون [يعني] (¬2) في الصلاة، فقال: "فتحفوا (¬3)، وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب" قالوا: فإن أهل الكتاب يقصُّون عثانِينَهم ويوفِّرون سِبَالهم (¬4)، فقال: "قصوا سِبَالكم، ووفروا عثانينكم وخالفوا أهل الكتاب" (¬5)، ذكره أحمد. ¬
فصل [فتاوى في أنواع البيوع]
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا نبي اللَّه مررت بغَارٍ فيه شيء من ماء فحدَّثت نفسي بأن أقيم فيه فيقوتني ما فيه من ماء وأصيب ما حوله من البقل وأتخلّى عن الدنيا؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنّي لم أُبعث باليهودية، ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة، والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة (¬1) في سبيل اللَّه خير من الدنيا وما فيها، ولمقام أحدكم في الصف خيرٌ من صلاته ستين سنة" (¬2). فصل [فتاوى في أنواع البيوع] وأخبرهم أَنَّ اللَّه سبحانه وتعالى حرَّم عليهم بيع الخمر والميتة والخنزير والأنصاب (¬3) فسألوه، وقالوا: أرأيت شحوم الميِّتة، فإنَّه يُطلى بها السفن ويُدهن بها الجلود ويَستصبح بها الناس؟ فقال: "هو حرام"، ثم قال: "قاتل اللَّه اليهود، إن (¬4) اللَّه لما حرم عليهم شحومها جملوه، ثم باعوه وأكلوا ثمنه" (¬5). وفي قوله: "هو حرام" قولان: أحدهما: أن هذه الأفعال حرام. والثاني: أن البيع حرام، وإن كان المشتري يشتريه لذلك، والقولان مبنيان على أنَّ السؤال منهم هل وقع عن البيع لهذا الانتفاع [المذكور] (¬6) أو وقع عن الانتفاع المذكور؟ والأول اختيار شيخنا، وهو الأظهر لأنه لم يخبرهم أولًا عن تحريم هذا الانتفاع حتى يذكروا له حاجتهم إليه، وإنما أخبرهم عن تحريم البيع، فأخبروه أنهم يبتاعونه لهذا لانتفاع فلم يرخص لهم في البيع، ولم ينههم عن ¬
الانتفاع المذكور، ولا تلازم بين جواز البيع وحل المنفعة واللَّه سبحانه وتعالى أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو طلحة عن أيتام ورثوا خمرًا؟ فقال: "أهرقها" قال: أفلا أجعلها خلًا؟ قال: "لا" (¬1)، حديث صحيح، وفي لفظ: إن أبا طلحة قال: يا رسول اللَّه إني اشتريتُ خمرًا لأيتام في حِجْري؟ فقال: "أهْرِق الخمر واكسر الدِّنَان" (¬2). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حكيم بن حزام فقال: الرجل يأتيني ويريد منّي البيع وليس عندي ما يطلب أفأبيع منه، ثم ابتاع من السوق؟ قال: "لا تَبع ما ليس عندك" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا فقال: إني أَبتاع هذه البيوع فما يحلُّ لي منها، وما يحرم عليَّ منها؟ قال: "يا ابن أخي، لا تَبيعنَّ شيئًا حتى تقبضه" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وعند النسائي: "ابتعتُ طعامًا من طعام الصدقة فربحت فيه قبل أن أقبضه فأتيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت له ذلك، فقال: "لا تبعه حتى تقبضه" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الإشقاح (¬2) الذي إذا وجد جاز بيع الثمار، فقال: "تَحمارُّ وتَصفارُّ ويؤكل منها" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ما الشيء الذي لا يحلُّ منعه؟ قال: "الماء" قال: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "الملح" قال: ثم ماذا؟ قال: "النار"، ثم سأله -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: "أن تفعل الخير خير لك" (¬4)، ذكره أبو داود. ¬
وسئل أن يحجر على رجل يُغبن في البيع لضعف في عقدته، فنهاه عن البيع ¬
فقال: لا أصبر عنه، فقال: "إذا بايعت فقل: لا خِلَابة (¬1)، وأنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاثًا" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل ابتاع غلامًا فأقام عنده ما شاء اللَّه أن يقيم، ثم وجد به عيبًا فرده عليه، فقال البائع: يا رسول اللَّه قد استعمل (¬3) غلامي، فقال: "الخراج بالضمان" (¬4)، ذكره أبو داود. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إني امرأة أَبيع وأَشتري، فإذا أردتُ أن أَبتاعَ الشيء سُمتُ به أقل مما أريد، ثم زدت حتى أَبلغ الذي أريد، وإذا أردت أَنْ أبيع الشيء سمت به أكثر من الذي أريد، ثم وضعت حتى أبلغ الذي أريد فقال: "لا تفعلي؛ إذا أردت أن تبتاعي شيئًا فاستامي به الذي تريدين أعطيتِ أو منعتِ، وإذا أردت أن تبيعي شيئًا فاستامي به الذي تريدين أعطيت أو منعت" (¬5)، ذكره ابن ماجه. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-، بلال عن تمر رديء باع منه صاعين بصاع جيّد، فقال: "أوَّه عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر بيعًا آخر، ثم اشْترِي بالثمن" (¬1)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- البراء بن عازب فقال: اشتريتُ أنا وشريكي شيئًا يدًا بيد ونسيئة، فسألنا النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "أما ما كان يدًا بيد فخذوه، وما كان نسيئة فذروه" (¬2)، ذكره البخاري، وهو صريح في تفريق الصفقة، وعند النسائي عن البراء قال: كنت [أنا] (¬3) وزيد بن أرقم تاجِرَيْن على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فسألناه عن الصرف، فقال: "إن كان يدًا بيد، فلا بأس، وإن كان نسيئة، فلا يصْلح" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- فَضَالة بن عُبيد عن قِلَادة اشتراها يوم خيبر باثني عشر دينارًا [فيها ذهب وخَرَز ففصَّلها فوجد فيها أكثر من اثني عشر دينارًا] (¬5) فقال: "لا تباع حتى ¬
تفصل" (¬1)، ذكره مسلم، وهو يدل على أن مسألة مُد عجوة لا تجوز إذا كان أحد العوضين فيه ما في الآخر وزيادة، فإنه صريح الربا. والصواب أن المنع مختص بهذه الصورة التي جاء فيها الحديث وما شابهها من الصور. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن بيع الفَرَس بالأفراس والنَّجيبة بالإبل؟ فقال: "لا بأس إذا كان يدًا بيد" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ابن عمر أشْترِي الذَّهب بالفضة؟ فقال: "إذا أَخذت واحدًا منهما فلا يفارقك صاحبك وبينك وبينه لَبْس" (¬3)، وفي لفظ: "كنت أَبيع الإبل وكنت آخذ الذهب من الفضة والفضة من الذهب والدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير فسألت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: "إذا أَخذت أحدهما وأعطيت الآخر، فلا يفارقك صاحبك وبينك وبينه لَبْس" (¬4)، ذكره ابن ماجه. وتفسير هذا ما في اللفظ الذي عند أبي داود عنه قلت: يا رسول اللَّه إني أبيع الإبل بالنقيع (¬5)، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، ¬
آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال: "لا بأس أنْ تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن اشتراء التمر بالرطب فقال: "أينقص الرطب إذا يبس"؟ قالوا: نعم فنهى عن ذلك (¬2)، ذكره أحمد والشافعي ومالك -رضي اللَّه عنهم-. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل أسلف في نخل فلم يخرج تلك السنة، فقال: "أردد ¬
عليه ماله"، ثم قال: "لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه" (¬1)، وفي لفظ: "أن رجلًا أسلم في حديقة نخل قبل أَن يطلع النخل، فلم يطلع النخل شيئًا ذلك العام فقال المشتري: هو لي حتى يطلع، وقال البائع: إنما بعتك النخل هذه السنة فاختصما إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال للبائع: "أخذ من نخلك شيئًا"؟ قال: لا. قال: "فبم تستحل ماله؟ اردد عليه ماله" ثم قال: "لا تسلفوا في النخل حتى يبدو صلاحه" (¬2). وهو حجة لمن لم يجوز السلم إلا في موجود الجنس حال العقد، كما يقوله الأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي (¬3). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن بني فلان قد أسلموا، لقوم من اليهود، وإنهم قد جاعوا فأخاف أن يرتدوا فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من عنده"؟ قال رجل من اليهود: عندي كذا وكذا، لشيء سمَّاه، أُراه قال: ثلاث مئة دينار بسعر كذا وكذا من حائط بني فلان، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "بسعر كذا وكذا وليس من حائط بني فلان" (¬1)، ذكره ابن ماجه. ¬
فصل [فتاوى في فضل بعض الأعمال]
فصل [فتاوى في فضل بعض الأعمال] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- حمزة بن عبد المطلب فقال: اجعلني على شيء أعيش فيه (¬1)، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا حمزة نفس تحييها أحبُّ إليك أم نفس تميتها"؟ فقال: نفس أُحييها، قال: "عليك نفسك" (¬2)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما عمل الجنة؟ قال: "الصدق، فإذا صدق العبد بَرَّ، وإذا بر آمن، وإذا آمن دخل الجنة" (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما عمل أهل النار؟ قال: "الكذب، إذا كذب العبد فجر، وإذا فجر كفر، وإذا كفر دخل النار" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أفضل الأعمال، فقال: "الصلاة" قيل: ثم مه؟ قال: "الصلاة" ثلاث مرات، فلما غلب عليه قال: "الجهاد في سبيل اللَّه" قال الرجل: فإن لي والدِيَن، قال: "آمرك بالوالدين خيرًا" قال: والذي بعثك بالحق نبيِّا لأجاهدنَّ، ولأتركهما، فقال: "أنت أعلم" (¬5)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الغُرف التي في الجنة يُرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها لمن هي؟ قال: "لمن ألان الكلام، وأطعم الطعام، وبات للَّه قائمًا والناس نيام" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أرأيت إن جاهدتُ بنفسي ومالي فقتلت صابرًا محتسبًا مقبلًا ¬
غير مدبر أدْخلُ الجنة؟ قال: "نعم" فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، قال: "إلا إن مت وعليك دَيْنٌ وليس عندك وفاؤه" (¬1)، وأخبرهم بتشديد أُنزل فسألوه عنه، فقال: "الدَّيْن، والذي نفسي بيده لو أَنْ رجلًا قُتل في سبيل اللَّه، ثم عاش، ثم قتل في سبيل اللَّه، ثم عاش، ثم قتل في سبيل اللَّه ما دخل الجنة حتى يُقضى دينُه" (¬2)، ذكرهما (¬3) أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عن أخيه مات وعليه دَيْن، فقال: "هو محبوسٌ بدينه فاقضِ عنه" فقال: يا رسول اللَّه قد أدَّيتُ عنه إلا دينارين ادّعتهما امرأة وليس لها بيِّنة، ¬
فقال: "أعطها فإنها محقّة" (¬1)، ذكره أحمد. وفيه دليل على أن الوصيّ إذا علم بثبوت الدين على الميت جاز له وفاؤه، وإن لم تقم به بينة. وسألوه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يسعِّر لهم، فقال: "إن اللَّه هو الخالق القابض الباسط الرازق، وإنّي لأرجو أن ألقى اللَّه، ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دمٍ أو مال" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
فصل
فصل وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أرضي ليس لأحد فيها شركة، ولا قسمة إلا الجار، فقال: "الجارُ أحق بصقبه" (¬1)، ذكره أحمد، والصواب العمل بهذه الفتوى إذا اشتركا في طريق أو حق من حقوق الملك. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الظلم أعظم؟ قال: "ذراعٌ من الأرض ينتقصه من حق أخيه، وليست حصاة من الأرض أخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الأرض، ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها" (¬2)، ذكره أحمد. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- في شاة ذُبحت بغير إذن صاحبها، وقدمت إليه أن تُطعم الأسارى (¬3)، ذكره أبو داود. فصل [فتاوى في الرهن والدين] وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن ظهر الرهن يُركب بنفقته إذا كان مرهونًا، ولبن الدَّرِّ يشرب ¬
فصل [المرأة تتصدق]
بنفقته إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (¬1)، ذكره البخاري، وأخذ أحمد وغيره من أئمة الحديث بهذه الفتوى، وهو الصواب. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن الرهن لا يُغلق (¬2) من صاحبه الذي رهنه له غُنمه وعليه غُرمه (¬3)، حديث حسن. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- في رجل أُصيب في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فأمر أَن يتصدق عليه، فلم يوف ذلك دينه، فقال للغرماء: "خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك" (¬4)، ذكره مسلم. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- من أدرك ماله بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحقَّ به من غيره (¬5) متفق عليه. فصل [المرأة تتصدق] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة عن حُليٍّ لها تصدقت به، فقال لها: "لا يجوز لامرأة عطية في مالها إلا بإذن زوجها" وفي لفظ: "لا يجوز للمرأة أمر في مالها إذا ملك زوجها عصمتها" (¬6)، ذكره أهل "السنن"، وعند ابن ماجه: "أنّ خَيْرة امرأة كعب بن مالك أتته بحلي فقالت: تصدقت بهذا، فقال: "هل استأذنت كعبًا؟ " فقالت: نعم، ¬
[مال اليتيم]
فبعث إلى كعب فقال: "هل أَذِنْتَ لخيرة أن تتصدق بحليِّها هذا"؟ فقال: نعم، فقبله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬1). [مال اليتيم] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ليس لي مال ولي يتيم، فقال: "كل من مال يتيمك غير مُسرف، ولا مُبذِّر، ولا متأثِّل مالًا، ومن غير أنْ تقي مالك" أو قال: "تفدي مالك بماله" (¬2). ولما نزلت: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] عزلوا أموال اليتامى حتى جعل الطعام يفسد واللحم ينتن فسألوا عن ذلك رسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، فنزلت: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] (¬3)، ذكره أحمد وأهل "السنن". ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
[اللقطة]
[اللقطة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن لقطة الذهب والوَرِق، فقال: "اعرِفْ وكاءها وعِفَاصَها (¬1)، ثم عرِّفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها يومًا من الدهر فأدِّها إليه" (¬2). فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ضالة الإبل، فقال: "مالَك ولَها دعْها، فإن معها حِذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربُّها" (¬3). فسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الشاة، فقال: "خذها، فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب" (¬4)، متفق عليه وفي لفظ لمسلم: "فإن جاء صاحبها فعرِّف عِفَاصها وعددها، ووكاءها فأعطها إياه وإلا فهي لك" وفي لفظ لمسلم: "ثم كُلْها، فإن جاء صاحبها فأدها إليه". وقال أبيّ بن كعب: وجدت صرة على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها مئة دينار فأتيت بها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال: "عرّفها حولًا" فعرفتها حولًا، ثم أتيته بها فقال: "عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيته بها فقال: "عرفها حولًا" فعرفتها، ثم أتيته [بها] (¬5) الرابعة فقال: "اعرف عدتها (¬6)، ووكاءها ووعاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها" فاستمتعتُ [بها] (¬7)، متفق عليه، واللفظ للبخاري. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من مزينة عن الضَّالة من الإبل، قال: "معها حِذاؤُها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء، فدعها حتى يأتيها باغيها" قال: الضالة من الغنم؟ قال: "لك أو لأخيك أو للذئب تجمعها حتى يأتيها باغيها" قال: الحَرِيسة (¬1) التي توجد في مَراتِعها؟ قال: "فيها ثمنها مرتين وضرب نَكَال، وما أُخذَ من عَطَنِه (¬2) ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك، ثمن المِجنّ" قال: يا رسول اللَّه فالثمار، وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: "ما أخذ بفمه فلم يتخذ خُبْنة (¬3) فليس عليه شيء، وما احتمل فعليه ثمنه مرتين وضربًا ونَكَالًا (¬4)، وما أخذ من أجْرَانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجنّ". قالوا يا رسول اللَّه: فاللقطة يجدها في سبيل العامرة؟ قال: عرِّفها حولًا، فإن وجدت باغيها فأدها إليه وإلا فهي لك" قال: ما يوجد في الخَرِب العَاديّ؟ قال: "فيه وفي الركاز (¬5) الخمس" (¬6)، ذكره أحمد وأهل "السنن"، والإفتاء بما فيه متعيّن، وإن خالفه من خالفه، فإنه لم يعارضه ما يوجب تركه. وأفتى بأن من وجد لقطة فليشهد ذوي عدل وليحفظ عفاصها، ووكاءها، ثم ¬
فصل [الهدية وما في حكمها]
لا يكتم، ولا يغيب، فإن جاء ربها فهو أحق بها وإلا فهو مال اللَّه يؤتيه من يشاء (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل جلس لحاجته فأخرج جُرْذ من جُحرٍ دينارًا، ثم أخرج آخر، ثم أخرج آخر حتى أخرج سبعة عشر دينارًا، ثم أخرج طرف خرقة حمراء فأتى بها السائل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأخبره خبرها، وقال: "خذ صدقتها". قال: "ارجع بها، لا صَدَقة فيها، باركَ اللَّه لك فيها" ثم قال: "لعلك أهويت بيدك في الجحر؟ " قلت: لا، والذي أكرمك بالحق. فلم يفن آخرها حتى مات (¬2). وقوله -واللَّه أعلم-: "لعلك أهويت بيدك في الجحر" إذ لو فعل ذلك لكان ذلك في حكم الركاز، وإنما ساق اللَّه هذا المال إليه بغير فعل منه، أخرجته له الأرض بمنزلة ما يخرج من المباحات، ولهذا -واللَّه أعلم- لم يجعله لقطة إذ لعله علم أنه من دفن الكفار. فصل [الهدية وما في حكمها] وأهدى له -صلى اللَّه عليه وسلم- عياض بن حمار إبلًا قبل أن يُسلم فأَبى أن يقبلها، وقال: ¬
"إنَّا نقبل زبد المشركين" قال: قلت: وما زَبْد المشركين؟ قال: "رفدهم وهديتهم (¬1)، ذكره أحمد، ولا ينافي هذا قبوله هدية أُكْيدِر وغيره من أهل الكتاب (¬2)؛ لأنهم أهل كتاب فقبل هديتهم، ولم يقبل هدية المشركين (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبادة بن الصامت فقال: رجل أهدى إليَّ قوسًا ممن كنت أعلِّمه الكتاب والقرآن، وليست بمال، وأرمي عليها في سبيل اللَّه؟ فقال: "إن كنت تحب أن تطوَّق طوقًا من نار فاقبلها" (¬4). ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولا ينافي هذا قوله: "إن أحقَّ ما أخذتم عليه أجرًا كتاب اللَّه" (¬1) في قصة الرقية لأن تلك جعالة على الطب، فطبَّه بالقرآن، فأخذ الأجرة على الطب لا على تعليم القرآن وهاهنا منعه من أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فإن اللَّه تعالى قال لنبيه -صلى اللَّه عليه وسلم-: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90]، وقال تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: 47]، وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: 21]، فلا يجوز أخذ الأجرة على تبليغ الإسلام والقرآن. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو النعمان بن بشير أَنْ يَشهد على غلامِ نَحَله لابنه فلم يشهد، وقال: "لا تُشْهدني على جُور" وفي لفظ: "إن هذا لا يصلح" وفي لفظ: "أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ " قال: لا. قال: "فاتقوا اللَّه وأعدلوا بين أولادكم" وفي لفظ: "فارجعه" وفي لفظ: "اشْهِدْ على هذا غيري" (¬2)، متفق عليه، وهذا أمر تهديد قطعًا لا أمر إباحة لأنه سماه جورًا وخلاف العدل وأخبر أنه لا يصلح، "وأمر برده ومحال مع هذا أن يأذن [اللَّه له] (¬3) في الإشهاد على ما هذا شأنه، وباللَّه التوفيق. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سعد بن أبي وقاص -رضي اللَّه عنه- فقال: يا رسول [اللَّه] (¬4) قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا [رجل] (3) ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي أفأتصدق بثُلُثيّ مالي؟ قال: "لا" قلت: فالشَّطر يا رسول اللَّه؟ قال: "لا" قلت: فالثلث؟ قال: "الثلثُ، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياءَ خير من أن تذرهم عالة يتكفَّفون الناس، وإِنَّك لن تُنفقَ نفقة تبتغي بها وجه اللَّه إلا أجرت بها حتى ما تجعله (¬5) في فِيِّ امرأتك" (¬6)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمرو بن العاص فقال: يا رسول اللَّه إن أبي أوصى أن يُعتق عنه مئة رقبة فأعتق ابنه هشام خمسين وبقيت عليه خمسون رقبة أفأعتق عنه؟ فقال رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنه لو كان مسلمًا فأعتقتم عنه أو تصدَّقتم عنه أو حججتم ¬
فصل [فتاوى في المواريث]
عنه، بلغه ذلك" (¬1)، ذكره أبو داود. فصل [فتاوى في المواريث] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه؟ فقال: "لك السدس" فلما أدبر دعاه فقال: "لك سدس آخر" فلما ولى دعاه، وقال: "إن السدس الآخر طُعمة" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- عن الكَلالة؟ فقال: "يكفيك من ذلك الآية التي أنزلت في الصَّيْف (¬3) في آخر سورة النساء" (¬4)، ذكره مالك. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- جابر كيف أقضى في مالي، ولا يرثني إلا كَلالة؟ فنزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} (¬5) [النساء: 176]، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- تميم الداريّ: يا رسول اللَّه، ما السُّنّة في الرجل من المشركين ¬
يُسلم على يد رجل من المسلمين؟ فقال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته" (¬1)، ذكره أبو داود. ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: كنت تصدقتُ على أمي بوليدة، وإنها ماتت، وتركت الوليدة، قال: "قد وجب أجرك، ورجعت إليك بالميراث" (¬1)، ذكره أبو داود، وهو ظاهر جدًا في القول بالرد، فتأمله. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكلالة؟ قال: "ما خلا الولد والوالد" (¬2)، ذكره أبو عبد اللَّه المقدسي في "أحكامه". وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة سعد فقالت: يا رسول اللَّه، هاتان ابنتا سعد، قتل معك يوم أحد، وإن عمهما أخذ جميع ما ترك أبوهما، وأن المرأة لا [تنكح إلا] (¬3) على مالها، فسكت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- حتى أنزلت آية الميراث، فدعا رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أخا سعد بن الربيع فقال: "أَعط بنتي سعد ثُلثيّ ما ترك (¬4) وأعط امرأته الثمن وخذ أنت ما بقي" (¬5)، ذكره أحمد. ¬
وسئل أبو موسى [الأشعري] (¬1) عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال: للبنت النصف وللأخت النصف وأتِ ابن مسعود فسيتابعني، فسُئل ابن مسعود وأُخبر بقول أبي موسى، فقال: لقد ضللت إذًا وما أنا من المهتدين أَقضي فيها بما قضى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: للبنت النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت (¬2)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: عندي ميراث رجل من الأزْد ولست أجد أزديًا أدفعه إليه، فقال: "اذهب فالتمس أزديًا حولًا" فأتاه بعد الحول، فقال: يا رسول اللَّه لم أجد أزديًا أدفعه إليه، قال: فانطلق، فانظر أول خُزاعيّ تلقاه فادفعه إليه. "فلما ولَّى قال: "عليَّ بالرجل" فلما جاءه قال: "انظر كبير خزاعة فادفعه إليه" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل مات، ولم يدع وارثًا إلا غلامًا له كان أعتقه، فقال: رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل له أحد"؟ قالوا: لا، إلا غلامًا له كان أعتقه، فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ميراثه له (¬4)، ذكره أحمد وأهل "السنن"، وهو ¬
[حديث] (¬1) حسن وبهذه الفتوى نأخذ (¬2). وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها، وولدها الذي لاعنتْ عليه (¬3)، ذكره أحمد وأهل "السنن"، وهو حديث حسن وبه نأخذ. ¬
وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن المرأة ترث من دية زوجها وماله، وهو يرث من ديتها ومالها ما لم يقتل أحدهما صاحبه عمدًا فإذا قتل أحدهما صاحبه عمدًا لم يرث من ديته، وماله شيئًا، وإن قتل أحدهما صاحبه خطأ ورث من ماله، ولم يرث من ديته (¬1)، ذكره ابن ماجه وبه نأخذ. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه إيما رجل عاهر بحرَّة أو أَمة فالولد ولد زنا لا يرث ولا يُورَّث (¬2)، ذكره الترمذي. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في ولد المتلاعِنَيْن أنه يرث أمه وترثه أمه، ومن قذفها جلد ثمانين، ومن دعاه ولد زنا جلد ثمانين (¬1)، ذكره أحمد وأبو داود، وعند أبي داود: "وجعل ميراث ولد الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها" (¬2). ¬
[فتاوى تتعلق بالعتق]
[فتاوى تتعلق بالعتق] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- الشَّريد بن سُويد فقال: إن أُمي أوصت أن نعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبيَّة أفأعتقها عنها؟ فقال: "ائت بها"، فقال [لها] (¬1): "من ربك"؟ قالت: اللَّه، قال: "من أَنا"؟ قالت: [أنت] (1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: "أعتقها؟ فإنَّها مؤمنة" (¬2)، ذكره أهل "السنن". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: عليَّ عتق رقبة مؤمنة وأتاه بجارية سوداء أعجمية فقال لها: "أين اللَّه"؟ فأشارت إلى السماء بأصبعها السبابة، فقال لها: "من أَنا" فأشارت [بأصبعها] إلى رسول اللَّه وإلى السماء؛ أي أنت رسول اللَّه [فقال: "أعتقها"] (¬3)، ذكره أحمد. وسأله معاوية بن الحكم السُّلميّ فقال: كانت لي جارية ترعى غَنَمًا لي قِبَل نجد الجوَّانيّة (¬4)، فاطَّلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأَنا ¬
رجل من بني آدم آسَف كما يأسَفون، فصككتها صكةً فعظُمَ ذلك على (¬1) رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقلت: أفلا أعتقها؟ فقال: "ائتني بها" فقال لها: "أين اللَّه؟ " قالت: في السماء، قال: "من أنا؟ " قالت: أنت رسول اللَّه، قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة" (¬2). قال الشافعي: فلما وصفت الإيمان، وأن ربها تبارك وتعالى في السماء قال: "أعتقها، فإنها مؤمنة"، فقد سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أين اللَّه". وسأل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أين اللَّه"؟ فأجاب من سأله بأن اللَّه في السماء فرضي جوابه وعلم به أنه حقيقة الإيمان لربه تبارك وتعالى، وأجاب هو -صلى اللَّه عليه وسلم- من سأله أين اللَّه؟ ولم ينكر هذا السؤال عليه، وعند الجهمي أن السؤال بأين اللَّه؟ كالسؤال بما لونه؟ وما طعمه؟ وما جنسه؟ وما أصله؟ ونحو ذلك من الأسئلة المحالة الباطلة. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- ميمونة أم المؤمنين فقالت: أشعرتَ أنّي أَعتقتُ وليدتي؟ قال: "لو أعطيتها أخوالَك كان أعظم لأجرك" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- نفر من بني سليم عن صاحب لهم قد أوجب -يعني: النار بالقتل- فقال: "اعتقوا عنه يعتق اللَّه بكل عضوٍ منه عضوًا من النار" (¬4)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: كم أعفو عن الخادم؟ فصمت عنه، ثم قال: يا رسول اللَّه كم أعفو عن الخادم؟ قال: "اعف عنه كل يوم سبعين مرة" (¬5)، ذكره أبو داود. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ولد الزنا فقال: "لا خيرَ فيه، نعلان أجاهد فيهما في سبيل اللَّه أحبُّ إليَّ من أن أعتق ولد الزنا" (¬1)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سعد بن عبادة فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر أفيجزئ عنها أن أعتق عنها؟ قال: "أعتق عن أمك" (¬1)، ذكره أحمد، وعند مالك: إن أمي هلكت فهل ينفعها أن أعتق عنها؟ فقال: "نعم" (¬2). واستفتته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها-، [فقالت] (¬3): إني أردت أن أشتري جارية فأعتقها فقال أهلها: نبيعكها على أنَّ ولاءها لنا، فقال: "لا يمنعك ذلك إنما الولاء لمن أعتق" (¬4). والحديث في "الصحيح" فقالت طائفة: يصح الشرط والعقد، ويجما الوفاء به، وهو خطأ، وقالت طائفة: يبطل العقد والشرط، وإنما صح عقد عائشة لأن الشرط لم يكن في صلب العقد، وإنما كان متقدمًا عليه فهو بمنزلة الوعد لا يلزم الوفاء به، وهذا وإن كان أَقرب من الذي قبله فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لم يُعلِّل به، ولا أَشار في الحديث إليه بوجه ما والشرط المتقدم كالمقارن، وقالت طائفة: في الكلام إضمار تقديره: اشترطي لهم الولاء أو لا تشترطيه، فإن اشتراطه لا يفيد شيئًا لأن الولاء لمن أعتق، وهذا أقرب من الذي قبله مع مخالفته لظاهر اللفظ، وقالت ¬
فصل [فتاوى في الزواج]
طائفة: اللام بمعنى على، أي اشترطي عليهم الولاء، فإنك أنت التي تعتقين، والولاء لمن أعتق، وهذا وإن كان أقل تكلفًا مما تقدم ففيه إلغاء الاشتراط، فإنها لو لم تشترطه لكان الحكم كذلك، وقالت طائفة: هذه الزيادة ليست من كلام النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، بل هي من قول هشام بن عروة، وهذا جواب الشافعي نفسه، وقال شيخنا (¬1): بل الحديث على ظاهره، ولم يأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- باشتراط الولاء تصحيحًا لهذا الشرط، ولا إباحة له، ولكن عقوبة لمشترطه، إذ أبى أن يبيع جارية للمعتق إلا باشتراط ما يخالف حكم اللَّه تعالى وشرعه، فأمرها أنْ تدخل تحت شرطهم الباطل ليظهر به حكم اللَّه ورسوله؛ [في أن] (¬2) الشروط الباطلة لا تغيّر شرعه، وإن من شرط ما يخالف دينه لم يجز أنْ يوفّى له بشرطه، ولا يبطل البيع به، وإن من عرف فساد الشرط وشرطه ألغى اشتراطه، ولم يعتبر، فتأمل هذه الطريقة، وما قبلها من الطرق واللَّه تعالى أعلم. فصل [فتاوى في الزواج] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي النساء خير؟ فقال: "التي تسرُّه إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه فيما يكره في نفسها، وماله" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي المال يتخذ؟ فقال: "ليتخذ أحدكم قلبًا شاكرًا ولسانًا ذاكرًا ¬
وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على أمر الآخرة" (¬1)، ذكره أحمد والترمذي وحسَّنه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إنّي أصبت امرأة ذات حسب وجمال، وأنَّها لا تلد، أفأتزوجها؟ قال: "لا"، ثم أتاه الثانية فنهاه، ثم أتاه الثالثة فقال: "تزوجوا الولود الودود، فإنّي مكاثر بكم الأمم" (¬2). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو هريرة -رضي اللَّه عنه- فقال: إني رجل شاب، و [إني] (¬1) أخاف الفتنة، ولا أجد ما أتزوج به، أفلا أختصي؟ قال: فسكت عني، ثم قلت فسكت عنِّي، ثم قال: "يا أبا هريرة جفَّ القلم بما أنت لاقٍ فاختصِ على ذلك أو ذَر" (¬2)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[رجل] آخر فقال: يا رسول اللَّه ائذن لي أن اختصي؟ قال: "خصاءُ أمتي الصيام" (¬3)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ناس من أصحابه فقالوا: ذهب أهل الدثور (¬4) بالأجور يصلّون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدّقون بفضول أموالهم، قال: "أو ليس قد جعل اللَّه لكم ما تصدقون به؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْع أحدكم صدقة" قالوا: يا رسول اللَّه، يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو كان وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها ¬
في الحلال كان له أجر" (¬1)، ذكره مسلم. وأفتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من أراد أن يتزوج امرأة بأن ينظر إليها (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- المغيرة بن شعبة عن امرأة خَطَبها، قال: "اذهب، فانظر إليها، فإنه أجدر أن يُؤدم (¬3) بينكما" فأتى أبويها فأخبرهما بقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فكأنَّهما كرها ذلك، فسمعت ذلك المرأةُ وهي في خدرها، فقالت: إن كان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرك أن تنظر، فانظر، وإلا فإني أنشدك، كأنَّها عظمت ذلك عليه، قال: فنظرتُ إليها فتزوجتها فذكر من موافقتها له (¬4)، ذكره أحمد وأهل "السنن". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- جرير عن نظرة الفجاءة فقال: "اصرف بَصَرك" (¬5)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: "احفظ عورتك إلا من زوجتك، وما ملكت يمينك" قال قلت: يا رسول اللَّه إذا كان القوم ¬
بعضهم في بعض؟ فقال: "إن استطعت أن لا يرينها أحد، فلا يرينها" قال: قلت: يا رسول اللَّه إذا كان أحدنا خاليًا؟ قال: "اللَّه أحق أَن يُستحيا منه" (¬1)، ذكره أهل "السنن". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أن يزوجه امرأة فأمره أن يصدقها شيئًا ولو خاتمًا من حديد فلم يجده فقال: "ما معك من القرآن؟ " قال: معي سورة كذا وسورة كذا. قال: "تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ " قال: نعم، قال: "اذهب، فقد ملكتكها بما معك من القرآن" (¬2) متفق عليه. وأستأذنته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة في الحجامة فأمر أبا طيبة أن يحجمها، قال: "حسبت أنه كان أخاها من الرضاعة أو غلامًا لم يحتلم" (¬3)، ذكره مسلم. وأمر -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة وميمونة أن يحتجبا من ابن أم مكتوم، فقالتا: أليس [هو] أعمى لا يبصرنا، ولا يعرفنا؟ قال: "أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟ " (¬4)، ذكره ¬
أهل "السنن" وصحَّحه الترمذي فأخذت طائفة بهذه الفتوى وحرمت على المرأة نظرها إلى الرجل، وعارضت طائفة أخرى هذا الحديث بحديث عائشة في "الصحيحين" أنها كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد (¬1)، وفي هذه المعارضة نظر إذ لعل قصة الحبشة كانت قبل نزول الحجاب؟ وخصَّت طائفة أخرى ذلك بأزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهن. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- عن الجارية ينكحها أهلها أتستامر أم لا؟ فقال: "نعم تُستأمر" قالت عائشة -رضي اللَّه عنها- فإنها تستحي؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فذاك إذنها إذا هي سكتت" (¬2)، متفق عليه. وبهذه الفتوى نأخذ، وأنه لا بد من استئمار البكر، وقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "الأيم أحقُّ بنفسها من وليها والبكر تستامر في نفسها وإذنها صماتها" (¬3)، وفي ¬
لفظ: "والبكر يستأذنها أبوها في نفسها وإذنها صماتها"، وفي "الصحيحين" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تُنكح البكر حتى تستأذن" قالوا: وكيف إذنها؟ قال: "أن تسكت" (¬1)، وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- جارية بكر فقالت: إن أباها زوجها وهي كارهة فخيَّرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2)، ¬
فقد أمر باستئذان البكر، ونهى عن إنكاحها بدون إذنها (¬1)، وخير -صلى اللَّه عليه وسلم- من نكحت ولم تُستأذن فكيف بالعدول عن ذلك كله ومخالفته بمجرد مفهوم قوله: "الأيم أحق بنفسها من وليها"؟ كيف ومنطوقه صريح في أن هذا المفهوم الذي فهمه من قال: تُنكح بغير اختيارها غير مراد؟ فإنه قال عقيبه: "والبكر تستأذن في نفسها" بل هذا احتراز منه -صلى اللَّه عليه وسلم- من حمل كلامه على ذلك المفهوم، كما هو المعتاد في خطابه كقوله: "لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده" (¬2)، فإنه لما نفى قتل المسلم بالكافر أوهم ذلك إهدار دم الكافر، وأنه لا حرمة له، فرفع هذا الوهم بقوله: "ولا ذو عهد في عهده" ولما كان الاقتصار على قوله: "ولا ذو عهد" يوهم أنه لا يُقتل إذا ثبت له العهد من حيث الجملة رفع هذا الوهم بقوله: "في عهده" وجعل ذلك قيدًا لعصمة العهد فيه، وهذا كثير في كلامه -صلى اللَّه عليه وسلم- لمن تأمله كقوله: "ولا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها"، فإن نهيه عن الجلوس عليها لما كان ربما يوهم التعظيم المحذور رفعه بقوله: "ولا تصلوا إليها" (¬3)، والمقصود أن أمره ¬
باستئذان البكر ونهيه عن نكاحها بدون إذنها وتخييرها حيث لم تستأذن لا معارض له فيتعين القول به، وباللَّه التوفيق. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن صداق النساء فقال: "هو ما اصطلح عليه أهلوهم" (¬1)، ذكره الدارقطني، وعنده مرفوعًا: "أنكحوا اليتامى" قيل: يا رسول اللَّه ما العلائق بينهم؟ قال: "ما تراضى عليه الأهلون ولو قضيبًا من أراك" (¬2). ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن أبي زوَّجني من ابن أخيه، ليرفع بي خسيسته، فجعل الأمر إليها، فقالت: قد أجزت ما صنع أبي، ولكن أردت أن يعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء (¬1)، ذكره أحمد والنسائي. ولما هلك عثمان بن مظعون ترك ابنة له فزوَّجها عمها قدامة من عبد اللَّه بن عمر، ولم يستأذنها فكرهت نكاحه وأحبت أن يتزوجها المغيرة بن شعبة فنزعها من ابن عمر وزوَّجها المغيرة، وقال: إنها يتيمة، ولا تنكح إلا بإذنها (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- مرثد الغَنَويّ فقال: يا رسول اللَّه أنكح عَنَاقًا، وكانت بغيًا بمكة فسكت عنه فنزلت [الآية]: {الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور: 3] فدعاه فقرأها عليه، وقال: "لا تنكحها" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل آخر عن نكاح امرأة يُقال لها أم مهزول كانت تسافح فقرأ عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الآية (¬2)، ذكره أحمد. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله (¬3)، وأخذ بهذه الفتاوى التي ¬
لا معارض لها الإمام أحمد، ومن وافقه وهي من محاسن مذهبه رحمة اللَّه عليه، فإنه لم يجوِّز أن يكون الرجل زوج قحبة، ويعضد مذهبه بضعة وعشرون دليلًا قد ذكرناها في مواضع أخر (¬1). وأسلم قيس بن الحارث وتحته ثمان نسوة، فسأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك فقال: "اختر منهن أربعًا" (¬2)، وأسلم غيلان وتحته عشر نسوة فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يأخذ منهن أربعًا (¬3)، ذكرهما أحمد وهما كالصريح في أن الخيرة إليه بين الأوائل والأواخر. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- فيروز الديلمي فقال: أَسلمت وتحتي أُختان؟ فقال: "طلِّق أيتهما شئت" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- بَصْرة بن أَكثم فقال: نكحت امرأة بكرًا في سترها فدخلت عليها فإذا هي حبلى، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لها الصداق بما استحللت من فرجها، والولدُ عبد لك فإذا ولدت فاجلدوها" وفرَّق بينهما (¬2)، ذكره أبو داود. ¬
ولا يشكل من هذه الفتوى إلا جعل (¬1) عبودية الولد واللَّه أعلم. وأسلمت امرأة على عهده -صلى اللَّه عليه وسلم- فتزوجت فجاء زوجها [الأول] (¬2) فقال: يا رسول اللَّه إني كنت أسلمت وعَلِمَت بإسلامي، فانتزعها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من زوجها الآخر، وردها إلى الأول (¬3)، ذكره أحمد وابن حبان. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل تزوج امرأة، ولم يفرض لها صداقًا حتى مات فقضى لها على صداق نسائها وعليها العدة، ولها الميراث (¬4)، ذكره أحمد وأهل "السنن" وصححه الترمذي وغيره، وهذه فتوى لا معارض لها، فلا سبيل إلى العدول عنها. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن امرأة تزوجت ومرضت فتمعَّط شعرها، فأرادوا أن يصلوه، ¬
فقال: "لعن اللَّه الواصلة والمستوصلة" (¬1)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العَزْل، قال: "أو إنكم لتفعلون؟! " قالها ثلاثًا: "ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة" متفق عليه. ولفظ مسلم: "لا عليكم أن لا تفعلوا ما كتب اللَّه عز وجل خَلْق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلا ستكون" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا عن العزل، فقال: "ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد اللَّه خلق شيء لم يمنعه شيء" (¬3)، وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إن لي جارية، وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تحدث أن العزل موءودة صغرى، فقال: "كذبت اليهود، لو أراد اللَّه أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه" (¬4)، ذكرهما أحمد وأبو داود. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: عندي جارية، وأنا أعزل عنها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن ذلك لا يمنع شيئًا إذا أراد اللَّه"، فجاء الرجل فقال يا رسول (¬1) اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: إن الجارية التي كنت ذكرتها لك حملت، فقال: "أنا عبد اللَّه ورسوله"، ذكره مسلم، وعنده أيضًا: "إن لي جارية هي خادمتنا وسانيتنا (¬2)، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: "اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قُدِّر لها"، [فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: "إن الجارية قد حملت"، فقال: "قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها"] (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر عن ذلك فقال: "لو أنَّ الماء الذي يكون منه الولد اهرقته على صخرة لأخرجه اللَّه منها وليخلقنَّ اللَّه عز وجل نفسًا هو خالقها" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
فصل
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال: "لِمَ تفعل ذلك"؟ فقال: أشفق على ولدها، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو كان ذلك ضارًا ضر فارس والروم" وفي لفظ: "إن كان كذلك فلا، ما ضرَّ ذلك فارس والروم" (¬1)، ذكره مسلم. فصل وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة من الأنصار عن التَّجبِيَة وهي وطء المرأة في قُبُلها من ناحية دبرها فتلا عليها قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] صمامًا واحدًا (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: يا رسول اللَّه هلكت، قال: "وما أهلكك؟ قال: ¬
حوَّلتُ رحلي البارحة، فلم يرد عليه شيئًا فأوحى اللَّه إلى رسوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} أقبل وأدبر واتقوا الحيضة والدبر (¬1)، ذكره أحمد والترمذي، وهذا هو الذي أباحه اللَّه ورسوله، وهو الوطء من الدبر لا في الدبر، وقد قال: "ملعونٌ مَنْ أتى امرأته في دبرها" (¬2)، وقال: "من أتى حائضًا أو امرأة في دبرها أو كاهنًا فصدَّقه، فقد كفر بما أنزل على محمد" (¬3)، وقال: "إن اللَّه لا ¬
يستحيي من الحق لا تأتوا النِّساء في أدبارهن" (¬1). ¬
وقال: "لا ينظر اللَّه إلى رجل أتى رجلًا أو امرأة في الدُّبر" (¬1)، وقال في ¬
الذي يأتي امرأته في دبرها: "هي اللوطية الصغرى" (¬1)، وهذه الأحاديث جميعها ¬
فصل [فتاوى في أحكام الرضاع]
ذكرها أحمد في "المسند" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما حق المرأة على الزوج (¬2)؟ قال: "أن يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت" (¬3)، ذكره أحمد وأهل "السنن". فصل [فتاوى في أحكام الرضاع] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة أم المؤمنين فقالت: إن أفلحَ أخا أبي القعيس استأذن عليَّ، وكانت امرأته أرضعتني، فقال: ائذني له فإنه عمك" (¬4) متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: إني كانت لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت امرأتي الحدثاء رضعة أو رضعتين، فقال: "لا تحرم الإملاجة، ولا الإملاجتان" (¬5)، ذكره مسلم. ¬
وسألته سهلة بنت سهيل فقالت: إن سالمًا قد بلغ ما يبلغ الرجال، وعقل ما عقلوا، وإنه يدخل علينا، وإني أظن أن في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئًا فقال: "أرضعيه تحرمي عليه ويذهب الذي في نفس أبي حذيفة" فرجعت، فقالت: "إني قد أرضعته فذهب الذي في نفس أبي حذيفة" (¬1)، ذكره مسلم. فأخذت طائفة من السلف بهذه الفتوى منهم عائشة، ولم يأخذ بها أكثر أهل العلم (¬2)، وقدَّموا عليها أحاديث توقيت الرضاع المحرِّم بما قبل الفطام، وبالصغر، وبالحولين لوجوه أحدها: كثرتها، وانفراد حديث سالم، الثاني: أن جميع أزواج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- خلا عائشة رضي اللَّه عنهن في شق المنع، الثالث: أنه أحوط، الرابع: أن رضاع الكبير لا ينبت لحمًا ولا ينشر عظمًا، فلا تحصل به البعضية التي هي سبب التحريم، الخامس: أنه يحتمل أن هذا كان مختصًا بسالم وحده، ولهذا لم يجئ ذلك إلا في قصته، السادس: أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دخل على عائشة وعندها رجل قاعد فاشتد ذلك عليه وغضب فقالت: إنه أخي من الرضاعة فقال: "انظرن من إخوانكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة" (¬3)، متفق عليه واللفظ لمسلم. وفي قصة سالم مسلك آخر، وهو أن هذا كان موضع حاجة، فإن سالمًا كان قد تبنَّاه أبو حذيفة وربَّاه، ولم يكن له منه [بد] (¬4) ومن الدخول على أهله بد فإذا دعت الحاجة إلى مثل ذلك فالقول به مما يسوغ فيه الاجتهاد، ولعل هذا المسلك أقوى المسالك وإليه كان شيخنا (¬5) يجنح واللَّه أعلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ينكح ابنة حمزة فقال: "لا تحلُّ لي إنها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب" (¬6)، ذكره مسلم. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن الحارث فقال: تزوجت امرأة فجاءت أمة سوداء فقالت: أرضعتكما، وهي كاذبة، فأعرض عنه فقال: إنها كاذبة فقال: "كيف بها، وقد زعمت بأنها أرضعتكما؟ دعها عنك" ففارَقَهَا، ونكحها غيره (¬1)، ذكره مسلم، وللدارقطني: "دعها عنك لا خير لك فيها" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: ما يُذهب عنّي مَذِمَّة الرضاع؟ فقال: "غُرَّة: عبدٌ أو أمة" (¬3)، ذكره الترمذي وصححه. والمذمة -بكسر الذال- من الذمام لا من الذم ¬
الذي هو نقيض المدح والمعنى أن للمرضعة (¬1) على المرضع حقًا وذمامًا فيذهبه عبد أو أمة فيعطيها إياه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما الذي يجوز من الشهود في الرضاع؟ فقال: "رجل أو امرأة" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
فصل من فتاويه -صلى الله عليه وسلم- في الطلاق
فصل من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الطلاق ثبت عن عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه- أنه سأله عن طلاق ابنه امرأته وهي حائض فأمر بأن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أن يطلق بعد فليطلِّق (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن امرأتي، وذكر من بذائها، فقال: "طلّقها" فقال: إن لها صحبة وولدًا، قال: "مُرْها وقل لها، فإن يكن فيها خير فستفعل، ولا تضرب ظَعينَتك ضَرْبَك أَمتَك" (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس قال: "غيِّرها إنْ شِئت" لفظ: "طلقها" قال: إني أخاف أن تتبعها نفسي، قال: "فاستمتع بها" (¬1). ¬
فعورض بهذا الحديث المتشابه الأحاديث المحكمة الصريحة في المنع من تزويج البغايا، واختلفت مسالك المُحرِّمين لذلك فيه فقالت طائفة: المراد باللامس ملتمس الصدقة لا ملتمس الفاحشة، وقالت طائفة: بل هذا في الدوام غير مؤثر، وإنما المانع ورود العقد على زانية، فهذا هو الحرام، وقالت طائفة: بل هذا من التزام أَخف المفسدتين لدفع أعلاهما، فإنه لما أمر بمفارقتها خاف أن لا يصبر عنها فيواقعها حرامًا فأمره حينئذ بإمساكها إذ مواقعتها بعد عقد النكاح أقل فسادًا من مواقعتها بالسفاح، وقالت طائفة: بل الحديث ضعيف لا يثبت، وقالت طائفة: ليس في الحديث ما يدل على أنها زانية، وإنما فيه أنها لا تمتنع ممن لمسها أو وضع يده عليها أو نحو ذلك فهي تعطي الليان لذلك، ولا يلزم أن تعطيه الفاحشة الكبرى، ولكن هذا لا يُؤمن معه إجابتها لداعي الفاحشة، فأمره بفراقها تركًا لما يَريبه إلى ما لا يريبه، فلما أخبره بأن نفسه تتبعها، وأنه لا صبر له عنها رأى مصلحة إمساكها أرجح من مفارقتها لما يكره من عدم انقباضها عمن يلمسها فأمره بإمساكها، وهذا لعله أرجح المسالك واللَّه أعلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن زوجي طلقني، يعني ثلاثًا، وإني تزوجت زوجًا غيره، وقد دخل بي فلم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب فلم يقربني إلا هنة (¬1) واحدة، ولم يصل منّي إلى شيء أفأحلُّ لزوجي الأول؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أيضًا عن الرجل يطلق امرأته ثلاثًا فيتزوجها الرجل فيغلق الباب ويرخي الستر، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها؟ قال: "لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر" (¬3)، ذكره النسائي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن التيس المستعار فقال: "هو المحلّل"، ثم قال: "لعن اللَّه المحلِّل والمحلَّل له" (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة عن كفر المنعَّمين، فقال: "لعل إحداكنَّ أن تطول أيمتها بين يدي أبويها تعنس، فيرزقها اللَّه زوجًا ويرزقها منه مالًا وولدًا، فتغضب الغضبة فتقول: ما رأيت منه يومًا خيرًا قط" (¬2)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل طلَّق امرأته ثلاث تطليقات جميعًا، فقام غضبان، ثم قال: "أيُلعب بكتاب اللَّه، وأنا بين أظهركم؟ " حتى قام رجل فقال: يا رسول اللَّه ألا أقتله (¬3)، ذكره النسائي. ¬
وطلَّق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثًا في مجلس واحد فحزن عليها حزنًا شديدًا فسأله رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كيف طلَّقتها؟ فقال: طلقتها ثلاثًا فقال: "في مجلس واحد"؟ فقال: نعم، قال: "إنما تلك واحدة فارجعها إن شئت" قال: فراجعها فكان ابن عباس يَرَى أنما الطلاق عند كل طهر، ذكره أحمد قال: حدثنا سعد بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس (¬1)، فذكره وأحمد يصحح هذا الإسناد ويحتج به، وكذلك الترمذي، وقد قال عبد الرزاق: أنبأنا ابن جُرَيج قال: أخبرني بعض بني رافع مولى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: طلق عبد يزيد أبو ركانة وإخوتِه أم ركانة ونكح امرأة من مُزينة جاءت ¬
النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرة أخذتها من رأسها ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-[حميته] فدعا بركانة وإخوته، ثم قال لجلسائه: أترون أن فلانًا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانًا منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- لعبد يزيد: طلقها، ففعل فقال: "راجع امرأتك أم ركانة وإخوته" فقال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول اللَّه، قال: "قد علمتُ راجعها" وتلا: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (¬1). قال أبو داود: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا عبد الرزاق فذكره (¬2)، فهذه طريقة أخرى متابعة لابن إسحاق، والذي يخاف من ابن إسحاق التدليس، وقد قال: "حدثني" وهذا مذهبه وبه أفتى ابنُ عباس في إحدى الروايتين عنه صح عنه ذلك (¬3)، وصح عنه إمضاء الثلاث موافقة لعمر -رضي اللَّه عنه- (¬4)، وقد صح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ الثلاث كانت واحدة في عهده وعهد أبي بكر وصدرًا من خلافه عمر -رضي اللَّه عنهما- (¬5)، وغاية ما يقدر مع بعده أَنَّ الصحابة كانوا على ذلك، ولم يبلغه، وهذا وإن كان كالمستحيل، فإنه يدل على أنهم كانوا يفتون في حياته، وحياة الصديق بذلك، وقد أفتى هو -صلى اللَّه عليه وسلم- به، فهذه فتواه وعمل أصحابه كأنه أَخذ باليد، ولا معارض لذلك وَرَأَى عمر -رضي اللَّه عنه- أَنْ يحمل الناس على إنفاذ الثلاث عقوبة وزجرًا لهم لئلا يرسلوها جملة، وهذا اجتهاد منه -رضي اللَّه عنه- غايته أن يكون سائغًا لمصلحة رآها، ولا يُوجب ترك ما أفتى به رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وكان عليه أصحابه في عهده وعهد خليفته فإذا ظهرت الحقائق فليقل امرؤ ما شاء، وباللَّه التوفيق. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل، قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق ثلاثًا، فقال: "تزوَّجْها، فإنه لا طلاق إلا بعد النكاح" (¬6). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل قال: يوم أتزوج فلانة، فهي طالق، فقال: "طلَّق ما لا يملك" (¬1)، ذكرهما الدارقطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبدٌ فقال: إن مولاتي زوجتني وتريد أن تفرِّق بيني وبين امرأتي، فحمد اللَّه وأثنى عليه، وقال: "ما بال أقوام يزوجون عبيدهم إماءهم، ثم يريدون أن يفرقوا بينهم ألا إنما يملك الطلاق من أخذ بالساق" (¬2)، ذكره الدارقطني. ¬
[الخلع]
[الخلع] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ثابت بن قيس هل يصلح أنْ يأخذ بعض مال امرأته ويفارقها؟ قال: "نعم"، قال: فإني قد أصدقتها حديقتين وهما بيدها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "خذهما وفارقها" (¬1)، ذكره أبو داود، وكانت قد شكته إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- وتحب ¬
فراقه، كما ذكره البخاري أنها قالت: يا رسول اللَّه ثابت بن قيس ما أعيب عليه في خلق، ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام، فقال: "أتردِّين عليه حديقته"؟ قالت: "نعم" فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" (¬1)، وعند ابن ماجه: إني أكره الكفر في الإسلام، ولا أطيقه بغضًا، فأمره النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يأخذ منها حديقته، ولا يزداد (¬2)، وعند النسائي أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أفتاها أن تتربص حيضة واحدة (¬3)، ¬
وعند أبي داود أنَّ النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أمرها أن تعتد بحيضة واحدة (¬1). وأفتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن المرأة إذا ادَّعت طلاق زوجها فجاءت على ذلك بشاهد عدل استحلف زوجها، فإن حلف بطلت شهادة الشاهد، وإن نكل فنكوله بمنزلة شاهد آخر وجاز طلاقه (¬2)، ذكره ابن ماجه من رواية عمرو بن أبي سلمة، وقد روى له مسلم في "صحيحه". ¬
فصل [الظهار واللعان]
فصل [الظهار واللعان] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل ظاهر من امرأته، ثم وقع عليها قبل أن يُكَفِّر، قال: "وما حملك على ذلك يرحمك اللَّه"؟ قال: رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: "لا تقربها حتى تفعل ما أمرك اللَّه عز وجل" (¬1)، حديث صحيح. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لو أنَّ رَجلًا وَجَدَ مع امرأته رجلًا فتكلَّم جلدتموه، أو قتل قتلتموه، أو سكت سكت على غيظ، فقال: "اللهم افتح" وجعل يدعو، فنزلت آية اللعان، فابتُلي به ذلك الرجل من بين الناس، فجاء هو وامرأته إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فتلاعَنَا (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل آخر: إنَّ امرأتي ولدت على فراشي غلامًا أسود، وإنّا أهل بيتٍ لم يكن فينا أسود قط، قال: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم، "فما ألوانها؟ " قال: حمر، قال: "هل فيها من أوْرَق؟ " قال: نعم، قال: "فأنى كان ذلك؟ " قال: عسى أن يكون نَزَعَهُ عِرْق، قال: "فلعل ابنك هذا نزعه عرق" (¬2)، متفق عليه. وحكم بالفرقة بين المتلاعنين، وأن لا يجتمعا أبدًا وأخذ المرأة صداقَهَا، وانقطاع نسب الولد من أبيه وإلحاقه بأمه، ووجوب الحد على مَنْ قَذَفه أو قذَف أَمه، وسقوط الحد عن الزوج، وأنه لا يلزمه نفقة، ولا كسوة، ولا سكنى بعد الفرقة (¬3). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- سلمة بن صخْر البَيَاضي فقال: ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر رمضان فبينما هي تخدمني ذات ليلة إذ انكشف لي منها شيء فلم أَلبث [إلا] (¬1) أن نَزَوْتُ عليها، فقال: "أنت بذاك يا سلمة" فقلت: أنا بذاك، وأنا صابرٌ لأمر اللَّه عز وجل، فاحكم فيَّ بما أراك اللَّه، قال: "حَرِّرْ رقبة" قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربْتُ صفحة رقبتي، قال: "فَصُمْ شهرين متتابعين" فقلت: وهل أصبتُ الذي أصبتُ إلا من الصيام؟ قال: "فأطعم وسقًا من تمر بين ستين مسكينًا". قلت: والذي بعثك بالحق نبيًا لقد بتنا وحشين (¬2) ما لنا من طعام، قال: "فانطلق إلى صاحب صدقة بني زُرَيْق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر وكلْ أنت وعيالكَ بقيتها" فرجعت إلى قومي، فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- السَّعَة وحسن الرأي وأمر لي بصدقتكم (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- خَوْلَة بنت مالك فقالت: إن زوجها أوسَ بن الصامت ظاهَرَ منها وشكته إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ورسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يجادلها فيه بقوله: "اتقي اللَّه، فإنه ابن عمك" فما برحت حتى نزل القرآن؛ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي ¬
إِلَى اللَّهِ} [المجادلة: 1] الآيات: فقال: "يعتق رقبة" قالت: لا يجد قال: "فيصوم شهرين متتابعين"، قالت: إنه شيخ كبير ما به من صيام، قال: "فليطعم ستين مسكينًا" قالت: ما عنده من شيء يتصدق به، فأُتي ساعته بعَرَق من تمر، قلت: يا رسول اللَّه إني أعينه بعَرَق (¬1) آخر، قال: " [قد] أحسنتِ اذهبي فأطعمي بها عنه ستين مسكينًا وارجعي إلى ابن عمك" (¬2)، ذكره أحمد وأبو داود. ولفظ أحمد؛ قالت: "فيَّ واللَّه وفي أوس بن الصامت أنزل اللَّه صدر سورة المجادلة، قالت: كنت عنده، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خُلُقه وضجر، قالت: فدخل عليّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال: أنت عليَّ كظهر أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة، ثم دخل عليَّ فإذا هو يريدني عن نفسي، قالت: ¬
فصل في فتاويه -صلى الله عليه وسلم- في العدد
قلت: كلا، والذي نفس الخويلة بيده لا تخلص إليَّ، وقد قلتَ ما قلتَ حتى يحكم اللَّه ورسوله فينا بحكم، قالت: فواثبني فامتنعتُ منه فغلبته بما تغلب المرأة الشيخ الضعيف فألقيته عنِّي، ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثيابها، ثم خرجت حتى جئت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه فجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خُلُقه، فجعل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي اللَّه فيه" قالت: فواللَّه ما برحت حتى نزل القرآن فتغشّى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما كان يتغشاه، ثم سُرِّيَ عنه فقال: يا خويلة قد أنزل اللَّه فيك وفي صاحبك، ثم قرأ عليَّ: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} إلى قوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 1 - 4] قالت: فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مريه فليعتق رقبة" وذكر نحو ما تقدم. وعند ابن ماجه أنها قالت: يا رسول اللَّه أكلَ شبابي ونثرتُ له بطني حتى إذا كبر سنِّي، وانقطع وَلَدي ظاهَرَ منيّ، اللهم إني أشكو إليك فما برحْتُ حتى نزل جبرائيل عليه السلام بهؤلاء الآيات (¬1). فصل في فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في العدد ثبت أن سبيعة الأسلمية سألته، وقد مات زوجها، ووضعت حملها بعد موته، قالت: فأفتاني [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] أني قد حللتُ حين وضعت حَمْلي وأمرني بالتزويج إن بَدَا لي (¬2). وعند البخاري أنها سُئِلت كيف أفتاها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قالت: أفتاني إذا وضعتُ أن أنكح (¬3)، وكانت أم كلثوم بنت عقبة عند الزبير بن العوام فقالت له ¬
وهي حامل: طيّب نفسي بتطليقة، فطلَّقها تطليقة، ثم خرج إلى الصلاة فرجع، وقد وضعت فقال لها: خَدَعْتيني خَدَعَكِ اللَّه، ثم أتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فسأله عن ذلك فقال: سبَقَ الكتابُ أجله اخْطُبها إلى نفسها (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- فُريعة بنت مالك فقالت: إن زوجي خرج في طلب أَعْبُدٍ له أبَقوا (¬2) حتى إذا كان بطرف القَدُوم لحقهم فقتلوه، فسألته أن ترجع إلى أهلها، ¬
وقالت: إن زوجي لم يترك لي مَسْكنا يملكه، ولا نفقة فقال لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "نعم" قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة -أو في المسجد- ناداني رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، أو أمر بي فنوديتُ له، فقال: "كيف قلت" فرددتُ عليه القصة التي ذكرت له، فقال: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرًا فلما كان عثمان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به" (¬1)، حديث صحيح، ذكره أهل "السنن". وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة ثابت بن قيس بن شمَّاس وجميلة بنت عبد اللَّه بن أبيّ لما اختلعت من زوجها [فأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-] أن تَتَربَّصَ (¬2) حَيْضة واحدة وتلحق بأهلها (¬3)، ذكره النسائي. وعند أبي داود والترمذي عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس اختلعت من زوجها فامرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أن تعتد حيضة (¬4). ¬
فصل [ثبوت النسب]
وعند الترمذي عن الربيّع بنت مُعَوِّذ أنها اختلَعَتْ على عهد رسول اللَّه فأمرها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أو أمرت- أن تعتد بحيضة (¬1). قال الترمذي: حديث الربيّع الصحيح أنها أمرت أن تعتد بحيضة، وعند النسائي وابن ماجه -واللفظ له- عن الربيع قالت: اختلعت من زوجي، ثم جئت عثمان فسألت: ماذا عليَّ من العدَّة؟ فقال: "لا عدة عليك إلا أن يكون حديث عهد بك فتمكثين عنده حتى تحيضي حيضة" قالت: وإنما تبع في ذلك قضاء رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في مريم المغالية، وكانت تحت ثابت بن قيس فاختلعت منه (¬2). فصل [ثبوت النسب] واختصم إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- سعد بن أبي وقاص وعبد بن زَمْعَة في الغلام فقال سعد: هو ابن أخي عُتبة بن أبي وقاص عهِدَ إليَّ أنه ابنهُ انُظْر إلى شَبَهِه، وقال عبدُ بن زَمْعة: هو أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- إلى شبهه فرأى شبهًا بينًا بعتبة، فقال: "هو لك يا عبد، الولد للفراش وللعاهر الحجَر، واحتجبِي منه يا سودة" فلم تره سودة قط (¬3) متفق عليه. وفي لفظ البخاري: "هو أخوك يا عبد" (¬4)، وعند النسائي: "واحتجبي منه يا سودة فليس لك بأخ" (¬5)، وعند الإمام أحمد: أما الميراث فله، وأما أنْتِ ¬
فاحتجبي منه، فإنه ليس لك بأخ" (¬1)، فحكم وأفتى بالولد لصاحب الفراش عملًا بموجب الفراش وأمر سَوْدة أن تحتجب منه عملًا بشبهه بعتبة، وقال: "ليس لك بأخ" للشبهة وجعله أخًا في الميراث فتضمن فتواه -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الأمة فِرَاش، وأن الأحكام تتبعض في العين الواحدة عملًا بالاشتباه، كما تتبعض في الرضاعة وثبوتها يثبت بها الحرمة والمحرمية دون الميراث والنفقة [وليس ولدًا في الميراث والنفقة] (¬2) وكما في ولد الزنا هو ولد في التحريم وليس ولدًا في الميراث ونظائر ¬
[الإحداد على الميت]
ذلك أكثر من أن تذكر فتعين الأخذ بهذا الحكم والفتوى، وباللَّه التوفيق (¬1). [الإحداد على الميت] وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها أفنكحّلها؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا" (¬2) مرتين أو ثلاثًا متفق عليه. ومنع -صلى اللَّه عليه وسلم- المرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوجٍ، فإنها تحد أربعة أشهر وعشرًا، ولا تكتحل، ولا تطيب، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا ورخص لها في طهرها إذا اغتسلت في نُبْذة من قُسْط أو أَظفار (¬3) متفق عليه (¬4). وعند أبي داود والنسائي: "ولا تختضب" (¬5)، وعند النسائي: "ولا تمتشط" (¬6)، وعند أحمد: "لا تلبس المُعَصْفَر من الثياب، ولا [الشقة] الممشَّقة (¬7)، ولا الحليّ، ولا تختضب، ولا تكتحل" (¬8)، وجعلت أم سلمة -رضي اللَّه عنها- ¬
على عينيها صَبِرًا لما توفي أبو سلمة، فقال: "ما هذا يا أم سلمة"؟ قالت: إنما هو صبر ليس فيه طيب، قال: "إنه يَشُبُّ (¬1) الوجه، فلا تجعليه إلا بالليل، ولا تمتشطي بالطيب، ولا بالحناء، فإنه خضاب، قلت: بأي شيء امتشط يا رسول اللَّه؟ قال: "بالسِّدر تغلِّفين به رأسك"، ذكره النسائي، وعند أبي داود: "فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار" (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- خالة جابر بن (¬3) عبد اللَّه، وقد طُلقِّت هل تخرج تجدُّ نخلها فقال: "فجُدِّي نخلك، فإنك عسى أن تتصدقي أو تفعلي معروفًا" (¬4)، ذكره مسلم. ¬
فصل في فتواه -صلى الله عليه وسلم- في نفقة المعتدة وكسوتها
فصل في فتواه -صلى اللَّه عليه وسلم- في نفقة المعتدة وكسوتها ثبت أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها البتة فخاصمته في السكنى والنفقة إلى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قالت: فلم يجعل لي سكنى، ولا نفقة، وفي "السنن" أن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "يا بنت آل قيس إنما السكنى والنفقة على مَنْ كانت له رَجْعةٌ" (¬1)، ذكره أحمد، وعنده أيضًا: "إنما السكنى والنفقة للمرأة على زوجها ما كانت له عليها رجعة، فإذا لم يكن له عليها رجعة، فلا نفقة، ولا سكنى" (¬2). وفي "صحيح مسلم" عنها: طلقني زوجي ثلاثًا فلم يجعل لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سكنى، ولا نفقة (¬3). وفي رواية لمسلم أيضًا أن أبا عمرو بن حفص خرج مع علي [كرم اللَّه وجهه] (¬4) إلى اليمن فأرسل إلى امرأته بتطليقة بقيت من طلاقها وأمر عيَّاش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام أن يُنفقا عليها فقالا: واللَّه ما لها نفقة إلا أن تكون حاملًا، فأتت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكرت له قولهما فقال: "لا نفقة لك" فاستأذنته في الانتقال فأذن لها، فقالت له: أين يا رسول اللَّه؟ فقال: "عند ابن أم مكتوم" وكان أعمى تضع ثيابها ¬
عنده ولا يراها، فلما مضت عدتها أنكحها النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أسامة بن زيد فأرسل إليها مروانُ قبيصةَ بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته فقال: لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها، فقالت فاطمة حينْ بلغها قول مروان: بيني وبينكم القرآن قال اللَّه تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] الآية قالت: هذا لمن كانت له مُرَاجعة فأي أمر يحدُثُ بعد الثلاث؟ (¬1) وأفتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن للنساء على الرجال رزقهن وكسوتهن بالمعروف (¬2)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما تقول في نسائنا؟ فقال: "أَطْعِمُوهُنَّ مما تأكلون واكسوهنَّ مما تلبسون، ولا تضربوهنَّ، ولا تقبحوهنَّ" (¬3)، ذكره مسلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- هند امرأة أبي سفيان فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه، وهو لا يعلم، قال: "خذي ما يكفيك، وولدك بالمعروف" (¬4)، متفق عليه. ¬
فتضمنت هذه الفتوى أمور: أحدها: أن نفقة الزوجة غير مُقَدَّرة بل المعروف ينفي تقديرها، ولم يكن تقديرها معروفًا في زمن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم. الثاني: أن نفقة الزوجة من جنس نفقة الولد كلاهما بالمعروف. الثالث: انفراد الأب بنفقة أولاده. الرابع: أن الزوج أو الأب إذا لم يبذل النفقة الواجبة عليه فللزوجة والأولاد أن يأخذوا قدر كفايتهم بالمعروف. الخامس: أن المرأة إذا قَدَرَتْ على أخذ كفايتها من مال زوجها لم يكن لها إلى الفسخ سبيل. السادس: أن ما لم يقدره اللَّه ورسوله من الحقوق الواجبة فالمرجع فيه إلى العرف. السابع: أن ذم الشاكي لخصمه بما هو فيه حال الشكاية لا يكون غيبة، فلا يأثم به هو، ولا سامعه بإقراره عليه. الثامن: أن من منع الواجب عليه، وكان سبب ثبوته ظاهرًا فلمستحقه أن يأخذ بيده إذا قدر عليه، كما أفتى به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- هندًا (¬1)، وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- الضيف (¬2) إذا لم يَقْره مَنْ نزل عليه، كما في "سنن أبي داود" عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "ليلة الضيف حق على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا عليه إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه" وفي لفظ: "من نزل بقوم فعليهم أَن يَقْرُوه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" (¬3)، وإن كان سبب الحق خفيًا لم يجز له ذلك، كما أفتى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في ¬
قوله: "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل: "من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: ["أمك" قال: ثم من؟ قال:] "أبوك" متفق عليه، زاد مسلم: "ثم أدْنَاكَ فأدْنَاكَ" (¬2). قال الإمام أحمد: للأم ثلاثة أرباع البر، وفال أيضًا: الطاعة للأب وللأم ثلاثة أرباع البر، وعند الإمام أحمد قال: "ثم الأقرب فالأقرب" (¬3). وعند أبي داود أن رجلًا سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- من أبر؟ قال: "أمك وأباك وأختك وأخاك ومولاك الذي يلي ذاك حق واجب ورحم موصولة" (¬4). ¬
[فصل] [فتاوى في الحضانة وفي مستحقها]
[فصل] [فتاوى في الحضانة وفي مستحقها] قضى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فيها خمس قضايا: إحداها: قضى بابنة حَمْزة لخالتها، وكانت تحت جعفر بن أبي طالب وقال: "الخالة بمنزلة الأم" (¬1) فتضمن هذا القضاء أن الخالة مقام الأم في الاستحقاق، وأن تزوجها لا يُسْقط حضانتها إذا كانت جارية. القضية الثانية: أن رجلًا جاء بابن له صغير لم يبلغ، فاختصم فيه هو وأمه، ولم تسلم الأم، فأجلس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- الأب هاهنا وأجلس الأم هاهنا، ثم خيَّر الصبي، وقال: "اللهم اهده" فذهب إلى أمه (¬2)، ذكره أحمد. ¬
القضية الثالثة: أن رافع بن سنان أسلم، وأبت امرأته أن تسْلم، فأتت النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، وقالت: ابنتي فطيم أو شبهه، وقال رافع: ابنتي، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اقعد ناحية"، وقال لها: "اقعدي ناحية" فأقعد الصبيّة بينهما، ثم قال: "ادْعُوَاها فمالت إلى أمها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم اهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها (¬1)، ذكره أحمد. القضية الرابعة: جاءته امرأته فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر [أبي] عنبة، وقد نفعني فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "استهما عليه"، فقال زوجها: مَنْ يُحاقُني في ولدي؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت" فأخذ بيد أمه، فانطلقت به (¬2)، ذكره أبو داود. ¬
فصل [فتاوى في جرم القاتل وجزائه]
القضية الخامسة: جاءته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: يا رسول اللَّه إن ابني هذا كان بَطْني له وعاءً، وثديي له سقاء، وحجري له حواءً (¬1)، وأن أباه طلقني، وأراد أنْ ينزعه مني، فقال لها: "أنت أحق به ما لم تنكحي" (¬2)، ذكره أبو داود. فعلى (¬3) هذه القضايا الخمس تدور الحضانة، وباللَّه التوفيق. فصل [فتاوى في جرم القاتل وجزائه] ومن فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في باب الدماء والجنايات. سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الآمر والقاتل؟ فقال: "قسمت النار سبعين جزءًا فللآمر تسع وستون وللقاتل جزء" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
وجاءه رجل فقال: إن هذا قتل أَخي، قال: "اذهب فاقتله، كما قتل أخاك"، فقال له الرجل: اتق اللَّه واعفُ عني، فإنه أعظم لأجرك وخير لك يوم القيامة فخلّى عنه، فأُخبر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فسأله فاخبره بما قال له، فقال له: " [أما] إنه خير هو صانع بك يوم القيامة يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني" (¬1). وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل بآخر قد ضرب ساعده بالسيف فقطعَها من غير مفصل، فأمر له بالدية، فقال: أريد القصاص، فقال: "خذ الدية بارك اللَّه لك فيها"، ولم يقض له بالقصاص (¬2)، ذكره ابن ماجه. وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأنه إذا أمسك الرجل الرجل وقتله الآخر يُقتل الذي قتل ويُحبس الذي أمسك (¬3)، ذكره الدارقطني. ¬
ورُفع إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- يهودي قد رضَّ رأس جارية بين حجرين فأمر به أنْ يُرَضَّ رأسه بين حجرين (¬1)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن شِبْهَ العمد مغلظ مثل العمد، ولا يقتل صاحبه (¬2)، ذكره أبو داود. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجنين يسقط من الضربة بِغُرَّةِ: عبدٍ أو أمةٍ (¬1)، ذكره أبو داود أيضًا. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في قتل الخطأ شبه العمد بمئة من الإبل: أربعون منها في بطونها أولادها (¬2)، ذكره أبو داود. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يقتل مسلم بكافر (¬1)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يقتل الوالد بالولد (¬2)، ذكره الترمذي. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن يعقل المرأة عَصَبتها مَنْ كانوا، ولا يرثون منها، إلا ما فَضَل عن ورثتها، وإن قُتلت فعقلها بين ورثتها فهم يقتلون قاتلها (¬3)، ذكره أبو داود. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الحامل إذا قَتلت عمدًا لم تُقتل حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها، وإن زَنَت حتى تضع ما في بطنها وحتى تكفل ولدها (¬1)، ذكره ابن ماجه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ من قُتل له قتيل فهو بخير النَّظرين إمَّا أن يفدي، وإما أن يقتل (¬2)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن مَنْ أصيب بدم أو خَبْل -والخبل الجراح- فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه: أن يقتل أو يعفو، أو يأخذ الدية، فمن فعل شيئًا من ذلك فعاد، فإن له نار جهنم خالدًا فيها مخلدًا أبدًا (¬3)، يعني: قتل بعد عَفْوه وأَخذ الدية أو قتل غير الجاني (¬4). ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن لا يُقتص من جرح حتى يبرأ صاحِبُه (¬1)، ذكره أحمد. ¬
[فتاوى في الديات]
[فتاوى في الديات] وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأنف إذا أوعب جَدْعًا بالدية، وإذا جُدعت أرْنَبَتُه بنصف الدية (¬1). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في العين بنصف الدية [العقل] خمسين من الإبل أو عَدْلِهَا ذهبًا أو وَرِقًا أو مئة بقرة أو ألف شاة، وفي الرِّجْلِ نصف العقل، وفي اليد نصف العقل، والمأمومة (¬2) ثلث العقل، والمُنقِّلة خمس عشرة من الإبل، والموضِحة خمس من الإبل، والأسنان خمس خمس (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الأسنان سواء الثّنِيَّةُ والضِّرْس سواء (¬1)، ذكره أبو داود. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في دية أصابع اليدين والرجلين بعشرٍ عشرٍ (¬2)، صححه الترمذي. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في العين العَوْرَاء السادَّة لمكانها إذا طُمست بثلث الدية وفي اليد الشلَّاء إذا قطعت ثُلُث ديتها (¬3)، ذكره أبو داود. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في اللسان بالدية وفي الشفتين بالدية، وفي البيضتين بالدية، وفي الذكر بالدية وفي الصلب بالدية (¬1)، وفي العينين بالدية، وفي الرِّجل الواحدة نصف الدية، وأن الرَّجُل يُقتل بالمرأة (¬2)، ذكره النسائي ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن من قُتِل خطأ فديته مئة من الإبل: ثلاثون بنت مَخَاض، وثلاثون بنت لبون، وثلاثون حِقة، وعشرة ابن لبون [ذكر]، ذكره النسائي (¬1). وعند أبي داود: عشرون حِقَّة، وعشرون جَذَعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لَبُونَ، وعشرون ابن مخاض (¬2) ذكر (¬3). ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن من قَتل متعمدًا دُفِعَ إلى أولياء المقتول، فإن شاؤا قتلوا، وإن شاءوا أخذوا الدية، وهي ثلاثون حِقَّة، وثلاثون جَذَعة، وأربعون خَلِفة (¬1)، وما صُولحوا عليه فهو لهم (¬2)، ذكره الترمذي وحَسَّنه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- عَلَى أهل الإبل بمئة [من الإبل] وعلى أهل البَقَر بمئتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحُلل مئتي حلة (¬3)، ذكره أبو داود. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن عقْلَ المرأة مثلُ عقل الرجل حتى تبلغ الثلث من ديتها (¬1)، ذكره النسائي (¬2). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن عَقْلَ أهل الذمة نصف [عقل] (¬3) المسلمين، ذكرهُ النسائي، وعند الترمذي: "عقل الكافر نصفُ عقل المؤمن" (¬4)، حديث حسن يصحح مثله أكثر أهل الحديث. وعند أبي داود: كانت قيمةُ الدية على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثمان مئة دينار وثمانية آلاف درهم، ودية أهل الكتاب يومئذٍ النصف من دية المسلم، فلما كان عمر رفع دية المسلمين وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية (¬5). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في جنين امرأة ضربتها أخرى بغُرَّة: عبد أو أمة، ثم إن المرأة ¬
التي قضى عليها بالغرة توفيت، فقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن ميراثها لبنيها وزوجها، وأن العقل على عصبتها (¬1)، متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في امرأتين قتلت إحداهما الأخرى ولكل منهما زوج بالدية على عاقله القاتلة وميراثها لزوجها وولدها، فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬2): "لا، ميراثها لزوجها وولدها" (¬3) ذكره أبو داود. وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد صارخًا فقال: "مالك؟ " قال: سيِّدي رآني أُقبِّل جارية له فجبَّ مذاكيري، فقال: "عليَّ بالرجل" فطلب فلم يُقْدَرْ عليه، فقال: "اذهب، فأنت حر" قال: عَلَى مَن نصرتي يا رسول اللَّه؟ قال: "على كل مؤمن أو مسلم" (¬4)، ذكره ابن ماجه. ¬
وقضى [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-]، بإبطال دية العاض لما انْتزَعَ المعضوضُ يَدَه من فيه فأسقط ثنيتَّه (¬1) متفق عليه. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- بأن مَنِ اطّلَعَ في بيت قوم بغير إذنهم فخذفوه ففقؤوا عينه بأنه لا جُناح عليهم، متفق عليه. [وعند مسلم: "فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه"] (¬2). وعند الإمام أحمد من هذا الحديث: فلا دية له، ولا قصاص (¬3). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه لا دِيَةَ في المأمومة، ولا الجائفة، ولا المنقلة (¬4)، ذكره ابن ماجه. وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل يقود آخر بِنِسْعَةٍ (¬5)، فقال: هذا قتل أخي، فقال: "كيف قتلته؟ " قال: كنت أنا وهو نختبط (¬6) من شجرة فسبَّني فأغضبني فضربته بالفأس ¬
فصل [فتاوى في القسامة]
على قرنه فقتلته، فقال: "هل لك من شيء تؤديه عن نفسك؟ " قال: مالي إلا كسائي وفأسي، قال: فترى قومك يشترونك؟ قال: أنا أهون على قومي من ذلك، فقال: "دونك صاحبك"، فانطلق به، فلمّا ولّى قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- "إن قتله فهو مثله"، فرجع فقال: يا رسول اللَّه، بلغني أنك قلت: "إن قتله فهو مثله" وأخَذْتُه بأمرك، فقال: "أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ " قال: يا نبي اللَّه، بلى، فرمى بنسعته وخلَّى سبيله (¬1)، ذكره مسلم. وقد أشكل هذا الحديثُ على مَنْ لم يُحِطْ بمعناه، ولا إشكال فيه، فإن قوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن قتله فهو مثله" لم يرد به أنه مثله في الإثم، وإنما عنى به أنه إن قتله لم يبق عليه إثم القتل لأنه قد استوفى منه في الدنيا فيستوي هو والولي في عدم الإثم، أما الولي فإنه قتله بحق، وأما هو فلكونه قد اقتص منه، وأما قوله: "يبوء بإثمك وإثم صاحبك" فإثم الولي مظلمته بقتل أخيه وإثم المقتول إراقه دمه وليس المراد أنه يحمل خطاياك وخطايا أخيك، واللَّه أعلم. وهذه غير قصة الذي دَفَع إليه، وقد قتل، فقال: واللَّه ما أردت قتله، فقال: "أما إنه إن كان صادقًا فقتله دخل النار"، فخلاه الرجل (¬2)، صححه الترمذي، وإن كانت هي القصة فتكون هذه علة كونه إن قَتَله فهو مثله في المأثم، واللَّه أعلم. فصل [فتاوى في القسامة] وأقر -صلى اللَّه عليه وسلم- القَسَامة على ما كانت عليه قبل الإسلام وقضى بها بين ناس من ¬
الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود (¬1)، ذكره مسلم. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- في شأن محيِّصة بأن يُقْسِمَ خمسون من أولياء القتيل على رجل من المتهمين به فيُدفع برمته إليه، فأبوا فقال: "تبرئكم يهود بأيمان خمسين" فأبوا، فوداه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[بمئة] من عنده" (¬2)، متفق عليه وعند مسلم: "بمئة من إبل الصدقة" (¬3). وعند النسائي: "فَقَسَمَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- دِيته عليهم وأعانهم بنصفها" (¬4). وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه: "لا تَجْني نفس على أخرى، ولا يجني والد على ولده، ولا ولد على والده" (¬5)، والمراد أنه لا يؤخذ بجنايته، فلا تزر وازرة وزر أخرى. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن "من قُتل في عِمِّيًا (¬1) أو رمِّيًا (¬2)؛ يكون (¬3) بينهم بحجر أو سوط فعقله عقل خطأ، ومن قتل عمدًا فقَوَد يَدَيه فمن حال بينه وبينه فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين" (¬4)، ذكره أبو داود. ¬
فصل [فتاوى في حد الزنى]
"وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أنَّ المعدن جُبار (¬1) والعجماء جُبَار، والبئر جُبَار" (¬2)، متفق عليه. وفي قوله: "المعدن جُبار" قولان؛ أحدهما: أنه إذا استأجر من يحفر له معدنًا فسقط عليه فقتله فهو جُبَار، ويؤيد هذا القول [اقترانه بقوله: "البئر جُبار، والعجماء جبار"، والثاني: أنه لا زكاة فيه، ويؤيد هذا القول] (¬3) اقترانه بقوله: "وفي الركاز الخمس" ففرق بين المعدن والركاز، فأوجبَ الخمس في الركاز لأنه مال مجموع يؤخذ بغير كلفة، ولا تعب وأسقطها عن المعدن لأنه يحتاج إلى كلفة وتعب في استخراجه، واللَّه أعلم. فصل [فتاوى في حد الزنى] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن ابني كان عسيفًا على هذا، فزنى بامرأته، فافتديتُ منه بمئة شاة وخادم، وإني سألت رجالًا من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مئة وتغريب عام، وأن على امرأة هذا الرجم، فقال: "والذي نفسي بيده لاقضِيَّنَ بينكما بكتاب اللَّه، المئة والخادم رَدٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام، واغْدُ يا أُنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها" فاعترفت فرجمها (¬4)، متفق عليه. ¬
وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- فيمن زنى، ولم يُحصَنْ بنفي عام وإقامة الحد عليه (¬1)، ذكره البخاري. وقضى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن الثيب بالثيب جلد مئة، ثم الرجم، والبكر بالبكر جلد مئة، ثم نفي سنة (¬2)، ذكره مسلم. وجاءه اليهود فقالوا: إن رجلًا منهم وامرأة زَنَيَا فقال لهم: "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " فقالوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدون، فقال عبد اللَّه بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها، وما بعدها فقال له عبد اللَّه بن سلام: ارفع يدك، فرفع يده فإذا آية الرجم، فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما فرجما (¬3)، متفق عليه. ولأبي داود أن رجلًا منهم وامرأة زنيا، فقالوا: اذهبوا به إلى هذا النبي، فإنه بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها منه واحتججنا بها عند اللَّه وقلنا: إنها فتيا نبي من أنبيائك، فأتوه وهو جالس في المسجد في أصحابه (¬4) فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة زنيا؟ فلم يكلمهم بكلمة حتى أتى بيت مِدْراسهم (¬5) فقام على الباب فقال: "أنشدكم باللَّه الذي أنزل التوراة على ¬
موسى ما تجدون في التوراة على مَنْ زنى إذا أُحْصِن؟ " قالوا: يحَمَّمُ (¬1) ويُجَبَّهُ ويجلد، والتجبيه أن يُحمل الزانيان على حمار وتقابل أقفيتهما ويطاف بهما، فسكت شاب منهم فلما رآه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- سكت [ألظ به النشدة] (¬2) فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فما أول ما ارتخصتم أمر اللَّه" قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرَةٍ من الناس فأراد رَجْمه فحال قومه دونه، وقالوا: لا يُرْجَمُ صاحبُنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا على هذه العقوبة بينهم، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما (¬3). وعند أبي داود أيضًا أنه دعا بالشهود فجاءه أربعة، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها. مثل المِيلِ في المُكْحُلة (¬4). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- ماعز بن مالك أنْ يُطَهّره، وقال: إني قد زنيت فأرسل إلى قومه: "هل تعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟ " قالوا: ما نعلمه إلا أوفى العقل من صالحينا فيما نرى، فأقر أربع مرات، فقال له في الخامسة: "أنكتها؟ " قال: نعم قال: "حتى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ " قال: نعم، قال: "كما يغيب المِرْود في المكحلة والرشاء في البئر؟ " قال: نعم، قال: "فهل تدري ما الزنى؟ " قال: نعم، أتيتُ منها حَرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا، قال: "فما تريد بهذا القول؟ " قال: أريد أن تطهرني، فأمر رجلًا فاستنكهه، ثم أمر به فرجم، ولم يحفر له فلما وجد مَسَّ الحجارة فر يَشْتَدُّ حتى برجل معه لحى جمل فضربه وضربه الناس حتى مات، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هلا تركتموه وجئتموني به" (¬1). ¬
وفي بعض طرق هذه القصة أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "شهدت على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه" (¬1). ¬
وفي بعضها: فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "أبك جنون؟ " قال: لا، قال: "هل أحصنت؟ " قال: نعم، قال: "اذهبوا به فارجموه" (¬1). وفي بعض طرقها أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سمع رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: ألم تر إلى (¬2) هذا الذي ستر اللَّه عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رَجْمَ الكلب فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى بجيفة حمار شائل برجله فقال: "أين فلان وفلان؟ " فقالا: نحن ذان يا رسول اللَّه، فقال: "انزلا وكلا من جيفة هذا الحمار"، فقالا: يا نبي اللَّه من يأكل من هذا؟ قال: "فما نلتما من عرض أَخْيكما آنفًا أشد أكلًا منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أَنهار الجنة ينغمس فيها" (¬3). وفي بعض طرقها أن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قال له: "لعلك رأيت في منامك لعلك استكرهت" (¬4)، وكل هذه الألفاظ صحيحة. ¬
وفي بعضها أنه أمر فحفُرِت له حفيرة، ذكره مسلم (¬1)، وهي غلط من رواية بشير بن المهاجر، كان كان مسلم قد روى له في "الصحيح" فالثقة قد يغلط على أن أحمد وأبا حاتم الرازي قد تكلما فيه، وإنما حصل الوهم من حفره للغامدية فسرى إلى ماعز واللَّه أعلم. وجاءته -صلى اللَّه عليه وسلم- الغامدية فقالت: إني قد زينت فطهّرني، وإنه ردَّها، فقالت: تردّني، كما رددت ماعزًا فواللَّه إني لحبلى، فقال: اذهبي حتى تلدي، فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، فقالت: هذا قد ولدته، فقال: اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه فلما فطمته أتت به وفي يده كسرة من خبز، فقالت: هذا قد فطمته وأكَلَ الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبَّها، فسمع نبي اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- سبَّه إياها فقال: "مهلًا يا خالد فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحبُ مُكْس لغفر له"، ثم أمر بها فصلى عليها ودُفنت (¬2)، ذكره مسلم. ¬
وجاءه -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه إني أصبت حدًا فأقمه عليّ، ولم يسأله عنه وحضرت الصلاة فصلى مع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقام إليه الرجل فقال: يا رسول اللَّه إني أصبتُ حدًا فأقم فيَّ كتاب اللَّه، قال: "أليس قد صليت معنا"؟ قال: "نعم" قال: "فإن اللَّه قد غفر لك ذنبك أو قال حدَّك" (¬1)، متفق عليه. وقد اختلف في وجه هذا الحديث فقالت طائفة: أقرَّ بحد لم يُسَمِّه فلم يجب على الإمام استفساره (¬2)، ولو سمَّاه لحده، كما حد ماعزًا، وقالت طائفة: بل غفر اللَّه له بتوبته والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعلى هذا فمن تاب من الذنب قبل القدرة عليه سقطت عنه حقوق اللَّه تعالى، كما سقطت (¬3) عن المحارب، وهذا هو الصواب واللَّه أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أصبتُ من امراة قُبلة فنزلت: {وَأَقِمِ (¬4) الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]، فقال الرجل: أبي هذه؟ فقال: "بل لمن عمل بها من أمتي" (¬5) متفق عليه. وقد استدل به من يرى أن التعزير ليس بواجب، وأن للإمام إسقاطه، ولا دليل فيه، فتأمله. وخرجت امرأة تريد الصلاة فتجلَّلها رجل فَقَضَى حاجته منها فصاحت وفرَّ ومرَّ عليها غيره فأخذوه فظنت أنه هو، وقالت: هذا الذي فعل بي فأتوا به النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فأمر برجمه فقام صاحبها الذي وقع عليها فقال: أنا صاحبها، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: اذهبي، فقد غفر اللَّه لك، وقال للرجل قولًا حسنًا، فقالوا: ألا ترجم صاحبها؟ فقال: "لا لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم" (¬6)، ذكره أحمد ¬
وأهل السنن [كلهم] (¬1)، ولا فتوى، ولا حكم أحسن من هذا، فإن قيل فكيف أمرهم (¬2) برجم البريء. قيل: لو أنكر لم يرجمه، ولكن لما أُخذ، وقالت: هو هذا، ولم يُنكر، ولم يحتج عن نفسه فاتفق مجيء القوم به في سورة المريب وقول المرأة: هذا هو، وسكوته سكوت المريب وهذه القرائن أقوى من قرائن حد المرأة، بلعان الرجل وسكوتها، فتأمله (¬3). ¬
[أثر اللوث في التشريع]
[أثر اللوث في التشريع] وللوث (¬1) تأثير في الدماء والحدود والأموال: أما الدماء ففي القسامة، وأما الحدود ففي اللعان، وأما الأموال ففي قصة الوصية في السفر، فإن اللَّه سبحانه حكم بأنه إن اطّلع على أن الشاهدين والوصيين ظَلَما وغَدَرا أن يحلف اثنان من الورثة على استحقاقهما ويقضى لهم، وهذا هو الحكم الذي لا حكم غيره، فإن اللوث إذا أثر في إراقة الدماء وإزهاق النفوس بالحد (¬2)، فلأن يعمل [به] (¬3) في المال بطريق الأولى والأحرى، وقد حكم به نبي اللَّه سليمان بن داود صلوات اللَّه وسلامه عليهما في النسب مع اعتراف المرأة أنه ليس بولدها، بل هو ولد الأخرى فقال لها: "هو ابنك" (¬4). ومن تراجم النسائي على قصته: "التوسعة للحاكم أن يقول للشيء الذي لا يفعله افعل [كذا] ليستبين به الحق" (¬5) ثم ترجم عليه ترجمة أخرى فقال: "الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم عليه إذا تبين للحاكم إن الحق غير ما اعترف به"، وهذا هو العلم استنباطًا ودليلًا، ثم ترجم عليه ترجمة ثالثة فقال: "نقض الحاكم ما حكم به مَنْ هو مثله أو أجَلُّ منه". قلت: وفيه رد لقول من قال: يكون بينهما (¬6) إجراء للنسب مجْرَى المال، وفيه أن حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته في الباطن، وفيه نوع لطيف عجيب شريف من أنواع العلم النافع، وهو الاستدلال بقدر اللَّه على شرعه، فإن سليمان -عليه السلام- استدل بما قدره اللَّه وخَلَقَه في قلب الصغرى من الرحمة والشفقة بحيث أَبَتْ أنْ يُشَقَّ الولد على أنه ابنها وقوَّى هذا الاستدلال رضى الأخرى بأن يُشَق الولد، وقالت: نعم شُقَّه، وهذا قول لا يَصْدر من أم، وإنما يصدر من حاسد يريد أن يتأسّى بصاحب النعمة في زوالها عنه، كما زالت عنه هو، ولا أحسن من هذا الحكم، وهذا الفهم، واذا لم يكن مثل هذا في الحاكم أضاع حقوق الناس وهذه الشريعة الكاملة طافحة بذلك. ¬
[العمل بالسياسة]
[العمل بالسياسة] وجرت في ذلك مناظرة بين أبي الوفاء ابن عقيل (¬1) وبين بعض الفقهاء، فقال ابن عقيل: العمل بالسياسة هو الحزم، ولا يخلو منه إمام، وقال الآخر: لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل: السياسة ما كان من الأفعال [بحيث] (¬2) يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، كان لم يشرعه الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا نزل به وحى، فإن أردت بقولك: "لا سياسة إلا ما وافق الشرع" أي لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة، فقد جرى من الخلفاء الراشدين من القتل والمثل ما لا يجحده عالم بالسير ولو لم يكن إلا تحريق المصاحف (¬3) كان رأيًا اعتمدوا فيه على مصلحة، وكذلك تحريق عليّ [كرم اللَّه وجهه] (2) الزنادقة في الأخاديد (¬4)، ونفي عمر نَصْرَ بن حجاج (¬5). قلت: هذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضَنْك ومعترك (¬6) صعب فَرَّطَ فيه طائفة فعطلُّوا (¬7) الحدود وضيعوا الحقوق وجرأوا أهل الفجور على الفساد وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد وسَدُّوا على أنفسهم طرقًا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل وعطلوها مع علمهم وعلم الناس [بها] (8) أنها أدلة حق ظنًا منهم مُنَافاتها لقواعد الشرع، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة [حقيقة] (¬8) الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها فلما رأى ¬
وُلَاةَ الأمر ذلك، وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولَّد من تقصير أولئك في الشريعة، وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل وفساد عريض وتفاقَمَ الأمر وتعذَّر استدراكه، وأفرط [فيه] (¬1) طائفة أخرى فسبوغت منه ما يُناقض حكم اللَّه ورسوله، وكلا الطائفتين أُتيَتْ من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث اللَّه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإن اللَّه أرسل رسله، وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقِسْط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض فإذا ظهرت أمارات الحق، وقامت أدلة العقل، وأسفر صبحه بأي طريق كان [فذلك من] (¬2) شرع اللَّه ودينه ورضاه وأمره، واللَّه تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته، وأماراته في نوع واحد [ويبطل] (¬3) غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر، بل بيَّن بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها (¬4) وأمثالها ولن تجد طريقًا من الطرق المثبتة للحق إلا وفي (¬5) شِرْعَة سبيل للدلالة عليها وهل يُظن بالشريعة الكاملة خلف ذلك؟ ولا نقول: إن السياسة العادلة مخالفة للشريعة الكاملة، بل هي جزء من أجزائها وباب من أبوابها وتسميتها سياسة أمرٌ اصطلاحي وإلا فإذا كانت عَدلًا [فهي] من الشرع (¬6)، فقد حبس رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- في تُهْمة وعاقب في تهمة لما ظهرت أمارات الريبة على المتهم فمن أطلق كل متهم وخلّى سبيله أو حلَّفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونقب الدور وتواتر السرقات، -ولا سيما مع وجود المسروق عنه (¬7) - وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل أو إقرار اختيار وطوع ¬
فقوله مخالف للسياسة الشرعية، وكذلك منع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الغالَّ من الغنيمة سَهْمَه (¬1)، وتحريق الخلفاء الراشدين متاعه (¬2)، ومنع المسيء على أميره (¬3) سلب قتيله (¬4)، وأخذه شطر مال مانع الزكاة (¬5)، وإضعافه الغُرم على سارق ما لا قطع فيه وعقوبته بالجلد (¬6)، وإضعافه الغرم على كاتم الضالة (¬7)، وتحريق عمر بن الخطاب حانوت الخمَّار (¬8)، وتحريقه قرية يُباع فيها الخمر (¬9)، وتحريقه قصر سعد بن أبي وقاص ¬
لما احتجب فيه عن رعيته (¬1)، وحلقه رأس نصر بن حجَّاج ونفيه (¬2)، وضربه صبيغًا بالدرة لما تتبع المتشابه فسأل عنه (¬3)، إلى غير ذلك من السياسة التي ساس بها الأمة فسارت سنة إلى يوم القيامة، كان خالفها مَنْ خالفها. ولقد حدَّ أصحاب النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- ورضي عنهم في الزنى بمجرد الحبل (¬4). وفي الخمر بالرائحة والقيء (¬5)، وهذا هو الصواب، فإن دليل القيء ¬
والرائحة والحبل على الشرب والزنى أولى من البينة قطعًا فكيف يُظن بالشريعة إلغاء أقوى الدليلين، ومن ذلك تحريق [الصديق اللوطيَّ (¬1)، وإلقاء أمير المؤمنين علي كرم اللَّه وجهه له من شاهق على رأسه (¬2)، ومن ذلك تحريق] (¬3) عثمان المصاحف المخالفة للمصحف الذي جمع الناس عليه (¬4)، وهو الذي بلسان ¬
قريش، ومن ذلك تحريق الصديق للفجاءة السُّلَمي (¬1)، ومن ذلك اختيار عمر رضي اللَّه عنه للناس إفراد الحج، وأن يعتمروا في غير أشهر الحج (¬2)، فلا يزال البيت الحرام معمورًا بالحجاج والمعتمرين، ومن ذلك منع عمر -رضي اللَّه عنه- من بيع أمهات الأولاد (¬3)، وقد باعوهن في حياة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وحياة أبي بكر -رضي اللَّه عنه- وأرضاه (¬4)، ومن ذلك إلزامه بالطلاق الثلاث لمن أوقعه بفم واحد عقوبة له، كما صرَّح هو بذلك (¬5)، وإلا فقد كان على عهد رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وأبي بكر وصدرًا من إمارته هو يجعل واحدة (¬6) إلى أضعاف [أضعاف] (¬7) ذلك من السياسات العادلة التي ساسوا بها الأمة وهي مشتقة من أصول الشريعة وقواعدها. وتقسيمُ بعضهم طرقَ الحكم إلى شريعة وسياسة كتقسيم غيرهم الدين إلى شريعة وحقيقة وكتقسيم آخرين الدينَ إلى عقل ونقل، وكل ذلك [تقسيم باطل، بل السياسة والحقيقة والطريقة والعقل كل ذلك] (8) ينقسم إلى قسمين: صحيح وفاسد؛ فالصحيح قسم من أقسام الشريعة لا قسيم لها والباطل ضدها ومنافيها، وهذا الأصل من أهم الأصول وأنفعها، وهو مبني على حرف واحد، وهو عموم رسالة النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه العبادُ في معارفهم وعلومهم [وأعمالهم] (¬8)، وأنه لم يحوج أمته إلى أحدٍ بعده، وإنما حاجتهم إلى مَنْ يبلّغهم عنه ما جاء به (¬9)، فلرسالته عمومات محفوظات (¬10) لا يتطرق إليهما تخصيص [عموم بالنسبة إلى المرسل إليه] (¬11) وعموم بالنسبة إلى كل ما يحتاج إليه مَنْ بُعث إليه في أصول الدين وفروعه، فرسالته كافية شافية عامة لا تحوج إلى سواها، ولا يتم الإيمان به إلا بإثبات عموم رسالته في هذا وهذا، فلا يخرج أحد من المكلفين عن رسالته، ولا يخرج نوع من أنواع الحق الذي تحتاج إليه الأمة في علومها وأعمالها عما جاء به. ¬
[بين الرسول -صلى الله عليه وسلم- جميع أحكام الحياة والموت]
[بيَّن الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم- جميع أحكام الحياة والموت] وقد توفي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وما طائر يقلِّب جناحيه في السماء إلا ذَكَر للأمة منه علمًا، وعلمهم كل شيء حتى آداب التخلي وآداب الجماع والنوم والقيام والقعود والأكل والشرب والركوب والنزول والسفر والإقامة، والصَّمْت والكلام، والعزلة والخلطة، والغنى والفقر، والصحة والمرض وجميع أحكام الحياة والموت، ووصف لهم العرش والكرسي والملائكة والجن والنار والجنة ويوم القيامة، وما فيه حتى كأنه رأي عين وعرَّفهم معبودهم وإلههم أتم تعريف حتى كأنهم يرونه ويشاهدونه بأوصاف كماله ونعوت جلاله وعرَّفهم الأنبياء وأممهم، وما جَرَى لهم، [وما جرى عليهم] (¬1) معهم حتى كأنهم كانوا بينهم وعرَّفهم من طرق الخير والشر دقيقَها وجليلها ما لم يعرِّفه نبي لأمته قبله، وعرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من أحوال الموت، وما يكون بعده في البرزخ، وما يحصل فيه من النعيم والعذاب للروح والبدن ما لم يعرّف به نبي غيره، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم-[من] (¬2) أدلة التوحيد والنبوة والمعاد والرد على جميع فرق أهل الكفر والضلال ما ليس لمن عرفه حاجة مِنْ بعده اللهم إلا إلى مَنْ يبلّغه إياه ويبينه ويوضح منه ما خفي عليه، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من مكايد الحروب ولقاء العدو وطرق النصر والظفر ما لو علموه وعَقَلوه (¬3) ورعوه حق رعايته لم يقم لهم عدو أبدًا، وكذلك عرَّفهم عهو من مكايد إبليس وطرقه التي تأتيهم منها، وما يتحرَّزون به من كيده ومكره، وما يدفعون به شره ما لا مزيد عليه، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من أحوال نفوسهم وأوصافها ودسائسها وكمائنها ما لا حاجة لهم معه إلى سواه، وكذلك عرفهم -صلى اللَّه عليه وسلم- من أمور معاشهم (¬4) ما لو علموه وعملوه لاستقامت لهم دنياهم أعظم استقامة. وبالجملة فجاءهم بخير الدنيا والآخرة برُمَّته، ولم يحوجهم اللَّه إلى أحد سواه فكيف يظن أن شريعته الكاملة التي ما طرق العالم شريعةٌ أكمل منها ناقصةٌ تحتاج إلى سياسة خارجة عنها تكملها أو إلى قياس أو حقيقة أو معقول خارج عنها، ومن ظن ذلك فهو كمن ظن أن بالناس حاجة إلى رسول آخر بعده، وسبب ¬
هذا كله خفاء ما جاء به على من ظن ذلك وقلة نصيبه من الفهم الذي وَفَّق اللَّه له أصحاب نبيه صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنهم الذين اكتفوا بما جاء به واستغنوا به عما (¬1) سواه وفتحوا به القلوب والبلاد، وقالوا: هذا عهد نبينا إلينا، وهو عهدنا إليكم، وقد كان عمر -رضي اللَّه عنه- يمنع من الحديث عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- خشية أن يشتغل الناس به عن القرآن (¬2)، فكيف لو رأى اشتغال الناس بآرائهم وزبد أفكارهم وزبالة أذهانهم عن القرآن والحديث؟ فاللَّه المستعان. وقد قال اللَّه تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا (¬3) عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] وكيف يُشفي ما في الصدور كتاب لا يفي هو وما تبينه السنة بعشر معشار الشريعة؟ أم كيف يشفي ما في الصدور كتاب لا يستفاد منه اليقين في مسألة واحدة من مسائل معرفة اللَّه وأسمائه وصفاته وأفعاله؟ أو عامتها ظواهر لفظية دلالتها موقوفة على انتفاء عشرة أمور لا يُعلم انتفاؤها، سبحانك هذا بهتان عظيم. وياللَّه العجب كيف كان الصحابة رضي اللَّه عنهم والتابعون قبل وضع هذه القوانين التي أتى اللَّه بنيانها من القواعد وقبل استخراج هذه الآراء والمقاييس [والأوضاع؟ أهل كانوا مهتدين مكتفين بالنصوص أم كانوا] (¬4) على خلف ذلك؟ حتى جاء المتأخرون فكانوا أعلم منهم وأهدى وأضبط للشريعة منهم وأعلم باللَّه وأسمائه وصفاته، وما يجب له، و [ما] (¬5) يمتنع عليه منهم؟ فو اللَّه لأن يَلقى اللَّه عبده بكل ذنب ما خلا الإشراك خير من أن يلقاه بهذا الظن الفاسد والاعتقاد الباطل. ¬
فصل [كلام أحمد في السياسة الشرعية]
فصل [كلام أحمد في السياسة الشرعية] وهذه نبذة يسيرة من كلام الإمام أحمد رضي اللَّه عنه في السياسة الشرعية. قال في رواية المروزي وابن منصور: [و] (¬1) المخنث يُنفى، لأنه لا يقع منه إلا الفساد والتعرض له، وللإمام نفيه إلى بلد يأمن فساد أهله، كان خاف عليهم (¬2) حبسه. وقال في رواية حنبل فيمن شرب خمرًا في نهار رمضان أو أتى شيئًا نحو هذا: أقيم الحد عليه وغلظ عليه مثل الذي يُقتل في الحرم دية وثلث. وقال في رواية حرب: إذا أتت المرأة المرأة تعاقبان وتؤدبان. وقال أصحابنا: إذا رأى الإمام تحريق اللوطي بالنار فله ذلك لأن خالد بن الوليد كتب إلى أبي بكر -رضي اللَّه عنهما- أنه وَجَدَ في بعض ضواحي (¬3) العرب رجلًا يُنْكَح كما تنكح المرأة، فاستشار أصحاب النبي صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنهم وفيهم [أمير المؤمنين] علي بن أبي طالب (¬4)، وكان أشدهم قولًا فقال: إن هذا الذنب لم تعصِ [اللَّه] (1) به أمة من الأمم إلا واحدة فصنع [اللَّه] (1) بهم ما قد عملتم، أرى أن يحرقوا (¬5) بالنار، فأجمع رأي أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنهم على أن يحرقوا (5) بالنار، فكتب أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد -رضي اللَّه عنهما- أن (¬6) يُحرِّقوا فحرقهم، ثم حرقهم ابن الزبير رضي اللَّه عنهما، ثم حرَّقهم هشام بن عبد الملك (¬7). ¬
ونص الإمام أحمد رحمه اللَّه ورضي عنه عنه فيمن طعن على الصحابة رضوان اللَّه عليهم أنه قد وجب على السلطان عقوبته وليس للسلطان أن يعفو عنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلا أعاد العقوبة. وصرح أصحابنا في أن النساء إذا خيف عليهن المساحقة حرم خلوة بعضهن ببعض. وصرحوا بأن من أسلم وتحته أختان، فإنه يجبر على اختيار إحداهما، فإن أبى ضُرب حتى يختار. قالوا: وهكذا كل من وجب عليه حق فامتنع من أدائه، فإنه يضرب حتى يؤديه. وأما كلام مالك وأصحابه في ذلك فمشهور. وأبعد الناس من الأخذ بذلك [الإمام] (¬1) الشافعي رحمه اللَّه ورضي عنه مع أنه اعتبر قرائن (¬2) الأحوال في أكثر من مئة موضع، وقد ذكرنا منها كثيرًا في غير هذا الكتاب، منها جواز وطء الرجل المرأة ليلة الزفاف، وإن لم يرها، ولم يشهد عدلان أنها امرأته، بناء على القرائن، ومنها قبول الهدية التي يوصلها إليه صبي أو عبد أو كافر وجواز أكلها والتصرف فيها، وإن [لم] (¬3) يشهد عدلان أن فلانًا أهدى لك كذا بناء على القرائن، ولا يشترط تلفظه، ولا تلفظ الرسول، بلفظ الهبة والهدية، ومنها جواز تصرفه في بابه بقَرْع حلقته ودَقِّه عليه، وإن لم يستأذنه في ذلك، ومنها استدعاء المستأجر للدار والبستان لمن شاء من أصحابه وضيوفه، وإنزالهم عنده مدة، كان لك يستأذنه نطقًا، كان تضمن ذلك تصرفهم في منفعة ¬
فصل
الدار وإشغالهم الكنيف وإضعافهم السلم ونحوه، ومنها جواز الإقدام على الطعام إذا وضعه بين يديه، وإن لم يصرح له بالإذن لفظًا، ومنها جواز شربه من الإناء، وإن لم يقدمه إليه، ولا يستأذنه، ومنها جواز قضاء حاجته في كنيفه، وإن لم يستأذنه، ومنها [جواز] (¬1) الاستناد إلى وسادته، ومنها أخذ ما ينبذه رغبة عنه من الطعام وغيره، وإن لم يصرح بتمليكه له، ومنها انتفاعه بفراش زوجته ولحافها، ووسادتها، وآنيتها، وإن لم يستأذنها نطقًا إلى أضعاف أضعاف ذلك. وهل السياسة الشرعية إلا من هذا الباب، وهي الاعتماد على القرائن التي تفيد القطع تارة والظن الذي هو أقوى من ظن الشهود بكثير تارة؟ وهذا باب واسع، وقد تقدم التنبيه عليه مرارًا، ولا يستغني عنه المفتي والحاكم. فصل فلنرجع إلى فتاوى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وذكر طرف من فتاويه في الأطعمة. [فتاوى في الأطعمة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الثوم أحرام هو؟ قال: "لا، ولكني أكرهه من أجل رائحته" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو أيوب: هل يحل لنا البصل؟ فقال: "بلى، ولكني يغشاني ما لا يغشاكم" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الضب أحرام هو؟ فقال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" (¬1)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجُبن والسمن والفِرَا، فقال. "الحلال ما أحلَّه اللَّه في كتابه والحرام ما حرمه اللَّه في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه" (¬2)، ذكره ابن ماجه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الضبع، فقال: "أو يأكل الضبع أحد؟! " (¬3). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الذئب فقال: "أو يأكل الذئب أحدٌ فيه خير؟! " (¬4)، ذكره ¬
الترمذي، وعند ابن ماجه: قال: قلت: يا رسول اللَّه ما تقول في الضبع؟ قال: "ومن يأكل الضبع؟! " (¬1). وإن صح حديث جابر في إباحة الضبع (¬2)، فإن في القلب منه شيئًا كان هذا الحديث يدل على ترك أكله تقذرًا أو تنزهًا، واللَّه أعلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- فقالت: إن قومًا يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم اللَّه ¬
عليه أم لا، فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "سموا أنتم وكلوا" (¬1)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم-[اليهود فقالوا] (¬2): أنأكل مما قتلنا، ولا نأكل مما قتل اللَّه؟، فأنزل اللَّه: {وَلَا تَأكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] إلى آخر الآية (¬3) هكذا، ذكره أبو داود وأن الذي سأل هذا السؤال هم اليهود، والمشهور في هذه القصة أَنَّ المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال، وهو الصحيح ويدل عليه كون السورة مكية وكون اليهود يحرِّمون الميتة، كما يحرمها المسلمون، فكيف يوردون هذا السؤال وهم يوافقون على هذا الحكم؟ ويدل عليه أيضًا قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121]، فهذا سؤال مجادل في ذلك ¬
واليهود لم تكن تجادل في هذا، وقد رواه الترمذي، بلفظ ظاهره أن بعض المسلمين سأل هذا السؤال ولفظه: أتى ناس إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: يا رسول اللَّه أنأكل مما نقتل، ولا نأكل مما قتل اللَّه؟ فأنزل اللَّه تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إلى قوله: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] (¬1)، وهذا لا يناقض كون المشركين هم الذين أوردوا هذا السؤال فسأل عنه المسلمون رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، ولا أحسب قوله إن اليهود سألوا عن ذلك إلا وهمًا من أحد الرواة، واللَّه أعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي فحرمتُ عَلَيَّ اللحم، فأنزل اللَّه تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة: 87، 88] (¬2)، ذكره الترمذي. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة الخُشَني -رضي اللَّه عنه- فقال: إن أرضنا أرض أهل كتاب، وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بآنيتهم وقدورهم؟ فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن لم تجدوا غيرها فارحضوها واطبخوا فيها واشربوا" قال: قلت: يا رسول اللَّه ما يحل لنا، وما يحرم علينا؟ قال: "لا تأكلوا لحم الحمر الإنسية، ولا يحلُّ كل ذي ناب من السباع" (¬1)، ذكره أحمد، وقد ثبت عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- في "صحيح مسلم" من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أنه قال: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام" (¬2)، وهذان اللفظان يبطلان قول من تأول نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع بأنه نهي كراهة فإنه تأويل فاسد قطعًا، وباللَّه التوفيق. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللّبة؟ فقال: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" (¬3)، ذكره أبو داود، وقال: هذا ذكاة المُتردِّي، وقال يزيد بن ¬
هارون رحمه اللَّه: هذا للضرورة، وقيل: هو في غير المقدور عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الجنين يكون في بطن الناقة أو البقرة أو الشاة أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم، فإن ذكاتَه ذكاةُ أمه" (¬1)، ذكره أحمد، وهذا يبطل تأويل من تأول الحديث أنه يُذَكَّى، كما تذكى أمه ثم يؤكل، فإنه أمرهم بأكله وأخبر أن ذكاة أمه ذكاة له، وهذا لأنه جزء من أجزائها فلم يحتج إلى أن يفرد بذبح كسائر أجزائها. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رافع بن خديج رضي اللَّه عنه فقال: إنا لاقو العدو غدًا، وليست معنا مدى أفنذكي باللِّيطة؟ فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما أنهر الدم وذُكِر اسم اللَّه عليه فكل إلا ما كان من سنّ أو ظفر، فإن السن عظم والظفر مدى الحبشة" (¬2)، متفق عليه واللَّيطة: الفلقة من القَصَب. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عدي بن حاتم -رضي اللَّه عنه- فقال: إن أحدنا ليصيب الصيد وليس معه سكين أيذبح بالمروة (¬3) وشقة العصى؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أمِرِ (¬4) الدمَ واذكر ¬
اسم اللَّه" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شاة حلَّ بها الموت فأخذت جارية حجرًا فذبحتها به فأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بأكلها (¬2)، ذكره البخاري. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن شاة نيب فيها الذئب فذبحوها بمروة فرخص لهم في أكلها (¬3)، ذكره النسائي. سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن أكل الحوت الذي جَزَر البحر عنه، فقال: "كلوا، رزقًا ¬
أخرجه اللَّه لكم وأطعمونا إن كان معكم" (¬1)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة الخُشَني فقال: إنا بأرض صيد، أصيد بقوسي وبكلبي المعلّم وبكلبي الذي ليسس بمعلّم فما يصلح لى؟ فقال: "ما صدت بقوسك فذكرت اسم اللَّه عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلَّم فذكرت اسم اللَّه عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلَّم فأدركت ذكاته فكل" (¬2)، متفق عليه، وهو صريح في اشتراطه التسمية لحل الصيد ودلالته على ذلك أصرح من دلالته على تحريم صيد غير المعلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عدي بن حاتم فقال: إني أرسل كلابي المعلَّمة فيمسكن عليَّ وأذكر اسم اللَّه؟ فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم اللَّه فكل ما أمسك عليك" قلت: وإن قَتلنَ قال: "وإن قتلن، ما لم يشركها كلب ليس منها" قلت: فإني أرمي بالمِعْراض (¬3) الصيد فأصيب؟ فقال: "إذا رميت بالمعراض، فخزق (¬4) فكله، وإن أصابه بعرضه، فلا تأكله" (¬5)، متفق عليه. وفي بعض ألفاظه هذا الحديث: "إلا أن يأكل الكلب، فإن أكل، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها، فلا تأكل، فإنك إنما سميت على كلبك، ولم تسمِّ على غيره". وفي بعض ألفاظه: "إذا أرسلت كلبك المكلَّب فاذكر اسم اللَّه، فإن أمسك عليك فأدركته حيًا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أَخذَ الكلب ذكاتُه"، وفي بعض ألفاظه: "إذا رميت بسهمك فاذكر اسم اللَّه" وفيه: "فإن غاب عنك اليومين أو الثلاثة، ولم تجد فيه إلا أثر سهمك فكل إن شئت، كان ¬
وجدته غريقًا في الماء، فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة الخشني فقال: يا رسول اللَّه إن في كلابًا مكلَّبة فأفتني في صَيْدها؟ فقال: "إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك" فقال: يا رسول اللَّه ذكيٌّ (¬1)، وغير ذكي؟ قال: ذكيّ وغير ذكيّ"، قال: وإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه" قال: يا رسول اللَّه أفتني في قوسي، قال: "كُل ما أمسكت عليك قوسك" قال: ذكيّ وغير ذكيّ؟ قال: "ذكي وغير ذكي" قال: كان تغيب عنّي؟ قال: "وإن تغيب عنك ما لم يصلّ (¬2) -يعني: يتغير- أو تجد فيه أثرًا غير أثر سهمك" (¬3)، ذكره أبو داود. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
ولا يناقض هذا قوله -صلى اللَّه عليه وسلم- لعدي بن حاتم: "وإن أكل [منه] (¬1)، فلا تأكل"، فإن حديث عدي فيما أكل منه حال صيده إذ يكون ممسكًا على نفسه وحديث أبي ثعلبة فيما أكل منه بعد ذلك، فإنه يكون قد أمسك على صاحبه، ثم أكل منه بعد ذلك، وهذا لا يحرم، كما لو أكل مما ذكاه صاحبه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الذي يدرك صيده بعد ثلاث، فقال: "كُلْه ما لم ينتن" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أهل بيت كانوا في الحرَّة (¬3) محتاجين ماتت عندهم ناقة لهم أو لغيرهم فرخص لهم في أكلها فعصمتهم بقية شتائهم (¬4)، ذكره أحمد. ¬
وعند أبي داود: "أن رجلًا نزل بالحرَّة ومعه أهله، وولده فقال له رجل: إن لي ناقة قد ضلت، فإن وجدتها فأمسكها فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت فقالت امرأته: انحرها فأبى فنفقت، فقالت: اسلخها حتى نقدِّد شحمها ولحمها نأكله فقال: حتى أسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فأتاه فسأله فقال له: "هل عندك غناء يغنيك (¬1)؟ قال: لا، قال: "فكلوه" قال: فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال: هلا كنت نحرتها؟ قال: استحييت منك (¬2)، وفيه دليل على جواز إمساك الميتة للمضطر. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: مِنَ "الطعام طعامٌ نتحرَّجُ منه، فقال: "لا يختلجنَّ في نفسك شيء ضارعت فيه النصرانية" (¬3)، ذكره أحمد، ومعناه -واللَّه أعلم- النهي ¬
عما شابه طعام النصارى يقول: لا تشكنَّ فيه، بل دعه؟ فأجابه بجواب عام وخص النصارى دون اليهود لأن النصارى لا يحرمون شيئًا من الأطعمة، بل يبيحون ما دبَّ ودرج من الفيل إلى البعوض. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عقبة بن عامر رضي اللَّه عنه فقال: إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يَقرُوننا فما ترى؟ فقال: "إن نزلتم بقوم فأَمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوه، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" (¬1)، ذكره البخاري. وعند الترمذي: إِنا نمر بقوم، فلا يضيفوننا، ولا يؤدّون ما لنا عليهم من الحق، ولا نحن نأخذ منهم، فقال: "إن أبوا إلا أن تأخذوا قِرًى فخذوه" (¬2). وعند أبي داود: "ليلةُ الضيف حقٌّ على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محرومًا كان دينًا عليه إن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه" (¬3)، وعنده أيضًا: "مَنْ نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه" (¬4). وهو دليل على وجوب الضيافة وعلى أخذ الإنسان نظير حقه ممن هو عليه إذا أبى دفعه، وقد استدل به في مسألة الظفر، ولا دليل فيه لظهور سبب الحق هاهنا، فلا يتهم الآخذ، كما تقدم في قصة هند مع أبي سفيان رضي اللَّه عنهما (¬5). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عوف بن مالك رضي اللَّه عنه فقال: الرجل أمرُّ به، فلا يقريني، ¬
فصل [فتاوى في العقيقة]
ولا يضيفني، ثم يمر بي أفأجزيه؟ قال: "لا، بل أقْرِه" قال: ورآني -يعني: النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- رثَّ الثياب فقال: "هل لك من مال؟ " قال: قلت: مِنْ كل المال قد أعطاني اللَّه من الابل والغنم، قال: "فليرَ عليك" (¬1)، ذكره الترمذي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن جائزة الضيف؟ فقال: "يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يُخرِجه" (¬2)، متفق عليه. فصل [فتاوى في العقيقة] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العقيقة، وكان (¬3) كره الاسم، وقال: "مَنْ ولد له مولود فأحب أنْ ينسك عنه فليفعل" (¬4)، ذكره أحمد، وعنده أيضًا: أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن العقيقة، فقال: "لا يحبُّ اللَّه العقوق" كأنه كره الاسم قالوا: يا رسول اللَّه إنما نسألك عن أحدنا يولد له [ولد]، قال: "من يولد له [ولد] فأحب أن ينسك عنه فلينسك عن الغلام شاتين متكافئتين وعن الجارية شاة" (¬5). ¬
فصل [فتاوى في الأشربة]
فصل [فتاوى في الأشربة] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: لا أَروى من نَفَس واحدة، قال: "فأَبِنِ القَدَح عن فيك ثم تنفَّس" قال: فإني أَرى القذاة فيه، قال: "فأهرقها" (¬1)، ذكره مالك، وعند الترمذي أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة (¬2) أراها في ¬
الإناء؟ قال: "أهرقها" قال: إني لا أَروى من نَفَس واحدة؛ قال: "فأبِن القدح إذن عن فيك" (¬1) حديث صحيح. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن البِتْع (¬2)، فقال: "كلُّ شراب أسكر فهو حرام" (¬3)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو موسى رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه أَفْتنا في شرابين كنا نصنعهما باليمين: البِتْع: وهو من العسل ينبذ حتى يشتد، والمِزْر وهو من الذرة والشعير ينبذ حتى يشتدّ، فقال: "كل مسكر حرام" (¬4)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- طارق بن سويد عن الخمر فنهاه أن يصنعها فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: "إنه ليس بدواء، ولكنه داء" (¬5). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من اليمن عن شراب بأرضهم يُقال له: المِزْر، قال: "أمسكرٌ هو؟ " قال: نعم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كل مسكر حرام، وإن على اللَّه عهدًا لمن شرب المسكر أن يَسقيَه من طينة الخبال" قالوا: يا رسول اللَّه، وما طينةُ الخبال؟ قال: "عَرَقُ أهل النار" أو قال: "عصارةُ أهل النار" (¬6). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من عبد قيس فقال: يا رسول اللَّه ما ترى في شراب نصنعه في أرضنا من ثمارنا؟ فأعرض عنه حتى مسألة ثلاث مرات، حتى قام يصلي فلما قضى صلاته قال: "لا تشربه، ولا تسقه أخاك المسلم فوالذي نفسي بيده أو والذي يُحْلَف به لا يشربه رجل ابتغاء لذة سكر فيسقيه اللَّه الخمر يوم القيامة" (¬7)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخمر تُتخذ خلًا، قال: "لا" (¬1)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو طلحة رضي اللَّه عنه عن أيتام ورثوا خمرًا فقال: "أهرقها" قال: أفلا نجعلها خلًا؟ قال: "لا"، ذكره أحمد وفي لفظ: أن يتيمًا كان في حجر أبي طلحة فاشترى له خمرًا فلما حرمت الخمر سأل النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أيتخذها خلًا؟ قال: "لا" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- قوم فقالوا: إنا ننتبذ نبيذًا نشربه على غدائنا وعشائنا، وفي رواية: على طعامنا فقال: "اشربوا واجتنبوا كل مسكر" فأعادوا عليه، فقال: "إن اللَّه ينهاكم عن قليل ما أسكر، وكثيره" (¬3)، ذكره الدارقطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن فيروز الديلمي -رضي اللَّه عنهما- فقال: إنا أصحاب أعناب وكرم، وقد نزل تحريم الخمر فما نصنع بها؟ قال: "تتخذونه زبيبًا؟ " قال: نصنع بالزبيب ماذا؟ قال: "تنقعونه على غدائكم وتشربونه على عشائكم وتنقعونه على عشائكم وتشربونه على غدائكم" قال: قلت: يا رسول اللَّه نحن ممن قد علمت، نحن بين ظهراني من قد علمت فمن وليُّنا؟ فقال: "اللَّه ورسوله" قال: حَسْبِي يا رسول للَّه (¬4). ¬
فصل [فتاوى في الأيمان وفي النذور]
فصل [فتاوى في الأيمان وفي النذور] [في طرف من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الأيمان والنذور] (¬1). وسأله سعد بن أبي وقاص فقال: يا رسول اللَّه إني حلفت باللات والعزى، وإن العهد كان قريبًا، فقال: "قل لا إله إلا اللَّه وحده [لا شريك له] (¬2) ثلاثًا، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا، وتعوّذ (¬3)، ولا تعد" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
ولما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حَرّم اللَّه عليه الجنة وأوجب له النار" سألوه -صلى اللَّه عليه وسلم-: وإن كان شيئًا يسيرًا؟ قال: "وإن كان قضيبًا من أراك" (¬1)، ذكره مسلم. وأعْتَمَ (¬2) رجل عند النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ثم رجع إلى أهله فوجد الصِّبْيَة قد ناموا فأتاه أهله بطعام فحلف لا يأكل من أجل الصبية، ثم بدا له فاكل فأتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فذكر ذلك له، فقال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأتها وليكفر عن يمينه" (¬3)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- مالك بن نضلة (¬4) رضي اللَّه عنه فقال: يا رسول اللَّه أرأيت ابن عم لي آتيه أسأله، فلا يعطيني، ولا يصلني، ثم يحتاج [إليَّ] (¬5) فيأتيني فيسألني، وقد حلفتُ أن لا أعطيه ولا أصله؟ قال: فأمرني أن آتي الذي هو خير وأكفِّر عن يميني (¬6). وخرج سُويد بن حَنْظلة، ووائل بن حُجر رضي اللَّه عنهما يريدان رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- مع قومهما فأخذ وائلًا عدوٌّ له فتحزَج القوم أن يحلفوا أنه أخوهم وحلف سويد أنه أخوه فخلوا سبيله، فسأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن ذلك، فقال: "أنت ¬
أبرُّهم وأصدقهم المسلم أخو المسلم" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد، ويصوم ولا يفطر بنهار، ولا يستظل، ولا يتكلم فقال: "مروه فليستظل وليقعد وليتكلم وليتم صومه" (¬2)، ذكره البخاري. وفيه دليل على تفريق الصفقة في النذر، وأن من نذر قربة [وغير قربة] (¬3) صح النذر في القربة وبطل في غير القربة وهكذا الحكم في الوقف سواء. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عمر -رضي اللَّه عنه- فقال: إني نذرتُ في الجاهلية أن اعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: "أوف بنذرك" (¬4)، متفق عليه. وقد احتج به من يرى جواز الاعتكاف بغير (¬5) صوم، ولا حجة فيه لأن في بعض ألفاظ الحديث: "أن أعتكف يومًا أو ليلة" (¬6)، ولم يأمره بالصوم إذ الاعتكاف المشروع إنما هو اعتكاف الصيام (¬7) فيحمل اللفظ المطلق على المشروع. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن امرأة نذرت أن تمشي إلى بيت اللَّه الحرام (¬1) حافية غير مختمرة فأمرها أن تركب وتختمر وتصوم ثلاثة أيام (¬2)، ذكره أحمد. وفي "الصحيحين" عن عقبة [بن عامر] (¬3) رضي اللَّه عنه قال: نَذَرت أختي أن تمشي إلى بيت اللَّه الحرام (1) حافية فأمرتني أن استفتي لها رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فاستفتيتُه، فقال: "لتمش ولتركب" (¬4). وعند الإمام أحمد أن أخت عقبة نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن اللَّه لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة" (¬5). ونظر وهو يخطب إلى أعرابي قائم في الشمس فقال: "ما شأنك؟ " قال: نذرت أن لا أزال في الشمس حتى يفرغ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-[من الخطبة] (¬6)، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ليس هذا نذرًا إنما النذر فيما ابتغي به وجه اللَّه" (¬7)، ذكره أحمد. ¬
ورأى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- شيخًا يُهادى (¬1) بين ابنيه فقال: "ما بال هذا؟ " فقالوا: نذر أن يمشي فقال: "إن اللَّه لغني عن تعذيب هذا نفسه" وأمره أن يركب" (¬2)، متفق عليه. ونظر إلى رجلين مقترنين يمشيان إلى البيت فقال: "ما بال القِرَان؟ " قالوا: يا رسول اللَّه نذرنا أن نمشي إلى البيت مقترنين، فقال: "ليس هذا نذرًا إنما النذر فيما ابتغي به وجه اللَّه" (¬3)، ذكره أحمد. ¬
[النيابة في فعل الطاعة]
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن أُمي توفيت وعليها نذر صيام فتوفيت قبل أن تقضيه، فقال: "ليصم عنها الولي" (¬1)، ذكره ابن ماجه. [النيابة في فعل الطاعة] وصح عنه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه" (¬2). فطائفة حملت هذا على عمومه وإطلاقه، وقال: يُصام عنه النذر والفرض. وأبت طائفة ذلك، وقالت: لا يصام عنه نذر، ولا فرض. وفصلت طائفة فقالت: يصام عنه النذر دون الفرض الأصلي، وهذا قول ابن عباس وأصحابه والإمام أحمد وأصحابه، وهو الصحيح لأن فرض الصيام جار مجرى الصلاة فكما لا يصلي أحد عن أحد، ولا يُسلم أحد عن أحد فكذلك الصيام، وأما النذر فهو التزام في الذمة بمنزلة الدين فيقبل قضاء الولي له، كما يقضي دينه، وهذا محض الفقه وطرد هذا أنه لا يحج عنه، ولا يزكى عنه إلا إذا كان معذورًا بالتأخير، كما يطعم الولي عمن أفطر في رمضان لعذر فأما المفطر من غير عذر أَصلًا، فلا ينفعه أداء غيره عنه لفرائض اللَّه تعالى التي فرَّط فيها، وكان هو المأمور بها ابتلاءً وامتحانًا دون الولي، فلا تنفع توبه أحد عن أحد، ولا إسلامه عنه، ولا أداء الصلاة عنه، ولا غيرها من فرائض اللَّه تعالى التي فرَّط فيها حتى مات، واللَّه أعلم. ¬
وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدفِّ، فقال: "أوفي بنذرك" قالت: إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا، مكان يذبح فيه أهل الجاهلية، قال: "لصنم؟ " قالت: لا، قال: "لوثن؟ " قالت: لا، قال: "أوفي بنذرك" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني نذرت أن أنحر إبلًا ببُوانَةَ، فقال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ " قالوا: لا، قال: "فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟ " قالوا: لا، قال: "أوف بنذرك، فإنه لا وفاء بالنذر في معصية اللَّه، ولا فيما لا يملك ابن آدم" (¬2)، ذكره أبو داود. ¬
فصل [فتاوى في الجهاد]
فصل [فتاوى في الجهاد] [في طرف من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الجهاد] (¬1). سئل عن قتال الأمراء الظلمة فقال: "لا ما أقاموا الصلاة"، وقال: "خيار أئمتكم الذين تحبّونهم ويحبونكم، ويصلُّون عليكم وتصلون عليهم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم" قالوا: أفلا ننابذهم؟ قال: "لا ما أقاموا فيكم الصلاة، لا، ما أقاموا فيكم الصلاة" ثم قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئًا من معصية اللَّه فليكره ما يأتي من معصية اللَّه، ولا ينزعنَّ يدًا من طاعته" (¬2)، ذكره مسلم. وقال: "يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن كره، فقد بريء، ومن أنكر، فقد سَلِم، ولكن مَن رضي وتابع" قالوا: أفلا نقاتلهم، قال: "لا، ما صلوا" (¬3)، ذكره مسلم، وزاد أحمد: "ما صلوا الخمس" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أرأيت إن كان علينا أمراء يمنعوننا حقَّنا ويسألوننا حقَّهم؟ قال: "اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حُمِّلوا وعليكم ما حملتم" (¬5)، ذكره الترمذي. وقال: "إنها ستكون بعدي أَثَرة وأمور تنكرونها". قالوا: فما تأمر من أدرك منا ذلك (¬6)؟ قال: "تؤدون الحق الذي عليكم وتسألون اللَّه الذي لكم" (¬7)، متفق عليه. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: دلّني على عمل يعدل الجهاد، قال: "لا أجده"، ثم قال: "هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ " قال: ومن يستطيع ذلك، فقال: "مثل المجاهد في سبيل اللَّه كمثل الصائم القائم القانت بآيات اللَّه لا يفتر من صيام، ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل اللَّه" (¬1)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: أي الناس أفضل؟ فقال: "مؤمن يجاهد بنفسه، وماله في سبيل اللَّه" قال: ثم من؟ قال: "رجل في شعب من الشعاب يتقي اللَّه ويدع الناس من شره" (¬2)، متفق عليه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه أرأيت إن قُتلتُ في سبيل اللَّه، وأنا صابر محتسب مُقبل غير مدبر يُكفر اللَّه عنّي خطاياي؟ قال: "نعم"، [ثم قال]: "كيف قلت؟ " فردَّ عليه كما قال، فقال: "نعم، فكيف قلت؟ " فرد عليه القول أيضًا، فقال: أرأيت يا رسول اللَّه إن قُتلت في سبيل اللَّه صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر يُكفِّر اللَّه عني خطاياي؟ قال: "نعم إلا الدَّيْن، فإن جبريل سارَّني بذلك" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- ما بال المؤمنين يفتنون في قبورهم إلا الشهيد؟ قال: "كَفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة" (¬4)، ذكره النسائي. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الشهداء (¬1) أفضل عند اللَّه تعالى؟ قال: "الذين يلقون في الصف لا يلفتون وجوههم حتى يُقتلوا (¬2) أولئك ينطلقون في الغُرف العُلى من الجنة ويضحك إليهم ربك تعالى، وإذا ضحك ربك إلى عبد في الدنيا، فلا حساب عليه" (¬3)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرجل يُقاتل شجاعة، ويقاتل حَميّة، ويقاتل رياءً، أي ذلك في سبيل اللَّه؟ قال: "مَنْ قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه" (¬4)، متفق عليه. وعند أبي داود أن أعرابيًا أتى رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فقال: الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل اللَّه؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة اللَّه هي العليا فهو في سبيل اللَّه" (¬5). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: يا رسول اللَّه الرجلُ يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي (¬1) عَرَضًا من أعراض الدنيا؟ فقال: "لا أَجَرَ له" فأعظم ذلك الناس، وقالوا للرجل: عُدْ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإنك لم تفهمه، فقال: يا رسول اللَّه رجل يريد الجهاد في سبيل اللَّه، وهو يبتغي عرضًا من عرض الدنيا، فقال: "لا أجر له" فقالوا للرجل: عُدْ لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقال له الثالثة، فقال: "لا أجر له" (¬2)، ذكره أبو داود. وعند النسائي أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم-[فقيل] (¬3) أرأيت رجلًا غزا يلتمس الأجر والذِّكر [مَا لَه]؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا شَيءَ له" فأعادها ثلاث مرات يقول رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا شيء له"، ثم قال: "إن اللَّه تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصًا [له] وابتُغي به وجهه" (¬4). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم سلمة رضي اللَّه عنها فقالت: يا رسول اللَّه يغزو الرجال، ولا تغزو النساء، وإنما لنا نصف الميراث، فأنزل اللَّه تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 32] الآية (¬5)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الشُّهداء، فقال: "من قُتل في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات ¬
فصل [فتاوى في الطب]
في سبيل اللَّه فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد" (¬1)، ذكره مسلم. فصل [فتاوى في الطب] [في ذكر طرف من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في الطب] (¬2). سأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أعرابي فقال: يا رسول للَّه أنتداوى؟ قال: "نعم، فإن اللَّه لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء عَلِمَه مَنْ علمه وجهله من جهله" (¬3)، ذكره أحمد. وفي "السنن" أن الأعراب قالت: يا رسول اللَّه ألا نتداوى؟ قال: "نعم، عباد اللَّه تداووا، فإن اللَّه لم يضع داءً إلا وضع له شفاء أو دواء إلا داء واحد" قالوا: يا رسول اللَّه، وما هو؟ قال: "الهرم" (¬4). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- فقيل له: أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل تردُّ من قدر اللَّه شيئًا؟ قال: "هي من قَدَر اللَّه" (¬5)، ذكره الترمذي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: هل يُغني الدواء شيئًا؟ فقال: "سبحان اللَّه وهل أنزل اللَّه تبارك وتعالى من داء في الأرض إلا جعل له شفاء" (¬6)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب من أمته فقال: "هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربهم يتوكلون" (¬7)، متفق عليه. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آل عمرو بن حزم فقالو!: إنه كانت عندنا رُقية نَرقي بها من العقرب، وإنك نهيتَ عن الرُّقى (¬1)؟ قال: فعرضوا عليه، فقال: "ما أرى بأسًا من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل" (¬2)، ذكره مسلم. واستفتاه عثمان بن أبي العاص -رضي اللَّه عنه- وشكا إليه وجعًا يجده في جسده منذ أسلم، فقال: "ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقُل: باسم اللَّه ثلاثًا، وقل سبع مرات، أعوذ بعزة اللَّه وقدرته، من شر ما أجد وأحاذر" (¬3)، ذكره مسلم. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: "الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، الرجل يُبتلى على حَسَب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتُلي على حسب ذلك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذلك، فما يزال البلاء بالرجل حتى يمشي على وجه الأرض، وما عليه خطيئة" (¬4)، ذكره أحمد وصححه الترمذي. ¬
وذكر ابن ماجه أنه سئل أيّ الناس أشد بلاء؟ قال: "الأنبياء"، [قال] قلت: يا رسول اللَّه، ثم من؟ قال: "ثم الصالحون إنَّ كان أحدهم ليبتلى بالفَقْر حتى ما يجد إلا العباءة تحويه، وإن كان أحدهم ليفرح بالبَلاء، كما يفرح أحدكم بالعافية" (¬1). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ما لنا بها؟ قال: "كفارات" قال أبو سعيد الخدري -رضي اللَّه عنه-: وإن قلَّت؟ قال: "وإن شوكة فما فوقها" فدعا أبو سعيد على نفسه أن لا يفارقه الوعك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عن عمرة، ولا جهاد في سبيل اللَّه، ولا صلاة مكتوبة في جماعة فما مسَّه إنسان إلا وجد حرَّه حتى مات (¬2)، ذكره أحمد. ¬
وقال أسامة -رضي اللَّه عنه-: شهدت الأعراب يسألون النبيَّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: أعلينا حَرَج في كذا؟ أعلينا حرج في كذا؟ فقال: "عبادَ اللَّه وضع اللَّه تعالى الحرج إلا من اقترض من عِرْض أخيه شيئًا فذلك هو الحرج" فقالوا: يا رسول اللَّه هل علينا من جناح أن نتداوى؟ قال: تداووا عباد اللَّه، فإن اللَّه لم يضع داءً إلا وضع معه شفاء إلا الهرم"، قالوا: يا رسول اللَّه ما خير ما أُعطى العبد؟ قال: حسن الخلق" (¬1)، ذكره ابن ماجه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الرُّقى، فقال: "اعرضوا عليّ رقاكم"، ثم قال: "لا بأس بما ليس فيه شرك" (¬2)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- طبيب عن ضفدع يجعلها في دواء فنهى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قتلها (¬3)، ذكره أهل "السنن". وشكا إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- الزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف رضي اللَّه عنهما ¬
القمل فأفتاهما بلبس قميص الحرير (¬1)، ذكره البخاري في "صحيحه". وأفتى -صلى اللَّه عليه وسلم- أن من تطبَّب، ولم يُعرف منه طب فهو ضامن (¬2)، وهو يدل بمفهومه على أنه إذا كان طبيبًا وأخطأ في تطبيبه، فلا ضمانَ عليه. وشكا إليه -صلى اللَّه عليه وسلم- المشاة في طريق الحج تعبهم وضعفهم عن المشي، فقال لهم: "استعينوا بالنَّسل (¬3) فإنه يقطع عنكم الأرض وتخِفُّون له" قالوا: ففعلنا فخففنا له (¬4)، والنَّسل العدو مع تقارب الخطا، ذكر أبو مسعود (¬5) الدمشقي هذا الحديث في مسلم وليس فيه، وإنما هو زيادة في حديث جابر رضي اللَّه عنه الطويل الذي رواه مسلم في صفة حج النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- (¬6) وإسناده حسن. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أسماء بنت عميس -رضي اللَّه عنها-، فقالت: يا رسول اللَّه: إن ولد جعفر تُسرع إليهم العين أفأسترقي لهم؟ قال: "نعم، فإنه لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين" (¬7)، ذكره أحمد. ¬
وعند مالك عن حميد بن قيس المكي قال: دخل عليّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بابني جعفر بن أبي طالب فقال لحاضنتهما: "مالي أراهما ضارِعَيْن؟ " (¬1)، فقالت: إنه لتسرع إليهما العين، ولم يمنعنا أن نسترقي لهما إلا أنا لا ندري ما يوافقك من ذلك فقال: "استرقوا لهما، فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين" (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن النُّشرة، فقال: "هي من عمل الشيطان" (¬3)، ذكره أحمد وأبو داود. ¬
فصل [فتاوى في الطيرة والفأل وفي الاستصلاح]
والنشرة حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: حل سحر بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، فإن السحر من عمله فيتقرب إليه الناشر والمنتشر (¬1) بما يحب فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والدعوات والأدوية المباحة، فهذا جائز، بل مستحب وعلى النوع المذموم يحمل قول الحسن: "لا يحل السحر إلا ساحر". فصل [فتاوى في الطيرة والفأل وفي الاستصلاح] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الطاعون، فقال: "عذابًا كان يبعثه اللَّه على مَنْ كان قبلكم فجعله اللَّه رحمة للمؤمنين، ما من عبد يكون في بلد ويكون فيه فيمكث لا يخرج صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب (¬2) اللَّه له إلا كان له مثل أجر شهيد" (¬3)، ذكره البخاري. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- فروة بن مُسَيك -رضي اللَّه عنه- فقال: يا رسول اللَّه إنَا بأرض يُقال لها: أَبْيَن (¬4)، وهي ريفنا وميرتنا وهي وبية (¬5)، أو قال: وباها شديد، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "دعها عنك، فإن من القرف (¬6) التلف (¬7) ". ¬
وفيه دليل على نوع شريف من أنواع الطب، وهو استصلاح التربة والهواء، كما ينبغي استصلاح الماء، والغذاء، فإن بصلاح هذه الأربعة يكون صلاح البدن واعتداله. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا طِيَرة (¬1)، وخيرها الفأل"، قيل: يا رسول اللَّه، وما الفأل؟ قال: "الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم" (¬2)، متفق عليه. وفي لفظ لهما: "لا عَدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل"، قالوا: وما الفأل؟ قال: "كلمة طيبة" (¬3). ولما قال: "لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة" (¬4)، قال له رجل: أرأيت البعير يكون به الجرب فتجرب الإبل؟ قال: "ذاك القدر فمن أجرب الأول؟ " (¬5)، ذكره أحمد. ¬
ولا حجة في هذا لمن أنكر الأسباب، بل فيه إثبات القدر ورد الأسباب كلها إلى الفاعل الأول إذ لو كان كل سبب مستندًا إلى سبب قبله لا إلى غاية للزم التسلسل في الأسباب، وهو ممتنع فقطع النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- التسلسل بقوله: "فمن أعدى الأول؟ " (¬1)، إذ لو كان الأول قد جرب بالعدوى، والذي قبله كذلك لا إلى غاية لزم التسلسل الممتنع. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة، فقالت: يا رسول اللَّه دار سكنَّاها والعددُ كثير [والمال]، وافر فقلَّ العدد وذهب المال، فقال: "دعوها ذميمة" (¬2)، ذكره مالك مرسلًا. وهذا موافق لقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كان الشؤم في شيء فهو في ثلاثة: في الفرس و [في] الدار والمرأة" (¬3)، وهو إثبات لنوع خفي من الأسباب، ولا يطَّلع عليه أكثر ¬
الناس، ولا يعلم إلا بعد وقوع مسببه، فإن من الأسباب ما يعلم سببه (¬1) قبل وقوع مسببه وهي الأسباب الظاهرة، ومنها ما لا يعلم سببه (4) إلا بعد وقوع مسببه وهي الأسباب الخفية، ومنه قول الناس: "فلان مشؤوم الطلعة ومدور الكعب" ونحوه فالنبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أشار إلى هذا النوع ولم يبطله، وقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كان الشؤم في شيء فهو في ثلاثة" تحقيق لحصول الشؤم فيها (¬2)، وليس نفيًا لحصوله من غيرها كقوله -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن كان في شيء تتداوون به شفاء ففي شرطة مِحْجم (¬3)، أو شربة عسل أو لذعة بنار، ولا أُحبُّ الكيّ" (¬4)، ذكره البخاري. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من ردَّته الطيرة (¬5) من حاجته، فقد أشرك"، قالوا: يا رسول اللَّه، وما كفارة ذلك؟ قال: "أن يقول: اللهم لا طير إلا طَيْرك، ولا خير إلا خيرك" (¬6)، ذكره أحمد. ¬
فصول من فتاويه -صلى الله عليه وسلم- في أبواب متفرقة
فصول من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- في أبواب متفرقة [التوبة] وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إني أصبت ذنبًا عظيمًا فهل لي من توبة؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "هل لك من أم؟ " قال: لا، قال: "فهل لك من خالة؟ " قال: نعم، قال: "فبرها" (¬1)، ذكره الترمذي وصححه. وقال ابن عباس -رضي اللَّه عنهما-: كان رجلٌ من الأنصار أسْلَم، ثم ارتد ولحق بالمشركين، ثم ندم فأرسل إلى قومه: سلوا لي رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- هل لي من توبة؟ فجاء قومه إلى النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- فقالوا: هل له من توبة؟ فنزلت: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} إلى قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، [آل عمران: 86 - 89] فأرسل إليه فأسلم (¬2)، ذكره النسائي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن رجل أوجب فقال: "اعتقوا عنه" (¬3)، ذكره أحمد وقوله: أوجب، أي: فعل ما لم يستوجب به النار. [حق الطريق] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَتَأتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} [العنكبوت: ¬
[الكذب]
29] , قال: "كانوا يخذفون أهل الطريق ويسخرون منهم وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه" (¬1)، ذكره أحمد. [الكذب] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أيكون المؤمن جَبَانًا؟ " قال: نعم. قالوا: أيكون المؤمن بخيلًا؟ قال: نعم قالوا: أيكون المؤمن كذابًا؟ قال: "لا" (¬2)، ذكره مالك. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن لي ضرَّة فهل عليَّ جُناح إن تشبَّعتُ من زوجي غير الذي يعطيني؟ فقال: "المتشبِّع بما (¬3) لم يُعط كلابس ثوبي زور" (¬4)، متفق عليه. وفي لفظ: أقول إن زوجي أعطاني ما لم يُعطني. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل، فقال: هل أكذب على امرأتي؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا خَيَر في الكذب"، فقال: يا رسول اللَّه أعدها وأقول لها؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لا جناح" (¬5)، ذكره مالك. ¬
[الشرك وما يلحق به]
[الشرك وما يلحق به] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اتقوا هذا الشرك، فإنه أخفى من دبيب النمل"، فقيل له: كيف نتقيه، وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول اللَّه؟ فقال: "قولوا اللهم إنا نعوذ بكأن نشرك بك شيئًا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلم" (¬1)، ذكره أحمد. وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الأصغر"، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول اللَّه؟ قال: الرياء، يقول اللَّه تعالى يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تُراءون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً" (¬2). ذكره أحمد. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الأخسرين أعمالًا يوم القيامة، فقال: "هم الأكثرون أموالًا إلا من قال: هكذا وهكذا [إلى] من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليلٌ ما هم" (¬1). ولما نزلت: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82]، شقَّ ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول اللَّه وأيُّنا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: ليس ذلك إنما هو الشرك، ألم تسمعوا قول لقمان لابنه: {يَابُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] (¬2)، متفق عليه. وخرج عليهم [رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-] (¬3) وهم يتذاكرون المسيح الدجال فقال: "ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم [عندي] من المسيح الدجال؟ " قالوا: بلى، قال: "الشرك الخفي" [قالوا: وما الشرك؟ قال]: "أن يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل آخر" (¬4)، ذكره ابن ماجه. ¬
[طاعة الأمراء]
[طاعة الأمراء] وسئل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عن طاعة الأمير الذي أمر أصحابه فجمعوا حطبًا فأضرموه نارًا، وأمرهم بالدخول فيها فقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "لو دخلوها ما خرجوا منها إنَّما الطاعة في المعروف" (1)، وفي لفظ: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" (1)، وفي لفظ: "مَنْ أَمَركم منهم بمعصية اللَّه، فلا تطيعوه" (¬1). فهذه فتوى عامة لكل من أمره أمير بمعصية اللَّه كائنًا من كان، ولا تخصيص فيها البتة. [من سد الذرائع] ولما قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إن من أكبر الكبائر شتم الرجل والديه"، [سألوه: كيف يشتم الرجل والديه؟] قال: "يسب أبا الرجل وأمه فيسب أباه وأمه" (¬2)، متفق عليه. وللإمام أحمد: "إن أكبر الكبائر عقوق الوالدين" قيل: وما عقوق الوالدين؟ قال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "يسبُّ أبا الرجل وأمه فيسب أباه وأمه" (¬3). وهو صريح في اعتبار الذرائع وطلب الشرع لسدها، وقد تقدمت شواهد هذه القاعدة بما فيه كفاية. [الجوار] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ما تقولون في الزنى؟ " قالوا: حرام. فقال: "لأن يزني الرجل ¬
[الغيبة]
بعشر نسوة أيسرُ عليه من أن يزني بامرأة جاره، ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرام، قال: "لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر من أن يسرق من بيت جاره" (¬1)، ذكره أحمد. [الغيبة] وقال -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا: اللَّه ورسوله أعلم. قال: "ذكرك أخاك بما يكره" قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول، فقد بهته" (¬2)، ذكره مسلم. وللإمام أحمد، ومالك أن رجلًا سأل رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ما الغيبة؟ فقال: "أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع" فقال: يا رسول اللَّه، وإن كان حقًا؟ فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا قلت باطلًا فذلك البهتان" (¬3). ¬
[الكبائر]
[الكبائر] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكبائر فقال: "الإشراك باللَّه، وعقوق الوالدين، وقول الزور، وقتل النفس التي حرم اللَّه، والفرار يوم الزحف، واليمين الغموس (¬1)، وقتل الإنسان ولده خشية أن يطعم معه، والزنا بحليلة جاره، والسحر، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات" (¬2)، وهذا مجموع من أحاديث. فصل [تعداد الكبائر] ومن الكبائر: ترك الصلاة، ومنع الزكاة، وترك الحج مع الاستطاعة والإفطار في رمضان بغير عذر، وشرب الخمر، والسرقة، والزنى، واللواط، والحكم بخلاف الحق، وأخذ الرُّشا (¬3) على الأحكام، والكذب على النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، ¬
والقول على اللَّه بلا علم في أسمائه وصفاته وأحكامه، وجحود ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- واعتقاد أنَّ كلامه وكلام رسوله لا يستفاد منه يقين أصلًا، وأن ظاهر كلامه وكلام رسوله باطل وخطأ، بل كفر وتشبيه وضلال، وترك ما جاء به لمجرد قول غيره، وتقديم الخيال المسمى بالعقل والسياسة الظالمة والعقائد الباطلة والآراء الفاسدة والإدراكات (¬1) والكشوفات الشيطانية على ما جاء به -صلى اللَّه عليه وسلم-، ووضع المكوس، وظلم الرعايا، والاستيثار بالفيء، والكبر، والفخر، والعجب، والخيلاء، والرياء، والسمعة، وتقديم خوف المخلوق (¬2) على خوف الخالق، ومحبته على محبة الخالق، ورجائه على رجائه، وإرادة العلو في الأرض والفساد، وإن لم ينل ذلك، ومسبة الصحابة رضوان اللَّه عليهم، وقطع الطريق وإقرار الرجل الفاحشة في أهله وهو يعلم، والمشي بالنميمة، وترك التنزه من البول، وتخنث الرجل وترجل المرأة، ووصل شعر المرأة وطلبها ذلك، وطلب الوصل كبيرة وفعله كبيرة، والوشم والاستيشام، والوشر والاستيشار، والنمص والتنميص، والطعن في النسب، وبراءة الرجل من أبيه، وبراءة الأب من ابنه وإدخال المرأة على زوجها ولدًا من غيره، والنياحة، ولطم الخدود وشق الثياب وحلق المرأة شعرها عند المصيبة بالموت وغيره، وتغيير منار الأرض، وهو أعلامها، وقطيعة الرحم، والجور في الوصية، وحرمان الوارث حقه من الميراث، وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، والتحليل وإستحلال المطلقة به والتحيّل على إسقاط ما أوجب اللَّه وتحليل ما حرم اللَّه، وهو استحبابه محارمه وإسقاط فرائضه بالحِيَل، وبيع الحر (¬3)، وإباق المملوك من سيده، ونشوز المرأة على زوجها، وكتمان العلم عند الحاجة إلى إظهاره، وتعلم العلم للدنيا والمباهاة والجاه، والعلو على الناس، والغدر، والفجور في الخصام، وإتيان المرأة في دبرها (¬4) وفي محيضها، والمن بالصدقة وغيرها من عمل الخير، وإساءة الظن باللَّه واتهامه في أحكامه ¬
فصل
الكونية والدينية والتكذيب بقضائه وقدره واستوائه على عرشه، وأنه القاهر فوق عباده، وأن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- عرج به إليه، وأنه رفع المسيح عليه السلام إليه، وأنه يصعد إليه الكلم الطيب، وأنه كتب كتابًا فهو عنده على عرشه، وأن رحمته تغلب غضبه، وأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يمضي شطر الليل فيقول: من يستغفرني فأغفر له؟ وأنه كلَّم موسى تكليمًا، و [أنه] (¬1) تجلّى للجبل فجعله دكًا واتخذ إبراهيم خليلًا، وأنه نادى آدم وحواء ونادى موسى [على نبينا وعليه وعلى سائر أنبياء اللَّه صلوات اللَّه وسلامه وأنه تعالى ينادي عباده] (¬2) يوم القيامة، وأنه خلق آدم بيديه، وأنه يقبض سماواته بإحدى يديه والأرض باليد الأخرى يوم القيامة (¬3). فصل ومنها الاستماع إلى حديث قوم لا يحبون استماعه، وتخبيب المرأة على زوجها والعبد على سيده، وتصوير صور الحيوان سواء كان لها ظل أو لم يكن، وأن يُري عينيه في المنام ما لم ترياه، وأخذ الربا وإعطاؤه والشهادة عليه وكتابته، وشرب الخمر وعصرها واعتصارها وحملها وبيعها وأكل ثمنها، ولعن من لم يستحق اللعن، وإتيان الكهنة والمنجّمين والعرّافين والسحرة وتصديقهم والعمل بأقوالهم، والسجود لغير اللَّه والحلف بغير اللَّه، كما قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من حلف بغير اللَّه، فقد أشرك" (¬4)، وقد قصَّر ما شاء أن يقصر من قال: إن ذلك ¬
مكروه وصاحب الشرع يجعله شركًا فرتبته فوق رتبة الكبائر، واتخاذ القبور مساجد وجعلها أوثانًا وأعيادًا يسجدون لها تارة ويصلّون إليها تارة ويطوفون بها تارة ويعتقدون أن الدعاء عندها أفضل من الدعاء في بيوت اللَّه التي شرع أن يُدعى فيها ويُعبد ويُصلّى له ويُسجد. ومنها معاداة أولياء اللَّه، وإسبال الثياب من الإزار والسراويل والعمامة وغيرها، والتبختر في المشي، واتباع الهوى [وطاعة الهوى] (¬1)، وطاعة الشُّح والإعجاب بالنفس وإضاعة من تلزمه مؤنته ونفقته من أقاربه وزوجته ورقيقه ومماليكه. والذبح لغير اللَّه، وهجر أخيه المسلم سنة، كما في "صحيح الحاكم" من حديث أبي خِرَاش الهُذلي السُّلمي عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "مَنْ هجَر أخاه سنة فهو كقتله" (¬2) وأما هجره فوق ثلاثة أيام فيحتمل أنه من الكبائر ويحتمل أنه دونها واللَّه أعلم. ¬
ومنها الشفاعة في إسقاط حدود اللَّه، لحديث (¬1) ابن عمر يرفعه: "مَنْ حالت شفاعته دون حد من حدود اللَّه، فقد ضادَّ اللَّه في أمره" (¬2)، رواه أحمد وغيره بإسناد جيد. ¬
ومنها تكلم الرجل بالكلمة من سخط اللَّه لا يُلقي لها بالًا. ومنها أن يدعو إلى بدعة أو ضلالة أو ترك سنة، بل هذا من أكبر الكبائر، وهو مضادة لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومنها ما رواه الحاكم في "صحيحه" من حديث المستورد بن شدَّاد قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "من أكل بمُسلم أكلة أطعمه اللَّه بها أكلة من (¬1) نار جهنَّم يوم ¬
القيامة، ومن قام بمسلم مقام سمعة أقامه اللَّه يوم القيامة مقام رياء وسُمعة، ومن اكتسى بمسلم ثوبًا كساه اللَّه ثوبًا من نارٍ يوم القيامة" (¬1). ¬
ومعنى الحديث أنه توصل إلى ذلك وتوسل إليه بأذى أخيه المسلم من كذب عليه أو سخرية [به] (¬1) أو همزة أو لمزة أو غيبة والطعن عليه والازدراء به والشهادة عليه بالزور والنيل من عرضه عند عدوه ونحو ذلك مما كثير من الناس واقع في وسطه (¬2) واللَّه المستعان. ومنها: التبجُّح والافتخار بالمعصية بين أصحابه وأشكاله، وهو الإجهار الذي لا يُعافي اللَّه صاحبه (¬3)، وإن عافى من ستر نفسه (¬4). ومنها: أن يكون له وجهان ولسانان فيأتي القوم بوجه ولسان ويأتي غيرهم بوجه ولسان آخر. ومنها: أن يكون فاحشًا بذيًا يتركه الناس ويحذرونه اتقاء فحشه. ومنها: مخاصمة الرجل في باطل يعلم أنه باطل ودعواه ما ليس له، وهو يعلم أنه ليس له. ومنها: أن يدَّعي أنه من آل بيت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وليس منهم أو يدَّعي أنه ابن فلان وليس بابنه، وفى "الصحيحين": "من ادّعى إلى غير أبيه فالجنّة عليه حرام" (¬5)، وفيهما أيضًا: "لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كافر" (¬6)، وفيهما أيضًا: "ليس من رجل ادّعى إلى غير (¬7) أبيه، وهو يعلمه إلا وقد كَفَر (¬8)، ¬
ومن ادّعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلًا بالكفر أو قال: عدو اللَّه وليس كذلك إلا حَارَ عليه" (¬1). فمن الكبائر تكفير من لم يكفره اللَّه ورسوله، وإذا كان النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قد أمر بقتال الخوارج وأخبر أنَّهم شر قتلى تحت أديم السماء، وأنهم يمرقون من الإسلام، كما يمرق السهم من الزمية (¬2)، ودينهم تكفير المسلمين بالذنوب فكيف ¬
من كفرهم بالسنة ومخالفة آراء الرجال لها وتحكيمها والتحاكم إليها؟ ومنها: أن يحدث حدثًا في الإسلام أو يؤوي محدثًا وينصره ويعينه، وفي "الصحيحين": "مَنْ أحدث حَدَثًا (¬1) أو آوى مُحْدثًا فعليه لعنة اللَّه والملائكة والناس أجمعين لا يقبل اللَّه منه يوم القيامة صَرْفًا، ولا عدلًا" (¬2)، ومن أعظم الحدث تعطيل كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-، وإحداث ما خالفهما ونصر من أحدث ذلك والذب عنه ومعاداة من دعا إلى كتاب اللَّه تعالى وسنة رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم-. ومنها: إحلال شعائر اللَّه في الحَرَم والإحرام كقتل الصيد واستحلال القتال في حرم اللَّه. ومنها: لبس الحرير والذهب للرجال واستعمال أواني الذهب والفضة للرجال. وقد صح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "الطيرة شرك" (¬3)، فيحتمل أن يكون من الكبائر، وأن يكون دونها. ¬
ومنها: الغلول من الغنيمة، ومنها غش الإمام والوالي لرعيته (¬1)، ومنها أن يتزوج ذات [رحم] (¬2) محرم منه أو يقع على بهيمة. ومنها: المكر بأخيه المسلم ومخادعته ومضاررته، وقد قال النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "ملعونٌ من مكر بمسلم أو ضارَّ به" (¬3). ومنها: الاستهانة بالمصحف وإهدار حرمته، كما يفعله من لا يعتقد أن فيه كلام اللَّه تعالى من وطئه برجله ونحو ذلك. ومنها: أن يُضل أعمى عن الطريق، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من فعل ذلك (¬4)، فكيف بمن أضل عن طريق اللَّه أو صراطه المستقيم؟! ومنها: أن يَسِم إنسانًا أو دابة في وجهها، وقد لعن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- من فعل ذلك (¬5). ومنها: أن يحمل السلاح على أخيه المسلم، فإن الملائكة تلعنه (¬6). ومنها: أن يقول ما لا يفعل، قال اللَّه تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: 3]. ومنها: الجدال في كتاب اللَّه ودينه بغير علم. ومنها: إساءة الملكة برقيقه وفي الحديث: "لا يدخل الجنة سيء ¬
الملكة" (¬1). ومنها: أن يمنع المحتاج فضل ما لا يحتاج إليه مما لم تعمل يداه. ¬
ومنها: القمار، وأما اللعب بالنَّرد فهو من الكبائر لتشبيه لاعبه بمن صبغ يده في لحم الخنزير ودمه (¬1)، ولا سيما إذا أكل المال به، فحينئذ يتم التشبيه به، فإن اللعب بمنزلة غمس اليد، وأكل المال بمنزلة أكل لحم الخنزير. ومنها: ترك الصلاة في الجماعة، وهو من الكبائر، وقد عَزَم رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- على تحريق المتخلِّفين [عنها] (¬2)، ولم يكن ليحرِّق مرتكب صغيرة، وقد صح عن ابن مسعود أنه قال: "ولقد رأيتنا، وما يتخلف عن الجماعة إلا منافق معلوم النفاق" (¬3)، وهذا فوق الكبيرة. ومنها: ترك الجمعة، وفي "صحيح مسلم": "لينتهينَّ أقوامٌ عن ودعِهمُ الجمعات أو ليختمنَّ اللَّه على قلوبهم، ثم ليكونُنَّ من الغافلين" (¬4). وفي "السنن" بإسناد جيد [عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال]: "مَنْ ترك ثلاث جُمُع تهاونًا طبع اللَّه على قلبه" (¬5). ¬
ومنها: أن يقطع ميراث وارثه من تركته أو يدله على ذلك ويعلّمه من الحيل ما يخرجه به من الميراث. ومنها: الغلو في المخلوق حتى يتعدّى به منزلته، وهذا قد يرتقي من الكبيرة إلى الشرك. وقد صح عن رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- أنه قال: "إياكم والغُلّو، وإنما هلك من كان قبلكم بالغلو" (¬1). ¬
ومنها: الحسد وفي "السنن": "إنه يأكل الحسنات، كما تأكل النَّار الحطب" (¬1). ¬
فصل مستطرد من فتاويه -صلى الله عليه وسلم- فارجع إليها
ومنها: المرور بين يدي المصلي ولو كان صغيرة لم يأمر النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- بقتال فاعله (¬1)، ولم يجعل وقوفه عن حوائجه ومصالحه أربعين عامًا خيرًا له من مروره بين يديه، كما في "مسند البزار" (¬2) واللَّه أعلم. فصل مستطرد من فتاويه -صلى اللَّه عليه وسلم- فارجع إليها [عود إلى فتاوى الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الهجرة فقال: "إذا أقمت الصلاة وآتيت الزكاة، فأنت ¬
مهاجر، وإن مت بالحضرمة" يعني أرضًا باليمامة (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- عبد اللَّه بن حَوَالة أن يختار له بلادًا يسكنها، فقال: "عليك بالشام، فإنها خيرة اللَّه من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، فإن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غَدَركم، فإنَّ اللَّه توكل (¬2) لي بالشام وأهله" (¬3)، ذكره أبو داود بإسناد صحيح. ¬
وسأله معاوية بن حِيَدة جدّ بهز بن حكيم، فقال: يا رسول اللَّه أين تأمرني؟ قال: "هاهنا" ونحا بيده نحو الشام (¬1)، ذكره الترمذي وصححه. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- اليهود عن الرعد ما هو؟ فقال: "مَلَك من الملائكة موكَّل بالسحاب معه مخاريق (¬2) من نار يسوقه به حيث يشاء اللَّه تعالى" قالوا: فما هذا الصوت الذي يُسمع؟ قال: "زجره السحاب حتى تنتهي حيث أُمِرت" قالوا: صدقت، ثم قالوا: فأخبرنا عمَّا حرَّم إسرائيل على نفسه؟ قال: "اشتكى عِرْق النسا (¬3)، فلم يجد شيئًا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها على نفسه" ¬
قالوا: صدقت (¬1)، ذكره الترمذي وحسنه. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن القردة والخنازير: أهي من نسل اليهود؟ فقال: "إن اللَّه لم ¬
يلعن قومًا قط فمسخهم فكان لهم نسل حتى يهلكهم، ولكن هذا خَلْق كان فلما غضب (¬1) اللَّه على اليهود مَسْخَهم جعلهم مثلهم" (¬2)، ذكره أحمد. وقال: "فيكم المُغرِّبون"، فقالت عائشة: وما المغربون؟ قال: "الذين يشترك فيهم الجن" (¬3)، ذكره أبو داود، وهذا من مشاركة الشياطين (¬4) للأنس في الأولاد وسموا المغربين لبعد أنسابهم، وانقطاعهم عن أصولهم، ومنه قولهم: "عنقاء مغرب". وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أين أتَّزر؟ فأشار إلى عظم ساقه، وقال: "هاهنا أتَّزِر" قال: فإن أبيت؟ قال: "فههنا أسفل من ذلك، فإن أبيت فههنا فوق الكعبين، فإن ¬
أبيت، فإن اللَّه لا يحب كل مختال فخور" (¬1)، ذكره أحمد. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو بكر الصديق -رضي اللَّه عنه- فقال: إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده، فقال: "إنك لست ممن يفعله خيلاء" (¬2)، ذكره البخاري. وقال: "من جرَّ إزاره خُيلاء لم ينظر اللَّه إليه يوم القيامة، فقالت أم سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهنّ؟ قال: "يُرخين شِبْرًا"، فقالت: إذًا تنكشف أقدامهن؟ قال: "يرخين ذراعًا لا يزدن عليه" (¬3). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- امرأة فقالت: إن ابنتي أصابتها الحصبة فتمزق شعرها أفاصل فيه؟ فقال: "لعن اللَّه الواصلة والمستوصلة" (¬4)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن إتيان الكهَّان، فقال: "لا تأتهم" (¬5). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الطِّيرة، قال: "ذلك شيء يجدونه في صدورهم، فلا يردنَّهم" (¬6). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الخطِّ، فقال: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" (¬7). ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن الكهان أيضًا، فقال: "ليسوا بشيء" فقال السائل: إنهم يحدثوننا أحيانًا بالشيء فيكون، فقال: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقذفها في أُذن وليه من الإنس فيخلطون معها مئة كذبة" (¬1) متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس: 64]، فقال: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له" (¬2) ذكره أحمد. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- خديجة -رضي اللَّه عنها- عن ورقة بن نوفل فقالت: إنه كان صدقك، ومات قبل أن تظهر، فقال: "أريته (¬3) في المنام وعليه ثياب بيض ولو كان من أهل النار لكان عليه لباس غير ذلك" (¬4). ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل رأى في المنام كأن رأسه ضُرب فتدحرج فاشتد في إثره، فقال: "لا تحدث [الناس] بتلعُّب الشيطان [بك] في منامك" (¬1)، ذكره مسلم. وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- أم العلاء فقالت: رأيت لعثمان بن مظعون عينًا تجري، يعني بعد موته، فقال: "ذاك عمله يجري له" (¬2). وذكر أبو داود أن معاذًا سأله فقال: بم أقضي؟ قال: "بكتاب اللَّه" قال: فإن لم أجد؟ قال: "فبسنة رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-" قال: فإن لم أجد؟ قال: "استدق (¬3) الدنيا وعظّم في عينيك ما عند اللَّه واجتهد رأيك فسيسدّدك اللَّه بالحق" (¬4)، وقوله: "استدق (3) الدنيا" أي استصغرها واحتقرها. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- دحية الكلبي فقال: ألا أحمل لك حمارًا على فرس فتنتج لك بغلًا فتركبها؟ فقال: "إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون" (¬5)، ذكره أحمد. ¬
ولما نزل التشديد في أكل مال اليتيم عزلوا طعامهم عن طعام الأيتام وشرابهم من شرابهم فذكروا ذلك لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فأنزل اللَّه تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فخلطوا طعامهم وشرابهم بشرابهم (¬1). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة -رضي اللَّه عنها- عن قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ [وَابْتِغَاءَ تَأوِيلِهِ]} [آل عمران: 7] فقال: "إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى اللَّه فاحذروهم" (¬2)، متفق عليه. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {يَاأُخْتَ هَارُونَ} [مريم: 28]، فقال: "كانوا ¬
يسمّون بأسماء أنبيائهم والصالحين من قومهم" (¬1). وفي الترمذي أنه سئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147] كم كانت الزيادة؟ قال: "عشرون ألفًا" (¬2). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو ثعلبة عن قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] الآية فقال: "ائتمروا بالمعروف، وانتهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا، وهوًى متبعًا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام، فإنّ من ورائكم أيام الصبر، الصبرُ فيهن (¬3) مثل القبض على الجمر للعامل فيهن مثل أجر خمسين يعملون مثل عملكم" (¬4)، ذكره أبو داود. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- متى وجبت لك النبوة؟ فقال: "وآدم بين الروح والجسد" (¬1)، صححه الترمذي. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما كان (¬2) بدء أمرك؟ فقال: "دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى ورأت أمي (¬3) أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام" (¬4)، ذكره أحمد. ¬
وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- أبو هريرة: يا رسول اللَّه، ما أوَّل ما رأيت من النبوة؟ قال: إني لفي الصحراء ابن عشرين سنة وأشهر، وإذا بكلام فوق رأسي، وإذا برجل يقول لرجل: أهو هو؟ فاستقبلاني بوجوه لم أرها لأحد قط وأرواح لم أجدها لخلق قط وثياب لم أرها على خلق قط، فأقبلا يمشيان حتى أخذ كُلٌّ منهما بعضدي لا أجد لأخذِهِما مسًّا، فقال أحدهما لصاحبه: أضجعه، فأضجعاني، بلا قصر، ولا هصر فقال أحدهما لصاحبه: أفلق صدره، فحوى أحدهما صدري ففلقه فيما أرى، بلا دم، ولا وجع فقال له: أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئًا كهيئة العَلَقة، ثم نبذها فطرحها، ثم قال له: أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم هزَّ إبهامَ رجلي اليمنى فقال: اغد سليمًا، فرجعتُ بها رِقّةً على الصغير ورحمة على الكبير" (¬1)، ذكره أحمد. ¬
وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الناس خير؟ قال: "القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني، ثم الثالث" (¬1) [ذكره مسلم] (¬2). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أحب النِّساء إليه، فقال: "عائشة" فقيل: ومن الرِّجال؟ فقال: "أبوها" فقيل: ثم من؟ قال: "عمر بن الخطاب -رضي اللَّه عنه-" (¬3). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- علي والعباس: أيُّ أهلك أحبُّ إليك؟ قال: "فاطمة بنت محمد صلى اللَّه عليه وسلم ورضي عنها"، قالا: ما جئناك نسألك عن أهلك؟ قال: أحبُّ أهلي إليَّ من أنعم اللَّه عليه، وأنعمت عليه: أسامة بن زيد، قالا: ثم من؟ قال: علي بن أبي طالب، قال العباس: يا رسول اللَّه جعلت عمك آخرهم" قال: "إن عليًا سبقك بالهجرة" (¬4)، ذكره الترمذي وحسنه. وفي الترمذي أيضًا أنه -صلى اللَّه عليه وسلم- سئل: أي أهل بيتك أحب إليك؟ قال: "الحسن -رضي اللَّه عنه- والحسين -رضي اللَّه عنه-" (¬5). ¬
[وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- أي الأعمال أحب إلى اللَّه؟ فقال: "الحبُّ في اللَّه والبغض في اللَّه (¬1)، ذكره أحمد.] وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم- عن امرأة كثيرة الصلاة والصيام والصدقة غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، فقال: "هي في النار"، فقيل: إن فلانة فَذكَر [قلة] صلاتها وصيامها وصدقتها، ولا تؤذى جيرانها بلسانها، فقال: "هي في الجنة"، ذكره أحمد (¬2). وسألته -صلى اللَّه عليه وسلم- عائشة فقالت: إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: "إلى أقربهما منك بابًا" (¬3)، ذكره البخاري. ونهاهم عن الجلوس بالطرقات إلا بحقها فسُئل عن حق الطريق، فقال: "غضُّ البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (¬4). وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن لي مالًا وولدًا، وإن أبي اجتاح مالي، فقال: ¬
"أنت ومالك لأبيك، إنَّ أولادكم من أطيب كسبكم فكلوا من كسب أولادكم" (¬1)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل عن الهجرة والجهاد [معه] (¬2)، فقال: "ألك والدان؟ " قال: نعم، قال: "فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" (¬3)، ذكره مسلم. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- آخر عن ذلك، فقال: "ويحك! أحية أمك؟ " قال: نعم. قال: "ويحك إلزم رجلها فثمَّ الجنة" (¬4)، ذكره ابن ماجه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل من الأنصار، هل بقي عليَّ من برِّ أبويَّ شيء بعد موتهما؟ ¬
قال: "نعم خِصالٌ أربع: الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا رَحِمَ لك إلى من قِبَلها، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما" (¬1)، ذكره أحمد. وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما حقُّ الوالدين على الولد (¬2)؟ فقال: "هما جنتك ونارك" (¬3)، ذكره ابن ماجه. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن [إليهم] ويُسيئون وأعفو [عنهم] ويظلموني أفاكافئهم؟ قال: "لا إذًا تكونوا جميعًا، ولكن خذ الفضل وصِلْهم، فإنه لن يزال معك ظهير من اللَّه ما كنت على ذلك" (¬4)، ذكره أحمد، وعند مسلم: "لئن كنت، كما قلت فكأنمَّا تسفُّهم الملَّ ولن يزال معك ¬
من اللَّه ظهير ما دمت على ذلك" (¬1). وسئل -صلى اللَّه عليه وسلم-: ما حق المرأة على الزوج؟ قال: "يطعمها إذا طعم ويكسوها إذا لبس، ولا يضرب لها وجهًا، ولا يُقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت" (¬2)، ذكره أبو داود. وسأله -صلى اللَّه عليه وسلم- رجل فقال: أستأذن على أمي؟ قال: "نعم"، فقال: إني معها في البيت؛ فقال: "استأذن عليها"، فقال: إني خادمها، قال: "استأذن عليها، أتحبُّ أن تراها عُريانة؟ " قال: لا، قال: "استأذن عليها" (¬3)، ذكره مالك. وسئل عن الاستئناس في قوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] , قال: "يتكلّم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت" (¬4)، ذكره ابن ماجه. وعطس رجل فقال: ما أقول يا رسول اللَّه؟ قال: قل: "الحمد للَّه"، فقال القوم: ما نقولُ له يا رسول اللَّه؟ قال: قولوا له: "يرحمك اللَّه"، قال: ما أقول لهم يا رسول اللَّه؟ قال: قل لهم: "يهديكم اللَّه ويصلح بالكم" (¬5)، ذكره أحمد. ¬
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ¬
آخر كتاب "إعلام الموقعين" ¬